كتاب : الحور العين
المؤلف : نشوان الحميري
والكور التي تغلب عليها الاعتزال والقول بالعدل، على ما حكى
البلخي: عمانة، وهي مدينة كبيرة؛ وتدمر أيضاً، وهي من بناء الشياطين
لسليمان بن داوود عليه السلام؛ وبلاد المدارح كلها، وأهلها كلبٌ وقضاعة،
وتدمر أيضاً في أيدي كلب وأعرابهم بين حمص إلى رحبة مالك بن طوق، وعامة
كلب يذهبون مذهب الاعتزال؛ وكثير من قرى الشام، منها: نهبا، وأزكه،
وبعلبك، وغير ذلك.
ومن الغرب: البيضاء، وهي كور كبيرة، يقال إن فيها مائة ألف يحملون السلاح
يقال لهم: الواصلية، وقد تقدم آنفاً، وبها أيضاً صنف من الصفرية؛ وطنجة:
وهي بلاد إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي
طالب، وهم معتزلة، وكان رئيسهم إسحاق بن محمود بن عبد الحميد، وهو الذي
اشتمل على إدريس بن عبد الله بن الحسن، حين ورد عليه، فأدخله في الاعتزال.
ومن اليمن: وهب بن منبه وأصحابه، وهم أبناء فارس الذين باليمن، ثم ارتدوا
بعد ذلك عن الاعتزال، حين وليت بنو أمية اليمن، وكان بنو أمية يسمون
المعتزلة: شيعة، لمحبتهم علياً رضي الله عنه، فضربوا من الأبناء لهذا
السبب اثنتين وسبعين رقبة، فارتدوا عن ذلك.
وأكثر أهل أرمينية، وفيهم ضرارية، وبعض أهل أذربيجان، وبعضهم خوارج.
ومن كور الأهواز: عسكر مكرم كلها، وهي كورة عظيمة فيها بشر كثير، يقال إن
بها مائة ألف حائك، سوى سائر أهل الصناعات، ورامهرمز، وستر، والسوسن وغير
ذلك.
ومن كور فارس: سيراق، وغيرها أيضاً. وكورة أيضاً بكرمان.
ومن كور السند: المنصورة، وكورة أيضاً غيرها، وقيل عامة السند.
ومن جزيرة العرب: هجر، والبحرين، وعامة الأيلة، وعامة البصرة.
واعلم أن أول اختلاف جرى بين الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم،
اختلافهم في الإمامة يوم سقيفة بني ساعدة.
فقالت الأنصار لقريش: الإمامة فينا وفيكم، منا أمير ومنكم أمير.
وقالت قريِش: نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإمامة في
قريش دون غيرهم، ونحن الأمراء وأنتم الوزراء.
فجرى هذا الاختلاف في الإمامة بين الأمة إلى يومنا هذا.
فمن الناس من يقول: الإمامة في قريش خاصة.
ومنهم من يقول: هي في جميع الناس.
وكانت الأنصار قد بايعوا يوم السقيفة أبا ثابت سعد بن عبادة بن دليم بن
حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن
الخزرج، فحسده ابن عمه بشير بن سعد بن خلاس بن زيد بن مالك الأصغر ابن
ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
فكسر بشير على سعد، وكان بشير أول من بايع أبا بكر من جميع الناس، ثم
تبعته الأنصار، فازدحموا على بيعة أبي بكر، ورفضوا بيعة سعد، وكان سعد بن
عبادة مريضاً يوم السقيفة: فقال قائل: لا تطأوا سعد، لا تقتلوا سعداً؛
فقال عمر بن الخطاب: اقتلوا سعداً، قتله الله؛ فقام قيس بن سعد بن عبادة
فلزم بلحية عمر، وقال: والله لو قذذت منه شعرة لأخذت ما فيه عيناك.
فقال سعد: والله لولا المرض لتسمعن لسعد بين لابنيها زئير كزئير الأسد
يخرجك منها وأصحابك إلى حيث كنتم أذلة صاغرين! ولم يبايع سعد أبا بكر ولا
عمر، وخرج إلى الشام غاضباً من قومه في خذلانهم إياه، فمات بحوران لسنتين
ونصف من خلافة عمر بن الخطاب.
وللأنصار أشعارٌ كثيرة في يوم السقيفة، يلوم فيها بعضهم بعضاً على خذلانهم
سعد بن عبادة، ويعنفون بشير بن سعد، وابن الحصين، ومن تبعهما منهم في
ميلهم إلى قريش وكسرهم على سعد.
فمن أشعار الأنصار: قول الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري:
سعى بن الحصين في العناد لحاجةٍ ... وأسرع منه في الفساد بشير
يظنان أنا قد أتينا عظيمةً ... وخطبهما فيما تراه صغير
وما صغر إلا بما كان منهما ... وخطبهما لولا الفساد كبير
ولكنه من لا يراقب قومه ... قليلٌ ذليلٌ فاعلمن وحقير
فيا ابن الحصين وابن سعد كلاكما ... بتلك التي تعنى الرجال خبير
ألم تعلما لله در أبيكما ... وما الناس لا أكمهٌ وبصير
بأنا ذا ما سار منا كتائبٌ ... أسودٌ لها بالغايتين زئير
نصرنا وآوينا النبي وماله ... سوانا من أهل المكتين نصير
فديناه بالأبناء بعد دمائنا ... وأموالنا والمشركون حضور
وكنا له في كل أمر يرينه ... سهاماً حداداً ضمهن جفير
وكان عظيماً أنني قلت منهم ... أميرٌ ومنا يا بشير أمير
وقال حسان بن ثابت:
لا تنكرن قريش فضل صاحبنا ... سعد وما في مقالي اليوم من أود
قالت قريشٌ لنا السلطان دونكم ... لا تطمعن بهذا الأمر من أحد
قلنا لهم ثوروا حقاً فنتبعه ... لسنا نريد سواه آخر الأبد
إن كان عندكم عهدٌ فيظهر في ... أشاخ بدر وأهل الشعب من أحد
نحن الذين ضر بنا الناس عن عرض ... حتى استقاموا وكانوا بيضة البلد
في كل يوم لنا أمرٌ نفوز به ... يعطي الإله عليه جنة الخلد
لستم بأولى به منا لأن لنا ... وسط المدينة فضل العز والعدد
وإننا يوم بعنا الله أنفسنا ... لم نبد خوفاً على مالٍ ولا ولد
والناس حربٌ لنا في الله كلهم ... مثل الثعالب تغشى غابة الأسد
وقال آخر من الأنصار:
علام قريش تطلب الأمر دوننا ... وكأن نبيان يكونان في عصر
فتحمل رأياً خالف الرأي بيننا ... وفرقنا يوم السقيفة بالغمر
وهل كان لولا ذاك، خلق مكابر ... لنا من جميع الخلق في ساعة العسر
وقال آخر منهم:
وخبرتمونا أنما الأمر بيننا ... خلاف رسول الله يوم التشاجر
فهلا وزيراً واحداً تحسبونه ... إذا ما عددنا منكم ألف آمر
سقى الله سعداً يوم ذاك ولا سقى ... عراجلة هابت صدور البواتر
وقال آخر منهم أيضاً:
مالي أقاتل عن قوم إذا قدروا ... عدنا عدواً وكنا قبل أنصارا
ويل أمها أمة لو أن قائدها ... يتلو الكتاب ويخشى العار والنارا
أما قريش فلم نسمع بمثلهم ... غدراً وأقبح في الإسلام آثارا
ضلوا سوى عصبة حاطوا نبيهم ... بالعرف عرفاً وبالإنكار إنكارا
وقال آخر منهم أيضاً:
دعاها إلى حرماننا وجفائنا ... تذكر قتلي في القليب تكبكبوا
فإن يغضب الأبناء من قتل من مضى ... فوالله ما جئنا قبيحاً فتعتبوا
وكان المهاجرون والأنصار مجمعين على الشورى غير مختلفين في ذلك، يدل على
ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نهج البلاغة في
كتاب كتبه إلى معاوية: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر
وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن
يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً،
كان ذلك لله رضي، وإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة، ردوه إلى ما خرج
منه، فإن أبى قاتلوه على ابتاعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.
وقوله في الرسالة: وما فعلت حكماء الهند، في عبادة البد، واختيار العباد
منهم في المواقيت، بأبكار كاليواقيت، بضم لهم منهن والتثام، ولمس للفروج
للبر لا للآثام، بعد تجردهن وتجردهم من الثياب، لزوال الشك والارتياب.
من حكمة الهند أنهم يقدمون في معرفة الحساب والنجوم، ويقدمون في معرفة
الطب وعلاج الأدواء.
والبد: الصنم بلغة الهند، وجمعه بددة، وهي أصنامٌ ينحتونها بأيديهم، ثم
يعبدونها، ويجعلون لها بيوتاً كمساجد المسلمين، وفيها بنات رؤسائهم موهوبة
لتلك البددة عل وجه التقرب بها، والنذور والكفارات، وتلك النساء واقفة
للفساد والفجور، يأمرها أهلها بذلك، ويرون أن لهم فيه أجراً عظيماً، ولهم
عباد ورهبان في تلك البيوت، متجردون من اللباس، يدعون الزهد في الدنيا، لا
يسمون الماء، يتبركون بأوساخهم، ويختبرونهم بتلك النساء وملاعبتها، فمن
اشتقاق من أولئك العباد إلى تلك النساء وأنعظ، فقد كفر كفراً عظيماً
عندهم، وأتى بأعظم منكر، وألحقوه أنواع العذاب والنكال وقتلوه.
هذا في الزهاد خاصة، وأما غيرهم منهم فلا ينكر عليهم الفجور بتلك النساء.
وهذا عجيب في جمع الهندبين الحكمة في دنياهم، والجهل العظيم في
دينهم، وكذلك غيرهم بهذه الصفة، وإنك لتلقي الرجل الذكي الفطن الكامل من
الناس، فترى من معرفته بأمور الدنيا وفطنته فيما يعيي به غيره، وحسن نظره،
وإصابة حدسه، وجودة تمييزه، وشدة ذكائه، ما يستحق به الفضل على غيره،
ويستوجب به المزية على سواه، ثم إذا باحثته في أمور دينه، أنكرت منه ما
عرفت، ووجدته رجلاً مستلب اللب، عازب الفهم، أعمى البصيرة، كالمصاب في
عقله، والصبي في مهده.
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الأخبار: بعد، فإن الناس يحضون
الدين من فاحش الخطأ، وقبيح المقال، بما لا يحضون به سواه من جميع العلوم
والآراء والآداب، والصناعات؛ ألا ترى أن الفلاح والصائغ والنجار، والمهندس
والمصور، والكاتب والحاسب، من كل أمة، لا تجد بينهم من التفاوت في الفهم
والعقل والصناعة، ولا من فاحشة الخطأ وإفراط النقص، مثل الذي تجد في
أديانهم، وفي عقولهم، عند اختيار الأديان؛ والدليل على ما وصفت لك: ن
الأمم التي عليها المعتمد في العقل والبيان والرأي والأدب والاختلاف في
الصناعات، من ولد سام خاصة: العرب والهند والروم والفرس، ومتى نقلتهم من
علم الدين، حسبت عقولهم مجتبلة وفطرهم مسترقة.
كالعرب فإنها مخصوصة بأمور، منها: البيان الذي ليس مثله بيان، واللغة التي
ليس مثلها في السعة لغة، وقيافة الأثر الإمام قيافة البشر، وليس في الأرض
قوم غير العرب يرون المتباينين في الصور، والمتفاوتين في الطول والقصر،
والمختلفين في الألوان، فيعلمون أن هذا الأسود ابن لهذا الأبيض، وهذا
الطويل ابن أخي هذا القصير، وهذا القبيح عم هذا المليح.
وللعرب الشعر الذي لم يشاركهم فيه أحد من العجم.
قال: وقد سمعت للعجم كلاماً حسناً، وخطباً طوالاً يسمونها أشعاراً، فأما
أن يكون لهم شعر على أعاريض معلومة وأوزان معروفة، إذا نقص منها حرف أو
زاد حرف، أو ترك ساكن أو سكن متحرك، كسره وغيره، فليس يوجد إلا للعرب خاصة
دون غيرهم، وليس في الأرض قوم أعنى بذم جليل القبيح ودقيقه، وبحمد دقيق
الحسن وجليله، من العرب، حتى لو أجهد أفطن البرية وأعقل الخليقة أن يذكر
معنى لم يذكروه لما أصابه.
وللعرب من صدق الحس، وصواب الحدس، وجودة الظن، وصحة الرأي، ما لا يعرف
لغيرهم؛ ولهم العزم الذي لا يشبهه عزم، والصبر الذي لا يشبهه صبر، والجود
والأنفة والحمية التي لا يدانيهم أحد فيها، ولا يتعلق بها روميٌ ولا هندي
ولا فارسي، لأن هذه الأمم كلها بخلاف العرب شيماً.
ثم لهم من بعد الهمم، والطلب بالطوائل، ما ليس لغيرهم، مع المعرفة بمساقط
النجوم، والعلم بالأنواء، وحسن المعرفة بما يكون منها للاهتداء.
ولهم خط العربية، مع الحفظ لأنسابهم، ومحاسن أسلافهم، ومساوئ أكفائهم،
للتعاثر بالقبيح والتفاخر بالحسن، ليجعلوا ذلك عوناً لهم على إثبات
الجميل، واصطناع المعروف، ومزجرة لهم عن إثبات القبيح وفعل العار،
وليؤدبوا أولادهم بما أدبهم به آباؤهم، ثم الحفظ الذي لا يقدر أحد على
مثله، وإن دونه عنده وجلده في كتبه.
وخصلة لا تصاب إلا فيهم، وذلك أن العي والبيان في كل قوم مبثوث متفرق،
ولست واجداً بالبادية عياً رأساً، على أنهم وإن تفاوتوا في البيان فليس
ذلك بمخرج أحسنهم إلى العي.
وفيهم أيضاً خصلة لا تصاب إلا فيهم، وذلك أن سلفة كل جيل وعلية كل صنف إذا
اشتد تشاجرهم، فطالت ملاحاتهم، وكثر مزاحمهم، والدعابة بينهم، وجدتهم
يخرجون إلى ذكر الحرمات، وشتم الأمهات، واللفظ السيئ، والسفه الفاحش، ولست
بسامع من هذا وشبهه حرفاً بالبادية، لا من صغيرهم ولا كبيرهم، ولا جاهلهم،
ولا عالمهم، وكيف يقولون هذا والحيان منهم يتعايبان بدون ذلك.
وليس في الأرض صبيان في عقول الرجال غير صبيانهم، وكل شيء تقوله العرب،
فهو سهل عليها وبطبيعة منها؛ وكل شيء تقوله العجم، فهو تكلف واستكراه.
وللعرب البديهة في الرأي والقول خاصة، ولهم الكنى مع أسماء خاصة، وهي من
التعظيم؛ وقد زعم قوم من الفرس: أن فيهم الكنى، واحتجوا بقول عدي ابن زيد.
أين كسرى كسرى الملوك أبوسا ... سان أم أين قبله سابور
وليس كذلك، إنما كناه عدي بن زيد على عادته، حين أراد تعظيمه، إن صحت
الكنية في هذا البيت.
فأما عمرو بن العلاء، ويونس النحوي، وأبو عبيدة، فرووا جميعاً أن
عدياً قال:
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان، أم أين قبله سابور
فأخطأ الرواية، وقيل ذلك عنه من لا علم له، وليس في الأرض أعجمي له كنية
إلا أن تسكنيه العرب.
وليس في الناس أشد عجبا بالخيل من العرب، ولا أصنع لها، وأكثر لها
ارتباطا، ولا أشد لها إيثاراً، ولا أهجا لمن لا يتخذها، أو لمن اتخذها
وأهانها، وأهزلها، ولا أمدح لمن اتخذها وأكرمها ولم يهنها، ولذلك أضيفت
الخيل إليهم بكل لسان، حتى قالوا جميعاً: هذا فرس عربي، ولم يقولوا: هذى
فرس هندي، ولا رومي، ولا فارسي، فحصنوها تحصين الحرم، وصانوها صون
الأعراض، ليبتذلوها يوم الروع وليدركوا عليها الثأر.
وكانوا يؤثرونها على أنفسهم وأولادهم، ويصبرون على مؤونتها في الجدب
والأزل، ويغتبقون الماء القراح، ويؤثرونها بالحليب، لأنها كانت حصونهم
ومعاقلهم؛ وقالوا في إيثارها أشعاراً كثيرة في الجاهلية والإسلام، ليقتدى
الآخر منهم بالأول، ولتبقى ذكر مآثرهم وقديم مفاخرهم.
فمن أشعارهم في الجاهلية: قول الأسعر الجعفي، اسمه مرثد بن حمران، وسمي
الأسعر ببيت قاله، البيت:
فلا تدعني الأقوام من آل مالكٍ ... إذا أنا لم أسعر عليهم وأثقب
وهو هذا:
لكن قعيدة بيننا مجفوة ... ناد جناجن صدرها لها غنا
تقفي بعيشة أهلها وثابة ... أو جرشع عبل المحارم والشوى
وقال خالد بن جعفر بن كلاب:
أريغوني إراغتكم فإني ... وحذفة كالشجا تحت الوريد
مقربة أسويها بخزٍ ... وألحفها ردائي في الجليد
وأوصى الحالبين ليؤثروها ... لها لبن الخلية والصعود
وقال الضبي:
نوليها الصريح إذا شتونا ... علاتنا ونلى السمارا
وقال عمرو بن مالك:
وسابح كعقاب الدجن أجعله ... دون العيال له الإيثار واللطف
وقال جرير بن لوذان، وقيل لعنترة: ؟لا تذكرى مهري وما أطعمته فيكون جلدك
مثل جلد الأجرب
كذب العتيق وماء شن باردٌ ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
إني امرؤ إن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى سير الركاب وأجنب
إني لأخشى أن تقول حليلتي ... هذا غبار ساطعٌ فتلبب
؟إن العدو لهم إليك وسيلةٌ إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
ويكون مركبك العقود وحدجه ... وابن النعامة يوم ذلك مركبي
وقال لبيد بن ربيعة:
معاقلنا التي نأوي إليها ... بنات الأعوجية والسيوف
الأعوجية: منسوبة إلى الأعوج: فرس كريم.
وقال المرار بن منقذ الحنظلي:
أخلصته حولين أمسح وجهه ... وأخو المواطن من يصون ويدأب
وجعلته دون العيال مقربا ... حتى انجلت وهو الدخيل المقرب
وقال طفيل بن عوف الغنوي:
إني وإن قل مالي لا يفارقني ... مثل النعامة في أوصالها طول
أو ساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول
تقريبها المرطى والجوز معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
وقال آخر: ؟بنى عامر إن الخيول وقاية لأنفسكم والموت وقتٌ مؤجل
أهينوا لها ما تكرمون وباشروا ... صيانتها والصون بالخيل أجمل
متى تكرموها يكرم المرء نفسه ... وكل امرئ من قومه حيث ينزل
وقال آخر من بني تميم، قد سأله بعض الملوك فرسالة يقال لها: سكاب، فمنعه
إياها:
أبيت اللعن إن سكاب علقٌ ... نفيسٌ لا يباع ولا يعار
مفداةٌ مكرمةٌ علينا ... يجاع لها العيال ولا تجاع
سليلة سابقين تناجلاها ... إذا نسباً يضمهما الكراع
وفيها عزةٌ من غير نفرٍ ... يحيدها إذا حر القراع
فلا تطمع أبيت اللعن فيها ... ومنعكها بشيء يستطاع
وكفى يستقل بحمل سيفي ... وبي ممن تهضمني امتناع
وحولى من بني قحفان شيبٌ ... وشبانٌ إلى الهيجا سراع
إذا فزعوا فأمرهم جميعٌ ... وإن لاقوا فأيديهم شعاع
ولهم أشعار كثيرة غير هذه في إكرام الخيل في الجاهلية، غير ما
قالوا في الإسلام.
