كتاب : إعلام الناس بما وقع للبرامكة
المؤلف : الإتليدي

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي أنزل الكتاب المبين، على أشرف الأنبياء والمرسلين، وقص عليه أخبار المتقدمين والمتأخرين، وعلمه ما كان وما يكون إلى يوم الدين، نحمده إذ جعلنا من أمته، ونشكره على عطائه ومنته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إذ من علينا بمعرفة أحوال من مضى من الأمم، ولم يكشف عنا ستره إذا زل بنا القدم، وجعلنا أمة عدولاً وسطاً، وشهد لنا بذلك في الكتاب المعظم المكرم، فقال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " ، فظهر الفضل بما جاد به وتكرم، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي قال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي " ، فساد على جميع الأنبياء وعليهم تقدم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد، فيقول العبد الفقير الضعيف ذو العجز: والتفريط في أيامه، وكثير التخليط وزيادة آثامه، محمد يعرف بدياب الأتليدي من إقليم المنية الخصيبية، سألني بعض الإخوان الموفقين ممن لا يسعني مخالفته، أن أجمع له شيئاً مما وقع في زمن الخلفاء المتقدمين من بني أمية، والخلفاء العباسيين. فأجبته لذلك مع علمي أني لست أهلاً لذلك، فقد قالوا: الامتثال خير من الأدب، وسميته: إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس " . وابتدأت في ذلك بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تبركاً به وبذكره.
عمر والعجوز المدينية
قيل: لما رجع عمر، رضي الله عنه، من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها.
فقالت: ما فعل عمر رضي الله عنه؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً.
فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! وقال: ولمَ؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ديناراً ولا درهماً.
فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله ! والله ما ظننت أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها.
فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر.
ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله.
فقال عمر: لست أهزأ بك.
ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً.
فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه؟ فقال لها عمر رضي الله عنه: لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود.
ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي.
عمر والشاب القاتل وأبو ذَرّ
قال شرف الدين حسين بن ريان: أغرب ما سمعته من الأخبار، وأعجب ما نقلته عن الأخيار، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، ويسمع كلامه قال: بينما الإمام جالس في بعض الأيام، وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإصابة، وهو يقول في القضايا، ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشبان، نظيفا الثياب، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين، ولبباه. فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فأمرهما بالكف عنه. فأدنياه منه وقالا: يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان. كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن الرذائل، معروف بفضائله، ربانا صغاراً، وأعزنا كباراً، وأولانا نعماً غزاراً، كما قيل:
لنا والدٌ لو كان للناس مثله ... أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقب
خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب. ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أراك الله.
قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب وقال له: قد سمعت، فما الجواب؟

والغلام مع ذلك ثابت الجأش، خال من الاستيحاش، قد خلع ثياب الهلع، ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان، وتكلم بأفصح لسان، وحياه بكلمات حسان ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا ما ادعيا، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى، وعبرا بما ترى، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك: اعلم، يا أمير المؤمنين، أني من العرب العرباء، أبيت في منزل البادية، وأصيح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها، إلى المسير بين حدائقها، بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولته بمشفرها، فطردتها من تلك الحديقة. فإذا شيخ قد زمجر، وزفر، وتسور الحائط، وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله. فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب، توقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه، فضربته به، فكان سبب حينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين، فأمسكاني وأحضراني كما تراني.
فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص.
فقال الشاب: سمعاً لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير، كان له أب كبير، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخذت لذلك مدفناً، ووضعته فيه، ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي، ذهب الذهب، وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافياً بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام.
فأطرق عمر، ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه؟ قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني.
قال عمر: يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام؟ قال: نعم، أضمنه إلى ثلاثة أيام.
فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر. فقالا: أين الغريم يا أبا ذرّ؟ كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا.
فقال أبو ذَرّ: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي، وبالله المستعان.
فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذرّ، ما اقتضته شريعة الإسلام.
فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول.
فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر.
فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه.
فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس.
فقال أبو ذَرّ: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس.
فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس.

فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، واستفزر مروءة أبي ذرّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت:
من يصنع الخير لم يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما. فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى.
قال الراوي: فأثبتها في ديوان الغرائب، وسطرتها في عنوان العجائب.

عمر والهرمزان
وأحضر الهرمزان بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه مأسوراً فدعاه إلى الإسلام، فأبى، فأمر بضرب عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، قبل أن تقتلني اسقني شربة من الماء، ولا تقتلني ظمآن.
فأمر له عمر بقدح مملوء ماء، فلما صار القدح في يد الهرمزان، قال: أنا آمن حتى أشربه؟ قال: نعم لك الأمان.
فألقى الهرمزان الإناء من يده فأراقه، ثم قال: الوفاء يا أمير المؤمنين.
فقال عمر رضي الله عنه: دعوه حتى أنظر في أمره.
فلما رفع السيف عنه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال عمر، رضي الله عنه: لقد أسلمت خير الإسلام فما أخرك؟ قال: خشيت أن يقال إني أسلمت خوفاً من السيف.
فقال عمر: إنك لفارس حكيم، استحققت ما كنت فيه من الملك.
ثم إن عمر رضي الله عنه، بعد ذلك كان يشاوره في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه.
وسيأتي نظير ذلك في أخذ الأمان بالحيلة.
خبر جبلة بن الأيهم
لما هرب من عمر إلى هرقل وتنصر
جبلة بن الأيهم وتنصره
ومما ذكره عبد الملك بن بدرون، شارح قصيدة عبد المجيد بن عبدون، عما وقع لجبلة بن الأيهم حين لطم الفزاري على وجهه لما داس على ردائه، وقال له عمر رضي الله عنه: دعه يقتص منك، أو ما هذا معناه، فقال لعمر: وهل استوي أنا وهو في ذلك؟ فقال له: نعم، الإسلام ساوى بينكما. فقال: أجلني إلى غد. فلما أصبح مضى إلى قيصر ملك الروم، وارتد ثم ندم وقال أبياتاً، وهي هذه:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة ... فبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ولما تنصر جبلة بن الأيهم ولحق بهرقل، صاحب القسطنطينية، أقطعه هرقل الأموال والضياع، وبقي ما شاء الله.
ثم أن عمر رضي الله عنه بعث إلى قيصر رسولاً يدعوه إلى الإسلام أو إلى الجزية. فلما أراد الانصراف قال هرقل للرسول: ألقيت ابن عمك هذا الذي عندنا؟ يعني جبلة الذي أتانا راغباً في ديننا.
قال: لا! قال: فالقه ثم ائتني أعطك جواب كتابك.
قال الرسول: فذهبت إلى دار جبلة فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثرة الجمع مثلً ما على باب هرقل فلم أزل أتلطف بالإذن حتى أذن لي فدخلت عليه، فرأيته أصهب اللحية ذا سبال، وكان عهدي به أسود اللحية والرأس، فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب، فذرها على لحيته حتى أصهبت، وهو قاعد على سرير من قوارير على قوائمه أربعة أسود من ذهب. فلما عرفني رفعني معه على السرير، فجعل يسألني عن المسلمين، فذكرت له خيراً وقلت له: قد أضعفوا أضعافاً على ما تعرف. فقال: وكيف عمر بن الخطاب؟ قلت: بخير. قال: فرأيت الغم في وجهه لما ذكرت له منه سلامة عمر. ثم انحدرت عن السرير فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. فقال: نعم! نهى صلى الله عليه وسلم ولكن نقّ قلبك ولا تبال على ما قعدت.
فلما سمعته يقول ما قاله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيه فقلت له: ويحك يا جبلة، ألا تسلم، وقد عرفت الإسلام وفضله؟ فقال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم، قد فعل رجل من فزارة أكثر مما فعلت، ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف ثم رجع إلى الإسلام وقبل منه وخلفته بالمدينة مسلماً.

وإنما ذكرت له أن الذي فعل هذه الفعلة من فزارة، وأنه ضرب وجوه المسلمين بالسيف وارتد ورجع إلى الإسلام لأن الرجل الذي كان تنصر جبلة من أجله لما لطمه وأراد عمر أن يقتص منه كان فزارياً أيضاً. فقلت له: أمرك أخف من أمره إن رجعت إلى الإسلام، فإنك لم تضرب وجوه المسلمين بالسيف كما فعل. فقال: ذرني من هذا إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام.
فضمنت له التزويج ولم أضمن له تولية الأمر.
قال: ثم أومأ إلى خادم كان على رأسه واقفاً فذهب مسرعاً، فإذا خدم قد جاؤوا يحملون الصناديق فيها طعام. فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحائف الفضة، وقال لي: كل؛ فقبضت يدي، وقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة.
قال: نعم! نهى صلى الله عليه وسلم ولكن نقِّ قلبك وكل فيما أحببت.
قال: فأكل في الذهب، وأكلت أنا في الخلنج، ثم دعا بطسوت الذهب وأباريق الفضة، فغسل يديه في الذهب، وغسلت في الصفر. ثم أومأ إلى خادم بين يديه فمر مسرعاً. فسمعت حساً، فإذا خدم معهم كراسي مرصعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن شماله، ثم جاءت الجواري وعليهم تيجان الذهب، فقعدن عن يمنيه وعن يساره على تلك الكراسي، ثم جاءت جارية أيضاً كأنها الشمس حسناً على رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها جامة فيها مسك فتيت، وفي يدها الأخرى جامة فيها ماء ورد، فأومأت تلك الجارية وصفرت بالطائر الذي على تاجها فوقع في جامة المسك، فاضطرب فيها، ثم صفرت به ثانياً فوقع في جامة ماء الورد فاضطرب فيها، ثم أومأت إليه فطار، ثم نزل على صليب في تاج على جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما في ريشه عليه. فضحك جبلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه. فقال لهن: أضحكننا، فاندفعن يغنين فجعلن يخفقن عيدانهن ويقلن:
لله در عصابة نادمتهم ... يوماً بجلق في الزمان الأول
إلى قوله:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
قال: فضحك جبلة حتى بدت أنيابه، ثم قال: أتدري من يقول هذا؟ قلت: لا، قال: حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى الجواري اللواتي عن يساره، وقال: أبكيننا، فاندفعنا يغنين وتخفق عيدانهن ويقلن:
لمن الدار أوحِت بمعان ... بين أعلى اليرموك فالجمان
إلى قوله:
ذاك مغنىً من آل جفنة في الده؟ ... رِ وحق تعاقب الأزمان
قال: فبكى جبلة حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال: أتدري من يقول هذا؟ قلت: لا، قال: حسان. ثم أنشد الأبيات التي أولها: تنصرت الأشراف إلى آخرها. ثم سألني عن حسان: أحي هو؟ قلت: نعم فأمر له بكسوة ولي أيضاً كذلك. ثم أمر لحسان بمال ونوق موقرة براً، ثم قال لي: إن وجدته حياً فادفع إليه الهدية واقرئه مني السلام؛ وإن وجدته ميتاً فادفعها إلى أهله وانحر النوق على قبره.
قال: فلما أخبرت عمر، رضي الله عنه، بخبره وما اشترطه علي وما ضمنت له. قال: فهلا ضمنت له الأمر؟ فإذا أفاء الله بحكمه وقضى علينا بحكمته ما كان إلا ما أراد.
ثم جهزني عمر ثانياً إلى هرقل وأمرني أن أضمن له، أي لجبلة، ما اشترط. فلما دخلت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته فعلمت أن الشقاء غلب عليه في أم الكتاب.
؟

القوي الفاجر
وقيل: إنه قدم أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص، فقال: من يعذرني من أهل الكوفة؟ إن وليتهم التقي ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه. فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقاه ولك ضعفه، وإن القوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت أنت القوي الفاجر فاخرج إليهم.
فلم يزل عليهم أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما وأيام معاوية حتى مات المغيرة، انتهى.
أجبن وأحيل وأشجع من لقي
وقيل: دخل عمر بن معد يكرب الزبيدي على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فقال عمر: أخبرني عن أجبن من لقيت وأحيل من لقيت وأشجع من لقيت. قال: نعم يا أمير المؤمنين.

خرجت مرة أريد الغارة، فبينما أنا سائر إذا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس كأعظم ما يكون من الرجال خلقاً، وهو محتب بحمائل سيفه، فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فشهق شهقة فمات. فهذا يا أمير المؤمنين أجبن من رأيت.
وخرجت مرة حتى انتهيت إلى حي فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه في وهدة يقضي حاجته، فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت؟ فأعلمته بي، فقال: يا أبا ثور ما أنصفتني أنت على ظهر فرسك وأنا على الأرض، فأعطني عهداً أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي. فأعطيته عهداً فخرج من الموضع الذي كان فيه واحتبى بحمائل سيفه، وجلس. فقلت: ما هذا؟ فقال: ما أنا براكب فرسي ولا بمقاتلك فإن نكثت عهدك فأنت أعلم بناكث العهد. فتركته ومضيت. فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت.
وخرجت مرة حتى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه الطريق فلم أر أحداً، فأجريت فرسي يميناً وشمالاً وإذا أنا بفارس، فلما دنا مني، فإذا هو غلام حسن نبت عذاره من أجمل من رأيت من الفتيان، وأحسنهم. وإذا هو قد أقبل من نحو اليمامة، فلما قرب مني سلم علي ورددت عليه السلام وقلت: من الفتى؟ قال: الحرث بن سعد فارس الشهباء.
فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك! فقال: الويل لك، فمن أنت؟ قلت: عمرو بن معد يكرب الزبيدي.
قال: الذليل الحقير، والله ما يمنعني من قاتلك إلا استصغارك.
فتصاغرت نفسي، يا أمير المؤمنين، وعظم عندي ما استقبلني به. فقلت له: دع هذا وخذ حذرك فإني قتلك، والله لا ينصرف إلا أحدنا.
فقال: اذهب، ثكلتك أمك، فأنا من أهل بيت ما أثكلنا فارس قط.
قلت: هو الذي تسمعه.
قال: اختر لنفسك فإما أن تطرد لي، وإما أن أطرد لك.
فاغتنمتها منه فقلت له: أطرد لي.
فأطرد وحملت عليه فظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فإذا هو صار حزاماً لفرسه ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: يا عمرو خذها إليك واحدةً، ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك.
قال: فتصاغرت نفسي عندي، وكان الموت، يا أمير المؤمنين أحب إلي مما رأيت، فقلت له: والله لا ينصرف إلا أحدنا. فعرض علي مقالته الأولى فقلت له: أطرد لي، فأطرد فظننت أني تمكنت منه فاتبعته حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه. فإذا هو صار لبباً لفرسه، ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية.
فتصاغرت علي نفسي جداً، وقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فاطرد لي، فاطرد حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فوثب عن فرسه، فإذا هو على الأرض فأخطأته فاستوى على فرسه واتبعني حتى قنع بالقناة رأسي! وقال: خذها إليك يا عمرو ثالثة، ولولا كراهتي لقتل مثلك لقتلتك.
فقلت: اقتلني أحب إلي ولا تسمع فرسان العرب بهذا.
فقال: يا عمرو، إنما العفو عن ثلاث، وإذا استمكنت منك في الرابعة قتلتك وأنشد يقول:
وكدت إغلاظاً من الإيمان ... إن عدت يا عمرو إلى الطعان
لتجدن لهب السنان ... أولاً فلست من بني شيبان
فهبته هيبة شديدة، وقلت له: إن لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟ قلت: أكون صاحباً لك.
قال: لست من أصحابي.
فكان ذلك أشد علي وأعظم مما صنع، فلم أزل أطلب صحبته حتى قال: ويحك أتدري أين أريد؟ قلت: لا والله.
قال: أريد الموت الأحمر عياناً.
قلت: أريد الموت معك.
قال: امض بنا.
فسرنا يومنا أجمع حتى أتانا الليل ومضى شطره. فوردنا على حي من أحياء العرب، فقال لي: يا عمرو في هذا الحي الموت الأحمر فإما أن تمسك علي فرسي فأنزل وآتي بحاجتي، وإما أن تنزل وأمسك فرسك فتأتيني بحاجتي.
فقلت: بل أنزلت أنت. فأنت أخبر بحاجتك مني.
فرمى إلي بعنان فرسه ورضيت والله يا أمير المؤمنين بأن أكون له سائساً، ثم مضى إلى قبة فأخرج منها جارية لم تر عيناي أحسن منها حسناً وجمالاً، فحملها على ناقة ثم قال: يا عمرو، فقلت: لبيك! قال: إما أن تحميني وأقود الناقة أو أحميك وتقودها أنت؟ قلت: لا بل أقودها وتحميني أنت.
فرمى إلي بزمام الناقة ثم سرنا حتى أصبحنا. قال: يا عمرو قلت: ما تشاء؟ قال: التفت فانظر هل ترى أحداً؟

فالتفت فرأيت رجالاً فقلت: اغذذ السير. ثم قال: يا عمرو انظر إن كانوا قليلاً فالجلد والقوة وهو الموت الأحمر. وإن كانوا كثيراً فليسوا بشيء.
فالتفت وقلت: وهم أربعة أو خمسة.
قال: اغذذ السير.
ففعلت. ووقف وسمع وقع حوافر الخيل عن قرب فقال: يا عمرو. كن عن يمين الطريق وقف وحول وجه دوابنا إلى الطريق.
ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة ووقف عن يسارها ودنا القوم منا وإذا هم ثلاثة أنفار: شابان وشيخ كبير، وهو أبو الجارية والشابان أخواها. فسلموا فرددنا السلام. فقال الشيخ: خل عن الجارية يا ابن أخي.
فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا أخذتها.
فقال لأحد ابنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجر رمحه فحمل عليه الحرث وهو يقول:
من دون ما ترجوه خضب الذابل ... من فارس ملثم مقاتل
ينمي إلى شيبان خير وائل ... ما كان يسري نحوها بباطل
ثم شد على ابن الشيخ بطعنة قد منها صلبه، فسقط ميتاً، فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه فلا خير في الحياة على الذل، فأقبل الحرث وهو يقول:
لقد رأيت كيف كانت طعنتي ... والطعن للقرم الشديد الهمة
والموت خير من فراق خلتي ... فقتلتي اليوم ولا مذلتي
ثم شد على ابن الشيخ بطعنة سقط منها ميتاً، فقال له الشيخ: خل عن الظعينة يا ابن أخي، فإني لست كمن رأيت، فقال: ما كنت لأخليها، ولا لهذا قصدت.
فقال الشيخ: يا ابن أخي اختر لنفسك فإن شئت نازلتك وإن شئت طاردتك فاغتنمها الفتى ونزل فنزل الشيخ وهو يقول:
ما أرتجي عند فناء عمري ... سأجعل التسعين مثل شهر
تخافني الشجعان طول دهري ... إن استباح البيض قصم الظهر
فأقبل الحرث وهو ينشد ويقول:
بعد ارتحالي ومطال سفري ... وقد ظفرت وشفيت صدري
فالموت خير من لباس الغدر ... والعار أهديه لحي بكر
ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخي إن شئت ضربتك، فإن أبقيت فيك بقية فيَّ فاضربني، وإن شئت فاضربني. فإن أبقيت بقية ضربتك.
فاغتنمها الفتى وقال: أنا أبدأ.
فقال الشيخ: هات.
فرفع الحرث يده بالسيف فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه ضرب بطنه بطعنة قد منها أمعاءه ووقعت ضربة الفتى على رأس الشيخ فسقطا ميتين. فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف ثم أقبلت إلى الناقة فقالت الجارية: يا عمرو: إلى أين ولست بصاحبتك ولست لي بصاحب ولست كمن رأيت. فقلت: اسكتي.
قالت: إن كنت لي صاحباً فأعطني سيفاً أو رمحاً فإن غلبتني فأنا لك وإن غلبتك قتلتك.
فقلت: ما أنا بمعط ذلك. وقد عرفت أهلك وجراءة قومك وشجاعتهم.
فرمت نفسها عن البعير ثم أقبلت تقول:
أبعد شيخي ثم بعد أخوتي ... يطيب عيشي بعدهم ولذتي
وأصحبن من لم يكن ذا همةٍ ... هلا تكون قبل ذا منيتي
ثم أهوت إلى الرمح وكادت تنزعه من يدي. فلما رأيت ذلك منها خفت إن ظفرت بي قتلتني. فقتلتها. فهذا يا أمير المؤمنين أشجع من رأيت.

يقتلع ذنب البعير
قيل: أتى رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يستحمله فقال له: خذ لك بعيراً من إبل الصدقة فتناول ذنب بعير فجذبه فاقتلعه. فتعجب عمر رضي الله عنه من شدته وقوته، فقال له: هل رأيت أقوى منك من أحد؟ قال: نعم. خرجت بامرأة من أهلي أريد بها زوجها فنزلت على حوض، فأقبل رجل معه ذود، فضرب ذوده إلى الحوض فساورها. يعني المرأة، فنادتني فما انتهيت إليها حتى خالطها. فجئت لأدفعه عنها فأخذ رأسي بين عضديه وجنبه. فما استطعت التحرك حتى قضى وطره منها. فقلت: أي فحل هذا لو كنت منيحة فأمهلته حتى امتلأ نوماً. فقمت له بالسيف فضربت ساقه، فانتبه، فتناول رجله فرماني بها فأخطأني، أي فاتني، وأصاب رأس بعير فقتله.
فقال عمر رضي الله عنه: ما فعلت بالمرأة؟ فقلت: هذا حديث الرجل.
فكرر عليه السؤال فلم يزده على هذا ففطن أنه قتلها. انتهى.
عبد الله بن رواحة وجاريته

ويحكى أن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه كان عنده جارية جميلة. وكان يحبها محبة شديدة. ولم يتمكن منها خوفاً من زوجته. فمضت يوماً زوجته لحاجة ثم عادت فوجدته هو والجارية معتنقين نائمين، فقالت: أفعلتها؟ قال: لم أكن فاعلها. قالت: فاقرأ! فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم قال:
علمت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مسومينا
قالت: صدقت وكذبت عيناي. قال: فذهبت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه وصار يكررها ويقول كيف قلت. انتهى.

أول دولة بني أمية
معاوية بن أبي سفيان
رضي الله عنه
جلس يوماً في مجلس كان له بدمشق، وكان الموضع مفتح الجوانب الأربعة يدخل فيه النسيم من كل جانب. قال: فبينما هو جالس ينظر إلى بعض الجهات وكان يوماً شديد الحر لا نسيم فيه. قال: وكان وسط النهار، وقد لفحت الهواجر، إذ نظر إلى رجل يمشي نحوه، وهو يتلظى من حر التراب، ويحجل في مشيته حافياً، فتأمله، وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت، وفي مثل هذه الساعة؟ فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين.
فقال: والله لئن كان قاصدي لأجل شيء لأعطينه وأستجلب الأجر به أو مظلوماً لأنصرنه يا غلام! قف بالباب، فإن طلبني هذا الأعرابي، فلا تمنعه من الدخول علي.
فخرج فوافاه، فقال: ما تريد؟ قال: أمير المؤمنين.
قال: ادخل.
فدخل، فسلم فقال له معاوية: ممن الرجل؟ قال: من تميم.
قال: فما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ قال: جئتك مشتكياً وبك متسجيراً.
قال: ممن؟ قال: من مروان بن الحكم عاملك، وأنشد يقول:
معاوي! يا ذا الجود والحلم والبذل ... ويا ذا الندى والعلم والرشد والنبل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي ... فيا غوث! لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصاف من الجائر الذي ... بلاني بشيء كان أيسره قتلي
سباني سعاداً وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل وأغصبني أهلي
وهم بقتلي غير أن منيتي ... تأنت، ولم أستكمل الرزق من أجلي
قال: فلما سمع معاوية كلامه، والنار تتوقد من فيه، قال له: مهلاً يا أخا العرب! اذكر قصتك وأبن لي عن أمرك، فقال: يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وكنت لها محباً وبها كلفاً، وكنت بها قرير العين طيب النفس، وكانت لي جذعة من الإبل كنت أستعين بها على قوام حالي وكفاية أودي، فأصابتنا سنة أذهبت الخف والحافر، فبقيت لا أملك شيئاً، فلما قل ما بيدي وذهب ما لي وفسد حالي بقيت مهاناً ثقيلاً على الذي يألفني، وأبعدني من كان يشتهي قربي وأزور من لا يرغب في زيارتي، فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وشر المال أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ علي، فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم راجياً لنصرتي، فلما أحضر أباها وِسأله عن حالي قال: ما أعرفه قط. فقلت: أصلح الله الأمير إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها ففعل، وبعث خلفها. فلما حضرت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً وعلي منكراً، وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء، أو استهوت بي الريح في مكان سحيق. ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجنيها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن خلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في البذل وأجابه إلى ذلك. فلما كان من الغد بعث إلي وأحضرني ونظر إلي كالأسد الغضبان، وقال: طلق سعاد! فقلت: لا، فسلط علي جماعة من غلمانه فأخذوا يعذبوني بأنواع العذاب فلم أجد لي بداً من طلاقها ففعلت. فأعادني إلى السجن، فمكثت فيه إلى أن انقضت عدتها فتزوجها وأطلقني، وقد أتيتك راجياً وبك مستجيراً وإليك ملتجئاً، وأنشد يقول:
في القلب مني غرام للنار فيه ... استعار والجسم مرمى بسهمٍ
فيه الطبيب يحار وفي فؤادي ... جمر والجمر فيه شرار
والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار

وليس إلا بربي ... وبالأمير انتصار
قال: ثم اضطرب واصطكت لهاته وصار مغشياً عليه. وأخذ يتلوى كالحية. قال: فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده، قال: تعدى ابن الحكم في حدود الدين وظلم واجترأ على حرم المسلمين. ثم قال: لقد أتيتني يا أعرابي بحديث لم أسمع بمثله قط. ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب إلى مروان ابن الحكم كتاباً يقول فيه: أنه قد بلغني أنك تعديت على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته ويزجر نفسه عن لذاته، ثم كتب بعده كلاماً طويلاً اختصرته، وأنشد يقول:
وليت أمراً عظيماً لست تدركه ... فاستغفر الله من فعل امرئ زاني
وقد أتانا الفتى المسكين منتخباً ... يشكو إلينا ببث ثم أحزان
أعطي الإله يميناً لا يكفرها ... شيءٌ، وأبرأ من ديني وإيماني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقبان
طلق سعاد وعجلها مجهزةً ... مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
ثم طوى الكتاب وطبعه واستدعى بالكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات لأمانتهما، فأخذا الكتاب وسارا حتى قدما المدينة، فدخلا على مروان بن الحكم، وسلما عليه، وسلما إليه الكتاب، وأعلماه بصورة الحال، فصار مروان يقرأ ويبكي؛ ثم قام إلى سعاد وأعلمها ولم يسعه مخالفة معاوية فطلقها بمحضر الكميت ونصر بن ذبيان، وجهزهما وصحبتهما سعاد. ثم كتب مروان كتاباً يقول فيه هذه الأبيات:
لا تعجلن أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في سر وإعلان
وما أتيت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى باسم الخائن الزاني؟
أعذر، فإنك لو أبصرتها لجرت ... فيك الأماني على تمثال إنسان
فسوف يأتيك شمس ليس يدركها ... عند الخليفة من إنس ومن جان
ثم ختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، وسارا حتى وصلا إلى معاوية وسلما إليه الكتاب فقرأه وقال لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذكر الجارية. ثم أمر بإحضارها فلما رآها رأى صورة حسناء لم ير أحسن منها ولا مثلها في الحسن والجمال والقد والاعتدال، فخاطبها فوجدها فصيحة اللسان حسنة البيان، فقال: علي بالأعرابي. فأتي به وهو في غاية من تغير الحال، فقال: يا أعرابي! هل لك عنها من سلوة وأعوضك عنها ثلاث جوار نهد أبكار، كأنهن الأقمار، مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك في بيت المال كل سنة ما يكفيك وما يغنيك.
قال: فلما سمع الأعرابي كلام معاوية شهق شهقة ظن معاوية أنه مات بها فقال له معاوية: ما بالك بشر بالٍ، وسوء حال؟ فقال الأعرابي: استجرت بعدلك من جور بن الحكم، فبمن أستجير من جورك وأنشد يقول:
لا تجعلني، فداك الله من ملك ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
اردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار
أطلق وثاقي، ولا تبخل علي بها ... فإن فعلت فإني غير كفار
ثم قال: يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني الخلافة ما أخذتها دون سعاد، وأنشد يقول:
أبى القلب إلا حب سعدى، وبغضت ... إلي نساء، ما لهن ذنوب
فقال له معاوية: إنك مقر بأنك طلقتها، ومروان مقر بأنه طلقها، ونحن نخيرها، فإن اختارت سواك تزوجناها، وإن اختارتك حولناها إليك. قال: افعل.
فقال: ما تقولين يا سعدى، أيما أحب إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرته عنده، أو مروان بن الحكم في تعسفه وجوره، أو هذا الأعرابي في جوعه وفقره، فأنشدت تقول:
هذا وإن كان في جوع وأضرار ... أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج، أو مروان عامله ... وكل ذي درهم عندي ودينار
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لغدرات الأيام، وإن له صحبة قديمة لا تسنى، ومحبة لا تبلى، وأنا أحق من يصبر معه في الضراء كما تنعمت معه في السراء.
فتعجب معاوية من عقلها ومودتها له، وموافاتها، فدفع لها عشرة آلاف درهم، ودفع مثلها للأعرابي وأخذها وانصرف.

الأجوبة الهاشمية

ومن ثمرات الأوراق عن الأجوبة الهاشمية وبلاغتها في المحل الرفيع؛ فمن أجل ذلك أنه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص، رضي الله عنه، والوليد بن عقبة، وعتبة بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما يحضر لدينا، قال لهم: ولم؟ قالوا: كي نوبخه ونعرفه أن أباه قتل عثمان. فقال لهم معاوية: إنكم لن تطيقوه ولن تنتصفوا منه، ولا تقولوا له شيئاً إلا كذبكم ولا يقول لكم ببلاغته شيئاً إلا صدقه الناس. فقالوا: أرسل إليه فإنا نكفيه.
فأرسل له معاوية، فلما حضر قال: يا حسن! إني لم أرسل إليك، ولكن هؤلاء أرسلوا إليك، فاسمع مقالتهم.
فقال الحسن رضي الله عنه: فليتكلموا ونحن نسمع.
فقام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا حسن، هل تعلم أن أباك أول من أثار الفتنة وطلب الملك، فكيف رأيت صنع الله تعالى به؟ ثم قام الوليد بن عقبة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا بني هاشم! كنتم أصهار عثمان بن عفان، فنعم الصهر كان لكم لقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقربكم ويفضلكم، ثم بغيتم عليه وقتلتموه، وقد أردنا قتل أبيك فأنقذنا الله منه، ولو قتلناه ما كان علينا ذنب.
ثم قام عتبة بن أبي سفيان فقال: يا حسن، إن أباك قد تعدى على عثمان فقتله حسداً على الملك والدنيا، فسلبهما الله منه، ولقد أردنا قتل أبيك، حتى قتله الله تعالى.
ثم قام المغيرة بن شعبة، وقال كلاماً سبا لعلي وتعظيماً لعثمان.
فقام الحسن، رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: بك أبدأ يا معاوية! لم يشتمني هؤلاء ولكن أنت تشتمني بغضاً وعداوة وخلافاً لجدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت إلى الناس، وقال: أنشدكم الله إن الذي شتمه هؤلاء أما كان أبي، وهو أول من آمن بالله وصلى إلى القبلتين، وأنت يا معاوية كافر تشرك بالله؟ وكان مع أبي لواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ولواء المشركين مع معاوية؛ ثم قال: أنشدكم الله تعالى، أما كان معاوية يكتب لجدي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه يوماً فرجع الرسول، وقال: هو يأكل. فرد إليه الرسول ثلاث مرات، كل ذلك يقول هو يأكل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أشبع الله بطنه، يا معاوية! أما تعرف ذلك من بطنك؟ ثم قال: وأنشدكم الله أما تعلمون أن معاوية كان يقود بأبيه، وهو على جمل، وأخوه هذا يسوقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وأنت تعلم ذلك. هذا كله لك يا معاوية.
وأما أنت يا عمرو. فقد تنازعك خمسة من قريش. فغلب عليك شبه الأبهم، وهو أقلهم حسباً وأسوأهم منصباً، ثم قمت وسط قريش فقلت: إني شانيء محمداً بثلاثين بيتاً من الشعر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني لا أحسن الشعر. اللهم العن عمرو بن العاص بكل بيت لعنة، ثم انطلقت إلى النجاشي بما عملت وعلمت. فكذبك وردك خائباً، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام. فلا نلومك على بغضك الآن.
وأما أنت يا ابن أبي معيط فكيف نلومك على سبك لأبي، وقد جلدك أبي في الخمر ثمانين جلدةً، وقتل أباك صبراً بأمر جدي، وقتله جدي بأمر ربي، ولما قدمه للقتل قال: من للصبية بعدي يا محمد؟ فقال جدي: لهم النار، فلم يكن لهم عند جدي غير النار، ولم يكن لهم عند أبي غير السوط والسيف.
وأما أنت يا عتبة فكيف تعيب أحداً بالقتل ولا تعيب نفسك، فلم لا قتلت الذي وجدته على فراشك مضاجعاً لزوجتك؟ ثم أمسكتها بعد أن بغت.
وأما أنت يا أعور ثقيف، ففي أي شيء تسب علياً؟ أفي بعده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم لحكم جائر في رعيته في الدنيا؟ فإن قلت في شيء من ذلك كذبت وكذبك الناس، وإن زعمت أن علياً قتل عثمان فقد كذبت وكذبك الناس، وإنما مثلك كمثل بعوضة وقعت على نخلة فقالت لها: استمسكي فإني أريد أن أطير. فقالت لها النخلة: ما علمت بوقوعك فكيف يشق علي طيرانك؟ فكيف يا أعور ثقيف يشق علينا سبك؟ ثم نفض ثيابه وقام. فقال لهم معاوية: ألم أقل لكم لا تنتصفوا منه، فوالله لقد أظلم علي البيت حتى قام.

معاوية والحسن

وروي أن معاوية رضي الله عنه خرج عاماً حاجاً، فمر بالمدينة ففرق على أهلها أموالاً جزيلة، ولم يحضر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فلما حضر قال له معاوية: مرحباً مرحباً برجل تركنا حتى نفد ما عندنا وتعرض لنا ليبخلنا؟ فقال الحسن رضي الله عنه: كيف ينفد ما عندك، وخراج الدنيا يجيء إليك؟ فقال له معاوية: قد أمرت لك بمثل ما أمرت به لأهل المدينة، وأنا ابن هند.
فقال الحسن: قد رددته عليك، وأنا ابن فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
قيل: إن معاوية رضي الله عنه جلس يوماً بين أصحابه، إذ أقبلت قافلتان من البرية، فقال لبعض من كان بين يديه: انظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم. فمضوا وعادوا وقالوا: يا أمير المؤمنين، إحداهما من اليمن والأخرى من قريش. فقال: ارجعوا إليهم وادعوا قريشاً يأتونا، وأما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول.

معاوية والطرماح بن الحكم
فلما دخلت قريش سلم عليهم وقربهم وقال: أتدرون يا أهل قريش لم أخرت أهل اليمن وقربتكم؟ قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيرا وألقي عليهم من المسائل ما أقل به إكرامهم وأرخص به مقامهم، فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس وسألوا عن شيء فلا يجبهم أحد غيري.
قال الراوي: وكان المقدم عليهم رجلاً يقال له الطرماح بن الحكم الباهلي، فأقبل على أصحابه، وقال: أتدرون يا أهل اليمن لم أخركم ابن هند وقدم قريشاً؟ قالوا: لا قال: لأنه في غداة غد يقوم فيكم نذيراً ويلقي عليكم من المسائل ما يقل به إكرامكم ويرخص به مقامكم، فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري.
فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم فنهض معاوية قائماً على قدميه، وقال: أيها الناس من تكلم قبل العرب، وعلى من أنزلت العربية؟ فقام الطرماح وقال: نحن يا معاوية، ولم يقل يا أمير المؤمنين.
فقال: لماذا؟ فقال: لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي، وهو جدنا فقرأ العربية وتداولها قومه من بعده إلى يومنا هذا، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب بالتعليم.
فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، من أقوى العرب إيماناً ومن شهد له بذلك؟ فقال الطرماح: نحن يا معاوية.
قال: ولم؟ قال: لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً، فآويناه ونصرناه فأنزل الله: " والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " . وكان النبي صلى الله عليه وسلم، محسناً لنا متجاوزاً عن سيئاتنا فلم لم تفعل أنت كذلك؟ كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك؟ قال الطرماح: نحن يا معاوية.
قال: ولم ذلك؟ قال: لأن امرأ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده:
يطعمون الناس غباً ... في السنين الممحلات
في جفانٍ كالخوابي ... وقدور راسيات
وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال: فسكت معاوية زماناً وقال: أيها الناس، من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك؟ قال الطرماح: نحن يا معاوية.
قال: ولم ذلك؟ قال: لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له معاوية: وأين أنت وقد أتي به مصفداً بالحديد؟ فقال له الطرماح: ومن أتى به؟ قال معاوية: أتى به علي.
قال الطرماح: والله لو عرفت مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً.
فقال له معاوية: أتحجني يا عجوز اليمن؟ قال: نعم أحجك يا عجوز مضر لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله، وتزوجت بنبيه سليمان بن داود، عليهما السلام، وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها: " وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد " .

قال: فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال: جزاك الله خيراً من صاحب ووفر عقلك ورحم سلفك وأعطاه وأحسن إليه، انتهى.

