كتاب : تاريخ اليعقوبي
المؤلف : اليعقوبي

بسم الله الرحمن الرحيم
آدم عليه السلام
على آدم، فلم يطاوعه شيء مما خلق الله جل وعز إلا الجنة، فلما رأى آدم ما في الجنة من النعيم قال: لو كان سبيل إلى الخلود؟ فطمع فيه إبليس لما سمع ذلك منه، فبكى ونظر إليه آدم وحواء يبكي، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: لأنكما تفارقان هذا، وما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. وكان لباس آدم وحواء ثياباً من نور، فلما ذاقا من الشجرة، بدت لهما سوآتهما، فزعم أهل الكتاب أن مكث آدم في الأرض، قبل أن يدخل الجنة، كان ثلاث ساعات، ومكث هو و حواء في النعيم والكرامة، قبل أن يأكلا من الشجرة فتبدو لهما سوآتهما، ثلاث ساعات، فلما بدت لآدم سوأته أخذ ورقة من الشجرة، فوضعها على نفسه، ثم صاح: ها أنا يا رب عريان قد أكلت من الشجرة التي نهيتني عنها، فقال الله: ارجع إلى الأرض التي منها خلقت، فإني مسخر لك ولولدك طير السماء، ونون البحار.
وأخرج الله آدم وحواء مما كانا فيه، فيما يقول أهل الكتاب، في تسع ساعات من يوم الجمعة، وهبطا إلى الأرض، وهما حزينان باكيان، وكان هبوطهما على أدنى جبل من جبال الأرض إلى الجنة، وكان ببلاد الهند، وقال قوم: على أبي قبيس، جبل بمكة، ونزل آدم في مغارة في ذلك الجبل سماها مغارة الكنز، ودعا الله أن يقدسها.
وروى بعضهم أن آدم لما هبط كثر بكاؤه، ودام حزنه على مفارقة الجنة، ثم ألهمه الله سبحانه أن قال: لا إله إلا أنت، سبحانك، وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم! فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه، وأنزل له من الجنة، التي كان فيها، الحجر الأسود، وأمره أن يصيره إلى مكة، فيبني له بيتاً، فصار إلى مكة وبنى البيت، وطاف به، ثم أمره الله أن يضحي له، فيدعوه ويقدسه، فخرج معه جبريل حتى وقف بعرفات، فقال له جبريل: هذا الموضع أمرك ربك أن تقف له به. ثم مضى به إلى مكة، فاعترض له إبليس، فقال: ارمه! فرماه بالحصى، ثم صار إلى الأبطح، فتلقته الملائكة، فقالت له: بر حجك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك ألفي عام.
وأنزل الله، عز وجل، الحنطة على آدم، وأمره أن يأكل من كده، فحرث وزرع، ثم حصد، ثم داس، ثم طحن، ثم عجن، ثم خبز، فلما فرغ عرق جبينه، ثم أكل، فلما امتلأ ثقل ما في بطنه، فنزل إليه جبريل، ففجه، فلما خرج ما في بطنه وجد رائحة تكره، فقال: ما هذا؟ قال له جبريل: رائحة الحنطة.
ووقع آدم على حواء، فحملت، وولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام قابيل، والجارية لوبذا، ثم حملت فولدت غلاماً وجارية، فسمي الغلام هابيل والجارية إقليما. فلما كبر ولده وبلغوا النكاح، قال آدم لحواء: مري قابيل، فليتزوج إقليما التي ولدت مع هابيل، ومري هابيل فليتزوج لوبذا التي ولدت مع قابيل، فحسده قابيل أن يتزوج بأخته التي ولدت معه.
وقد روى بعضهم أن الله عز وجل أنزل لهابيل حوراء من الجنة، فزوجه بها، وأخرج لقابيل جنية، فزوجه بها، فحسد قابيل أخاه على الحوراء، فقال لهما آدم: قربا قرباناً! فقرب هابيل من تين زرعه، وقرب قابيل أفضل كبش في غنمه لله، فقبل الله قربان هابيل، ولم يقبل قربان قابيل، فازداد نفاسة وحسداً، وزين له الشيطان قتل أخيه، فشدخه بالحجارة، حتى قتله، فسخط الله على قابيل ولعنه، وأنزله من الجبل المقدس إلى أرض يقال لها نود.
ومكث آدم وحواء ينوحان على هابيل دهراً طويلاً، حتى يقال إنه خرج من دموعهما كالنهر. ووقع آدم على حواء، فحملت، فولدت غلاماً، بعد أن أتى له مائة وثلاثون سنة، فسماه شيئاً، فكان أشبه ولد آدم بآدم، ثم زوج آدم شيئاً، فولد له غلام بعد أن أتت عليه مائة وخمس وستون سنة، فسماه أنوش ثم ولد لأنوش غلام، فسماه قينان، ثم ولد لقينان غلام، فسماه مهلائيل، فهؤلاء ولدوا في حياة آدم وعلى عهده.

ولما حضرت آدم الوفاة جاءه شيث ابنه وولده وولد ولده، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، وجعل وصيته إلى شيث وأمره أن يحفظ جسده ويجعله، إذا مات، في مغارة الكنز، وأن يوصي بنيه وبني بنيه، ويوصي بعضهم بعضا عند وفاتهم، إذا كان هبوطهم من جبلهم، أن يأخذوا جسده حشمة، فيجعلوه وسط الأرض، وأمر شيثاً ابنه أن يقوم بعده في ولدهم، فيأمرهم بتقوى الله وحسن عبادته، وينهاهم أن يخالطوا قابيل اللعين وولده، ثم صلى على بنيه أولئك وأولادهم ونسائهم، ثم مات لست خلون من نيسان، يوم الجمعة، في الساعة التي خلق فيها، وكانت حياته تسعمائة سنة وثلاثين سنة اتفاقاً.
شيث بن آدموقام بعد موت آدم ابنه شيث، وكان يأمر قومه بتقوى الله، سبحانه، والعمل الصالح، وكانوا يسبحون الله ويقدسونه، وأبناؤهم ونساؤهم ليس بينهم عداوة، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تهمة، ولا كذب، ولا خلف، وكان أحدهم إذا أراد أن يحلف قال: لا ودم هابيل.
فلما حضرت وفاة شيث أتاه بنوه وبنو بنيه، وهم يومئذ أنوش، وقينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، وتقدم إليهم، وحلفهم بدم هابيل ألا يهبط أحد منهم من هذا الجبل المقدس، ولا يتركوا أحداً من أولادهم يهبط منه، ولا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون وأوصى إلى أنوش ابنه، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم، وأن يتقي الله، و يأمر قومه بتقوى الله وحسن العبادة، ثم توفي يوم الثلاثاء لسبع وعشرين ليلة خلت من آب على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته تسعمائة واثنتي عشرة سنة.
أنوش بن شيثوقام أنوش بن شيث، بعد أبيه، بحفظ وصية أبيه وجده، وأحسن عبادة الله، وأمر قومه بحسن العبادة، وفي أيامه قتل قابيل الملعون، رماه لمك الأعمى بحجر، فشدخ رأسه، فمات. وكان قد ولد لأنوش قينان بعد أن أتت له تسعون سنة. و لما حضرت أنوش الوفاة اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه: قينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ومتوشلح، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من جبلهم المقدس، أو يدعوا أحداً من بنيهم أن يختلطوا بولد قابيل اللعين، وأوصى قينان بجسد آدم، وأمرهم أن يصلوا عنده ويقدسوا الله كثيراً، وتوفي لثلاث خلون من تشرين الأول، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة وخمساً وستين سنة.
قينان بن أنوشوقام قينان بن أنوش، وكان رجلاً لطيفاً، تقياً، مقدساً، فقام في قومه بطاعة الله وحسن عبادته، واتباع وصية آدم وشيث، وكان قد ولد له مهلائيل بعد أن أتت عليه سبعون سنة. فلما دنا موته اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه مهلائيل، ويرد، ومتوشلح، ولمك، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، فأقسم عليهم بدم هابيل أن لا يهبط أحد منهم من جبلهم المقدس إلى ولد الملعون قابيل، وجعل وصيته إلى مهلائيل، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم. ومات قينان وكانت حياته تسعمائة سنة وعشرين سنة.
مهلائيل بن قينانثم قام بعد قينان مهلائيل بن قينان، فقام في قومه بطاعة الله تعالى، واتباع وصية أبيه، وكان قد ولد له يرد، بعد أن أتت عليه خمس وستون سنة.
فلما دنا موت مهلائيل أوصى إلى ابنه يرد وأوصاه بجسد آدم، ثم توفي مهلائيل لليلتين خلتا من نيسان، يوم الأحد، على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة.
يرد بن مهلائيلثم قام بعد مهلائيل يرد، وكان رجلاً مؤمناً، كامل العمل لله، سبحانه، والعبادة له، كثير الصلاة بالليل والنهار، فزاد الله في حياته، وكان قد ولد له أخنوخ، بعد أن أتت عليه اثنتان وستون سنة، وفي الأربعين ليرد تم الألف الأول.

ولما مضى من حياة يرد خمسمائة سنة نقض بنو شيث العهود والمواثيق التي كانت بينهم، فجعلوا ينزلون إلى الأرض التي فيها بنو قابيل، وكان أول نزولهم أن الشيطان اتخذ شيطانين من الإنس اسم أحدهما يوبل، والآخر توبلقين، فعلمهما أصناف الغناء والزمر، فصنع يوبل المزامير والطنابير والبرابط والصور. وصنع توبلقين الطبول والدفوف والصنوج، ولم يكن لبني قابيل عمل يشغلهم، ولا ذكر لهم إلا أمام الشيطان، وكانوا يركبون المحارم والمأثم، ويجتمعون على الفسق، وكان ذوو السن من رجالهم ونسائهم أشد في ذلك من شبانهم. فكانوا يجتمعون، فيزمرون ويضربون بالطبول والدفوف والبرابط والصنوج. ويصيحون، ويضحكون، حتى سمع أهل الجبل من بني شيث أصواتهم، فاجتمع منهم مائة رجل على أن يهبطوا إلى بني قابيل، فينظروا ما تلك الأصوات، فلما بلغ ذلك يرد أتاهم، فناشدهم الله، وذكرهم وصية آبائهم، وحلف عليهم بدم هابيل، وقام فيهم أخنوخ بن يرد، فقال اعلموا أنه من عصى منكم أبانا يرد، ونقض عهود آبائنا، وهبط من جبلنا لم ندعه يصعد أبدا، فأبوا إلا أن يهبطوا، فلما هبطوا اختلطوا ببنات قابيل، بعد أن ركبوا الفواحش.
فلما دنا موت يرد اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه أخنوخ، ومتوشلح، ولمك، ونوح، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من الجبل المقدس، وقال: إنكم لا محالة تهبطون إلى الأرض السفلى، فأيكم كان آخر هبوطاً فليهبط بجسد أبينا آدم، ثم ليجعله وسط الأرض، كما أوصانا، وأمر أخنوخ ابنه ألا يزال يصلي في مغارة الكنز، ثم توفي يوم الجمعة لليلة خلت من آذار، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة.
أخنوخ بن يردثم قام بعد يرد أخنوخ بن يرد، فقام بعبادة الله، سبحانه ولما أتت له خمس وستون سنة ولد له متوشلح، وأخذ بنو شيث ونساؤهم وأبناؤهم في الهبوط، فعظم ذلك على أخنوخ فدعا ولده متوشلح ولمكاً ونوحاً، فقال لهم: إني أعلم أن الله معذب هذه الأمة عذاباً عظيماً ليس فيه رحمة.
وكان أخنوخ أول من خط بالقلم، وهو إدريس النبي، فأوصى ولده أن يخلصوا عبادة الله، ويستعملوا الصدق واليقين، ثم رفعه الله بعد أن أتت له ثلاثمائة سنة.
متوشلح بن أخنوخثم قام متوشلح بن أخنوخ بعبادة الله تعالى وطاعته وكان لما أتت عليه مائة وسبع وثمانون سنة، ولد له لمك فأوحى الله إلى نوح في عصره وأعلمه أنه باعث الطوفان على الناس وأمره أن يعمل السفينة من الخشب ولما كملت لنوح ثلاثمائة سنة وأربع وأربعون سنة تم الألف الثاني.
وتوفي متوشلح في إحدى وعشرين من أيلول يوم الخميس وكانت حياته تسعمائة وستين سنة.
لمك بن متوشلحفقام لمك بعد أبيه بعبادة الله وطاعته، وكان قد ولد له بعد أن أتت عليه مائة واثنتان وثمانون سنة وكثرت الجبابرة في عصره وذلك أنه كان لما وقع بنو شيث في بنات قابيل ولدت منهم الجبابرة.

ثم دنا موت لمك، فدعا نوحاً وساماً وحاماً ويافثاً ونساءهم ولم يكن بقي من أولاد شيث في الجبل أحد غيرهم إلا هبطوا إلى بني قابيل، فكانوا ثمانية أنفس ولم يكن لهم أولاد قبل الطوفان، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، ثم بكى. وقال لهم: إنه لم يبق من جنسنا أحد إلا هؤلاء الثمانية الأنفس وأسأل الله الذي خلق آدم وحواء وحدهما ثم كثر ولدهما، أن ينجيكم من هذا الرجز الذي أعد للأمة السوء ويكثر ولدكم حتى يملأوا الأرض ويعطيكم بركة أبينا آدم، ويجعل في ولدكم الملك وأنا متوفى ولن يفلت من أهل الرجز غيرك يا نوح، فإذا أنا مت فاحملني واجعلني في مغارة الكنز، فإذا أراد الله أن تركب السفينة فاحمل جسد أبينا آدم فاهبط به معك ثم اجعله وسط البيت الأعلى من السفينة ثم كن أنت وبنوك في طرف السفينة الشرقي، ولتكن امرأتك وكنائنك في طرف السفينة الغربي وليكن جسد آدم بينكم، فلا تجوزوا إلى نسائكم ولا تجز نساؤكم إليكم ولا تأكلوا ولا تشربوا معهن، ولا تقربوهن حتى تخرجوا من السفينة، فإذا ذهب الطوفان وخرجتم من السفينة إلى الأرض، فصل أنت عند جسد آدم، ثم أوص ساماً أكبر بنيك، فليذهب بجسد آدم حتى يجعله في وسط الأرض، وليجعل معه رجلاً من أولاده يقوم عليه، وليكن حبراً لله حياته لا ينكح امرأة، ولا يبني بيتاً، ولا يهريق دماً، ولا يقرب قرباناً من الدواب، ولا الطير، فإن الله مرسل معه ملكاً من الملائكة يدله على وسط الأرض ويؤنسه.
وتوفي لمك لسبع عشرة ليلة خلت من آذار يوم الأحد، على تسع ساعات من النهار، وكانت حياته سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة.
نوح عليه السلاموأوحى الله عز وجل إلى نوح في أيام جده أخنوخ، وهو إدريس النبي، وقبل أن يرفع الله إدريس، وأمره أن ينذر قومه، وينهاهم عن المعاصي التي كانوا يركبونها ويحذرهم العذاب، فأقام على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، وحبس نفسه على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، لا ينكح النساء خمسمائة عام، ثم أوحى الله إليه أن ينكح هيكل بنت ناموسا بن أخنوخ، وأعلمه أنه باعث الطوفان على الأرض وأمره أن يعمل السفينة التي نجاه الله وأهله فيها، وأن يجعلها ثلاثة بيوت سفلاً ووسطاً وعلواً، وأمره أن يجعل طولها ثلاثمائة ذراع بذراع نوح وعرضها خمسين ذراعاً وسمكها ثلاثين ذراعاً ويصير حواليها رفوف الخشب ويكون البيت الأسفل للدواب والوحش والسباع ويكون الأوسط للطير ويكون الأعلى لنوح وأهل بيته ويجعل في الأعلى صهاريج الماء وموضعاً للطعام فولد له بعد أن أتت عليه خمسمائة سنة.
ولما فرغ نوح من عمل السفينة وكان ولد قابيل، ومن اختلط بهم من ولد شيث، إذا رأوه يعمل الفلك سخروا منه، فلما فرغ دعاهم إلى الركوب فيها، وأعلمهم أن الله باعث الطوفان على الأرض كلها حتى يطهرها من أهل المعاصي، فلم يجبه أحد منهم فصعد هو وولده إلى مغارة الكنز فاحتملوا جسد آدم، فوضعوه في وسط البيت الأعلى من السفينة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من آذار، وأدخل الطير البيت الأوسط، وأدخل الدواب والسباع البيت الأسفل وأطبقها حين غابت الشمس.
وأرسل الله الماء من السماء، و فجر عيون الأرض، فالتقى الماء على أمر قد قدر وأخذ الأرض كلها والجبال وأظلمت الدنيا وذهب ضوء الشمس والقمر حتى كان الليل والنهار سواء وكان الطالع في ذلك الوقت الذي أرسل الله تعالى فيه الماء فيما يقول أصحاب الحساب: السرطان والشمس والقمر وزحل وعطارد والرأس، مجتمعة في آخر دقيقة من الحوت، فاتصل الماء من السماء والأرض أربعين يوماً حتى علا فوق كل جبل خمس عشرة ذراعاً ثم وقف بعد أن لم تبق بقعة من الأرض إلا غمرها الماء وعلاها.
ودارت السفينة الأرض كلها حتى صارت إلى مكة، فطافت حول البيت أسبوعاً ثم انكشف الماء بعد خمسة أشهر فكان ابتداؤه لسبع عشرة ليلة خلت من أيار إلى ثلاث عشرة ليلة خلت من تشرين الأول.
وروى بعضهم أن نوحاً ركب السفينة أول يوم من رجب، واستوت على الجودي في المحرم فصار أول الشهور يعده وأهل الكتاب يخالفون في هذا.
ولما استوت على الجودي وهو جبل بناحية الموصل أمر الله تعالى ماء السماء فرجع من حيث جاء وأمر الأرض فبلعت ماءها فأقام نوح بعد وقوف السفينة أربعة أشهر ثم بعث الغراب ليعرف خبر الماء فوجد الجيف طافية على الماء.

فوقع عليها ولم يرجع، ثم أرسل الحمامة فجاءت بورقة زيتون، فعلم أن الماء قد ذهب فخرج لسبع وعشرين من أيار، فكان بين دخوله السفينة وخروجه سنة كاملة وعشرة أيام، فلما صار إلى الأرض هو وأهله بنوا مدينة، فسموها ثمانين.
ولما خرج نوح من السفينة ورأى عظام الناس تلوح غمه ذلك وأحزنه وأوحى الله إليه: أني لن أرسل الطوفان على الأرض بعدها أبداً. ولما خرج نوح من السفينة أقفلها بقفل ودفع المفتاح إلى سام ابنه ثم زرع نوح وغرس كرماً وعمر الأرض.
وأن نوحاً يوماً لنائم إذ انكشف ثوبه، فرأى حام ابنه سوأته فضحك، وخبر أخويه ساماً و يافثاً فأخذا ثوباً حتى أتياه به، ووجوههما مصروفة عنه، فألقيا الثوب عليه، فلما انتبه نوح من نومه، وعلم الخبر دعا على كنعان بن حام، ولم يدع على حام، فمن ولده القبط والحبشة والهند.
وكان كنعان أول من رجع من ولد نوح إلى عمل بني قابيل، فعمل الملاهي والغناء والمزامير والطبول والبرابط والصنوج، وأطاع الشيطان في اللعب والباطل.
وقسم نوح الأرض بين ولده، فجعل لسام وسط الأرض، والحرم وما حوله واليمن وحضرموت إلى عمان إلى البحرين إلى عالج ويبرين، ووبار والدو والدهناء وجعل لحام أرض المغرب والسواحل فولد كوش ابن حام وكنعان بن حام النوبة والزنج والحبشة. ونزل يافث بن نوح ما بين المشرق والمغرب، فولد له جومر وتوبل وماش وماشج ومأجوج فولد جومر الصقالبة، وولد توبل برجان وولد ماش الترك والخزر وولد ماشج الأشبان وولد مأجوج يأجوج ومأجوج وهم في شرقي الأرض من جهة الترك وكانت منازل الصقالبة، وبرجان أرض الروم قبل أن يكون الروم فهؤلاء ولد يافث.
وعاش نوح، بعد خروجه من السفينة ثلاثمائة وستين سنة، ولما حضرت وفاة نوح اجتمع إليه بنوه الثلاثة سام و حام ويافث وبنوهم فأوصاهم وأمرهم بعبادة الله تعالى وأمر ساماً أن يدخل السفينة إذا مات ولا يشعر به أحد فيستخرج جسد آدم ويذهب معه بملكيزدق بن لمك بن سام فإن الله اختاره ليكون مع جسد آدم في وسط الأرض في المكان المقدس وقال له: يا سام إنك إذا خرجت أنت وملكيزدق بعث الله معكما ملكاً من الملائكة يدلكما على الطريق ويريكما وسط الأرض فلا تعلمن أحداً ما تصنع فإن هذا الأمر وصية آدم التي أوصى بها بنيه وأوصى بها بعضهم بعضاً حتى انتهى ذلك إليك فإذا بلغتما المكان الذي يريكما الملك فضع فيه جسد آدم ثم مر ملكيزدق ألا يفارقه ولا يكون له عمل إلا عبادة الله سبحانه وتعالى وأمره أن لا ينكح امرأة ولا يبني بنياناً ولا يهريق دماً ولا يلبس ثوباً إلا من جلود الوحش ولا يقص شعراً ولا ظفراً و ليجلس وحده وليكثر حمد الله ثم مات في أيار يوم الأربعاء وكانت حياته تسعمائة سنة وخمسين كما حكى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً.
سام بن نوحوقام سام بن نوح، بعد أبيه، بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له ارفخشد، بعد أن أتت عليه مائة سنة وسنتان، ثم انطلق، وفتح السفينة، فأخذ جسد آدم، فهبط به سراً من أخويه وأهله، ودعا أخويه يافثاً وحاماً، فقال لهما: إن أبي أوصى إلي وأمرني أن آتي البحر، فأنظر في الأرض ثم ارجع، فلا تتحركوا حتى آتيكم، واستوصوا بامرأتي وبني خيراً، فقال له أخواه: اذهب في حفظ الله، فإنك قد علمت أن الأرض خربة ونخاف عليك السباع. قال سام: إن الله تعالى يبعث ملكاً من الملائكة، فلا أخاف، إن شاء الله تعالى، شيئاً. ودعا سام ابنه لمكاً فقال له ولامرأته: يا وزدق! أرسلا معي ابنكما ملكيزدق يؤنسني في الطريق. فقالا له: اذهب راشداً! فقال سام لأخويه وأهله وولده: قد علمتم أن أبانا نوحاً قد أوصى إلي، وأمرني أن أختم السفينة، فلا أدخلها أنا، ولا أحد من الناس، فلا يقربن السفينة منكم أحد.
ثم إن ساماً خرج ومعه ابنه، فعرض لهما الملك، فلم يزل معهما حتى صار بهما إلى الموضع الذي أمروا أن يضعوا جسد آدم فيه، فيقال إنه بمسجد منى عند المنارة، ويقول أهل الكتاب: بالشأم في الأرض المقدسة، فانفتحت الأرضون، فوضعوا الجسد فيها، ثم انطبقت عليه. وقال سام لملكيزدق ابن لمك بن سام: اجلس ها هنا، وأحسن عبادة الله، فإن الله يرسل إليك في كل يوم ملكاً من الملائكة يؤنسك، ثم سلم عليه، وانصرف، فأتى أهله، فسأله ابنه لمك عن ملكيزدق. فقال: إنه قد مات في الطريق، فدفنته، فحزن عليه أبوه وأمه.

ثم حضرت ساماً الوفاة فأوصى إلى ابنه أرفخشد. ومات سام يوم الخميس لسبع خلون من أيلول. وكانت حياته ستمائة سنة.
أرفخشد بن سامثم قام أرفخشد بن سام بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له شالح بعد أن أتت عليه مائة وخمس وثمانون، سنة وقد تفرق ولد نوح في البلاد، وكثرت الجبابرة والعتاة منهم، و أفسد ولد كنعان بن حام، وأظهروا المعاصي.
ولما حضرت أرفخشد الوفاة جمع إليه ولده وأهله وأوصاهم بعبادة الله تعالى ومجانبة المعاصي، وقال لشالح ابنه: أقبل وصيتي، وقم في أهلك بعدي عاملاً بطاعة الله تعالى. ومات يوم الأحد لسبع بقين من نيسان وكانت حياته أربعمائة وخمساً وستين سنة.
شالح بن أرفخشدثم قام شالح بن أرفخشد في قومه يأمرهم بطاعة الله تعالى، وينهاهم عن معاصيه، ويحذرهم ما نال أهل المعاصي من الرجز والعذاب. وكان قد ولد له عابر بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه عابر بن شالح، وأمره أن يتجنب فعل بني قابيل اللعين، ومات يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من آذار، وكانت حياته أربعمائة وثلاثين سنة.
عابر بن شالحثم قام عابر بن شالح يدعو قومه إلى طاعة الله تعالى، ويحذر بني سام بن نوح أن يختلطوا بولد كنعان بن حام، المغير دين آبائه، والمرتكب للمعاصي.
وكان قد ولد له فالغ، بعد أن أتت عليه مائة وأربع وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه فالغ، فقال له: يا بني! إن ولد قابيل اللعين، لما أكثروا العمل بمعاصي الله، سبحانه وتعالى، ودخل معهم ولد شيث بعث الله عليهم الرجز، فلا تدخل أنت ولا أهلك في ملة بني كنعان. ومات عابر يوم الخميس لثلاث وعشرين من تشرين الأول، وكانت حياته ثلاثمائة وأربعين سنة، وقيل مائة وأربعاً وستين سنة.
فالغ بن عابرثم قام بعد عابر فالغ ابنه يدعو الناس إلى طاعة الله تعالى، فكان في زمانه اجتماع ولد نوح ببابل، وذلك أن ماش بن إرم بن سام بن نوح صار إلى أرض بابل، فولد نمرود الجبار، ونبيط، وهو أبو النبط، وهو أول من استنبط الأنهار، وغرس الأشجار، وعمر الأرض، وكان لسانهم جميعا السرياني، وهو لسان آدم، فلما اجتمعوا ببابل قال بعضهم لبعض: لنبنين بنياناً أسفله الأرض وأعلاه السماء! فلما أخذوا في البنيان قالوا: نتخذه حصناً يحرزنا من الطوفان، فهدم الله حصنهم، وفرق الله ألسنهم على اثنين وسبعين لساناً، و تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة من موضعهم ذلك، فكان في ولد سام تسعة عشر لساناً، وفي ولد حام ستة عشر لساناً، وفي ولد يافث سبعة وثلاثون لساناً، فلما رأوا ما هم فيه اجتمعوا إلى فالغ بن عابر فقال لهم: إنه لا يسعكم أرض واحدة مع افتراق ألسنتكم فقالوا: أقسموا الأرض بيننا، فقسم لهم فصار لولد يافث بن نوح الصين والهند والسند والترك والخزر والتبت والبلغر والديلم وما والى أرض خراسان، وكان ملك بني يافث في ذلك الزمان جم شاذ.
وصار لولد حام أرض المغرب وما وراء الفرات إلى مسقط الشمس.
وصار لولد سام الحجاز واليمن وباقي الأرض.
وكان قد ولد له أرغو بعد أن أتت عليه ثلاثون سنة، وحضرت فالغ الوفاة، فأوصى إلى ابنه أرغو، ومات فالغ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيلول، وكانت حياته مائتي سنة و تسعاً وثلاثين سنة.
أرغو بن فالغثم قام أرغو بن فالغ بعد أبيه، وقد تفرقت الألسن على اثنتين وسبعين فرقة، لبني سام تسع عشرة فرقة، ولولد حام ست عشرة فرقة، ولولد يافث سبع وثلاثون، وكان في زمانه نمرود الجبار، وكان مسكنه ببابل، وكان الذي ابتدأ بناء الصرح، وأول من عمل التاج، وملك سبعاً وستين سنة.
وكان قد ولد لأرغو ساروغ، بعد أن أتت عليه اثنتان وثلاثون سنة، ولما أتت لأرغو أربع وسبعون سنة من عمره كمل الألف الثالث.
وحضرت أرغو الوفاة، فأوصى ابنه ساروغ، وتوفي أرغو يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من نيسان، وكانت حياته مائتي سنة.
ساروغ بن أرغو

وقام ساروغ بن أرغو في ولد سام، بعد موت أبيه، وقد كثرت الجبابرة، وعتت في الأرض. وكان في زمن ساروغ أول ما عبدت الأصنام. وكان أول شأن الأصنام أن الناس كان إذا مات لأحدهم الميت الذي يعز عليهم من أب أو أخ أو ولد صنع صنماً على صورته، وسماه باسمه، فلما أدرك الخلف الذي بعدهم ظنوا، وحدثهم الشيطان، أنه إنما صنعت هذه لتعبد، فعبدوها، ثم فرق الله دينهم، فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من عبد الطير، ومنهم من عبد الحجارة، ومنهم من عبد الشجر، ومنهم من عبد الماء، ومنهم من عبد الريح ، وفتنهم الشيطان وأضلهم وأطغاهم.
وكان قد ولد له ناحور، بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة. ولما حضرت ساروغ الوفاة أوصى ابنه ناحور، وأمره بعبادة الله تعالى، ومات ساروغ لثلاث بقين من آب يوم الأحد، وكانت حياته مائتين وثلاثين سنة.
ناحور بن ساروغوكان ناحور مكان أبيه، فكثرت عبادة الأصنام في زمانه، فأمر الله سبحانه الأرض، فزلزلت عليهم زلزلة شديدة حتى سقطت تلك الأصنام، فلم يكترثوا بذلك، وأعادوا أصناماً مكانها.
وفي زمانه ظهر السحر، والكهانة، والطيرة، وذبح الناس أولادهم للشياطين، وجعلت المكاييل والموازين.
وكانت حياة ناحور مائة وثمانياً وأربعين سنة، وكانت جبابرة ذلك العصر عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانوا قد انتشروا في البلاد، وكانت منازلهم بين أعالي حضرموت إلى أودية نجران، فلما عاثوا وعتوا بعث الله تبارك وتعالى هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، والعمل بطاعته، واجتناب المحارم، فكذبوه، فقطع الله عنهم المطر ثلاث سنين، فوجهوا وفدا لهم إلى البيت الحرام يستسقي لهم، فأقاموا يطوفون بالبيت ويسعون أربعين صباحاً.
ثم رفعت لهم سحابتان: إحداهما بيضاء فيها غيث ورحمة، والأخرى سوداء فيها عذاب ونقمة، وسمعوا صوتاً يناديهم: اختاروا أيتهما شئتم! فقالوا: اخترنا السوداء! فمرت، وهي على رؤوسهم، فلما قربت من البلاد قال لهم هود: إن هذه السحابة فيها عذاب قد أظلكم! فقالوا: بل هو عارض ممطرنا، فأقبلت ريح سوداء لا تمر بشيء إلا أحرقته، فما نجا منهم إلا هود، ويقال إنه نجا لقمان بن عاد، وعاش حتى عمر عمر سبعة نسور.
ولما مضت عاد صار في ديارهم بنو ثمود بن جازر بن ثمود بن إرم بن سام بن نوح، وكانت ملوكهم تنزل الحجر، فلما عتوا بعث الله إليهم صالح بن تالح بن صادوق بن هود نبياً، فسألوه أن يأتيهم باية، فأخرج الله لهم ناقة من الأرض معها فصيلها، فقال لهم صالح: إن لهذه الناقة يوماً ترد فيه الماء، ولكم يوماً، فاحذروا أن تصدوها عن الماء! فكذبوه، فقام رجل منهم يقال له قدار، فعقرها وضرب عرقوبها بالسيف، فارتفع فصيلها على نشز من الأرض، ثم رغا، فبعث الله عليهم العذاب، فما فلت منهم إلا امرأة يقال لها الذريعة، وضرب العرب بقدار المثل.
تارخ بن ناحوروكان تارخ بن ناحور، هو أبو إبراهيم خليل الله، في عصر نمرود الجبار، وكان نمرود أول من عبد النار و سجد لها، وذلك أنه خرجت نار من الأرض، فأتاها، فسجد لها، وكلمه منها شيطان، فبنى عليها بنية، وجعل لها سدنة.
وفي ذلك العصر تعاطى الناس علم النجوم، وحسبوا الكسوف للشمس والقمر والكواكب السائرة والراتبة، وتكلموا في الفلك والبروج.
وكان الذي علم نمرود ذلك رجلاً يقال له تبطق، وكان تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، مع نمرود الجبار، فحسب المنجمون لنمرود، فقالوا له: إنه يولد في مملكته مولود يعيب دينه، ويزري عليه، ويهدم أصنامه، ويفرق جمعه، فجعل لا يولد في مملكته مولود إلا شق بطنه، حتى ولد إبراهيم، فستره أبواه، وأخفيا أمره، وصيراه في مغارة حيث لا يعلم به أحد، وكان مولده بكوثا ربا، وكان مولد إبراهيم بعد أن أتت لتارخ مائة وسبعون سنة، وعاش تارخ أبوه مائتي سنة وخمس سنين.
إبراهيم عليه السلام

ونشأ إبراهيم في زمان نمرود الجبار، فلما خرج من المغارة التي كان فيها قلب طرفه في السماء، فنظر إلى الزهرة، فرأى كوكباً مضيئاً، فقال: هذا ربي، فإن له علواً وارتفاعاً، ثم غاب الكوكب، فقال: إن ربي لا يغيب، ثم رأى القمر لما طلع، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب القمر، فقال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما جاء النهار طلعت الشمس، فقال: هذا ربي، هذا أنور وأضوأ، فلما غابت الشمس قال: غابت، وربي لا يغيب، كما قص الله خبره وأمره، فلما كملت سنة جعل يعجب إذ رأى قومه يعبدون الأصنام، ويقول: أتعبدون ما تنحتون؟ فيقولون: أبوك علمنا هذا. فيقول: إن أبي لمن الضالين! فظهر قوله في قومه، وتحدث الناس به، وأرسله الله نبياً، وبعث إليه جبريل، فعلمه دينه، فجعل يقول لقومه: إني بريء مما تشركون.
وبلغ خبره نمرود فأرسل إليه فيها، ثم جعل إبراهيم يكسر أصنامهم، فيقول: ادفعي عن نفسك، فألهب نمرود ناراً ووضعه في منجنيق ورمى به فيها، فأوحى الله إليها: أن كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فجلس وسط النار ما تضره، فقال نمرود: من اتخذ إلها، فليتخذه مثل إله إبراهيم، فامن معه لوط، وكان لوط ابن أخيه خاران بن تارخ.
وأمر الله، عز وجل إبراهيم أن يخرج من بلاد نمرود إلى الشام الأرض المقدسة، فخرج إبراهيم وامرأته سارة بنت خاران بن ناحور عمه، ولوط بن خاران، مهاجرين حيث أمرهم الله، فنزلوا أرض فلسطين، وكثر ماله ومال لوط، فقال إبراهيم للوط: إن الله قد كثر لنا مالنا وماشيتنا، فانتقل منا حتى تنزل مدينتي سدوم وعمورة، بالقرب من الموضع الذي كان فيه إبراهيم، فلما صار لوط إلى مدينة سدوم وعمورة ونزلها أتاه ملك تلك الناحية، فقاتله، وأخذ ماله، فمضى إبراهيم حتى استنقذ ماله.
ووسع الله، عز وجل، على إبراهيم في كثرة المال، فقال: رب ما أصنع بالمال، ولا ولد لي؟ فأوحى الله، عز وجل، إليه: إني مكثر ولدك، حتى يكونوا عدد النجوم.
وكان لسارة جارية يقال لها هاجر، فوهبتها لإبراهيم، فوقع عليها، فحملت، وولدت إسماعيل، وإبراهيم يومئذ ابن ست وثمانين سنة، وقال الله: إني مكثر ولدك وجاعل فيهم الملك الباقي مدى الدهر، حتى لا يدري أحد ما عددهم.
فلما ولدت هاجر غارت سارة، وقالت: أخرجها عني وولدها، فأخرجها، ومعها إسماعيل، حتى صار بهما إلى مكة، فأنزلهما عند البيت الحرام، وفارقهما، فقالت له هاجر: على من تدعنا؟ قال: على رب هذه البنية فقال: اللهم إني أسكنت ابني، بواد غير ذي زرع، عند بيتك المحرم.
ونفد الماء الذي كان مع هاجر، فاشتد بإسماعيل العطش فخرجت هاجر تطلب الماء، ثم صعدت إلى الصفا، فرأت بقربه طائراً واقفاً فرجعت فإذا بالطائر قد فحص برجله الأرض، فخرج الماء، فجمعته لئلا يذهب، فهي بئر زمزم.
وعمل قوم لوط المعاصي، وكانوا يأتون الذكران من العالمين، وذلك أن إبليس، لعنه الله تعالى، تراءى لهم في صورة غلام أمرد، ثم أمرهم أن ينكحوه، فاشتهوا ذلك حتى تركوا نكاح النساء، وأقبلوا على نكاح الذكران، فنهاهم لوط، فلم ينتهوا، و جاروا في الأحكام حتى ضرب بهم في الجور المثل، وقالوا: أجور من حكم سدوم! وكان الرجل منهم، إذا نال أحداً بمكروه، فضربه، أو سحه، قال له: أعطني أجراً على فعلي بك. وكان لهم حاكمان يقال لهما شقرى وشقرونى يحكمان بالجور والظلم والعدوان.
ولما كثر عمل قوم لوط وجورهم بعث الله، عز وجل، ملائكة لهلاكهم، فنزلوا بإبراهيم، وكان يضيف الأضياف، ويعمل القرى، فلما نزلوا به قرب إليهم عجلاً مشوياً، فلما رآهم لا يأكلون نكرهم، فعرفوه بأنفسهم، وقالوا: أنا رسل ربك لهلاك أهل هذه القرية، يعنون سدوم القرية التي كان فيها قوم لوط ، فقال لهم إبراهيم: إن فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله، إلا امرأته.

وكانت سارة امرأة إبراهيم واقفة، فعجبت من قولهم، فبشروها بإسحاق فقالت: أألد وأنا عجوز، وهذا بعلي شيخ كبير؟ وكان إبراهيم ابن مائة سنة، وهي بنت تسعين، فلما أتوا إلى لوط، ورأتهم امرأته دخنت لقومها، فجاءوا إلى لوط، فقالوا ادفع إلينا أضيافك! فقال: لا تفضحون في ضيفي: فلما أكثروا صدهم جبريل، فأعماهم، فقالوا له: أنا مهلكوهم، قال: فمتى؟ قالوا: الصبح. قال: تؤخرونهم إلى الصبح؟ قال له جبريل: أليس الصبح بقريب؟ فلما كان السحر قال له جبريل: اخرج، ثم قلبها عليهم، ويقال نزلت عليهم نار، فلم ينج منهم أحد، وكانت امرأة لوط فيهم فمسخت ملحاً، فما بقي منهم مخبر.
ووهب الله لإبراهيم إسحاق بن سارة، فعجب الناس من ذلك، وقالوا: شيخ ابن مائة سنة، وعجوز بنت تسعين سنة! فخرج إسحاق أشبه شيء بإبراهيم.
وكان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه في كل وقت. وبلغ إسماعيل حتى صار رجلاً، ثم تزوج امرأة من جرهم، فزارة إبراهيم مرة، فلم يلقه، وكانت أمه قد ماتت، فكلم امرأته فلم يرض عقلها، وسألها عن إسماعيل، فقالت: في الرعي! فقال: إذا جاء فقولي له غير عتبة بابك! فلما انصرف إسماعيل من رعية قالت له امرأته: قد جاء هنا شيخ يسأل عنك: فقال إسماعيل: فما قال لك؟ قالت: قال لي. قولي له غير عتبة بابك. قال: أنت خلية! فطلقها، و تزوج الحيفاء بنت مضاض الجرهمية، فعاد إليهم إبراهيم من الحول، فوقف ببيت إسماعيل، فلم يجده، ووجد امرأته، فقال: كيف حالكم؟ قالت بخير! قال: هكذا فليكن! أين زوجك؟ قالت: ليس بحاضر، انزل! قال: لا يمكنني. قالت: فأعطني رأسك أقبله! ففعل ذلك، وقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: تمسك بعتبة بابك. فلما انصرف جاء إسماعيل، فأخبرته امرأته بخبر إبراهيم، فوقع على موضع قدمه يقبلها.
ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم أن يبني الكعبة، ويرفع قواعدها، ويؤذن في الناس بالحج، ويريهم، مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل القواعد حتى انتهى إلى موضع الحجر، فنادى إبراهيم أبو قبيس: أن لك عندي وديعة! فأعطاه الحجر، فوضعه، وأذن إبراهيم في الناس بالحج، فلما كان يوم التروية قال له جبريل: ترو من الماء، فسميت التروية، ثم أتى منى، فقال له: بت بها، ثم أتى عرفات، فبنى بها مسجداً بحجارة بيض، ثم صلى به الظهر والعصر ثم عمد به إلى عرفات، فقال له: هذه عرفات فاعرفها، فسميت عرفات.
ثم أفاض به من عرفات، فلما حاذى المأزمين قال له: ازدلف، فسميت المزدلفة، وقال له: اجمع الصلاتين، فسميت جمع، وصار إلى المشعر، فنام عليه، فأمره الله أن يذبح ابنه، فالرواية تختلف في إسماعيل وإسحاق، فيقول قوم: إنه إسماعيل لأنه الذي وضع داره وبيته وإسحاق بالشام، ويقول قوم: إنه إسحاق لأنه أخرجه وأخرج أمه معه، وكان يومئذ غلاماً، وإسماعيل رجل قد ولد له.
وقد كثرت الروايات في هذا وهذا، واختلف الناس فيهما، فلما أصبح إبراهيم صار إلى منى وقال للغلام: زورني بالبيت، وقال لابنه: إن الله أمرني أن أذبحك! فقال: يا أبت افعل ما تؤمر! فأخذ السكين، وأضجعه على جمرة العقبة، وطرح تحته قرطان حمار، ثم وضع الشفرة على حلقه، وحول وجهه عنه، فقلب جبريل الشفرة، فنظر إبراهيم، فإذا الشفرة مقلوبة، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
وأخذ جبريل الغلام، وانحط الكبش من قلة ثبير، فوضعه، تحته فذبحه فأهل الكتاب يقولون: إنه كان إسحاق، وإنه فعل به هذا في برية الأموريين بالشام، فلما فرغ إبراهيم من حجه وأراد أن يرتحل أوصى إلى ابنه إسماعيل أن يقيم عند البيت الحرام، وأن يقيم للناس حجهم ومناسكهم، وقال له: إن الله مكثر عدده. ومثمر نسله. وجاعل في ولده البركة والخير.
وتوفيت سارة عند مصيرهم إلى الشأم، فتزوج إبراهيم قطورة، فولدت له أولاداً كثيراً، و هم: زمرن، ويقشن، ومدن، ومدين، ويشباق، وشوح، وتوفي إبراهيم، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من آب، وكانت حياته مائة وخمساً وتسعين سنة.
إسحاق بن إبراهيمولما توفي إبراهيم بالشام قام إسحاق بعده وتزوج رفقا بنت بتوئيل، فحملت فثقل حملها، فأوحى الله، عز وجل، إلى إسحاق: أني مخرج من بطنها شعبين وأمتين، فاجعل الأصغر أعظم من الأكبر! فولدت رفقا عيصو ويعقوب توأمين، وخرج عيصو أولاً، وخرج يعقوب بعده، وعقبه مع عقب عيصو، فسمي يعقوب.

