كتاب : البصائر والذخائر
المؤلف : أبو حيان التوحيدي
أراني سأبدي عند أول سكره ... هواي لهند في خفاء وفي ستر
فإن رضيت كان الرضا سبب الهوى ... وإن غضبت حلمت أمري على السكر
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب المومسة والحجام. المومسة: الزانية.
يقال: النضنضة بطرف اللسان والشفتين، والمضمضة بالفم كله، والنضح كالرش، والنضخ كالتبليل، والقضم بالأسنان، والخضم بالفم كله.
قيل لأعرابي: لم تسمى الغراب غراباً؟ قال: لأنه نأى واغترب.
قال الأصمعي، قلت لأبي عمرو: الذفرى من الذفر؟ قال: نعم، والمعزي من المعز؛ والذفر: الرائحة الطيبة، فأما الذفر - بتسكين الفاء - فإنه النتن خاصة.
سأل المنصورعمرو بن عبيد عن قوله عليه السلام فيمن اقتنى كلباً لغير زرع ولا حراسة أنه ينقص كل يوم من أجره قيراط؛ قال: كذا جاء، ولا أدري لم قال ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وعلى آله: لا زمام ولا خزام ولا رهبانية ولاتبتل ولا سياحة في الإسلام، وهو معنى قوله عز وجل ما جعل عليكم في الدين من حرج.
قال عبد الله بن عمر: دخل يحيى بن زكريا بيت المقدس وهو ابن ثماني حجج فنظر إلى عبادها وقد لبسوا مدراع الشعر وبرانس الصوف، وقد ثقبوا وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى سواري المسجد، فهاله ذلك ورجع إلى أبويه، فمر بصبيان يلعبون فقالوا: يا يحيى، هلم فلنلعب، فقال: ما خلقنا للعب، فأتى أبويه فقال لهما: درعاني الشعر، ففعلا، ثم رجع إلى البيت المقدس فكان يخدمه نهاراً وليلاً حتى أتت له خمس وعشرون حجة، وأتاه الخوف فساح ولزم أطراف الأرض، في حديث طويل.
كان من حديث يسار الكواعب أنه كان عبداً لبعض العرب، وكان لمولاه بنات، فجعل يتعرض لهن ويريدهن على أنفسهن، فقلن: يا يسار، اشرب ألبان هذا اللقاح، ونم في ظلال هذه الخيام، وإياك والتعرض لبنات الأحرار، فأبى، فلما أكثر واعدنه ليلاً فأتاهن وقد أعددن له موسى، فلما خلا بهن قبض عليه فجببن مذاكيره.
شاعر:
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري به ... من ذا يعض الكلب إن عضا
سمع مطرف بن عبد الله ضجيج الناس بالدعاء فقال: لقد ظننت أن الله قد غفر لهم، ذكرت أني فيهم فكففت.
قال بعض السلف: إن الدنيا قد استودقت، وإن الناس قد انغطوا، فما ظنك بعد هذين؟ كان للحكم ابن يتعاطى الشراب فقال: يا بني دع الشراب، فإنما هو قيء في شدقك، أو سلح في عقبك، أو حد في ظهرك.
قال ابن عباس: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله كانتفاعي بكلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ كتب إلي: أما بعد، فإن المرء يسره درك ما يفوته، ويسوؤه فوت ما لم يدركه، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما أتاك من الدنيا فلا تكن به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكن عليه جزعاً، وليكن همك لما بعد الموت.
لما استقضي يحيى بن أكثم جاءه رجل فقال: إني نذرت أن أتصدق بجزء مالي، قال: تصدق بربع مالك بقول الله تعالى: " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً " البقرة:260.
نذر المتوكل في علة إن وهب الله تعالى له العافية أن يتصدق بمال كثير، فعوفي، فأحضر الفقهاء فاستفتاهم فقال قائل: تصدق بمائتي درهم لأن الزكاة فيها تجب، وقال آخر شيءاً آخر، فقال رجل من آل الرسول صلى الله عليه وعلى آله: إن كنت نويت الدنانير فتصدق بثمانين ديناراً، فقال الفقهاء: ما نعرف هذا في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: بلى، قال الله تعالى: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين " التوبة:25، فعدوا وقائع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله فإذا هي ثمانون.
شاعر:
يلج بي الهوى وتلج نفسي ... وفيما بيننا كبد تذوب
استقرض كوفي من جار له شيئاً فطلب رهناً، فكتب إليه: لو كان الرهن حاضراً لكان بيعه أهون علينا من استيجاب حمدك.
قال الأول: فقر يوجعك خير من غنى يطغيك، وغنى يحجزك عن الإثم خير من فقر يحملك على الإثم.
قال ابن السماك: من لم يتحرز من عقله بعقله، هلك من قبل عقله.
أطعم الناس أبو سفيان في حجة الوداع فقصر طعامه فاستعان برسول الله صلى الله عليه وعلى آله فأعانه بألف شاة، فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، حاربناك فما أحببناك، وسألناك فما أبخلناك.
قال لقمان لابنه: يا بني، ارحم الفقراء لقلة صبرهم، وارحم الأغنياء لقلة شكرهم، وارحم الجميع لطول غفلتهم.
مر بخالد بن صفوان صديقان، فعرج أحدهما عليه وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرج علينا هذا لفضله، وطوانا ذاك لثقته بالمودة.
قال ابن شهاب: من قدم أرضاً فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شربه عوفي من وبائها.
قيل لزاهد: ما جزاء من إذا سئل أعطى؟ قال: أن يطاع فلا يعصى.
قال ابن عباس: أبهمت البهائم إلا عن أربع: عن معرفة الرب، وابتغاء النسل، وطلب المعاش، وحذر الموت.
قال القاضي أبو حامد: الرب ها هنا سائسها ومالكها، فأما معرفة الله تعالى فإن الكبار من العقلاء يموجون فيها ويضجون بسببها، فإن أصل المعرفة هو العقل، والبهائم لا عقول لها، وإنما هي ذوات حواس تصادف بحواسها ما لاءمها، فإذا توالت المصادفة الألفة بينها وبين الأشياء، وأما ما ارتفع عن الحس فإنها منه في جانب بعيد، ومكان سحيق.
مر أنو شروان بشيخ يغرس شجرة جوز، فوقف عليه وقال: يا شيخ، أتطمع أن تأكل من هذه الشجرة التي قد توليت غرسها وسقيها وتعهدها؟ قال: لا أيها الملك، ولكن الدنيا دفعت إلينا عامرة فإني أحب أن أردها وهي عامرة، فأعجب المك بكلامه وقال: زه! وأعطاه أربعة آلاف درهم، فقال: أيها الملك، ما أسرع ما أثمرت هذه الشجرة، فقال كسرى: زه! وأعطاه أربعة آلاف درهم أخرى، فقال: أيها الملك، لكل شجرة في كل سنة حمل واحد وهذه حملت مرتين، فقال: زه! وأعطاه أربعة آلاف درهم، وسدوا فمه، وانصرف.
قيل لفتح الموصلي: ادع الله لنا، فقال: اللهم هنئنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك.
مدح بعض الشعراء الجنيد، وكان من كبار العمال، فأجازه، فقال الشاعر: ما أكرمك لولا ثلاث خصال، قال: ويلك وما هي؟ وهل بعد ثلاث من خير؟ قال: تأمر للرجل بالجائزة السنية ثم تشتمه فتكدر ذلك عليه، قال: ثم ماذا؟ قال: وتضع الطعام فيدخل الناس فلا تنزلهم منازلهم، ولو أنزلت كان أشرف لك، قال: ثم ماذا؟ قال: جواريك يخترقن الصفوف فلا تأخذك لذلك غيرة، قال: فبكم أمرنا لك؟ قال: بعشرة آلاف درهم، قال: يا غلام ادفع إلى هذا الماص بظر أمه عشرة آلاف أخرى، ثم أعادها حتى بلغت تسعين ألفا أخرى، فوضعت بين يديه؛ ثم أقبل عليه فقال: أما قولك إني أضع الطعام ولا أنزل الناس منازلهم فلقد فكرت فرأيت في الناس من له همة وفيهم غير ذلك، فوكلتهم إلى أنفسهم، لأن من انحط عن أعلى غاية كان النقص أولى به، فهم بأنفسهم أخبر مني بهم؛ وأما قولك إن جواري يخترقن الصفوف فلا تأخذني لذلك غيرة، فلو أن واحدة رأت في عينها من هو أحسن مني فاختارته وهبتها له؛ وأم العطية مع الشتم فكيف رأيتها؟ فأنشأ الشاعر يقول:
إن الجنيد الكريم أوله ... يزين منه قديمه كرمه
يعطي على شتمة وإن صغرت ... تسعين ألفا طوبى لمن شتمه
وحسن وجه الجنيد قد عرفوا ... يمنع من كل ريبة خدمه
وما يبالي إذا بلا هممه ... طباخه بالطعام من طعمه
كان سليمان بن عبد الملك إذا حضر طعامه فتحت الأبواب ورفعت الستور ودخل الناس، فإذا انقضى ذلك نادى مناديه: إن أمير المؤمنين مرتفع من مجلسه، فهل لأحد منكم حاجة؟ فقام رجل ذات يوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي في بيت مالك مائتي دينار، وأنا الآن مملك بابنة عم لي، وقد ضرب علي أجل إن جزته فرق بيني وبينها، فإن رأى أمير المؤمنين أسلفني هذه المائتين فأقضي عني، فقال: يا ابن اللخناء، أقسطار أنا حتى أسلفك؟ بل أهب لك مائتي دينار ومائتي دينار، وجعل يكررها حتى انقطع نفسه على ثلاثة آلاف دينار، فقبضها الرجل، فأتاه الناس يهنئونه قال: فأين قوله يا ابن اللخناء؟ فبلغ ذلك سليمان فقال: صدق، وددت أني افتديتها بأضعاف ذلك ولم أقلها.
؟قال ابن عباس: لعن الله القدرية، وما قالوا كما قال الله، ولا كما قالت الملائكة ولا كما قالت الأنبياء، ولا كما قال لوط، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " الإنسان: 30، وقالت الملائكة: " علم لنا إلا ما علمتنا " البقرة: 32، وقال الأنبياء: " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم " هود " :34، وقال: لوط: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " هود:80، وقال أهل الجنة: " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " الأعراف: 43، وقال أهل النار: " غلبت علينا شقوتنا " المؤمنون:106، وقال الشيطان: " رب بما أغويتني " الحجر:39.
شاعر:
لعمري لئن بيعت في أرض غربة ... ثيابي إذ ضاقت علي المآكل
فما أنا إلا السيف يأكل جفنه ... له حلية من نفسه وهو عاطل
كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إذا دعا لمتزوج قال: على اليمن والسعادة والطير الصالح، والرزق الواسع، والمودة عند الرحم.
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقال بالرفاه والبنين ويقول بأوفى التحيات وأعذب الكلام.
كتب رجل إلى صديق له: بلغني ما يسر الله لك من اجتماع الشمل، وضم الأهل والإلف، فشركتك في النعمة، وساهمتك في السرور، وشاهدتك بقلبي، وتمثلت ما أنت فيه بعيني، فهنالك الله تعالى ما أنت فيه بما قسم لك بالسرور والحبور، ودفع المحذور، على مر الأزمنة والدهور.
قال الحجاج لابن القرية: اخطب علي هنداً بنت أسماء ولا تزد على ثلاث كلمات، فأتاهم فقال: أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير يعطيكم ما تسألون، أفتجيبون أم تردون؟ فقالوا: بل نجيب، فرجع إلى الحجاج فقال: أقر الله عينك، وجمع شملك بالسرور والغنى على أسعد السعود، وإيمن الجدود، وأبرك العقود، وجعلها الله تعالى ولوداً ودوداً، وجمع بينكما على البركة والخير.