معاوية والأحنف بن قيس
قال الراوي: وخطب معاوية يوماً فقال: أيها الناس إن الله تعالى قال: " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدرٍ معلوم " ، فعلام تلومونني إذا قصرت عنكم في عطاياكم؟ فقال له الأحنف بن قيس: إنا والله ما نلومك فيما في خزائن الله، ولكن وضعت يدك على ما أنزل الله من خزائنه فجعلته في خزائنك وحلت بيننا وبينه.
معاوية وسودة الأسدية
ومما يروى عن الشعبي قال: استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسد على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، فلما دخلت عليه قال لها: يا بنت الأسد الست القائلة:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر علياً والحسين ورهطه ... واقعد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخا النبي محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان
وقد الجيوش وسر أمام لوائه ... وارم بأبيض صارم وسنان
قالت: بلى يا معاوية، وما مثلي من رغب عن الحق واعتذر.
قال: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي واتباع الحق.
قال: والله ما أرى عليك من أثر علي شيئاً.
قالت: أنشدك الله يا معاوية! لا تذكر ما مضى.
قال: هيهات! وما مثلك، ومقام أخيك يسيئني، وما لقيت من أخيك.
قالت: صدقت يا معاوية، لم يكن أخي ذميم المقام، ولا خبياً، وهو والله كقول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وأنا أسألك يا معاوية إعفاك مما استعفيت به.
قال: قد فعلت؛ فما حاجتك؟ قالت: يا معاوية، إنك أصبحت للناس سيداً ولأمورهم والياً، والله سائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من يغرك ويبطش بسلطانك، ويحصدنا حصد السنبل، ويدرسنا درس العصفر، ويسومنا الخسف، ويسلبنا الحيل، هذا ابن أرطاة قدم علينا فقتل رجالي وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته. فشكرناك، وإما أقررته فعرفناك.
فقال لها: أبقولك تهدديني؟ هممت أن أحملك على قتب جمل أشرس وأسيرك إليه لينفذ فيك أمره.
فأطرقت وبكت وأنشدت تقول:
صلى الإله على روح تضمنها ... قبر فأصبح فيه الحق مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً ... فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال: ومن ذاك؟ قالت: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
قال: ولم؟ قالت: أتيته في رجل ولاه علينا، ولم يكن بيننا وبينه إلا كما بين الغث والسمين، فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إلي انفتل من صلاته. ثم قال برأفة ورحمة: ألك حاجة؟ فأخبرته فبكى. ثم قال: اللهم اشهد علي وعليهم أني لم أولهم وآمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك. ثم أخرج من جيبه قطعة من جلد كهيئة طرف الجواب فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: " قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ " . إذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام.
فأخذته منه وأوصلته إليه فامتثل ورجع عما كان فيه.
فقال معاوية: اكتبوا لها برد مالها والعدل في حالها.
فقال: ألي خاصة أم لي ولقومي؟ قال: بل لك.
قالت: إذا الفحشاء واللؤم، هي والله إما عدلاً شاملاً وإلا فأنا كسائر قومي. قال: اكتبوا لها بحاجتها هي وقومها.
معاوية وميسون الكلبية
ولما اتصلت ميسون بنت بحدل بمعاوية رضي الله عنه ونقلها من البدو إلى الشام كانت تكثر الحنين على ناسها والتذكر لمسقط رأسها، فاستمع عليها ذات يوم فسمعها تنشد وتقول:
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحب إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فجٍ ... أحب إلي من نقر الدفوف
ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وكلب ينبح الطراق حولي ... أحب إلي من قط ألوف
وبكر يتبع الأظعان صعبٌ ... أحب إلي من بغل زفوف

وخرق من بني عمي نحيفٌ ... أحب إلي من علج عنيف
قال الراوي: فلما سمع معاوية الأبيات قال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنيفاً.

ملك فارس والبوم الواعظ له
حكاية أجنبية عن المقام. يحكى أن بهراماً لما ولي الملك بعد أبيه، أقبل على اللهو واللذات والتنزه والصيد، لا يفكر في ملكه ولا في رعيته حتى خرجت البلاد عن يده وخربت في أيامه وقلت العمارة وخلت بيوت الأموال. فلما كان في بعض الأيام ركب إلى بعض منازهه وصيده، وهو يسير نحو المدائن، وكانت ليلة مقمرة، فدعا بالموبذان، وهو عند المجوس كحاخام عند اليهود والقسيس عند النصارى، لأمر خطر بباله فجعل يحادثه فتوسطا في سيرهما بين خرابات كانت من أمهات الضياع قد خربت في مدة ملكه لا أنيس فيها إلا البوم، وإذا ببوم يصيح وصاحبته تجاوبه من تلك الخرابات، فقال بهرام: أترى أن أحداً من الناس أعطي فهم لغة هذا الطائر المصوت في الليل البهيم؟ فقال الموبذان: أيها الملك، أنا ممن خصه الله بذلك.
قال: فما يقول هذا الطائر وما يقول الطائر الآخر؟ فقال الموبذان: هذا بوم ذكر يخطب بومة ويقول لها: متعيني بنفسك حتى يخرج من بيننا أولاد يسبحون الله ويبقى لنا في هذا العالم عقب يكثرون الترحم علينا. فأجابت: أن الذي تدعونني إليه لي فيه الحظ الأكبر والنصيب الأوفر في العاجل والآجل إلا أني أشترط عليك خصالاً إن أعطيتها أجبتك إلى ذلك.
فقال لها الذكر: وما تطلبينه مني؟ قالت: أن تعطيني من خرابات أمهات الضياع عشرين قرية مما خربت في أيام هذا الملك السعيد.
فقال له الملك فما الذي قال لها الذكر؟ قال الموبذان: كان من قوله لها إن دامت أيام هذا الملك السعيد قطعك منها ألف قرية خراب، فما تصنعين بها؟ قالت: في اجتماعنا يحصل ظهور النسل وكثرة الذكر، فنقطع لكل ولد من أولادنا ضيعة من هذه الخرابات.
فقال لها الذكر: هذا أسهل أمر سألتنيه، وأنا مليء بذلك ما حيى هذا الملك.
فلما سمع الكلام من الموبذان تأثر في نفسه واستيقظ من نومه وفكر فيما خوطب به فنزل من ساعته ونزل بنزوله الناس وخلا بالموبذان، فقال: أيها القائم بأمر الدين الناصح للملك والمنبه له عما أغفله من أمور ملكه وإضاعة بلاده ورعيته، ما هذا الكلام الذي خاطبتني به فقد حركت مني ما كان ساكناً.
فقال الموبذان: صادفت من الملك السعيد وقت سعد العباد والبلاد فجعلت الكلام مثلاً وموعظة على لسان الطائر عند سؤال الملك إياي عما سأل.
فقال له الملك: أيها الناصح، اكشف لي عن هذا الغرض، ما المراد منه؟ فقال: أيها الملك، إن الأمر لا يتم إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، وهو الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب، جل وعلا وجعل له قيماً وهو الملك.
فقال الملك: أما ما وصفت فحق فأين لي عما إليه تقصد وأوضح لي في البيان.
قال: نعم أيها الملك، إنك عمدت إلى الضياع فأقطعتها الخدم وأهل البطالة فعمدوا إلى ما تعجل من غلاتها فاستعجلوا المنفعة وتركوا العمارة والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك، ووقع الحيف على الرعية وعمار الضياع، فانجلوا عن ضياعهم، وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية وطمع في ملك فارس من أطاف بها من الملوك والأمم لعلمهم بانقطاع المواد التي بسببها تستقيم دعائم الملك.
فلما سمع الملك ذلك أقام في موضعه ثلاثة أيام وأحضر الوزراء والكتاب وأرباب الدواوين فانتزعت الضياع من أيدي الخاصة والحاشية وردت إلى أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت البلاد بذلك وأخصبت وكثرت الأموال عند الجباة وقويت الجنود وانقطعت مواد الأعداء وأقبل الملك يباشر الأمور بنفسه فحسنت سيرته وانتظم ملكه حتى كانت أيامه بعده تدعى بالأعياد مما عم الناس من الخصب وشملهم من العدل.
العاشق ذو المروءة

حكاية أخرى أجنبية. حكي عن الأصمعي أنه قال: دخلت البصرة أريد بادية بني سعد، وكان على البصرة يومئذ خالد بن عبد الله القسري، فدخلت عليه يوماً فوجد قوماً متعلقين بشاب ذي جمال وكمال وأدب ظاهر، بوجه زاهر حسن الصورة طيب الرائحة جميل البزة، عليه سكينة ووقار، فقدموه إلى خالد فسألهم عن قصته فقالوا: هذا لص أصبناه البارحة في منازلنا. فنظر إليه فأعجبه حسن هيئته ونظافته، فقال: خلوا عنه. ثم أدناه منه وسأله عن قصته، فقال: إن القول ما قالوه والأمر على ما ذكروه.
فقال له: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة؟ قال: حملني الشره في الدنيا. وبذا قضى الله سبحانه وتعالى.
فقال له خالد: ثكلتك أمك، أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر لك عن السرقة.
قال: دع عنك هذا أيها الأمير، وانفذ ما أمرك الله تعالى به. فذلك بما كسبت يداي. وما الله بظلام للعبيد.
فسكت خالد ساكة يفكر في أمر الفتى ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رؤوس الأشهاد قد رابني وأنا ما أظنك سارقاً. وإن لك قصة غير السرقة فأخبرني بها.
فقال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك سوى ما اعترفت به عندك، وليس لي قصة أشرحها لك إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت منها مالاً فأدركوني وأخذوه مني وحملوني إليك.
فأمر خالد بحبسه وأمر منادياً ينادي في البصرة: ألا من أحب أن ينظر إلى عقوبة فلان اللص وقطع يده فليحضر من الغد.
فلما استقر الفتى في الحبس ووضع في رجليه الحديد تنفس الصعداء، ثم أنشأ يقول:
هددني خالد بقطع يدي ... إن لم أبح عنده بقصتها
فقلت: هيهات أن أبوح بما ... تضمن القلب من محبتها
قطع يدي بالذي اعترفت به ... أهون للقلب من فضيحتها
فسمعه الموكلون به فأتوا خالداً وأخبروه بذلك، فلما جن الليل أمر بإحضاره عنده، فلما حضر استنطقه فرآه أديباً عاقلاً لبيباً ظريفاً فأعجب به فأمر له بطعام فأكلا وتحادثا ساعة. ثم قال له خالد: قد علمت أن لك قصة غير السرقة، فإذا كان غداً وحضر الناس والقضاة وسألتك عن السرقة فأنكرها واذكر فيها شبهاتٍ تدرأ عنك القطع. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادرءوا الحدود بالشبهات " .
ثم أمر به إلى السجن، فلما أصبح الناس لم يبق بالبصرة رجل ولا امرأة إلا حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى، وركب خالد ومعه وجوه أهل البصرة وغيرهم، ثم دعا بالقضاة وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجل في قيوده، ولم يبق أحد من النساء إلا بكى عليه وارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، فأمر بتسكيت الناس، ثم قال له خالد: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالهم فما تقول؟ قال: صدقوا أيها الأمير، دخلت دارهم وسرقت مالهم.
قال خالد: لعلك سرقت دون النصاب.
قال: بل سرقت نصاباً كاملاً.
قال: فلعلك سرقته من غير حرز مثله.؟ قال: بل من حرز مثله.
قال: فلعلك شريك القوم في شيء منه؟ قال: بل هو جميعه لهم لا حق لي فيه.
فغضب خالد وقام إليه بنفسه وضربه على وجهه بالسوط. وقال متمثلاً بهذا البيت:
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
ثم دعا بالجلاد ليقطع يده. فحضر وأخرج السكين، ومد يده ووضع عليها السكين، فبرزت جارية من صف النساء عليها آثار وسخ، فصرخت ورمت بنفسها عليه، ثم أسفرت عن وجه كأنه البدر وارتفع للناس ضجة عظيمة كاد أن تقع منه فتنة، ثم نادت بأعلى صوتها: إليه رقعة ففضها خالد فإذا هي مكتوب فيها:
أخالد هذا مستهام متيمٌ ... رمته لحاظي من قسي الحمالق
فأصماه سهم اللحظ مني فقلبه ... حليف الجوى من دائه غير فائق.
أقر بما لم يقترفه لأنه ... رأى ذاك خيراً من هتيكة عاشق
فهلا على الصب الكئيب لأنه ... كريم السجايا في الهوى غير سارق

فلما قرأ الأبيات تنحى وانعزل عن الناس وأحضر المرأة، ثم سألها عن القصة، فأخبرته أن هذا الفتى عاشق لها وهي له كذلك، وأنه أراد زيارتها وأن يعلمها بمكانه، فرمى بحجر إلى الدار، فسمع أبوها واخوتها صوت الحجر، فصعدوا إليه، فلما أحس بهم جمع قماش البيت كله وجعله صرة، فأخذوه وقالوا: هذا سارق وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصر على ذلك حتى لا يفضحني بي اخوتي، وهان عليه قطع يده لكي يستر علي ولا يفضحني. كل ذلك لغزارة مروءته وكرم نفسه.
فقال خالد: إنه خليق بذلك.
ثم استدعى الفتى إليه وقبل ما بين عينيه وأمر بإحضار أبي الجارية وقال له: يا شيخ إنا كنا عزمنا على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع، وإن الله عصمه من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده وحفظه لعرضك وعرض ابنتك وصيانته لكما من العار. وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم، وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه.
فقال الشيخ: قد أذنت أيها الأمير بذلك.
قال: فحمد الله وأثنى عليه وخطب خطبة حسنة وقال للفتى: قد وقدره عشرة آلاف درهم.
فقال الفتى: قبلت منك هذا التزويج.
وأمر بحمل المال إلى دار الفتى مزفوفاً في الصواني، وانصرف الناس مسرورين ولم يبق أحد في سوق البصرة إلا نثر عليهما اللوز والسكر حتى دخلا منزلهما مسرورين مزفوفين.
قال الأصمعي: فما رأيت يوماً أعجب منه أوله بكاء وترح وآخره سرور وفرح.

جعفر بن سليمان والعاشقان
وهذه حكاية تشابه ما تقدم. قال حماد الراوية: كنت عند جعفر بن سليمان بالبصرة إذ أتى بشاب حسن الوجه، ومعه جارية كأنها قضيب بان، فقال صاحب الشرطة: أصلح الله الأمير، إني وجدت هذا وهذه مجتمعين في خلوة وليس لها بمحرم.
فقال جعفر للفتى: ما تقول؟ فقال: صدق ولقد طال والله غرامي بها منذ ثلاث سنين والله ما أمكنني الخلوة بها إلا في هذا الوقت، وأنشد يقول:
تمنيت من ربي أفوز بقربها ... فلما تهيأ لي المنى عاقه العسر
فوالله بل والله ما كان ريبةٌ ... وما كان إلا اللفظ والضحك والبشر
فدونكم جلدي ولا تجلدونها ... فكم من حرامٍ كان من دونه ستر
قال: فجعلت الجارية تبكي بكاء شديداً فقال لها: وأنت لم تبكين؟ فقالت: والله شفقة مما حل بنا وكيف احتلت حتى خرجت وكيف بلينا بهذه البلية؟ قال: أتحبينه؟ قال: فلم غررت بنفسي؟ قال لها: أنت حرة أم مملوكة؟ قالت: بل مملوكة.
فأمرها فدخلت الدار وأحضر مولاها فاشتراها منه بمائتي دينار وأعتقها وزوجها الفتى ووهب له مائة دينار وكساها، فأنشد الفتى يقول:
لقد جدت يا ابن الأكرمين بنعمة ... جمعت بها بين المحبين في ستر
فلا زلت بالإحسان كهفاً وملجأ ... وقد جل ما قد كان منك عن الشكر
قال: فضحك وأمر لهما بجائزة وانصرفا مسرورين.
في أيام دولة عبد الملك بن مروان
وهو أول من تسمى عبد الملك في الإسلام، وكان يلقب برشح الحجر. ذكره في حياة الحيوان.
وذكر محمد بن واسع الهيتي أن عبد الملك بن مروان بعث كتاباً إلى الحجاج بن يوسف يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى الحجاج بن يوسف، إذا ورد عليك كتابي هذا وقرأته فسير لي ثلاث جوار مولدات نهد أبكار يكون إليهن المنتهى في الجمال، واكتب لي بصفة كل واحدة منهن ومبلغ ثمنها في المال.
فلما ورد الكتاب على الحجاج دعا بالنخاسين، م أمرهم بما أمر به أمير المؤمنين، وأمرهم أن يغوصوا في البلاد حتى يقعوا على الغرض، فلم يزالوا من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم حتى وقعوا على الغرض، ورجعوا إلى الحجاج بثلاث جوار نهد أبكار مولدات ليس لهن مثيل.

وكان الحجاج فصيحاً، فجعل ينظر إلى كل واحدة منهن وثمنها من المال، فوجدهن لا يقومن بقيمة، وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن. ثم كتب كتاباً إلى عبد الملك بن مروان يقول فيه: بعد الثناء الجميل وصلني كتاب أمير المؤمنين، متعني الله تعالى ببقائه، يأمر فيه أن أشتري له ثلاث جوار مولدات نهد أبكار، وأن أكتب له بصفة كل واحدة منهن وثمنها. أما الجارية الأولى، أطال الله بقاء أمير المؤمنين، فإنها لطيفة السوالف، عظيمة الروادف، كحلاء العينين، حمراء الوجنتين، قد نهد نهداها والتف فخذاها، كأنها ذهب شيب بفضة، وهي كما قيل:
بيضاء في طرفها دعج يزينها ... كأنها فضة قد شابها ذهب
وثمنها يا أمير المؤمنين، ثلاثون ألف درهم.
وأما الجارية الثانية فإنها فائقة في الجمال معتدلة القد والكمال يشفي السقيم كلامها الرخيم، وثمنها يا أمير المؤمنين، ثلاثون ألف درهم.
وأما الجارية الثالثة، فإنها فاترة الطرف لطيفة الكاف عظيمة الردف شاكرة للقليل مساعدة للخليل، بديعة الجمال، كأنها خشف غزال، وثمنها يا أمير المؤمنين، ثمانون ألف درهم.
ثم أطنب في الشكر والثناء على أمير المؤمنين وطوى الكتاب وختمه ودعا بالنخاسين وقال: تجهزوا للسفر بهؤلاء الجواري لأمير المؤمنين ا ه؟.
فقال أحد النخاسين: أيد الله الأمير: إني رجل كبير وضعيف عن السفر ولي ولد ينوب عني فتأذن لي أن أجهزه؟ قال: نعم.
فتجهزوا وخرجوا ففي بعض مسيرهم نزلوا ليستريحوا في بعض الأماكن فنامت الجواري فهبت ريح فانكشفت إحداهن. وهي الكوفية فظهر نور ساطع وكان اسمها مكتوم، فنظر إليها ابن النخاس، وكان شاباً جميلاً ففتن بها لساعته، فأتاها على غفلة من أصحابه وجعل يقول:
أمكتوم عيني لا تمل من البكا ... وقلبي بأسهام الأسى يترشق
أمكتوم! كم من عاشق قتل الهوى ... وقلبي رهين كيف لا أتعشق؟
فأجابته تقول:
لو كان حقاً ما تقول لزرتنا ... ليلاً، إذا هجعت عيون الحسد
فلما جن الليل، انقض ابن النخاس بسيفه وأتى نحو الجارية فوجدها قائمة تنتظر قدومه، فأخذها وأراد الهرب بها ففطن به أصحابه فأخذوه وكتفوه وأوثقوه بالحديد ولم يزل مأسوراً معهم إلى أن قدموا على عبد الملك.
فلما قدموا بالجواري بين يديه، أخذ الكتاب وفتحه وقرأه فوجد الصفة موافقة في اثنتين ولم توافق في الثالثة، ورأى بوجهها صفرة، وهي الجارية الكوفية، فقال للنخاسين: ما بال هذه الجارية لم توافق الصفة التي ذكرها الحجاج في كتابه، وما هذا الإصفرار الذي بها، وهذا النحول؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، نقول وعلينا الأمان.
قال: إن صدقتم أمنتم؛ وإن كذبتم هلكتم.
فخرج أحد النخاسين وأتى بالفتى، وهو مصفد بالحديد، فلما قدموه بين يدي أمير المؤمنين وأخبروه بما فعل بكى بكاء شديداً وأيقن بالعذاب ثم أنشأ يقول:
أمير المؤمنين أتيت رغماً ... وقد شدت إلى عنقي يديا
مقراً بالقبيح وسوء فعلي ... ولست بما رميت به بريا
فإن تقتل ففوق القتل ذنبي ... وإن تعف فمن جودٍ عليا
فقال له عبد الملك: يا فتى ما حملك على ما فعلت؟ أستخفافاً بنا أم هوى للجارية؟ فقال: وحقك يا أمير المؤمنين، وعظيم قدرك، ما هو إلا هوى للجارية.
فقال: هي لك بما أعد لها.
فأخذ الغلام الجارية بكل ما أعد لها أمير المؤمنين من الحلي والجمان وسار بها فرحاً مسروراً حتى إذا كانا ببعض الطريق نزلا منزلاً ليلاً فتعانقا. فلما أصبح الصباح وأراد الناس الرحيل، نبهوهما فوجدا ميتين. فبكوا عليهما ودفنوهما في الطريق. ومضى خبرهما إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فبكى عليهما وتعجب من ذلك.

شجرة العروسين
وهذه حكاية تشابهها في العشق. حكي عن عبد الله بن معمر القيسي أنه قال: حججت سنةً إلى بيت الله الحرام، فلما قضيت حجي عدت لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا ذات ليلة جالس بين القبر والروضة إذ سمعت أنيناً عالياً وحنيناً بادياً، فأنصت إليه، فإذا هو يقول هذه الأبيات:
أشجاك نوح حمائم السدر ... فأهجن منك بلابل الصدر؟
أم عز نومك ذكر غانية ... أهدت إليك وساوس الفكر

يا ليلة طالت على دنف ... يشكو الغرام وقلة الصبر
أسلمت من يهوى لحر جوى ... متوقد كتوقد الجمر
فالبدر يشهد أنني كلف ... مغرى بحب شبيهة البدر
ما كنت أحسبني بها شجناً ... حتى بليت وكنت لا أدري
قال: ثم انقطع الصوت ولم أدر من أين جاءني فبقيت حائراً، وإذا به قد أعاد البكاء والحنين وأنشأ يقول هذه الأبيات:
أشجاك من ريا خيال زائر ... والليل مسود الذوائب عاكر
واقتاد مقلتك الهوى برسيسه ... واهتاج مقلتك الخيال الزاهر
ناديت ليلى، والظلام كأنه ... يم تلاطم فيه موج زاخر
والبدر يسري في السماء كأنه ... مالك ترحل، والنجوم عساكر
يا ليل! طلت على محب ما له ... إلا الصباح مساعد وموازر
فأجابني: مت حتف أنفك واعلمن ... أن الهوى لهو الهوان الحاضر
قال: فنهضت عند ابتدائه الأبيات أؤم الصوت فما انتهى لآخر الأبيات إلا وأنا عنده، فرأيت غلاماً ما سال عذاره، وقد خرج الدمع وجنتيه خرقين، فقلت: نعمت غلاماً! فقال: وأنت، فمن الرجل؟ قلت: عبد الله بن معمر القيسي.
قال: أفلك حاجة؟ قلت له: كنت جالساً في الروضة، فما راعني في هذه الليلة إلا صوتك فبنفسي أفديك، ما الذي تجده؟ قال: اجلس! فجلست، أنا عتبة بن الخباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري، غدوت إلى مسجد الأخراب فبقيت راكعاً وساجداً ثم اعتزلت غير بعيد، فإذا بنسوة يتهادين كالأقمار، وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت علي، وقالت: يا عتبة، ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت. فلم أسمع لها خبراً ولا وقفت لها على أثر. فأنا حيران أتنقل من مكان إلى مكان.
ثم صرخ وانكب على الأرض مغشياً عليه، ثم أفاق كأنما صبغت ديباجتا خديه بورس ثم أنشد يقول هذه الأبيات:
أراكم بقلبي من بلاد بعيدة ... تراكم تروني بالقلوب على بعد
فؤادي وطرفي يأسفان عليكم ... وعندكم روحي وذكركم عندي
ولست ألذ العيش حتى أراكم ... ولو كنت في الفردوس أو جنة الخلد
قال: فقلت له: يا ابن أخي تب إلى ربك واستقل من ذنبك، فإن بين يديك هول المطلع.
فقال: هيهات ما أنا بسال حتى يثوب القارظان.
ولم أزل به حتى طلع الفجر، فقلت: قم بنا إلى مسجد الأخراب، فقمنا إليه فجلسنا حتى صلينا الظهر، وإذا بنسوة قد أقبلن وأما الجارية فليست فيهن فقلن: يا عتبة ما ظنك بطالبة وصلك وكاشفة ما بك؟ قال: وما بالها قلن: أخذها أبوها وارتحل إلى السماوة. فسألتهن على الجارية فقلن: هي ريا بنت الغطريف السلمي، فرفع رأسه وأنشأ يقول:
خليلي! ريا قد أجد بكورها ... وسار إلى أرض السماوة عيرها
خليليّ! إني قد عييت عن البكا ... فهل عند غيري عبرة أستعيرها؟
فقلت له: يا عتبة إني وردت بمال جزيل أريد به أهل الستر، ووالله لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضا. قم بنا إلى مسجد الأنصار، فقمنا حتى أشرفنا على مائهم فسلمت فأحسنوا الرد ثم قلت: أيها الملأ، ما تقولون في عتبة وأبيه؟ قالوا: من سادات العرب، قلت: فإنه رمي بداهية من الهوى فأريد منكم المساعدة إلى السماوة، قالوا: سمعاً وطاعة.
وركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على منازل بني سليم فأعلم الغطريف بمكاننا فخرج مبادراً واستقبلنا وقال: حييتم يا كرام! قلنا: وأنت حييت، إنا لك أضياف، فقال: نزلتم بأكرم منزل.
ثم نادى: يا معشر العبيد انزلوا. فنزلت العبيد ففرشت الأنطاع والنمارق وذبحت النعم والغنم. فقلنا: لسنا بذائقين طعامك حتى تقضي حاجتنا. قال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب ابنتك الكريمة لعتبة بن الخباب بن المنذر العالي الفخر الطيب العنصر. فقال: يا أخي إن التي تخطبونها أمرها إلى نفسها، وأنا أدخل وأخبرها.

ثم نهض مغضباً ودخل إلى ريا فقالت: يا أبتي! ما لي أرى الغضب بين عينيك؟ فقال: ورد علي قوم من الأنصار يخطبونك مني. فقالت: سادات كرام استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم فلمن الخطبة فيهم؟ قال: لفتى يعرف بعتبة بن الخباب، قالت: سمعت عن عتبة هذا أنه يقي بما وعد ويدرك ما طلب. قال: أقسمت لا أزوجك به أبداً فقد نمى إلي بعض حديثك معه. قالت: ما كان ذلك؟ قال: ولكن أقسمت أني ما أزوجك به. قالت: أحسن إليهم فإن الأنصار لا يردون رداً قبيحاً، فأحسن الرد. قال: بأي شيء؟ قالت: أغلظ عليهم المهر فإنهم يرجعون. قال: ما أحسن ما قلت.
ثم خرج مبادراً. فقال: إن فتاة الحي قد أجابت ولكن أريد لها مهر مثلها، فمن القائم به؟ قال عبد الله فقلت: أنا! فقال: أريد لها ألف سوار من ذهب أحمر، وخمسة آلاف درهم من ضرب هجر، ومائة ثوب من الأبراد والحبر، وخمسة أكرشة من العنبر.
قال قلت: لك ذلك، فهل أجبت؟ قال: أجل.
فأنفذ عبد الله نفراً من الأنصار إلى المدينة المنورة فأتوا بجميع ما ضمنه وذبحت النعم والغنم، واجتمع الناس لأكل الطعام. قال: فأقمنا على هذا لحال أربعين يوماً. ثم قال: خذوا فتاتكم فحملناها على هودج وجهزها بثلاثين راحلة من التحف ثم ودعنا وانصرف، وسرنا حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة المنورة مرحلة خرجت علينا خيل تريد الغارة، وأحسب أنها من بني سليم، فحمل عليها عتبة بن الخباب فقتل عدة رجال وانحرف راجعاً وبه طعنة، ثم سقط إلى الأرض. وأتتنا النصرة من سكان تلك الأرض فطردوا عنا الخيل، وقد قضى عتبة نحبه، فقلنا: وا عتبتاه! فسمعنا الجارية تقول وا عتبتاه، فألقت نفسها من فوق البعير وانكبت عليه وجعلت تصيح وتقول بحرقة:
تصبرت لا أني صبرت، وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقة
ولو أنصفت روحي لكانت إلى الردى ... أمامك من دون البرية سابقة
فما أحد بعدي وبعدك منصف ... خليلاً، ولا نفس لنفس موافقة
ثم شهقت شهقة قضت نحبها. واحتفرنا لهما قبراً واحداً وواريناهما في التراب، ورجعت إلى ديار قومي وأقمت سبع سنين، ثم عدت إلى الحجاز ووردت المدينة المنورة للزيارة فقلت: لأعودن إلى قبر عتبة، فأتيت إلى القبر، فإذا شجرة عليها عصائب حمر وصفر وخضر، فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين، فأقمت عند القبر يوماً وليلة وانصرفت وكان آخر العهد به.

العاشق الكتوم
ومثل ما تقدم من العشق وما ورد في كتمان الهوى مع تحقق النظر عند إعلانه. ما حكي عن بعض المعمرين من ذوي النعم قال: بينما أنا في منزلي إذ دخل علي خادم لي ومعه كتاب، فقال: رجل بالباب دفع إلي هذا الكتاب ففتحته فإذا فيه:
تجنبك البلاء، ونلت خيراً ... ونجاك المليك من الغموم
فعندك لو مننت شفاء نفسي ... وأعضاء ضنين من الكلوم
فقلت: عاشق والله، وقلت للخادم: اخرج وائتني به، فخرج فلم ير أحداً فعجبت من أمره وأحضرت الجواري كلهن من يخرج منهن ومن لم يخرج منهن وسألتهن عن ذلك فحلفن أنهن لا يعرفن من حديث هذا الكتاب شيئاً، فقلت: إني لم أفعل ذلك بخلاً بمن يهوى منكن، فمن عرفت بحال هذا الفتى، فهي هبة مني له بمالها ومائة دينار. وكتبت جوابه أشكره على ذلك وأسأله قبولها ووضعت الكتاب في جنب البيت ومائة دينار، وقلت: من عرف شيئاً فليأخذه، فمكث الكتاب والذهب أياماً لا يأخذه أحد، فغمني ذلك، وقلت: هذا قنع ممن يحبه بالنظر، فمنعت من يخرج من جواري من الخروج. فما كان إلا يوماً أو بعض يوم إذ دخل علي الخادم ومعه كتاب. وقال هذا من بعض أصدقائك بعث به إليك. فقلت: اخرج وائتني به. فخرج فلم يجده ففتحت الكتاب فإذا فيه:
ماذا أتيت إلى روح معلقة ... عند التراقي، وحادي الموت حاديها
حثثت حاديها ظلماً، فجد بها ... في السير حتى تخلت عن تراقيها
والله لو قيل لي: تأتي بفاحشةٍ ... وإن عقباك دنيانا وما فيها
لقلتُ: لا والذي أخشى عقوبته ... ولا بأضعافها ما كنت آتيها
لولا الحياء لبحنا بالذي سكنت ... بيت الفؤاد وأبدينا أمانيها

قال: فغمني أمره فقلت للخادم: لا يأتينك أحد بكتاب إلا قبضنا عليه. قال: وقرب موسم الحج. قال: فبينما أنا قد أفضت من عرفة، وإذا فتى إلى جانبي على ناقة لم يبق منه إلا الخيال، فسلم علي فرددت عليه السلام ورحبت به، فقال: أتعرفني؟ فقلت: وما أنكرك بسوء. فقال: أنا صاحب الكتابين. فانكببت عليه فقلت له: يا أخي لقد غمني أمرك وأقلقني كتمانك لنفسك ووهبت لك طلبك ومائة دينار. فقال: بارك الله لك إنما أتيتك مستحلاً من نظر كنت أنظره على غير حكم الكتاب والسنة. فقلت: غفر الله لك وللجارية فسر معي إلى منزلي لأسلمها إليك ومائة دينار مثلها في كل سنة. فقال: لا حاجة لي بذلك. فألححت عليه فلم يفعل. فقلت له: أما إذا أبيت فعرفني من هي من جواري لأكرمها من أجلك ما حييت. فقال: ما كنت لأسميها لأحد. وودعني وانصرف وكان آخر العهد به. انتهى.

تولية الحجاج للعراق
ونعود إلى الكلام على ما وقع في زمان عبد الملك بن مروان. روي أنه لما ولي الحجاج الحرمين الشريفين حظي عنده إبراهيم بن محمد بن طلحة فلما أراد الحجاج الرجوع إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان، وفد معه إبراهيم بن محمد بن طلحة وقال: أتيتك برجل الحجاز في الشرف والأبوة والفضل والمروءة يا أمير المؤمنين، مع ما هو عليه من حسن الطاعة وجميل المناصحة، والله لم يكن في الحجاز له نظير، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا فعلت معه من الخير ما هو مستحقه؟ فقال عبد الملك: من هو يا أبا محمد؟ قال له: إبراهيم بن محمد بن طلحة.
قال: يا أبا محمد لقد ذكرتنا بحق واجب ائذن له في الدخول.
فلما دخل على عبد الملك أمر بجلوسه في صدر المجلس ثم قال: إن أبا محمد الحجاج ذكر لنا ما نعرفه من كمال مروءتك وحسن نصيحتك، فلا تدع في صدرك حاجة إلا أعلمتنا بها حتى نقضيها لك ولا نضيع شكر أبي محمد الحجاج فيك.
قال إبراهيم: إن الحاجة التي نبغي بها وجه الله تعالى والتقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في القيامة نصيحة أمير المؤمنين. قال: قل! قال: لا أقولها وبيني وبينك ثالث.
قال: ولا صديقك الحجاج؟ قال: لا.
قال: قم.
فقام خجلاً وهو لا يعرف أين تطأ رجله، فلما مضى قال له: هات نصيحتك.
فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، وليت الحجاج الحرمين الشريفين وفيهما من تعرف من أولاد المهاجرين والأنصار وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما تعلمه من ظلمه وفسقه وجوره وبعده من الحق وقربه إلى الباطل، يسومهم الخسف ويطؤهم بالعسف، فليت شعري أي جواب أعددته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألك الله في عرصات القيامة عن ذلك؟ فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا عزلته وادخرتها قربة إلى الله تعالى.
فقال عبد الملك: لقد ظن الحجاج الخير بغير أهله، ثم قال: يا إبراهيم! قم.
فقمت على أنحس حال وخرجت من المجلس، وقد اسودت الدنيا في وجهي فتبعني حاجبه وقبض على زندي وجلس بي في الدهليز، ثم دعا عبد الملك بالحجاج. فدخل فمكث طويلاً فما شككت إلا أنهما يتشاوران في قتلي. ثم دعاني فقمت ودخلت فوافاني الحجاج خارجاً فعانقني، وقال: جزاك الله عني خيراً في هذه النصيحة، أما والله لئن عشت لأرفعن قدرك.
وتكرني وخرج ودخلت وأنا أقول: يهزأ بي، وهو معذور، فدخلت على عبد الملك فأجلسني مجلسي الأول ثم قال لي: قد علمت صدقك وقد عزلته عن الحرمين ووليته العراق وأعلمته أنك استقللت له الحجاز واستدعيت له العراق، وأنك تطلب له الزيادة في الأعمال وهو يظن أنك السبب في توليته العراق، وقد تهلل وجهه فرحاً لذلك، فسر معه أينما توجه يولك خيراً، ولا تقطع نصيحتك عنا والله أعلم.
كيف ولد الحجاج
وفي مروج الذهب للمسعودي وشرح السيرة وغيرهما. أن أم الحجاج ابن يوسف وهي الفارعة بنت همام. ولدته مشوهاً لا دبر له فثقب دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها فأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحرث بن كلدة، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ولد ليوسف الثقفي من الفارعة ولد وقد أبى أن يقبل ثدي أمه فقال: اذبحوا له تيساً أسود والعقوه دمه ثم اذبحوا له أسود سالخاً، وأولغوه من دمه واطلوا به وجهه ثلاثة أيام ففعلوا فقبل الثدي في اليوم الرابع فكان لا يصبر عن سفك الدم وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره، انتهى.
الحجاج والأعرابي

وحكي أن الحجاج انفرد يوماً من عسكره فلقي أعرابياً فقال له: يا وجه العرب، كيف الحجاج؟ فقال: ظالم غاشم. قال: هلا شكوته إلى عبد الملك بن مروان؟ قال: أظلم وأغشم عليهما لعنة الله.
فبينما هو كذلك إذ تلاحقت به عساكره فعلم الأعرابي أنه الحجاج فقال الأعرابي: أيها الأمير السر الذي بيني وبينك لا يطلع عليه أحد إلا الله.
فتبسم الحجاج وأحسن إليه وانصرف.