قال: وهم مع ما حكيت لك من صحة العقل، وكرم الطبيعة، وحسن البيان، وسعة
المعرفة، وجودة الرأي، وشدة الأنفة: يعبدون الحجارة، ويحلفون بها،
ويحاربون دون كسرها، وتهجينها، وينكسون لها، ويدعونها آلهة، ويخاطبونها،
ولا يستجيزون عيبها، وينكرون على من ينتقصها، ثم مع ذلك ربما رموا بها،
واتخذوا سواها، ثم كانوا يرون أن الرجل منهم إذا مات فلم يأخذ وليه بعده
بعيره، فيحفر له حفرة ثم يقيده على شفيرها، ويطرح برذعته على وجهه ورأسه،
ثم لا يسقيه ولا يعلفه حتى يموت، ثم ن ذلك الرجل الميت بزعمهم يحيا يوم
القيامة حافياً راجلاً، وإذا فعل ذلك أتى راكباً، وذلك البعير البلية، قال
أبو زبيد:
؟كالبلايا رؤوسها في الولايا ... مانحات السموم حر الخدود
يعني الناقة التي كانت تعكس على قبر صاحبها، ثم تطرح الولية على رأسها إلى
أن تموت، وقال الطرماح:
منازل لا ترى الأنصاب فيها ... ولا حفر المبلى للمنون
أي أنها منازل أهل الإسلام دون أهل الجاهلية، ويقولون: أيما رجل قتل، فلم
يطلب وليه بدمه، خلق من دماغه طير يسمى: هامة، فلا يزال يزقو على قبره،
وينعى إليه عجز وليه، حتى يبعث، قال الشاعر:
فإن تك هامة بهراة تزقو ... فقد أزقيت بالمروين هاما
وقال جريبة بن أشيم الأسدي، وهو أحد شياطين بني أسد وشعرائها:
لا تزقون لي هامة فوق مرقب ... فإن زقى الهام أخبث خابثٍ
وقال توبة بن الحمير:
فلو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربةٌ وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وكانوا يقولون: أيما شريف قتل، فوطأته امرأة مقلاة: عاش ولدها، قال بشر بن
أبي حازم:
تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن: ألا يلقى على المرء مئزر
وكانوا يقولون: إذا كان لرجل ألف بعير فلم يفقأ عين بعير منها: إن السواف
تأتي على إبله، فإن زادت على ألف: فقأ عينيه جميعاً، فذلك: المفقأ والمعمى.
وكانوا إذا أجدبت بلادهم، فأرادوا الاستمطار: أخذوا بعيراً أورق فشدوا في
ذنبه العشر والسلع وصعدوه في جبل وأشعلوا في ذنبه النار، ودعوا وتضرعوا،
فإن لم يفعلوا ذلك لم يستجب الله منهم، بزعمهم.
وكانوا إذا وقع العر في الأبل: يأخذون بعيراً سليماً لا عيب فيه، فيقطعون
مشفره ثم يكوونه، ليذهب العر من سائر الإبل وإلا فشا فيها، قال النابغة:
وحملنني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راتع
وكانوا يرون أن النهيس إذا علقوا عليه الحلي سلم، وإن لم يعلقوها عليه هلك.
وكان الرجل منهم إذا غزا عقد خيطا في ساق شجرة، فإذا رجع ورآه منحلاً، فقد
خانته قعيدته، بزعمهم، وإن وجده بحاله، فقد حفظت نفسها، قال الشاعر:
هل ينفعنك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصى وتعقاد الرتم
والرتمة: اسم الخيط بعينه.
وكانوا يقولون: إذا أحب الرجل امرأة وأحبته، فإن لم يشق عليها برقعها وتشق
رداءه، فسد حبهما، وإن فعلا ذلك، دام حبهما، قال سحيم عبد بني الحساس:
وكم قد شققنا من رداء محبرٍ ... ومن برقع عن طفلةٍ غير عانس
إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى كلنا غير لابس
هذا مع إيمانهم بغزو الجن وتلون الغيلان، وأن الجن هي التي طردت أهل
وبارعن ديارهم، وصارت الجن سكانها، فليس بها إلا الجن والوحش.
ومع مذهبهم في الحامي والبحيرة والوصيلة والسائبة، مع أمور كثيرة لا يحتاج
إلى ذكرها. وإنما أردنا من ذلك أن يعرف الناس تفاوت ما بين حال العاقل في
دنياه ودينه، فإذا صار إلى التكذيب والتصديق والأيمان والكفر، صار إلى غير
الذي كان.
قال: ثم ملنا إلى الهند، فوجدناهم يقدمون في الحساب والنجوم،
ولهم الخط الهندي خاصة، ويقدمون في الطب، ولهم أسرار الطب وعلاج فاحش
الأدواء، ولهم حفظ التماثيل، ونحت الصور مع التصوير بالأصباغ كزي المحاريب
وأشباه ذلك، ولهم الشطرنج، وهي أشرف لعبة، وأكثرها تدبيراً وفطنة، ولهم
صنعة السيوف، ولهم الكنكلة، وهو وتر واحد على قرعه فيقوم مقام العود
والصنج، ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة خاصة، ولهم السحر،
والتدخين، والخطب الطوال، ولهم الرأي والنجدة والصبر، وليس لأحد من الصبر
ما لهم، ولهم الزي الحسن والأخلاق المحمودة، والسواك والخضاب.
وهم - مع جميع ما ذكرنا - : أصحاب بددة، ينحتونها بأيديهم، ويوجبون
عبادتها على أنفسهم، وهم اجتلبوها وأوجبوا طاعتها، ثم يتكفنون، ويتصندلون،
ويحملون معهم الألطاف والهدايا، ويدخلون النيران، إذا اشتاقوا إلى موتاهم،
على أنهم بزعمهم يرجعون إلى أهليهم، إذا قضوا أوطارهم من زيارة موتاهم، لا
ينهى الآخر طول غيبة الأول، مع هذه الحكمة الشريفة، والأخلاق السنية،
والمعرفة الحسنة، يعرفون من أمر الدنيا ما لا يعرفه أحد، ويجهلون من أمر
الدين ما لا يجهله أحد.
قال: ثم ملنا إلى الروم، فوجدناهم أطباء وحكماء، ومنجمين، ولهم أصول
اللحون وصنعة القرسطون، وكيان الكتب، وهم الغايات في التصوير، يصور مصورهم
الإنسان حتى لا يغادر شيئاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره شاباً، وإن شاء
كهلاً، وإن شاء شيخاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره باكياً أو ضاحكاً، ثم لا
يرضى بذلك حتى يجعله جميلاً ناعماً عتيقاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين
ضحك السامت، وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستعبر، وبين ضحك السرور وضحك
الهازئ، وضحك المتهدد، فيركب صورة في صورة، وصورة في صورةٍ، وصورةً في
صورة؛ ثم لهم في البناء ما ليس لغيرهم، ومن الخطر والنجر والصناعة ما ليس
لسواهم.
ثم هم مع ذلك أصحاب كتاب وملة، ولهم بعد في الجمال والحساب، والقضاء في
النجوم، والخط، والنجدة والرأي، وأنواع المكيدة، ما لا ينكر ولا يجحد؛
وإنما قلت عقول الزنج، وأشباه الزنج، لتباعدهم عن هذه الخصال.
ثم هم - مع ذلك أجمع - : يرون أن الآلهة: ثلاثة بطن اثنان وظهر واحد، كما
لا بد للمصباح من الدهن، والفتيلة، والوعاء، فكذلك جوهر الآلهة، فزعموا أن
مخلوقاً استحال خالقاً، وأن عبداً تحول رباً، ون حديثاً انقلب قديماً، إلا
أنه قد قتل وصلب بعد هذا، وفقد، وجعل على رأسه أكاليل الشوك، ثم أحيا نفسه
بعد موته، وإنما أمكن عبيده من أخذه وأسره، وسلطهم على قتله وصلبه، ليواسي
أنبياءه بنفسه، وليتحبب إليهم بالتشبيه بهم، ولأن يستصغروا جميع ما صنع
بهم، ولئلا يعجبوا بأعمالهم فيستكثرونها لربهم، فكان عذرهم أعظم من جرمهم.
قال: فلولا أنا رأينا بأعيننا، وسمعنا بآذاننا، لما صدقنا ولا قبلنا أن
قوماً متكلمين، وأطباء ومنجمين، ودهاة وحساباً، وكتبة وحذاق كل صنعة،
يقولون في إنسان رأوه يأكل ويشرب، ويبول وينجو ويجوع ويعطش، ويكتسي ويعري،
ويزيد وينقص، ثم يقتل بزعمهم ويصلب: إنه رب خالق، وإله رازق، وقديم غير
محدث، يميت الأحياء ويحيى الموتى، وإن شاء خلق أضعافاً للدنيا، ثم يفخرون
بقتله وصلبه، كما يفخر اليهود بقتله وصلبه.
قال: ثم ملنا إلى فارس، فوجدنا هناك العقول التي لا تبلغها عقول، والأحلام
التي لا تشبهها أحلام والسياسة العجيبة، والملك المؤبد، وترتيب الأمور،
والعلم بالعواقب؛ ثم كانوا مع ذلك يغشون الأمهات، ويأكلون الميتة، ويتوضون
إلا بوال، والماء لهم مباح، ويعظمون النار، وهم أظهروها، فإذا شاءوا
أطفأوها؛ ويقولن: بأن الله تعالى كان وحده لا شيء معه، فلما طالت وحدته
استوحش، فلما استوحش فكر، فلما فكر، تولد من فكرته أهر من، وهو إبليس،
فلما مثل بين يديه أراد قتله، فلما أراد قتله امتنع، فصالحه إلى أجل
معلوم، ووادعه إلى مدة مسماة، على لا يمتنع عليه إذا استوفى الأجل وبلغ
المدة؛ ثم أن أهر من نوى الغدر، وذلك شيمته، فأنشأ يخلق أصناف الشر، يستمد
بها عليه؛ فلما عرف ذلك منه أنشأ يخلق أصناف الخير، ليضع بإزاء كل جند
جنداً، وله بعد ذلك فضل قوته، وإنه يسمى القديم دونه.
ثم قولوا في قسمة العوالم الخمس عندهم، وفي أسمائها وجواهرها
وهيآتها، وفي خلق مهنة ومهينة وهما آدم وحواء، وفي سويين المنتظر عندهم،
ولا يستطيع وصفه أحمق منقوص، ولا عالم تام، ولو جهد كل جهده واستفرغ كل
قوته.
قال: ووجه يستدل به على قلة عناية الناس بأكثر الدين، وإن شأنهم تعظيم
الرجال، والاستسلام للمنشأ، والذهاب مع العصية والهوى، والرضى بالسابق إلى
القلوب، واستثقال التمثيل، وبغض التحصيل، ما تجد من اعتقاد أكثر البصريين
وسوادهم لتقديم عثمان بن عفان، ومن اعتقاد أكثر الكوفيين وسوادهم لتقديم
علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن اعتقاد أكثر الشآمين لدين بين أمية،
وتعظيم عثمان وحب بني مروان، حتى غلط لذلك قوم، فزعموا أن ذلك من قبل
الطالع، وقال آخرون: بل من عمل التربة، كما تجد لأهل كل ماء وهواء وطينة:
نوعاً من الأخلاق، والمنظر والزي، والصناعة واللغة؛ وليس ذلك - أكرمك الله
- إلا من قبل تقليد السلف، وحب الرجال، وما وقع في القلوب، وهيجته المحبة،
لأن تقليد الآباء هو الذي ارتهنهم، وحب الرجال هو الذي أعماهم وأصمهم،
والنسق على التقليد هو الذي ملأ خواطرهم، وأمات قلوبهم، ولو كن ذلك من قبل
الطالع أو التربة، لما حسن الأمر والنهي، ولما جاز الحمد والثواب،
واللائمة والعقاب، ولما كان لإرسال الرسل معنى؛ ولو كان ذلك للطالع
والبلدة، لجاز ذلك في المصيب كما في المخطئ، ولجاز في الناظر كما جاز في
المقلد.
وإنما صير أكثر أهل البصرة عثمانية، لأنهم كانوا صنائع ثلاثة أمراء عليهم:
أولهم عبد الله بن عامر، والثاني زياد، والثالث الحجاج بن يوسف، وهؤلاء
الثلاثة الغايات في حب عثمان وبين أمية، فلم يقصروا في تقديمه واستمالة
الناس إليه بالترغيب والترهيب، والسياسة والتدبير، ولصنائع ابن عامر فيهم
فزع إليهم طلحة والزبير وعائشة، حين قدموا عليهم يطلبون بدم عثمان، ولأن
علياً عليه السلام حاربهم وقتل أعلامهم وفل حدهم، ولذلك قال رجل من كبراء
البصريين في علي عليه السلام: كيف أحب رجلاً قتل من قومي من لدن كانت
الشمس ههنا إلى أن صارت ههنا إحدى عشرة مائة.
ولو كان هذا من قبل البحث والنظر، لما صار أهل عمان كلهم أباضية، وغيرهم
مرجية، ولما اختار أولاد النصارى كلهم النصرانية، وأولاد اليهود كلهم
اليهودية، وأولاد المجوس كلهم المجوسية؛ وكيف يجوز أن يعتقد أولاد اليهود
كلهم اليهودية بالنظر؟ وقد تجد الأخوين ينظران في الشيء الواحد فيختلفان
في النظر، ولربما نظر الناظر فيصير له في كل عام قول، ولربما كان ذلك في
كل شهر؛ فصح أن دين الناس بالتقليد لا بالنظر، وليس التقليد إلى الحق
بأسرع منه إلى الباطل.
وروى الجاحظ في كتاب الأخبار أيضاً، عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام،
أنه قال - في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - :
وكيف يجيز السامع صدق المبخر، إذا كان لا يضطره خبره، ولم يكن معه علم يدل
على صدق غيبه، ولا شاهد قياس يصدقه، وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة
العلل التي يكذب الناس لها ودقة حيلهم فيها، ولو كان الصادق عند الناس لا
يكذب، والأمين لا يخون، والثقة لا ينسى، والوفي لا يغدر، لطابت المعيشة،
ولسلموا من سوء العاقبة.
قال إبراهيم: وكيف نأمن كذب الصادق، وخيانة الأمين، وقد ترى الفقيه يكذب
في الحديث، ويدلس في الإسناد، ويدعى لقاء من لم يبلغه، من غريب الخبر ما
لم يسمعه، ثم لا يرى أن يرجع عن ذلك في مرضه بل أن تغرغر نفسه وقد أيقن
بالموت، وأشفى على حفرته، بعد طول إصراره، والتمتع بالرياسة في حياته،
وأكل أموال الناس به؟ ولولا أن الفقهاء والمحدثين، والرواة والصلحاء
المرضيين، يكذبون في الأخبار، ويغلطون في الآثار، لما تناقضت آثارهم، ولا
تدافعت أخبارهم.
قالوا: ولو وجب علينا تصديق المحدث اليوم لظاهر عدالته، لوجب علينا تصديق
مثله، وإن روى ضد روايته، وخلاف خبره، وإذا نحن قد وجب علينا تصديق
المتناقض، وتصحيح الفاسد، لأن الغلط في الأخبار، والكذب في الآثار، لم
تجده خاصاً في بعض دون بعض!!
قال إبراهيم: وكيف لا يغلطون، ولا يكذبون، ولا يجهلون، ولا
يتناقضون؛ والذين رووا منهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا
عدوى ولا طيرة، وأنه قال: فمن أعدى الأول؟ هم الذين رووا أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: فر من المجذوم فرارك من الأسد، وأتاه رجل مجذوم
ليبايعه بيعة الأسلام، فأرسل إليه من بايعة مخافة أعدائه؛ وأن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم حين توجه إلى بدر أراد أن ينزل الصفرا، وهي بين
جبلين، فسأل عن اسميهما، وعن الحيين النازلين بهما، فقيل: ينزلهما بنو
النار، وبنو حراق، بطنان من بني عفار، فتطير منهما، وتعداهما إلى غيرهما،
واسم الجبلين الضيقين.
وأنه قال: الشؤم في المرأة والدار والدابة.
قال: والذين يروون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير أمتي القرن
الذي بعثت فيه، هم الذين رووا أن النبي صل الله عليه وآله وسلم قال: (مثل
أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره).
قال: والذين رووا منهم أن الصعب بن جثامة قال: يا رسول الله ذرارى
المشركين تطأهم خيلنا في ظلم الليل عند الغارة؛ قال: اقتلوهم فإنهم مع
آبائهم؛ وأنه حين أغزى أسامة بن زيد إلى ناحية الشام، أمر أن يحرق
المشركين بالنار وذراريهم؛ هم الذين يروون أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بعث سرية فقتلوا النساء والصبيان، فأنكر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ذلك إنكاراً شديداً؛ فقالوا: يا رسول الله، إنهم ذراري المشركين؛ وإن
خالد بن الوليد لما قتل بالغمصا الأطفال، رفع النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يديه، حتى رأى المسلمون بياض أبطيه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما
صنع خالد، ثم بعث عليا عليه السلام فوداهم.
قال: والذين يروون أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول
الله أرأيت أطفالي منك أين هم؟ قال: هم في الجنة، قالت: أفرأيت أطفالي من
غيرك أين هم؟ قال: في النار، فأعادت عليه الكلام، فقال مثل ذلك، فلما
أعادت عليه، قال: ن سكت وإلا أسمعتك ضغاءهم في النار.
وإن عقبة بن أبي معيط لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله قال:
من للصبية؟ قال: النار. هم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: المؤودة في الجنة والشهيد في الجنة وإن أولاد المشركين خدم أهل الجنة.
قال: والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله جل ذكره
أوحى إلي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاغتالتهم عن دينهم،
وانه قال: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه الذين يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه. هم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه قال: اعملوا
فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فهو يعمل للسعادة، وإن
كان من أهل الشقاء فهو يعمل للشقاء؛ وأن الله عز وجل مسح ظهر آدم فقبض
قبضتين، فأما الذين في قبضته اليمنى فقال: إلى الجنة برحمتي، وقال للذين
في اليسرى: إلى النار ولا أبالي، والسعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من
شقى في بطن أمه، وإذا وقعت النطفة في الرحم أوحى الله إلى ملك الأرحام:
اكتب فيقول: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب شقياً أو سعيداً.
والذين رووا أن القدرية مجوس هذه الأمة، وأنهم قد لعنوا على لسان سبعين
نبياً؛ هم الذين رووا أن ميكائيل كان قدرياً حتى خصمه جبريل، وأن موسى كان
قدرياً حتى خصمه عمر.
قال: وتلوا علينا قول الله عز وجل: (وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرةٌ
وزر أخرى).
ثم رووا أن ولد الزنا شر الثلاثة، وأن المعول عليه يعذب بعويل أهله، وأيما
صبي مات ولم يعف عنه أبواه فهو محتبس عن الجنة حتى يعفا عنه.
قال: وتلوا علينا: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وقوله: (ولقد اخترناهم
على علم على العالمين)، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما كفر
نبيٌ قط)، ثم رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على دين قومه أربعين
سنة، وأنه قال: ما ذبحت للعزى إلا كبشاً واحداً؛ وأنه زوج ابنتيه: عتبة بن
أبي لهب وأبا العاص بن الربيع، وأنه قال - قبل الوحي - لزيد بن عمرو ابن
نفيل: يا زيد، إنك فارقت دين قومك وشتمت ألهتهم، فقال له زيد:
يا أيها الإنسان إياك والردى ... فإنك لن تخفى من الله خافياً
والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يفضلني
أحدٌ على يونس بن متى، فقد كان يرفع له في اليوم الواحد مثل عمل جميع أهل
الأرض؛ هم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا سيد ولد
آدم ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وإن كل نبي يقول في
القيامة: نفسي نفسي!! وأنا أقول: أمتي أمتي، ومعي لواء الحمد) وهم الذين
رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تفضلوا بعض الأنبياء على
بعض، فإنهم بنو علات أمهاتهم واحدة، والذين رووا أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: إن روح الشهداء تكون في حواصل طير خضر تأوي الليل إلى
قناديل في الجنة، وإن الأرواح في الهوا جنود مجندة، تتشام كما تتشام
الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وقف على قليب بدر فقال: يا عتبة بن ربيعة، يا شبيبة بن
ربيعة، يا أبا جهل، يا أمية بن خلف: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له
في ذلك، فقال: والذي نفسي بيده إنهم ليسمعون كما تسمعون، وإن منكراً
ونكيراً ليأتيان الرجل في قبره فيسألانه: من ربك وما دينك؟ وأن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: والذي نفسي بيده إنهم ليسمعون خفق نعالكم. هم
الذين تلوا علينا: (وما أنت بمسمع من في القبور) وأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: اللهم رب الرواح الفانية والأجساد البالية.
وأن عبد الله بن عباس سئل عن الأرواح أين تكون إذا فارقت الأجساد وأين
تذهب الأجساد إذا بليت؟ قال: أين يذهب السراج، إذا طفئ، وأين يذهب البصر
إذا عمى، وأين يذهب لحم الصحيح إذا مرض؟ فقال السائل: لا أين!! قال: كذلك
الأرواح، إذا فارقت الأجساد.
قال: والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ليؤمكم خياركم
فإنهم وفدكم إلى الجنة؛ وقال: صلاتكم قربانكم، فلا تقربوا بين أيديكم إلا
خياركم، ولا صلاة لإمام قوم له كارهون. هم الذين رووا: صلوا خلف كل إمام،
براً كان أو فاجراً، ولا بد من إمام بر أو فاجر.
قال: والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وأذن لي أن أحدث
عن ملك من الملائكة رجلاه في الأرض السفلى وعاتقه تحت العرش، ما بين عاتقة
إلى شحمة أذنه سبعمائة عام، خفقان الطير المسرع؛ هم الذين رووا أن الله عز
وجل ينزل عشية عرفة، ويوم النصف من شعبان على جمل أورق، وأنه ينزل في قفص
من ذهب.