قال جعفر بن محمد الفاطمي عن أبيه عن جده قال حججت ومعي جماعة من أصحابنا، فأتينا المدينة، فأفردوا لنا مكاناً ننزله، فاستقبلنا علام لأبي الحسن موسى بن جعفر على حمار له حضر يتبعه الطعام، فنزلنا بين النخل، وجاء هو فنزل، وأتي بالطست والماء، وفبدأ فغسل يديه، وأدير الطست عن يمينه حتى بلغ آخرنا، ثم أعيد إلى من عن يساره حتى أتى على آخرنا، ثم قدم الطعام فبدأ بالملح وقال: كلوا باسم الله، ثم ثنى بالخل، ثم أتي بكتف مشوية فقال: كلوا باسم الله فإن هذا الطعام كان يعجب رسول الله صلى عليه وعلى آله، ثم أتي بسكباج فقال: كلوا باسم الله فهذا طعام كان يعجب أمير المؤمنين رضي الله عنه، ثم أتي بلحم مقلي فيه باذنجان فقال: كلوا بسم الله فهذا طعام كان يعجب الحسن بن علي رضي الله عنهما، ثم أتي بلبن حامض قد ثرد فيه فقال: كلوا بسم الله فإن هذا الطعام كان يعجب الحسن بن علي رضي الله عنهما، ثم أتي بأضلاع باردة فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجب علي بن الحسين رضي الله عنهما، ثم أتي بجنب مبرد فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجب محمد بن علي، ثم أتي بلون فيه بيض كالعجة فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجب جعفراً، ثم أتي بحلواء فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجبني. ورفعت المائدة فذهب أحدنا ليلتقط ما كان تحتها فقال: مه، إن ذلك يكون في المنازل تحت السقوف، فأما في مثل هذا المكان فهو لعافية الطير والبهائم. ثم أتي بالخلال فقال: إن من حق الخلال أن تدير لسانك في فمك، فما أجابك ابتلعته، وما امتنع فالخلال. وأتي بالطست والماء، فابتدأ بأول من على يساره حتى انتهى إليه فغسل، ثم غسل من عن يمينه إلى آخرهم، ثم قال: يا عاصم، كيف أنتم في التواصل والتيار؟ قال: على أفضل ما كان عليه أحد، قال: أيأتي أحدكم إلى كم أخيه أو منزله عند الضيقة فيستخرج كيسه ويأخذ ما يحتاج إليه فلا ينكر عليه؟ قال: لا، قال: فلستم على ما أحب من التواصل.
قال بعض السلف: لصانع المعروف إجلال القلوب، وثناء الألسن، وحسن الأحدوثة، وذخر العاقبة، وفخر الأعقاب.
شاعر:
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
آخر: ؟سقاني من كميت اللو - ن صرفاً غير ممزوج
فلما دارت الكاس ... على ناي وتصنيج
جعلنا القمص في اللبا ... ت أمثال الدواويج
؟كاتب: الحمد لله على عامر مهاجرتك، وسلامة بدأتك ورجعتك، وعظم المنة بأوبتك، فشكر الله سعيك، وتقبل نسكك، وجعلك ممن انقلب مفلحاً منجحاً، قد ربحت صفقته، ولم تبر تجارته، ولا أعدمك تقبل عملك، وتوفيقاً يحوك دينك، وشكراً يرتبط نعمتك، وهناك الله تعالى ذلك، وطيبه لك في الدنيا مع الأهل وجمع الشمل، ولا أعدمك مزيداً منه.
؟قال أعرابي في ذم الدنيا: جمة المصائب، كدرة المشارب لا تمتعك بصاحب.
قال أعرابي: من علم أن رزقه طالبه أراح بدنه من الدؤوب ونفسه من الذنوب.
نظرت أعرابية إلى قوم يدفنون ميتاً فقالت: جافى الله عن ميتكم ثقل الثرى، وأعانه على طول البلى.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: ذاك والله مضغة من ذاق لفظها، وإنه مع ذلك عذب في أفواه الأصدقاء.
وقال أعرابي في آخر: لم يزل ينهب الدهر ما له حتى مال له الدهر، فبخل الدهر عليه ولم يبخل على الدهر.
نظر أعرابي إلى فارس فقال: كأنه والله باز على مرقب، بيده رمح طويل يقصر به الآجال.
وقال أعرابي: هو والله إذا لوين أحلى من الجنى، وإذا خوشن أمر من الألاء.
وذكر أعرابي مودة رجل فقال: مودته مشوبة الفعال، وسماؤه قليلة البلال، وأرضه دائمة الإمحال، هو اليد الجذاء، والأزمة الحصداء، أبعد مقاله قريب، وأقرب فعاله بعيد، يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول.
كاتب: من اتسع في الإفضال اتسعت فيه الأقوال، من شاكر مثن، ومادح مطر، ولسنا نصفك بما يعن لنا ويبدو على ألسنتنا، مما يتقرب به ذو الرغبة، ويفزع إليه ذو الرهبة، لاشتراك مرغوب، واستجلاب مطلوب، ولكنا ننطق عن سيرتك بإفصاح، ونبين عنها بإيضاح، يكف شغب الكائد، ويطيل غم الحاسد.
قال أعرابي: طالب الفلاح كالضارب بالقداح، سهم له وسهم عليه.
شاعر:
وعصبة لما توسطتهم ... ضاقت علي الأرض كالخاتم
كأنهم من بعد أفهامهم ... لم يخرجوا بعد إلى العالم
يضحك إبليس سروراً بهم ... لأنهم عار على آدم
قيل لأعرابي: أتعرف ربك؟ قال: إن عرفناه أبلانا، وإن أنكرناه أصلانا.
قال مسلم: مازلت أستجفي عائشة في قولها: بمن الله لا بمنك، حتى سألت أبا زرعة الرازي فقال: ولت الحمد أهله.
حمل إلى حماد القرشي دنانير فردها فقال له أصحابه، وكانوا أضيافه على كسر قد بدع بها كبة غزل: ما وجب أن ترد، فقال: إني لم أختر الفقر للغنى، إنما اخترت الفقر للفقر.
كان العتابي واقفاً بباب المأمون، فوافى يحيى بن أكثم، فقال له العتابي: إن رأيت أن تعلم أمير المؤمنين مكاني فافعل، فقال: لست بحاجب، فقال: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان، قال: سلكت بي غير طريقي، قال: إن الله أتحفك منه بجاه ونعمة، وهو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت، وبالتغيير إن كفرت، وأنا لك اليوم خير منك لنفسك، لأني أدعوك إلى ما فيه ازدياد نعمتك وأنت تأبى علي، ولكل شيء زيادة وزكاة، وزكاة الجاه رفد المستعين؛ فدخل على المأمون فأخبره الخبر، فأمر للعتابي بثلاثين ألف درهم.
بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه بالمدينة اشترى خاتماً قيمة فصه ألف درهم، فكتب عمر رضي الله عنه: عزمت عليك لما بعت خاتمك بألف درهم، وجعلتها في ألف بطن جائع فقير، واستعملت خاتماً من ورق وجعلت فصه منه ونقشت عليه: رحم الله امرءاً عرف قدره.
شاعر:
شعرات في الرأس بيض ودعج ... حل رأسي خيلان: روم وزنج
طار عن لمتي غراب شبابي ... وعلاني من بعده شاه مرج
أيها الشيب لم والعت برأسي ... إنما لي عشر وعشر وبنج
قال أعرابي في رجل: ذاك والله رضيع الجود والمفطوم به، عقيم من الخنا، معتصم بالتقوى، إذا خرست الألسن عن الرأس حذف بالصواب كما تحذف الأرنب، فإن طالت الغاية، ولم يكن دونها نهاية تمهل أمام القوم سابقاً.
قال بعض الأطباء: إذا أخذ زبل العصافير وديف بلعاب الإنسان وطلي على الثؤلول قلعه.
قال الحجاج لعنبسة بن سعيد: يا عنبسة، بلغني أنك تشبه إبليس في قبح وجهك، قال: وما ينكر الأمير أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن؟!
لما نزل قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الأقربين " الشعراء: 214، أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله قمة جبل فعلا أعلاها ونادى: يا آل عبد مناف، إني نذير، وإنما مثلي ومثلكم كمثل رجل يربأ أهله، فرأى العدو فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف وينادي: يا صباحاه! الدبول: الجداول، سميت بذلك لأنها تدبل أي تصلح، قال الكسائي: أرض مدبولة: إذا أصلحت بالسرجين، وكل شيء دبلته ودملته فقد أصلحته، ومنه يقال: داملت الصديق إذا استصلحته. ومدفن المدينة يسمى بقيع الغرقد، والغرقد: شجر الغضا وكل شجر له شوك، مثل الطالح والسلم والسدر والسمر.
قال أعرابي: إن الله تعالى أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد.
قال أعرابي: رب حرب أنفع من سلم، وجهل خير من علم.
كاتب: قد سرني ردك لي عما التمسته منك ليكون ذلك عقوبة لي على سوء اختياري لك، وتأديباً على قصدي بأملي إياك.
قال أعرابي: رب صبابة غرست من لحظة، ورب حرب جنيت من لفظة.
قال أعرابي: رب وحدة خير من جليس، ووحشة أحسن من أنيس.
قال أعرابي: ربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الغوي رشده، وشد الأشل زنده.
قيل لكثير: كيف تصنع إذا عز عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة، والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه.
قال بعض السلف: ما استدعي شارد الشعر بمثل المكان الخالي، والمستشرف العالي، والماء الجاري، وله أوقات يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه.
كاتب: كتبت عن عافية في البدن، وسقم في الحال، فأنا بين شكر وشكوى، وبلاء جميل وبلوى، أستحق بالشكر الزيادة، وبالسقم العيادة، أما استخبارك عن أمري فظاهر أمري بالسلامة يسرك، وأما باطن حالي فبالاختلال يسوءك.
كاتب: كتبت وأنا سالم في نفسي، فأما ما تتم به السلامة فقد أخطأني موقعه، لأني ببلد ليس فيه عمل يجدي، ولا حر يسدي، وأنا أحمد الله حمداً يصونني عن العمل إلا لطاعته، ويغنيني عما سواه بكرمه وكفايته.
قال أعرابي: من تنعم بك بدنه، تعبد لك قلبه، ومن جهد ظاهره فيك، ثقل باطنه عليك.
قال أعرابي لآخر: اجعل لي وكيلاً من نفسك يقوم عندك بعذري، ويخاصمك إلى كرمك في أمري.
كاتب: أصبحوا في زهرة رياضك راتعين، وفي غمرة حياضك شارعين.
قال أعرابي: هذا مقام من لا يتكل عندك على المعذرة، بل يعتمد منك على المغفرة.
قال ابن الكلبي: لما أتي الحجاج بالأسرى من أصحاب ابن الأشعث، جعل يعرضهم على السيف حتى انتهى إلى شاب فيهم فقال: أصلح الله الأمير، إن لي حرمة، قال: وما هي؟ قال: ذكرت في عسكر ابن الأشعث بسوء فرددت عنك الشتائم وقلت للشاتم: والله لقد كذبت في مقالتك، وأفكت في نطقك، والله ما في الحجاج مغمز ولا مطعن في حسب ولا نسب، ولا مفسد في بطن ولا ظهر، فإن شئت في غير ذلك فقل، فقال الحجاج: ومن يعلم ما تقول؟ فرمى الرجل بطرفة إلى رجل بالقرب منه فقال: هذا يعلم ما أقول، فقال الحجاج: ما تقول فيما قال؟ قال: صدق أيها الأمير، فقال: يخلى عن هذا لذبه عنا، ولهذا حرمه حفظ شهادته؛ فخلوا عنهما.
