كتاب : أخلاق الوزيرين
المؤلف : أبو حيان التوحيدي
ورد أبو طالب الجرّاحي الكاتب بالريّ من العراق، ولم يكن في عصره
أنطق منه لساناً وقلماً، وهو من بيت علي بن عيسى الوزير، فعرض نفسه عليه،
فلما رأى بسطته ولسانه وخطّه وطلاقته ولطافته وأُبوّته وصناعته، حسده
واغتاظ منه، وضاقت الدنيا به، وعمل على أن يسمّه، ففطن أبو طالب وكان
فطناً، فطوى الأرض، ووقع إلى آذربيجان، وصار إلى ملك الدّيلم المرزبان بن
محمد، فعرف قدره، وبسط يده، وأعلى كعبه، ونوّه باسمه، واستطال على ملوك
النواحي بمكانه.
ثم انظر إلى ما جرّ أبو طالب عليه لخسّته ولؤمه ونقصه وسُقوطه، وهكذا يفعل
من انصرف من باب عزيز ذليلاً ومن فناء موسر مذموماً؛ وقد كان يمكنه
اصطناعه وتقديمه وإكرامه واستخدامه بأسهل غرامة وأيسر مؤونة، وأهون مرزية؛
ولكنه حسده وأبعده، وليته مع ذلك زوّده ما يوجب شكراً، ويكون بلاغاً،
ويبقى حديثاً مأثوراً وذكراً جميلاً.
ولقد كتب إليه أبو طالب بعد هذا الحديث كتاباً قرأتُ فصلاً منه يقول فيه:
" حدِّثني بأيّ شيءٍ تحتجّ إذا طولبت بشرائط الرياسة التي انتحلتها وأكرهت
الناس على تسميتك بها؟ أَ تدري ما الرياسة؟ الرياسة أو يكون باب الرئيس
مفتوحاً، ومجلسه مَغشياً، وخيره مُدْرَكاً، وإحسانه فائضاً، ووجهه
مبسوطاً، وكنفه مزوراً، وخادمه مُؤدَّباً، وحاجبه كريماً، وبوّابه رفيقاً،
ودِرهمه مبذولاً، وخُبزه مأكولاً، وجاهه معرَّضاً، وتذكرته مسوَّدة
بالصلات والجوائز، وعلامات قضي الحوائج.
وأنت! فبابك مقفل، ومجلسك خال، وخيرك مقنوط منه، وإحسانك منصرف عنه، ووجهك
عابس، وبنانُك يابس، وكَنفك حرِج، وخادمك مذموم، وحاجبك هَرّار، وبوابك
كلب، ودرهمك في العَيُّوق، ورغيفك في منقطع التراب، وجاهك موفور عليك،
وتذكرتك محشوو بالقبض على فلان، وباستئصال فلان وبنفي فلان، وبسم فلان،
وبالدّس على فلان، وبحطّ مرتبة فلان.
هل عندك أيها الرجل المدعي للعقل، المفتخر بالمال، والمتعاطي للحكمة، إلا
الحسد والنذالة، وإلا الجهالة والضّلالة؟ تزعم أنك من شيعة أفلاطون
وسُقراط وأرسطوطاليس، أَوَ كان هؤلاء يضعون الدّرهم على الدّرهم، والدينار
على الدينار، أو أشاروا في كتبهم بالجمع والمنْع، ومطالبة الضّعيف
والأرملة بالعسف والظلم؟ فيا مسكين استحي، فإنك لا مع الشريعة ولا مع
الفلسفة، وقد خسرت الدنيا والآخرة.
هذا عقلك الذي يخاطب الناس برفعك التراب على رأسك والسّخام في وجهك.
أَ من كرمك وحزمك أن يفِدَ عليك مثلي؛ رجل من آل الجرّاح بيت الوزارة
والسؤدد، ينبري لمعروفك، ويخطب الخدمة بين يديك، والقيام بأمرك ونهيك؛
بحظٍ ميسور، ونائل مَنزور، فتحسده وتبعده، وتُخمله وتهمله، وتواطيءَ على
سمّه وقتله؟ يا ويلك! فمتى كنت أنت وآباؤك تستحقّون خدمة رجلٍ من آل
الجرّاح؟ كأنّ بيتك بقُمّ ما سألنا عنه، ولا وقفنا عليه؟ أَ ليس أبوك كان
قوّاداً، وأبوه كان نَخّالاً؟ ها أنا قد انقلبتُ عنك خائباً، أَ فضِعت
وبُرتُ وكسدت؟ لا والله، بل قيَّضَ الله لي مُلكاً من ملوك الدنيا حتى
اشتمل عليّ، ونظر بعين الكفاية إلي، وأهلّني لمحلٍّ زائد عن محلّك،
ورتّبني في حالٍ هي أشرف من رُتبتك، والله أكرم من أن يُضيع مثلي أو
يُحْوجني إلى مثلك.
فبُؤ الآن بخساستك، والصق بالدَّقعاء ندماً على فعلك، وثق بأن لساني وقلمي
لا يزالان يبريان عرضك، ويخطبان بذمّك، ويلهجان بهتْ: سترك، ويبعثان الناس
على معرفة خزيك وسقوطك؛ أَ تظنّ - يا جاهل أنه إذا ركب قُدّامك حاجب، وسار
معك راكب، وقال الناس: أيها الرئيس - أنك قد ملكت الكمال، واستحققت خدمة
الرجال، من غير إسعاف ولا إفضال؟ هيهات! المجدُ أخشن مسّاً من ذاك. وسأشقّ
النظم والنثر في أكناف الأرض بما ينكشف به للصغير والكبير نقصك، وتزول
الشبهة عن القلوب في أمرك إن شاء الله.
هذا أفادنيه، وكان شاعراً من آذربيجان. فهذا هذا.
قلت للخليلي: لِمَ كان يصبر أبو الفضل على ابن ثابت الكاتب الهمذاني وهو
آفة ونكال، لا حظَّ ولا معرفة ولا أدب ولا صناعة؟ فقال: لأنه علم أن غيره
لا يصبر على ذلك الرِّزق الوَتْحِ، والجدوَى القليلة، ومن أجل ذلك قال
مِسكويه:
يقولون إِنّ ابن العميد محمداً ... يؤول إلى رأَيٍ وثيق المنابتِ
فقلتُ: دَعُوه قد عرفتُ مكانَه ... بطلْعَةِ منصورٍ وحَظّ ابن ثابت
ومنصور هذا خادم رأيته، كان من أقبح الناس وجهاً كثير الهذر،
سيّء الأدب، وكان من قُمّ من الأحرار؛ ولما ذمّه صاحبه ووليّ نعمته بسبب
هذا الخادم للشُّهرة الفاضحة، والتهتُّك الشائع. قال أبو الفضل بحكمته: ما
أصنع؟ والله ما وجدت في هذه المدة لا يري غلافاً مثله، ولا بدّ لي منه،
فليلم من شاء، والهوى لا يحلو إلا مع العذل.
انظر بالله إلى هذا الحكيم بزعمه، واسمع قوله، وهو يزعم مع هذا أن
أرسطاطاليس لو رآه لرجع عن آراء كثيرة ببيانه، ولغيّر كثيراً من كتبه
بمشورته.
وكان يقول بقحته وقلة اكتراثه وتهاونه بمن حوله: أما الموسيقى فإنه يموت
بموتي ويفقد بفقدي، هذا وهو لم يقرأ حرفاً منه على أحد من خلق الله، وما
أُوحي إليه به، ولا يجوز أن ينفتح مغلقه جُزافاً عليه أو على غيره؛ وإنما
كان يستجيز هذا القول في الموسيقى خاصّة لأنه لم يبق منذ دهرٍ من يدلّ من
هذه الصناعة على حرف بتحقيق، أو يأتي فيها بوصف تام، لذهابه ودروسه.
والعلم كلّه - أبقاك الله - قد دخله الضّيم، وغلب عليه الذّهاب لقلّة
الراغبين، وفقد الطالبين، وإعراض الناس عنه أجمعين. والموسيقى من بين
أجزاء الفلسفة فُقِد حمله، لأنه لا يوجد علمه إلا بعمل، ولا يكمل عمله إلا
بعلم، والعلم والعمل في صناعة واحدةٍ قلّما يجتمعان على التناسب الصحيح.
وكان يعمل كتاباً سماه: " الخلق والخلق " فمات سنة ستين وهو في المسودَّة،
وقد رأيت ورقات منه وتقلتُ إلى " البصائر " حروفاً كانت فيه أفادنيها أبو
طاهر الورّاق. ولم يكن الكتاب بذاك، ولكن جَعْس الرؤساء خبيص، وصُنان
الاغنياء نَدّ، وخنفساء أصحاب الدولة رامُسنَّة.
وقلت للغويري: حدِّثني عن ابن عبّاد، فإنك قد عرفت ليله ونهاره وخافيه
وباديه، وعن ابن العميد فقد اختبطت ورقه،وانتجعت صوبه.
فقال: في ابن عبّاد قِحة مأبون، ولوثة مأفون، وهو ابن وقته معك، ونتيجة
ساعته لك، لا يعرفك إلا عند امتلاء العين بك، ولا يُعطيك شيئاً إلا إذا
أخذ أكثر منه منك، يشتري عرضك، ولا يوليك حقك، ويبلغ بلسانه ما لا يسمح لك
بعُشره من فعله، ثم الويل لك إن أصبت في كلامك، والويل لك إن أخطأت، على
أن الخطأ يعطفه عليك بالرحمة، والصواب يحمله في معاملتك على الحسد
والانتقام؛ يريد منك أن لا تذكر فاضلاً عنده وإن ذكرته فضّلته عليه. وإن
ذُكر الشِّعر فقل: أين مسلم بن الوليد منك؟ وإن ذُكر النّحو فقل: وصلت إلى
ما لم يصل إليه سيبوية، وإن ذكر البيان فقل: فيك أعراق متواشجة من قُسّ بن
ساعدة، أو لعلّه كان في قس عرقٌمن آبائك الفرس، وإن ذُكر الكلام فقل: لو
رآك النَّظَّام للزِم بابك وحمل عاشيتك، وإن ذُكر الفقه فقل: أين أبو
حنيفة عن هذا التحقيق والتدقيق؟ وأين صاحباه: محمد، وأبو يوسف عن هذا
التطبيق ولتعميق؟ فأما الجاحظ فما وزنه عند مثقالك؟ وأين شراره من نارك؟
وهل يسبح في بحرك؟ وهل يتطاول إلى سمائك. لو رآك لرشاك، ولو شاهدك لما
انتسب إلا إليك.
وأما إبراهيم بن العباس الصُّولي فأحسن ما يختاره له أن يكون من المختلفين
إليك، ومن الحاذين على مثالك، والآخذين عنك. وأما الدَّواوين فالكَلْواذي
يسلّمها لك، ويتبرّأ من الأعمال بسببك، ويطّرح الرسوم القديمة معك، ويأخذ
فيما تبتدعه وتضعه، لأنه إن نازعك افتضح على يدك، والعاقل لا يُلقي بيده
إلى التّهلكة، ولو وثق أنك تقبل مصانعته لصانعك، ولو علم أنك تُبقي عليه
لخَدَمك.
وأما الخطّ فابن مُقلة وابن أبي خالد والبربري ومن تقدّم وتأخر أعطوك
الضمة فيه، وأظهروا لك الانقياد به.
قال: ومن مناقبه في مثالبه أنه يقنع منك في مدحك بالنفاق، وفي ثنائك عليه
بالرياء، وفي نُصرة سيرته بالحيلة، ويرضى في هذا كله بعفوك دون جَهدك،
وبما يخفّ دون ما يثقل؛ وليس كذلك ابن العميد؛ فإنه لا يحب أن تمدحه إلا
بأكرم الخِصال، وأشرف الفعال، وأن يكون قولك عن عقد، ووصفك عن يقين،
وإخبارك عن تعجّب، وتعجُبك عن استبصار، واستبصارك عن مُعاينة، وفيه مع ذلك
كِياد مُخنّث مَجْفوّ، وسفه ضرَّةٍ رعناء، ونميمة كُنَّةٍ سليطة.
وحدثنا القاضي ابن عبد الرحيم، وكان خصيصاً به، وقهرمان داره ومُشرفاً على
غوامض أمره، قال: قصده شاعر في بعض الأيام ووصل إليه، وأنشده وأصغى إليه،
وانصرف بأمل، وتردد على ذلك فلم ير ما يحبّ، وتعلّق بي.
فقلت له: صاحبه روبين أغلب الناس عليه، وأوجههم عنده، فلو لُذتَ
به رجوتُ لك، فلزمه وسأله الكلام في أمره، فوعده بذلك.
قال روبين فقلت له - يعني ابن العميد - : هذا الشاعر البائس قد سمعت منه
شعراً، وأسمنت أمله، وهو على ذلك يغدو ويروح ويشكو وينوح، فلو أمرت له
بشيء كان أقطع لشغبه وأجلَب لشكره، وأدعى إلى السلامة من عتبه؛ وهؤلاء
يردون الآفاق، ولهم الإلحاح والطّلب والتذرُّع باللسان، والتوصّل إلى كل
حال بكل حيلة.
فقال: وما يُريد؟ إن شاء الله أجبته عن قصيدته في رويّها بعدد أبياته
وعَروضه وأعيان معانيه، وأزيد. وإذا وردت شعراً بشعرٍ فليس علي بعد ذلك
لوم ولا أنا مقصّر ولا ظالم.
فقال: فقلت له: هذا سمج شنيع، والناس لا يقارّون عليه، ولا يرضون به ولو
ذهبت أرواحهم وتلفت أنفسهم.
فقال: يا هذا! هوّن عليك، وأقلل من حديثك، فقد ضيّعنا في هذا مالاً، وإنا
بعدُ في لذع الحسرة على ذلك، لأن الشباب له عُرام، ولم يكن لي في تلك
الحال تجربة، ولا يقظة، ولا معرفة بحق المال والقيام بحفظه إذا حصل،
والشّغل بجمعه إذا انتقل، ونعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر.
المال - عافاك الله - عديل الروح، كمال الحياة، وقوام الظهر، وسرور القلب،
وزينة العيش، ومِجنّ الحوادث، وحبل اللّذات، ومُتعة الإنسان، ومادّة
البقاء؛ ومن لا مال له لا عقل له، ومن لا عقل له فلا حياة له، ومن لا حياة
له فلا لذّة له، ومن لا لذة له فهو في قبيل المعدوم.
قال روبين: فعلمت أن بعد هذه الخطبة لا يسمح بدرهم واحد. فوصلت الرجل من
مالي بشيء واعتذرت إليه؛ وبلغني أن ذلك الشاعر مزّق عِرضه، وهتك ستره.
ولقد شاهدت في مجلسه شاعراً من الكرخ يعرف بمويه، وكان جيّد اللسان، يقول
له: أيها الرئيس! قد لزمتُ فناءك لزوم الظل، وذللت لك ذُكّ النعل، وخدمت
أملي فيك خدمة ناصح لنفسي فيما التمست من الصلة والجائزة.
ولك فيما أوفدت عليك من الثناء والمدحة، وما بي - والله - ألم الحرمان،
ولكن شماتة قوم صدقوني فاتّهمتهم، ونصحوني فاغتششتهم؛ بأي وجهٍ ألقاهم،
وبأيّة حجة أُدافعهم؟ وهل حصلت من مديح بعد مديح، ومن نظم بعد نثر، ومن
رواح بعد بكور، ومن غسل أطمار وإخلاق سِربال، ومن تأفُّف لازم، وضجر دائم
إلا على ندم مُؤلم ويأسٍ مُسقم؟ فإن كان للنجاح علامة فما هي، وأين هي؟ قد
- والله - طالت غيبتي عن أهلي، وعن السائلين عن حالي، في هذه المعاملة
التي عاقبتها الخيبة بعد المطل، والحرمان بعد الإطماع، والتحسُّر بعد
الوعد؛ وقد بسط الله كفّك، وجعل الخير والجود والكرم جاريةً في أسرارها
ونابعةً من جوانبها. ففِض أيها الرئيس فإنما أنت بحر، واسكب فإنما أنت
سحاب، واطلع فإنما أنت شمس، واتّقد فإنما أنت نجم، ومُر فإنما أنت مُطاع،
وهَب فإنما أنت واجِد، واهتزّ فإنما أنت ماجد، وصِل فإنك جَواد.
واللهما يقعد بك خَور في الطباع، ولا نَغَل في العِرق، ولا قدحٌ في الأصل.
المُخُّ قصيد والحبل حصيد، والزَّندُ وارٍ، والفَروة خضراء، والعُودُ
مُورق، والمال جمٌّ، والأمر أجمّ، والسلك دقيق، والنسيج صفيق، والطِّراز
أنيق؛ وما هو إلا أن تقول حتى تُسمع، وما هو إلا أن تأمر حتى يُمتثل، لأن
أمرك على الفور، وحكمك ماضٍ بالعدل والجَوْر؛ فما الذي يثني عزمك عن
الكرم؟ ويفُلُّ حدَّك في الجود؟ ويُقصِر باعك عن المجد؟ ويسدّ أُذنك عن
أحاديث غد؟ إن الذين تكره لهم ما هُجوا به كانوا مثلك، وإن الذين تحسدهم
على ما مُدِحوا به كانوا من طينتك؛ فزاحم بمنكبك أضخمهم سَناماً، وزد على
من كان أكبرهم كاهلاً، وأعلاهم يفاعاً، وأسطعهم شُعاعاً، وأزهرهم ناراً،
وأكثرهم زواراً! فلما بهَره هذا الكلام الشَّهيّ في ذلك المجلس البهيّ
شُدِه وعلِه ولم يدر ما يقول، وأطرق هُنيهةً، ثم قال: هذا وقت يضيق عن
الإطالة منك في الاستزادة، وعن الإطالة منّي في المعذرة؛ فإذا تواهبنا في
الحال ما قد دُفعنا إليه، استأنفنا في الثّاني ما نتحامد عليه.
فقال الشاعر: أيها الرئيس! هذه نُفاثة صدرٍ قد جوي منذ سنة،
وفضلةُ لسانٍ قد فَدُم منذ زمان؛ وقد تقدّم العمل، والجزاء موقوف،
والرّجاء عليل، والأمل غادر، والحال بعرض سوء، والشّامت قد شمّر للتأنيب،
ولا صبر لمُقلّ على مدلّ إلا على وجه يُحتمل؛ فإن رأيت قدمت المتأخر،
وقربت المتأخّر، وقربت الشّاسع، وجعلت إجزال العطية في تعجيلها، وإكرام
طالبها في تسهيلها، فلا مانع إن لم يكن ذلك من سدّة جد، أو تقاعس جَدّ.
فقال: يا هذا قد كررت العتب، واجتررت الملام، وما أستوجب هذا من أحد من
خلق الله؛ ولقد نافرت العميد بدون هذا حتى ثار من ذلك عجَاج قاتم،
وانتهينا منه إلى قَرِيٍّ عاتم؛ ولست وليّ نعمتي فأحتملك، ولا صنيعتي
فأغضي عليك؛ وإن بعض ما قررته في أُذني لمما ينقض مِرَّة الحلم، ويُبدد
شمل الصّبر؛ ولستُ ممن يطيش لأدنى سانح، ويتطيّر لأوّل بارح؛ والله ما
دعوتك إليّ، ولا أغريتك بي، ولا سألتك تقريظي، ولا أتعبتُك في قصدي؛ وإن
الظُّلم منك، وكذاك العتب منك؛ وأنا على كلّ حالٍ مالي؟ فلا تجمع بين
الظلم والتظلّم، والجناية والتَّجنِّي، وخُذ نفسك بالنزاهة والعَفاف
فإنهما لا يقفانك هذا الموقف، ولا يعرضانك على هذا المجلس، ورزق الله
مُنتاب وغاد، واطلب الغنى منك فإنه عندك أكثر منه عند من تظلمه وهو لم
يظلم، وتعاقبه وهو لم يُجرِم.
فقال الرجل: ما كرّرت العتب حتى أكلت النّوى المُحرَّق في انتظار صِلتك،
ولا اجتررتُ الملام حتى خانني صبري في توقّع جائزتك؛ والغضنيُّ إذا مَطَل
ظلَم، والواجِد إذا لوى أثِم، والجواد إذا منعَ لِيم.
ولَعَمري ما دعوتني إليك، ولا أغريتني بك بكتابٍ خصصتني ورتّبتني فيه، ولا
سألتني تقريظك، ولا أبغيتني في قصدك برسول أرسلته إليّ؛ ولكن لما جلست في
صدر هذا الإيوان بأُبّهتك وعظمتك وكبريائك وجَبَروتك؛ وقلت: لا يخاطبني
أحد إلا بالرياسة، ولا يُنازعني أحد في حقوق السياسة؛ فإني كاتب ركن
الدولة، وزعيم الأولياء بالحضرة، والقيّم بمصالح المملكة - فقد أهبت الناس
إلى بابك، وأغريتهم بخدمتك، وأطعمتهم في مالك، وكأنك قد خاطبتهم بلسان
الحال، وإن لم تكن خاطبتهم بلسان المقال. فأنا ذلك السّامع برياستك،
والشاهد بفضلك، والراغب في خدمتك، والراجي لخيرك؛ سمعتُ فأجبت، وحضرت
فمدحت، ووقفتُ أثنيت؛ وأصغيتَ فقبلت؛ وأدّيتَ فاستحسنت؛ ولم يبق بعد هذا
كله إلا أن لا يكون عطاؤك حرماناً، ولا جودك انتحالاً، ولا فُتوّتك
اقتيالاً، ولا ماؤك سراباً، ولا جَودك ضباباً؛ ولا خدمتك مندمة، ولا
الحاصل من معاملتك مظلمة.
وإن الرجل الحُرّ متى علم أن صاحبه لئيم الطِباع، خسيس الخُلُق، مرقَّع
المنصب، ملبوس المحتد، وأن الله تعالى لم يجعله من معادن الرّزق، ولا من
أبواب النّجاح، فإنه لا يطمع فيه، ولا يتواضع له، ولا يعدّه فيمن يُعد،
ولا يشغل لسانه بمدحه، ولا يُعقُّ أمله بقصده، ولا يُضيع قوله في وصفه؛ بل
يرى أن اقتحام الجمر، وسفّ التراب، ونزع الرُّوح أهون من ذاك وأعزّ.
ولعن الله الأدب إذا كان بائعه مُذيلاً له، ومشتريه مُهيناً لقدره،
ومُماكِساً فيه.
وتقوّض المجلس، وقام الناس، ونصرف الشاعر.
فحدّثني شمسويه أنه طلبه بعد ذلك ليصله، فرجع إليه أنه ذهب بين سمع الأرض
وبصرها.
وسألت الجُرجانيَّ عن ابن عبّاد وابن العميد.
فقال: ما يبينان بكرم كبير، وفعال مشهور؛ ولا فائدة في نشر لؤمهما وخساسة
طباعهما؛ بلغ من فلسفة هذا أنه أمر بقطع لسان رجل شتم بلد قُمّ غضباً
لبله، وتيهاً بوطنه، وشدّ آخر في داره إلى شجرة وما زال يُضرب إلى أن مات،
وطرحه في جَوْبةٍ حتى أكلته الكلاب؛ فقال صاحبه: انظروا إلى هذا الذي
قُلنا إنه أعقل الناس.
حدّثني بهذا الهرويّ.
ثم قال: وكان ابن عبّاد - كما قال أصحابنا - هو ابن سجب ليس عنده
إلا القال والقيل، والكِبر والتخييل؛ يحبّ العامّة ويرفع نفسه عنها، ويحسد
الخاصّة ويجعل نفسه منها، ويستطيل بالعلم وهو قريب القَعْر فيه، ويدّعي
الردّ على الأوائل وهو لا يعرف حرفاً من نمطهم، ويتحلّى بالعدل والتّوحيد،
قولاً ويتحلى بالجّور فعلاً، ويتشبّع بالأدب وهو سيء الأدب؛ يتهكّم بلسانه
مُستطيلاً، ويتقحّم الجراثيم مُستهيناً، لو وقع عليه الخصم لجرده للناس،
وأظهره للصّغار والكبار، لكنه في خفارة جدّه، وحصن دولته؛ على أن الجهابذة
قد نقدوه وبهْرَجوه وتركوا التعامل به، وإنما هو وميض برق وهبوب ريح، وخفق
راية؛ قإذا قرّت الأمور قرارها، وعطفت الفروع على أصولها ألفيته مُطِّرحاً
مع نظائره، خامل الذكر، وضيع القدر، قصير الشِّبْر، مهتوك السّتر.
قال: وجملة الأمر أن ابن العميد كان حسن الكتابة، غزير الإنشاء، جيد
الحفظ، ولم يكن له في كتابته حساب ولا تحصيل لوجوه الأموال، ولا معرفة
بالدواوين، ولكنه كان بفضل الكيس يتأتّى له ويتلطّف.
قال: وله شعر صالح في الغزل والمعاتبة؛ ولأنه مشهور لا طائل في روايته،
ومن ذلك قوله:
قَلبِيَ دامٍ به نُدوبُ ... يكادُ ممَا بِه يَذوبُ
قد كنتُ أُخفي الوشاة جهدي ... فنمَّ مني به الوجيبُ
فهل سمِعتُم بمستهامٍ ... عليه من قلبِه رقيبُ
يَعمِد ما سَاءني ضراراً ... ما هكذا تفعل القلوبُ
يقتادني للصِّبا غَرير ... كأنه شادن ربيبُ
جرَى مع الدّهر في عنانٍ ... فهو لأحكامه نسيبُ
فكلُّ محبوبه بعيدٌ ... وكلُّ مكروهِه قريبُ
وكيف يُرجَى بقاء صَبٍّ ... ناكده الدَّهرُ والحبيبُ
وكان ابنه أبو الفتح أشعر منه وأحسن حظاً، واستفاد بدخول بغداد شيئاً فاتَ
والده.
وكان لذلك يغمز على البغداديين ويتعنّتهم، وكان نزر العطاء شديد المنع لا
يقبل صنفاً من الناس، وإنما غرم شيئاً يسيراً على العامري، لأن العامري
خدعه وطلاه وصبغه ودخل من بابٍ غامضٍ عليه وقال: لقد قصدتُك من خُراسان
لأقرأ عليك علم الحيل وجرّ الثقيل، ومراكز الأثقال، وهو في أواخر علم
الهندسة. بهذه الدعوى وبخلابته أيضاً، وبعصر عينيه عند سماع كلامه، وكان
يقول له: ضاع عمري ولم أُوفّق لرُشدي في أول أمري، ولو وُفّقتُ لوقعت إلى
كنز علمك وروضة بيانك قبل هذه السنين.
ولما رآه أبو الفضل على هذا، قال: لست في قراءتك جرّ الثقيل عليَّ بأحوج
مني في قراءة الإلهيات عليك، فإنك في هذا الفن بحر لا يتغلغل إلى قعره،
وجبل لا يتوقّل إلى مَصاده.
وكان هذا تساخُراً منهما، وتكاذُباً بينهما، لأنهما كانا لا يعرفان من
هذين العِلمين لا قليلاً ولا كثيراً.
وما ينقضي عجبي من تكاذب العُقلاء، ومن تجاذب الجهّال.
وخبُّ هذا الإنسان خِبٌّ فائت، والإحاطة به ممتنعة.
وأما الهرويّ فإنه ارتبطه بأمر ركن الدولة، وكان يمدّه من ناله، لأنه
حُمِد في طبّه الذي كان يتكثّر به بعد هندسته التي كان فيها أبرع، وبها
أعرف.
وأما مسكويه فإنه اتخذه خازناً لكتبه، وأراد أيضاً أن يقدح ابنه به، ولم
يكن من الصنائع المقصودة والمهمّات اللازمة؛ وكان أيضاً ما يُقيم عليه
شيئاً نزراً لا يقنع به إلا من لا نفس له ولا همّة، وكان يحتمل ذلك لبعض
العزازة بظلّه والتظاهر بجاهه.
وأما ما تكلّفه لأبي جعفر الخازن فإنه كان لأسباب طويلة؛ منها أن رُكن
الدّولة أعظمه، فلزمه أن يقتدي به.
ومنها أنه طمع في اقتباس علمه.
ومنها أن العيون كانت تنظر إليه في أمره، والناس يحسبون ما يأتيه في بابه،
لأنه وقع إلى الرّيّ مع صاحبه الصّاغاني أبي عليّ حين طلب الأمان، والحديث
معروف.
فأما ابن فارس فإنه استخدمه ليعلّم ولده.
وأما ابن أبي الثيّاب البغدادي فإنه قرّبه ليسترق منه المنطق، فلما علم
بذلك أبو محمد نفس بما معه، وتكاسل؛ وقيل له: كيف تعاصيت؟ فقال: كان سيء
الانبعاث في هذه الفنون، وكان شديد التشبّع بها، يُحبّ أن يختلس الحكمة،
ويمتهن أربابها بفضل المقدرة.
وأنشدني في هذه القصّة:
إلى الله أشكو رَيبَ دهرٍ كأنّما ... يَرَى كلّ ما يَجرِي
بمَكْرُوهنا فَرْضَا
يُؤمِّل مِنّي أن أَذِلَّ لمُوسِرٍ ... لَئِيمٍ ونفسُ الحُرّ بِالذُّلِّ
لا تَرضَى
قلت: لمن الشعر؟ قال: أنشدني ابن أبي البغل لنفسه.
وأراغه أبو الفضل على المنادمة فأنف، وما زال يترصّد وقتاً ينفلت فيه حتى
كان من أمر ابن العميد ما كان من خروجه إلى أرَّجان، فطوى فجاج الأرض،
وجابَ البلاد إلى بُخارى، وولي بها البريد إلى أن قضى.
وأما أبو طاهر الورّاق فإنه رتّبه في النسخ، وكان قوي الخطّ كثير الصبر
على النقل، ولم يكن من الصنائع ولا من حملة النّعمة، ولا ممن يطالب بالحمد
ويُبعث على الشُّكر.
وأما ابنُ بُنْدار فإنه كان فَدْماً غليظاً، غليظ الكلام جافياً جاسياً
مقيتاً، وكان وزر بأذربيجان لجُسْتان، فأحبّ أن يُري من نفسه أنه على
مائدته من وزر.
فأين الصّنائع والمدّاح؟ وأين المنتجعون والزائرون؟ وأين من مرَّ به
محتاجاً إلى زاد ونفقة فطلبه وقرّبه، وأعطاه ووصله، وأضافه وأكرمه، وتصفّح
ما معه واقتبس ما معه واقتبس مما عنده؟ سقى الله ابن عباد! فإنه وقف نفسه
على الغرباء وطلبهم بأكثر مما تعرّضوا له، وسأل عنهم بأكبر مما رجوه فيه؛
ولولا أنه كان يفسد هذه الأفعال بالرّقاعة والتخيل والعجب والتطاول، وذكر
الطعام والمائدة، وما يعطي ويهبُ، لكان قليله أكثر من قليل ذاك، وصغيره
أكبر من كبيره؛ ولكن لكل حسن مقبّح، ولكلّ عزيز مذلل، ولكلّ جديد مبلٍ.