والذين رووا أن أربعة أملاك التقوا، واحداً من المشرق، والآخر من المغرب،
وآخر من السماء السابعة، وآخر من الأرضيين السفلى، فقال كل واحد منهم
للآخر: أين تركت ربك؟ فقال: من عند ربي جئت!! هم الذين رووا أن حمل العرش
من فرق غضب الله يثقل العرش على كواهلهم، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع
الرحمن عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتاني ربي في أحسن
صورة فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثدي.
قال إبراهيم: ثم يتحدث فقيههم بمثل هذه الأحاديث، ويخبر بمثل هذه الأخبار،
ويشهد على الله عز وجل بمثل هذه الشهادة، وهو غير محتفل بذلك ولا مستحٍ
منه.
وإنما ذكر الجاحظ والنظام: أن دين الناس بالتقليد، لا بالنظر والبحث
والاستدلال، وقد ذم الله تعالى في كتابه المقلدين فقال: (إنا وجدنا آباءنا
على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون) الأمة ههنا: الدين.
وقالت العلماء: المقلد مخطئ في التقليد، ولو أصاب الحق، لأن من اعتقد الحق
بغير حجة ولا دليل، مثل من اعتقد الباطل بغير حجة ولا دليل، وإذا دخل في
الحق بالتقليد، خرج منه بالتقليد، قال الشاعر في ذم التقليد:
ما الفرق بين مقلدٍ في دينه ... راضٍ بقائده الجهول الحائر
وبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الجائر
وفي كل أهل مذهب ثقة يسندون إليه، وعالم يعتمدون عليه، وكلهم يحتج بقول
الله تعالى، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كثر التدليس في
الكتب، والزيادة في الأخبار، والتأويل لكتاب الله عز وجل، على قدر الأهواء
والمذاهب والآراء.
فيجب على العاقل التيقظ والتحرز والتحفظ من التقليد، الذي هلك به الأولون
والآخرون، وجار عن قصد السبيل الحائرون، أعاذنا الله من إتباع الأهواء في
الدين، وانقياد الأتباع والمقلدين.
وقوله في الرسالة: فمن شبق منهم وانعظ، فقد كفر وما اتعظ.
والشبق: شهوة النكاح، وهو مصدر شبق يشبق شبقاً، قال رؤبة بن العجاج:
لا يترك الغيرة من عهد الشبق
ويقال انعظ الرجل: إذا تحرك عضوه.
وقوله: ووجب عليه القتل، وعبادته مكيدة وختل، فعملت رجالهم في استحضار
المنية، وحمل للهدايا السنية، والتكفن والتضمخ بالصندل.
وقوله: وطرح النفوس في النار طرح عود المندل.
عود المندل: الذي يتبخر به، والمندل: بلد من بلاد الهند إليها ينسب العود،
قال العجير السلولي يصف جارية بطيب الريح:
إذا ما مشت نادى بما في ثيابها ... ذكى الشذا والمندلي المطيب
والشذا: كسر العود ههنا، ويروى: المندلي المطير.
وقوله: شوقاً إلى زيارة من هلك من الأحباب.
وقوله: وكم للجهل في الناس من سورة وعباب!! السورة: الحدة، ومنه سورة
الشراب. والعباب: الكثرة والزيادة، ومنه عباب الماء.
وقوله: وما فعلت الروم في عبادة الصليب، والحض على ذلك والتأليب، وأكل
لحوم الخنازير، بغير تثريب على الأكل ولا تعزير، وقولهم أمكن ربهم عبيده
من أسره وغلبه، وأقدرهم على قتله وصلبه، ليتأسى بذلك أنبياؤه، ويتشبه حزبه
وأولياؤه، ثم أحيا نفسه بعد الموت، وأعادها بعد الفوت.
صليب النصارى معروف، والصليب: المصلوب، ومنه صليب النصارى، مثل قتيل وصريع
وما شاكله، والصليب أيضاً: الودك: قال مرة بن خويلد الهذلي، وذكر عقابا:
جريمة ناهض في رأس نيقٍ ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
يقال: اصطلب الرجل: إذا جمع العظام، فاستخرج ودكها ليأتدم به، قال الكميت
الأسدي:
واحتل برك الشتاء منزله ... وبات شيخ العيال يصطلب
ويقال: المصلوب من هذا، لأنه يسيل ودكه على العود الذي يصلب عليه، والصليب
العلم، قال النابغة:
ظلت أقاطيع أنعام مؤبلةٍ ... لدى صليب على الزراء منصوب
والحض: الحث، ومنه قوله تعالى: (ولا يحضون على طعام المسكين) والتأليب:
الجمع، يقال: ألب الجيش: إذا جمعه. والتثرب: اللوم والتعنيف، ومنه قوله
تعالى: (لا تثريب عليكم اليوم).
والتعزير: الضرب والتأديب، وهو الحد، والتعزيز أيضاً - في غير هذا الموضع
- : التعظيم، ومنه قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه).
وقوله: وما فعلت الفرس في عبادة النيران، وغسل الوجوه بأبوال الثيران،
وأكل الميتة ووطء الأمهات، بصريح الحدود لا الشبهات، واحتجوا بأن الذبح
مؤلم ضار، والنكاح لأهله سار.
النيران: جمع نار، وهو جمع فعل بفتح الفاء إلا أنه معتل العين بالألف،
وكان أصل ألفه واواً يدل على ذلك تصغيره فتقول: نويرة.
والثيران: جمع ثور، وهو جمع فعل بتسكين العين، وأتى الجمعان بلفظ واحد.
وكانت المجوس يغسلون وجوههم بأبوال البقر، تخشعاً وتقرباً إلى الله تعالى،
قال الشاعر فيهم، وفي غيرهم من أهل المذاهب:
عجبت لكسرى وأشياعه ... وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إلهٌ يضام ... ويظلم حقاً ولا ينتصر
وقول اليهود إلهٌ يحب ... كسيس لدماء وريح الفتر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد ... لرمي الجمار ولثم الحجر
فوا عجباً من مقالاتهم ... أيعمى عن الحق كل البشر
قوله: وقالوا للخلق فاعلان متضادان، أحدهما إهر من والآخر يزدان، فيزدان
فاعل الخير والسرور، واهر من فاعل الغم والشرور، وقالوا ليس الحكيم لما
بني من الحكمة هادماً، ولا يصبح على الفعل الحسن نادماً، ونسبوا فعل ذلك
إلى العبث، وصريح الأديان شبيه بالخبث.
وما فعل أصحاب السبت في استقباح نسخ الأديان، وحظر المناهل على الصيدان،
إلا منهلاً واحداً للفارط والتالي، والعشار والمتالي، وقالوا النسخ هو
البدا، ولا يجوز على الرحمن أبداً، ورووا عن موسى أنه قال إن شريعته غير
منسوخة، وعقدها غير محلولة ولا مفسوخة، وحججهم من التوراة، وكل الفرق ظاهر
العورات.
الصديان: العطشان. والمنهل: المورد. والنهل: الشرب في أول الورد، ومنه
اشتقاق المنهل. والحظر: المنع والتحريم، ومنه قوله تعالى: (وما كان عطاء
ربك محظوراً).
والفارط: المتقدم في طلب الماء. والتالي: الذي يتلوه. والعشائر:
جمع عشراء وهي الحوامل التي لها عشرة أشهر منذ حملت، ثم كثر استعمال ذلك
حتى قيل لكل حامل عشراء. والمتالي: التي يتلوها أولادها.
وقوله: وما فعلت الجالوتية منهم في مضاهاتها الرقوب، وإرثها الأرض عن يوسف
بن يعقوب، وما وجدت في سفر شعيا أو دانيال من صفة قديم الأيام، أنه لا
يزال من الأملاك في فيام، قاعداً على الكرسي، بيده ناصية كل وحشي وأنسي،
أبيض اللحية والرأس.
المضاهاة: المشابهة، ومنه قوله تعالى: (يضاهون قول الذين كفروا).
والرقوب ههنا: المرأة التي لا يعيش لها ولد، والرقوب ههنا: المرأة التي
ترقب موت زوجها لترثه. والرقوب: الناقة التي لا تشرب مع الأبل إذا ازدحمت
على الحوض لكرمها.
والجالوتية يقولون: إن الله عز وجل ملك الأرض يوسف بن يعقوب ونحن وارثوه،
والناس مماليك لنا.
والسفر: الكتاب، جمعه أسفار.
وشعياً: هو شعيا بن راموص النبي عليه السلام، وهو نبي من أنبياء بني
إسرائيل.
وقديم الأيام عندهم: هو الله تعالى.
والقيام: الجماعة.
وقوله: لما مر علي من الأحراس.
وما فعلت السامرية منهم في عبادة العجل الذي له خوار، ولكل جلس من المذاهب
شين وعوار، والسامرية بالقول يعلنون، ألا نبوءة لغير موسى ويوشع بن نون.
وما فعلت العزيزية منهم في عزير، وسيرهم فيه بأبعد السير، ورفعه له من
درجة النبوة، إلى نبوة الأبوة.
الأحراس: الدهور، واحدها حرسٌ، وهو الدهر.
وقوله: وما فعل أصحاب الأحد في المسيح، وسيرهم فيه بالعنق الفسيح، وقولهم
في الحي القيوم، هو ثلاثة أقانيم يوصف بأقنوم، أبٌ وابن وروح قدس، وكل
يدين بتظنن وحدس؛ وحججهم من الإنجيل، وضل عن قصد السبيل كل جبل.
وما فعلت منهم اليعقوبية، فيما جعلت لعيسى من الربوبية؛ زعمت أنه كان
قديماً لا في مكان، ثم تجسم فصار جسداً ذا أركان، وأه تناسى بعد علم،
وتجسم بعد أن كان غير جسم، وأنه قادر على الزيادة في الذات، ليصل بذلك إلى
اللذات، ونفوا عنه لذلك وهن العجز، وما يختص بغيره من المنع والحجز، لأنه
القادر على ما يشاء، لا يتعذر عليه الفعل والإنشاء.
أصحاب الأحد: النصارى، وهم يعظمون من الأيام الأحد، مثل ما تعظم اليهود
السبت، ويعظم المسلمون الجمعة.
والعنق: السير الفسيح.
والأقانيم: الأشياء بلغة النصارى، واحدها: أقنوم.
وقوله: وما فعلت النسطورية منهم في صفات اللاهوت، واستتاره ببدن الناسوت.
اللاهوت: الإله بلغة النصارى. والناسوت: الإنسان بلغتهم.
وقوله: وقولهم في الماسح والممسوح، ولم يزل الجهل نازلاً بكل سوح.
الماسح عندهم: هو الله تعالى. والممسوح: هو الذي انتقل إليه، وهو عيسى.
والسوح: جمع ساحة.
وقوله: وما فعلت الفلاسفة في ضرب المزاهر، والأطناب في الأعراض والجواهر،
ووصف المركب والبسيط، وما ظفروا من الدين بفسيط، وأقدامهم على أبطال
الشرائع؛ وقولهم بتدبير الأربع الطبائع.
والمزاهر: جمع مزهر وهو العود. والأطناب: المبالغة.
والأعراض: جمع عرض، وهو صفة الجوهر.
والجواهر: جمع جوهر، وهو القائم بذاته الحامل للأعراض، والجوهر عندهم على
ضربين: مركب وبسيط، فالمركب: هو الجسم مثل الجسد وما شاكله، والبسيط: هو
النفس والروح وما شاكل ذلك، والنفس: هي الروح عندهم، وهي القوة الناطقة،
فكل جسم عندهم جوهر، وليس كل جوهر جسماً.
والفسيط: قلامة الظفر. والفسيط: ثفروق التمرة، وهو قمعها.
وقوله: وقد قالوا مع الأربع بخامس، كقول هرمس الهرامس، وأكثر الفلاسفة،
على غير الطريق عاسفة، وفي أباض من الحيرة راسفة، وشموسها المنيرة كاسفة.
وما فعلت الهيولانية في قدم الهيولى الذي عندهم أصل الأشياء، ومدبر للموات
والأحياء، بتحريك قوة في الجوهر أصلية، قديمة أزلية، تجعل الميت ناطقاً من
الحيوان، وتنفرد بتدبير هذه الأكوان؛ وقولهم بقدم الجوهر القابل للأعراض،
والصحاح أشبه شيء بالمراض، وقيل هي مقالة أرسطاطاليس.
هرمس الهرامس بهذه اللغة: حكيم الحكماء.
والعسف: الأخذ على غير الطريق.
والأباض: الحبل الذي يوبض به البعير، يقال: أبض البعير يأبضه: إذا شد رسغ
يده إلى عضده.
والرسفان: مشى المقيد.
وقوله: ومن اطلع على الأغنياء وجدهم مفاليس.
وما فعل أصحاب التناسخ في تنقل الأرواح في الأجساد، وصلاحها بعد
الفساد، ومثوبة المحسنين بالأبدان الأنسية، وإلهياً كل الحسية، وعقوبة
المقدمين على الجرائم، بأبدان أعجم البهائم، ودوام الدنيا على الأبد.
يقال: اطلع الأمر واطلع على الأمر: بمعنى إذا أشرف عليه وعرف حقيقته، وقد
جاءت اللغتان معاً في كتاب الله، قال الله تعالى: (اطلع الغيب أم اتخذ عند
الرحمن عهداً) وقال تعالى: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً) وقوله: وما
للمثرين من سبد ولا لبد، وقيل: هي مقالة بزرجمهر ابن بختكان، وكم انقاد
للغي حكيم واستكان.
وما فعلت في تعطيلها الزنادقة، وفصلت في أحكامها المزادقة، زعموا أن أهل
الأرض في الأرزاق متظالمون، وأنهم بين الناس في ذلك حاكمون.
المثرون: الأغنياء أصحاب الثراء وهو المال.
والسبد: الشعر. واللبد: الصوف، يقال للنقير: ما له سبد ولا لبد، قال
الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... رفق العيال فلم يترك له سبد
وقوله: يقسمون الأرزاق بالسوية، ولا يجيزون الأثرة باللوية وما فعلت
الفضائية في عبادة الفضاء، ورد الحكم له والقضاء، والمشبه في الخلق
والإمضاء، قالوا لحاجة كل شيء في الشاهد إليه، وغناه عما أحاط به واستولى
عليه، ولأنه لا تحصره الأماكن، ولا يغرب عنه ولا يشبهه متحرك ولا ساكن،
وقالوا لأنه غير متناه، وما نهى الجاهل عن الجهالة ناه.
وما فعلت المانية الغوية، ومن وافقها من الثنوية، إذ جعلت مع الله صانعاً،
وله عن بعض الأفعال مانعاً؛ وقولهم بتدبير ربين خلاقين، وضدين متشاقين،
حيين عالمين، ومن جميع الآفات سالمين، وهما النور والظلام، وما رشد الشيخ
ولا الغلام، فالنور عن فعل القبيح متعال، والظلام لكل شر فعال؛ قالوا ولن
يكون التضاد من الذات الواحدة ممكناً، فيكون المحسن مسيئاً والمسيء
محسناً، كما ليس في النار برودة، ولا الثلج حرارة.
اللوية: ما خبأته المرأة لزوجها من الطعام وآثرته به، وكذلك ما خبأت
لغيره، قال الراعي:
الآكلين اللوايا دون ضيفهم ... والقدر مخبوءة منها أثافيها
قوله: ولا في الشرى حلاوة، ولا في الأرى مرارة.
وما فعلت الديصانية في تدبير حي وميت، وطال التعلل بعسى وليت، فالحي هو
النور الحساس الدراك، والميت هو الظلام الذي ليس له حراك، وكلاهما بزعمهم
ربان، على البرية يعتقبان، ولكل واحد منهما في الخلق من جنسه تأثير، وأود
المذاهب وسقطها كثير.
وما فعلت المرقبونية في تدبير الثلاثة الأرباب، خالق الهرم وخالق الشباب،
وثالث بينهما معدل، لما استقبح من أفعالهما مبدل.
وما فعل الصابؤن في عبادتهم للملائكة المتعبدين، وخروجهم من دين إلى دين.
وما فعلت البراهمة في نفي الوسائط، وكم للصحة والسقم من شائب وسائط، إلا
واسطة العقل فإنها عندهم غير منفية، وشواهدها النيرة غير غامضة ولا خفية،
قالوا لأن إرسال المرسل إلى من علم أنه يعصيه ويمثل برسله، دليل عندهم على
عبث المرسل وجهله.
وما فعلت الأطباء في تدبير الطبائع، وكم للضرر من شارٍ وبائع؟ وما فعلت
الفلكية في تدبير الفلك، وسلوك سبيل الغي فيمن سلك.
وما فعل الحرانيون عبدة النجوم، وأصحاب الظن والهجوم، في تدبير البروج
والأملاك، على قدر نزولها في الأفلاك، وقضائها في الخبرات والشرور، على
التوالي والمرور.
الشرى: الحنظل. والأرى: العسل.
وقوله: وليس في التنجيم، غير ترجيم، ولا عند الكواكب، نفع لواكن ولا واكب.
وما فعلت السوفسطائية في نفي الحقائق، وقطع الأسباب في الدين والعلائق،
لقد جار عن الحق سوفسطا، ومال عن الطريق الوسطى.
الترجيم، والرجم: الظن الذي لا يوقف على حقيقته.
والواكن: الطائر الذي يحضن بيضته في وكنه، يقال: وكن الطائر يكن وكوناً،
ووكن الطائر، ووكنته وكره.
والواكب: الذي يدرج في مشيته، والوكبان: مشية فيها درجان، ويقال: ظبية
وكوب، ومن ذلك اشتقاق الموكب.
والمنجمون يزعمون أنهم يدركون في علم النجوم ما سيكون من علم الغيب، الذي
لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يشاركه فيه أحد من خلقه، وفساد قولهم ظاهر،
لقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول)،
ولقوله تعالى: (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) وغير
ذلك من الآيات.
وفي نهج البلاغة أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام،
لما عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له رجل من أصحابه: يا أمير
المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم،
فقال عليه السلام: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه
الشر، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟ فمن صدق بهذا، فقد
كذب القرن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب، ودفع المكروه،
وتبتغي بقولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنك بزعمك هديته إلى
الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر؟ ثم أقبل على الناس فقال: أيها
الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر وبحر فإنها تدعو إلى
الكهانة، والمنجم كالكاهن والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في
النار، سيروا على اسم الله عز وجل.
وقوله: ولقد اختص ما ذهب إليه بمذهبه، وبعد عن الأسفار قطع غيهبه.
وما فعل أصحاب الدهر، ومن قال بتدبير السنة والشهر، فيما نقل عنهم من
الأقوال، من قدم الأعيان وحدث الأحوال، وبعضهم يقول بقدم الصفات، وما ظفر
ذو السقم بالمعافات.
وأما فرق هذه الملة، فللتقاطع مستحلة، يكفر بعضهم بعضاً، ويرى عداوته عليه
فرضاً، وقد أمسكت كل طائفة برئيس، وعدت حسناً منه كل بئيس، ولكل محاسن
ومساو، وقولٍ ليس بمتساويٍ، وقل من يوجد على غير دين أبيه، ومعلمه
وأقربيه، وداء الناس في دينهم داء قديم، ما صح معه من النغل أديم.
يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، والقطع: ظلمة آخر الليل، ومنه قوله تعالى:
(فأسر بأهلك بقطع من الليل) قال الشاعر:
افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليلٍ بهيم
البهيم: الذي لا يخلط لونه لون سواه. والغيهب: الظلمة، وجمعه غياهب.
وقوله: ومن أوضع في المذاهب، وقع في الغياهب، وأغرق في البحث عن الفرق، لم
ير ناجياً من الغرق.
الإيضاع: الإسراع في السير، ومنه قوله تعالى: (ولأوضعوا خلالكم).
وقوله: أو نظر في املل، عثر على الزلل، وأشرف على اختلاف، مؤد إلى إتلاف،
وهجم على رياض مرة الثمار، منهجة للأعمار.
يقال عثر على الشيء: إذا اطلع عليه، ومنه قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا
عليهم).
وقوله: وموارد ماؤها أجاج، والمسيغ لها مجاج.
الأجاج: الماء المثلج المر. والمسيغ: الذي يسوغ له الشراب، يقال: ساغ
الشراب في الحق، إذا نزل، وكانت له لذاذة. والمجاج: الذي يمج الماء من
فيه، أي يصبه.
وقوله: في العين الصحيحة عور، وفي القناة الصليبة خور، يشقى بها الغامز
والعاجم، شقاء وافد البراجم، فهل عند ضد أو ولي، من نب جلي؟ الخور: الضعف،
يقال: رمح خوارٌ أي ضعيف رخو غير صليب، ورجل خوار: أي ضعيف، وهو من الأول
مصدره الخور، قال عمر بن لجأ التميمي يهجو جريراً:
بل أنت نزرة خوارٍ على أمةٍ ... لا يسبق الحلبات اللؤم والخور
والغمر: اللمس باليد ليعرف لاسمين من غيره، قال جرير:
غمز ابن مرة يا فرزدق كينها ... غمز الطبيب نغانغ المعذور
وعجم العود: عضه ليعرف صلابته من خوره.