قال المدائني: قدم على أسد بن عبد الله بخراسان رجل، فانتظر قعوده للناس فكان يحجب عنه، فلما دخل إليه قال: أصلح الله الأمير، إن لي عندك يداً، قال: وما يدك؟ قال: أخذت بركابك يوم كذا، قال صدقت، قل حاجتك، قال: توليني أبيورد، قال: ولم؟ قال: لأكسب مائة ألف درهم، قال: فإنا قد أمرنا لك بها وأقررنا صاحبنا على عمله، قال: أصلح الله الأمير، لم تقض ذمامي، قال: ولم وقد أعطيتك ما أملت، وسرغتك ما أمرت لك به، وأعفيتك من المحاسبة أن صرفناك عنها، قال ولم تصرفني ولا يحب الصرف إلا لأمرين: إما لعجز أو لخيانة، فإن سلمت منهما لم أصرف، قال: فأنت أميرها ما دامت خراسان لنا، فلم يزل عليها حتى عزل أسد.
قال المدائني: جاء رجل إلى نصر بن سيار فذكر قرابة، قال: وما قرابتك؟ قال: ولدتني وإياك فلانة، قال: قرابة عورة، قال: إن القرابة مثل الشن البالي يرقعه أهله فينتفعون به، قال: حاجتك؟ قال: مائة ناقة ومائة نعجة ربى - إي معها أولادها - قال: أما النعاج فخذها، وأما النوق فنأمر لك بأثمانها.
قال الشعبي: حضرت مجلس زياد وحضره رجل فقال: أصلح الله الأمير، إن لي حرمة أفاذكرها؟ قال: هاتها، قال: رأيتك بالطائف وأنت غليم ذو ذؤابة وقد أحاط بك جماعة من الغلمان وأنت تركض هذا مرة برجلك وتنطح هذا مرة برأسك وتكدم هذا مرة بأسنانك، وكانوا مرة ينثالو عليك وهذه حالتك وحالهم، ومرة يندون عنك وأنت تتبعهم حتى كاثروك واستقووا عليك، فجئت حتى أخرجتك من بينهم وأنت سليم وكلهم جريح، قال: صدقت أنت أنت ذاك الرجل؟ قال: أنا ذاك، قال: حاجتك؟ قال: حاجة مثلي الغنى عن الطلب، قال: يا غلام أعطه كل سفراء وبيضاء عندك، ونظر فإذا قيمه ما يملك في ذلك اليوم أربعة وخمسون ألف درهم، فأخذها وانصرف، فقيل له بعد ذلك: أنت رأيت زياداً وهو غلام بهذه الحال؟ قال: إي والله لقد رأيته وقد اكتنفه صبيان صغيران كأنهما من سخال المعز، فلولا أدركته لظننت أنهما يأتيان على نفسه.
وقف رجل على معاوية وهو في مجلس العامة فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حرمة، قال: وما هي؟ قال: دنوت من ركابك يوم صفين وقد قربت ذابتك لتنهزم، ورأى أهل العراق الفتح والظفر، فقلت لك: والله لو كانت هند بنت عتبة مكانك ما هربت، واختارت أن تموت كريمة أو تعيش حميدة؛ أين تهرب وقد قلدتك العرب أزمة أمورها، وأعطوك قياد الأعنة؟ فقلت لي: اخفض صوتك لا أم لك، ثم ثبت وثابت حماتك إليك وتمثلت بقول عمرو بن الإطنابة:
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: صدقت، ولوددت أنك خفضت من صوتك، يا غلام أعطه خمسين ألف درهم، ولو أحسنت الأدب لأحسنا لك الزيادة.
رفع إلى أنو شروان أن العامة تؤنب الملك في تقديمه فلانا وليس له شرف أصيل ولا نسب، فوقع: اصطناعنا له نسب.
هذا الذي قاله لطيف حلو، له وجه عريض في التأويل، وعليه حجة قوية في الجدال، وقد كان بعض أصحابنا يقول: الاصطناع لا يشرف الجوهر الخسيس، والاطراح لا يضع الجوهر النفيس، وسبيل الملك أن يكون كالناقد الذي ينفي الزائف ويقتني الجيد، فما انتكثت الدول وانتقضت الملل إلا بهذا التأويل الذي ينشئه هوى الملك في واحد بعد واحد، على أنا لا نجحد أن تكون النجابة في بعض الخاملين، والفسالة في بعض المشرفين، لأن الغرائز والنحائر مختلفات، وكل من شوطه على حد إن زاد مكرها في وقت نقص مختاراً في وقت، وأصل كل معروف نكرة، وآخر كل معروف نكرة، ولكن الأولى بالقياس على عادة الناس تقديم من له قديم، فليس طلاب الذهب من معدنه كطلب المعدن في الأرض، على أن هه القضية في زماننا مطوية، وهذا الشأن متروك.
رفع إلى كسرى أن النصارى الذين بحضرة باب الملك يقرفون بالتجسس، فوقع: من لم يظهر ذنبه لم تظهر من عقوبة له.
ورفع إليه أن بعض الناس ينكر إصغاء الملك إلى أصحاب الأخبار، فوقع: هؤلاء بمنزلة مداخل الضياء إلى البيت المظلم، وليس بقطع مواد النور مع الحاجة إليه وجه عند العقلاء.
قال بعض أصحابنا: أما الأصل في هذا التدبير فصحيح، لأن الملك محتاج إلى الأخبار، ولكن الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أوجه: خبر يتصل بالدين، والواجب عليه أن يبالغ ويحتاط في حفظه وحراسته ونفي القذى عن طريقه وساحته، وخبر يتصل بالدولة ورسومها، فينبغي أن يتقظ في ذلك خوفاً من كيد ينفذ وحيلة تتم؛ وخبر يدور بين الناس في متصرفهم وشأنهم وحالهم، حتى إذا زاحمتهم فيه اظطغنوا عليك وتمنوا زوال ملكك، وأرصدوا العداوة لك، وكانوا عليك مع عدوك. وإنما لحق الناس من هذا الخبر هذا العارض لأن في منع الملك إياحم عنه وتتبعه لهم كرباً على قلوبهم، ولهيباً في صدورهم، فلا بد لهم في الدهر الصالح، والزمان المعتدل، والخصب المتتابع، والسبيل الآمن، والخير المتصل، من فكاهة وطيب واسترسال وأشر وبطر، وكل ذلك من آثار النعمة الدارة، والقلوب القارة، فإن أغضى الملك بصره عل ىهذا القسم عاش محبوباً، وإن تنكر لهم فقد جعلهم أعداء، والسلام.
ورفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز قد جنى من المال ما يزيد على الواجب، وأن ذلك يجحف بالرعايا، فوقع: يرد هذا المال على هؤلاء الضعفاء، فإن تكثير الملك بظلم رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما اقتلعه من قواعد بنيانه.
ورفع إليه أن الأمر كان خرج باختيار رجل للشرطة، وقد سمي لذلك فلان، فوقع: يحتاج لهذا العمل إلى رجل في طباعه البغضة للأشرار، واستقصاء أصول الأموال، والغلظة على الظلمة، والرقة على الضعفاء، وهذا رجل يختار لغير هذا العمل.
قال أبو سعيد السيرافي: إن هذا لزيد، إذا كان المشار إليه هو زيد، وكسروا اللام ليزول اللبس، وأصلها الفتح، لأن الباب في الحروف المفردة أن تبنى على الفتح، فإذا وصلتها بالمكني عادت إلى أصلها من الفتح، وذلك قوله: إن هذا له، وإن هؤلاء لنا، لأنك تقول في مكني المرفوع: إن هذا لأنا، وإن هؤلاء لنحن، وإن هذا لهو، وأنشد:
وإني امرؤ من عصبة خندقية ... أبت للأعادي أن تنيخ رقابها
قال يحيى بن غسان: عاتبت غسان بن عباد في اقتصاده في ملبسه فقال: من عظمت مؤونته على نفسه قل نفعه على غيره.
أنشد السيرافي:
فصددت عن أطلالهن بجسرة ... عيرانة كالقصر ذي البنيان
كسفينة الهندي طابق ظهرها ... بسقائف مكسوحة ودهان
فكأنما هي بعد غب كلالها ... أو أسفع الخدين شاة إران
يعني ثوراًوحشياً، ويسمى الثور الوحشي شاة، والبقرة الوحشية شاةٍ، وإران: نشاط، إرن يأرن أرنا والاسم الإران، يقال: الإران: كناس الوحش، يقال: الإران: سرير الميت، ومنه قول طرفة: أمون كألواح الإران نسأتها فأما قوله: ها أناذا وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها أنت ذا، وها أنتم أولاء، وها أنتن أولاء، فها للتنبيه، والأسماء بعدها مبتدآت، والخبر أسماء الإشارة ذا وذلك، وإن شئت جعلت الضمير المقدم هو الخبر، والإشارة هي الاسم.
وأما ها فيجوز أن يكون مع ذا وفصل بينهما أنت، والمراد بها أن يكون ذا، والتقدير: أنا هذا، ويجوز أن يكون التنبيه للضمير أنهما يشتركان في الإبهام، فأما من قدر ها مع ذا وفصل بينهما فإنه يحتج بقول زهير:
تعلما ها لعمر الله ذا قسماً ... فاقصد بذرعك واننظر كيف تنسلك
وإنما هو: تعلما هذا لعمر الله قسماً، ويحتج أيضاً بقوله: فقلت لهم هذا لها وها وذا ليا والتقدير: هذا لها وهذا لي، وإنما يقول القائل: هاأناذا، إذا طلب رجل لم يدر أحاضر أم غائب، يقال: هاأناذا، أي الحاضر أنا، وإنما يقع جواباً؛ تم كلام السيرافي.
قال أبو العيناء: لما عزل إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة شيعوه فقالوا: عففت عن أموالنا وعن دمائنا، فقال: وعن أبنائكم، يعرض بيحيى ابن أكثر في اللواط.
قال أبو السائب المخزومي: كان جدي في الجاهلية يكتني بأبي السائب وبه اكتنبت، وكان خليطاً لرسول الله صلى الله عليه في الجاهلية، فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إذا ذكره في الإسلام قال: نعم الخليط كان أبو السائب، لا يشاري ولا يماري.
قال الزبير بن بكار: أدخل ابن جندب على المهدي في القراء، وفي القصاص، وفي الشعراء وفي الرماة، وفي المغنين، فأجازه فيهم كلهم.
لما حضرت الوليد بن عقبة الوفاة أتاه أهل الكوفة يدعون له ويثنون عليه فقال: يا أهل الكوفة، حبكم والله صلف، وبغضكم تلف؛ وإني لفي آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا في شهادتهم فأصلني نار جهنم، وإن كانوا كذبوا علي فاجعل ذلك كفارة لما تعلم من ذنوبي.