الحجاج والفتى المحدث
وذكر أهل التواريخ أن الحجاج بن يوسف الثقفي سهر ليلة وعنده جماعة منهم خالد بن عرفطة فقال: يا خالد ائتني بمحدث من المسجد. والناس إذ ذاك يطلبون المقام في المسجد. فانتهى إلى شاب قائم يصلي فجلس حتى سلم ثم قال: أجب الأمير.
فقال: أبعثك الأمير إلي قاصداً.
قال: نعم فمضى معه حتى انتهى إلى الباب فقال له خالد: كيف أنت ومحادثة الأمير.
قال: سيجدني كما يحب إن شاء الله تعالى.
فلما دخل عليه قال له الحجاج: هل قرأت القرآن؟ قال: نعم وقد حفظته.
قال: فهل تروي شيئاً من الشعر.
قال: وما من شاعر إلا وأروي عنه؟ قال: فهل تعرف من أنساب العرب ووقائعها؟ قال: لا يذهب عني شيء من ذلك.
فلم يزل يحدثه بكل ما أحب حتى إذا هم بالانصراف، قال: يا خالد، مر للفتى ببرذون وغلام ووصيفة وأربعة آلاف درهم.
فقال الفتى: أصلح الله الأمير بقي من حديثي أظرفه وأعجبه فأعاده الحجاج إلى مجلسه وقال: حدثني.
فقال: أصلح الله الأمير هلك والدي وأنا طفل صغير فنشأت في حجر عمي وله ابنة بسني، وكان في التصابي من الصبا وما كنا فيه أعجوبة، حتى إذا بلغت وبلغت تنافس الخطاب فيها وبذلوا فيها أموالاً لجمالها وكمالها، فلما رأيت ذلك خامرني السقم، وضنيت ورميت على الفراش ثم عمدت إلى خابية عظيمة فملأتها رملاً وصخراً وقبرت رأسها ودفنتها تحت فراشي، فلما تم على ذلك أيام بعثت إلى عمي فقلت: يا عمي، إني كنت أريد السفر فوقعت على مال عظيم وخفت أن أموت ولا يعلمه أحد فإن حدث بي أمر فأخرجه وأعتق عني عشر نسمات واحجج عني عشر حجج، وجهز عني عشر رجال بخيولهم وأسلحتهم، وتصدق عني بألف دينار، ولا تبال يا عم! فإن المال كثير.
فلما سمع عمي مقالتي أتى امرأته فأخبرها بقولي فما كان بأسرع من أن أقبلت بجواريها حتى دخلت علي فوضعت يدها على رأسي ثم قالت: والله يا ابن أخي ما علمت بسقمك وما حل بك حتى أخبرني أبو فلان الساعة. وأقبلت تلاطفني وتعالجني بالأدوية وحملت لي لطائف، وردت الخطاب عن ابنتها، فلما رأيت ذلك تحاملت ثم بعثت إلى عمي أن الله عز وجل قد أحسن إلي وعافاني فابتغ لي جارية من خصالها وكمالها كيت وكيت، ولا يسألونك شيئاً إلا أعطيته، فقال: يا ابن أخي ما يمنعك من ابنة عمك؟ فقلت: هي من أعز خلق الله تعالى علي غير أني قد خطبتها قبل ذلك فامتنعت.
قال: كلا، إن الامتناع كان من قبل أمها، وهي الآن قد سمحت ورضيت بذلك.
فقلت: شأنك.
فرجع إلى امرأته فأخبرها بقولي، فجمعت عشيرتها فزوجوني إياها فقلت: عجل علي بابنة عمي كيف شئت ثم أريك الخابية. فأهديت إلي، ولم تدع شيئاً يصنع بأشراف النساء إلا فعلته. ثم زفت ابنتها علي وأحضرتها بكل ما وجدت إليه سبيلاً، وأخذ عمي متاعاً من التجار بعشرة آلاف درهم، وكان يأتينا في كل صباح من قبل أبويها لطائف وتحف مدة. فلما كان بعد ذلك بأيام أتاني عمي وقال: يا ابن أخي، إنا قد أخذنا من التجار متاعاً بعشرة آلاف درهم، وليسوا صابرين على حبس الثمن.
قلت: شأنك والخابية.
فمر مسرعاً حتى جاء بالرجال والحبال فاستخرجها وحملها، ومر مسرعاً بها إلى منزله، فلما فتحها كان فيها ما علمت، فما كان بأسرع من أن جاءت أمها بجواريها فلم تدع في منزلي كثيراً ولا قليلاً إلا حملته، فبقيت مهاناً على الأرض وجفتنا كل الجفاء، فهذا حالي، أصلح الله الأمير، فأنا من خجلي وضيق صدري آوي إلى المساجد.
فقال الحجاج: يا خالد، مر للفتى بثياب ديباج وفرس أرمنية وجارية وبرذون وغلام وعشرة آلاف درهم. وقال: يا فتى اغد إلى خالد غداً حتى تستوفي منه المال.
فخرج الفتى من عند الحجاج، قال: فلما انتهيت إلى باب داري سمعت ابنة عمي تقول: ليت شعري ما أبطأ بابن عمي، أقتل أم مات أم عرض له سبع؟

قال: فدخلت عليها وقلت: يا ابنة عمي أبشري وقري عيناً فإني أدخلت على الحجاج فكان من القصة كيت وكيت. وحكيت لها ما كان من أمري، فلما سمعت الفتاة مقالتي لطمت وجهها وصاحت، فسمع أبوها وأمها وأخواتها صراخها فدخلوا عليها وقالوا لها: ما شأنك؟ فقالت لأبيها: لا وصل الله رحمك ولا جزاك عني وعن ابن أخيك خيراً جفوته وضيعته حتى أصابته الخفة وذهب عقله اسمع مقالته.
فقال العم: يا ابن أخي ما حالك؟ فقلت: والله ما بي من بأس إلا أني دخلت على الحجاج وذكر له من أمره ما كان وأنه أمر له بمال جزيل.
فقال العم لما سمع مقالته: هذه مرة صفراء ثائرة فباتوا يحرسونه تلك الليلة فلما أصبحوا بعثوا إلى المعالج فجعل يعالجه ويسعطه مرة ويسهله أخرى، فيقول الفتى: والله ما بي من بأس وإنما أدخلت على الحجاج فكان كيت وكيت. فلما رأى الفتى أن ذكر الحجاج لا يزيده إلا بلاء كف عنه وعن ذكره ثم قال له: ما تقول في الحجاج؟ قال: ما رأيته. ثم خرج المعالج فقال لهم قد ذهب عنه الأذى ولكن لا تعجلوا بحل قيده فبقي الفتى مقيداً مغلولاً.
فلما كان بعد أيام ذكره الحجاج فقال: يا خالد ما فعل الفتى؟ فقال: أصلح الله الأمير ما رأيته منذ خرج من حضيرة الأمير.
قال: فابعث إليه أحداً.
قال: فبعث إليه خالد حرسياً، فمر الحرسي على عم الفتى فقال له: ما فعل ابن أخيك؟ فإن الحجاج يطلبه.
قال: إن ابن أخي لفي شغل عن الحجاج قد ابتلى ببلاء في عقله.
قال: لا أدري ما تقول، لا بد من الذهاب به الساعة.
فدخل عليه العم فقال: يا ابن أخي، إن الحجاج قد بعث في طلبك أفأحلك؟ قال: لا، إلا بين يديه.
فحمل في قيوده وغله على ظهور الرجال حتى أدخل على الحجاج. فلما نظره من بعد جعل يرحب به حتى انتهى إليه فكشف قيده وغله وقال: أصلح الله الأمير، إن آخر أمري أعجب من أوله، وحدثه بحديثه فعجب الحجاج وقال: يا خالد، أضعف للفتى ما كنا قد أمرنا له، فقبض المال أجمع وحسن حاله ولم يزل مسامراً للحجاج حتى مات.
؟

الأعرابي وحلوى الحجاج
وحضر أعرابي عند الحجاج فقدم الطعام فأكل الناس منه ثم قدمت الحلوى فترك الحجاج الأعرابي حتى أكل منها لقمة ثم قال: من أكل من الحلوى ضربت عنقه، فامتنع الناس من أكلها وبقي الأعرابي ينظر إلى الحجاج مرة وإلى الحلوى مرة ثم قال: أيها الأمير أوصيك بأولادي خيراً. ثم اندفع يأكل فضحك الحجاج حتى استلقى على قفاه وأمر له بصلة.
علموا أولادكم الأدب
وحكي أن الحجاج أمر صاحب حراسته أن يطوف بالليل فمن وجده بعد العشاء ضرب عنقه. فطاف ليلة فوجد ثلاثة صبيان يتمايلون وعليهم أثر الشراب، فأحاط بهم وقال لهم: من أنتم حتى خالفتم الأمير؟ فقال الأول:
أنا ابن من دانت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها
تأتي إليه الرقاب صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها
فأمسك عن قتله، وقال: لعله من أقارب أمير المؤمنين، وقال الثاني:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره ... فمنهم قيامٌ حولها وقعود
فأمسك عن قتله وقال: لعله من أشراف العرب، وقال الثالث:
أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه ... وقومها بالسيف حتى استقامت
ركاباه لا تنفك رجلاه منهما ... إذا الخيل في يوم الكريهة ولت
فأمسك عن قتله وقال: لعله من شجعان العرب. فلما أصبح رفع أمرهم إلى الحجاج فأحضرهم وكشف عن حالهم، فإذا الأول ابن حجام، والثاني ابن فوال، والثالث ابن حائك. فتعجب الحجاج من فصاحتهم وقال لجلسائه: علموا أولادكم الأدب، فوالله لولا الفصاحة لضربت أعناقهم، ثم أطلقهم وأنشد:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... يغنيك محموده عن النسب
ن الفتى من يقول: ها أنا ذا! ... ليس الفتى من يقول: كان أبي
الحجاج والأسرى

وقيل: أمر الحجاج بقتل أسرى. فقتل منهم جماعة، فقال رجل منهم وقد عرض للقتل: يا حجاج. إن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو، والله تعالى يقول: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء " . فهذا قول الله تعالى في الكفار فكيف بالمسلمين. وقد قال الشاعر:
وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فقال الحجاج: أف لهؤلاء الجيف والله لو قال هؤلاء مثل ما قال هذا الرجل ما قتلت منهم أحداً ولكن أطلقوا بقيتهم.

الحجاج والمرأة الحرورية
قال الرواي: ولما ولي الحجاج العراق قال: علي بالمرأة الحرورية. فلما حضرت قال لها: كنت بالأمس في وقعة ابن الزبير تحرضين الناس على قتل رجالي ونهب أموالي؟ قالت: نعم. قد كان ذلك يا حجاج.
فلتفت الحجاج إلى وزرائه وقال: ما ترون في أمرها؟ فقالوا: عجل بقتلها.
فضحكت المرأة فاغتاظ الحجاج وقال: ما أضحكك؟ قالت: وزراء أخيك فرعون خير من وزرائك هؤلاء.
قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأنه استشارهم في موسى فقالوا: " أرجه وأخاه " ، أي أنظره إلى وقت آخر، وهؤلاء يسألونك تعجيل قتلي. فضحك الحجاج وأمر لها بعطاء وأطلقها.
الحجاج وهند بنت النعمان
وحكي أن هند بنت النعمان كانت أحسن نساء زمانها. فوصف للحجاج حسنها فخطبها وبذل لها مالاً جزيلاً وتزوج بها وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم ودخل بها.
ثم أنها انحدرت معه إلى بلد أبيها المعرة. وكانت هند فصيحة أديبة، فأقام بها الحجاج بالمعرة مدة طويلة. ثم إن الحجاج رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة، وتقول:
وما هند إلا مهرةٌ عربيةٌ ... سلالة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت فحلاً فلله درها ... وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل
فلما سمع الحجاج كلامها انصرف راجعاً ولم يدخل عليها. ولم تكن علمت به، فأراد الحجاج طلاقها، فأنفذ إليها عبد الله بن طاهر وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم، وهي التي كانت لها عليه، وقال: يا ابن طاهر، طلقها بكلمتين، ولا تزد عليهما. فدخل عبد الله بن طاهر عليها فقال لها: يقول لك أبو محمد الحجاج كنت فبنت. وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله.
فقالت: اعلم يا ابن طاهر، إنا والله كنا فما حمدنا، ثم بنا فما ندمنا وهذه المائتا ألف هي لك ببشارتك بخلاصي من كلب ثقيف.؟ ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها، ووصف له جمالها، فأرسل إليها يخطبها لنفسه، فأرسلت إليه كتاباً تقول فيه بعد الثناء عليه: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الكلب ولغ في الإناء. فلما قرأ عبد الملك بن مروان الكتاب ضحك من قولها، وكتب إليها يقول: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، إحداهن بالتراب، فغسل الإناء يحل الاستعمال.
فلما قرأ كتاب أمير المؤمنين، لم يمكنها المخالفة فكتبت إليه تقول: بعد الثناء عليه، اعلم يا أمير المؤمنين أني لا أجري العقد إلا بشرط، فإن قلت: ما الشرط؟ أقول: أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدتك التي أنت فيها ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيها أولاً.
فلما قرأ ذلك الكتاب عبد الملك ضحك ضحكاً شديداً، وأرسل إلى الحجاج يأمره بذلك. فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب ولم يخالف وامتثل الأمر.
وأرسل الحجاج إلى هند يأمرها بالتجهز فتجهزت وسار الحجاج في موكبه حتى وصل إلى المعرة بلد هند. فركبت في محمل وركب حولها جواريها وخدمها فترجل الحجاج، وهو حاف، وأخذ بزمام البعير يقوده ويسير بها، فأخذت تهزأ منه وتضحك مع الهيفاء دابتها، ثم إنها قالت لدايتها: يا دايتي اكشفي لي ستارة المحمل لنشم رائحة النسيم! فكشفته فوقع وجهها في وجهه فضحكت عليه، فأنشد يقول:
فإن تضحكي يا هند يا رب ليلة ... تركتك فيها كالقباء المفرج
فأجابته تقول:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت ... بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والعز مرتجع ... إذا النفوس وقاها الله من عطب

ولم تزل تلعب وتضحك إلى أن قربت من بلد الخليفة فلما قربت من البلد رمت من يدها ديناراً على الأرض وقالت: يا جمال! إنه سقط منا درهم فادفعه إلينا. فنظر الحجاج إلى الأرض فلم ير إلا ديناراً فقال: إنما هو دينار. فقالت: بل درهم. قال: بل دينار. فقالت: الحمد لله سقط منا درهم فعوضنا الله ديناراً. فخجل الحجاج وسكت ولم يرد جواباً ثم دخل بها على عبد الملك بن مروان فتزوج بها وكان من أمرها ما كان.

الحجاج وقتله لسعيد بن جبير
قال عون بن أبي شداد العبدي بلغني أن الحجاج بن يوسف لما ذكر له سعيد بن جبير أرسل قائداً من الشام يسمى المتلمس بن الأحوص ومعه عشرون رجلاً، فبينما هم يطلبونه إذا هم براهب في صومعة له فسألوه عنه فقال الراهب: صفوه؟ فوصفوه، فدلهم عليه، فانطلقوا فوجدوه ساجداً يناجي ربه بأعلى صوته، فدنوا منه وسلموا عليه، فرفع رأسه فأتم بقية صلاته ثم رد عليهم السلام، فقالوا له: أرسل الحجاج إليك فأجبه.
فقال: لا بد من الإجابة؟ قالوا: لا بد.
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قام فمشى معهم حتى انتهى إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم! قال: اصعدوا إلى الدير فإن الأسد واللبوة يأويان إلى الدير، فعجلوا الدخول قبل المساء.
ففعلوا ذلك وأبى سعيد أن يدخل الدير، فقالوا: ما نراك ألا تريد الهرب؟ قال: لا، ولكن لا أدخل منزل مشرك أبداً.
قالوا: فإنا لا ندعك فإن السباع تقتلك؟ قال سعيد: إن معي ربي يصرفها عني ويجعلها حرساً لي من كل سوء إن شاء الله تعالى.
قالوا: أفأنت نبي من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء ولكن عبد من عبيد الله خاطئ مذنب.
قالوا: احلف لنا أنك لا تبرح؟ فحلف لهم، فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح فإنه كره الدخول علي في الصومعة. فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة أقبلت ودنت من سعيد وتحككت وتمسحت به، ثم ربضت قريباً منه، ثم أقبل الأسد فصنع مثل ذلك. فلما رأى الراهب ذلك، وأصبحوا، نزل إليه وسأله عن شرائع الإسلام وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففسر سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب وحسن إسلامه. وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل وصلى عليه وقالوا: يا سعيد، حلفنا للحجاج بالطلاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه فمرنا بما شئت؟ قال: امضوا لشأنكم، فإنه لا بد من الرجوع لخالقي ولا راد لقضائه.
فساروا حتى وصلوا واسط فلما انتهوا قال لهم سعيد: يا معشر القوم قد تحرمت بكم وصحبتكم ولست أشك أن أجلي قد حضر وأن المدة قد انقضت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت وأستعد لمنكر ونكير وأذكر عذاب القبر وما يحثى علي من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون.
فقالوا لبعضهم: لا نريد ثراً بعد عين. وقال بعضهم: قد بلغتم أمنيتكم واستوجبتم جوائزكم من الأمير فلا تعجزوا عنه. فقال بعضهم: هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله.
فنظروا إلى سعيد فدمعت عيناه واغبر لونه ولم يأكل ولم يشرب ولم يضحك مذ لقوه. فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض، ليتنا لم نعرفك ولم نرسل إليك الويل لنا كيف ابتلينا، ما عذرنا عند خالقنا يوم المحشر الأكبر والمجاوبة له؟ وقال كفيله: أسألك يا سعيد بالله ألا ما زودتنا من دعائك وكلامك، فأنا لا ألقى مثلك أبداً؟ فدعا لهم سعيد ثم خلو سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه وهم مختفون في الليل كله، فلما انكشف عمود الصبح جاءهم سعيد ابن جبير فقرع الباب فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه وبكوا معه طويلاً، ثم ذهبوا به إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير. فلما مثل بين يديه قال: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير.
قال: أنت شقي بن كسير؟ قال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك؟ قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
قال: الغيب يعلمه غيرك.
قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً.
قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
قال: فما قولك في محمد؟ قال: نبي الرحمة.
قال: فما قولك في علي، أفي الجنة أم في النار؟ قال: لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما.
قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل.

قال: فأيهم أحب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي.
قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين، والطين تأكله النار.
قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب.
قال: ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فوضعه بين يديه. فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بآلات اللهو. فبكى سعيد. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد اختر أي قتلة تريد؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من الله بلى، وأما أنت فلا.
قال: اذهبوا به فاقتلوه.
فلما خرج من الباب ضحك فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده وقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عليك.
فأمر بالنطع فبسط بين يديه وقال: اقتلوه! قال: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين " .
قال: وجهوه لغير القبلة.
قال سعيد: " فأينما تولوا فثم وجه الله " .
قال: كبوه لوجهه، فقال سعيد: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
فقال الحجاج: اذبحوه.
فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.
فذبح على النطع، رحمه الله تعالى. فكان رأسه بعد قطعه يقول لا إله إلا الله. وعاش الحجاج بعدها خمسة عشر يوماً. وذلك في سنة خمس وتسعين وكان عمر سيعد رضي الله عنه تسعاً وأربعين سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان
كان يختم القرآن في ثلاث وكان يختم في رمضان سبع عشرة ختمة. قال إبراهيم بن علية: كان يعطيني أكياس الدنانير أقسمها في الصالحين، وكان يقول: لولا أن الله عز وجل ذكر اللواط في كتابه العزيز، ما ظننت أن أحداً يفعله.
قال الحافظ ابن عساكر: كان الوليد عند أهل الشام من أفضل خلفائهم، بني المسجد بدمشق وفرض للمجذومين ما يكفيهم وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادماً وكل أعمى قائداً.
وذكر أن جملة ما أنفق على المسجد الأموي أربعمائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار. وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب للقناديل، وما كمل بناءه إلا أخوه سليمان لما ولي الخلافة وفعل خيرات كثيرة وآثاراً حسنة، وبعد هذا كله فقد روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: لما أدرج في أكفانه وغلت يداه إلى عنقه، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ونسأله حسن الخاتمة.
خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان
فما يذكر من محاسنه: أن رجلاً دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله والأذان، فقال سليمان: أما أنشدك الله فقد عرفناه، فما الأذان؟ قال: قوله تعالى: " فأذن مؤذن بينهم: أن لعنة الله على الظالمين " .
فقال سليمان: ما ظلامتك؟ قال: ضيعتي الفلانية غلبني عليها عاملك فلان.
فنزل سليمان عن سريره ورفع البساط ووضع خده على الأرض وقال: والله لا رفعت خدي من الأرض حتى يكتب له برد ضيعته. فكتب الكتاب وهو واضع خده على الأرض ولما سمع كلام ربه الذي خلقه وخوله في نعمه خشي من لعن الله وطرده، رحمه الله.
صفات سليمان بن عبد الملك
قيل: أنه أطلق من سجن الحجاج ثلاثمائة ألف نفس ما بين رجل وامرأة، وصادر آل الحجاج واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً ومشيراً، وكان شرهاً في الأكل، نكاحاً.
قال ابن خلكان في ترجمته: أنه كان يأكل كل يوم نحو مائة رطل شامي.
قال محمد بن سيرين رحمه الله: سليمان افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإقامة الصلاة لمواقيتها الأولى وختمها باستخلافه لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
سليمان والدلفاء

وقال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام الأحمر مفروش بالديباج الأخضر فيوسط بستان ملتف قد أثمر وأينع، على رأسه وصائف كل واحدة منهم أحسن من صاحبتها، وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت فقلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.
وكان مطرقاً فرفع رأسه وقال: يا أبا زيد! في مثل هذا الحين تصالحنا.
فقلت: أصلح الله الأمير أو قامت القيامة؟ قال: نعم على أهل المحبة.
ثم أطرق ملياً ورفع رأسه وقال: يا أبا زيد: ما يطيب في يومنا هذا؟ قلت: أعز الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء ملفوفة لفاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها.
فأطرق سليمان ملياً لا يرد جواباً تتحدر من عينيه عبرات بلا شهيق فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه، ثم رفع رأسه فقال: يا أبا زيد حضرت في يوم انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك؟ قلت: نعم أيها الأمير، كنت جالساً على باب أخيك سعد بن عبد الملك، فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلتت من شبكة صياد عليها قميص سكب إسكندراني يبين منها بياض ثدييها وتدوير سرتها ونقش تكتها، وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان حقويها، ولها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها، وعينان مملؤتان سحراً، وأنف كأنه قصبة بلور، وفم كأنه جرح يقطر دماً، وهي تقول: عباد الله من لي بدواء من لا يسلو وعلاج من لا يسمو؟ طال الحجاب، وأبطأ الجواب، فالقلب طائر، والعقل عازب، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس، رحمة الله على قوم عاشوا تجلداً وماتوا كمداً، ولو كان إلى الصبر حيلة، وإلى العزاء سبيل، لكان أمراً جميلاً.
ثم أطرقت ملياً ورفعت رأسها فقلت: أيتها الجارية إنسية أم جنية سماوية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك وأذهلني حسن منطقك.
فسترت وجهها بكفها كأنها لم ترني ثم قالت: اعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد والمقاساة لصب معاند.
ثم انصرفت فوالله أصلح الله الأمير ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكرها وما رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها.
فقال سيلمان: يا أبا زيد، كاد الجهل يستفزني، والصبا يعاودني، والحلم يعزب عني لشجو ما سمعت. اعلم يا أبا زيد أن تلك الجارية التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها:
كأنما الذلفاء ياقوتة ... قد أخرجت من كيس دهقان
شراؤها على أخي بألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات إنما يموت بحبها، ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت هيبة، قم يا أبا زيد في دعة الله، يا غلام! ثقله ببدرة.
فأخذتها وانصرفت. قال: فلما أفضت الخلافة له صارت إليه الذلفاء فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء موثقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر من أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع، وكان لسليمان مغن يقال له سنان، كان به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضر فسطاطه بالقرب منه. فكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه فلم يزل في أكل وشرب وسرور وأتم حبور إلى أن انصرف شيء من الليل فذهب إلى فسطاطة، وذهب سنان أيضاً فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: تزيد قرى أصلحك الله؟ قال: وما قراكم؟ قالوا: أكل وشرب وسماع.
قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم غيرة أمير المؤمنين ونهيه إلا ما كان في مجلسه.
قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا.
قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه.
قالوا: غننا بصوت كذا وكذا.
قال: فشرع يتغنى بهذه الأبيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل لما نبه السحر
في ليلة البدر ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أم عنده القمر
لم يحجب الصوت حراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت ينحدر
لو مكنت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها في المشي تنفطر

قال: فسمعت الذلفاء صوت سنان. فخرجت إلى صحن الفسطاط، فجعلت لا تسمع شيئاً من حسن خلق ولطافة إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكناً في قلبها، فهملت عيناها وعلا نحيبها، فانتبه سليمان. فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحالة، فقال: ما هذا يا ذلفاء؟ فقالت:
ألا رب شخص رائع ومشوه ... قبيح المحيا واضع الأب والجد
يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمةٍ يعزى معاً وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا المحال، فوالله خامر قلبك منه. يا غلام: علي بسنان.
فدعت الذلفاء خادماً لها وقالت له: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذرته، فلك عشرة آلاف درهم، وأنت حر لوجه الله تعالى.
فخرج الرسولان فسبق رسول أمير المؤمنين فلما أتى به قال: يا سنان، ألم أنهك عن مثل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، حملين الشمول، وأنا عبد أمير المؤمنين وغرس نعمته، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عني فليفعل.
قال: قد عفوت عنك، ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة، وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة، ون الرجل إذا تغنى صغت إليه المرأة، وإياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك، انتهى.

جابر عثرات الكرام
قيل: كان في أيام سليمان رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد، كان له مروءة ظاهرة ونعمة حسنة وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على تلك الحالة حتى قعد به الدهر فاحتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم وكان يؤاسيهم، فواسوه ثم ملوه، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه، فقال لها: يا ابنة عمي، قد رأيت من إخواني تغيراً، وقد عزمت على أن ألزم بيتي إلى أن يأتيني الموت، فأغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائراً وكان يعرفه عكرمة الفياض الربعي متولي الجزيرة، وإنما سمي بذلك لأجل كرمه، فبينما هو في مجلسه إذ ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة الفياض: ما حاله؟ فقالوا: قد صار إلى أمر لا يوصف وإنه أغلق بابه ولزم بيته.
قال: أفما وجد خزيمة بن بشر مواسياً ولا مكافئاً؟ فقالوا: لا.
فأمسك عن الكلام ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد ثم أمر بإسراج دابته وخرج سراً من أهله. فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال. ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه وتقدم إلى الباب فدفعه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس، وقال: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلاً فوضعه عن يده ثم أمسك بلجام الدابة، وقال له: من أنت؟ جعلت فداك.
فقال له عكرمة: يا هذا ما جئتك في هذا الوقت والساعة أريد أن تعفني؟ قال: فما أقبله إلا أن عرفتني من أنت؟ فقال: أنا جابر عثرات الكرام.
قال: زدني.
قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى ابنة عمه، فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج والخير ولو كانت فلوساً فهي كثيرة. قومي فاسرجي.
قالت: لا سبيل إلى السراج.
فبات يلمسها بيده فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق، وأما عكرمة فإنه رجع إلى منزله فوجد امرأته قد فقدته وسألت عنه فأخبرت بركوبه فأنكرت ذلك وارتابت. وقالت له: والي الجزيرة يخرج بعد هدو من الليل منفرداً من غلمانه في سر من أهله إلا إلى زوجة أو سرية.
فقال: اعلمي أني ما خرجت في واحدة منها.
قالت: فخبرني فيما خرجت؟ قال: يا هذه ما خرجت في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد.
قالت: لا بد أن تخبرني؟ قال: تكتمينه إذاً.
قالت: فإني أفعل.
فأخبرها بالقصة على وجهها وما كان من قوله ورده عليه. ثم قال أتحبين أن أحلف لك أيضاً؟ قالت: لا فإن قلبي قد سكن وركن إلى ما ذكرت.
وأما خزيمة فلما أصبح صالح الغرماء وأصلح ما كان من حاله ثم إنه تجهز يريد سليمان بن عبد الملك، وكان نازلاً يومئذ بفلسطين، فلما وقف ببابه واستأذن دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهوراً بمروءته وكرمه. وكان سليمان عارفاً به فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة فقال له سليمان بن عبد الملك: يا خزيمة، ما أبطأك عنا؟ قال: سوء الحال.
قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي يا أمير المؤمنين.
قال: فبم نهضت إلينا الآن؟

قال: لم أعلم يا أمير المؤمنين إلا أني بعد هدو من الليل لم أشعر إلا ورجل يطرق الباب وكان من أمره كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخره.
فقال سليمان: هل تعرف هذا الرجل؟ فقال: خزيمة: ما عرفته يا أمير المؤمنين لأنه كان متنكراً وما سمعت من لفظه إلا إني جابر عثرات الكرام.
قال: فتلهب وتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافأناه على مروءته، ثم قال: علي بقناة.
فأتى بها فعقد لخزيمة بن بشر المذكور على الجزيرة عاملاً عوضاً عن عكرمة الفياض. فخرج خزيمة طالباً الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه، فسلما على بعضهما ثم سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد. فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ لعكرمة كفيل وأن يحاسب، فحوسب فوجد عليه فضول أموالٍ كثيرة فطالبه بأدائها قال: ما لي إلى شيء من ذلك سبيل.
قال: لا بد منها.
قال: لست عندي فاصنع ما أنت صانع.
فأمر به إلى الحبس ثم أنفذ إليه من يطالبه فأرسل يقول: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت.
فأمر أن يكبل بالحديد فأقام شهراً كذلك أو أكثر فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه خبره فجذعت واغتمت لذلك ثم دعت مولاة لها، وكانت ذات عقل ومعرفة، وقالت لها: امض الساعة إلى باب هذا الأمير خزيمة بن بشر وقولي: عندي نصيحة، فإذا طلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر، فإذا دخلت عليه فسليه أن يخليك، فإذا فعل ذلك فقولي: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك. كافأته بالحبس والضيق والحديد.
ففعلت الجارية ذلك. فلما سمع خزيمة كلامها نادى برفيع صوته وا سوأتاه، وإنه لهو؟ قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وبعث إلى وجوه أهل البلد فجمعهم إليه وأتى بهم إلى باب الحبس ففتح ودخل خزيمة ومن معه فرآه قاعداً في قاعة الحبس متغيراً أضناه الضر والألم وثقل القيود فلما نظر إليه عكرمة والى الناس أحشمه ذلك فنكس رأسه فأقبل خزيمة حتى أكب على رأسه فقبله فرفع عكرمة إليه رأسه وقال: ما أعقب هذا منك؟ قال: كريم فعالك وسوء مكافأتي.
قال: يغفر الله لنا ولك.
ثم أتي بالحداد ففك القيود عنه وأمر خزيمة أن توضع القيود في رجل نفسه.
فقال عكرمة: ماذا تريد.؟ فقال: أريد أن ينالين من الضر مثل ما نالك.
فقال: أقسم عليك بالله لا تفعل.
فخرجا جميعاً حتى وصلا إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف عنه. فقال: ما أنت ببارح.
قال: وما تريد؟ قال: أغير حالك وإن حيائي من بنت عمك أشد من حيائي منك.
ثم أمر بالحمام فأهلي ودخلاه معاً فقام خزيمة وتولى أمره وخدمه بنفسه ثم خرجا فخلع عليه وحمله وحمل معه مالاً كثيراً ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه، فاعتذر إليها وتذمم من ذلك.
قال: ثم سأله بعد ذلك أن يسير معه إلى سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك وسارا جميعاً حتى قدما على سليمان بن عبد الملك فدخل الحاجب فأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا؟ ما هذا إلا لحادث عظيم! فلما دخل قال له قبل أن يسلم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: الخير يا أمير المؤمنين.
قال: فما الذي أقدمك؟ قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام، فأحببت أن أسرك به لما رأيت من تلهفك وتشوقك إلى رؤيته.
قال: ومن هو؟ قال: عكرمة الفياض؟ قال: فأذن له بالدخول.
فدخل وسلم عليه بالخلافة فرحب به وأدناه من مجلسه وقال: يا عكرمة ما كان خيرك له إلا وبالاً لعيك. ثم قال سليمان: اكتب حوائجك كلها وما تحتاج إليه في رقعة. ففعل ذلك، فأمر بقضائها منه ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار وسفطين ثياباً، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وقال له: أمر خزيمة إليك إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته.
قال بل اردده إلى عمله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفا من عنده جميعاً ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته، والله أعلم.

خلافة عمر بن عبد العزيز
رضي الله عنه
عمر والشعراء

أمه أم عصام بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو تابعي جليل. قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز. كان، رضي الله عنه عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً مؤمناً تقياً صادقاً، أزال ما كانت بنو أمية تذكر به علياً رضي الله عنه، على المنابر وجعل مكان ذلك قوله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية، ولما ولي الخلافة رضي الله عنه، وفد الشعراء إليه وأقاموا ببابه أياماً لا يؤذه لم فبينما هم كذلك إذ مر بهم رجاء بن حيوة وكان جليس عمر فلما رآه جرير دخلاً قام إليه وأنشد يقول أبياتاً منها:
يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
فدخل ولم يذكر شيئاً من أمرهم ثم مر بهم عدي بن أرطاة فقال جرير أبياتاً آخرها قوله:
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
قال: فدخل عدي على عمر، وقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة.
فقال: ويحك يا عدي ما لي وللشعراء؟ قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطي ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.
قال: كيف.؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه.
قال: أو تروي من قوله.
قال: نعم، وأنشد:
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمراً مدنساً ... وأطفأت بالإسلام ناراً تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمداً ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ... وقد كان قدماً ركنه قد تهدما
فقال: ويلك يا عدي، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن أبي ربيعة.
قال: أوليس هو الذي يقول:
ثم نبهتها فمدت كعاباً ... طفلةً ما تبين رجع الكلام
ساعة، ثم إنها لي قالت: ... ويلتي قد عجلت يا ابن الكرام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه لكان أستر له: لا يدخل علي والله أبداً، فمن بالباب سواه؟ قال: الفرزدق.
قال: أوليس هو الذي يقول:
هما دلتا في من ثمانين قامةً ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فما استوت رجلاي في الأرض قالتا: ... أحي فيرجى أم قتيل نحاذره؟
لا يدخل علي والله أبداً، فمن سواه منهم.
قال: الأخطل.
قال: يا عدي، أوليس هو الذي قال:
ولست بصائم رمضان يوماً ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالعير أدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي أبداً وهو كافر، فمن بالباب سوى من ذكرت؟ قال: الأحوص.
قال: أوليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها وأتبعه
فمن بالباب دون من ذكرت أيضاً؟ قال: جميل بن معمر.
قال: أوليس هو الذي يقول:
فيا ليتنا نحيا جميعاً، وإن أمت ... يوافق موتي موتها وضريحها
فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد صالحاً لكان أصلح. والله لا يدخل علي بداً، فهل أحد سوى من ذكرت؟ قال: جرير.
قال: أوليس هو الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة، فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهو الذي يدخل. فلما مثل بين يديه قال: يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقاً.
فأنشد قصيدته الرائية المشهورة التي منها:
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما ترجو من المطر
جاء الخلافة، أو كنت له قدراً ... كما أتى موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فقال: يا جرير لا أرى لك فيما ههنا حقاً.

قال: بلى يا أمير المؤمنين! أنا ابن سبيل منقطع.
فأعطاه من طيب ماله مائة درهم وقال: ويحك، يا جرير، لقد ولينا هذا الأمر ولم نملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام: أعطه المائة الأخرى.
فأخذها جرير وقال: والله لهي أحب مال اكتسبته في عمري. ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك يا جرير؟ فقال: ما يسوءكم. خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض وأنشد يقول:
رأيت رقي الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا

خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان
الوليد بن هشام ويونس الكاتب والجارية
قال أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني: قال يونس الكاتب: خرجت إلى الشام في خلافة هشام بن عبد الملك ومعي جارية غانية وكنت علمتها جميع ما تحتاج إليه، وأنا أقدر فيها أنها تساوي مائة ألف درهم.
قال: فلما قربنا من الشام نزلت القافلة على غدير من الماء ونزلت ناحية منه، وأصبت من طعام كان معي وأخرجت ركوة كان فيها نبيذ. فبينما أنا كذلك، وإذا بفتى حسن الوجه والهيئة على فرس أشقر ومعه خادمان فسلم علي وقال: أتقبل ضيفاً؟ قلت: نعم.
فأخذت بركابه ونزل وقال: اسقنا من شرابك فسقيته، فقال: إن شئت أن تغني صوتاً فغنيته:
حازت من الحسن ما لا حازه البشر ... فلذ لي في هواها الدمع والسهر
فطرب طرباً شديداً واستعاده مراراً ثم قال: قل لجاريتك فلتغن، فأمرتها فغنت:
حورية حار قلبي في محاسنها ... فلا قضيب ولا شمس ولا قمر
فطرب طرباً شديداً واستعاده مراراً. ولم يزل مقيماً إلى أن صلينا العشاء، ثم قال: ما أقدمك علينا في هذا البلد.؟ قلت: أردت بيع جاريتي هذه.
قال: فكم أملت فيها من الثمن؟ قلت: ما أقضي به ديني وأصلح به حالي.
قال: ثلاثون ألفاً.
قلت: ما أحوجني إلى فضل الله والمزيد فيه.
قال: أيقنعك أربعون ألفاً؟ قلت: فيها قضاء ديني وأبقى صفر اليد.
قال: قد أخذناها بخمسين ألفاً من الدراهم ولك بعد ذلك كسوة ونفقة طريقك وأشركك في حالي أبداً ما بقيت.
فقلت: قد بعتكها.
قال: أفتثق بي أن أوصل ذلك غداً وأحملها معي، أو تكون عندك إلى أن أحمل ذلك إليك غداً؟ فحملني السكر والحياء مع الخشية منه على أن قلت: نعم قد وثقت بك، فخذها بارك الله لك فيها.
فقال لأحد غلاميه: احملها على دابتك وارتدف وراءها وامض بها.
ثم ركب فرسه وودعني وانصرف، فما هو إلا أن غاب عني ساعة فعرفت موضع خطإي وغلطي وقلت: ماذا صنعت بنفسي؟ أسلم جاريتي إلى رجل لا أعرفه ولا أدري من هو، وهب أني عرفته فمن أين الصلة إليه. فجلست متفكراً إلى أن صليت الصبح. ودخلت أصحابي دمشق وجلست حائراً لا أدري ما أصنع وقرعتني الشمس. وكرهت المقام، فهممت بالدخول إلى دمشق ثم قلت: لم آمن أن الرسول يأتي فلا يجدني فأكون قد جنيت على نفسي جناية ثانية. فجلست في ظل جدار هناك فلما أضحى النهار، وإذا أحد العلامين اللذين كانا معه قد أقبل علي فما أذكر أني سررت بشيء أعظم من سروري ذلك الوقت بالنظر إليه فقال لي: يا سيدي، أبطأنا عليك.
فلم أذكر له شيئاً مما كان بي ثم قال لي: أتعرف الرجل.؟ قلت: لا.
قال: هو الوليد بن هشام ولي العهد.
فسكت عند ذلك ثم قال: قم فاركب.
وإذا معه دابة فركبتها وسرنا إلى أن وصلنا إلى داره فدخلت إليه، وإذا بالجارية قد وثبت وسلمت علي فقلت: ما كان من أمرك؟ " قالت: أنزلني هذه الحجرة وأمر لي بما أحتاج إليه.
فجلست عندها ساعة وإذا أنا قد أتاني خادم له فقال لي: قم.
فقمت فأدخلني على سيده، فإذا هو صاحبي بالأمس، وهو جالس على سريره فقال: من تكون؟ فقلت: يونس الكاتب.
قال: مرحباً بك قد كنت والله إليك بضنين وكنت أسمع بخبرك فكيف كان مبيتك في ليلتك؟ قلت: بخير أعزك الله.
قال: فلعلك ندمت على ما كان منك البارحة وقلت: دفعت جاريتي إلى رجل لا أعرفه ولا أعرف اسمه ولا من أي البلاد هو؟ فقلت: معاذ الله أيها الأمير أن أندم ولو أهديتها إلى الأمير كانت أقل وأخس، وما قدر هذه الجارية؟ فقال: والله لكني ندمت على أخذها منك، وقلت: رجل غريب لا يعرفني وقد دهمته وسفهت عليه في استعجالي لأخذ الجارية. أفتذكر ما كن بيننا؟ قلت: نعم.

قال: بعتني هذه الجارية بخمسين ألف درهم. قلت: نعم.
قال: هات يا غلام المال. فوضعوها بين يديه فقال: هات يا غلام ألف دينار، فتي بها ثم قال: يا غلام هات خمسماية دينار أخرى، فجاء بها ثم قال هذا ثمن جاريتك فضمه إليك، وهذه ألف دينار لحسن ظنك بنا، وهذه الخمسمائة دينار لنفقة طريقك، وما تبتاعه لأهلك، رضيت؟ قلت: رضيت، وقبلت يديه وقلت: والله قد ملأت عيني ويدي.
ثم قال: والله إني لم أدخل بها ولا شبعت من غنائها، علي بها فجاءت فأمرها بالجلوس فجلست فقال لها غني، فأنشدت تقول:
أيا من حاز كل الحسن طراً ... ويا حلو الشمائل والدلال
جميع الحسن في عجم وعرب ... وما في الكل مثلك يا غزالي
تعطف يا مليح على محب ... بوعدك أو بطيف من خيال
حلا لي فيك ذلي وافتضاحي ... وطاب لمقلتي سهر الليالي
وما أنا فيك أول مستهام ... فكم قبلي قتلت من الرجال
رضيت لي من الدنيا نصيباً ... وأنت أعز من روحي ومالي
فطرب طرباً شديداً وشكر حسن تأديبي لها وتعليمي إياها ثم قال: يا غلام قدم له دابة بسرجها وآلتها لركوبه وبغلاً لحمل حوائجه وثقله. ثم قال: يا يونس، إذا بلغك أن هذا الأمر أفضى إلي فألحق بي، فوالله لأملأن لك يدك ولأعلين قدرك ولأغينك ما بقيت.
قال: فأخذت المال وانصرفت. فلما أفضت الخلافة إليه سرت إليه فوفى والله بوعده وزاد في إكرامي وكنت معه على أسر حال وأسنى منزلة وقد اتسعت أحوالي وكثرت أموالي وصار لي من الضياع والأملاك ما يكفيني إلى مماتي ويكفي من بعدي ولم أزل معه حتى قتل، عفا الله عنه.

هشام وزين العابدين والفرزدق
وقيل: إنه لما حج هشام في أيام أبيه طاف بالبيت وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أهل الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود تنحى له الناس حتى استلمه، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان أبو فراس الفرزدق حاضراً فقال: أنا والله أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس، فقال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
في كفه خيزران ريحه عبقٌ ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
ينشق نور الهدى من نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت مفارزه والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أ،بياء الله قد ختموا
الله شرفه قدماً وعظمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغياهب والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهمو ... كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ... خلق كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أوله نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فلما سمع هشام ذلك غضب وحبس الفرزدق، فأنفذ له زين العابدين رضي الله عنه، اثني عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله لا للعطاء والصلات. فقال زين العابدين: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نعود فيه. فقبلها الفرزدق، انتهى.