وكان إسحاق يوم ولد له ابن ستين سنة، وكان إسحاق يحب عيصو، ورفقا تحب يعقوب، وسكن إسحاق وادي جارر، وكان قد ذهب بصره، فقال لابنه عيصو: خذ سيفك وقوسك، واخرج، فصد لي صيداً حتى آكل وأبارك عليك قبل أن أموت، فسمعت رفقا أمه ذلك، فقالت ليعقوب: اصنع لأبيك طعاماً! اذهب إلى الغنم، فخذ جديين، فاصنع طعاماً، وقربه لأبيك، حتى تقع عليك البركة. فقال: أخاف أن يلعنني. فقالت: إن لعنك كانت لعنتك علي، فمضى يعقوب، وأخذ جديين، فذبحهما، وطبخهما، وقربهما إليه.
وكان عيصو مشعر الذراع، فأخذ يعقوب جلد الجديين، فوضعهما على ساعديه، فلما قرب الطعام من أبيه قال: النغمة نغمة يعقوب، والمسحة مسحة عيصو. ثم بارك عليه، ودعا له، وقال له: كن رأسا على إخوتك.
وجاء عيصو بصيده، فقال له إسحاق: من قدم إلى الطعام فباركته ومباركاً يكون؟ قال: خدعني أخي يعقوب! قال له إسحاق: قد جعلته رأسا عليك، وعلى إخوته. ثم دعا له، وقال: على سميه الأرض تنزل.
وأمر إسحاق يعقوب أن يصير إلى حران، فيكون عند لابان بن بتوئيل بن ناحور، أخي إبراهيم، وخاف إسحاق عيصو عليه، وأمره أن لا يتزوج من نساء الكنعانيين، فصار إلى حران إلى خاله لابان، فكانت حياة إسحاق مائة وخمساً وثمانين سنة.
يعقوب بن إسحاقثم إن إسحاق قال ليعقوب: إن الله قد جعلك نبياً، وجعل ولدك أنبياء، وجعل فيك الخير والبركة، وأمره أن يسير إلى الفدان، وهو موضع بالشام، فسار إلى الفدان فلما دخلها رأى امرأة معها غنم على البئر تريد أن تسقي غنمها، وعلى رأس البئر حجر لا يرفعه إلا عدة رجال، فسألها: من هي؟ فقالت: أنا بنت لابان، وكان لابان خال يعقوب، فزحزح يعقوب الحجر، وسقى لها، و سار إلى خاله، فزوجه إياها، فقال يعقوب: إن التي كانت مسماة لي راحيل أختها. فقال: هذه أكبر، وأنا أزوجك أيضاً راحيل، فتزوجهما جميعاً.
ودخل بليا أولاً، فأولدها روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، وجارية يقال لها ديناً، ثم زوجه خاله بابنته الأخرى، وهي راحيل، فأبطأ عليها الولد، حتى عظم ذلك عليها، ثم وهب الله، سبحانه وتعالى، يوسف، وبنيامين.
ووقع يعقوب بزلفا جارية كانت لليا، فولدت منه كاذ، وآشر، ونفتالي.
ووقع بوليدة راحيل، فولدت دان، وقال قوم إن يعقوب تزوج راحيل قبل ليا، وقال أهل الكتاب تزوجهما جميعاً في وقت واحد، فماتت راحيل، وبقيت ليا.
وكان يوسف أحب ولد يعقوب إلى يعقوب لأنه كان أجملهم وجهاً، وكانت أمه أحب نسائه إليه، فحسده إخوته ذلك، فأخرجوه معهم، وكان من خبرهم ما قصة الله، عز وجل، في كتابه العزيز، حتى بيع، واستعبد، وغاب عن أبيه أربعين سنة، ثم رده الله، سبحانه، عليه، وجمعهم ويوسف بمصر على ما قد قصة الله في كتابه.
وولد ليوسف بمصر عدة أولاد، فأقام يعقوب بمصر سبع عشرة سنة، ولما حضرته الوفاة أوصى يوسف ولده ألا يدفنه بمصر. وتوفي وله مائة وأربعون سنة.
ولد يعقوبوكان ليعقوب من الولد اثنا عشر ذكراً: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويشاجر، وزفولون، ويوسف، وبنيامين، وكاذ، وآشر، ودان، ونفتالي، فهؤلاء بنو يعقوب، وهم بنو إسرائيل، وهم الأسباط.
وكان لروبيل من الولد: خنوخ، وفلو، وحصران، وكرمي.
وكان لشمعون من الولد: نموئيل، ويامين، وشاوول وكان للاوي من الولد: جرشون، وقهث، ومراري.
وكان ليهوذا من الولد: عار، وأونان ، وشيلا، وفارص، وزارح.
وكان ليشاجر من الولد: تولع، وفوا، ويوب، وشمرون.
وكان لآشر من الولد: يمنا، وأشوا، وأشوى، وبريعا، وسارح.
وكان لزفولون من الولد: سارد، وإيلون، ويحلائيل.
وولد ليوسف بأرض مصر: إفرائيم، ومنشى.
وكان لبنيامين: بالع، وبخر، وأشبال، ونعمان، وأوخي، ومفيم، وحفيم، وأرد.
وكان لكاذ من الولد: صفيان، وشوني، وأصبون، وعاري، وأرودي، وارايلي.
وكان لنفتالي من الولد: يحصيل، وغوني، ويبصر، وشاليم.
فهؤلاء أولاد يعقوب وولد ولده، الذين اجتمعوا بمصر عند يوسف، مع ولدي يوسف اللذين ولدا بمصر، وأعطاهم أرضا، وقال: ازرعوا، فما خرج فلفرعون الخمس.
ولما حضرت يعقوب الوفاة جمع ولده وولد ولده، فبارك عليهم، ودعا لهم، وقال لكل واحد منهم قولا، وأعطى ليوسف سيفه وقوسه.

وقرب إليه يوسف ابنيه منشى وإفرائيم، فصير منشى عن يمينه وإفرائيم عن شماله، لأن منشى كان أكبر، فقلب يده اليمنى على إفرائيم ، وأوصى يوسف أن يحمله ويدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
ولما توفي يعقوب قاموا يبكون عليه سبعين يوماً، ثم حمله يوسف، وأخرج معه غلماناً من أهل مصر، وصار به إلى أرض فلسطين، فدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق.
ولما فرغوا من دفن يعقوب قال لإخوته: ارجعوا معي إلى أرض مصر! فخافوه، فقالوا له: قد أوصاك أبوك يعقوب أن تغفر خطيئتنا. قال: لا تخشوني! فإني أخشى الله. فاطمأنت قلوبهم، فرجعوا إلى أرض مصر، فأقاموا بها.
وعاش يوسف بمصر دهراً، ثم حضرته الوفاة، فجمع بني إسرائيل، وقال: إنكم تخرجون بعد حين من أرض مصر، إذا بعث الله رجلاً يقال له موسى بن عمران من ولد لاوي بن يعقوب، وسيذكركم الله، ويرفعكم، فأخرجوا بدني من هذه الأرض، حتى تدفنوني عند قبور آبائي.
ومات يوسف وله مائة وعشر سنين، فصير في تابوت حجارة، وصير في النيل.
وكان في ذلك العصر أيوب النبي ابن أموص بن زارح بن رعوئيل بن عيصو ابن إسحاق بن إبراهيم، وكان كثير المال، فابتلاه الله تعالى بخطيئة أخطأها، فشكر الله وصبر، ثم رفع الله عنه البلاء، ورد إليه ماله وأضعف له.
موسى بن عمرانوولد موسى بن عمران بن قهث بن لاوي بن يعقوب بمصر في زمان فرعون الجبار، وهو الوليد بن مصعب، ويقال: كان اسمه ظلمي، وبنو إسرائيل يومئذ بمصر قد أقاموا من زمان يوسف في الرق والعبودية.
وكان سحرة فرعون وكهنته قد قالوا له: يولد في هذا الوقت مولود من بني إسرائيل يفسد عليك ملكك، ويكون به هلاكك. وكان فرعون قد ملك مصر دهراً طويلاً ممتعاً بالسلامة، حتى قال: أنا ربكم الأعلى، فأمر فرعون، فوضع على كل امرأة حامل من بني إسرائيل حرساً، فكانت لا تلد منهن امرأة غلاما إلا قتل ولدها، فلما جاء أم موسى المخاض قالت لها القابلة: إني أكتم عليك! فلما ولدت قالت للحرس: إنما خرج منها دم. وأوحى الله إلى أم موسى أن اعملي تابوتاً، ثم ضعيه فيه، وأخرجيه ليلاً، فاطرحيه في نيل مصر! ففعلت ذلك، وضربته الريح، فطرحته إلى الساحل، فرأته امرأة فرعون، فدنت منه حتى أخذته، فلما فتحت التابوت ورأت موسى وقع عليه منها محبة، فقالت: لفرعون نتخذه ولداً، وطلبت له من ترضعه، فلم يأخذ من المرضعات، حتى جاءت أمه، فأخذ منها، وشب أحسن شباب، وبلغ في أسرع وقت ما لا يبلغ الصبيان.
وكان يوسف قد قال لبني إسرائيل: إنكم لن تزالوا في العذاب حتى يأتي غلام جعد، من ولد لاوي بن يعقوب، يقال له موسى بن عمران. فلما طال الأمر على بني إسرائيل ضجوا و أتوا شيخاً منهم، فقال لهم: كأنكم به! فبيناهم، ذلك إذ وقف عليهم موسى، فلما رآه الشيخ عرفه بالصفة، فقال له: ما اسمك؟ فقال: موسى قال ابن من؟ قال: ابن عمران. فقام هو والقوم و قبلوا يديه ورجليه، واتخذهم شيعة.
ودخل يوماً مدينة من مدائن مصر، فإذا رجل من شيعته ينازع رجلاً من آل فرعون، فوكزه موسى، فقتله، ونذر به فرعون وآل فرعون وأرادوا قتله، فلما علم ذلك خرج وحيداً على وجهه، حتى صار إلى مدين، وأجر نفسه من شعيب النبي ابن نويب بن عيا ابن مدين بن إبراهيم على أن ينكحه إحدى ابنتيه.
فلما قضى موسى الأجل سار بامرأته يريد بيت المقدس، على ما قص الله، عز وجل، من خبره في كتابه العزيز، فبينا موسى يسير في طريقه إذ رأى ناراً، فقصد نحوها، وخلف أهله، فلما دنا منها إذا شجرة تضطرم من أسفلها إلى أعلاها ناراً، فلما دنا منها تأخرت نفسه، ووجل واشتد رعبه، فناداه الله جل وعلا: يا موسى أقبل لا تخف! إنك من الآمنين. فسكن عنه رعبه، وأمره الله أن يلقي عصاه، فألقاها، فإذا هي حية كالجذع، فأمره الله أن يأخذها، فصارت عصا.
وبعثه الله تعالى إلى فرعون، وأمره أن يأتيه، ويدعوه إلى عبادة الله، فعظم ذلك في قلب موسى، فقال الله: إني آمرك إلى عبد من عبيدي بطر نعمتي وأمن مكري، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي لو لا العدل والحجة التي وضعتها بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار تغضب لغضبه السموات والأرض.

فقال: اللهم اشدد عضدي بأخي هارون، وإني قتلت منهم نفسا، فأخاف أن يقتلون! فقال له الله: قد فعلت ذلك، فاذهب أنت وأخوك بآياتي، فأخرجا بني إسرائيل! هذا أوان إخراجي إياهم من الرق والعبودية. فرد موسى امرأته إلى أبيها، وصار إلى فرعون هو وأخوه هارون، وأعلمه ما بعثه الله به، وخبر بني إسرائيل، فعظم سرورهم، وعلموا أن يوسف صدقهم. ثم ساروا إلى باب فرعون، وعليه مدرعة صوف، وفي وسطه حبل ليف، وفي يده عصا، فمنع من الدخول، فضرب الباب بالعصا، فانفتحت الأبواب، ثم دخل، فقال لفرعون: أنا رسول رب العالمين، بعثني إليك لتؤمن به، وتبعث معي بني إسرائيل. فأعظم فرعون ذلك، فقال له: إيت بآية نعلم بها صدقك! فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان عظيم قد فتح فاه، وأهوى نحو فرعون، فسأل موسى أن ينحيه عنه، ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء من غير سوء برص.
وكان فرعون أراد أن يصدقه، فقال له هامان: أما في عبيدك، أيها الملك، من يعمل مثل هذا؟ فأحضر السحرة من جميع البلاد، وخبروا بخبر موسى، فأقاموا حيناً يعملون من جلود البقر حبالاً مجوفة وعصياً مجوفة، ويزوقونها، ويصيرون فيها الزيبق، ثم أحموا المواضع التي أرادوا أن يلقوا فيها الحبال والعصى، ثم جلس فرعون، وأحضره، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فلما حمي الزيبق تحرك، ومشت الحبال والعصى، فألقى موسى عصاه، فأكلت ذلك كله، حتى لم يبق منه شيء، ونكص السحرة، فقتل فرعون من قتل منهم.
وبعث الله موسى بآيات إلى فرعون: العصا، ثم اليد التي خرجت من جيبه بيضاء، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم وموت الأبكار، فلما اتصل بهم هذا قال له فرعون: إن كشفت عنا الرجز آمنا وأخرجنا معك بني إسرائيل. فكشف الله عنهم، ولم يؤمنوا.
وأمر الله موسى أن يخرج بني إسرائيل، فلما أرادوا الخروج طلب جسد يوسف بن يعقوب ليحمله معه، كما أوصى يوسف بني إسرائيل، فأتته شارح بنت آشر بن يعقوب، فقالت: تضمن لي البقاء حتى أدلك عليه؟ حتى ضمن ذلك لها فصارت به إلى موضع من النيل، فقالت له: هو ها هنا! فأخذ موسى أربع صفائح ذهب، فصور في واحدة صورة نسر، وأخرى صورة سبع، وأخرى صورة إنسان، وأخرى صورة ثور، وكتب في كل صفيحة اسم الله الأعظم، وألقاها في الماء، فطفا تابوت الحجارة الذي كان فيه جسد يوسف، وبقيت في يد موسى صفيحة واحدة فيها صورة ثور، فوهبها لشارح بنت آشر، و حمل التابوت.
وقفل موسى ببني إسرائيل، وهم ستمائة ألف إنسان بالغ، واتبعه فرعون وجنوده، فغرقهم الله جميعاً، وكانوا ألف ألف فارس، وقيل هبط جبريل، وفرعون وأصحابه يحاولون الدخول أثرهم، وإذ قد نزل جبريل بعد أن لم يجزع من خيل فرعون فرس واحد، وكان تحت جبريل مهره، وكان تحت فرعون فرس طويل الذنب، فدخل جبريل البحر، فنظر فرس فرعون إلى مهرة جبريل، فاقتحم أثرها البحر، وتبعه أصحابه فغرقوا كلهم، أعني فرعون وجميع أصحابه، وانطبق البحر عليهم، وصار موسى إلى التيه.
وجعل بنو إسرائيل يستعجلونه ليدخل إلى الأرض المقدسة، فأوحى الله إلى موسى أنها محرمة عليهم أربعين سنة، فأقاموا في التيه، واشتد بهم العطش، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فقام موسى مغضبا، فضرب الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين يشربون منها، فأوحى الله إلى موسى أنك ضربت الحجر قبل أن تقدسني، ولم تذكر اسمي، وأنت أيضاً فلا تخرج من التيه، وأمره أن يبني فيه قبة الزمان، ويجعل فيها الهيكل، ويجعل في الهيكل تابوت السكينة، ويكون هارون كاهن ذلك الهيكل الذي لا يدخله غيره، فجمع غزول نساء بني إسرائيل، فنسجت، وجمع الحلي، وعمل سرادقا طوله مائة ذراع في صدره الهيكل وفي صدر الهيكل تابوت السكينة.

وكان عمله ذلك في السنة الثانية من خروجه من مصر، وجعل فيه مائدة من ذهب، وجعل للقبة أجراس ذهب، وكلل القبة بالجوهر، وجعل فيها مجمرة ذهب للدخنة، وجعل فيها منارة ذهب مكللة بالجوهر، فكان هارون وحده يدخل القبة ويقدس الله، وموسى على الستر، وسائر بني إسرائيل في السرادق. وكانت غمامة تجلل القبة، ولا تبرحها، وأمرهم الله أن يقربوا قربانهم، وقال لموسى: قل لبني إسرائيل يقربون قربانا سليماً من العيوب من البقر والغنم، ويجعلون شحم القربان، على المذبح، وينضحون الدم أيضاً عليه، وما كان من القربان فهو حل لبني هارون خاصة، حرام على غيرهم، ومن أذنب منهم ذنباً، فليقرب قرباناً لله عند المذبح على قدر ما يجد بقراً، أو غنماً، أو شفنينين، أو فرخي حمام.
فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن يكتب العشر الآيات في لوحي زمرد، فكتبها على ما أمره الله، وهذه العشر الآيات: قال الله: إني أنا الرب الذي أخرجتك من أرض بيت الرق والعبودية، و لا يكون لك إله آخر دوني، ولا تتخذ تمثالاً، ولا صنماً مشبها بي من فوق السماء، ولا تحت الأرض، ولا تسجد لها، ولا تعبدها من أجل أنا الرب الملك القاهر قاضي ديون الآباء عن الأبناء، نقمي على الثلاث والرباع لمبغضي، وأصنع نعمي لمحبي وحافظ وصيتي إلى ألوف الآلاف من المحبين لي، الحافظين لوصيتي.
لا تحلف باسم الرب كاذبا لأن الله لا يزكي من حلف باسمه كاذباً. واذكر يوم السبت لتطهره، اعمل ستة أيام، واسع في أعمالك كلها، واليوم السابع سبت الرب إلهك لا تعمل فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك و أمتك ونعمك وبهائمك والساكن في قراك، لأنه في ستة أيام خلق الله السماء و الأرض والنجوم وجميع ما فرع في السماء، فلهذا بارك الله اليوم السابع وطهره.
وأكرم أباك وأمك لتطول أيامك في الأرض التي أعطاكها الرب إلهك. ولا تقتل.
ولا تزن.
ولا تسرق.
ولا تشهد على صاحبك شهادة كاذبة.
ولا تشته بيت صاحبك ولا زوجة صاحبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً من مال صاحبك.
وصعد موسى طور سيناء فأقام أربعين يوماً، فكتب التوراة، فاستبطأه بنو إسرائيل. فقالوا لهارون: إن موسى قد ذهب، ولا نظنه يرجع، ثم عمدوا إلى حلي نسائهم، فعملوا منها عجلا مجوفا، وكانت الريح تدخله فتخور فيه، فقال الله لموسى: إن بني إسرائيل قد اتخذوا عجلاً وعبدوه من دوني: فدعني أهلكهم. فدعا لهم موسى، وقال يا رب! احفظ فيهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تشمت بهم أهل مصر.
وهبط موسى من الجبل بعد أربعين يوماً، فلما رأى العجل ورآهم عكوفاً عليه، اشتد غضبه، فألقى الألواح، فكسرها، وأخذ برأس أخيه هارون، فنظر إلى العجل يخور، فكسره وسحقه، حتى صيره كالتراب، وذرأه في الماء، وقال لبني لاوي: جردوا سيوفكم واقتلوا من قدرتم عليه ممن عبد العجل! فجرد بنو لاوي سيوفهم، وقتلوا في ساعة واحدة خلقاً عظيماً، وقال الله لهم: أبيدوا من اتخذ إلها غيري. وأمر الله موسى أن يعد بني إسرائيل، ويجعل على كل سبط رجلاً خيراً، فاضلاً، وكان عددهم ممن بلغ العشرين سنة، فما فوقها إلى الستين، ممن يحمل السلاح: ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلاً، وكان عدة إياهم بعد خروجهم من مصر بسنتين، فكان رئيس بني يهوذا نحشون بن عمينذاب، وعدد من معه من سبطه أربعة وسبعون ألفاً وستمائة رجل.
ورئيس بني يشاجر نثنيل بن صوعر، وعدد من معه أربعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل.
ورئيس سبط زبلون الياب بن حيلون، وعدد من معه سبعة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. ورئيس سبط بني روبيل اليصور بن شذياور، وعدد من معه سبعة وأربعون ألفاً وخمسمائة رجل.
ورأس بني شمعون شلوميال بن صوري شذاي، وعدد من معه تسعة وخمسون ألف رجل وثلاثمائة رجل.
ورأس بني كاذ اليسف بن دعوال، وعدد من معه خمسة وأربعون ألفاً وستمائة وخمسون رجلاً.
ورأس بني إفرائيم اليشمع بن عميهوذ، وعدد من معه أربعون ألفاً وخمسمائة رجل. ورأس بني منشا جمليال بن فداصور، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً ومائتا رجل. ورأس بني بنيامين أبيذان بن جذعوني، وعدد من معه خمسة وستون ألفاً وأربعمائة رجل. ورأس بني دان أخيعازر بن عميشذاي، وعدد من معه اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة رجل.

ورأس بني آشر فجعيال بن عنحرن، وعدد من معه أحد وأربعون ألفاً وخمسمائة ورجل. ورأس سبط نفتالي أخيرع بن عينان، وعدد من معه ثلاثة وخمسون ألفاً وأربعمائة رجل. وكان بنو لاوي خدام قبة الزمان وحرسها، فلم يدخلوا معهم، وكانوا مخصوصين بالكرامة والقدس، وخدمة قبة الزمان والتطهير، فهذا عدد بني إسرائيل واسم رئيس كل سبط منهم، وما كان معه من سبط على ما في السفر الرابع من التوراة.
وأمر الله، سبحانه، موسى أن يقول لرؤساء أسباط بني إسرائيل أن يقرب كل عظيم منهم قرباناً فكان قربان، كل رجل منهم صحفة فضة من مائة وثلاثين مثقالاً، ومصفاة فضة من سبعين مثقالاً، وملء الصحفة سميذ ملتوت بدهن، ومدهن ذهب من عشرة مثاقيل مملوءاً طيباً، وثوراً، وكبشاً، وحملاً حولياً، وحولية من المعزى، وكان الذبح الكامل ثورين وخمسة أكبش وخمسة جداء وخمسة حملان حولية.
وأمر الله، عز وجل، موسى أن يقول لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة صفراء مسلمة لا عيب فيها، ثم يأخذ دمها فيرشه على حبال قبة الزمان، ثم يحرقها وجلدها، ثم ليأت رجل آخر، فليجمع الرماد، وليصيره في موضع، فإذا أراد أحد أن يطهر، فليجعل في الماء من ذلك الرماد، فيكون طهوراً.
وأقام موسى وبنو إسرائيل في التيه دهراً، وكان طعامهم المن، وكان المن مثل حب الكسبرة يطحنونه بالأرحاء ويجعلونه أرغفة، فيكون طعامهم طيباً أطيب من كل شيء، وكان ينزل عليهم بالليل، ويجمعونه بالنهار، فضجوا وبكوا، وجعلوا يقولون: من يطعمنا لحماً؟ أما تذكرون ما كنا نأكل بمصر من النون، والقثاء، والبطيخ، والكراث، والبصل، والفوم؟ فاشتد غم موسى لذلك، وجعلوا يقولون: أطعمنا لحماً! فقال موسى: اللهم إني لا أقوى على بني إسرائيل! فأوحى الله إليه أني مطعمكم لحما، فبعث لهم السلوى، وأعلمهم الله أنه يخرجهم إلى الشام، فبعث موسى إلى الشام بيوشع ابن نون وغيره إلى أرض بني كنعان ليأتوه بخبرها، فقالت بنو إسرائيل: لا طاقة لنا بحرب الجبابرة.
وأذن الله لموسى أن ينتقم من أهل مدين، فوجه باثني عشر ألف رجل من بني إسرائيل، فقتلوا جميع أهل مدين، وقتلوا ملوكهم، وكانوا خمسة ملوك، أوى، ورقم، وصور، وحور، وربع، وقتل بلعام بن باعور في الحرب، وكان نبياً، فأشار على ملك مدين أن يوجه بالنساء على عسكر بني إسرائيل، حتى يفسدوهم، فغضب موسى من ذلك، فأمر الله موسى أن يقسم تلك الغنائم بين بني إسرائيل، ويأخذ منهم من كل خمسين واحدا، فيجعله لله يدفعه إلى ولد هارون، ثم أمره الله أن يوجه بني إسرائيل إلى الشام يقاتلون من بها، فوجه جيشاً عظيماً، فجعلوا يسيرون قليلاً قليلاً، وينزلون، ويقولون: إنا نخاف الجبارين فأقاموا بجبل ساعير، فقال الله تعالى لموسى: إن بني إسرائيل عصوا أمري، فليشتروا الطعام بالثمن، وليخضعوا الآن لمن كان يخضع لهم.
وكان ذلك بعد أن قتل موسى سيحون ملك الأموري واستباح أرضه.
ولما كان في سنة الأربعين من مقامهم في التيه، وهي برية سينا، أوحى الله إلى موسى: إني قابض هارون إلي، فاصعد به الجبل لتأتي ملائكتي فتقبض روحه! فأخذ موسى بيد هارون أخيه، فلما صعد به الجبل لم يكن معه إلا اليعازر بن هارون، فلما صار على الجبل إذ سرير عليه ثياب، فقال له موسى: البس يا أخي هذه الثياب المطهرة، التي أعدها الله لك، لتلقاه فيها، فلبسها هارون، ثم تمدد على السرير فمات، وصلى عليه موسى. فلما لم ير بنو إسرائيل هارون. ضجوا، وقالوا: أين هارون؟ قال لهم موسى: قبضه الله إليه، فاضطربوا.
وكان هارون محبباً فيهم، لين الجانب لهم، فرفعه الله لهم على السرير، حتى رأوا وجهه، فعلموا أنه قد مات، وكانت سنو هارون يومئذ مائة وثلاثاً وعشرين سنة، وكان له من الولد أربعة: نادب، وأليهو، واليعازر، وإيتمر، وتوفي في حياته نادب، وأليهو، وبقي اليعازر، وإيتمر.
وصار اليعازر مكان هارون يقدس في قبة الزمان. ودعا موسى يوشع بن نون. وقال له: بين يدي بني إسرائيل سر، وشد قلبك فإنك تدخل ببني إسرائيل إلى أرض بني كنعان التي ورثهم الله، وهذه التوراة ادفعها إلى كهنة بني لاوي، الذين كانوا يقومون بتابوت السكينة، ووقروا مقام الله.

واحفظوا وصاياه، التي بينها لكم في التوراة، وأوصاهم أن يتبعوا ما فيها، وبرك عليهم. وكان مما أوصى الله عز وجل به لبني إسرائيل على لسان موسى أن قال لهم: اذكروا اليوم الذي قمتم فيه قدام الله إذ قال الله لي: اجمع هذا الشعب قدامي، فأسمعهم كلامي ليخشوني أيام حياتهم، فقمتم في أسفل الجبل، والجبل يتوقد ناراً إلى قلب السماء، وكلمني الله من جوف النار، فسمعتم الصوت، ولم تروا الشبه، وأوصاكم الله أن تتعلموا العشر الآيات. وأوصاني أن أعلمكم السنن والقضاء، فتعملوا بذلك في الأرض التي تصيرون إليها، فاحتفظوا بأنفسكم ولا تصنعوا أصناما مما يشبه ذكرا، ولا أنثى، ولا شيئاً مما يدب على الأرض، ولا مما يكون في البحر، ولا ترفعوا رؤوسكم إلى السماء فتعبدوا النجوم! إن الله قد أقسم لا أدخل الأرض الصالحة، فأنا ميت بهذه الأرض، ولست أعبر الأردن، ولكنكم ستعبرون وتصيرون إلى الأرض الصالحة، التي جعلها الله لكم ميراثاً، فلا تضلوا ميثاق الله ربكم الذي واثقكم به، فتصنعوا الأصنام، ولا تعملوا أعمال السوء قدام إلهكم لو قد صرتم إلى الأرض الصالحة، فتوشكوا، إن عصيتم أن تهلكوا، وتفرقوا بين الشعوب، وإن عبدتم ما تعمله أيدي البشر من خشب وحجارة لا يبصرون، وتدعون، فلا يسمع لكم دعاء، إن الله الرحيم بكم يسمع أصواتكم، وإن من سمع من الله مثل الذي سمعتم، ورأى مثل الذي رأيتم، لا ينبغي أن يعصي الله، لقد رأيتم ما صنع الله بأهل مصر، وأنتم تنظرون، فإن الله هو الرب الذي ليس غيره، الذي بصركم ناره، وأسمعكم صوته، وأحب آباءكم فاجتبى خلوفهم، وأهلك لكم قوماً كانوا أعظم وأشد منكم، وإن الله سيدخلكم الأرض الصالحة، ويجعلها ميراثاً لكم، فاحفظوا سننه التي أوصاكم بها وأمركم بها ليحسن إليكم وإلى خلفكم من بعدكم، ويكثر أيامكم في الأرض، اقبلوا وصية الله التي أمركم بها لا تزيغوا عنها يميناً ولا شمالاً، واسلكوا كل طريق أوصاكم بها ربكم ليحسن إليكم. أحبوا الله من كل قلوبكم ومن همكم ومالكم، وقصوهن على أولادكم، وأتموها، واتلوها في بيوتكم، اجعلوها علامة بين أعينكم، واكتبوها في منازلكم، إن الله سيعطيكم قرى عظاماً لم تبنوها، وبيوتاً مملوءة من الخير لم تملأوها، وآباراً مطوية لم تحفروها، وكروماً، وزيتوناً لم تغرسوها، فلا تنسوا الله، واخشوه، واعبدوه، واحلفوا باسمه، ولا تتبعوا إلهاً آخر.
احذروا غضب الله الذي يبيدكم عن وجه الأرض، ولا تخونوا الله، واقبلوا أمره، واعملوا خيراً وصدقاً.
اذكروا إذ كنتم عبيدا لفرعون، فأخرجكم الله بيد شديدة، وآيات معجزات عظام ساقت فرعون وأصحابه إلى الهلكة، وأنتم تنظرون.
إن الله يقول لكم سأعطيكم البلاد الصالحة وأقدركم على الأمم التي بين أيديكم، وأظفركم بالجبارين، والجرشيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرازيين، والحوبيين، والنابلسيين، هؤلاء السبع الأمم الذين هم أكثر منكم وأشد، فإذا ظفركم الله بهم، فاضربوهم، وارجموهم، ولا ترحموهم، ولا تعطوهم ميثاقاً، ولا تنكحوهم بناتكم لكيلا يكونوا لكم عثرة، فيزيغون أولادكم عني، فيعبدون إلها غيري، فيشتد عليكم غضبي، فأبيدكم عاجلاً، ولكن اكسروا أصنامهم، واعقروا مذابحهم، واهدموا أنساكهم، وأوقدوها! إنكم إن سمعتم وصيتي، وعملتم بقضاياي، فسأحفظ لكم نعمكم والميثاق الذي واثقت آباءكم، وأكثركم، وأثمر زرعكم وماشيتكم.
اجعلوا لله نصيباً في أموالكم، فواسوا منه اليتيم، والأرملة، والمسكين، والضعيف، والساكن معكم الذي لا زرع له.
إذا قضيتم بين اثنين، فاعدلوا، ولا تأخذوا الرشا، فإن الرشوة تعمي عيون الحكام، ولا تغرسوا شجرة عند مذبح، ولا تذبحوا قربانا فيه عيب من ثور ولا كبش، واقتلوا من يعمل الأصنام التي تعبد من دون الله، وإذا بلغكم أن أحداً يسجد للشمس والقمر والنجوم، أو شيء من الأنوار، فافحصوا عنه، فإذا علمتم صحته، فارجموه بالحجارة حتى يموت. ولا تقبلوا في الأحكام الموجبة للقتل شهادة واحد، ولكن شهادة شاهدين، أو ثلاثة، وإذا شهد الشهود على من يجب عليه القتل، فليبد الشهود فليبسطوا أيديهم إلى الذي يقتل، فإذا أشكل عليكم الحكم، فارجعوا إلى الأحبار والكهان.

ومن قتل رجلا خطأ، ولم يرده، فليفر من ولي الدم حتى لا يدركه. ولا تسفكوا دم بريء، أيما رجل قتل رجلاً بريئاً تعمداً، فليقتل، ولا تقتلوا أحداً حتى تقوم عليه شهادة عند الحبر، والقاضي، فإن وقف القاضي على أن أحدا شهد بزور فعل بالشاهد ما أراد أن يفعله بالمشهود عليه، والنفس بالنفس، والعين بالعين، واليد باليد، والرجل بالرجل.
وإذا أردتم قتال قوم فأتيتم قريتهم، فأدعوهم إلى السلم، فإن أجابوكم، فاجعلوا عليهم ضريبة، فإن لم يسلموا قتلتم كل من يحمل السلاح، و لا تفسدوا شجرها.
وقال الله عز وجل لموسى: إذا خرجت لقتال عدوك، فأمكنك الله منهم، فرأيت في السبي امرأة، وأحببت أن تتخذها لنفسك، فأدخلها إلى بيتك، واكشف عن رأسها، وقص أظفارها، وانزع عنها ثيابها التي سبيت فيها، وأقعدها في بيتك ثلاثة أشهر تبكي على أبيها وأمها، ثم استحلها، فإن كرهتها بعد أن تمسها، فأخرجها، ولا تبعها، ولا تأخذ لها ثمنا بعد أن وقعت عليها.
وأيما ابن عصى أباه، ولم يطعه، ولم يقبل أمره، فليخرجه أبوه إلى شيوخ سبعة، فيرجموه حتى يذهب الشر والفظيعة منكم، ويحذر أمثاله من بني إسرائيل.
وإذا وجد أحد منكم ضالة قد ضلت من صاحبها من نعجة، أو ثور، أو حمار، فليردها على صاحبها، فإن لم يجده، فليحبسها في بيته حتى يحضر صاحبها.
ولا تلبسوا ثوباً منسوجاً بقطن وصوف جميعاً، واصنعوا خيوطاً في أطراف أكسيتكم.
وأيما رجل قذف امرأته ورماها بفجور، فلم يصح عليها، فليغرم مائة درهم، وتكون امرأته آخر الدهر، وإن كان ما قذفها به حقاً، فلترجم، وأيما رجل وجد يزني بامرأة لها زوج فليقتلا كلاهما.
وأيما رجل غلب امرأة على نفسها، فليقتل الرجل، وأي رجل وقع على جارية تكون في حجر أبيها، فافتضها، وأحبها، فليعط أباها خمسين مثقالاً فضة، ولتكن امرأته آخر الدهر، ولا يخل سبيلها.
ولا يحل لرجل أن يمس امرأة قد مسها أبوه، ولا ينظر إلى عورتها، ولا يدخل الرجل الجنب مسجداً من مساجد الله ولا تأكلوا ربا لفضة، ولا ذهب، وإذا نذرتم نذراً، فلا تؤخروا قضاءه، وأوفوا بالعهد، إذا عاهدتم، ولا تنقضوا العهد، فإن الله يحب من وفى بعهده.
اعتزلوا من كان به برص، وتباعدوا منه، ولا تحبسوا أجر الأجير، ولا تأخذوا أبا بذنب ابنه، ولا ابنا بذنب أبيه، وأدوا زكاة أموالكم وثمراتكم إلى الحبر قرباناً، وأعطوا الفقراء، والأرامل، واليتامى، والمساكين، وبني السبيل.
وإذا دخلتم الأرض الصالحة، فاعملوا مذبحاً للقدس من حجارة مستوية، فليقل أحبار بني إسرائيل: ملعون من يضل الأعمى عن الطريق.
ملعون من يحيف في القضاء على المساكين، واليتيم، والأرملة.
ملعون من يضاجع امرأة أبيه.
ملعون من يضاجع دابة.
ملعون من يضاجع أخته وأمه.
ملعون من يضاجع أم امرأته.
ملعون من يأكل لحم أخيه سراً.
ملعون من يأخذ رشوة في قتل نفس زكية ظلماً.
ملعون كل من لم يعمل بوصية الله.
ثم قال لهم موسى: قد بلغتكم وصايا الله، وعرفتكم أمره، فاتبعوا ذلك، واعملوا به، فقد أتت لي مائة وعشرون سنة، وقد حانت وفاتي، وهذا يوشع ابن نون القيم فيكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإنه يقضي بينكم بالحق، وملعون من خالفه وعصاه.
وكانت بين وفاة هارون إلى أن حضرت موسى الوفاة سبعة أشهر، ثم صعد موسى إلى جبل نابون، فنظر إلى الشام، وقال الله له: هذه الأرض التي ضمنت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب أن أعطيها خلفهم، و قد أريتكها بعينك، ولكنك لن تدخلها! فمات موسى في ذلك الموضع، فقبره يوشع بن نون، ولم يدر أين قبره.
أنبياء بني إسرائيل وملوكهم بعد موسىوكان موسى لما حضرته وفاته أمره الله، عز وجل، أن يدخل يوشع بن نون، وكان يوشع بن نون من شعب يوسف بن يعقوب، إلى قبة الزمان، فيقدس عليه، ويضع يده على جسده لتتحول فيه بركته، ويوصيه أن يقوم بعده في بني إسرائيل، ففعل موسى ذلك، فلما مات موسى قام يوشع بعده في بني إسرائيل، ثم خرج من التيه بعد وفاة موسى بيوم، وقال بعض أهل الكتاب: ثلاثين يوماً، وصار إلى الشام، و فيها الجبابرة، ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وكان أول من ملك منهم السميدع بن هوبر، فصار من أرض تهامة إلى الشام يريد غزو بني إسرائيل، فوجه إليه يوشع بن نون من قتله، ثم قام بعده من بني أبيه جماعة، فقتلهم يوشع.

وسار يوشع حتى انتهى إلى البلقاء، فلقي رجلا يقال له بالق، وبه سميت البلقاء، فجعلوا يخرجون يقاتلونه، فلا يقتل منهم رجلا واحدا، فسأل عن ذلك: فقيل له: إن في مدينته امرأة منجمة تستقبل الشمس بفرجها: ثم تحسب، فإذا فرغت عرضت عليها الحيل، فلا يخرج يومئذ من حضر أجله، فصلى يوشع ركعتين، ثم دعا أن يؤخر الله الشمس ساعة، فأخرت له ساعة، فاختلط عليها حسابها، فقالت لبالق: انظر ما كانوا يسألونك، فأعطهم، فإن حسابي قد اختلط على! قال: تصفحي آلتك، واخرجي منها، فإنه لا يكون صلح إلا بقتال! فتصفحت الحيل على غير علم منها لاختلاط الأمر عليها، فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم، فسألوا يوشع الصلح، فأبى عليهم، حتى يدفعوا إليه المرأة، فقال بالق: لا أدفعها! فقالت: ادفعني إليه! فدفعها إليه، وصالح، فقالت له: هل تجد فيما أنزل على صاحبك قتل النساء؟ قال لا! قالت: فإني قد دخلت في دينك. قال: فاسكني في مدينة أخرى فأنزلها مدينة أخرى.
ولما افتتح يوشع بن نون البلقاء أكثر بنو إسرائيل الزنا، وشرب الخمور، ووقعوا على النساء، وكثرت فيهم الفاحشة، فعظم ذلك على يوشع بن نون وخوفهم الله، وحذرهم سطوته، فلم يحذروا، فأوحى الله، عز وجل، إلى يوشع بن نون: إن شئت سلطت عليهم عدوهم، وإن شئت أهلكتهم بالسنين، وإن شئت بموت حثيث عجلان. فقال: هم بنو إسرائيل، ولا أحب أن تسلط عليهم عدوهم، ولا يهلكوا بالسنين، ولكن بموت حثيث. فوقع فيهم الطاعون فمات في وقت واحد سبعون ألفاً.
وكانت أيام يوشع في بني إسرائيل، بعد موسى بن عمران، سبعاً وعشرين سنة.
ثم كان على بني إسرائيل بعد يوشع بن نون دوشان الكفري، فلبث فيهم ثماني سنين، ثم كان بعد دوشان عثنايل بن قنز، أخي كالب، من سبط يهوذا ابن يعقوب، أربعين سنة، وقد كان كثر ظلم بني إسرائيل وعتوهم، فسلط الله عليهم كوشان جبار مؤاب، فلما ملك عثنايل قتل كوش، وملك أربعين سنة.
ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم عقلون ملك مؤاب، خمس عشرة سنة، ثم تابوا، فبعث الله لهم رجلا يقال له أهود بن جيرا، من سبط إفرائيم، فقتل عقلون ملك مؤاب، وكان يقاتل بشماله ويمينه، فسموه ذا اليمينين، وهو أول من طبع السيوف ذوات الحدين، وكانت قبله ذوات أقفية، وفي زمانه بنيت البنية بالشام، وفي خمس وعشرين سنة من ملك أهود تم الألف الرابع.
ثم ارتدت بنو إسرائيل بعد أهود، فسلط الله عليهم يابين ملك كنعان، عشرين سنة، وكان سمحر بن عانات قد ملك على بني إسرائيل قبل، فقتل من أهل فلسطين ستمائة رجل، ثم إن الله رحمهم، فبعث إليهم رجلاً يقال له بارق بن أبينعم، من سبط نفتالي، فملكهم أربعين سنة.
ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم أهل مدين سبع سنين، ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث إليهم رجلا يقال له جدعان بن يواس، من سبط منشى، وكان صالحاً، وهو الذي بيت أهل مدين، فقتل منهم مائتي ألف وخمسة وثمانين ألفاً، وملكهم أربعين سنة، ثم ملك بعده ابنه ابيملك بن جدعون، وكان ابن سوء، وهو الذي قتل سبعين أخا كانوا له، فقتلته امرأة، ورمته بحجر من فوق باب المدينة، فشدخته، وكان ملكه ثلاث سنين.
ثم ملك تالع بن فواي، من سبط يشاجر، فأقام ثلاثاً وعشرين سنة، ثم ملك جلعاد من سبط منشى، وكان له ثلاثون ابناً يركبون معه على ثلاثين مهراً، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، ثم ارتدت بنو إسرائيل إلى الكفر، فسلط الله عليهم بني عمون، سبع عشرة سنة، وفي زمانه بنيت مدينة صور بالشام، وسامهم سوء العذاب.
ثم إن الله تعالى رحمهم، فبعث لهم رجلاً من أهل جلعاد اسمه يفتح، فقتل من بني إسرائيل من آل إفرائيم اثنين وأربعين ألفاً، وكان من سبط منشى، وكان ملكه ست سنين، ثم كان عليهم أبيصان الذي يدعى نخشون، سبع سنين، ثم كان عليهم إيلان، من سبط زبولون، عشرين سنة، ثم كان عليهم عكران ثماني سنين، ثم كان عليهم الانكساس، فسامهم سوء العذاب، وسلط عليهم أشد التسليط، أربعين سنة، ثم كان عليهم شمسون عشرين سنة، ثم لبثوا ليس عليهم أحد اثنتي عشرة سنة، ثم كان عليهم عالي الأحباري أربعين سنة.