سمعت القاضي أبا حامد يقول: دخل بلال بن أبي بردة مسجد دمشق ولزم سارية، وكان يحسن صلاته وتسبيحه حتى عرف بهديه، فرآه عمر ابن عبد العزيز فهم بأن يجعل إليه من أمور المسلمين شيئاً فقال له خادم: يا أمير المؤمنين، في الأناة خير كثير، وفي العجلة ندم، فأرسلني إليه واسألني عنه أعرض عليك ضميره، فإن كان على ما تحلى به في ظاهره كنت من تقديمه وتوليته على يقين، وإن كان بخلاف ذلك كفيت نفسك الاهتمام به، والمسلمين الفتنة، فقال له عمر: خذ فيما ألهمك الله، فجاء الخادم إلى بلال بن أبي بردة وصلى بجنبه، وسلم عليه وأنسه، وأخذ في شجون الحديث يستنزله، وألقى إليه في عرض الحديث ذكر الولاية، وعرفه ما فيها من العز في الدنيا وعرض الجاه ومعونة المسلمين، فقبل ذلك بلال وهش له، فقال الخادم: فما لي إن شرعت في ذلك؟ قال بلال: عشرة آلاف درهم، فوافقه وانصرف إلى عمر وعرفه الحال وحكى الصورة، فقال عمر: لحاه الله، أتانا بدينه يطلب دنيا لا تبقى له.
قرأت بخط ابن المعتز، قال التوزي: خرجت مع أبي عبيدة من المسجد فتوكأ علي ثم قال: أنت أولى من ألقينا عبالتنا عليه.
وقال أعرابي: اللهم إني أعوذ بك من خطرات الإثم ونظرات السوء.
قال إبراهيم النخعي: إن بني أمية أدمجوا بالحلم إدماجاً.
قال علي كرم الله وجهه في خطبته بصفين: قدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وأميتوا الأصوات، والتووا في أطراف الأسنة، وادرعوا العجاج.
كان ابن سيرين إذا دعي إلى وليمة قال: يا جارية، هاتي قدحاً من سويق، قال: ألست قد دعيت؟ قال: أكره أن أجعل حدة جوعي على طعام النماس.
قال الحسن: الإنسان يهدم عمره مذ سقط من بطن أمه.
رئي بعض العلماء وهو يكتب من فتى حديثاً فقيل له: ما مثلك يكتب من هذا، فقال: أما إني أحفظ منه، لكني أردت أن أذيقه كأس الرياضة ليدعوه ذلك إلى الازدياد من العلم.
كتب أنو شروان إلى أصبهبذ خراسان: اعلم أن عدوك الأقرب الخرق، وجندك الأعظم الرفق.
؟قال ابن عباس: لم يمل إلى المغالبة إلا من أعياه سلطان الحجة.
؟كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للرجل إذا استعمله: إن العمل كير، فانظر كيف تخرج منه.
؟أركان النعيم: الصحة والأمن والغنى والشباب.
؟لرجل من بني أسد:
فإن تغمضوا فالحرب كأس مريرة ... إذا صدرت عنها الأسنة ترعف
إذا ركبوا لم يركبوها وطية ... هي الغول للأقوان حين تشوف
إذا التقت الأبطال كان سجالها ... صفائح بصرى والقنا المتقصف
ويوردها الأقوام ممن يعلها ... رواء وقرح القوم لا يتقرف
تفرق ألافا وتعتام سادة ... وتعدي الصحيح فهو أجرب أكلف.
قال ثعلب: يقال: ما له عبر وسهر، وما له بئي بطنه، مثل بعي، أي شق بطنه، وما له عرن في أنفه أي طعن. ويقال: ما له مسحه الله برصاً واستخفه رقصاً.
قال: ويقال: أخافه الله وأهانه؛ ويقال: أرانيه الله أغر محجلاً، أي مقتول محلوق الرأس مقيداً؛ ويقال: أطفأ الله ناره، أي أعمى عينيه؛ ويقال: خلع الله نعليه، أي جعله مقعداً؛ ويقال: جذه الله جذ الصليان؛ قال، ويقال: وصف الله في حاجتك، أي لطف لك فيها؛ ويقال: سقاك الله دم جوفك؛ قال ابن صاعد: إذا هريق دم الإنسان هلك؛ وقال غيره: معناه دعا عليه بأن يقتل ابنه فيضطر إلى أخذ ديته فيشرب من ألبان الإبل.
وقال ابن مهدي: تأوبك الله بالعافية وقرة العين؛ نعوذ بالله من السيل الجارف والجيش الجائح؛ يقال: نعوذ بالله من أمواج البلاء وبرائق الفتن وخيبة الرجاء.
قال المبرد: قلت لمجنون يوماً: أجز لي هذا البيت:
أرى اليوم يوماً قد تكاثف غيمه ... وإبراقه فاليوم لاشك ماطر
فقال:
وقد حجبت فيه السحائب شمسه ... كما حجبت ورد الخدود المعاجر
لابن أبي فنن:
ألا رب مكروب أجيب دعاؤه ... وذي أود قومته فتقوما
ومستسلم للحادثات منعته ... بحزمك أن يغتال أو يتهضما
أبي لك حزم الرأي إلا صرامة ... وبذلك للمعروف إلا تكرما
خلائق غر قد بسطت ببذلها ... لسان الذي يثني وإن كان أعجما
جمعت بها شمل المعالي فأصبحت ... لديك صفايا ما يحاذرن مقسما
مددنا بأيدينا إليك فراغب ... وذو همة يمسي له النجم توأما
وذو أدب لولا رجاؤك أصبحت ... بضاعته مردودة حيث يمما
قال المفجع: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: تزوج رجل من بكر بن وائل امرأة من بني دارم، فأراد نقلها إلى أهله، وكان معها بكر فجعل البكر يحن، فقالت:
ألا أيها البكر اليماني إنني ... وإياك في بكر لمغتربان
نحن وأبكي إن ذا لبلية ... وإنا على البلوى لمصطحبان
وقال: " إلا أن تغمضوا فيه " البقرة:267 " ؛ الإغماض: الاقتصار على ما دون الحق.
قال أبو حنيفة: حدثنا الرياشي عن محمد بن سلام قال: يقال: الخاطب أحلى شيء لساناً، وعلى لسان كل خاطب تمرة، وهو من الحلاوة.
قال أبو عثمان: سمعت أبا زيد يقول، الكلابيون يقولون: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " الأنفال:61. وسمعت أبا السمال يقرأ: " وحبط ما صنعوا فيها " هود:16، قال: وسمعته يقرأ: " فسوف يكون لزاماً " الفرقان " 77؛ وسمعته يقرأ: " إنكم لذائقوا العذاب الأليم " الصافات: 38؛ قال: وسمعته يقرأ: " قل الحق " الكهف: 29 - بفتح اللام - ، ويقرأ: " فحاسوا خلال الديار " الإسراء:5 قال الرياشي: ما جاء من الجمع على فعيل: كلب وكليب، وعبد وعبيد، وطس وطسيس، ويد ويدي، وأنشد:
فلن أذكر النعمان إلا بصالح ... فإن له عندي يديا وأنعما
قال: والحرمد والثأط والحمأة والخلب: الطبن؛ ويقال بيت مخلوب أي مطين.
قال التوزي: البلذم: ما تدلى من الصدر؛ قال الأصمعي: وقيل بلدامة، وهو المضطرب.
يقال: قدر لزبة أي عظيمة، وغنم خليطة إذا كانت عظاماً.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لسان المرء سيف يخطر في جوانحه.
قال وهب: الدناير والدراهم خواتيم الله في أرضه، فمن ذهب بخاتم الله قضيت حاجته.
قال معاوية: كان أبو سفيان طويل الأناة بعيد القعر، نائم الهوى يقظان الرأي.
قال عمر: أدروا للمسلمين لقحتهم، أي العطاء.
قال ابن عباس: المطر بعل الأرض.
وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله: كل صلاة ليس فيها قراءة فهي خداج.
وقال عليه السلام: خير الناس رجل ممسك بعنان طرفه، كلما سمع هيعة طار إليها.
يقال: كرش الرجل: جماعته، وعيبته: موضع سره؛ قال النبي صلى الله عليه وعلى آله: الأنصار كرشي وعيبتي.
وكان جرير بن حازم يتنقص صالح بن عبد القدوس، فقال صالح:
قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصح أم على غش يداجيني
إني لأكثر مما سمتني عجباً ... يد تشج وأخرى منك تأسوني
تغتابني عند أقوام وتمدحني ... في آخرين وكل عنك يأتيني
هذان شيئان شتى بون بينهما ... فاكفف لسانك عن شتمي وتزييني
أرضى عن المرء ما أصفى خليقته ... وليس شيء مع البغضاء يرضيني
قال: ثعلب: العرب تقول: أنا لومة وأخي عذلة، أي أنا اعذله وهو يلومني.
قال أبو العتاهية لابنه يوماً: يا بني، إنك لا تصلح لمشاهدة الملوك، قال: لم يا أبة؟ قال: لأنك بارد المشاهدة، حار النسيم، ثقيل الظل.
من أمثال العرب: رب كلمة تقول لصاحبها دعني.
قال أحمد بن حنبل: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط.
قال ابن شوذب: قدم أبو مسلم فتلقاه ابن أبي ليلى فقبل يد أبي مسلم، فقيل له: تقبل يد أبي مسلم؟ فقال: قد تلقى أبو عبيدة بن الجراح عمر ابن الخطاب فقبل يده، فقيل له: أتشبه أبا مسلم بعمر بن الخطاب؟ فقال: أفتشبهونني بأبي عبيدة؟ قال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بمنىً، فقال للأنصار: ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله تعالى بي؟ ألم تكونوا خائفين فأمنكم الله تعالى بي؟ ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله تعالى بي؟ ثم قال: ما لي أراكم لا تجيبون؟ قالوا: ما نقول؟ قال: تقولون: ألم يطردك قومك فآويناك، وكذبوك فصدقناك؟ قال: فجثوا على الركب، قالوا: أنفسنا وأموالنا لك يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " الشورى:23.
قال الضحاك: قال ابن عباس في قوله: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " نسخت بقوله تعال: " ما سألتكم من أجر فهو لكم " سبأ: 47.
ذكر السعادة في مجلس بعض الأشراف فقال أحد القوم: كفاكم أن الصدق محمود إلا منهم، وأن أصدقهم أخبثهم.
لعيسى بن أرطأة في المهدي:
الآن قر الملك في مقره ... وابتسم العباس عن مفتره
وسكنت هامة مقشعرة ... إلى بني العباس أهل سره
ومنهل طعنت في مغبره ... وقد دجا الليل بمكفهره
بناعج ينفح ثني دره ... كأنه في فره وكره
قدح أدرته يدا مدره ... إلى إمام عمنا ببره
للعقيلي أستاذ علي بن الجهم:
أرى ألفات قد كتبن على راسي ... بأقلام شيب في صحائف أنقاس
فإن تسأليني من يمل حروفها ... فكف الليالي تستمد بأنفاسي
جرى في جلود الغانيات لشيبتي ... قشعريرة من بعد لين وإيناس
وقد كنت أجري من هواهن مرة ... مجاري نعيم الماء من قضب الآس
دخل سفيان الثوري على المهدي وهو بمكة فقال له: حدثنا أبو عمران أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك؛ وقد رأيت الناس يضربون بين يديك؛ وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنفق في حجة حجها ثماني عشر ديناراً وقال: ما أحسب هذا إلا سرفاً في أموال المسلمين، وما أراك تدري كم أنفقت؛ فقال المهدي: لو كان المنصور حياً ما احتمل هذا الكلام منك، فقال سفيان: لو كان المنصور حياً ثم أخبرك لما لقي ما ستقر بك مجلسك.
قال الفضل بن سهل: الناس بين نعمة ومصيبة، وفيهما الابتلاء والمحنة، ثم لا تلبث المصيبة إذا أخذ فيها بأدب الله تعالى أن تعود نعمة قد تصرمت أيام كرهها وبقي مأمول أجرها، ولن تلبث النعمة إذا ضيع ما يجب فيهما من الحق أن تعود مصيبة تنصرم أيام بشاشتها وتطول في العاقبة حيرة أهلها.