هشام والغلام الفصيح
مما يحكى أن هشام بن عبد الملك كان ذات يوم في صيده وقنصه إذ نظر إلى ظبي تتبعه الكلاب فتبعته وأحالته إلى خباء أعرابي يرعى غنماً، فقال هشام: يا صبي دونك هذا الظبي فأتني به.
فرفع الصبي رأسه إليه وقال له: يا جاهل بقدر الأخيار لقد نظرت إلي باستصغار وكلمتني باحتقار فكلامك كلام جبار وفعلك فعل حمار.
فقال هشام: يا صبي، ونيلك ما تعرفني؟ فقال: قد عرفني بك سوء أدبك إذ بدأتني بكلامك قبل سلامك.
فقال: ويلك أنا هشام بن عبد الملك.
فقال له الأعرابي: لا قرب دارك ولا حيي مزارك، ما أكثر كلامك وأقل إكرامك.
فما استتم حتى أحدقت به الجيوش من كل جانب، كل منهم يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال هشام: أقصروا الكلام واحفظوا الغلام.
فقبضوا عليه ورجع هشام إلى قصره وجلس في مجلسه وقال: علي بالغلام البدوي، فأتي به.
فلما رأى الغلام كثرة الغلمان والحجاب والوزراء والكتاب وأبناء الدولة وأرباب الصولة لم يكترث بهم ولم يسأل عنهم بل جعل ذقنه على صدره وجعل ينظر حيث تقع قدماه إلى أن وصل إلى هشام فوقف بين يديه، ونكس رأسه إلى الأرض، وسكت وامتنع من الكلام.
فقال بعض الخدام: يا كلب العرب! ما منعك أن تسلم على أمير المؤمنين؟ فالتفت إليه مغضباً وقال: يا برذعة الحمار، منعني من ذلك طول الطريق ونهز الدرجة والتعويق.
فقال هشام وقد تزايد به الغضب: يا صبي قد حضرت في يوم حضر فيه أجلك وخاب فيه أملك وانصرم فيه عمرك.
فقال له الصبي: والله يا هشام لئن كان في المدة تأخير ما ضرني من كلامك لا قليل ولا كثير.
فقال له الحاجب: بلغ من أمرك ومحلك يا أخس العرب أن تتخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة.
فقال له مسرعاً: لقيك الخذل ولامك الويل والهبل: ما سمعت ما قال الله تعالى: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " . فإذا كان الله يجادل جدالاً فمن هشام حتى لا يخاطب خطاباً؟ فعند ذلك قام هشام واغتاظ غيظاً شديداً، وقال: يا سياف علي برأس هذا الغلام فقد أكثر الكلام فيما لا يخطر على الأوهام.
فقام السياف وأخذ الغلام وأبركه في نطع الدم. سل سيف النقمة على رأسه. وقال: يا أمير المؤمنين، عبدك المدل بنفسه المتقلب في رمسه، أأضرب عنقه، وأنا بريء من دمه؟ قال: نعم.
فاستأذنه ثانية فأذن له ثم استأذنه ثالثة فهم أن يأذن له فضحك الصبي حتى بدت نواجذه، فازداد منه تعجباً وقال: يا صبي أظنك معتوهاً. ترى أنك مفارق الدنيا ومزايل الحياة وأنت تضحك هزأ بنفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لئن كان في المدة تأخير ولم يكن في الأجل تقصير ما ضرني منك قليل ولا كثير، ولكن أبيات حضرت الساعة فاسمعها، فقتلي لا يفوت فكثر الصموت.
فقال هشام: هت وأوجز، فهذا أول أوقاتك من الآخرة وآخر أوقاتك من الدنيا.
فأنشد يقول:
نبئت أن الباز علق مرة ... عصفور بر ساقه المقدور
فتعلق العصفور في إظفاره ... والباز منهمك عليه يطير
فأتى لسان الحال يخبر قائلاً: ... ها قد ظفرت وإنني مأسور
مثلي فما يغني لمثلك جوعةً ... ولئن أكلت فإنني محقور
فتبسم الباز المدل بنفسه ... طرباً وأطلق ذلك العصفور

قال: فتبسم هشام وقال: وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تلفظ بهذا من أول وقت من أوقاته وطلب، ما دون الخلافة، لأعطيته، يا خادم: احش فاهه دراً وجوهراً وأحسن جائزته ودعه يمضي إلى حال سبيله.
؟

عروة بن أذنية وهشام بن عبد الملك
قيل: وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إله فقره فقال: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعيبني تطلبه ... وإن قعدت أتاني ليس يعيبني
وخرجت الآن من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وعظت فأبلغت.
وخرج وركب ناقته وكر إلى الحجاز راجعاً، فلما كان الليل نام هشام على فراشه فذكر عروة وقال: رجل من قريش قال حكمة ووفد علي فرددته خائباً. فلما أصبح وجه ليه بألف دينار فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة فأعطاه المال فقال: أبلغ عني أمير المؤمنين السلام، وقل له: كيف رأيت قولي، سعت فأكديت، فرجعت خائباً، فجلست في داري فأتاني رزقي في منزلي، انتهى.
ابتداء الدولة العباسية
كان القائم بهذه الدولة أبو مسلم الخراساني، وكان اسمه عبد الرحمن ابن مسلم، فمن قوله:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى بجهدٍ في دمارهم ... والقوم في غفلة والناس قد رقدوا
حتى ضربتهمو بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
ولهم أبو عبد الله السفاح. ذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء عن خالد بن صفوان أنه دخل يوماً على أبي العباس السفاح وليس عنده أحد، فقال: يا أمير المؤمنين إني والله ما زلت منذ قلدك الله خلافته أطلب أن أصير معك بمثل هذا الموقف في الخلوة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب فعل حتى نفرغ.
فأمر الحاجب بذلك، فقال له: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك واستجلبت الفكر فيك، فلم أر أحداً له قدرة واتساع في الاستمتاع بالنساء ولا أضيق فيهن عيشاً منك. إنك ملكت نفسك امرأة من نساء العالمين فاقتصرت عليها، فإن مرضت مرضت وإن غابت غبت، وإن عزلت عزلت وحرمت، يا أمير المؤمنين، على نفسك التلذذ بما يشتهى منهن، فإن منهن الطويلة التي تشتهى لحسنها، والبيضاء التي تحب لرؤيتها، والسمراء اللعساء، والصفراء الذهبية، ومولدات المدينة والطائف واليمامة ذوات الألسنة العذبة والجواب الحاضر، وبنات سائر الملوك وما يشتهى من نضارتهن ونظافتهن.
وتخلل خالد لسانه فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن. فلما فرغ من كلامه قال له السفاح: ويحك ملأت مسامعي، ما شغل خاطري والله ما سلك مسامعي كلام أحسن من هذا فأعد علي كلامك فقد وقع مني موقعاً.
فأعاد عليه خالد كلامه بأحسن مما ابتدأ به. ثم قال له: انصرف! فانصرف وبقي أبو العباس مفكراً. فدخلت عليه أم سلمة زوجته، وكان قد حلف لها أنه لا يتزوج عليها سرية ووفى لها. فلما رأته على تلك الحالة قالت له: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حدث شيء تكرهه أو أتاك خبر ارتعت له؟ قال: لا.
فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد فقالت له: وما قلت لابن الفاعلة؟ فقال لها: أينصحني وتشتميه؟ فخرجت إلى مواليها وأمرتهم بضرب خالد.
قال خالد: فخرجت من الدار مسروراً بما ألقيت إلى أمير المؤمنين. ولم أسك في الصلة. فبينما أنا واقف إذ أقبل موالي أم سلمة يسألون عني فحققت الجائزة فقلت لهم: ها أنا واقف. فاستبق إلي أحدهم بخشبة فغمزت برذوني فلحقني وضرب كفل البرذون، وركضت ففررت منهم واستخفيت في منزلي أياماً ووقع في قلبي أني أمنت من أم سلمة. فبينما أنا ذات يوم جالس في المنزل فلم أشعر إلا بقوم قد هجموا علي فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق إلى قلبي أنه الموت فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لم أر دم شيخ أضيع من دمي. فركبت إلى دار أمير المؤمنين فأصبته جالساً ولحظت في المجلس بيتاً عليه ستور رقاق وسمعت حساً خفيفاً خلف الستر فأجلسني. ثم قال: يا خالد أنت وصفت لأمير المؤمنين صفة فأعدها.

فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب ما اشتقت اسم الضرتين إلا من الضر وإن أحداً لم يكثر من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضر وتنغيص.
فقال السفاح: لم يكن هذا من كلامك أولاً؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث من النساء يدخلن على الرجل البؤس وتشييب الرأس.
فقال: برئت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعت هذا منك أولاً أو مر في حديثك.
قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الأربع من النساء شر مجتمع لصاحبهن يشيبنه ويهرمنه.
قال: والله ما سمعت منك هذا أولاً؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن أبكار الإماء رجال إلا نه ليست لهن خصاء.
قال أمير المؤمنين: أفتكذبني؟ قلت: أفتقتلني؟ قال خالد، فسمعت ضحكاً خلف الستر، ثم قلت وأخبرتك إن عندك ريحانة قريش وأنت تطمع بعينيك إلى النساء والجواري.
فقيل لي من وراء الستر: صدقت يا عماه هذا حديثك ولكنه غير حديثك ونطق بما في خاطره عن لسانك.
فقال السفاح: ما بك قاتلك الله؟ قال خالد، فانسللت وخرجت فبعثت إلي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذوناً وتخت ثياب، انتهى.

أبو دلامة والسفاح
وروي أن أبو دلامة الشاعر كان واقفاً بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال: سلني حاجتك؟ فقال له أبو دلامة: أريد كلب صيد.
فقال: أعطوه إياه.
فقال: ودابة أتصيد عليها.
فقال: أعطوه دابة.
فقال: وغلاماً يقود الكلب والصيد.
فقال: أعطوه غلاماً.
فقال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه.
فقال: أعطوه جارية.
فقال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها.
فقال: أعطوه داراً تجمعهم.
ثم قال: وإن تكن لهم الدار فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك عشرة ضياع عامرة وعشرة غامرة من فيافي بني إسرائيل.
قال: وما معنى الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لا نبات فيها.
قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني سعد.
فضحك منه وقال: أعطوه كلها عامرة.
قال الحافظ: فانظر إلى حذقه بالمسالة ولطفه فيها كيف ابتدأ بكلب صيد فصهل القضية وجعل يأتي بمسألة مسألة على ترتيب وفكاهة حتى نال ما سأله. ولو سأل ذلك بديهة لما وصل إليها، بارك الله فيه، انتهى.
راعي الذمم
وروي عن الحسن بن الحصين. قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس كان من جملة من اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك فلم يزل مختفياً إلى أن أضناه وأضجره الاختفاء، فأخذ له أمان من السفاح، فقال له: لقد مكثت زماناً طويلاً مختفياً فحدثني بأعجب ما رأيت في اختفائك، فإنها كانت أيام تكدير.
فقال: يا أمير المؤمنين، وهل سمع بأعجب من حديثي؟ لقد كنت مختفياً في منزل أنظر منه إلى البطحاء فبينما أنا على مثل ذلك، وإذا بأعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة فوقع في ذهني أنها خرجت تطلبني، فخرجت متنكراً حتى أتيت الكوفة من غير الطريق، وأنا والله متحير، ولا أعرف بها أحداً، وإذا أنا بباب كبير في رحبة منيعة. فدخلت في تلك الرحبة فوقفت قريباً من الدار، وإذا برجل حسن الهيئة، وهو راكب فرساً ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه، فدخل الحربة فرآني واقفاً مرتاباً فقال لي: ألك حاجة؟ قلت: غريب خائف من القتل.
قال: ادخل قد خلت إلى حجرة في داره، فقال: هذه لك، وهيأ لي ما أحتاج إليه من فرش وآنية ولباس وطعام وشراب، وأقمت عنده ووالله ما سألني قط من أنا، ولا ممن أخاف؟ وهو في أثناء ذلك يركب في كل يوم ويعود تعباً متأسفاً كأنه يطلب شيئاً فاته ولم يجده، فقلت له يوماً: أراك تركب في كل يوم وتعون تعباً متأسفاً كأنك تطلب شيئاً فاتك؟ فقال لي: إن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك قتل أبي وقد بلغني أنه مختف من السفاح، وأنا أطلبه لعلي أجده وآخذ بثأري منه.
فتعجبت والله يا أمير المؤمنين من هربي وشؤم بختي الذي ساقني إلى منزل رجل يريد قتلي ويطلب ثأره مني. فكرهت الحياة واستعجلت الموت لما نالني من الشدة، فسألت الرجل عن اسم أبيه وعن سبب قتله، فعرفني الخبر فوجدته صحيحاً، فقلت: يا هذا قد وجب علي حقك، وأن من حقك أن أدلك على قاتل أبيك وقرب إليك الخطوة وأسهل عليك ما بعد.
فقال: أتعلم أين هو؟ قلت: نعم.
فقال: أين هو؟ فقلت: والله هو أنا فخذ بثأرك مني.

فقال لي: أظن أن الاختفاء أضناك فكرهت الحياة.
قلت: نعم والله أنا قتلته يوم كذا وكذا.
فلما علم صدقي تغير لونه واحمرت عيناه وأطرق رأسه ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال لي: أما أبي فسيلقاك غداً يوم القيامة فيحاكمك عند من لا تخفى عليه خافية، وأما أنا فلست مخفراً ذمتي ولا مضيعاً نزيلي، أخرج عني فإني لا آمن من نفسي عليك بعد هذا اليوم.
ثم وثب يا أمير المؤمنين إلى صندوق فأخرج منه صرة فيها خمسمائة دينار وقال: خذ هذه واستعن بها على اختفائك.
فكرهت أخذها وخرجت من عنده وهو أكرم رجل رأيت. فبقي السفاح يهتز طرباً ويتعجب.

مفاخرة اليمن ومضر
وعن الهيثم بن عدي. قال كان أبو العباس السفاح تعجبه المسامرة ومنازعة الرجال فحضرت ذات ليلة في مسامرة إبراهيم بن مخرمة الكندي وناس من بني الحارث بن كعب وهم أخواله وخالد بن صفوان بن إبراهيم التميمي. فخاضوا في الحديث وتذاكروا مضر واليمن فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إن اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا وكانت لهم القرى ولم يزالوا ملوكاً أرباباً وورثوا ذلك كابراً عن كابر أولاً عن آخر منهم النعمانيات والمنذريات والقابوسيات والتبابعة، ومنهم من مدحته الزبر، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم من كلمه الذئب، ومنهم الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً. وليس شيء له خطر إلا وإليهم ينسب من فرس رائع أو سيف قاطع أو درع حصينة أو حلة مصونة أو درة مكنونة، إن سئلوا أعطوا وإن سيموا أبوا، وإن نزل بهم ضيف قروا لا يبلغهم مكابر، ولا ينالهم مفاخر، هم العرب العرباء، وغيرهم المتعربة.
قال أبو العباس السفاح: ما أظن التميمي يرضى بقولك. ثم قال: ما تقول يا خالد؟ قال: إن أذنت في الكلام تكلمت.
قال: أذنت لك في الكلام فتكلم ولا تهب أحد.
فقال: أخطأ يا أمير المؤمنين المقتحم بغير علم والناطق بغير صواب، فكيف يكون ما قال، وإن القوم ليست لهم ألسن فصيحة ولا حجة رجيحة. نزل به كتاب ولا جاءت به ا سنة، وهم منا على منزلتين: إن حادوا عن قصدنا أكلوا، وإن جازوا حكمنا قتلوا، يفخرون علينا بالنعمانيات والمنذريات وغير ذلك مما سنأتي عليه، ونفخر عليهم بخير الأنام وأكرم الكرام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ولله المنة علينا وعليهم لقد كانوا أتباعه فبه غزوا وله أكرموا، فمنا النبي صلى الله عليه وسلم ومنا الخليفة المرتضى، ولنا البيت المعمور والمسعى وزمزم والمقام والمنبر والركن والحطيم والمشاعر والحجابة والبطحاء مع ما لا يخفى من المآثر ولا يدرك من المفاخر. فليس يعدل بنا عادل ولا يبلغ فضلنا قول قائل ومنا الصديق والفاروق والوصي وأسد الله وسيد الشهداء ذو الجناحين وسيف الله، عرفوا الله وأتاهم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه ومن عادانا اصطلمناه.
ثم التفت إلى إبراهيم فقال: أعالم أنت بلغة قومك؟ قال: نعم.
قال: فما اسم العين؟ قال: الجمجمة.
قال: فما اسم السن؟ قال: الميذن.
قال: فما اسم الأذن؟ قال: الصنارة.
قال: فما اسم الأصابع؟ قال: الشناتر.
قال: فما اسم اللحية؟ قال: الذئب.
قال: فما اسم الذئب؟ قال: الكنع.
قال: أفمؤمن أنت بكتاب الله؟ قال: نعم.
قال: فإن الله تعالى يقول: " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " ، وقال تعالى: " بلسانٍ عربي مبين " ، وقال: " وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومهِ " . فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل، ألم تر أن الله تعالى قال: العين بالعين، ولم يقل: الجمجمة بالجمجمة؛ وقال: السن بالسن، ولم يقل الميذن بالميذن؛ وقال: الأذن بالأذن، ولم يقل الصنارة بالصنارة، وقال: " يجعلون أصابعهم في آذانهم " ، ولم يقل شناترهم. وقال: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، ولم يقل بذنبي. وقال تعالى: فأكله الذئب، ولم يقل فأكله الكنع. ثم قال أسألك عن أربع إن أقررت بهن قهرت وإن جحدتهن كفرت.
قال: وما هن؟ قال: الرسول منا أو منكم؟ قال: منكم.
قال: فالقرآن نزل علينا أو عليكم؟ قال: عليكم.
قال: فالبيت الحرام لنا أو لكم؟ قال: لكم.
قال: فالخلافة فينا أو فيكم؟ قال: فيكم.
قال خالد: فما كان بعد هذه الأربع فهو لكم.
خلافة أبي جعفر المنصور

قيل: إنه كان يحفظ الشعر من مرة، وله مملوك يحفظه من مرتين، وكان له جارية تحفظه من ثلاث مرات، وكان بخيلاً جداً حتى إنه كان يلقب بالدوانيقي لأنه كان يحاسب على الدوانيق، فكان إذا جاء شاعر بقصيدة قال له: إن كانت مطوقة بأن يكون أحد يحفظها أو ا؛د أنشأها: أي بأن كان أتى بها أحد قبلك، فلا نعطيك لها جائزة، وإن لم يكن أحد يحفظها نعطيك زنة ما هي مكتوبة فيه، فيقرأ الشاعر القصيدة فيحفظها الخليفة من أول مرة، ولو كانت ألف بيت، ويقول للشاعر اسمعها مني وينشدها بكمالها، ثم يقول له: هذا المملوك يحفظها، وقد سمعها المملوك مرتين، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة فيقرؤها، ثم يقول الخليفة: وهذه الجارية التي خلف الستارة تحفظها أيضاً وقد سمعتها الجارية ثلاث مرات فتقرؤها بحروفها فيذهب الشاعر بغير شيء.
قال الراوي: وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه فنظم أبياتاً صعبة وكتبها على قطعة عمود من رخام ولفها في عباءة وجعلها على ظهر بعير وغير حليته في صفة أعرابي غريب وضرب له لثاماً ولم يبين منه غير عينيه، وجاء إلى الخليفة وقال: إني امتدحت أمير المؤمنين بقصيدة. فقال: يا أخا العرب إن كانت لغيرك لا نعطيك عليها جائزة وإلا نعطيك زنة ما هي مكتوبة عليه. فأنشد الأصمعي هذه القصيدة:
صوت صفير البلبلهيج قلبي الثملالماء والزهر معا
مع زهر لحظ المقلوأنت يا سيد دليوسيدي وموللي
وكم وكم تيمنيغزيل عقيقيقطفت من وجنته
باللثم ورد الخجلوقلت بس بسبسنيفلم يجد بالقبل
وقال لا لا لللاوقد غدا مهروليوالخود مالت طربا
من فعل هذا الرجلوولولت ولولةًولي ولي يا ويللي
فقلت لا تولوليوبيني اللؤلؤليلما رأته أشمطا
يريد غير القبلوبعده ما يكتفيإلا بطيب الوصللي
قالت له حين كذاانهض وجد بالنقليوفتيةٍ سقونني
قهيوة كالعسلليشممتها في أنفيأزكى من القرنفل
في وسط بستان حليبالزهر والسرولليوالعود دندن دنلي
والطبل طبطبطبليوالرقص قد طبطليوالسقف قد سقسقلي
شووا شووا وشاهشواعلى ورق سفرجليوغرد القمري يصيح
من ملل في ملليفلو تراني راكباًعلى حمار أهزلي
يمشي على ثلاثةكمشية العرنجلوالناس ترجمجملي
في السوق بالقلقليوالكل كعكع كعكعخلفي ومن حوللي
لكن مشيت هارباًمن خشية العقنقليإلى لقاء ملك
معظم مبجليأمر لي بخلعةحمراء كالدمدملي
أجر فيها ماشياًمبغدداً للذيلأنا الأديب الألمعي
من حي أرض الموصلنظمت قطعاً زخرفتتعجز الادبللي
أقول فيمطلعها صوتصفير البلبل
قال الراوي: فلم يحفظها الملك لصعوبتها، ونظر إلى المملوك وإلى الجارية فلم يحفظها أحد منهما فقال: يا أخا العرب هات الذي هي مكتوبة فيه نعطك زنته.
فقال: يا مولاي إني لم أجد ورقاً أكتب فيه وكان عندي قطعة عمود رخام من عهد أبي، وهي ملقاةٌ ليس لي بها حاجة، فنقشتها فيها.
فلم يسع الخليفة إلا أنه أعطاه وزنها ذهباً فنفد ما في خزينته من المال، فأخذه وانصرف، فلما ولى قال الخليفة: يغلب على ظني أن هذا الأصمعي، فأحضره وكشف عن وجهه. فإذا هو الأصمعي فتعجب منه ومن صنيعه وأجازه على عادته، قال: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء فقراء وأصحاب عيال وأنت تمنعهم العطاء بشدة حفظك وحفظ هذا المملوك وهذه الجارية. فإذا أعطيتهم ما تيسر ليستعينوا به على عيالهم لم يضرك، انتهى.

حاج يعظ المنصور
وذكر الغزالي وابن بليان وغيرهما، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة،وكان يخرج سحراً فيطوف بالبيت، فخرج ذات ليلة سحراً، فبينما هو يطوف إذ سمع قائلاً يقول: اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بني الحق وأهله من الطمع. فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ سمعه ثم رجع إلى دار الندوة. وقال لصاحب شرطته: إن بالبيت رجلاً يطوف فأتني به. فخر صاحب الشرطة فوجد رجلاً عند الركن اليمني. فقال: أجب أمير المؤمنين. فلما دخل عليه، قال: أنا الذي سمعتك آنفاً تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني.
فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الذي داخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله وامتلأت بلاد الله بذلك بغياً وفساداً أنت هو.

فقال له المنصور: ويحك كيف يداخلني الطمع، والصفراء والبيضاء ببابي وملك الأرض في قبضتي.
فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، وهل داخل أحداً من الطمع ما داخلك؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبين رعيتك حجاباً من الجبس والآجر وحجبة معهم السلاح وأمرت أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، نفر استخلصتهم لنفسك وأمرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الجائع ولا العاري، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق. فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجمع الأموال وتقسمها، قالوا: هذا خان الله ورسوله فما لنا لا نخونه؟ فأجمعوا على أن لا يصل إليك من أموال الناس إلا ما أرادوا. فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاء المظلوم إلى بابك وجدك وقفت رجلاً ينظر في مظالم الناس، فإن كان الظالم من بطانتك علل صاحب المظالم بالمظلوم وسوّفَ من وقت إلى وقت، فإذا اجتهد وظهرت أنت صرخ بين يديك، فضربه أعوانك ضرباً شديداً ليكون نكالاً لغيره، وأنت ترى ذلك ولا تنكر. لقد كانت الخلفاء قبلك من بني أمية إذا أتت إليهم الظلامة أزيلت في الحال، ولقد كنت أسافر إلى الصين يا أمير المؤمنين، فقدمت مرة فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه، فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك؟ لا أبكى الله لك عيناً إلا من خشيته.
فقال: والله ما بكيت لمصيبة نزلت بي وإنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمعه. ثم قال: إن كان سمعي ذهب فإن بصري لم يذهب. نادوا في الناس لا يلبس أ؛د ثوباً أحمر إلا مظلوم. وكان يركب الفيل طرفي النهار ويدور في البلد لعله يجد أحداً لابساً ثوباً أحمر فيعلم أنه مظلوم فينصفه. وهذا الأمير رجل مشرك غلبت عليه رأفته على شح نفسه بالمشركين، وأنت مؤمن بالله ورسوله وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا أمير المؤمنين! لا تجعل الأموال إلا لإحدى ثلاثٍ: فإن قلت إنما أجمع الأموال لصالح الملك فقد أراك الله عبرةً في الملوك والقرون من قبلك ما أغنى عنهم ما أعدوا من الأموال والرجال والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع للولد، فقد أراك الله عبرة فيمن تقدم ممن جمع المال للولد فيلم يغن ذلك عنهم شيئاً بل ربما مات فقيراً ذليلاً حقيراً؛ وإن قلت إنما أجمعه لغاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق منزلتك إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح.
فبكى المنصور بكاء شديداً ثم قال: وكيف أعمل وقد فرت مني العباد ولم تقربني، افتح الباب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم وخذ المال مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل، وأنا ضامن من هرب أن يعود إليك.
فقال المنصور: نفعل إن شاء الله تعالى.
وجاء المؤذن فأذن للصلاة فقام وصلى فلما قضى صلاته طلب الرجل فلم يجده، فقال لصاحب الشرطة: علي بالرجل الساعة.
فخرج يتطلبه فوجده عند الركن اليماني فقال له: أجب أمير المؤمنين.
فقال: ليس إلى ذلك من سبيل.
فقال: إذن يضرب عنفي.
فقال: ولا إلى ضرب رقبتك من سبيل. ثم أخرج من مزود كان معه رقاً مكتوباً فقال له: خذه فإن فيه دعاء الفرج من دعا به صباحاً ومات من يومه مات شهيداً، ومن دعا به مساء ومات من ليلته مات شهيداً. وذكر له فضلاً عظيماً وثواباً جزيلاً. فأخذه صاحب الشرطة وأتى به المنصور فلما رآه قال له: ويلك أو تحسن السحر؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين. ثم قص عليه القصة، فأمر المنصور بنقله وأمر له بألف دينار، وهو هذا.
اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمك بما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك. وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، وانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل هم وغم أصبحت أو أميت فيه فرجاً ومخرجاً. اللهم، إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه، أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً، فإنك أنتن المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك، تتودد إلي بالنعم وأتبغض إليك بالمعاصي، ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك، فجد بفضلك وإحسانك علي، إنك أنت الرؤوف الرحيم.

القاضي ابن أبي ليلى والمنصور
وحدث عبد الله البلتاجي، قال: دخل ابن أبي ليلى على أبي جعفر المنصور، وكان ابن أبي ليلى قاضياً فقال أبو جعفر: إن القاضي يرد عليه. من ظرائف الناس ونوادرهم أمور، فإن كان ورد عليك شيء فحدثنيه، فقد طال علي يومي.
قال: والله يا أمير المؤمنين، قد ورد علي منذ ثلاثة أيام أمر ما ورد علي مثله. أتتني عجوز تكاد تنال الأرض بوجهها أو تسقط من انحنائها فقالت: أنا بالله وبالقاضي أن يأخذ لي بحقي وأن يعينني على خصمي.
قلت: ومن خصمك؟ قالت: إبنة أخ لي.
فدعوت بها فجاءت امرأة ضخمة ممتلئة شحماً فجلست منبهرة. فذهبت العجوز تتظلم، فقالت الشابة: أصلح الله القاضي، مرها فلتسكت حتى أتكلم بحجتي وحجتها فإن لحنت بشيء فلترد علي، فإن أذنت لي أسفرت.
فقالت العجوز: إن أسفرت قضيت لها.
فقلت لها: أسفري، فأسفرت عن وجه والله ما ظننت أنه يكون مثله إلا في الجنة. فقالت: أصلح الله القاضي، هذه عمتي مات والدي وتركني يتيمة في حجرها فربتني فأحسنت التربية، حتى إذا بلغت مبلغ النساء قالت لي: يا بنت أخي، هل لك في التزويج؟ قلت: ما أكره ذلك يا عمة.
قالت العجوز: نعم.
قالت: فخطبني وجوه أهل الكوفة فلم ترض إلا رجلاً صيرفياً، فتزوجني، فكنا كأننا ريحانتان ما أظن أن الله خلق غيره يغدو إلى سوقه ويروح علي بما رزقه الله تعالى. فلما رأت العمة موقعه مني وموقعي منه حسدتنا على ذلك، وكانت لها ابنةً فشوفتها وهيأتها لدخول زوجي، فوقعت علينه عليها، فقال: يا عمة هل لك أن تزوجيني ابنتك؟ قالت: نعم بشرط.
فقال لها: وما الشرط.؟ قالت: تصير أمر ابنة أخي إلي.
قال: قد صيرت أمرها إليك.
قالت: فإن قد طلقتها ثلاثاً بتةً.
وزوجت ابنتها زوجي، فكان يغدو عليها ويروح، فقلت لها : يا عمتي أتأذنين لي أن أنتقل عنك؟ قالت: نعم.
فانتقلت عنها وكان لعمتي زوج غائب فقدم فلما توسط منزلها قال: ما لي لا أرى ربيبتنا؟ قالت: طلقها زوجها فانتقلت عنا.
فقال: إن لها من الحق علينا أن نعزيها بمصيبتها.
فلما بلغني مجيئه إلي تهيأت له وتشوفت. فلما دخل علي عزاني بمصيبتي، ثم قال: إن فيك بقيةً من الشباب؛ فهل لك أن أتزوج بك؟ قلت: ما أكره ذلك ولكن على شرط.
قال لي: وما الشرط؟ قلت: تصير أمر عمتي بيدي.
قال: فإني قد فعلت وصيرت أمرها بيدك.
قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة.
قالت: فقدم علي بثقله من الغد ومعه ستة آلاف درهم فأقام عندي ما أقام، ثم إنه اعتل وتوفي فلما انقضت عدتي جاء زوجي الأول الصيرفي يعزيني بمصيبتي فلما بلغني مجيئه تهيأت وتشوفت له، فلما دخل علي قال لي: يا فلانة إنك تعلمين أنك كنت أعز الناس علي وأحبهم إلي، وقد حلت المراجعة، فهل لك في ذلك؟ قلت: ما أكره ذلك، ولكن اجعل أمر ابنة عمتي بيدي.
قال: فإني قد فعلت.
قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتةً، أصلح الله القاضي، فرجعت إلى زوجي فما اعتدائي عليها.
فقالت العجوز: أنا فعلت مرة، وفعلت مرة بعد أخرى.
فقلت: إن الله لم يوقت في هذا وقتاً، وقد قال تعالى: " ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله " . فواحدة بواحدة والبادي أظلم.
فقال القاضي: إن زوج العمة لم يكن له أن يتزوج ابنة أخيها وهي في عدته؛ فأرادت العجوز أن تتولى التفريق بينه وبينها استيفاء لها ومجازاة لها على فعلها، فقلت لها: قد فرقت بينكما، قومي إلى منزلك، انتهى.
الأمير الأموي وملك النوبة
وذكر المنصور يوماً في مجلسه زوال ملك بني أمية وما جرى عليهم، وأنهم عاشوا سعداء وماتوا فقراء، فقال له إسماعيل بن علي الهاشمي: إن عبد الله بن مروان بن محمد في حبسك، وله قصة مع ملك النوبة. فأحضره واسأله عنها. فأحضره، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال المنصور: رد السلام أمن ولم تسمح نفسي بذلك، ولكن اقعد! فقعد، فقال: ما قصتك مع ملك النوبة؟

فقال: يا أمير المؤمنين، كنت ولي عهد أبي فلما طلبتنا دعوت عشرة من غلماني ودفعت لكل واحد ألف دينار وأوسقت خمس بغال وشددت في وسطي جوهراً له قيمة عظيمة وخرجت هارباً إلى بلاد النوبة، فلما قربنا بعثت غلاماً لي، فقلت له: امض إلى هذا الملك وأقرئه السلام وخذ لنا منه الأمان وابتغ لنا ميرة. فمضى وأبطأ حتى أسأت به الظن، ثم أقبل ومعه رجل فدخل وسلم وقال: الملك يقرئك السلام ويقول لك: من أنت وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب، أم راغب في ديني، أم مستجير بي؟ فقلت له: رد على الملك، ما أنا بمحارب ولا راغب في دينك ولا ممن يبتغي بدينه بدلاً بل مستجير به.
فذهب الرسول ورجع إلي وقال: الملك يقول لك إني أجيء إليك غداً فلا تحدث نفسك حدثاً ولا شيئاً من الميرة.
فقلت لأصحابي: افرشوا الفراش، ففرش لي وجلست من الغد أرقبه، وإذا هو قد أقبل وعليه بردان قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، حافي الرجلين، ومعه عشرة معهم الحراب: ثلاثة يقدمونه وسبعة خلفه، فاستصغرت أمره وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب إذا سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ قالوا: الخيل. فوافى بها عشرة آلاف عنان، ووافت الخيل عند دخوله فأحدقوا بنا، فلما دخل جلس على الأرض، قال: فقلت لترجمانه: لِمَ لمْ يقعد على الموضع الذي وطئ له؟ فسأله، فقال: قل له إنه ملك وكل ملك حقه أن يكون متواضعاً لله وعظمته إذ رفعه الله على عباده.
ثم نكت بإصبعه الأرض طويلاً ورفع رأسه وقال: قل له كيف سلبتم هذا الملك، فأخذ منكم وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم؟ فقلت: جاء من هو أقرب منا قرابة إليه، فسلبنا وغلبنا وطردنا فخرجت إليك مستجيراً بالله، ثم بك.
قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهو محرم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد وأعاجم دخلوا في ديننا وفي ملكنا من غير رأينا.
قال: فلم تركبون على الديباج وعلى خيولكم سروج الذهب والفضة وهي محرمة عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد وأعاجم دخلوا في ديننا وفي ملكنا بغير رأينا.
قال: فلم كنتم إذا خرجتم إلى الصيد مررتم على القرى وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به بالضرب والإهانة ولا يقنعكم ذلك حتى تحطموا زرعهم في طلب دراج قيمته نصف درهم، والتكليف والعناء محرم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد وغلمان وأتباع.
قال: لا! ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما نهاكم الله عنه فسلبكم العز وألبسكم الذل ونصر أعداءكم عليكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أخاف أن تنزل بك النقمة إذ كنت من الظلمة فتشملني معك، فإن النقمة إذا نزلت شملت، فاخرج بعد ثلاث، فإن وجدتك بعدها أخذت ما معك وقتلتك ومن معك.
ثم وثب قائماً وخرج وقمت ثلاثاً ورجعت إلى مصر فأخذني عاملك وبعث بي إليك، وها أنا ذا والموت أحب إلي من الحياة.
فرق له المنصور وهم بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة هذا.
قال: فما ترى؟ قال: ينزل في دار من دورنا ويجري عليه ما يجري على مثله.
ففعل به ذلك، انتهى.

بليتان. المنصور والطاعون
وخطب المنصور يوماً بالشام، فقال: أيها الناس ينبغي لكم أن تحمدوا الله تعالى على ما وهبكم في فإني منذ وليتكم صرف الله عنكم الطاعون الذي كان يجيئكم.
فقال أعرابي: إن الله أكرم من أن يجمعك أنت والطاعون علينا.
أبي هرمة والخمر
ودخل ابن هرمة على المنصور وامتدحه، فقال له المنصور: سل حاجتك؟ قال: تكتب إلى عاملك بالمدينة إذا وجدني سكران لا يحدني.
فقال له المنصور: هذا حد لا سبيل إلى تركه.
فقال: ما لي حاجة غيرها.
فقال لكاتبه: اكتب إلى عاملنا بالمدينة من أتاك بابن هرمة وهو سكران فاجلده ثمانين، واجلد الذي جاء به مائة.
فمكان الشرطة يمرون عليه وهو سكران ويقولون: من يشتري ثمانين بمائة، فيمرون عليه ويتركونه، انتهى.
الرجل الثبت الجنان
وحدث أحمد بن موسى قال: ما رأيت رجلاً أثبت جناناً ولا أحسن معرفة ولا أظهر حجة من رجل رفع فيه عند المنصور بأن عنده أموالاً لبني أمية، فأمر المنصور حاجبه الربيع أن يحضره، فلما حضر بين يديه. قال المنصور: رفع إلينا أن عندك ودائع وأموالاً وسلاحاً لبني أمية فأخرجها لنا لنجمع ذلك إلى بيت المال.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنت وارث لبني أمية؟ قال: لا.

قال: فلم تسأل إذن عما في يدي من أموال بني أمية ولست بوارث لهم ولا وصي.
فأطرق المنصور ساعة، ثم قال: إن بني أمية ظلموا الناس وغصبوا أموال المسلمين.
فقال الرجل: يحتاج أمير المؤمنين إلى بينة يقبلها الحاكم تشهد أن المال الذي لبني أمية هو الذي في يدي وأنه هو الذي غصبوه من الناس. وأن أمير المؤمنين يعلم أن بني أمية كانت لهم أموال لأنفسهم غير أموال المسلمين التي اغتصبوها على ما يتهم أمير المؤمنين؟ قال: فسكت المنصور ساعة، ثم قال: يا ربيع، صدق الرجل ما يجب لنا على الرجل شيء، ثم قال للرجل: ألك حاجة؟ قال: نعم.
قال: ما هي؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى في إليك فوالله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح. وإنما أحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه.
فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به فجمع بينهما. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي.
فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال. قال: فما حملك على السعي كاذباً؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال.
فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين، لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي.
فاستحسن المنصور فعله وأكرمه ورده إلى بلده مكرماً.
وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط، ولا أثبت من جنانه ولا من حجني مثله ولا رأيت مثل حمله ومروءته، انتهى.