وحدثني ابن عبد الرحيم القاضي قال: قال يوماً لصاحب طعامه حدثني عن هذا
الخبز المكسّر على الطبق، والملوّث، وما تتجافى عنه الأيدي، وما يصيبه
اللحم والمرق والثريد - ما تصنعون به؟ وابتدأ هذا القول وهو في جوف
خَرْكَاه، وظنّ أن لا أُذن هناك.
فقال له الرجل في جوابه، بعد أن تكرر قوله، وقد حال عن مزاجه لغيظه في
سؤاله: نَدسُّه في حر امرأة من يسأل عنه.
قال: وهذا بالفارسيّة قاله، وهذا تفسيره.
قال: فانكسر وانخزل، وعلم أنه قد باء بالخزي، وعاصَ على سواده، وأن الخطأ
منه في أفحش من الخطأ عليه في الجواب.
فقال له: أنت مجنون، اخرج لا بارك الله فيك.
وهذا كما تسمع. والموت بهذا الرئيس على الخشبة صلباً أحسن من هذا الحديث؛
وكان الرجل من فرط كيسِه لا يقع إلا مكبوباً، ولا يُذكر إلا مسبوباً.
ولقد بلغ من لؤمه وشؤمه أنه قتل من أكل عنده؛ وذلك أن أبا المحاوش ورد إلى
الرّيّ، وكان بدوياً، أو من هذه المزالف مُتبادياً، وشُهر بشدّة الضرس
وكثرة الأكل، وتكرر حديثه عنده، وما وُصف به من طِيب كلامه، وحُسن وصفه
للقِدر والطّبيخ والألوان، فدعا به، وتقدّم بإحضار شيءٍ كثير من الخبز
والحلوى، فاكتسحه كله، وطلب الزيادة، وكشر أبو الفضل في وجهه، وأظهر
استملاحه على تقفُّؤ فؤاده ونار صدره؛ ثم وهب له دريهمات وخُريقات وشملة؛
وقال: اكثُر عندنا واقترح ما في نفسك على صاحبنا المطبخي. فكان المسكين
يحضر في الفَرْط، فيطلب شيئاً ويأكل وينصرف.
فطال ذلك على أبي الفضل، واغتاظ منه، وغلب طباعه، فقال لصاحب مطبخه، اجمع
هذا الذي يقال له لالكات التي قد أخلقت وتقطّعت، وقطّعها صِغاراً
كالبنادق، وقدّمها إليه في عجّةٍ وافرة، بيضٍ كثير، وسَمْنٍ وافر، حتى
ننظر إلى أكله، وهل يفطن؟ وإنما كان كيداً، ففعل وأُحضر؛ وأقبل أبو
المحاوش عليها وتذرّع في أكلها، وأعظم اللُّقمة، ودارَك الرَّفع والوَضع،
ووجدها وطِيةً ناعمة، فلما أقلع عنها وانصرف، وشرب الماء وجاء وقتُ
الثَّلْط، انقدَّ بطنه فخرج فيه نفسه.
فهذا لما تكرّم بالإطعام، وحثَّ على الأكل، ورغَّب في الرغيب. وهذا الفعل
يجمع إلى النّذالة قلّة الدِّين، وإلى اللُّؤم سُخف العقل. فالويل ثم
الويل له.
وكان إذا رأى ابن بندار يقول: جاءكم أسد الغَريف على الرَّغيف.
والرَّيّ جادة الدنيا، ومنهج المشرق والمغرب والجوّالين في الآفاق، فكان
يكثر أهل الانتجاعمن كل صُقع، فلم يكن لأحد منهم عنده مَقيلُ ساعةٍ ولا
مبيتُ ليلة، ولا زادُ مرحلةٍ ولا هشاشةٌ ولا بشاشة.
وقد اجتاز به أبو إسحاق الفارسيّ، وكان من غلمان أبي سعيد
السّيرافيّ، وكان قيّماً بالكتاب، وقرضِ الشّعر، وصنَّف وأملَى وشرَح،
وتكلّم في العَروض والقوافي والمعَمَّى، وناقَضَ المتنبي، وحفظ الطِّم
والرِّم فما زوَّده درهماً، ولا افتقده برغيف بعد أن أذِن له حتى حضره
وسمِع كلامه وعرف فضله، واستبان سعته.
قال الخليلي: وكيف يُرجى خيرُه، أو يُؤمَّل رُشده، أو يُساق طمعٌ إليه، أو
يُوفَد ثناءٌ عليه، أو يُشَامُ له بَرق، أو يقطع دونه خَرْق، وقد عقَّ
أباه، وسعى في أول أيامه، حتى تبرّأَ منه ذلك الشِّيخ وهرب إلى خُراسان،
واستُكْتِب هناك، ولُقّب بالعميد.
وكتب إلى القاضي أصبهان كتاباً برئ منه فيه.
وأما أروي قصّته في هذا المكان ليكون أذهَبَ في العجب.
وكان عقوقه في وجه عجيب؛ جاء إلى ذخيراتٍ في مواضع ووضع يده عليها، وعرَّف
صاحبه مكانها، وخطَّ خطوه عليها، وزَوَى ذلك كلّه عن شيخه وعن جميع كم كان
له فيه نصيب، إما بحقّ الإرث أو بحقّ الهبة، حتى قامت قيامة ذلك الشيخ،
فدعا عليه، وفضحه عند النّاس، وبَرِئ منه، وقدح في ولادته.
والرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم القاضي، أطال الله بقاه، وأدام نعماه،
أجلُّ محلٍّ من مواهب الله فيه وعوائده عنده، في الدّين والدنيا والعِصمة
والخير والفضيلة، وحسن التأتي في كل فضيلة، وجميل اللفظ في جميع الحكومة؛
ولي في الشكوى إليه ومُباثَّته، وذمّ الزمان عنده والاستعداء عليه لديه،
استراحة وتخفيف للثقل، وتفرُّج من حَرَج الصّدر؛ وأنا المُتمسّك به
تمسُّكي - كان - بالوالد والعمّ، واثق بأن نصيبي من شفقته تام، ومن
مشاركته وافر، والله لا يُعْد مُنِيه، ويحفظني بمواصلة النِّعم عنده إليه
بقُدرته.
والكُلومُ - أعزَّ الله القاضي - ضُرُوب، والنّدوب فنون؛ وأعسَرها برءاً
وأصعبها داء، وأعزّها دواء، ما جرحته يدُ القريب، وجلَبَته أفعال الأهل؛
فإن ذلك يصلِ إلى حبّة القلب، وصميم الفؤاد، ويصير قذَىً في إنسان العين،
وشَجىً مُعترضاً في الحَلْق، ويتراكم على الأيام، ويتثكاثف على الدّهر،
فيكون نَكْءُ القَرح بالقَرح أوجَع، ومتى تنفّس الممنوّ، وشكا المملوّ
غيظاً وحَنَقاً اجتمع إليه من عشيرته وأُسرته شيخ ضعيف، أو طفل صغير، أو
امرأة باكية، أو عورة بادية، أو ذو قرابة؛ فاستغفر هذا واستفصَح، وسأل
وتشفّع. ثم رُويت أخبار في قطيعة الرحم، وعُدّت آثار في صلة القُربى، فضاق
النَّفَس، واشتدّ الحنق، وتجرّع هذا المظلوم الغيظ وصبر، وأَنِف واحتمل،
واحتسب وعفّا وغفَر، والشرُّ عتيد، والبلاء يزيد، والطّبع أغلب، والعادة
لا تنزع، والجاهل يُقلع.
فهل دواءُ هذا، إذا اتصل وطال، وامتدّ وتتابع، وزاد وتضاعف، إلا الصَّريمة
والإعراض، والقطيعة والانقباض؟ فدواءُ ما لا تشتهيه النّفس تعجيل الفِراق.
وأنا - جعلني الله فِداء القاضي - ذلك الملآن المغتاظ الذي قد عِيلَ صبره
وضاع حلمه، وضاقت نفسه، وقرحَ قلبه، ونضِجت كبِده، وقلَّت حيلته، وعظُمت
بليته.
وهذا الجاهل ابني، وما هو بابني، من انتهى بي إلى هذه الشكوى، وقصدني بهذه
البلوى، وعقّني وخالفني، وبغى عليّ وباغضَني؛ وارتكب معي ما لا يحلّ، بعد
أن ربّيته صغيراً، وأعززته كبيراً، وأوليته جميلاً، وأمْلَيته جسيماً،
وصُنتُه شديداً، وحُطتُه دهراً طويلا؛ وخضتُ دونه الأهوال، وقاسيت في
حمايته الأغوال؛ أُجِمُّه وأتعب، وأُقلّده وأتعطَّل، وأُعزّه وأُذلّ،
وأغتَرب ليُقيم، وأُنعمه وأشقى، وأتحمّل عنه ليرضى؛ فما يعرف لي حقاً ولا
يتأتى، ولا يرعى ذِماماً ولا يهدي، ويتهنأُ مُتعرّضاً مستخفّاً بي، ولو
أمنتُ ملال القاضي - أدام الله أيامه - لعددتُ مقابحه، وذكرتُ مساويه،
ووصفتُ ما يرتكبه من عظائم، هي به متصلة وإليّ منسُوبة، أن أفزع من
يسيرها، وأجزع من قليلها، ولا أُحب أن أراها وأُعاينها في جارٍ أو قريب.
وقد زَجَرتُ ووعظتُ، وقلت وراسلت، وكاتبت وشافهت، وعاتبتُ وخاطبتُ، وشدّدت
وهوّلت، ورغبت وأوجعت؛ وضربت الأمثال، وذكرت السِّير، وخوفت وحذّرت، فما
انتفعت؛ وجرائمه تكثر، وجَرائره تغلُظ؛ ولا فضل فيّ، ولا احتمال معي، ولا
بقية للإغضاء عِندي.
وغرضي في هذه المخاطبة، ومَغزاي من هذه الشكوى والمباثّة، أن
يشهد القاضي أني بريء منه، قاطع له، عادل عنه، غير راضٍ بقوله ولا فعله،
نازعُ ما ألبسته من بُنوّة، مُطَّرح له ديناً ودُنيا؛ ليس منّي ولا إليّ،
قد تبَرّأتُ منه وصَرمته، ووكلته إلى اختياره، ورفعت عنه يدي، وأسلمته إلى
الله ليأخذه بحقي، ويقبل به دعائي، ولا يحفظ عليه ما لم يحفظه عليَّ.
اللهمَ اسمع واشهد، وكُن حسيب الظّالم، واحكم بيني وبينه، يا خير حاكم.
وهذه شهادة لي عند القاضي يحفظها كما يحفظ إليه من حقوق عمله، فإنّي
مُطالبه بها (يَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) وكفى بالله العليّ شهيداً.
وهذه - أبقاك الله - رسالة تدلّ على قُرحةٍ دامية، وعين باكية هامية،
ونفسٍ قد ولهت عمّا حلّ بها؛ وإن غُلاماً يُحوِج أباه إلى مثل هذه
البَراءة والشكوى منه والتأَلُّم، لَغُلام سوء، والله أكرم من أن يحبره في
الدنيا، وأن يُسعده في الآخرة.
وكل هذا دليل على أنه عارٍ من الديانة، سليب المُروَّة، وقد رضي بظاهر
حاله وإن لم تدم له، ولها عن عاقبة أمره وإن لم يَنجُ منها.
وحدثني أبو العادي الصوفي قال: كنت عند العميد ببُخارا، وقد جرى ذكرُ ابنه
أبي الفضل فقال: كنتُ أشكّ في ولادته قبل هذا. والآن فقد تحقّق عندي ما
كان يُريبني منه؛ فإنَّ الإناء رشّاحٌ بما فيه.
ثم أفادنا حمزة المصنّف جواب القاضي للعميد، وذلك أنه كتب: بسم الله
الرحمن الرحيم وصل كتاب العميد، أعزّ الله جلالته، ووفّر عليه كرامته،
وأدام له نعمته وحياطته؛ وأنَّس وصوله، وأوحش محصوله؛ ويعزُّ عليّ أن أقرأ
كتابه بعد عهد دارس ودهرٍ مُتقادم - مُنبئاً عن قرائح صدره، وجرائح فؤاده؛
وقد - والله - زاد عجبي من هذا الحديث كله، وشَرَكتُه في جميعه، وسألتُ
الله اللّ " يف فيئةَ هذا الغلام إلى حظّه، ونظراً إلى قلبٍ قد أضرم فيه
نار العُقوق، وأفرجَ لوازم الحقوق؛ فإنه إذا وُفّق لذاك كان فيه صلاح
معاشه الذي هو عاجلته، وسلامة مَعاده الذي هو آجلته؛ هذا مع الذّكر الجميل
الذي ينتشر له، وبركة دُعاء شيخه إذا عادت عليه.
وقد كتبتُ إلى الفتى - أكرمه الله - بما إن هُدِي لرُشده ووُفّق لحظّه
غُبط واغتبط، وإن كثُر منه اللّجاج والمحك خبط واختبط؛ والله يفتح بصره،
ويأخذ بيده فيعلم ما في البراءة من البُنوّة والتّعرّي من الأُبوّة من
الهُجنة الشَّنيعة والفضيحة الفظيعة.
ولم أقنع بالكتاب، وبما تصرَّفت فيه من لواذع العتاب، حتى كتبتُ إلى أبي
الحريش، وسألته إحضاره ومناظرته، واستخراج ما عنده مع التّهجين الشديد،
وشوب ذلك بالوعد والوعيد، وغالب ظّني أن تلك القسوة تحولُ رِقّة، وتلك
الفظاظة تعود ليناً؛ ولو كنت في مقرّه، أو كان في صُقعي لكان لي في هذه
القصّة جدٌّ وانكماش يحمدني عليهما العميد، ولكنّي منه بعيد؛ وإن - وعائذ
بالله - تقاعسَ وعْظي عنه، ونبا نُصحي دونه، بعد التلطُّف والاجتهاد،
فالأسى والأسف أعزّ من أن يُرسلا وراءه، أو يُقاما إزاءه؛ والولد قد يموت
بارّاً ويفوت عاقاً، فليطب قلب العميد عنه فائتاً، كما تسلو النّفس عن
العزيز مائتاً، ولعلّ العتب يُسفر عنه بما يسرُّ منه؛ فللزمان في تقلّبه
غرائب، وللدّهر في تصرّفه عجائب.
وأنا أسأل الله أن لا يُخليني من العميد عُمدة، ولا يُريني فيه ومنه
سُوءاً وغُمّة؛ ورأيه في مواصلتي بكُتُبه المتحمِّلة برَّه وتفضّله
بمباثَّتي وتصريفي على تكاليفه - مُتوقَّع مشكور، وأنا عليه حامدٌ شكور.
ثم قال الخليلي: وجدّه - مع هذا - ساقط يُلقّب بكُلَهْ، وهو كناية عن شيء
قبيح على زعمه، كان نخّالاً في سوق الحنّاطين، أو حمّالاً أو منقّياً،
وكان يحرس السوق أيضاً بالليل، والعِرق لا ينام ولا بدَّ من أمارة في
الفرع، كما لا بدَّ في الفرع من إشارة إلى الأصل، والأصل والفرع متشابهان،
إلا أن هذا الخافي ينطق عند ذلك البادي، وذلك البادي يشهد له هذا الخافي؛
ولهذا قالت العرب: لكُلّ إناءٍ رَشْحٌ، ولكل سِقاءٌ نَضْح، ولِكلّ شجرة
سُوس، ولكل دَوحةٍ عِيص.
وكنتَ إذا نظرتَ إلى أبي الفضل تجده غضبان من غير مُغضب، شَنِج الأنف
متخَازِر الطّرْف، كالِح الوَجْه، " كأنَّما وَجْهُهُ بالخَل مَنْضوحُ "
كأنه يعافك أن تنظر إليه، أو يتقّزز منك إذا كلّمك؛ يتجعّد عليك
قبل أن تلاطفه، ويردّك قبل أن تسأله، ويؤنسك قبل أن ترجوه، ويحرمك قبل أن
تمتري معروفه، ويسفك دمك إن أكلتَ خبزه؛ والويل لمن أعرب عنده، واستمر في
كلامه معه، أو تخيّر لفظة له، أو نشر أدبه.
وكان يقول لمن يراه بارع اللفظ، خفيف الروح، لذيذ الحديث، خفيف اللسان؛ يا
قُسُّ بنَ ساعدة! هاتِ حديثك، يا سحبان وائل مُرَّ في هَزَارك، يا سعيد بن
حُميد! لا تحفل بنظارتك.
كل هذا بهُزءٍ وسُخرية وتهافت وكشرٍ عن نابٍ أقلح، ومَضغٍ للكلام، وليِّ
الشّفقة والشِّدق كأنه ثلجٌ جامد، أو شيء تارز.
ولهذا قال ابن أبي الثيّاب:
أبا الفَضل لاَ في الجِنّ أنتَ ولا الإنسِ ... وطبعُك طبْعُ الموتِ يُورد
في اليبْسِ
فهذا هذا.
وحضرتُ مجلسه ذات عشيةٍ في شهر رمضان مع الفقهاء والزّعيم ابن شاذان، وهو
على القضاء؛ فلما كادت الشمس تَجِب وهي حيّة بعد، وقف حاجب له حِيال
الجماعة، وأشارَ بالقيام والانصراف، فقطعوا متن مسألة كانوا فيها وتركوها
بَتْراء، وتبادروا إلى الخروج من الباب؛ وقعد عنهم شيّخ طبريُّ في كساءٍ
عليه خَلَق.
فقال له الحاجب: قُم يا شيخ والْحَق بأصحابك، ما تأخُّرك عنهم، ولماذا أنت
لازم مكانك من بعدهم؟ فقال الطبري: هذا فضل من الكلام، أنا رجل غريب قدمتُ
اليوم من بلدي، ومحلّي من العلم قد بان في هذا المشهد العظيم الشرف،
الكبير الفائدة، وهذا هو المساء، وأنا صائم، وإن خرجتُ أعجزُ عن مصلحتي في
هذه العشيّة، والغريب أعمى، ولست أعدم ها هنا، إن شاء الله، ما يُمسكني
إلى غد، ثم أغدو إلى شأني وما لا بُدّ منه لغريبٍ مثلي في بلد الغُربة.
فقال له الحاجب: أنت طبريُّ وليس في قلنسوتك حشوٌ ولا قُطن، والكلام معك
يصدّع، وأقبَل بغضبٍ، وجذَب يده بِعُنف حتى أخرجه من المجلس بعد أن شتمه
وخبّث القول له، ووكّل به من ألقاه وراء الباب مَدفوعاً في ظهره، مدقوقاً
في قفاه، مشتوماً في وجهه.
وكل هذا بعين الرئيس الخسيس وسمعه، لأنه كان بهيئته في صدر مجلسه على
حشيةٍ قد استلقى، وهو يسمع ويرى، فما قال في ذلك كلمة سوداء ولا بيضاء.
فلو شاهدت البائس الطبري على الباب، وقد احتَوَشَه المارّة يقولون له: يا
شيخ! ما جِنايتك وما الذي دَهاك؟ قال: يا قوم! ذنبي أنني طمِعت في عشائهم،
ورغِبت في المبيت عندهم، وأن أكون ضيفاً نازلاً بهم.
فقال له رجل منهم: أنت مجنون، لقد تخلّصت بدُعاء والدتك الصّالحة، وسلِمت
سلامة عجيبة، أتطمع في طعام الأستاذ الرئيس، وإبليس لا يحدّث نفسه بهذا،
والشياطين لا يقدرون على ذلك؟ ولقد أراد أن يُطيّر ابنه من رأس الجَوْسَق
لأنه طلب زيادة رغيف في وظيفته.
وصُبّ على هامة أبي الفضل في تلك العشيّة من نوادر العامّة، وسخافات
الحشوية من ضُروب الكذب والصّدق ما لا يُحصَّل؛ وللرازيّين جرأة على
الكلام، وتخرّق في النوادر؛ ومن ذا الذي ردّ أفواه الغوغاء والأوباش؟ ولو
افتدى من هذا كله برغيفين وقدرة لَحم لكان الرّبح معه، ولكنّ " الشقيّ
بكلّ حَبْلٍ يُخْنَق " .
قال الخليلي مرّة: لا تنظر إلى نَقاء الثوب، وحُمرة الوجه، وفَرَاهة
المركب، وإلى الضَّفف والحشد، والخيل المُسوَّمة العِتاق، ولكن انظر إلى
عِرض الرّجل كيف هو؟ وإلى الشُّكر له كيف هو؟ وإلى درهمه من أين وجهه وإلى
أبن توجّهه؟ واجهد أن تَسُلّ من تحت مُصلّى الرئيس أو مخدّته أو دواته
تذكرته، وانظر فيها، فإن كان قد كتب بخطّه: يُتفقَّدُ فلان بكذا، أو يُسأل
عن فلان ليُنظر في مصلحته، ويُحمل إلى فلان شيء من الحنطة وشيء من الذهب
والفضة، ويُوفد فلان على فلان ليُصيب خيراً، ويُولى جميلاً، ويقلَّدُ فلان
لينْجَبر قليلاً، ويُعفى عن فُلان وإن كان عظيم الجُرم، ويُستصلح أمر فلان
وإن كان قد سدّ طريق ذلك، ويكلّم الأمير في باب فلان حتى بجدّد الرضا عنه.
فإن كانت التّذكرة مشتملة على هذه وأشباهها، فاعلم أن الله قد استخلف
صاحبها على عباده، وجعله مناراً للمحتاجين في بلاده؛ وإن كان على غير هذا،
فاغسل يدك منه بالأُشنان البارقي، ولا تَحُجَّه بأملك، ولا تقدّسه بثنائك،
ولا تعْصِ ربَك بحسن ظنّك فيه، وعُدَّه في الموتى. وما أجود ما قال القائل:
من ضَنّ بمعروفٍ ... عَدَدناه من الموتَى
فكانَت راحةٌ منهُ ... ومِن سَوفَ ومِن حَتّى
فهل يكون - أبقاك الله - فعل ابن العميد بالشيخ الطّبري إلا فعل من خَذَله
الله وأسلمه من يديه، ولم يؤهله لخير يُجْزَى به ويكون هو سبباً لتمامه؛
وهل هو إلا فعل ن في أصله خبث، وفي منشئه دَخَل، وفي طباعه خسّة ولؤم، مع
قحة الوجه، ونذالة النّفس، وقلّة الاكتراث، والطُّغيان الذي هو باب الكُفر
الذي هو خُسْران العاجلة والآجلة.
وقد كان يُمكن أن يدبّر ذلك الشيخ البائس بأقرب شيءٍ وأسهله، ولعلّه كان
عند الله أبرَّ منه وأزكى؛ وكان يتّقي أن يُثنى عنه مثل هذا الحديث الذي
مسموعه يغيظ، فكيف مشهوده؟ وإن طينةً تكون مبلولة بهذا الماء، موضوعة في
هذا الهواء، مذكورة بهذه الأفعال والأسماء، أعتقد أن للكلب والقرد
والخِنزير مزيةً عليها.
هذا، وهو صاحب المال المجموع، والذّخر الكثير، والضياع الفاشية، والصّامت
الواسع؛ مع الاقتطاع والاحتجان، والسرقة والبَهت؛ كان ورِقه في ألف ألف
درهم يردها في الخراج، وكان ارتقاعه يزل عن الحساب ويفوت التَّحصيل. وفيه
قال ابن عبدان الإصفهاني:
الاستَاذون في الدّنيا كثيرٌ ... وما فيهم سِوى نَذلٍ خَسيسٍ
وكلُّهُم أَرواهمْ عن قَريب ... فِدَا الأَستاذِ سَيّدنا الرئيسِ
وسيدُنا الرئيسُ فِداءُ كلْبٍ ... فما هو بالرَّئيس ولا النَّفيسِ
والعجب من بخل هذا الرجل ونذالته، مع تفلسفه، وتكثره بذكر أفلاطون وسُقراط
وأرسطوطاليس ومحبّته لهم، مع علمه بأن القوم قد تكلّموا في الأخلاق
وحدّدوها وأوضحوا خفاياها، وميزوا رذائلها، وبيّنوا فضلها، وحثّوا على
التخلّق بها، وساقوا ذلك كله على الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير من
حُطامها، وبذْل الفُضول منها للمحتاجين إليها والمنتجعين بسببها،
والاقتصار على ما تماسك به الرّمق من جميع زخارفها، وتحصيل السّعادة
العُظمى برفْض الشهوات القليلة والكثيرة فيها، والإحسان إلى الناس وغير
الناس بغير امتنان ولا اعتداد، ولا طلب جزاء ولا استحماد؛ كأنه لم يسمع
بما قال عبد الملك بن مروان، أو سمع، ولكن حمَّق عبد الملك عليه، ولم يعلم
أن الصواب فيما قال، والحَزمَ مع ما اختار.
حكى العتبي قال: قال عبد الملك لأُميّة بن عبد الله بن خالد بن أُسيد: ما
لك ولابن حُرثان حيث يقول فيك:
إذا هَتَف العُصفُورُ طار فُؤادُهُ ... وليثٌ حَديدُ النَّاب عند الثّرائدِ
قال: يا أمير المؤمنين، وجَب عليه حدٌّ فأقمته.
قال: فهلاّ درأته بالشُّبهات؟ قال: كان الحدُّ أبيَن، وكان زعمه أهوَن.
قال عبد الملك: يا بني أُمية! أَحسابكم أَنسابكم، لا تُعرِّضوها للجهّال؛
فإن كلامهم باقٍ ما بقي الدّهر. والله ما يسرّني أني هجيتُ بمثل هذا البيت
وأن لي ما طلعت عليه الشمس:
تَبِيتُون في الْمَشْتَى مِلاَءً بُطونُكُم ... وجَارَاتُكم غرْثى يَبِتْن
خَمائِصَا
ثم قال: وما على من مُدح بهذين البيتين أن لا يُمدح بغيرهما، وهما لزُهير:
هنالك إن يُستَخْبلوا المالَ يُخْبِلوا ... زإن يُسْألوا يُعطُوا وإن
يَيْسَرُوا يُغْلُوا
***
عَلَى مُكْثِريهم حَقُّ مَنْ يَعْتَرِيهِمْ ... وَعندَ المُقِلِّينَ
السَّماحةُ والبَذْلُ
قال الأندلسي: استفدنا من رواية هذا الشيخ أن هذا الخليفة روى: "
يُستَخبلوا المالَ يُخبِلُوا " فإنه كان عندنا: " يُستَخْوَلوا المالَ
يُخْوِلوا " ولكلٍّ وجه، ولكن الأُنس بهذه الرواية أكثر.
وصدق عبد الملك في مُناقلته لحُرثان، ودلّ على الكرم المنافس عليه، ونهى
متابعة الهوى وقلة المبالاة، وسوء النّظر في العاقبة؛ وإن بعض الفتيان
البطّالة إذا قال: " والله لأَتَعرَضنَّ لجنايةٍ أُضرَبُ عليها أَلف سَوطٍ
فيصحّ عند الفتْيان صَبري " لأعذر عند الناس ممن يتعرّض لحرمان مختبطٍ
لمعروف، ومنعٍ لمنتجع خير، وإساءة قِرى طارق، وتكليح وجهٍ في وجه سائل.
وما أسهل قول الإنسان: دع الشاعر فليقل ما شاء، ودع الزائر فليفْرِ
فَرْيَهُ كيف أَحبّ! ولكنه إذا زلَّ القول، وطار الحديث، وتمّت النادرة،
فأين المتدارك؟ وأين المعتذر؟ وأين المتلافي؟ هيهات!
والعرب تسمِّي رجلين مُخْلِداً؛ أحدهما؛ مَن يتأخّر شيبه، فتقول:
هذا مُخْلِد، والآخر هو الذي يُمدَح بعد موته.
ومن لم يرغب في الثناء فقد رغب عن مِلّة إبراهيم خليل الرحمن، لأن الله
تعالى أخبر أنه سأله ذلك، وما سأله إلا بعد أن أذِن له، وما أذن له إلا
بعد أن علم أنه الخلق الأسنى والاختيار الأعلى، والطريقة المثلى، فقال:
(وَاجْعَل لي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِين) وقال: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ
في الآخِرينَ).
ثم وضع الله من أقدار قوم وأبقى ذمّهم في الغابرين فقال: (فَجَعَلْنَاهُمْ
أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)، فرأى ذلك نهاية في تهجينهم
والغض من أخطارهم، وأن يتحدث عنهم بما يبعث على الاعتبار بمن أساء لنفسه
النّظر والاختيار، قال الشاعر:
ثَمَن المَعروف شُكْرٌ ... ويَدُ الإحسانِ ذُخْرُ
وثناءُ الحَيِّ لِلأمْ ... واتِ في الأحياء عُمْرُ
وقال أبو هفّان في ابن عبّاد:
للهِ دَرُّك قد أَكملتَ أربعةً ... ما هُنَّ في أحدٍ من سَائر البشرِ
العِرض مُمتَهَن والنّفسُ ساقِطةٌ ... والوجهُ من سَفَن والعَين من حَجَرِ
أنشد بعضهم في ابن عباد، وذمّ سجعه وعقله وخطّه وقال:
مُتَقلِّب كافي الكُفَاة وإنّما ... هو في الحَقيقة كافِرُ الكُفَّارِ
السَّجْع سَجعُ مُهوّس والخَطُّ خَطُّ مُنَقْرس والعقل عقلُ حمارِ
وقلت للنتيف المتكلم: أرى ابن عباد كثير الخلوة بهؤلاء العفاريت الذين
تجاوزوا حدّ الغلومية، أَ تُرى ذلك لفحشاء وتُهمة؟ فقال: أَ ما سمعت قول
الشاعر:
كم حَرْبةٍ في القَوم صارت جَعْبَةً ... فاستُر علَيه فالحديث يطولُ
وإذا الفتَى حاَمَى على ذِي لحيةٍ ... حُبّاً لَه فوراءَه عَاقُولُ
وكان قليل التّحاشي من القاذورات، وهو الذي ألصق به الرّيبة، وسوَّغ فيه
الغيبة، وصار الإنسان إذا ذكر مساويه لا يخاف مأثماً، ولا يرتقب لا ئماً.
على أن مساويه تفوت الحصْر، وتندُّ عن التَّحصيل.
قال ابن عباد لنُدَمائه: ما أول قول الشاعر:
وأَن غداً للناظرين قريبُ
فقال الخُوارزمي: أوله:
أَ لم تَرَ أَن اليَومَ أَسْرَعُ ذاهِبٍ
وقال ابن الأعرابي: تمامها لنصيح بن منظور الفقعسيّ، وهو:
إذا ما خَلوتَ الدَّهرَ يوماً فلا تقلْ ... خلوتُ ولكن قل عَلَيَّ رقيبُ
فلا تَحسَبَنَّ الله يَغفَلُ ساعةً ... ولا أنَّ ما يخْفى عَليْه يَغيبُ
فَأَحسِن وأَجْمل ما استَطعتَ فإنما ... بقَرضِك تُجْزَي والقُروضُ ضروبُ
فلا تَكُ مَغروراً تَعَلّلُ بالمُنَى ... وقُل إنما أُدْعَى غداً فأُجِيبُ
أَ لم تَرّ أَنَّ اليومَ أسرعُ ذاهب ... وأَنَّ غداً للنّاظرين قريبُ
وأنَّ المَنايا تحتَ كل ثنيَّةٍ ... لَهُنَّ سِهام ما تَزال تُصيبُ
ذهَبْن بإِخوَان الصَّفاء فأَصبَحَتْ ... لهُنَّ علينَا نَوبَةٌ سَتَنُوبُ
فأقبل عليه بوجهٍ كالِح أربَد، وقال: أعرفك نذلاً جاهلاً، مأبوناً باطلاً،
إنما تُرينا من نفسك أنك تحفظ وتُحسن؛ التُّراب في فيك يا كلب، ومتى
نبتَّ، ومن أبوك، وعمّن أخذت، وإلى من اختلفت؟ بلى، اختلفت عليك الأمور،
وأُنفقت في دُبُرك أُيور، أنت بمخازيها مشهور، وقوّادُك بعد ما مات، وجذرك
بعد ما نُسي؛ مثلك يجترئ في مجلسنا؟ ويقابل بوجهه وجهنا؟ والله لولا
رعايتنا التي جَرَت بها عادتنا لعرفتنا وعرفتَ نفسك بنا. وعلى هذا وما كاد
يسكت.