شاعر:
فلا تنكري فيض الدموع فإنها ... معاذير عين فاتها ما تؤمل
قال الحسن: عربي مقتصد أحب إلي من مولى مجتهد.
حبوكرى وأم حبوكرى: داهية؛ قال: والحبوكرى: رملة يضل فيها سالكها ثم صارت داهية، هكذا قال ثعلب في أسماء الدواهي.
قال ثعلب: إنه لضب تلعة، ما يؤخذ مذنباً ولا يدرك حفيراً، أي لا يؤخذ بذنبه ولا يلحق لبعد خفرته.
قال ثعلب: يقال: كذب واختلق، وإنه لزلوق أي كذوب، ويقال: كذوب ممزج أي يمزج حقاً بباطل، وأنشد:
لاتقبلن قول عذوب ممزج ... أطلس وغد في دريسي منهج
قال ثعلب: يقال: لا أبقى الله لك سارحاً ولا جارحاً، أي لا أبقى الله له مالاً، والجارح: الحمار والفرس والشاء، وليست الإبل والرقيق من الجوارح، وإنما سميت الجوارح لجروح آثارها في الأرض، وليس للآخر جروح.
قال ابن عباس: لما بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله هجاء الأعشى علقمة بن علاثه نهى أحداً من أصحابه أن يروي هجاءه أو يهجوه أحد منهم، قالوا: يا رسول الله، ما السبب؟ قال: إن أبا سفيان شعث مني عند قيصر فرد عليه علقمة وكذب أبا سفيان.
قال ابن عباس: قام شاب من الأنصار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
اذكر بلائي إذ فاجاك ذو سفه ... يوم السقيفة والصديق مشغول
قال: وكان الفتى قد رد عن عمر قول سيفه من موالي الأنصار كلاماً أغلظ فيه لعمر فقال عمر رضي الله عنه: أنا ذاكر لبلائك، ثم قال بأعلى صوته: أدن مني، فدنا منه الشاب فأخذ بيده حتى استشرف الناس وقال: ألا إن هذا رد عني سفيها من قومه يوم السقيفة، ثم حمله على نجيب وزاد في عطائه وولاه صدقة قومه، وقرأ عمر: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " الرحمن: 60.
عرض رجل لسعيد بن العاص وهو أمير الكوفة فقال: أيد الله الأمير، يدي عندك بيضاء، قال: وما هي؟ قال كبت بك دابتك فيما بين الحيرة والكوفة، وقد تقدمت غلمانك، فهويت إليك فجذبت بضبعك، وهززتك مراراً، ثم سقيتك ماء، ثم دنوت من ركابك فأخذته حتى ركبت، قال: فأين كنت عني من ذاك؟ قال: حجبت عنك، قال: قد أمرنا لك بمائتي ألف درهم وما يملكه الحاجب تأديباً له إذ حجب مثلك وهذه وسيلتك؛ فإذا ما يملك الحاجب أضعاف ما أعطاه.
كاتب: عرضت عليك مودتي فأعرضت عني، وأعرض غيري عنك فتعرضت له، فالله المستعان على فوت ما أملته لديك، وبه التعزي عما أصبته منك.
قال الكسائي: سمعت أعرابية من بني أسد، وقد كانت عمرت، ونظرت إلى نساء في هوادج، ورجالهن يطردون بهن، وقد تركت العجوز وهم يريدون نجعة، فقالت: من أمسى والله في مثل حالي فقد هلك، ومن كان مثل هؤلاء فقد ملك، فقال لها رجال الحي: ما ملكن؟ قالت: ملكن والله عرانين كريمة، من قبائل شريفة، تعني أزواجهن.
قال الأصمعي، قال عيسى بن عمر: كنت بالبادية فتضيفت امرأة فدخلت الخباء فجعلت ترقق زوجها عن قرى ويريغها، فسمعتها تقول: أنا ابنة الأقيل، المعم المخول، فإن كنت تجهلني فسل؛ وسمعت الزوج يقول: أنا ابن بلال، الكريم العم والخال. ثم أتتني بقرص مثل فرسن البكر البكر فأكلته.
كاتب: قد رأيتك لحقي غامطاً، وللسانك علي باسطاً وأنشد:
إذا أنكرت أحوال الصديق ... فلست من التحير في مضيق
طريقاً كنت تسلكه زماناً ... فأسبغ فاجتنبه إلى طريق
آخر:
من يحمد الصبر وأسبابه ... فلست بالحامد للصبر
فكم ساقني الصبر من جرعة ... أمر في الطعم من الصبر
أنشد أحمد بن الطيب لأبي الخطاب الطائي:
قالوا تعشقتها سمراء قلت لهم ... لون الغوالي ولن المسك والعود
إني امرؤ ليس شأن البيض مرتفعاً ... عندي ولو خلت الدنيا من السود
آخر:
ألم تر أن المسك قدر حفينة ... بمال وأن الملح حمل بدرهم
قال أبو يوسف القاضي لابن نهيك: ما تقول في السواد؟ قال: النور في السواد، يعني: نور العين في سوادها.
نظر ابن أبي عتيق إلى جارية سوداء حالكة فقال: لو اقتسمتها الغواني خيلاناً لحظين بها.
شاعر يهجو فتى من بني هاشم:
أما أبو فهو من هاشم ... وأمه ذات حر عبل
مقرفة حصنها منجب ... فضاع فيها كرم الفحل
أنشد أحمد بن الطيب:
وما الناس إلا خادع ومخدع ... وصاحب إسهاب وآخر كاذب
كان أبو بكر الأصم وهشام بن الحكم صاحب الإمامية والتشبيه يقولان في المسخ بالقلب ويقولان: جائز أن يقلب الله خردلة في عظم جبل من غير أن يزيد فيها جسماً أو عرضاً، أو ينقص منها جسماً أو عرضاً، والأجسام هي الأشياء ذات الطول والعرض والعمق، والأعراض صفاتها التي لا توجد إلا فيها ولو فارقتها لم تقم بأنفسها.
قال أحمد بن الطيب: وأما أنا فأقول: إن الله يمتحن بما شاء من شاء، كيف شاء، ومتى شاء، أين شاء، وليس لنا أن نقترح في شيء من محنة الزمان ولا المكان، ولا الممتحن، ولا صورة الممتحن، لأنه العالم بمصالحنا، القادر على تصريف أحوالنا، الذي يرفع بعضنا فوق بعض ليتخذ بعضنا بعضاً سخرياً، فالممتحن بالعلم والتمكن غير الممتحن بالنقص والتوهين، وليس لأحد على الله حجة، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وقال أبو العيناء، قال الأصمعي: دخل ابن سعية اليهودي على معاوية فأنشده:
ولكنما دهري رواق تحفه ... ثمانون ألفا من كمي ومعلم
يقودون قود الخيل أوتارها القنا ... إذا استمطروا جادت سماؤك بالدم
سأطلب مجداً ما حييت وسؤدداً ... بماء شبابي أو يولون مأتمي
فقال معاوية: لمن هذا؟ قال لأبي، فقال: نحن أحق بهذا من أبيك.
قال أحمد بن الطيب: قال صاحب كتاب الأخلاق في الحيلة لتقبيح الغضب عند سريع الغضب: إن الغضبان خارج الصورة عن الاعتدال أما تراه جاحظ العينين، بادي العروق، دار الأوداج، مضطرب الأوصال، مشوه البنية، مختلف الحركة، مكدود النفس، حار المزاج، مضطرم الحرارة، مدخول الروية، عامر الفكرة، ظاهر العجز، جاهلاً بقدر الحق.
قال أحمد: وإن قال آخر في مقابلة القول في وصف المغضب وتحسين الغضب عنده: أما ترى هذه الحمية، أم ترى حسن الوفاء، أما ترى الليث العادي، كذا والله يحمي الذمار، ويأنف الأحرار، ولهذا قيل، النار ولا العار، هذه والله عين النائم إذا استيقظت الغطارفة الذادة، عين الساكن إذا تحركت القادة، هذا والله كما قال جرير: لا أبتدي ولكن أعتدي وكما قال ابن أم كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وكما قال الجعدي:
ولا خير في حلم إذا مل تكن له ... بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
قال عبد الله بن صفوان: ما يسرني بملابسة الأمور حمر النعم، قيل له: ولم ذاك؟ قال: لأن الأمر إذا غشيك فشخصت له تركك، وإذا تطأطأت له تخطاك.
وقال قيصر لقس: ما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة الإنسان بقدره، قال: فما أكمل العقل؟ قال: وقوف الإنسان عند حلمه، قال: فما أوفر الحلم؟ قال: حلم الإنسان عند استماع شتمه، قال: فما أصوت المروءة. قال: استبقاء الإنسان ماء وجهه، قال: فما أكل المال؟ قال: ما أعطي الحق منه، قال: فما أحسن السخاء؟ قال: البذل قبل المسألة، قال: فما أنفع الأشياء؟ قال: تقوى الله وإخلاص العمل له، قال: فأي الملوك خيراً؟ قال: أقربهم من الحلم عند المقدرة، وأبعدهم من الجهل عند الغضب، ومن يرى أنه لايضبط ملكه إلا بالعدل بين رعيته.
قال بعض الحكماء: أفضل الحكماء من وهب له علم بلا وعي فاختار الصمت على الكلام إلا في موضعه.
وروى أن قساً دخل على هرقل ملك الروم أيضاً فقال: له أخبرني عما بلوت من الزمان وتصرفه، واختبرت من أخلاق أهله؟ قال: قد صحبنا الزمان فوجدناه صاحباً خواناً، ووجدنا الأنساب ليس بالآباء والأمهات ولكنها الأخلاق المحمودة، وفي ذلك أقول:
لقد حلبت الزمان أشطره ... ثم شربت الصريح من حلبي
فلم أر الفضل والتشرف في ... قول الفتى إنني من العرب
حتى ترى سامياً إلى خلق ... يزيد محموده على الحسب
ما ينفع المرء في فهاهته ... من عقل جد مضى وعقل أب
ما المرء إلا ابن نفسه فبها ... يعرف عند التحصيل في النسب
حتى إذا الدهر غال مهجته ... الفيته تربة من الترب
قال أحمد: وقد قال قس هذا، وأنا لا أقول كما قال، بل أقول إذا كان الفتى في بيت شرف ولم يكن له في نفسه فضيلة، كان شرفه زائداً في نقصه، وإذا كان الفتى في بيت نقص وكانت له فضيلة في نفسه، كان نقص أبيه زائداً في شرفه، ولكن التام الكامل، والشريف الراجح، والأديب الشريف، كما قال الأول: وابن السري إذا سرى أسراهما ومذهب قس العامري الذي يقول:
إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المتلاف في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسموا بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
وقال آخر:
وما الحسب الموروث لا در دره ... بمرتفع إلا بآخر مكتسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب
وللمجد قوم ساوروه بأنفس ... كرام ولم يعلوا بأم ولا بأب
دعا أعرابي على آهر فقال:لا رشد قائده، ولا سعد رائده، ولا أورى قادحه، ولا أذكى رائحة، ولا أصاب غيثاً، ولا وافق إلا ليثاً.
بعض الكلام ينسب إلى علي رضي الله عنه، وهو بالمنسوب إليه أشبه.
قال أعرابي: جهل يكفي خير من أدب يحوج، ونقص يمثر خير من علم يخدع.
قال أعرابي: من غره السراب، تقطعت به الأسباب.
وقال أعرابي: لكل قضاء جالب، ولكل در حالب.