خلاقة المهدي
الرؤيا الصالحة
اسمه محمد بن المنصور، حدثنا داود بن رشيد، قال: قلت للهيثم بن علي بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ فقال: إن خبره باتصاله بالمهدي ظريف، فإن أحببت شرحته لك. قلت والله قد أحببت.
قال: اعلم أنه وافى الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي وقال له: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال له: من أنت وما حاجتك؟ قال: أنا رجل قد رأيت لأمير المؤمنين أعزه الله رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له، فقال الربيع: يا هذا ، إن القوم لا يصدقون فيما يرونه لأنفسهم فكيف بما يراه لهم غيرهم، فاحتل بحيلة غير هذه، فقال: إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه وأخبره ني سألتك الإذن لي عليه فلم تفعل؟ فدخل الربيع على المهدي، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم فقد احتالوا عليكم بكل ضرب.
فقال له المهدي: هكذا تصنع الملوك فماذا؟ قال: رجل بالباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين أيده الله رؤيا حسنة، وقد أحب أن يقصها عليك.
فقال المهدي: يا ربيع، إني والله أرى الرؤيا لنفسي فلا تصح لي فكيف يمكن ادعاؤها ممن لعله قد افتعلها؟ قال: والله قلت له مثل هذا فلم يقبل.
قال: هات الرجل.
قال: فأدخل عليه سعيد وكان له رؤية وجمال ومروة ظاهرة ولحية عظيمة ولسان طلق، فقال له: ما رأيت بار الله فيك؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين آتياً أتاني في منامي فقال: أخبر أمير المؤمنين أنه يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أنه يرى في ليلته الآتية في منامه كأنه يقلب يواقيت ثم يعدها فيجد ثلاثين ياقوتة كأنها قد وهبت له.
فقال المهدي: ما أحسن ما رأيت، ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة على ما أخبرتنا: فإن كان الأمر على ما ذكرت أعطيناك فوق ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك لعلمنا أن الرؤيا الصالحة ربما صدقت وربما اختلفت.
قال: يا أمير المؤمنين، فما أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي وأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين أكرمه الله، ثم رجعت صفر اليد؟ فقال له المهدي: فكيف نعمل؟ فقال: يعجل لي أمير المؤمنين أعزه الله تعالى ما أحب وما أحلف له بالطلاق إني قد صدقت.
فأمر له بعِشرة آلاف درهم وأمر بأن يؤخذ له كفيل ليحضر من غد ذلك اليوم فقبض المال وقال له: من يكفلك؟ فمد عينه إلى خادم حسن الوجه والزي وقال: هذا يكفلني.
فقال له المهدي: أكفله يا غلام؟

فاحمر وخجل، وقال: نعم يا أمير المؤمنين، فكفله وانصرف سعيد بن عبد الرحمن بالعشرة آلاف درهم. فلما كانت تلك الليلة رأى المهدي ما ذكره له سعيد حرفاً بحرف وأصبح سعيد فوافى الباب واستأذن، فأذن له. فلما وقعت عين المهدي عليه قال له: أين مصداق ما قلت لنا عليه؟ فقلت له: وما رأى أمير المؤمنين. فضحك في جوابه، فقال له: امرأتي طالق إن لم تكن رأيت شيئاً؟ فقال: لأني أحلف على صدق.
قال له المهدي: فقد والله رأيت ذلك مبيناً.
فقال سعيد: الله أ:بر، فأنجز لي يا أمير المؤمنين ما وعدتني.
قال: حباً وكرامة.
ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار وعشر تخوت ثياب من كل صنف وثلاثة مراكب من أنفس دوابه محلاةً، فأخذ ذلك وانصرف فلحق به الخادم الذي كان كفله. وقال: سألتك بالله هل لهذه الرؤيا من أصل؟ فقال سعيد: لا والله.
فقال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته؟ قال: هذا من المخاريق التي لا أب لها، وذلك أني لما ألقيت هذا الكلام خطر بباله وحدث به نفسه وأسرى به قلبه واشتغل به فكره ففي ساعة نام خيل له ما حل في قلبه واشتغل به فكره فنام فرآه.
فقال له الخادم: قد حلفت بالطلاق.
قال: طلقة واحدة وبقيت معي على اثنتين وأزيد مهرها عشرة دراهم. وأتحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب، وثلاثة مراكب فارهة.
فبهت الخادم وتعجب من ذلك. فقال له سعيد: قد صدقتك وجعلت ذلك مكافأتك على كفالتك فاستر علي.
ثم طلبه المهدي لمنادمته فنادمه وحظي عنده وقلده القضاء على العسكر. فلم يزل كذلك حتى مات. انتهى.

المهدي والأعرابي
يحكى أن المهدي خرج يتصيد، فسار به فرسه حتى دخل إلى خباء أعرابي، فقال: يا أعرابي. هل من قرى؟ قال: نعم، فأخرج له قرض شعير فأكله، ثم أخرج له فضلة من لبن فسقاه، ثم أتاه بنبيذ في ركوة فسقاه قعباً. فلما شرب قال: يا أخا العرب أتدري من أنا؟ قال: لا والله.
قال: أنا من خدم أمير المؤمنين الخاصة.
قال: بارك الله في موضعك.
ثم سقاه قعباً آخر فشربه فقال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة.
قال: لا، بل أنا من قواد أمير المؤمنين.
قال: رحبت بلادك وطاب مرادك.
ثم سقاه ثالثاً فلما فرغ منه قال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين.
قال: لا، ولكني أمير المؤمنين.
فأخذ الأعرابي الركوة وأوكأها وقال: والله لو شربت الرابع لادعيت أنك رسول الله.
فضحك المهدي حتى غشي عليه وأحاطت به الخيل ونزلت إليه الملوك والأشراف فطار قلب الأعرابي فقال له: لا بأس عليك ولا خوف ثم أمر له بكسوة ومال.
أبو نواس وجارية بنت المهدي
وقيل: كان لأسماء بنت المهدي جارية يقال لها: كاعب. وكانت بكراً ناهداً ذات حسن وجمال وقد واعتدال، وكانت بنت ست عشرة سنة. قال: فتلاعب عليها أبو نواس لينالها، فتمنعت منه مراراً. فظفر بها ليلة من الليالي في ناحية من نواحي القصر فمسكها فبكت وقالت: الموت دون ذلك، فقال أبو نواس في نفسه: هذا جزع الأبكار، فتركها مدة، فائفق أنه خرج من القصر ليلة وقد رقرق الدجى، فوجدها نائمة سكرى فتقرب منها وحل السراويل من وسطها، ودهمها، فإذا هي خالية من البكارة، فارتاع وظن أنه يكون أتاها دم، فلم يجد وقام عنها وندم على ما كن منه وأخذ يقول:
وناهدة الثديين من خدم القصر ... مرقرقة الخدين ليلية الشعر
كلفت بها دهراً حسن وجهها ... طويلاً وما حب الكواعب من أمري
فما زلت بالأشعار حتى خدعتها ... وروضتها، والشعر من خدع السحر
أطالبها شيئاً، فقالت بعبرة: ... أموت به داءً ودمعتها تجري
فلما تعانقنا توسطت لجةً ... غرقت بها يا قوم في لجج البحر
فصحت أغثني يا غلام، فجاءني ... وقد زلقت رجلي ورحت إلى الصد
ولولا صياحي بالغلام وأنه ... تداركني بالحبل رحت إلى القعر
فأقسمت عمري لا ركبت سفينة ... ولا سرت طول الدهر إلى على الظهر
الشاعر المجنون

قال المبرد: صعدت من البصرة إلى بغداد، فمررت بدير العاقول فرأيت مجنوناً فيه. فلم أر قط أظرف منه ولا أحسن ثياباً، ويده الواحدة على صدره. فلما دنوت منه أنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمدٌ ... لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي: روح تملكها ... بلد، وأخرى حازها بلد
وأرى الصبابة ليس ينفعها ... صبر وليس لمثلها جلد
وأظن ظاعنتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
فقلت: أحسنت والله، لله درك يا مجنون. فأهوى لشيء يرميني به فبعدت عنه. فقال لي: أنشدتك ما تحبه واستحسنته. وتقول لي: يا مجنون، وتكون مع الزمان علي.
فقلت له: أخطأت.
فقال: إذن اعترفت بخطئك. ثم قال: أنشدك شعراً أيضاً؟ قلت: نعم.
فأنشأ يقول:
ما أقتل البين للمحب. وما ... أوجع قلب المحب بالكمد
عرضت نفسي على البلاء لقد ... أسرع في مهجتي وفي كبدي
يا حسرةً! إذ أبيت معتقلاً ... بين اختلاج الهموم والسهد
فقلت: أحسنت والله زدنا، فقال:
إن فتشوني فمحرق الكبد ... أو كشفوني فناحل الجسد
أضعف ما بي وزادني ألماً ... أن لست أشكو النوى إلى أحد
فقلت: أحسنت والله زدنا.
فقال: يا فتى، أراك كلما أنشدتك بيتاً قلت زدنا، وما ذاك إلا لمفارقة حبيبٍ أو خل أريب، ثم قال: أحسبك أبا العباس المبرد. بالله ما هو أنت.
قلت: أنا ذلك فمن أين عرفتني؟ فقال: وهل يخفى القمر؟ ثم قال: يا أبا العباس، أنشدني من شعرك شيئاً تنتعش به روحي، فأنشدته قولي:
بكيت حتى بكى من رحمتي الطلل ... ومن بكائي بكت أعداي إذ رحلوا
يا منزل الحي! أين الحي قد نزلوا؟ ... نفسي تساق إذا ما سيقت الإبل
أنعم صباحاً، سقاك الله من طلل ... غيثاً وجاد عليك الوابل الهطل
سقياً لعهدهم والدار جامعة ... والشمل ملتئم والحبل متصل
فطالما قد نعمنا والحبيب بها ... والدهر يسعد والواشون قد غفلوا
قد غير الدهر ما قد كنت أعرفه ... والدهر ذو دول بالناس ينتقل
بانوا فبان الذي قد كنت آمله ... والبين أعظم ما يبلى به الرجل
فالشمل مفترق، والقلب محترق ... والدمع منسكب، والركب مرتحل
كأن قلبي لما سار عيسهم ... صب به دنف أو شارب ثمل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... وثوروها وسارت بالهوى الإبل
وقلت من خلال السجف ناظرها ... ترنوا لي، ودمع العين منهمل
يا حادي العيس! عرج بي أو دعهم ... يا حادي العيس في ترحالك الأجل
إني وحقك لا أنس مودتهم ... يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟
قال أبو العباس المبرد: فلما أتممت شعري. قال لي: ما فعلوا؟ قلت: ماتوا، فصاح صيحة عظيمة وخر مغشياً عليه، فحركته فوجدته قد مات. رحمة الله عليه. انتهى.

خلافة موسى الهادي بن محمد
لم أر فيه شيئاً ومن رأى فيه شيئاً فليضعه.
قال بعض الفضلاء: من حيث أن المؤلف أمر بأن من رأى فيه شيئاً فليضعه، فرأيت هذا النذر اليسير مذكوراً في تاريخ الإسحاقي فأحببت ذكره امتثالاً لأمره، فقلت:
الهادي والخارجي

ذكر صاحب الكردان: أن الهادي كان يوماً في بستان يتنزه على حمار، ولا سلاح معه وبحضرته جماعة، من خواصه وأهل بيته، فدخل عليه حاجبه وأخبره أن بالباب بعض الخوارج له بأس ومكايد، وقد ظفر به بعض القواد فأمر الهادي بإدخاله فدخل عليه بين رجلين قد قبضا على يديه. فلما أبصر الخارجي الهادي جذب يديه من الرجلين واختطف سيف أحدهما وقصد الهادي ففر كل من كان حوله وبقي وحده، وهو ثابت على حماره، حتى إذا دنا منه الخارجي وهم أن يعلوه بالسيف أومأ إلى وراء الخارجي وأوهمه أن غلاماً وراءه وقال: يا غلام اضرب عنقه، فظن الخارجي أن غلاماً وراءه والتفت الخارجي، فنزل الهادي مسرعاً عن حماره فقبض على عنق الخارجي وذبحه بالسيف الذي كان معه، ثم عاد إلى ظهر حماره من فوره، وأتباع الهادي ينظرون إليه ويتسللون عليه وقد ملئوا منه حياءً ورعباً، فما عاتبهم ولا خاطبهم في ذلك بكلمة، ولم يفارق السلاح بعد ذلك اليوم، ولم يركب إلا جواداً من الخيل. فانظر إلى هذا المقدار في ثبات جأش الملوك، فإنه قل من يفعل ذلك، وهذه مرتبة لم يصل إليها أحد إلا نادراً.

الهادي وحبه لغادرة
حكي عبد الحق أنه قال مما ابتلي به الهادي من المحبة أنه كان مغرماً بجارية تسمى غادراً، وكانت من أحسن النساء وجهاً وأطيبهم غناءً، اشتراها بعشرة آلاف دينار، فبينما هو يشرب مع ندمائه إذ فكر ساعة وتغير لونه وقطع الشراب، فقيل له: ما بال أمير المؤمنين؟ قال: وقع في قلبي أني أموت وأن أخي هارون بلي الخلافة ويتزوج غادراً فامضوا وأتوني برأسه.
ثم رجع عن ذلك وأمر بإحضاره، وحكى له ما خطر بباله فجعل هارون يترفق به، فقال: لا أرضى حتى تحلف علي بكل ما أحلفك به أني إذا مت لا تتزوج بها. فرضي بذلك وحلف إيماناً عظيمة، ودخل إلى الجارية وحلفها أيضاً على مثل ذلك، فلم يلبث بعد ذلك سوى شهر ومات وولي الخلافة هارون الرشيد فطلب الجارية فقالت: يا أمير المؤمنين كيف تصنع بالإيمان؟ فقال: قد كفرت عنك وعني.
ثم تزوج بها ووقعت في قلبه موقعاً عظيماً وافتتن به أعظم من أخيه الهادي حتى كانت تسكر وتنام في حجره فلا يتحرك ولا ينقلب. فبينما هون في بعض الليالي وهي في حجره نائمة إذا بها انتبهت فزعة مرعوبة. فقال لها: ما بالك فديتك؟ قالت: رأيت أخاك الهادي الساعة في النوم فأنشدني هذه الأبيات:
أخلفت عهدي بعدما ... جاوزت سكان المقابر
ونسيتني، وحنثت في ... إيمانك الزور الفواجر
ونكحت غادرة أخي ... صدق الذي سماك غادر
لا يهنك الإلف الجدي؟ ... د ولا تدر عنك الدوائر
ولحقتني قبل الصبا - ح وصرت حيث غدوت صائر قالت: ثم ولى عني وكأن الأبيات مكتوبة في قلبي ما نسيت منها كلمة.
فقال لها: هذه أحلام الشيطان.
فقالت: كلا، والله يا أمير المؤمنين. ثم اضطربت بين يديه وماتت في تلك الساعة، ولا تسأل عن هارون الرشيد وما لقي بعدها.
؟؟
خلافة هارون الرشيد بن محمد المهدي
هو أخو موسى الهادي، وهو الخامس من بني العباس.
قال إبراهيم الموصلي في تهنئة الخلافة عندما ولي الرشيد بعد أخيه موسى الهادي:
ألم تر أن الشمس كانت مريضة ... فلما أتى هارون أشرق نورها
تلبست الدنيا جمالاً بملكه ... فهارون واليها ويحيى وزيرها
هارون والأعرابي
قدم أعرابي حين ولي هارون الخلافة فقيل له: فيم جئت؟ قال: أتيت برسالة.
قال: ائت بها.
قال: أتاني آت في منامي فقال: ائتِ أمير المؤمنين فابلغه هذه الأبيات:
توارثت الخلافة في قريشٍ ... تزف إليكما أبداً عروسا
إلى هارون تهدي بعد موسى ... تميس، وما لها أن لا تميسا
فأعطاه الرشيد عطاء جزيلاً وصرفه.
ليلة عظيمة
بويع له بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه وولد في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة عظيمة لم ير مثلها في بني العباس مات فيها خليفة، وولي فيها خليفة، وولد فيها خليفة.
ولما بويع الرشيد قلد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك وزارته. وسيأتي إيقاع الرشيد بالبرامكة وسبب ذلك.
الرشيد والمستقية

ويحكى أن هارون الرشيد مر في بعض الأيام وبصحبته جعفر البرمكي وإذا هو بعدة بنات يستقون الماء فعرج عليهن يريد الشرب وإذا إحداهن تقول:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت المنام
كي أستريح وتنطفي ... نار تأجج في العظام
دنفٌ تقلبه الأكف ... على بساط من سقام
فأعجب أمير المؤمنين ملاحتها وفصاحتها. فقال لها: يا بنت الكرام هذا من قولك أم من منقولك؟ قالت: من قولي.
قال: إن كان كلامك صحيحاً فأمسكي المعنى وغيري القافية فأنشدت تقول:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت الوسن
كي أستريح وتنطفي ... نارٌ تأجج في البدن
دنف تقلبه الأكف ... على بساط من شجن
أما أنا فكما علم؟ ... ت فهل لوصلك من ثمن؟
فقال لها: والآخر مسروق.
قالت: بل كلامي.
فقال: إن كان كلامك أيضاً فأمسكي المعنى وغيري القافية. فقالت:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت الرقاد
كي أستريح وتنطفي ... نار تأجج في الفؤاد
دنف تقلبه الأكف ... على بساط من حداد
أما أنا فكما علم؟ ... ت فهل لوصلك من سداد؟
فقال لها: والآخر مسروق.
فقال: بل كلامي.
فقال لها: إن كان كلامك فأمسكي المعنى وغيري القافية. فقالت:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت الهجوع
كي أستريح وتنطفي ... نار تأجج في الضلوع
دنف تقلبه الأكف ... على بساط من دموع
أما أنا فكما علم؟ ... ت فهل لوصلك من رجوع؟
فقال لها أمير المؤمنين: أنت من أي هذا الحي؟ قالت: من أوسطه بيتاً، وأعلاه عموداً.
فعلم أمير المؤمنين أنها بنت كبير الحي. ثم قالت: وأنت من أي راعي الخيل؟ فقال: من أعلاها شجرة وأينعها ثمرة.
فقبلت الأرض وقالت: أيد الله أمير المؤمنين ودعت له ثم انصرفت مع بنات العرب.
فقال الخليفة لجعفر: لا بد من أخذها فتوجه جعفر إلى أبيها، وقال له: أمير المؤمنين يريد بنتك.
فقال: حباً وكرامة، تهدى جارية إلى أمير المؤمنين مولانا.
ثم جهزها وحملها إليه فتزوجها ودخل بها فكانت عنده من أعز نسائه وأعطى والدها ما يستره بين العرب من الأنعام. ثم بعد مدة انتقل والدها بالوفاة إلى رحمة الله تعالى، فورد على الخليفة خبر وفاته فدخل عليها وهو كئيب، فلما شاهدته وعليه الكآبة، نهضت ودخلت إلى حجرتها وقلعت ما عليها من الثياب الفاخرة ولبست ثياب الحزن وقامت النعي له.
فقيل لها: ما سبب هذا؟ فقالت: مات والدي، فمضوا إلى الخليفة فأخبروه فقام وأتى إليها وسألها من أعلمها بهذا الخبر؟ قالت: وجهك يا أمير المؤمنين.
قال: كيف ذلك؟ قالت: منذ أنا عندك ما رأيتك هكذا ولم يكن لي من أخاف عليه إلا والدي لكبره، ويعيش رأسك أنت يا أمير المؤمنين. فترغرغت عيناه بالدموع وعزاها فيه، وقامت مدة، وهي حزينة على والدها ثم لحقت به رحمة الله عليهم أجمعين.
؟

الضيف الطارق
ويحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق ذات ليلة فقام يتمشى في قصره بين المقاصير، فرأى جارية من جواريه نائمة فأعجبته، فداس على رجليها فانتبهت فرأت أمير المؤمنين، فاستحيت منه وقالت: يا أمين الله ما هذا الخبر.
فأجابها بقوله:
قلت: ضيف طارق في أرضكم ... هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابته تقول:
بسرور وهناء سيدي ... أخدم الضيف بسمعي والبصر
فبات عندها إلى الصباح، فسأل أمير المؤمنين من بالباب من الشعراء؟ قيل له: أبو نواس. فمر به فدخل عليه. فقال: هات علي يا أمين الله ما هذا الخبر، فأنشأ يقول:
طال ليلي حين وافاني السهر ... فتفكرت فأحسنت الفكر
قمت أمشي في المجالي ساعة ... ثم أجري في مقاصير الحجر
فإذا وجه جميل مشرقٌ ... زانه الرحمن من بين البشر
فلمست الرجل منها موطئاً ... فدنت مني ومدت للبصر
وأشارت لي بقول مفصحٍ ... يا أمين الله ما هذا الخبر؟

قلت: ضيف طارق في أرضكم ... هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابت بسرور سيدي ... أخدم الضيف بسمعي والبصر
قال: فتعجب أمير المؤمنين من ذلك وأمر له بصلة.

هارون والجارية السكرى
يحكى أن هارون الرشيد هجر جارية له ثم لقيها في بعض الليالي في القصر سكرى تدور في جوانب القصر وعليها مطرف خز، وهي تسحب أذيالها من التيه والعجب، وسقط رداؤها عن منكبيها، والريح أبان نهديها كأنهما رمانتان، ولها ردفان ثقيلان، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين! هجرتني هذه المدة وليس لي علم بملاقاتك فأنظرني إلى غد حتى أتهيأ وآتيك.
فلما أصبح قال للحاجب: لا تدع أحداً يدخل علي إلا فلانة، وانتظرها فلم تجئ فقام ودخل عليها وسألها إنجاز الموعد فقالت: يا أمير المؤمنين، كلام الليل يمحوه النهار. فقام واستدعى من بالباب من الشعراء فدخل عليه أبو نواس والرقاشي وأبو مصعب فقال لهم: هاتوا علي، كلام الليل يمحوه النهار. فقال الرقاشي: أنا قائل في ذلك ثلاثة أبيات، وأنشأ يقول:
أتسلوها، وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاماً ... فتاة لا تزور ولا تزار
فولت وانثنت تيهاً، وقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو مصعب: وأنا قائل في ذلك ثلاثة أبيات، وأنشأ يقول:
أما والله لو تجدين وجدي ... لما وسعتك في بغداد دار
أما يكفيك أن العين عبرى ... ومن ذكراك في الأحشاء نار
تبسمت الفتاة بغير ضحك ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس: أنا قائل في ذلك أربعة أبيت، وأنشأ يقول:
وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز الريح أردافاً ثقالاً ... وغصناً فيه رمانٌ صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التخميش وانحل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي، فقالت: كلام الليل يمحوه النهار
فقال الرشيد: قاتلك الله كأنك كنت معنا أو مطلعاً علينا.
ومر لكل بخلعة سنية وخمسة آلاف درهم، ولأبي نواس بعشرة آلاف درهم، انتهى.
الرشيد وجارية الخيزران
وذكر الخطيب في بعض مصنفاته أن الرشيد دخل يوماً قبل وقت الظهر، في مقصورة جارية تسمى الخيزران على غفلة منها، فوجدها تغتسل، فلما رأته تجللت بشعرها حتى لم ير من جسدها شيئاً، فأعجبه ذلك الفعل واستحسنه، ثم عاد إلى مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟ قالوا له: أبو نواس وبشار.
فقال: ليحضرا جميعاً.
فأحضرا، فقال الرشيد ليقل كل منكما أبياتاً توافق ما في نفسي، فأنشأ بشار يقول:
تحببتكم والقلب صار إليكمو ... بنفسي ذاك المنزل المتحبب
إذا ذكروا الهجران لا عن ملالةٍ ... وذكراهم، ينمي إلي محبب
وقالوا تجنبنا، ولا قرب بيننا ... فكيف وأنتم حاجتي تتجنبوا
على أنهم أحلى من الشهد عندنا ... وأعذب من ماء الحياة وأطيب
فقال: أحسنت، ولكن ما أصبت ما في نفسي، فقل أنت يا أبا نواس، فجعل يقول:
نضت عنها القميص لصب ماء ... فورد خدها فرط الحياء
وقابلت الهواء، وقد تعرت ... بمعتدلٍ أرق من الهواء
ومدت راحة، كالماء منها ... إلى ماء معد في إناء
فلما أن قضت وطراً وهمت ... على عجل إلى أخذ الرداء
رأت شخص الرقيب على التداني ... فأسبلت الظلام على الضياء
فغاب الصبح منها تحت ليلٍ ... وظل الماء يقطر فوق ماء
فسبحان الإله وقد براها ... كأحسن ما يكون من النساء
فقال الرشيد: سيفاً ونطعاً.
فقال له: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: أمعنا كنت؟ قال: لا والله ولكن شيء خطر ببالي.
فأمر له بأربعة آلاف درهم وصرفه.
؟أجود أخبار النساء

ويحكى أن أمير المؤمنين الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً، فقام من فراشه وتمشى من مقصورة إلى مقصورة، وقلقه زائد ونفسه محصورة، فلما أصبح قال: علي بالأصمعي، فخرج الطواشي إلى البوابين، فقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين أرسلوا أحداً خلف الأصمعي. فلما حضر أعلم الخليفة فأجلسه ورحب به وقال: يا أسمعي أريد منك أن تحدثني بأجود ما سمعت من أخبار النساء وأشعارهن؟ فقال: سمعاً وطاعة: لقد سمعت كثيراً ولم يعجبني سوى ثلاثة أبيات أنشدهن ثلاث بنات.
فقال له: حدثني حديثهن.
فقال: اعلم إذا أمير المؤمنين، أني توجهت سنة إلى البصرة فاشتد لعي الحر فطلبت مقيلاً أقيل فيه فلم أجد، فبنما أنا أتلفت يميناً وشمالاً، إذا أنا بساباط مكنوس مرشوش، وفيه دكة من خشب، وعليها شباك مفتوح تفوح منه رائحة المسك، فدخلت الساباط وجلست على الدكة وأردت الاضطجاع، فسمعت كلاماً عذباً من فم جارية حسناء، وهي تقول: يا أختي! إنا جلسنا يومنا هذا على وجه الصبوح، تعالين نطرح ثلاثمائة دينار وكل منا تقول بيتاً من الشعر، فكل من قاتل البيت الأعذب الأملح كانت الثلاثمائة دينار لها، فقلن: حباً وكرامة، فقالت الكبرى:
عجبت له أن زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظً كان أعجبا
فقالت الوسطى:
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحبا
فقالت الصغرى:
بنفسي وأهلي من أرى كل ليلةٍ ... ضجيعي ورياه من المسك أطيبا
فقلت: إن كان لهذا المقال جمالٌ، فقد تم الأمر على كل حال. فنزلت عن الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالباب قد فتح وخرجت منه جارية، وهي تقول: اجلس يا شيخ، فطلعت على الدكة ثانياً وجلست، فدفعت إلي ورقة فنظرت خطاً في نهاية الحسن مستقيم الألفات مجوف ألهاآت مدور الواوات مضمونه: نعلم الشيخ، أطال الله بقاءه، أننا ثلاث بنات أخواتٍ جلسنا على وجه الصبوح وطرحنا ثلاثمائة دينار، وشرطنا أن كل من قالت البيت الأعذب الأملح كان لها الثلاثمائة دينار، وقد جعلناك الحكم في ذلك، فاحكم بما تراه والسلام.
فقلت للجارية: علي بدواة وقرطاس.
فغابت قليلاً وخرجت إلي بدواة مفضضة وأقلام مذهبة، فأنشأ أقول:
أحدث عن خود تحدثن مرةً ... حديث امرئ ساس الأمور وجربا
ثلاث كبكرات الصحاري جحافل ... حللن بقلبٍ للمشوق معذبا
خلون وقد نامت عيونٌ كثيرةُ ... من الراقدين المشتهين التغيبا
فبحن بما يخفين من داخل الحشا ... نعم، واتخذن الشعر لهواً وملعبا
فقالت عروبٌ ذات عز غريرة ... وتبسم عن عذب المقالة أنسبا
عجبت له أن زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظاً كان أعجبا
فلما انقضى ما زخرفت وتضاحكت ... تنفست الوسطى، وقالت تطربا
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحبا
وأحسنت الصغرى، وقالت مجيبة ... بلفظ لها قد كان أشهى وأعذبا
بنفسي وأهلي من رأى كل ليلة ... ضجيعي، ورياه من المسك أطيبا
فلما تدبرت الذي قلن وانبرى ... لي الحكم لم أترك لذي اللب معتبا
حكمت لصغراهن في الشعر أنني ... رأيت الذي قالت جميلاً وأصوبا
قال الأصمعي: ثم دفعت الرقعة إلى الجارية، فلما صعدت إلى القصر، فإذا برقص وتصفيق ودنيا دانية وقيامة قائمة، فقلت: ما بقي لي إقامة، فنزلت عن الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي.
فقلت: ومن أعلمك أنني الأصمعي؟ فقالت: يا شيخ إن خفي علينا اسمك فما خفي علينا نظمك.
فجلست، وإذا بالباب قد فتح وخرجت منه الجارية الأولى وعلى يدها طبق من فاكهة وطبق من حلوى، فتفكهت وتحليت وشكرت صنعها، وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي، فرفعت بصري إليها فنظرت كفاً أحمر في كم أصفر فخلته البدر يشرف من تحت الغمام، ورمت لي صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقالت: هذا صار لي وهو مني لك هبة في نظير حكومتك.
فقال لي أمير المؤمنين: لأي شيء حكمت للصغرى ولم تحكم للكبرى ولا للوسطى؟

فقلت: يا أمير المؤمنين إن بيت الكبرى قالت:
عجبت له أن زار في النوم مضجعي
وهو محمول معلق على شرط قد يقع ولا يقع، وأما الوسطى، فمر بها طيف خيال في النوم فسلمت عليه، وبيت الصغرى ذكرت أنها ضاجعته مضاجعة حقيقية وشمت منه أنفاساً أطيب من المسك وفدته بنفسها وأهلها ولا يفدى بالنفس إلا من هو أعز من النفس.
فقال الخليفة: أحسنت يا أصمعي.
ثم دفع إلي ثلاثمائة دينار فأخذتها وانصرفت فكنت أقول لله درك من شعر أخذت في حكومتي منه ثلاثمائة دينار، وفي حكايته مثلها، والله أعلم.

الأصمعي والجارية
ومما حكي عن الأصمعي في نوادره، قال: سهرت ليلة عند الرشيد في الرقة، فقال لي: من معك يا عبد الله يؤنسك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما لي أنيس غير الوحدة.
فأمسك وأقبل في حديثه ما شاء الله، ثم نهض ونهض من بحضرته فلما صرت إلى منزلي، وإذا بخادم الأمير يقرع الباب فخرجت، فإذا ضوء شمع وضجة وغوغاء ومعهم جارية فلما رآني الخادم دنا مني وقبل يدي وقال لي: يقول لك أمير المؤمنين قد أمرنا لك بمن يؤنسك، وهي جارية من خواصه وشيء من المال. فشكرت أمير المؤمنين ودعوت له وتقدم الخادم بإدخال الجارية ومعها من الآلات والخدم والجواري والفرش ما لم أر مثله إلا عند أمير المؤمنين، ثم ودعني الخادم وانصرف. فلما نظرت إلى الجارية رأيتها أحسن الناس وجهاً وأكملهم قداً وشكلاً وظرفاً وأكثرهم مجوناً فداخلني لها هيبة وانقباض.
فقالت: ما هذا الحياء البارد السمج الذي لا وجه له؟ أين ملحك ونوادرك؟ ثم قالت لجارية من الجواري: هات ما عندك، فجاءت بأحسن ما يكون من ألوان الطعام فأكلنا وهي مع ذلك تباسطني وتؤانسني بالحديث والملاعبة، ثم دعت بالشراب فشربت وسقتني، ثم قالت: ما بقي بعد الأكل والشرب إلا النوم والخلوة. فقامت ولبست من الثياب ما أرادت وألبستني ثياباً فاخرة مبيضة وتفرق من كان عندنا، ثم اضطجعت إلى جانبي، فلما جمعنا الفراش أصابني من الحصر وانقطاع الانعاظ ورخاوة الأير ما لم أكن أعهده قبل ذلك فجعلت تقلبه بيدها وتغمزه فلا يزداد إلا إنكماشاً وموتاً فلما أعيتها الحيلة فيه ويئست من قيامه ومضى من الليل أكثره قالت: عظم الله أجرك في أيرك، ثم نهضت ولبست ثياب الحداد ودعت بسفط فأخرجت منه مناديل صغاراً وحنوطاً وقالت: نم عل ظهرك يا بطال، فاستولى علي الخجل حتى إني لم أقدر أخالفها في شيء مما تأمرني به في جميع ما تفعله في فغسلته وحنطته وكفنته بتلك المناديل فلما فرغت همت بجواريها وقامت معهن في بكاء ونحيب ونوحٍ وندب وصراخ بأشد ما يكون وما زلن على ذلك إلى وقت السحر، ثم قالت: ما بقي إلا ما يتولاه الرجال من الصلاة والدفن وولت عني. فقمت وأنا أخزى خلق الله حالاً فلبست ثيابي وصليت الفجر وسرت من وقتي وساعتي إلى الرشيد فأنكر الحاجب حضوري في ذلك الوقت وأعلم الرشيد بي، فأذن لي فدخلت، وهو قاعد في مصلاه، فقال لي: ويحك ما دهاك في هذا الوقت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خبري عجيب وأمري غريب، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، ألا ما رحمتني وأرحتني من هذا الجارية التي أنفذتها إلي فلا حاجة لي بها.
فقال لي أمير المؤمنين: وما السبب لذلك وما الخبر الذي دهاك وليس لها عندك حين من الزمان.
فشرحت له القصة من أولها إلى آخرها حتى بلغت إلى إقامة الصلاة فاشتد ضحكه حتى أنه كاد يستلقي على قفاه وسمعت الضحك من كل ناحية في الدار من الجواري وغيرهن، ثم قال: نحن إلى هذه أحوج منك إليها وقد كنا غافلين عنها، ثم إنه أمر بحملها إلى داره وعوضني عنها خمسين ألف درهم وترك جميع ما حمل معها في منزلي وخرجت مجردة فحظيت بعد ذلك عند الرشيد حتى إنه لم يتقدم عليها أحد من نظائرها، وسميت من قوتها هذا بالأصمعية إلى أن توفيت رحمة الله عليهم أجمعين.
إبراهيم الموصلي وإبليس
وعن أبي إسماعيل إبراهيم الموصلي قال: استأذنت الرشيد أن يهب لي يوماً من الأيام للانفراد بجواري وإخواني، فأذن لي في يوم السبت، فأتيت منزلي وأخذت في إصلاح طعامي وشرابي وما احتجت إليه وأمرت البوابين بإغلاق الأبواب وأن لا يأذنوا لأحد بالدخول علي.

فبينما أنا في مجلسي والحريم قد حففن بي، وإذا بشيخ ذي هيبة وجمال وعليه جبتان قصيرتان وقميص ناعم وعلى رأسه قلنسوة وبيده عكازة مقمعة بفضة وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار والرواق، فداخلني غيظ عظيم لدخوله علي وهممت بطرد البوابين فسلم علي أحسن سلام، فرددت عليه وأمرته بالجلوس، فجلس وأخذ يحدثني بأحاديث العرب وأشعارها حتى ذهب ما بي من الغضب وظننت أن غلماني تحروا مسرتي لإدخال مثله علي لأدبه وظرفه، فقلت: هل لك في الطعام؟ قال: لا حاجة لي فيه.
قلت: فالشراب؟ قال: ذلك إليك.
فشربت رطلاً وسقيته مثله، ثم قال: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئاً فنسمع من صنعتك ما قد فقت به العام والخاص.
فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي، فأخذت العود وضربت وغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم، فازددت غيظاً فقلت: ما رضي بما فعله في دخوله بغير إذني واقتراحه علي حتى سماني باسمي ولم يجمل مخاطبتي.
ثم قال: هل تزيد نكافئك؟د فترنمت وأخذت العود وغنيت وتحفظت فيما غنيته، قمت به قياماً تاماً لقوله: ونكافئك. فطرب وقال: أحسنت يا سيدي، ثم قال لي: أتأذن لي في الغناء؟ فقلت: شأنك، واستضعفت عقله في أن يغني بحضرتي بعد الذي سمعه مني. فأخذ العود وجسه فوالله خلت أن العود ينطق بلسان عربي واندفع يغني هذه الأبيات:
ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أباها على الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب طريح
قال إبراهيم: فوالله لقد ظننت أن الأبواب والحيطان وكل ما في البيت تجيبه وتغني معه، وبقيت مبهوتاً لا أستطيع الكلام والحركة لما خالط قلبي، ثم اندفع يغني، فقال:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودةً ... فإني إلى أصواتكن حزين
فعدن ولما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبين
دعون بترداد الهدير كأنما ... شربن الحميا أو بهن جنون
فلم تر عيني مثلهن حمائماً ... بكين ولم تدمع لهن عيون
قال: ثم سكت قليلاً وغنى هذه الأبيات:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجداً على وجدي
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن من غصن بان ومن رند
بكيت كما يبكي الوليد صبابةً ... وأبديت من شكواي ما لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... تمل وأن البعد يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خيرٌ من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
ثم قال: يا إبراهيم هذا الغناء الماخوري خذه وانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك.
فقلت: أعده علي؟ فقال: لست تحتاج إلى إعادة فقد أخذته وفرغت منه.
ثم غاب من بين يدي فارتعبت منه وقمت إلى السيف وجردته ثم غدوت نحو أبواب الحريم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن؟ فقلن: سمعنا غناء أطيب شيء وأحسنه.
فخرجت متحيراً إلى باب الدار فوجدته مغلقاً فسألت البوابين عن الشيخ فقالوا: أي شيخ، فوالله ما دخل إليك اليوم أحد.
فرجعت أتأمل أمره، فإذا هو قد هتف بي من جوانب البيت، وقال: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، فإنما هو أبو مرة قد كنت نديمك اليوم، فلا تفزع.
فركبت إلى الرشيد فأخبرته الخبر، فقال: أعد الأصوات التي أخذتها، فأخذت العود وضربت، فإذا هي راسخة في صدري، فطرب الرشيد عليها وجعل يشرب، ولم يكن له همة على الشراب، وقال: كأن الشيخ علم أنك قد أخذت الأصوات وفرغت منها فليته متعنا بنفسه يوماً واحداً كما متعك، ثم أمر لي بصلة فأخذتها وانصرفت، انتهى.

الرشيد وإسماعيل بن صالح
وقال الرشيد يوماً للفضل بن يحيى، وهو بالرقة: قد قدم إسماعيل ابن صالح بن علي، وهو صديقك، وأريد أن أراه؟ فقال: إن أخاه عبد الملك في حبسك وقد نهاه أن يجيئك.
قال الرشيد: فإني أتعلل حتى يجيئني عائداً؟ فتعلل، فقال الفضل لإسماعيل: ألا تعود أمير المؤمنين؟ قال: بلى.

فجاءه عائداً فأجلسه، ثم دعا بالغداء، فأكل وأكل إسماعيل بين يديه، فقال له الرشيد: كأني قد نشطت برؤيتك إلى شرب قدح، فشرب وسقاه، ثم أمر فأخرج جوار يغنين وضربت ستارة وأمر بسقيه، فلما شرب أخذ الرشيد العود من يد جارية ووضعه في حجر إسماعيل وجعل في عنقه سبحة، وفيها عشرة حبات من در شراؤها بثلاثين ألف دينار، وقال: عن يا إسماعيل، وكفر عن يمينك بثمن هذه السبحة، فاندفع يغني شعر الوليد بن يزيد في غالية أخت عمر بن عبد العزيز، وكانت تحته، وهي التي ينسب إليها سوق الغالية، فقال:
فأقسم ما أدنيت كفي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ ... من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
فسمع الرشيد أحسن غناء من أحسن صوت. فقال: الرمح يا غلام.
فجيء بالرمح، فعقد له لواء على إمارة مصر.
قال إسماعيل: فوليتها سنتين فأوسعتها عدلاً. وانصرفت بخمسمائة ألف دينار، وبلغ أخاه عبد الملك ولايته، فقال: غني والله الخبيث لهم، ليس هو بصالح، انتهى.

أعرابي يزاحم الرشيد
يروى أنه لما دخل هارون الرشيد إلى مكة، شرفها الله تعالى، وابتدأ بالطواف ومنع الخاص والعام من ذلك لينفرد بالطواف. فسبقه أعرابي، فشق ذلك على الرشيد فإلتفت إلى حاجبه منكراً عليه، فقال الحاجب للأعرابي: تخل عن الطواف حتى يطوف أمير المؤمنين.
فقال الأعرابي: إن الله قد ساوى بين الإمام والرعية في هذا المقام، فقال عز وجل: " سواء العاكف فيه والباد ونم يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " .
فلما سمع الرشيد من الأعرابي ذلك راعه أمره فأمر حاجبة بالكف عنه، ثم جاء الرشيد إلى الحجر الأسود ليستلمه فسبقه الأعرابي فاستلمه، ثم أتى الرشيد إلى المقام للمصلي فسقه الأعرابي فصلى فيه، فلما فرغ الرشيد من صلاته قال: لحاجبه: ائتني بهذا الأعرابي، فأتاه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين.
فقال: ما لي إليه من حاجة إن كان له حاجة فهو أحق بالقيام إلي والسعي.
فقام الرشيد حتى وقف بإزاء الأعرابي وسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال له الرشيد: يا أخا العرب إجلس هنا بأمرك.
فقال الأعرابي: ليس البيت بيتي ولا الحرم حرمي وكلنا فيه سواء.
فإن شئت تجلس، وإن شئت تنصرف.
قال الراوي: فعظم ذلك على الرشيد وسمع ما لم يكن في ذهنه، وما ظن أنه يواجهه أ؛د بمثل هذا الكلام. فجلس الرشيد وقال: يا أعرابي، أريد أن أسألك عن فرضك، فإن أنت قمت به فأنت بغيره أقوم، وإن أنت عجزت عنه فأنت عن غيره أعجز.
فقال الأعرابي: سؤالك هذا سؤال تعلم أم سؤال تعنت؟ فتعجب الرشيد من سرعة جوابه وقال: بل سؤال تعلم.
فقال له الأعرابي: قم فاجلس مقام السائل من المسؤول.
قال: فقام الرشيد وجثا على ركبتيه بين يدي الأعرابي، فقال: قد جلست فاسأل عما بدا لك.
فقال له: أخبرني عما افترض الله عليك؟ فقال له: تسألني عن أي فرض عن فرض واحد، أم عن خمسة، أن عن سبعة عشر، أم عن أربعة وثلاثين، أم عن خمسة وثمانين، أم عن واحدة في طول العمر، أم عن واحدة في أربعين، أم عن خمسة من مائتين.
قال: فضحك الرشيد حتى استلقى على قفاه استهزاء به، ثم قال: له: سألتك عن فرضك فأتيتني بحساب الدهر؟ قال: يا هارون لولا أن الدين بالحساب لما أخذ الله الخلائق بالحساب يوم القيامة، فقال تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " .
قال: فظهر الغضب في وجه الرشيد واحمرت عيناه حين قال: يا هارون، ولم يقل له: يا أمير المؤمنين، وبلغ مبلغاً شديداً غير أن الله تعالى عصمه منه وحال بينه وبينه لما علم أنه هو الذي أنطق الأعرابي بذلك، فقال له الرشيد: يا أعرابي، إن فسرت ما قلت نجوت وإلا أمرت بضرب عنقك بين الصفا والمروة.
فقال له الحاجب: يا أمير المؤمنين اعف عنه وهبه لله تعالى ولهذا المقام الشريف؟ قال: فضحك الأعرابي من قولهما حتى استلقى على قفاه، فقال: مم تضحك؟ قال: عجباً منكما إذ لا أدري أيكما أجهل الذي يستوهب أجلاً قد حضر أم من يستعجل أجلاً لم يحضر؟

قال: هاك الرشيد ما سمعه منه وهانت نفسه عليه، ثم قال: الأعرابي: أما سؤالك عما افترض الله علي، فقد افترض علي فرائض كثيرة، فقولي لك عن فرض واحد: فهو دين الإسلام، وأما قولي لك عن خمسة: فهي الصلوات؛ وأما قولي لك عن سبعة عشرة: فهي سبعة عشرة ركعة؛ وأما قولي لك عن أربعة وثلاثين: فهي السجدات؛ وما قولي لك عن خمسة وثمانين: فهي التكبيرات؛ وأما قولي لك عن واحدة في طول العمر: فهي حجة الإسلام واحدة في طول العمر كله، وأما قولي لك واحدة في أربعين: فهي زكاة الشياه، شاة من أربعين، وأما قولي لك خمس من مائتين: فهي زكاة الورق.
قال: فامتلأ الرشيد فرحاً وسروراً من تفسير هذه المسائل، ومن حسن كلام الأعرابي وعظم الأعرابي في عينه وتبدل بغضه محبة، ثم قال: الأعرابي: سألتني فأجبتك وأنا أريد أن أسألك فأجبني.
قال: قل.
فقال الأعرابي: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة في وقت صلاة الفجر فكانت عليه محرمة، فلما كان وقت الظهر حلت له، فلما كان في وقت العصر حرمت عليه، فلما كان وقت المغرب حلت له، فلما كان وقت العشاء حرمت عليه، فلما كان وقت الصبح حلت له، فلما كان وقت الظهر حرمت عليه، فلا كان وقت العصر حلت له، فلما كان وقت المغرب حرمت عليه، فلما كان وقت العشاء حلت له.
فقال: والله يا أخا العرب لقد أوقعتني في بحر لا يخلصني منه غيرك.
فقال له: أنت خليفة ليس فوقك شيء ولا ينبغي أن تعجز عن مسألة فكيف عجزت عن مسألتي وأنا رجل بدوي لا قدرة لي؟ فقال الرشيد: قد عظم قدرك العلم ورفع ذكرك فأشتهي إكراماً لي، ولهذا المقام تفسير ذلك.
فقال: حباً وكرامة ولكن على شرط أن تجبر الكسير وترحم الفقير ولا تزدري الحقير.
فقال: حباً وكرامة، ثم قال: إن قولي لك عن رجل نظر إلى امرأة وقت صلاة الفجر فكانت عليه حراماً فهو رجل نظر إلى أمة غيره وقت الفجر فهي حرام عليه، فلما كان وقت الظهر اشتراها فحلت له، فلما كان وقت العصر أعتقها، فحرمت عليه، فلما كان وقت المغرب تزوجها فحلت له، فلما كان وقت العشاء طلقها فحرمت عليه، فلما كان وقت الفجر رجعها فحلت له، فلما كان وقت الظهر ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر أعتق عنها، فحلت له، فلما كان وقت المغرب ارتد عن الإسلام فحرمت عليه. فلما كان وقت العشاء تاب ورجع إلى الإسلام فحلت له.
قال: فاغتبط الرشيد وفرح به واشتد إعجابه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، فلما حضرت قال: لا حاجة لي بها ردها إلى أصحابها.
فقال له: أريد أن أجري لك جراية تكفيك مدة حياتك؟ قال: الذي أجرى عليك يجري علي.
قال: فإن كان عليك دين قضيناه عنك؟ قال: لا، ولم يقبل منه شيئاً، ثم أنشد يقول:
هب الدنيا توافينا سنينا ... فتكدر ساعة وتلذ حينا
فما أبغي لشيء ليس يبقى ... وأتركه غداً للوارثينا
كأني بالتراب علي يحثى ... وبالإخوان حولي نادبينا
ويوم تزفر النيران فيه ... وتقسم جهرةً للسامعينا
وعزة خالقي وجلال ربي ... لأنتقمن منهم أجمعينا
وقد شاب الصغير بغير ذنبٍ ... فكيف يكون حال المجرمينا
فلما فرغ من إنشاده تأوه الرشيد وسأله عن أهله وبلاده، فأخبره أنه موسى الرضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان يتزيا بزي أعرابي زهداً في الدنيا وتباعداً عنها، فقام إليه الرشيد وقبل ما بين عينيه، ثم قرأ " الله أعلم حيث يجعل رسالته " ، وانصرف رحمة الله عليهم أجمعين.

الحسين الخليع والجارية العاشقة
قال السجستاني: أرق الرشيد ليلة، فوجه إلى الأصمعي وإلى حسين الخليع فأحضرهما وقال: عللاني وابدأ أنت يا حسين.

فقال حسين: نعم يا أمير المؤمنين؟ خرجت في بعض السنين منحدراً إلى البصرة ممتدحاً محمد بن سليمان الزينبي بقصيدتي، فقبلها وأمرني بالمقام، فخرجت ذات يوم إلى المبربد وجعلت المهالبة طريقي فأصابني حر شديد فدنوت من باب دار كبيرة لأستسقي، فإذا أنا بجارية كأنها قضيب ينثني،واسعة العينين، زجاء الحاجبين، مفتوحة الجبين، عليها قميص جلناري ورداء عدني قد غلب شدة بياض بدنها على حمرة قميصها، تتلألأ من تحت القميص بثديين كرمانتين وبطن كطي القباطي، وعكن كالقراطيس، لها جمة جعدة بالمسك محشوة، وهي يا أمير المؤمنين متقلدة خرزاً من الذهب والجوهر، يزهو بين نهديها وعلى صحن جبنها طرة كالسبج وحاجبان مقرونان وعينان نجلاوان وخدان أسيلان وأنف أقنى تحته ثغر كاللؤلؤ، وأسنان كالدر، وقد غلب عليها الطيب، وهي والهة حيرى ذاهبة في الدهليز ورائحة تخطر على أكباد محييها في مشيتها، وقد خالط أصوات نعلها خلاخلها، فهي كما قال الشاعر فيها:
كل جزء منم محاسنه ... كائن من حسنها مثلا
فهبتها يا أمير المؤمنين، ثم دنوت منها لأسلم عليها، فإذا الدهليز والدار والشارع قد عبق بالمسك، فسلمت عليها فردت بلسان منكسر وقلب حزين حريق مسعر. فقلت لها: يا سيدتي، إني شيخ غريب أصابني عطش، أفتأمرين بشربة من ماء تؤجرين عليها؟ قالت: إليك عني يا شيخ، فإني مشغولة عن الماء وادخار الزاد.
قلت: لأي علة يا سيدتي؟ قالت: لأني عاشقة لمن لا ينصفني، وأريد من لا يريدني، ومع ذلك فإني ممتحنة برقباء فوق رقباء.
قلت: وهل يا سيدتي على بسيطة الأرض من تريدينه ولا يريدك؟ قالت: نعم، وذلك لفضل ما ركب فيه من الجمال والكمال والدلال.
قلت: وما وقوفك في هذا الدهليز؟ قالت: ههنا طريقه وهذا أوان اجتيازه.
فقلت لها: يا سيدتي، فهل اجتمعتما في وقت من الأوقات ووجد حديث في هذا القرب؟ فتنفست الصعداء وأرخت دموعها على خدها كطل سقط على ورد، ثم أنشدت تقول:
وكنا كغصني بانة فوق روضة ... نشم جني اللذات في عيشة رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قطع ... فيا من رأى فرداً يحن إلى فرد
قلت: يا هذه، فما بلغ من عشقك لهذا الفتى؟ قالت: أرى الشمس على حائطهم أحسب أنها هو، وربما أراه بغتة فأبهت ويهرب الدم والروح من جسدي وأبقى الأسبوع والأسبوعين بغير عقل.
فقلت لها: فاعذريني، فأنت على ما بك من الصبا وشغل البال بالهوى ونحول الجسم وضعف القوى أرى بك من اللون ورقة البشرة فكيف لو لم يمسك الهوى لكنت مفتنةً في أرض بصرة.
قالت: والله قبل محبتي هذا الغلام كنت تحفة الدلال والجمال والكمال، ولقد فتنت جميع ملوك البصرة حتى فتنني هذا الغلام.
قلت: يا هذه، فما الذي فرق بينكما؟ قالت: نوائب الدهر ولحديثي وحديثه شأن من الشؤون، وذلك أني كنت قعدت في ويم نيروز، ودعوت عدة من مستظرفات البصرة من النساء الجميلات وكانت فيهن الحوراء جارية شيرا، وكان شراؤها عليه من عمان بثمانية آلاف درهم، وكانت بي والعة، فلما دخلت رمت بنفسها علي تقطعني قرصاً وعضاً، ثم خلونا نتمرن القهوة إلى أن يدرك طعامنا ويجتمع من دعونا وكانت تلاعبني وألاعبها، فتارة أنا فوقها، وتارة هي فوقي، فحملها السكر إلى أن ضربت يدها إلى تكتي فحلتها من غير زيبةٍ كانت بيننا، وأنزلت سراويل ملاعبة، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا حبيبي فرأى ذلك فاشمأز لذلك وصدف عني صدوف المهرة العربية إذا سمعت صلاصل لجامها، فولى خارجاً، فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين أسأل الاجتماع به فلا ينظر إلي بطرف ولا يكتب لي بحرف ولا يكلم لي رسولاً ولا يسمع مني قيلاً.
فقلت لها: يا هذه، من العرب هو أم من العجم؟ فقالت: ويحك هو من جملة ملوك البصرة.
فقلت لها: شيخ هو أم شاب؟ فنظرت إلي شزراً وقالت: إنك أحمق، هو مثل القمر ليلة البدر، أجرد أمرد له طرة كحلك الغراب لا يعيبه شيء غير انحرافه عني.
قلت لها: ما اسمه؟ قالت: ماذا تصنع به؟ أجتهد في لقائه فأتعرف الفضل بينكما.
قالت: على شرط أن تحمل إليه رقعة.
قلت: لا أكره ذلك.
فقالت: اسمه ضمرة بن المغيرة ويكنى بأبي السخاء، وقصره بالمربد.

ثم صاحت في الدار: يا جواري، الدواة والقرطاس، وشمرت عن ساعدين كأنهما طوقان من فضة، وكتبت بعد البسملة: سدي ترك الدعاء في صدر رقعتي ينبئ عن تقصيري، ودعائي، إن دعوته، هجنة ورعونة، ولولا أن بلوغ المجهود يخرج من حد التقصير لكان لما تكلفته خادمتك من كتابة هذه الرقعة معنى مع يأسها منك لعلمها تركك الجواب.
سيدي، جد بنظرة وقت اجتيازك في الشارع إلى الدهليز تحيي بها نفساً ميتة، واخطط بخط يدك، بسطها الله بكل فضيلة، رقعة واجعلها عوضاً عن تلك الخلوات التي كانت بيننا في الليالي الخاليات التي أنت ذاكر لها.
سيدي، ألست لك محبة مدنفةٌ؟ فإن رجعت إلى الآيسة كنت لك شاكرة وبعد خادمة. والسلام.
فتناولت الكتاب وخرجت فأصبحت غدوة إلى باب محمد بن سليمان فوجدت مجلساً محتفلاً بالملوك ورأيت غلاماً زان المجلس وفاق على من فيه جمالاً وبهجة، قد رفعه الأمير فوقه، فسألت عنه فإذا هو ضمرة بن المغيرة، فقلت في نفسي: يا لحقيقة حل بالمسكينة ما حل بها. ثم قمت وقصدت المربد ووقفت على باب داره، فإذا هو قد ورد في موكب فوثبت الهي وبالغت في الدعاء له وناولته الرقعة، فلما قرأها وفهم معناها قال لي: يا شيخ! قد استبدلنا بها، فهل لك أن تنظر إلى البديل؟ قلت: نعم.
فصاح في الدار أخرجوا الربداء، فإذا أنا بجارية خابوطية الكمين، ناهدة الثديين تمشي مشية مستوحل من غير وحل، فناولها الرقعة، وقال: أجيبي عنها، فلما قرأتها اصفرت وعرفت وقالت: يا شيخ أستغفر الله مما جئت به.
فخرجت يا أمير المؤمنين وأنا أجر رجلي حتى أتيتها واستأذنت عليها فقالت: ما وراءك؟ فقلت: البؤس واليأس.
فقالت: ما عليك منه، فأين الله والقدر؟ ثم أمرت لي بخمسمائة دينار ثم جزت بعد أيام ببابها فوجدت غلماناً وفرساناً فدخلت فإذا أصحاب ضمرة يسألونها الرجوع إليه؟ فقالت: لا والله لا نظرت له وجهاً، فسجدت لله يا أمير المؤمنين، شماتةً بضمرة ونفرته من الجارية، فأوردت علي منه رقعة فإذا فيها، بعد التسمية، سيدتي، لولا إبقائي عليك، أدام الله حياتك، لوصفت شطراً من غدرك شطر غبني عليك، وسلكت ظلامتي فيك، إذ كنت الجانية، على نفسك ونفسي والمظهرة لسوء العهد وقلة الوفاء والمؤثرة علينا غيرنا، فخالفت هواي، والله المستعان، على ما كان من سوء اختيارك والسلام.
وأوقفتني على ما حمله إليها من الهدايا والتحف العظيمة فإذا هو بمقدار ثلاثين ألف دينار ثم رأيتها بعد ذلك، وقد تزوج بها ضمرة.

جميل والفتى العذري وحبيبته
وحكى مسرور الخادم قال: أرق الرشيد أرقاً شديداً ليلة من الليالي، فقال: يا مسرور من على الباب من الشعراء؟ فخرجت إلى الدهليز فوجدت جميل بن معمر العذري فقلت: أجب أمير المؤمنين فقال: سمعناً وطاعة. فدخلت ودخل معي إلى أن صار بين يدي هارون الرشيد فسلم بسلام الخلافة، فرد عليه وأمره بالجلوس، فقال له الرشيد: يا جميل، أعندك شيء من الأحاديث العجيبة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أيما أحب إليك، ما عاينته ورأيته أو ما سمعته ووعيته؟ فقال: بل حدثني عما عاينته ورأيته.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أقبل علي بكلك واصغ إلي بأذنك قال: فقعد الرشيد إلى مخدة من الديباج الأحمر المزركش بالذهب، محشوة بريش النعام، فجعلها تحت فخذه ثم مكن منها مرفقيه، وقال: هلم بحديثك.
فقال: اعلم يا أمير المؤمنين، أني كنت مفتوناً بفتاة محباً لها، وكنت آلفها إذ هي سؤلي وبغيتي من الدنيا، وإن أهلها رحلوا بها لقلة المرعى، فأقمت مدة لا أراها، ثم إن الشوق أقلقني وجذبني إليها، فراودتني نفسي بالمسير إليها فلما كانت ذات ليلة من الليالي، هزني الوجد إليها، فقمت وشددت رحلي على ناقتي واعتممت بعمتي ولبست أطماري وتقلدت بسيفي وتنكبت حجفتي، وركبت ناقتي وخرجت طالباً لها، وكنت أجد في السير، فسرت وكانت ليلة مظلمة مدلهمة، وأنا مع ذلك أكابد هبوط الأودية وصعود لجبال، أسمع زئير الأسد وعواء الذئاب، وأصوات الوحوش من كل جانب، وقد ذهل عقلي وطاش لبي، ولساني لا يفتر عن ذكر الله تعالى.

فبينما أنا أسير كذلك إذ غلبني النوم فأخذت بي الناقة على غير الطريق التي كنت فيها، وزاد علي النوم، وإذا أنا بشيء لطمني في رأسي فانتبهت فزعاً مرعوباً، وإذا بأشجار وأنهار وماء وأطيار على تلك الأغصان تترنم بلغاتها وألحانها، وشجار ذاك المرج مشتبكة بعضها ببعض، فنزلت عن ناقتي وأخذت زمامها بيدي، ولم أزل أتلطف بها إلى أن خرجت بها من تلك الأشجار إلى أرض فلاة، فأصلحت كورها، واستويت راكباً على ظهرها، ولا أدري إلى أين أذهب ولا إلى ما تسوقني الأقدار؟ فمددت نظري في تلك البرية، فلاحت لي نار في صدرها فوكزت ناقتي وسرت طالباً إلى أن وصلت إلى تلك النار، فقربت نفسي منها وتأملت وإذا بخباء مضروب ورمح مركوز، وراية قائمة وخيل واقفة، وإبل سائمة، فقلت في نفسي: يوشك أن يكون لهذا الخباء شأن عظيم، فإني لا أرى في هذه البرية سواه، ثم تقدمت خلف الخباء وقلت: السلام عليكم يا أهل الخباء ورحمة الله وبركاته.
فخرج إلي من الخباء غلام من أبناء تسعة عشر، كأنه البدر إذا أشرق، والشجاعة لائحة بين عينيه، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أخا العرب، إني أظنك ضالاً عن الطريق؟ فقلت: الأمر كذلك، أرشدني يرحمك الله تعالى.
فقال: يا أخا العرب إن أرضنا هذه مسبعةٌ، وهذه الليلة مظلمة وحشة شديدة الظلمة والبرد ولا آمن عليك من الوحش أن يفترسك، فانزل عندي على الرحب والسعة، فإذا كان الغد أرشدتك إلى الطريق.
قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها بفاضل زمامها ونزعت ما كان علي من أطمار، وجلست ساعة، وإذا بالشاب قد عمد إلى شاة فذبحها وإلى نار فأضرمها وأججها ثم دخل الخباء وأخرج أزاراً ناعمة ولحماً مطيباً وأقبل يقطع من اللحم ويشوي على النار ويطعمني ويتنهد تارة، ويبكي تارة أخرى، ثم شهق شهقة عظيمة وبكى بكاء شديداً وأنشد يقول:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
لم يبق في أعضائه مفصل ... إلا وفيه سقم ثابت
فدمعه جار وأحشاؤه ... توقد، إلا أنه ساكت
تبكي له أعداؤه رحمةً ... يا ويح من يرثي له الشامت
قال جميل: فعند ذلك يا أمير المؤمنين علمت أن الغلام عاشق ولهان، ولا يعرف الهوى إلا من ذاق طعم الهوى، فقلت في نفس: أنا في منزل الرجل وأتهجم عليه في السؤال؟ فردعت نفسي وأكلت من ذلك اللحم بحسب الكفاية، فلما فرغت من الأكل قام الشاب ودخل الخباء وأخرج طشتاً نظيفاً وإبريقاً حسناً ومنديلاً من الحرير أطرافه مزركشة بالذهب الأحمر وقمقماً مملوءاً من الماورد الممسك. فتعجبت من ظرفه ورقة حاشيته، وقلت في نفسي: ما أغرب الظرف في البادية. ثم غسلنا أيدينا وتحدثنا ساعة ثم إنه قام ودخل الخباء وقطع بيني وبينه بمقطع من الديباج الأحمر، ثم خرج وقال: ادخل يا وجه العرب وخذ مضجعك فقد لحقك في هذه الليلة تعب وفي سفرك هذا نصب مفرط.
قال جميل: فدخلت فإذا أنا بفراش من الديباج الأخضر، فعند ذلك نزعت ما كان علي من الثياب ونمت بليلة لم أنم عمري مثلها، فلم أزل كذلك، وأنا متفكر في أمر هذا الشاب إلى أن جن الليل ونامت العيون، فلم شعر إلا بحس خفي لم أسمع ألطف منه ولا أرق حاشية، فرفعت سجاف المضرب، ونظرت فإذا أنا بصبية لم أر أحسن منها وجهاً وهي إلى جانبه، وهما يبكيان ويتشاكيان ألم الهوى والصبابة والجوى وشدة اشتياقهما إلى التلاقي، فقلت: يا الله؛ العجب من هذا الشخص الثاني، وهذا بيت فرد فإني لم أر فيه غير هذا الفتى، وليس حوله أحد، ثم قلت في نفسي: لا شك أن هذه الجارية من بنات الجن تهوى هذا الغلام، وقد تفرد بها في هذا المكان وتفردت به، فحققتها فإذا هي أنسية عربية إذا رمقت تخجل الشمس المضيئة، وقد أضاء الخباء من نور وجهها، فلما تحققت أنها محبوبته غلبتني الغيرة على الحب، فأرخيت الستر وغطيت وجهي ونمت، فلما أصبحت لبست ثيابي، وتوضأت لصلاتي، وصليت ما كان علي من الفرض، ثم قلت له: يا أخا العرب، هل لك أن ترشدني إلى الطريق، فقد تفضلت علي.
فنظر إلي وقال: على رسلك يا وجه العرب، الضيافة ثلاثة أيام وما كنت بالذي يدعك إلى لثلاثة أيام.

قال جميل: فأقمت عنده ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع جلسنا للحديث فحادثته وسألته عن اسمه ونسبه فقال: أما نسبي فأنا من بني عذرة، وأنا فلان بن فلان وعمي فلان، فإذا هو ابن عمي، يا أمير المؤمنين، وهو من أشرف بيت في بني عذرة، قال: فقلت: يا ابن العم، ما حملك على ما أراه منك من الانفراد في هذه البرية، وكيف تركت عبيدك وإماءك وانفردت بنفسك في هذا المكان؟ فلما سمع يا أمير المؤمنين كلامي، ترغرغت عيناه بالدمع ثم قال: يا بن العم إنني كنت محباً لابنة عمي، مفتوناً بها هائماً بحبها مجنوناً عليها لا أطيق الفراق عنها، فزاد عشقي لها، فخطبتها من عمي، فأبى أن يزوجنيها وزوجها من رجل من بني عذرة ودخل بها وأخذها إلى المحلة التي هو فيها من العام الأول، فلما بعدت عني وحجبت عن النظر إليها حملتني لوعات الهوى وشدة الشوق والجوى على تركي أهلي ومفارقتي عشيرتي وخلاني وجميع أمتعتي، وانفردت بهذا البيت في هذه البرية وألفت وحدتي.
فقلت: وين أبياتهم؟ قال: هم قريب في ذروة هذا الجبل، وفي كل ليلة عند نوم العيون وهدو من الليل تنسل من الحي سراً بحيث لا يشعر بها أحد فأقضي منها بالحديث وطراً وتقضي هي كذلك، وها أنا مقيم كذلك على هذا الحال أتسلى بها ساعة من الليل ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، أو يأتيني الأمر على رغم الحاسدين، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين.
قال جميل: فلما حدثني الغلام يا أمير المؤمنين، غمني أمره وصرت من ذلك في حيرة لما أصابني عليه من الغيرة، فقلت له: يا ابن العم، هل لك أن أدلك على حيلة أشير بها عليك، وفيها إن شاء الله عين الصلاح وسبيل الرشد والنجاح، وبها يفرج الله عليك الذي تخشاه.
فقال لي: قل يا ابن العم.
فقلت له: إذا كان الليل وجاءت الجارية فاطرحها على ناقتي، فنها سريعة الرواح، واركب أنت جوادك، وأنا أركب بعض هذه النوق وأسير بكم الليلة جميعها. فما يصبح الصباح إلا وقد قطعت بكم براري وقفاراً وتكن قد بلغت مرادك وظفرت بمحبوبة قلبك، وأرض الله واسعة فضاؤها، وأنا والله مساعدك ما حييت بروحي ومالي وسيفي.
فلما سمع ذلك قال لي: يا ابن العم، حتى أشاورها في ذلك، فإنها عاقلة لبيبة بصيرة بالأمور.
قال جميل: فلما جن الليل وحان وقت مجيئها وهو منتظر الوقت لمعلوم فأبطأت عن عادتها فرأيت الفتى، وقد خرج من باب الخباء وفتح فاه وجعل يتنسم هبوب الريح التي تهب من نحوها وأنشد يقول:
ريح الصبا تهدي إلي نسيماً ... من بلدةٍ فيها الحبيب مقيم
يا ريح فيك من الحبيب علاقةٌ ... أفتعلمين متى يكون قدوم
ثم دخل الخباء وقعد ساعة زمانية، وهو يبكي، ثم قال لي: يا ابن العم، إن لبنت عمي في هذه الليلة نبأ وقد حدث لها حادث وعاقها عني عائق، ثم قال ل: كن مكانك حتى آتيك بالخبر. ثم أخذ سيفه وحجفته ثم غاب عني ساعة من الليل ثم أقبل وعلى يديه شيء يحمله ثم صاح إلي فأسرعت إليه. فقال: أتدري يا ابن المم ما الخبر؟ فقلت: لا والله.
فقال: فجعت في ابنة عمي في هذه الليلة لأنها كانت توجهت إلينا كعادتها إذ عرض لها في طريقها أسد فافترسها ولم يبق منها إلا ما ترى.
ثم إنه طرح ما كان على يده. فإذا هو مشاش الجارية وما فضل من عظامها. ثم بكى بكاء شديداً ورمى الترس من يده وأخذ كساء على يده ثم قال لي: لا تبرح إلى أن آتيك إن شاء الله تعالى.: ثم سار فغاب عني ساعة ثم عاد وبيده رأس الأسد فطرحه عن يده ثم طلب ماء فأتيته به فغسل فم الأسد وجعل يقبله ويبكي ويئن وزاد حزنه عليها وأنشد يقول:
ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هلكت لقد هيجت لي بعدها شجنا
وصيرتني فرداً وقد كنت إلفها ... وصيرت بطن الأرض لي ولها وطنا
أقول لدهر خانني بفراقها ... وغار عليها أن أكن لها حزنا
ثم قال: يا ابن العم، سلتك بالله وبحق القرابة والرحم التي بيني وبينك إلا حفظت وصيتي؟ إنك ستراني الساعة ميتاً بين يديك، فإذا كان كذلك، فغسلني وكفني أنا وهذا الفاضل من مشاش الجارية في هذا الثوب وادفنا في قبر واحد واكتب على قبرنا هذه الأبيات، وأنشد يقول:
كنا على ظهرها، والعيش في رغد ... والشمل مجتمع والدار والوطن

ففرق الدهر والتصريف ألفتنا ... وصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: ثم بكى بكاء شديداً. ثم دخل المضرب وغاب عني ساعة وخرج وجعل يتنهد ويصيح ثم شهق شهقة فارق الدنيا، فلما رأيت ذلك منه عظم علي وكبر عندي حتى كدت ألحق به من شدت حزني عليه، ثم تقدمت إليه وفعلت به ما أمرني من الغسل وكفنتهما جميعاً ودفنتهما في قبر واحد، وأقمت عند قبرهما ثلاث أيام ثم ارتحلت وأقمت سنين أتردد إلى زيارتهما.
وهذا ما كان من حديثهما، يا أمير المؤمنين قال: فلما سمع الرشيد كلامه استحسنه وخلع عليه وأجازه جائزة حسنة، والله أعلم.

إسحاق الموصلي وإبليس
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: بينما أنا ذات يوم في منزلي، وكان زمن الشتاء، وقد انتشرت السحب وتراكمت الأمطار بقطر كأفواه القرب، وامتنع الغادي والمقبل من المسير في الطرقات لما فيها من الأمطار والوحل، وأنا ضيق الصدر إذ لم يأتني أحد من إخواني، ولم أقدر على المسير إليهم من شدة الوحل والطين، فقلت لغلامي: أحضر لي ما أتشاغل به، فأحضر لي طعاماً وشراباً فتنغصت إذ لم يكن معي من يؤانسني، ولم أزل أتطلع من الطاقات وأراقب الطرقات، وأقبل الليل فتذكرت جارية لبعض أولاد المهدي كنت أهواها. وكانت عارفة بالغناء وتحريك الملاهي. فقلت في نفسي: لو كانت الليلة عندنا لتم سروري وطابت ليلتي مما أنا فيه من الفكر والقلق وإذا بداق يدق الباب وهو يقول: أيدخل محبوب على الباب واقف. فقلت في نفسي: لعل غرس التمني أثمر. فقمت إلى الباب، فإذا بصاحبتي وعليها مرط أخضر قد اتشحت به وعلى رأسها وقاية من الديباج تقيها من المطر. وقد غرقت في الطين إلى ركبتيها وابتل ما عليها من المزاريب، وهي في حال عجيب فقلت لها: يا سيدتي، ما الذي أتى بك في مثل هذه الأوحال.
فقالت: قاصدك جاءني ووصف ما عندك من الصبابة والشوق، فلم يسعني إلا الإجابة والإسراع نحوك.
فعجبت من ذلك وكرهت أن أقول لها إني لم أرسل إليك أحداً.
فقلت: أحمد الله على جمع الشمل بعدما قاسيت من ألم الصبر، ولو كنت أبطأت علي ساعة كنت أحق بالسعي إليك، فإني كثير الصبابة نحوك. ثم قلت لغلامي: هات الماء.
فقبل بسخانة فيها ماء حار حتى أصلح لها حالها ثم أمرته أن يصب الماء على رجليها وتوليت غسلهما. ثم دعوت ببذلة من أفخر الملبوس فألبستها إياها بعد أن نزعت ما كان عليها، وجلسنا ثم استدعيت بالطعام فأبت، فقلت: هل لك في الشراب؟ فقالت: نعم.
فتناولت أقداحاً ثم قالت: من يغني لي؟ فقلت لها: أنا يا سيدتي.
فقالت: لا أحب.
فقلت: بعض جواري.
قالت: لا أريد.
فقلت: غني لنفسك.
قالت: ولا أنا.
قلت: فمن يغنيك؟ قالت: إلتمس من يغني لي. فخرجت طاعة لها، إلا أني آيس من أن أجد أحداً في مثل هذا الوقت. فلم أزل حتى بلغت الشارع، فإذا أنا بأعمى يختبط الأرض بعصاً، وهو يقول: لا جزى الله من كنت عندهم خيراً، إن غنيت لم يسمعوا، وإن سكت استخفوا. فقلت: أمغن أنت؟ قال: نعم.
قلت: فهل لك أن تتم ليلتك عندنا وتؤانسنا؟ قال: إن شئت خذ بيدي فأخذت بيده وسرت إلى الدار، وقلت لها: يا سيدتي أتيت بمغن أعمى نلتذ به ولا يرانا.
فقالت: علي به.
فأدخلته وعزمت عليه في الطعام فأكل أكلاً لطيفاً وغسل يده، وقدمت إليه الشراب فشرب ثلاثة أقداح ثم قال لي: من تكون؟ قلت: إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
قال: لقد كنت أسمع بك والآن فرحت بمنادمتك.
فقلت: يا سيدي فرحت بمن يسرك.
فقال: عن يا إسحاق.
فأخذت العود على سبيل المجون وقلت: السمع والطاعة، فلما غنيت وانقضى الصوت قال: يا إسحاق، قاربت أن تكون مغنياً، فصغرت علي نفسي وألقيت العود من يدي فقال: ما عندك ممن يحسن الغناء.؟ قلت: عندي جارية.
قال: مرها فلتغن.
قلت: تغني وأنت واثق بغنائها؟ قال: نعم.
فغنت، قال: ما صنعت شيئاً فرمت العود من يدها مغضبة وقالت: الذي عندنا جدنا به فإن كان عندك شيء فتصدق به.
فقال: علي بعود لم تمسه يد.
فأمرت الخادم فجاء بعود جديد، فضرب في طريق لا أعرفها واندفع يغني هذه الأبيات:
سرى يقطع الظلماء والليل عاكف ... حبيب بأوقات الزيارة عارف
وما راعنا إلا السلام وقولها ... أيدخل محبوب على الباب واقف

قال: فنظرت إلي الجارية شزراً، وقالت: سر بيني وبينك ما وسعه صدرك ساعة وأودعته لهذا الرجل.
فحلفت لها ثم اعتذرت إليها وأخذت أقبل يديها وأدغدغ ثدييها وأعض خديها حتى ضحكت، ثم التفتت إلى الأعمى وقالت: عن يا سيدي فأخذ العود، وغنى هذه الأبيات:
ألا ربما زرت الملاح، وربما ... لمست بكفي البنان المخضبا
ودغدغت رمان الصدور ولم أزل ... أعضض تفاح الخدود المكببا
فقلت لها: يا سيدتي، فمن أعلمه بما نحن فيه؟ قالت: صدقت.
ثم تجنبناه فقال: إني لحاقن.
فقلت: يا غلام، خذ الشمعة وامض بين يديه.
فخرج وأبطأ فخرجنا في طلبه فلم نجده، وإذا الأبواب مغلقة والمفاتيح في الخزانة فلا ندري أفي السماء صعد أو في الأرض هبط ثم علمت أنه إبليس، وأنه قاد لي. ثم انصرف. فتذكرت قول أبي نواس حيث قال:
عجبت من إبليس في كبره ... وخبث ما أضمر في نيته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قواداً لذريته

إبليس يزور أبا نواس
نظير ذلك مما يستظرف لأبي نواس، ما حكي عنه أنه قال: ضجرت من ملازمة أمير المؤمنين هارون الرشيد حتى إني لم أجد فراغاً إلى نفسي، فتوجه أمير المؤمنين إلى الصرح ليبيت فيه ثم يعود. فوجدت لروحي فرصة فدخلت داري وأغلقت بابي وأحضرت شراباً وطلبت نفسي الحلوة، فعند المساء، وإذا بالباب يطرق، فخرجت وإذا أنا بظبي من أولاد الأتراك ما رأت عيني أحسن منه منظراً، فسلم عيل وقال لي: أتقبل ضيفاً؟ قلت: يا سيدي ومن لي بذلك؟ فدخل بيتي فحار عقلي عند دخوله ثم أخرج من تحت ثيابه سلاحية شراب، ونقلاً وشيئاً من الدجاج ثم شرب وغنى شيئاً لم أسمعه من غيره، وقضيت مرادي منه مراراً إلى أن مضى وقت من الليل، وقد هام عقلي من الشراب ومن حسنه ومن تسليم نفسه إلي بغير تقديم عوض، ثم قال: يا سيدي أريد الانصراف.
فقلت له: يا سيدي متى خرجت أنت خرجت روحي من جسدي وكل شيء أملكه بين يديك وأنا أصير عبدك بعد هذا اليوم ولا أفارقك.
قال: أصحيح ما تقول؟ قلت: نعم.
قال: ما أنا محتاج إلى مالك، وإن كنت صادقاً فيما ادعيت من محبتك لي قم واحلق لحيتك وشاربك واقعد مثلي أمرد.
قال: فحكم علي السكر والعشق فما قدرت أن أخالفه فأجبته إلى ذلك علي أن يبيت عندي، فعمد إلى موسى وبل لحيتي وفي الحال أنزلها وبقيت مثله أمرد، ثم صار يضحك علي وقال: يا أبا نواس كيف الشعر الذي ذكرت فيه آدم وإبليس؟ فأنشدته قائلاً:
عجبت من إبليس في كبره ... وخبث ما أضمر في نيته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قواداً لذريته
ثم ضحك ضحكاً عالياً وصك على ساحل قفاي صكاً مزعجاً، فاغتظت منه ثم قلت له: ويلك أتفعل بي هكذا. ثم أردت التطلع إليه، فما وجدت أحداً يجيبني فقلت: إنه الملعون إبليس، انتهى.
إبليس والشعراء
قال بعضهم:
قد جاءني ليلاً بو مرة ... إبليس يدعوني بلا ترجمان
وقال لي: هل لك في أمرد ... يهز من أعطافه غصن بان
قلت: نعم قال: وفي خمرة ... حبابها يحكى عقود الجمان
قلت: نعم قال: فنم آمناً ... أنت رئيس الفسق هذا الزمان
وقال أبو نواس:
وليلة طال سهادي بها ... فزارني إبليس عند الرقاد
وقال لي: هل لك في قحبة ... لبيبة تطرد عنك الرقاد
قلت: نعم! قال: وفي قهوةٍ ... عتقها الغاصر من عهد عاد
قلت: نعم! قال: وفي مطرب ... إذا شد يطرب منه الجماد
قلت: نعم! قال: وفي شادن ... قد كحلت أجفانه بالسواد
قلت نعم! قال: وفي طفلةٍ ... في وجنتيها للمحب انقياد
قلت نعم! قال: فنم آمناً ... يا كعبة الفسق وركن الفساد
وقال زين الدين عمر بن الوردي معارضاً لذلك:
نمت وإبليس أتى بحيلةٍ منتدبه فقال: ما قولك في حشيشة منتخبه؟ فقلت: لا! قال: ولا خمرة كرم مذهبه؟ فقلت: لا! قال: ولا مليحة مطيبة؟ فقلت لا! قال: ولا أغيد بالبدر اشتبه؟ فقلت: لا! قال: ولا آلة لهو مطربه؟ فقلت: لا! قال: فنم ما أنت إلا حطبه.
الرشيد وأبو نواس وأبو طوق

وحضر أبو نواس عند الرشيد ليلة أنس، وكان أبو طوق حاضراً، وكان أبو نواس مشغوفاً بحسنه وجماله، فلما انقضى المجلس أخذ كل واحد مضجعاً للنوم، فخاف الخليفة من أبي نواس على أبي طوق، فقال الخليفة لأبي طوق: نم أنت على السرير، وقال لأبي نواس: أنام أنا وأنت أسفل السرير.
فقال: سمعاً وطاعةً، وهو بذلك غير راض في نفسه.
وتغافل الخليفة عن أبي نواس وأظهر النوم ثم انتبه فوجد أبا نواس فوق السرير بجنب أبي طوق يضمه ويعانقه، فقال: ما هذا يا أبا نواس؟ فقال:
هزني الشوقمن أجل أبي طوقفتدحرجت منأسفل إلى فوق
فقال له: قاتلك الله، انتهى من حيلة الكميت.

الرشيد والرجل الأموي
من غريب ما يحكى، ما حكاه القاضي أبو الحسن التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة: أن منارة وكان صاحب شرطة الرشيد قال رفع إلى هارون الرشيد أن رجلاً بدمشق من بقايا بني أمية عظيم المال كثير الجاه، مطاعاً في البلد، له جماعة وأولاد ومماليك يركبون الخيل ويحملون السلاح ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه، فعظم ذلك على الرشيد.
قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا، وهو بالكوفة في بعض حججه، في سنة ست وثمانين ومائة، وقد عاد من الموسم، وقد بايع للأمين والمأمون والمعتصم أولاده، فدعاني، وهو خال، وقال: إني دعوتك لأمر يهمني، وقد منعني النوم، فانظر كيف يكون؟ ثم قص علي خبر الأموي. وقال: اخرج الساعة فقد أعددت لك الخيول وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلة، وتضم إليك مائة غلام واسلك البرية، وهذا كتابي إلى نائب دمشق، وهذه قيود فابدأ بالرجل، فإن سمع وأجاع فقديه وجئني به، وإن عصى فتوكل عليه أنت ومن معك لئلا يهرب، وانفذ الكتاب إلى أمير دمشق ليكون مساعداً لك، واقبضا عليه وجئني به، وأجلت لذهابك ستاً ولإيابك ستاً ويوماً لمقامك، وهذا محمل تجعله في شقة منه، إذا قيدته، وتقعد أنت في الشقة الأخرى، ولا تكل حفظه إلى غيرك، حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك. فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها من أهله وولده وحاشيته وغلمانه، وقدر نعمته والحال والمحل واحفظ ما يقوله الرجل حرفاً بحرف من ألفاطه منذ يقع طرفك عليه حتى تأتيني به، وإياك أن يشكل عليك شيء من أمره. انطلق.
قال منارة: فودعته وانطلقت وخرجت فركبت الإبل وسرت أطوي المنازل أسير الليل والنهار ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين والبول وتنفيس النفس قليلاً إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة فكرهت طروقها ليلاً فبت بظاهر البلد إلى أن فتح بابها من غد، فدخلت حتى أتيت باب الرجل، وعليها صف عظيم وحاشية كثير، فلم أستأذن ودخلت بغير إذن، فلما رأى القوم ذلك سألوا بعض من معي عني. قال: هذا منارة رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم.
قال: فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه قوماً جلوساً فظننت أن الرجل فيهم فقاموا ورحبوا بين فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: نحن أولاده وهو في الحمام.
فقلت: استعجلوه.
فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والأحوال والحاشية فوجدتها ماجت بأهلها موجاً كبيراً فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن طال مكثه واستربت منه واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى إلى أن رأيت شخصاً بزي الحمام يمشي في صحن الدار وحواليه جماعة كهول وأحداث وصبيان، وهم أولاده وغلمانه، فقلت: إنه الرجل، فجاء وجلس وسلم علي سلاماً خفيفاً وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب وما قضى كلامه حتى جاءوا بأطباق فاكهة فقال: تقدم يا منارة وكل معنا.
فقلت: ما لي إلى ذلك من سبيل.

فلم يعاودني فأكل هو ومن معه ثم غسل يديه ودعا بالطعام، فجاءوا إليه بمائدة حسنة لم أر مثلها إلا للخليفة، فقال: يا منارة ساعدنا على الأكل. لا يزيد على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة، فامتنعت عليه، فما عادوني فأكل هو ومن معه، وكانوا تسعة من أولاده، فتأملت أكله في نفسه فوجدته يأكل أكل الملوك ووجدت ذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن ووجدتهم لا يرفعون شيئاً من بين يديه قد وضع على المائدة لا تهيأ غيره حالاً أعظم وأحسن منه. وقد كان غلمانه أخذوا لما نزلت إلى الدار مالي وغلماني وعدلوا بهم إلى دار أخرى فما أطاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي وليس بين يدي إلا خمس أو ست غلمان وقوف على رأسي فقلت في نفسي: هذا جبار عنيد. فإن امتنع من الشخوص لم أطق إشخاصه بنفسي ولا بمنم معي ولا حفظ إلى أن يلحقني أمير البلد، وجزعت جزعاً شديداً ورابني منه استخفافه وتهاونه بأمري، يدعوني باسمي ولا يفكر في امتناعي من الأكل ولا يسأل عما جئت به ويأكل مطمئناً، وأنا مفكر في ذلك، فلما فرغ من أكله وغسل يديه دعا بالبخور فتبخر وقام إلى الصلاة وصلى الظهر، وأكثر من الدعاء والبتهال، ورأيت صلاته حسنة، فلما انتقل من المحراب أقبل علي وقال: ما أقدمك يا منارة؟ فأخرجت كتاب أمير المؤمنين ودفعته إليه، ففضه وقرأه، فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته فاجتمع منهم خلق كثير فلم أشك أنه يريد أن يوقع بي فلما تكاملوا ابتدأ فحلف إيماناً غليظة فيها الطلاق والعتاق والحج والصدقة والوقف أن لا يجتمع اثنان في موضع واحد. وأمرهم أن ينصرفوا ويدخلوا منازلهم، ولا يظهروا إلى أن ينكشف لهم أمر يعتمدون عليه. وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين بالمضي إليه، ولست أقيم بعد نظري فيه ساعة واحدة، فاستوصوا بمن ورائي من الحريم خيراً وما لي حاجة أن يصحبني أحد منكم هات قيودك يا منارة.
فدعوت بها وكانت في سفط ومد يده فقيدته وأمرت غلماني بحمله حتى صار في المحمل وركبت في الشق الآخر، وسرت من وقتي ولم ألاق أمير البلد ولا غيره، وسرت بالرجل وليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة، فقال لي: أترى هذا؟ قلت: نعم.
قال: إنه لي، وقال: إن فيه من غرائب الأشجار كيت وكيت. ثم انتهى إلى آخر، فقال مثل ذلك. ثم انتهى إلى مزارع حسان وقرى، فقال مثل ذلك! هذا لي، فاشتد غيظي منه، وقلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك ومالك وولدك وأخرجك فريداً مقيداً مغلولاً ما تدري إلى ما تصير إليه أمرك ولا كيف يكون،وأنت فارغ القلب من هذا حتى تصف ضياعك وبساتينك بعد أن جئتك؛ وأنت لا تفكر فيما جئت به، وأنت ساكن القلب قليل التفكر. لقد كنت عندي شيخاً فاضلاً.
فقال لي مجيباً: إنا لله وإنا إليه راجعون. أخطأت فراستي فيك. لقد ظننت أنك رجل كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا لما عرفوك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام، والله المستعان. أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه، فإني على ثقة من الله عز وجل الذي بيده ناصية أمير المؤمنين، ولا يملك أمير المؤمنين لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله عز وجل، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد فإذا عرف أمير المؤمنين أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي سرحني مكرماً، فإن الحسدة والأعداء رموني عنده بما ليس في وتقولوا علي الأقاويل، فإما أن يستحل دمي أو يخرج من إيذائي وإزعاجي ويردني مكرماً، أو يقيمني ببلاده معظماً مبجلاً؟ وإن كان قد سبق في علم الله عز وجل أن هذا يبدو لي منه سوء وقد اقترب أجلي وكان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل الأرض والسماء على صرف ذلك عني ما استطاعوا، فلم أتعجل الفكرة فيما فرغ الله منه، وإني أحسن الظن بالله الذي خلق ورزق وأحيا وأمات، وإن الصبر والرضا والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة أولى، وقد كنت أحسب أنك تعرف هذا فإذن قد عرفت مبلغ فهمك، فإني لا أكلمك بكلمة واحدة حتى يفرق بيننا أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى.

ثم أعرض عنين فما سمعت منه لفظة غير القرآن والتسبيح أو طلب ماء أو حاجة حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثلاث عشرة بعد الظهر، والنجب قد استقبلتني قبل ستة فراسخ من الكوفة يتجسسون خبري، فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين، فانتهيت إلى الباب في آخر النهار فحططت رحلي، ودخلت على الرشيد وقبلت الأرض بين يديه ووقفت، فقال: هات ما عندك يا منارة وإياك أن تغفل منه عن لفظة واحدة.
فسقت الحديث من أوله إلى آخره حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والبخور وما حدثني به نفسي من امتناعه، والغضب يظهر في وجه أمير المؤمنين ويتزايد حتى انتهيت إلى فراغ الأمور من الصلاة والتفاته إلي وسؤاله عن سبب قدومي ودفعي الكتاب إليه ومبادرته إلى إحضار ولده وأهله وأصحابه، وحلفه عليهم أن لا يتبعه أحد وصرفه إياهم ومد رجليه، فقيدته فما زال وجه الرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي له لما ركبنا في المحمل، فقال: صدق واله ما هذا إلا رجل محسود على النعمة، مكذوب عليه، ولعمري، لقد أزعجناه وأذيناه ورعنا أهله فبادر بنزع قيوده وائتني به.
قال: فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد فما هو إلا أن رآه حتى رأيت ماء الحياء يجول في وجه الرشيد فدنا الأموي وسلم بالخلافة ووقف فرد عليه الرشيد رداً جميلاً وأمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه الرشيد فسأله عن حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة وأمور أحببنا معها أن نراك ونسمع كلامك ونحسن إليك، فاذكر حاجتك؟ فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا، ثم قال: ليس لي عند أمير المؤمنين إلا حاجة واحدة.
فقال: مقضية، فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي وأهلي وولدي.
قال: نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك ومعاشك فإن مثلك لا يخرج إلا ويحتاج إلى شيء من هذا.
فقال: يا أمير المؤمنين، عمالك منصوفون وقد استغنيت بعدلهم عن مسألتي فأموري مستقيمة وكذلك أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل أمير المؤمنين.
فقال الرشيد: انصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر إن عرض لك.
فودعه الأموي، فلما ولى خارجاً قال الرشيد: يا منارة، احمله من وقتك وسر به راجعاً كما سيرته حتى إذا وصلت إلى مجلسه الذي أخذته منه فودعه وانصرف.
قال منارة: فما زلت معه حتى انتهى إلى محله، ففرح به أهله وأعطاني عطاء جزيلاً وانصرفت، والله أعلم، وهذه الحكاية على سبيل الاختصار.

الرشيد والخليفة الثاني الكاذب
حكي أن الخليفة هارون الرشيد قلق في بعض الليالي قلقاً شديداً فاستدعى بوزيره جعفر البرمكي وقال له: يا وزيري إن صدري ضيق ومرادي الليلة التفرج في شوارع بغداد والنظر في مصالح العباد بشرط أن لا يعرفنا أحد من الناس ونتزيا بزي تجار الأكياس.
فقال له الوزير: السمع والطاعة.
فقاموا في الوقت والساعة وقلعوا ما عليم من ثياب الملك والافتخار ولبسوا ثياب التجار: الخليفة والوزير جعفر ومسرور السياف الأكبر، وتمشوا من مكان إلى مكان حتى وصلوا إلى الدجلة فرأوا بالأمر المقدور شيخاً قاعداً في شختور، فتقدموا إليه وسلموا عليه، وقالوا: يا شيخ، نشتهي من فضلك وإحسانك أن تفرجنا الليلة في مركبك، وخذ هذين الدينارين أجرتك انتفع بهما.
فقال لهم الشيخ: ومن يقدر على الفرجة، والخليفة هارون الرشيد ينزل كل ليلة في حراقة صغيرة إلى الدجلة ومعه مناد ينادي: يا معشر الناس كافة من جيد ورديء شيخ وصبي خاص وعام عبد وغلام، كل من نزل في مركب بالليل وشق الدجلة ضربت عنقه أو يشنق على صاري مركبه، وكأنكم الساعة بالحراقة وهي مقبلة.
فقال له الخليفة هارون الرشيد وجعفر البرمكي: يا شيخ خذ هذين الدينارين وادخل بنا قبواً من هذه الأقبية إلى أن تروح الحراقة.
فقال لهم الشيخ: هاتوا الذهب والله المستعان.
فأخذ الذهب وعوم بهم قليلاً، وإذا بالحراقة قد أقبلت من كبد الدجلة وفيها الشموع والمشاعل فقل لهم الشيخ: أما قلت لكم! يا ستار لا تكشف الأستار؟

فدخل إلى قبو ووضع عليهم مئزراً أسود، وصاروا يتفرجون من تحت المئزر، وإذا بالحراقة قد أقبلت والشمع يوقد فيها، وإذا في مقدم الحراقة مشاعلي بيده مشعل من الذهب الأحمر يوقد فيه بالعود القاقلي وعلى المشاعلي قباء أطلس أحمر بطراز مزركش أصفر وعلى رأسه شاش موصلي وعلى كتفيه مخلاة من الحرير الأخضر ملأى من العود القاقلي. وهو يوقد به عوض الحطب، ومشاعلي آخر في مؤخر الحراقة مثله، ومائتا مملوك واقفون ميمنة ومسيرة، وكرسي منصوب من الذهب الأحمر وعليه شاب حسن جالس كالقمر وعليه خلعة سوداء بطرازين من الذهب الأصفر، وبين يديه إنسان كأنه الوزير جعفر. وعلى رأسه خادم واقف كأنه مسرور بسيف مشهر، وعشرون نديماً. فقال الخليفة: يا جعفر.
قال: لبيك، أمير المؤمنين.
قال: لعل أن يكون هذا أحد أولادي إما المأمون أو محمد الأمين.
فلما وصلت الحراقة إليهم وإذا بالمشاعلي ينادي: معاشر الناس كافة الخاص والعام، الجيد والرديء والعبد والغلام، جهاوات وغير جهاوات قد رسم خليفتنا هذا أن كل من تفرج في الدجلة أو فتح طاقته حل ماله وضربت رقبته ومن لا يصدق يجرب.
قال: فتأمل الخليفة هارون الرشيد في الشاب وهو جالس على كرسي من الذهب قد كمل بالحسن والجمال والبهاء والكمال فلما تأمله هارون الرشيد التفت إلى الوزير وقال: يا وزير.
قال له: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: والله ما أبقى شيئاً من شكل الخلافة، وهذا الذي بين يديه كأنه أنت يا جعفر لا محالة، والخادم الذي على رأسه كأنه مسرور، هذا، وهؤلاء الندماء كأنهم ندمائي، وقد حار عقلي في هذا الأمر.
فقال له الوزير: وأنا والله يا أمير المؤمنين كذلك.
ثم تقدمت الحراقة إلى أن غابت عن العين فعند ذلك خرج الشيخ بالشختور الذي فيه الجماعة من تحت القبوة. وقال: الحمد لله على السلامة، فإنه لم يصادفنا.
فقال له الخليفة: يا شيخ! وهذا الخليفة ينزل كل ليلة الدجلة؟ قال: نعم يا سيدي، له على هذه الحالة سنة كاملة.
فقال له الخليفة: يا شيخ! نشتهي من فضلك وإحسانك أن تقف لنا ليلة غد في هذه المكان، ونحن نعطيك خمسة دنانير، فإنا قوم غرباء وقصدنا التنزه، ونحن نازلون في الفندق.
فقال الشيخ: السمع والطاعة.
ثم إن الخليفة وجعفراً ومسروراً توجهوا من عند الشيخ المراكبي إلى القصر وقلعوا ما عليهم من لبس التجار ولبسوا ثياب الملك والافتخار، وجلس كل واحد في مرتبته، ودخلت الأمراء والحجاب والنواب. وانعقد المجلس بالناس، ولما انقضى النهار وتفرقت الأجناد قال الخليفة هارون الرشيد لوزيره: يا جعفر! انهض بنا للفرجة على الخليفة الثاني.
فضحك جعفر ومسرور، ولبسوا لبس التجار وخرجوا منشرحي الصدور، وكان خروجهم من باب السر، فلما وصلوا إلى الدجلة وجدوا الشيخ صاحب الشختور لهم في الانتظار فنزلوا عنده في المركب. فلما استقروا مع الشيخ المراكبي، وإذا بالخليفة الثاني في الحراقة، وقد أقبلت عليهم فتأمولها وإذا فيها مائتا مملوك غير المماليك الأول والمشاعلية تنادي على عادتهم، فقال الخليفة: يا وزير، هذا شيء لو سمعت به ما صدقت، ولكن رأيت هذا عياناً.
ثم إن الخليفة قال لصاحب الشختور: يا شيخ! هذه عشرة دنانير وسر بنا في مساواتهم، فإنهم في النور ونحن في الظلام ننظرهم ونتفرج عليهم. وهم لا ينظروننا.
فأخذ الشيخ العشرة دنانير وأطلق الشختور في مساواتهم وصار في ظلام الحراقة، ولم يزالوا سائرين في أثرهم إلى آخر البساتين ، وإذا بزريبة بطول الحراقة التصقت عليها، وإذا بغلامين واقفين، ومعهما بغلة مسرجة ملجمة، فطلع الخليفة الثاني وركب البغلة وسار بين الندماء، وزعقت المشاعلية والجاويشية، واشتالت الغاشية، وطلع هارون الرشيد وجعفر ومسرور إلى البر وشقوا بين المماليك وساروا قدامهم، فلاحت من المشاعلية لتفاتة فرأوا ثلاثة أنفار لبسهم لبس التجار، وهم غرباً فأنكروهم غمزوا عليهم فمسكوهم وأحضروهم بين يدي الخليفة الثاني، فلما نظرهم قال: كيف وصلتم إلى هذا المكان وما الذي جاء بكم في مثل هذا الوقت؟ قالوا: يا مولانا! اليوم كان قدومنا، ونحن قوم غرباء تجار، وخرجنا نتمشى الليلة، وإذا بكم قد أقبلتم وجاء هؤلاء وقبضوا علينا وأوقفونا بين أيديكم، وهذا خبرنا.

فقال لهم الخليفة الثاني: طيبوا قلوبكم، فلا بأس عليكم لأنكم قوم غرباء، ولو كنتم من بغداد لضربت أعناقكم للمخالفة.
ثم التفت إلى وزيره وقال: خذ هؤلاء صحبتك ليكونوا ضيوفنا الليلة.
فقال: سمعاً وطاعة.
ثم ساروا إلى أن وصلوا إلى قصر عظيم الشأن محكم البنيان ما حواه سلطان، قصر قام من التراب وتعلق بأكتاف السحاب، بابه من خشب الساج، مرصع بالذهب الوهاج، يدخل منه إلى إيوان بفسقية وشاذروان، وحصر عبدانية ومخدات اسكندرانية، وستر مسبول وفرش يذهل العقول، وعلى عتبة الباب مكتوب هذان البيتان:
قصر عليه تحية وسلام ... نشرت عليه جمالها الأيام
فيه العجائب والغرائب نوعت ... فتحيرت في نعتها الأقلام
قال: فدخل الخليفة الثاني إلى القصر، والجماعة في خدمته، إلى أن جلس على كرسي من الذهب مرصع بالدر والجوهر، وعلى الكرسي بشخانة من الحرير الأخضر لا يرى مثلها إلا عند كسرى وقيصر، مزركشة بالذهب الأحمر، معلقة في بكرة من الصندل، رباطاتها من الحرير الأصفر، هذا وقد جلس الندماء في مراتبهم، وصاحب سيف النقمة واقف بين يديه، فمدوا السماط وأكلوا ورفعوا الخوان، ولأيديهم غسلوا، وأحضرت آلة المدام، ووضعت الطاسات والأواني وصففت الأباريق والكاسات والقناني، ودار الدور إلى أن وصل إلى الخليفة هارون الرشيد، فامتنع من الشراب فقال الخليفة الثاني لجعفر: ما بال صاحبك لا يشرب.
فقال: يا مولاي له مدة ما شرب.
فقال الشاب: عندي مشروب غير هذا يصلح لصاحبك. علي بشراب التفاح! ففي الحال أ؛ضر فقدم بين يدي هارون الرشيد وقال: كلما وصل إليك الدور فاشرب من هذا، ولا يزالون يشربون في انشراح وتعاطي أقداح إلى أن تمكن الشراب من رؤوسهم واستولى على عقولهم ونفوسهم فقال الرشيد لوزيره: والله يا وزير ما عندنا آنية مثل هذه الآنية، فيا ليت شعري من يكون هذا الشاب.
فبينما هما يتحدثنا بلطافة إذ لاحت من الشاب التفاتة فوجد الوزير يسار الخليفة، فقال: المسارة عربدة.
فقال الوزير: ما ثم عربدة، إلا أن رفيقي هذا يقول: سافرت غالب البلاد، ونادمت الملوك وعاشرت الأجناد ما رأيت أحسن من هذا النظام ولا مثل آنية هذا المدام، إلا أن أهل بغداد يقولون الشراب بلا سماع من جملة المجون.
فلما سمع الخليفة الثاني هذا الكلام تبسم وانشرح، وكان بيده قضيب، فضرب به على مدورة، وإذا بباب قد فتح وخرج منه خادم يحمل كرسياً من العاج مصفحاً بالذهب الوهاج، وخلفه جارية قد كملت بالحسن والجمال والبهاء والكمال، فنصب الخادم الكرسي وجلست عليه الجارية وهي كالشمس الضاحية، وبيدها عود من صنعة الهنود، وشدته وحنت إليه بعد أن ضربت أربعة وعشرين طريقة عليه، فأذهلت العقول وعادت إلى الطريقة الأولى وجعلت تقول:
لسان الهوى من مقلتي لك ناطق ... يخبر عني أنني لك عاشق
ولي شاهد من طرف قلبي معذب ... وقلبي جريح من فراقك خافق
وكم أكتم الحب الذي قد أذابني ... وقلبي جريح والدمع سوابق
وما كنت أدري قبل حبك ما الهوى ... ولكن قضا الرحمن في الخلق سابق
قال: فلما سمع الخليفة الثاني هذا الشعر من الجارية صرخ صرخة عظيمة، وشق البذلة التي كانت عليه إلى الذيل، فاسبلت عليه البشخانة، وأتي ببذلة غيرها أحسن منها، فلبسها وجلس على عادته، فلما وصل القدح إليه ضرب القضيب على المدورة وإذا بباب قد فتح وخرج منه خادم حامل كرسياً من الذهب، وخلفه جارية أحسن من الأولى، وجلست على الكرسي وبيدها عود يكمد الحسود، وأنشدت تقول:
كيف اصطباري! ونار العشق في كبيد ... والدمع من مقلتي صوفانه مدد
والله ما طاب لي عيش أسر به ... وكيف يفرح قلب حشوه كمد
قال: فصرخ الشاب صرخة عظيمة، وشق ما عليه إلى الذيل وأسبلت عليه البشخانة على العادة وأتي ببذلة غيرها أحسن منها فلبسها، واستوى جالساً، ودار المدام وانبسط الكلام، فلما وصل القدح إليه ضرب القضيب على المدور ففتح الباب وخرج منه خادم على العادة ومعه كرسي وخلفه جارية، فجلست على الكرسي، ومعها عود يذهل الأسود فغنت، وأنشدت تقول:
اقصروا هجركم وقولا جفاكم ... ففؤادي وحقكم ما سلاكم

وارحموا مدنفاً كئيباً حزيناً ... ذا غرام متيماً في هواكم
قد براه السقام من عظم وجد ... يتمنى من الإله رضاكم
يا بدور محكم في فؤادي ... كيف أختار في الأنام سواكم
قال: فصرخ الشاب وشق ما عليه من الثياب فأخوا عليه البشخانة وأتوا ببذلة غيرها، وعاد إلى حالته مع ندمائه ودارت الأقداح وطاب الانشراح، فلما وصل القدح إليه ضرب القضيب على المدورة، ففتح باب وخرج منه خادم حامل كرسياً وخلفه جارية فجلست على الكرسي، وأخذت العود وغنت تقول:
هل ينقضي حال التهاجر والقلى ... ويعود لي ما قد تقضى أولا
أيام كنا والديار تلمنا ... في طيب عيش والحواسد غفلا
غدر الزمان بنا وفرق شملنا ... من بعد هاتيك المنازل والحلا
أتروم مني يا عذولي سلوةً ... وأرى فؤادي لا يطيع العذلا
فدع الملام وخلني بصبابتي ... فالقلب من أنس المحبة ما خلا
يا سادة نقضوا العهود وبدلوا ... لا تحسبوا قلبي لبعدكم سلا
قال: فلما فرغت الجارية صرخ الشاب صرخةً عظيمة، وشق ما عليه من الثياب، ووقع إلى الأرض مغشياً عليه، وسقط منه القوى والحبل، فأرادوا أن يرخوا عليه البشخانة على العادة، فتعوقت حبالها بالإرادة، فلاحت من هارون الرشيد التفاتة فنظر على أجناب الشاب أثر مقارع، فقال الرشيد بعد النظر والتأكد لجعفر: إنه شاب مليح إلا أنه لص قبيح، وما عند أحد منه خبر. هل رأيت ما على جنبيه من الأثر.
وقد أسبلت البشخانة عليه على العادة وأتي ببذلة غيرها فلبسها وقد أفاق من غشيته فاستوى جالساً على العادة مع الندماء، فحانت منه التفاتة فوجد جعفراً والخليفة يتحدثان، فقال لهما: ما الخبر يا فتيان؟ فقال جعفر: يا مولاي خير، لا شك ولا خفاء، إن رفيقي هذا من التجار الكبار، وسافر إلى جميع الأمصار، وصحب الملوك والأخبار، قال: إن الذي حصل من مولانا الخليفة في هذه الليلة إسراف عظيم لم أر أحداً فعل هذا الفعل في هذه الأقاليم لأنه شق كل بذلة بخمسمائة دينار، وهذا شيء زائد في العيار.
فقال الشاب: يا هذا! المال مالي والقماش قماشي، وهذا من بعض إنعامي على الخدم والحواشي، فإن كل بذلة شققتها هي لواحد من الندماء الحضار، وقد رسمت لهم أن العوض على كل بذلة خمسمائة دينا.
فأنشد عند ذلك الوزير جعفر وقال:
بنت المكارم وسط كفك منزلاً ... فجميع مالك للأنام مباح
وإذا المكارم أغلقت أبوابها ... يوماً، فأنت لقفلها مفتاح
قال: فلما سمع الشاب من الوزير جعفر ذلك، رسم له بألف دينار وبذلة، ثم دارت بينهم الأقداح وطاب لهم شراب الراح، فقال الرشيد: يا جعفر، اسأله عن الضرب الذي رأيناه على جنبيه حتى ننظر ما يقول في جوابه.
فقال الوزير: يا مولاي لا تعجل وترفق بنفسك فالصبر أجمل.
فقال: وحياة رأسي وتربة العباس إن لم تسأله أخمدت منك الأنفاس.
فعند ذلك التفت الشاب إلى الوزير وقال: مالك مع رفيقك وما الخبر؟ فقال: خير يا مولانا.
فقال: سألتك بالله إلا ما أخبرتني بخبره، ولا تكتم عني شيئاً من أمره.
فقال: يا مولاي! إنه أبصر على جنبيك أثر سياط، فتعجب من ذلك غاية العجب وقال: يا لله العجب! الخليفة يضرب؟ وقصده يعلم ما السبب؟ فلما سمع الشاب هذا الكلام تبسم وقال: اللهم فنعم، واعلموا أن حديثي عجيبٌ وأمري غريبٌ لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، ثم تأوه وأن واشتكى وبكى وأنشد:
حديثي عجيب فاق كل العجائب ... وحق إلهٍ غامر بالمواهب
فإن شئتمو أن تسمعوا إلي فأنصتوا ... فيطرب هذا الجمع من كل جانب
وأصغوا إلى قولي، ففيه إشارة ... وإن كلامي صادق غير كاذب
لأني قتيل من غرام ولوعة ... وقاتلتي فاقت جميع الكواعب
لها مقلة كحلا وخد مورد ... ويقتلني منها قسيُّ الحواجب
وقد حس قلبي أن فيكم إمامنا ... خليفة هذا الوقت ابن الأطايب
وثانيكمو يدعى الوزير بجعفر ... وفي الحق يدعى صاحباً وابن صاحب

وثالثكم مسرور سيفاف نقمةٍ ... فإن كان هذا القول حقاً بصائب
فقد نلت ما أرجو على كل حالةٍ ... وجاء سرور القلب من كل جانب
قال: فعند ذلك حلف له جعفر أنهم لم يكونوا المذكورين، فضحك الشاب وقال: الذي أعرفكم به أني ما أنا أمير المؤمنين، وإنما سميت نفسي بهذا الاسم لأبلغ ما أريد من أبناء المدينة، واسمي علي بن محمد الجوهري، وإن أبي كان من الأعيان، ومات وخلف لي أموالاً لا تأكلها النيران من ذهب وفضة ولؤلؤ ومرجان وياقوت وجوهر وزمرد وبهرمان وحمامات وغيطان وبساتين وفنادق وطواحين وعبيد وجوار وغلمان، فلما كان في بعض الأيام وأنا جالس في حانوتي وحولي الحشم والخمد، وإذا أنا بجارية قد أقبلت على بغلة وفي خدمتها ثلاث جوار كأنهن الأقمار، ونزلت على دكاني وجلست وقالت: أنت علي بن محمد الجوهري.
فقلت لها: مملوكك وعبد رقك.
فقالت: هل عندك عقد جوهر يصلح لمثلي؟ فقلت: يا ستي الذي عندي يحضر بين يديك، فإن أعجبك شيء كان بسعد المملوك، وإن لم يعجبك شيء منه فبسوء حظي.
وكان عندي مائة عقد جوهر فعرضت عليها الجميع فلم يعجبها شيء منها، وقالت: أريد أحسن مما رأيت؛ وكان عندي عقد صغير شراؤه على والدي بمائة ألف دينار لم يوجد مثله عند أحد السلاطين الكبار، فقلت: يا سيدتي بقي عندي عقد الفصوص والجواهر الذي لم يملكه أحد من الأصاغر والأكابر.
فقالت: أرني إياه.
فلما رأته قالت: هذا الذي طول عمري أتمناه. ثم قالت: بكم ثمنه في الأسعار؟ فقلت: شراؤه على والدي بمائة ألف دينار.
فقالت: ولك خمسة آلاف زائدة.
فقلت لها: يا سيدتي العقد وصاحبه في الرق بين يديك، ولا خلاف.
فقالت: لا بد من الفائدة ولك الجميلة الزائدة.
وقامت من وقتها عجلة وركبت البغلة بسرعة، وقالت: يا سيدي نور الدين، باسم الله فلتكن في صحبتنا لتأخذ الثمن، فإن نهارك اليوم بنا مثل اللبن.
فقمت وأقفلت الدكان وسرت معهن في أمان إلى أن وصلنا إلى الدار، فوجدتها داراً عليها السعادة لائحة والافتخار وعلى بابها مكتوب بالذهب واللازورد العجيب هذه الأبيات:
ألا يا دار لا يدخلك حزنٌ ... ولا يغدر بصاحبك الزمان
فنعم الدار أنت لك ضيفٍ ... إذا ما ضاق بالضيف المكان
فنزلت الجارية، ودخلت الدار وأمرت بجلوسي إلى أن يأتي الصيرفي، فجلست على باب الدار ساعة لطيفة، وإذا بجارية خرجت إلي وقالت: يا سيدي ادخل إلى الدهليز فإن جلوسك على الباب قبيح.
فقمت إلى الدهليز وجلست على الدكة ساعة، وإذا بجارية خرجت إلي، وقالت: يا سيدي! تقول لك سيدتي ادخل واجلس على جانب الإيوان حتى تقبض مالك.
فقمت فدخلت وجلست حيث أمرتني، وإذا بكرسي من الذهب وعليه ستارة من الحرير الأحمر، وإذا بتلك الستارة قد رفعت فبان من تحتها تلك الجارية التي اشترت مني العقد، وقد أسفرت عن وجه كأنه دائرة القمر، والعقد في عنقها فدهش عقلي وحار ذهني ولبي من رؤية تلك الجارية وحسنها، فلما رأتني قامت من على الكرسي، وسعت نحوي، وقالت: يا نور الدين! هل رأيت جميلة مثلي؟ فقلت: يا سيدتي الحسن كله فيك، وهو من بعض معانيك.
فقالت: يا علي، اعلم أني أحبك وما صدقت أنك صرت عندي.
ثم إنها طوقتني وعانقتني، فقبلتها وقبلتني ثم جذبتني وعلى صدرها رمتني. فلما علمت مني أني أريد أن أهم بها قالت: يا علي، أتريد أنن تجتمع بي في الحرام، والله لا كان من يفعل الآثام ويرضى بقبيح الكلام، فإني بكر عذراء ما دنا مني أحد، ولست مجهولةً في البلد، أتعلم من أنا؟ فقلت: لا والله، وحلفت لها يميناً.
فقالت: أنا الست دنيا بنت يحيى بن خالد البرمكي، وأخي جعفر.
فلما سمعت منها ذلك جمعت خاطري عنها، وقلت: يا سيدتي ما لي ذنب في التهجم عليك، أنت التي أطمعتني في إحسانك والوصول إلى جنابك.
فقالت: لا بأس عليك ولا بد من الإحسان إليك فإن أمري بيدي، والقاضي ولي عقدي، والقصد أن أكون لك وتكون لي.
ثم إنها دعت بالقاضي والشهود وبذلت المجهود، فلما حضروا قالت لهم: هذا نور الدين علي بن الجوهري قد طلب زواجي ودفع لي هذا العقد مهري، وأنا قد قبلت ورضيت.

ثم إن القاضي حمد الله تعالى وأثنى عليه وكتب الكتاب فدخلت عليها بعد أن أعطت للقاضي شيئاً ما له حساب، وأحضرت المدام وأحضرت الأقداح بأحسن نظام، فلما لعبت الخمرة في رؤوسنا أمرت جارية عوديةً أن تغني فأنشأت تقول:
قلبي وآمالي بباب رجاكمو ... لا أبتغي في الكون غير رضاكمو
يا جيرة جاروا علي ببعدهم ... حنوا علينا وارحموا مضناكمو
حاشاكمو، يا سادتي، أن تهجروا ... صباً معنى مغرماً بهواكمو
بالله جودوا وارحموا لمتيم ... لم يستمع فيكم حديث سواكمو
مرسى فؤادي فوق بحر رضاكمو ... فإذا شجاه حسنكم ناجاكمو
قال: فأطربتنا الجارية بحسن غنائها ولم تزل الجواري يغنين جارية بعد جارية وينشدن الأشعار إلى أن غنت عشر جوارٍ، فعند ذلك أخذت العود الست دنيا وأنشدت تقول:
قسماً بلين قوامك المياس ... إني لنار الهجر منك أقاسي
فارحم لصب في هواك متيمٍ ... يا بدر تم أنت سيد الناس
أنعم بوصلك كي أبيت بليلةٍ ... أجلو جمالك في ضياء الكاس
ما بين ورد جمعت ألوانه ... مع نرجس أيضاً وحسن الآس
قال الشاب: ثم إني أخذت منها العود وضربت عليه وغنيت هذه الأبيات:
سبحان ربي جميع الحسن أعطاكِ ... حتى بقيت أنا من بعض أسراك
يا من لها ناظر تسبي الأنام به ... خذي الأمان لنا من سحر عيناك
فالماء والنار في خديك قد جمعا ... والورد جوري نبت وسط خداك
أنت الغرام لقلبي والنعيم له ... فما أمرك في قلبي وأحلاك
قال: فلما سمعت مني ما قلت فرحت فرحاً شديداً، ثم إنها صرفت الجواري وقمنا إلى أحسن مكان قد فرش لنا فيه من سائر الألوان، ونزعت ما عليها من الثياب وخلوت بها خلوة الأحباب، فوجدتها بنتاً بكراً بختم ربها، ففرحت بي وفرحت بها فرحاً لم أجد في عمري ليلة أطيب منها، وفيها أنشدت أقول:
يا ليل! دم لي لا أريد صباحاً ... يكفي بوجه معانقي مصباحا
طوقته طوق الحمام بساعدي ... وجعلت كفي للمنام مباحا
هذا هو الفوز العظيم فخلنا ... متعانقين، فلا نريد براحا
فأقمت عندها شهراً كاملاً، وقد نسيتُ الدكان والأهل والأوطان إلى ذات يوم من الأيام قالت: يا نور الدين قد عزمت اليوم على المسير إلى الحمام، وأنت اقعد على هذا السرير إلى أن أرجع إليك.
فقلت: سمعاً وطاعةً.
وحلفتني أن لا أنتقل من موضعي، فأخذت جواريها وذهبت إلى الحمام، فوالله يا إخواني ما لحقت أن تخرج من رأس الزقاق، إلا والباب قد فتح ودخلت منه عجوز وأي عجوز، وقالت: يا نور الدين الست زبيدة تدعوك، فقد سمعت بشبابك وطيب غنائك.
فقلت: والله علي يمين أنني ما أقوم من مقامي حتى تأتي الست دنيا.
فقالت العجوز: يا نور الدين لا تخل الست زبيدة تصير عدوتك، فقم كلمها وارجع.
فقمت من وقتي إليها والعجوز أمامي إلى أن أوصلتني إلى الست زبيدة، فلما وصلت إليها، قالت: يا نور الدين أنت معشوق الست دنيا؟ فقلت: مملوكك وعبد رقك.
فقالت: صدق الذي وصفك بالحسن والجمال، فإنك فوق الوصف والمقال، ولكن عن لي شيئاً حتى أسمعك؟ فقلت: السمع والطاعة، فأتتني بعود فغنيت عليه وأنشدت أقول:
قلب المحب مع الأحباب متعوب ... وجسمه بيد الأسقام منهوب
ما في الركائب من زمت حمولهم ... إلا وكان له في الظعن محبوب
أستودع الله لي في حبكم قمراً ... يهواه قلبي وعن عيني محجوب
يرضى ويغضب، ما أحلى تدلله ... وكل ما يفعل المحبوب محبوب
فقالت لي: حفظ الله بدنك وطيب أنفاسك، فلقد كملت في الحسن والظرف والمعنى، فقم إلى مكانك قبل أن تجيء إليه الست دنيا فلا تجدك فتغضب عليك.

فقبلت الأرض وخرجت العجوز أمامي إلى أن أوصلتني إلى الباب الذي خرجت منه، فدخلت وجئت إلى السرير لأجلس فوجدتها جاءت من الحمام ونامت على السرير، فقعدت عند رجليها وصرت أكبسها، ففتحت عينيها فرأتني فجمعت رجليها ورفستني فرمتني من على السرير وقالت: يا نور الدين! خنت اليمن وكذبت. وذهبت إلى الست زبيدة؟ ووالله لولا خوفي من الهتيكة والفضيحة لخربت قصرها على رأسها. ثم قالت لعبدها: يا صواب، قم اضرب رقبة هذا النذل الكذاب، فلا حاجة لنا به.
فتقدم ذلك الخادم إلي وشرط ذيلي وعصب عيني، وأراد أن يضرب رقبتي فقامت إليها الجواري الكبار والصغار، وقلن لها: يا ستاه، ما هو بأول من أخطأ ما عرف خلقك، وأنت ما تبغضينه، وما فعل ذنباً يوجب أن تقتليه.
فقالت: والله لا بد أن أؤثر فيه أثراً. ثم أمرت بضربي فضربت على أضلاعي الضرب الذي رأيتموه، وأمرت بإخراجي. فأخرجوني وأبعدوني عن القصر، ورموني ورجعوا وتركوني، فلمت نفسي: فمشيت قليلاً قليلاً إلى أن وصلت إلى منزلي، وأحضرت جراحاً وأريته الضرب فلاطفني وسعى في مصالحي. فلما صح جسمي دخلت الحمام وزالت عني الأوجاع والأسقام. وجئت إلى الدكان وأخذت جميع ما فيه وبعته وجمعت ثمنه واشتريت أربعمائة مملوك ما جمعهم أحد من الملوك يركب معي في كل يوم مائتان، وعملت هذا المركب الحراقة بألف ومائتين من الذهب العين، وسميت نفسي بالخليفة، ورتبت من معي من الخدام كل واحد في وظيفة وناديت: كل من تفرج في الدجلة ضربت عنقه بلا مهلة. ولي على هذه الحالة سنة كاملة ولم أسمع لها بخبر ولا وقفت لها على أثر، ثم إنه بكى وأن واشتكى وأنشد يقول:
والله ما كنت طول الدهر ناسيها ... ولا دنوت إلى من ليس يدنيها
كأنها البدر في تكوين خلقتها ... سبحان خالقها سبحان باريها
صدت ولا ذنب لي إلا محبتها ... فكيف حال الذي قد بات نابيها
وصيرتني حزيناً ساهياً دنفاً ... والقلب قد حار مني في معانيها
قال: فلما سمع هارون الرشيد كلام الشاب وما أبداه من الخطاب تعجب غاية العجب. وقال: سبحان من جعل لكل شيء سبباً.
ثم إنهم طلبوا من الشاب الانصراف وأضمر الرشيد للشاب الإنصاف وأن يتحفه غاية الإتحاف، فانصرفوا من عنده سائرين وإلى قصر الخلافة طالبين، ولما استقر بهم في منزلهم الجلوس غيروا ما كان عليهم من الملبوس ولبسوا أثواب الموكب والملك والزينة، وكذلك مسرور سياف النقمة والعطب، فقال الخليفة لجعفر المهيب: يا وزير! علي بالشاب.
فخرج إليه في الحشم والخدم وسار إلى منزل الشاب فخرج إليه وسلم عليه فقال له الوزير جعفر: أجب أمير المؤمنين.
فقال: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين وحامي حوزة الدين.
فسار معه إلى القصر وهو من الترسيم عليه في حصر، فلما دخل إلى الخليفة ورفع الوزير الستر عن السدة الشريفة ورأى الشاب الخليفة عرفه، فقبل الأرض بين يديه ودعا له بدوام العز وأثنى عليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين وحامي حوزة الدين وقامع المفسدين وإمام المتقين هناك الله بما أعطاك وجعل الجنة مأواك والنار مثوى لأعداك وأنشد يقول:
لا زال بابك كعبة مقصودةً ... وترابها فوق الجباه رسوم
حتى ينادي في البلاد بأسرها ... هذا المقام وأنت إبراهيم
فعند ذلك تبسم الخليفة في وجهه، ورد عليه السلام وأظهر له الإحسان والإكرام وقربه إليه، وأجلسه بين يديه وقال له: يا نور الدين أريد أن تحدثني بحديثك الليلة يا مسكين، فإنه من أعجب الأمور.
فقال الشاب: العفو يا أمير المؤمنين، أعطني منديل الأمان ليهدأ روعي ويطمئن قلبي.
فقال الخليفة: لك الأمان.
فشرع الشاب يتحدث بالذي جرى له من أوله إلى آخره، فعلم الخليفة من غير إطالة أن الصبي عاشق لا محالة، فقال الخليفة: أتحب أن أردها إليك يا مسكين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ثم أنشد يقول:
إن رمت إحساناً فهذا وقته ... أو رمت معروفاً فهذا حينه
فعند ذلك التفت الرشيد إلى الوزير وقال له: أحضر أختك الست دنيا بنت الوزير يحيى.
فقال له: السمع والطاعة.
فأحضرها في الوقت فلما مثلت بين يديه قال لها: أتعرفين هذا من؟ فقالت: أين للنساء معرفة بالرجال؟

فتبسم وقال: يا دنيا قد عرفنا الحال وسمعنا الحكاية من أولها إلى آخرها وفهمنا باطنها وظاهرها، والأمر لا يخفى وإن كان مستوراً.
فقالت: كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وأن أستغفر الله مما جرى مني، وأسأل من فيض الفضل العفو عني.
فضحك الخليفة وأحضر القاضي والشهود وعقد له ثانياً عليها. وحصل له سعد السعود، وأكمد العدو والحسود وجعله نديمه وزاد تكريمه، وعاش بقية عمره في أهنإ عيش ونعمةٍ، يجالس الخليفة في الليل والنهار، تؤانسه الست دنيا ذات الفخار.

الرشيد وجارية جعفر
ويحكى أن جعفراً البرمكي نادم الرشيد ليلة، فقال: يا جعفر بلغني أنك اشتريت الجارية الفلانية، ولي مدة أطلبها، فإنها بديعة الجمال، ولي شوق زائد إليها فبعنيها.
قال: ليس علي فيها بيع.
قال: هبنيها.
قال: ولا أهبها.
فقال الرشيد: زبيدة طالق مني ثلاثاً إن لم تبعنيها أو تهبنيها.
وقال جعفر: زوجتي طالق مني ثلاثاً إن بعتها أو وهبتها.
ثم أفاقا من نشوتهما وعلما أنهما وقعا في أمر عظيم وعجزا عن تدبير الحيلة فقال الرشيد: هذه واقعة ليس لها غير أبي يوسف، فاطلبوه، فكان قد انتصف الليل. فلما طلب قام فزعاً وقال: ما طلبت في هذا الوقت إلا لأمر حدث في الإسلام.
ثم خرج مسرعاً وركب بغلته وقال لغلامه: اصحب معك المخلاة، واجعل فيها بعض شعير، فإذا دخلنا دار الخلافة ودخلت فضع بين يدي الدابة شيئاً منه تشتغل به إلى حين خروجي، فإنها لم تستوف علفها في هذه الليلة.
فقال: سمعاً وطاعةً.
فلما دخل على الرشيد قام له وأجلسه على سريره بجانبه وكان لا يجلس معه غيره، وقال له: ما طلبناك إلا لأمر مهم، وهو كذا وكذا، وقد عجزنا عن تدبير الحيلة.
فقال: يا أمير المؤمنين، هذا من أسهل ما يكون. يا جعفر! بع أمير المؤمنين نصفها وهبه نصفها تبرأ من يمينكما.
فسر بذلك أمير المؤمنين وفعلا، فقال الرشيد: أحضر الجارية في هذا الوقت فإني شديد الشوق إليها.
فأحضرت، فقال القاضي أبي يوسف: أريد وطأها في هذا الوقت، ولا أطيق الصبر إلى مضي مدة الاستبراء، انظر لي الحيلة في ذلك؟ فقال أبو يوسف: ائتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين الذين لم يجر عليهم العتق.
فأحضر مملوك، فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين، إئذن لي أن أزوجها منه، ثم يطلقها قبل الدخول فيحل وطؤها في الحال من غير استبراء.
فأعجب الرشيد ذلك أكثر من الأول، فقال: أذنت لك.
فأوجب القاضي النكاح، ثم قبله المملوك، فقال له القاضي طلقها.
فقال له: هذه صارت لي زوجة وأنا لا أطلقها.
فردد عليه القول فأبى وضاق صدر الخليفة لذلك، وقال: قد اشتد الأمر أعظم مما كان.
فقال القاضي أبو يوسف: يا أمير المؤمنين رغبه بالمال.
فقال: طلقها ولك مائة دينار.
قال: لا أفعل.
قال: مائتا دينار.
قال: لا أفعل.
إلى أن عرضوا عليه ألف دينار وهو يمتنع، وقال القاضي: الطلاق بيدي أم بيد أمير المؤمنين أم بيدك؟ قال: بل بيدك أنت.
قال: والله لا أفعل أبداً.
فاشتد غضب أمير المؤمنين، فقال القاضي: يا أمير المؤمنين لا تجزع فإن الأمر هين اعتق الجارية، ثم ملك هذا العبد للجارية؟ قال: أعتقتها وملكته لها.
فقال لها القاضي: قولي قبلت؟ فقالت: قبلت.
فقال القاضي: حكمت بالتفريق بينكما لأنه دخل في ملكها فانفسخ النكاح.
فقام أمير المؤمنين على قدميه، وقال: مثلك من يكون قاضياً في زماني. وستدعى بأطباق الذهب فأفرغت بين يديه، وقال للقاضي: هل معك شيء توعيه؟ فتذكر مخلاة البغلة. فاستدعى بها، فملئت له ذهباً، فأخذها وانصرف. فلما أصبح قال لخلانه: انظروا إلى من علم العلم فليتعلمه كذلك، فإني أعطيت هذا المال العظيم في مسألتين أو ثلاث.
فانظر أيها المتأدب إلى لطف هذه الواقعة فإنها اشتملت على محاسن منها إدلال الوزير على قلب أمير المؤمنين وحلم الخليفة، وزيادة علم القاضي فرحم الله أرواحهم أجمعين.
ولكن مسألة الاستبراء لم تتخرج إلا على مذهب أبي حنيفة فخرجها أبو يوسف على قواعد مذهبه لأنه حنفي المذهب. والله أعلم.
هجرتك وزرتك
من كلام إبراهيم الموصلي رحمه الله تعالى:
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه الهجر

ويا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتقض العصفور بلله القطر

المجنون العاقل
من الحكايات اللطيفة، أن بعض الملوك قصد التفرج على المجانين، فلما دخل عليهم رأى فيهم شاباً حسن الهيئة نظيف الصورة يرى عليه آثار اللطف وتفوح منه شمائل الفطنة، فدنا منه وسأله مسائل، فأجابه عن جميعها بأحسن جواب. فتعجب منه عجباً شديداً.
ثم إن المجنون قال للملك: قد سألتني عن أشياء فأجبتك. وإن سائلك سؤالاً واحداً.
قال: وما هو؟ قال: متى يجد النائم لذة النوم؟ ففكر الملك ساعة، ثم قال: يجد لذة حال نومه.
فقال المجنون: حالة النوم ليس له إحساس.
فقال الملك: قبل الدخول في النوم.
فقال المجنون: كيف توجد لذته قبل وجوده.
فقال الملك: بعد النوم.
فقال المجنون: أتوجد لذته وقد انقضى؟ فتحير الملك وزاد إعجابه وقال: لعمري إن هذا لا يحصل من عقلاء كثيرة، فأولى أن يكون نديمي في مثل هذا اليوم، وأمر أن ينصب له تخت بإزاء شباك المجنون، ثم استدعى بالشراب، فحضر فتناول الكأس وشرب، ثم ناول المجنون، فقال: أيها الملك أنت شربت هذا لتصير مثلث فأنا أشربه لأصيل مثل من؟ فاتعظ الملك بكلامه ورمى القدح من يده وتاب من ساعته، والله أعلم.
الست بدور والأمير عمرو
يحكى أن الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً، فاستدعى جعفراً وقال: أريد منك أن تزيل ما بقلبي من الضجر.
فقال الوزير: يا أمير المؤمنين، كيف يكون على قلبك ضجر، وقد خلق الله أشياء كثيرة، تزيل الهم عن المهموم، والغم عن المغموم، وأنت قادر عليها؟ فقال الرشيد: وما هي يا جعفر؟ فقال له: قم بنا الآن، حتى نطلع فوق سطح هذا القصر ونتفرج على النجوم واشتباكها وارتفاعها والقمر وحسن طلعته كأنه وجه من تحب كما قيل:
فكأنما حسن السماء ولونها ... قد رقمت فيها أفانين الصور
وكأن هذا البدر حين بدا لنا ... في بعض ليل من غلاف قد ظهر
فقال الرشيد: يا جعفر، ما تلفتت نفسي إلى شيء من ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، افتح شباك القصر الذي يطلع على البستان وتفرج على حسن تلك الأشجار واسمع صوت تغريد الأطيار وانظر إلى هدير الأنهار وشم روائح تلك الأزهار واسمع الناعورة التي كأنها أنين محب فارق محبوبه، وهي كما قال فيها بعض واصفيها:
وناعورة حنت وغنت وقد غدت ... تعبر عن حال المشوق وتعرب
وترقص عطف البان تيهاً لأنها ... تغني له طول الزمان ويشرب
وإما أن تنام يا أمير المؤمنين، إلى أن يدركنا الصباح.
فقال: يا جعفر، ما تلتفت نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين، افتح الشباك الذي يطلع على الدجلة حتى تتفرج على تلك المراكب والملاحين، فهذا يصفق، وهذا ينشد موالياً، وهذا يقول دوبيت، وهذا يقول كيت وكيت.
فقال الرشيد: ما تلتفت نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال جعفر: قم يا أمير المؤمنين، حتى ننزل إلى الاصطبل الخاص وننظر إلى الخيل العربيات وتتفرج على حسن ألوانها، ما بين أدهم كالليل إذا أظلم، وأشقر، وأشهب، وكميت أحمر، وأبيض، وأخضر، وأبلق، وأصفر، وألوان تحير العقول.
فقال الرشيد: ما تلتفت نفسي إلى شي من ذلك.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، عندك في قصرك ثلاثمائة جارية، ما بين جنكية، إلى عودية، إلى دفية، إلى قانونية، إلى زامرة، إلى مغنية، إلى راقصة، إلى سنطيرية، أحضر الجميع، وأحضر العقار المروق، فعل أن يزول ما بقلبك من الضجر.
فقال: ما تهم نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين ما بقي إلا ضرب عنق مملوكك جعفر، فإني قد عجزت عن إزالة هم مولانا.
فقال: يا جعفر، أما سمعت قول ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من فم مولانا أسمع.
فقال الرشيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فرح أمتي في ثلاث: أن يرى بعينه شيئاً ما رآه، أو يسمع شيئاً ما سمعه، أو يطأ مكاناً ما وطئه " ، فيتفق يا جعفر أن يكون في بغداد مكان ما وطئناه، أو شيء ما سمعناه، أو موضع ما رأيناه.

فقال جعفر: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أطلع إلى مجلس النوبة وأنظر أحداً من المسافرين أحضره بين يدي أمير المؤمنين، لعله أن يحدثك بحديث ما سمعته؟ فقال الرشيد: قم وافعل.
فقام جعفر وطلع وعاد بسرعة بالشيخ أبي الحسن الخليع الدمشقي المسامر. قال: فلما رأى أمير المؤمنين سلم فأحسن وترجم فأبلغ، ثم قال: يا أمير المؤمنين وحامي حوزة الدين وابن عم سيد المرسلين وخاتم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أطال الله بقاك وجعل الجنة مأواك والنار مثوى لأعداك لا خمدت لك نار ولا أغيظ لك جار، ثم أنشد يقول:
دام لك العز والبقاء ... ما اختلف الصبح والمساء
ودمت ما دامت الليالي ... بمدة ما لها انقضاء
الناس ناس بكل أرض ... وأنت من فوقهم سماء
قال: فرد الشيخ السلام وقال له: اجلس يا أبا الحسن، وحدثنا بحديث عجيب مليح لم نسمعه قط؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أحدثك بشيء سمعته بأذني أو بشيء رأيته بعيني؟ قال الرشيد: يا شيخ أبا الحسن الذي تراه العين أحسن من الذي تسمعه الأذن.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أفرغ لي عن ثلاثة أشياء منك؟ فقال: ما الثلاثة؟ فقال: ذهنك وسمعك وقلبيك.
فقال الرشيد: هات يا أبا الحسن.
فقال: يا أمير المؤمنين لي عادة أني أسافر في كل سنة إلى البصرة للأمير محمد بن سليمان الزينبي، وأقعد عنده أحدثه الأسمار، وأورد له الأخبار، وأنشد له الأشعار، ولي عليه رسم ألف دينار آخذها وأعود إلى بغداد. فاتفق لي من سنة من السنين أني سافرت إلى البصرة على عادتي ودخلت على الأمير محمد بن سليمان وجلست عنده اليوم الأول والثاني والثالث، فركب إلى الصيد وتركني في منزله وأوصى أرباب دولته بخدمتي وإكرامي إلى أن يعود، وأوصى الطباخ الذي له أن لا يطعمني إلا شيئاً تشتهيه نفسي، فاشتهيت السمك فقلت للطباخ: فعمل لي من السمك عدة ألوان فأكلت وطاب لي الأكل حتى ثقل على فؤادي، فقلت: ما يصرف عني هذا إلا المشي، ولي عدة أسفار إلى البصرة ما أعرف فيها مكاناً، وأريد اليوم أن أجعلها حجة وفرجة. ثم إني نزلت أتمشى في شوارع البصرة فعطشت عطشاً شديداً وناهيك بعطش السمك، فقلت في نفسي: إن تناولت شربة من السقاء لا تطيب نفسي لأنه يشرب منه أصحاب الأمراض، وكبر على نفسي أن أحملها إلى شاطئ الدجلة، وقلت: ما لي إلا أن أقصد بعض دور المحتشمين وأطلب منها شربة من ماء، فأتيت إلى درب وفي ذلك الدرب خمسة دور داران مقابلتان لدارين ودار صدرانية قد قامت من التراب وتعلقت بأذيال السحاب، ولها باب مقنطر مزخرف بمصاطب طولانية، مفروش عليها حصر عبدانية، والباب ساج مصفح بصفائح الذب الوهاج ومسامير الفضة وستر من الحرير الأصفر المدثر مكتوب عليه هذه الأبيات:
ألا يا دارُ لا يدخلك حزنٌ ... ولا يغدر بصاحبك الزمان
فنعم الدار أنت لكل ضيفٍ ... إذا ما ضاق بالضيف المكانُ
قال: فقلت في نفسي، من هذه الدار أشرب الماء، فأتيت إلى الباب فسمعت صوتاً ضعيفاً من فؤاد نحيف، وقائلاً يقول:
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضاً بي وقولاً في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه
فإن تبسم قولا في ملاطفةٍ ... ما ضر لو بوصالٍ منك تسعفه
وإن بدا لكما في وجهه غضبٌ ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
قال: فقلت، يا حبذا إن كان قائل هذا الصوت شخصاً صورته على قدر صوته واحتشمت، ثم إني قويت قلبي ورفعت الستر ودخلت الدهليز إلى أن انتهيت إلى آخره ومديت طرفي، وإذا أنا بدار قد أقبلت عليها السعادة، وزالت عنها الشقاوة، ورأيت في صدر ذلك المكان إيواناً وبركة وشاذرواناً، وفي ذلك الإيوان تخت من السياج، وقوائمه من العاج، ومصفح بالذهب الوهاج، وفوق التخت فراش من الحرير الأطلس، ومسند مزركش، وعليه جارية نائمة خماسية القد، قائمة النهد لا بالطويلة الشاهقة ولا بالقصيرة اللاصقة، أشهر من علم، تربية العجم على أكتاف الخدم، بخد أسيل، وطرف كحيل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، إن أقبلت فتنت، وإن ولت قتلت، كما قال فيها بعض واصفيها:

كما اشتهت خلقت حتى إذا اعتدلت ... في قالب الحسن لا طول ولا قصر
جرى بها الشحم حتى دار أعكنها ... طي القباطي فلا سمن ولا غور
كأنها أفرغت من ماء لؤلؤةٍ ... في كل جارحة من حسنها قمر
إلا أن الجارية، يا أمير المؤمنين، قد حكمت عليها يد الأيام ونزلت بها جميع الأسقام وعند رأسها طبيب، وهو يجس يدها ويقول: يا ست بدور، الضارب ضارب والساكن ساكن ولا برد ولا حمى ولا شيء تشتكينه أكثر من سهر الليل وجريان الدمع لعل الست في قلبها هوى من أحد، فلما سمعت كلام الطبيب أنشدت تقول:
إذا هممت بكتمان الهوى نطقت ... مدامعي بالذي أخفي من الألم
فإن أبح افتضح من غير منفعة ... وإن كتمت فدمعي غير منكتم
لكن إلى الله أشكو ما أكابده ... من طول وجد ودمع غير منصرم
قال: فنهض الطبيب قائماً على قدميه فناولته صرة فيها عشرون ديناراً، ثم التفتت إلي وقالت: من أين يا شيخ؟ فقلت لها: من بغداد، حملني العطش إلى أن أتيت إلى هنا.
فقالت: لعل أن يكون على يدك فرجي، فأنا أكتب لك ورقة فتسال عن بيت الأمير عمرو وتعطيه إياها، فإن رددت علي الجواب فأنا أعطيك خمسمائة دينار.
ثم استدعت بدواة وورق وكتبت، وهي تقول: أما بعد، يعجز لساني ويكل جناني عن بث الأشواق، ولكن أسأل الكريم الخلاق أن يمن علينا بالتلاق بالسعد الرائق والأمر الموافق، وأنا القائلة حيث أقول:
سروري من الدنيا لقاكم وقربكم ... وحبكم فرض وما منكم بد
ولي شاهد دمعي إذا ما ذكرتكم ... جرى فوق خدي لا يطاق له رد
إذا الريح من نحون الحبيب تنسمت ... وجدت لمسراها على كبدي برد
فوالله ما أحببت ما عشت غيركم ... ولا كنت إلا ما حييت لكم عبد
سلام عليك ما أمر فراقكم ... فلا كان منكم ما جرى آخراً عهد
أما بعد، فهذا كتاب ممن ليلها في نحيب، ونهارها في تعذيب، لا أتركن إلى عاذلٍ ولا تصغي إلى قائل، قد غلبتها أيدي الفراق، ولو شرحت بعض ما عندها للفسيح ضاق وما وسعته الأوراق، ولكن أسأل الكريم الخلاق، رافع السبع الطباق، أن يمن علينا بالتلاق، وأنشدت تقول:
أحبة قلبي وإن جرتم ... علي فكل المنى أنتم
رحلتم وفي القلب خلفتم ... لهيباً فهلا ترفقتم
وأودعتم يوم ودعتم ... بأحشاي ناراً وأضرمتم
وما كنتم تعرفون الجفا ... على شؤم بختي تعلمتم
فألف ألف لا أوحش الله منكم والسلام مني عليكم عدد شوقي إليكم ما حن الغريب إلى الأوطان، وغرد حمام الأيك على البان، فرحم الله من قرأ كتابي وتعطف برد جوابي، وأنشدت تقول:
أحبابنا ما رقا دمعي لفرقتكم ... يوم الفراق ولا كفت غواديه
بنتم فلم يبق لي من بعدكم جلد ... ولا فؤاد ولا صبر أرجيه
فكم أمني فؤادي بالهوى كذباً ... ولست أول من بانت غواشيه
قال: ثم إنها طوت الكتاب وختمته بعد أ، نثرت فيه فتات المسك والعنبر، وناولتني إياه فأخذته، وأتيت إلى دار الأمير عمرو فوجدته في الصيد والقنص، فجلست على بابه ساعة أنتظره وإذا به قد أقبل، وهو راكب على حصان أشقر، من الخيل الضمر يساوي ملك كسرى وقيصر، من أولاد الأبجر، الذي كان لعنتر، إن طلب لحق، وإن طلب لم يلحق، والأمير في ظهره كأنه البدر في منزلته ، والمماليك قد أحدقوا به كما تحدق النجوم بالقمر، وهو بخد أسيل وطرف كحيل وخصر نحيل وردف ثقيل وله عذار أخضر فوق خد أحمر وثغر جوهر وعنق مرمر كما قال فيه ابن معشر:
قمر تكامل في نهاية حسنه ... مثل القضيب على رشاقة قده
فالبدر يطلع من ضياء جبينه ... والشمس تغرب في شقائق خده
ملك الجمال بأسره فكأنما ... حسن البرية كلها من عنده
قال أبو الحسن: فما أمهلته دون أن قبلت ركابه، فلما نظر إلي ترجل واعتنقني وخذ بيدي وأدخلني الدار وأنشد يقول:
ما أظن الزمان يأتي بهذا ... غير أني رأيته في منامي

قال: فلما جلس على حافة البركة أقبل علي يحدثني ساعة، وإذا بالمائدة قد وضعت بين أيدينا، وإذا عليها من ألوان الطعام ما درج وتطاير في الأسحار، وتناكح في الأوكار من قطاً وسماني وأفراخ حمام وبط مسمن ودجاج محمر وأفراخ رضع وبعلبكات السكر فقال لي: بسم الله يا شيخ يا أبا الحسن، فقلت: لا والله يا مولاي، ما أكلت لك طعاماً ولا شربت لك مداماً، إلا أن قضيت لي حاجتي.
فقال: يا أبا الحسن كان هذا من الأول. أين الكتاب الذي للست بدور؟ فقلت: يا سيدي وما هي الست بدور.
فقال: التي جئت من عندها تطلب شربة من الماء منها، ووجدت عندها الطبيب وجرى لك معها ما هو كيت وكيت.
فقلت: يا مولاي أكنت حاضراً؟ فقال: لو كنت حاضراً فلأي شيء كتبت الكتاب؟ فقلت: هل جاء أحدُ من عندها وأعلمك؟ فقال: إنه لا يجسر أحدٌ من غلمانها أن يقابلني.
فقلت: ولا راح أحد من عندك إليها.
فقال: هي أخس وأحقر منم أن يمضي إليها أحد من عندي.
فقلت: يا سيدي! الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى والوحي ما نزل إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا عاقل أما سمعت قول القائل:
قلوب العاشقين لها عيونٌ ... ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بغير ريشٍ ... إلى ملكوت رب العالمينا
فقلت: صدقت يا مولاي، ثم ناولته الكتاب ففضه وقرأه ثم بصق فيه وداسه برجله ورماه في البركة فصعب علي، فلما علم مني ذلك قال: مم غيظك؟ أقعد الليلة عندي كل واشرب وخذ مني الخمسمائة دينار التي وعدتك بها الست بدور، وأنا أحب إليك منها وأنشد يقول:
رأيت شاة وذئباً وهي ماسكة ... بأذنه وهو منقاد لها ساري
فقلت: أعجوبة ثم التفت رأى ... ما بين نابيه ملقى نصف دينار
فقلت للشاة: ماذا الإلف بينكما ... والذئب يسطو بأنياب وأظفار
تبسمت ثم قالت وهي ضاحكة ... بالتبر يكسر ذاك الضيغم الضاري
قال: فلما سمعت كلامه، يا أمير المؤمنين تقدمت وأكلت بحسب الكفاية والنهاية. ثم انتقلنا إلى مجلس الشراب وقدمت بين أيدينا البوطي والسلاحيات، فتناول الأمير عمرو وشرب وسقاني، وأنا أحدثه وأنادمه إلى أن قرب الغروب فقال: يا أبا الحسن، ما لذة الأمير إذا شرب إلى المساء من غير غناء؟ فقلت: يقال: الشراب بلا طرب ولا سماع، الدن أولى به.
فقال لي: قم بسم الله.
فقمت معه إلى مجلس وحضيرة تنقط بالذهب واللازورد العجيب، وهي مزخرفة قد عبقت أزهارها وضحكت سلاحيتها وصفت بواطيها ورفعت أقداحها فجلس الأمير عمرو وأجلسني بجانبه وقدمت بين أيدينا الشموع وأسرجت القناديل فنظرت إلى مجلس عجيب وحضيرة مليحة ثم قلت: يا مولاي، قد تقدم القول إن الشراب بلا سماع، الدن أولى به، فصفق بكف وإذا بثلاث جوار قد أقبلن كأنهن الأقمار. الواحدة تحمل عوداً، والثانية تحمل دفاً، والثالثة تحمل مزماراً ثم نقرت الدفية على دفها، وأًلحت العودية عودها وزمرت الزامرة بمزمارها فخيل إلي أن المجلس الذي نحن فيه يرقص بنا ثم إن الدفية غنت تقول:
أحبابنا إنني من يوم فرقتكم ... على فراش الضنا ما زلت مضطجعا
داويت قلبي بحسن الصبر بعدكم ... عسى يفيق من الأسقام ما نفعا
فوالله يا أمير المؤمنين لقد طربت غاية الطرب من حسن صوتها. فلما فرغت الدفية ضربت العودية على عودها طرقاً عديدة، ثم رجعت إلى الطريقة الأولى وأنشدت تقول:
أمؤنس طرفي لا خلا منك ناظري ... وجامع شملي لا خلا منك مجلسي
ويا ساكناً قلبي وما فيه غيره ... يحل فما استوحشت فيه لمؤنسي
وبالله يا أغنى الورى من ملاحةٍ ... تصدق على صب من الصبر مفلس
أنلني الرضا حتى أغيظ به العدا ... ويا موحشي من بعد ما كان مؤنسي
رضاك الذي إن نلته نلت رفعةً ... وألبسني في الناس أشرف ملبس
قال: والله يا أمير المؤمنين لم نتمالك عقولنا من الطرب، ثم التفتت العودية نحو الدفية وقالت لها: يا فلانة أتحسني أن تقولي مثل هذا؟ فقالت الدفية: أنا أحفظ أبياتاً ما أظن أنك تحفظين لهن وزناً ولا قافية ولا عَروضاً.
فقالت العودية: هات ما عندك.

فنقرت الدفية على دفها بأناملها ورفعت صوتها وهي تقول:
كرر وردد ذكرهم في مسمعي ... فهم الشفا لتألمي وتوجعي
أقصر بعذلك يا عذول فإن لي ... قلباً لعذلك لا يفيق ولا يعي
فقالت لها العودية: أنا أحفظ الوزن والقافية والعروض.
فقالت الدفية: هات.
فضربت العودية طريقة من اثنين واثنين وأربعة وأربعة وثمانية وثمانية وستة عشرة وستة عشر ثم عادت إلى الطريقة الأولى وجعلت تقول:
إن لم أٍل وادي إلا سيل بأدمعي ... أعلم بأني في الصبابة مدعي
يا سعد إن جئت الغوير وعاينت ... عيناك بأن المنحني فلترجع
وخذ الحذار من الغزال المختفي ... واحذر يصيدك لحظ ذات البرقع
قال: والله يا أمير المؤمنين فلقد طربنا حتى قام كل منا ورقص. فلما فرغت الجارية قال لها سيدها: عن لي على الذي بقلبي وحدي، فعندها ساوت عودها وقالت:
ما كنت أول رامق صبا صبا ... نحو التصابي، وهو في عمر الصبا
فعلام يعذلني العذول على البكا ... لولا الغرام لما غدوت معذبا
حم الغرامُ بحكمه في مهجتي ... ولقد غدا قلبي به متقلبا
يا للرجال خبا الهوى بحشاشتي ... ناراً، فما تخبو على ذاك الخبا
ولقد سبى قلبي غزال لو رأت ... بلقيس طلعته لما سكنت سبا
ولقد هربت من الغرام فقال لي: ... مهلاً! فلن تجدن مني مهربا
فلما سمع الأمير عمرو ذلك صرخ ووقع على الأرض مغشياً عليه. فقالت الجارية: يا مولاي، إنه قد نام سيدي، فإن اخترت أن تنام فقم نم في مرقدك، وإن اخترت الشراب فدونك، ونحن بين يديك إلى الصباح.
فقمت ونمت فلما أصبحت قمت وسألت عن الأمير عمرو فقال بعض الجواري: إنه قد سرح إلى الصيد والقنص فأخذت شاشاً لألبسه فرأيت تحته كيساً فيه ألف دينار، فأخذته وأتيت إلى الست بدور، وإذا بها واقفة خلف الباب تنظر وهي تقول:
يا رسولي إلى الحبيب اعتذر لي ... فلعل الحبيب بقبل عذري
ثم قل للحبيب عني بلطف: ... أي ذنب جرى فأوجب هجري
فلما رأتني قالت: يا شيخ أقمح أم شعير؟ فقلت: لا والله ما هو إلا زوان، والله ما رضي يقرأ مكتوبك ولا يرد جوابك.
فرمت إلي الصرة وفيها مائة دينار، وقالت: اذهب يا أبا الحسن، ما مضى الليل وأتى النهار على شيء إلا وأزاله وغيره ويغير الله ما في القلوب.
ثم إنها أغلقت الباب في وجهي ومضت وعدت إلى دار الأمير محمد بن سليمان الزينبي فلقيته قد جاء من الصيد فقعدت عنده أياماً وأخذت رسمي وعدت إلى بغداد. ثم إني في السنة الثانية سافرت إلى البصرة على ما جرت العادة به ومضيت إلى الأمير عمرو بن جبير الشيباني لأتمنع بذلك الوجه المليح والقد الرجيح، فوجدت الدار متغيرة الآثار والعبيد لابسين السواد فلما رأيت ذلك بكيت وأنشدت أقول:
يا دار أين ترحل السكان ... وسرت بهم من بعدها الأظعان
بالأمس كان بك الضياء مع الهنا ... واليوم عرصاتك الغربان
فسمعني بعض الغلمان، فظهر لي وقال: من ذا الذي يبكي على ديارنا ويندب منازلنا؟ كفى بنا ما عندنا.
فقلت له: يا عبد الخير، إن صاحب هذه الدار كان من أصدق الناس إلي فما فعل به الزمان؟ فقال لي الغلام: يا مولاي هو في قيد الحياة. وهو يطلب الموت فلا يجده.
فقلت له: بالله عليك خذ لي الطريق.
فقال لي الغلام: يا مولاي من أقول.
فقلت: قل الشيخ أبو الحسن الخليع الدمشقي المسامر.
قال: فعبر الغلام وغاب ساعة وعاد وقال لي: بسم الله أدخل. ويقول له: يا مولاي الضارب ضارب والساكن ساكن لا برد ولا حمى ولا تشتكي غير سهر الليل وجريان الدمع، لا يكون المولى إلا مسحوراً.
فلما سمع الأمير عمرو كلام الطبيب بكى وأنشد يقول:
قال الطبيب لقومي، حين جس يدي: ... هذا فتاكم ورب البيت مسحور
فقلت: ويحك قد قاربت في صفتي ... عين الصواب فهلا قلت مهجور
ثم إنه ناوله كاغداً فيه بعض دنانير، فأخذها الطبيب وانصرف ثم التفت الأمير عمرو إلي وقال: يا شيخ أبي الحسن أما تنظر إلى هذا الحال الذي وقعت فيه؟

فقلت له: حاشاك من الأسوأ ما سبب ذلك؟ قال: ما أعرف له سبباً إلا أن هجر الست بدور قد قتلني وحبها أضنى فؤادي.
فقلت: يا مولاي، بالعام الماضي تركتك أميراً، واليوم أتيت لقيتك أسيراً فما السبب؟ فقال الأمير عمرو: يا شيخ إني في ليلة من الليالي ركبت في الشط، وقد شحنت مركبي من سائر الأزهار والفواكه والرياحين والطعام والمدام، وأوقدت الشموع حتى صارت مثل ضوء النهار، وقد غرقنا في البسط، وبقينا في لعب وضحك إلى ثلث الليل الأول، وإذ قد أقبل من صدر الشط مركب وهو يعزف بالطارات والدفوف ويضيء كضوء الشمس وفيه وهج عظيم، فقلت للملاح: قدم بنا حتى نتفرج وننظر أينا أحسن تعبية مركبنا أو هذا المركب؟ فمددت عيني فرأيت صاحبتي الست بدور، وهي بين جواريها وغلمانها تلعب وتضحك، وهي مثل اسمها، اسم على مسمى، فلما وقعت عيني عليها، كأنما رمت في قلبي جمرة نار فقلت في نفسي: ما فارقت هذا الوجه المليح بذنب. ثم إني تذكرت العهد القديم الذي كان بيننا فلم أقدر أن اصبر، فمدت يدي وأخذت تفاحة ورميتها إلى الست بدور فالتفتت فرأتني. فقالت للملاح: ارجع بنا إلى البر، نحن خرجنا هذه الليلة ننشرح، فأرسل الله لنا هذا الفتى ينغص علينا عيشنا. فلما سمعتها تشتمني أضرمت النار في قلبي ثم قلت لنفسي: أنت كنت المطلوب فصرت الطالب، فلم يهن لي عيش في هذه الليلة فقلت للملاح: ارجع إلى الشط. ثم إني نزلت ومضيت إلى منزلي وما ذقت طعم المنام. فلما أصبحت لم يقر لي قرار وصرت أترقب أن يأتي أحد من عندها، ثلاثة أيام، فلم يأت أحد فبعثت من يعرض بذكري لها، فدعت عليهم وشتمتهم. فكتبت لها بعد ذلك ألف كتاب، فلم ترد لي جواباً، وقد رميت روحي على كل كبير في البصرة، فيدخلون عليها فلم تقبل ولم تزدد إلا جفاء، ولي مدة أنتظرك يا شيخ أبا الحسن حتى أبعث معك كتاباً وأنا أحلف لك إن هي ردت لك جوابه أعطيتك ألف دينار، وإن لم ترد جوابه أعطيتك مائة دينار.
فقلت له: اكتب!.
فدعا بدواة وقرطاس وكتب في أول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من متيم يشكو إليك الصبابة ويسألك بالله أن تردي جوابه. أما بعد، فإنه يعجز لساني ويكل جناني مما أنا فيه من طول السهر ودوام الفكر، وبكى لبكائي أصم الحجر فألف ألفٍ لا أوحش الله منك والسلام عليك.
ثم ختم الكتاب وناولني إياه فأخذته وأتيت به إلى دار الست بدور، فلقيت الباب على غير تلك الحالة الأولى عليه ستر مرخي وبواب وخادم. فقلت: لا إله إلا الله، كان هذا الباب بالأمس خالياً من الأصحاب، واليوم عليه خادم وبواب، ثم إني تقدمت إلى الخادم، وقلت له: قم يا ولدي ادخل واستأذن على مولاتك الست بدور وقل لها: الشيخ أبو الحسن الخليع الدمشقي قد أتى ويطلب المثول بين يديك.
فغاب الخادم ثم عاد مسرعاً وقال: بسم الله ادخل.
فدخلت الدهليز فسمعت الست بدور وهي تقول:
ولأصبرن على الزمان وجوره ... حتى يعود كما أريد وأشتهي
قال: فلما دخلت رأيتها قاعدة على حافة البركة، وبين يديها جارية تروح لها، فتقدمت وقبلت يدها وجلست فنظرت، وإذا عليها غلالة لازوردية، وجميع جسدها بائن من تحت الغلالة كأنه عمود مرمر، وعلى الغلالة مكتوب هذا البيات:
أقبلت في غلالة زرقاء ... لازوردية كلون سماء
فتأملت في الغلالة ألقى ... قمر الصيف في ليالي الشتاء
ليتني كنت للمليحة عقداً ... أو لثاماً للوجه مثل الرداء
أو قميصاً من الحرير خفيفاً ... لاصقاً بالفؤادِ والأحشاء
ضربتني بخنجر العشق حتى ... صرت ملقى مخضباً بدمائي
تركتني على الطريق ونادت ... من يصلي على قتيل هوائي
ثم إني لما فرغت من قراءة الأشعار قالت لجاريتها: هات لي بذلة قماش، ثم غيرت ما كان عليها، وجلست ثم أمرت بإحضار المائدة وقالت: بسم الله، كل يا أبا الحسن.
فقلت: لا والله لا أكلت لك طعاماً ولا شربت عندك مداماً حتى تقضي حاجتي.
فقال: كان هذا من الأول لكن والله قد وقعت من عيننا برواحك إلى الأمير عمرو قبل مجيئك إلينا.
فقلت لها: أنا ما رحتُ.

أقسام الكتاب
1 2