فكان جنونه غريباً في أنواع الجنون، لأن الجنون إذا زاحمه العقل، والعقل
إذا طلاه الحُمق لم يكمل الإنسان؛ وأنت إذا قست هذا إلى العاقل، وإلى
الأحمق، وإلى العاقل الذي يعتريه الحمق، وإلى الأحمق الذي يعتريه العقل.
فهذا كما ترى.
ومن تحلّى بالسيادة، وسام الناس الانقياد له بالطّاعة، يحتاج إلى خصالٍ
كثيرة يكون مطبوعاً عليها سوى خصالٍ أُخر يكون مشغوفاً بها وباكتسابها من
أصحابها، وبالمُجالسة والسَّماع والقراءة والتَّقبل. وما أحسن ما قال
عَديّ بن حاتم في صِفة السيّد حين سُئل مَن السيّد؟
فقال: السيد هو الأخرق في ماله، الذّليل في عزّه، المطَّرح
لحقده، المعنيُّ بأمر جماعته.
وكان ذو الكفايتين يقول: خرج ابن عباد من عندنا، يعني الريّ متوجهاً إلى
أصفهان، ومنزله ورامين، فجاوزها إلى قرية غامرة على ماءٍ ملح، لا لشيء
إلاّ ليكتب إلينا: كتابي من النَّوبهار، يوم السبت نصف النّهار.
يا قوم! هل هذا إلا رقاعة؟ واعلم - حاطك الله - أن الكمال عزيز، فإن ما
ربحه أبو الفضل بالعقل خَسِره بالبخل، وكلّ ما زاد ابن عباد بالسخاء نقص
بالحمق، على أن العقل لا يكون تامّاً وهناك خساسة، والسّخاء لا يكون
محموداً وهناك حماقة، والبخل في الجملة غالب على المتفلسفين، كما أن
الحماقة غالبة في الجملة على المُنشئين.
وسمعت علي ابن المُنجم يقول: وكان محذقاً حلو الحديث، وقد سُئل: لمَ غلب
البُخل على كل مُتفلسف؟ فقال: وجدنا الغالب على الناظرين في حقائق الأمور،
والباحثين عن أسرار الدّهور، وهم الموسومون بطلب الحِكمة التي هي الفلسفة،
التمسُّك بكل عرض يملكونه، حتى إنهم لا يُفرجون عن شيء إلا بمشقة شديدة،
ولا يجدون ألم الشُّح والبخل، ولا يأنفون من عارهما؛ وطلبنا العلّة في ذلك
مع ما يقتضيه مذهبهم من الزُّهد والبذل والإيثار والتكرُّم، فوجدناها في
آثار النجوم والنظر في دلالتها؛ وذلك أن الذي يدلّ على علم الحقائق
والغَوْص فيها، واستيفاء الفكر فيها زُحل مع عطارد بالاشتراك. وزحل يوجب
مع شهادته الأُولى الحَصرَ والحَسَد والضّيق والبُخْل؛ لأن البخل يكون من
جهة الخوف من الفقر، وزحل يوجب عجز النفس، وخُضوعاً عند الحاجات، وإشفاقاً
على الفائت لعُسر آثار زُحَل وكثرة تغيُّر أحوال عطارد.
قال: وهذه الدلالة موافقة لما في الطبيعيات، وذلك أن البرد واليبس، من
آثار زحل، يوجبان عوارض السَّوداء؛ وأخلاق النفس تابعة بالنظر الأول لمزاج
البدن، فلذلك يستحيل إليه، وكذلك حال عطارد في خصوصيته باليُبس، ولأن
الحرارة معدومة في زحل وعطارد، والسَّخاء من جنس الشّجاعة المُشاكلة لقوة
الحرارة، والبخل من جنس الجُبن المشاكل لقوة اليبس الذي يوجب العجز وضيق
الصدر والخوف في الحاجات.
قال: ولأن الزهرة لها في الأمور الإلهية والدلالة على الوحي وطهارة
الأخلاق مع ما توجبه من الشهود والنعمة والبذل والقوة الانفعالية بسبب
الرطوبة الغالبة عليها؛ فهي إذا أعطت أعطت الحقائق بغير تكلّف، بل على
سبيل الوحي، وتميل النفس إلى طهارة الأخلاق والتهاون بالمال للمُباينة
الواقعة بين الأمور الإلهية والأمور الطبيعية التي بها يُطلب المال ويتمسك
به، فالذي يشرك في تديره بين العلوم والخلُق الزُّهرة، ويكون صاحبها
مصادقاً للحقائق عفواً مُبغضاً للمال طبعاً.
والذي يغلب على تدبيره في العلم والخلق زحل، وعُطارد يتكلف العلم ويحب
المال، ويكون مغلوباً بالبُخل.
وكان جريج المقل إذا جرى حديث أبي الفضل قال:
صَبورٌ على سَوء الثَّناءِ وقاحُ
وأنشد فيه:
ولا يَستَوي عند كَشف الأُمو ... رِ باذلُ مَعروفِه والبخيلُ
ولا تعجب من إطلاق مثل هذا في ذوي الرياسة، فإنه مسبوق إليه في القديم
والحديث؛ هذا محمد بن الجرّاح عمُّ عليّ بن عيسى الوزير ساقَ في كتابه في
" أخبار الوزراء " فقال: كان آل برمك أندى من السّحاب، وآل وهب أخس من
الكِلاب، وأنشد جريج المقل في أبي الفضل:
لنا فيلسوفٌ عالمٌ بالطبائع ... يُخَبِّرنا من طبّه بالبَدائع
رأى البُخْل حِذقاً فهو يَحمي ويحتمي ... فلستَ تَرى في دارِه غيرَ جائع
وَيزعم أَن الفَقْر في الجُودِ والنَّدَى ... وأن ليس حظٌ في اكتساب
الصّنائع
ستَعلم بعدَ الموت أنّك نادِمٌ ... وأنّ الذي خلَّفتَ ليس بنَافِعِ
لقَد أَمِن الدُّنيا ولَم يخشَ صرفَها ... ولَم يَدْرِ أَن المرءَ رَهنُ
الفجائع
وقال: كان يدّعي له العقل وهو لا يرجع إلى دين، وكل من فسد دينه فسد عقله.
قد أعجبته فلسفته التي لا يحظى منها بطائل، ولا يتبيَّن بين أهلها بحقيقة.
أَ مِن العقل أن ينشد كلّ شعرٍ لملحد، ويردّد كل لفظ غَث ومعنىً ثقيل؟
أنشد يوماً قول النَّضر بن الحارث:
يُخبِّرنا ابنُ كبشَة أن سَنَحْيا ... وكيفَ حياةُ أَصداءٍ وهَامِ
أَ يَقتُلُني إذا ما كنتُ حَياً ... ويُحيِيني إذا رمَّت عظامِي
وأنشد آخر:
أَصبحتُ جَمَّ بلابِل الصَّدر ... وأبيا منطوياً على غَمْر
إن بحت طُلَّ دَمي وإن ... أَسكتْ يَضيق بذاكُمُ صَدْري
وقال: هذا لصالح بن عبد القُدُّوس العاقل المُجيد، أما سمعت قوله الآخر:
باحَ لساني بمضمَر السِّرِّ ... وذاك أَني أَقول بالدَّهر
وليسَ بعدَ الممات مُنقلَبٌ ... وإِنما المَوْت بيضة العُقْر
وهذه أمور قبيحة من سفلة الناس، فكيف من عليتهم؟ وإذا سكت الناس عنهم في
حياتهم خوفاً منهم، نطقوا بها بعد موتهم تقرباً إلى الله تعالى بالصدق
عنهم.
فلا يَهِيدنَّك ما تسمع؛ فإن الله تعالى لا يُقيّص للمُحسن إلا المحسن،
كما لا يُلجيء المُسيء إلا إلى المُسيء.
ورأيت العَسْجَديّ يقول لجريج المقل: كيف وجدت هذا الرجل؟ يعني أبا الفضْل.
فقال: يابس العود، ذميم المعهود، سيء الظن بالمعبود، ومثله لا يَمْجُد ولا
يَسود.
فقال له العسجدي: أَ فلا ترى ذهه الأُبّهة والصِّيت والغاشية والموكب؟
فقال: هذا وإن كان من الدولة، فهي غير السُّؤدُد، والسلطان غير الكرم،
والجِدة غير المحمدة؛ أين الزُّوار والمنتجعون؟ وأين الآملون الشاكرون،
وأين المُثنون الحامدون؟ وأين الواصفون الصّادقون؟ وأين المنصَرِفون
الرَّاضون؟ وأين دار الضيافة والخدم المرتبون للخدمة؟ هيهات! لا تجيءُ
بالطَّقطَقة والرَّقرقة؛ أما تسمع الشعر:
أَبا جَعفرٍ ليس فضلُ الفتَى ... إذا راح في فَرْط إِعجابِهِ
ولا في فَراهة بِرْذَوْنِهِ ... ولا في نَظافة أَثوابِهِ
ولكنَّه في الفَعال الجَمِي ... لِ والحسَبِ الأَشرَف النَّابِهِ
وكان أبو الفضل يُطري البُحتريّ ويُعجب من عزله وتشبيبه، ويستسهل في
الجملة طريقته، ورجل حاضرٌ يُخالفه في ذلك، فقال أبو الفضل:
البُحتريُّ يَرومُ غايةَ شِعرِهِ ... من لا يُقيم لنفسِهِ مِصْراعاً
أَنَّى يَرومُ مَنَالَه ولو ابتغَى ... تَقْويم قَافيةٍ له ما اسْطاعا
جَذَب العَلاءُ بضَبْعِهِ فأَحلَّه ... بينَ المَجَرَّةِ والسِّماك رِبَاعا
وغَدَوْتَ ملتزِمَ الحضيض فكلَّما ... فَرَعَ العُلا باعاً هَبَطتَ ذِراعاً
قال: فخري الرجل وسكت.
وحدثني أبو الطيب الكميائي قال: قلتُ لأبي الفضل - بعد أن سمّ الحاجب
النَّيسابوري، وبعد أن خطب على حَمْد، ودَسَّ إلى ابن هنْدُو وغيرهم من
أهل الكتابة والمروّة والنّعمة: لو كفَفت، فقد أسرَفت.
فقال: يا أبا الطيّب! أنا مُضطَرّ.
فقلت: أيّ اضطرار ها هنا؟ والله إن مُخادعتنا لأنفسنا في نفعنا وضرِّنا
لأَعجب من مُكابرة غيرنا لنا في خيرنا وشرّنا، وهذا والله رَيْنُ القلب
وصَدَأُ العقل، وفساد الاختيار وكَدر النفس، وسوء العادة، وعدم التّوفيق.
فقال: يا أبا الطَّيِّب! أنت تتكلم بالظاهر، وأنا أحترق في الباطن.
فقلت: إن كان عُذرك في هذه السيرة المخالفة لأهل الديانة وأصحاب الحِكمة
قد بلغ بك هذا الوضوح والجَلاء فإنك معذور عندنا، ولعلّك أيضاً مأجور عند
الله مالك الجزاء.
وإن كنت تعلم في حقيقته غير ما تُراجعني عليه القول، وتُناقلني فيه
الحِجاج فإنك من الخاسرين الذين قد باءُوا بغضبٍ من الله على مذاهب الناس
أجمعين.
فَبَكى.
فقلتُ: البكاء لا ينفع إن كان الإقلاع ممكناً، والنّدم لا يُجدي متى كان
الإصدار قائماً؛ هذا كلُّه بسبب ابنك أبي الفتح؛ والله إنّ أيام ابنك لا
تطول، وإنَّ عيشه لا يصفو، وإن حاله لا يستقيم وله أعداءٌ لا يتخلّص منهم؛
وقد دلَّ مولده على ذلك. وإنك لا تدفع عنه قضاء الله، وهو لا يُغني عنك من
الله شيئاً. فعليك بِخُويْصَةِ نفسك.
وهذا موضع يُروى عنه بعض ما هو فائدة من الأدب والحكمة، وإن كان استيعاب
ذلك شاقّاً؛ فإن الرجل كان كثير المحفوظ جيد الاقتضاب.
حدَّثني ابن فارس: جرى بين يديه أسماء الفرج وكثرتها، فقال بعض
الحاضرين: ماذا أراد العرب بتكثيرها مع قُبحها؟ فقال: لما رأوا الشيء
قبيحاً جعلوا يكنون عنه، وكانت الكناية عند فُشُوِّها تصير إلى حد الإسم
الأول فينتقلون إلى كناية أخرى، فإذا اتّسعت أيضاً رأوا فيها من القبح مثل
ما كنوا عنه من أجله، وعلى هذا، فكثرت الكنايات، وليس عندهم تكثيرها.
وحدثني الهروي قال: سألت يوماً ابنه أبا القاسم؛ أخاً كان لذي الكِفايتين
مات قبله - عن قول الشاعر:
فما لَكُم طُلْسَ الثّياب كأَنكم ... ذئابُ الغَضَا والذئبُ بالليل أَطلَسُ
فقال ولده: هو ظاهر إلا أن يكون تحته معنىً.
قفلت ممازحاً له: أَ هو ظاهر لك أو ظاهر عنك أي غائب؛ ومعنى ظاهر عنك أي
مُجانب لك بارزٌ عنك. ومنه قول الهُذليّ:
وعيَّرها الواشون أَني أُحبُّها ... وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنكِ عارُها
وفسّر البيت فقال: مالكم مجاهرين لي بالعداوة ولا تجاملونني في حال،
فالذّئب أصلح منكم لأنه بالليل أطلس أي مجاهر بالليل فقط، ومُداجٍ
بالنهار؛ فهو مجاهر في وقتٍ ومُداج في وقت، وأنتم مُصرّون على العداوة.
وكان يحفظ فقراً كثيرة لابن المعتز، ويرويها في مجلسه في الوقت بعد الوقت،
وكان يُوهم من حضر أنه من اقتضابه.
منها قوله: إن في الحكم: أن المتواضع من طلاب العلم والحِكَم أكثرهم حظاً،
كما أن المكان المتطامن من أكثر البقاع ماءً.
وأنسُ الأمن بوحشة الوحدة، ووحدة الخوف تذهب بأُنس الجماعة.
ومنع الحافظ خيرٌ من عطاء المضيّع.
وإذا طرت فقع قريباً.
والرجال يُفيدون المال، والمال يُفيد الرجال.
إذا أبصرت العين الشّهوة عَمي القلب عن الاختيار.
من رأى الموتَ بعين أمله رآه بعيداً، ومن رآه بعين عقله رآه قريباً.
العقل صفاء النفس، والجهل كدرها.
لا تلبس السلطان في وقت اضطراب الأمور عليه، فإن البحر لا يكاد راكبه يسلم
في حال سكونه، فكيف مع اختلاف رياحه واضطراب أمواجه.
وإن الله تعالى أضاف إلى كل مخلوق ضدّه ليدلّ على أن الوحدة له وحده.
كرمُ الله لا ينقص حِكمته. ولذلك لم تقع الإجابة لكلّ دعوة.
للطالب المُنجح لذّة الإدراك، وللطالب المحروم لذة اليأس.
ومن صحب السلطان فليصبر على قسوته كصبر الغوّاص على ملوحة ماء البحر.
والعالم يعرف الجاهل لأنه كان مرة جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم
يكن مرة عالماً.
ومن جعل الحَمْد خاتماً للنّعمة جعله الله مفتاحاً للمزيد.
لو تميّزت الأشياء لكان الكذب مع الجُبن، والصِّدق مع الشَّجاعة، والراحة
مع اليأس، والتّعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والذُّلّ مع الدَّيْن.
ومالُ الميّت يُعزّي ورثته عنه.
كيف تريد من صديقك خُلُقاً واحداً وهو ذو أربع طبائع.
تُرقّع خرق الدنيا ويتّسع، وتشعبها وتنصدع، وتجمع منها ما لا يجتمع.
وكان مليّاً بهذا النّمط ويُفرغ في قالبه، ولكن لم يكن له منه إلاّ لقعة
اللِّسان وصَدَى الصوت، وتقطيع اللفظ. فأما التحلي والعمل فكان منهما على
بعد؛ والعقل متى لم يُثمر كرَماً فهو وبال، والحكمة متى لم تُورث عملاً
فهي خَبال؛ والكرم ما قاله الأعرابي حين سُئل عنه، فإنه قال: أما الكرم في
اللقاء فالبشاشة، وأما في العشرة فالهشاشة، وأما في الأخلاق فالسّماحة،
وأما في الأفعال فالنصاحة، وأما في الغِنى فالمشاركة، وأما في الفقر
فالمواساة.
قلت لأبي السلم نجبة بن علي: أَ ابن عباد أحبُّ إليك أم ابن العميد؟
قال: ما فيهما حبيب، على أني برقاعة هذا أشدُّ انتفاعاً مني بعقل
ذاك؛ هذا يغضب إذا ترّفعت عن عطائه، وقبضت يدك عن قبول بِرِّه، ومشيت
ناكباً عن بابه وقصده؛ وذلك كان يحقد إذا رجوته وتعرّضت له، ويغضب إذا
أثنيت عليه وطمعت فيه؛ وهذا يكذب مُتماجناً، وذاك كان يصدق مع الدّماثة
ويغيظ؛ وهذا يفعل الخير وإن قاله وأفشاه وبجِحَ به وسحب ذيله عليه، وذاك
كان لا يُقلع عن الشر وإن قرع في وجهه باللائمة، وكُشِط عرضه بالمذمّة؛
وهمُّ هذا في الأخذ والإعطاء، والإبعاد والإدناء؛ وكان دأب ذاك الجمع
والمنع والتفلسف ليقع اليأس منه، ويتلذذ بالخيبة عليه؛ وهذا يقول ويفعل
بعض ما يقول متجلّداً، وكان ذاك لا يهم ولا ينوي ولا يظنّ ولا يحلم، فضلاً
عن القول المٌطمع والعمل النافع؛ وعيبُ هذا أنه يذوب حتى لا يحصل لك منه
شيء؛ وكان عيب ذاك أنه يجمد حتى لا تنتفع منه بشيء.
وقلت لأبي السلك يوماً، وقد خرج من دار ابن عباد: كيف ترى الناس؟ فقال:
رأيت الداخل ساقطاً، والخارج ساخطاً، وأخذ من قول شبيب؛ فإنه خرج من دار
المهلّبي وقال: تركت الداخل راجياً، والخارج راضياً.
وكان أبو السلم من فصحاء الناس؛ سمعته يقول: الكَسير يعثم والحَسِير يوثم.
وقال أيضاً: ما أحسَنَ مِنْقادَ هذا الطائر، بالدال.
وقال للبديهي، لما رأى تعسُّفه في العربية: يا هذا! الكلام لا يُواتيك
قسراً ولا يُطيعك كارهاً، تكلّم عن سجية النفس، وعفو الطّباع، واطّرح
البقية جانباً، وجانب التكلّف، واتّبع المعنى يتبعك اللفظ، والْحَظِ
العقل، فنه نورك، والزم الجادة فهي مسلكك، ولا تذلنّ فتخزى، ولا تعزّن
فتُقصَى، وتحكَّم وأنت مٌبقٍ، وخُذ كأنك مُعْطٍ، وكسِّر لهاتك بتصاريف
الكلام مُشققاً لا مُتشدِّقاً، تبلغ إرادتك، تملك عادتك.
قلت له: كيف كان حديث ابن العميد؟ قال: " أَلذُّ من السَّلْوَى إذا ما
نَشُورُها " وحديث ابن عباد أنتَن من الصُّنان، وأثقل من الصُّدام،وأبغض
من القضض في الطعام، وأوحش من أضغاث الأحلام. يتحاشى كأنه صبي مترعرع، يطن
أن الأرض لم تقلَّ غيره، وأن السماء لم تُظِلّ سِواه، أما سمعته يشتم في
هذه الأيام إنساناً فقال: لعن الله الأهوج الأعوج الأفلج الأفحج
الحَفَلَّج، الذي إذا قام لَجْلج وإذا مشى تفحّج، وإن تكلّم تلجلج، وإن
تنعم تمجمج، وإن مشى تدحرج، وإن عدا تفجفج.
قال: فهل سمعت بكلام أنبى عن القلب وأسمَج من هذا؟ نعوذ بالله من العُجمة
المخلوطة بالتّعريب، ومن العربية المخلوطة بالتعجيم.
ولو أن هذا النقص لم يدلّ إلاّ على اللفظ الذي معدنه اللّسان لكان العُذر
أقرب، لكنه كاشفٌ لِعَوْرة العقل، هاتكٌ لستر المعرفة، ومن استدرجه الله
إلى هذه الحال فقد خذله وإن ظنّ أنه منصور، وأفقره وإن حسِب أنه مُثْرٍ.
وسمعته يقول لكاتبٍ بين يديه، وقد كتبَ: " من إسماعيل بن عباد " ، وكانت
العين من إسماعيل قد تطلّست، ولم يكن لها بياض المشقين بتعحرف للكاتب
والقلم.
فقال: يا هذا! عيني هكذا ينبغي أن تُكتب بالله؟ أنت أعمى؟ أما ترى عيني؟
انظر إليها حسناً! أَ هي مطموسة، أَ هي مملوسَة، أَ هي مَطلوسَة، أَ هي
مَهروسة، أَ هي ممْسوحَة، أَ هي مَنزوحة، أَ هي مَسطوحة؟ وما كاد يسكت.
وهل هذا إلا رقاعة وجهل وكلام رُقعاء المعلّمين والمخنّثين؟! وقال يوماً:
ها هنا أشياء لا حقيقة لها.
منها: إمام الرافضَة، والاستطاعة مع الفِعل، والبَدَل للنجَار، والهيولَى.
فقال الحسين المتكلّم: والحال لأبي هاشم.
فقال: مما يوضح عندي معنى الحال أن مثلك لا يفهمه. وكان هذا الكلام بسبب
تنكر له شديد.
فقلت أنشدني الأندلسيّ أبو محمد لبعض شعراء المغرب بيتاً ذكر فيه أشياء
زعم أنه لا حقيقة لها.
فقال: وما ذاك البيت؟ فأنشدته:
الجودُ والغولُ والعَنقَاءُ ثالثةً ... أسماءُ أَشياءَ لم تُخلَق ولم تكُنِ
قال: أَ وَفي المغاربة من له هذا النَّمَط؟ قلت: سألته عن هذا فقال لي: في
المغرب من يقدَّم نثره على نثر إبراهيم بن العبّاس الصُّولي، ويُقدَّم
نظمه على نظم أبي تمّام.
فقال: فهل روَى لك غير هذا؟ قلت: نعم أنشدني لشاعر لهم يُعرف بأبي بكر
محمد بن فرح في طفيلي يعرف بابن الإمام:
أَفدِيك من مُتوجّد غضبانِ ... حتى يَلُوحَ له ضَباب دخانِ
يَقتاده شَمُّ القُتارِ بأَنفِهِ ... مثل اقتِياد النجم للحيوانِ
وعَلاَ الدُّخانُ بشتّ طولة مُرْبياً ... يُبدِي كمينَ مطابخ الإِخوانِ
وبحانة المُلْهِين جاسُوسٌ لَه ... يُنيبه أَينَ تناكَح الزَّوجانِ
صَبٌّ إِلى الطَّوَفان مرتاحٌ إلى الجَوَلان مضطِغنٌ عَلَى الخلاّنِ
فَتَرى الإماميّين حول رِكابه ... كالخيل صايعةً ليوم رِهانِ
لَو يَسمعون بأَكلةٍ أَو شربةٍ ... بعُمان أَصبح جمعُهم بعمانِ
زارَ الفتَى القرشيَّ لا لتعهّدٍ ... منه، ولا شوق إلى لقْيَانِ
حتّى إذا وُضِع الخوانُ تساقطوا ... نَهماً عليه تساقط الذبّانِ
ورأيتَه من بينهم متخمّطاً ... في لقمة كتخمط السكرانِ
لم يَنصرف إلا وفي أكمامِهِ ... حمْل وفي أَعجافه حمْلانِ
وأَخو ثقيف فرَّ منه قاصداً ... جيّانَ لو أَعنَت قُرى جَيّانِ
لو حلّ نَجْرانَ لم يبعُد عَلَى ... عزَماتِ نِيّته مَدَى نَجْرانِ
كالموت تَسعَى في التخلّص جاهداً ... منه، وتلقَاه بكُلّ مَكان
فعجب من الأبيات وقال: ماذا قال لك في تفسير شت طوله؟ فقلت: زعم أنها
بُليْدة.
قال: فما جَيّان؟ قلت: زعم أنه مكان يعرف هكذا.
قال: اكتب الأبيات إلى نجاح، وكان خازن كُتبه.
ثم قال: ما أنشدك شيئاً في الغَزَل؟ قلت: بلى! أنشدني لأبي عُمر الأندلسي:
مهلاً فَما دِينُ الهَوى كُفْرُ ولا ... أعتَدُّ عذلَك لي من التنزيلِ
***
من حاكمٌ بيني وبينَ عَذولي ... الشَّجْوُ شَجْوِي والعَويلُ عويلي
فبِأيّ جارحةٍ أصُون مُعذّبي ... سَلِمت من التَّعذيب والتَّنكيل
إن قلت في عيني فثّمَّ مدامعي ... أو قلتُ في كبِدي فثَمَّ غليلي
وأنشدني لهذا الشاعر بعينه أيضاً:
وأحورَ إن كلَّمتَه فهو شاعرٌ ... بياناً، وإِن لاحظتَه فهو ساحرُ
عَلَى خدّه للياسَمين غلائلٌ ... عليها من الوَرْد النضير ظهائرُ
حُسَامٌ بعينيه ونِطْعٌ بخدّه ... وصبغ دَمِ العُشَّاق في النطْع ظاهرُ
ولابن رَشيق أيضاً:
ولم أَدخُل الحمّام ساعةَ بينهم ... طِلابَ نعيم، قد رضيت ببوسِي
ولكن لتجري دَمعتي مُستهِلَّةً ... فأَبكي ولا يَدرِي بذاك جَليسي
فقال: كنت أحب أن أرى أبا محمد هذا، ولو انتجعنا لبلّغنا له مراده.
وأعدت هذه الكلمة على أبي محمد سنة سبعين، فقال: والله ما أُحبُّ أن أسمع
حديثه فكيف أُوثِر أن أُبتَلَى برقاعته.
وله مع حسين المتكلم جواب آخر؛ تناظرا في مسألة حَمي الوطيس، والتحمت
الحرب قال لحسين المتكلّم: هذا كلام من لا يعرف الكلام.
فقال: أيها الصاحب! رفقاً فإني أُعرف بحسين المتكلم، ولا يجوز أن أشتهر
بشيءٍ لا أكون رأساً فيه.
فقال: وما في هذا؟ إبراهيم المسلم طبيب المارستان يُعرف بالمسلم وهو بعيد
مما يُعرف به، قريب مما يقرَف به.
وجرى ليلةً حديث أبي سعيد السّيرافي، وكان ابن عباد يتعصّب له، ويقدّمه
على أهل زمانه، ويزعم أنه حضر مجلسه، وأبان عن نفسه فيه، وصادَف من أبي
سعيد طودَ حلم وبحر علم.
فقال أبو موسى المعلِّم: شيخٌ يعرف بالحسنكي: إلا أنه لم يعمل في شرح كتاب
سيبويه شيئاً.
فنظر إليه ابن عباد متنمراً ولم يقل حرفاً. فعجبنا من ذلك. ثم إني توصلت
ببعض أصحابه حتى سأله عن حِلمه عن أبي موسى مع ذبّه عن أبي سعيد، فسأله
فقال: والله لقد ملكني الغيظ على ذلك الجاهل حتى عزب عني رأيي، ولم أجد في
الحال شيئاً يشفي غلتي منه، فصار ذلك سبباً لسكوتي عنه، فتشابهت الحال
الحلم، وما كان ذلك حلماً، ولكن طلباً لنوع من الاستخفاف لائق به. فوالله
ما يدري ذلك الكلب ولا أحدٌ ممن خرج من قريته ورقةً من ذلك الكتاب، وهل
سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى آخره مع كثرة فنونه وخوافي أسراره.
وكان أبو موسى هذا من طبرستان. فعُدَّ هذا التعصُّب من مناقب ابن عباد،
وحُجب أبو موسى بعد.
وكان ابن عباد يتطلّب العلل للحجاب، ويتعلق بالريح، وكان له
تلذّذ به، وقد حكيت ذلك آنفاً.
وما سمعت في تلافي المحجوب كلاماً ألطف من كلام حدثني به الخوارزمي عن
السّلامي صاحب خراسان؛ قال السلامي: عاتبتُ أبا الفضل البلعمي وزير عبد
الملك بن نوح بأبياتٍ على حِجابٍ نالني منه، فقال: لك عندنا - بما استعتبت
- العُتْبى، وعلى ما استعديت العَدْوَى. أما نهارنا فمقسوم بين حوائج
الناس وإنما نفرغ بالليل للاستئناس بوجوه الأولياء والخواص فاحضر بالنهار
مباسطاً ومخالطاً، وبالليل مؤانساً ومجالساً.
وكان ابن عباد ضد هذا، لأنه كان يشتكي إليه فيقول: الشكوى إليَّ الحجاب
إغراء، والصبر عليه يعطفني إلى بعض ما يُلتمس مني.
وسمعته يقول: لله عندي أياد متضاعفة، ونِعمٌ متكاثفة، ومن أجلّها أنه لم
يغمسني في مذاهب الإمامية. ومع هذا كان إذا عمل قصيدة في أهل البيت غَلا
وتجاوز، وغضّ من الصّدر الأول، وادّعى على الشيخين البُهتان، وعَرَّض
وصرّح.
وهذا من فعلاته الذميمة، وجهالاته المشهورة.
وأنشد ثعلب في الحجاب أبياتاً وقال: ما سمعت بمثلها. هكذا سمعناه فيما قرئ
على ابن مِقْسَم العطّار النّحوي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وهي:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردَّ ذوي الحاجات ضِيقُ حجابِهِ
ظننت به إحدى ثلاث وربما ... نَزعت بظن واقِعٍ بصَوابِهِ
فقلت به مسٌّ من العِيِّ حاضر ... وفي إذنِهِ للناس إظهارُ ما بِهِ
فإن لم يكن عِيّ اللّسَان فعارض ... من البُخل يَحمي مالَه عن طِلابِهِ
وإِن لم يكُن هذا وذاك فرِيبَةٌ ... يُصِرّ عليها عند إغلاق بابِهِ
وحدثني المرزباني قال: لقد أجاد البصير في قوله:
رُبَّ فتىً تُحمَد أَخلاقُه ... وتَسكُن الأَحرارُ في ذِمّتهِ
قد كثَّر الحاجبُ أَعداءَه ... وسلَّط الذّم عَلَى نعمتِهِ
ومن طريف ما حدثنا به ابن عباد في الوقت الذي تلاقت فيه العساكر بقصر
الجصّ، قال: كنتُ في مقيلي فأتاني آتٍ قال:
اسقِني قهوةً بِفَرْطِ اختياري ... خرَجَ الملْك عن يَدَيْ بخْتِيار
وأما أبو الفتح ذو الكفايتين فإنه كان شاباً ذكياً متحركاً حسن الشّعر
مليح الكتابة كثير المحاسن، ولم يظهر منه كلّ ما كان في قوته لقِصَر
أيامه، واشتعال دولته وطفوها بسرعة.
ومن شعره:
إنّي متَى قَناني تنتَثِر ... أَوصالُها أُنبُوبةً أُنبُوبا
أَدعو بعَاليها العُلا فتُجيبُني ... وأَقِي بحدِّ سنَانِها المرهوبا
ومن شعره:
نَهضتْ تَثَنَّى في الكواعبْ ... كالبَدْر هادَتْه الكواكبْ
فتبرَّجتْ سُدف الدُّجَى ... وتبلّجت ظُلَم الغياهِبْ
للهِ أنت وهُنَّ إِذ ... يَختَلْن من كرمٍ صَواحِبْ
مُتَلألئاتٍ كللآ ... لي ضَمَّها عِقدُ الترائبْ
إني أُعيذكِ أَن تَرُدِّي ... مُقْلتي بمُنىً كَواذِبْ
وتسَوِّدي وجهَ الرَّجَا ... ءِ وتُغْلِقي فتحَ المذاهِبْ
أوَ مَا تَرَيْن مَدَامِعي ... سحّا سَحَائبُها سَواكِبْ
جادَت ديارَكِ أَين كا ... نَت مِثْلَها دِرَرُ السَّحائبْ
محلولَةَ الأَرماق فصْ ... ماءَ العُرَى وُطْفَ الهَيادبْ
وعَدَتْكِ داهيةُ اللَّيا ... لي والحوادثُ والنَّوائبْ
لاَ زِلْن منكِ بحيثُ أَن ... تِ من الشّوائب والمعَايبْ
إني إِذا أُعزَي إليْكِ من الأَقارب أَو أُقَاربْ
لا تَقْطَعِي حَبْلَ القري ... ب وتَكْفُرِي حَقَّ المُنَاسِبْ
فتُفارِقي خلُق الكَري ... مِ وتَضْرِبي مثَلاً لِضَارِبْ:
إنَّ الأَقَارب كالعَقا ... رِب بَل أَضَرُّ من العقارِبْ
لا تَبْخَلي إنَّ الكري ... مَة من مَواهِبها منَاهبْ
كُفِّي السيوفَ عن الحتُ ... وف وإن أطاعَتْها المضَاربْ
لا تَرْغَبي عَن ماجدٍ ... سَمْحِ الخلائق والضَّرائبْ
يُعزَى لآباءٍ غَطَا ... رفةٍ وأُمَّاتٍ نجَائبْ
إنيّ من النفَر الكرا ... مِ السَّادة الشُّم الذوائبْ
يَقِظٌ إذا كرِيَ اللئَا ... مُ عن العُلى كَكَرَى الأَرَانِبْ
أَسَدٌ إذَا وَنَتِ القرُوُ ... مُ عن الوَغَى وَنْيَ الثَّعَالِبْ
عَفٌّ أُطيل ظَمِيئَتيِ ... حتَّى أَرَى صَفْوَ المَشارِبْ
وأُذِلُّ نَفْسي في الكَري ... هَةِ أَو أرى كَرَم المنَاسِبْ
وإذا تُسِيءُ عِصابةٌ ... عَمَّمْتُها شرّ العصَائبْ
كَم مِن عَدُوٍّ كَاشِحٍ ... يَرنُو إليّ بطَرف عاتِبْ
يُبْدِي لنا وجهَ المُشَا ... جِر دونَه صَدْرُ المحَارِبْ
مُتَقلّصِ الأَحشاءِ من ... حسَدٍ دُوَيْن الصَّدْر رَاتِبْ
لَو شئتُ أَحرقُ أهلَه ... من نَهْضتي نارُ الحُبَاحِبْ
سلَّمتُه ليَد الحَوَا ... دِثِ والأمُور إلى عَواقبْ
إن لم تكُن فوقَ الأَكُ ... فّ يَدِي فكَانت للمُغَالِبْ
أو لم تكن فوق الذُّرَى ... قَدَمي فأَعْيَتْها المَذَاهِبْ
وله كلام كثير نظم ونثر. وله في وصف الفرس ما يوفى على كل منظوم، ولو
أبقته الأيام لظهر منه فضل كبير.
ودخل بغداد فتكلف واحتفل، وعقد مجالس مختلفة للفقهاء يوماً، وللأدباء
يوماً، وللمتكلمين يوماً، وللمتفلسفين يوماً، وفرق أموالاً خطيرة، وتفقد
أبا سعيد السيرافي، وعليّ بن عيسى الرُّمّاني وغيرهما، وعرض عليهما المسير
معه إلى الرّيّ، ووعدهم ومنّاهم، وأظهر المباهاة بهم، وكذلك خاطب أبا
الحسن الأنصاري ابن كعب، وأبا سليمان السجستاني المنطقي، وابن البقّال
الشاعر، وابن الأعوج النَّمَري وغيرهم.
ودخل شهر رمضان فاحتشد وبالغ، ووصل ووهب، وجرت في هذه المجالس غرائب العلم
وبدائع الحِكمة؛ وخاصة ما جرى للمتفلسفين مع أبي الحسن العامريّ.
ولولا طول الرسالة لرسمت ذلك كله في هذا المكان.
فمن طريف ما جرى، وفي سماعه فائدة واعتبار: ما أَحكيه لك ها هنا.
انعقد المجلس في جمادى الآخرة سنة أربع وستين وثلاثمائة، وغصّ بأهله،
فرأيت العامريّ، وقد انتدب فسأل أبا سعيد السّيرافي فقال: ما طبيعة الباء
من (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فعجِب الناس من هذه المطالبة، ونزل بأبي
سعيد ما كاد يشده به، فأنطقه الله بالسحر الحلال.
وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدّبنا به بعض الموفّقين من المتقدّمين! فإنه
قال:
وإذا خطَبْتَ عَلَى الرِّجال فلا تَكُن ... خَطِل الكلام تقُولُه مختالاً
واعلَم بأنّ السكوت لبابةً ... ومن التكلُّف ما يكون مُحالاً
والله يا شيخ لَعينك أكبر من قرارك، ولَمرآك أوْفى من دُخلتك، ولَمنشورك
أبين من مطويّك؛ فما هذا الذي طوّعت له نفسك، وسدَّدَ عليه رأيك؛ إني أظن
السّلامة بالسّكوت تعافُك، والغنيمة بالقول ترغب عنك. والله المستعان.
فقال ابن العميد، وقد أُعجب بما قال أبو سعيد:
فتَىً كان يَعلُو مفرقَ الحَقّ قولُه ... إذا الخطباءُ الصِّيد عصَّك
قِيلُها
جَهِيرٌ ومُمتَدُّ العنان مُناقِلٌ ... بَصيرٌ بِعَوْرات الكَلام خبِيرُها
وقال:
والقائل القولَ الرّفيع الذي ... يَمْرَعُ منه البَلدُ الماحِلُ
ثم التفت إلى العامريّ وأنشد:
وإِن لساناً لم تُعِنْه لبابَةٌ ... كحاطِب ليلٍ يجمع الرّذْلَ حاطبهْ
***
وذي خَلَلٍ في القول يَحسَب أَنه ... مُصيب فما يُلْمِمْ به فَهْو قائلُهْ
***
وفي الصّمتِ ستْر للعَيِيّ وإنّما ... صحيفَةُ لب المرءِ أَن يتكلَّما
***
وفي الصَّمْت شتْر وهو أبهَى بذِي الحِجَا ... إذا لم يكن للنُّطق وجهٌ
ومَذْهَبُ
هاتوا حديثاً آخر فقد يئسنا من هذا، ثم أقبل على ابن فارس معلّمه، فقال:
يئسنا من كلام أصحابك في الفُرضة والشّط.
فلما خرجنا قلت لأبي سعيد السيرافي: أيها الشيخ! رأيت ما كان من
هذا الرجل الخطير عندنا، الكبير في أنفسنا؟ فقال: ما دُهيت قطُّ بمثل ما
دُهيت به اليوم، ولقد جَرت بيني وبين أبي بشر متّي صاحب شرح كتب المنطق
سنة ست وعشرين وثلاثمائة في مجلس أبي الفتح الفضل بن جعفر الفرات ملحة
كانت هذه أشوس وأشرس منها.
ولولا هربي من الإطالة، وثقل النّسخ، وإدخالي حديثاً في حديث، لحكيت
المناظرة التي أومى إليها هذا الشيخ الذي كان إمام زمانه وعالم عصره، لأنه
حدثني بها بزَوْبَرِها، وكانت في الفرق بين النحو والمنطق وريم أحدهما على
الآخر، وإحصاء الفوائد لكل واحد منهما.
وحضرت المجلس يوماً آخر مع أبي سعيد وقد غصَّ بأعلام الدنيا، وبُنُود
الآفاق، فجرى حديث أبي إسحاق الصّابي، فقال ذو الكفايتين: ذاك رجل له في
كل طِراز نسجٌ، وفي كل فضاء رهج، وفي كل فلاةٍ ركبْ، وفي كل غمامة سَكْب؛
الكتابة تدّعيه بأكثر مما يدّعيها، والبلاغة تتحلّى به بأكثر مما يتحلّى
هو بها. وما أحلى قوله:
حمراءُ مُصْفَرَّةُ الأَحشاءِ باعثةٌ ... طِيباً تخالُ به في البيت
عَطَّاراً
كأَن في وسْطها تِبْراً يُخلّصِهُ ... قَيْنٌ يُضَرِّم في أورَاقِهِ
النارَا
وقوله:
ما زلتُ في سُكْري أَلمِّع كفَّها ... وذِراعَها بالقَرْصِ والإِثآر
حتى تركت أَديمها وكأَنّما ... غُرِزَ البَنَفْسَجُ في الجُمّارِ
وبلغ المجلس أبا إسحاق فحضر وشكر، وطوى ونشر، وأورد وأصدر، وكان كاتب
زمانه لساناً وقلماً وشمائل، وكان له مع ذلك يدٌ طويلة في العلم الرياضي.
وسمعت أبا إسحاق يقول: هو ابن أبيه، لله دَرّه! ثم أخذ في تعظيم أبيه،
وقال: وكان من أماني الكُبَر لقاؤه، وإني لكثير الإعجاب بكلامه، لأني أجد
فيه من العقل أكثر مما أجد فيه من اللفظ، وإني لأَظن أن عقل كل أحد كان
ممزوجاً وكان عقله قُراحاً.
قال: ولقد قرأتُ له فصلاً من كتاب له إلى أبي غبد الله المكي العلَوي نديم
عضُد الدولة يستحق أن يكتب بالذهب، وهو: ولأن تُدعى من بعيد مرّاتٍ خيرٌ
من أن تقصَى من قريب مرّة، وليكن كلامك جواباً تتحرَّزُ فيه، ولا
تُعجبَنَّ بتأتّي كلمةٍ محمودةٍ فيلِجَّ بك الإطناب توقُّعاً لمثلها؛
فربما عثرتَ بما يَهدِم ما بنَتْه الأُولى، ثم لا تسلم من تمثُّل صاحبك
بقولهم: " رُبَّ رمية من غيرِ رامٍ " ، وبضاعتُك من النثر قليلة مُزْجاةٌ،
وبالعقلِ يُزَمّ اللسان ويلزم السداد.
فلا تستفزنّك طرْبة الكريم على ما يُفِيتُك عقلك.
والشّفاعة لا تعرضنَّ لها، فإنها مخلقة للجاه؛ وإن اضطررت إليها فلا تهجُم
عليها حتى تعرف وقتها، وتحصِّل وزنها؛ فيتقدُّمُك من يتكلّم فيها، فإن
وجدت النفس بالإجابة سَمْحة، وإلى الإسعاف هَشّة، فأظهر ما في نفسك غير
محقق ولا مُوهم أن في الردّ عليك ما يُوحشك، وفي المنع ما يقبِضك؛ وليكن
انطلاق وجهك إذا دُفعت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يدك، ليخفّ كلامك
ولا يثقل على مُستمعه منك.
أنا أقول ما أقول غير واعظٍ ولا مُرشد؛ فقد كمَّل الله خصالك، وحسَّن
خِلالك إذ فضّلك في كلّ حالك، ولكني أُنبّه تنبيه المشارك. واعلم أن
للذِّكرى موقعاً ونفعاً.
قلت له: وقد استحسنت له حسناً، وله أبلغ منه.
فقال: كذاك هو.
قلت: فإنه مع هذا قد أخطأ في العربية في موضع، فدللته عليه.
فقال: لله أبوك.
ولم أذكر الموضع - أيّدك الله بالعلم - لتكون أنت قارئه، أعني أنك تقرأ
حرفاً حرفاً حتى تصيبه، فليس الخطأ المستدرك بالتتبّع كالمعثور عليه
بالهُجُوم.
وكان ابن عباد يروي لأبي الفضل في رُقعةٍ إليه حين استكتبه لبويه، وهو:
وبسم الله الرحمن الرحيم. مولاي وإن كان سيداً بهرتنا نفاسته، وابن صاحب
تقدّمت علينا رياسته، فإنه يعدُّني سنداً ووالداً كما أعدُّه ولداً
وواحداً، ومن حق هذا أن يعضد رأيي رأيه حتى يزداد إحكاماً وانتظاماً،
ويتظاهر قوة وإبراماً.
وحضرت اليوم المجلس المعمور، فكان من مولانا كلام كثير، وخطابٌ طويل، فقلت
إنه لم يزد على الإباء والاستعفاء، بعد التقصّي والاستيفاء، فأومأ إلى
إجبار كالمسألة، وإكراه كالطلبة. وأقول بعد أن أقدم مُقدمة:
إن مولاي - وإن كان يستغني عن هذا العمل بتصُّونه وتقلُّله وعزوف
نفسه عن التكثّر بالمال وتحصيله - فإن الأمر مفتقر إلى كفالته، ومحتاج إلى
كفايته؛ وما أقول ما أقوله وغرضي إنشاء كتاب أو عقد حساب، أو تفريق مال
وجمع، أو تقديم عطاء أو منع، لأن ذلك وإن كان مقصوداً، وفي آلات الوِزارة
معدوداً، فإن في كتّابه من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه بأيسر مساعيه، لكن
مولانا يريده لتهذيب من هو ولي عهده، ومن يرجوه ليومه وغده، ولا بدّ - وإن
كان السِّنْخُ قويماً، والمحتد كريماً، والفضل عميماً، والمجد صميماً،
ومركب العقل سليماً - من مناب من يعرف ما السياسة، وكيف الرياسة، وكيف
تدبير العامّة والخاصّة، ومن أين تُجتلب الأصالة والإصابة، وبماذا تُعقد
المهابة، وكيف تُرتّب المراتب وتُعالج الخطب، وكيف تردّ الخطوب إذا ضاقت
المذاهب، وتعْصَى الشهوة لتُحرس الحِشمة، وتُهجر اللذة لتُحصَّن الإمرة.
ولا غنى عمن يقوم في وجه صاحبه فيرادّه إذا بدر منه الرأي المنقلب،
ويراجعه إذا جَمَح به اللجّاج المرتكب، ويُعارضه إذا ألحَّ عليه الغَضب
الملتهب؛ فما السبب في أن هلكت ممالك جمّة، وبلدان عِدّة، إلا بأن خضعت
أقدارُ الوزارة وانقبضت أطراف الإمارة؛ وليس يفسد ما في الأرض ومن عليها -
على ما أرى - إلا بالرجوع في مثل هذا إلى الأذناب.
فلا يَبْخَلَنَّ مولاي بنفسه على هذه الدولة، فمنها الأمين من قبْلِه، فإن
كان مسموعاً كلامي، وموثوقاً به اهتمامي فلا يقعنّ انقباض عنّي، ولا إعراض
عما سبق منّي. ومولاي مُحكّم بعد الإجابة إلى العمل فيما يشترطه، وغير
مراجع فيما تقترحه، وهذا خطي به، وهو على وليّ النعمة حجة لا تبقى معها
شبهة.
وسأُتبع هذه المخاطبة بالمشافهة إما بحضوري لديه، أو بتجشّمه إلى هذا
العليل الذي قد ألحّ النقرس عليه والسلام.
وكان ابن عباد يحفظ هذه النسخة ويرويها ويفتخر بها. وقال لي أصحابنا
بالرّيّ، منهم أبو غالب الكاتب الأعرج: إن هذه المخاطبة من كلام ابن عبّاد
افتعلها عن ابن العميد إلى نفسه تشيُّعاً بها، ونفاقاً بذِكرها.
وحدثني اين خارجة قال: كان حمد بن محمد أبو الفرج الكاتب مكيناً عند رُكن
الدولة، وكان أبو الفضل لا يُوفيه حقّه، ولا يحسب له تلك المكانة، فعاتبه
حَمْد مراراً مُصرِّحاً وكانياً، ثم كتب إليه رقعة طواها على أبيات، وهي:
مالُك موفورٌ فما بالُه ... أَكْسِبك التّيهَ عَلَى المُعْدِم
ولمْ إِذا جئتَ نهضْنا وإن ... جئنا تطاولتَ ولم تُتْمِمِ
وإن خَرَجنا لم تقُل مثلَما ... نقولُ " قدّم طرفَهُ قدّمِ "
إن كنتَ ذا علْم فمَن ذا الذي ... مثلَ الذي تعلَمُ لم يَعلمِ
أو كنتَ في الغارب من دَولةٍ ... فلستُ مِن دونِك في المنسمِ
وقد وَلِينا وعُزِلنا كما ... أنتَ فلم نصغُرْ ولم نَعظُمِ
تكافأَت أَحوالُنا كلُّها ... فصِلْ على الإِنصَاف أَو فاصْرِمِ
قلت لابن خارجة: أَ ترى هذه الأبيات لحَمْد؟ قال: نعم.
قلت: أَ فعاد له إلى محبوبه؟ قال: كان حَرُوناُ، إذا أَبَى لا تأتِّى له،
وإذا جمع لا حيلة فيه. " أكسَب " في البيت الأول مردود، غير أن ابن
الأعرابي أجازه.
تصفّح أيّدك الله هذه الفِقَر، واعرف تَعَبي بها وإفادتي منها واشتفائي
بذكرها والسلام.
فأما أبو محمد بن أبي الثياب، وهو عبد الرزاق بن الحسين البغدادي، فإنه
كان ذا فضلٍ واسع، وشعر بارع، وعلم بكل شيء؛ كالمنطق وغريب اللغة.
وله رسالة من خراسان، لما استقرّت به الدار ببُخارا، كتبها إلى أبي الفضل،
ولا بأس بسردها ها هنا لتعلم أن الحُرّ إذا ذاق الهوان ممن يستحق الكرامة
عليه، شقّ جيبه مستعتباً، وأدرك طائلته مُكافحاً ومُنيِّباً.
كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم. أيها الرجل الذي اختار لنفسه الوصف
بالرياسة، فطالب الصغار والكبار بها في المكاتبة والمخاطبة! ما يسرّني
حُسن ما أنت عليه، ولا يعجبني ظاهر ما تدّعيه بباطن ما تنقضه به. ألزم
فناءَك هذه السّنين على مُقاساة كِبرك وتجعّد بنانك، وقلّة النّائل منك؛
مع تسيير فنون القريض فيك، ونثر أصناف البديع عليك، ومع التضاؤل لك،
وإراقة ماء الوجه بين يديك، والصبر على مَلَلِك وصَلَفك، ومع فتحي عليك
أبواب المنطق، وهِدايتي إياك إلى ضروب ما اقتبسته من أهل المغرب والمشرق؛
ثم يكون آخر أمرك في نظرك لي وإحسانك إليّ أن تقرنني بغلام غرّ جاهل، ونكد
عارم، يزيد عليك في البخل، وينقص عنك في الحلم، وتكلّفني لصبر معه، والرضا
بالخسف منه؟ ومن ذا علم أن رزق الله منتاب مرتاب وعاد، والمنّ فيه من
سائقٍ وحادٍ، غمسَ نفسه في حياض الذل، وفارق حسن التوكل على الله الذي
بيده ملكوت كل شيء؟ ولله ما اتخذت الليل جملاً هارباً من صُقعك، زاهداً في
ضرّك ونفعك، إلاّ لقولك في انتشالك لأصحابك: " أبن أبي الثياب لازِقٌ
بِبابنا لزوقَ اللّحم بالعظم، وجارٍ معنا جريَ الدم في اللّحم؛ ولو طردناه
ما برِحَ، ولو فاز بغيرنا ما فرِح؛ وأين يجد جناباً أمرَعَ من جنابنا،
وفناءً أخصب من فنائنا؟ أغرّكم أنه يتلوّى علينا وينحني لدينا؟ ذاك كله
ريح، وهو يلبث في اللّوح، إن يوجَّه إلى خُراسان فما بها من ينقع
ظَمْأَته، وإن عاد إلى بغداد، فهي التي عرفها وعرفته، وإن تطاول إلى الشام
ومصر، فما بها من يجتلي غُرَّته أو يقبس حكمته، أو يصبر على جشعه الفاضح
وسؤاله المُلحّ " .
فها أنا قد شخصت إلى المشرق، وحظيت عند ملكه، ووليت البريد له، وغلبت على
مجلسه بالمؤانسة، وحولي الغاشية والضّفف، بعد ما كنت أُعانيه عندك من
الشَّظف والجَعْف؛ وما كان كلامك ذاك لي إلا إغراء لي بطلب السعادة
العاجلة ونيلها في سهولة، مع التخلص من الغيظ الذي كنت أجرعه عندك صباح
مساء، والكذب الذي كنت أُنمّقه فيك في الجدّ والهزل، والخساسة التي كنت
أسترها عليه في الصّحو السُّكر، والتلوّن الذي كنت أحتمله منك في الغضب
والرّضا.
هذا والمنالة منك دون ما يمسك الرمق، والمبذول عليها فوق مل يجب لك
بالحقّ؛ ولولا أني - مع ما أرد مَلّتَه من العتب عليك - أرجع إلى حفاظٍ لا
تعرف منه إلا الاسم، لكان لي في جلدك حزّ ونهسْ، وعلى عرضك جَمْزٌ ورقص.
وما الذي يُرجى منك أكثر مما كان، وولادتك مشهورة ومنشؤك ظاهر، ومبادئ
حالك في ارتفاعك محصَّلة، والألسنة بحقائقها دائرة، والأسماع إلى عجائبها
صاغية، والقلوب في فضائحها متعجّبة.
ولك في براءة والدك منك كاف، وفي حديث والدتك ما هو غير خاف؛ ومما يدلّ
على طلبي البُقيا أني اقتصرت في مكاتبتك على لفظ منثور، ولو نظمت ذلك لكان
نقيعك منه يجرعك مضض النّدم على تقصيرك معي ومع نُظرائي فيما تقدّم.
فاذكر هذه اليد لي عندك في عرض ما تقرؤه من هذه الرقعة إليك، وقد شفيت بها
فؤاداً كان يتلظّى أسفاً على خدمة ضاعت عندك، وحُرمةٍ بارت لديك؛ ولعلّي
قد أطَرْتُك على كثير ممن يلزم فناءك طامعاً في خيرك، أو يشقى بمعرفتك
ظاناً لدرك المطلوب منك، ثم ينقلب عنك بقلب أوقد من قلبي عليك، ولسان أذرب
من لساني في عرضك.
عليك سلامٌ لا تواصلَ بعده ... فلا القلب محزون ولا الدمع سافحُ
والله لا حاق الشر إلا بأهله، ولا لصق العارُ إلا بكاسبه، ولا قيل في
الخسيس النّذل إى دون ما يستحق، " ذق عُقَق " فقد فاتك من سَبق.
أفادني هذه الرسالة أبو جعفر الخطيب النَّيسابوري، وقال لي: أنا أوصلت
الكتاب إلى أبي الفضل مختوماً بعد ما نسخته، قال: وعُدت إليه أُطالبه
بالجواب، فقال لي: قد كتبتُ الجواب قبلك، وكان ذلك تحاجُزاً منه، لأنه كان
قد انشوى بها حين قرَها.
ولقد أنشدني ابن أبي الثيّاب قصيدة في أبي الفضل، وأنا أرويها ها هنا
لتعلم أنه كان مظلوماً فيها وفي أخواتها، ولتقف على طريقته الحلوة،
ومعانيه السّهلة، ولفظه الخلوب؛ وقال لنا: كانت جائزتي عليها، بعد نظائر
تقدمتها، جائزة لا أستجيز ذكرها، لأنها إن كانت تضع من صاحبها إنها لَتَضع
منَي أيضاً. القصيدة:
بَرْحُ اشتِياق وادِّكارِ ... ولَهيبُ أنفاسٍ حِرارِ
ومَدامع عَبراتُها ... تَرفضُّ عن نومٍ مُطارِ
لله قلبي ما يُجِنُّ من الهموم وما يوارِي
لقد انقضَى سُكر الشَّبا ... ب وما انقضَى وصَبُ الخُمارِ
وكبِرْتُ عن وصْل الصّغا ... ر وما سلَوت عن الصغارِ
سقياً لتَغْليسي إلى ... باب الرُّصَافة وابتكارِي
أيام أخْطر في الصِّبا ... نشوانَ مَسْحوَب الإزار
حَجّي إلى حجر الصَّرا ... ة وفي حَدائقها اعتمارِي
ومواطِنُ اللذَّات أو ... طاني ودارُ الرّوم داري
كم رُضت فيها من نفا ... ر محرَّم حُلو النَفارِ
ورَعَيت من قُطْرُبُّلٍ ... روضَ الشقائق والبهارِ
ورفَعتُها مِسكيةً ... في ريطتَي خَزٍّ وقارِ
يُعطِي النديمَ بُزالُها ... ما شئتَ من نَوْرٍ ونارِ
كيفَ اعتدال مُعَذَّلٍ ... صحب الغُواة بلا عِذارِ
يستَنّ في طُرُق الصِّبا ... ويَعيث في سُبُل الخَسارِ
فيَصيد غزلانَ الكِنا ... سِ ويَدَّرِي بقَر الصُّؤارِ
من كل عَطشانِ الوشا ... حِ مميّلٍ شَرِق السِّوارِ
بيضٌ غريرَات طُبِعْ ... ن من الدَّلال عَلَى غِرارِ
وعَقائل تضْفو وِحا ... فَ شعورهنّ علَى المَداري
هيفٍ يصلن من الرَّوا ... دف بالزَّنَانير القصارِ
وتعلُّقي من طاعة الأُس ... تاذ بالحَبْل المُغَارِ
لقدِ اختلستُ مُنَى النُّفو ... سِ من ابيضاضٍ واحمرارِ
ولحَظت ما فَتر اللوا ... حظَ من فتور واحورارِ
يوم استقلّوا والدُّمو ... ع تَجود رَوضَ الجُلَّنارِ
لَهَفِي على صُبْح الجِبا ... هِ يَشِي بهِ ليلُ الطِّرارِ
وتواضُع الخد الأَسي ... ل لعَطْفَةِ الصُّدْغِ المُدارِ
خُذْ في هَزارِك يا غلا ... م فقد غَنِيتُ عن الهَزارِ
حَسْبي بأَلحانٍ قمَرْ ... تُ بهنَّ تَغريدَ القُمارِي
لم يَبْقَ لي عيشٌ يَلذّ سِوَى مُعاقرة العُقارِ
***
وإذا استهلَّ ابنُ العمي ... دِ تضاءَلت دِيمَ القِطارِ
خِرْقٌ صفَت أخلاقه ... صفوَ السَّبيك من النُّضارِ
فكأنما رُفِدت مَوا ... هِبُه بأمواج البحارِ
وكأنّ نشرَ حديثه ... نشرُ الخزامَى والعَرارِ
وكأننا مما تُفَرِّق ... راحتاه في نِثارِ
متَثَبِّتٌ يَغْنَى بمح ... مودِ الأَناةِ عن البِدَارِ
كَلِفٌ بطيّ السّرّ تح ... سَب صَدره ليلَ السِّرارِ
يأوِي إلى حِلْم يُعا ... ذُ بهِ ورأْي مسْتَشَارِ
ومُرجَّب يلقَى الحَوا ... دِثَ باحتمالٍ واصْطبارِ
يَرْبَا بِه عزُّ الفَخا ... رِ عن التعرُّض للفخارِ
وتَصونُ مَسمَعه المها ... بَة عن مُماراة المُمارِي
ويُغولُ أَيسَرُ سَعيه ... جَهْلَ المُنَافِس والمُبَارِي
كم يستُر الباغي عُلاَ ... ه ومَا لهنَّ من استِتارِ
هيهاتَ لا يخفَى عَلى لحظ العُيون سَنا النَّهارِ
قُل للمخيَّب وشْمَكي ... ر هدَمت مجدَ بني زيارِ
خرّبتَ دُورَ محمّد ... فأَبَى جوارَك للديارِ
وقرَيتَها ناراً فخصّ ... صميم قلبك بالأُوارِ
جلَب الجِيادَ إلى قرا ... رك فاجْتُثِثْتَ من القرارِ
زُجَّ النُّسورِ من الصَّفَا ... شُعْثَ المسوكِ من الخَبارِ
تَرْدِي كغِزلان الفلا ... ة بِمثل جِنَّان القِفارِ
ككَواسِر العِقبان طِر ... ن إليك بالأُسد الضَّوارِي
لمّا طلَعن علمتَ أَنك ... من جُموعك في اغترارِ
وفُللِتَ من ذاتِ اليمي ... ن لِشدّة ذات اليسارِ
بالخيل صانَ صدورَها ... في التّبتَّيّ من الصِّدارِ
ومَغاور يُغزِيهُم ... مَن لا يَمَلُّ من الغِوارِ
ليثٌ يَثور فيَسْتثي ... ر قَساطل النَّقْعِ المَثُارِ
فكأَنما هبواتُها ... حَرَقٌ من العَيّون هارِ
في وَقعةٍ قَسمت كُمَا ... تَك للمَنية والإسارِ
وفررتَ فيمن لا يَعُدُّ لمثلها غيرَ الفرارِ
متسربلاً من لؤم فع ... لِك خُطّتَيْ خِزْيٍ وعارِ
هذي النِّكاية لا النِّكا ... ية في البَنِيَّة والجدَارِ
إن الكِبار من الأَمو ... ر تُنال بالهِمَمِ الكِبارِ
***
وإلى أبي الفضل ابتَعث ... تُ هواجسَ الهِمَم السَّواري
ولقد تخيرتُ الرجا ... لَ فما دُفِعت عن الخِيارِ
حتى سكنتُ ظلالَه ... بعدَ ابتلاءٍ واختبارِ
***
يَغْدو عَلى حُرِّ البلا ... دِ غُدوَّ مطلوبٍ بثَار
فتُذِيلُه فتكاتُه ... وتُذيقه طعْمَ الصَّغارِ
***
فتَراه في العُسْر المُضِرّ ... يجودُ جودَ أولي اليسارِ
متهلّلاً للزائري ... ن مرحِّباً بالمُستَزارِ
إني اعتصمت بيُمنه ... فوُقِيت أسباب العثارِ
يا من له طيب الأُرو ... م ومن له طيب النِّجارِ
يا من له نور البدو ... ر ومن له شرف الدَّرَارِي
يا من به مَر ض الحِبا ... ءِ ومَن به حصَر الوقارِ
يا من لديه حَيا العُفا ... ة ومن لديه حِمَى الذِّمارِ
أنت الذي وهب الجرا ... ئرَ عَن علُوٍّ واقتدارِ
أنت الذي ضمن الوفا ... ءَ لجاره كرمَ الجِوارِ
أنت الذي حاز الخِطا ... رَ مضاؤه يوم الخِطارِ
فحويت مضمار العلا ... وجريت فيه بلا مُجارِ
يفديك مَن ظنَّ المكا ... رمَ في اقتصادٍ واقتصارِ
فعداه عن طَلَق الجِيا ... دِ سقوطُه دون العِثارِ
خذها ثمارَ علاك لا ... عرِيَت علاك من الثمارِ
عذراءَ يُخجِل حسنُها ... ما فيّ خَلْعِ العِذارِ
وحدثني جريج المقل الشاعر قال: لما قال أبو محمد:
يغدو عَلَى حُر البلا ... دِ غدوّ مطلوبٍ بثار
قلت له: ما أكذبَكَ لحاك الله! فقال: الذي يقبل هذا في نفسه أكذَبُ مني.