ومن أمثال العرب: إن الشقي وافد البراجم، وكان سبب ذلك أن عمراً
ابن هند، عم النعمان بن منذر - وهو الذي يلقب مضرط الحجارة لتجبره وشدة
ملكه - كان له أخ مسترضع في بني تميم، يقال له أسعد، فخرج يوماً يتصيد،
فمر بأبل لرجل من بني تميم، فرمى ناقة منها فعقرها، فجاء صاحبها، فلما
رآها معقورة وثب عليه فقتلة، فنذر عمرو بن هند أن يقتل من بني تميم مائة،
فغزاهم يوم أوارة، فأقبل يقتلهم على الثنية، أي العقبة، وآلى ليقتلنهم حتى
تصل دماؤهم الحضيض وليحرقنهم؛ فقال له الوصاف، وهو الحارث بن مالك من بني
ضبيعة ابن عجل بن الحر: أيها الملك، لو ذبحت الخلق كلهم على حلق واحد، ما
بلغت دماؤهم الحضيض، وكنت قد أفسدت ملكك، ولم تبرر أليتك، ولكن صب على دم
كل قتيل منهم قربة من ماء؛ ففعل، فبلغت دماؤهم الأرض، فسمى الحارث الوصاف
لذلك؛ وأمر عمرو فاحتفر له حفير عظيم، وألقى فيه الحطب واشتعلت النار،
فألقى فيها تسعة وتسعون رجلاً منهم، وبقي واحد من نذره، وأبصر رجل من
البراجم، لم يعلم بذلك الدخان، وشم القتار فظن أنه طعام يصنع، فأقبل إلى
النار؛ فأخذ فأتى به عمرا بن هند؛ فقال: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم
والبراجم حي من تميم - فقال عمرو: إن الشقي وافد البراجم، فأرسلها مثلا،
وألقى الرجل في النار، فتم نذره مائة.
وقوله: يحدث عنه الرائد بما لقي، ويمسك عما بقي، ويزبل دجى الشكوك
والشكاه، بقبس هدى لاقبس مشكاه.
الرائد: الذي يتقدم في طلب الكلأ، يقال: لا يكذب الرائد أهله. والشكاة:
الشكاية، قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها
أي ينبو عنك، ولا يعلق بك. والقبس: شعلة من النار، يقال: قبست من فلان
ناراً، واقتبست منه علماً، ومنه قوله تعالى: (بشهاب قبس). والمشكاة: الكوة
التي ليست بنافذة، ومنه قوله تعالى: (كمشكاة فيها مصباح).
وقوله: يصدق جهينة الخبر عن أخيها، ويبلغ الخاتمة من توخيها.
يعني بذلك قول الشاعر:
تسائلني جهينة عن أخيها ... وعند جهينة الخبر اليقين
قال أبو بكر بن دريد في كتاب الاشتقاق: إن قولهم في هذا البيت خطأ، وهو
قول العامة، وإنما هو جفينة، وله حديث.
وقوله أكثر من ينتحل السنة، في دجنة، والعامة في طرق الحيرة آمه،
والقدرية، للطعن درية، وحجة الرافضة، عند الله داحضة، والحشوية، غوية
شوية، وركبت المرجية، مطية غير منجية، ومشت الخوارج، بأقدام عوارج، ونزلت
المعتزلة، من الفضل بمنزله، فهم ملائكة الأرض، وأعلم الناس بالسنة والفرض،
فرسان الكلام، وذروة أهل الإسلام.
الدجنة: الظلماء في كتاب الخليل، قال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا
الرازي في المجمل: ولو خففه الشاعر لجاز، كقول حميد الأرقط:
حتى انجلت دجا الدجون
والآمة: القاصدة، والأم: القصد، ومنه قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام).
ويقال: فلان غيي شوىٌّ اتباع له، وكذلك غويٌّ شويٌّ.
وقوله: وجارأ كثر الشيعة، عن منهج الشريعة، واتخذوا الغلو ديناً، والسب
خدينا، كم ينتظر لهم إمام غائب، ولم يؤب من سفر المنون آيب، وطال انتظار
السبائية لعلي، وأتت فيه السحابية بالكفر الجلي، وأخرجته إلى الربوبية من
الإنسانية، كما فعلت في أئمتها الكيسانية، وطال انتظار جعفر ابن الباقر
على الناووسية العمية، كما طال انتظار أبي مسلم على الجرميه، وانتظار
الحاكم بأمر الله على الحاكمية، واستراحت القطعية في موسى بن جعفر الإمام
انتظار الواقفة الممطورة، وأكاذيبها المسطورة، وطال انتظار ولد الحسن بن
علي، المعروف بالعسكري، على الإثنى عشرية، كما طال انتظار إسماعيل بن جعفر
على فرقة من الجعفرية، وطال انتظار محمد بن إسماعيل على المباركية، كما
طال انتظار فرق مكن الشيعة لمحمد بن عبد الله النفس الزكية، وطال انتظار
محمد بن القاسم الطلقاني ويحيى بن عمر الكوفي على الجارودية، كما انتظر
غيرهما من أئمة الزيدية، وطال انتظار الحسين بن القاسم الرسي على
الحسسينية، كما طال انتظار المستورين على الباطنية.
المنهج: الطريق الواضح، وكذلك المنهاج.
والخدين: الصاحب، وكذلك الخدن، والمخادنة: المصاحبة، والأخدان: الأصحاب.
والمنون: المنية، ومنه قوله تعالى: (نتربص به ريب المنون)، وسميت
المنية منوناً، لأنها تنقص العدد، وتقطع المدد، وهي مأخوذة من المن، وهو
النقص، ويقال: القطع، ومنه قوله تعالى: (لهم أجرٌ غير ممنون) أي غير
منقوص، وقيل: غير مقطوع، ومنه قول لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبسٌ كواسب لا يمن طعامها
وقول الراجز:
ومنه سوق المطايا منا
والآيب: الراجع من سفره، قال أبو ذؤيب الهذلي:
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليبٌ لوائل
وقوله: وكل فرقة من هذه الفرق تدعي غائبها مهدياً، وتهدي اللعنة إلى
مخالفها هديا، وتعلق الكل بروايات الأحاد، وما لبس به على المسلمين أهل
الألحاد.
المهدي الذي ينتظر كل فرقة من فرق الشيعة أنه على رأيها، وأنه يملأ الأرض
عدلاً، وقد تقدم ذكر ذلك، ورواياتهم في المهدي كثيرة يطول شرحها.
والهدي: العروس.
وروايات الأحاد: التي هي غير مجمع عليها، وهي التي يرويها الواحد من الناس
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجمع معه أحد غيره من الصحابة،
وأخبار الأحاد ضعيفة عند العلماء.
وأهل الألحاد: مثل عبد الكريم بن نويرة الذهلي الذي سير عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أربعة آلاف حديث كذباً، وغيره من الملحدين، والحشوية
وغيرهم.
قال السيد أبو طالب في كتاب الدعامة: إن كثيراً من أسانيد الإثنى عشرية
مبنية على أسام لا مسمى لها من الرجال، قال: وقد عرفت من رواتهم المكثرين
من كان يستحل وضع الأسانيد للأخبار المنقطعة إذا وقعت إليه.
وحكى عن بعضهم: أنه كان يجمع روايات بزرجمهر، وينسبها إلى الأئمة بأسانيد
يضعها؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: الحق الحكمة بأهلها؟!! ومدلسو الأخبار على
المسلمين في كتبهم كثير الإمام الملحدين وغيرهم لا يحتمل ذكرهم هذا الكتاب
لكثرتهم وكثرة رواياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: ولو كشف الحجاب، لظهر العجاب، من تشبيهات الغرابية، وشهادات
الخطابية، وشعوذة المغيرة، وإفك المنصورية، وشرك العميرية، ومين الهريرية،
وضلال الكاملية، وتيه المفضلية، وجهل المقاتلية، وفسوق المعمرية، ومروق
الحروية، وتصوير الجوالقية، وتجويز المجبرة الشقية.
العجاب: أعظم من العجب، ومنه قوله تعالى: (إن هذا لشيء عجاب).
وقوله: لقد جار في التجسيم عن الثكم، هشام بن الحكم، شبه صانع البرية،
بالدرة المضية، ومثله بالخشام، هبلت أم هشام، له حد وأبعاض، وحيزٌ وأعراض،
تحيط به الجهات الست، والخلف والإمام واليمين والشمال والفوق والتحت.
وفر من التشبيه ضرار، فلم ينجه الفرار، زعم أن ربه يدرك في المعاد بحاسة
سادسة، بروية منه وفكرة حادسة، يا ضرار بن عمرو، لقد جئت من العجب بأمر،
أي حاسة تعقل غير الخمس، من بصر وسمع وشم وذوق ولمس؟ وغير ضرار يجيز رؤية
البصر، لما ولد في الكتاب والخبر، وعنده أن الجسم أعراض بالخلقة مؤلفة،
وهي على هذا التأليف مضادة مختلفة، وعنده إثبات فعل واحد على الحقيقة من
فاعلين، كجور من جائرين، وعدل من عادلين، وهو أول مبتدع لهذه المقالة، فهل
له عند الله من عذر وإقالة؟ وإن صح ما روي عن المقاتلية، لقد عبدت صنماً
كأصنام الجاهلية، زعمت أن معبودها كالآدمي من لحم ودم، يبطش بيد ويمشي على
قدم.
أو صح قول البطيحة في التلذذ بعذاب النار، لقد سلك واردها سبيلاً من الرشد
على منار.
يعني: هشام بن الحكم القطعي، وكان يقول: إن ربه كالدرة المضية تتلألأ من
كل جوانبها.
وحكى عن أبي الهذيل أنه سأل هشام بن الحكم بمنى - بحضرة جماعة من
المتكلمين، منهم عبد الله بن يزيد - فقال هذا الجبل - يومي إلى جبل هنالك
- أعظم أم ربك.؟ فقال هشام: هذا الجبل!! والثكم: الطريق الواضح.
والخشام: الجبل الطويل الذي له أنف.
والهبل: الثكل، يقال: هبلته أمه تهبله هبلاً، كما تقول: ثكلته تثكله.
وقوله: وفر من التشبيه ضرار، فلم ينجه الفرار، يعني: ضرار بن عمرو الذي
تنسب إليه الضرارية.
وكان ضرار يقول: بفعل من فاعلين على الحقيقة، وإن الله تعالى خالق لأفعال
عباده، وهم فاعلون لها على الحقيقة دون المجاز، وهو أول من ابتدع هذا
القول وأحدثه.
وكان يقول: إن الله تعالى يدرك في المعاد بحاسة سادسة، وإن الجسم
أعراض مجتمعة هي له أبعاض، وإن الأعراض يجوز أن تقلب أجساماً، وإن
الاستطاعة بعض المستطيع.
وقوله: أو صح قول جهم بن صفوان في أفعال العباد، فلا ذنب للحاضر ولا
الباد، إذ الفاعل عنده كشجرة حركت بالريح، صرح بالجبر أي تصريخ، أو صح
قوله في فناء النار والجنة، إنهما لجاني الكبائر أحصن جنة.
أوصح قول المرجية في إخلاف الوعيد، فما أشبه الشقي بالسعيد، والعفو من
الكريم المنان غير بعيد.
يعني: جهم بن صفوان الترمذي، وكان جهم خرج مع الحارث بن سريح ينتحل الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فقتل بمرو، قتله سلم بن أحور في آخر ملك بني
أمية على شط نهر بلخ، وهو الذي تنسب إليه الجهمية.
وكان جهم يقول: إن الجنة والنار يفنيان، وإن الإيمان هو المعرفة دون
الإقرار، ودون سائر الطاعات، وإنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا الله
تعالى، وإن الخلق فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الريح، إلا
أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة بها كان الفعل، وخلق فيه إرادة الفعل
واختياره، كما خلق فيه سروراً بذلك وشهوة له.
وقوله: أوصح قول المجبرة والخوارج في عذاب لأطفال، لقد حملت أحمال البوازل
على الآفال.
الآفال: بنات المخاض فما فوقها.
واختلف الناس في عذاب الأطفال المشركين.
فقال واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيلان، ومحمد بن الحنفية، وبشير
الرجال، والحسن بن أبي الحسن البصري، وقتادة، وعبد الواحد بن زيد، وجميع
المعتزلة، والميمونية، والنجدات من الخوارج: أطفال المشركين في الجنة ولا
يقع العذاب إلا على البالغين، واحتجوا بقول الله تعالى: (كل امرئ منهم بما
كسب رهين) وبقوله: (لا تزر وازرةٌ وزر أخرى) وبقوله: (وأن ليس للإنسان إلا
ما سعى).
قالوا: وليس للأطفال كسب يرتهنون به.
وقالت المجبرة كلها، والحشوية، وسائر الخوارج: أطفال المشركين في النار،
لأنهم بعض من أبعاضهم، واحتجوا بأن الله تعالى خسف الأرض بقوم لوط، وأغرق
قوم نوح وفيهم الأطفال، قالوا: فلما خسف بهم وأغرقهم مع آبائهم، قلنا: إنه
يعذبهم مع آبائهم في النار، وكل فعل الله عدل، ولا يسأل عما يفعل وهم
يسألون.
وقال عبد الله بن يزيد، وابن التمار من الزيدية، وحسين النجار والمريسي من
المرجية: أطفال المشركين خدم أهل الجنة.
وقالت الروافض جميعاً - إلا هشام بن الحكم - : يجوز أن يعذبهم، ويجوز أن
يعفو عنهم.
وقوله: أو صح ما قالت العوفية، إذا كفر الإمام كفرت بكفره الرعية، لقد أخذ
المسلم بذنب الكافر، وضربت ذات الخف بجرم ذات الحافر.
وقوله: كمداوة ذي العر، بكى آخر سالم من الضر.
أو صح ما روى عن الميمونة من الهنات، من نكاح بنات البنين وبنات البنات.
العر: داء يقع في الإبل، وكانت الجاهلية، إذا وقع العر في إبلهم أخذوا
بعيراً سليماً منها لأداء به فطقعوا مشفره وكووه، وزعموا أن ذلك يرفع
الداء من سائر الإبل، قال النابغة الذبياني:
وحملتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راتع
وقوله: لقد أحيوا سنة المجوس، وتزويج حاجب لدختنوس.
أو صح قول اليزيدية في آخر الزمن، من ظهور نبي مؤتمن، يأتي من السماء
بكتاب، يزيل ريب كل مرتاب، لقد سعد من نسيه الحمام، حتى يدركه نبيٌ أو
إمام.
كان زرارة بن عدس التميمي مجوسياً، وكذلك ابنه حاجب بن زرارة، كان على دين
المجوس، وتزوج ابنته دختنوس، وهو القائل عند وفاته:
يا ليت شعري دخنتوس ... إذا أتاها الخبر المرموس
أتسحب الذيلين أم تميس ... لا بل تميس إنها عروس
وقيل: إن دختنوس ابنة أخيه لقيط بن زرارة، وإن لقيطاً قائل الأبيات.
وقوله: أو صح ما روي عن مالك، في العبد المملوك وسيده المالك، لقد جاء
بإحدى الكبر، وأتى في الدين بصماء العبر.
أو صح ما روي عن الشافعي في القمار بالشطرنج، فليت شعري ما عنده في لعب
الزنج، وضربها على الطبل والصنج.
أو صح ما روي عن أبي حنيفة من تحليل مسكر الشراب، لقد نقل بيت الخمار إلى
المحراب!!.
أو صح ما روي عن الجوالقية في تزويج المتعة بالأجور، لقد حملوا المحصنات
على الفجور.
أو صح قول الأباضية إنه يجوز أن يبعث نبيٌ بلا دليل، لقد أجازوا
النبوة لكل ضليل؛ أو صح قولهم في تصديق ما ورد من الأخبار، عن المؤمن
والكافر بغير اختيار، لقد خلطوا الصدق بالمين، وصدقوا الأذن على العين.
أو صح ما روي عن الخطابية من استحلال شهادات الزور، وأن الشاهد بها منهم
على المخالف غير موزور، وأن مخالفيهم ضلال، وأموالهم ونساءهم لهم حلال،
لقد أتوا في الدين بشنعاء نآد، وأوهنوا منه عضداً قوية الآد.
أو صح ما روي عن المعمرية من استحلال الزنا والفسوق، لقد أقاموا للفساد في
الأرض شر سوق.
أو صح ما روي عن المعمرية المفضلية من ربوبية جعفر، لقد باءوا بذنب غير
مكفر، وأنهم رسله إلى الخليقة، لقد جاءوا في الدين بالفليقة، من ربهم بعد
جعفر هلك ذلك الرب؟ وأصبح به ذو السنام وهو أجب.
أو صح ما روي عن أبي منصور إنه الكسف الساقط من السماء، وإنه عرج إلى
العرش بكلمة يمشي بها على الماء، وأن معبوده مسح رأسه بيده للإيناس وقال:
أي نبي اذهب فبلغ عني كافة الناس، وأن النار والجنة، والبدعة والسنة،
أسماء رجال، ما لها غير التسمية من مجال، يجب لبعضهم عداوة ولبعضهم إجلال،
فالفروض ساقطة والمحارم حلال، وأن النبوة لا تنقطع بمحمد، ولا بد في كل
وقت من نبي مصمد، وأن أول ما خلق الله موسى ثم علي، لقد خاب وخسر العجلي،
ورجع دون العروج بالعرج، ولم ينج عند الله من حرج.
أو صح ما روي عن ولده الحسين من استحلال الخنق، وغيلة المخالف بوقص العنق،
وأخذ ما معه من مال، لقد حمل من ظلم البرية أثقل الأحمال، وأنه ولي
الأخماس؛ من ما غنم أصحابه من الخنق بالتماس، لقد تزود شر زاد للمعاد،
وخرج إلى الله بحرم باغ عاد.
أو صح ما روي عن المغيرة بن سعيد، لبئس ما حفظ عنه أكرم قعيد، أن معبوده
رجل من نور على رأسه من النور تاج، ينبع قلبه بالحكمة يهتاج، وأن أعضاءه
بعدد حروف أبجد، لقد عضه ربه وما مجد، وأشار بالعورة إلى الصاد، إن ربك
للظالم بالمرصاد، هلك المغيرة، وأحصيت الكبيرة والصغيرة.
أو صح قول البيان بن سمعان، إن معبوده في صورة الإنسان، وإنه يهلك ويبقى
وجهه، كما يهلك بزعمه نظيره وشبهه، وأنه يدعو النجوم فتجيب، إن شن التميمي
لعجيب، لقد بان كفر البيان، وأعلن بالكفر أي إعلان.
أو صح ما روي عن المختارية، ونقل عن الضرارية، أن الدنيا غير فانية، لقد
فاز كل جان للذنوب وجانية.
أو صح ما روي عن الطيارة الغالية أن ربهم يحتجب بأبدان الأئمة، وأن
عبادتهم واجبة على كل أمة، لقد كثرت الأرباب، واتسع للداخل هذا الباب.
أو صح قول أصحاب الرجعة، في قدوم من انتجع من المنون أبعد نجعة، وظهور
الأموات قبل القيامة مع ابن الحنفية، ورد جميع الأديان على الحنفية، لقد
ضعف ناصر الرمم، وبعد استظارها على الأمم.
أو صح قول الغرابية في أبي تراب، إنه بالنبي أشبه من الغراب بالغراب، وإن
جبريل غلط في تبلغي الرسالة إلى غير علي، لقد نسبوا الغلط - جل عن ذلك -
إلى الواحد العلي.
أو صح قول الراوندية إن الأمامة من التراث، وإنها لأقرب العصبة من الوراث،
فإنها بعد النبي للعباس، بغير فك عندهم ولا التباس، وإن بني البنات لا
يرثون شيئاً مع العم، ولا إمامة في النساء فيدلون بأرث الأم، لقد اشترك
فيها البر والفاجر، ووقع الاختلاف والتشاجر، وحكم بها لكل ظالم فظ، على
قدر الوارثة والحظ.
أو صح قول أصحاب النص بأمامة من في المهد، وخذ البيعة له والعهد، لقد
طابقوا الأكاسرة في تقديم غير الكامل، ووضع التيجان على بطون الحوامل،
والائتمام بالجنين، قبل حدوث النجو والذنين.
أو صح قول الجارودية إنها منصوصة بالإشارة والوصف، بأخبار عندهم كخير
النعل والخصف، لقد وصفوا الخالق بالرمز، والتلبيس بالإشارة والغمز؛ أو صح
قولهم في حصرها على الذرية، دون غيرهم من البرية، وأنها لهم كالقلادة، بما
لهم من الولادة.
الكبر: الكبائر: ومنه قوله تعالى: (إنها لإحدى الكبر).