وقال أعرابي: عداوة ذي القرابة، كالنار في الغابة.
وقال أعرابي: لكل كلام وعاء، ولكل بذر مزرع.
وقال أعرابي: أي امرىء باشرته فلم ينتصح، وغلق سنيته فلم ينفتح.
وقال أعرابي: رب منع أكرم من عطاء، وشوك أمهد من وطاء.
وقال أعرابي: ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يؤوب.
وقال أعرابي: إذا أوقدوا أشبوا، وإذا اصطنعوا أربوا.
وقال أعرابي: رحم الله فلاناً، كان يهتدي برأيه الصحب، ويستدل بناره الركب.
قال أحمد بن الطيب: وأنا أستحسن قول القائل: إن العزيز يزداد بالعفو عزاً، والذليل يزداد بالعفو ذلاً؛ وهذا شبيه بما يقوله جالينوس في طلاب الأدب وهو قوله: إن ابن الوضيع إذا كان أديباً كان نقص أبيه زائداً في فضله، وابن الشريف إذا كان غير أديب فشرف أبيه زائد في نقصه. والعلة في صحة هذا القول واضحة بينة، وذلك أن الشرف في الآباء دال على مكان الأبناء، فإذا دل الشرف على ناقص في نفسه كان الشرف سبباً لوقوف الناس على عيوبه.
وفي الباب الآخر أن الناس فيما أتى من غير معدنه في غير منبته أشد كلفاً، ومنه أشد تعجباً، إذ كانت الأسباب دونه منقطعة، وحباله من الفضل منفصمة، فليس يخلص ابن الناقص إلى الزيادة والتقديم بنفسه إلا بنفس قوية، وهمه بعيدة، وعناية شريفة، فلذلك شهد الناس بالتقديم لشريف لو كان أديباً، لأن الممكن أهون مطلباً من المتعذر، والسهل أسهل مراماً من الوعر، فتكلف الصعب صعب، وتكلف الصعب في طلب الجميل أفضل أمراً ممن أتاه الفضل عفواً، إلا السعيد الفاضل والمقدم الكامل الشريف الأديب.
للنظام:
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان كاسفة ... لا ذل ضعف ولكن ذل أحلام
وإن دعا الجار لبوا عند دعوته ... في النائبات بإسراج وإلجام
مستلئمين لهم عند الوغى زجل ... كأن أسيافهم أغرين بالهام
قال أعرابي: لايزال الوجه كريماً ما بقي حياؤه، والغصن نضيراً ما بقي لحاؤه.
قال أعرابي: الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء.
قال أعرابي: رونق صفحة الوجه عند الحياء، كفرند صفحة السيف عند الجلاء.
قال أعربي: ما المتبختر في وشي ردائه، بأحسن من المتقارب في قيد حيائه.
قال أعرابي: اشحذ بالعدل على الطاعة قلوب الأوداء، كما ترهف السيف لمقارعة الأعداء.
أنشد أحمد بن الطيب:
ولا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم
ولا تفحش وإن ملئت غيظاً ... على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاك لأجل ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم
وما قتل السفاهة مثل حلم ... يعود به على الجهل الحليم
إذا استودعت سراً فاكتمنه ... فخير زوامل السر الكتوم
قال أعرابي: فوت المعروف أيسر من مراس التسويف.
سمع أعرابي كلاماً فقال: هذا كلام لم يغتصب تعسفاً، ولم يقتضب تكلفاً.
قال أعرابي: الاستطالة عند النعمة طبع، وعند النكبة ضرع.
قال أعرابي: أنا أستغني بحفي لحظك عن جفي لفظك.
ذكر القدر في مجلس عمر بن عبد العزيز فقال من حضرة: فأعلمنا رأيك فيه، فقال: كما أن بوادي الخير من الله، فكذلك بوادي الشر منه، وقد سبق به علمه.
قدم البصرة أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد منهزماً من أبي فديك الحروري، فهاب وجوه أهلها تلقيه وقالوا: ما عسى أن نقول: الحمد لله الذي هزمك، أو الحمد لله الذي نجاك؟ ثم بلغهم أن خالد بن صفوان خرج يتلقاه، فخرجوا إليه ليشهدوا فضيحته، بزعمهم، وقالوا: ما تراه يقول له؟ فلما طلع قال له خالد: بارك الله لك أيها الأمير في مقدمك، والحمد لله الذي نظر لنا عليك، ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك بخذلان من معك لك، فعلم الله فاقتنا إليك. فرجعوا وهم يقولون: لا يعييه كلام بعد هذا.
قال أعرابي: هو كالسيف إن مسست متنه كنت راضياً، وإن لمست حده كان ماضياً.
قال أعرابي: لكل توبة غرس، ولكل بناء أس، وعند كل مأتم عرس.
قال أعرابي لصاحب له: استظهر على الدهر بخفة الظهر.
قال أعرابي: زلة الجبان في التقصير، وزلة الشجاع في التغرير، وزلة البخيل في التقتير، وزلة السخي في التبذير.
قال أعرابي: هجين عاقل خير من هجان جاهل.
قال أعرابي: لا تبذل رفدك لمن لا يعرف حقك.
قال أعرابي: رب نطق صدع جمعاً، وسكوت شعب صدعاً.
قال أعرابي: رب حافظ مضيع.
قال أعرابي: هذا غنىً إلا أنه منىً وقال آخر: هذا غناء لولا أنه فناء، وعلاء لولا أنه بلاء، وبقاء لولا أنه شقاء.
قال أعرابي في كلام له: رملة حضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها.
قال أعرابي لصاحب له: قطعت أوصالي إذ صرمت وصالي.
وقال آخر: الجهل أخصب رحلاً، والأدب أكثر محلاً.
وقال آخر: ثوب السفيه قمل، وقلب الجاهل نغل.
وقال آخر: الدنيا منزل نقلة، ومحل مثلة.
وقال آخر: أما فلان فركوب للأهوال، وأما فلان فألوف للظلال.
لدعبل الخزاعي:
إذا غزونا فمغزانا بأنقرة ... وأهل سلمى بسيف البحر من جرت
هيهات هيهات بين المنزلين لقد ... أنضيت شوقي وقد أبعدت ملتفتي
جلت محلا بقطر الأرض منتبذاً ... تقصر الريح عنه كلما جرت
فما ينال بها الهيمان مورده ... إلا بنص وجذب العيس بالبرة
أحببت أهلي ولم أظلم بحبهم ... قالوا تعصبت جهلاً، قول ذي بهت
أحمي حماهم وأرمي في معارضهم ... وأستقلهم إذا ما رجلهم هوت
لهم لساني بتقريظي وممتدحي ... نعم، وقلبي وما تحويه مقدرتي
دعني أصل رحمي إن كنت قاطعها ... لابد للرحم الدنيا من الصلة
لولا العشائر ما رجيت عارفة ... ولا لحقت على الأيام من ترة
فاحفظ عشيرتك الأذنين إن لهم ... حقا يفرق بين الزوج والمرة
قومي بنو حمير والأسد أسرتهم ... وآل كندة والأحياء من علة
ثبت الحلوم فإن سلت حفائظهم ... سلو السيوف فأردوا كل ذي عنت
هم أثبت الناس أقداماً إذا بغتوا ... وقل ما تثبت الأقدام في البغت
كم نفسوا كرب مكروب وكم صبروا ... على الشدائد من لأواء فانجلت
كم عين ذي حول فقأت ناظرها ... وكم قطعت لأهل الغل من حمة
كم من عدو تحاماني وقد نشبت ... فيه المخالب يعدو عدو منفلت
لو عاش كبشا تميم ثمت استمعا ... شعري لماتا ومات الوغد ذو الرمة
وصار بالعدوة القصوى يؤرقه ... خوفي فبات وجاش القلب لم يبت
تقدمته بنات القلب طائرة ... خوفاً لضغم أبي شبلين منهرت
كالليث لو أزم الليث الهصور به ... ما غض طرفاً ولم يجزع ولم يصت
نفسي تنافسني في كل مكرمة ... إلى المعالي ولو خالفتها أبت
كم قد وطئت على أحشاء متعبة ... للنفس كانت طريق اللين والدعة
وكم زحمت طريق الموت معترضاً ... بالسيف صلتا فأداني إلى السعة
والجود يعلم أني منذ عاهدني ... ما خنته وقت ميسوري ومعسرتي
والضيف يعلم أني حين يطرقني ... ماضي الجنان على كفي ومقدرتي
أهوى هواه ويهوى ما أسر به ... ينال ما يشتهي والنفس ما اشتهت
ما يرحل الضيف عني غب ليلته ... إلا بزاد وتشييع ومعذرة
قال العواذل أودى المال قلت لهم ... ما بين أجر ألقاه ومحمدة
أفسدت مالك، قلت المال يفسدني ... إذا بخلت به والجود مصلحتي
أرزاق ربي لأقوام يقدرها ... من حيث شاء فيجريهن في هبتي
فليشكروا الله ما شكري بزائدهم ... وليحمدوه فإن الحمد ذو مقة
لا تعرضن بمزح لامرء سفه ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... مشبوبة لم ترد إنماءها نمت
رد السلى مستتماً بعد قطعته ... كرد قافية من بعدما مضت
إني إذا قلت بيتاً مات قائلة ... ومن يقال له والبيت لم يمت
قال بعض شيوخ الطب: الطب ينقسم قسمين وهما: العلم، والعمل؛ قال: والعلم ثلاثة: علم الطبائع، وعلم الأسباب، وعلم العلامات.
وعلم الطبائع سبعة أقسام: على الأسطقسات، وعلم المزاج، وعلم الأخلاط، وعلم الأعضاء، وعلم القوى، وعلم الأفعال، وعلم الأرواح.
قال: والأسباب ثلاثة: البادية والسابقة والواصلة.
والعلامات ثلاث: الحاضرة والسالفة والآتية.
والاسطقسات أربعة: النار والهواء والماء والأرض؛ قال: والنار حارة يابسة، والهواء حار رطب، والماء بارد رطب، والأرض باردة يابسة.
والمزاج تسعة: واحد معتدل وثمانية غير معتدلة، وهذه الثمانية أربعة مفردة، وهي الحار والبارد والرطب واليابس، وأربعة مركبة وهي: الحار اليابس، والحار الرطب، والبارد اليابس، والبارد الرطب.
والأخلاط أربعة: الدم والمرة الصفراء، والسوداء والبلغم؛ فالدم حار رطب، والمرة الصفراء حارة يابسة، والبلغم بارد رطب، والمرة السوداء باردة يابسة.
والأعضاء قسمان: بسيط ومركب؛ فالبسيط كالعظم والعصب والعروق، والمركب كالرأس واليدين والرجلين. ومن الأعضاء أعضاء رئيسة، وأعضاء مرؤوسة، وأعضاء ليست برئيسة ولا مرؤوسة؛ فالرئيسة أربعة: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان؛ والمرؤوسة ما يخدم هذه الرئيسة، وذلك أن الدماغ يخدمه العصب، والقلب يخدمه الشرايين، والكبد يخدمه العروق، والانثيان يخدمهما أوعية المني؛ وما ليس برئيس ولا خادم كالعظام والغضاريف والشحم واللحم والأعضاء التي لها قوى رئيسة كالمعدة والكلى.