وقال جريج المقل: قد جُبت الآفاق، وسَبَرتُ أصناف الخلْق في الأخلاق، فما
رأيت أخسَّ من هذا الرجل، يعني أبا الفضل.
وحدثني أبو غالب الكاتب الأصبهاني قال: كان أبو الفضل يُحاجي بكلام له من
رآه، وهو: " سألت عمَّن شفّني وجدي به، وشفعني حُبّي له، وزعمت أني لو شئت
لذَهِلْتُ عقله، ولو أردت لاعتَضت منه، " زعماً، لَعمُر أبيك، ليس
بمَزْعَم "
كيف أسلو عنه وأنا أراه، أو أنساه وهو لي تجاه؟ هيهات! هو أغلب
عليّ وأقرب إليّ من أن يرخى له عذاري، أو يخلّيني واختياري، بعد اختلاطي
بملكه، وانخراطي في سلكه؛ وبعد أن ناط حبّه قلبي نائط، وساطه بدمي سائط؛
فهو جارٍ مني مجرى الروح في الأعضاء، ومتنسّم معي رَوْح الهواء، إن ذهبت
عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقفت عليه، ما أُحب السُّلُّوَّ عنه مع
هناته، وما أُوثر الخُلُوَّ منه على عِلاته؛ هذا على أنه إن أقبل لم
يُهْنئني إقباله، وإن أعرض لم يطرقني خياله، يبعد عليّ مَناله، ويقرب من
غيري نواله، ويردُ عيني خاسية، ويثني يدي خالية، وقد بسط مسافات النفس
المتقاربة، وصدّق مَراميَ الظُّنون الكاذبة، وصْلُه يُنْذِرُ بضِدّه،
وقُربه يُؤذِن ببُعده، يدنو عِدْل ما يَبرَح، ويأسُو مثل ما يجرح؛ فحاله
أحوال، وخلّته خلال،وحربه سِجال. الحسن من عوائده، والجمال من منائحه،
والبهاء من فصوله وصفاته، والسّناء من نعوته وسِماته؛ اسمه طِبق لمعناه،
وفحواه وفق لنجواه،ولا يتشابه حالاه، ويتضارع قُطراه، من حيث تلقاه
يستنير، ومن حيث تغشاه يستطير؛ كالبدر بين سُعوده قد وسطها وحفّت به
يقدُمه النَّسران، ويتلوه نطاق الجوزاء، وهكذا؛ ولو قلت إن الواسطة
الغُميصاء لها هادٍ وتابع، إن فرّقتَهما اتفقا، وإن ألَّفتهما تفرّقا،
يُقبل بِشَوْك السَّيال، ويُدبر بسفى البُهمى، ويعترض بسُودٍ قِصار سواسية
كأسنان الحمار - لصَدقت.
فأَبِن لي ما قُلتُه، فهو تعريض كالتَّصريح، وتمريض كالتصحيح، والسلام.
وحدثني أبو غالب الكاتب قال: كتب أبو الفضل إلى أبي دُلَف الخزْرجي في
أوائل عِلّته التي نهَكته وحالفته، يثعاتبه ويعابثه فقال: " الآن علمتُ،
أيها الشيخ، أنك لي مكايد، وإلى جميع ما أنهاك عنه مخالف، وعلى دَيْدَنك
المعروف ثابت، وبفضلة لسانك مسحور، وبشائع حلمي عنك مغرور، وليت ثقتك بذلك
لا تخونك، وتطوّلي عليك لا يتطاول بك، واغترارك بغيري لا يُزلّك، وليتك،
إذ قد ضللت سواءَ السبيل في حظّك، شاوَرتَني فكنتُ لا أبخلُ عليك بالهداية.
يا هذا! شكوتُ إليك أوائل هذه العلّة التي قد تخوَّنتني ونهكتني وكان
التَّلافي سهلا، وباب العافية مفتوحاً، فوعدت بالقيام عليها وبذل النصيحة
في تدبيرها، وكنت لشكري على ذلك حائزاً، وبمُقترحك مني فائزاً، فتقاعست
عني بلا عُذر، ووَقفتَني بين وصْل وهجْر، فلم أدرِ كيف أُخاطبك، وعلى ماذا
أُعاتبك؛ لأني يئستُ من نُجوع العتاب فيك، ومن إحاكة الخطاب في قلبك؛
ولأنك مشهور بِقحة، ومذكور بسلاطة، ومعتاد للبهت، وجارٍ على الكذب.
وأول ذلك أنك تدّعي بُنُوّة محمد بن زكريا من ناحية ابنته، وقد شاهدتُ
محمداً وما خلّف بنتاً، ولا وَلَدت بنت لم تكن له ابناً، ولو كانت له بنتٌ
وولدت ابناً لم يكن أنت، ذاك للغوائل المجموعة فيك، والعيوب المتناثرة
عليك.
ولك تكن العلّة التي رجعت إليك في تدبيرها صَرْعاً ولا صُداعاً،
ولا جنوناً ولا جُذاماً، ولا صَمماً، ولا بَكَماً، ولا فالِجاً، ولا
لقْوة، ولا سَكْتةً، ولا زَمانةً، ولا شللاً، ولا أَدْرَةً، ولا عِلَةً لا
يقوم ببرئها إلا المسيح الذي هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم ابنة
عمران التي أحصنت فرجها؛ ولم تحتج في مُداواتي إلى الرُّقى والتمائم، ولا
إلى النَّفق في الأرض، أو إلى الطَّيران في السُّكَاك، ولا إلى يدٍ بيضاء
كيد موسى ابن عمران، ولا عصَا موسى، ولا إلى قميص يوسف، ولا إلى عرش
بلقيس، ولا إلى لوحٍ من سفينة نوح، ولا إلى فلذةٍ من كبش إبراهيم الذي فدى
الله به ابنه إِسحق، كما قال الله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ
عَظِيمٍ)، ولا إلى الصَّدفة التي فيها الدُّرة اليتيمة، ولا إلى شَطْبةٍ
من سَنام ناقةِ صالح، ولا إلى زُبْرَة من زُبَرِ الحديد الذي جُعل رَدْماً
ليأْجُوجَ ومأْجوجَ، ولا إلى عُسٍّ من لبنِ بقرة بني إِسرائيل التي ذبحوها
وما كادوا يفعلون، ولا إلى أدمِغةِ الطير الآبابيل التي رَمَت بحجارةٍ من
سِجّيل، ولا تُربةٍ من (إِرَمَ ذاتِ العِمَادِ التي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُها في البِلاَد)، ولا إلى قطعةٍ من السّحاب المُسَخّر بين السماء
والأرض، ولا إلى لمعة من البرق الذي يخطف الأبصار، ولا إلى مثقال من صوت
الرَّعد الذي يسبّح بحمده تعالى، ولا إلى ذرَّةٍ من الشمس التي جُعلت
ضياءً للعالمين، ولا إلى قبضةٍ من القمر الذي جُعل نوراً لأهل الخافقين،
ولا إلى صبْغٍ من الأصباغ التي تظهر في قوس قُزَح غِبَّ الأنداء المتّصلة،
ولا إلى مثقالٍ من السَّراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ولا إلى شيءٍ من شحم
الذئب الذي لم يأكل يُوسُف، ولا إلى ناب الكلب الذي كان باسطاً ذِراعيه
بالوصيد الذي لو اطَّلعتَ عليه لولَّيتَ منه فراراً ولَمُلِئتَ منه
رُعْباً، ولا إلى الكِبريت الأحمر، ولا إلى المُومياي الأبيض الذي لا
يوجد، ولا إلى حيلة بُلِنْيَاس ولا إلى قطرات من ماءِ الحيوان تعجُن به
هذه الأدوية، ولا إلى مُنخل تنخل به، ولا إلى ذَنَب شَعَر حِمار عُزَير
الذي أماته الله مائة عامٍ ثم بعثه، فتنخُلَ به العقاقير، ولا إلى مرارة
العَنقاءِ المُغْرب التي لم تُرَ قطُّ، ولا إلى مُخّ البَعُوض، ولا إلى
بيض الأَنُوق، ولم تحتج في تدبير علَّتي وجميع أدويتي إلى نهارٍ لا ليلَ
بعده، ولا إلى ليلٍ لا نهارَ بعده، ولا إلى نهارٍ مولج في ليل، ولا إلى
ليلٍ مُولَج في نهار، ولا إلى زمان يخرج من أن يكون ربيعاً أو صيفاً أو
شتاءً أو خريفاً.
ولو ظننت أن هذه كلها أو بعضها تلزمك أو تدخل في تكلفك لآثرت الموت على
العافية؛ فإن في الموت خلاصاً منك، ومُفارقةً لمثلك، ووالله ما أندُب إلا
حُسن ظنّي بك، ومُباهاتي أهل مجلسي بفضلك، وقولي: أبو دلف وما أدراك ما
أبو دُلَف! لا تنظروا إلى هَزْله، فإن وراءَ ذلك جدّا، وإن أردتم حقيقة ما
أقول فافزعوا إليه في حوائجكم؛ فإنكم تجدونه في قضائها قبل إنهائها؛ وهو
المرءُ الذي قد جمع الله له بين المنظر والمخْبَر، وبين الدَّعوى
والبيِّنة، وبين القول والحُجّة، وبين الضّمان والوفاء، وبين الصداقة
والشفَقة. فما زلت أقول هذا أو شِبهه، وأصحابي يُشيِّعون قولي بمثله في
الظاهر، ويُخالفونني بعِلمهم في الباطن حتى كان الفُلْجُ لهم ساعة هذه؛
لأني احتجت إلى علمك فخُنتَ عهدي، وأقبلتُ عليك فأعرضتَ عنّي، ووَهبتُ لك
كلّي فبَخِلتَ ببعضك عليّ؛ " فيارُبَّ مظنونٍ به الخيرُ يُخْلِفُ " ولقد
استفدتُ بمعرفتك تجنُّب مثلك؛ ويقال: لم يهلك من مالك مَن وعَظك، ومَن
أطلَعك على خَبيئه من خيره وشرّه، فقد أراحك من طويل الفكر فيه، وكَفاك
خَطر التجربة له والسّلام " .
قلتُ لأبي دُلَف: ما أجبته عن هذا الكلام؟ قال: عملتُ في المسوّدة شيئاً،
ثم لم أجسر على إظهاره، وخِفت صَولته ونِكايته وشرّه وغائلته؛ ومما قد حدث
في رؤساءِ زمانك أنهم يحقدون على الأتباع، ولا يعرفون حقّهم في الخدمة
والطّاعة.
وكنّا يوماً عند ذي الكِفايتين بمدينة السلام، فجرى حديث بغداد، فقال ذو
الكفايتين: لمّا رجع ابن عباد من بغداد، قال له الأستاذ الرئيس - نضَّر
الله وجهه - : كيف رأيت بغداد؟ قال: رأيت بغداد في البلاد، كالأستاذ في
العِباد.
وحَكَى أيضاً في هذا اليوم عن أبيه قال: لمّا انصرف أهل خُراسان
سنة خمسٍ وخمسين وثلاثمائة أمام الغُزاة من الريّ، بعد الحادثة التي جرت
ودفع الله حدّها، وأعادَ نضارتها، أخذ الرئيس يبني حول دار ركن الدولة
حائطاً عظيماً.
فقال له عليّ بن القاسم العارض: هذا كما يُقال: الشَّدُّ بعد الضَّرط.
فقال: هذا أيضاً جيّد لئلا تنفلت أُخرى.
ورأيت أبا الفتح ذا الكِفايتين يسأل أبا الحسن العامِريّ: لِمَ طَلَبت
النَّفسُ الفرق بين المتشابهين؟ فقال العامريّ: لأنها في جوهرها، وما هو
لائقٌ بها تأبى الكثرة وتنفر منها، وهي تحنُّ إلى الوَحدة بسُوسها، وتنزع
نحوها وتتقبَّل كل ما أعانها على ذلك، ويُذَلّل الطريق لها؛ والفرق يوضّح
سبيل الوحدة. وكلما كان الاشتباه أشدّ كان الفرق ألطف. وكلّما كان الفرق
ألطف كانت أشدّ بحثاً عنه وألهجَ بطلبه لأن ظفرها به يكون أعزّ، ونيلها
مطلوبها يكون أحلى.
وقال أبو الفتح يوماً آخر لابن فارس المعلّم: لِمَ قال الجاحظ: " فإنّ
الكلام قد يكون في لفظِ الجِدّ ومعناه الهزل، كما يكون في لفظ الهزل
ومعناه الجِدّ " ؟ فلم يقُل شيئاً.
فقال أبو الفتح: قد صدق أبو عثمان، هذه خاصة مذاهب العرب، ولكن لِمَ عرض
هذا في أخبارها، وأدنى ما فيه أن يدلّ على وضع الشيء في غير موضعه؟ فلم
يُحره شيئاً.
فقال هو: إن إفراز الجدّ من الهزل، وتمييز الهزل من الجد حتى لا يُؤتى
بهذا في هذا، ولا بهذا في هذا لَنوْعٌ من الخَطر على المتكلّم البليغ
والقائل البيّن، ولو جرى على ذلك كان الاقتدار يُبطل الحدَّ الملزوم،
والسَّعة تُضيّق الغاية المبلوغة.
ولما كان البيان لا يكون بياناً، والبلاغة لا تصير بلاغة إلا بأن يكون
المتكلم آخذاً في كلّ واد، قادحاً بكل زِناد، مُستظهراً بكل عتاد، وجب أن
يدخل الهزل في الجدّ إمتاعاً واستمتاعاً، ويدخل الجدّ في الهزل اقتداراً
واتّساعاً.
قال ابن فارس: وأيُّ خُصوصيّة تكون في هذا، ونحن بالفارسية نرى هذا
المذهب، ولعلّ سائر اللغات على ذلك؟ فقال: القول كما قلت، ولكن أين مزية
كلام العرب على جميع ما لأَِصناف العجم؟ ثم قال: إن الغرض الأول في الكلام
الإفادة، وجُلُّ الأُمم على هذا. والثاني تحسين الإفادة، ثم التحسين تارةً
يكون بمعاني التوكيد، وتارةً يكون بمعاني الحذْف، وتارةً يكون بوزن اللفظ،
وبتعديل الوزن، وبتسهيل المطالع، وبتيديل المقاطع؛ وهذه الأنواع غيرها مما
يطول إحصاؤه؛ وهو للعرب خاصة، ولباقي الأُمم عامّة.
ثم قال: وقد اشتمل القرآن على هذا كله، وعلى ضروبٍ أُخر لم تن في عادة
القوم فاشية ولا كثيرة، ولكن كالشيء البديع، أَلا ترى أنك لا تجد شوافع
هذه المعاني التي في الكتاب غريبة في منثور كلامهم ولا في نظومهم؟ وأنت
تعلم أنهم كانوا لا يسكتون، وكان ولوعهم بالكلام أشدَّ من ولوعهم بكل شيء،
وكلُّ وَلوع كان لهم بعد الكلام فإنما كان بالكلام.
فهل تجد معنى قوله تعالى في الإنابة عن التّوحيد: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن
وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا
خَلَقَ، وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) في شيء من كلام.
وكذلك أيضاً لا تجد ما يشبه قوله عزّ وجل: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ
كَمَا تَقُوُلُون إذاً لاَبْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً).
وكذاك أيضاً لا تجد ما يقارب قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ
اللهُ لَفَسَدَتَا).
وكذلك لا تجد ما يُداني قوله: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ
بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)، أو قوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
بِقَدَر). ثم تدبَّر قوله: (إِنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبّاً)، وقال:
(ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً)، وقال: (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا)، وقال: (إنَّ في خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وِاخْتِلاَفِ
اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التي تَجْرِي في الْبَحْرِ بمَا
يَنْفَعُ النَّاسَ)، وقال: (وَفي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ
آياتٌ لقَوْمٍ يُوقِنون)، وقال: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ، قَالَ: مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ:
يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
عَلِيمٌ)، وقال: (الذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً
فَإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)، وقال: (يأَيُّهَا النَّاسُ إنْ
كُنتُم فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ
ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَام مَا
نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى ثُمَّ نُخْرِجُكُم طِفْلاً، ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُم مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُم مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمْ مِن بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئاً، وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيجٍ)، وقال: (وَمِن
آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْها
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ). وقال: (إنَّ الذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي
الْمَوْتَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ثم قال: وهذا سَبكٌ بديع، وأسلوب مُعجز؛ ولو كانت العرب نغمت بهذه المعاني
بعبارات دون عباراتها، أو حلمت بهذه العبارات بمعانٍ دون معانيها، لكنّا
نقف ونترجّح، ونرتاب ونضطرب، فأما وشيء لا يصاب لهم، لا على وجه التشبيه
ولا على التحقيق فماذا يبقى؟ ثم هب أنهم كانوا مصروفين عنها في الأول وهم
لا يأبهون لها، هلاَّ تصرَّفوا فيها في الثاني وقد تُحُدُّوا بها؟ إنّ هذا
لَواضح.
وكان مع شبابه وكثرة أشغاله مليئاً بهذا الفن، ولقن أكثره من معلمه ابن
فارس؛ فإنه قد ذلل هذا وأشباهه له، وكان ينتصب للناس في جامع الري، ويفسّر
القرآن، ويتكلّم على وجوهه ونظائره وتأويلاته، وزاد هو أيضاً أعني أبا
الفتح بقوته كشفاً لغامضها، وإبانةً لما خَفي منها؛ وكان على كلّ حال أمثل
طريقةً من والده أبي الفضل الذي سُمع يُنشد هازئاً:
وَمُدَّعٍ يدَّعي بالسَّيْفِ حُجتَه ... ما حُجَّةُ السَّيفِ إِلاَّ
حُجّةُ البَطَلِ
وينشد:
لَعَن اللهُ ذا العَصَا فلَقَد كا ... نت لقُفْل النَّامُوسِ كالْمفتاحِ
وهذا كله دليل على سوء الضمير، وخبث العقيدة، وشدّة المجاهرة.
قال أبو الفتح يوماً لأبي سليمان: قال أبو عثمان في رسالته في " التّربيع
والتّدوير " إلى ابن عبد الوهاب: " لمَ صرنا تنذكر الشيء المهمّ فلا نقدر
عليه حتى ندعه يأساً منه أجمع ما نكون نفساً وأحسن ما نكون تدبُّراً، ثم
يُعارضنا ويخطر على بالنا في حال شُغل أو حال نوم، وأسهى ما نكون عنه وأقل
ما نكون احتفالاً به " . وأنا أُحب أن أسمع من الشيخ فيه قولاً.
فقال أبو سليمان: ليست النفس على قدرة إرادة الإنسان منها، بل الإنسان على
قدر مُراد النفس؛ لأن النفس هي مالكته ومُدبرته ومقوِّمته ومُتمّمتُه
ومحرّكته؛ فلو كان الإنسان إذا أراد إِذْكارها أذكَرها، وإذا أراد إنساءها
أنساها، كانت النّفسُ تحت مَلَكة الإنسان وجارية على إرادته، ومتصرَّفة
بتصريفه وإرادته، إنما هي منها ويقوم هو بها، وكما له من جهتها، وتمامُه
من مَعونتها.
فلهذه الحال قد يتذكّر الشيء فلا يجد من النفس إجابة له في ذكر
ذلك الشيء، وقد يسهو عن ذلك الشيء فيُلقى عليه أغفل ما يكون عنه لأنه
موجود عندها عَتيد قِبلها، وإنما يكون هذا منها في الفينة بعد الفينة؛ ولو
لم يتذكر الإنسان شيئاً جملةً، لكانت النفس الناطقة مغمورة، ولو تذكر كلما
شاء لكان قد صفا كل الصَّفاء، فأما وقف بين هاتين المنزلتين تذكر مرة
فذكر، وسها مرة فحصر.
وطال كلامه في حديث النفس، واتّسع في فنون منه.
فلمّا انتهى قال له أبو الفتح: عين الله عليك أيها الشيخ! أنت كما قال
الأَحْوَص:
إِني إِذا خَفِي الرجالُ وجدتني ... كالشَّمسِ لا تخفَى بكُلِّ مكانِ
إِنّي علَى ما قَد علِمت مُحسَّدٌ ... أَنْمِي عَلَى البَغْضاءِ والشنآنِ
ما تَعتَرِيني مِن خُطوبِ مُلمّةٍ ... إِلا تُشرّفُني وتَرفعُ شَاني
فإذا تَزول تَزول عن مُتَخمِّطٍ ... تُخشَى بَوادِرُه لَدَى الأَقرانِ
فلله دَرُّك ودرُّ زمانٍ أنت من أهله.
فقال أبو سليمان: سعادة ذي الكِفايتين هي التي نعَشَتني عنده، وهيأت وصفي
على لسانه، وزوّدتني فخراً بخدمته، وأبقت ذكري منوَّهاً بذكره؛ ولقد كنتُ
غضيض الطرف حتى رأيته، كليل اللّسان حتى وصفته، مَبْخوس الحظ حتى عرفته،
خامل الذكر حتى خدمته. وإن فسح الله في المدّة فسأستقبل خلق العيش جديداً،
والحق مفقود المُنى موجوداً.
وحدثني الخليليّ قال: أول ما عيبَ على هذا الفتى أنه بعد موت أبيه أبي
الفضل، أمر بأن يُنقل المطبخ إلى دار النّساء، فقال الناس: الحمد لله، صار
الطعام حِراً والخبز عَورة، والقِدْر والغَضَارُ حُرمة.
والله ما أراد بهذا إلا أن يُصان الخبز كما تُصان ذوات الخُمُر وصواحب
المقانع، وإن هذه لغَيرةٌ وضعت في غير موضعها. ثم أنشد لدِعْبل قوله:
صَدِّق أَلِيّتَهُ إِن قال مُجتَهِداً ... إِي والرَّغِيفِ فذاك البَرُّ
من قَسَمهْ
وإِن هممتَ بِهِ فافتُك بخُبزَتِهِ ... فإِن مَوقعَها من لحمِهِ ودمِهْ
ما كان أَحسَنَه لو أَن غَيْرتَه ... عَلى جَراذقِهِ كانَت علَى حُرَمِهْ
قال الخليلي: كنت واقفاً في صحن داره خلف شجرة كبيرة، والزمان قيظ،
والهاجرة مُحتدِمة، وهو أيضاً واقف تجاه تلك الشجرة لا يلحقني طَرْفه.
فقال لخادمٍ بين يديه: قد جُعتُ فأصلحوا الطَّعام، وصيحوا بهؤلاء الأكَلة
الطَّغام.
قال: فنزَّت في نفسي أنَفَةٌ سدَّت ما بيني وبين السّماء، فرجعت
القَهْقَري ألقُطُ قدمي حتى صرتُ إلى الباب، وفتُّ إلى المنزل؛ وطُلبت
فاحتجبت، ثم طلبت فاحتجيت، وقلت: سقطت من عالي السّطح، وانكسرت ساقي؛
وبقيت على هذه التَّعلّة حتى فرّج الله بالقبض عليه.
قال: وهذا عِرْقٌ كان ينبض فيه عن أبيه؛ فإن أباه كان غالياً في هذا
الخلُق، وكان يُكابد من سَتْر هذا الداء على نفسه أمراً عسيراً. ولقد حضر
ابن بُندار يوماً، وكان يأكل معه، فنظر إلى غَضارة قد مُلئت ثريداً فأنشد:
ثريدٌ كأَنّ الشَّمس في حَجراته ... نجومُ الثُّرَيا أو عُيون الضَّياوِنِ
فقال: أُفّ، لعن الله قائله! فقال ابن بندار: قائله حسَّان بن ثابت،
والنبي عليه السلام لا يرضى بلعن من يقول له حاضّاً على جواب المشركين: "
قُلْ ومعَك روحُ القُدس " . فسَكَت خَزْيان.
وكان ينجم من قلبه في الوقت بعد الوقت بُغْضُ العرب والأَكَلة؛ أنشد يوماً
بيتاً، وقال: أُحبُّ أن أعلم ما يُريد الأعرابيُّ بقوله:
تَرى وَدَك السَّديفِ عَلَى لِحَاهُم ... كَلَوْن الرَّاءِ لَبَّدهُ
الصَّقِيعُ
قال: وما انتصف منه أحد كأبي العباس ابن بندار؛ فإنه جرى ليلة حديث العرب
والقبائل والأنساب. فقال أبو الفضل: أسَدٌ عِرْقٌ وَشيج ورحاك ونشيج وطراز
نسيج، فقال ابن بُندار:
إِذا أَسَدِيٌّ جاعَ يوماً ببلَدةٍ ... وكان سَميناً كَلْبُه فهو آكِلُه
فتغافل أبو الفضل كأنه لم يسمع، وكان حليماً حمولاً لئيماً ذَلُولا.
وقال: أحدّثك من حلمه بأعجب من هذا؛ كُنّا بأَذْرَبيجان لما
افتتحناها لإبراهيم بن المرْزُبان وقرَّرناها في يده اتفق أن ظفرنا هناك
بطبيب نصرانيّ بغداديّ حسن الحذق، بارع الصناعة، مشهود له بصواب الرأي
وجودة التدبير، فأدناه أبو الفضل ورضيَ هدْيَه، وحمِد رأيه وقوله، وكان
يخصّه بالبرّ والتحفة؛ فكان من أمره أن أبا الفضل شرب غَداتئذٍ قدحاً من
شراب الرُّمان، فبقي في أسفل القدح قليلاً، ومدَّ يده إلى الطّبيب يناوله،
تكرِمةً له، ويقول له: اشرب هذه البقية.
فقال له الطبيب: " نَهَى نبيُّكم عن سُؤر الكَلْب " ، وأمسك عن القدح.
فاصفرَّ وجه أبي الفضل، ولم ينطق بكلمة، ولا أساء إليه، ولا اعتذر ذاك من
فرطته.
ولتدافُع الحديث ما أخرُج من ذكر هذا إلى شأن ذاك. ولقد اضطرب عليّ نسج
الرسالة على مذهب المصنّفين، ولكن عذري بيّن، لأني نقلت ما نقلت في وقتٍ
صعب وحالٍ عوراء.
سألت العتابيَ، شيخاً من أهل أصفهان كان صحب ابن عباد في أيام الحداثة، عن
ترك ابن عباد الشراب.
فقال: والله ما ترك ما ترك لله، ولكن تركه أنه كان إذا سكر افتضح ودعا إلى
الفجور به، ولما فشا هذا وقبُحَت القالةُ هَجَره، وأظهر ذلك لتقوى الله،
أو لوجه الله تعالى.
ورأيت ابن عباد يوماً يقول لابن أبي هشام: لا تقُل حَرِجت نفسه، إنما
الحَرَج للصّدر، قال الله تعالى: (فَلاَ يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ
مِنْهُ).
فقال له: فأين أنت من قوله تعالى: (ثُمَّ لاَ يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ). فعرق جبينه خجلاً؛ وكان ذاك سبب إعراضه عن هذا
الشيخ، وانقلابه عنه بالحرمان.
وقال لي العتابي: كان هذا، يعني ابن عباد يقال له في المكتب: دِيوْجَه،
قال: وتفسيره شيطان صغير.
وقال لي ابن الرازي: كلَّمته في شيء يوماً، وقلت في عُرض الكلام: " وكان
ذلك لانطلاق لسانه " ، فقال له: " اخسأ، الانطلاق في الشيء والطَّلاقةُ في
اللّسان " .
قال: فقلت له: ما تصنع بقول الأول وهو يزيد بن الصَّعق يخاطب النّابغة
الذّبياني:
وأيُّ الناسِ أَغدَرُ من شآمٍ ... له صُرَدان منطَلَقَ اللسان
قال: فخَمَد وحَقَد.
هكذا قال بفتح القاف، وكان فصيحاً.
وقال يوماً في المجلس، وهو يحدّث عن رجل أعطاه شيئاً فتلكّأَ في قبوله: "
ولا بُدَّ مِن شيءٍ يُعينُ على الدَّهرِ " ثم قال: قد سألت جماعة عن صدر
هذا البيت فما كان عندها ذاك. فقلت: أنا أحفظُ ذاك.
فنظر إليَّ بغضبٍ وقال: فما هو؟ قلتُ: قد نسيته.
قال: ما أسرع ذكرك من نسيانك.
قلت: ذكرته والحال سليمة، فلما حالت على سلامتها نسيتُ.
قال: وما حيلولتها؟ قلت: نظر الصاحب بغضب، فوجب في حسن الأدب أن لا يقال
ما يُثير الغضب.
فقال: ومن تكون حتى يُغضب عليك؟ دع هذا وهات! قلت: قال الشاعر:
أُلامُ على أَخذِ القَليل وإِنَّما ... أُصادِف أَقواماً أقلّ من الذرّ
فإِن أنا لم آخُذ قليلاً حُرِمتُه ... ولا بُدَّ من شيءٍ يُعين عَلى
الدَّهْرِ
فسكَت.
وكان ابن عباد ورد إلى الري سنة ثمان وخمسين مع مؤيد الدولة، وحضر مجلس
ابن العميد أبي الفضل، وجرى بينه وبين مِسْكَوَيْه كلام، ووقع تجاذب.
قال مسكويه: فدعني حتى أتكلم، ليس هذا نصفة، إذا أردت أن لا أتكلم فدع على
فمي مخدَّة.
فقال له: أنا لا أدع على فمك مخدّة، ولكن أدع فمك على المخدّة. وطارت
النادرة، ولصقت وشاعت وبقيت.
فأما حديث ابن عباد مع أبي عبد الله الحصيري فمن الطّرائف؛ كان هذا
الحصيري من أسقط الناس وأنذلهم، فلما ورد ابن عباد الريَّ تقرَّب إليه
وعرض نفسه عليه، وسأل أن يُلقّنه المذهب، فحقره ابن عباد، وكان لا يهشّ له.
فجعل الحصيري يقف في الأسواق والشوارع العظام، والمربعات الكيار، ويُنادي
بصوتٍ جهير ويقول: ادعوا الله للصّاحب الجليل، إسماعيل الذي ليس له في
الدنيا عديل! ثم يقول بالفارسية: فإنه قد بسط العدل، وأحيا العلم، وبثّ
المكارم، وآوى الغرباء؛ لا يشرب الخمر، ولا يَعْفِجُ الغلمان، ولا يخلو
بالمُرْدان، ولا يتقحّب بالنساء، ولا ياخذ الرُّشا، ولا يقبل المُصانعات؛
نهاره في المُلك، وليله في دراسة العلم.
وأشباه هذا الكلام الشَّنيع.
وكان المنظر عجيباً، والمسمع أعجب. وكان أهل الريّ يقفون ويسمعون
ويضحكون ويسخرون، والبلد يغلب على أهله النوادر والعيارة.
فلما توالى ذلك منه، نُمي إلى ابن عباد، وشُنع به على الحصيري، واستُؤذن
فيه ليُنهى عنه ويُزجر.
فقال: لا تفعلوا فإن باله ينكسر، ونشاطه يذهب، دعوه على شدّته في المذهب
وحدَته على أهل الكذِب.
وكان له آخر يُلقّنه بالفارسية، ويقال له: اجلس في الأسواق عند الباقلاّني
وعند الصّيدلانيّ، وعند المرّاق، وعند الهرّاس، واطرح له حسن " العدل
والتّوحيد " ، وادعه إلى المذهب، ولك مشاهرة تدرُّ عليك، وبرٌّ في كل وقت
يصل إليك، ولك الجاه العريض في الوصول إليّ، والخلوة معي؛ وكان يقال لهذا
الرجل الفُقّاعِيّ.
ورأيت آخر يقال له أبو عليّ الإسكاف، وكان أشفّ من الفُقاعي، على هذا؛
وكان يقال لهؤلاء دعاة الصّاحب، وخاصة الصاحب.
واجتهد بالحسين المتكلم الكُلاّبي أن ينتقل إلى مذهبه، فتلّطف حسين وقال:
أيها الصاحب! دعني حتى أكون مشحذاً لك، فما بقي غيري، وإن دخلت في المذهب
لم يبق بين يديك من تنثو عليه قبيحه، وتُبدي للناس عُواره.
فضحك من كلامه وقال: قد أعفيناك يا أبا عبد الله، وبعد ما نبخل عليك بنار
جهنّم، اصلَ بها كيف شئت! قال لنا حُسين بعد ذلك: يا قوم! أَ تُراني أصلى
بنار جهنم وعقيدتي وسيرتي معروفتان، ويتَبوّأُ هو الجنة مع قتل الأنفُس
المحرّمة، وركوب المحظورات العظيمة؟ إن ظنّه بنفسه لَعَجب، والله لو كان
من المرجئة لكان مخوفاً عليه، فكيف وهو يدعي الوعيد، ويخوِّف بالتخليد؟
لَحا الله الوَقاح.
وقال يوماً: ما صَدْر قول الشاعر:
والمشرَبُ العَذْبُ كَثِيرُ الزّحامْ؟
فسكت الجماعة.
فقال: قد - والله - فشا النّفص، وذهب الحفظ، ومات الأدب.
فقال ابن الرازي: صدره:
يزدَحِم الناسُ علَى بَابِهِ
فأقبل عليه بغيظ، وقال: ما عرفتك إلا متعجرفاً جاهلاً، أما كان لك
بالجماعة أُسوة؟ وسمعته يقول: كان أبو الفضل مطبوعاً على معرفة الشِّعر،
وكان لا يخفى عليه جيده من رديِّه، وكان يعجب بقول الشاعر:
وجاءَت إلى باب من السِّجْف بينَنا ... مُجافٍ وقد قامَتْ عليه الولائدُ
لِتَسْمعَ شعرِي وهو يَقرع قلبَها ... بوحيٍ تؤدّيه إليها القصائدُ
إذا سمِعتَ معنىً لطيفاً تنفّسَت ... له نَفَساً تنقدُّ منه القلائدُ
ثم قال: هذا والله القول، وأنا أعجب بقول الآخر حين يقول:
ما زلتُ أَهواك سؤلَ قلبي ... ما دمت بين الأَنام حَيّا
وكيف يَسلُو هَواك قلبٌ ... سَقَيْته من هَواك ريّا
أَولى لك الله ثم أَولَى ... أَما خشِيت العِقاب فِيّا
جِئت إِلينا بغير وعْدٍ ... يا حبّ من زارَنا بَدِيّا
حتّى إذا ملكْت قلبي ... وازدَدت حُسناً نعَمْ وزِيّا
نفرَت نفرَ الظباء عنّا ... فصارَ من دونك الثُّريّا
وسنوسّع هذه الرسالة بعد هذا التطويل ببعض ما يكون حجةً أو عذراً، وإن
اعترض حديث سقناه على غَرِّه، وعرضناه على حُلوه ومُرّه، ولولا أن الفائدة
- أبقاك الله - في سماع هذه الأشياء ومعرفة هذه الأحوال أضعاف الفائدة في
الإضراب عنها، لكان السكوت ممكناً، والإمساك مستطاعاً، والسَّلم واقعاً،
والإعفاء سهلاً؛ ولكن الخيرة لا تقع، واليقظة لا تستحكم، والطّبع لا يرتاض
حتى تتصفح الأمور، وتتعقّب الدُّهور، وتأخذ نصيبك من الاعتبار، وتبعث همتك
على محمود الاختيار؛ والشاعر يقول:
ومن يَطُل عَيشُهُ لا تَلْقَه غَمراً ... وفي الحَوادِث والأيّام تجريبُ
وقال آخر:
أَخو خَمسين مُجتَمعٌ أَشُدِّي ... ونجَّذّنِي مُداورَةُ الشُّؤونِ
وقال آخر:
أَ لم ترَ ما لاقيت والدهرُ أَعصر ... ومن يتَملَّ العيشَ يَرْأَ ويسْمَعُ
وقال لي أصحابنا حين وقف على جُرامة هذا الكلام: قد كشفتَ طائفتين
كبيرتين، وحملتهما على عداوتك والإرصاد لك، يعني المتكلّمين والمتفلسفين؛
فإن هذه لا تصبر لك على ثَلْبك ابن عبّاد، وهذه لا تسكت عنك في نيلك من
ابن العميد.
فقلت له: متى كان الخصم منصفاً، وكان مُدِلاً بالحق متوقّفاً،
فإن القول معه يسهل، والجدل يخف، والحديث يُفيد؛ وهل أنا إلا كمن قال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث: يا رسول الله: رَضيتُ فقلتُ
أحسَنَ ما عرَفت، وغضبت فقلت أقبح ما عرفت. فلم يُنكر ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وأنا أروي لك القصة لتكون الفائدة أظهر، والحجة أنوَر.
قال عمرو بن الأهتم للزِّبْرِقان، حين قال له النبيّ عليه السلام: ما
عِلمك فيه؟ قال: أعلم أنه قد نجمت له مروّة، وأنه مطاع في قومه، وأنه
مانعٌ لما وراء ظهره.
فقال الزبرقان: أما والله لقد ترك ما هو أفضل من هذا.
فقال عمرو: أما إذا قال ما قال فهو ما علمت أحمق الأب، لئيم الخال، زَمِرُ
المروّة، حديث الغِنى؛ ولقد صدقت في الأولى، وما كذبت في الأُخرى.
وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمرو: يا رسول الله! لقد غضبت فقلت أقبح ما عرفت، ورضيت فقلت أحسن ما
عرفت.
فقال النبي صلى الله عليه: " إنّ من البيانِ لَسِحْراً " .
فهذا هذا، على ما رواه ابن الأعرابي.
ومن أظلم ممن طلب من الساخط ما لا يوجد إلا عند الرّاضي، وطلب من الراضي
ما لا يصاب إلا عند السّاخط؟ ومن كان كذلك فقد ردّ الأمور على أعقابها،
وأتى المطالب من غير أبوابها. ولكل واحد من الراضي والساخط شاكلة يعمل
عليها، وشيمة يظهر بها. على أني ما بهرَجْت مذهب المتكلمين، ولا زيّفت
مقالة المتفلسفين. وإنما قلت في أُولئك إنهم ادّعوا " العدل " وعملوا
بالجَوْر، وأمروا بالمعروف وركبوا المُنكر، ودعوا الناس إلى الله بالقول
ونفّروا عنه بالفعل، ولم يرجعوا فيما نصروه وذبّوا عنه إلى ورعٍ ظاهر
وتحرُّجٍ معروف، ويقين لا خلاج فيه، كما كان عليه سلفهم وأعلامهم؛ واصل،
وعَمرو، والحسن ومن جرى مجراهم.
وهذا ما لا أحتاج إلى الاعتذار منه؛ فإني سمعت الدّيّانين منهم يقولون هذا
فيهم، ويرونه من الدّاء الذي قد أعضل عليهم.
ثم إني ما رأيت أحداً سكت عن أحدٍ من سفهائهم تغافلاً عنه أو حصراً له إلا
ورأيته يقول ويُطنب في ابن عباد غير خاشٍ ولا مُتحاش، لعظم الآفة به على
المذهب، وتفاقُم الأمر بمكانه على أهله.
وما قولي هذا فيهم إلا كقولك يوم اجتماعنا في مقبرة معروف الكرخي لبعض
الشيعة: لو كنت دائناً بحبّ آل الرسول معتقداً لشرف العِتْرة راجعاً إلى
صحة السريرة والعقيدة لظهر ذلك في عفّتك وورعِك، وصلاتك وصيامك، وحجِّك،
وعبادتك واجتهادك، وصدقتك ومواساتك؛ مع إحياء الليل وإظماءِ النهار،
واقتداءٍ بالذين إياهم تحبّ، وعنهم تذبّ؛ ولم تكن تقنع من جميع محاسن
المذهب بسبّ السلف وتضليل الأُمة، وثلب الصالحين وتكفير السّابقين وتدنيس
الطاهرين.
فقولك لهذا الرجل الشيعي هو قولي للمتكلم إذا كان دعياً، ولم يكن في مذهبه
براً تقياً.
وأما ابن العميد، فمن هذا الذي يتفلسف على بصيرة ومعرفةٍ، وهو يرضى سيرته،
ويحمد هَدْيه، ويراه قُدوةً ويعدُّه سعيداً؟ كأن الفلسفة إنما تكون
بالدّعوى باللسان، من غير عمل ومعاناة ورياضة، وقمعٍ للشهوات إذا غلبت،
وردعٍ للنفس إذا طغت، واستصلاحٍ للأمور بالعدل المؤثر فيها، وطلب السعادة
والفوز في العاقبة على ما رسمه علماؤها، وحققه حكماؤها.
هيهات! ظنٌّ لا تسافر فيه العين، وقول لا يصبر على لفْح الكِير. فليت شعري
بعد هذا من الخصم الذي يركب البهت، ويدفع العيان، ويسحر العقول، ويطرح
الأذهان، ويقول: ليس القول بالعدل والتوحيد، والأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر إلا ما هو عليه ابن عباد، ولا الفلسفة إلا ما كان يختاره ابن
العميد؟ هذا ما لا يقوله أحد ممن له عقل ونهى، ولا يجترئ عليه من له حجر
وحِجا، خاصة إن كان ممن يرُبُّ مروّته بالحق، ويصون كلمته عن الكذب، ويغار
على عقله من تعنيف معنّف، ويأنف لنفسه من لومة لائم.
سمعت القاضي أبا حامد المَرْورُّوذِيّ يقول، وكان سيد الفقهاء في وقته
وإمام أصحابه في عصره، وعجيب الفضل في جميع أموره؛ لو أن رجلين ظاهرين
زكَّيا رجلاً عند الحاكم، ثم سأل الحاكم آخرين مرضِيّيْن عن ذلك المزكّى
بعينه فجرَّحاه لكان الحاكم لا يقف ولا يتحيَّر ولا يعيا ولا يحصر، ولكنه
يقدّم الجرح على التزكية ويعمل به دونها، ويصير إليه تاركاً لها؟ فإن قلت:
ما الحكمة في هذا؟
قيل لك: إن اللذين زكّيا قالا بالظاهر، وربما يكثر مثله، ويغلب
شبيهه، وربما يُتكلّف في نظيره بالرياء والسمعة، والنّفاق والخديعة،
والختل والحيلة؛ فلو لم يكن هذا لأمضيتُ التزكية على ظاهرها، وعملت بها،
وسكنت إليها. فأما إذا استنظهرتُ فسألت آخرَيْن مرضيَّين عن المزكّى
فجرّحاه، فكأنما علِما من باطن أمره وخافي حاله وكُنْه غَيْبه، ومطويّ
شأنه ما توارَى عن عرفان من ركَّاه، وخفي على بحث من عدّله. فكان هذا عندي
بالقبول أولى والعمل به أحرى.
هذا ما قاله هذا الرجل العالِم، وهلك سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وابن عباد حفظك الله - ليس بصغير القدر، وابن العميد لم يكن خامل الذكر،
وما فيهما إلا من هو غُرة زمانه، وتاريخ دهره، لنباهته وصِيته، وطول أيامه
وامتداد دولته، ومواتاة مُراده، وطاعة الناس له، وتوجه الأطماع إليه؛ فكيف
يُجزّف الحديث عنهما مجزّف، ويُلزَق الكذب بهما مُلزق، أو يدّعي الباطل
عليهما مُدَّع؟ هذا ما لا يطمع فيه حصيف، ولا يعمل عليه عاقل؛ ولكن حديث
الدِّين والكَرَم والعقل والمجد والسِّيرة والهدى والجُود والبَذْل، ليس
من حديث الجَدّ والفتح والختال والإنفاق والدولة والسناء والمرتبة في شيء.
اللهم إلى أن يكون الفضل كله عند هذا المخالف في كتاب يُنشأ ومعنىً
يُقتضب، وقصيدة تُنشد، ورسالة تُحبّر، ومسألة تتداول بالعيِّ والبيان،
ودعوى تُتناقل بالشُّبهة، وعربية تُشقَّق تشقيقاً، وكلمة تُزَوَّقُ
تزويقاً، وباطلٍ يُنصر لحاجةٍ تدعو إليه، وحقٍّ يُرفض لأمر يحمل عليه،
وخصم يُفحم بما غثَّ وسمن، وشُبهةٍ تُركب بما ظهر وبطن.
أو يكون الفضل عنده، والتَّمام لديه في الأمر والنهي، والعزل والولاية،
والقبض والمُصادرة، والكيد والغيلة، والاستخراج والحيلة، والغاشية
والحاشية، والخدم والحشم، والدُّور والقصور، والمراكب والمواكب، فيكون كل
ما يدّعيه الخصم مقبولاً، وكل ما يأباه مرذولاً؛ فأما أن يكون الفضل -
بإحماع الأوّلين والآخرين، والماضين والغابرين - في الدّينونة والتألُّه
والعفاف والتحرُّج والكرم، والطَّهارة والتقزز والنّزاهة والرّقة والرّحمة
والجود والعَطية والحِلم والعفو والإبقاء والإغضاء والوفاء والإرضاء
والتغافل والتسمُّح والبرّ والتعهُّد، والبِشْر والطَّلاقة، والدّماثة
والشجاعة وطلب الذّكر الجميل من كل أحد، إما للساعة وإما للأبد، فينبغي
على هذا أن لا يكون لكلام الخصم سامع، ولا لدعواه مُصدّق ولا لحُكمه مُجيز.
قلت لأبي الوفاء المهندسن وكان قد رجع من عند ابن عباد، لقيه بجُرجان
مؤدياً إليه رسالة من بغداذ، لقيتُه بالمرْج في ليلة عمياء بالمطر والبرد
والثّلج والسّيل العرم: كيف شاهدت ابن عباد، فإنك صَيْرَفيُّ الناس في
الناس؟ فقال: يقال لمثله عندنا بنيسابور عندنا طبلٌ هَرْثَمِيّ، ويقال
لمثله عند إخواننا ببغداد: مادح نفسه يقرئك السّلام؛ وهو مع هذا عند
أصحابه رقيع طيّب، وعند الكُتّاب أحمق غليظ، وعند سفلة المعتزلة واحد
الدنيا، وعند الفلاسفة طائر طريف، وعند الصالحين ظلوم قاس، وعند الله فاسق
عاصٍ، وعند أهل بلده أفّاكٌ أثيم، وعند الجمهور شيطان رجيم.
وقلت لأبي السلم تحية بن علي الشاعر القحطاني: أين ابن عباد من ابن
العميد؟ فقد زرتهما مُنتجعاً، وزرتهما جميعاً.
فقال: كان ابن العميد أعقل، وكان يدّعي الكرم، وابن عباد أكرم، وهو يدّعي
العقل؛ وهما في دعوييهما كاذبان، وعلى سجيّتِهما جاريان.
أنشدت يوماً على باب ذاك قول الشاعر:
إذا لم يكن للمَرْء في دولة امرئٍ ... جمالٌ ولا مالٌ تمنَّى انتقالَها
وما ذاك من بُغضٍ لها غير أنه ... يؤمّل أُخرى وهو يرجو زَوالها
فرُفع إليه إنشادي، فأخذني وأوعدني، وقال لي: انجُ بنفسك فإني رأيتك بعد
هذا أَولَغْت الكلاب دَمد.
وكنت قاعداً على باب هذا منذ أيام فأنشدت البيتين على سهوٍ، فرُفع إليه
الحديث، فدعاني ووهب لي دُريهماتٍ وخُريقات، وقال: لا تَتمنّ انتقال
دولتنا بعد هذا.
وأبو السلم هذا من أغزر الناس في الشعر، يحفظ الطِّمَّ والرِّمَّ، وكان
طيّب الإنشاد، رخيم النغمة. أنشدني لابن حسان:
إِن الجديدَيْن في طول اختلافهما ... لا يَفْسُدان ولكن يَفسُد النَّاسُ
لا تَطمعا طمَعاً يُدْني إلى طَبَعٍ ... إِن المطامِع فَقْرٌ
والغِنى اليَاسُ
للناسِ مالٌ ولي مالاَنِ مالَهُما ... إذا تحارَسَ أهلُ المالِ، حُرَّاسُ
مَالي الرِّضَا بِالذي أَصبحتُ أَملِكُه ... وماليَ اليأَسُ مما يَملِكُ
الناسُ
وقال لي الخليلي: الرجل مجنون، يعني ابن عباد، وفي طباع المعلمين. سمعته
وهو يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشعر؟ وإن قلته كيف تجيده؟ وإن أجدت
كيف تغزُر فيه؟ وإن غَزَرت فيه فكيف تَروم غاية وأنت لا تعرف ما
الزَّهْلِق وما الهِبْلَع، وما العُثَلطِ، وما الجَلَعْلَع، وما
القَهْقَب، وما الطُّرْطُب، وما القَهْبَلِس، وما الخَيْسَفُوج، وما
الخُزَعْبِلَة، وما القُذَعْمِلة، وما العَرَوْمَط، وما السَّرَوْمَط، وما
الدَّوْدَرَى، وما المَكْوَرَّى، وما العَفْشَليل، وما القفشليل، وما
الجَلَعْبَى، وما القِرْشَبُّ، وما الصِّقْعَل، وما الجِرْدّحْل، وما
الدَّرْدَبيس، وما الطَّرْطَبِيس، وما العَلْطَمِيس، وما الجرَعْبِيل، وما
الخُنَعْبيل، وما العُبَاريد، وما العَبابِيد، وما العَباديد، وما
النِّقاب، وما الجِرْفَاس، وما اللَّووس، وما النَّعْثَل، وما
الطِّرْبَال؟ وما معنى: إنه لظريف ولا تِباعَة؛ وما الفرق بين العَذْم
والرَّذْم، والحَدْم والحَذْم، والخَصْم والقَضْم، والنَّضح والرَّضْح،
والقَصْم والفَصْم، والقَصْع والفَصْع، وما العَبَنْقَس، وما الفَلَنْقَس،
وما الوَكْواك والزَّوَنَّك، وما الخَيْتَعور، وما السَّيْتَعور، وما
اليَسْتَعور، وما الحِرْذَون، وما الحَلَزون، وما القصدر، وما
الجُمَعْلِيل. قال الشاعر:
جاءت بخف وحتين ورجل
جاءت تمشّي وهي قدّام الإِبل
مشيَ الخُمَعْليلة بالحرف النقل
قال: ورأيت بعض الجهال باللغة يصحّف هذا ويقول:
بخف وحنين ورخل
قلت للخليلي: من عنيَ بهذا؟ قال: عنيَ ابن فارس معلّم ابن العميد أبي
الفتح.
قال الخليلي: أَ فهذا الضرب من الكلام مما يجب أن يفتخر به، ويتدفّق به،
إنك يا أبا حيان لو رأيته يميس وهو يهذي بهذا وشبهه، ويتفيهق فيه، ويلوي
شدقه عليه، ويقذف بالبُزاق على أهل المجلس، لحمِدت الله تعالى على العافية
مما بُلي به هذا الرجل.
وبعد فما بين الشاعر وبين هذا الضرب؟ الشاعر يطلب لفظاً حُراً، ومعنىً
بديعاً، ونظماً حُلواً، وكلمة رشيقة، ومثالاً سهلاً، ووزناً مقبولاً.
قلت للخليلي: فما بال الناس، مع علمهم برقاعته وجنونه، قد لزِموا فِناءه،
وتزاحموا على بابه؟ فقال لي: يا هذا! خلَت الدنيا من الكرم والكرام،
واصطلح الناس على قلّة المباهاة بالفضائل، وكان هذا كله منوطاً بالخلافة،
فانقضت أيام الصّدر الأول بالدِّين الخالص، وأيام بني مروان بالرّياء
والسُّمعة، وأيام بني العباس بالمروّات والتوسع في الشهوات، ولم يبق بعد
هذا شيء.
ولا بد للناس من الانتجاع، أخصبت البلاد أم أجدبت، والحِرف لا تسع الخلق،
والمرتبة الواحدة لا تحفظ النظام، ولا بدَّ للناس من التقسُّم بين
الرَّفعة والضَّعة، وعلى ما بينهما من الأحوال؛ على أن الكرم والعطاء،
والبذل وحبّ الثناء، والهزّة والأريحية أمور قد فُقدت منذ زمان، وقامت
عليها النوادب في كل مكان. هذا ثُمامة المتكلم يحكي بلسانه، وهو صاحب
المأمون، قال: دخل النَوْشَجَاني على المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين! ما
في بيت مال الصدقات درهم، وقد كثر الغارمون.
فقال المأمون: وكيف لا يكثرون وثلاثة أرغفة بدرهم، وها هنا أُناس لا حرفة
لهم، وا إفضال من مُوسريهم على معسريهم؟ أما والله لقد شهدت أيام الرشيد
والخراج أقل وأرذل، وإن فيها لأكثر من مائة يدٍ بالخير طويلة، وبالعطايا
سائلة، وللمعروف باذلة، وللأرحام واصلة.
وروى عن سابق بني هاشم في هذا أعجب كلام، قال: والله لو علم الله أن غنى
فقرائكم في أكثر من زكوات أغنيائكم لَفرض لهم ذلك. فتبارك الله رب
العالمين.
أين أولئك البرامكة؟ وأين نحن منهم اليوم؟ كان معروفهم يسع الصغير
والكبير، ويهمُّ الغنيّ والفقير، مرذةً يغرف ومرة ينزف، ما لهم همّ إلا
تثميره.
ومن أولئك زُبيدة بنت جعفر وابنها، إني والله لأحسبهما فرّقا من
المال فيمن لجأ إليهما وطلب معروفهما أكثر كم ألف ألف ألف دينار؛ ولقد كان
لمن ذكرت بطانة، وللبطانة بطانة، وكان لهم من المعروف والبذل في الجار
والحميم والسائل وابن السبيل ما لو أُحصي لطال ذكره وعظُم قدره؛ فما
بالعراق اليوم من يجود بدرهم ولا رغيف، أو ليس من انقلاب الزمان أن صار
عبد الله بن بشير أحد أجواده، وأحد أبواب المعروف؟ فما ظنكم بنا وقد حشرنا
في زمرة واحدة؟ ثم مَيِّزْ أهل كل زمان! فإذا نظر إلى أهل زماننا لم يَقُم
في المباهاة إلا عند الله ومالك ابن شاهي! " إنا لله وإنا إليه راجعون " .
اكتب لهم إلى البلدان. وانظر من كان منهم محتملاً فارم به إلى الأطراف
وأجنحة الثغور، ومن قلّ ماله ورثّ حاله، وقعد به العدم عن الحركة الشاسعة
فلا تُجاوز به الموصل والبصرة، وفرّق فيهم ألف درهم، وعجّل سراحهم الأول
فالأول.
ثم قال لي الخليلي: حصّل الآم زمانك من زمان المأمون حين قال هذا القول،
وميَّز هذا التمييز، وداواني بهذا الدّواء. والله إن هذا لعجب! حصلنا في
حديث ابن العميد على أن يقال: جَمشَكٌ عَميديّ، وفي حديث ابن عباد على أن
يقال: هذا ركاب صاحبيّ؛ إني لأجد في صدري غليلاً لا يبرد شيء، من ذهاب
الكرم وفَقْدِ الكِرام وقلّة المبالي بذلك.
قلت للخليلي أيضاً: ومع هذا لكه أين ابن عباد من ابن العميد؟ فقد خبرت ذلك
بملازمتك، وعرفت هذا بتعرّضك.
فقال: أما ذاك فكان لا يُعطيك، ولكنّه كان لا يُطعمك.
وأما هذا فإنه يُطعمك حتى يستفرغك، ثم يرميك بالحرمان أو بعطاءٍ شبيه
بالحرمان. وتفسير هذا عندك يا أبا حيان.
كيف كان علمُ ذاك من علم هذا؟ قال: كان ذاك يدّعي الفلسفة دَعْوى شديدة،
ولكن لا ينادي عليها في الأسواق.
وهذا يدّعي علم الدِّين، وهو يعرضه فيمن يريد.
قلت له: كيف كان ابن العميد في أمر الطعام؟ قال: كان مكبوت الأنفاس عند
اختلاف الأضراس، كَدِر الإحساس عند دوران الكاس، وهذا مما يخالف ما عليه
كِرام الناس.
قلت: فكيف كان ابن عباد لأهل العلم؟ قال: إن كذبوه وخدعوه وموَّهوا عليه
ونافقوه وتملّقوه قرّبهم وأدناهم، وأكرمهم وأعطاهم، وإن صدقوه وماتَنُوه
وثبتوا له أبعدهم وأقصاهم، وحَرَمهم وأخزاهم.
فما ذنبي - أكرمك الله - إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأَعلام العصر فوصوه
جميعاً بما جمعت لك في هذا المكان؟ على أني قد سترتُ كثيراً من مخازيه،
إما هرباً من الإطالة أو صيانةً للقلم من رسم الفواحش، ونثّ العِضْلة،
وذِكر ما يَسْمُج مسموعُهُ، ويُكره التّحدث به.
هذا سوى ما فاتني من حديثه، فإني فارقته سنة سبعين وثلاثمائة.
أو ما ذنبي إن ذكرت عنه ما جرَّعَنِيه من موارد الخيبة بعد الأمل، وحملني
عليه من الإخفاق بعد الطّمع، مع الخدمة الطويلة، والوعد المتّصل، والظنّ
الحسن؛ حتى كأني خُصِصْتُ بخَساسته وحدي، أو وجب أن أعامَل به دون غيري.
قدَّم إلىّ نجاح الخادم، وكان ينظر في خزانة كتبه ثلاثين مجلَّدةً من
رسائله، وقال: يقول لك مولاي: انسخ هذه فإنه قد طُلب من خراسان.
فقلت بعد ارتياع: هذا طويل، ولكن لو أذِن لخرّجت منه فقراً كالغُرر،
وشذوراً تدور في المجالس كالشمّامات والدَّسْتَنبُويَات لو رُقي بها
مجنوقٌ لأَفاق، ولو نُفث على ذي عائِنة لَبرِئ، لا تُملّ ولا تُستَغثّ،
ولا تُعاب ولا تُستَرثّ.
فرُفع ذلك إليه على وجه مكروه وأنا لا أعلم، فقال: طعن في رسائلي وعابها،
ورغِب عن نسخها، وأزرَى بها، والله ليُنكرَنّ مني ما عرف، وليعرفنّ حظّه
إذا انصرف. كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة
صالح، أو سَلَحت في زمزم، أو قلت كان النَّظّام ما نَوياً، أو كان
العَلاّف ديصانياً، أو كان الجبَائي بُتْرياً، أو مات أبو هاشم في بيت
خَمَّار، أو كان عبّاد معلّم الصبيان.
وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلّدة؟ ومن هذا الذي يستحسن
هذا التكليف حتى أعذره وهو يرجو بعده أن يمتّعه الله ببصره أو ينفعه بيده؟
ثم ما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب
إليّ به في الوقت بعد الوقت.
فقلت: وكيف لا يكون كما يوصف وأنا أقطف من ثمار رسائله، وأستقي
من قليب علمه، وأشيم بارقه أدبه، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مُزنه؟
فيقول: كذبت وفجرت لا أُمَّ لك! ومن أين كلامي الكُدية والشحذ والضَّرع
والاسترحام؟ كلامي في السماء، وكلامك في السماد.
هذا - أيدك الله - وإن كان دليلاً على سوء جدّي، فإنه دليل أيضاً على
انحلاله وتحزُّقه وتسرعه ولؤمه. انظر كيف يستحيل معي عن مذهبه الذي هو
عرقه النّابض وسوسه الثابت وديدنه المألوف.
وهلاّ أجراني مُجرى التاجر المصري والشاذياشي وفلان وفلان؟ أو ما ذنبي إذا
قال لي: هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح ببغداذ؟ فأقول: نعم رأيته وحضرت
مجلسه وشاهدت ما جرى له، وكان من حديثه فيما مُدح به كذا وكذا، وفيما
تقدّم منه كذا وكذا، وفيما كفى فيه كذا وكذا، وفيما تكلّف من تقديم أهل
العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا، ووصل أبا سعيد السيرافي بكذا وكذا،
ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا؛ فيزوي وجهه ويتكره حديثه، وينجذب إلى
شيءٍ آخر ليس مما شرع فيه، ولا مما حُرِّك له. ثم يقول أعلم أنك إنما
انتجعته من العراق، فافرأ عليّ رسالتك التي توسَّلت إليه بها، وأسهبت
مقرظاً فيها، فأتمانع فيأمر ويشدد، فأقرؤها فيتَّقد ويذهل.
وأنا أكتبها لك ها هنا لتكون زيادة في الفائدة.
بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم هيّء لي من أمري رشداً، ووفّقني لمرضاتك
أبداً، ولا تجعل الحرمان عليّ رصداً.