وصماء العبر: اسم من أسماء الداهية. قال الحرماني يمدح المنذر بن الجارود:
أنت لها منذر من بين البشر ... داهية الدهر وصماء العبر
يريد: يا منذر
يعني: مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن حمير ثم من الأصابح، وهو
الذي تنسب إليه المالكية بالمغرب، ويروى عن المالكية أنهم يستحلون اللواط
بالمماليك، وأن الشافعية يجيزون القمار بالشطرنج، وأن الحنفية يجيزون شرب
الخمر، وأن الروافض يجيزون المتعة.
قال المعري يذكر هذه المذاهب:
الشافعي من الأئمة واحد ... ولديهم الشطرنج غير حرام
وأبو حنيفة قال وهو مصدق ... فيما يفسره من الأحكام
شرب المنصف والمثلث جائزٌ ... فاشرب على أمن من الآثام
وأجاز مالك الفقاح تطرفاً ... وهم دعائم قبة الإسلام
وأرى الروافض قد أجازوا متعة ... بالقول لا بالعقد والإبرام
فافسق ولط واشرب وقامر واحتجج ... في كل مسألة بقول إمام
وذو النآد: اسم من أسماء الداهية، قال الكميت:
وإياكم وداهية نآدي ... أظلتكم بعارضها المخيل
والوهن: الضعف، ومنه قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم) وقوله تعالى: (إن
أوهن البيوت لبيت العنكبوت).
والآد: القوة: قال الشاعر:
باد ما تنهض في أدها
والأيد أيضاً: القوة، ومنه قوله تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه
أواب).
وبآء: يقال: باء الرجل بإئمة أي احتمله، ومنه قوله تعالى: (إني أريد أن
تبوء بإثمي وإثمك) ويقال: باء أيضاً: أي رجع، ومنه قوله تعالى: (وباءوا
بغضبٍ من الله) أي رجعوا.
ويقال: باء القتيل بالقتيل: إذا كان كفئاً له، ويقال باء بالحق: إذا قربه،
قال لبيد:
أنكرت باطلها وبؤت بحقها ... عندي ولم يفخر على كرامها
والفليقة: الداهية.
والرب معرفاً: اسم الله تعالى، ورب كل شيء: مالكه.
والأجب: مقطوع السنام، قال النابغة:
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
وأول الأبيات:
ألم أقسم عليك لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام
فإني لا ألومك في دخولٍ ... ولكن ما وراءك يا عصام
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
وعصام: حاجب النعمان بن المنذر، وهو منم تيم اللات بن ثعلبة، وهو الذي قال
فيه النابغة:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكاً هماما ... حتى علا وجاوز الأقواما
والمصمد: المقصود كثيراً، قال طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة المجد الكريم المصمد
والصمد: السيد المقصود كثيراً، ومنه قوله تعالى: (الله الصمد)، قال سيرة
بن عمرو الأسدي:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعودو بالسيد الصمد
واعلم أن الناس اختلفوا في النبوة: هل هي مخصوصة أم مكتسبة.
فقال أصحاب التناسخ - منهم أبو خالد الهمداني، وأبو خالد الأعمى المشعبذ
الواسطي، ومن قال بقولهم - : إن النبوة مكتسبة بالطاعة، واحتجاجهم في ذلك
أنهم قالوا: لو كانت النبوة من طريق المثوبة على اكتساب الطاعة لكانت
جبراً وضرورة، ولو كانت جبراً لكانت الأنبياء غير ممتنعة منها، ولو كان من
الأنبياء ثواب على فعل الله فيهم، فصح أنها مكتسبة بالطاعة.
وقال حسين النجار - ومن قال بقوله، والمريسي من المرجية، وهشام بن الحكم
ومن قال بقولهم - : إن النبوة خصوصية من الله عز وجل، وتفضل على من تفضل
عليه قسراً وجبراً، وإن الله يثبت النبوة على الأنبياء تفضلاً، كما تفضل
بها عليهم، ويثبتهم على الطاعة دون النبوة جزاء، وعلى الله جزاء المحسنين.
وقال واصل بن عطاء، ومن قال بقوله: النبوة أمانة قلدها الله تعالى من كان
في علمه الوفاء بها، والقبول لها، والثبات عليها، من غير جبر، لقوله
تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) أي لم يجعلها الله تعالى لا فيمن علم
منه الوفاء بها والقبول لها، وثواب الأنبياء على قبولهم وتأديتهم الرسالة،
لا على فعل الله تعالى فيهم وتعريضهم.
وقال بهذا أو الهذيل، وبشرين المعتمر، والنظام، وسائر العدلية.
والعرج: الصمود، مصدر عرج يعرج بفتح العين من الماضي وضمها من
المستقبل، ومنه قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة).
والعرج: مصدر يعرج: إذا صار أعرج بكسر العين من الماضي وفتحها من المستقبل.
والحرج: الإثم، ومنه قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج
حرجٌ ولا على المريض حرجٌ) وقص العنق: دقه. والوقص: العيدان تلقى على
النار قال حميد:
لا تصطلي النار إلا مجمراً أرجاً ... قد كسرت من يلنجوج له وقصا
والقعيد: المقاعد، وهو الجليس المجالس، ومنه قوله تعالى: (عن اليمين وعن
الشمال قعيد) والقعيد أيضاً: الذي يحموك من وارئك، والقعيد: الجراد الذي
لم يستو جناحه بعد، والعرب تقول: قعيدك لا آتيك، وهي يمين لهم، قال متمم
بن نويرة اليربوعي:
قعيدك ألا تسمعين ملامةً ... ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجعا
وقعيدة الرجل: زوجته، قال الحطيئة:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... الى بيتٍ قعيدته لكاع
والقعيدة: الغرارة، والقعيدة من الرمل: التي ليست بمستطيلة والعضه: الشتم،
والعضيهة: الشتيمة.
والتمجد لله تعالى والتعظيم.
والمرصاد: الطريق الواضح، وكذلك المرصد، مثل منهج ومنهاج.
والنجعة: الاسم من الانتجاع في طلب الكلأ.
والفظ: سيئ الخلق، ومنه قوله تعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من
حولك). والفظ أيضاً: ماء الكرش وقيل: إن اشتقاق الرجل الفظ من هذا.
والجنين: الولد ما دام في بطن أمه، سمي بذلك لاجتنانه.
والنجو في هذا الموضع: ما يخرج من البطن. والنجو في غير هذا الموضع:
السحاب، وجمعه نجاه، قال المسحال الهذيل، واسمه مالك بن عويمر، أحد بني
لحيان بن هذيل:
كالسحل البيض جلا لونها ... سح نجاء الحمل الأسول
والنجو أيضاً: السر، والنجوة: المكان المرتفع الذي لا يبلغه الماء، قال
عبيد:
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
والنجوى مقصوراً: السر ومنه قوله تعالى: (وأسروا النجوى)، والنجوى: مثل
المطوي، والمطوي: المتمطي ممدود التمطي، قال شبيب بن البرصاء:
وهم تأخذ النجواء منه ... يعل بصالب أو بالملال
والذنين: ما يسيل من الأنف.
وكانت الأكاسرة إذا مات الملك منهم وليس له ولد، وببعض نسائه حمل تركوا
تاجه على بطن امرأته الحامل إلى أن تضع ولدها، ثم ملكوه عليهم، ولما هلك
هرمز بن نرسا بن نهران الملك الفارسي، ولا ولد له، شق ذلك عليهم، فسألوا
عن نسائه، فذكر لهم أن ببعضهن حملاً، فأرسلوا إليها: أيتها المرأة التي قد
قاست الحمل، قد تعرف علامات الذكران وعلامات الأناث، فأعلمينا بالذي يقع
عليه ظنك في بطنك، فأرسلت إليهم: إني أرى من نظارة لوني وتحرك الجنين في
الشق الأيمن مع خفة الحمل ويسره ما أرجو أن يكون الجنين ذكراً! فاستبشروا
بذلك وعقدوا التاج على بطن تلك المرأة، حتى وضعت غلاماً سموه سابور، وهم
سابور ذو الأكتاف، وهو أعظم ملوكهم. وأقامت الوزراء يتولون تدبير الأمر
والمملكة في حال صغره على انتشار عظيم، وضاع من ملكهم حتى طمع فيهم من
يليهم من أعدائهم، وأوعثت العرب من عبد القيس وغيرهم في كثير من بلاد
فارس، وأكثروا فيها الفساد.
فبينما سابور نائم ذات ليلة، وقد أثغر وأيفع إذا أنبهه ضجة الناس وأصواتهم
فسأل الخدمة عن ذلك، فأعلموه أن تلك الأصوات مما على الجسر من الناس، وما
يصيح به المقبل منهم، والمدبر يتنحى له عن الطريق، فقال وما دعاءهم إلى
احتمال هذه المشقة وهم يقدرون على إزالتها بأيسر المؤونة؟ ألا يجعلون لهم
جسرين، فيكون أحدهما للمقبلين والآخر للراجعين، ولا يزحم الناس بعضهم
بعضاً؟ فسر من حضر بمقالته ولطف فطنته على صغر سنه.
فلما أتت له ست عشرة سنة أمرهم أن يختاروا ألف رجل من أهل النجدة والبأس
ففعلوا، فأعطاهم الأرزاق، ثم سار لهم إلى نواحي العرب الذين كانوا يعيثون
في أرضهم، فقتل من قدر عليه منهم ونزع أكتافم، فسمي ذو الأكتاف لذلك، وهو
باني الإيواء الأعظم بالمدائن.
ولقد شرك فيها ولد قرين، وولد الديباج ابن ذي النورين، كما إن عيسى من
ذرية الخليل، لوجود الشاهد والدليل.
أو صح قولهم إنها شورى منهم بين الأفضل، لقد أيدوا حجة المناضل،
ورجعوا إلى العموم بعد الخص، وإلى الشورى بعد النص، واستحسنوا ما استقبحوا
من قبل، وانقطع بهم عن التمسك ذلك الحبل.
قرين: لقب عثمان بن عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام.
وأم قرين: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وكانت سكينة بنت الحسين
بن علي بن أبي طالب عند مصعب بن الزبير بن العوام، فولدت له جارية، ثم قتل
مصعب؛ فخلف عليها عبد الله بن حكيم بن حزام، فولدت له قريناً، وله عقب؛ ثم
تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان أخو عمر بن عبد العزيز، فمات بمصر
قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها زيد بن عمر بن عثمان بن عفان، فأمره سليمان بن
عبد الملك بطلاقها، ففعل.
وقال ابن الكلبي: أول أزواج سكينة: الأصبغ بن عبد العزيز، ومات عنها بمصر
قبل أن يدخل بها؛ ثم خلف عليها مصعب بن الزبير، وولدت له جارية، ثم خلف
عليها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكم بن حزام، فولدت له عثمان الذي
يقال له: قرين، وله عقب، ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف جد
إبراهيم بن سعد الفقيه.
قال العقيفي، يحيى بن الحسين الحسيني، في كتاب أنساب مضر: قتل الحسين ابن
علي بن أبي طالب عليهما السلام، وعليه بضعة وسبعون ألف دينار، فباع على
ابنه ضياعاً لأبيه تسقيها عين جدية إلى الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، فقضي
عن أبيه دينه، فورثها آل حكيم بن حزام.
وأما الديباج: فهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمه فاطمة
بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وسمي الديباج: لجماله، وكان له قدر ونبل،
وكان يقال فيه: سمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذريته، وزرع
الخليفة المظلوم.
وذي النورين: عثمان بن عفان.
وأخذ أبو المنصور الديباج وأخواله الفاطميين، فضرب عنقه صبراً، وله عقب
وكانت بنت الحسين بن علي عند ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب،
فمات عنها، ثم خلف عليها عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو الذي يقال له:
المطرف، سمي بذلك: لجماله، قال فيه مدرك بن حصن:
كأني إذا دخلت على ابن عمرو ... دخلت على مخبآت كعاب
فولدت لعبد الله المطرف: محمد الديباج.
فقال العقيقي، يحيى بن الحسين الحسيني: كان الحسن بن الحسن خطب إلى عمه
الحسين بن علي؛ فقال الحسين: يا ابن أخي قد انتظرت هذه منك، اختر: إما
فاطمة، وإما سكينة؛ فاختار الحسن فاطمة، فزوجه، فولدت فاطمة للحسن ابن
الحسن: عبد الله بن الحسن وحسناً وإبراهيم وزينب وأم كلثوم، فكانت زينب
بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند الوليد بن عبد الملك بن مروان
وهو خليفة، وكانت أم كلثوم عند محمد بن علي بن الحسين بن علي، فتوفيت عنده
وليس لها ولد.
قال العقيقي: فلما حضرت الحسن بن الحسن الوفاة، قال لفاطمة بنت الحسين:
إنك امرأة مرغوب فيك، فكأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان إذا خرج بجنازتي،
وقد جاء على فرس مرجلاً جمته لابساً حلية يسير في جانب الناس يتعرض لك،
فأنكحي من شئت سواه، فإني لا داع ولا رائي من الدنيا هما غيرك. قالت له
فاطمة: أنت آمن من ذلك وغلظته الإيمان من العتق والصدقة، لأنكحته.
ومات الحسن بن الحسن، وخرج بجنازته، فوافى عبد الله بن عمرو بن عثمان، في
الحال التي وصف، وكان يقال لعبد الله بن عثمان: المطرف، من حسنه؛ فنظر إلى
فاطمة حاسرة تضرب وجهها، فأرسل إليها: إن لنا في وجهك حاجة فارفقي!! به
فاسترخت يداها، وعرف ذلك فيها وحمرة وجهها؛ فلما رحلت أرسل إليها يخطبها؛
فقالت: كيف بيميني التي حلفت بها؟ فأرسل إليها: لك مكان كل يمين من مملوك
مملوكان، ومكان كل شيء شيئان؛ فوضعها من يمينها، فنكحته، فولدت له محمد
الديباج بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وله عقب، والقاسم بن عبد الله، ولا
عقب للقاسم، ورقية بنت عبد الله.
قال العقيقي: وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن يكنى أبا محمد، وكان خيراً،
ورئي يوماً يمسح على خفيه، فقيل له: تمسح على خفيك؟ فقال: قد مسح عمر ابن
الخطاب، ومن جعل عمر بن الخطاب بينه وبين الله تعالى فقد استوثق.
وكان مع أبي العباس السفاح، وكان له مكرماً وبه أنيساً، فأخرج يوماً سفط
جوهر، فقاسمه إياه، وأراه بناء قد بناه، وقال له: كيف ترى هذا؟ فقال عبد
الله متمثلاً:
ألم تر حوشباً أمسى يبني ... قصوراً نفعها لبني نفيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليله
فقال له أبو العباس: تتمثل بهذين البيتين، وقد رأيت صنيعي بك؟ فقال عبد
الله: والله ما أردت بها سوءا، ولكنها أبيات خطرت، فإن رأى أمير المؤمنين
أن يحتمل ما كان مني. قال: قد فعلت، ورده إلى المدينة.
فلما ولي إبراهيم جعفر ألح في طلب ابنيه إبراهيم ومحمد ابني عبد الله،
وتغيباً في البادية، فأمر أبو جعفر أن يؤخذ أبوهما عبد الله بن الحسن بن
الحسن وإخوته الحسن وداود وإبراهيم، ويشدوا وثاقاً ويبعث بهم إليه، فوافوه
في طريق مكة بالربذة - موضع قبر أبي ذر الغفاري - مكتوفين؛ فسأله عبد الله
أن يأذن له في الدخول عليه، فأبى أبو جعفر، فلم يره حتى فارق الدنيا، ومات
في الحبس هو وإخوته جميعاً.
وخرج ابناه محمد وإبراهيم، وغلبا على المدينة، ومكة، والبصرة، فبعث إليهما
العساكر، فقتل محمد بالمدينة، وقتل إبراهيم بباخمرى على ستة عشر فرسخاً من
الكوفة.
وإدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن أخوهما، هو الذي صار إلى الأندلس
والبربر فغلب على تلك الناحية.
ولن توجد جهة قاطعة على النص والحصر، يشهد لصاحبها على المخالف بالنصر، من
تنزيل، لا يعارض بالتأويل، وتأويل لا ينقض بالسماع أو ضرورة العقل، التي
لا تفتقر إلى النقل.
اختلاف الناس في الحجة بالخبر بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
اختلف الناس في الحجة بالخبر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.فقالت الأمامية: لا تعقل الحجة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا عن الإمام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقالت الزيدية: لا تثبت الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بشهادة أربعة رجال من أهل العدالة، قياساً على شهادة الزنا.
وقالت الخوارج كلها - إلا الفضيلة - : الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة عدلين، لقول الله عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منك).
وقال النظام: لا تعقل الحجة عند الاختلاف من بعد النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم إلا من ثلاثة أوجه: أ - من نص من تنزيل لا يعارض بالتأويل.
ب - أو من إجماع الأمة على نقل خبر واحد لا تناقض فيه.
ج - أو من جهة العقل وضرورته.
وبقوله: قال أكثر المعتزلة.
وقال أبو الهذيل: الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة عشرين رجلاً من أهل العدالة، لقوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين).
وقال واصل بن عطاء، وغيلان بن عمرو بن عبيد: لا تعقل الحجة إلا بالإجماع، إما في إجماع الأمة على الخطأ والكذب من بطلان الدين وعدم الإسلام.
وحكى الجاحظ في كتاب الأخبار: إن من الناس من يقول: إن الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادة سبعين رجلاً لميقاتنا).
وقالت الحشوية: كل ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو حجة.
وقالت الفضيلة من الخوارج: لا تعقل الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بتقليد أهل الثقة من العلماء الصالحين.
وبه قالت عامة المرجية.
قوله أو صح ما روي عن عبد الله بن معاوية، لقد هوى به إلى الهاوية، إن العلم ينبت في قلبه نبات العشب وبنات أوبر، لقد أساء العبارة بما عبر، وإن روح الله تحولت في آدم، ثم نسخت في كل نبي حدث وتقادم، حتى صارت فيه، لقد أعلن بالكفر ما يخفيه، فعبدته شيعته وكفروا بالقيامة، وكفروا على شرب المدامة.
أو صح ما روي عن الشمراخية لقد شدوا لملل الكفر مرس الأخيه، أن الصلاة جائزة خلف من صلى إلى القبلة، وإن كان مخالفاً للنحلة، من النصارى واليهود، أنهم على التصويب لهم شهود.
أو صح ما روي عن الصفرية في تجويز مناكحة المشركين والمشركات، وقبول شهادتهم وموارثتهم في التركات، لقد مزجوا الغث بالسمين، وجعلوا الكفار مسلمين.
أو صح ما روي عن الخشبية في إجازة نسخ ما حكى الله من الأخبار، لقد نسبوا الكذب جل عن ذلك إلى الجبار.
أو صح قول التغلبية إن أطفال المشركين مشركون كالآباء، لقد أخذهم بما حمل غيرهم من الأعباء.
أو صح قول الفضيلية إنه يكون مؤمناً من أظهر الإيمان، وأسر الكفر
بالرحمن، لقد أجازوا النفاق، وأوجبوا عليه الاتفاق؛ أو صح قولهم في صغائر
الذنوب، لقد حكموا للمؤمنين من الشرك بذنوب.
أو صح قول البيهسية إن المسكر إذا اتخذ من المال الحلال، فهو أحل من الماء
الزلال، وإن الذنوب موضوعة عنهم في حال السكر، لقد أتوا في الدين بشيء
نكر، والبيهسية تسير في المخالف بأخذ المال وقتل الغيله، وأعمال المكيدة
في ذلك والحيله.
أو صح قول النجدية إن من أذنب منهم في الإيمان غير خارج، ومن أذنب من
غيرهم فقد كفر بذي المعارج، لقد صيروا الذنب إيمانا، تكون من العذاب
لأهلها أماناً.
أو صح قول الأزارقة: إن المسلم بدار الكفر كافر، ليس لذنبه غافر، لقد
جعلوا الإسلام كفوراً، واتباع الحق نفوراً، والأزارقة تستحل قتل الأطفال،
وترى مال المخالف من الأنفال، ويحتجون بقوله تعالى: (رب لا تذر على الأرض
من الكافرين دياراً، إنك إن تدرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً
كفاراً).
وهذه جملة من مذاهب يسيرة، وقل من يمشي بقدم غير كسيرة، وسائرها يكثر به
الشرح، ويحسن الإلغاء له والطرح، فانظر إلى اختلال هذه العقائد، وضلال
مقودها والقائد، فكل عروة منها انفصام، وخسر من له بها اعتصام.