ثم كان عليهم شمويل النبي، وهو الذي ذكره الله تعالى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فلما قالوا لشمويل النبي: سل الله أن يبعث لنا ملكاً حتى يقاتل عدوه، وقال: إنه لا وفاء لكم، ولا صدق نية، وقالوا: بلى! قال: فإن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، واسمه شاول، قالوا: والله ما هو من سبط الملك والنبوة، ما هو من ولد لاوي، ولا يهوذا، وإنما هو من سبط بنيامين. قال شمويل: فليس لكم أن تختاروا على الله، فدعا شمويل شاول، وهو طالوت، فقال له: إن الرب أمرني أن أبعثك ملكاً على بني إسرائيل، والله يأمرك أن تنتقم من عمليق، فأهلك عمليق وكل ما له، ولا تبق له شيئاً من رجل، ولا امرأة، ولا صبي رضيع، ولا عجل، ولا شاة، ولا بعير، ولا حمار.
وأوصى الجماعة كلها بهذا، وكان عددهم أربعمائة ألف مقاتل، فأقبل شاول إلى عمليق، فقتل أصحاب عمليق، وأسر أغاغ ملك العمالقة، فأخذه حيا، فاستبقاه، وامتنعوا من إتلاف شيء من البقر، والغنم، وأبقوا لأنفسهم، فأوحى الله تعالى إلى شمويل: أن شاول عصاني، ولم يهلك عمليق، وكل ما حواه ملكه. فقال شمويل لشاول: إن الله قد غضب من فعلك! فدعا شاول باغاغ، فقال: ما أمر الموت؟ قال: الذبح! فذبحه، ثم قال شاول لشمويل: امض معي لنسجد بين يدي الله تعالى، فامتنع، فأمسك رداء شمويل فخرقه، فقال شمويل: كذا ينخرق ملكك.
وارتفعت النصرة عن شاول، ودخلته ريح سوء، وكان يضطرب، ويتغير لونه، فقال له أصحابه: لو أتيت بإنسان حسن الصوت، من الشعارير، يقرأ عليك، إذا دخلتك هذه الريح السوء! فأرسل إلى إيشا: ابعث إلى داود ابنك، فبعث به إليه، فكان إذا خنق شاول أخذ داود قيثارة بيده، وتكلم عليها، فيذهب عنه الريح السوء. ثم اجتمع الحنفاء الذين كانوا في وقت شاول، فقاتلهم، وهم عبدة النجوم، وخرج إليهم شاول في جموعه، فخرج منهم رجل طوله خمس أذرع يقال له غلياث، وهو جالوت، فقال: يبرز لي منكم رجل واحد، فقال داود لشاول: أنا أبرز إليه! فقال لداود: انطلق، والرب يكون معك! فأخذ عصا وخمسة أحجار، وخرج إلى غلياث، فلما رآه احتقره، فقال له: إلى كلب خرجت بعصا وحجر؟ فقال له: إلى أشد من الكلب، ثم أخذ حجراً من مخلاته ورماه به حتى غاب الحجر في جبهة جالوت، وسقط، فسعى إليه داود، فأخذ سيفه، وحز رأسه، وأخذ راجعاً، فانهزم عسكر غلياث، واشتد سرور بني يهوذا، فاغتم شاول وحسد داود، فطرده عنه، وصيره رئيسا على ألف، ونفاه بمكان بني يهوذا، وتزوج ميخل بنت شاول.
وكان شاول يريد قتل داود، فكان يوجهه يقاتل الحنفاء عبدة النجوم، فيفتح الله عليه، فهم أن يقتله بغير حيلة، فهرب داود، فجاء إلى شمويل النبي، فخبره بخبر شاول، ولم يزل شاول يحاول قتل داود حتى هرب، فمر باخيش ملك جات، فلما رآه عرفه، فتحيل عليه داود حتى أطلقه، فصار إلى سارع، فنزلها. ولما علم شاول أنه قد فاته قتل الكهنة الذين كانوا يقدسون، وقال: قد علمتم به ولم تخبروني، ثم خرج شاول في طلب داود، حتى أدركه، فدخل داود مغارة، فلما صار شاول عند المغارة نزل لحاجته، فدخل المغارة، وهو لا يعلم أن داود فيها، فقام داود، فتوارى، فقال له أصحابه: يا داود أقتله! فقد أمكنك الله منه. قال: ما كنت لأفعل.
وتوفي شمويل النبي، فاجتمعت بنو إسرائيل، وأعظموا ذلك، وناحوا عليه ثلاثين يوماً. وخرج شاول يقاتل الحنفاء، والتحم القتال بينهم، فهزموا بني إسرائيل، وقتل منهم خلق عظيم، وكان داود بن إيشا يقاتل العماليق مع قومه من ولد يهوذا، فلما انهزم عن شاول جميع بني إسرائيل، قام هو وولده يحارب، ثم قال لصاحبه الذي يحمل سلاحه: خذ سيفك فاقتلني به لئلا يقتلني هؤلاء القلف، و يلعبوا بي، فلم يفعل، فأخذ شاول سيفه، فأقامه، ثم ألقى نفسه عليه، فمات، وقتل أولاده الثلاثة، وكان ملك شاول أربعين سنة.
داود

ولما مات شاول، وهو طالوت، انصرف داود من قتال عمليق إلى سقلاغ، فأقام بها يومين، ثم أتاه الخبر بموت شاول، فحزن لذلك، وأظهر جزعاً، وملك داود على بني يهوذا، وكان لداود عدة نسوة قد ولدن منه أولاداً، فكان أكبر أولاده: أمنون، وأمه شيتموم، والثاني دالويا بن إربيخايل، والثالث أباشلوم بن موخا، والرابع أرنيا بن دحات، والخامس سفاطيا بن ابيطال، والسادس ناتان بن اغلا، فهؤلاء الستة من ست نسوة، و لم تلد ميخل بنت شاول، فهربت من داود إلى أصحاب شاول.
واجتمعت بنو إسرائيل من الأسباط على تمليك داود، فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة، إلى أن ملكته جميع أسباط بني إسرائيل. ونزل داود مدينة صيون، وهي بيت المقدس، وبنى بها منزلاً، وتزوج النساء، فولد له بعد أن ملك: سمون، وسوباب، ونوتان، وسلامان، ويابار، واليشوس، ونافاق، ويافيا، واليشماس، والسنايا، واليفلات، فكثر أولاد داود، وعز ملكه، وأعظمته بنو إسرائيل.
وسمع الحنفاء أن داود قد ملك على بني إسرائيل، واجتمعوا لقتاله، فقاتلهم داود، فقتل فيهم قتلا كثيراً، حتى أبادهم، فلما فرغ من قتالهم حمل تابوت السكينة على عجل، حتى أدخله مدينة بيت المقدس، وصنع طعاماً لبني إسرائيل، لرجالهم ونسائهم.
وكان في ذلك العصر ناتان النبي، فأوحى الله إلى ناتان: قل لعبدي داود: ابن لي بيتاً، فقد ملكتك على بني إسرائيل، بعد أن كنت في صيرة الغنم، و قتلت أعداءك، فقال ناتان النبي لداود، فعظم في قلب داود، ويقال: إن ناتان كان ابن داود.
وقاتل داود الحنفاء فهزمهم، وقاتل أهل مؤاب وهزمهم، وقاتل اددازار ملك سوبا فهزمه، وأخذ له ألف مركب وسبعة آلاف من الخيل.
واجتمع أهل الشام ودمشق مع اددازار ليقاتلوا داود، فقتل منهم اثنين وعشرين ألفا، واستحوذ على الأرض، فكان أهل الشأم جميعاً عبيداً له، ثم اجتمعوا جميعاً على محاربة داود، فوجه إليهم يؤاب ابن أخته، وابيشا أخاه، ثم خرج داود حتى عبر نهر الأردن، فقتل من القوم أربعين ألفاً، وقتل أشان رأس القوم ثم وجه يؤاب ابن أخته لقتال بني عمون إلى أسافل الشأم، ورجع إلى بيت المقدس، فقام يمشي على سطح له إذ نظر إلى برسبا بنت إليات، امرأة أوريا بن حنان الشطي، فسأل عنها، فأخبر بحالها، وأنها امرأة أوريا بن حنان، فوقعت في قلبه، فأرسل إلى أوريا بن حنان، فأقدمه عليه، ثم كتب إلى يؤاب ابن أخته أن قدم أوريا أمام الخيل يحارب، فقدمه يؤاب، فقاتل، فقتل.
وأرسل داود إلى امرأته، فتزوجها وأحبلها، فأرسل الله إليه الملكين، على ما قص في كتابه جل وعز، وأرسل إليه ناتان النبي فقال له، يا داود، ألم يأمرك الله أن تعدل في القضاء، وتحكم بالحق، ولا تتبع الهوى؟ قال: بلى! قال: فهذان رجلان يسكنان مدينة واحدة أحدهما غني والآخر فقير، وكان للغني مواش وبقر كثيرة، ولم يكن للفقير شيء إلا رخلة واحدة صغيرة رباها، فشبت معه ومع أولاده، فكانت تأكل من طعامه، وتشرب من كأسه، وتنام في حجره. ونزل بالغني ضيف، فلم يأخذ من بقره وغنمه شيئاً، وأخذ رخلة الفقير، فهيأها لضيفه، فغضب داود، وقال: أهل أن يموت، ويغرم بتلك الرخلة سبعة أضعاف. فقال ناتان النبي لداود: أنت الرجل الذي فعلت هذا! إن الرب إلهك يقول لك: أنا الذي جعلتك ملكاً على بني إسرائيل، بعد أن كنت راعي غنم، وأنقذتك من يدي شاول، وأعطيتك بيت إسرائيل، وبيت يهوذا، ففعلت هذا، فلأنتقمن منك بشر ولدك، ولأسلطنه عليك وعلى نسائك! فعظم ذلك على داود، فقال له ناتان: إن الله قد تجاوز عن سبيلك، فلن تموت، ولكنه ينتقم منك بشر بنيك، وأعلمه الله أن ولده الذي ولدته المرأة يموت، فجزع داود، واشتد جزعه، واشتكى الصبي، فلما اشتدت علته صام وقام ليصلي ويبكي، ويتمرغ بالشعر على الأرض، فلما توفي الصبي أعظم خول داود أن يخبروه بذلك، حتى سمع بوشوشتهم، فعلم، فغسل وجهه، ولبس ثيابه، وجلس في مجلسه، ودعا بطعامه، وقال: إنما كنت أحزن قبل أن يهلك: فأما الساعة، فإن حزني لا يرده إلي بل أنا أذهب إليه. ثم واقع برسبا، فحملت غلاماً، فسماه سليمان.

ثم إن أبيشالوم بن داود قتل أخاه أمنون، وذلك أنه اتهمه بأخت له من أمه، فقتله، وخرج على داود، وكان أبيشالوم عظيم الجسم، كثير الشعر، فبعث إليه داود من رده حتى رجع، ثم خرج عليه ثانية، فهرب منه داود ماشياً على رجليه، حتى صعد عقبة طور سينا، وبلغ منه الجوع حتى لحقه رجل معه خبز وزيت، فأكل منه، ودخل أبيشالوم مدينة أبيه، وصار إلى داره وأخذ سراري أبيه، فوطئهن، وقال: ملكني الله على بني إسرائيل، وخرج ومعه اثنا عشر ألفاً، فطلب داود ليقتله، فهرب داود حتى جاز نهر الأردن، فلما جاز اجتمع إليه جماعة من أصحابه ولفيف من القرى، فوجه يؤاب ولده ليحارب أبيشالوم، وقال له: خذه لي حياً صحيحاً! فخرجوا، وحاربوه، وكان أبيشالوم على بغل، فدخل تحت شجرة بطم، فتعلق بها، فاندقت عنقه، ورماه يؤاب بثلاثة أسهم، وطرحه في جب، فلما أتى داود الخبر جزع عليه جزعاً شديداً، ورجع داود إلى موضعه.
وخرج على داود بعد ذلك أزلا، ومعه جبابرة، فحاربهم، فقتلهم، فلما قتلهم، وأنقذه الله منهم، قام يقدس الله ويسبحه، فقال في تقديسه: إياك يا رب أعبد، ولك أخلص محبتي، فإنك قوتي وعدتي، وملجأي و مخلصي، بعد أن أحاطت بي سكرات الموت، وقربت مني، واحتوت على أحداث الهلكة، فدعوتك في ضيقي واستعنت بك يا إلهي، فسمعت صوتي فاستنقذتني من الذين اعتوروني واضطهدوني، وكنت ناصري، فأخرجتني من الضيق إلى الفرج، فما أعدلك يا رب، وأنصرك للمتوكلين عليك، لأنه لا رب غيرك، فألهمني القوة، وبصرني طريق الرشد، وثبت قدمي بين يديك، وشدد ساعدي، ولا تقدر على أعدائي، وهب لي طاعة بني إسرائيل، وصيرهم خولاً خاضعين، وألهمني شكرك.
وكان داود إذا سبح الله بهذا الكلام رفع صوتاً حسناً لم يسمع مثله، وكان إذا قرأ الزبور قال: طوبى لرجل في سبيل الأثمة لم يسلك، وفي مجالس المستهزئين لم يجلس، ولكن هواه سنة الله، وبسننه تعلم الليل والنهار، يكون كشجرة غرست على شط الماء، تؤتي أكلها كل حين، ولا يتناثر ورقها، وليس كذلك المنافقون في القضاء، ولا الخاطئون في مجمع الأبرار، من أجل أن الله يعلم سبيل الأبرار وسبيل الأئمة يبطل.
ثم يقول: سبح لله من في السماء، وليسبحه من في العلى، ولتسبحه ملائكته كلها، ولتسبحه جنوده كلها، ولتسبح له الشمس والقمر، ولتسبح له الكواكب والنور، وليسبح لاسم ربنا الماء الذي فوق السماء، وذلك بأنه قال لكل شيء: كن فكان، وهو خلق كل شيء وبرأه، وجعلهن دائمات الأبد، وقدر كل شيء منهن تقديراً، وجعل لهن حداً ومنتهى لا يجاوزنه، فليسبح الله من في الأرض، والنار، والبرد، والثلج، والجليد، فإنه خلق الريح العاصف بكلمته.
سبحوا الله تسبيحاً حديثاً في مسجد الصديقين، وليفرح إسرائيل بخالقه، وأن بني صيون يكبرون ربكم، ويسبحون اسمه بالدف، والطبل، والكبر، يكبرونه من أجل أن يسر الله بشريعته، ويعطي المساكين النصر، ليشيد الصديقون بالكرامة، ويسبحون على أسرتهم، ويكبرون الله على حناجرهم، وسيف ذو شفيرتين بأيديهم، لينتصروا على الشعوب ويتعظ الأمم فيوثقوا ملوكهم في القيود، وذوي الكرامة بسلاسل من حديد، ليفعل بهم القضاء الذي كتب، والحمد لله لكل الصديقين.
سبحوه في مقدسة، سبحوه في سماء عزته، سبحوه بحوله وقوته، سبحوه بعظمته، سبحوه بصوت العزف، سبحوه بالقيتار والكبر، سبحوه بالبرابط والزمر، سبحوه بالأوتار والكبر الطويل الخليلات، سبحوه في صلاصل السمع، سبحوه بالأصوات العلى والنداء، سبحوا ربنا تسبيحاً خالصاً، كل نفس بنفس. ثم يقول داود في آخر الزبور: إني كنت آخر إخوتي وعبد بيت أبي، وكنت راعي غنم أبي، ويدي تعمل الكبر، وأصابعي تقص المزامير، فمن ذا الذي حدث ربي عني؟ هو ربي، وهو الذي سمع مني وأرسل إلى ملائكته فأنزعني من غنم إخوتي، هم أكبر مني وأحسن، فلم يرضهم ربي، فبعثني للقاء جنود جالوت، فلما رأيته يعبد أصنامه أعطاني النصر عليه، فأخذت سيفه، فقطعت رأسه.

ثم إن بني إسرائيل وقعوا في داود، فاشتد غضب الله عليهم، فأمر الله داود أن يحصي عدد بني إسرائيل، فأحصاهم، فوجدهم ثماني مائة ألف رجل بطل، وعدد بني يهوذا خمسمائة ألف رجل، فبعث الله حيرام النبي إلى داود، وقال له: قل لداود اختر واحدة من ثلاث: إما أن يكون جوع سبع سنين، وإما أن تدفع إلى أعدائك فيعزونك ثلاثة أشهر، ويطرحونك من سلطانك، وإما أن يكون موت شديد ثلاثة أيام؟ فضاق داود لذلك، وقال: ربنا أولى بنا من خلقه! فسلط الله عليهم الموت، فمات في ساعة واحدة سبعون ألف رجل، فقال داود: يا رب! إني أنا أسأت، فما ذنب هؤلاء الذين يشبهون البهائم؟ فأوحى الله إليه: أن ابن لي هيكلاً في بيدر اليبوساني، فصعد داود الجبل، حتى اشترى البيدر بخمسين أستاراً، وابتنى هناك مذبحا، فكف الموت عن بني إسرائيل.
وكان داود قد أسن وضعف بدنه، وكان له ابن يقال له أدونياس، فاستمال يؤاب صاحب حروب داود وقوماً من قواد داود، وقال لهم: قد كبر الملك داود، وأنا أولى أن أقوم مقامه، فلما بلغ داود ذلك أرسل إلى سادوق الكاهن وناتان النبي، وقال لهم: أجمعوا أهل المملكة، واحملوا سليمان ابني على بغلتي، وأجلسوه على منبري، فقد جعله الله رأساً على بني إسرائيل، والله يعظم ملكه، ويرفع شأنه! فمضوا مع سليمان حتى علا منبر داود، واجتمع عليه أهل المملكة، فقال داود: هكذا أعلمني الله أن يملك سليمان ابني، وعيناي تنظران إليه، وكان سليمان يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة.
ثم اشتدت على داود علته، فأوصى سليمان، وقال: أنا ماض في سبيل كل أهل الأرض، لا ثمان، فاعمل بوصايا الرب إلهك، واحفظ مواثيقه وعهوده ووصاياه التي في التوراة المنزلة على موسى بن عمران، ومات داود وله مائة وعشرون سنة، وكان ملكه أربعين سنة.
سليمان بن داودولما قبض الله، عز وجل، داود قام مكانه سليمان نبياً، وملكاً، فسخر الله له الجن والإنس، والرياح والسحاب، والطير والسباع، وآتاه ملكاً عظيماً، كما قص في كتابه العزيز.
ومال يؤاب صاحب حروب داود، وقوم من أصحابه، مع أخوه سليمان، ليفسدوا على سليمان ملكه، فقتلهم سليمان من عند آخرهم، وقتل أدونياس أخاه، فصلح الملك لسليمان، وثبت سلطانه، وتزوج بنت فرعون ملك مصر، ودخل بها في بيت داود.
وجمع سليمان بني إسرائيل ليقرب قربانا، فقرب ألف ذبيحة، فرأى سليمان في ليلة كان الرب يقول له: سل ما أحببت لأعطيك! فقال سليمان: أنت يا رب أنعمت على داود النعمة العظيمة. وصيرت عبدك سليمان ملكا بعده، فأعطني قلباً حكيماً لأحكم بين عبادك بالعدل، وأفهم الخير والشر. فقال الله: لأنك طلبت هذا الأمر، ولم تطلب مالاً، ولم تطلب أنفس أعدائك، ولم تطلب طول العمر لكنك طلبت حكمه تفهم بها الحكم والقضاء. فقد استجبت لك، وأعطيتك قلباً فهيماً، بصيراً إلى الأمر الذي لم يكن لأحد قبلك، ولا يكون بعدك مثلك، وأعطيتك ما لم تطلب من الأموال، والعتاق، والكرامة، وأنت إن سلكت في طريقي، وحفظت شرائعي ووصاياي، كما حفظ داود أبوك، أطيل عمرك، وأعظم أمرك. فكان سليمان يجلس للقضاء، ويحكم بين بني إسرائيل، فيعجبون لحكمه، وعدل قضائه، وقوله، وحسن لفظه، وكان لسليمان قواد، ووزراء، وكتاب، ووكلاء، فكان وزيره زابود بن ناتان، وعلى حروبه بنايا بن بويادع، وخازنه أبيشار، وعلى الخراج أدونيرام بن عبدا، و كان له اثنا عشر وكيلاً على نفقاته يقوم كل وكيل بنفقة شهر، وكانت نفقاته على أسباط بني إسرائيل، وكانت وظيفته كل يوم ثلاثين كراً من الدقيق السميذ، وستين كراً من دقيق الخشكار، وعشرة ثيران معلوفة، وعشرين ثورا، ومائة كبش، وكان له أربعون ألف أرى معلق عليها دوابه، وكان معجبا بالخيل، وقد قص الله من خبره فيها ما قص.
وابتدأ سليمان في بناء بيت المقدس، وقال: إن الله أمر أبي داود أن يبني بيتاً، وإن داود شغل بالحروب، فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبني البيت باسمي، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر وخشب السرو، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة، فأحكمه، ولبسه الخشب من داخل، وجعل الخشب منقوشاً، وجعل له هيكلاً مذهباً، وفيه آلة الذهب، ثم أصعد تابوت السكينة، فجعله في الهيكل، وكان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى.

ولما وضع سليمان تابوت السكينة قام بين يدي الهيكل، وقد اجتمعت جموع بني إسرائيل، فسبح الله وقدسه، وأثنى عليه بآلائه إذ ملكه على بني إسرائيل، وأجرى بناء بيت المقدس على يده، وكان يجتمع إليه بنو إسرائيل، ويقول: تبارك وتعالى الرب الذي وهب الراحة لإسرائيل، وتمت كلماته الصالحة، فلم يسقط شيء منها مما قاله لعبده موسى، ونسأل الله ربنا أن يكون معنا كما كان مع آبائنا، ولا يرفضنا، ولا يخذلنا، بل يقبل بقلوبنا إليه لنسلك الطريق التي يرضاها، ونحفظ سننه، وعهوده، ووصاياه، وأحكامه التي أمر آباءنا بها، ويجعل قولنا قريباً منه، ورضيا عنده، وقلوبنا سالمة له، حافظة لأمره.
ولما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس عمل عيداً، وقرب فيه الذبائح فأقام أربعة عشر يوما يفعل ذلك، وقد جمع إليه بني إسرائيل، فإذا فرغ من إطعامهم قام، فقدس الله، وسبحه، فلما فرغ أوحى الله إليه: أني قد سمعت صلاتك، ورأيت قربانك، فإن دمت على طاعتي وصلت لك ملكك ولولدك بعدك، فقدست هذا البيت آخر الدهر، وإن حدتم عن أمري، أو نقض أحد منكم عهودي سلبته ملكه، وخربت هذا البيت إلى آخر الأبد.
وقدمت بلقيس ملكة سبإ على سليمان، وكان من أمرها ما قد قصة الله في كتابه العزيز، ولما قدمت عليه جاءته بجمال موقرة ذهبا وعنبرا، وقالت له، لقد بلغني من أمرك ما لم أصدق به حتى رأيته، ثم انصرفت إلى بلدها.
وكان سليمان معجباً بالنساء، فتزوج، فيما يقال، سبعمائة امرأة، فيهن بنت فرعون ملك مصر، وعدة من نساء بني عمون، وعدة من نساء أهل مؤاب جبابرة الشام، ومن أدوم، ومن الجثانيين، وهم الصيدانيون، ومن الشعوب التي قد كان الله نهى عن مخالطتهم، وكان له سبعمائة، واتخذت امرأة من نساء سليمان تمثالاً على صورة أبيها، فلما رأى ذلك غيرها من نسائه فعلن كفعلها، فعاتب الله سليمان، وقال له: تعبد الأصنام في بيتك، ولا تغضبك، لأسلبنك ملكك، ولأنزعن العز من يدك، ولأفرقن الأسباط من ولدك، ولكني أحفظ أباك داود فيك، فلا أسلبك الملك بقية عمرك، ولا أسلب جميع الأسباط، ولكني أدع في يدك سبطين لئلا يذهب ذكرك.
وإن سليمان لجالس على كرسيه المعمول من الذهب، المكلل بالجوهر، إذ انتزع خاتمه من يده، فأخذه شيطان، من الشياطين فوضعه في يده، ونحي سليمان عن كرسيه، وجلس عليه الشيطان، ونزع ثياب سليمان ولبسها، فمر سليمان على وجهه وعليه جبة صوف، وفي يده قصبة، فكان يستطعم، ويقول: أنا ملك بني إسرائيل، سلبني الله ملكي، فيسخر منه من يسمعه، وينكرون قوله، فكان يقف على الصيادين الذين على البحر، فيطلب منهم ما يطعمونه.
وأنكر آصف صاحب سليمان وغيره أمر ذلك الشيطان، ولم يروه يذكر الله، فهرب الشيطان، وطرح الخاتم في البحر، وأقام سليمان مسلوب الملك أربعين يوماً، فإنه بعد أن كملت له الأربعون يمشي على شط البحر حائراً، إذ قال له بعض الصيادين، تعال يا مجنون، فخذ هذا الحوت، فأعطاه حوتا قد تغيرت رائحته، فصار به إلى البحر، فغسله، و شق بطنه، وإذا في داخله حوت آخر، فشق بطن الحوت الآخر، فإذا خاتمه في جوفه، فلبسه، وحمد الله، ورد الله عليه ملكه.
وأقام ملكاً على بني إسرائيل، وعلى ما وصف الله، جل وعز، من ملكه، وتسخيره له الطير والجن و الإنس يعملون له أعاجيب الصنعة، ويشيدون له البنيان، ويطيعونه في كل أمره، أربعين سنة، ثم توفي، ودفن إلى جانب قبر داود، وكان لسليمان يوم ملك اثنتا عشرة سنة، فمات وله اثنتان وخمسون سنة.
رحبعم بن سليمان والملوك بعدهولما مات سليمان بن داود ملك رحبعم بن سليمان، فاجتمع إليه أسباط بني إسرائيل، و قالوا له: إن أباك قد كان غلظ علينا، واستعبدنا استعباداً شديداً، فخفف أنت الآن عنا! فقال لهم رحبعم: انصرفوا عني اليوم وجيئوني بعد ثلاثة أيام، فانصرفوا عنه، فاستشار المشيخة من أصحاب أبيه، فقال: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تحسن إجابة بني إسرائيل، وتلين لهم القول، حتى تملكهم بعد اليوم، فترك قول مشيخة بني إسرائيل، واستشار أحداثاً نشئوا معه، فقالوا له: نرى أن تغلظ القول لهم ليستقيم لك أمرهم، كما استقام لأبيك.

فلما كان اليوم الثالث اجتمعوا إليه ليسألوه عما ذكروا له، فقال لهم: إن خنصري أثقل من إبهام أبي. فلما قال لهم هذا انصرفوا عنه، وتفرقوا في قراهم، فلم يبق معه من أسباط بني إسرائيل إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين.
وملكت الأسباط العشرة عليهم يوربعم بن ناباط، وكان قد هرب من سليمان إلى مصر، فلما اختلفت بنو إسرائيل على رحبعم بن سليمان قدم، وجمع رحبعم ابن سليمان من سبط يهوذا، وسبط بنيامين، ألف رجل يطلب محاربة يوربعم ابن ناباط ومن معه.
وأوحى الله إلى سمعيا النبي أن قل لرحبعم ومن معه: لا تحاربوا بني إسرائيل! فسمعوا قوله، وانصرفوا، وكان ملك رحبعم سبع عشرة سنة.
وملك يوربعم بن ناباط على العشرة الأسباط من جبل فاران، فقالت بنو إسرائيل: إنا نريد أن نقرب قرابيننا إلى الله، فكره يوربعم أن يصعدوا إلى بيت المقدس، فيستميلهم آل يهوذا، فيدخلوا في ملكهم، فقال ليست بكم حاجة إلى الصعود، وأنا أعمل لكم مذبحاً، فعمل لهم مذبحاً، وصير فيه عجلاً من ذهب، وقال: هذه آلهتكم التي أصعدتكم من أرض مصر، واتخذ للعجل أحباراً، وعمل عيداً، وقرب الذبائح للعجل، فأتاه نبي بني إسرائيل، فوعظه، فمد يده إليه فيبست، فقال له: ادع الله أن يرد يدي! فدعا له النبي، فرجعت يد يوربعم، وأقام يوربعم على طريقة لم يرجع عنها، وأهلك الله يوربعم، وكل من كان معه، وقتله ودمر عليه، وكان ملكه عشرين سنة.
ثم ملك إبيام بن رحبعم، فسلك سبيل أبيه، وأظهر الفواحش، وارتكب القبيح، فبتر الله عمره، وكان ملكه ثلاث سنين، ثم ملك اسا، فأظهر العمل بطاعة الله تعالى، ومنع الزنا، وعاقب عليه وعلى الريب، وأخرج من كان يعبد الأصنام من مملكته، حتى طرد أمه لما بلغه أنها تعبد الأصنام.
وفي زمانه صار زارح ملك الحبشة، وأقبل ملك الهند إلى بيت المقدس، فبعث الله عذاباً، فأهلك زارح وملك الهند، وكان ملك اسا أربعين سنة، ويقال إن بني إسرائيل أوقدوا من خشب أسلحة أصحاب الهند، لما قتلهم اسا، سبع سنين.
ثم ملك بعده ابنه يهوشافط، فسلك سبيل أبيه، وكان ناسكاً صديقاً، فملك العشرة الأسباط، وكان مرضياً في جميع بني إسرائيل، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعده يورام ابنه، فكفر، ورجع قومه إلى عبادة الأصنام، وتزوج امرأة أطغته وأضلته، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك أحزيا، بعد أبيه، فسلك سبيله، وكان العشرة الأسباط قد اعتزلت، وملكت منهم ملكاً يقال له يهو، فحارب أحزيا، حتى قتل من قومه مقتلة عظيمة، ثم سلط الله عليهم ملك سورية، ففعل بهم مثل ذلك، وكان ملك أحزيا سنة واحدة.
ثم ملكت عتلايا بنت عمري، فقتلت ولد داود، حتى لم يبق من نسل داود أحد إلا غلام يقال له يواش، وأخذته امرأة من بني عمه، يقال لها يوشبع عمته وكان يرضع.
وأفسدت عتلايا، وأظهرت الفواحش، وأفسدت البلاد، واجتمعت بنو إسرائيل إلى يويدع الأحباري، فاشتكوا إليه الذي تفعل بهم، فاجتمعوا، فقتلوها، وكان ملكها سبع سنين.
وملك بعد عتلايا الغلام الذي كان بقي من بني داود، وهو يواش، وكان يوم ملك له سبع سنين، فصلحت أمور بني إسرائيل، وظهر فيهم العدل، وارتفعت الفواحش، وتركوا عبادة الأصنام، ثم ظلم في آخر عمره، واستعمل القتل، حتى قتل أولاد الأحبار، وقتل ولد يويدع الأحباري الذي ملكه، ثم مات وكان ملكه أربعين سنة، وهدم من سور بيت المقدس أربعين ذراعاً، وانتهب كل ما كان فيه.
ثم ملك بعده أمصيا، وكان يشبه مذهب يواش في أول أمره، ثم ظلم وجار، وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك عزيا بن أمصيا، وكان في زمانه أشعيا النبي، فأحسن عبادة الله، والعمل بطاعته، غير أنه أخذ المجمر ودخل الهيكل، ولم يكن ذلك يصلح لأحد إلا للأحبار، فعاقبه الله فبرص، وعاقب أشعيا النبي لأنه لم ينهه عن ذلك، فنزع الله منه النبوة، حتى مات عزيا، وكان ملكه اثنتين وخمسين سنة.
ثم ملك يوتام لما برص أبوه، وكان ملكه ست عشرة سنة.

ثم ملك احاز ابنه، فكفر، فعبد الأصنام فسلط الله عليه تغلتفلسر ملك بابل، فسباه، واستعبده، وضرب عليه الجزية، وأخرب مدينة العشرة الأسباط بفلسطين، وهي سبسطية، وسبى أهلها، فدخل بهم إلى أرض بابل، ثم أرسل إلى المدينة قوماً من قبله، فعمروها وبنوها، فهم الذين يدعون السامرة بفلسطين والأردن، فلما سكنوها سلط الله عليهم الأسد، ثم بعث إليهم رجلاً من أحبار بني إسرائيل، من ولد هارون، يعلمهم دين بني إسرائيل، فلما دخلوا في دينهم تركهم الأسد، وصاروا سامرة فقالوا: لا نؤمن بنبي إلا بموسى، ولا نعرف إلا ما في التوراة، وجحدوا نبوة داود، وأنكروا البعث والنشور، وامتنعوا من مجالسة الناس والاختلاط بهم، ومن تناول شيء منهم، ومن حمل الموتى، ومن حمل ميتاً اعتزل سبعة أيام، يعتزل في الصحراء لا يختلط بهم، ثم يغتسل، وكذلك من تناول شيئاً لا يحل له، ولا يؤوون الحائض منازلهم، وجعلوا رئيسهم من ولد هارون يسمونه الرئيس، ويتوارثون على التوراة، فليس هم في بقعة من بقاع الأرض إلا بجند فلسطين، وكان ملك احاز ست عشرة سنة.
ثم ملك بعد احاز حزقيل ابنه، فأحسن عبادة الله تعالى، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وكان في زمانه سنحاريب بن سراطم ملك بابل، فسار إلى بيت المقدس، فسبى بقية الأسباط، فرشاه حزقيل بثلاثمائة قنطار فضة، وثلاثين قنطار ذهب، على أن ينصرف، فأخذها، ثم غدر، فلما فعل ذلك دعا الله أشعيا النبي وحزقيل على سنحاريب، فأجاب الله دعاءهما، فسلط الله على أصحاب سنحاريب القتل، فقتل منهم في ساعة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألفاً، فرجع سنحاريب مهزوماً، حتى صار إلى بابل، وقتله ولده شر قتله. وأمر الله سبحانه أشعيا النبي أن يعلم حزقيل أنه ميت، فليوص، فلما أعلمه الله ذلك دعا الله أن يزيد في حياته، حتى يهب له ولدا يملك بعده، فزاد الله في حياته خمس عشرة سنة، حتى ولد له ولد.
وفي أيام حزقيل رجعت الشمس نحو مطلعها خمس درجات، وكان ملك حزقيل سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك بعد حزقيل منشا بن حزقيل، فكفرت بنو إسرائيل في أيامه، وكفر، وعبد الأصنام، و كان شر ملك في بني إسرائيل، وبنى للأصنام مسجداً، واتخذ صنماً له أربعة أوجه، فنهاه أشعيا، فأمر به فنشر بالمنشار من رأسه إلى رجليه، فسلط الله على منشا قسطنطين ملك الروم، فحاربه، وأسره، فأقام في الأسر، زماناً ثم تاب إلى ربه، فرده الله إلى ملكه، فكسر الصنم، وهدم بيوت الأصنام، وكان ملكه خمساً وخمسين سنة، وأيام أسره عشرين سنة.
ثم ملك أمون بن منشا، فأعاد الأصنام حتى كثرت، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك بعده يوشيا ابنه، فأحسن عبادة الله، وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وقتل سدنتها، وأحرقهم، وكان في العدل وحسن عبادة الله تعالى وجميل مذهبه يشبه داود وسليمان، وكان ملكه ثلاثين سنة.
ثم ملك يهواخز ابنه ثلاثة أشهر، ثم أسره فرعون الأعرج ملك مصر، ووضع على بلاده الخراج، وصير عليها ملكاً من قبله، وأخذ يهواخز، فذهب به إلى مصر فمات هناك.
ثم ملك بعده يويقيم أخوه، وهو أبو دانيال النبي، وفي عصره سار بخت نصر ملك بابل إلى بيت المقدس، فقتل في بني إسرائيل، وسباهم، وحملهم إلى أرض بابل، ثم صار إلى أرض مصر، فقتل فرعون الأعرج ملكها. وأخذ بخت نصر التوراة، وما كان في الهيكل من كتب الأنبياء، فصيرها في بئر وطرح عليها النار، وكبسها، وكان في ذلك العصر إرميا النبي، فلما علم بقدوم بخت نصر، أخذ تابوت السكينة، فخبأه في مغارة حيث لم يعلم به أحد، ولم ينج من بخت نصر إلا إرميا.
وكان عدة من حمل بخت نصر إلى أرض بابل ثمانية عشر ألفاً، فيهم ألف نبي، وملكهم يحنيا بن يهوياقيم، فمنهم اليهود الذين بالعراق، ويقال إن إرميا النبي قال: اللهم! إني لأعلم من عدلك ما لا يعلمه غيري، فعلام سلطت بخت نصر على بني إسرائيل؟ فأوحى الله إليه: أني إنما أنتقم من عبادي، إذا عصوني، بشرار خلقي.

ولم يزل بنو إسرائيل في الأسر تحت يد بخت نصر حتى تزوج امرأة منهم يقال لها ملحات أخت زربابل، بنت سلتائيل، فسألته أن يرد قومها إلى بلدهم، فلما رجع بنو إسرائيل إلى بلدهم ملكوا عليهم زربابل بن سلتائيل، فبنى مدينة بيت المقدس، وبني الهيكل، وأقام على بنائه ستاً وأربعين سنة، وفي زمانه مسخ الله بخت نصر بهيمة أنثى، فلم يزل ينتقل في أجناس البهائم سبع سنين، ثم يقال إنه تاب إلى الله، عز وجل، فأحياه بشراً، ثم مات.
وكان زربابل الذي أخرج التوراة وكتب الأنبياء من البئر التي دفنها فيها بخت نصر، فوجدها بحالها لم تحترق، فأعاد نسخ التوراة و كتب الأنبياء وسننهم وشرائعهم، وكان أول من رسم هذه الكتب.
وكانت شريعة بني إسرائيل توحيد الله، والإقرار بنبوة موسى وهارون ابني عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكان صيامهم في كل سنة ستة أيام أولها في رأس السنة، وهم يعدون رأس السنة أول يوم من تشرين، فإذا مضى من تشرين عشرة أيام صاموا يوما واحدا، وهو اليوم الذي نزلت فيه الألواح الثانية على موسى بن عمران. ويصومون لعشر خلون من كانون الآخر يوماً واحداً، وهو يوم نجى الله بني إسرائيل من هامان.
ويصومون لسبعة عشر يوماً من تموز يوماً واحداً، وهو اليوم الذي نزل فيه موسى من الطور. ويصومون لتسعة أيام من آب يوماً واحداً، وهو اليوم الذي كان فيه خراب بيت المقدس.
ويصومون لثلاثة أيام من تشرين، وهو الذي قتل فيه قدريا بن أخيقام.
ولهم أربعة أعياد في السنة: عيد الفطير، وهو اليوم الذي خرج فيه موسى ببني إسرائيل من مصر، فحملوا عجينهم، ولم يختمر، فأكلوه فطيراً، وهو لخمسة عشر يوماً من نيسان، وأيامه سبعة أيام، ثم عيد لستة عشر يوماً يمضي من حزيران، وهو يوم أنزلت التوراة على موسى، فذلك يوم عيد عندهم معظم، ثم عيد أول يوم من تشرين، وهو رأس السنة عندهم، ثم عيد في خمسة عشر يوماً من تشرين، وهو عيد المظلة، ومعناها أن الله، عز وجل، أمر موسى أن يأمر بني إسرائيل أن يبنوا عريشا بالسعف والجريد، فهم يقيمون ثمانية أيام يتخذون في كنائسهم ظلالات من السعف والجريد.
و صلواتهم ثلاث صلوات: صلاة بالغداة، وصلاة عند غروب الشمس، وصلاة بعد الغروب، فإذا وقف أحدهم للصلاة جمع عقبيه، وجعل يده اليمنى على كتفه اليسرى، ويده اليسرى على كتفه اليمنى، وهو مطرق، يركع خمس ركعات لا يسجد فيهن، ثم يسجد في الآخرة سجدة واحدة، ويسبح بمزامير داود في أول الصلوات، ويقرأ في صلاة المغيب من التوراة، ومعتمدهم في سننهم وشرائعهم على كتب علمائهم، و هي الكتب التي يقال لها بالعبرانية، وهي اللغة التي صارت لهم لما عبروا البحر.
وسنتهم في مناكحهم ألا يتزوجوا إلا بولي وشاهدين، وأقل مهورهم للبكر مائتا درهم، وللثيب مائة درهم بهذا الوزن لا يكون أقل منه، والطلاق مباح متى كرهوا، ولا يكون إلا بشهود. وسنتهم في ذبائحهم ألا يأكلوا ما ذبحه غيرهم، وأن يكون الذي يتولى الذبائح عالماً بالشرائع، ثم يأتي بالسكين كلما أراد أن يذبح بها، إلى الكاهن، فإذا رضي حدها أطلق له الذبح بها، و إلا أمره أن يحدها، أو يأتي بغيرها، فإذا ذبح لم يقربها من حائط تضطرب عليه، فإذا فرغ منها نظر إلى الحلقوم، فإن وجده لم يرغ الغلصمة، ووجد الذبح مستوياً لم يؤكل حتى ينظر إلى الرئة، فإن وجد بها عيبا، أو علة، أو شقا، أو بثرة، أو ورماً، لم تؤكل الذبيحة، فإن سلمت الرئة نظر إلى الدماغ، فإن وجد فيه علة لم تؤكل، وإن سلم الدماغ نظر إلى القلب، فإن وجد فيه علة لم يأكله، وإن سلم ما في البطون والثرب من الشحم، فلا يأكله، ولا العروق، وأكل ما سوى ذلك.
وتاريخهم على حسابهم، من خراب بيت المقدس، فعلى هذا يحسبون، ولا بد لهم في كل يوم أن يذكروا اليوم الذي خرب فيه بيت المقدس، وكم له إلى يومه ذلك.
المسيح عيسى بن مريم وكانت حنة امرأة عمران قد نذرت إن وهب الله لها ولداً أن تجعله، لله فلما ولدت مريم دفعتها إلى زكرياء بن برخيا بن بشوا بن نحرائيل بن سهلون بن أرسوا بن شويل بن بعود بن

موسى بن عمران، وكان كاهن المذبح، فلم يزل، كذلك حتى إذا كملت سبع عشرة سنة بعث الله إليها الملك ليهب لها ولدا زكيا، فكان من خبرها ما قد قصة الله، عز وجل، حتى اشتملت على الحمل، فلما كملت أيامها طرقها المخاض، على ما قال الله، عز وجل، ووصف من حالها وحاله، وكلامه من تحتها، وكلامه في المهد.
وكان مولده بقرية يقال لها بيت لحم من قرى فلسطين، وكان ذلك يوم الثلاثاء لأربعة وعشرين يوما خلت من كانون الأول.
قال ما شاء الله المنجم: كان الطالع للسنة التي ولد فيها المسيح في الميزان ثماني عشرة درجة، والمشتري في السنبلة إحدى وثلاثين دقيقة راجعاً، وزحل في الجدي ست عشرة درجة و ثمانياً وعشرين دقيقة، والشمس في الحمل دقيقة، والزهرة في الثور أربع عشرة درجة، والمريخ في الجوزاء إحدى وعشرين درجة وأربعا وأربعين دقيقة، و عطارد في الحمل أربع درجات وسبع عشرة دقيقة.
وأما أصحاب الإنجيل فلا يقولون إنه تكلم في المهد، ويقولون: إن مريم كانت مسماة برجل يقال له يوسف من ولد داود، وإنها حملت فلما قرب وضع حملها سار بها إلى بيت لحم، فلما ولدت ردها إلى ناصرة من جبل الجليل، فلما كان في اليوم الثامن ختنه على سنة موسى بن عمران، وقد وصف الحواريون أخبار المسيح، وذكروا حاله، فأثبتنا مقالة واحد واحد منهم، وما وصفوه به، وكان الحواريون اثني عشر من أسباط يعقوب وهم: شمعون بن كنعان من سبط، ويعقوب بن زبدي، ويحيى بن حابر بن فالي من سبط زبلون، وفيلفوس من سبط اشر، ومتى من سبط أشجر بن يعقوب، وسمعي من سبط هرام بن يعقوب، ويهودا من سبط يهوذا بن يعقوب، ويعقوب من سبط يوسف بن يعقوب، ومنسي من سبط روبيل بن يعقوب، وكان دون هؤلاء سبعون رجلاً، وكان الأربعة الذين كتبوا الإنجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، اثنان من هؤلاء الاثني عشر، واثنان من غيرهم.
فأما متى فإنه قال في الإنجيل في نسب المسيح إيسوع بن داود بن إبراهيم إلى أسفل، حتى انتهى إلى يوسف بن يعقوب بن ماثن بعد اثنين وأربعين أبا، ثم قال: وكان يوسف بعل مريم، وإن المسيح ولد في بيت لحم من قرى فلسطين، وملك فلسطين يومئذ هيرودس، وإن قوماً من المجوس ساروا إلى بيت لحم، وعلى رؤوسهم نجم يهتدون به، حتى رأوه، فسجدوا له، وإن هيرودس ملك فلسطين أراد أن يقتل المسيح، وإن يوسف أخرجه وأخرج أمه إلى أرض مصر، فلما مات هيرودس رده، فأنزله ناصرة جبل الجليل، وإنه لما كمل المسيح وبلغ تسعاً وعشرين سنة صار إلى يحيى بن زكرياء ليصطنعه، فقال له يحيى بن زكرياء: أنا أحوج إليك منك إلي! فقال له المسيح: اترك هذا القول، فإن هكذا ينبغي أن يتم البر، فتركه يحيى، وإن إيسوع خرج بتأييد روح الله إلى البرية فصام أربعين يوماً، فاقترب إليه الشيطان، فقال: إن كنت الآن ابن الله فمر هذه الحجارة أن تصير خبزا! فقال إيسوع: إنه ليس بالخبز وحده يحيا البشر، ولكن بكلمة الله، فحمله، فصيره على جناح الهيكل، ثم قال له الشيطان: فألق نفسك إلى الأرض، فإنك إن كنت ابن الله تكنفتك ملائكته. فقال المسيح: إنه مكتوب لا تجرب الله بك، ثم قال للشيطان: اذهب فأنا لله أسجد وإياه أعبد. فتركه الشيطان وذهب، ثم إن ملائكة الله، جل وعز، اقتربت منه، فجعلوا يخدمونه، ثم إن تلامذته اقتربوا إليه، فجعل يكلمهم بأمثال ووحي، و بغير أمثال. وكان أول ما تكلم به من الإنجيل، على ما في إنجيل متى: طوبى للمساكين القانعة قلوبهم بما عند ربهم، بحق أن لهم ملكوت السماء، طوبى للجياع العطاش في طاعة الله، طوبى للصادقين في قولهم، التاركين للكذب، الذين هم ملح الأرض ونور العالم. لا تقتلوا، وتسخطوا أحدا، وارضوا من سخط عليكم، وصالحوا خصمكم، ولا تزنوا، ولا تنظروا إلى غير نسائكم، فإن كانت عينكم اليمنى تدعوكم إلى الخيانة، فاقلعوها حتى تنجوا بأبدانكم، ولا تطلقوا نساءكم من غير زنية، ولا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، ولا بسمائه، ولا بأرضه، ولا تقاوموا الشر، ولكن من لطمك على عارضك الأيمن، فأقبل إليه بعارضك الأيسر، ومن أراد أن ينزع قميصك، فأعطه أيضا رداءك، ومن سخرك ميلا، فانطلق معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن استقرضك فأقرضه ولا تحرمه.

قد سمعتم أنه قد قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك! أما أنا فإني أقول لكم: أحبوا أعداءكم وصلوا من قطعكم، وافعلوا الخير إلى من بغضكم. إن كنتم تحبون الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ لا تظهروا صدقاتكم بين أيدي البشر، لا تعلم شمائلكم بما عملت أيمانكم، لا تراؤوا الناس بصلاتكم، وإذا صليتم فادخلوا بيوتكم، وأغلقوا أبوابكم، ولا يسمعكم أحد، وإذا صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات يقدس اسمك، ويأتي ملكوتك، تكون مشيئتك كما في السماء وعلى الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واترك لنا الذي علينا كمثل ما نترك نحن لغرمائنا، ولا تدخلنا في تجربة يا رب! ولكن نجنا من الشرير. ولا تظهروا صيامكم للبشر، إذا صمتم لله ربكم، و لا تغيروا وجوهكم ليراكم الناس، فإن ربكم يعلم بحالكم.
لا تدخروا الذخائر حيث السوس والأرضة الأكلة يفسدن، وحيث اللصوص يحفرون، ولكي تكون ذخائركم عند ربكم الذي في السماء حيث لا سوس يعدو، ولا لص يسرق.
ولا تهتموا بمعاشكم، ولا ما تأكلون، ولا ما تشربون، ولا ما تلبسون، وانظروا إلى طير السماء لا يزرعن، و لا يحصدن، ولا يجمعن في البيوت، فإن الله يرزقهن، وأنتم أكرم على الله من الطير.
لا تهتموا لأولادكم، فإنهم مثلكم كما خلقتم خلقوا، وكما رزقتم رزقوا.
ولا تقل لأخيك أخرج القذى من عينك، وفي عينك أنت جذع، لا تنظروا في عيوب الناس وتدعوا عيوبكم، لا تعطوا القدس ولا اللؤلؤ للخنازير، فتدوسه بأرجلها! سلوا ربكم يعطكم وابتغوا إليه، فإنكم تجدونه رحيماً بكم، واقرعوا بابه يفتح لكم، أما الباب فإنه معرض، والطريق بين، وهو يبلغ الناس التلف، وما أصغر الباب، وأضيق الطريق التي تبلغ الناس النجاة.
تحفظوا من أهل الكذب الذين يشبهون الذئاب الضارية، كما لا تستطيعون وتقطفون العنبة من الشوك، ولا التين من الحنظل، هكذا لا تجدون شجرة سوء تخرج نباتاً صالحاً، ولا شجرة صالحة تخرج ثمرة سوء.
كل من يسمع كلامي ثم يفهمه، فإنه يشبه رجلاً حليماً بنى بيته في مكان صلب شديد، فجاء المطر ودرت الأنهار، وارتفعت الرياح فسقط البيت.
وفي ذلك الزمان كان الملك هيرودس قد أخذ يوحنا فسجنه، وذلك أنه كان يأتي امرأة أخيه فيلفوس، فنهاه يوحنا أن يأتي ذلك، وكان يريد أن يقتله، ويتقي لأنهم كانوا يعظمون يوحنا، فقالت له امرأة أخيه: اقتل يوحنا! فوجه إلى السجن، فقطع رأس يوحنا ووضعه على طبق، واقترب تلاميذه، وأخذوا جثته فقبروها، وجاءوا المسيح فأخبروه، فخرج إلى أرض قفر، وجعل يأمر أصحابه: لا تخبروا أحداً.
إنجيل مرقس: فأما مرقس فإنه قال في أول إنجيله: إيسوع المسيح ابن الله، كما هو مكتوب في أشعيا النبي: أني مرسل ملاكي قدام وجهك لأصلح سبيلك، وإن يحيى بن زكرياء كان يعمد المعمودية للتوبة، وكان لباسه وبر الإبل، وكان يشد حقوته بغرفة من جلود، وإن المسيح جاءه من ناصرة الجليل يعمده في الأردن، فلما عمده خرجت روح القدس على الماء كالحمامة، وصوت من السماء ينادي، أنت ابني خليلي الذي بك سررت.
وانصرف إلى جبل الجليل، فإذا قوم يصطادون السمك، فيهم شمعون وأندراوس، فقال لهما: ألحقاني أجعلكما تصطادان البشر! فمضيا معه، فدخل قرية فأبرأ مرضاها وبرصها، وفتح أعين عميان بها، فاجتمع إليه قوم وجعل يكلمهم بأمثال ووحي، ويقول: بحق أقول لكم، لا تذهب القبيلة حتى يذهب السماء والأرض، وكلامي لا يذهب.
إنجيل لوقا فأما لوقا: فإنه يقول في أول الإنجيل: من أجل أن كثيراً من الناس أحبوا أن يكتبوا القصص والأمور التي عرفناها رأيته يحق على أن أكتب شيئاً علمته بحقه.
أنه كان في أيام هيرودس الملك كاهن يسمى زكرياء من خدام آل أبيا وامرأته من بنات هارون تسمى اليسبع، وكانا جميعاً بارين قدام الله، عاملين بوصاياه، غير مقصرين في طاعته، ولم يكن لهما ولد، وكانت اليسبع عاقراً، وزكرياء عاقراً قد كبرت سنهما، فبينا زكرياء يكهن الدخنة، فدخل الهيكل، وجماعة خارج الهيكل، فتراءى لزكرياء ملك الرب قائماً عن يمين

المذبح، فارتعد زكرياء حين أبصره، وحلت عليه الخشية، فقال له الملك: لا ترهبن يا زكرياء! فإن الله قد سمع صلواتك، وأجاب دعاءك، فيهب لك ابنا تسميه يحيى، ويكون لك فيه الخير والفرح، ويكون عظيماً عند الله، ولا يشرب خمراً، ولا سكراً، ويمتلىء من روح القدس، إذ هو في بطن أمه، ويقبل إلى الله بكثير من آل إسرائيل، ويحل عليه الروح الذي حل على الياء النبي ليقبل بقلوب الآباء على أبنائهم، ويكونوا لله شعباً كاملاً.
فقال زكرياء للملك: كيف لي أن أعلم هذا، وأنا شيخ، وامرأتي كبيرة السن؟ فقال له الملك: إني أنا جبريل القائم بين يدي الله، عز وجل، أرسلني لأبشرك بهذا، فمن الآن، فكن صامتاً لا تتكلم حتى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق، ولم تؤمن بقولي الذي يتم في حينه.
وكان الشعب قياماً ينتظرون زكرياء، ويتعجبون من لبثه في الهيكل، فلما أن خرج لم يقدر أن يكلمهم، فعرفوا، وأيقنوا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل، فكان يومىء إليهم إيماء، ولا يتكلم. فلما تمت أيام خدمته انصرف إلى بيته، وحبلت اليسبع امرأته، وأقامت تخفي نفسها أشهراً خمسة، وتقول: هذا الذي صنع إلى الرب في أيام نظره إلي ليمحو عني عاري في البشر.
ولما كان في الشهر السادس من حمل امرأة زكرياء أرسل الله جبريل الملك إلى جبل الجليل إلى مدينة تدعى ناصرة، إلى فتاة عذراء مملكة برجل يسمى يوسف من آل داود، اسمها مريم، فدخل إليها الملك، وقال لها: السلام عليك أيتها المملوءة من النعمة، أيتها المباركة في النساء! فلما رأته فزعت من كلامه، وجعلت تفكر، وتقول: ما هذا السلام؟ فقال لها الملك: لا ترهبي يا مريم! قد لاقيت ووافيت عند الله نعمة، بحق أنك تقبلين حبلى، وتلدين ابنا، وسميه إيسوع، ويكون عظيما، وابن الأعلى يدعي، ويعطيه الرب إلهه كرسي داود أبيه، ويملك على آل يعقوب إلى الدهر، و لا يكون لملكه فناء، ولا انقطاع. فقالت مريم للملك: كيف يكون هذا، ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: روح القدس يحل عليك، وهذا الذي يولد منك قدوس، وابن الله يدعى، وهذه اليسبع نسيبتك، فهي أيضاً حبلى بابن، على كبرها، وهذا الشهر هو السادس لتلك التي تدعى عاقراً، لأنه لا يعجز الله شيء! فقالت مريم: إني أمة الله، فليكن لي كما قلت.
ودخلت مريم إلى بيت زكرياء، وسألت عن سلامة اليسبع، فلما سمعت امرأة زكرياء كلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من روح القدس، قالت لمريم: مباركة أنت في النساء؟ بحق أنه لما وقع صوت سلامك في مسمعي، بفرح عظيم ارتكض الجنين في بطني.
وولدت اليسبع امرأة زكرياء ابناً، وختنوه يوم الثامن، وسموه يوحنا، ومن ساعته انفتح فوه، و تكلم وبرك الله تعالى، وامتلأ زكرياء من روح القدس، وقال: تبارك الرب إله إسرائيل، الذي أبلى شعبة، وأطلقهم بالخلاص، وأقام لنا قرن الخلاص من آل داود، كالذي تكلم على السنة أنبيائه الطاهرين.
ولما كملت لمريم أيامها صعد بها يوسف إلى جبل الجليل، فولدت ابنها البكر، فلفته في الخرق، وأضجعته في الأرى من أجل أنه لم يكن لها مكان حيث كانا نازلين فأتاهم ملك الرب، ومجد الله أشرق عليهم، فخافوه خوفا شديدا، وقال لهم ملك الرب: لا تخافوا، ولا تحزنوا! بحق إني أبشركم بفرح عظيم يعم العالم.
ثم نسب المسيح من يوسف إلى آدم، وإنه لما تمت له ثمانية أيام أتوا به ليختنوه، كسنة موسى، وسموه إيسوع، وختنوه، وأتوا به إلى الهيكل، وأتوا بذبيحة زوج يمام وفرخي حمام ليقرب عنه، وكان هناك رجل يقال له شمعان من الأنبياء، فلما دنوا من المذبح ليقربوا عنه احتمله شمعان، وقال: قد أبصرت عيناي حنانك، يا رب، فمن الآن فتوفني. وكان أهله يصعدونه في كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، وكان يخدم العظماء، ويعجبون به لما يرون من حكمته. وإن المسيح لما كملت له ثلاثون سنة دخل إلى الهيكل يوم السبت، وقام ليقرأ كعادته، وأعطى سفر أشعيا النبي، ففتح السفر، فوجد فيه مكتوبا: روح الرب علي من أجل ذلك اصطفاني، ومسحني لأبشر المساكين، وأرسلني لأشفى المنكسرة قلوبهم، ولأبشر المسبيين بالخلاص، والعميان بالبصر، وإن أجبر المنكسر، وأبشر المسيء بالعفو والمغفرة، وإن أبشر بالسنة المتقبلة للرب، وطوى السفر ودفعه إلى الخادم، وتنحى، فجلس، فعجب الناس لفعله، وقالوا: أليس هذا ابن يوسف؟

إنجيل يوحنا: وأما يوحنا السليح، فإنه يقول في أول إنجيله في نسبة المسيح: قبل كل شيء كانت الكلمة، وتلك الكلمة عند الله، والله كان هو الكلمة، هذه كانت قبل كل شيء وكان بها، كانت الحياة، والحياة هو نور البشر، وذلك الضياء في الظلام، والظلام لم يدركه.
كان إنسان، كان أرسله الله، اسمه يوحنا، أتى للشهادة ليشهد على النور ليهتدي الناس، ويؤمنوا على يده، ولم يكن هو النور، فإن نور الحق لم يزل يضيء ويبين في العالم، والعالم كان في يده، والعالم لم يعرفه، إلى خاصته أتى وخاصته لم تقبله، فأما الذين قبلوه، وآمنوا به، فأعطاهم الله سلطاناً ليكونوا يدعون أبناء الله، أولئك الذين يؤمنون باسمه الذي لا من الدم، ولا هو من هوى اللحم، ولا من شهوة المرء ولد، ولكن من الله ولد، والكلمة صارت لحماً وحلت فينا، ورأينا مجدها مجداً كالوحيد الذي من الأب المملوء من النعمة والقسط.
ويوحنا شهد عليه ونادى وقال: هذا قلت إنه يأتي من بعدي: وقد كان قبلي من أجل أنه أقدم مني، ومن تمامه كلما نلنا نعمة فاضلة بدل النعمة الأولى، لأن التوراة على يد موسى أنزلت، فأما الحق والنعمة فبايسوع المسيح الكلمة التي لم تزل في حضن أبيها.
فهذا قول الأربعة التلاميذ، أصحاب الإنجيل، في نسبة المسيح، ثم وصفوا بعد ذلك ما كان من أخباره، وأنه أبرأ المرضى والبرص، وأقام المقعد، وفتح عيون العميان، وإنه كان له صاحب يقال له العازر في قرية تدعى بيت عنيا، في ناحية بيت المقدس، وإنه مات، فصير في مغارة، فأقام أربعة أيام، ثم جاء المسيح إلى تلك القرية، فخرجت أختان للعازر، فقالتا له: يا سيدنا إن خليلك العازر قد مات، فحزن المسيح عليه، و قال: أين قبره؟ فأتوا به إلى المغارة وعليها حجر، فقال: نحوا الحجر! فقالوا: قد نتن منذ أربعة أيام! فدنا من المغارة، فقال: رب لك الحمد! إني أعلم أنك تعطي كل شيء، ولكني أقول من أجل الجماعة الواقفة ليؤمنوا ويصدقوا إنك أنت أرسلتني، ثم قال للعازر: قم! فقام يجر خماراً عليه، ويداه و رجلاه مشدودة، وقد كان معهم قوم من اليهود، فأمنوا به وأقبلوا ينظرون إلى العازر ويتعجبون منه.
فاجتمع عظماء اليهود وأحبارهم، فقالوا: إنا نخاف أن يفسد علينا ديننا ويتبعه الناس، فقال لهم قيافاً، رئيس الكهنة: لأن يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره! فأجمعوا على قتله.
ودخل المسيح إلى أورشليم على حمار، وتلقاه أصحابه بقلوب النخل، وكان يهوذا بن شمعان من أصحاب المسيح، فقال المسيح لأصحابه: إن بعضكم يسلمني ممن يأكل ويشرب معي، يعني يهوذا بن شمعان، ثم جعل يوصي أصحابه، ويقول لهم: قد بلغت الساعة التي يتحول ابن البشر إلى أبيه، وأنا أذهب إلى حيث لا يمكنكم أن تجيئوا معي، فاحفظوا وصيتي، فسيأتيكم الفارقليط يكون معكم نبياً، فإذا أتاكم الفارقليط بروح الحق والصدق، فهو الذي يشهد علي، وإنما كلمتكم بهذا كيما تذكروه إذا أتى حينه، فإني قد قلته لكم، فأما أنا فإني ذاهب إلى من أرسلني، فإذا ما أتى روح الحق يهديكم إلى الحق كله، وينبئكم بالأمور البعيدة، ويمدحني، وعن قليل لا تروني، ثم رفع المسيح عينه إلى السماء، وقال: حضرت الساعة! إني قد مجدتك في الأرض، والعمل الذي أمرتني أن أعمله فقد تممته، ثم قال: اللهم إن كان لا بد لي من شرب هذه الكأس، فهونها علي، وليس كما أريد يكون، ولكن ما تريد يا رب.
ثم مضى المسيح مع تلاميذه إلى المكان الذي يجتمع هو وأصحابه فيه، وكان يهوذا أحد الحواريين يعرف ذلك الموضع، فلما رأى الشرط يطلبون المسيح ساقهم والذين معهم من رسل الكهنة، حتى وقف بهم على الموضع، فخرج إليهم المسيح، فقال لهم: من تريدون؟ فقالوا: إيسوع الناصري! فقال لهم إيسوع: أنا هو! فرجعوا، ثم عادوا، فقال لهم المسيح: أنا إيسوع الناصري فإن كنتم تريدوني، فانطلقوا بي لتتم الكلمة.
وكان مع شمعان الصفا سيف فاخترطه، ثم ضرب عبد سيد الكهنة، فقطع يده اليمنى، فقال المسيح: يك شمعان! رد السيف إلى غمده، فإني لا أمتنع من شرب الكأس التي أعطاني ربي. فأخذ الشرط المسيح، وأوثقوه، وجاءوا به إلى قيافا رئيس اليهود، الذي كان أشار بقتله.

وكان شمعان الصفا يمشي خلفه، فدخل مع الأعوان، فقيل له: أنت من تلاميذ هذا الناصري؟ قال: لا! ولما أدخل المسيح على رئيس اليهود جعل يكلمه، والمسيح يجيبه بما لا يفهمه، فضربه بعض الشرط على فكيه، ثم أخرجوا المسيح من عند قيافا إلى فرطورين، فقال له: أنت ملك اليهود؟ فقال له المسيح: أمن نفسك قلت هذا أم أخبرك آخرون عني؟ وجعل يكلمه، ويقول: إن ملكي ليس من هذا العالم.
ثم إن الشرط أخذوا إكليلاً من أرجوان، فوضعوه على رأسه، وجعلوا يضربونه، ثم أخرجوه وعليه ذلك الإكليل، فقال له رؤساء الكهنة: أصلبه! فقال لهم فيلاطوس: خذوه أنتم فاصلبوه، فأما أنا، فلم أجد عليه علة! فقالوا: قد وجب عليه الصلب والقتل من أجل أنه قال: إنه ابن الله، ثم أخرجه، فقال لهم: خذوه أنتم فاصلبوه! فأخذوا المسيح، وأخرجوه، وحملوه الخشبة التي صلبوه عليها.
هذا في إنجيل يوحنا، فأما متى ومرقس ولوقا فيقولون: وضعوا الخشبة التي صلب عليها المسيح على عنق رجل قرنانى، وصاروا به إلى موضع يدعى الجمجمة، ويسمى بالعبرانية ايماخاله، وهو الموضع الذي صلب فيه، وصلب معه اثنان آخران: واحد من هذا الجانب، والآخر من هذا الجانب، وكتب فيلاطوس في لوح: هذا إيسوع الناصري، ملك اليهود، فقال له رؤساء الكهنة: اكتب الذي قال إنه ملك اليهود! فقال لهم: ما كتبت، وقد كتبت.
ثم إن الشرط اقتسموا ثياب المسيح، وكانت أمه مريم، ومريم بنت قلوفا، ومريم المجدلانية قياما ينظرن إليه، فكلم أمه من فوق الخشبة.
وجعل أولئك الشرط يأخذون إسفنجة فيها خل يقربونها إلى أنفه، فيتكرهها، ثم أسلم روحه، فجاءوا إلى ذينك المصلوبين معه، وكسروا سوقهما، وأخذ واحد من الشرط حربة، فطعنه في جنبه، فخرج دم وماء، ثم كلم فيه أحد التلاميذ لفيلاطوس، حتى أنزله، وأخذ حنوطاً من مر وصبر، ولفه في ثياب كتان وطيب، فكان في ذلك الموضع جنان، وفيه قبر جديد، فوضعوا المسيح فيه، وكان ذلك يوم الجمعة.
فلما كان يوم الأحد، فيما يقول النصارى، بكرت مريم المجدلانية إلى القبر، فلم تجده، فجاءت شمعان الصفا وأصحابه، فأخبرتهم أنه ليس في القبر، فمضوا فلم يجدوه، وجاءت مريم ثانية إلى القبر، فرأت في القبر رجلين عليهما ثياب بياض، فقالا لها: لا تبكي! ثم التفتت خلفها، فرأت المسيح، وكلمها وقال لها: لا تدنين إلي لأني لم أصعد إلى أبي، ولكن انطلقي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم، وإنه لما كان عشية الأحد جاءهم وقال لهم: السلام معكم! كما أرسلني أبي كذلك أرسلكم، وإن غفرتم ذنوب أحد، فهي مغفورة، فقالوا: هذا الذي يكلمنا روح وخيال، قال لهم: انظروا إلى آثار المسامير بإصبعي وإلى جانبي الأيمن، ثم قال لهم: طوبى للذين لم يروني وصدقوا بي.
وجاءوه بقطعة سمك، فأكل، وقال لهم: إن أنتم صدقتم بي، وفعلتم فعلي، يحق ألا تضعوا أيديكم على مريض إلا برىء، ولا يضره الموت، ثم ارتفع عنهم، وكان له ثلاث وثلاثون سنة.
هذا ما يقول أصحاب الإنجيل وهم يختلفون في كل المعاني، قال الله، عز وجل، ما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه.
ولما رفع عيسى المسيح اجتمع الحواريون إلى أورشليم، في جبل طور الزيتون، وصاروا إلى عليه كان فيها بطرس، ويعقوب، ويوحنا، وأندراوس، وفيلبس، وتوما، وبرتلموس، ومتاوس، ويعقوب فقام شمعان على الحجر، فقال: يا معشر الإخوة! قد كان ينبغي أن يتم الكتاب الذي سبق فيه روح القدس، وأرادوا أن يجعلوا رجلاً يتم به الاثنا عشر، فقدموا متى وبرسبا، وقالوا: اللهم أظهر لنا من نختاره! فوقع على متى، فأصابتهم ريح شديدة، امتلأت الغرفة التي كانوا فيها، ورأوا مثل لسان النار، فتكلموا بالسن شتى، ثم قالوا لبطرس: ما ذا تصنع؟ فقال لهم بطرس: قوموا واعمدوا كل إنسان منكم باسم المسيح، وتنحوا عن هذه القبيلة المعوجة.

وأقام بطرس ويوحنا كلما دخلا الكنيسة ذكرا أمر المسيح، ووصفا فعله، ودعوا الناس إلى عبادته، فأنكر ذلك عليهم اليهود، وأخذوهم، فحبسوهم، ثم أطلقوهم، وقالوا: نختار سبعة رجال يقدسون الله، ويذكرون حكمته ومسيحه، فاختاروا إصطفانس، وفيلبس، وأبرحورس، ونيقانور، وطيمون، وبرمنا، ونيقولاوس الأنطاكي، وأقاموهم، فصلوا عليهم، وقدسوهم، فجعلوا يصفون أمر المسيح، ويدعون الناس إلى دينهم.
وكان بولس أشد الناس عليهم، وأعظمهم إيذاء لهم، وكان يقتل من يقدر عليه منهم، ويطلبهم في كل موضع، فخرج يريد دمشق ليجمع قوماً كانوا بها، فسمع صوتاً يناديه: يا بولس، كم تضطهدني! ففزع حتى لم يبصر، ثم جاءه حنانيا، فقدس عليه حتى انصرف، وبرأت عينه، فصار يقوم في الكنائس، فيذكر المسيح، ويقدسه، فأرادت اليهود قتله، فهرب منهم، وصار مع التلامذة يدعو الناس، ويتكلم بمثل ما يتكلمون به، ويظهر الزهد في الدنيا، والتقليل منها، حتى قدمه الحواريون جميعا على أنفسهم، وصيروه رأسهم.
وكان يقوم فيتكلم، ويذكر أمر بني إسرائيل والأنبياء، ويذكر حال المسيح، ويقول: ميلوا بنا إلى الأمم، كما قال الله للمسيح: إني وضعتك نوراً للأمم، فتصير إخلاصاً إلى أقطار الأرض، فتكلم كل رجل منهم برأيه، وقالوا: ينبغي أن يحتفظ بناموس، وأن يرسل إلى كل بلد من يدعو إلى هذا الدين، وينهاهم عن الذبائح للأوثان، وعن الزنا، وعن أكل الدم.
وخرج بولس ومعه رجلان إلى أنطاكية ليقيموا دين المعمودية، ثم رجع بولس، وأخذ، فحمل إلى ملك رومية فقام فتكلم، وذكر حال المسيح، فتحالف قوم على قتله لإفساده دينهم، وذكره المسيح وتقديسه عليه.
ملوك السريانيينوكان أول الملوك بعد الطوفان بأرض بابل ملوك السريانيين، فأول من ملك منهم، وعقد التاج على رأسه: شوسان، وكان ملكه ست عشرة سنة، ثم ملك بعده بوير ابنه عشرين سنة، ثم ملك اسماشير بن ألول سبع سنين، ثم ملك بعده عمرقيم ابنه عشر سنين، ثم ملك أهريمون ابنه عشر سنين، ثم ملك سمادان ابنه عشر سنين، ثم ملك سبير ابنه ثماني سنين، ثم ملك هريمون ثماني عشرة سنة، وملك ابنه هوريا اثنتين وعشرين سنة، ثم ملك أرود وحلحابيس كلاهما اثنتي عشرة سنة.
ملوك الموصل ونينوىوكان أول من ملك منهم بالوس اثنتين وثلاثين سنة، وملك نينوس بن بالوس اثنتين وخمسين سنة، وبنى مدينة نينوى، ثم ملكت امرأة يقال لها شميرم أربعين سنة، ثم ملك لاوسنسر خمساً وأربعين سنة، ثم ملك خمسة عشر ملكاً لا تاريخ لهم، ولا قصص.
ملوك بابلفكان أول ملوك بابل، بعد السريانيين، نمرود الجبار، فملك تسعاً وستين سنة، وملك كودس ثلاثاً وأربعين سنة، وملك أرقو عشر سنين، وملك بولس اثنتين وستين سنة، ثم ملك سميرم اثنتين وأربعين سنة، وملك قوسميس تسعاً وستين سنة، وملك أنيوس ثلاثين سنة، وملك ليلاوس اثنتي عشرة سنة، وملك اطلوس اثنتين وثلاثين سنة، و ملك سفردس ثلاثين سنة، ثم ملك حازم بودس ثلاثين سنة، ثم ملك سعالوس ثلاثين سنة، وملك سبطاس أربعين سنة، وملك اسنطرس أربعين سنة، وملك دمنوطوس خمساً وأربعين سنة، وملك العروس ثلاثين سنة، وملك المقرندوس اثنتين وخمسين سنة، وملك قاربوس ثلاثين سنة، وملك باباوس خمساً وأربعين سنة، وملك شرسبا أدوموس أربعين سنة، وملك دارافوس ثمانياً وثلاثين سنة، وملك لاوبس خمساً وأربعين سنة، وملك فطريس، ثلاثين سنة، وملك فرطاوس عشرين سنة، وملك افرطا ستين سنة، وملك قولا خمساً وثلاثين سنة، وملك بعنطس خمساً وثلاثين سنة، وملك اسبعلو سرفتم أربع عشرة سنة، وملك اسرعون سبع سنين، وملك قيم حدوم ثلاث سنين، وملك فردوح سبعاً وأربعين سنة، وملك سنحاريب إحدى و ثلاثين سنة، وملك معرساً ثلاثاً وثلاثين سنة، وملك بخت نصر خمساً وأربعين سنة، وملك فرمورج سنة واحدة، وملك سط سفر ستين سنة، وملك ماسوسا ثماني سنين، وملك معوسا سبعة أشهر، وملك داريوش إحدى وثلاثين سنة، وملك كسر حوش عشرين سنة، وملك فرطنان سبعة أشهر، وملك منحسمت إحدى وأربعين سنة، وملك سعلس سبعة أشهر، وملك داريوش، وهو الذي قتله الإسكندر، تسع عشرة سنة، وملك أرطحشاست سبعاً وعشرين سنة.

هؤلاء الملوك ملوك الدنيا، وهم الذين شيدوا البنيان، واتخذوا المدن، وعملوا الحصون، وشرفوا القصور، وحفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، واستنبطوا المياه، وأثاروا الأرضين، واستخرجوا المعادن، وضربوا الدنانير، وصاغوا وكللوا التيجان، وطبعوا السيوف، واتخذوا السلاح، وعملوا آلات الحديد، وصنعوا النحاس والرصاص، واتخذوا المكاييل والموازين، واختطوا البلدان، وقلموا الأقاليم، وأسروا الأعداء، واستعبدوا الأسراء، واتخذوا السجون، ووصفوا الأزمنة، وسموا الشهور، وتكلموا في الأفلاك والبروج والكواكب، وحسبوا، وقضوا بما يدل عليه الاجتماع والافتراق، والتثليث والتربيع، والمجاسدات.
ملوك الهندقال أهل العلم: إن أول ملوك الهند الذي اجتمعت عليه كلمتهم: برهمن الملك الذي في زمانه كان البدء الأول، وهو أول من تكلم في النجوم، وأخذ عنه علمها، والكتاب الأول، الذي تسميه الهند: السند هند، وتفسيره دهر الدهور، ومنه اختصر الأرجبهر والمجسطي، ثم اختصروا من الأرجبهر الأركند، ومن المجسطي كتاب بطليموس، ثم عملوا من ذلك المختصرات والزيجات وما أشبهها من الحساب، ووضع التسعة الأحرف الهندية التي يخرج منها جميع الحساب والتي لا تدرك معرفتها، وهي 1 2 3 4 5 6 7 8 9، فالأول منها واحد، وهو عشرة ومائة، وهو ألف، وهو مائة ألف ، وهو ألف ألف، وهو عشرة آلاف ألف، وهو مائة ألف ألف، وعلى هذا الحساب أبدا فصاعدا، والثاني، وهو اثنان، وهو عشرون، وهو مائتان، وهو ألفان، وهو عشرون ألفاً، وهو مائتا ألف، وهو ألفا ألف، وعلى هذا الحساب يجري التسعة الأحرف، فصاعدا، غير أن بيت الواحد معروف من العشرة، وكذلك بيت العشرة معروف من المائة، وكذلك كل بيت، وإذا خلا بيت منها يجعل فيه صفر، ويكون الصفر داره صغيرة.
وجعلوا الدنيا سبعة أقاليم: فالإقليم الأول الهند، وحده مما يلي المشرق: البحر، وناحية الصين إلى الديبل مما يلي أرض العراق، إلى خليج البحر مما يلي أرض الهند، إلى أرض الحجاز.
والإقليم الثاني: الحجاز، حده: هذا الخليج إلى عدن إلى أرض الحبشة مما يلي أرض مصر، إلى الثعلبية مما يلي أرض العراق.
والإقليم الثالث: مصر، حده: مما يلي أرض الحبشة إلى أرض الحجاز، إلى البحر الأخضر مما يلي الجنوب، إلى المغرب، إلى الخليج الذي يلي الروم، إلى نصيبين مما يلي أرض العراق.
والإقليم الرابع: وهو العراق، حده مما يلي الهند: الديبل، ومما يلي الحجاز: الثعلبية، ومما يلي أرض مصر والروم: نصيبين، ومما يلي أرض خراسان: نهر بلخ.
والإقليم الخامس: الروم، حده مما يلي أرض مصر: الخليج، ومما يلي المغرب: البحر، ومما يلي الترك: يأجوج ومأجوج، ومما يلي أرض العراق: نصيبين.
والإقليم السادس: يأجوج ومأجوج، حده مما يلي أرض المغرب: الترك، ومما يلي الخزر: البحر، ومفاوز بينه وبين بحور الشمال، ومما يلي المشرق: أرض نصيبين، ومما يلي خراسان: نهر بلخ.
والإقليم السابع: الصين، حده مما يلي المغرب: يأجوج ومأجوج، ومما يلي المشرق: البحر، ومما يلي الهند: أرض قشمير، ومما يلي خراسان: نهر بلخ، وقالوا كل إقليم من هذه الأقاليم يسع مائة فرسخ في مثلها.
وذكروا أن قطر الأرض ألفان ومائة فرسخ، ومدها ستة آلاف وثلاثمائة فرسخ، وانهم قدروا هذا الفرسخ على ستة عشر ألف ذراع. وذكروا أن الذراع الذي يحيط بأسفل دائرة النجوم، وهو فلك القمر، مائة ألف فرسخ وخمسة وعشرون ألفا وستمائة وأربعة وستون فرسخاً، وأن قطرة من حد رأس الحمل إلى حد رأس الميزان أربعون ألف فرسخ، بتقدير هذه الفراسخ التي قدروا بها الأرض فساعات طول النهار في الإقليم الأول: ثلاث عشرة ساعة، وفي الثاني: ثلاث عشرة ساعة ونصف، وفي الثالث: أربع عشرة ساعة، وفي الرابع: أربع عشرة ساعة ونصف، وفي الخامس: خمس عشرة ساعة، وفي السادس: خمس عشرة ساعة ونصف، وفي السابع: ست عشرة ساعة.

و كل مدينة كانت في مقادير طول نهارها في هذا القدر، فهي متوسطة الإقليم الذي هي فيه، وما كان فيما بين هذه الأقدار، فهي من الإقليم الذي هي إليه أقرب في مقدار الساعات، فصار وسط الإقليم الأول، على مسيرة نحو من ثلاثين ليلة من خط الاستواء، بأرض اليمن مدينة سبإ وما والاها إلى المشرق والمغرب، وذلك، فيما دون عدن، أبين بقدر عشرة أيام، ووسط الإقليم الثاني مكة وما والاها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الثالث الإسكندرية وما والاها من ناحية الكوفة والبصرة من المشرق والمغرب، ووسط الإقليم الرابع أصفهان وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم الخامس في أداني أرض مرو وما والاها مما هو في مثل عرضها من المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السادس برذعة وما والاها مما هو في مثل عرضها ما بين المشرق إلى المغرب، ووسط الإقليم السابع بجبال الترك وما والاها مما هو في مثل عرضها مما بين المشرق والمغرب.
وقالت الهند إن الله، عز وجل، خلق الكواكب في أول دقيقة من الحمل، وهو أول يوم من الدنيا، ثم سيرها من ذلك الموضع في أسرع من طرفة العين، فجعل لكل كوكب منها سيراً معلوماً حتى يوافي جميعها، في عدة أيام السند هند، إلى ذلك الموضع الذي خلقت فيه كما كانت كهيئتها الأولى، ثم يقضي الله، تبارك وتعالى، ما أحب، فقالوا: إن جميع أيام الدنيا من السند هند، منذ أول ما دارت الكواكب إلى أن تجتمع جميعاً في دقيقة الحمل، كما كانت يوم خلقت: ألف ألف ألف ألف، وخمسمائة ألف ألف ألف، وسبعة وسبعون ألف ألف ألف، وسبعمائة ألف ألف، وستة عشر ألف ألف، وأربعمائة ألف، وخمسون ألف يوم، يكون ذلك شهوراً ستين ألف ألف ألف، وثماني مائة ألف ألف، وأربعين ألف ألف شهر، ويكون من السنين أربعة آلاف ألف ألف، وثلاثمائة ألف ألف، وعشرين ألف ألف سنة كاملة بسني الشمس على مدارها، والسنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم و خمس ساعات، وجزء من أربعمائة جزء من ساعة.
ثم اضطرب أمر الملك بالهند، فأقام زماناً طويلاً وهو ممالك مفترقة في البلاد، لكل طائفة مملكة، حتى غزتهم الملوك فخافوا أن يدخل عليهم الوهن، وكانوا أهل حكمة ومعرفة وعقول، مجاوزين بها مقدار غيرهم من الأمم فأجمعوا على تمليك رجل واحد، فملكوا زارح، وكان عظيم الشأن، جليل القدر، فعظم ملكه، و جل سلطانه، حتى سار إلى أرض بابل، ثم تجاوزها إلى ملوك بني إسرائيل، وهو الذي غزا بني إسرائيل، بعد أن مات سليمان ابن داود بعشرين سنة، وملك إسرائيل يومئذ رحبعم بن سليمان، فضجت بنو إسرائيل إلى الله تعالى، فسلط الله على زارح وجيشه الموت، فانصرف إلى بلاده.
ومن ملوكهم فور، وهو الذي غزا بلاده الإسكندر لما قتل ملك الفرس، وغلب على أرض العراق وما والاها مما كان في مملكة داريوش، وذلك أنه كتب إليه يأمره بالدخول في طاعته، وكتب إليه فور أنه يزحف إليه بالجيوش، بدر الإسكندر، فصار إلى بلاده، وخرج إليه فور، فحاربه، وأخرج فور الفيلة وكان العلو على الإسكندر، فكانت لا يقف لها شيء، فعمل الإسكندر تماثيل من نحاس، ثم حشاها بالنفط والكبريت، وأشعل النار في داخلها، ثم صيرها على عجل، وألبسها السلاح، ثم قدمها أمام الصفوف، فلما تلاقوا دفعتها الرجال إلى الفيلة، فلما قربت حملت عليها الفيلة بخراطيمها، فكانت تلف الخراطيم على ذلك النحاس وهو يلهب فتشتوي، وتنصرف منهزمة، فتفل كراديس الهند، وتهلكهم، ثم دعا الإسكندر فور ملك الهند إلى أن يبارزه، فبرز له، فقتله الإسكندر مبارزة بعدله، واستباح عسكره.
ومن ملوكهم كيهن، وكان رجلا حكيما، ذكيا، أديبا، فملكه الإسكندر بعد فور على جميع أرض الهند، وكان كيهن قد استعمل الفكر، فكان أول من قال بالتوهم، وإن الطبيعة تنصرف إلى ما تتوهمه، فما توهمت أنه ينفعها نفعها وإن كان ضاراً، وكان كيهن يأكل البيش، وهو السم القاتل، ثم يتوهم أن على قلبه أحمال ثلج، فلا يضره ذلك البيش، حتى احترقت رطوبته، وكان من أصح خلق الله ذهنا، وأحفظه وأذكاه.

ومن ملوكهم دبشليم، وهو الذي وضع في عصره كتاب كليلة ودمنة، وكان الذي وضعه بيدبا حكيم من حكمائهم، وجعله أمثالاً يعتبر بها، ويتفهمها ذوو العقول، ويتأدبون بها، فكان أول باب منها باب السلطان الذي سعى إليه البغاة بخاصته وأصحابه المقدمين عنده، وكيف ينبغي أن يستعمل الأناة والتثبيت، ولا يعجل بقول السعاية، وهو باب الأسد والثور.
الباب الثاني باب الفحص عن الأمور، وكيف تكون العواقب فيها، وما يؤدى إليه البغي و التهور والكيد من سوء العاقبة، وهو باب الفحص عن خبر دمنة.
الباب الثالث باب الأعداء والتحرز منهم والحيلة لهم، والكلام الذي يكسب العداوة، وما يجب من مداراة الأعداء، وانتهاز الفرصة فيهم عند إمكان الأمر، والتضرع لهم حتى يمكن الانتقام منهم، وهو باب البوم والغربان.
الباب الرابع باب المشاورة للعلماء والاستعانة بأهل الحزم والأمانة، وإفشاء الأمور إلى أهل العقل، وهو باب بلاذ.
الباب الخامس باب المعروف وإلى من ينبغي أن يصطنع وكيف يفسده سوء الشكر إذا وضع غير موضعه، وحمله من لا يستحقه، وكيف يعرف موضعه عند أهله الذين يشكرونه، وهو باب السلحفاة والببر والقرد والنجار.
الباب السادس باب الظفر بالأمر، وإضاعته بعد إمكانه، والعجز عن حفظه بعد القدرة عليه، وهو باب القرد والغيلم.
الباب السابع باب المداراة ومصانعة أهل الشأن، واحتراز مودتهم، واستماله أهل الانحراف حتى يتخلص من السوء، وهو باب السنور والجرذ.
الباب الثامن باب معرفة السلطان بأعوانه وأقربائه وأهل دخلته، واستصلاحه من نالته جفوته منهم، واجتلاب ردئه، والاستعانة على أموره بأهل العفاف والمودة، وتفقد أحوال أعوانه وحاشيته، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء على الإساءة، وهو باب الأسد وابن آوى.
الباب التاسع باب الإخوان والمتصادقين على صحة موداتهم، ومقدار الإخوان، وعظم النفع بهم، ومعاونتهم على أمور الشدة والرخاء، وهو باب الحمامة المطوقة.
الباب العاشر باب طلب نفع الناس بضر النفس، والتفكر في العاقبة، وهو باب اللبؤة والأسوار. وقال بعض علماء الهند إن أهل بلاد الهند تواتر عليهم الموت، حتى ذهب علماؤهم، وضعف الملك، وإنه لما ملك هشران طلب من يحيى له شرائع دين آبائه، فأتاه قفلان، وكان داهية، فقال له: إن الناس جزء من الحيوان، وإن الحيوان جزء من النامي، وإن النامي من الطبائع الأربع التي هي: النار والهواء والأرض والماء، وإن النامي ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها النبات، وله النمو فقط، والثاني ما يكون في البحر من الأصداف وما أشبهها، وله نمو وحس، والثالث الحيوان البري، وله نمو وحس وحركة، وإن الحيوان أقل وأحقر من أن يدبرهم الخالق، وإنما يدبرهم ويصرفهم الفلك.
فقال له الملك: أرني صورة ما تقول وبرهانه! فوضع النرد، وقال: اتفق الناس على أن دور الزمان سنة، ومعناها اثنا عشر شهراً، ومعناها البروج الاثنا عشر، وعلى أن أيام الشهر ثلاثون يوماً، ومعناها لكل برج ثلاثون درجة، وعلى أن الأيام سبعة، ومعناها الكواكب السبعة السيارة، ثم جعل تشبيها لذلك، فوضع عرصة شبيهة بالسنة، وصير فيها أربعة وعشرين بيتاً عدد ساعات الليل والنهار، في كل ناحية اثنا عشر بيتاً تشبيها بشهور السنة والبروج، وصير لها ثلاثين كلباً تشبيها بأيام الشهر ودرج البروج، وصير الفصين تشبيها بالليل والنهار، وفي كل فص ست جهات لأنه عدد تام له نصف وثلث وسدس، في كل فص، إذا سقط من أعلاه وأسفله، سبع نقط: تحت الست واحدة، وتحت الخمس اثنتان، وتحت الأربع ثلاث، تشبيهاً بعدد الأيام والكواكب السبعة السيارة، وهي: الشمس، والقمر، وزحل، والمشتري، والمريخ، وعطارد، والزهرة، ثم جعلها محنة بين رجلين، وأعطى كل واحد فصاً، وقال: من أعطيته هذه السبع النقط من أعلاها أكثر من صاحبه بدا، فاجتمع له الفصان، فضرب، وما ظهر من الفصين تقلب الكلاب عليه، وجعل ذلك تمثيلاً للحظ الذي يناله العاجز بما جرى له الفلك، والحرمان الذي يبتلي به الحازم، على حسب ما يجري له الفلك، فلما ظهر ذلك قبله الملك، وفشا في أهل المملكة، وصار أهل الهند تجري أمورها بما تدبره الكواكب السبعة السيارة.

وملك بلهيت وقد غلب على أهل المملكة هذا الدين، وكان له عقل ومعرفة، فلما رأى ما عليه أهل مملكته ساءه ذلك، وبلغ منه، ثم سأل: هل بقي رجل على دين البرهمية؟ فدل على رجل له عقل ودين، فأرسل إليه، فلما أتاه أكرمه، ورفع درجته، ثم ذكر له ما قد فشا في أهل مملكته، فقال: أيها الملك! أنا أقيم برهاناً اضطر به، ويعرف به فضل الحازم، وموضع تقصير العاجز، واجعلها صورة بين اثنين ليبين فضل الحازم على العاجز، والمجتهد على المقصر، والمحتاط على المضيع، والعالم على الجاهل، فوضع الشطرنج، وتفسيرها بالفارسية هشت رنج، وهشت ثمانية، ورنج صفح، وصيرها ثمانية في ثمانية، فصارت أربعة وستين بيتاً، وصيرها اثنين وثلاثين كلباً، مقسومة بين لونين، كل لون ستة عشر كلباً، وقسم الستة عشر على ست صور فالشاة صورة، والفرز صورة والفيلان صورة، والرخان صورة، والفرسان صورة، والبيادق صورة، فاشتق ذلك من زوج الزوج، وهو أحسن ما يكون من الحساب لأن الأربعة والستين، إذا قسمتها، كان لها نصف، وهو اثنان وثلاثون، وهي عدة جميع الكلاب، وإذا نصفت الاثنين والثلاثين كان لها نصف، وهو ستة عشر، وهو ما لكل واحد من الكلاب، وإذا نصفت الستة عشر كان لها نصف، وهو ثمانية، وهي عدة بيادق كل واحد، فإذا نصفت الثمانية كان لها نصف، وهو أربعة، وهو الرخان والفرسان من كل واحد فإذا نصفت الأربعة كان لها نصف، وهو اثنان، فقد انقسمت أزواجاً ولم يبق في القسم بعد الأزواج إلا الواحد الذي يقسمها كلها آحاداً، وهو ليس بعدد، ولا معدود، ولا زوج، ولا فرد، لأن أول أعداد الفرد ثلاثة.
ثم قال الحكيم: ليس شيء أجل من الحرب، لأنه يبين فيها فضل التدبير، وفضل الرأي، وفضل الحزم، وفضل الاحتياط، وفضل التعبية، وفضل المكيدة، وفضل الاحتراس، وفضل النجدة، وفضل البأس، وفضل القوة، وفضل الجلد، وفضل الشجاعة، فمن عدم منه شيء من هذا عرف موضع تقصيره لأن خطأها لا يستقال، والعجز فيها متلف للمهج، والجهل مبيح للحمى، وترك الحزم ذهاب الملك، وضعف الرأي جلب للعطب، والتقصير سبب الهزيمة، وقلة العلم بالتعبية داعية الانكشاف، وقلة المعرفة بالمكيدة تهور إلى الهلكة، وترك الاحتراس نهزه للعدو، وجعلها على مثال الحرب، فإن أصاب ظفر وإن أخطأ هلك.
فلما رأى الملك صحة البرهان، وتبين فضل حكمة الحكيم، وعلم أن قد أصاب وأحسن التمثيل، وأبان عما قد عمي عنه، جمع أهل مملكته، فعرفهم ما كشف الله عنهم من الغم، وأمرهم أن يقيموها ويتأملوها، وقال لهم، قد علمنا أن ليس في العالم حي ناطق، مفكر، ضاحك عاقل إلا الإنسان، فالإنسان عليه مدار جميع ما في العالم، لأن الفلك بجميع ما فيه خلقه الخالق للإنسان ليعرف به ما يحتاج إليه من زمانه وأوقاته، وكذلك ذلل له جميع ما في الأرض، وكل ما خلق الله مما في قعر البحر، وجو السماء ورؤوس الجبال فلما ملك الإنسان جميع ما خلق قسم ذلك الإنسان ثلاثة أقسام فأكل ثلاثاً، وسخر ثلاثاً، وقتل ثلاثاً: فأكل الطير والسمك وما شاء من النعم والإبل، وسخر البقر والحمير والدواب، وقتل السباع والحيات والهوام، ثم جعل فيه آلات يعلم بها، ويعقل بها، ويدرك بها، ويفهم، ففضل الناس بعضهم بعضا بالعلم والعقل والفهم.
وقد زعم علماء من علماء الهند أنه لما ملكت حوسر بنت بلهيت خرج عليها خارجي، وكانت جارية عاقلة، فوجهت ابناً لها، وكان لها أربعة أولاد، فقتل ذلك الخارجي ابنها، فعظم ذلك أهل مملكتها، وأشفقوا من أخبارها، فاجتمعوا على حكيم من حكمائهم يقال له قفلان، وكان ذا حكمة وفطنة ورأي، فذكروا ذلك له، فقال: أنظروني ثلاثاً! ففعلوا ذلك، وخلاً مفكراً، ثم قال لتلميذ له، أحضرني نجاراً وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فأحضره نجاراً فارها، وخشباً من لونين مختلفين، أبيض وأسود، فصور صورة الشطرنج، وأمر النجار، فنجرها، ثم قال له: أحضرني جلداً مدبوغاً! فأمره أن يخط فيه أربعة وستين بيتاً، ففعل ذلك، فنصب ناحية، ثم تجاولا حتى فهماها وأحكماها، ثم قال لتلميذه: هذه حرب بلا ذهاب أنفس.

ثم حضره أهل المملكة، فأخرجها لهم، فلما رأوها علموا أنها حكمة لا يهتدي لها أحد، وجعل يجاول تلميذه، فيقع شاة مات، وشاة غلب، فأخبرت الملكة بخبر قفلان، فأحضرته، وأمرته أن يريها حكمته، فأحضر تلميذه، ومعه الشطرنج، فنصبها بينه وبينه، فلعبا فغلب أحدهما صاحبه، فقال، شاه مات! فانتبهت، وعلمت ما أراداه، وقالت لقفلان: أقتل ابني؟ قال: أنت قلت! فقالت لحاجبها: أدخل الناس، يعزوني فلما فرغت أحضرت قفلان وقالت له: سل حاجتك! فقال: أسأل أن أعطى قمحاً بعدد بيوت الشطرنج، أعطى في البيت الأول حبة وفي الثاني اثنتين، ثم يضعف ذلك لي في البيت الثالث على الثاني، ثم على هذا الحساب إلى آخرها.
قالت: وما مقدار هذا؟ ثم أمرت بالحنطة أن تحضر، فلم يقم لذلك شيء حتى أنفدت قموح البلد، ثم قوم القمح بالمال حتى فنى المال، فلما كثر ذلك قال: لا حاجة لي به! إن قليل الدنيا يكفيني. ثم سألته عن عدد الحب الذي سال، فقال لها: يكون ذلك عدداً، وهذا ما في الشطرنج من العدد: السطر الأول مائتان وخمسة وخمسون.
الثاني اثنان وثلاثون ألفاً وسبعمائة وثمانية وستون.
الثالث ثمانية آلاف ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانون ألفا وستمائة وثمانية.
الرابع ألفاً ألف ألف، ومائة وسبعة وأربعون ألف ألف، وأربعمائة وثلاثة وثمانون ألفاً، وستمائة وثمانية وأربعون.
الخامس خمسمائة وتسعة وأربعون ألف ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وخمسون ألف ألف، وثماني مائة ألف، وثلاثة عشر ألفاً، وثماني مائة وثمانية وثمانون.
السادس مائة وأربعون ألف ألف ألف، و سبعمائة وسبعة وثلاثون ألف ألف ألف، وأربعمائة وثمانية وثمانون ألف ألف، وثلاثمائة وخمسة وخمسون ألفاً، وثلاثمائة وثمانية وعشرون. السابع ستة وثلاثون ألف ألف ألف ألف ألف، وثمانية وعشرون ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وسبعة وتسعون ألف ألف ألف، وثمانية عشر ألف ألف، وتسعمائة وثلاثة وستون ألفاً، وتسعمائة وثمانية وستون.
الثامن تسعة آلاف ألف ألف ألف ألف ألف، ومائتان وثلاثة وعشرون ألف ألف ألف ألف ألف، وثلاثمائة واثنان و سبعون ألف ألف ألف ألف، وستة وثلاثون ألف ألف ألف، وثماني مائة وأربعة و خمسون ألف ألف، وسبعمائة وخمسة وسبعون ألفاً، وثماني مائة وثمانية، يكون جميع ذلك في الشطرنج الثمانية ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف، وأربعمائة وستة وأربعين ألف ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة وأربعة وأربعين ألف ألف ألف ألف، وثلاثة وسبعين ألف ألف ألف، وسبعمائة وتسعة آلاف ألف وخمسمائة وواحداً وخمسين ألفاً وستمائة وخمسة عشر. ومنهم كوش الملك الذي كان في زمان سندباذ الحكيم، وكوش هذا وضع كتاب مكر النساء. والهند أصحاب حكمة ونظر، وهم يفوقون الناس في كل حكمة، فقولهم في النجوم أصح الأقاويل، وكتابهم فيه كتاب السند هند الذي منه اشتق كل علم من العلوم مما تكلم فيه اليونانيون والفرس وغيرهم، وقولهم في الطب المقدم، ولهم فيه الكتاب الذي يسمى سسرد فيه علامات الأدواء، ومعرفة علاجها وأدويتها، وكتاب شرك، وكتاب ندان في علامات أربعمائة وأربعة أدواء ومعرفتها بغير علاج، وكتاب سند هشان، وتفسيره صورة النجح، وكتاب فيما اختلفت فيه الهند والروم من الحار والبارد و قوي الأدوية وتفصيل السنة، وكتاب أسماء العقاقير كل عقار بأسماء عشرة، ولهم غير ذلك من الكتب في الطب، ولهم في المنطق والفلسفة كتب كثيرة في أصول العلم منها: كتاب طوفا في علم حدود المنطق، وكتاب ما تفاوت فيه فلاسفة الهند والروم، ولهم كتب كثيرة يطول ذكرها ويبعد عرضها.
ودين أهل الهند البرهمية، وفيهم عبدة الأصنام، ولهم ممالك مختلفة وملوك متفرقة لسعة البلد في طوله وعرضه، فأول ملوكهم مما يتاخم البلاد التي هي اليوم في دار الإسلام: دانق، وهو ملك عظيم القدر، واسع المملكة، كثير العدة، ثم من بعده رهمي، وهو أعظم قدراً وأعز بلاداً، وهو على بحر من البحور، وفي بلده الذهب وما أشبهه، ثم مملكة بلهري، ثم الكمكم ومن عندهم يأتي الساج، ولهم اتساع في البلاد، ثم مملكة الطافن، وهم قوم بيض الوجوه، ثم مملكة

كنباية، ومملكة الطرسول، ومملكة الموسة، ومملكة المايد، وهذه الممالك تتاخم الصين، وهم يحاربون الصين، ثم مملكة سرنديب، ثم مملكة قمار، وهي مملكة جليلة القدر، عظيمة الأمر، يتقدم لملكهم الملوك، ثم مملكة الديبل، ثم الفاريط، ثم مملكة الصيلمان، ولهم بعض ممالك يليها النساء.
اليونانيونوكان لليونانيين حكماء متفلسفون، وفلاسفة متكورون، ومنهم من تكلم في الطب، ومنهم من تكلم في حقائق الأمور، ومنهم من تكلم في الحساب والأعداد، ومنهم من تكلم في الأفلاك و النجوم، ومنهم من تكلم في الحساب والقسمة، ومنهم من قال في الهندسة والفلاحة، ومنهم من قال في الصنعة والإكسيرات، ومنهم من قال في الفراسة، ومنهم من قال في الطلسمات والآلات فيقال إن أول حكيم وضع كتاباً، ودون علماً، أبقراط مقليدس بن أبقراط، فبفلسفته يتفلسف الحكماء في الطب، وإليه يرجعون في المعرفة، وله من الكتب: كتاب الفصول، وكتاب البلدان والمياه و الأهوية، وكتاب ماء الشعير، وكتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الجنين، وكتاب الأركان، وكتاب الغذاء، وكتاب الأسابيع، وكتاب أوجاع النساء، وكتاب أبيذيميا، فهذه مشهورات من كتبه، وله بعد ذلك كتب كثيرة، فالكتب التي لا بد للمتطببين من معرفتها من كتب أبقراط أربعة، وهي: كتاب الفصول، و كتاب تقدمة المعرفة، وكتاب الأهوية والأزمنة، وكتاب ماء الشعير.
فأما كتاب الفصول، فإنه قال في كل وجه من العلم قولا جامعا، في سبعة وخمسين باباً، وهي التي تسمى التعليمات: فالتعليم الأول في الصنعة وصنفها قال أبقراط: العمر قصير، والصناعة طويلة، والزمان حديد، والتجربة خطرة، والقضاء عسر.
التعليم الثاني في أصناف الطعام للمرضى وتقديره قال أبقراط: الأطعمة اللطيفة دقيقة جداً ليست في الأمراض المزمنة، ولا في الحادة، والأطعمة أيضاً التي على أقصى حد اللطافة ردية مثلما أن الماء الذي على الحد الأقصى ردي.
التعليم الثالث في اهتياج الحمى قال أبقراط: ينبغي أن يتحفظ في الطعام، وإن الزيادة منه مضرة، وكل ما يعرض من الأمراض في الحين بعد الحين، فينبغي التحفظ عند اهتياجها. التعليم الرابع في علامات الأمراض قال أبقراط: الدليل على حال الأمراض ما يظهر من لفظ الجسد فيها: مثل من به ذات الجنب، إن ظهر منه نفث عاجل من أول المرض قصر مرضه، وإن ظهر ذلك متأخراً طال مرضه، وفي مثل البول والبراز والعرق، إذا ظهر على الوجه الذي يجري عليه القضاء بالفرج، أو على خلاف ذلك على قصر الأمراض وطولها.
التعليم الخامس قال أبقراط: كلما نشت، يعني ذوات الأرواح، فهو كثير الحرارة الغريزية، ولذلك يحتاج إلى كثرة الطعام وإلا بلي جسده.
التعليم السادس فيما ينبغي أن يطعم للمحمومين من الطعام، قال أبقراط: التدبيرات الرطبة بجميع المحمومين أمثل، ولا سيما للصبيان ولغيرهم من الذين اعتادوا ذلك التدبير، لبعض مرة، ولبعض اثنتين وأكثر وأقل، ومرة بعد مرة، وأعطوا الساعة والعادة والبلاد والسن حقها.
التعليم السابع في معرفة الموقت قال أبقراط فيما يتفرج وما قد تفرج: ينبغي أن لا يحرك، ولا يحدث به حدث لا بأدوية، ولا بغيرها، مما يهيج ذلك.
التعليم الثامن في النوم قال أبقراط: في أي مرض كان إن جاءه النوم بوجع، فذلك يموت، وإن نفع النوم، فليس بميت، وإن رد النوم ذهاب العقل، فذلك صالح.
التعليم التاسع في سقي الدواء قال أبقراط: ينبغي لمن أراد تنقية الأجساد أن ينقيها قبل ذلك أي إذابة ما فيها من الكيميوس الغليظ.
التعليم العاشر في البراز قال أبقراط: إن وقع في الجسد وجع، أو خرجت في الجسد خراجات، فعند ذلك ينبغي أن ينظر في البراز، فإن كانت مرة صفراء فالجسد كله مريض، وإن كان شبيها ببراز الأصحاء فالطعام الحشد.
التعليم الحادي عشر قال أبقراط في الأمراض الحادة لأنها ربما أسرعت إلى الدماغ، أو إلى القلب، أو الكبد، فتهلك، وربما أسرع انحطاطها فتبرأ. التعليم الثاني عشر في القضاء في الفرج قال أبقراط: الأمراض الحادة يقضي عليها بالفرج في أربعة عشر يوماً.
التعليم الثالث عشر قال أبقراط: عند ابتداء الأمراض إن رأيت أن تحرك شيئاً، فحرك، و

إن صعدت العلة، فلزوم الكف أفضل، أي إن رأيت موضعا للعلاج، فقبل أن تصعد العلة. التعليم الرابع عشر في معرفة صالح الأمراض وطالحها قال أبقراط: في كل مرض صحة عقل المريض حسن، وقبوله ما يقضي خير، وخلاف ذلك شر أي ما يجد العليل في الدماغ والمعدة. التعليم الخامس عشر في المخنوقين قال أبقراط: الذين يخنقون ويخلون قبل أن يموتوا إن ظهر في أفواههم زبد لم يسلموا.
التعليم السادس عشر في إضمار الجسد والعناء قال أبقراط: في كل تحريك الجسد، إذا بدا بتعب، ثم ودعته مكانك لم يضر التعب.
التعليم السابع عشر في انقلاب الساعات قال أبقراط: انقلاب الساعات عن عظم البرد والحر وغير ذلك مما يجري مجراه أي انقلاب ساعات الزمان من أجزاء السنة.
التعليم الثامن عشر في العرق قال أبقراط: إذا كان الزمان شبيها بالصيف يعني الربيع فعند ذلك ينبغي أن يتوقع كثرة العرق مع كل حمى تعرض. التعليم التاسع عشر في الساعات قال أبقراط: إن كان الشتاء يابساً بلا رطوبة، وكانت رياحاً شمالاً، كان الصيف، يعني الربيع، ممطوراً، وكانت رياحة يمانية، فلا بد أن يكون في القيظ حميات حادة، ووجع العين واختلاف من الأعفاج، وعامة ذلك في النساء والذين في طبيعتهم رطوبة.
التعليم العشرون في تدبير السنين قال أبقراط: السنة اليابسة أوبأ من الممطورة الرطبة، عامتها حميات طويلة، وسيلان البطون، وخروج متماشية، وجنون، وفالج، وذبحه، وأما أمراض السنة اليابسة، فقرح في الرئة، ووجع العيون والمفاصل، وتقطير البول، واختلاف من خراج الأعفاج.
التعليم الواحد والعشرون في أمراض الساعات والأسنان قال أبقراط: في الساعات على ما يكون من الأمراض في الصيف وأول القيظ: الغلمان والذين يتلونهم في السن أصحاء، وحسن حالهم أفضل من غيرهم، وفي القيظ، وبعض الربيع: الشيوخ أحسن حالاً، وفي سائر الربيع والشتاء: أهل النصفة في السن أفضل حالاً.
التعليم الثاني والعشرون في الأمراض التي تصيب الإنسان فيبدأ بالولدان قال أبقراط: الأمراض التي تصيب الولدان الصغار قرح وسعال، وسهر وفزع، وورم في السرر، ورطوبات الأذنين. التعليم الثالث والعشرون قال أبقراط: والأمراض التي تصيب الصبيان، إذا كبروا: وجع اللوزتين، وبهر، و حصاة، ودود عراض، ودود طوال، ودود مثل دود الخل، وثاليل، وغلظ في أبشارهم، وخنازير وخراجات أخر، والذين أكبر منهم ممن قد راهق الاحتلام: يصيبهم أمر آخر، ويقضي عليهم بالفرج إلى أربعين يوماً، بعضها إلى سبعة أشهر، ومنها إلى سبعين يوماً، ومنها إذا راهقوا الاحتلام.
وكل أمراض لا تنجلي عن الصبيان إلى الاحتلام، وعن الجواري إلى أن يطمثن، فتلك أمراض تثوي زماناً طويلاً.
التعليم الرابع والعشرون في معرفة ما تداوي به النساء الحوامل، قال أبقراط: النساء الحوامل يداوين لأربعة أشهر فما دون ذلك من صغر الولد، وأما ما زاد من كبره، فينبغي أن يحذر علاجهن.
التعليم الخامس والعشرون قال أبقراط: ينبغي أن يداوي ما فوق في الصيف و ما أسفل في الشتاء، يعني ما كان فوق الرأس والمعدة، وما كان أسفل من المرة الصفراء، وما أسفل من الخام وما أشبهه.
التعليم السادس والعشرون في ذي المشي قال أبقراط: عند شرب الأدوية والخربق ينبغي أن يرطب أجساد الذين لا تخف التنقية عليهم من فوق قبل الدواء بكثرة الطعام.
التعليم السابع والعشرون في الاختلافات طوعاً قال أبقراط: إذا جاء الاختلاف طوعاً كأنه دم أسود مع حمى، أو غير حمى، فذلك اختلاف سوء، وإن كان اختلاف كثير الألوان منتقل من ألوان صالحة إلى ألوان ردية، فذلك اختلاف سوء أيضاً، وإن جاء الأول بدواء، فهو أمثل، والكثير الألوان فلا بأس به.
التعليم الثامن والعشرون في الفراغ من حيث كان قال أبقراط: كل محموم يعرض له اختلاف لأن كثرة إفراغ الدم ترخي الكبد ثم تسقم النضج.
التعليم التاسع والعشرون في العرق قال أبقراط: العرق في المحمومين خير إن جاء في اليوم

الثالث، أو الخامس أو السابع عشر، أو الواحد والعشرين، أو الواحد والثلاثين، أو الرابع والثلاثين، لأن هذا يفرج عن المريض، فأما الذي يكون في غير هذه الأيام، فذلك عرق مؤذن بوجع وطول مرض ونكسه. التعليم الثلاثون في الحميات اللازمة قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع بل تشتد في اليوم الثالث، فتلك أقرب إلى الهلاك، والتي تقلع إلى أي وجه كان من الأقلاع، فتلك أبعد إلى الهلاك.
التعليم الحادي والثلاثون في علامات الموت قال أبقراط: الحميات اللازمة التي لا تقلع، إن كان ظاهر الجسد باردا وداخله يحترق، وكان بصاحبه عطش، فتلك علامات موت.
التعليم الثاني والثلاثون في الانقباض والكزاز قال أبقراط: من أصابه انقباض، أو كزاز، فتبعت ذلك الحمى انحل مرضه. التعليم الثالث والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فأصابه حر شديد في جوفه ووجع في قلبه فذلك شر. التعليم الرابع والثلاثون قال أبقراط: من كانت به حمى، فورمت شراسيفه، وأشرفت وظهرت به قرقرة في جوفه، فأصابه مع ذلك وجع صلبه، فلم يتفرج بأرواح تخرج منه، أو ببول كثير، أو يتفرج باختلاف هلك.
التعليم الخامس والثلاثون في شرب الخربق قال أبقراط: من أصابه انقباض من كثرة الاختلاف على شرب الخربق فذلك ميت.
التعليم السادس والثلاثون في القروح في الرئة، والضمر في الرئة، يكون ذلك في ثمانية عشر إلى خمسة وثلاثين.
التعليم السابع والثلاثون في الماء الحار والبارد قال أبقراط: الماء الحار، إذا أدمنت عليه يرخي اللحم، ويذهب بشدة العصب، ويخدر العضل، ويهيج الرعاف، ويضعف النفس، وإن دام ذلك مات، والبارد يأتي بكزاز وتسود، ويأتي بنافض وحمى.
التعليم الثامن والثلاثون في معرفة المياه قال أبقراط: الماء الحار ينضج المدة، وليس في كل جرح، ولنضج المدة علامات كثيرة، وهي لين الجلد، وضم الورم، وإذا كان الماء الحار يفعل ذلك يذهب الوجع، ويسكن النافض والانقباض والكزاز، ويحل وجع الرأس.
التعليم التاسع والثلاثون في أمور النساء قال أبقراط: البخور بالطيب جلاب لطمث النساء، نافع لذلك، ولأشياء كثيرة غير ذلك، إلا أنه يهيج وجعا في الرأس وصداعاً.
التعليم الأربعون قال أبقراط: أيما امرأة ليست بحبلى، ولا مرضعة، وتجد في ثدييها لبناً، فذلك دليل على أن دم طمثها قد انقطع.
التعليم الحادي والأربعون قال أبقراط: إن الأولاد الذكور أكثر ما يكونون في يمين الأرحام، والإناث في يسراها.
التعليم الثاني والأربعون قال أبقراط: النساء الحبالى اللاتي تصيبهن الحمى، فتصلب عليهن فأولئك من غير علة معروفة تبين، فإن ذلك دال على هلاك، ويسقطن، فيهلكن.
التعليم الثالث والأربعون قال أبقراط: أعط اللبن لمن يشتكي رأسه ولمن به عطش، وأيضاً لمن به اختلاف من مرة صفراء وحمى حادة، ولمن اختلف دما كثيراً، وهو موافق أن يعطي لمن به ضمر وقرح في رئته، إذا لم يكن محموما جداً، ويعطي لمن كانت حماه لينة، فاترة، مزمنة، من غير أن يكون به شيء من العلامات التي ذكرنا ويكون جسده ناحلاً جداً.
التعليم الرابع والأربعون في إزلاق الأمعاء قال أبقراط: من أصابه زلق الأمعاء وطال به، ثم تبع ذلك، جشاء حامض لم يكن به قبل ذلك فذلك علامة خير، وهو مرض يكون له ثلاثة أسباب: من قبل ضعف المعدة، أو من قبل بلغم بل المعدة، أو من قبل قرح يكون في المعدة. التعليم الخامس والأربعون قال أبقراط: من أصابه وجع في رأسه وضربان شديد، فذلك إن سال من أنفه، أو من أذنيه، أو من فمه قيح، أو ماء، حل وجعه.
التعليم السادس والأربعون قال أبقراط: من أصابه انقطاع في مثانة، أو دماغ، أو قلب، أو صفاق، أو شيء من الأمعاء الدقاق، أو في معدة، أو في كبد، فذلك كله مميت.
التعليم السابع والأربعون قال أبقراط: من أصابه فزع، أو خبث نفس زماناً كثيراً دائماً، فذلك يصير إلى المرة السوداء.
التعليم الثامن والأربعون قال أبقراط: شرب الخمر صرفا، والكماد الحار، وقطع العروق، وشرب الدواء يحل وجع العينين.
التعليم التاسع والأربعون قال أبقراط: ترك كل خراج سرطاني لا يعالج أفضل، فإن أصحابه إن عولجوا هلكوا سريعاً، فإن لم يعالجوا بقوا زماناً.
التعليم الخمسون قال أبقراط: الخراج الذي ينتأ سنة، وأكثر من ذلك، فلا بد من أن يقلع منه عظام، ويبقى آثارها كالجرب.

التعليم الحادي والخمسون قال أبقراط: ذهاب العقل الذي يأتي الضحك معه يؤثر به، وذهاب العقل مع الحزن والعبوس لا يؤثر به.
التعليم الثاني والخمسون قال أبقراط: في الأمراض الحادة، إذا بردت الأطراف، فذلك شر. التعليم الثالث والخمسون قال أبقراط: من خرج في كبده خراج، ثم تبعه فواق، فذلك شر.
التعليم الرابع والخمسون قال أبقراط: من كانت به حمى، وكان ببوله ثفل غليظ شبيه بدشيش الطحين، فذلك دليل على أن مرضه يطول. التعليم الخامس والخمسون قال أبقراط: من قاء دماً من غير أن تصيبه غلبة، فهو يتخلص، فإن أخذته غلبة حمى، فهو خبيث، وينبغي أن يعالج بكل دبوغ، أي من الأدوية الدابغة. التعليم السادس و الخمسون قال أبقراط: من كان يتقيأ القيح، فكوى، وخرج القيح أبيض نقياً سلم صاحبه، وإن خرج منتناً وسخاً هلك صاحبه، وإن كان بكبده خراج قد قيح، وكوى، وخرج القيح نقياً أبيض سلم لأن القيح في صفاق الكبد، وإن خرج القيح شبه ماء الزيتون هلك صاحبه.
التعليم السابع والخمسون قال أبقراط: العطاس يكون من قبل الرأس، إذا سخن الدماغ، أو برد، أو ترطب ما بين الدماغ وصفاقه، وامتلأ فيفرغ ذلك الهواء، ويكون له نغنغة لأن مخرجه من ضيق، فهذه أبواب كتاب الفصول. و أما كتابه في تقدمة المعرفة فهو ثلاثة فصول وعشرون تعليماً: الأول يخبر أبقراط كيف ينبغي للطبيب أن ينتحل تقدمه المعرفة ، فإنه الذي يخبر المرضى بما بهم، وما أصابهم قبل ذلك، وما هو آت مما يصيبهم، وما أغفل المرضى ذكره، وإن قوتها وأسبابها، وإن كانت من اختلاط الجسد، أو غيره، ونحو هذا.
التعليم الثاني يخبر فيه كيف ينبغي للطبيب أن يحسن النظر في الأمراض الحادة، وكيف ينظر في وجوه المرضى إن كانت تشبه وجوه الأصحاء، وعلامات الوجوه الدالة على الموت ونحو هذا. التعليم الثالث يقول فيه: إن كان للمرضى ثلاثة أيام، وأربعة والوجوه على حال وجوه الأصحاء، وغير ذلك ينبغي أن يحسن الفكر في الآيات والعلامات على ما تقدم ذكره، وفي علامات العينين وأشفارهما، والأنف، وانضجاع المريض، وكيف ينبغي أن يعمل وما المهلك من علاماته.
التعليم الرابع يصف رجلي المريض وأحوالهما، وانضجاعه، وحك الأسنان بعضها ببعض مع الحمى، والدلائل في ذلك، وإن كان بالمريض خراج أصابه في مرضه، أو قبل مرضه، وما يدل عليه، ويصف اليدين واضطرابهما، وما تدلان في ذلك.
التعليم الخامس يذكر النفس الكثير السريع، وما يدل عليه، ويذكر أفضل العرق في الأمراض الحادة، والعرق الفاضل، والعرق البارد، والعرق المتخبث، ويذكر أن العرق يكون إما من ضعف الأجساد، وإما من دوام خراج. التعليم السادس يذكر صحة الشراسيف، وإذا لم تكن صحيحة، وضربان عروقها، وما يدل في ذلك، والأورام التي بجنب الشراسيف، ويخبر عن الأورام وما يصيبها. التعليم السابع يذكر فيه الخراجات، وإذا أزمنت كيف ينبغي أن ينظر فيها وينعت مقاديرها وما يخرج منها، وكيف ينبغي أن يخرج.
التعليم الثامن يذكر فيه الحبن الذي يكون مع الأمراض الحادة، والذي يكون من البزاق، والذي من الكبد، وما يصيب أصحاب الحبن من الأعراض اللاحقة بهم من أجله، وعلامات تدل على الموت من اسوداد الأصابع والأرجل ونحو هذا. التعليم التاسع يذكر فيه تقابض الخصيتين و الذكر، ويذكر السبات والنوم وكيف ينبغي أن يكون، والبراز وكيف ينبغي أن يكون.
التعليم العاشر يذكر فيه البراز كيف يجب خروجه وأسبابه، وكيف ينبغي أن يكون البطن في كل مرض، وألوان البراز الدالة على الموت وغير ذلك، ويصف الرياح والقراقر ونحو ذلك. التعليم الحادي عشر يخبر عن البول الصحيح ثم عن البول إذا تغير وأصناف أثفال الأبوال من جهة المثانة.
التعليم الثاني عشر يذكر فيه القيء وأسبابه، والنخمة، وكيف تنفث، ومما تختلط، و لونها، ويذكر العطاس في جميع الأمراض التي تلي الرئة، وما الميمت في ذلك، وما المؤذن بانحلال المرض.
التعليم الثالث عشر يصف فيه النخامة في أمراض الرئة ولونها وألوان النخامات، ويذكر فيه البول والبراز والعرق وما يدل كل واحد من هذا عليه. التعليم الرابع عشر يذكر الخراجات المقيحة وأوقاتها التي تنفجر فيها، ويصف كل ما يخرج منها، وكونها في كل إنسان.

التعليم الخامس عشر يذكر الخراجات الثابتة فيما يلي الآذان وما يحدث ذلك في الذين بهم أمراض الرئة، وكيف الدلائل على ذلك، والخراجات التي في سوق الذين بهم أمراض وما يلحقهم في ذلك.
التعليم السادس عشر يذكر الأوجاع الردية الذاهبة بالعقل، ويذكر الحميات وأسبابها في أيامها.
التعليم السابع عشر يذكر تقدمة المعرفة في الأمراض الحادة العسرة المزمنة، و يذكر حميات الربع، وما يلحق أصحابها من أجلها، والأيام التي تكون فيها، ويذكر أوجاعاً تكون في الصدغين والجبهة، ووجع الآذان وما يلحق المرضى.
التعليم الثامن عشر يذكر أوجاع الحلق المخنقة، والحمرة في الرقبة والصدر، والثقب، وما يلحق المريض من علامات الهلاك في ذلك، ويذكر أسباب الغرغرة وخراجات تكون ووجع مؤلم في المفاصل، وذكر الخراجات الثابتة في الشباب، وشيئا من أسباب الحمى.
التعليم التاسع عشر يذكر فيه الحمى ووجع الفؤاد والأيام التي تطول فيها الحمى مع أوجاع تكون في الحمى.
التعليم العشرون يخبر كيف ينبغي لمن أراد أن يحكم تقدمه المعرفة أن يعرف ما ينجلب من الأمراض التي لا تزال مؤلمة، وكيف يعلم، وخبر الأركان والعلامات وأجزاء السنة وأسباب البلدان، فهذه تعليمات كتاب تقدمة المعرفة لابقراط. فأما كتابه في الأهوية والأزمنة والمياه والأمصار، فإنه يخبر بما يعتري أهلها من الأمراض الخاصة والعامة، والمؤتلفة والمختلفة، بحدود ثابتة ومعالم بينة: فالباب الأول يقول: إنه ينبغي لمن أراد طلب الطب طلباً صادقاً أن يفحص أولاً عن أزمنة السنة، وما يحدث فيها، لأن بعضها لا يشبه بعضاً بل بعضها مخالف لبعض، وقد تختلف أيضا في انقلابها بذاتها.
الباب الثاني يقول: إن السنين اللاتي تحفظ أزمنتها على اعتدالها ومراجعها، فإن الأمراض التي تحدث فيها تكون شبيها وعلى استوائها، غير مخالفة ولا مشبهة، أما الأزمنة الكثيرة الانتقال، فإن الأمراض تعرض غير مستوية، ولا متواتية، وانحلالها عسر شاق.
الباب الثالث يقول: إن الرياح الحارة والباردة العامة فيها تغير الأبدان.
الباب الرابع يقول: ينبغي للطبيب أن يفكر في قوى المياه لأنها متخالفة في المذاقة والوزن، وكذلك تختلف في القوة اختلافا شديداً.
الباب الخامس يقول في المياه: كيف هي؟ أ راكدة أو لينة، أو خاشنة سائلة أم نواحي مشرفة صخرية أم صالحة رطبة النضج.
الباب السادس يقول: إنه ينبغي للطبيب أن يفكر في الأرضين إن كانت جرداء، عديمة الماء، أو شعراء، كثيرة الماء، أو عامرة، أو غامرة، أو مشرفة باردة.
الباب السابع قال: ينبغي أن يذكر غذاء الناس في أي شيء لذاتهم أفي كثرة الشرب والأكل وحب الدعة أم حب العمل والأكل؟ وأن يفحص عن كل واحد من هذه الأشياء في كل بلد. الباب الثامن قال: إن مضى شيء من الزمان والسنة، فإن الطبيب سيخبر بكل مرض عام يعرض لكل واحد من أهلها من قبل تغير أغذيتهم.
الباب التاسع قال: إذا لم تكن الأمراض من فساد الهواء فإنه لا ينزل بأهل المدينة عامة، ولكنه يكون متفرقاً، فإذا فكر الطبيب في هذا النوع وفي هذه الأشياء، فعلم علماً شافياً كيف تكون الأزمنة، كان حرياً أن يكون علمه صوابا، فإن علم النجوم ليس بجزء صغير من علم الطب. وأما كتابه في الأهوية والبلدان، فإنه وصف البلدان ومياهها وخواصها: فالقول الأول في المدن، وهي أربع مدائن: فالأولى على سمت الاستواء، والثانية على سمت الفرقدين، والثالثة بإزاء المشرق، والرابعة بإزاء المغرب.
فالأولى قال: كل مدينة موضوعة بإزاء الرياح الحارة هي التي وسط شرق الشمس الشتوي وغربة، فإنها تهب إليها هبوباً دائماً، وتكون في كن من إزاء الفرقدين، ومياه هذه المدينة كثيرة حارة تسخن في القيظ وتبرد في الشتاء، ورؤوس سكان هذه المدينة رطبة بلغمية، وبطونهم

كثيرة الاختلاف دائمة، و نساء هؤلاء الناس مرضى، ذوات أسقام أبداً بكثرة طمثهن، ولا يسقطن، وليس ذلك من طبيعتهن، ولكن من قبل أمراضهن، فإن حبلن أسقطن أكثر ذلك، وأما الصبيان فيصيبهم الكزاز، والربو، والسقم، ورجالهم يعرض لهم البطن، واختلاف الدم، والسقم الذي يدعى ابيالوس، وحمى طويلة شتوية وليليه، وبواسير في المقاعد، وتعرض لهم الحمى المتلهبة، والأمراض الحادة، والرمد الطويل، فإذا أتت لهم خمسون سنة عرضت لهم النزلات من الدماغ، فهيج بهم الفالج العارض في جميع البلدان.
والمدينة التي ناحية الشمال قال: إن كل مدينة موضوعة بإزاء ناحية الرياح الباردة مما يلي ناحية المغرب والمشرق والقطبين، فإن هذه الرياح رياحها البلادية، وتكون مستورة من الرياح الحارة، ومياهها يابسة بطيئة النضح حلوة أكثر ما تكون، وسكان هذه المدينة أكثرهم أشداء أقوياء، سوقهم إلى الدقة اضطراراً، وبطونهم خاشنة، ورؤوسهم صلبة يابسة شديدة، وينالهم الفتق، وأسقامهم ذات الجنب، والعلل الحادة، وكثرة القيح، وعروقهم تنقطع، ويأكلون كثيراً، ولا يعرض الرمد سريعاً، فإذا مرضوا تصدعت أعينهم، ويصيبهم إذا بلغوا ثلاثين سنة رعاف كثير، ولا تعرض لهم الأسقام الكاهنية، فإن عرضت كانت شديدة وتطول أعمارهم، وأخلاقهم وحشية غير ساكنة ولا هادنة، ونساؤهم يكن عواقر لبرد الماء ويبسه، وذلك أن الطمث ربما لم يكن على ما ينبغي، فإذا حبلن اشتد عليهن الولاد، ولا يسقطن، ويقل غذاء أولادهن لبرد الألبان، ويعرض لهن الكزاز، ووجع الرئة، ويعرض للصبيان الماء الأصفر في الأنثيين، فإذا كبروا ذهب، ويبطىء احتلامهم.
والمدينة الموضوعة سمت الرياح التي من المطلع القيظي والشتوي قال أبقراط: كل مدينة موضوعة ناحية شرق الشمس تكون أصح من المدينة الموضوعة ناحية الفرقدين ومن الموضوعة ناحية الرياح الحارة، والحرارة والبرودة فيها أقل وأيسر، وأمراض أهلها قليلة، والمياه الكائنة سمت طلوع الشمس نيرة مضيئة، صافية، طيبة المشم، لينة، لأن الهواء لا يكون فيها غليظا، فالشمس تحول بينه وبين أن يغلظ، وصورة سكان هذه المدينة حسنة الألوان، نيرة ضوية، وأصوات رجالهم صافية حديدة، يغضبون سريعاً، ونباتها وأعشابها أقوى وأصح، وهي في ذاتها وهيئتها تشبه فصل الربيع في قلة الحر والبرد، وأسقامها قليلة ضعيفة، ونساؤها يعلقن كثيراً، ويلدن بغير مشقة.
والمدينة الرابعة سمت المغرب هي في كن من الرياح الشرقية، وتهب إليها الرياح الحارة والباردة من ناحية الفرقدين، فتكون كثيرة الأمراض، ومياهها غير نقية، ولا صافية، وأن علتها الهواء الكائن عند الأسحار، وذلك أن أسحار هذه المدينة تطول جداً، والشمس لا تشرق فيها أول ما تشرق، حتى ترتفع وتعلو، وتهب فيها رياح باردة في القيظ، ويكون رجالها مصفارين، مرضى تضيرهم الأمراض كلها، وأصواتهم بح ونهارهم ردي في أيام الخريف لكثرة تغيره، فهذا الباب الأول في المدن الأربع.
والقول الثاني في المياه، وهي أربعة أصناف: أولها المياه الراكدة، مثل البطائح التي لا تجري، والثاني العيون النابعة، والثالث المياه التي تكون من الأمطار، والرابع المياه التي تكون من الثلوج.
قال أبقراط: المياه الظاهرة المستوية على وجه الأرض، التي لا تجري، والأمطار تمطر عليها، وتقوم معها ولا تنزع، والشمس دائمة الإشراق عليها، والاحتراق بها، فتكون ردية لا لون لها، تولد المرة، وتكون في الشتاء باردة جامدة، كدرة بلغمية، تورث من يشرب منها البحوحة والطحال وتكون بطونهم خاشنة، وتهزل التراقي والوجوه وتنقحها، ويكثر أهلها الطعم، ويدفع ظمأهم وعطشهم، ويلزمهم المرض في الشتاء والصيف، ويعرض لهم الماء الأصفر، ويعرض لهم في القيظ اختلاف الأغراس، وحمى ربع طويلة مزمنة.
وشباب هؤلاء القوم تعرض لهم أوجاع الرئة وأسقام تخثر عقولهم، وأما الشيوخ، فإنه تعرض لهم حمى اللهبية يدل على تحرقهم يبس بطونهم، وأما نساؤهم، فيعرض لهن أنواع الورم من قبل بلغم أبيض، فلا يحبلن إلا بعد عسر، ولا يلدن إلا بمشقة، ويكون أولادهن عظاماً، وكلما عزلوا هزلوا ودقوا، ويعرض للصبيان أدرة، وللرجال سقم وقروح في سوقهم، ولا تكون الأعمار فيها طويلة، ويدخل عليهم الكبر سريعاً في ضمن الأزمان، وربما أصاب النساء ما يتوهمن أنه حبل ثم يبطل.

ومياه العيون النابعة من بعض الصخور ردية لأنها خاشنة، والعيون النابعة من أرض حارة، ومن أرض معادن الحديد والنحاس والفضة والذهب والكبريت والشب والزفت والنطرون، فإن هذه كلها إنما تكون من شدة الحرارة، فلا تكون من هذه الأرضين مياه نافعة مصلحة بل تكون عامتها خاشنة، يعرض منها ومن شربها عسر البول، وشدة الاختلاف.
والمياه التي تنصب عن مواضع مشرفة، ومن تلال ترابية، أفضل المياه وأصحها، وهي حلوة لا تحتاج لكثرة مزاج الشراب، وتكون في الشتاء حارة، وفي الصيف باردة، فهذه حالة المياه النابعة من العيون الغائرة.
وخير هذه المياه السائلة من أفق الشمس، ولا سيما الشرق الصيفي، لأنها بيضاء براقة، طيبة الريح، وكل ما كان من المياه مالحاً، بطيء النضح، خاشناً، فإن الذين يشربون منه بلا حاجة إليه ليس بنافع لهم، وإن بعض الطبائع والأسقام ربما انتفعت به، وكلما كان طعم المياه إلى الملوحة، فكلها ردية مفسدة، وكل عين تكون سمت شرق الشمس، فماؤها خير المياه.
ثم بعدها العيون التي بين أفق الشمس القيظي والغرب القيظي، وأفضلها المائلة إلى الشرق ثم التي بين مغرب الشمس الشتوي والقيظي، وأرداها العيون التي في ناحية الجنوب، فأما العيون التي تنزل أفق الشرق الشتوي والغرب الشتوي، فما كان منها ناحية الجنوب، فهي ردية جداً، وما كان منها ناحية الشمال، فهو خير، فمن كان خاشن البطن، فإن المياه الخفيفة الصافية له نافعة، ولمن كان بطنه ليناً لدنا بلغمياً ضاره، فإن المياه المالحة تسهل البطن، فقد أخطأ ومياه الأمطار خفيفة عذبة، والشمس تخطف من الماء رقيقة وخفيفة، وتصعد الماء من الأنهار والبحور والمواضع الرطبة، ولذلك صارت مياه الأمطار تعفن وتنشر رائحة ردية لأنها اجتمعت من رياح شتى، فصارت أسرع عفناً وتغيراً، فإن الرطوبة التي تنشفها الشمس متفرقة لا تزال معلقة في الهواء، فإذا اجتمعت كلها، والتفت بالرياح المتضادة اللاقية بعضها بعضاً، أنصبت حينئذ، ولا سيما إذا كانت المقايسة كما ينبغي، وأكثر ما يكون هذا إذا استحكم اجتماع السحاب، واستقبلته ريح أخرى، فمزقته، وإذا تزاحمت سحابة أخرى على السحابة الأولى، وقطعتها، انحدرت حينئذ الرطوبة من ثقلها، وتمزقها الرياح، فتكون الأمطار السابغة، فهذه المياه، أفضل المياه إلا أنه ينبغي أن تكون رائحتها ردية، ويعرض لمن شرب منها البحة والسعال، وثقل الصوت، وإذا طبخت لم يغن عنها الطبخ شيئاً.
وأما المياه التي تكون من الثلوج والجليد، فكلها ردية لأنها، إذا جمدت مرة، لم ترجع إلى طبيعتها الأولى لأن ما كان من الماء خفيفا، عذباً، صافياً، نقياً، أفلت من الجمود، وطار، وما كان من الماء كدراً بقي على حاله، ويعرف ذلك بأنه لو صير في إناء في أيام الشتاء، وكيل بكيل معلوم، ووضع تحت السماء جمد، فإن وضع في الشمس حتى ينحل ثم كيل ذلك الماء، وجد وقد نقص نقصاناً بيناً، فذلك العلامة أن لطيف الماء يتنفس، ولا يقع عليه الجمود، ولا يتنفس، ولا يبرح وماء الثلوج أردأ المياه، وإذا شرب الناس المياه المختلفة عرض لهم الأسر والحصاة في المثانة، ووجع الخاصرة، ووجع الوركين، وفي الأنثيين أدرة، ولا سيما إذا شربوا من مياه أنهار تنصب من أنهار واسعة، أو من بحيرة ينصب فيها من سيول شتى مختلفة، لأن منها العذب، والمالح، والشبي، ومنها ماء السيل من مواضع حارة، فإذا شربت عرضت الأسقام، واللبن الردي يولد الحجارة في مثانات المرضعين، والنساء لا تصيبهن الحصاة لأن مبالهن واسع.
والقول الثالث في الأزمنة، إذا كانت سقيمة، أو سليمة قال أبقراط: إنه إن كان طلوع الكواكب وغيرها على ما ينبغي، وكانت مياه كثيرة في الخريف، وفي الشتاء يسيرة، ولا يكون الصحو كثيراً، ولا البرد فوق المقدار، فكانت مياهها معتدلة في الربيع وفي القيظ، كانت سليمة صحيحة، ويصح الهواء.
وإذا كان الشتاء يابساً شمالياً، والربيع كثير الأمطار جنوبياً، عرض للناس في الصيف الحمى و

الرمد، واختلاف الأغراس لكل ذي طبيعة رطبة، وإذا كان في وقت طلوع الكوكب الذي يدعى الكلب، وهو الشعري، مطر كثير، وشتاء، وهبت الرياح على أنواثها، كفت الأسقام، ورجى أن يكون الخريف صحيحاً، فإن لم يكن ذلك كان الموت في الصبيان وفي النساء، وقل في المشيخة، فمن نجا عرضت له الحمى الربع، وربما آل إلى جمع الماء الأصفر.
وإذا كان الشتاء جنوبياً كثير الأمطار، والربيع يابساً شمالياً، فإن النساء الحوامل يسقطن في فصل الربيع فإن ولدن كان أولادهن مسقومين، إما يموتون من ساعتهم، وإما يعيشون مهازيل، وأما سائر الناس، فمنهم من يعرض له الاختلاف ورمد يابس، ومنهم من يعرض له النزلات من رأسه إلى رئته، فأما المبلغمون والنساء فيعرض لهم اختلاف الأغراس، وأما أصحاب المرة الصفراء فتعرض لهم النوازل لسخافة جلودهم، وذبولة عصبهم، وربما ماتوا فجأة، وربما يبس جانبهم الأيمن.
وما كان من الأمصار يقابل شرق الشمس، ورياحة سليمة، ومياهه غائرة، فقل ما يضيره تغير الهواء، وكل مدينة يشرب أهلها ماء ساخناً، بطاحياً، وليست موضوعة سمت الشرق، وليست رياحها سليمة، ضير بأهلها تغير الهواء، وإن كان الصيف يابساً عاماً ذهبت الأمراض سريعاً، وإن كان كثير الأمطار طالت الأمراض وإن عرض لأحد من الناس قرحة في هذه الأسقام، أو البطن، أو الماء الأصفر، هلك.
وإذا كان الصيف كثير الأمطار، وكان جنوبياً، والخريف، كمثل ما كان الشتاء، يابساً سقيماً، فتعرض للمبلغمين والشيوخ أبناء أربعين سنة حمى تسمى القوسوس، وأما أصحاب المرة الصفراء، فيعرض لهم ذات الجنب، ووجع الرئة.
وإذا كان الصيف يابساً جنوبياً، وكان الخريف كثير الأمطار شمالياً، عرض للناس وجع الرأس، وسعال، وبحوحة، وزكام، وعرض لبعضهم السل.
وإذا كان الصيف يابساً شمالياً ولم يمطر عند طلوع الشعري نفع أصحاب البلغم والرطوبات، وأضر بأصحاب المرة الصفراء، وربما نقلهم إلى المرة السوداء، والتغير الكثير يكون في تصرف الشمس، والتصرف الصيفي أكثر تغيراً من الشتوي، والخريفي أكثر تغيراً من الربيعي، وكل بلد يكثر تغير زمانه لا يكون مستوياً، ويكون فيه جبال طوال، سامية شامخة، وكل بلد يقل تغير زمانه فهو مستو.
ثم يذكر أبقراط اختلاف صور الناس في أحوالهم واعتدال خلقهم، والسبب الذي أشبه بعضهم بعضاً، وإن ذلك باتفاق الزمان والمطالع، ويذكر حال الرجال والنساء في كثرة الأولاد و قلتهم، وما يوجب النسل ويقطعه، ويقولون: إن سكان البلاد الشاهقة، المستوية، الكثيرة المياه، تكون صورهم حسنة وأجسامهم جسيمة، وتكون غرائزهم إلى اللين والتؤدة، وليسوا بأهل بأس وشجاعة، ومن سكن أرضاً رقيقة قليلة المياه، جرداء، وكان مزاج هوائها غير معتدل، كانت صورهم خاشنة، وألوانهم إلى الصفرة، أو إلى السواد، وأخلاقهم ردية، وغضبهم شديد، و طباعهم مخالفة بعضها بعضاً، لأن باختلاف الأزمان يكون اختلاف الطبائع، ثم بعد الأزمان والبلاد الغذاء بالمياه لأن غذاء الإنسان، من بعد البلاد بالمياه.
ثم يتكلم أبقراط بعد ذلك في الرياح وهبوبها، والتي تهب من موضع إلى موضع، و قسمها أربعة أقسام، ويقول: إن الريح من تخلل الهواء، وإنما نشوءها من اصطكاك أجرام الهواء، فهذه أغراض كتاب أبقراط في الأهوية والأزمنة، الذي فسره جالينوس، وشرح ما ذهب إليه أبقراط في فصل فصل ومعنى معنى.
فهذه كتب أبقراط التي عليها يعتمد وإليها يرجع، وهذه أغراضها، وقد فسرها جالينوس وشرح كل ما فصله له، وذهب إليه، وأبان عن قوله، وترجم معانيه وأوضحها.
فأما كتاب ماء الشعير، فإنه يذكر فيه الأمراض الحادة التي تسمى: وجع الجنب والرئة، والبرسام، والحمى المحرقة، وأخبر كيف يشرب ماء الشعير، والأيام التي يكون شربه فيها، وكيف يدبر، ومتى الأوقات التي ينبغي أن يشرب فيها، والأوقات التي يمنع منها، وما يكون الطعام عليه، وذكر صنوفاً من العلل الحادة والأمراض المحرقة، وقال في كل صنف منها. وأما كتابه الذي يسميه كتاب الأركان فإن معنى الأركان، أي الطبائع الأربع: الحرارة و الرطوبة، والبرودة واليبوسة، وأركان البدن وهي العصب والعروق، والعظام، والجلد، والدم، فهذه أركان بها قوام العالم.

قال أبقراط: إن الأجسام لو كانت شيئاً واحداً لم تصل الأوجاع إليها أبداً، ولكنها من أشياء مختلفة وطبائع متباعدة، مضر بعضها ببعض، وطبيعة الإنسان وسائر الحيوان، إذا صارت على هذه الصفة، فمن الضرورة ألا يكون الإنسان شيئاً واحداً بعينه، وكذلك سائر الطبائع، إنما قوامها بالرطوبة واليبس، والحر و البرد، ويتكلم في هذا بكلام واضح.
وكان لأبقراط تلاميذ ترجموا كتبه، وبعضهم عمل كتبا ونسبها إليه إقرارا له بالعلم والفضل، فمنهم دياسقوريدس صاحب كتاب الأشجار والعقاقير، فإنه وضع كتاباً في منافع الأشجار، وصور كل شجرة بصورتها، وذكر ما تنفع له تلك الشجرة، ومنهم أرسجانس صاحب الكناش الذي فيه صفة البدن.
فكان أحكم حكيم بعده، وأهم عالم بالطب، وأفهمه، لما فسر من كتاب أبقراط، هو جالينوس، على تباعد ما بينهما من السنين، فإن بينهما زماناً طويلاً، غير أنه كالذي تلا أبقراط في الحكمة، ولحق به في العلم، وفسر كتبه، وعمل كتباً كثيرة من كتب الطب التي عليها المعول، وإليها يرجع، وكان رجلاً فيلسوفاً، منطقياً، حكيماً.
فأول كتب جالينوس: كتاب في فرق الطب المخالفة بعضها بعضاً في الجنس، وهي فرقة الرأي والفكر والقياس، والفرقة الثانية فرقة التجارب، والثالثة فرقة الحيل.
وكتاب في الطعام.
وكتاب في نبض العروق.
وكتاب في تشريح العصب.
وكتاب في تشريح العروق والأوراد.
ومقالتان في علل النفس.
وأربع مقالات في الصوت.
وكتاب في منافع الأعضاء سبع عشرة مقالة.
وكتاب في تشريح الرحم.
وكتاب في علامات العين.
وكتاب في طب أصحاب التجارب.
وثلاث مقالات في ركة الرئة والصدر.
وكتاب التشريح الكبير في خمس عشرة مقالة فالمقالة: الأولى في العضل والرطوبات التي في اليدين.
والثانية في العضل الذي في الرجلين. والثالثة في العصب والعروق والأوراد التي في اليدين والرجلين.
والرابعة في العضل الذي يحرك الخدين والشفتين، والعضل الذي يحرك اللحي الأسفل إلى ناحية الرأس، وإلى ناحية الرقبة، وإلى ناحية الكتفين.
والمقالة الخامسة في عضل الصدر، والعضل الذي على المتنين، وعضل عظم الصلب. والمقالة السادسة في آلات الغذاء، وهي الأمعاء، والبطن، والكبد، والطحال، والكلي، والمثانة، والمرارة، وما أشبه ذلك. والمقالة السابعة في تشريح الفؤاد.
المقالة الثامنة في أجزاء الصدر.
المقالة التاسعة في تشريح الفؤاد.
المقالة العاشرة في تشريح العينين واللسان والمريء وما يتصل به.
المقالة الحادية عشرة في الحنجرة والعظم الذي يتصل بها، والعصب الذي تحتها.
المقالة الثانية عشرة في تشريح آلات التوليد يعني آلات المنى، والرحم، والمذاكير.
المقالة الثالثة عشرة في تشريح العروق النابضة، وهي الشريانان والعروق التي لا تنبض.
المقالة الرابعة عشرة في العصب المنبت من الدماغ.
المقالة الخامسة عشرة في العصب المنبت في الصلب.
وله كتاب التشريح غير هذا في عدة مقالات قد ذكر فيها الجلد، والشعر، و الأظفار، واللحم، والشحم، ولحم الوجه، والأغشية التي تغشى بعض الأعضاء مثل غشاء القلب، والمعدة، و الكلي، والكبد، والصفاقات، والعضلة الفاصلة بين الصدر والبطن، والمجاري، والعروق النابضة، وفصد العروق، ومن أين تبتدىء العروق، ومجاري البول فيما بين الكليتين، والمثانة إلى الذكر، ومجراه من المثانة إلى السرة في الطفل، وأوعية المرة الصفراء والمسام، والمنخرين والمجاري الخارجة من الأذنين، وقصبة الرئة، وما ينبت فيها وينبت في الرئة و الأوعية التي في الثديين، التي فيها اللبن، وباقي الأشياء المفرعة التي في البدن، التي تحويها الأوعية من أي شيء من الرطوبات، والأشياء المفرغة في أي شيء من الأوعية، وما في الرأس من الشؤون والالتحام، وغير ذلك والشؤون التي في الوجه واللحي الأسفل، وما فيه من النقب والالتحام، والأسنان، والعظم الذي على رأس قصبة الرئة، وما يتصل به من جنبتي الموضع، والعظم العريض الذي في البطن، والورك، والأضلاع، والكتفين، والمنكبين، وعظم

الترقوتين، والعضد، وعظم الساق، وعظام الكف والأصابع، وعظم الفخذ، والقصر، والذي على الركبة، وعظم الساق، وعظام القدم، واشتراك قحف الرأس بالأغشية التي على الدماغ، والعصب الذي ينبت في الوجه كله، والعضل الذي في الصدغين، والعضل الذي به يكون المضغ، والعضل الذي يحرك الخدين والشفتين واللسان، وما يحركه من العضل، والعضل الذي يحرك العينين، ويذكر الفم والشفتين، واللسان، واللثة، واللهاة، وطبق الحلقوم، والنغانغ، والأنف، والمنخرين، والأذنين، والرقبة، والعضل الذي فيها، والعضلة التي على الأصابع، والعضلة التي تحت الترقوة، وطبيعة الرقبة، وعضل الحجاب والساعد، ويقول في التشريح قولا هذا غرضه فيه.
ومقالتان في علل النفس.
وكتاب القوى الطبيعية في الأفعال النفسانية.
ومقالة في البول من الدم.
ومقالة في الأدوية المسهلة.
وكتاب يسميه آراء أبقراط وأفلاطون في قوى النفس الناطقة وهي التخيل، والفكر، والحفظ، ويقول: إن الدماغ مبتدأ العصب، والقلب مبتدأ العروق النابضة، والكبد مبتدأ العروق التي لا تنبض، والقوى التي يقوم بها البدن في عشر مقالات، ومنافع الأعضاء في سبع عشرة مقالة.
كتاب العناصر يخبر فيه أن الحار والبارد، والرطب واليابس، عناصر عامية لجميع الأجسام التي تقبل الكون، والفساد، والعناصر: الأرض والنار و الهواء والماء، وعناصر بدن الإنسان: دم وبلغم، والمرتان الصفراء والسوداء، والعنصر هو أقصى جزء في الشيء الذي هو له عنصر.
وكتاب الأمزجة، وهو ثلاث مقالات في تصنيف أمزجة أبدان الناس، وتركيب البدن الفاضل، وخصب البدن، والمزاج الردي الذي ليس يستوي، وقوى الأدوية المركبة والأدوية التي يسهل وجودها.
وكتاب حفظ الأصحاء.
وكتاب في الأطعمة.
وكتاب في الكيموس الجيد والردي.
وكتاب في التدبير الملطف.
ومقالة في تصنيف الأمراض.
ومقالة في علل الأمراض.
ومقالة في تصنيف الأمراض.
ومقالة في الغلظ الخارج من الطبيعة.
ومقالة في الامتلاء.
ومقالتان في تصنيف الحميات والأمراض الباطنة.
وكتاب في إزمان الأمراض.
وكتاب في عسر النفس.
وكتاب في البحرانات.
وكتاب في نبض العروق ومعرفة كل واحد من أجناس النبض.
والأسباب الفاعلة لأصناف النبض. وتقدمه معرفة في ست عشرة مقالة.
وكتاب حيلة البرء، وهو كتاب بين فيه طريق شفاء جميع الأمراض، واتبع ذلك في هذا الفن. ومقالة في العلل الواصلة، وهي العلل القريبة التي تصل ما بين العلة البعيدة والمريض.
ومقالة في البول من الدم في البدن.
وكتاب في فرقة أصحاب الحيل.
ومقالة في السل.
ومقالة في علاج صبي يرضع.
ومقالة في تدبير أبقراط للأمراض الحادة.
ومقالة في فصد العروق، وفسر كتب أبقراط، في فصل فصل، وقول قول، وبين الحال الحال فيه.
والذي تلا أبقراط من رؤساء الحكماء سقراط، رأس الحكماء، وأول من لفظ بحكمته ما حفظ عنه وسمع منه.
وحكي أن طيماوس قال له: أيها المعلم! لم لا تدون لنا حكمتك في المصاحف؟ قال له: يا طيماوس، ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأشد تهمتك للجواهر الحية الخالدة، وكيف وجود العلم من معدن الجهل، والسبب منه من عنصر العقل؟ فقال له إيعطبطش تلميذه: لو أمليت على كتاباً يخلد عنك؟ فقال: الحكمة لا تحتاج إلى جلود الضأن.
وقال بعض تلامذته: لو زودتنا كتاباً من حكمتك تسبر به عقولنا؟ قال له سقراط: لا ترغبن في تدوين حكمه في جلود الشاء، حتى يكون ذلك أبلغ عندك من علمك ولسانك.
فلما حضرته الوفاة سأله تلاميذه أن يزودهم حكمة يرجعون إليها، فتكلم في أخلاق النفس، ثم تكلم في الفلك، وقال إنه كري، وكان قد سقي سماً فمات.
وبعده فيثاغورس، وهو أول من نطق في الأعداد والحساب والهندسة، ووضع الألحان، وعمل العود، وكان في زمن ملك يقال له أغسطس، فهرب منه، فتبعه، وركب فيثاغورس البحر حتى صار إلى هيكل في جزيرة، فأحرقه الملك عليه بالنار.
وكان لفيثاغورس تلميذ يقال له أرشميدس، فعمل المرايا المحرقة، فأحرقت مراكب العدو في البحر.
ومنهم بلينوس النجار الذي يقال له اليتيم، وهو صاحب الطلسمات، وهو الذي جعل لكل شيء طلسماً.

ومنهم أوجانس صاحب الهندسة والقسمة، وأنواع الفلسفة، وكان يقال له ديوجانس الكلب، وقيل له: لأي شيء سميت الكلب؟ قال: لأني أهر على الأشرار، وأبصبص للأخيار، وآوي الأسواق. ومنهم افليمون صاحب مخانيقاً، وهي الحركات التي تكون بالماء مثل الصورة تعمل، فيحركها الماء من غير أن يحرك شيء منها، ويخرجها من موضع، ويحطها في موضع، والآلات التي تحرك بالماء من غير أن تحرك، فتخرج فيبتلعها، وتخرج أيضاً، وترتحل محققة، وله أشكال في ذلك تعمل فتصح.
ومنهم افليمون صاحب الفراسة، وكتاب بين فيه ما تدل عليه الفراسة في الخلقة والأصوات، والشمائل، وبرهن ذلك.
ومنهم ديمقراطيس، وهو الذي يزعم أن العالم مركب من هباء، وله كتاب في طبائع الحيوان، وما يوافق منها طبائع الإنسان.
ومنهم أفلاطون، وكان تلميذاً لسقراط، وهو الذي تكلم في النفس وصفاتها مثل ما تكلم به أبقراط في الجسد وصفاته فقال: إن للنفس ثلاث قوى: إحداها في الدماغ، وبه يكون الفكر و الروية، والثاني في القلب، وبه يكون الغضب والشجاعة، والثالث في الكبد، وبه تكون الشهوة والمحبة، ثم اطرد الكلام في الروح النفسانية حتى وصف الأعضاء كلها، ثم ذكر ما يصلح النفس وما يفسدها، فقال: إن كل عيب مضاد خلاص النفس، فلا ينبغي أن نعد الحياة صالحة فقط، ولكن موتاً صالحاً، وينبغي أن نعد الحياة والموت صالحين.
ومنهم إقليدس صاحب كتاب إقليدس في الحساب، وتفسير إقليدس: المفتاح، على ما قال بطليموس، إنه تقدمه لمعرفة الحساب، ومفتاح علم كتاب المجسطي في النجوم، ومعرفة الأوتار التي تقع على قسي قطع الدوائر التي هي أفلاك الكواكب، التي يسميها المنجمون الكردجات، لتعديل مسير الكواكب في الطول والعرض، وسرعتها، وإبطائها، واستقامتها، ورجوعها، و تشريقها، وتغريبها، ومساقط شعاعها، وعلم ساعات الليل والنهار، ومطالع البروج، واختلاف ذلك في أقاليم الأرض، وحساب القران والاستقبال، وكسوف الشمس والقمر، واختلاف النظر من آفاق الأرض في جميع نواحي السماء.
وكتاب إقليدس ثلاث عشرة مقالة، ولها من الأشكال في هذه الثلاث عشرة مقالة أربعمائة واثنان وخمسون شكلاً بالبرهان والشرح الذي، إذا فهمه من يطلب علم الحساب، سهل عليه كل باب من الحساب، وانفتح له. فيبتدىء بذكر الأسباب التي منها يزلف العلم، وبمعرفتها يحاط بالمعلوم، وهي: الخبر، والمثال، والخلف، والترتيب، والفصل، والبرهان، والتمام، فأما الخبر، فهو خبر المقدم على الجملة، قبل التفسير، وأما المثال، فهو صورة الأشكال المخبر عنها، المدلول بصفتها على معنى الخبر، وأما الخلف، فهو خلاف المثال، وصرف الخبر إلى ما لا يمكن، وأما الترتيب، فهو تأليف العمل المتفق على مراتبه في العلم، وأما الفصل، فهو الفصل بين الخبر الممكن وغير الممكن، وأما البرهان، فهو الحجة على تحقيق الخبر، وأما التمام، فهو تمام العلم بالمعلوم. والمقالة الأولى في النقطة التي لا جزء لها، والخط الذي هو طول بلا عرض، وهو سبعة وأربعون شكلاً.
المقالة الثانية في كل سطح متوازي الأضلاع، قائم الزوايا، يحيط به الخطان المحيطان بالزاوية القائمة، وهي أربعة وأربعون شكلاً.
المقالة الثالثة في الدوائر المتساوية التي أقطارها متساوية، والخطوط التي تخرج من مراكزها إلى الخطوط المحيطة بها، والخط المماس الدائرة الذي يجوزها، ولا يقطعها، وهي خمسة وثلاثون شكلاً.
المقالة الرابعة إذا كان شكل في شكل، وكانت زوايا الشكل الداخل تماس أضلاع الشكل الخارج وهي ستة عشر شكلاً.
المقالة الخامسة في الجزء الذي هو مقدار الأكبر من المقدار الأصغر من الأعظم، إذا كان يعده، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
المقالة السادسة في السطوح المتساوية التي زوايا كل سطح منها مساوية لزوايا السطح الآخر، والأضلاع التي تكون تحيط بالزوايا المتساوية متناسبة، والسطوح المتكافية الأضلاع التي تكون أضلاعها متناسبة، وهي اثنان وثلاثون شكلاً.
المقالة السابعة في الواحد والعدد الزوج الذي ينقسم بقسمين متساويين.
والعدد الفرد الذي لا ينقسم بقسمين متساويين، ويزيد على الزوج بواحد.
والعدد الذي يسمى زوج الزوج، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها زوج.
والعدد الذي يسمى زوج الفرد، وهو الذي كل زوج يعده بعدة مرات عددها فرد.

والعدد الذي يسمى فرد الفرد، وهو الذي كل فرد يعده بعدة مرات عددها فرد.
والعدد الذي يسمى أول هو الذي يعده الواحد فقط.
والأعداد التي كل واحد منها أول عند الآخر، هي التي ليس بها عدد مشترك يعدها جميعاً إلا الواحد فقط. والعدد المركب هو الذي يعده عدد آخر.
و الأعداد التي كل واحد منها مركب عند الآخر هي التي يعدها عدد آخر مشترك لها.
والعدد المضروب في عدد آخر هو الذي يضاعف بعده ما في المضروب فيه من الآحاد، ويكون ما اجتمع عدداً آخر.
والعدد المربع هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ويحيط به عددان متساويان.
والعدد المكعب هو المجتمع من ضرب عدد في نفسه، ثم في نفسه، ويحيط به ثلاثة أعداد متساوية.
والعدد المسطح هو الذي يحيط به عددان. والعدد المصمت هو الذي يحيط به ثلاثة أعداد. والعدد التام هو المساوي لجميع أجزائه.
والأعداد المتناسبة هي التي يكون في الأول منها من أضعاف الثاني مثل ما في الثالث من أضعاف الرابع.
والأعداد المسطحة والمصمتة المتشابهة هي التي أضلاعها متناسبة، وهذه المقالة تسعة وثلاثون شكلاً.
المقالة الثامنة في الأعداد التي تلي بعضها بعضاً والطرفين اللذين كل واحد منهما أول عند الآخر، وهي خمسة وعشرون شكلاً.
المقالة التاسعة في ضرب الأعداد المسطحة المتشابهة، وما يكون من ضرب العدد في العدد المربع.
والأعداد التي يعد بعضها بعضاً.
والعدد المكعب في العدد المكعب، وما يكون من ضرب المكعب في عدد غير مكعب، وما يكون من الأعداد المؤلفة على نسب يتلو بعضها بعضاً من المربع، وكيف يكون المكعب وما يكون في الأعداد المتناسبات من المصمت المكعب والمسطح.
والأعداد التي يعد بعضها بعضاً وكيف تنتقض الأزواج من الأزواج، والأفراد من الأفراد، والأزواج من الأفراد، والأفراد من الأزواج، وهي ثمانية وثلاثون شكلاً.
المقالة العاشرة في الخطوط التي يكون لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، يقال لها المتقادرات، والخطوط المتباينات التي ليس لها مقدار واحد مشترك يقدرها جميعاً، والخطوط المتقادرات التي يكون لمربعاتها سطح واحد يكون مقداراً لها يقدرها، وهي مائة وأربعة أشكال. المقالة الحادية عشرة في المصمت الذي له طول وسمك وسطح، وهي أحد وأربعون شكلاً. المقالة الثانية عشرة في السطح الكثير الزوايا المتشابهة التي قدر بعضها عند بعض في الدوائر، كعدد المربعات التي تكون من أقطار الدوائر، وهي خمسة عشر شكلاً.
المقالة الثالثة عشرة وهي آخر مقالات إقليدس في خط يقسم على ذات وسط وطرفين، وهي واحد وعشرون شكلاً.
ولأقليدس هذا كتاب في المناظر، واختلافها من مخارج العيون والشعاع، يقول فيه: إن الشعاع يخرج من العين على خطوط مستقيمة، وتحدث بعد سموت لا نهاية لكثرتها، فإن الأشياء التي يقع عليها الشعاع تبصر، والتي لا يقع عليها الشعاع لا تبصر، ويمثل في ذلك أشكالاً مختلفة يبين بها مخرج النظر، وكيف تختلف عدة الأشكال التي يبين بها ذلك وهي أربعة وستون شكلاً.
ومنهم نيقوماخس الحكيم الفيثاغوري، وهو الذي يسمى القاهر عند المفاضلة، وهو أبو أرسطاطاليس، وله كتاب الأرثماطيقي الذي قصد فيه لإبانة الأعداد، وذكر ما تقدمت به الفلاسفة.
فقال نيقوماخس: إن القدماء الأولين الذين أظهروا العلم ونفذوا فيه، وكان أولهم فيثاغورس، حدوا بأن قالوا: إن الفلسفة معناها الحكمة، وإن اسمها مشتق منها، فقالوا: الحكمة حقيقة العلم بالأشياء الدائمة، وأفتن في صدر الكتاب في ذكر الحكمة وفضلها، وما قالته الحكماء في فضيلة العلم، ثم افتتح كتابه فقال:

إن جميع ما في الدنيا من الأشياء المحكم في الطبيعة تقديرها، إنما هو بالعدد، وقد يحقق القياس قولنا: إن العدد بمنزلة المثال الذي يحتذي عليه، وهو كله بكماله معقول، وهذه الأشياء التي تلحقها كلمة الكمية، وهي أشياء مختلفة، فمن الاضطرار أن يكون هذا العدد اللازم بهذه الأشياء مؤلفاً مقدراً على حدته لا من أجل غيره، فإن كل مؤلف إنما هو من أشياء مختلفة لا محالة، ومن أشياء موجودة، فإن التي ليست بموجودة لا يقدر على تأليفها، وما كان منها موجوداً، إلا أنها غير متشاكلة، يمكن تأليفها، والأشياء المؤتلفة إنما تألفت من أشياء موجودة مختلفة متشاكلة، لأنه إن لم يكن مختلفاً، فهو واحد لا يحتاج إلى ائتلاف، فإن لم يكن متشاكلا فليس بمتجانس، وإن ليس متجانساً، فإنما هو متضاد لا يقع به ائتلاف.
والعدد هو من هذه الأشياء، فإن فيه نوعين مختلفين، متشاكلين، متجانسين، وهو الزوج والفرد فإن ائتلافهما على حسب اختلافهما يعد تألفا مشتبكاً لا انقضاء له.
فالقول الأول من الأرثماطيقي في أبواب أحدها حدود العدد، وهو ينقسم قسمين يقال لأحدهما الفرد، والآخر الزوج، فالفرد ينقسم ثلاثة أقسام: منه أول غير مركب، وهو الذي لا يعده عدد مثل سبعة، وأحد عشر.
ومنه ثان مركب، وهو الذي له عدد مثل: تسعة، وخمسة عشر.
ومنه ثالث مركب بطبعه، وعند الإضافة إلى مركب آخر أول، وهما اللذان لكل واحد منهما عدد يعده، وليس لهما عند المقايسة عدد مشترك مثل: تسعة إلى خمسة وعشرين.
والزوج ينقسم ثلاثة أقسام منه زوج الزوج، وهو المنقسم أزواجاً إلى الوحدانية، مثل: أربعة وستين.
ومنه زوج الفرد، وهو المنقسم مرة واحدة بنصفين، ثم يقف مثل: أربع عشرة وثماني عشرة. ومنه زوج الزوج والفرد، وهو الذي لا ينقسم نصفين أكثر من مرة، ولا ينتهي إلى الوحدانية، وتكلم في هذا بكلام مشروح.
والقول الثاني في الكمية المفردة، وهو العدد الزائد والعدد المعتدل والناقص، فأما الزائد، فهو الذي تزيد جملة أجزائه على جملته إذا اجتمعت الأجزاء مثل: اثني عشر، وأربعة وعشرين، فإن الاثني عشر لها نصف وثلث وربع وسدس، وجزء من اثني عشر، فإذا جمعتها زاد العدد و المعتدل الذي تعادل جملة أجزائه جملته مثل: ستة، وثمانية وعشرين، فإن لستة نصفاً وثلثاً وسدساً، فيكون مبلغه، إذا جمع، ستة سواء، والناقص الذي تنقص جملة أجزائه من جملته مثل ثمانية، وأربعة وعشرين، فإن الثمانية لها نصف وربع وثمن، فإذا اجتمع كان سبعة ونقص واحداً وجعل في ذلك أشكالاً.
وأصح القول القول الثالث في الكمية المضافة، وهي تنقسم قسمين: أحدهما المعادلة لما أضيف إليها مثل المائة المعادلة للمائة، والعشرة المعادلة للعشرة، ومنه الخروج عن الاعتدال، وينقسم قسمين: أحدهما كبير والآخر صغير، فالكبير ينقسم خمسة أقسام، فمنه: المتضاعف مثل اثنين من أربعة، وأربعة من ثمانية، ومنه الزائد جزءا مثل ثلاثة عند أربعة، فإن الأربعة مثلها و مثل ثلثها، ومنه الزائد جزءين مثل ثلاثة، وهي أول الأفراد، إلى الخمسة، وهي الثانية من الأفراد، فتحدث زيادة جزءين، ثم على هذا الترتيب تحدث زيادة أجزاء، ومنه المضاعف الزائد جزءا، وهو يظهر بين عددين: أحدهما مثل الآخر ومثل جزء منه كالخمسة، إذا أضيفت إلى الاثنين، فإنه مثل مضاعف الاثنين و زيادة جزء، ومنه المضاعف الزائد جزءين مثل أربعة عند واحد، والصغير ينقسم على خمسة أقسام: منه تحت المضاعف، ومنه تحت الزائد جزء، ومنه تحت الزائد أجزاء، ومنه تحت المضاعف أجزاء.
ثم يقول في الأعداد الثلاثة التي أحدها كبير والآخر وسط والثالث صغير، فإذا طلب اعتدالها ألقي من الأوسط مثل الأصغر، ومن الأعظم مثل ما بقي من الأوسط، ومثل الأصغر، فإذا تعادلت الأعداد فقد تمت إضافتها.

ثم يقول فيما يزيد من الأعداد وينقص في المضاعفات، ويجعل لذلك شكلاً مثلياً بركنين، وفي الشكل واحد وعشرون بيتاً: فالأول ستة أبيات، و أوله واحد، ثم يضعفه إلى اثنين وثلاثين، والثاني خمسة أبيات، وأوله ثلاثة، ثم يضعفه إلى ثمانية وأربعين، والثالث أربعة أبيات، وأوله تسعة، ثم يضعفه إلى اثنين وسبعين، والرابع ثلاثة أبيات، وأوله سبعة وعشرون، ثم يضعفه إلى مائة وثمانية، والخامس بيتان أوله واحد وثمانون، ويضعفه فيصير مائة واثنين وستين، والسادس بيت، وهو آخره، مائتان وثلاثة وأربعون.
ثم يقول في العدد المربع الذي يزيد عليه ضعفه، ثم يتكلم في السطوح والخطوط والنقط، ويصف السطوح المثلثة والمربعة والمسدسة، والأضلاع التي يقوم بها السطوح ومسائحها.
ثم يقول في العدد المخمس ذي الأضلاع المعتدلة المخمسة، وكيف نموها، ثم المسدسة، ثم المسبعة، ثم المثمنة، ثم يصف كيف تركيبها، ويضرب لها جدولاً خمسة في تسعة، ويتكلم في أجزاء من المثلثات والمربعات والمخمسات والمسدسات مما له جرم بلا سطح، وما له جرم وسطح.
ثم يقول في تركيب الأشياء التي تركب من أخلاط شتى.
ثم يقول في الوسائط التي هي ثلاثة أنواع: واحد للحساب، والثاني للمساحة، والثالث لتأليف اللحون، ويقول إن بعض الأولين جعلوها عشراً، وبين وسائط الحساب، ووسائط المساحة، ووسائط اللحون، ويتكلم في كل نوع منها بكلام مشروح وبرهان بين.
ومنهم اراطس الذي عمل صورة الفلك كهيئة البيضة، فحكى بها الفلك، وصور فيها البروج.
ومنهم أرسطاطاليس بن نيقوماخس الجهراسيني، وكان تلميذاً لأفلاطون، فتكلم في العالم العلوي والسفلى، في صلاح العالم وفساده، وفي أخلاق النفس، وفي حقيقة المنطق، ووضع أصول الحكمة وانقسامها وتشعبها، فأول كتبه: كتاب المدخل إلى علم الفلسفة، وهو الذي يسمى باليونانية إيساغوجي، فأوله ذكر الحد، وما قوام الحد، ومن أين اشتق اسم الحد، وما فضيلة الحد، وما فيه فساد الحد، والفرقة بين الحد والمحدود.
والثاني ذكر الفلسفة، وكيف اشتقت. والثالث كتاب قوى النفس التي هي بالفكر والغضب والشهوة، فما خرج عن هذا الاعتدال كان فاسداً.
والكتاب الرابع في المنطق الذي هو أصل الفلسفة.
والكتاب الخامس يذكر فيه انقسام الأشياء ضربين: ما لا بد منه، كالغذاء، وما منه بد، كتنظيف الثوب.
والكتاب السادس في الأمور، وهي ثلاثة: واجبة كقولك: النار حارة، وممكنة كقولك: زيد كاتب، وممتنعة كقولك: النار باردة.
والكتاب السابع في الجنس، وهو ثلاثة أقسام: جنس العادة، وجنس الطبيعة والكتاب الثامن يذكر فيه ما لا يتجزأ، وهو ينقسم على أربعة: إما لأنه لا أجزاء له كالنقطة، و إما لصغره كحبة الخردل، وإما لصلابته كالحجر، وإما أنه لا على أجزاء.
والكتاب التاسع في المناسبة، وهو على أربعة: إما طبيعة كمناسبة الأب لابنه، وإما مهنة كمناسبة التلميذ معلمة، وإما مشيئة كمناسبة الصديق صديقه، وإما عرضية كمناسبة العبد سيده. ثم كتبه بعد ذلك في أربعة أنواع: أحدها المنطقيات، والثاني في الطبائع، والثالث فيما يوجد مع الأجسام ويواصلها، و الرابع فيما لا يوجد مع الأجسام ولا يواصلها.
وكتبه في المنطق ثمانية: فالأول سمي بقاطيغورياس، وغرضه فيه القول على المقولات المفردة العشر، ورسمها بما يميز به كل واحد منها من غيره، وما يعمها ويعم العدة منها، و ما يخص كل واحد منها، فحد الأشياء التي تقدمها في الوصف والشبه منها: أن جوهراً محمولاً، وجوهراً حاملاً ليس بجوهري فيه بل عرضي، وأن عرضاً حاملاً وعرضاً محمولاً عليه أي منقولاً عليه ليبين أن جواهر محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، وأعراضاً محسوسة، وأعراضاً ثواني غير محسوسة مقولة على المحسوسة، ويبين عن العشرة بأعيانها، وبرسومها، وعوامها، وخواصها، وهذه العشرة: الجوهر، ثم الكمية، ثم الكيفية، ثم المضاف، ثم الأين، ثم المتى، ثم الفاعل، ثم المفعول، ثم الوضع، ثم الجد.
وإنما سمي كتاب المقولات لأن هذه الأسماء أجناس، وهي مقولة من الأنواع، والواحد

بمنزلة الجوهر، فإنه مقول على الجسم، والجسم مقول على المتنفس وغير المتنفس، والمتنفس مقول على الحيوان والنبات، والحيوان مقول على الإنسان والفرس والأسد، والإنسان مقول على زيد وعمرو وخالد التي هي غير متجزئة، والفرس على هذا الفرس بالإشارة، وذلك الفرس بالشبه والكمية مقولة على المتصلة والمنفصلة وسائر أجزائها، وكذلك سائر الأجناس. والثاني هو المسمى بكتاب التفسير، وغرضه فيه القول على التفسير للقضايا المقدمات للمقاييس العلمية، أعني الجوامع التي هي أخبار موجبة أو سالبة أو ما في أوله، فبين عما منه تكون القضايا من الاسم، والحرف، والقول، والتصريف، والمخبر عن القول، وعن القضايا المؤلفة من اسم وحرف، وثالث ورابع كقولنا: النار هي حارة، وما يعرض في ذلك، وفي الفحص عن أي القضايا أشد تناسباً الموجبة لسالبها أم الموجبة للموجبة المضادة لها.
وإنما سماه كتاب التفسير لأنه أراد المقالة على الجزم، والبسيط المقول، الذي ليس فيه اشتراك اسم، وأراد أن يفصل بينه وبين القول الذي ليس بجازم، الذي يكذب ولا يصدق، وهو تسعة: الاستخبار كقولك: من أين جئت؟ والدعاء كقولك: يا فلان أقبل! والراغب كقولك في الأمر: إني أطلب إليك أن تفعل كذا وكذا، والتعجب كقولك في الأمر: ما الذي يكون من هذا؟ والقسم كقولك: أقسمت بالله لتذهبن، والشك كقولك: لعل الأمر على ما قيل، والوضع كقولك: تكون هذه الضيعة وقفاً على المساكين، والمجازي كقولك: إن فعلت كذا وكذا أجزتك بكذا. والمقالة قد تلقب ألقاباً شتى في جهات مختلفة، فإذا كان القول يوجب شيئاً لشيء سمي موجبة، وإذا كان يفلت شيئاً من شيء سمي سالبة، وإذا كان مقدما ليستخرج منه شيء سمي مقدمه، فإذا كان مستخرجاً من مقدمات قبله سمي نتيجة، وإذا كانت مقدمات ونتيجتها معها سمي صيغة.
والثالث المسمى أنوليطيقا ومعناه النقائض، وغرضه فيه الإبانة عن الجوامع المرسلة، أعني ما هي، وكيف هي، ولم هي، وغرضه النوع الجامع للمعاني الثلاثة، وما قيل على الجامعة المرسلة، ووجود الجامعة، وكيف تركيب الجوامع، ولكم نوع يكون، وما الذي يظهر من صوادقها بذاته، وما الذي يظهر من الحركة. والكتاب الرابع المسمى أبودقطيقا ومعناه الإصلاح، وغرضه فيه الإبانة عن الأمور المتضحة البرهانية، وكيف هي، وما ذا ينبغي أن يؤلف، ويسمى هذا الكتاب البيان والبرهان، لأنه يصف فيه التمييز الذي يميز به الحق من الباطل، والصدق من الكذب، فيقول: إن المقدمات على جهة المقدمة المجتمعة عليها، المعروفة عند العامة، المركبة من الجزئين السابقين في العلم، بمنزلة قول القائل: كل إنسان حي.
والثانية الموجبة للمجادلة، فإنها، وإن كانت صحيحة في نفسها، مجهولة عند العامة، وهي تحتاج إلى وساطة يعرف بها صحتها، بمنزلة قولنا: كل إنسان جوهر.
فأما كتابه الخامس المسمى طوبيقا فغرضه فيه الإبانة عن الأسماء الخمسة التي هي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض، عن الحد، فتعرف ماهية الجنس، وماهية النوع، لئلا يذهب عن أحدها الجنس والنوع، فإنما يعرف هذا بالفصل الذي يفصل بين النوع و الجنس، وما خاصية كل واحد منهما، أو ما الأعراض من الجواهر.
وأما كتابه السادس، وهو المسمى سوفسطيقا، فغرضه فيه القول على المغالطة، ويقول كم نوعا تكون المغالطة، ويخبر كيف الاحتراس من قبول تلك الأغاليط، وهو الذي رد فيه على السوفسطائية.
وأما كتابه السابع، وهو المسمى ريطوريقا، ومعناه البلاغة، فغرضه فيه القول في الأنواع الثلاثة: في الحكومة، وفي المشورة، وفي الحمد، وفي الذم، والجامع لها التقريظ.
وأما كتابه الثامن، وهو المسمى فوايطيقا، فغرضه فيه القول على صناعة الشعر، وما يجوز فيه الشعر، وما يستعمل من الأوزان، وكل نوع فهذه أغراضه في كتبه المنطقيات الأربعة المقدمة، والأربعة الثانية.
فأما كتبه الطبيعية فالأول كتاب سمع الكيان، وهو الخبر الطبيعي بين فيه عن الأشياء الطبيعية، وهي خمسة، المشتملة على الطبائع كلها التي لا وجود لشيء من الطبائع دونها، وهي:

العنصر، والصورة، والمكان، والحركة، والزمان، فإنه لا وجود لزمان إلا بحركة، ولا وجود لحركة إلا بمكان، ولا وجود لمكان إلا بصورة، ولا وجود لصورة إلا بعنصر، وهذه الخمسة منها اثنان جوهران، وهما: العنصر والصورة، وثلاثة أعراض جوهرية.
والثاني هو المسمى كتاب السماء والعالم، وغرضه فيه الإبانة عن الأشياء الفلكية غير ذوات الفساد، وهي صنفان: أحدهما صنف مستدير الصنعة، وحركته الاستدارة، وهو الفلك المحيط بالأشياء، وهو ركن خامس لا يلزمه الكون، ولا الفساد، والصنف الثاني الفلكي المستدير بالتكوين، وإن لم يكن مستديراً بالحركة، وهي الأربعة الأركان: النار والهواء والأرض والماء، فإن هذه ليست بمستديرة الحركة بل مستقيمة الحركة، مستديرة بالكون، والمستديرة الكون هي التي يكون بعضها من بعض، بالانقلاب، بمنزلة الشيء الذي يستدير وينقلب، بمنزلة النار التي تستدير وتنقلب فتكون من الهواء، والهواء من الماء، والماء من الأرض، وكل واحد من هذه الأركان يستدير بالكون بعضه على بعض، فالنار والهواء إلى فوق، والماء والأرض إلى أسفل. وكتابه الثالث هو المسمى كتاب الكون والفساد، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية الكون والفساد، ككون الماء هواء، والهواء ماء، وكيف يكون، وكيف يفسد بالطبيعة.
والكتاب الرابع في الشرائع، وهو كتاب المنطق في الآثار العلوية، وغرضه فيه الإبانة عن عرض الكون والفساد، وكون كل كائن وفساده، مما بين نهاية فلك القمر إلى مركز الأرض، فيما بين الجو وما على الأرض، وما في بطنها، وعن الآثار العارضة فيها: كالسحاب، والضباب، والرعد، والبرق، والريح، والثلج، والمطر، وغير ذلك.
وكتاب في المعادن، وهو الخامس، وغرضه فيه الإبانة عن كون الأجرام المتكونة في باطن الأرض، وكيفياتها، وخواصها، وعوامها، والمواضع الخاصة بها.
والكتاب السادس في الإبانة عن علل النبات، وكيفياته، وخواصه، وعوامه، وعلل أعضائه، والمواضع الخاصة به، وحركاته، فهذه أغراضه في كتبه الطبيعية.
فأما كتبه النفسانية، فهما كتابان: فكتابه الأول منهما كتاب النفس، وغرضه فيه الإبانة عن ماهية النفس، وقوامها، وفصولها، وتفصيل الحس، وتعديد أنواعه، وفضائل النفس وعاداتها، والأمور المحمودة منها، والأمور المذمومة منها، فالمحمودة: المنطق، والعدل، والحكمة، والحكم، والحلم، والشجاعة، والقوة، والجرأة، وشرف النفس، والتحرج، والأمور المذمومة منها: الجور، والفسق، والنفاق، والغش، والكذب، والنميمة، والخيانة.
والكتاب الثاني في الحس والمحسوس والإبانة عن علل الحس للمحسوس، وغرضه فيه أن يخبر ما الحس والمحسوس، وكيف يقبل الحس الأشياء المحسوسة، وكيف يكون الحس والمحسوس شيئاً واحدا، وهما مختلفان في الأدوات، وهل الأشياء بذواتها وأجرامها أم بذواتها دون أجرامها.
ثم كتابه في الكلام الروحاني، وغرضه فيه ذكر الصورة المجردة من الهيولى، التي في العالم الأعلى، والقوى الروحانية، ومعرفة اتصال قوى تلك الصور بالقوى الطبيعية، وهل هي بحركة، أو بلا حركة، وكيف تدير تلك القوى هذه القوى، وأن كل واحد من القوى الجرمية الغليظة جزء من تلك الأشياء الشريفة، وبين ما العقل، وما المعقول، وما النفس الكلية، وما هبوطها وطلوعها.
ثم كتابه في التوحيد، فقال: إن العلية الثانية علة العلل، والدهر تحتها، وهي مبدعة الأشياء، والإبداع لها، وقال في هذا قولا بين فيه التوحيد.
فأما كتبه في الخلق والإبانة عن أخلاق النفس، والسعادة في النفس والبدن، وتدبير العامة و الخاصة، وتدبير الرجل امرأته، والسياسة، و تدبير المدن، وقصص أهل التدبير للمدن، فهذه أغراض كتب أرسطاطاليس الحكيم المذكورة الشريفة، وما بعدها من الكتب فتبع لها.

ومن حكماء اليونانيين بطليموس وهو الذي وضع كتاب المجسطي، وكتاب ذات الحلق، وذات الصفائح، وهي الأسطرلاب والقانون، فأما كتاب المجسطي، ففي علم النجوم، والحركات، وتفسير المجسطي الكتاب الأكبر، وهو ثلاث عشرة مقالة، فابتدأ المقالة الأولى من المجسطي بذكر الشمس، لأنها الأس لا يوصل إلى علم شيء من حركات الفلك إلا بها، فقال في الباب الأول: إن الشمس فلك خارج المركز عن مركز العالم قد سمت ناحية منه، مصعدة نحو ما يحاذي بها من فلك البروج، متباعدة عن مركز الأرض، ودنت الناحية الأخرى منه، منحدرة نحو الأرض، متباعدة عما يحاذي بها من فلك البروج، فموضع السمو هو الموضع الذي فيه تبطىء الشمس، وموضع الدنو هو الذي فيه تسرع، ثم تكلم في ذلك بقول واضح.
والباب الثاني في قدر كلية الأرض عند كلية السماء ووضعت وضع الفلك المائل، وموضع عمران الأرض، ومقادير ساعاتها فيما بين خط الاستواء إلى القطب الشمالي، واختلاف ما بين هذين الموضعين، وقدر ذلك الاختلاف في نواحي الأفق من قبل اختلاف مواضع أهل الأرض، وحركة الشمس والقمر.
والباب الثالث في الكرة المستقيمة مع قسي فلك البروج المفروضة.
والمقالة الثانية ثلاثة عشر باباً: الباب الأول في المواضع المسكونة من الأرض.
الباب الثاني في معرفة مقدار ما بين الفلك المستقيم وبين مطلع الفلك المائل من تقويس دائر أفق المطلع، ومقادير النهار في كل يوم في طوله وقصره.
الباب الثالث في معرفة ارتفاع القطب وانخفاض الأخرى التي هي مقابلته، وهو عرض الإقليم من الصفة والرسوم قبل ارتفاع القطب، وما بقي إلى منتهى سمت الرءوس التي في تدوير وسط السماء.
الباب الرابع في معرفة مر الشمس في سمت رؤوس أهل البلاد أين يكون ذلك، ومتى يكون، وفي أي موضع من أجزاء البروج تكون الشمس يومئذ فوق رؤوسهم.
الباب الخامس في مقدار الظل نصف النهار في برجي الاستواء، وبرجي التغير.
الباب السادس في خواص المواضع من طريق ما بين المشرق والمغرب، والخطوط التي يوازي بعضها بعضاً في استواء ما بينها من العرض.
الباب السابع في اختلاف مطالع الفلك المائل عن طلوع الفلك المستقيم. الباب الثامن في جدوله مطالع خطوط أقاليم الأرض ومطلع طريقه خطاً خطاً.
الباب التاسع في معرفة طول الليل والنهار من أزمان ساعات الأقاليم، ومعرفة مطالع أجزاء البروج، والجزء الطالع، والجزء المتوسط السماء.
الباب العاشر في الزوايا التي تقع فيما بين الفلك المائل، وبين تدوير منتصف النهار الذي في وسط السماء.
الباب الحادي عشر في الزوايا التي تقع بين الفلك المائل، وتدوير أفق المطلع إلى حد الجنوب من ربع الدوائر في كل إقليم من الأقاليم.
الباب الثاني عشر في الزوايا والتقاويس التي تكون في دائرة الأفق التي تدور على قطب دائرة الأفق، في مواضع الأقاليم.
الباب الثالث عشر في وضع جداول القسي والزوايا التي في أقاليم الأرض، فهذه أبواب المقالة الثانية.
المقالة الثالثة من المجسطي عشرة أبواب، فالباب الأول في معرفة مقدار طول السنة، وعدد أيامها.
الباب الثاني في وضع الجداول لحركة الشمس الوسطى.
الباب الثالث في معرفة جهات الحركة المستديرة المتفقة.
الباب الرابع في معرفة ما يظهر من اختلاف حركة الشمس في المنظر والرؤية.
الباب الخامس في الأبحاث الجزئية عن الاختلاف.
الباب السادس في صنعة فصول جداول القطع الجزئية الاختلاف.
الباب السابع في وضع جداول اختلاف حركة الشمس.
الباب الثامن في معرفة موضع الشمس في مسيرها الأوسط.
الباب التاسع في حساب الشمس ومعرفة حقيقة موضعها.
الباب العاشر في معرفة اختلاف الأيام ما بين نهار يوم وليلته وبين نهار يوم آخر وليلته. المقالة الرابعة من المجسطي أحد عشر باباً، فالباب الأول: من أي الأرصاد ينبغي أن يكون البحث عن القمر.
الباب الثاني في معرفة أزمان أدوار القمر.
الباب الثالث في معرفة تقسيم حركات القمر الوسطى.
الباب الرابع في وضع جداول تكون فيها حركات القمر الوسطى.
الباب الخامس في أن الجهتين جهة مركز الخارج وجهة فلك التدوير، في حركات القمر، تدلان على أمر واحد.
الباب السادس في برهان اختلاف حركة القمر الأولى المفردة.
الباب السابع في تقويم مسير القمر في الطول والاختلاف.

الباب الثامن في معرفة موضع حركات القمر الوسطى في الطول والاختلاف.
الباب التاسع في تقويم مسير القمر الأوسط في العرض وفي ابتدائه.
الباب العاشر في وضع جداول اختلاف القمر المفرد.
الباب الحادي عشر في أي مقدار يكون اختلاف القمر.
فهذه الأربع المقالات تجزي عن جميع ما يحتاج إليه من كتاب المجسطي، وتسع مقالات بعدها في صفة المراكز، وتقديم حركة التدوير، وصنعة جداول الحركة، وجداول طول الكواكب.
وأما كتاب: في ذات الحلق، فإنه ابتدأ بذكر عمل ذات الحلق، وهي تسع حلقات، بعضها في جوف بعض، إحداهن ذات علاقة، والثانية المعترضة فيها من المشرق والمغرب، والثالثة الحلقة التي تدور بهاتين الحلقتين على ما بين أسفلها إلى أعلاها، والرابعة الجارية تحت الحلقة ذات العلاقة، والخامسة حاملة نطاق البروج، وفيها تركيب المحور، والسادسة حاملة نطاق البروج الاثني عشر، والسابعة تحت حلقتي الفلك، وهي حلقة مركبة في المحور ليؤخذ بها عرض الكواكب الثابتة، الجارية فيما بين أرباع الفلك، والحلقة الثامنة جارية في حجري المحور، والحلقة التاسعة مركبة في الحلقة الثانية لمجرى الفلك المستقيم يحط في الجنوب، ويرفع السماء على قدر انتقال الفلك المستقيم، ويذكر فيه كيف يبتدأ بعملها، وكيف يكتب عليها، وكيف تركب كل واحدة في الأخرى، وكيف تجزى وتخطط وتسمر حتى لا تزول، وكيف تنصب.
ثم يذكر العمل بها في تسعة وثلاثين باباً، فالباب الأول من أبواب مواضع العمل في ذات الحلق والتداوير التي فيها. الباب الثاني في امتحانها.
الباب الثالث في أخذ ظل الشمس بها.
الباب الرابع إذا أردت أن تأخذ بها عرض إقليم، أو مدينة، أو موضع.
الباب الخامس إذا أردت أن تأخذ بها عرض كل إقليم ما هو.
الباب السادس إذا أردت أن تعرف النهار كيف يقصر ويطول في السرطان.
الباب السابع إذا أردت معرفة مقدار كل يوم من أيام السنة.
الباب الثامن إذا أردت معرفة استواء الليل والنهار في الإقليم الأول.
الباب التاسع إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج في الأقاليم بأقل من ثلاثين جزءاً أو أكثر. الباب العاشر علم رد أجزاء البروج إلى جزء الفلك المستقيم.
الباب الحادي عشر في معرفة كل برج، وكيف يغيب بمطلع نظيره، ويطلع بمغيبه في الأجزاء. الباب الثاني عشر إذا أردت أن تعلم كيف تطلع البروج وسط السماء على اختلاف من أجزائها. الباب الثالث عشر إذا أردت معرفة كل برج منها.
الباب الرابع عشر إذا أردت معرفة الطالع والأوتاد الأربعة بالنهار من قبل الشمس.
الباب الخامس عشر إذا أردت معرفة الطالع بالليل من القمر والكواكب.
الباب السادس عشر إذا أردت أن تعلم كم ساعة مضت من النهار.
الباب السابع عشر إذا أردت أن تعلم أي ساعة يظهر القمر، أو كوكب من الكواكب الثابتة. الباب الثامن عشر إذا أردت أن تعلم ساعات القرانات.
الباب التاسع عشر إذا أردت أن تعرف مقدار المشرقين والمغربين في كل بلد.
الباب العشرون إذا أردت أن تعلم لكل برج مقدار مطلعه من المشرق، ومغربه من المغرب.
الباب الحادي والعشرون إذا أردت أن تعلم الكواكب التي تغيب في كل بلد.
الباب الثاني والعشرون إذا أردت أن تعلم الطرائق الخمس التي ذكرها الحكماء في الفلك في كل بلد.
الباب الثالث والعشرون إذا أردت أن تعرف الأقاليم السبعة.
الباب الرابع والعشرون إذا أردت معرفة كل إقليم منها.
الباب الخامس والعشرون إذا أردت أن تعرف كيف يكون النهار الأقصر، إذا صارت الشمس في الجدي، في الموضع الذي يكون عرضه ثلاثة وستين جزءاً، وذلك أقصى ما يسكن من ناحية الشمال، ويكون النهار أربع ساعات ونحوها، وليلة عشرين ساعة، ويكون النهار الأطول فيه عشرين ساعة، وليلة أربع ساعات، وهي جزيرة يقال لها جزيرة تولى من أرض أوريبا، وهي شمالي أرض الروم.
الباب السادس والعشرون إذا أردت أن تعرف المواضع التي تغيب عنها الشمس ستة أشهر، فيكون ظلمة راتبة، وتطلع عليه الشمس ستة أشهر، فيكون ضوءاً راتباً، وهو الموضع الذي يحاذي محور الشمال.
الباب السابع والعشرون إذا أردت أن تعلم كل كوكب من الكواكب الثابتة من أي جزء من أجزاء البروج التي تطلع في كل موضع تريد من الأرض.

الباب الثامن والعشرون إذا أردت أن تعلم كم جزءاً بين رأس الحمل والطالع من أجزاء المطالع في كل بلد.
الباب التاسع والعشرون إذا أردت أن تعلم لكل مدينة وبلد من أي الأقاليم هي.
الباب الثلاثون إذا أردت أن تعلم عرض القمر، أو كوكب من الكواكب.
الباب الحادي والثلاثون إذا أردت أن تقوم خط وسط السماء في موضعه من سمت كل بلد. الباب الثاني والثلاثون إذا أردت أن تعرف طول الكواكب وعرضها بعد معرفتك بجري وسط السماء.
الباب الثالث والثلاثون إذا أردت أن تعرف موضع رأس التنين وذنبه، وهل تلتقي بفلكي الشمس والقمر.
الباب الرابع والثلاثون إذا أردت أن تعرف المطالع من قبل ساعات الما.
الباب الخامس والثلاثون إذا أردت أن تعرف مجرى الفلك الذي فيه الكواكب الثابتة.
الباب السادس والثلاثون إذا أردت أن تعرف تشريق الكواكب وتغريبها.
الباب السابع والثلاثون إذا أردت أن تعرف طول مدينة من المدن.
الباب الثامن والثلاثون في معرفة أجزاء طول المدن.
الباب التاسع والثلاثون في استخراج القوس من حساب الجبر، فهذه أبواب ذات الحلق.
وأما كتاب في ذات الصفائح، وهي الأسطرلاب، فإنه يبتدىء بذكر عملها وكيف تعمل، وحدودها، ومقاديرها، وتركيب حجرها، وصفائحها، وعنكبوتها، وعضادتها، وكيف تجزأ وتقسم وتحفظ على قسمة أجزائها، ومقنطراتها، وميلها، ويشرح ذلك، ويصفه صفيحة إقليم إقليم، وطول كل إقليم وعرضه، ومواضع الكواكب والساعات فيها، والطالع والغارب والمائل، والجنوبي والشمالي، ورأس الجدي، ورأس السرطان، ورأس الحمل، ورأس الميزان، ثم يذكر العمل بها.
فالباب الأول امتحانها حتى تصح. الباب الثاني في امتحان طرفي العضادة.
الباب الثالث في علم ما مضى من النهار من ساعة وأي برج ودرجة الطالع.
الباب الرابع في علم ما مضى من ساعات الليل، وما الطالع من البروج والدرج.
الباب الخامس في معرفة موضع الشمس من البروج والدرج.
الباب السادس في علم مواضع القمر في أي برج ودرجة هو، وأين الكواكب السبعة.
الباب السابع في علم عرض القمر.
الباب الثامن في علم مطالع البروج الاثني عشر في الأقاليم السبعة، ومعرفة كل برج منها. الباب التاسع في قطع المطالع للفلك المستقيم، وما يصيب كل درجة من درج السواء.
الباب العاشر في علم ساعات الليل والنهار كم تكون في كل زمان، في كل إقليم.
الباب الحادي عشر في علم مقدار نهار كل كوكب من الكواكب الثابتة، وما يجري في الفلك من حين طلوع الكواكب إلى حين غروبها.
الباب الثاني عشر في معرفة طول الكواكب وعرضها.
الباب الثامن عشر في معرفة زوال الكواكب الثابتة، فإنها تزول في كل سنة من سني القمر درجة.
الباب الرابع عشر في معرفة ميل البروج عن خط الاستواء الذي هو مدار الحمل والميزان. الباب الخامس عشر في معرفة المدائن أيها أقرب إلى الشمال وإلى الجنوب.
الباب السادس عشر في معرفة أقرب المدائن من المشرق وأقربها إلى المغرب.
الباب السابع عشر في معرفة عرض كل إقليم.
الباب الثامن عشر في علم أي إقليم أنت فيه.
الباب التاسع عشر في علم عرض الإقليم وأي المدائن أردت.
الباب العشرون في علم تقدير الطرائق، وهي خمس، وكيف مجاريها، ويشرح في كل باب من هذه الأبواب شرحاً طويلاً بين فيه ما يحتاج إليه وإلى معرفته.
فهذه أغراضه في ذات الصفائح.
وأما كتابه القانون في علم النجوم وحسابها، وقسمة أجزائها، وتعديلها، فمن أتم كتب النجوم وأوضحها، وكان أول ما ابتدأ به في ذكر دور السماء التي تدور فيها هذه الكواكب.
باب في علم مسير الكواكب في كل يوم، فيقول: إن مسير الشمس في كل يوم يكون تسعاً وخمسين دقيقة، ومسير أوج القمر سبع دقائق، ومسير رأس التنين، وهو الجوزهر، ثلاث دقائق، ومسير زحل دقيقتان، ومسير المشتري خمس دقائق، ومسير المريخ إحدى وثلاثون دقيقة، ومسير الزهرة درجة وست وثلاثون دقيقة، ومسير عطارد أربع درج وخمس دقائق، و مسير قلب الأسد ست ثوان.
باب في علم أوساط الكواكب، وتقويمها، وتعديلها، إذا كانت لا تمكن أن تقوم إلا بأوساطها. باب في تحريك أرباع الفلك على ما ذكر أصحاب الطلسمات، أن أرباع الفلك تتحرك ثمانية أجزاء مقبلة، وثمانية أجزاء مدبرة، والجزء درجة فتقبل في كل ثمانين سنة، وتدبر على كل ثمانين سنة جزءاً.

باب في ميل الشمس وعرض الكواكب الستة، وتباعدها من خط الاستواء إلى الشمال، وإلى الجنوب، ووضع لكل كوكب منها في ذلك جدولاً، أما ميل الشمس، فميلها عن خط الاستواء، وأما ميل عرض الكواكب فتباعدها من مسير الشمس.
باب في مقام الكواكب السبعة ورجوعها، وكيف يلتمس على ذلك من زحل والمشتري والمريخ، إذا كان بين كل واحد منها وبين الشمس مائة وعشرون، أو مائتان وأربعون درجة، ومن الزهرة وعطارد إذا تباعدا من الشمس تباعدهما الأكبر، فكان بين الزهرة وبينها ست وأربعون درجة، وبين عطارد ثلاث وعشرون درجة.
باب في طلوع الكواكب السبعة من تحت شعاع الشمس، ومغيبها من بين يديها ومن خلفها.
باب في تقويم الساعات وتعديلها، وإخراجها من الساعات المعوجة إلى الساعات المستوية.
باب في علم عرض المدائن وطولها، وقسم مدائن العالم بين الأقاليم السبعة، فجعل لكل مدينة طولاً وعرضاً، وجعلها في جدول سماه جدول المدائن، ووضعه على ثلاثة أبواب: فالباب الأول فيه تسمية المدائن.
والباب الثاني طول كل مدينة. والباب الثالث عرض كل مدينة، وهو انحرافها عن حد رأس الجدي، والميزان إلى الشمال، ووضع لكل إقليم عرضه، وهو انحراف وسطه عن رأس الحمل، والميزان إلى الشمال، وأثبته على رأس جدول مطالعه، فإذا أردت عرض مدينة من مدائن العالم، وكانت مما قد أثبته في تسمية المدائن، وإلا نظر إلى عرض أي إقليم هي أقرب، فأي إقليم وجد عرض تلك المدينة أقرب إلى عرضه، فتلك المدينة من ذلك الإقليم.
باب فيه عرض كل إقليم، فقال الأول: ست عشرة درجة ودقيقة، والثاني ثلاث وعشرون درجة وإحدى عشرة دقيقة، والثالث ثلاثون درجة واثنتان وعشرون دقيقة، والرابع ست وثلاثون درجة، والخامس أربعون درجة وست وخمسون دقيقة، والسادس خمس وأربعون درجة واثنتان وثلاثون دقيقة، والسابع ثمان وأربعون درجة واثنتان و ثلاثون دقيقة.
وباب ذكر فيه انحراف القمر، وهو الذي يسمى البراكفيس، وأخبر أنه رؤية القمر، وذلك أن للقمر موضعين مختلفين: أحدهما موضع رؤيته، والآخر منزلته المعتدلة.
وباب في اجتماع الشمس والقمر والاستقبال، وكيف يحسب لذلك حتى يصح.
وباب في كسوف القمر ونواحيه.
وباب في كسوف الشمس، وكيف يحسب في وقت الاجتماع.
وباب في تعديل ما يوجد بجداول الكواكب والطالع وغير ذلك.
وباب من التعديل في استخراج الطالع وفيه مائة وثمانون جدولاً، وبين كل قول بالأشكال. وتسمية ملوك اليونانيين والروم وما ملك كل ملك على ما بينا من أسمائهم آخر هذا الفصل.
ملوك اليونانيين والروموكان أول ملوك اليونانيين، وهم أولاد يونان بن يافث بن نوح، وهو أول من سماه بطليموس في القانون من ملوكهم: فيلفوس، وكان جباراً عاتياً، وكان ملكه سبع سنين.
ثم ملك ابنه الإسكندر، وهو الذي يقال له ذو القرنين، واسم أمه ألومفيدا، وكان معلمه أرسطاطاليس الحكيم، فجل قدر الإسكندر، وعظم ملكه، واشتد سلطانه، وأعانته الحكمة والعقل والمعرفة، وكان معه نجدة وبأس، وهمة عالية، دعته إلى أن كتب إلى ملوك الأقاليم والآفاق يدعوهم إلى طاعته، وكان من كان قبله من ملوك اليونانيين يؤدي إلى ملوك أرض بابل من الفرس خرجاً، لجلالة تلك المملكة، وعظم قدرها، وصغر الممالك في جنبها، فلما كتب إلى ملك فارس يدعوه إلى طاعته عظم عليه، فسار الإسكندر حتى أتى أرض بابل، وملك الفرس يومئذ دارا بن دارا، فحاربه حتى قتله، وحوى خزائن ملكه، وتزوج ابنته.
ثم صار إلى أرض فارس، وقتل من بها من المرازبة والرؤساء، وافتتح البلاد.
ثم صار إلى أرض الهند، فزحف إليه فور ملك الهند، فحاربه حتى قتله، ثم صير الإسكندر على الهند ملكاً من قبله من أهل الهند يقال له كيهن، و انصرف، فشرق، وغرب، ثم رجع إلى أرض بابل بعد أن دوخ الأرض.
فلما صار في أداني العراق، مما يلي الجزيرة، اعتل، فاشتدت علته، فلما يئس من نفسه، وعلم أن الموت قد نزل به، كتب إلى أمه كتاباً يعزيها عن نفسه، وقال لها في آخره: اصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه من نساء أهل المملكة، ولا يأكل من طعامك من أصيب بمصيبة قط! فعملت طعاماً، وجمعت الناس، ثم أمرتهم ألا يأكل من أصيب بمصيبة قط، فلم يأكل أحد، فعلمت ما أراد.

ومات الإسكندر بموضعه الذي كاتب منه، فاجتمع أصحابه، فكفنوه، وحنطوه، وصيروه في تابوت من ذهب، ثم وقف عليه عظيم من الفلاسفة، فقال: هذا يوم عظيم كشف الملك عنه، وأقبل من شره ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على ملك، فعلى هذا الملك فليبك، ومن كان متعجباً من حادث، فمن مثل هذا الحادث فليتعجب.
ثم أقبل على من حضره من الفلاسفة، فقال: يا معاشر الحكماء! ليقل كل امرىء منكم قولاً يكون للخاصة معزياً، وللعامة واعظاً. فقام كل واحد من تلامذة أرسطاطاليس، فضرب بيده على التابوت، ثم قال: أيها المنطيق ما أخرسك! أيها العزيز ما أذلك! أيها القانص إني وقعت موضع الصيد في الشرك من هذا الذي يقنصك؟ ثم قام آخر فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلاً.
وقام آخر فقال: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقماتك لا تؤمن، وكانت مدائنك لا ترام، وكانت عطاياك لا تبرح، وكان ضياؤك لا يكسف، فأصبح ضوءك قد خمد، ونقماتك لا تخشى، وأصبحت عطاياك لا ترجى، وأصبحت سيوفك لا تنتضى، وأصبحت مدائنك لا تمنع.
ثم قام آخر فقال: هذا الذي كان للملوك قاهراً، فقد أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقام آخر فقال: قد كان صوتك مرهوباً، وكان ملكك غالباً، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقام آخر فقال: لا امتنعت من الموت إذ كنت من الملوك ممتنعاً، وهلا ملكت عليه إذ كنت عليهم مملكاً.
وقام آخر فقال: حركنا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وتكلموا بنحو هذا الكلام، ثم أطبق التابوت، وحمل إلى الإسكندرية، فتلقته أمه بعظماء أهل المملكة، فلما رأته قالت: يا ذا الذي بلغت السماء حكمته، وحاز أقطار الأرض ملكه، ودانت الملوك عنوة له! ما لك اليوم نائماً لا تستيقظ، وساكتاً لا تتكلم؟ من يبلغك عني أنك قد وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؟ فعليك السلام حياً وهالكاً، فنعم الحي كنت، ونعم الهالك أنت.
ثم أمرت به، فدفن، وكان ملك الإسكندر مع ما نال من الدنيا اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك بعد ذي القرنين بطليموس خليفة الإسكندر، وكان حكيماً عالماً، وكان ملكه عشرين سنة، ثم ملك فيلفوس، وكان جبارا، فاشتد سلطانه، وعتا في ملكه، وفي أيامه عملت الطلسمات، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثم ملك هورحيطوب الأول خمساً وعشرين سنة، ثم ملك فيلوبطور سبع عشرة سنة، ثم ملك فيفانس أربعاً وعشرين سنة، ثم ملك فيلوبطور الثاني خمساً وعشرين سنة، ثم ملك هورحيطوب الثاني سبعاً وعشرين سنة.
ملوك الرومثم صار الملك من بعد اليونانيين، أولاد يونان بن يافث بن نوح، إلى الروم، وهم ولد روم بن سماحير بن هوبا بن علقا بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، فغلبوا على البلد، وتكلموا بلغه القوم، وانتسبوا إلى الرومية، ودرست اليونانية إلا ما بقي في أيدي هؤلاء من فضل حكمهم، وكان أول من ملك من الروم بعد اليونانيين فهاساطق، وهو جاليوس الأصغر، ابن روم، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك أغسطس، فلما أتى لملكه سنة، ولد المسيح، واتصل ملك أغسطس ثلاثا وأربعين سنة. ثم ملك طباريس اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك جايس أربع سنين.
ثم ملك قلوديس أربع عشرة سنة.
ثم ملك أسفسيانوس عشر سنين، وكان أهل مملكته يسمونه الإله، ووجه ابنا له يقال له ططوس إلى بيت المقدس، فحصرها أربعة أشهر، وكان قد اجتمع إليها في عيد من أعياد اليهود خلق عظيم، فاشتد عليهم الحصار، حتى أكلوا الصبيان، ومات أكثرهم من الجوع، ثم افتتحها، فقتل وسبى وأحرق الهيكل بالنار.
ثم ملك ططوس ثلاث سنين، وانشق في زمانه جبل يقال له أبرمور، وخرجت منه نار أحرقت مدناً كثيرة.
ثم ملك دومطيانوس خمس عشرة سنة، وفي زمانه ظهر أبولوس صاحب الطلسمات من أهل طوانة، ووثب بدومطيانوس أهل مملكته، فقتلوه.
ثم ملك يهودس سنة واحدة.
ثم ملك طريانوس تسع عشرة سنة.
ثم ملك ادريانوس إحدى وعشرين سنة، ووثب به يهود بيت المقدس، فامتنعوا أن يؤدوا إليه الخراج، فوجه إليهم من قتلهم، وأمر بقتل من بقي منهم ببيت المقدس.
ثم ملك هيلوس أنطونينوس ثلاثاً وثلاثين سنة.
ثم ملك مرقس أنطونينوس خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك الإسكندر بن ماميا ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك مكسيميانوس ثلاث سنين.
ثم ملك جورديانوس ثلاث سنين.

ثم ملك فيلفوس سنتين.
ثم ملك ديقيوس سنة واحدة.
ثم ملك جالوس ثلاث سنين.
ثم ملك ولريانوس ست سنين.
ثم ملك قروس سبع سنين.
ثم ملك دقليطيانوس عشرين سنة.
ثم ملك قسطنطين ومكنيوس عشر سنين.
وكانت ملوك اليونانيين، ومن ملك بعدهم من الروم، مختلفة، فطائفة منهم على دين الصابئين، وكانوا يسمون الحنفاء، وهم الذين يقرون ويعترفون بخالق، ويزعمون أن لهم نبياً مثل اوراني، وعابيديمون، وهرمس، وهو المثلث بالنعمة، ويقال إنه إدريس النبي، وهو أول من خط بالقلم، وعلم علم النجوم، ويقولون في الخالق، جل وعز، على قول هرمس: أما أن يعقل الله، فعسر، وأن ينطق به، فلا يمكن، وإن الله علة العلل، المكون للعالم جملة واحدة.
وطائفة منهم أصحاب زينون، وهم السوفسطائية، وتفسير هذا الاسم باليونانية المغالطة، وبالعربية التناقضية، يقولون: لا علم ولا معلوم، واحتجوا باختلاف الناس وانتصاف بعضهم من بعض، وقالوا: نظرنا في قول الناس المختلفين، فوجدناها مختلفة غير متفقة، وأصبناهم في اختلافهم مجتمعين على أن الحق مؤتلف غير مختلف، وأن الباطل مختلف غير مؤتلف، وكان في اجتماعهم شاهد لهم انهم لم يعملوا بالصواب، فلما أقروا بهذا لم يبق للحق موضع يطمع في إصابته إلا في الخاصة منهم، فعلمنا أن ذلك لا يوجد إلا بأحد وجهين: إما بالتسليم للمدعي، وإما بالكشف لدعواه، فنظرنا في الدعوى فأصبنا بما يعمهم، فلم نجز تصديقهم لخلتين: إحداهما أن يكذب بعضهم بعضا، والأخرى إجماعهم على انهم لم يعلموا بالصواب. فلم يبق إلا كشف الدعوى، ففعلنا، فأصبناهم أهل تكافؤ وتجار بدور الغلبة عليهم جميعاً بالاستواء بينهم، تقوى هذه مرة، ومخالفتها أخرى، فلم نصب عند طائفة منهم فضلاً، ولا تشارك فيه، ولا حجة، ولا تساوي بها، ولا تجارى فيها، فلما أعوز وجود الحق في عامتها وخاصتها بالدعوى بالمناظرة لم يبق للعلم موضع يوجد فيه، ولا للحق مذهب يصاب منه، فقضينا أنه لا علم، ولا معرفة، لأن الشيء إذا كان ثابتاً لا محالة، فلا بد من الإحاطة في الاتفاق، أو في الاختلاف، فلا يذكر ذاكر، وهو غائب، فقال: فلان غائب، فأصابه، فلو قال هو أو غيره: فلان حاضر، وليس بحاضر، فخرج من الصدق، ثم خالفه مخالف، فقال: بل هو غائب، فكان أحدهما صادقاً لا محالة، لأنه لا يعدو إذا كان الشيء ثابتاً حقاً أن يكون حاضراً أو غائباً، فإذا لم يكن شيئاً، فكلاهما كاذب فيما قال من أنه حاضر أو غائب، لأن الحاضر شيء، والغائب شيء، فإن لم يكن شيئاً، فليس بحاضر ولا غائب.
واحتجوا بنحو هذا آخر فقالوا: إن كانت الأشياء كلها تدرك بالعلم والعلم بالعلم فإلى نهاية أو إلى لا نهاية، فإن تناهى، فإلى غير معلوم، وما لم يكن معلوماً، فهو مجهول، فإني تعلم الأشياء بمجهول، فإن لم تتناه، ولم تكن لذلك غاية، فلا إحاطة به، وما لم يحط به، فمجهول أيضاً، فكان الوجهان في هذا القياس مجهولين غير معلومين، فأنى يعلم شيء مجهول دون أن يعلم جميع الأشياء، وذلك أبعد.
وشققوا في هذين النوعين، وكثر سعيهم، وعظمت مؤنتهم، وقالت طائفة تسمى الدهرية: لا دين، ولا رب، ولا رسول، ولا كتاب، ولا معاد، ولا جزاء بخير، ولا بشر، و لا ابتداء لشيء، ولا انقضاء له، ولا حدوث، ولا عطب، وإنما حدوث ما سمي حدثاً تركيبه بعد الافتراق، وعطبه تفريقه بعد الاجتماع، وجميع الوجهين في الحقيقة حضور غائب ومغيب حاضر.
وإنما سميت الدهرية لزعمها أن الإنسان لم يزل، ولن يزول، وأن الدهر دائر لا أول له، ولا آخر، واحتجوا فيما ادعوا بأن قالوا: إنما يعرف في وجود الشيء وفقده حالان لا ثالث لهما: حال الشيء فيها موجود، فأنى يحدث ما قد كان ووجد، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون الشيء في حال لا تشبيه لها، وذلك أبعد.
وكذلك القول في المدعي العطب فهو لا يعرف غير حالين: حال الشيء فيها قائم، فمحال قول من ادعى العطب للشيء في حال كونه وقيامه، وحال لا شيء فيها، فأنى يكون العطب الأدنى، وذلك محال، فإن أقر مخالفونا بصدقنا دخلوا في قولنا ونقضوا قولهم، وإن أنكروا قولنا ادعوا حالاً ثالثة لا عدم فيها ولا وجود، فذلك أقبح الثلاثة حالة.
وقالت فرقة منهم: إن أصل الأشياء في الأزلية حبة كانت، فانفلقت، فبدأ منها العالم على

ما ترى من اختلافه في ألوانه وإحساسه، وزعم بعضهم أنه غير مختلف في معانيه، وإنما ختلف معانيه من جهة إحساسه، وأنكر بعضهم ذلك، وأثبتوا له اختلافاً في معانيه وتحقيقه، وقالت المنكرة لتحقيق الاختلاف: الأشياء إنما تختلف باختلاف الإحساس لها، وإنه لا حقيقة لشيء منها تبين بها دون غيرها.
وادعوا من الدلالات في ذلك أن أهل المرض الحادث من الصفراء مثل أصحاب اليرقان، إذا ذاق أحد منهم العسل وجده مراً، وأهل السلامة من هذا الداء يجدونه حلواً، وإن الخفاش يغشيه ضوء النهار، ويذكي بصره الليل، فإن كان النور يزيد الأبصار نوراً، والظلمة مغشية لها، وجب أن يكون نور النهار الظلمة للخفاش وغيره، تغشى بصره النار، وقد يوجد ذلك في بعض الناس وغيرهم من الحيوان والطير وغيره، وإن الليل إذا كان مذكياً للأبصار على ما وصفنا، فليلها نور، كما أن النهار نور لمن خالفها، والليل ظلمة لها، فإن قلتم: إن ذلك لآفة دخلت على هذه الأصناف، قلنا لكم: عند من خالفهم أو عند من وافقهم؟ فإن قلتم: عند من خالفهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من وافقهم، فإن قلتم: عند من وافقهم، قلنا: بل الآفة دخلت على من خالفهم عندهم، فلا فضل لأحد الصنفين على أحد.
وقالوا: ألا ترون الكاتب يكتب الكتاب عدلاً مستقيماً، فيراه كذلك من قبل وجهه، فإن نظر إليه من خلفه رآه بخلاف ما كان يعرف، وإن أزور عنه معوجاً أو خالفه رآه مخالفاً، كما تكتب الألف في صورة تميز من جميع الحروف، فإذا استقبلتها رأيتها ألفاً، وإذا استدبرتها رأيتها كالباء، وإذا انحرفت عنها رأيتها كالنون، أو كالباء، وإن الغائب عن موضعه حاضر موضعاً آخر.
وكذلك القول في الألوان والأصوات والطعوم والأعيان والملابس، كما ترى الشخص من قرب كبيراً، وصغيراً من بعد، كلما قرب الداني منه ازداد كبراً، وكلما بعد منه ازداد صغراً في عينه.
وكذلك الصوت يسمع من قريب قوياً ومن بعيد خفياً.
وكذلك الطعم تذوق الشيء قليلاً، فتجده قليل الحلاوة، فإذا زدت منه كان طعمه كثير الحلاوة. وكذلك اللمس تحس الشيء قليلا، فتجده فاتراً، وتلمسه شديداً، فتجده حاراً، وترى الصورة من قريب ثابتة مختلفة، فيزداد الرائي لها بعداً، فيرى أنها مستوية غير مختلفة.
وزعموا أن جميع الأشياء تدور على التكافؤ والتجاري، وكادوا أن يحلفوا بالسوفسطائية.
وقالت طائفة أخرى: إن الأشياء فروع لأصول أربعة لم تزل ولا تزول، فولدت وظهر العالم منها، وهي: الأفراد السواذج: الحر والبرد، والرطوبة واليبس، تنبت بأنفسها لا باعتماد، ولا إرادة، ولا مشيئة.
وقالت طائفة أخرى: إن الأصول أربعة، وهي أمهات ما في العالم، ومعها خامس لم يزل ولا يزول يدبرها ويؤلف بينها بإرادة، ومشيئة، وحكمة، ويؤلف بين زوجاتها وتتولد نتائجها عنه، لا يمنع أضدادها من القرب بعضها من بعض، وهو العلم.
وقالت طائفة، وهم أصحاب الجوهر، وهم الأرسطاطاليسية: إن الأشياء شيئاًن: جوهر وعرض، والجوهر ينقسم قسمين: حي ولا حي، وحده: القائم بنفسه، وافتراقه في الخاصة لا في الحد، والعرض تسعة فمنها: الكمية، وهو العدد، وصورها أربع: الكيل، والمساحة، والوزن، والقول.
ثم الكيفية، وصورها ثمان: الكون، والفساد، والهيئة، والحيلة، والقوة، والضعف، والإلف، والمألوف.
ثم الإضافة، وصورها أربع: طبيعي، وصناعي، واستحسان، ومودة.
ثم متى، وهي الواقعة على الوقت، يعني بالوقت الزمان، وصور الزمان ثلاث: الماضي، والمستقبل، والدائم.
ثم إني، وهي الواقعة على المكان وهو الست جهات يعني: أمام، وخلف، وأعلى، وأسفل، ويمين، ويسار.
ثم الجدة، وهي الملك، وصورة الملك قسمان: إما خارج، وإما داخل، فمعنى خارج مثل المملوك والدار والأثاث ونحوه، ومعنى داخل مثل العلم والحكمة.
ثم النصبة، ومعنى النصبة هيئة الشيء كقول القائل: فلان قائم، وفلان قاعد، وفلان ذاهب، وفلان جاء.
ثم الفاعل وهو قسمان: إما أن يفعل بالاختيار، وإما أن يفعل بالطبع، فالمختار مثل الحي، الباقي، الآكل، الشارب، والفاعل بالطبع كحركة العناصر الأربعة مثل النار تسمو من الوسط إلى العلو تكرر وإن كان دون النار، وكالأرض من العلو إلى الوسط، إلى مركزها الأخص بها، والماء من العلو إلى دون الأرض.

ثم المنفعل، وهو القابل للتأثير الفاعل فيه حال طينته المحتملة لأن يديرها ويربعها في جميع الأشكال، فهذه مقالات اليونانيين ومن تلاهم من الروم، ومذاهب متكلميهم وفلاسفتهم وحكمائهم وأهل النظر منهم.
ملوك الروم المتنصرةوكان أول من ملك من ملوك الروم، فخرج من مقالة اليونانية إلى النصرانية: قسطنطين، وكان سبب ذلك أنه كان يحارب قوماً، فرأى في منامه كان رماحاً نزل بها من السماء عليها صلبان، فلما أصبح حمل على رماحه الصلبان. ثم حارب، فظفر، وكان ذلك سبب تنصره، فقام بدين النصرانية، وبنى الكنائس، وجمع الأساقفة من كل بلد لإقامة دين النصرانية، فكان أول اجتماع لهم واجتمع بنيقيه ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، وأربعة بطارخة: بطرخ الإسكندرية، وبطرخ رومية، وبطرخ أنطاكية، وبطرخ القسطنطينية.
وكان سبب جمع قسطنطين هؤلاء أنه لما تنصر، وحلت النصرانية بقلبه، أراد أن يستقصي علمها، فأحصى مقالات أهلها، فوجد ثلاث عشرة مقالة، فمنها قول من قال إن المسيح وأمه كانا الهين، ومنها قول من قال إنه من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم ينقص الأولى انفصال الثانية، ومنها مقالة من قال بتألهه، ومنها مقالة من قال بتعبيده، ومنها مقالة من قال: إن جسده كان خيالاً مثل متى وأصحابه، ومنها مقالة من قال: هو الكلمة، ومنها قول من قال: هو الابن، ومنها مقالة من قال: هو روح قديمه، ومنها مقالة من قال: هو ابن يوسف، ومنها مقالة من قال: هو نبي من الأنبياء، ومنها مقالة من قال: هو لاهوتي وناسوتي، فجمع قسطنطين ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً وأربعة بطارخة ولم يكن في ذلك العصر غيرهم.
وكان بطرخ الإسكندرية يقول: إن المسيح مألوه مخلوق، فلما اجتمعوا ناظروه في ذلك، فأجمع مقالة القوم جميعاً أن قالوا: إن المسيح ولد من الأب قبل كون الخلائق، وهو من طبيعة الأب، ولم يذكروا روح القدس، ولا أثبتوه خالقاً ولا مخلوقاً، ولكن وافقوا على أن الأب الإله والابن إله منه، وخرجوا من نيقية، وكان ملك قسطنطين خمساً وخمسين سنة.
ثم ملك يوليانوس سنة واحدة، ثم ملك دسيوس سنة واحدة، وفي أيامه ظهر أصحاب الكهف بعد أن كانوا قد ماتوا بعد دهر طويل، وكانوا عدة نفر وراع، ومعهم كلب الراعي، وأسماؤهم: مكسلمينا، ومراطوس، وشاه بونبوش، وبطريوش، ودواس، ويوالس، وكنيفرطو، وسوطر، والراعي مليخا، وهو صاحب الكلب، واسم الكلب قطمير، فخرجوا بعد مائة سنة، ويقال: ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وبعثوا بعضهم ومعه دراهم يمتار لهم طعاماً، فأنكرت السوقة ضرب دراهمه، ثم اتبعوه حتى صاروا إلى المغارة، فعمى أمرهم على القوم، وبني على المغارة مسجد يصلى فيه. ثم ملك والنطيانوس أربع سنين، ثم ملك تيدوسوس الأكبر، وكان في عصره الاجتماع الثاني للنصرانية، فاجتمع له بالقسطنطينية مائة وخمسون أسقفاً وثلاثة بطارخة، ولم يحضرها بطرخ رومية، فوضعوا صحيفة الأمانة، وأثبتوا روح القدس، وكانت صحيفة الأمانة التي وضعوها: أومن بالله الواحد الأب، ملك كل شيء، خالق السماوات والأرض، وما يرى وما لا يرى، وبالرب المسيح ابن الله الذي ولد قبل الدهر، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود ليس بمخلوق، ومن سوس الأب، به كان كل شيء، من أجلنا البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد بروح القدس ومن مريم العذراء، فصار بشراً، وصلب من أجلنا على عهد بلاطس البنطي، وأصيب، وقبر، وقام لثلاثة أيام، كما هو في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب الذي ليس لملكه فناء، وبروح القدس الرب الذي من الأب اشتق الذي تكلم فيه الأنبياء، وبواحدة القدسية الكنيسة السليحية للحواريين، أومن بمعمودية واحدة، بمغفرة الخطايا وقيام الأموات، وحرموا من قال بعد هذا شيئاً، وافترقوا من القسطنطينية، وكان ملك تيدوسوس سبع عشرة سنة.

ثم ملك بعده ابن أخيه تيدوسوس الأصغر ووالنطيانوس، وكان الجمع الثالث للنصرانية، فاجتمع بافسس، وحضر مائتا أسقف، وخالف نسطور على القوم جميعاً، وقال: إن المسيح جوهران وكيانان، إله تام بجوهره وكيانه، فالأب ولد الإله، ولم يلد إنساناً، والأم ولدت إنساناً، ولم تلد الإله، فقال له قريلس: إن كان الأمر كما قلت، فمن عبد المسيح، فهو مسيء، لأنه قد يكون عبد قديماً ومحدثاً، ومن ترك عبادته، فقد كفر، لأنه يكون قد ترك عبادة القديم كما ترك عبادة المحدث، ومن عبد الإله دون الإنسان، فلم يعبد المسيح، إذ كان لا يستحق أن يقال مسيحاً من إحدى جهتيه دون الأخرى، فأوجب ذلك على من حضر، وخالفه بطرخ أنطاكية، فقال نسطور: بطرخ أنطاكية يقول بمثل قولي.
وهرب نسطور إلى أرض العراق، فصارت النسطورية بالعراق، وصيروا رئيسهم، مكان البطرخ، جاثليق، فافترقوا على هذا، وكان ملك تيدوسوس الأصغر سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك مرقيانوس، وكان في عهده الاجتماع الرابع، وكان سبب ذلك أن طرسيوس، صاحب اليعقوبية، قال: إن المسيح جوهر واحد وطبيعة واحدة، فأنكرته النصارى، فاجتمع ستمائة وثلاثون أسقفاً بالقسطنطينية، وناظروا طرسيوس، فقالوا له: إن كان المسيح، كما زعمت، طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم من المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، فلم يرجع عن مقالته، فحرموه، فصار إلى أرض مصر والإسكندرية، وكان طبيبا، فأقام بها. وكان ملك مرقيانوس خمس سنين.
ثم ملك بعده أليون وأنيموس سبع عشرة سنة، ثم ملك زينون ثماني عشرة سنة، ثم ملك أنسطاسيوس، وكان الجمع الخامس للنصرانية في عصره، وذلك أن قوماً من رؤساء النصارى قالوا: إن جسد المسيح كان خيالاً على غير حقيقة، فاجتمعوا لذلك وقالوا: إن كان جسده خيالاً، فيجب أن يكون فعله خيالاً على غير حقيقة، وهذا بقول السوفسطائية أشبه منه بقول النصارى، ولعن أولئك الذين قالوا هذا، وبرئت النصارى منهم. وكان ملك أنسطاسيوس سبعاً وعشرين سنة.
ثم ملك يوسطوس الثاني تسعاً وعشرين سنة، وفي عصره ولد محمد رسول الله، ثم ملك يوسطوس الثالث عشرين سنة، ثم ملك طيبريوس أربع سنين، ثم ملك هرقل وقسطنطين ابنه، وكان في أيامه الجمع السادس للنصرانية، وذلك أن قورس الإسكندراني زعم أن المسيح مشيئة واحدة وفعل واحد فقال: وهذا شبيه بقول اليعقوبية، فاجتمعوا لذلك، ورضوا ببطرخ رومية، وكتب كتاباً ولم يحضر، ولم يكن للنصرانية جمع بعدها. وكان ملك هرقل وقسطنطين ابنه اثنتين وثلاثين سنة.
ثم ملك قسطنطينوس ثماني عشرة سنة، ثم ملك بطرخ رومية ثلاث سنين، ثم ملك فلسعرربى أربع سنين، ثم ملك أليون وقسطنطين ابنه تسعاً وعشرين سنة.
وكانت شهور الروم التي يجرون عليها حسابهم وتاريخاتهم اثني عشر شهراً، أولها: كانون الآخر، وهو الشهر الذي يسمونه بالرومية ينوارس، وهو رأس السنة عندهم. وهذه أسماء شهورهم: ينوارس، وهو كانون الآخر، ويلياس، وهو شباط، ونرلس وهو آذار، وأبرلس، وهو نيسان، ومايس، وهو أيار، ويولس، وهو حزيران، وأغسطس، وهو تموز، وستنبرس، وهو آب، وأقطبرس، وهو أيلول، ونونبرس، وهو تشرين الأول، وأكبرس وهو تشرين الآخر، ومورس، وهو كانون الأول.
وكانت مملكتهم من حد الفرات إلى حد الإسكندرية، مما صار في أرض الإسلام، سوى ما بأرض الروم، مما هو في أيديهم إلى هذه الغاية.
وكانت أعظم مدائنهم: الرها من أرض الجزيرة، وهي من ديار مضر، ثم أنطاكية، وبها كرسي بطرس وكف يحيى بن زكرياء في كنيسة القسيان، وهي الكرسي الرابع، والبطرك الكبير. فما كان في مملكة الروم، وصار في الإسلام: أرض الجزيرة من حران والرها وسائر كورها، وبالس، وسميساط، وملطية، وأذنة، وطرسوس، وجند قنسرين، والعواصم وسائر كورها، وجند حمص، ومدينة حمص إحدى المدن المعدودة في مملكة الروم، ثم اللاذقية، وهي من حمص أيضا، وجند دمشق، وكان عمال ملك الروم بها آل جفنة من غسان، وجند الأردن، وكانت إليهم أيضا، وعمالها من قبل ملك الروم من آل جفنة الغسانيين، وجند فلسطين بكورة، وتنيس، ودمياط، والإسكندرية، فهذه مملكة الروم الخالصة مما صارت في أرض الإسلام.

ثم لهم ما خلف الدرب إلى بلاد الصقالبة والألان والأفرنج، ومن المدن التي في بلاد الروم المشهورة المعروفة مثل: رومية، ونيقية، وقسطنطينية، وأماسية، وخرشنة، وقرة، وعمورية، وصملة، والقلمة، وسلندوا، وهرقلة، وصقلية، وفلطنة، وأنطاكية المحترقة، ودهبرناطة، وملوية، وسلوقية، وأمربه، وقونية، وجنوس، وبلوس، وبراوعس، وسلنيقة.
ملوك فارسفارس تدعي لملوكها أموراً كثيرة، مما لا يقبل مثلها، من الزيادة في الخلقة، حتى يكون للواحد عدة أفواه وعيون، ويكون للآخر وجه من نحاس، ويكون على كتفي آخر حيتان تطعمان أدمغة الرجال، وطول المدة في العمر، ودفع الموت عن الناس، وأشباه ذلك مما تدفعه العقول ويجري فيه مجرى اللعبات والهزل، ومما لا حقيقة له ولم يزل أهل العقول والمعرفة من العجم، ومن له شرف، والبيت الرفيع من أبناء ملوكهم ودهاقينهم، وذوي الرواية والأدب، لا يحققون هذا، ولا يصححونه، ولا يقولونه.
ووجدناهم إنما يحسبون ملك فارس من لدن أردشير بابكان، فمن كان عندهم من أول ملوكهم والمملكة الأولى قبل أردشير: شيومرث سبعين سنة، أوشهنج فيشداد أربعين سنة، طهمورث ثلاثين سنة، جمشاد سبعمائة سنة، الضحاك ألف سنة، أفريدون خمسمائة سنة، منوجهر مائة وعشرين سنة، أفراسياب، ملك الترك، مائة وعشرين سنة، زوطهماسب خمس سنين، كيقباذ مائة سنة، كي كاووس مائة وعشرين سنة، كي خسرو ستين سنة، كي لهراسب مائة وعشرين سنة، كي بشتاسب مائة واثنتي عشرة سنة، كي أردشير مائة واثنتي عشرة سنة، خماني بنت جهرزاد ثلاثين سنة، دارا بن جهرزاد اثنتي عشرة سنة، ثم قتله الإسكندر الذي يقال له ذو القرنين، فافترق ملك فارس، وملك ملوك يسمون ملوك الطوائف، وهؤلاء كان ملكهم ببلخ. ويزعم النسابون انهم من ولد عامورا بن يافث بن نوح، و كانوا على دين الصابئين، يعظمون الشمس والقمر والنار والنجوم السبعة، و لم يكونوا مجوساً، و لكنهم كانوا على شرائع الصابئين، وكان كلامهم السرياني، به يتكلمون، وبه يكتبون، وهذا رسم خط السرياني، ولهم أخبار قد أثبتت رأينا أكثر الناس ينكرونها ويستبشعونها، فتركناها، لأن مذهبنا حذف كل مستبشع.
المملكة الثانية من أردشير بابكانوملك أردشير، وهو أول ملوك الفرس المتمجسة، وكان ملكه بإصطخر، وامتنع عليه بعض كور فارس، فحاربهم حتى فتحها، ثم صار إلى أصبهان، ثم صار إلى الأهواز، ثم إلى ميسان، ثم رجع إلى فارس، فحارب ملكا يقال له أردوان، فقتله، وسمى أردشير شاهنشاه، وبنى بيت نار بأردشير خره، ثم صار إلى الجزيرة وأرمينية واذربيجان، ثم صار إلى سواد العراق، فسكنه، وصار إلى خراسان، فافتتح كوراً منها، ولما دوخ البلاد عقد لابنه سابور الملك بعده، وتوجه، وسماه الملك. وتوفي أردشير، وكان ملكه أربع عشرة سنة.
وملك سابور بن أردشير، فغزا بلاد الروم، وفتح منها عدة بلدان، وأسر خلقا من الروم، فبنى مدينة جنديسابور، وأسكنها سبي الروم، وهندس له رئيس الروم القنطرة التي على نهر تستر، وعرضه ألف ذراع.
وفي أيام سابور بن أردشير ظهر ماني بن حماد الزنديق، فدعا سابور إلى الثنوية، وعاب مذهبه، فمال سابور إليه، وقال ماني: إن مدبر العالم اثنان، وهما شيئان قديمان: نور وظلمة، خالقان، فخالق خير، وخالق شر، فالظلمة والنور كل واحد منهما في نفسه اسم لخمسة معان: اللون، والطعم، و الرائحة، والمجسة، والصوت، وإنهما سميعان بصيران عالمان، وإنه ما كان من خير ومنفعة، فهو من قبل النور، وما كان من ضرر وبلاء، فهو من قبل الظلمة، وإنهما كانا غير ممتزجين، ثم امتزجا، والدليل على ذلك أنه لم تكن صورة ثم حدثت، وإن الظلمة هي بدأت للنور بالممازجة، وإنهما كانا متماسين على مثال الظل والشمس، والدليل على ذلك استحالة كون شيء لا من شيء، الدليل على أن الظلمة بدأت للنور بالممازجة، أنه لما كانت مخالطة الظلام للنور مفسدة له كان محالاً أن يكون النور بدأها لأن النور من شأنه الخير. والدليل على أنهما اثنان قديمان خير وشر أنه لما وجدت المادة الواحدة لا يكون منها فعلان مختلفان مثل النار الحارة المحرقة لا يكون منها التبريد، والذي يكون منه التبريد لا يكون منه التسخين، فذلك الذي يكون منه الخير لا يكون منه الشر، والذي يكون منه الشر لا يكون منه الخير.

والدليل على أنهما حيان فاعلان أن الخير تثبت له فعلاً، والشر تثبت له فعلاً.
فأجابه سابور إلى هذه المقالة، وأخذ بها أهل مملكته، فعظم ذلك عليهم، فاجتمع حكماء أهل مملكته ليصدوه عن ذلك، فلم يفعل.
ووضع ماني كتباً يثبت بها الاثنين، ومما وضع كتابه الذي يسميه كنز الإحياء يصف ما في النفس من الخلاص النوري والفساد الظلمي، وينسب الأفعال الردية إلى الظلمة.
وكتاب يسميه الشابرقان يصف فيه النفس الخالصة والمختلطة بالشياطين، والعلل، ويجعل الفلك مسطوحاً، ويقول: إن العلم على جبل مائل يدور عليه الفلك العلوي.
وكتاب يسميه كتاب الهدى والتدبير، واثنا عشر إنجيلاً يسمى كل انجيل منها بحرف من الحروف، ويذكر الصلاة وما ينبغي أن يستعمل لخلاص الروح.
وكتاب سفر الأسرار الذي يطعن فيه على آيات الأنبياء.
وكتاب سفر الجبابرة، وله كتب كثيرة ورسائل.
فأقام سابور على هذه المقالة بضع عشرة سنة، ثم أتاه الموبذ، فقال: إن هذا قد أفسد عليك دينك، فاجمع بيني وبينه لأناظره! فجمع بينهما، فظهر عليه الموبذ بالحجة، فرجع سابور عن الثنوية إلى المجوسية، وهم بقتل ماني، فهرب، فأتى إلى بلاد الهند، فأقام بها حتى مات سابور. ثم ملك بعد سابور هرمز بن سابور، وكان رجلاً شجاعاً، وهو الذي بنى مدينة رامهرمز، ولم تطل أيامه، وكان ملكه سنة واحدة.
ثم ملك بهرام بن هرمز وكان مشغوفاً بالعبيد والملاهي، وكتب تلاميذ ماني إليه: أن قد ملك ملك حديث السن، كثير التشاغل، فقدم إلى أرض فارس، واشتهر أمره، وظهر موضعه، فأحضره بهرام، فسأله عن أمره، فذكر له حاله، فجمع بينه وبين الموبذ، فناظره، ثم قال له الموبذ: يذاب لي ولك رصاص يصب على معدتي ومعدتك، فأينا لم يضره ذلك، فهو على الحق. فقال: هذا فعل الظلمة! فأمر به بهرام فحبس، وقال له: إذا أصبحت دعوت بك، فقتلتك قتلة ما قتل بها أحد قبلك، فلم يزل ماني ليلة يسلح حتى خرجت نفسه، وأصبح بهرام، فدعا به، فوجدوه قد مات، فأمر بحز رأسه، وحشا جسده بالتبن، وتتبع أصحابه، فقتل منهم خلقاً عظيماً. وكان ملك بهرام بن هرمز ثلاث سنين.
ثم ملك بهرام بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، فكان ملكه أربع سنين، ثم ملك أخوه نرسى بن بهرام تسع سنين.
ثم ملك هرمز بن نرسى تسع سنين، وولد له ابن سماه سابور، وعقد له الملك، ومات هرمز وسابور صبي في المهد، فأقام أهل مملكته متلومين عليه، حتى ترعرع وشب، ثم ظهر منه عتو وجبرية، فغزا بلاد العرب، وغور عليهم المياه، وغزاه ملك الروم، وهو اليانوس، فأعانته العرب من جميع القبائل، ثم تسرعت قبائل العرب إلى سابور، فأوقعت به في دار ملكه، حتى هرب، وخلا ملكه فانتهبت مدينته وخزائنه، ثم جاء سهم غرب فقتل اليانوس ملك الروم، فملكت الروم يوبنيانوس، فصالح سابور.
وأقام سابور على معاداة العرب لا يظفر بأحد منهم إلا خلع كتفه، فلذلك سمي سابور ذا الأكتاف. وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة.
ثم ملك أردشير بن هرمز أخو سابور، فساءت سيرته، وقتل الأشراف والعظماء منهم، فخلع بعد أن ملك أربع سنين. وملكت الفرس سابور بن سابور، فخضع له أردشير المخلوع ومنحه الطاعة، وسقط على سابور فسطاط فقتله، وكان ملكه خمس سنين.
وملك بعد سابور بهرام بن سابور، وكتب إلى الآفاق يعدهم العدل، والنصفة، والإحسان، وأقام على ملكه إحدى عشرة سنة، ثم ثار عليه قوم فقتلوه.
ثم ملك يزدجرد بن سابور، وكان فظاً، غليظاً، مستطيلاً، سيء السيرة، قليل الخير، كثير الشر، فسامهم سوء العذاب، ثم رمحه فرس، فقتله. وكان ملكه إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك بهرام جور بن يزدجرد، وكان قد نشأ بأرض العرب، وكان أبوه قد دفعه إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة.

وقد كان لما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنا له لسوء مذهبه، وقالوا: بهرام ابنه قد نشأ بأرض العرب، لا علم له بالملك! وأجمعوا على أن يملكوا رجلاً غيره ، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس هابته، فأخذوا تاج الملك والزينة التي تلبسها الملوك، فوضعوهما بين أسدين، وقالوا لبهرام ولكسرى: أيكما أخذ التاج والزينة من بين هذين الأسدين، فهو الملك. فقالوا لبهرام، فأخذ جرزاً، وتقدم، فضرب الأسدين حتى قتلهما، وأخذ التاج والزينة، فأذعنوا له، وأعطوه الطاعة، فوعدهم من نفسه خيراً، وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك، ويعلمهم ما هو عليه من العدل، وتوخي عمارة البلاد، وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته.
وكان بهرام رجلاً مؤثراً للهو، متشاغلاً عن الرعية، ثم صار لطلب الصيد واللهو، واستخلف أخاه نرسى على المملكة، فلما بلغ خاقان ملك الترك حال بهرام طمع فيه، فأراد أن يسير نحوه، فبلغ بهرام ذلك، فسار إليه حتى قتله، وكتب إلى رعيته بالفتح، ثم خرج يوما يتصيد، فأمعن في طلب عير، ثم طرحه فرسه في موضع حماة، فمات، فكان ملكه تسع عشرة سنة.
ثم ملك يزدجرد بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، وكان ليزدجرد هذا ابنان يقال لأحدهما هرمز والآخر فيروز، فغلب هرمز على الملك بعد أبيه، فهرب فيروز، ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته، وبمذاهب أخيه وجوره، فأمده بجيش، فأقبل بهم، وقاتل أخاه فقتله، وشتت جمعه. وملك فيروز، فنال الناس في أيامه جدب وقحط، ومجاعة شديدة، وغاضت الأنهار والعيون، فلم يزل على تلك حالهم ثلاث سنين، ثم خصبت البلاد.
وسار فيروز إلى بلاد الترك ليحارب ملكها، وقد كان الصلح وقع بين الفرس والترك، فلما قرب من البلاد أرسل إليه ملك الترك يسأله الرجوع، ويعظم عليه ترك الوفاء، فلم يقبل، فحفر له خندقاً عميقاً، ثم عماه، فلما قرب منه عبا عسكره واقتحمه، فسقط وجميع جنده في ذلك الخندق، فمات، وحوى ملك الترك أمواله، وأخذ أختاً له. وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة.
فلما بلغ الفرس مقتل فيروز أعظموه، فسار رئيس من رؤسائهم يقال له سوخرا في جمع وعدة، حتى لقي ملك الترك، فحاربه، ونال منه، فدعاه ملك الترك إلى الصلح على أن يدفع إليه كل ما حواه من خزائن فيروز، ويرد أخته، ومن في يده من أصحابه، ففعل ذلك، وانصرف عنه. وملك بلاش بن فيروز، وكانت مدته أربع سنين، ثم ملك أخوه قباذ بن فيروز، وكان صغير السن، فترك لسوخرا تدبير المملكة، فلما بلغ وصار في حد الرجال لم يرض بتدبير سوخرا، فقتله، وقدم مهران، ثم إن الفرس أزالت قباذ عن ملكه، وحبسته، وملكت أخاه جامسب بن فيروز، فأقام قباذ في الحبس، وأخوه الملك.
ثم إن أختاً لقباذ دخلت الحبس، فتعرض لها صاحب الحبس، وأطمعته في نفسها، وقالت إنها طامث، ثم دخلت، فأقامت عند قباذ يوماً، ثم لفته في بساط، وأخرجته على عنق غلام جلد، فهرب قباذ يريد ملك الهياطلة، فلما صار بأبر شهر نزل برجل، فأقام عنده، ثم سأله أن يطلب له امرأة، فأتاه بجارية، فوقع عليها، وأعجبه حسنها وجمالها، ثم مضى إلى ملك الهياطلة، فأقام عنده سنة، ثم بعث معه جيشاً، فلما رجع بأبر شهر قال للرجل الذي نزل عنده: ما فعلت تلك الجارية؟ فأتى بها، وقد ولدت صبياً كأحسن ما يكون من الصبيان، فسماه كسرى أنوشروان. وزحف قباذ إلى بلاده، فغلب على الملك، وقوي أمره، واشتدت شوكته، وغزا بلاد الروم، و كور الكور والطساسيج، وعقد لابنه أنوشروان الملك، ودعاه، فأوصاه بأحسن الوصية وعرفه كل ما يحتاج إليه. وكان ملك قباذ ثلاثا وأربعين سنة.
ثم ملك أنوشروان بن قباذ، فكتب إلى أهل مملكته يذكر لهم وفاة قباذ، ويعدهم من نفسه خيراً، ويأمرهم بما لهم فيه الحظ، ويوعز إليهم في الطاعة والمناصحة، وعفا عن قوم كانوا يتحملون عليه، وقتل مزدق الذي كان أمر الناس بأن يتساووا في الأموال والحرم، وقتل زراذشت بن خركان لما ابتدع في المجوسية، وقتل أصحابهما، وقدم أهل المملكة والشرف، وغزا بلدانا عدة مما لم يكن في مملكة الفرس، فضمها إلى ملكه.

وجرى بينه وبين يخطيانوس ملك الروم، فغزا أنوشروان بلاد الروم، فقتل وسبى، وغلب على مدن كثيرة من الجزيرة والشام منها: الرها، ومنبج، وقنسرين، والعواصم، وحلب، وأنطاكية، وأفامية، وحمص وغيرها، وأعجبته أنطاكية، فبنى مدينة مثلها لم يخرم منها شيئاً، ثم جاء بسبي أنطاكية، فأرسلهم فيها، فلم ينكروا شيئاً.
ومسح أنوشروان البلاد، ووضع عليها الخراج، وألزم كل جريب من الغلات بقدر احتماله، فلم تزل السنة جارية على ذلك، والبلاد عامرة.
ورتب لديوان المقاتلة رجلاً رضي حزمه وعزمه، وأخذ مقاتلته مما يحتاج إليه من السلاح، و جعل ديوان العطاء، ودفاتر الأسماء والحلي، وسمات الدواب، وديوان العرض على مثل ذلك. وكان أنوشروان نبيلاً، كريماً، ظاهر العدل، لا يسأله إنسان شيئاً إلا أجابه، فسار إليه سيف بن ذي يزن، فأعلمه أن الحبشة قدمت بلاد اليمن، وغلبت عليها، وأنه صار إلى هرقل ملك الروم، فلم يجد عنده ما يحب، فبعث معه بأهل السجون في البحر، وقود عليهم رجلاً من مشيخة قواده شجاعاً مجرباً يقال له وهرز، فصار إلى بلاد اليمن، حتى قتل الحبشة، وأفناهم، ورمى ملكهم أبرهة فقتله، وأقام في البلد وملك سيف بن ذي يزن.
وعقد أنوشروان لابنه هرمز الملك من بعده، وكانت أم هرمز بنت خاقان ملك الترك. وكتب له في ذلك كتاباً بالعهد، وأمره فيه بما يأمر به مثله، وأوصاه أحسن الوصايا، وامتحنه، فوجده بحيث يحب، وأجابه على كل ما قال له بجواب سديد، وتنكر، ولا يأتيه إلا بقول حسن لطيف، وهلك أنوشروان، وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة .
ثم ملك هرمز بن أنوشروان، فقرأ على الناس كتاباً عاماً يعد فيه بالعدل والإنصاف، والعفو والإحسان، ويأمرهم بما فيه الصالح، ونال ظفراً وعزاً، ففتح عدة مدائن، ثم اجترأ أعاديه عليه، وغزوا بلاده، وكان أغلظ الأعداء عليه شابه ملك الترك، فإنه زحف في خلق عظيم حتى دخل بلاد خراسان، وكاد أن يحتوي عليها.
وأقبل ملك الخزر في جموع حتى نزل آذربيجان، فعظم ذلك عليه، وخاف ألا يكون له طاقة بصاحب الترك، فأتاه رجل من قواده يقال له بهزاد، فأعلمه أن عنده رجلاً يقال له مهران ستاد عالماً، وأن خاتون امرأته سألت عما قبلهم، فأخبرها أن ابنتها تلد من ملك الفرس ابنا يلي الملك بعد أبيه، وإنه يزحف إليه ملك الترك في خلق عظيم، فيوجه إليه بإنسان ليس بالنبيه يقال له: بهرام شوبين، في شرذمة من الجند، ويقتل ذلك الملك، ويصطلم ملكه.
فلما سمع هرمز ذلك سره، ثم طلب بهرام شوبين، فقيل له: ما نعرف هذا إلا رجلاً من أهل الري هو باذربيجان! فوجه إليه، فأقدمه، ثم وجهه إلى شابه ملك الترك في اثني عشر ألف مقاتل، فقال موبذان موبذ لهرمز: ما أخلقه أن ينال ظفراً، غير أن في قرنه حاجبه دليلا على ثلمة يثلمها في ملكك.
وقال له زاجر، كان له، مثل ذلك، فكتب هرمز إلى بهرام أن يرجع، فلم يرجع، ووافاه بهرام بهراة، وشابه مغتر، وكان عند شابه رجل وجه به هرمز ليخدعه يقال له هرمز جرابزين، حتى فر منه، ثم ارتحل عنه، فأرسل شابه من عرف خبر بهرام، فانصرف إليه، فأعلمه حاله، فأرسل إليه شابه في الرجوع، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، ثم لقيه وقد عبا جنده، وقد كان مع شابه قوم عرافون وسحرة، وكانوا يلبسون على أصحاب بهرام، ثم التحمت الحرب، فاستحر القتل في أصحاب شابه، حتى قتل منهم خلق عظيم، فولوا منهزمين، وقتل بهرام منهم مقتلة عظيمة، ولحق شابه، فرماه بحربة طويلة، فقتله، وأخذ ساحراً كان مع صاحب الترك، فأراد بهرام أن يستبقيه، فيكون عدة له في حروبه، ثم رأى أن قتله أصلح، فكتب بالفتح إلى هرمز، فسر به، و كتب به إلى الآفاق.
ثم خرج برموذة بن شابه، فلقي بهرام، فحاربه وبيته، وكانت بينهما حرب شديدة، ثم بيته

بهرام، فهزمه، ولحقه، فحصره في حصن، فطلب برموذة بن شابه الأمان على أن يكون ذلك من هرمز الملك، فكتب بهرام إلى هرمز، فأجابه، وكتب له كتاب أمان، وكتب إلى بهرام أن يسرحه إليه، فخرج برموذة بن شابه من الحصن، وكان هرمز قد وجه ناساً إلى بهرام شوبين، فصار برموذة إلى هرمز، فأكرمه هرمز، وبره، وأجلسه معه على السرير، وأخبره برموذة بما صار إلى بهرام من الأموال العظام والكنوز، وأنه قد كتم ذلك عن أمنائه، وأخبر أمناؤه بمثل ذلك، وأن الذي بعث به قليل من كثير، فكتب هرمز إلى بهرام يأمره أن يحمل إليه ما في يده من الأموال، فغلظ ذلك على بهرام، وأخبر به جنده، فذكروا هرمز أقبح ذكر، وخلعه هو وجميع جنده.
فلما بلغ ذلك هرمز اغتم له، وكتب إلى بهرام يعتذر إليه وإلى جنده من مثل ذلك، فلم يقبل بهرام ولا جنده قول هرمز، وبعث بهرام إلى هرمز بسفط فيه سكاكين معوجة الرءوس، فلما رآها هرمز علم أنه قد عصى، فقطع أطراف السكاكين، وردها إليه، فعلم بهرام ما أراد، فأرسل إلى خاقان ملك الترك يطلب صلحه على أن يرد عليه كل أرض حازها من بلاده. وسار بهرام حتى صار إلى الري، ثم دبر أن يوقع بين هرمز وبين ابنه كسرى أبرويز شراً وكان هرمز متهما لابنه، وكان قد بلغه أن قوما قد حملوه على أن يثب بأبيه، فضرب دراهم كثيرة، وصير عليها اسم كسرى أبرويز، وبعث بها إلى مدينة هرمز، فكثرت في أيدي الناس، ولما بلغ هرمز خبرها اشتد غمه، فأراد أن يحبس ابنه كسرى أبرويز، فلما بلغ أبرويز الخبر هرب إلى آذربيجان، فاجتمع إليه من بها من مرازبتها ورؤسائها، وعاقدوه، وبايعوه.
ووجه هرمز إلى بهرام بجيش مع رجل يقال له آذينجشنس، فلما صار في بعض الطريق قتله رجل حواري كان آذينجشنس أخرجه من الحبس، وضمه إلى نفسه، وافترق أصحابه، فلما قتل آذينجشنس ضعف أمر هرمز، واجترأ عليه جنده، وكانوا متغضبين له كارهين لولايته. فكتبوا إلى ابنه أبرويز، فقدم بجيش من آذربيجان، فخلعوا هرمز، وملكوا أبرويز، وأخذ هرمز فحبس، وسملت عيناه، فأقام في الحبس أياما، ثم دخل إليه ابنه، فكلمه فقال له هرمز: اقتل من صنع بي هذا. وكان قد احتوى على تدبير الملك بندي وبسطام خالا أبرويز، وكان ملك هرمز اثنتي عشرة سنة.
فلما استقام أمر أبرويز، وبلغه مسير بهرام شوبين إليه، خرج في جيشه، ومعه بندي وبسطام، حتى وقف على بهرام بالنهروان، وكلمه وعظم عليه الأمر، فأجابه بهرام بجواب غليظ شديد، وكان كردويه أخو بهرام مع كسرى أبرويز، وألحقه بهرام، وانكشف عن كسرى جنده، وأسلمه أصحابه، فمر هاربا، فلما كان في بعض الطريق، رجع بندي وبسطام خالاه، فقتلا هرمز أباه، ولحقاه في بعض الطريق، واستمر به الهرب حتى ساءت حالته، واشتد بؤسه وجزعه، فطلب طعاما فلم يجد إلا خبز شعير.
ولحقته خيل بهرام، فاحتال له خاله بندي حتى نجاه، فمضى حتى صار إلى الرها، فأخذ بندي، فأتى به بهرام، فحبسه، ثم أفلت من الحبس، فصار إلى آذربيجان، وصار كسرى إلى الرها يريد مورق ملك الروم، فحبسه صاحب الرها، وكتب إلى مورق ملك الروم يخبره أنه أتاه لينصره، فاستشار ملك الروم أصحابه في أمره، فأشار بعضهم بأن لا يجاب، وأشار بعضهم بأن يجاب، فأجابه ملك الروم، وزوجه ابنته، ووجه معه بجيش عظيم، وشرط عليه الشروط، إذا تم له نصره، ووجه إليه كسرى بثلاثة نفر من أصحابه، فشرط عليهم كل ما أراد، ووجه بابنته وبالجيش وعليهم أخ له يقال له ثيادوس، ومعه رجل يجري مجرى ألف رجل، فسار كسرى بجيشه، بعد ابتنائه بابنة ملك الروم، إلى ناحية آذربيجان، وكان بندي خاله قد صار إليها، فلما علم بمكانه لقيه في جيش عظيم.
ولما علم بهرام شوبين بما اجتمع لكسرى كتب إلى وجوه أصحابه يخبرهم بسوء مذهب آل

ساسان، ويصف سيرة ملك ملك، ويدعوهم إلى نفسه، ووقعت الكتب في يد كسرى قبل أن تصل إلى القوم، فكتب إليه بأغلظ الجواب عن القوم، ورد إليه الرسول، فزحف إليهم بهرام حتى صار إلى آذربيجان، فحاربه محاربة شديدة، وأخذت الحرب من الفريقين، وخرج الرومي الذي كان يجري مجرى ألف رجل. فقال لكسرى: أين عبدك هذا الذي غصبك ملكك، حتى أقتله؟ فقال: هو صاحب الأبلق، فحمل عليه وتراجع بهرام إلى ورائه، ثم تراجع عليه. فضربه بسيفه فقده نصفين، فضحك كسرى، وقال: زه، فغضب أخو ملك الروم، وقال: سررت أن قتل رجلنا وصاحبنا؟ فقال: لا ولكن صاحبكم قال لي: أين العبد الذي غصبك وغلبك ملكك، فأردت أن تعلم أن العبد يضرب في كل يوم عدة ضربات كلا مثل هذه.
واشتدت الحرب حتى انهزم كسرى، وصعد في جبل، فكاد يهلك، ثم ثاب جند كسرى، وانهزم بهرام شوبين، فمضى منصرفاً لا يلوي على شيء، متوجها إلى ملك الترك.
واستقام الأمر لكسرى أبرويز، فكتب إلى صاحب الروم بذلك، وأهدى له ملك الروم ثوبين فيهما الصلب، فلبسهما، فقال الفرس: قد تنصر، ثم كتب في النصارى أن يكرموا، ويقدموا، ويبرزوا، ويخبر بما قد جرى بينه وبين الرومي من العصمة، واللحمة، والموادعة، وأنه لم يقل هذا ملك من الملوك قبله.
ووثب بندي خال كسرى بثيادوس أخي ملك الروم، فصمه، فوقع الشر، وقال أخو ملك الروم: إما أن تدفع إلى بندي، وإما أن يعود الشر، فسكنه كسرى.
وورد بهرام شوبين بلاد الترك، فأكرمه خاقان وبره، وكان لخاقان أخ يقال له بفارس يداريه خاقان، فرآه بهرام، فقال لخاقان: كيف اجترأ هذا عليك هذه الجرأة؟ فسمع أخو خاقان الكلام، فتوعده، فقال بهرام: متى شئت فابرز، فدفع خاقان ملك الترك إلى أخيه نشابة وإلى بهرام نشابة، ثم أخرجهما إلى الصحراء، فرمى أخو خاقان بهرام، فأصابه، فشك سلاحه، ورماه بهرام، فقتله، فسر خاقان بقتل أخيه لمعاندته له، ولما كان يخافه منه.
وكان كسرى يرهب مكان بهرام شوبين مع خاقان، ولا يأمن أن يجري عليه شراً، فوجه برجل من وجوه الفرس يقال له بهرام جرابزين، وكان كبيراً في الفرس، ووجه معه إلى خاقان بهدايا ويسأله أن يبعث إليه بهرام شوبين، وأمر جرابزين أن يتلطف في أمره، فقدم على خاقان بالهدايا، وذكر له أمر بهرام، فلم يجد عنده الذي يحب، فتلطف بخاتون امرأة خاقان، وأهدى لها جوهراً ومتاعاً، وسألها في أمر بهرام، فوجهت برجل من أصحابها له إقدام وجرأة قلب، وقالت له: ادخل إلى بهرام شوبين فاقتله! فانطلق حتى استأذن عليه، وكان نوم بهرام، فلم يأذن له، فقال: أن الملك خاقان وجهني في أمر مهم، فأذن له، فلما دخل عليه قال: أن الملك حملني رسالة أخبرك بها سراً من غير حضور أحد. فقام من مجلسه، ودنا منه كأنه يساره، ووجاه بخنجر معه تحت إبطه، وخرج التركي مسرعا، فركب دابته.
ودخل أصحاب بهرام، فرأوه بتلك الحال، فقالوا: أيها الليث الضرغام! من أقصدك؟ وأيها الجبل المنيف! من هدك؟ فقص عليهم القصة، وكتب إلى خاقان يعلمه أنه لا وفاء له، ولا شكر، و مات بهرام، فحمل إلى الناووس، ولما علم جرابزين بموته ارتحل إلى كسرى، فأخبره، فسر به، وأظهره في مملكته، وكتب به إلى آفاقه. ولما مات بهرام بعث ملك الترك إلى كردية امرأة بهرام وأصحابه يخبرهم بغمه، وأنه قد قتل كل من شرك في قتله، ووجه بأخيه نطرا إليهم، وكتب إلى كردية امرأة بهرام شوبين أنه يرغب فيها، ويأمرها أن تتزوج نطرا، فحملت كردية امرأة بهرام جند أخيها، وارتحلت بأصحابها ومن معها تريد بلاد الفرس، فلحقها نطرا أخو خاقان، فبرزت إليه في السلاح، وقالت: لا أتزوج إلا من كان في الشجاعة والقوة مثل بهرام، فابرز إلي! فبرز إليها أخو خاقان، فقتلته، ومضت لوجهها.
وكان كسرى قد غضب على خاله بندي، فسمل عينيه، وقطع يديه ورجليه وصلبه حياً لما فعل بأبيه، فلما علم بسطام أخو بندي ما فعل كسرى بأخيه خلع كسرى، وصار إلى الري وجمع

وبلغه أن كردية أخت بهرام وامرأته قد أقبلت من بلاد الترك، فتلقاها ومن معها، فذم إليها كسرى، وخبرها بغدره وفجوره، وسألها أن تقيم عنده بمن معها، وأن تزوجه نفسها، ففعلت، وكتبت إلى أخيها كردي تعلمه ذلك، وتسأله أن يأخذ لها ولمن معها أمانا من كسرى، فأخبر كسرى بمصير كردية، بمن معها من جند بهرام وأصحابه، إلى الري، وتزوج بسطام خاله بها، ومقامها معه، فعلم ذلك كسرى، ودعا كردي أخاها، فسأله أن يتلطف بها حتى تقتل بسطام وتقدم فيتزوجها. فوجه كردي أبرخة امرأته إلى كردية أخته بما ذكر له الملك، وأنفذ إليها كتب الأمانات لها ولمن معها بأوثق ما يكون من العهود، فقبل أصحابها، ووثبوا على بسطام فقتلوه. وقدمت كردية على كسرى، فتزوجها، وأحلها محلاً رفيعاً، فاستقامت لكسرى أموره، ودانت له بلاده. ثم وثبت الروم بمورق ملكها، فقتلوه، وملكوا غيره، وصار إليه ابن مورق، فوجه معه جيشاً، ثم قتل ابن مورق، وملك هرقل، فغزا أصحاب كسرى، فقتلهم وشردهم، وزحف إليهم حتى هزم شهربراز صاحب كسرى.
وكان كسرى لما اشتد ملكه قد طغى، وبغى، وعتا، وظلم، وجار، وأخذ أموال الناس، وسفك الدم، فمقته الناس لما نال منهم ولاحتقاره إياهم، وإن عظماء الفرس لما رأوا ما هم فيه من الذل والبلاء والمكروه من كسرى خلعوه، وجاءوا بابن له يقال له شيرويه، فملكوه، وأدخلوه المدينة، ونادوا شيرويه شاهنشاه، وأخرجوا من في السجون ممن كان كسرى يريد قتلهم، فهرب كسرى، حتى دخل بستاناً له، فأخذوه، فحبسوه ، ثم قالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم الملك، وأن يكون أبرويز حياً، فاقتله وإلا خلعناك! فوجه شيرويه إلى أبيه برسالة غليظة يعنفه فيها على فعله، ويذكر له ما نال من أهل مملكته، وما كان من سوء سيرته، فأجابه بجواب تفنيد و تجهيل له، فوجه إليه برجل كان كسرى أبرويز قطع يد أبيه بغير سبب ولا جرم، إلا أنه قيل له إن ابن هذا يقتلك، فقطع يده، وكان من خاصته، فلما دخل عليه سأله عن اسمه قال له: شأنك وما أمرت به، فضربه، حتى قتله، ثم إن شيرويه حمل أباه إلى الناووس، وقتل قاتله. وكان ملك كسرى أبرويز ثمانياً وثلاثين سنة.
ولما ملك شيرويه بن أبرويز أطلق من في المحابس، وتزوج بنساء أبيه، وقتل سبعة عشر أخاً له ظلماً واعتداء، فلم يستقم ملكه، ولم يصلح حاله، فاشتد سقمه، ومات بعد ثمانية أشهر، وملكت الفرس ابنا لشيرويه طفلاً يقال له أردشير، واختاروا له رجلاً يقال له مه آذرجشنس، فحضنوه إياه ليقوم بتدبير الملك، فأحسن التدبير، وقام بالأمر قياماً محموداً، وجرت أمور المملكة.
وكان شهربراز الموجه لحرب الروم، قد عظم أمره، فكره موضع مه آذرجشنس، وكتب إلى الفرس أن يوجهوا إليه برجال سماهم، وإلا أقبل إليهم حتى يحاربهم، فلم يفعلوا، فأقبل شهربراز في ستة آلاف إلى جانب مدينة المملكة، وحاصر من فيها، وقاتلهم، ثم فكر، فاحتال حتى دخل المدينة، فأخذ عظماء الفرس، فقتلهم، وفضح نساءهم، وقتل أردشير الملك. وكان ملك أردشير سنة وستة أشهر.
وجلس شهربراز على سرير الملك، ودعا نفسه ملكاً، فلما رأت الفرس فعل شهربراز أعظمته، وقالت: مثل هذا لا يملك علينا! فوثبوا به، وقتلوه، وجروا برجله.
ولما قتلت الفرس شهربراز طلبوا رجلاً من أهل الملك، فلم يجدوه، فملكوا بوران بنت كسرى، فأحسنت السيرة، وبسطت العدل والإحسان، وكتبت إلى آفاقها كتاباً تعد فيه بالعدل والإحسان، و تأمرهم بجميل المذهب والقصد والسداد، ووادعت ملك الروم، وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ثم ملكت آزرميدخت بنت كسرى، واستقام أمرها، فقال فرخهرمزد أصبهبذ خراسان: أنا اليوم قريع الناس، وعماد مملكة فارس، فزوجيني نفسك! فقالت: لا يجوز لملكة أن تزوج نفسها، ولكن إذا أردت أن تصل إلي، فأتني بالليل! فرضي بذلك، فأمرت صاحب حرسها أن يرصده حتى يدخل، ثم يقتله، فلما كان الليل أتى، فدخل وبصر به صاحب الحرس، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فرخهرمزد! فقال: وما تصنع في مثل هذا الوقت في موضع لا يدخله مثلك؟ فضربه حتى قتله، وطرحه في الرحبة، فلما غدا الناس رأوه قتيلاً، فرفعوا خبره، وكان ابنه رستم، الذي لقي سعد بن أبي وقاص بالقادسية، بخراسان، فقدم، فقتل آزرميدخت، وكان ملكها ستة أشهر.

ثم ملك رجل من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى بن مهرجشنس، وقد كان دعي إلى الملك قبل ذلك، فامتنع منه، وكان مقامه بالأهواز، فلما ملك لبس التاج، وجلس على السرير، فقتلوه بعد أيام، فلم يتم له شهر، فأعوز عظماء الفرس من يملكونه من أهل بيت المملكة، ثم وجدوا رجلاً يقال له فيروز قد أولده أنوشروان من قبل أمه فملكوه ضرورة، فلما أجلس ليتوج، وكان ضخم الرأس، قال: ما أضيق هذا التاج! فتطيرت عظماء الفرس من قوله، فقتلوه.
وأقبل ابن لكسرى كان قد هرب إلى نصيبين لما قتل شيرويه يقال له فرخزاد خسرو، فتوج وملك، وكان نبيلاً، فملك سنة، ثم وجدوا يزدجرد بن كسرى، وكانت أمه حجامة وقع عليها كسرى، فجاءت بيزدجرد، فتطيروا منه، فغيبوه، ثم اضطروا إليه، فجاءوا به وأمورهم مضطربة، وأهل مملكته مجترئون عليه، ولما أتى لملكه أربع سنين قدم سعد بن أبي وقاص القادسية، فبعث إليه برستم، ثم صار المسلمون إلى المدائن، وهي مدينة الملك، يوم النوروز، وقد استعدت الفرس بصنوف الأطعمة، واستعدت أحسن الزينة، فانهزمت الفرس، وهرب يزدجرد، فلم يزل المسلمون يتبعونه، حتى صاروا إلى مرو، فدخل طاحونة، وقتله صاحب الطاحونة، وكان ملكه إلى أن قتل عشرين سنة.
وكانت الفرس تعظم النيران، ولا تستنجي بالماء، إنما تستنجي بالدهن، ولا تتخذ لقصورها أبوابا، إنما كانت أبوابها عليها الستور، يحفظها الحرس من الرجال، ولا تأكل إلا بزمزمة، وهو الكلام الخفي، وتنكح الأمهات والأخوات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن، وبر بهن، وتقرب إلى الله فيهن.
ولم تكن لها حمامات ولا كنف، وكانت تعظم الماء والنار والشمس والقمر والأنوار كلها. وكانت تعد الأزمنة على شهورها وأيام أعيادها، وكان الخريف عندهم شهريور ماه، ومهر ماه، وآبان ماه، والشتاء آذر ماه، و دي ماه، وبهمن ماه، والربيع إسفندارمذ ماه، وفروردين ماه، و أرديبهشت ماه، والقيظ خرداذ ماه، وتير ماه، ومرداذ ماه، وكانت تزيد في الخريف خمسة أيام تسميها أيام الأندركاه، فتكون السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وشهورهم ثلاثين يوماً، ورأس سنتهم يوم النوروز، وهو أول يوم من فروردين، ويكون ذلك في نيسان وآذار، وقد مرت الشمس في الحمل، وهو يوم عيدهم المعظم عندهم، ويوم المهرجان، وهو لستة عشر يوما يمضي من مهر ماه، ثم يكون بين النوروز والمهرجان مائة وخمسة وسبعون يوماً، وذلك خمسة أشهر وخمسة وعشرون يوماً، والمهرجان في تشرين الآخر.
وكانت الفرس تسمى كل يوم من أيام شهورهم باسم، وهي: الروزات، فأولها هرمز، بهمن، أرديبهشت، شهريور، إسفندارمذ، خرداذ، مرداذ، دي باذر، آذر آبان، خور ماه، تير، جوش، دي بهمر، مهر سروش، رشن، فروردين، بهرام، رام باذ، دي بدين، دين، أرد، أشتاذ، اسمان، زامياذ، مارسفند، أنيران.
وكان من قول الجماعة منهم فيما يقولونه من زراذشت الذي يدعون أنه نبيهم: أن يكون النور قديما لم يزل، وهم يسمونه زروان، وإنه فكر في الشر لهفوة كانت منه علمهم منها لأن الحسن مستحيل إلى قبح، والطيب الريح إلى نتن، وإن القديم عندهم غير ممتنع من أن يلزمه التغيير والفساد في بعضه لا في كله.
فلما فكر القديم في الشر، تنفس الصعداء، فخرج ذلك الغم من جوفه، فامتثل بين يديه، ويسمون ذلك الغم الممتثل بين يدي القديم: أهرمن، ويسمونه أيضاً: زروان هرمز.
قالوا: فأراد أهرمن محاربة هرمز، فكره ذلك هرمز لئلا يفعل شراً، فصالحه على أن يصير إليه خلق كل ضار فاسد.
وزعموا أنهما جسمان وروحان، وبينهما فرجة للحنق لأنهما ليسا بملتقيين، وقالوا: إن هرمز النور الفاعل الأجرام وأزواجها، وإن أهرمن إنما يفعل المضار في هذه الجواهر، كالسم في الهوام، والغيظ، والغضب، والضجر، والشرور، والتعادي، والحنق، والخوف في الحيوان، فإن الله هو فاعل الأعيان وأعراضها الراتبة.
وكانت منازل ملوك الفرس في أول ملك أردشير بن بابكان بإصطخر من كور فارس، ثم لم تزل الملوك تنتقل، حتى ملك أنوشروان بن قباذ، فنزل المدائن من أرض العراق، فصارت دار الملك، وأجمع العلماء من المنجمين والمتطببين أنه ليس في المملكة بلد أصح، ولا أفضل، ولا أعدل من تلك البقعة، وما قرب منها من إقليم بابل.

وكانت البلاد التي تملكها الفرس، ويحوز سلطانها فيها، من كور خراسان: نيسابور، وهراة، ومرو، ومرو الروذ، والفارياب، والطالقان، وبلخ، وبخارى، وباذغيس، وبأورد، وغرشستان، وطوس، وسرخس، وجرجان، وكان على هذه الكور عامل تسميه أصبهبذ خراسان.
ومن كور الجبل: طبرستان والري، وقزوين، وزنجان، وقم، وأصبهان، وهمذان، ونهاوند، والدينور، وحلوان، وماسبذان، ومهر جانقذق، وشهرزور، والصامغان، وآذربيجان، وكان لهذه الكور أصبهبذ يقال له أصبهبذ آذربيجان، وكرمان. وفارس، وكورها: إصطخر، وشيراز، والرجان، والنوبندجان، وجور، وكازرون، وفسا، ودارابجرد، وأردشيرخره، وسابور. والأهواز، وكورها: جنديسابور، والسوس، ونهر تيري، ومناذر، وتستر، وإيذج، ورامهرمز، وعلى هذه أصبهبذ يقال له أصبهبذ فارس.
وكور العراق، ولها ثمانية وأربعون طسوجا على الفرات ودجلة، فسقى الفرات: بادوريا، والأنبار، وبهرسير، والرومقان، والزاب الأعلى، والزاب الأسفل، والزاب الأوسط، وزندورد، وميسان، وكوثى، ونهر درقيط، ونهر جوبر، والفلوجة العليا، والفلوجة السفلى، وبابل، وخطرنية، والجبة، والبداة، والسيلحين، وفرات بادقلى، وسورا، وبربسما، ونهر الملك، وباروسما، ونستر.
وسقى دجلة: نهر بوق، ونهر بين، وبزرجسابور، والراذان الأعلى، والراذان الأسفل، والزابيين، والدسكرة، وبرازروز، وسلسل، ومهروذ، وجلولاء، والنهروان الأعلى، والنهروان الأوسط، والنهروان الأسفل، و جازر، والمدائن، والبندنجين، ورستقباذ، وأبزقباذ، والمبارك، وبادرايا، وباكسايا، ولهم أصبهبذ رابع يسمى أصبهبذ المغرب.
وكانت آخر مسالح الفرس مما يلي الفرات: الأنبار، ثم تصير إلى مسالح الروم، ومما يلي دجلة ثم تصير إلى مسالح الروم، إلا أن يتعاور القوم، فيدخل الفرس بلاد الروم على المخالبة، وربما دخل الروم بلاد الفرس. وكل الاسم الواقع على كل ملك للفرس: كسرى، وكانوا إن سموه و ذكروه قالوا: كسرى شاهنشاه، معناه ملك الملوك، وكانت تسمى الوزير: بزرجفرمذار، معناه متقلد الأمور، وكانت تسمى العالم القيم بشرائع دينهم: موبذ موبذان، ومعناه عالم العلماء، وأول من رفع عليه منها الاسم: زراذشت، وكانت تسمى قيم النار: الهربذ، وكانت تسمى الكاتب: دبيربذ، وكانت تسمى العظيم منهم: الإصبهبذ، ومعناه الرئيس، والذي دونه: الفادوسبان، و معناه دافع الأعداء، وتسمى رئيس البلد: المرزبان، وتسمى رئيس الكور: الشهريج، وتسمى أصحاب الحروب وقواد الجيوش: الأساورة، وتسمى صاحب المظالم: شاهريشت، وتسمى صاحب الديوان: المردمارعد.
ممالك الجربىوكان ولد عامور بن توبل بن يافث بن نوح لما قسم فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح خرجوا في يسرة المشرق، فقطع قوم منهم ولد ناعوما ناحية الجربى على سمت الشمال، فانتشروا في البلاد، فصاروا عدة ممالك، وهم: البرجان، والديلم، والتبر، والطيلسان، وجيلان، وفيلان، واللان، والخزر، والدودانية، والأرمن، وكانت الخزر المتغلبة على عامة بلاد أرمينية، وعليها ملك يقال له خاقان، وله خليفة يقال له يزيد بلاش على الران، وجرزان، والبسفرجان، والسيسجان، وكانت هذه الكور تسمى أرمينية الرابعة التي افتتحها قباذ ملك الفرس، فصارت إلى أنوشروان، إلى باب اللان، مائة فرسخ، وفيها ثلاثمائة وستون مدينة. وغلب ملك الفرس على الباب والأبواب، وطبرسران، والبلنجر، و بنى مدينة قاليقلا، ومدناً كثيرة، فأسكنها قوماً من أهل فارس، ثم غلبت الخزر على ما كانت فارس غلبتهم عليه، فأقام في أيديهم حيناً، ثم غلبتهم الروم، فملكت على أرمينية الرابعة ملكاً يقال له الموريان، وافترقوا عدة رياسات كل رئيس منهم في قلعته وحصنه، فهي لهم ممالك معروفة.
وقطع قوم من ولد عامور ما وراء النهر، ثم افترقوا في البلاد، فصارت ممالك مفترقة وأمم كثيرة، فمنهم: الختل، والقواديان، والأشروسنة، والسغد، والفرغانة، والشاش، والترك، والخرلخية، والتغزغز، والترك الكيماكية، والتبت، وفي الترك قوم أصحاب مدر ومدن وحصون، وفيهم قوم في رؤوس الجبال والصحاري كالبدو، ولهم شعور طوال، ومنازلهم خيام اللبود، فإذا غزوا كان في الخيمة الواحدة عشرون مقاتلاً، ويرمون فلا يخطئون، وبيوتهم متصلة من أول كور خراسان إلى جبال التبت وجبال الصين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5