أقول وخير القول ما انعقد بالصّواب، ما تضمن الصدق، وخير الصِّدق ما جلب
النفع، وخير النفع ما تعلق بالمزيد، وخير المزيد ما بدا عن شُكْر، وخير
الشكر ما بدا عن إخلاص، وخير الإخلاص ما نشأ عن إيقان، وخير الإيقان ما
صدر عن توفيق.
لما رأيت شبابي هرماً بالفقر، وفقري غِنىً بالقناعة، وقناعتي عجزاً عند
التحصيل، عدلت إلى الزمان أطلب إليه مكاني فيه، وموضعي منه، فرأيت طرفه
عني نابياً، وعنانه عن رضاي مثنياً، وجانبه في مُرادي خشناً، وإنفاقي في
أسبابه سيئاً، والشامت بي على الحَدَثان متمادياً؛ طمعت في السكوت تجلداً،
وانتحلت القناعة رياضة، وتألّفت شارد حرصي متوقفاً، وطويت منشور أمري
متنزّهاً، وجمعت شتيت رجائي سالياً، وادّرعت الصبر مستمراً، ولبست العفاف
محموداً، واتخذت الانقباض صناعة، وقمت بالعلاء مجتهداً.
هذا بعد أن تصفّحت الناسفوجدتهم أحد رجلين: رجلاً إن نطق عن غيظ ودِمنة،
وإن سكت سكت على ضِغْنٍ وإحنة. ورجلاً إن بذل كدَّر بامتنانه بذله، وإن
منع حصَّن باحتياله بُخله؛ لم يطل دهري في أثنائه متبرّماً بطول الغربة
وشظف العيش، وكلب الزمان وعَجَف المال، وجفاء الأهل وسوء الحال، وعادية
العدوّ وكسوف البال؛ متضرّماً من الحنق على لئيم لا أجد مُنصرفاً عنه،
متقطعاً من الشوق إلى كريم لا أجد سبيلاً إليه - حتى لاحت لي غُرة
الأُستاذ فقلت: حلَّ بي الويل، وسال بي السٍّيل! أين أنا عن ملك الدنيا،
والفلك الدائر بالنُّعْمى؟ أين أنا عن مشرق الخير ومغرب الجميل؟ أين أنا
عن بدر البدور وسعد السعود؟ أين أنا عمن يرى البخل كفراً صريحاً، ويرى
الإفضال ديناً صحيحاً؟ أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان، وعن بحر لا
يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان؟ أين أنا عن فضاءٍ لا يُشقُّ غُباره، وعن حرَم
لا يضام جواره؟ أين أنا عن منهلٍ لا صدر لفُرّاطه ولا منع لوُرّاده؟ أين
أنا عن ذَوبٍ لا شوب فيه، وعن صددٍ لا حَدَد دونه؟ بلى! أين أنا عمّن قد
أتى بنُبُوّة الكرم، وإمامة الإفضال، وشريعة الجُود، وخلافة البَذْل،
وسياسة المجد، نسيمه مَشيمة البوارق، ونفسه نفيسة الخلائق؟ أين أنا عن
الباع الطويل والأنف الأشمّ والمشرب العَذب والطريق الأمم؟ لم لا أقصد
بلاده؟ لم لا أقتدح زناده؟ لم لا انتجع جنابه وأرعى مراده؟ لم لا أسكن
رَبْعَه وأستدعي نفعه؟ لم لا أخطب جوده وأعتصر عوده؟ لم لا أستمطر سحابه
وأستسقي ربابه؟ لم لا أستميح نيله وأستَسْحب ذيله؟ لم لا أحجُّ
كعبته،وأستلم ركنه؟ لم لا أصلّي إلى مقامه مؤتمّاً به؟ لم لا أُسبّح
بثنائه متقدساً؟ لم لا أحكم في حالي؟
فتىً صِيغ من ماءِ البَشَاشَةِ وجهُه ... فأَلفاظُه جودٌ وأنفاسُه مَجْدُ
لم لا أقصد:
فتىً بان للناسِ في كفّه ... من الجُودِ عَينَان نضَّاختان
لم لا أمتري معروف:
فتىً لا يُبالي أن يكونَ بجسمِه ... إذَا نالَ خَلاَّتِ الكرام، شحوبُ
لم لا أَمدح:
فتىً يشترِي حُسنَ الثناءِ برُوحه ... ويعلَم أَعقابَ الحديث تدوم
نعم! لم لا انتهي في تقريظ فتىً لو كان من الملائكة لكان من المقرّبين،
ولو كان من الأنبياء لكان من المرسلين، ولو كلن من الخلفاء لكان نعتُه
اللائذ بالله، أو المنصف في الله، أو المُعتضِدَ بالله، أو المنتصب لله،
أو الغاضب لله، أو الغالب لله، أو المرضيَّ لله، أو الكافي بالله، أو
الطالب بحق الله، أو المُحيي لدين الله.
أيها المنتجع قَرْن كلئه المختبط ورق نعمته، ارْعَ عرض البِطان مُتفيِّئاً
بظله، وكُلْ خَضْماً ناعم البال متعوّذاً بعزّه، وعِش رخيَّ اللَبب،
معتصماً بحبله، ولُذ بذُراه آمنَ السِّربْ، وامحض وده بالله القلب، وقِ
نفسك من سطوته بحُسن الحِفاظ، وتخيَّر له ألطفَ المدح، تفُز بأيمن القدح؛
ولا تحرم نفسك بقولك: إني غريب المثوى نازح لدار، بعيد النَّسب منسيّ
المكان؛ فإنك قريب الدار بالأمل، داني النُّجْع بالقصد، رحيب السّاحة
بالمُنى، ملحوظ الحال بالحسد، مشهور الحديث بالدرك.
واعلم علماً يلتحم باليقين ويدرأ من الشكّ أنه معروف الفخر بالمفاخر،
مأثور الأثر بالمآثر؛ قد أصبح واحد الأنام، تاريخ الأيام، أسد الغياض يوم
الوغى، نور الرياض يوم الرضا، إن حُرِّك عند مكرمةٍ حرِّك غُصناً تحت
بارح، وإن دُعي إلى اللقاء دُعي ليثاً فوق سابح.
وقل إذا رأيته بلسان التحُّكم: أصلح أديمي فقد حَلِم، وجدِّد شبابي فقد
هرم، وأنطق لساني بمدحك فقد حصر، وافتح بصري بنعمتك فقد سَدِر، واتلُ سورة
الإخلاص في اصطناعي فقد سردتُ صفائح النُّجح عند انتجاعي. وقل: رِشْ عظمي
فقد بَراه الزمان، واكْسُ جلدي فقد عراه الحدَثان، وإياك أن تقول: يا مالك
الدنيا جُد لي ببعض الدنيا، فإنه يحرمُك، ولكن قل: يا مالك الدنيا هب لي
الدنيا.
اللهم فأحْي به بلادك، وانعش برحمته عبادك، وبلِّغه مرضاتك، وأسكنه
فردوسك، وأدِم له العزّ النامي والكعب العالي، والمجد التليد، والجدَّ
السعيد، والحق الموروث والخير المبثوث والوليّ المنصور، والشانئَ المثبور،
والدّعوة الشاملة، والسَّجية الفاضلة، والسِّرب المحروس، والربع المأنوس،
والجَناب الخصيب والعدُوّ الحريب، والمنهل القريب؛ واجعل أولياءه باذلين
لطاعته، ناصرين لأعزّته، ذابِّين عن حرمه، مُرَفرفين على حَوْبائه.
أيها الشمس المضيئة بالكرم، والقمر المنير بالجمال، والنجم الثاقب بالعلم،
والكوكب الوقّاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب، قد سقط العشاء بعبدك على
سرحك فأقره من نعمتك بما يُضاهي قدرك، وزوِّجْ هيئته ترِبها من الغنى،
فطال ما خطب كُفأها من هى.
ثم يقال لي من بعد: جنيت على نفسك حين ذكرت عدوّه بخير، وبيّنت عنه،
وجعلته سيد الناس، فأقول: كرهتُ أن يراني مُندَرِياً على عرض رجل عظيم
الخطر، غير مكترث للقعة فيه، والإنحاءِ عليه؛ وقد كان يجوز أن أُشعّث من
ذلك شيئاً وأبري من أثلته جانباً، وأُطير إلى جنبه شرارة.
فيقال أيضاً: جنيت على نفسك وتركت الاحتياط في أمرك؛ فإنه مقتك وعافك ورأى
أنك في قولك عدوت طورك، وجهلت قدرك، ونسيت وزنك؛ وليس مثلك من هجم على ثلب
من بلغ رتبة ذلك الرجل، وأنت متى جسرت على هذا دربت به وجعلت غيره في قرنه.
فإذا كانت هذه الحالات ملتبسة، وهذه العواقب مجهولة فهل يدور العمل بعدها
إلا علىالإحسان الذي هو علة المحبّة، والمحبّة التي هي علة الحمد،
والإساءة التي هي علة البُغض، والبُغض الذي هو علّة الذّمّ؟ فهذا هذا.
وكان ابن عباد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ. وكان الصوابُ
غالباً عليه، وله رفق في سرد حديث ونيقةٌ في رواية خبر، وله شمائل مخلوطة
بالدّماثة، بيِّن الإشارة والعبارة.
وهذا شيءٌ علم في البغداديين وكالخاصّ في غيرهم.
حدَّثته ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتى ضحك واستعاد، ثم قيل لي بعد: إنه
كان يقول: قاتل الله أبا حيان! فإنه نكد وإنه وإنه، وأكره أن أروي ذمّي
بقلمي، وكان ذلك كله حسداً محضاً، وغيظاً بحتاً.
وأروي لك الحديث، فإنه في نهاية الطِّيب، وفيه فُكاهة ظاهرة،
وعِيٌّ عجيب في معرض بلاغة ظريفة في ملبس فهاهة.
حدثني القاضي أبو الحسن الجرّاحي قال: لحقتني مرةً على صعبة؛ فمن طريف ما
مرَّ على رأسي فيها أنه دخل عليّ في جملة من عاداني شيخ الشُّونِيزِية
ودوّارة الحمار والتوثة وفقيهها أبو الجعد الأنباري، وكان من أصحاب
البَربَهاري، فقال أول ما قعد: يقع لي فيما لا يقع إلا لغيري أو لمثلي
فيمن كان كأنه مني أو كأنه كان على سنّي أو كان معروفاً بما لا يُعرف به
إلاّي أني أرى أنك لا تحتمي إلا حِميةً فوق ما يجب، ودون ما لا يجب، وبين
فوق ما لا يجب وبين دون ما لا يجب فرق، والله يعلم أنه لا يعلمه أحد ممن
يعلم أو لا يعلم.
الطبّ كله أن تحتمي حِمْيةً بين حميتين؛ حمية كَلاَ حِمْية، ولا حمية
كحمية، وهذا هو الاعتدال والتّعديل والتعادل والمعادلة. قال الله تعالى:
(وَكَان بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: " خير
الأمور أوسَاطُها، وشرُّها أطرافُها " ؛ والعلة في الجملة والتفصيل إذا
أقبلت لم تُدبر، وإذا أدبرت لم تُقبل، وأنت من إقبالها في خوف، ومن
إدبارها في التّعجُّب؛ وما تصنع بهذا كله؟ لا تنظر إلى اضطراب الحمية ولكن
انظر إلى جهل هؤلاء الأطباء الألبّاء الذين يُشققون الشّعر شقاً،
ويدُقُّون البعر دقاً، ويقولون ما يدرون وما لا يدرون زَرَقاً وحمقاً؛
وإلى قلّة نُصحهم مه جهلهم، ولو لم يجهلوا إذا لم ينصحوا كان أحسن عند
الله والملائكة، ولو نصحوا إذا جهلوا كان أولى عند الناس وأشباه الناس،
والله المستعان.
أنت في عافية، ولكن عدوك ينظر إليك بعين الأُست، ويقول: وجهه وجه من قد
رجع من القبر بعد غد. وعلى حالٍ فالرجوع من القبر خير من الرجوع إلى
القبر، لعن الله القبر لا بزاز ولا خبَّاز ولا دراز ولا تجواز " إنا لله
وإنا إليه راجعون " ، عن قريب إن شاء الله، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ)، (وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ)،
(وَهُو علَى جَمْعِهِم إِذا يَشَاءُ قَدِيرٌ)، (وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ
بِيضٌ وَحُمْرٌ).
تأمر بشيء؟ السُّنّة في العيادة، خاصّة عيادة الكبار والسادة، التخفيف
والتطفيف وقلّة الكلام، أنا إن شاء الله عندك بالعشيّ، والحق الحقَّ وأقوم
بما يجب على مثلك لمثلي، وإن كان ليس لك مثل، ولا لمثلي مثل؛ هكذا إلى باب
الشام وإلى قنطرة الشوك وإلى المزْرَفَة.
أقول لك المثوى، أنا وأنت اليوم كمثل كُمَّثْراتَين إذا عَفنتا على رأس
شجرة، وكدَلويين إذا خلقتا على رأس بئر، ودع ذا القارورة، اليوم لا إله
إلا الله، وأمس كان سبحان الله، وغداً يكون شيئاً آخر، وبعد غدٍ ترى من
ربك العجب، والموت والحياة بعون الله، ليس هذا مما يباع في السوق، أو يوجد
مطروحاً على الطريق، لكن الإنسان ولا قوة إلا بالله طريف أعمى، كأنه ما
صحّ له منام قطّ، ولا خرج من السُّمارية إلى الشطّ، وكأنه ما رأى قدرة
الله في البطّ، إذا لقط كيف يتقَطْقَط؛ والكلام في الإنسان وعمى قلبه
وسخنة عينه كثير لا يحمله تلّ عقرقوف، ولا يسلم في هذه الدار إلا من عصر
نفسه عصرة ينشقّ منها فيموت كأنه شهيد. وهذا صعب لا يكون إلا بتوفيق الله
وبعض خذلانه الغريب. على الله توكلنا، وإليه التفتنا ورضينا، وبه استجرنا،
إن شاء الله خرَّانا وإن شاء الله أطعمنا.
قال القاضي: فكدتُ أموت من الضحك، على ضعفي، وما زال كلامه لهوي إلى خرجت
إلى الناس. وكان مع هذا لا يعيا ولا يكلُّ ولا يقف، وكان من عجائب الزمان.
وقال لي ابن عباد: حدثني عن بعض لياليه ببغداد، يعني ذا الكفايتين، وعن
مُذاكرة الجماعة عنده ومشاركته لها.
قلت: نعم! حضرتُ ليلة في شهر رمضان سنة أربع وستين وثلاثمائة، فسأل عن
الغنى أَ يُقصر أم يُمدّ؟ قال ابن فارس: الغنى مقصور وهو اليسار والترفة،
والغناء بالمدّ ما يُسمع على الطريق المعروفة، إلا أن الفرّاء قد حكى أن
المدّ في هذا المقصور وهو حجّة، ولا سبيل إلى ردّ قوله.
فقال أبو الفتح: هكذا وما أصحّ حكايتك! ولكن قلبي لا يطمئن إلى مدّ هذا
الاسم، لأنه لم يأت في كلامهم ممدوداً.
فقال ابن فارس: قد أنشد الفرّاءُ قول الشاعر:
سيُغنيني الذي أَغناكِ عني ... فلا فقر يدوم ولا غِناءُ
فقلتُ: عندي في هذا شيء، وما دَخرته إلا لمثل هذه الحال، وقد حان
وقته.
فقال: هات، بارك الله عليك، إنه لحَبَّاء بالفائدة ما علمت.
قلت: الشعر على غير هذا الوجه، والبيت الذي يتلوه يشهد له، وهو:
سَيُغنيني الذي أَغناكِ عني ... فلا فقري يدُوم ولا غناكِ
تجنَّيْتِ الذنوبَ لتَصرِميني ... دعِي العلاّتِ واتَّبِعي هواكِ
فقال لي: أحسنت وأجدت! من أنشدك هذا؟ قلت: أبو الليل العلويّ بالمدينة، في
مجلس أميرها أبي حمد العلوي العقيقيّ.
قال: فحدثنا عن أبي الليل هذا وعن غيره بشيءٍ.
قلت: سمعت شيخاً عنده من بني حرب قد أنشد أبياتاً، لم أُعلِّق منها إلاّ
بيتاً واحداً، وهو:
فتىً خُلقَت أَرْوَاحُهُ مستقيمةً ... لَه نفحاتٌ ريحهُنَّ جنوبُ
وكان معنا إذ ذاك أبو صالح الرّازي الصوفي، وكان مفوَّهاً جَدِلاً.
فقال له: ماذا أراد بقوله " أَرواحُه مستَقِيمةُ " ؟ قال: أراد أن أخلاقه
لا تحول عن الخير، وعادته لا تزيغ إلى القبيح، وأنه على ديدنه في الكرم،
وخصَّ الجنوب لاستدرارها السّحاب، وجعل نفحاتها منافع لهذا الذي مُدح به.
قال: زِدنا من حديث هؤلاء المدنيين.
قلت: وسمعته، أعني الحربيّ، يقول للأمير أبي أحمد في حديث طويل: أيها
الأمير!
لِني ولْيَةً تُمْرع جَنابي فإِنَني ... لما نِلتُ من وَسْميِّ نُعْماك
شاكرُ
قلت: أعِد عليّ نسيج قافيتك.
قال: أما ثقفته؟ قلت: ما أدري ما تقول قال: لعلك من هذه الفرقة الكلامية.
قلت: لعلّه.
وسمعت هذا الحربيّ يقول، وكان يُكنّى أبا الخصيب، لِسيّدحيّه، وهما
بالعقيق على ضفّة الوادي وقد مدّ، وهما ينطقان بما أُحصِّل ولا أُحصِّل،
حتى قال أبو الخطيب لصاحبه: يا هذا! اسْلُ عن طارِفك وتالدك، تَسُدْ بين
صاحبك ووافِدك، أما سمعت في هذه القوافي الأُوَل:
لو كنتَ تُعطِي حينَ تُسأَل سامَحت ... لكَ النَّفسُ واحْلَوْلاَكَ كلُّ
خليلِ؟
فردَّدتُ القافية، وقلت: " واسْتحلاك كلُّ خليلِ " : فقال لي مُنكراً: ما
هكذا لغتي! فقال ذو الكفايتين: كيف كان إدراكهم لما يقع بالإعراب؟ قلت:
سألت أبا الخطيب هذا: أقول إنّ قُرْبي جعفراً؟ قال: نعم، فما تبغي؟ قلت:
أَ فأقول: إنّ بُعدي جعفراً؟ قال: لا، فما تبغي؟ قلت: فما الذي يمنع من
جوازهما؟ قال: بينهما مُسَيْفة لا تُسلك، ورُميلة لا تُعلى، وما أعلم
الغيب، وإني على بينة مما قلت، وعلى ريب مما سألت.
فسمع ابن عباد هذا كله على تغيظ ما قصدت إثارته عليه، ولا علمت إن لي
متقصّىً من نبثي منه؛ وكان ذلك كله سبب الحرمان.
ولقد ظهر لذي الكفايتين بمدينة السلام فضل كبير، على أنه لم يشخص إلاّ
معتوباً عليه.
ولقد كتب إليه ابن طَرْخان الورّاق رسالةً طويلة أطلعني على فصلٍ منها
يقول فيه: " وإنك أيها السيد الهُمام دخلت هذا البلد إما غِرّاً بما تُري
وتَرى، وإما على أن تُبيّن فضلك لأهله، وإما لأن تستفيد منهم ما ليس عندك.
فإن كان دخولك على غرارة، فما هذا بمُشاكل لرتبتك في هذه الدولة التي
غُرّتها مجلوة بيدك، وجُمّتها مفروقة بمِذْرى تدبيرك، وأذاها مُماطٌ
بذبّك، ودواؤها مأمون بطلبك، وعدوُّها مكبوت بصولتك، ودولتك، ووليّها قرير
العين بحُسن إيالتك وكفالتك.
وإما أن تبين فضلك، فاعلم أنهم لا يعترفون بفضلك إلا موصوفاً بإفضالك، ولا
يُسلّمون لك مرادك فيهم إلاّ بأن يُدركوا أملهم منك، كان ذلك طوعاً أو
كرهاً، سلماً أو حرباً.
وإما لأن تستفيد منهم ما ليس عندك، وهذا لا يكون مع إذالة القاصدين،
والاحتجاب من الطامعين والتكبّر على الحاضرين؛ ولو حسن التكبّر بأحد لحسن
بك، لأُبوّتك الشريفة، ولغُرّتك الصّبيحة، ولكفايتك الظاهرة، ولفضائلك
الكثيرة؛ ولكن زراية التكبّر على صاحبه أطرد لمحاسنه من تداركه - بتكبّره
- من غيره ما يريد يحلده، والناس لا يرضون إلا بالغاية، والغاية أن يظلم
الرئيس نفسه تكرماً على زائره، ويجرع الغيظ من كل من قرع بابه ولمس ركابه.
وأنا، أعلى الله كعبك، أحصي أشياء جعلها أصحابنا جوالب للتعب
عليك، والكلام من ورائك، وليس لي فيما أقول إلاّ الفوز بجمال النُّصح،
وإلاّ الالتذاذ بالتنَّبه على الكرم، وإلا إيثار سلامة عرضك على قوم
همُّهم المَحْك في كل حال، وإلا التعرّض لذكرك لهم بالجميل بعد الرّحيل من
هذه الرباع.
فمن تلك الأشياء: سهوك الذي وقع قد ركد عليك في قبول من تقبل، وإيصال من
تُوصل، وإبعاد من تُبعد، وتفضيل من تفضّل بقول من حولك، وحُكم من أطاف بك،
استرسالاً مع الأُنس بهم، وثقةً بما سلف لهم. وذهب عليك - أكرمك الله - أن
هؤلاء الذين تنظر بأعينهم، وتقبل وتردُّ بأهوائهم، ما خلوا من حسدٍ لمن
يخفُّ على قلبك ويحلى بعينيك ويلتاط بنفسك، والعامّة تقول: " القاصّ لا
يحبُّ القَاصّ " .
ولو كان قلبك لكل من اسمه عندك، لِصيته البعيد، وسُؤالك لمن لا شهرة له
قبلك بحسن التأتي في التقريب، لكان حدّك حينئذٍ مقبولاً بما يظهر لك من
الزيادة والنقص، وكانت الحجة تقوم بينك وبين من قد ضري على مالك، أو وضع
في نفسه أن ينال مراده منك بالخدع، على أن التغافل في هذا الباب أدلُّ على
الكرم، كما أن الاستقصاء فيه أجلَبُ فيه للنكد.
فهذا هذا.
وشيء آخر، وهو أصعب مما تقدّم، وذلك أن حجاجك قد بدّد شمل الزُّوار عنك،
وقسم ظنونهم بك، وطرح في قلوبهم اليأس منك؛ ولست بأهل لذلك منهم كما أنهم
ليسوا بأهل لشدّة الحجاب منك، وقلّة رافعي أخبارهم إليك.
وشيء آخر، وهو أصعب مما تقدم، والسّهو فيه لاحق بالظلم؛ لِمَ يجب - أدام
الله دولتك - أن لا يصل برُّك إلا إلى الفاضل، وإلا إلى الكامل، وإلا إلى
الذي هو في الشعر مُفلق، وفي الكتابة بارع، وفي الفلسفة غاية، وفي الكلام
نهاية، وفي الفقه آية، وفي النّحو مذكور، وفي الطبّ مشهور؟ وهذا ظلم. لأن
الله تعالى جعل لكل شيء قدراً، وأظهر له خطراً. وكل متاع وثمنه، وكل بَدَن
وسمنه، والمتناهي كان في الأول مُبتدئاً، ثم في الثاني متوسِّطاً، ثم في
الثالث الذي لا رابع له؛ وقاصدوك بفضائلهم كالعارضين عليك بأمتعتهم، وأنت
تشتري كل متاع بقيمته وتعدِّله ببدَله. فهكذا ينبغي أن تفعل بأبناء الأمل
وأصحاب العمل؛ فليس يجمل أن يحظى بصلتك وبرّك وجائزتك ونظرك أبو سعيد
السيرافي، وأبو سليمان السجسْتاني، وعلي بن عيسى الرُّمَّانيّ، وأصحاب
القلانس، ويحرم بعض ذلك فلان وفلان ممن ليس لهم سمع هؤلاء ولا حالهم، على
أنك قادر على إلحاق الصغار بالكبار بالاصطناع والتفضُّل؛ فإن الرجال هكذا
يتلاحقون، وفي حلبة الرؤساء يتسابقون.
فكُن سبباً للسّاكت حتى ينطق، وعلّة للسّاكن حتى يتحرّك، وباباً للنّائم
حتى يستيقظ، وطريقاً للخامل حتى ينتبه، وجداً سعيداً للميت حتى يحيا؛ فأما
من عدا هذه الطبقة فقد سلف له بغيرك ما هو أشكر، وبه أبصَر وله أنصَر؛ على
أنك إذا عممت الجميع بالخير كنت أشدّ اقتداءً بالله، وأجنحهم إلى هُدى
أنبياء الله، وآخذهم بعادة خلفاء الله.
وشيء آخر ترجّحت بفكري في طيّه ونشره، فرأيت طيّه خَمْشاً لوجه النّصيحة،
وذكره بالإطالة فتحاً لباب الفضيحة، فذكرته مختصراً؛ فقد يُفهم من الكلام
القصير المعنى العريض الطويل، وهو حديث المائدة والطّبق، وما يُحضر للأكل
ويُجمع عليه الرَّقيع والوضيع، والنَّزِه والجشع، فجدِّد الاهتمام بذلك،
فإن القالة فيه طائرة، والحال فيه دائرة، والحاجة إلى التّحزُّم فيه
ماسّة، والتّغافل عنه مجلبة للذمّ؛ وقد رأينا قوماً كراماً تهاونوا في هذا
الباب، إما رفعاً لأنفسهم عنه، وإما شغلاً بمهمّاتٍ أُخر دونه، فأكَلَتهم
الألسنة، وأعلقتهم الملامة، وأحوجتهم إلى الاعتذار الطّويل بالاحتجاج
الكثير. والكرم والمجد لا يثبتان بالدّعوى، ولا يُسلمان بالحجّة، ولكن
يشيعان بالفعل الذي نُطقه كالوحي في الحال التي تنتصب للعين، ولا يُؤنَفنّ
من ضَعَة الأكَلَة، فإن لؤم الأكلة دليل ناصع على كرم المُطعِم.
وهذا باب يزلُّ فيه الرئيس ويظلم فيه الخدم؛ فإن الرئيس لا يقدر على أن
يتولّى كل ذلك بنفسه فيراعيه بلحظه ولفظه، إلا أنه متى أحكم الأساس فقد
أمن الباس، وأرضى جمهور الناس.
وشيء آخر لا بدّ من الإفاضة فيه على وجه الذكرى؛ إن لقاءك الناس
بالبِشْر يأسرهم لك ويُرضيهم عنك؛ فتكلّف ذلك إن لم يكن التهلُّل سجية لك
بالمزاج المستعدّ، وما أكثر ما يلحق المتخلّق بذي الخلق.
وبعد فبين عُبُوس وجهك وقد ظهرت للناس لتركب، وبين عبوسه، وقد رجعت إلى
دارك لتنزل، فرقٌ، أعني أنك ربما عُذرت في العبوس في الثاني، لأن النهار
قد نصف، ولأنك قد تجشّمت إلى ذلك الوقت مصاعب الدولة بالأمر والنّهي
والقبض والبسط؛ ولست تُعذر في غُرّة نهارك وأنت جَامّ ومتوجه ومُقتضب
للتدبير في الأمور.
وشيء آخر، قد يسبق إلى عينيك ازدراءُ من عليم مرقّعة، أو علته بذاذة، وقد
اعتراه عيٌّ إما للهيبة أو لسوء العادة؛ فلا تُصدِّق العين فإنها تكذب
أحياناً، وعمل على أنك تعتقده بفضلك، فإن كان من أهل الفضل فهو شقيقك
بالطبيعة وإن كان من أهل النَّقص فهو مستحق منك الرّحمة. والإحسان إلى
مثله شكرٌ منك لله على ما خصّك به من دونه.
هذا ما حصل لي من ذلك الفصل.
ثم إني في سنة سبعين وجدتُ هذه الرسالة في مسوّدة ابن طَرخان فيما يُباع
من ميراثه. فكان في أولها: " السعادة أيها الأستاذ الجليل ضربان، والسعيد
رجلان، وإحدى السعادتين للدنيا، والثانية للآخرة؛ وأحد السعيدين من هو
سعيد في هذا المكان، والثاني هو السعيد في مكان آخر؛ ومن كما فضيلة أحد
السعيدين أن يعاش الناس بالمعروف، ومن تمتم إحدى السعادتين أن تتصل
بالأُخرى.
ولما رأيتك أيها الأستاذ سعيداً في هذه العاجلة بالمال والولاية، والعزّ
والمرتبة، آثرت أن تكون سعيداً في تلك الآجلة بالإحسان والمعروف، والبر
والمكرمة، فكتبت حروفاً قصدت بها إذكارك لا تعليمك، لأنك تجلُّ عن
التعليم؛ لما أوجب الله لك علينا من التعظيم. وإنما ساغ الإذكار، وحسن
التّنبيه لأَشغال قد اكتنفتك من تهذيب الدولة، وأعباءٍ قد تحمّلتها في
حماية البيضة، وأمور أنت وليّها في بثّ المَعْدِلة في الرعيّة، وإقامتها
على سواء المحجّة، ولو سكتُّ عن هذا كله لأمكن، وكان لا يتشَعَّث لك حال
قد تولّى الله صلاحها، ولا ينآد عليك مستقيم قد أذن الله بدوامه؛ ولكن كنت
أُحرم القربى إليك، ولفوت النظر إلى مثلي ومحرومي ألذَع لقلبي من فائتك؛
لأنك سيد وأنا عبد، وأنت رئيس وأنا مرؤوس، فنعمت دالاً على نفسي بما
قدّمته من نفسي؛ فإن كنت لم أخرج من حدّ الأدب المرضيّ، وعادة أهل الحكمة
العالية، فما أولاك بعرفان ذلك لي! وإن كنت قد خرجت عن ذلك بعُجبٍ حال
بيني وبين صوابي، وخطإٍ قعد بي عن مرتبة أصحابي، فما أولاك بستر ذلك عليّ!
وما بسط الله باعك، وما وسّع درعك إلا ليقيك خطأ غيرك بشكل صوابك، وإلاّ
لتتغمّد إساءتهم بإحسانك، وإلا لتغلّب الظّن في الجميل ولا تغلب الظن فيما
خالف ذلك؛ وأنت كالسماء ذات الآفاق المتبارحة، والكواكب المزدهرة،
والحركات اللّطيفة، والآثار الشريفة، والأسرار المكنونة، والعجائب
الكثيرة، والغرائب المشهورة؛ فلكل عقلٍ عنك بحث، ولكل قلب فيك أمل، ولكل
عامل عندك رجاء، ولكل عمل قِبَلك جزاء.
وأنا أسأل الله الذي رفعك إلى هذه الذِّروة والقلّة أن لا يحطَّك إلى شيءٍ
من الذِّلة والقلّة " .
هذا ما صحّ لي بالاستخراج من مُسَوَّدته، أتيت به على ما ترى. وأروي لك ها
هنا قصيدة أبي عبد الله النَّمري يمدح بها أبا الفتح، وكان يعجب بها،
ويحفظها ويُنشدها. ومُرادي بذلك تكثير الفائدة؛ وتخليد الحديث يُمتع مرة
وينفع مرة أخرى، وهي:
سَرَتِ النَّجائب بالنَّجائب ... تَرْمِي الكَوَاكِبَ بِالْكَواكِبْ
تَرْمِي تُجَاهَاتِ المَشَا ... رِقِ مِنْ تُجَاهاتِ المَغارِبْ
قصداً إلى مَلكٍ يُحَكِّمُ في رَغَائِبه الغَرائِبْ
ملِكٍ تَبَوَّأَ من خُزَي ... مَةَ في النّواصِي والذَّوائبْ
حيث السَّوابقُ والسَّوا ... بغُ والنجائبُ والجَنَائبْ
يَهَب المنعَّمةَ الكوا ... عبَ والمطَهَّمَةَ السَّلاَهِبْ
في سَوْرَة المجدْ التّلِي ... دِ وسَوْرَة القلب الغَوَارِبْ
يا بنَ العَميد عميد دَو ... لَتِه الموطَّدَة المَراتِبْ
الألمعِيّ اللَّذْ تُحَدِّ ... ثُه الشواهِدُ بالغَوَائبْ
زُرْنَاكَ من أرضِ البُصيرة شاحِبينَ عَلَى شَوَاحِبْ
نَرِدُ المناهِل كالمَجَا ... هِلِ والسَّباسِب كالسَّكَائِبْ
نَطوِي الجِبالَ إلى جِبا ... لِ العِلْمِ والحِلْم المُغَالِبْ
الآنَ قد قَرَّ القَرَا ... رُ بِنَا وأَطْلَبَتِ المَطَالِبْ
لا رِيَّ دونَ الرَّيِّ وال ... بَحْرِ الغُطَامِطِ ذِي الغَوارِبْ
بَحْر جَواهِدُه طَوَا ... فٍ في سَوَاحِلِهِ رَوَاسِبْ
لا دونَها لججُ الكَوا ... رِب، لاَ، ولاَ حُجَجُ الكَواذِبْ
يَرمي بنا تيارُها ... قِبَل الأَباعِد والأَقارِبْ
والبَحرُ لا يندَى بِهِ ... إلاّ السَّواحل والجَوانِبْ
لما نهضتُ إِلى الرجا ... ءِ وحنَّت البيضُ الكَواعِبْ
وتَناثرت عَبراته ... نَّ عليّ كالدُّرَر الثقائبْ
نَدَّى يَدَيَّ وحلَّتي ... دمعُ الأحبَّةِ والحَبائبْ
فجعلتُه فالاً وقُلْ ... ت نَدَى الدُّمُوع نَدَى المَواهِبْ
ولَئن تلافَتْني يدُ الأُ ... ستَاذِ من أَيدِي النّوائبْ
وأَقمتُ في الظّلِّ الظَلِي ... لِ ولم تُشعّبني الشَّواعِبْ
ليُبَشَّرَنَّ أَحبَّتِي ... بمواهبي شَتَّى المَواهِبْ
ويُحَلَّيَنَّ لآلِئا ... أَضعافَ أَدمُعِها السَّواكِبْ
وَلأّقْضَينّ مِنَ العَشِي ... رَة كُلَّ حَقٍّ حَقّ واجِبْ
حَتَّى يُقالَ أَعادَه ال ... أُسْتَاذُ مكرمة الضَّرائبْ
كَم مِن ظباءٍ بالبصي ... رَة في المقَاصِر والسَّباسِبْ
إِنْسٌ ووَحْشٌ يشتَبِهْ ... ن سوَى الذّوائب والحَقَائِبْ
أُدْمٌ يُقاسِمْنَ الأرَا ... كَ جَناه والقُضُبَ الرَّكَائبْ
فلأِنسها أَغصانُه ... تجلو به برد السحائبْ
وَلِوْحْشِهَا غَضُّ الجنى ... عبثَ المَعازِل والمَلاَعِبْ
نَصطاد وَحشياتها ... وتَصِيدُنا الإِنسُ الخَرَاعِبْ
يا ربَّ يومٍ لي كظِلّ ... ك أَو كظَلْمك أو يُقارِبْ
رَقَّتْ حواشِيه وغضّت عَينُ واشِيهِ المُرَاقِبْ
قَصُرَتْ لنَا أطرافُها ... قَصَر القِناع عن الذَّوائِبْ
فتَبَرَّجَت لَذَّاتُه ... للخَاطِبين وللخَوَاطِبْ
نَزَلَتْ بِهِ حَاجَاتُنَا ... بينَ المَحاجِر والحَوَاجِبْ
يا ليتَ سعداً من سُعو ... دِك رَدَّ أَيامي الذَّواهِبْ
مَلِكٌ يُضِيء بوَجهِهِ ... وترَى به الظلم الغَيَاهِبْ
لَو سَامَه أَعداؤُهُ ... ما نديهم، واليومُ عاصِبْ
وهَب الذَّوائب للمطَا ... عِن والقَواضِبَ للمضَارِبْ
وَمِن السَّخاءِ مَذاهبٌ ... يُعدَدْن في جُمَل العَجائبْ
لمّا رآه الطالع ال ... مأَمونُ مأَمونَ المغَائبْ
ورآه ركنُ الدّولة ال ... غَرّاء ركناً ذا مناكِبْ
ومظفَّرَ الأَقلام والأَ ... علاَم ميمونَ النَّقَائِبْ
كأَبِيه خَيرِ أبٍ وَأَنْ ... جَبِهِ إِذا عُدَّ المَنَاجِبْ
ردَّ الأُمورَ إِليه رَ ... دَّ مُفوّضِين عَلَى التّجَارِبْ
حتَّى إذا انتَظَمَتْ لَه ... بثُقُوب آراءٍ ثواقِبْ
وكفَى أَميرَ المؤْمِني ... نَ عُرَى الكِتَابَةِ والكَتَائِبْ
بكفايَتَين أقامَتَا ... أَوَد المُسالِم والمحَارِبْ
اشتَقّ من أفعَالِه ... لَقباً لَه بِكْرَ المناقِبْ
مثلَ الفِرِنْد عَلَى القَوا ... ضبِ والفَرِيد علَى التَّرَائبْ
لله توفيقُ الإما ... مِ العدْل في اللَّقَب المُنَاسِبْ
يا خيرَ من ركب الجِيَا ... دَ وقادَها قُبّاً شَوَازِبْ
أغنَيتَني كلّ الغِنَى ... وكسَبتَني أَسنَى المكاسِبْ
شَرَفاً تُلِقّبهُ العِدَا ... سَرَفاً فيالك من معايبْ
وكسَوتَني حُللاً صَقَلْ ... ن خَواطِري صَقْلَ القَواضِبْ
حُلَلاً كديباج الخدُو ... دِ مطرَّزَات بالشّوَارِبْ
فلْتَشكُرنَّ رِياضُنَا ... جَدوَى سَحائبكَ الصَّوائبْ
ولتَنْظِمَنّ لك القصَا ... ئدَ كالقَلائِد للْكَوَاعِبْ
والنمري هذا مليح الشعر والأدب والخُلُق، ولما توجّه إلى ذي الكفايتين من
البصرة وصف بعض ما عَنّاه فقال:
لما رأيتُ كرم الأَصما
وشجر البلوط خضراً عمّا
وفتية عن الفصيح صُمّا
ذكرتُ بالبصرة نخلاً جمّا
وفتية بيض الوجوه شما
ناديتُ ياللَّهم فرِّج غَمّا
ما أَسْرعَ الشيء إِذا ما حُمَّا
فأما الجملة التي تمّت في أمر أبي الفتح ذي الكفايتين، فقد كنتُ في أول
الكتاب قد وعدتُ بروايتها، وهذا موضعها على ما سنَح الرأي فيه، ولعلّها
تُفيد وإن لم تكن من خاصّ ما في هذه الجملة؛ لأن الرسالة قد صارت كتاب
خُرافة، وذاك أن القصد الأول لم ينحرف إلى هذه الفنون والشُّعب، ولكن
الحديث ذُو شجون، وله نَزْوةٌ من القلب على اللسان، ودبيب على اللسان من
القلب، والاحتراس منه يقلّ، والغلط فيه يعرض، وحفظ الكلام على سننه من
الكلف الشاقة والأمور الصعبة واللسان فيه أكثر إنصافاً من القلم، واللفظ
أعدل من الخطّ.
وبعد وقبل فالكلام في نشر العيب، وكشف القناع، وتدنيس العِرض، وهجو
الإنسان، ووصفه بالخبائث أكثر استمراراً، والمتكلّم فيه أظهر نشاطاً،
وأمرنُ عادة، وأوقد هاجساً، وأحضر عاطساً، وهذا لأن الشر طباع والخير
تكلُّف، والطِّينة أغلب.
وقد قال بعض فتيان خُراسان: الإحسان من الإنسان زلّة، والرحمة من القادر
أُعجوبة، والظُّلم من المُدلّ مألوف.
وقد قيل لبعض من انتجع مأمولاً وأدرك حاجته منه: كيف انقلبت عن فلان؟
فقال: منعني لذة هِجائه، وأكرهني على حسن الثّناء عليه، والقلوب مجبولة
على حُبّ الإحسان، والألسنة تابعة للقلوب، كما أن العيون ناطقة عن
الضّمائر؛ ولهذا قال الشاعر:
تُحدِّثُني العَيْنانِ ما القَلْبُ كَاتِمٌ ... ولاجِنَّ بالبَغْضَاءِ
والنظَرِ الشَزْرِ
أي لا حائل ولا ستر. واللحظ رائد، والقلب شاهد؛ والرائد لا يكذب أهله،
والشاهد لا يكذب نفسه.
وقلت لأبي سليمان شيخنا ببغداد، وكان يُتهادى كلامه، ويُتشاحُّ على ما
يُسمع منه: لم صار السبّ والهجاء وذكر كل عورة وفحشاء أخفّ على من حُرم
مأموله، ومُنع مُلتمسه، من الوصف الحسن والثّناء الجميل، والمدح الأغرّ
المحجّل، والتّقريظ البليغ المتقبّل على من صدقه ظنّه، وتحقّق رجاؤه،
وحضرته أُمنيته؟ فقال: لأن الذي يمدح يعلم من نفسه ما عندها كالعتيد،
والذي يثلب يأخذ لنفسه ما ليس عندها كالمستقبِل؛ فالفصل بينهما كالفصل بين
الغارم وما يملكه، وبين الغانم ما يطلبه.
وهذا كما قال، وهو أرجع إلى شفاء النفس وبر الغليل، وإلى بلوغ الغاية
والاستيلاء على النّهاية.
*** كان من الحديث الذي زللنا عنه قليلاً إلى هذا الموضع أن رُكن الدولة
لما مات في أول سنة ستٍ وستين وثلاثمائة، اجتمع أبو الفتح ذو الكفايتين،
وعليُّ بن كَامة، وتعاهدا وتعاقدا وتوافقا وتحالفا، وبذل كل واحد منهما
لصاحبه الإخلاص في المودّة في السرّ والجهر، والذَّبّ في الظاهر والباطن،
والتوقير عند الصغير والكبير، واجتهدا في الإيمان الغامسة، والعقود
المؤرَّبة، والأسباب المُغارة الفتل، ودبّرا أمر الجيش، وردّ النافر
وركِبا الخطر الحاضر، وعانقا الخطْب العاقر، وباشر كل ذلك أبو الفتح خاصة
بحدٍ من نفسه، وصريمة من رأيه، وجودة فكره، وصحّة نيته؛ وتوفيق ربّه.
فلما ورد مؤيد الدولة الريَّ من أصفهان؛ وعاين الأمر متَّسِقاً؛
ولحق كل فتق مُرتَتِقاً، بما تقدّم من الحزم فيه، ونفذ من الرأي الصائب
عنده، أنكر الزيادة الموجبة للجند، وكرهها ودَمْدَم بها. فقال له أبو
الفتح: بها نظمت لك الملك، وحفِظت لك الدولة، وصُنت الحريم، وإن خالفت هذه
الزيادة هواك أسقطت باليد الطولَى.
وكان ابن عباد قد ورد، وحطَبه رطب، وتنّوره بارد، وزَرْقه غير نافذ؛ هذا
في الظاهر، فأما في الباطن فكان يخلو بصاحبه ويُنزيه على أبي الفتح بما
يجد إليه السبيل من الطعن والقدح. فأحسن بذلك كله ابن العميد فألَّب
الأولياء على ابن عباد حتى كثر الشغب، وعظم الخطب، وهمّ بقتله، وقال
للأمير: ليس من حق كفايتي في الدولة وقد انتكث حبلها، وقويت أطماع
المفسدين فيها، أن أُسام الخَسْف، والأحرار لا يصبرون على نظرات الذلّ
وغمزات الهوان.
فقال له في الجواب: كلامك مسموع، ورضاك متبوع، فما الذي يُبرد فورتك منه؟
قال: ينصرف إلى أصفهان موفوراً، فوالله لئن أنصفته في مطالبه برفع حساب ما
نظر فيه ليعرقنّ جبينه، وليُقذفَنّ جنينه، ولئن أحسّ الأولياء الذين
اصطنعتهم بمالي وإفضالي بكلامه في أمري، وسعيه في فسد حالي، ليكوننّ هلاكه
على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف، ومن المُزنِ إذا نطف.
فقال له: مخالف لرأيك، والنظر لك، والزمام بيدك.
وتلطف ابن عباد في عُرض ذلك لأبي الفتح، وقال: أنا أتظلم منك إليك، وأتحمل
بك عليك؛ وهذا الاستيحاش العارض سهل الزوال إذا تألّف الشارد من حلمك على
شافع كرمك ولّني ديوان الإنشاء، واستخدمني فيه، ورتبني بين يديك،
واحْصُرني بين أمرك ونهيك، وسُمني برضاك؛ فإني صنيعة والدك، وأتجدد بهذا
صنيعةً لك، وليس بجميل أن تكرَّ على ما بناه ذلك الرئيس فتهُوِّره وتنقضه؛
ومتى أجبتني إلى ذلك وأمّنتنني فإني أكون خادماً بحضرتك، وكاتباً يطلب
الزلفة عندك في صغير أمرك وكبيره وفي هذا إطفاء الثّائرة التي قد تأرّبت
بسوء ظنك، وتصديق أعدائي عليّ.
فقال في الجواب: والله لا تجاورني في بلد السّرير، وبحضرة التّدبير، وخلوة
الأمير، ولا يكون لك أُذن عليّ، ولا عين عندي.
وليس لك مني رضىً إلا بالعودة إلى مكانك من إصبهان والسلو عما تحدّث به
نفسك.
فخرج ابن عباد من الريّ على صورة قبيحة؛ خرج متنكراً بالليل. وذاك أنه خاف
الفتك والغيلة، وبلغ أصفهان وألقى عصاه بها ونفسه تغلي، وصدره يفور،
والخوف شامل، والوسواس غالب.
وهمّ أبو الفتح بإنفاذ من يطلبه ويؤذيه ويُهينه، ويعسف به، فأحسن هو
بالأمر؛ فحدّثني ابن المنجّم قال: عمل على ركوب المفازة إلى نيسابور لما
ضاق عطَنُه، واختلف على نفسه ظنه، وإنا لفي هذا وما أشبهه حتى بلغهم أن
خراسان قد أزمعت الدلوف إليهم، وتثاورت في الإطلال عليهم.
فقال الأمير لأبي الفتح: ما الرأي؟ قد نُمي إلينا ما تعلم من طمع خراسان
في هذه الدولة بعد موت ركن الدولة.
فقال أبو الفتح: ليس الرأي إليَّ ولا إليك، ولا الهمُّ علي ولا عليك. ها
هنا من يقول لك: أنت خليفتي، ويقول لي: أنت كاتب خليفتي، يُدبّر هذا
بالمال وبالرجال، وهو الملك عضُد الدولة.
قال: فاكتب إليه وأشعره بما قد مٌنينا به، وسَله دواء هذا الداء، وأبلغ في
ذلك ما يُوجبه الحزم الصّحيح، ويؤذِن بالسّعي النجيح، فكتب وتلطّف.
وصدر في الجواب: إن هذا الأمر عجيب، رجل مات وخلّف مالاً، وله ورثة وابن،
فلم يُحمل إليه شيءٌ من إرثه زيّاً عنه واستئثاراً به دونه، ثم خُوطِب بأن
يغرم شيئاً آخر من عنده قد كسبه بجهده، وجمعه بسعيه وكدْحه.
هذا والله حديث لم يُسمع بمثله، ولئن استُفتِي فذ هذا الفقهاء لم يكن
عندهم منه إلا التعجُّب والاستطراف، ورحمة هذا الوارث المظلوم من وجهين:
أحدهما: أنه حُرم ماله بحق الإرث، والآخر: أنه يُطالَب بإخراج ما ليس
عليه؛ وإن أبَى قولي حاكمت كل من سامَ هذا إلى من يرضى به.
فلما سمع مؤيد الدولة هذا، وقرأه أبو الفتح قال: - ما ترى؟ قال: قد قلت،
وليس لي سواه، أقول: هذا الرجل هو الملك، والمدبر، والمال كله ماله،
والبلاد بلاده، والجُند جنده، والكلُّ عليه والمهنأُ له، والاسم والجلالة
عنده، وليس ها هنا إرثٌ قد زُوي عنه، ولا مال استُؤثر به دونه، والنّادرة
لا وجه لها في أمر الجد وفيما يتعلّق باللّعب.
أما خُراسان فكانت منذ عشرين سنة تطالبنا بالمال، وتهددنا
بالمسير والحرب، ونحن مرة نُسالم ومرة نحارب. ونحن في خلال ذلك نفرق المال
بعد المال على وجوه مختلفة، واحسب أن ركن الدولة حيٌّ باقٍ، هل كان له
إلاّ أن يُدبّر بماله ورجاله ودُخره وكنزه. أَ فليس هذا الحكم لازماً لمن
قام مقامه، وجلس مجلسه، وأُلقي إليه زحام الملك، وأصدر عنه كل رأي، وأورد
عليه كل دقيق وجليل؟ وهل علينا إلا الخدمة والنُّصرة والمناصحة بكل ما سهل
وصعب كما كان ذلك عليه بالأمس من جهة الماضي؟ فقال الأمير: إن الخطب في
هذا أراه يطول، والكلام يتردد، والمُناظرة تربو، والحُجّة تقف، والفرصة
تفوت، والعدوُّ يستمكن؛ وأرى في الوقت أن نذكر وجهاً للمال حتى نحتج به ثم
نستمدّ في الباقي منه، ونُرضي الجُند في الحال، ونتحزّم في الأمر، ونُظهر
المرارة والشَّكيمة بالاهتمام والاستعداد، حتى يطير العين إلى خراسان
بجدنا واجتهادنا، وحزْمنا واعتمادنا، فيكون في ذلك تكسير لقلوبهم وحسْم
لأطماعهم، وباعث على تجديد القول في الصُّلح، وإعادة الكلام في المواعيد،
وردّ الحال إلى العادة المعروفة، فقال: أسأل الله بركة هذا الأمر، فقد
نُشيَتْ منه رائحة منكرة وما أعرف للمال وجهاً.
أما أنا فقد خرجت من جميع ما كان عندي مرةً بما خدمت به الماضي تبرعاً
حِدثانَ موت أبي، ومرةً بما طالبني به سراً، وأوعدني بالعزل والاستخفاف من
أجله، ومرَّة بما غَرِمت في المسير إلى العراق في نُصرة الدَّولة.
وهذه وجوه استنفذت قُلِّي وكثري، وأتت على ظاهري وباطني، وقد غرمت إلى هذه
الغاية ما إن ذكرته كنت كالمُتنّ على أولياءِ نعمتي، وإن سكت كنتُ
كالمتّهم عند من يتوقّع عثرتي. وهذا هذا.
وأما أحوال النّواحي فأحسن حالنا فيها أنّا نُزجيها إلى الأولياء في
نواحيها مع النَّفقة الواسعة في الوظائف والمهمّات التي ننويها.
وأما العامّة فلا أحوج الله إليها، ولا كانت دولة لا تَثب إلا بها وبأوساخ
أموالها.
فقال الأمير وكان ملقَّناً: هذا ابن كامة، وهو صاحب الذخائر والكنوز
والجبال والحصون، وبيده بلاد، قد جمع هذا كله من نعمتنا وفي مملكتنا
وأيامنا وبدولتنا، وهو جامٌّ ما شِيك، ومختوم ما فّضَّ مذ كان.
ما تقول فيه؟ قال: ما لي فيه كلام، فإن بيني وبينه عهداً ما أخيسُ به ولو
ذهبت نفسي.
فقال: اطلب منه القرض.
قال: إنه يتوحّش ويراه باباً من الغضاضة، وقدر القرض لا يبلغ حدّ الحاجة،
فإن الحاجة ماسّة إلى خمسمائة ألف دينار على التقريب، ونفسه أنفع لنا
وأوردّ على دولتنا من موقع ذلك المال. وبعدُ فرأيه وتدبيره واسمه وصِيته
وبِداره إلى الحرب فوق المطلوب.
قال: فليس لنا وجه سواه؛ وإذ ليس ها هنا وجه، فليس يأس بأن نُطالع الملك
بهذا الرأي لتكون نتيجته من ثم.
فقال: أنا لا أكتب بهذا فإنه غَدْر.
قال: يا هذا! فأنت كاتبي وصاحب سرّي وثقتي، والزّمام في جميع أمري، ولا
سبيل إلى إخراج هذا الحديث إلى أحد من خلق الله؛ فإن أنت لم تتولَّ حارّه
وقارّه، وغثَّه وسمينه، ومحبوبه ومكروهه، فمَن؟ قال: أيها الأمير! لا
تَسُمْني الخيانة، فإني قد أعطيته عهداً نفضُه يذَر الدِّيار بلاَقِع، ومع
اليوم غد، ولعن الله عاجلة تفسد آجلة.
فقال: إني لست أسُومك أن تقبض عليه، ولا أن تُسيء إليه. أَشِر بهذا المعنى
على ذلك المجلس، وخلاَك ذمّ؛ فإن رأي الصَّواب فيه تولاّه دونك كما يراه،
وإن أضرب عنه عاضنا رأياً غير ما رأينا، وأنت على حالك لا تنزل عنها ولا
تُبدل بها؛ وإنما الذي يجب عليك في هذا الوقت أن تكتب بين يديّ حرفين: أنه
لا وجه لهذا المال إلاّ من جهة فلان، ولست أولّى مطالبته به، ولا مخاطبته
عليه، وفاءً له بالعهد، وثباتاً على اليمين، وجرياً على الواجب؛ ولا أقلّ
من أن تُجيب إلى هذا القدر، وليس فيه ما يدلّ على شيء من النَّكث والخلاف
والتّبديل.
فما زال هذا وشبهه يتردد بينهما حتى أخذ خطّه بهذا النص على أن يُصدره إلى
فارس.
فلما حصل الخط، وجنّ الليل، روسل ابنُ كَامَة وحضر، وقال له الأمير: أَ ما
عندك هذا المخنّث فيما أشار به على الملك في شأنك، وأورد عليه في أمرك من
إطماعه في مالك ونفسك، وتكثيره عنده ما تحت يدك، وفي ناحيتك مع صاحبيك؟
فقال عليّ بن كامة: هذا الفتى يرتفع عن هذا الحديث، ولعلّ عدواً
قد كاده به، وبيني وبينه ما لا منفَذ للسِّحر فيه، ولا مساغَ لظنٍّ سيّءٍ
فيه.
قال: فما قلت ما سمعت إلا علىتحقيق، ودع هذا كله يذهب في الريح، هذا كتابه
إلى فارس بما عرَّفتك، وخطُّه.
قال عليّ: أنا لا أعرف الخطّ، ولكن كاتبي يعرف، فإن أذنت حضر.
قال: فليحضر. فجاء الخَثْعَمِيُّ الكاتب، وشهدَ أن الخطّ خطه، فحال ابن
كامة على سجيته، وخرج من مُسكه، وقال: ما ظننت أن هذا الفتى بعد الأَيمان
التي بيننا يستجيز هذا.
قال الأمير: أيها الرجل! إنما أطلعك الملك على نية هذا الغلام فيك، لتعرف
فساد ضميره لك، وما هو عليه من هناتٍ أُخر، وآفات هي أكثر من هذا وأكبر؛
وقد حرّك خراسان علينا، وكاتب صاحب جُرجان، وألقى إلى أخينا بهَمَذان،
يعني فخر الدولة، أخبارنا، وهو عينٌ ها هنا لِبَخْتِيار وقد اعتقد أنه
يعمل في تخليص هذه البلاد له، ويكون وزيراً بالعراق، وقد ذاق ببغداد ما لا
يخرج من ضرسه إلا بنزع نفسِه.
وكان المجوسيّ أبو نصر قد قدم من عند الملك عضد الدولة وهو يفتل الحبل
ويبرم، ويؤخِّر مرة ويقدّم أخرى، ويهاب مرةً ويُقدِم؛ وكان الحديث قد
بُيِّت بليل، واهتُمَّ به قبل وقته بزمان.
قال لي علي بن كامة: فما الرأي الآن.
قال: لا أرى أمثل من طاعة الملك في البض عليه، وقد كُنا على ذلك قادرين،
ولكن كرهنا أن يُظنّ بنا أنّا هجمنا على نصيحنا وكافِينا، وعلى ربيب
نعمتنا، وناشيء دولتنا فمهَّدنا عندك العُذر، وأوضحنا لك الأمر.
قال: فأنا أكفيكُموه. ثم كان ما كان.
قال الخليلي: وكا هذا جرّه عليه الاستبداد بالرأي، والغرارة والتواني وقلة
التّجربة، والرُّكون إلى وصية الميت، وسوء النّظر في العواقب، ومجانَبة
الحزْم والرأي الثاقب؛ وكان أمر الله مفعولاً.
ورأيت الخليلي، والهَرَويّ، والشاعر المغربيَّ، وجماعة من خُلطاء أبي
الفتح، كابن فارس، وابن عبد الرّحيم يخوضون في حديثه، وقالوا: كان الرأي
كذا وكذا، فقال المغربي: أجود من هذه الآراء كلها أن كان يضرب عنق المجوسي
جهاراً أتى الدهر بما أتى، وما كان ليكون أشدّ مما كان؛ ولعلّه كان يطرح
هُنيهةً، ويصير سبباً إلى خلاص.
وذهبوا في القول كل مذهب.
وفي الجملة القدر لا يسبق، والقضاء لا يملك؛ ومن استوفى أكله استغنى أجله،
والكلام فضلٌ، والرأي الدّبري مردود، ومن ساوق الدهر غُلب، ومن لجأ إلى
الله فقد فاز فوزاً عظيماً.
ما وصلنا - حاطك الله - حديثاً بحديث، وكلمة بكلمة، إلا لتكثر الفائدة،
ويظهر العلم، ويكون ما صرّفنا القول فيه مرفوداً بالحُجّة الناصعة،
والامتاع المونق.
أيها السّامع! قد سمعت صريح الحديث ودعيَّه، وعرفت مسخوطه ومرضيَّه؛ فإن
كان الله قد ألهمك العدل، وحبَّبَ إليك الإنصاف، وخفَّف عليك الرفق، ووفّر
نصيبك من الخير، ورفع كعبك في الفضل، فقد رضيت بحكمك، وأمِنت عداوتك،
ووثقت بما كتب الله لي على لسانك، وجعله حظّي منك.
واعلم أنك إن كنت تريد الاعتذار فقد أسلفت الواضح فيه، وإن كنت تطلب
الاحتجاج فقد أتى البيان عليه، وإن كنت تغضب لابن عباد أو لابن العميد فقد
شحَنتُ هذا الكتاب من فضلهما وأدبهما وكرمهما ومجدهما، بما إذا ميّزته
وأفردته ثم اجتَليْتَه وأبصرته، واقع نفسك، وشفى غليلك، وبلغ آخر مُردك؛
وإلا فعرّفني مَن جمع إلى هذا الوقت عشر ورقاتٍ في مناقبهما وآدابهما
ومكارمهما، وما ينطق عن اتّساعهما وقدرتهما، ويدعو إلى تعظيمهما وتوفية
حقوقهما ومعرفة أقدارهما وهممهما، ممَّن لهما عليه الإصبع الحسنة، واليد
الخضراء، والنّعمة السّابغة، ومن لم يُذكر إلاّ بهما، ومن لم يعرف إلا في
أيامهما، ومَن لو لم يلتفت إليه واحد منهما لكان يحرس في الدُّروب، أو
يلقُط النَّوى في الشّوارع، أو يُوجد في أواخر الحمّامات.
ودع الشعراء جانباً، فإنما ذاك عن حسب دَنيّ، ومذهب زريّ، وطَمع خسيس،
ومقام نذل، وموقفٍ مُخجل؛ ولكن هاتِ رسالةً مجرَّدة، وأديباً فاضلاً
وعالماً مذكوراً تجرد لنُصرتهما، ودلّ على خفيّ فضلهما، أو عجَّب من جليّ
فعلهما! فإن كنت لا تجد ذلك، فدع الكلب ينبح، فإنما الكلب نبّاح.
على أني - حفظك الله - لا أُبرئ نفسي في هذا الكتاب الطويل العريض من دبيب
الهوى، وتسويل النفس، ومكايد الشيطان، وغريب ما يعرض للإنسان.
فإن وقفت على شيء من ذلك وقرأت العذْلَ علينا، وسال في اللائمة
من أجله وإياك أن تجيَ جِلدةً لا تدمي بشفرتك، أو تسنُد إلى جمجُمةٍ لا
تقشعِرُّ ذوائبها بريحك، وأن تمتحن جوهراً لا يحاص عيبُه بنارك.
واستيقن أن من ركب سنام هذا الحديث كما ركبته، وسبح في غامر هذه القصة كما
سبحت، وقال ما قلت، وعرَّض بما عرَّضت، فغير بعيدٍ أن يحكم له وعليه بمثل
ما يُحكم به لي وعلي، وإذا كان الحكم لازماً، وهذا القياس مُطَّرداً،
فالرضا بهما عزٌ، والصَّبر عليهما شرف وإني لأحسد الذي يقول:
أَعدُّ خمسين عاماً ما عليَّ يدٌ ... لأجنَبِيٍّ ولا فضلٌ لذي رَحمِ
الحمد لله شكراً قد قنِعتُ فلا ... أشكو لئيماً ولا أُطْرِي أخَا كَرمِ
لأني أتمنّى أن أكونه، ولكنّ العجز غالب، لأنه مَبذور في الطِّينة.
ولقد أحسن الآخر أيضاً حين يقول:
ضيَّقَ العُذرَ في الضرَاعةِ أَنّا ... لو قَنِعْنا بقسْمنا لَكَفانَا
مَا لنا نَعبُد العِباد إذا كَا ... ن إِلى الله فقْرُنَا وغِنَانَا
وأدعوها هنا بما دعا به بعض النُّسَّاك: " اللهم ثُن وجوهنا باليسار، ولا
تبتذلها بالإقتار فنسْتَرزِق أهل رزقك، ونسَّأل شِرار خَلْقك، فنُبتَلى
بحمد من أعطى وذَمِّ من مَنَع. وأنت مِن دونهما وليُّ الإعطاء، وبيدك
خزائنُ الأرض والسَّماء. يا ذا الجلال والإكرام.
انتهى