أيها الرابط على ما في الكيس، هل أمنت على ما فيه من التوكيس؟ انصرف به
إلى الصيارف، فكم له من ناقد وعارف، وطف به على الطوائف، لعله من الزوائف،
كم لهذه الجملة من قار، لا يرتدي عند القراءة بوقار، هل معه من الدين غير
تقليد، أم فتح باباً مغلقاً بإقليد، أنى بالأران لفارس الأران، وطرفه
الحري بالحران، أين المحض من الضيح، وأبي غبيش من أبي وضيح، ما للهدان
بالفتك يدان، ولا للعيهب، إقدام على الغيهب، ظفر طالب الثار بكبوة العثار،
وضعف ظنبوب الرار، عن الفوز بالأبرار، هل يباري الفرسان إلى الأنفال، كفل
على ثفال، يعجز عن الزياد، عن الجياد، وعن قبض الرهان، بكليل الجري مهان،
أصبح عن السباق، مضاعف الرباق، وعن الطراد، مثنياً عن المراد.
بنات أوبر: ضرب من الكمأة، قال الشاعر:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
والمرس: الحبل، وجمعه: أمراس.
والأخية: مربط الدابة، وهي معروفة.
والذنوب: النصيب، ومنه قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب
أصحابهم). قال علقمة بن عبدة:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
وشاس اسم أخي علقمة.
والذنوب: الدلو العظيمة، قال الراجز:
إني إذا نازعني شريب ... فلي ذنوب وله ذنوب
والذنوب: الفرس الطويل الذنب. والذنب: لحم المتن.
والنكر: المنكر، ومنه قوله تعالى: (لقد جئت شيئاً نكراً).
والعقائد: جمع عقيدة، وعقيدة الرجل: دينه وما يعتقده.
وفصم الشيء: كسره من غير أن يبين، ومنه قوله تعالى: (لا انفصام لها).
والإقليد: المفتاح، وهو جمع على غير القياس، ومنه قوله تعالى: (له مقاليد
السموات والأرض).
وأنى بالأران: أي كيف بالأران، ومنه قوله تعالى: (أني يحيى هذه الله بعد
موتها)، قال الشاعر:
عجبت لمسراها، وأني تخلصت ... إلي وباب السجن دوني مغلق
والإران: النشاط. والأران: النعش الذي يحمل عليه الموتى.
والطرف: الفرس الكريم.
والحري: الحقيق، يقال: فلان حقيق بكذا، وحري بكذا، وخليق، وقمين، وجدير،
كل ذلك بمعنى واحد.
وحران الفرس: معروف.
والمحض: الخالص من اللبن.
والضبيح: الممزوج بالماء.
وأبو غبيش: الليل، وغبشه: ظلامه.
وأبو وضيح: النهار، وضحه: ضوؤه، قال الفراء: في الحديث: صوموا من وضح إلى
وضح، يريد: من ضوء إلى ضوء وجاء بهما مصغرين، وهو يريد التكثير، كما قال
الحباب بن المنذر يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا
أمير ومنكم أمير.
والهدان: الرجل الأحمق الخامل، والجمع هدون.
والعيهب: الرجل الضعيف عن طلب وتره. قال محمد بن حمران الجعفي، وليس
الشويعر الحنفي:
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي ... إذا ما تناسى ذحله كل عيهب
والعيهب: الظلمة.
والكبوة: السقوط، يقال منه كبا يكبو: إذا سقط.
والظنبوب: عظم الساق.
ويقال، مخ رارٌ: أي ذائب من الهزال، يقال: لمخ الضعيف: رار، ولمخ السمين:
نقي.
والأبرار: السبق والغلبة. والمباراة: المسابقة.
والأنفال: الغنائم، وهي جمع نفل، وهي الغنيمة، قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل
والكفل: الذي لا يستقيم على ظهر الفرس ولا يحسن ركوب الخيل، والثفال
بالفتح: الجمل البطيء.
والذياد: الطرد.
والجياد: الخيل، ومنه قوله تعالى: (إذا عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد).
والرهان: جمع رهن وهو ما يرهن عند السباق.
وللكليل: نقيض الحديد.
والرباق: جمع ربقة: وهو حبل يشد به العنق.
قوله: وقد جمع بين المين الغابر، والمعن السائر، دهر كأم الستة من
الدوائر، واللبيب مع الجميع، كحد السريع، نزل للخلاص بربع غير مريع، لا
يستمتع بضرع ولا ضريع، ولزم للفكاك جزءاً وحده، واشتركت الثلاثة في الجزء
الذي بعده، ولزم الآخران ثالث الأجزاء، وهو آخر النقوض والأبزاء، ولن يكون
فك إلا من حركة، من آخر الدوائر المشتركة، وربما أدت الحركة، إلى غير
البركة، وإل بالحرف، السكون حذف.
كثرت حركات المتكاوس فسمي مخبولاً، وأصبح على النقص مجبولاً، وطرح من عبه
الضروب، وأفلت شمسه بالغروب، واعتدلت حركات المتواتر، فستره عن الوصم
ساتر، والناس للدهر نظام وقصيد، وزروع منها قائم وحصيد، وقد تدخل العلل
على صحيح الوزن، وتبدل سهله بالحزن، وربما قطع المذال، فاستراح العذال،
وحذف المشبع، وبشر بغير السلامة مربع، وإلى النقص غاية التمام، ونغص
اللذات ذكر الحمام، وإقبال الدهر إدبار، وعجماوه جبار، لا يطلب في الجناية
بضمان، وكم وقع هلك من أمان.
والمبن: المقيم، يقال: أبن بالمكان: إذا أقام به.
والغابر: الباقي، ومنه قوله تعالى: (إلا عجوزاً في الغابرين).
والمعن: الذي يلبس فرسه العيان.
والربع: المكان المرتفع، قال عمارة: هو الجبل.
والريع: الطريق، ومنه قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون).
والضريع: يبس الشيراق، وهو نبت، وقد تقدم تفسير ذلك والحجة عليه وكذلك قد
تقدم ذكر حدود العروض ودوائرها وفكوكها، فلا معنى لإعادة ذلك.
والنقوض: يقال: تقوضت الصفوف: إذا انتقضت، وتقوضت الخلق: إذا تفرقت.
والأبزاء: رفع العاجز للنهوض.
والمخبول من إجزاء العروض: ما دخل عليه الخبن والطي، فالخبن: سقوط ثانيه
الساكن، والطي: ذهاب رابعه الساكن، مثل: مستفعلن، سقطت منه السين والفاء،
فحول إلى فعلين، واشتقاقه من الخبل بالتسكين: وهو فساد الأعضاء، قال أوس:
أبنى لبينى لستم بيدٍ ... إلا يداً مخبولة العضد
والمخبول: المخلوق.
ولوصم: العيب، قال الشاعر:
فإن تك جرم ذات وصم فإنما ... دلفنا إلى جرم بألأم من جرم
والمذال من الأجزاء: ما كان في آخره وتد مجموع فزيد عليه حرف من غير
الجزء، مثل فاعلن فصار فاعلاتن، فإذا قطع أسقطت منه الألف والنون وأسكنت
اللام، فيصير فاعل، فتحول إلى مثله من الفعل، وهو مثل فعلن، والقطع في
الأوتاد، والحذف في الأسباب.
والمشبع: ما كان في آخره سبب خفيف مثل فعولن فزيد عليه الألف فصار فعولان،
فإذا حذفته أسقطت اللام والنون والألف من آخره فبقي فعو، وهو المحذوف.
قوله: وبشر بغير السلامة مربع، يريد قول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع
وهو مربع بن وعوعة بن سعيد بن قرط من بني كلاب بن ربيعة، وكان راوية جرير،
قال الصنعاني: مربع لقبه، واسمه وعوعة.
والجبار: الهدر، يقال: ذهب دمه جباراً، أي هدرا، ومنه قول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: العجماء جبارٌ أي هدر، وإنما جعل جرح العجماء هدراً إذا
كانت منفلتة وليس معها قائد ولا سائق ولا راكب، فإذا كان معها أحد هؤلاء
فهو ضامن، لأن الجناية له لا للعجماء، إلا فيمن لا يمكنه، نحو أن تركض ما
خلفها برجلها لأنه لا يبصر ما خلفه ولا يمكنه منعها منه في حال سيره، فإذا
كان واقفا عليها في طريق لا يملكه، ضمن ما أصابت بيدها أو رجلها أو غير
ذلك.
ومن ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصول الفقه
قوله: (الخراج بالضمان، والعجماء جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي
الركاز الخمس، والمنحة مردودة، والعارية مؤداة، والزعيم غارم، ولا يغلق
الرهن بما فيه، ولا وصية لوارث، ولا قطع في ثمر ولا كثر، ولا قود إلا
بحديد، والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها، ولا تعقل العاقلة عبداً ولا
عمداً ولا صلحاً ولا اعترفاً، ولا طلاق في إغلاق، والبيعتان بالخيار ما لم
يتفرقا، والجار أحق بسقبه، والطلاق بالرجال، والعدة بالنساء.
ونهى عن بيع المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والثنيا، وعن ربح
ما لا يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن الغرر وبيع
المواصفة، وعن تلقي الركبان، وعن الكالئ بالكالي، وعن بيع وسلف، وعن
العربان، وعن النجش، والمنابذة، والملامسة، وعن حلوان الكاهن، وعن عشب
الفحل وعن المجر، والملاقيح، والمضامين، وحبل الحبلة.
وقال: ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقه.
فالخراج بالضمان في ضروب من البيع، مثل: رجل يشتري عبداً فيغله كل يوم
ديناراً، ثم يجب له رده على بائعه لعيب يجده فيه، كان به قبل ابتياعه،
فإنه يرده على بائعه، وله ما أغله بضمانة رقبتة، لأنه لو تلف عنده كان من
مال المشتري.
وقوله: والبئر جبار: قيل هي البئر العادية لا يعرف من حفرها تكون في فلاة،
فمن وقع فيها فهو جبار؛ وقيل: هي البئر تكون في ملك الإنسان، فإن سقط فيها
إنسان أو دابة فلا ضمان عليه؛ وقيل: هو رجل يستأجر من يحفر له بئراً في
ملكه فينهار به، فلا ضمان عليه.
وقوله: والمعدن جبار: هي هذه المعادن التي يستخرج منها الذهب والفضة،
فيحفر فيها قوم بالأجرة، فربما أنهار المعدن عليهم فقتلهم قدما، وهم جبار
لأنهم عملوا بأجرة، وهذا أصل في كل عامل عمل بأجرة ثم عطب أنه لا ضمان على
مستأجره.
والركاز عند أهل الحجاز: الكنوز الجاهلية توجد مدفونة، وفيها ما في أموال
المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين مثقالا نصف مثقال،
وما زاد فبحساب ذلك، هذه حكاية أبي القاسم الزجاجي عند أبي عبيد.
وقوله: لا يغلق الرهن بما فيه، أي لا يستحقه المرتهن ولا يحال بين الراهن
وبينه إذا أدى فكاكه؛ والفقهاء مختلفون في الرهن إذا تلف عند المرتهن،
فمنهم من يقول: هو بما عليه، ومنهم من يقول: هو من مال الراهن له فضله
وعليه نقصانه.
وقوله: والمنحة مردودة: أصل المنحة الناقة والشاة يمنحها الرجل رجلاً آخر
ينتفع بلبنها مدة ثم يردها، فردها واجب عليه إلى صاحبها؛ هذا أصل المنحة،
ثم كثر استعمالها حتى جعلت الهبة والصلة: منحة.
وللعرب أسماء تضعا موضع العارية.
فمنها: المنحة، والعرية، والأفقار، والأخبال، والإكفاء، والأعمار،
والأقارب.
فالعرية: هي النخلة يهب الرجل ثمرها لرجل آخر عامه ذلك، وهي التي رخص في
بيع ثمرها قبل أن تصرم، واشتقاقها من الأعراء والتجرد، كأنه لما وهب ثمرها
فقد عراها.
والأفقار: أن يعطي رجل رجلاً دابته فيركبها ما أحب ثم يردها، واشتقاقه من
فقار الظهر.
والأخبال: أن يعطي الرجل الرجل البعير أو الناقة، يركبها ويجتز وبرها
وينتفع بها ثم يردها، قال زهير:
هنالك إن يتسخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسئلوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
واشتقاقه من قولهم: به خبل وخبال، والخبل: فساد الأعضاء، فإذا أصابت الرجل
السنة استخبل صاحبه، أي استدعى منه معونته على ما به من خبل، فأخبله، أي
أعانه، قال الشاعر:
لما أتاني حيدر مستخبلاً ... أخبلته قرماً هجاناً فابتهج
والأكفاء: أن يعطي الرجل الرجل الناقة لنيتفع بلبنها ووبرها وما تلده في
عامها ثم يردها، والفرق بين الأخبال والأكفاء: أن المخبل يرد الولد،
والمكفأ لا يرده، والإسم منه الكفأة، قال ذو الرمة:
كلا كفأتيها تنقصان ولم تجد ... لها ثيل سقب في النتاجين لامس
يقول: إنها نتجت أناثا كلها، والهاء في له عائدة على الفحل في البيت الذي
قبله.
وأما الأعمار والأقارب: فهو الدور والمساكن، والاسم منه: العمري، والرقبي.
فالعمري: أن يسكن الرجل الرجل، داراً عمره، فإذا مات الساكن. أخذها
المسكن، وهي مشتقة من العمر.
والرقبي: أن يسكن الرجل الرجل داراً، فإذا مات المسكن، وردها
الساكن على ورثته، يقال: أعمرتك داراً وأرقبتك داراً.
وقوله: والعارية مؤداة: يقول ردها واجب على المعار إلى صاحبها.
وقوله: ولا وصية لوارث: فإن للرجل أن يوصى بثلث ماله، ولا يزيد عليه،
ويستحب له أن يوصى بأقل من الثلث، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لسعد: والثلث كثير، لأن تترك عيالك أو ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة
يتكففون الناس.
واختلف الناس في الثلث الذي يجوز للرجل أن يوصى به، هو يجوز أن يوصى به
لأحد من الورثة؟ فقال أكثر الأئمة: لا يجمع بين الميراث والوصية، ولا تجوز
الوصية لأحد من الورثة، وإنما تجوز لغير الوارث، واحتجوا بالخبر: لا وصية
لوارث.
ومنهم من قال: يجوز أن يوصي بالثلث لبعض ورثته دون بعض، وإن معنى الخبر:
لا وصية لوارث، فيما زاد على الثلث.
وقوله: لا قطع في ثمر ولا كثر، الكثر: جمار النخل وهو شحمه، ولا قطع في
الثمر إذا أخذ من رؤوس الشجر، فأما إذا أحرز فحكمه حكم غيره من الأموال
المحرزات، وفيه القطع.
وقوله: لا قود إلا بحديد، فيه اختلاف بين الفقهاء.
منهم من قال: من قتل إنساناً بغير حديد لم يجب عليه القتل، وإنما تجب عليه
الدية، فإن قتله بحديدة وجب عليه القود والقتل.
وبعضهم يقول: إذا قتله بما يمثله يقتل، قتل، مثل أن يرميه بصخرة عظيمة وما
أشبه ذلك، فإنه يقتل.
وقوله: والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها، أي تساوي الرجل فيما دون ثلث
ديتها، ثم دية المرأة نصف دية الرجل في الثلث وفيما زاد على الثلث،
ومساواتهما فيما دون الثلث من الدية، نحو الأصبع فإن فيها خمساً من الأبل
وكذلك الأصبعان، والثلث مما لا يجب فيه ثلث الدية، فإن دية أعضاء الرجل
فيه كدية أعضاء المرأة، فإذا بلغت الثلث صارت المرأة على النصف من دية
الرجل، نحو دية اليد والرجل والعين، وما أشبه ذلك.
وقوله: ولا تعقل العاقلة عبداً ولا عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً، يقول:
لا تحمل عاقلة الرجل قتل العمد، لأن ذلك في صليب ماله، ولا صلحاً، ولا ما
اعترف به، ولا عبداً.
وقوله: ولا طلاق في إغلاق، الأغلاق: إلا كراه، وهو من إغلاق الباب، أي لا
سبيل إلى التخلص مما أكره عليه.
وقوله: والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، هما البائع والمشتري، سميا بيعين
لأن كل واحد منهما يقال له: بائع، والبيع في كلام العرب من الأضداد، يقال:
بعت الشيء إذا بعته، وبعته إذا اشتريته، قال الراجز:
إذا الثريا طلعت عشاء ... فبع لراعي غنم كساء
أي اشتر واختلف الفقهاء في افتراق البيعين.
فمنهم من قال: الافتراق افتراق الأبدان.
ومنهم من قال: الافتراق بالقول ووقوع العقد.
وقوله: والجار أحق بسقبه، أي بما لاصقه وقاربه والسقب: القرب، يقال: أسقبت
دارك، أي دنت يرى الشفعة.
وقوله الطلاق بالرجال والعدة بالنساء، وهو مذهب أهل المدينة، وذلك في
الأمة تكون تحت الحر فأن عدتها حيضتان، والحرة تكون تحت العبد فعدتها ثلاث
حيض، وكذلك قال أهل العراق في العدة وخالفوا في الطلاق، فقالوا: الطلاق
بالنساء: وقال أهل المدينة: هو بالرجال.
وأما المخابرة: فهي المزارعة على النصف والثلث والربع، وأكثر من ذلك وأقل،
وهو الخبر أيضاً بالكسر، ومن ذلك قيل للآكار: وهو الزراع خبير، وكان ابن
الأعرابي يقول: أصل المخابرة من خيبر لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أقرها في أيدي أهلها على النصف، فقيل: خابروهم، أي عاملوهم بخيبر، قال: ثم
تنازعوا، فنهى عن ذلك، ثم جازت بعد.
وأما المحاقلة، ففيها ثلاثة أقوال: قال بعضهم: هو بيع الزرع في سنبله
بالحنطة.
وقيل: هو أكثر الأرض بالحنطة.
وقيل: هي المزارعة بالثلث والربع وأكثر من ذلك وأقل.
واشتقاقه من، الحقل وهو الزرع إذا تشعب ورقه قبل أن يغلظ سوقه.
وأما المزابنة: فهي بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب على
الكرم بالزبيب كيلا، واشتقاقه من الزبن، وهو الدفع، لأن المتبايعين إذا
وقفا فيه على العين تزابنا، ي تدافعا، فأراد الغابن أن يمضي البيع، وأراد
المغبون أن يفسخه.
وروي عن مالك أنه قال: المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه
ولا عدده أبتيع بشيء مسمى من الكيل والوزن والعدد.
وأما المعلومة: مبيع النخل أو الشجر سنتين أو ثلاثاً أو أكثر من
ذلك، وهو مشتق من العام.
قال الأصمعي: يقال للنخلة إذا حملت سنة، ولم تحمل سنة: قد عاومت وسانهت.
ويقال: عاومت فلاناً معاومة ومسانهة ومشاهرة.
وأما الثنيا: فيبيع الرجل شيئاً جزافاً لم يعرف كيله ولا وزنه ولا عدده،
ثم يستثنى منه شيئاً، مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، قل ما استثناه أو
كثر، فلا يجوز ذلك، لأنه لا يدري لعل ما استثناه يأتي على جميعه، إن كان
لا يؤمن فيه مثل ذلك ولا يدري كم يبقى منه، هذا مذهب الشافعي في الاستثناء.
وقال مالك: من باع ثمرة فاستثنى منه مكيلاً فلا بأس بذلك، إذا كان
المستثنى ثلث ذلك الشيء فما دونه، هذا هو الثنيا في البيع.
وأما في المزارعة: فأن يستثنى بعد الثلث أو النصف كيلاً معلوماً، فهذا
معنى الثنيا.
وأما بيع ما لم يقبض: ففيه وجوه: منها أن يسلم الرجل في طعام ثم يبيعه من
غير المسلم إليه، قبل أن يقبضه، فإن باعه بأكثر من الثمن فهو ربح ما لم
يضمن.
وأما بيعتان: فمثل أن يشتري الرجل السلعة إلى شهر بدينارين، وإلى ثلاثة
أشهر بثلاثة دنانير، وهو شرطان في بيع.
وبيع المواصفة: هو أن يبيع الرجل سلعة ليست عنده، ثم يبيعها المشتري
بالصفة قبل القبض والرؤية، وإنما قيل لها: مواصفة، لأنه باع من غير نظر
ولا جبارة ملك.
وكان عبد الله بن عمر يقول للبائع: لا تبع ما ليس عندك: ويقول للمشتري: لا
تشتر ما ليس عنده.
وتلقى الركبان: هو تلقي الجلوبات، وكان أهل المصر إذا بلغهم ورود الأعراب
بالسلع تلقوهم قبل أن يدخلوا المصر فاشتروا منهم، ولا علم للأعراب بسعر
المصر فغشوهم، ثم أدخلوه المصر فأغلوه.
ومثله النهي عن بيع حاضر لباد، وكان الإعراب إذا قدموا بالسلع توكل لهم
ناس من أهل المصر في بيعها، وانطلق الأعراب إلى باديتهم، فنهوا عن ذلك،
ليصيب الناس معهم.
وأما الكالئ بالكالي فهو النسيئة بالنسيئة مهموز.
قال أبو عبيدة: وهو مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل مائة درهم إلى سنة في كر
طعام، فإذا انقضت السنة ووجب الطعام عليه، قال الذي عليه الطعام للدافع:
ليس عندي طعام، ولكن هذا، يعني الكر، بمائتي درهم إلى شهر، فهذه نسيئة
انتقلت إلى نسيئة، وهو الكالئ بالكالئ، وما أشبهه، ولو كان قبض الطعام منه
ثم باعه منه أو من غيره بنسيئة، لم يكن كالئاً بكالئ.
قال الأموي: يقال بلغ الله بك كلأ العمر، أي آخره، وأبعده، وهو من التأخير.
وأما البيع والسلف، فهو أن يقول الرجل لصاحبه أبيعك هذه السلعة بكذا على
أن تسلفني كذا وكذا، لأنه لا يؤمن أن تبيعه السلعة بأقل من ثمنها، من أجل
القرض.
وأما بيع العربان: فهو أن يساوم الرجل بسلعة ثم يدفع إلى صاحبها ديناراً
أو درهماً عربوناً، على أنه اشترى سلعة كان الذي دفعه إليه من الثمن، وإن
لم يشترها كان ذلك الشيء لصاحب السلعة، لا يرتجعه منه، يقال: عربان
وعربون، وأربان وأربون، وهو الذي تسميه العامة الربون.
وأما النجش في المبايعة: فهو أن يدخل الرجل في ثمن السلعة، وهو لا يريد
شراءها ليزيد غيره بزيادته، وهو من نجش الصيد، وهو جوشه وسوقه إلى الشرك،
يقال للصائد: ناجش، ونجش الأبل: جمعها بعد التفرق، قال الراجز:
اجرش لها يا ابن أبي كباش ... فما لها الليلة من إنفاش
غير السرى وسائق نجاش
والمنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه انبذ إلى الثوب أو غيره من المتاع، أو
أنبذه إليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا.
وقيل: هو أن يقول الرجل: إذا نبذت إليك الحصاة من يدي، فقد وجب البيع
بكذا، وهو معنى قوله: إنه نهى عن بيع الحصاة.
والملامة: أن يقول الرجل إذا لمست ثوبي، أو لمست ثوبك، فقد وجب البيع بكذا.
وقيل: بل هو أن يلمس المتاع من وراء الثوب ولا ينظر إليه.
فهذه بيوع كان أهل الجاهلية يتبايعونها، فنهى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم عنها.
وأما حلوان الكاهن: فهو ما يعطاه الكاهن على كهانته، يقال: حلوته، إذا
أعطيته على فعله.
والحلوان أيضاً: الرشوة، وهو ما يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه، وكانت
العرب تعير به، قالت امرأة في زوجها:
لا يأخذ الحلوان من بناتنا
وعسب الفحل: كراؤه، الذي يؤخذ على ضرابه.
والمجر: أن يشتري الرجل البعير أو الناقة أو غير ذلك بما في بطن ناقته،
قبل أن تضعه.
والملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة لم تولد، واحدتها: ملقوحة.
والمضامين: ما في أصلاب الفحول، كانوا يتبايعون الجنين الذي في بطن
الناقة، وما يضرب الفحل في عامه وفي أعوام، وهذا الغذوي قال أبو عمرو
الشيباني: الغذوي: أن يباع البعير أو الفرس أو غير ذلك بما يضرب هذا الفحل
في عامه، وأنشد للفرزدق:
ومهور نسوتهم إذا ما أنكحوا ... غذوي كل هبنقع تنبال
وحبل الحبلة: نتاج النتاج، كأنه ولد ما يولد بعد إذا ولد ثم يولد ولداً،
فذلك حبل الحبلة، وهذا كله كان لأهل الجاهلية يفعلونه ويتبايعون بينهم، ثم
نهى عنه الإسلام.
وأما الجبهة: ففي الخيل.
والنخة: الرقيق.
والكسعة: الحمير، هذا قول أبي عبيدة.
وقيل: إن النخة: البقر الحوامل، قال ثعلب: هذا هو الصواب، واصله من النخ
وهو الشوق الشديد، قال الفراء: والنخة أيضاً: أن يأخذ المصدق ديناراً بعد
فراغه من الصدقة، وأنشد: ؟عمى الذي منع الدينار ضاحية دينار نخة كلب وهو
مشهود وسميت الحمير: كسعة، لأنها تكسع مآخيرها، أي تضرب.
وفي الحديث: أن رجلاً من المهاجرين، كسع رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري:
يا للأنصار، وقال المهاجرون: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: ما بال دعوى الجاهلية.
وفي الحديث أيضاً: لا صدقة في الإبل الجارة، ولا القتوبة.
فالجارة: التي تجر بأزمتها وتقاد، وهي فاعلة في معنى مفعوله، ومنه قوه
تعالى: (خلق من ماء دافق) أي مدفوق، ومثله قوله تعالى: (في عيشة راضية) أي
مرضية، ومثله قولهم: شركاتم، وليل نائم.
والقتوبة: التي توضع الأقتاب على ظهورها، وهي فعولة في معنى مفعوله، مثل
ركوبة وحلوبة، لما يركبون ويحلبون.
وقوله: كما هلك الضيزن بابنته النضيرة، ودلاله نفيضة الجيش والحضيره، حين
هويت سابور، واجتلبت لأهلها الثبور، وكان الضيزن ملكاً من قضاعة الحضر
عظيم الملك، فلم ينج بذلك من الهلك، وعزاه سابور ذو الأكتاف الفارسي،
وللدهر السهام الصائبة والقسي، فأطال عليه مدة الحصار، وما قدر منه على
انتصار، فهم عنه بالإقلاع، حتى كان من النضيرة إطلاع، فرأت سابور فعشقته،
فرمت أباها بالحتف ورشقته، وخانته وهي عنده أمينة، وأرسلت إلى سابور أنها
له بالفتح ضمينه، وشارطته على النكاح والإيثار، وأعلمته أن عورة الحصن من
الثرثاء، وعبقت أباها المدام، وسقت الحراس والخدام، وأرسلت إليه من شدة
الغلمة، عند اعتكار الظلمة، إن إئت من السرب، فهذه الليلة ليلة القرب؛
فبعث إليها بالبطال، فقضى الدين بعد المطال، وطلع الفجر على أهل الحصن
بالذما، وبلت العراص منه بالدما، فقتل سابور الضيزن وقومه، ولن يعد معمر
يومه، وبدل الحضر خراباً بحده، وغضارة الأيام إلى مده، وأصبح خراباً تضغو
به الثعالب، وللقدر أسباب وجوالب، وبات سابور بالنضيرة معرساً، وكان في
العواقب متفرساً، فتجافى جنبها عن المهاد، فسألها عما لقيت من السهاد،
فشكت خشونة المضجع، ومنعها ذلك أن تهجع، فقال: إنه فراش حشوه زغب النعام،
لا ما يتخذ من وبر الأنعام، ولم تنم الملوك على ألين ولا أوطأ منه، فما
تجافيك أيتها المرأة عنه؟ ونظر إلى ورقة من آس بين عكنتين من عكنها،
فتناولها فسال موضعها دماً من بدنها، فقال: بم كان يغذوك أبواك، في طول
مقامك معهما ومثواك؟ فقالت: بالمخ والزبد، وصفو الخمر والشهد، فقال: إذا
كان هذا حالك معهما، فلن تصلحي لأحد بعدهما، وينبغي ألا أركن إليك، وقد
فعلت ما فعلت بأبويك، وأمر بها فشدت ذائبها بين فرسين فقطعاها، ما رعت
الصنيعة ولا رعاها، وصلاح الدهر إلى فساد، وكم رحم غابط من الحساد، ولكل
أجل كتاب، وليس من الزمن أعقاب، أهون بأم دفر، وأيامها الشبيهة بأيام
النفر، فتنت منها الرجال بكعاب، غير برية من ألعاب؛ تخدع البعولة تحت
النكاح، خديعة الزباء لجذيمة الوضاح، وكم وصفها بالمكر بصير، لو يطاع
قصير، وحذر منها نذير، لو ينفع التحذير.
النفيضة: الجيش الذين ينفضون الطريق، ينظرون هل فيها عدو أو خوف.
والحضيرة: الجماعة أيضاً يغزون ليسوا بالكثير، قالت سعدى الجهنية ترثي
أخاها أسعد:
يرد المياه حضيرةً ونفيضة ... ورد القطاة إذا اسمأل التبع
والتبع: الظل ههنا.
وأما الضيزن، فهو الضيزن بن معاوية بن عبيد بن الأخرم بن سعد بن
سليح بن عمرو بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
قال اليربوعي، إسحاق بن زكريا: والحضر حصن كان بالموصل بناه الساطرون ابن
اسطيرون ملك السريانيين من أهل الموصل من رستاق، يقال له بأحرم، وهو الذي
ذكره أبو دؤاد، واسمه جارية بن حجاج الأيادي بقوله:
وأرى الموت قد تدلى من الحضر على رب أهله الساطرون
ولقد كان آمناً للدواهي ... ذا ثراء وجوهر مكنون
قال: وهو الذي عناه عدي بن زيد بقوله:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... م تجني إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كلساً ... م فللطير في ذارة وكور
لم يهبه رب المنون فباد الملك ... م عنه فبابه مهجور
قال اليربوعي: ثم كان أهل الحضر من بعد الساطرون تنوخ وهم بنو مالك بن فهم
بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وسليح بن
عمرو بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ويزيد، وحيدان بنو عمرو بن
الحاف بن قضاعة.
فغزاهم سابور ذو الأكتاف بن هرمز الملك الفارسي؛ وملكهم يومئذ الضيزن ابن
جيهلة، أمه، بها يعرف، وهو الضيزن بن معاوية بن عبيد بن الأخرم بن سعد ابن
سليح؛ فحاصرهم سابور فأطال حصارهم، فلم يقدر فيهم بشيء، لامتناع حصنهم،
حتى أشرفت النضيرة بنت الضيزن يوماً من الحصن فرأت سابور فعشقته، فأرسلت
إليه إن أنت ضمنت لي أن تتزوجني وتقدمني على نسائك دللتك على فتح هذا
الحصن وقد كان سابور حين أطال حصارهم هم بالإقلاع عنهم، لما رأى من حصانة
حصنهم فأجابها سابور إلى ذلك. فقالت له إئت على الثرثار، وهو نهر الحضر،
فألق التين في الماء ثم اتبع ذلك التبن، فحيثما رأيت التبن قد غاب من
النهر، فأدخل الرجل من ذلك الموضع، فإنك تصل إلى الحصن، ففعل سابور ذلك،
فوجد التبن يغيب في سرب يفضي إلى الحصن؛ وعمدت النضيرة فأسكرت أباها،
وأرسلت إلى سابور أن ادخل الليلة فإني قد أسكرت أبي، وسكر المقاتلة من أهل
الحصن الذين يخاف بأسهم وقتالهم؛ فأدخل سابور الرجال من ذلك السرب، فظفر
بالحصن فهدمه، وقتل أهله، ودعا بالنضيرة فبات معرساً بها، فجعلت تتمامل
على الفراش ساهرة؛ فقال لها سابور: ما لي أراك مسهدة؟ فقالت: جنبي يتجافى
عن فراشك هذا!! فقال: ولم؟ فوالله ما نامت الملوك على أوطأ منه ولا ألين،
وإن حشوه لزغب النعام!! فلما أصبح نظر فإذا ورقة آس بين عكنتين من عكنها،
فتناولها، فسال موضعها دماً، فقال لها: بم كان أبواك يغذوانك؟ فقالت:
بالزبد والمخ والشهد، وصفو الخمر!! فقال سابور: إذا لم تصلحي لأبويك،
وكانت هذه حالك عندهما، فأنت أجدر ألا تصلحي لي، وما ينبغي لي أن آمنك،
ولا أثق بك؛ فأمر بها فشدت ذوائبها بين فرسين ثم خلي عنهما فطعاها وقد
ذكرت ذلك الشعراء، قال أبو دؤاد الأيادي.
ألم يحزنك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني العبيد
ومقتل ضيزن وبني أيبه ... وأخلاس القبائل من يزيد
أتاهم بالفيول مجللات ... وبالأبطال سابور الجنود
فهدم من بروج الحضر صخراً ... كأن ثقاله زبر الحديد
وقال الأعشى:
ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى وهل خالدٌ من سلم
أقام به سابور الجنو ... د حولين تضرب فيه القدم
وفي ذاك للمؤتسي إسوة ... ومأرب عفى عليها العرم
رخام بنته لهم حميرٌ ... غذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم
وقال عدي بن زيد:
والحضر صابت عليه داهيةٌ ... من قعره أيد مناكبها
ربية لم توق والدها ... لخبها إذ أضاع راقبها
أجشمها حبها لما فعلت ... إذا نام عنها للغي حاجبها
إذا غبقته صهباء صافية ... والخمر هل يهيم شاربها
وأسلمت أهلها بليلتها ... تظن أن الرئيس خاطبها
فكان حظ العروس إذ برق م الصبح دماء تجري سبائبها
وخرب الضر واستبيح وقد ... أحرق في خدرها مشاجبها
لم يبق فيه إلا مراوح طايات ... وبور تضغو ثعالبها
وقال أيضاً:
اقفر الحضر من نضيرة فالمر ... باع منها فجانب الثرثار
إذا تواصوا بالكبش لما أحسوه وقالوا مع الحذار حذار
وقال آخر:
هلا بكيت لضيزنٍ ... بالحضر إذ أمن الزمن
منع العدو وكان ذا م الطولي بهم لو لم يخن
فرمى به سهم النضيرة لليدين وللذقن
باعت أبها والعشير م بوجه سابور الحسن
فأتى عليهم حينهم والبيض أخون مؤتمن والثبور بالضم: الهلاك، ومنه قوله
تعالى (لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً).
والغلمة: شدة شهوة الجماع، والقرب: الورد. وليلة القرب: ليلة أن ترد الأبل
الماء، وذلك أن يسيمون الإبل وهم مع ذلك يسيرون نحو الماء، وإذا بقيت
بينهم وبين الماء عشية عجلوا نحوه، فتلك الليلة ليلة القرب.
والسرب: النفق تحت الأرض، وسيأتي تفسيره، وضغاء الثعالب: أصواتها. والذما:
بقية النفس. وأم دفر: الدنيا، والدفر: النتن، يقال: للأمة إذا شتمت يا
دفار، مثل قطام، أي دفرة منتنة وكنيتها دفراء، أي سهكة من الحديد مدية.
والبعولة: جمع البعل، ومنه قوله تعالى، (وبعولتهن أحق بردهن) والزباء:
امرأة من ملوك العماليق، وقيل من سليح.
وجذيمة الوضاح: هو جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن مالك بن دوس بن عدنان
بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك ابن
نصر بن الأزد.
وكان جذيمة ملكاً عظيماً ينزل الأنبار والحيرة، وكان في أيام الطوائف،
وملك السواد ستين سنة، وقتل أبا الزباء وغلب على ملكه، والتجأت الزباء إلى
أطراف مملكتها، وكان يغير على ملوك الطوائف، حتى غلبهم على كثير من
بلادهم، وكان أبرص، فهابت العرب أن تقول: أبرص، فقالوا: الأبرش والوضاح.
وكانت الزباء أديبة عاقلة، فبعثت تخطبه على نفسها، ليتصل ملكها بملكه،
فدعته نفسه إلى ذلك، فشاور وزرآه فأشاروا عليه أن يفعل إلا قصير بن سعد
القضاعي فإنه قال: أيها الملك لا تفعل، فإن هذا خدعة ومكر، فعصاه، فأجابها
إلى ما سألت.
فقال قصير لا يقبل لقصير رأي، فجرت مثلاً.
ثم كتبت إليه بعد ذلك أن صر إلي، فجمع أصحابه بشاطئ الفرات، فأشاروا عليه
بالخروج إليها، فقال قصير: لا تفعل، فإنما تهدي النساء إلى الرجال، فعصاه.
فقال: أيها الملك أما إذا عصيتني، فإذا رأيت جنودها قد أقبلوا إليك
فترجلوا وحيوك، ثم ركبوا وتقدموا، فقد كذب ظني، وإن رأيتهم إذا حيوك
أطافوا بك، فأنى معرض لك العصا، وهي فرس لجذيمة لا تدرك. فاركبها وانج،
فلما أقبل أصحابها حيوه ثم أطافوا به، فقرب إليه قصير العصا، فشغل عنها،
وركب قصير فنجا، وأخذوا جذيمة، فنظر إلى قصير وهو على العصا، وقد حال دونه
السراب فقال: ما ضل من تجري به العصا فجرت مثلاً، وأدخل جذيمة على الزباء،
وكانت مضفورة الأسب فلما دخل تكشفت، وقالت له: أدأب عروس ترى يا جذيمة؟
أما أنه ليس ذلك من عوز المواس، ولا من قلة الأواس، ولكنها شيمة من أناس؛
وأمرت به فأجلس على نطع وجيء بطست من ذهب، فقطعت رواهشه، قال عدي بن زيد:
فقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذباً ومينا
وكان قيل لها: احتفظي بدمه، فإن أصابته الأرض منه قطرة طلب بثأره؛ فقطرت
قطرة من الدم إلى الأرض، فقالت: لا تضيعوا دم الملك: فقال جذيمة: دعوا
دماً ضيعه أهله، فأرسلها مثلاً، ومات.
ونجا قصير بن سعد على العصا، فصار إلى عمرو بن عدي بن نصر
اللخمي، وهو ابن أخت جذيمة؛ فقال له قصير: ألا تطلب بثأر خالك؟ فقال عمرو:
وكيف أقدر على الزباء، وهي أمنع من عقاب الجو؟ فأرسلها مثلاً. فقال له
قصير: اجدع أنفي وأذني واضرب ظهري حتى تؤثر فيه، ودعني وإياها؛ ففعل عمرو
ذلك، ولحق قصير بالزباء، وقال لها: لقيت ذلك من أجلك! قالت: وكيف ذلك؟
قال: إن عمراً قال إني أشرت على خاله بالخروج، حتى فعلت به ما فعلت؛ ثم
أحسن خدمتها، وأظهر لها النصيحة، حتى حسنت منزلته عندها، ورغبها في
التجارة، فبعثت معه عيراً إلى العراق، فصار قصير إلى عمرو مستخفياً، فأخذ
منه مالاً وزاده على مالها، واشترى لها طرفاً من طرف العراق، ورجع إليها،
فأراها تلك التجارة والأرباح، فسرت به، ثم كر كرة أخرى فأضعف لها المال،
فلما كان في الكرة الثالثة، اتخذ جواليق من المسوح وجعل ربطها من أسافلها
إلى داخل وأدخل في كل جولق رجلاً بسلاحه وواحد الجوالق جولق بضم الجيم وهو
اللبيد أيضاً، ومنه اشتق اسم لبيد الشاعر. وأقبل إليها، فجعل يسير الليل
ويكمن النهار، وأخذ عمراً معه، وكانت الزباء قد صور لها صورة عمرو قائماً
وقاعداً وراكباً، وكانت قد اتخذت نفقاً قد أجرت عليه الفرات، من قصرها إلى
قصر أختها زبينة، فلما قرب قصير من بلدها تقدم عن العير، وكان قد أبطأ
عليها، وأخذ غير الطريق النهج فسالت عنه، فقيل لها: أخذ طريق الغوير
فقالت: عسى الغويرأ بؤساً فأرسلتها مثلاً، ودخل قصير إلى الزباء، فقال
لها: قفي فانظري إلى العير، فجعلت تنظر إلى العير مقبلة تحمل الرجال،
فقالت:
ما للجمال مشيها وئيداً ... أجندلاً يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديداً ... أم الرجال جثماً قعودا
ووصف قصير لعمرو باب السرب، ووصف له الزباء؛ فلما دخلت العير المدينة،
وعلى الباب بوابون من النبط، وفيهم واحد معه مخصرة، فطعن بها جوالقاً منها
فأصابت المخصرة رجلاً فضرط، فقال البواب بالنبطية: بشناً بشناً يعني: في
الجوالق الشر الشر؛ وحلت الرجال ربط الجوالقات، ومثلوا في المدينة
بالسلاح، ووقف عمرو على باب السرب مصلتاً سيفه، وأقبلت الزباء تبادر
السرب، فلما رأت عمراً عرفته بالصفة، فمصت فص خاتمها، وكان مسموماً،
وقالت: بيدي لا بيد عمرو. ويقال إن عمراً جللها بالسيف فقتلها واستباح
بلدها؛ ورجع عمرو وقصير بالغنائم وخلفا في بلادها خيلاً تضبطها.
وقوله: فحبها للقلوب متيم، وكل يوم هي من بعل أيم.
يقال: تيمه: الحب إذا عبده، واشتقاق تيم الله من ذلك، أي عبد الله.
والأيم: المرأة التي لا بعل لها، يقال: آمت المرأة تئيم أيمة، وفي الحديث
أنه كن يتعوذ من الأيمة، والحرب مائمة، أي تئيم فيها النساء، قال الشاعر:
ألم تر أن الله أنزل نصرة ... وسعد بباب القادسية معصم
فرحنا وقد أمت نساء كثيرة ... ونسوة خائب صفر الوطاب
والصفر: الخالي. والوطاب: جمع وطب، وهو سقاء اللبن: ومن دعاء العرب: ماله
صفر إناؤه، وصفرت وطابه، أي ماتت ماشيته.
قال امرؤ القيس:
ألا يا لهف هندٍ من أناسٍ ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب
وقوله: قد دقوا بينهم عليها عطر منشم، وتجشم الصعب كل متجشم.
العرب تضرب المثل بعطر منشم في الشؤم، إذا تفاني الحيان في الحرب، فقيل:
دقوا بينهم عطر منشم.
واختلف الناس في منشم ابنة الوحيد الخزاعية، وإنها كانت تطيب الفتيان في
الحرب، وتدق أوعية الطيب بينهم، وكان من لمس من طيبها لم يرجع في يومه ذلك
حتى يبلي ويرى أثره أو يقتل أو يحمل جريحاً.
وقال بعضهم: هي من غدانة وهي صاحبة يسار الكواعب، وكان عبداً لها يعشقها
ويعرض لها فزجرته، فلم يزدجر، فقالت له يوماً: اصبر فإن للحرائر طيباً حتى
أشمك منه، وأتت بموسى، ثم اتكأت على أنفه فاستوعبته فضرب المثل بعطر منشم.
وقال بعضهم: هي منشم بنت عامر، امرأة ثعلبة بن الأعرج الغنوي، قاتل شاس بن
زهير بن جذيمة العبسي الذي هاجت بسبب قتله الحرب بين هوازن وغطفان.
وذلك أن شاس بن زهير راح من عند النعمان بن المنذر - وكان تحت
النعمان أخته النوار بنت زهير - حتى إذا كان في بلد غنى جنة الليل، وردماء
من مياه بني غنى وكان على ذلك الماء رجل من بني غنى يسمى ثعلبة بن الأعرج،
وكان صياداً يكمن للوحوش على ذلك الماء، وكان رامياً غلقاً فلما ورد عليه
شاس، قال له: هل في حوضك هذا شيء من الماء؟ قال: فيه ما يكفيك إن قنعت!
فغضب شاس من كلامه، وقال: ممن الفتى؟ قال من بني غني. قال شاس: إن كلامكم
لفحيش!.
ومضى شاس يركض راحلته وهي موقرة هدايا، فاستدبره الفتى الغنوي، وهو لا
يعرفه، فشتم معه رائحة المسك، فسعى خلفه حتى أدركه، ثم رماه بسهم، فصرعه
عن راحلته، فلما نظر في وجهه عرفه، فندم على قتله، ثم قام فحفر له ودفنه
وأخفى مكانه، وأخذ راحلته فنحاها عن الطريق ثم نحرها وأخذ من لحمها ما
استطاع وأخذ ما عليها.
وكان مع شاس غلامان له قد تقدما إلى أهله، فأعلماهم بقدومه، فلما أبطأ على
أهله سار زهير ومن معه إلى الموضع يطلبونه قصصا حتى وجدوه مدفوناً فحملوه
إلى أهله فكفنوه وعقروا عليه، وبكاه الرجال والنساء، ولم يدر أحد من قتله.
ثم أن زهيراً عمد إلى راحلة له فنحرها، وملأ منها جرابين كبيرين شحماً
ولحماً، ثم دعا جارية له يقال لها سلامة، دهية أريبة، فقال لها: خذي هذين
الجرابين فاذهبي في قبائل ذبيان وبني غنى وبني عامر، واعرضي ما فيهما على
النساء بالمسك والعنبر، وكان ذلك في سنة مجاعة أصابتهم.
فمرت سلامة تعرض على نسائهم ما معها، فلم تجد من ذلك شيئاً، حتى مرت بمنشم
بنت عامر زوجة ثعلبة بن الأعرج، قاتل شاس بن زهير، وهي يومئذ حاملة مضطرة،
فأعلمتها أنها تطلب مسكاً أو عنبراً لبنت لها تريد أن تزفها إلى زوجها؛
فقالت لها منشم: عندي قضاء حاجتك، إن كتمت عني؛ قالت الجارية: لست مظهرة
لك سراً، فأخرجت لها منشم حاجتها وما تطلب؛ فلما نظرت سلامة إلى ذلك، قالت
لها: من أين لك هذا المتاع الرفيع، ولا يكون إلا عند الملوك؟ فأعلمتها
منشم بقصة زوجها وقصة شاس؛ فرجعت سلامة إلى مولاها زهير بن جذيمة، فأخبرته
الخبر، فقال زهير:
أتتني سلامة بعد الضحى ... تهتك لي الستر من منشم
فلست لشاسٍ إذاً والداً ... ولا من جذيمة الأكرم
إذا لم أقم لغني العدا ... مقام امرئ ثائرٍ بالدم
وقال زهير بن أبي سلمى:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فلما تبين لزهير قاتل ولده، قال لبني غنى ونبي عامر: هلم إلى النصفة قبل
الحرب؛ فقالوا: نحن نحكمك يا أبا شاس؛ فقال لهم زهير: إني مخيركم إحدى
ثلاث، قالوا: وما هن يا أبا شاس؟ اجعل لنا في الثالثة مخرجاً!! قال إما أن
تردوا شاساً حياً، وإما أن تملأوا لي ثوبي هذا من نجوم السماء، وإما أن
تأتوني بغنى كلها، رجالها ونسائها، فإن شئت قتلت، وإن شئت صفحت!!.
فقالوا: لا نقدر على واحدة منها، لا نقدر على إحياء الموتى، ولا على نجوم
السماء، وأما بنو غنى فإنهم أحرار لا ينقادون لأحد ولا يهدرون نفوسهم في
جريرة غيرهم، ولكن يا أبا قيس نعطيك خيراً مما تطلبه، وندفع إليك قاتل
ولدك تحكم فيه بحكمك، وندفع إليك بعد ذلك عشر ديات حتى نرضيك؛ فقال زهير:
ما كان شاس بحزور فآكل ثمنه، ولا قاتله مثله، فأقتله به، واستكبر؛ حتى
هاجت الحرب بين هوازن وغطفان بسبب ذلك، وإنما دخلت هوازن مع بني غنى لأنهم
كانوا حلفاً، فقتل زهير في تلك الحرب، قتله خالد بن كلاب، وقتل ثعلبة بن
الأعرج وغيرهما، ولهم حديث.
قوله: عارية تسترد م مستعيرها، وعرية يرتجعها معيرها، كم لها من آير، تعلن
بذمها على المنابر، ومن لائم، وهو بها جد هائم، يغدو منها الزاهد، وهو
لضنك العيش مجاهد، فقيل هو للدنيا رافض، وقد ركضه عن الدنو منها راكض،
سمعت في الناس بزاهد واحد، ولا تخفى الغزالة لجاحد، رب الخورنق، في صفو
عيش غير مرنق، فسره ما رأى من ملكه العقيم، وميز بصحيح من الفكر غير سقيم،
فقال أو كلما آري إلى زوال؟ قيل نعم وتقلب من الأحوال، فقال: لأطلبن عيشاً
لا يزول، وملكاً ربه عنه غير معزول، فانخلع من ملكه ولبس الأمساح، وذهب في
الأرض مترهباً وساح، وحق للعاقل أن يتوب، قبل أن يوافي أجله المكتوب.
العارة: أن يستعير الإنسان من شيء ثم يرده، ومنه قول النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: (العارية مؤداة)، واشتقاقها من التعاور، وهو
التداول، يقال: تعاوروا الشيء بينهم: إذا تداولوه، وعورت فلاناً الشيء:
إذا داولته إياه، وأصل العارية: عورية، فانقلبت واوها ألفاً لتحركها
وانفتاح ما قبلها.
والعرية: النخلة يهب الرجل ثمرها لرجل آخر عامه ذلك، وهي التي رخص في بيع
ثمرها في رأسها، وجمعها عرايا، قال سويد بن الصامت الأنصاري:
ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الحوائج
الشدائد ويقال: أعار بنو فلان خيلهم: إذا سمنوها، وفرس معار: أي سمين.
قال الشاعر:
أعيروا خيلكم ثم اركضوها ... أحق الخيل بالركض المعار
وقال الطرماح:
وجدنا في كتاب بني تميم ... أحق الخيل بالركض المعار
والآبر: الذي يلقح النخل.
والغزالة: الشمس.
ورب الخورنق والسدير: النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن
نصر بن عدي، الملك اللخمي، وهو النعمان الأكبر، وكان عظيم الملك، وكان
أعور، وهو الذي بنى الخورنق، وهو الذي عناه المنخل اليشكري، واسمه أبي بن
مسعود، والمنخل لقبه، بقوله:
وإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
ويقال: إن أنو شروان بن قباذ هو الذي ملكه، فأشرف النعمان بن امرئ القيس
يوماً على الورنق، فنظر إلى ما حوله، فقال: أكل ما أرى إلى فناء وزوال؟
قالوا: نعم، قال: فأي خير فيما لا يبقى؟ لأطلبن عيشاً لا يزول.
فانخلع من ملكه ولبس الأمساح وساح في الأرض، فلم يعلم أحد بمكانه، وهو
الذي ذكره عدي بن زيد العبادي بقوله:
وتفكر رب الخورنق إذمأشرف يوماً وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يملكموالبحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال: فما غبطة ... حيٍ إلى الممات يصير
وملك أنو شروان بعد أخاه المنذر بن امرئ القيس، الذي يقال له: ابن ماء
السماء، وكانت أم المنذر من النمر بن قاسط، ويقال لها: ماء السماء،
لجمالها، وكان أيضاً يقال لعامر بن حارثة الأزدي: ماء السماء، سمي بذلك
لأن الناس كانوا إذا أقحطوا، أقام ماله مقام القطر.
والمنذر بن امرئ القيس هذا جد النعمان الأصغر ابن المنذر بن امرئ القيس،
سمي بالنعمان الأكبر.
قوله: اللهم إني إليك تائب، ومن لم يتب من عبادك فهو خائب، توبة من يهضه
الذنب، وأثقل منه الغارب والجنب، واستغفرك استغفار منيب هائد، إلى كل ما
يسخطك غير عائد، قد اعترف، بما اقترف، ووجل مما عمل، فخجل، نادم من تلك
الخطايا، وركوب تلك المطايا، التي اقتعد منها العشواء، فتابعت به الأهواء،
حتى أوردته في المهالك، وسلكت به أضيق المسالك، فهو يتململ تململ السليم،
ويتأوه تأوه المليم، كدابغة أديم ذي حلم، ومداوي ميت لا يحس بألم، كيف
السبيل إلى الخلاص من الورطة، ودخوله باب حطه، لا خلاص إلا بالإخلاص، ولات
حين مناص، لمن علق بشرك القناص، لو كظمت لما ظلمت، أو عفوت لما هنوت، فهل
من متصدق على بائس فقير، مثقل من الذنوب وقير، بصدقة من حل، تفكه من الغل،
أو دعوة مثابة، يرجى له بها الإجابة، إن الله يجزي المتصدقين ويثيب
المتقين.
نحن بنو آدم وحواء، لأب وأم في الولادة سواء، فما فضل أخ على أخيه، إلا
بالعمل الصالح وتوخيه، كلنا لله عبيد أكرمنا عنده من اتقاه، وصان وجهه عن
حر النار ووقاه، لا نسأل يوم القيامة عن نسب، كل يؤخذ بما اجترح واكتسب،
نجا المخفون، وأمن الخائفون، أفلح من أخلص النيه، قبل هجوم المنيه، وبنك
أساب الأمل، ووصل حبال العمل، وشغله ذكر المعاد، عن ذكر هند وسعاد.
اللهم قد علمت السرائر، وحفظت الجرائر، فأمنى من الخيفه، وامح سيئاتي من
الصحيفة، بقبول هذه التوبه، والتجاوز عن الحوبه.
اللهم إني غير قائم بشكرك، ولا آمن لمكرك، لا يجير عليك أحد، ولا لمخلوق
دونك ملتحد، وقد استجرت من عذابك بكرمك، ومن بطشك بحلمك، وهربت منك إليك،
وجعلت توكلي عليك، وقرعت باب فضلك بالسؤال، وطلب ما عندك من النوال، وجعلت
جودك لي إليك شافعاً، ولما أخشى من الرد دافعاً، ولن تخيب سائلك، ولا ترد
وسائلك.
اللهم هذا مقام العائذ بك من عذابك، والثائب إلى ثوابك، فنفرا
غفرا، ورأبا لما أفرط فيه وأفرى، لن يجدي الأسف، بعد ركوب المعتسف، ولا
الأرق، بعد الغرق، إلا بعفو من الكريم، عن مطالبة الغريم، ومحو ما سلف،
والصفح عما اجترم واستلف.
اللهم اهد ضليلاً جار عن اللقم، واشف عليلاً موفياً عن السقم، طال ما ضربت
له الأماني حبالها، وألبسته المطامع سربالها، فشام خلبا يومض في جهام،
وقتاماً يحسبه دفع الرهام، حتى انقضت أيام العنفوان، ومضت بوادر الأوان،
وقد شغل شغل ذات النحيين، وبلغ حزام رحله الطبيبن، وهو في ذلك المضمار،
يعلل النفس بضمار، قد أنفق رأس المال بالآمال، ومنع بالأثقال عن الانتقال،
طمع في الدنيا طمع أشعب، فعني نفسه وأتعب، فظفر منها بخفي حنين، وبصر بكمه
القلب لا العينين، يا صفر الكفين، بظفر الخفين، ويا ندم الكسعي، لنظيره في
العي.
اللهم أقل عاثراً زلت به القدم، وطال تأسفه والندم، وارحم قنيصاً أوقع
نفسه في الحبالة، ومقرحاً مفعم اللبيد والباله. وافكك أسيراً يرسف في
الصفاد، لا الصفد المستفاد، يا خير مدعو، وأفضل مرجو، يدعوه المضطر،
ويرجوه القانع والمعتز، إنك بالإجابة جدير، وأنت على كل شيء قدير.
بهضه الذنب: أي أثقله. والهائد: التائب، ومنه قوله تعالى: (إنا هدنا إليك)
قال إعرابي:
إن امرؤٌ من مدحه هائد
والعشواء، في قول الخليل: الناقة التي لا تبصر ما أمامها فهي تخبط بيديها
كل شيء، وترفع طرفها لا تنظر موقع يديها. فضرب بها المثل لمن لا يتبين في
أمره، فقيل: كراكب العشواء، وركب العشواء، وهو يخبط خبط العشواء.
والسليم: الملدوغ، وهو مما كني به عن العاهات، كالبصير، وهو الأعمى.
والمليم الذي يأتي بما يلام عليه، ومنه قوله تعالى: (فالتقمه الحوت وهو
مليم) مثل: أقام يقيم إقامة فهو مقيم، وما شاكل ذلك من الألفاظ.
والحلم: النغل، وهو مصدر حلم الأديم يحلم حلماً: إذا نغل، قال الوليد بن
عقبة بن أبي عقبة يحرض معاوية على حرب علي رضي الله عنه:
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... يهدر في دمشق فما يريم
فإنك والكتاب إلي عليٍ ... كدابغة وقد حلم الأديم
والوقير: حامل الوقر، يقال فقير وقير.
والحوبة: الإثم، يقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أي إثمي، وكذلك الحوب
أيضاً.
والنوبة: واحدة النوب، والنائبة: واحدة النوائب.
والملتحد: الملجأ، قال الله تعالى: (ولن تجد من دونه ملتحداً).
والبطش: الأخذ بقوة، ومنه قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد).
والغفر: مصدر غفر يغفر غفراً وغفراناً ومغفرة، ومعنى ذلك كله: ستر الذنوب،
ومنه اشتقاق المغفرة.
والمجترم: المكتسب للجرم، وكذل الجرم، ومنه قوله تعالى: (فعلي إجرامي)
والجائر: المائل. واللقم: الطريق الواضح. والخلب: البرق الكاذب. والجهام:
السحاب الذي لا ماء فيه. والرهام: جمع رهمة، وهي المطرة. وعنفوان الشباب:
أوله، وكذلك بادرته وشرخه وريقه.
وذات النحيين: امرأة كنت تبيع فيهما سمناً بسوق عكاظ. فأتى غليها خوات بن
جبير الأنصاري في الجاهلية، فساومها في السمن وحل رباط أحد النحيين، فنظر
إلى ما فيه ودفعه، فأمسكته بيدها لينظر إلى ما في الآخر، فلما فتح الآخر
دفعه إليها، فأخذته بيدها الأخرى، ثم فجر بها، ويداها مشغولتان بالنحيين،
مخافة أن يسل السمن من النحيين، فضرب بها المثل في الشغل، فقيل: أشغل من
ذات النحيين، ثم أسلم خوات بعد ذلك وحسن إسلامه، وهو القائل فيها:
وذات عيال واثقين بعقلها ... خلجت لها جار استها خلجات
فأخرجته ريان ينطف رأسه ... من الرامك المدموم بالمقرات
وشدت يديها إذ أردت خلاطها ... بنحيين من سمن ذوي عجرات
فكانت لها الويلات من ترك سمنها ... ورجعتها صفراً بغير بتات
فشدت على النحيين كفاً شديدة ... على سمنها، والفتك من فعلاتي
فلما أسلم وشهد بدراً، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا خوات كيف
شراؤك؟ وتبسم صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد رزق الله خيراً،
وأعوذ بالله من الحور بعد الكور.
والعرب تقول، إذا اشتد الأمر: بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام
الطبيين، يعنون حزام الفرس والناقة وغيرهما، وهو منتهي الجهد، والطبيان:
الضرعان، واحدهما بطيء، وجمعه أطباء.
ولما اشتد الحصار على عثمان بن عفان كتب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه
يستنجده: أما بعد، فقد بلغ السيل الزبي، وجاوز الحزام الطبيين، وتمثل بقول
الممزق العبدي، واسمه شاس بن مهازن:
فأن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
فأمده بالحسن والحسين في جماعة من بني هاشم، فدفعوا الناس عن باب دار
عثمان، ففرضوا الدار ودخلوا عليه من خلفها فقتلوه، ولا علم للذين بالباب.
وخفي حنين يضرب بهما المثل لمن جاء خائباً، وحنين إسكاف من أهل الحيرة،
ساومه أعرابي في خفين، فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، فتركه حنين حتى ارتحلن
وتقدم له في طريقه، وألقى أحد الخفين في موضع وأحدهما في موضع آخر، فلما
مر الأعرابي بالخف الأول منهما، قال: ما أشبه هذا الخف بخفي حنين، ولو كان
معه الآخر لأخذته، ومضى حتى انتهى إلى الآخر، فلما رآه ندم على عدم أخذ
الأول، فأناخ راحلته وأخذه، ورجع للأول فأخذه، وقد كمن له حنين، فأخذ
الراحلة وما عليها، فأتى الأعرابي إلى الراحلة، فلم يجدها، فراح الأعرابي
وليس معه غير الخفين؛ فقال له قومه: ما الذي أتيت به؟ فقال: بخفي حنين،
فضربت العرب المثل بذلك لكل من جاء خائباً.
والكمه: العمى، والأكمه الأعمى، ومنه قوله تعالى: (وتبرئ الأكمه والأبرص)،
قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
كمهت عيناه لما ابيضتا ... فهو يلحي نفسه لما نزع
والكسعي: صائد وقف على طريق الظباء فمرت عليه وهو يرمي كل ظبي منها بسهم،
فلم تتحير الظباء حتى توارت عنه، فظن أنه أخطأها، فكسر قوسه، وعض على
إبهامه فقطعها وقال:
ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذاً لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وهذا مما يعاب في الشعر، لأنه أتى ببيت مردف وبيت لا ردف فيه وهو السناد،
فضربت العرب المثل بندامة الكسعي.
والقنيص المقنوص، مثل قتيل ومقتول وصريع ومصروع.
والحبالة: حبال الصائد.
والمفرح: المثقل، يقال: أفرحه الدين إذا أثقله، قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: (لا يترك في الإسلام مفرح)، وقال بيهس العذري:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانةً ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
والمفعم: المملوء.
واللبيد: الجوالق وهو الخرج، ومنه اشتق اسم لبيد الشاعر.
والبالة: شبيهة بالحراب والرسفان: مشي المقيد. والصفاد: الصيد، والصفد
أيضاً: الغل وجمعه أصفاد، ومنه قوله تعالى (مقرنين في الأصفاد) والصفد في
هذا الموضع: العطاء قال: النابغة:
هذا الثناء فن تسمع لقائله ... فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
والمعتر: المتعرض للمسألة.
والقانع السائل، ومنه قوله تعالى: (وأطعموا القانع والمعتر).
والجدير: الحقيق بالشيء. يقال فلان جدير بكذا، وقمين به، وخليق به، وحقيق
به، كل ذلك بمعنى.