والقوى ثلاث: طبيعية ومسكنها الكبد، والقوى الطبيعية سبع: القوة الجاذبة، والقوة الممسكة، والقوة الهاضمة، والقوة المغيرة، والقوة الدافعة، والقوة المولدة، والقوة الغاذية؛ والقوى النفسانية ثلاث: القوة المحسنة، والقوة المدبرة، والقوة المحركة. فأما القوى المحسنة فهي الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والمذاق واللمس؛ والقوى المدبرة ثلاث: الفكر، والوهم، والحفظ؛ والوهم في مقدم الدماغ، والفكر في وسطه، والحفظ في آخره؛ والقوة المحركة واحدة، وهي التي تكون عنها الحركة الإرادية، والانتقال من مكان إلى مكان.
والأفعال صنفان: أحدهما بسيط والآخر مركب؛ فالبسيط ما يكون من قوة واحدة كالجذب والإمساك؛ والمركب ما يكون بقوتين كالشهوة، فإنها تتم بقوتين: إحداهما جاذبة، والأخرى ممسكة، وكنفوذ الغذاء فإنه يتم بالقوة الجاذبة والدافعة.
والأرواح ثلاث: الروح الطبيعية التي تكون في الكبد، وتنفذ القوة الطبيعية مع الغذاء في العروق إلى جميع الأعضاء؛ والثانية :الروح النفسانية التي تكون في الدماغ؛ والثالثة من الأرواح وأهمها التي تنفذ الحس والحركة في العصب إلى جميع الأعضاء.
فهذه أقسام الجزء الأول من قسمي الطب وهو العلم، وسيأتي على أثره بعد قسم العمل كلام رائق، وحكمة معشوقة، ولفظ مطرب، وبلاغة شريفة. وقد يقول العائب: أطلت هذا الفصل في الطب حتى كأن الكتاب نصب لهذا الغرض، أو أريد به هذا الباب؛ واعلم أن الأمر ليس كذلك، ولكن عن هذا الفصل ودل على حسن ونفع، فوجب في الرأي أن يصحب جميع الغرر التي تقدمته ليكون الكتاب آخذاً من كل أدب بنصيب.
سمعت الأنصاري يقول: إن الله تعالى جعل على كل كلمة حكمة، وعلى كل قول دليلاً وحجة، ومع كل دعوى برهاناً وبينة، وعند كل شبهة وقفة ومهلة، وفي كل نازلة نصاً أو علة، ولم يسقط شيئاً عن مرتبة البيان، كما لم يرفع أحداً مرتبة التبيين، فمن أحب أن يظفر بالحق فليطمع نفسه فيه، مع التجرد في الطلب، والتحقق بالغرض، ومفارقة العادة وما عليه المنشأ، ولا يأنس بتقليد العالم حتى يتبين كما يتبين العالم، ولا يستوحش من وحدته إذا عرف المطلوب من نفسه بكمال عقله مع وضوح حجته.
ويقال: ما الأسودان، والأبيضان، والأسوءان، والأعجمان، والأذفران، والأربدان، والأنقصان، والأشهران، والأبخلان، والأكذبان، والأدفعان، والأوحيان، والأوقفان، والأعوران، والأنكدان، والأعذبان، والأقطعان، والأمنعان، والأقويان، والأنفسان، والأعليان، والأشبهان، والأشرفان، والأغرران، والأشنبان، والأهينان؟ وسيمر بك تفسير هذه المثاني مستقصى بعد أوراق يسيرة.
قال يحيى بن نصر: سمعت أبا حنيفة يقول: احتجت إلى ماء في البادية فجاء أعرابي ومعه قربة ماء ملأى فقلت: بكم تبيع؟ فقال: بخمسة، فما كسته فأبى النقصان، فدفعت الثمن إليه قم قلت: يا أعرابي هل لك في سويق طيب؟ قال: إي ورب الكعبة، فقدمته إليه في حفنة، فلما استوفى منه قال: اسقني شربة، قلت: والله لا شربتها إلا بخمسة، فما زال كذلك حتى اشترى مني شربة بخمسة، ففضل الماء عندي، وعادت الدراهم.
كان أبو سيف القاضي راكباً وغلامه يعدو وراءه، فقال له رجل: أتستحيل أن تعدي غلامك؟ لم لا تركبه؟ قال: أيجوز عندك أن أسلم غلامي مكارياً؟ قال: نعم، قال: فيعدو معي كما يعدو مع الحمار لو كان مكارياً.
قيل لربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما رأس الزهادة؟ قال: جمع الأشياء من حلها ووضعها في مواضعها.
قال الأصمعي: دخلت البادية فرأيت أعرابية من أحسن الناس وجهاً تحت أقبح الناس وجهاً فقلت: يا هذه، أترضين أن تكوني تحت هذا؟ قالت: يا هذا، لبئس ما قلت، لعله أحسن فيما بينه وبين الله ربه فجعلني ثوابه، وأسأت فيما بيني وبين ربي فجعله عقوبتي، أفلا أرضى بما رضي الله تعالى لي؟ قال: فأسكتتني والله.
قال أبو حنيفة: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله شيء أخذناه، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.
قال أبو معاذ: أهل الكوفة صاروا موالي لأبي حنيفة لأن الضحاك الحروري دخل الكوفة عنوة فجلس في الجامع فحكم بقتل الرجال وسبي الذراري، فخرج أبو حنيفة إليه بقميص ورداء فقال: أريد أن أكلمك بكلمة، قال: هات، قال: لأي شيء استحللت دخول هذه البلدة وترويع النساء والصبيان؟ قال: لأن القوم مرتدون، فقال أبو حنيفة: لم يزل كان هذا دينهم، أو كانوا على غير هذا؟ فقال: كيف قلت؟ أعد علي، فأعاد، فقال الضحاك: أخطأنا، أخطأنا، أغمدوا سيوفكم وارجعوا.
قال خارجة بن مصعب: دعا أبو جعفر أبا حنيفة إلى القضاء فأبى فحبسه، ثم دعا به فقال له: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، لا أصلح للقضاء، فقال: كذبت، فقال أبو حنيفة: قد حكم علي أمير المؤمنين بأني لا أصلح لأنه نسبني إلى الكذب، فإن كنت كاذباً فإني لا أصلح، وإن كنتُ صادقاً فقد قلت: إني لا أصلح، فرده إلى الحبس.
قال أبو يحيى الحماني: رأيت نجماً سقط فقيل: هذا أبو حنيفة، ثم سقط آخر فقيل: هذا سفيان، ثم سقط آخر فقيل: هذا مسعر، فمات أبو حنيفة ثم سفيان ثم مسعر.
قال عبد الله بن داود: كتب رجل كتاباً على لسان أبي حنيفة إلى والي جرجان فوصله بأربعة آلاف درهم، فقيل لأبي حنيفة فقال: إن كان ذاك مما ينفعكم فافعلوا.
كان أبو حنيفة يقول: ما صليت صلاة إلا وأنا أستغفر الله من تركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان أبو حنيفة يقول: ابن أبي ليلى استحل مني ما لا أستحل من سنور.
أسلم أبو حنيفة ابنه حماداً إلى المعلم فعلمه الحمد فوصله بخمسمائة درهم، فقال المعلم: إن هذا عظيم، فقال أبو حنيفة: يا هذا، ليس للقرآن عندك قدر؟! قال يزيد بن هارون: أدركت الناس فما رأيت أفضل ولا أعقل ولا أورع من أبي حنيفة.
قال محمد بن الحسن: قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية: " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " القمر: 46.
قال فيلسوف للإسكندر: أيها الملك، إني مررت بمصور فقلت: إنك قد أكثرت حلي هذه الجارية، فقال: نعم لم يمكني أن أجعلها حسنة فجعلتها غنية.
قال فيلسوف: الجمال الظاهر الحسن يقدر المصور أن يحكيه بالأصباغ، فأما الجمال الذي للأنفس فلا يمكن، لأنه للإنسان بالطبع.
قال الحسن بن وهب في مجلسه: لو ساعدنا الزمان لجاءت بنات - كذا كان اسمها، جمع بنت، وكانت جارية كاتب راشد - فما تكلم حتى دخلت فقال: ما أحسن ما قال في هذا ابن أبي أمية:
وفاجأتني والطرف نحوك شاخص ... وذكرك ما بين اللسان إلى القلب
فيا فرحة جاءت على إثر ترحة ... ويا غفلتي عنها وقد نزلت قربي
هذه رسالة أفادنيها أبو سليمان وزعم أنها لأرسطاطاليسن وقرأها بعض مشايخ الفلسفة فقال: هي من كلام بعض الملوك، ولا أقف منها على أكثر مما حكيت، ولولا جلالتها في نفسها ما سقتها ها هنا، قال:
أما بعد، فإن حقاً على المرء أن ينظر إلى محاسن الناس ومساوئهم، وموقعها منهم في منافعها ومضارها، فيلتمس المنافع لنفسه من مثل ما نفعهم، وينفي المضار عنها من مثل ما ضرهم، فيوظف للأمور وظائفها ويجعل بين طبقاتها حدوداً يزايل بينها، ثم يأخذ نفسه بتأديبها في إحياء علم ما يعلم من الأمور بالعمل، واستجلاب علم ما جهل منها بالتعليم، ثم لا يكون تأديبه لنفسه في غير وقت واحد ولا معلوم، فإنه واجد في كل حين من أحايين الدهر، وطبقة من طبقاته التي هو راكبها في كل حال من حالات نفسه التي تتحرك من ضروب النصب واللهو موضع تأديب وتقويم لها حتى لا يكون لأهل طبقة من الطبقات، رفيعة كانت أو وضيعة، عليه في طبقته التي يشاركهن فيها فضل، فإن امرءاً لا يلتمس أن يكون له فضل على طبقة من الطبقات إلا دعاه فضله عليهم إلى الرغبة عنهم حتى يترقى في منزلته إلى مشاركة أهل المنزلة التي فوق منزلته، كأن طلب الراحة يذهب بالراحة ويورث النصب، وترك التأديب ضرر، وذو الضرر نصب عليل فقير، فمنهاج التأديب تيقظ المرء لطلب الأدب، ثم لا يمنعك عصيان النفس من إدامة تيقظها، فإن الحاجة إليها مع حبها للراحة سيحملها على طلب الراحة ببعض الطاعة، فإذا همت النفس ببعض الإجابة كان أول ما تؤخذ به إعطاء الدين حقه وإشعار النفس حظها، ثم الاستكثار من فوائد الإخوان، فإن كثرتهم تقيل العثرة، وتنشر المحمدة، وتعهد الإخوان بالملاطفة، فإن التارك متروك، ثم تعهد إخوان الإخوان، فإن إخوان الإخوان من الإخوان بمنزلة العلم المستدل به على الوفاء، ثم تعهد أهل المكاثرة المشبهين بالإخوان بالصبر عليهم، إما طمعا في تحويل ذلك عنهم صدقاً، وإما اتقاء كلمة فاجرة أتت من لفظ مائق، ثم تعهد الضعفاء على المسكنة وأهل الزمانة عند الضعف، والعقب عند الموت، ثم حسن التعاطي إن كان لك فضل بإسقاط المنة وإحراز الفضل، والسخط على نفسك في التقصير، ثم تعهد الملوك بالتقريظ والملازمة، فإن همتها في أنفسها الامتداح، وفي الناس الاستعباد، ثم تعهد النصحاء بالخلوة، فإن نصيبهم منك واستفادتك منهم في الخلوة، ثم تعهد الصلحاء بالمصافاة لتعرف بالخير وتتسم به، ثم تعهد الأكفاء بالمكارم فإنها تحسن العمل وتثمر الإخاء، ثم تعهد الحامد بتفتيش الدخلة، ثم تعهد ضعفاء ذوي الرحم بالرحمة وأقويائهم بالتعليم، ثم تعهد الأعداء ذوي التنصل بالمغفرة، وذوي الاعتراف بالرأفة والرحمة، ثم تعهد الحساد بالمغايظة، وأهل البغي بالعزيمة، وأهل المشاتمة بالمحقرة، وأهل المواثبة بالوقار في الأمر في الشبهات بالكف، والمجهولات بالإرجاء، والواضحات بالعزيمة، والمستترات بالبحث، ثم إحياء العذر عند المداهنة، والتجميل عند الغيظ، والكظم عند الغضب، والوقار عند المستجهلات، ثم تعهد الجار بالرفق، والقرين بالمواساة، والصاحب بالمطاوعة، والزائر بالتحفة، ثم صحبة الملوك بكتمان السر، وتقريظ الأفعال، ثم قس بين خيار إخوانك وشرارهم، ثم انظر أي الفريقين تستجمع لك به مودتهم، فإن تشبهك بخيارهم يزيدك عند شرارهم نفاقاً، والسلام.
قال أعرابي في وصف قوم: ألحاظهم سهام، وألفاظهم سمام.
قال أعرابي: لاتنظر إلى صغر جرمه، وانظر إلى عظيم جرمه.
وقال آخر: قد يكدي الجاد ويكل الحاد قال أعرابي في وصف كلام: قد رعى الشيح، واستنشق تلك الريح.
قال أعرابي: من شاخ باخ.
قال أعرابي: علم الكلام في وجهه يلوح، ونشر الجود من ثوبه يفوح، والمجد يغدو معه ويروح.
وقال أعرابي: من كره النطاح، لم ينل النجاح.
آخر: الصبر مر، لا يتجرعه إلا حر.
قال ثعلب في المجالسات: أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر رضي الله عنه، فغاظه ذلك فقال: حسبكم من ذكر عمر فإنه إزراء بالولاة، ومفسدة للرعية.
قال ثعلب، قال ابن عائشة: قال قنيع النصري يهجو موسى ابن عمرو بن سعيد بن العاص:
كل بني العاصي حمدت عطاءهم ... وإني لموسى في العطاء للائم
وليس بمعط نائلاً وهو قاعد ... وحسبك من بخل امرئ وهو قائم
فإن يك من قوم كرام فإنه ... ذنابى أبت أن تستوي والقوادم
قال ثعلب، قال السدي: أتيت كربلاء أبيع البز بها، فعمل لنا شيخ من طيء طعاماً فتعشينا عنده، فذكرنا قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقلنا: ما شرك أحد في قتله إلا مات بأسوأ ميتة، فقال: ما أكذبكم يا أهل العراق قال أنا ممن شرك في ذلك، فلم يبرح حتى دنا من المصباح وهو يتقد بفنط، فذهب ليخرج الفتيلة فأخذت النار في لحيته، فعدا وألقى نفسه في الماء، فرايته كالحممة من ساعته، لا رحمه الله.
قال ثعلب: فلج الرجل على خصمه يفلج فلجاً وفلوجاً.
قال ثعلب: نزلت بسحسحه، وعقوته، وعرصته، وعذرته، وعقاته، وعقاره، وعراقه وعيقته، وعراته، وعراه، وعرقانه، وحراه، ليس فيها شيء مهموز الألف.
قال ثعلب: سمع هشام بن عبد الملك زيد بن علي يقول: ما أحب أحد الحياة إلا ذل، قال: فخامة منذ سمع ذلك منه.
كان الحسين بن زيد يلقب ذا الدمعة وذلك لكثرة بكائه، فقيل له في ذلك فقال: وهل تركت النار والسهمان لي مضحكاً؟ يريد السهمين اللذين أصابا زيد بن علي ويحيى بن زيد بخراسان.
قال ثعلب: هو يتحوف مالي، أي يأخذ من أطرافه.
ويقال: ما في السماء طخاء وطحاء: هو الرقيق من الغيم.
قال أبو عبيدة: مخسول: مرذول؛ ويقال: حبج إذا ضرط؛ ويقال: احتمس الديكان واحتمشا إذا اقتتلا؛ ويقال: حمس الشر وحمش إذا اشتد؛ ويقال: جاحس في القتال وجاحش.
عن الأصمعي: وتنسمت منه علماً وتنشمت أي أخذت وأتيته بسدفة من الليل وشدفة، وهو السدف والشدف.
ويقال: رجل غديان وعشيان وصبحان وقيلان وغبقان، من الصبوح والقيل والغبوق.
قال ثعلب: قال معاوية لعتبة يوم الحكمين: يا أخي، أما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه، ولو قدر أن يتكلم بهما فعل؟ وغفلة أصحابه مجبورة بيقظته، وهو رجلهم، وهي ساعتنا الطولى، فاكفنيه؛ قال: قلت: بجهدي؛ قال: فقعدت بجنبه، فلما أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه بالحديث، فقرع يدي وقال: ليست ساعة حديث، فأظهرت غضباً وقلت: يا ابن عباس، إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا، وقد والله تقدم فيك العذر، وكثير من الصبر، قم أوزعته؛ فجاش به مرجله حتى ارتفعت أصواتنا، فأخذوا بأيدينا فنحوني عنه ونحوه عني؛ قال: فأتيت عمرو بن العاص فرماني بمؤخر عينه، أي ما صنعت؟ فقلت: كفيتك التقوالة، فحمحم كما تحمحم الفرس للشعير، وفات ابن عباس أول الكلام فكره أن يتكلم به في آخره.
قال ثعلب: مر رجل بأعرابية بالمناخ بالكوفة تمرض أخاً لها في شدة أصابتهم، ثم راح بالعشي فسأل عنه فقيل: دفناه، وإذا هي تأكل سويقاً معها قد خلطته باللبن، فقال لها الرجل: ما أسرع ما نسيت أخاك وأكلت، فقالت:
على كل حال يأكل المرء زاده ... على البؤس والضراء والحدثان
أنشد ثعلب:
ألا ذهب الشهاب المستنير ... ومدرهنا الكمي إذا نغير
ووهاب المئين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنق الصبور
ذهب إلى أن الحدثان والحوادث واحد.
قال: الحمولة: الإبل الكبار، والفرش: الصغار؛ وسمعت أبا حامد يقول: عيب على أبي علي الجبائي في كتابه في التفسير حين ذهب في الفرش إلى ما يفرش؛ وسمعت بعد من يقول: الكسائي قال ذلك، والناس على أن الفرش الصغار من الإبل.
قال ثعلب: قالت امرأة في ابنها:
ظني به له لو قد جثوا على الركب ... وابتدروا الحرب بحد وغضب
أن سوف يلفى إربة من الإرب الإربة: الداهية.
قال ثعلب: وقالت أخرى في ابنها:
لو ظمئ القوم فقالوا من فتى ... يحلف لا يردعه خوف الردى
فبعثوا سعداً إلى الماء سدى ... في ليلة بيانها مثل العمى
بغير دلو ورشاء لأستقى ... أمرد يهدي رأيه رأي اللحى
وقال ثعلب: الخبيئة ما خبأته، والبينة ما جعلته بين يديك وقال في قوله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب " النحل: 116، رده على الألسنة والكذب رد على ما قاله.
للحارث بن خالد:
لعمري لئن لم يجمع الله بيننا ... بما شاء لا نزداد إلا تماديا
أعد الليالي مذ نأيت ولم أكن ... بما نلت من عيشي أعد اللياليا
أخاف انقطاع العيش دون لقائكم ... بأرض ولو منيت نفسي الأمانيا
إذا ما بكى ذو الشجو أصغيت نحوه ... وآسيته بالشجو ما دام باكيا
قال أعرابي وقد سئل عن رجل فقال: إن ملك عسف، وإن أنفق أسف، وإن حدث جزف، وإن صافيته تكبر، وإن أظهرت له النصح أنكر، النظر إليه غيظ، والصبر عليه غصة، والفكر فيه حيرة، والقرب منه معرة.
قال العتبي: خرج النعمان بن المنذر متنزهاً إلى بادية له، فدعا بطعامه، فأقبل أعرابي يمشي مشي النعامة حتى قعد على السفرة، فجعل يلف العظم باللحم والقوم ينظرون إليه، فقال: لا ينظر إلينا من يشبع، فإن الجائع كالجشع، فقال: النعمان: ما اسمك؟ قال: أبيت اللعن، نعامة، قال: وأي اسم نعامة؟ قال: أبيت اللعن، إن الاسم علامة وليس بكرامة، ولو كان ذلك كذلك لاشترك الناس في اسم واحد.
قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: ألا تتزوج؟ قال: وما أصنع بزوجة تموت؟ قيل: أفلا تنبي؟ قال على طريق السبيل أبني.
لما زوج شبيب بن شبية ابنه قصده الناس وقالوا: اليوم يهب هبوبه، فما زاد على أن حمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإن المعرفة منا ومنكم وبنا وبكم تمنعنا من الإكثار، وإن فلاناً ذكر فلانة.
قال العتبي: قدم أبو علاثة على طلحة بن عبد الله بن خلف وهو صاحب سجستان، فقال: أرثيت أبي؟ قال: نعم، وأنشده:
ألم يأت فتيان السماحة أنني ... عقرت على قبر الجواد جوادي
فما زاد شيئاً عقره إذ عقرته ... سوى أنني منه شفيت فؤادي
قال: أو فعلت ذلك؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: كان أعجف، قال: لو فعلت لأعطيتك عطية لم يأخذها شاعر قط، ولكن لا أخيبك، فأعطاه اثني عشر ألفاً.
كاتب: أنا في ثوب المسرة أرفل، ونجم الوحشة مني آفل.
قال المأمون لطاهر: صف لي عبد الله ابنك؟ قال: إن مدحته هجوته، وإن هجوته ظلمته، ولد الناس ابناً وولدت والدت، يحسن ما أحسن ولا أحسن ما يحسن.
قال العتبي: طلب ابن عم لي الولد بعد نيف وتسعين سنة، فقلت له في ذلك فقال: سبقته باليتم قبل أن يسبقني بالعقوق.
قال النبي صلى الله عليه وعلى آله لرجل، ورأى معه صبياً: من هذا؟ قال: ابني، قال: أمتعك الله به، أما إني لو قلت لك: بارك الله لك فيه قدمته.
قال ابن الأعرابي: بنات الليل أهواله، والصبر عليه وعلى سراه وشدة الطلب فيه.
قال المأمون: لم أر أشجى من مرتجز بحدو، ومرتجل يشدو.
نظر بعض السلف إلى رجل يسب آخر في كلام جرى بينهما فقال: يا هذا تملي على حافظيك كتاباً، فانظر ما تقول.
هذا آخر الجزء التاسع وسنتبعه بالعاشر على ما يعز ويهون، وعلى الله تعالى المعونة فيما أوجب المنة، ونفى الظنة، فقد والله برمت بهذا الكتاب لسوء التأتي في النقل، وقلة الإصابة عند الرواية؛ نعم، ولحال قد وقفت على مدرجة الناس، بين قوم إن بسطت حديثهم، وذكرت خبيثهم، وما يضمرونه ويظهرونه من سوء النيات، وخبث الطويات، والمطالبة لأهل الفضل بالأوتار، وصدودهم عن الأحرار، كنت مجانياً للأدب المرضي، والعادة الحسنة، وإنما أقول هذا لأني قد عدمت من أهل زماني رئيساً يرغب في المكارم، ويتشوف إلى المحامد، ويرى اصطناع الجميل كنزاً، والإحسان إلى الأحرار ذخراً، ويتبجح بالكرم، ويباهي بالمعروف، ويأخذ بالفضل الذي هو به أشكل، وهو منه أجمل، وبه أليق، فيعينني على تمام الكتاب، رغبة في الذكر، وتوخياً للثواب، والسلام.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً.