كتاب : السيرة النبوية
المؤلف : محمد بن اسحاق

بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: نا يونس بن بكير قال: كل شيء من حديث ابن إسحق مسند، فهو أملاه علي، أو قرأه علي، أو حدثني به، وما لم يكن مسنداً، فهو قراءة؛ قرئ على ابن إسحق.
حدثنا أحمد قال: نا يونس، عن محمد بن إسحق، قال بينا عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف نائماً في الحجر، عند الكعبة، أتى، فأمر بحفر زمزم.
ويقال إنها لم تزل دفيناً بعد ولاية بني إسماعيل الأكبر وجرهم، حتى أمر بها عبد المطلب، فخرج عبد المطلب إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إني قد أمرت أن أحفر زمزم، فقالوا له: أبين لك أين هي؟ فقال: لا، قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي أريت فيه ما أريت، فإن كان حقاً من الله عز وجل بين لك، وإن كان من الشيطان لم يعد إليك، فرجع فنام في مضجعه، فأتى فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، هي تراث من أبيك الأقدم، لا تنزف فيها ناذر لمنعم، فهي ميراث وعقد محكم، ليست كبعض ما قد يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، فهي ميراث وعقد محكم، ليست كبعض ما قد يعلم، وهي بين الفرث والدم.
فقال حين قيل له ذلك: أين هي؟ فقيل له: عند قرية النمل، حيث ينقر الغراب غداً، فغدا عبد المطلب ومعه الحارث ابنه، ليس له ولد غيره، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها، بين الوثنين: إساف ونائلة، اللذين كانت قريش تنحر عندهما.
حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير، عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الله ابن أبي بكر بن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة رجل وامرأة من جرهم زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين.
حدثنا أحمد، نا يونس عن ابن إسحق قال: فجاء عبد المطلب بالمعول، فقام ليحفر، فقالت له قريش حين رأوا جده: والله لا ندعك تحفر بين صنمينا هذين اللذين ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث: دعني - أو ذد عني - حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به، فلما رأوا منه الجد، خلوا بينه وبين الجفر، فكفوا عنه، فلم يمكث إلا قليلاً حتى بدا له الطوي، فكبر، فعرفت قريش أنه قد صدق وأدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك فيها.
قال: ما أنا بفاعل، وإن هذا لأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيهان قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أخاصمكم إليه، فقالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشرف الشام.
حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن زرير الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب، وهو يحدث حديث زمزم فقال: بينا عبد المطلب نائم في الحجر، أتى، فقيل له: احفر برة، فقال: وما برة؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغد نام في مضجعه ذلك، فأتى، فقيل له: احفر المضنونة، فقال: وما المضنونة؟ ثم ذهب عنه، حتى إذا كان الغد عاد فنام في مضجعه، فأتى، فقيل له: احفر طيبة، فقال: وما طيبة؟ ثم ذهب عنه، فلما كان الغد عاد لمضجعه فنام فيه، فأتى فقيل له: احفر زمزم، فقال: وما زمزم؟ فقال: لا تنزف ولا تذم، ثم نعت له موضعها.
فقام فحفر حيث نعت، فقالت له قريش: ما هذا يا عبد المطلب؟ فقال: أمرت بحفر زمزم، فلما كشف عنه، وأبصروا الطوي، قالوا: يا عبد المطلب إن لنا لحقاً فيها معك، إنها لبئر أبينا إسماعيل، فقال: ما هي لكم، لقد خصصت بها دونكم، قالوا: فحكمنا، فقال: نعم، فقالوا: بيننا وبينك كاهنة بني سعد بن هذيم، وكانت بأشرف الشام.
فركب عبد المطلب في نفر من بني أبيه، وركب من كل بطن من أفناء قريش نفر، وكانت الأرض إذ ذاك مفاوز فيما بين الشام والحجاز، حتى إذا كانوا بمفازة من تلك البلاد، فنى ماء عبد المطلب وأصحابه حتى أيقنوا الهلكة، فاستسقوا القوم، قالوا ما نستطيع أن نسقيكم، وإنا لنخاف مثل الذي أصابكم، فقال عبد المطلب لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته بما بقي من قوته، فكلما مات رجل منكم، دفعه أصحابه في حفرته، حتى يكون آخركم يدفعه صاحبه، فضيعه رجل أهون من ضيعة جميعكم، ففعلوا.

ثم قال: والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت، لا نضرب في الأرض ونبتغي، عجز. فقال لأصحابه: ارتحلوا، فارتحلوا، وارتحل، فلما جلس على ناقته، وانبعث به، انفجرت عين من تحت خفها بماء عذب، فأناخ وأناخ أصحابه، فشربوا، واستقوا وسقوا، ثم دعوا أصحابهم: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله عز وجل، فجاؤوا فاستقوا وسقوا، ثم قالوا: يا عبد المطل، قد والله قضى لك، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة، لهو الذي سقاك زمزم، انطلق، فهي لك، فما نحن بمخاصميك.
حدثنا أحمد بن عبد الجبار: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق، قال: فانصرفوا ومضى عبد المطلب فحفر، فلما تمادى به الحفر، وجد غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان كانت جرهم دفنت حين أحرجت من مكة، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم، التي سقاه الله عز وجل حين ظمئ، وهو صغير.
حدثنا أحمد: نا يونس عن إسحق، تقال: حدثني عبد الله بن أبي نجيع، عن مجاهد، قال: ما زلنا نسمع أن زمزم همزة جبريل بعقبه لإسماعيل حين ظمئ.
حدثنا أحمد: نا يونس عن سعيد بن ميسرة البكري، قال: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما طردت هاجر أم إسماعيل القبطية سارة، ووضعها إبراهيم بمكة، عطشت هاجر، فنزل عليها جبريل، فقال لها: من أنت؟ فقالت: هذا ولد إبراهيم، فقال: أعطشانة أنت؟ قالت: نعم، فبحث بجناحه الأرض، فخرج الماء، فأكبت عليه هاجر تشربه، فلولا ذلك لكانت أنهاراً جارية.
نا أحمد: حدثنا يونس، عن ابن إسحق، قال: فلما حفر عبد المطلب زمزم، ودله الله عز وجل عليها، وخصه بها، زاده الله عز وجل شرفاً وخطراً في قومه، وعطلت كل سقاية كانت بمكة حين ظهرت، فأقبل الناس عليها التماس بركتها ومعرفة فضلها، لمكانها من البيت، وأنها سقيا الله عز وجل اسماعيل.
حدثنا أحمد، قال: ثنا يونس عن طلحة بن يحيى، عن عائشة بنت طلحة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم.
حدثنا أحمد قال: ثنا يونس، عن ابن إسحق قال: ووجد عبد المطلب أسيافاً مع الغزالين، فقالت قريش: لنا معك يا عبد المطلب في هذا شرك وحق، فقال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح، فقالوا :فكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولكم قدحين، ولي قدحين، فمن خرج له شيء كان له، فقالوا: قد أنصفت، وقد رضينا، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوها الذي يضرب بالقداح، وقام عبد المطلب يدعو الله و يقول:
اللهم أنت الملك المحمود ... ربي وأنت المبدىء المعيد
وممسك الراسية الجلمود ... من عندك الطارف و التليد
إن شئت ألهمت ما تريد ... لموضع الحلية و الحديد
فبين اليوم لما تريد ... إني نذرت عاهد العهود
أجعله ربي فلا أعود
وضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، فضربهما عبد المطلب في باب الكعبة، فكانا أول ذهب حليته، وخرج الأسودان على السيوف والأدرع لعبد المطلب فأخذها.
وكانت قريش ومن سواهم من العرب إذا اجتهدوا في الدعاء، سجعوا وألفوا الكلام، وكانت فيما يزعمون قلما ترد إذا دعا بها داع.

حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الله بن خريت - وكان قد أدرك الجاهلية - قال: لم يكن من قريش فخذ إلا ولهم ناد معلوم في المسجد، إذ أقبل إلام، فدخل من باب المسجد مسرعاً حتى تعلق بأستار الكعبة، فجاء بعده شيخ يريده، حتى انتهى إليه، فلما ذهب ليتناوله يبست يداه، فقلنا ما أخلق هذا أن يكون من بني بكر، فتحقبناه العرب مع ما تحدث به عنا، فقمنا إليه، فقلنا: ممن أنت؟ فقال: من بني بكر، فقلنا: لا مرحباً بك، مالك ولهذا الإلام؟ فقال الإلام: لا والله، إلا أن أبي مات ونحن صبيان صغار، وأمنا مؤتمة لا أحد لها، فعاذت بهذا البيت، فنقلتنا إليه وأوصت فقالت: إن ذهبت وبقيتم بعدي فظلم أحد منكم، أو ركب بكم أمر، فمن رأى هذا البيت فليأته فيتعوذ به فإنه سمنعه، وإن هذا أخذني واستخدمني سنين، واسترعاني إبله، فجلب من إبله قطيعاً، فجاء بي معه، فلما رأيت البيت ذكرت وصاة أمي، فقلنا: قد والله أرى منعك، فانطلقنا بالرجل، وإن يديه لمثل العصوين قد يبستا، فأحقبناه على بعير من إبله، وشددناه بالحبال، ووجهنا إبله، وقلنا: انطلق لعنك الله.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد عن أبي بكر أنه قال: كنت امرءاً تاجراً، فسلكت ثنيه في سفر لي، فإذا هو نهيش قد أنيبته حيه أصابته، فقال: يا عبد الله هل أنت مبلغي إلي أهلي ها هنا، تحت هذه الثنية؟ فقلت: نعم، فاحتملته على بعيري، فأتيت به على أهله، فقال لي رجل من القوم: يا عبد الله ممن أنت؟ فقلت: رجل من قريش، فقال: والله إني لأظنك مصنوعاً لك، والله ما كان لص أعدى منه.
قال: وأضلني ناقة لي قد كنت أعلفها العجين، فلما أيست منها، اضطجعت عند رحلي، وتقنعت بثوبي، فوالله ما أهبني إلا حس مشفرها تحرك به قدمي، فقمت إليها، فركبتها.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق، قال: حدثني من سمع عكرمة يذكر عن ابن عباس قالك بينا أنا جالس عند عمر بن الخطاب، وهو يعرض الناس على ديوانهم، إذ مر شيخ كبير أعمى يجيد؟ قائده جبذاً شديداً، فقال عمر: ما رأيت كاليوم منظراً أسوأ.
قال: فقال له رجل: يا أمير المؤمنين هذا ابن صبغاء البهزي، ثم السلمي، بهيك بريق، فقال عمر: قد أعلم أن بريقاً لقب، فما اسم الرجل؟ قالوا: عياض، قال عمر: ادعوا لي عياضاً، فدعى، فقال: أخبرني خبرك وخبر بني صبغاء - وكانوا عشرة نفر - .
فقال عياض: شيء كان في الجاهلية قد جا الله بالإسلام، فقال عمر: اللهم غفراً، ما كنا أحرانا نتحدث عن أمر الجاهلية منا حين هدانا الله عز وجل للإسلام، وأنعم علينا به! فقال: يا أمير المؤمنين كنت امرءاً قد نفاني أهلي، وكان بنو صبغاء عشرة، وكانت بيني وبينهم قرابة وجوار، فتنقصوني ما بي وتذللوني، فسألتهم بالله والرحم والجوار إلا ما كفوا عني، فلم يفعلوا، ولم يمنعني ذلك منهم، فأمهلتهم حتى دخل الشهر الحرام، ثم رفعت يدي إلى الله عز وجل فقلت:
اللهم أدعوك دعاء جاهداً ... اقتل بني الصبغاء إلا واحدا
ثم اضرب الرجل فذره قاعداً ... أعمى إذا ما قيد عني القائدا
فتتابع منهم تسعة في عام واحد، وضرب الله عز وجل هذا، وأعمى بصره، فقائده يلقي منه ما رأيت، فقال عمر: إن هذا لعجب.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين شأن أبي تقاصف الخناعي، ثم الهذلي، وأخوته أعجب من هذا، فقال عمر: وكيف كان شأن أبي تقاصف وأخواته؟ فقال: كان جار هو منهم بمنزلة عياض من بني صبغاء، فتنقصوه وتذللوه، فذكرهم الله والرحم والجوار، فلم يعطفهم ذلك عليه، فأمهلهم حتى إذا دخل الشهر الحرام، رفع يديه ثم قال:
اللهم رب كل آمن وخائف ... وسامع هتاف كل هاتف
ان الخناعي أبا تقاصف ... لم يعطني الحق ولم يناصف
فاجمع له الأحبة الألاطف ... بين قران ثم والتواصف
قال فنزلوا في قليب لهم يحفرونه حيث وصف، فتهور عليهم، فإنه لقبرهم إلى يومهم هذا.

فقال رجل من القوم: شأن بني مؤمل من بني نصر أعجب من هذا، كان بطن من بني مؤمل، وكان لهم ابن عم قد استولى على أموال بطن منهم وراثة فألجأ نفسه وماله إلى ذلك البطن، فتنقصوا ماله وتذللوه وتضعفوه، فقال: يا بني مؤمل، إني قد ألجأت نفسي ومالي إليكم لتمنعوني وتكفوا عني، فقطعتم رحمي، وأكلتم مالي وتذللتموني، فقام رجل منهم يقال له رياح، فقال: يا بني مؤمل صدق، فاتقوا الله فيه وكفوا عنه، فلم يمنعهم ذلك منه، ولم يكفوا عنه، فأمهلهم حتى إذا دخل الشهر الحرام وخرجوا عمارا، رفع يديه فقال:
اللهم زلهم عن بني مؤمل ... وارم على أقفائهم بمنكل
بصخرة أو بعض جيش جحفل ... إلا رياحاً إنه لم يفعل
فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نزلوا إلى جبل فأرسل الله عز وجل من رأس الجبل صخرة تجر ما مرت به من حجر أو شجر، حتى دكتهم به دكة واحدة، إلا رياحاً وأهل خبائه، لأنه لم يفعل.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هذا للعجب، لم ترون هذا كان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين أنت أعلم، فقال: أما اني قد علمت ذاك، كان الناس أهل الجاهلية لا يعرفون رباً ولا بعثاً، ولا قيامة ولا جنة ولا ناراً، فكان الله عز وجل يستجيب لبعضهم على بعض، للمظلوم على الظالم، ليكف بذلك بعضهم عن بعض، فلما بعث الله عز وجل هذا الرسول، وعرفوا الله عز وجل والبعث والقيامة، والجنة والنار، وقال الله عز وجل: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر فكانت المدد والاملاء.

نذر عبد المطلب
حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: وكان عبد المطلب بن هاشم فيما يذكرون، قد نذر حين لقي من قريش - عند حفر زمزم - ما لقي: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة، فلما توافى بنوه عشرة: الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره الذي نذر، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوا له، وقالوا له: كيف تصنع؟ فقال: يأخذ كل رجل منكم قدحاً، فيكتب فيه اسمه، ثم تأتوني، ففعلوا، ثم أتوه، فدخل كل رجل منكم قدحاً، فيكتب فيه اسمه، ثم تأتوني، ففعلوا، ثم أتوه، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وكان هبل عظيم أصنام قريش بمطة، وكان على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر التي يجمع فيها ما يهدي للكعبة، وكان عند هبل سبعة أقداح، في لك قدح منها كتاب، قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فعلى من خرج حمله، وفيها قدح الغفل، وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه ضرب به في القداح، فإن خرج قدح نعم، عملوا به، وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمراً ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم وقدح فيه من غيركم وقدح فيه ملصق وقدح فيه المياه فإذا ارادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك، فحيثما خرج عملوا به، وكانوا إذا ارادوا أن يختنوا إلاماً، أو ينكحوا منكحاً، أو يدفنوا ميتاً، أو شكوا في نسب أحد منهم، ذهبوا به إلى هبل، وذهبوا معهم بجزور ومائة درهم إلى صاحبه صاحب القداح التي يضرب بها، فأعطوها إياه، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، وقالوا: اضرب، اللهم أخرج على يديه اليوم الحق، ثم استقبلوا هبل، فقالوا: يا إلهنا، هذا فلان بن فلان كما زعم أهله، يريدن كذا وكذا، فإن كان كذلك فأخرج فيه الغفل، أو نعم أو منكم واقبل هديته فإن خرج من هؤلاء الثلاثة كتب في قومه وسيطاً، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفاً، وإن خرج عليه ملصق كانت منزلته فيهم لا نسب ولا حلف، وإن خرج فيه شيء مما سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به، وإن خرج لا أخروه عامه ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون من أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.

فقال عبد المطلب: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذرن، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم أصغر بني أبيه، كان هو والزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبد الله بن عمران بن مخزوم، وكان - فيما يزعمون - أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى، فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هبل يدعو ويقول:
اللهم لا يخرج عليه القدح ... إني أخاف أن يكون قدح
إن كان صاحبي للذبح ... إني اراه اليوم خير قدح
حتى يكون صاحبي للمنح ... يغني عني اليوم كل سرح
فخرج القدح على عبد الله، فاخذ عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة، الوثنين اللذين تنحر عندهما قريش ذبائحها، ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ فقال: أذبحه، وأنشأ يقول:
عاهدت ربي وأنا موف عهده ... أيام أحفر وبني وحده
والله لا أحمد شيئاً حمده ... كيف أعاديه وأنا عبده
إني أخاف إن أخرت وعده ... أن أضل إن تركت عهده
ما كنت أخشى أن يكون وحده ... مثل الذي لاقيت يوماً عنده
أوجع قلبي عند حفري رده ... والله ربي لا أعيش بعده
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: ذكروا أن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حتى خدش وجه عبد الله خدشاً، لم يزل في وجهه حتى مات.
قال ابن إسحق: فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً ونحن أحياء حتى نعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال رجل يأتي بابنه تحتى يذبحه، فما بقاء الناس على ذلك.
قال ابن إسحق: وقال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عبد الله بن عبد المطلب بن أخت القوم - : والله لا تذبحه أبداً حتى نعذر فيه، فإن كان فداء، فديناه بأموالنا، وقال فيما يزعمون في ذلك شعراً حين أجمع عبد المطلب في ذبح عبد الله بم أجمع:
واعجبني من قتل عبد المطلب ... وذبحه خرقاً كتمثال الذهب
يا شيب لا تعجل علينا بالعجب ... فما ابننا بشرط القوم النجب
ولا ابنكم بالمستذل المغتصب ... نفاديه بالمال حتى نحترب
فسوف أفديه بمالي والسلب ... وسوف ألقى دونه من الغضب
أشوس آباء قبيحات الحطب ... ما ذبح عبد الله فينا باللعب
ذبحاً كما معتور النصب ... كلا ورب البيت مستور الحجب
لا يعجل المذبوح حتى نضطرب ... ضرباً يزيل الهام من بعد الغضب
بكل مصقول رقيق ذي شطب ... كالبرق أو كالنار في الثوب العطب
قال أبو عمر: ويقال: القطب والعطب، القطن.
قال ابن إسحق: وقد قال أبو طالب حين أراد عبد المطلب ذبح عبد الله - وكان ابن أمه - وحين قال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ما قال:
كلا ورب البيت ذي الأنصاب ... ورب ما أضى من الركاب
كل قريب الدار أو منتاب ... يزور بيت الله ذا الحجاب
ما قتل عبد الله باللعاب ... من بين وهط عصبة شباب
ابن نساء سطة الأنساب ... أغر بين البيض من كلاب
وبين مخزوم ذوي الأحساب ... أهل الجياد القب والقباب
لستم على ذلك بالأذناب ... حتى تذوقوا حمس الضراب
بكل عضب ذائب اللعاب ... ذي رونق في الكف كالشهاب
تلقاه في الأقران ذا أنداب ... إن لم يعجل أجل الكتاب
قلت وما قولي بالمعاب ... يا شيب إن الجور ذو عقاب
إن لنا إن جرت في الخطاب ... أخوال صدق كأسود الغاب
لن يسلموه الدهر للعذاب ... حتى يمص القاع ذو التراب
دماء قوم حرم الأسلاب
فقال عبد المطلب عند ذلك:
الله ربي وأنا موف نذره ... أخاف ربي إن عصيت أمره

والله لا يقدر شيء قدره ... فهو وليي وإليه عمره
هذا بني قد أردت نحره ... فإن تؤخره وتقبل عذره
وتصرف الموت له وحذره ... وتصرف الموت فلا يضره
من جهد إنسان ولا تعره ... سواك ربي ويكن قره
لكل عين ناظر تسره ... أعطيته رب فلا تعره
لحزن يوعني مسره
فقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن به عرافة يقال لها نجاح، لها تابع فسلها، ثم أنت على رأس أمرك، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بغير ذاك مما لك وله فيه فرج قبلته، فقال: نعم.
فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها فيما يزعمون بخيبر، فركبوا تحتى جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب شأنه وشأن ابنه وما كان نذر فيه، فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي، فأسأله، فخرجوا من عندها، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:
يا رب لا تحقق حذري ... واصرف عنه شر هذا القدر
فإني أرجو لما قد أذر ... لأن يكون سيداً للبشر
ثم غدوا إليها، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل، وكانت كذلك، فقالت: فارجعوا إلى بلادكم، فقدموا صاحبكم، وقدموا عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم عز وجل، فإذا خرجت القداح على الإبل، فقد رضي ربكم، فانحروها عنه، ونجي صاحبكم.
فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا لذلك الأمر، قام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ويقول:
اللهم إنك فاعل لما ترد ... إن شئت ألهمت الصواب والرشد
إني مواليك على رغم معد ... وساقي حجيجك الأبد
أورثني سقياهم أبي وجد ... فإن وجدي فاعلمن وجد وجد
أنت الذي تعلم كل صمد ... فلا تحقق حذري بولد
واجعل فداه في الجلاه الجعد
حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فلما قربوا عبد الله وعشراً من الإبل، وعبد المطلب في جوف الكعبة يدعو ويقول:
اللهم رب العشر بعد العشر ... ورب من يأتي بكل نذر
أنج عبد الله عند النحر ... ونجه من شفعها والوتر
ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
يا رب عشرين ورب الشفع ... أنج عبد الله رب النفع
من ضربة القدح التي في الجذع ... وأعطه الرفع الذي في الرفع
ولا يكون ضربه كاللذع ... كلذعة النار التي في السفع
ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل ثلاثين، وقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:
رب الثلاثين ولي النعم ... أمنن علينا أن نصاب بالدم
هذا الإلام جنة لم يعلم ... فطار قلبي فهو مثل المغرم
لذكر عبد الله حتى يسلم ... وتنحر الذود التي لم تقسم
ونجه من ضربة لم تكلم
ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل أربعين، فقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:
اللهم رب الأربعين إذ بلغت ... أنج بني من قداح كتبت
وانحر الذود التي هملت ... وجللت في قتله وذيخت
بلغ رضاك ربنا إذ جعلت ... عدلي بني عبد مناف وقعت
ثم ضربوا فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل خمسين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:
يا رب خمسين سمان بدن ... من كل كوماء له لم تعطن
إلا لرب ماجد ممكن ... أنج عبد الله رب الأركن
وانحر الذود التي لم تسكن
ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزدادوا عشراً فبلغت الإبل الستين. وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
اللهم رب الستين ورب المشعر ... ورب من حج له وكبر
يسعى لرب قادر ليغفر ... أنج عبد الله عند المنحر
وعافه من ضربة لا تجبر ... لتبلغ العظم بها فيكسر

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغ الإبل سبعين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
يا رب سبعين له قد جمعت ... فاذبح الذود التي قد عطلت
وحسبت في قتله وخسيت ... وأخرج السهم لها إذ بذلت
حتى تكون دية قد كملت ... عن كل مقتول له إذ قبلت
ثم ضربوا، فخرج اسهم على عبد الله، فزدادوا عشراً، فبلغت الإبل ثمانين وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
يا رب الثمانين ورب الإهلال ... ورب يأتيك للاجلال
اجعل فداء ولدي ذود أبال ... سوف ترى شكري عند الإحلال
كشكر من يسعى بغير أنعال ... أمنن به علي رب الافضال
ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزدادوا عشراً، فبلغت الإبل تسعين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
يا رب تسعين ورب المشرع ... ورب من يدفع عند المدفع
حتى يجيزوا معشراً للمجمع ... أنج لي عبد الله عند الأذرع
ونجه من ضربة لا ترجع
ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل مائة، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
اللهم رب مائة لم تقسم ... ورب من يهوى بكل معلم
ورب من أهدى لكل محرم ... قد بلغت مائة لم تقسم
أرغم أعدائي بها ليرغموا
ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، فقالت قريش ومن حضرة: قد رضي ربك، وخلص لك ابنك.
حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فذكروا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا على الإبل وعلى عبد الله، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
اللهم أنت هديتي لزمزم ... إن بني أحب من تكلم
فلا ترينه الغداة في الدم ... فإن حزني يدخل في الأعظم
فاجعل فداه مائة لم تقسم ... حتى نفاديه بكل أعجم
أمتن علي ذا الجلال المنعم ... وأرقع الموت لذوذ عتم
وثم رب فاجعلن ما تم ... ثم اصرف الموت إليها يسلم
بحولك اللهم عيش خرم ... وأنت إن سلمته لم يكلم
فبلغ العيش به فيهزم ... حتى أراه عند كل مقدم
يبين الخير لمن توسم
ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم أعادوا الثانية، وعبد المطلب مكانه عند هبل، فلما أرادوا أن يضربوا، قال:
يا رب لا تشمت بي الأعادي ... إن بني ثمرة فؤادي
فلا تسيل دمه في الوادي ... واجعل فداه اليوم من تلادي
ذود لقاح بدنا أندادي ... حتى تكون فدية الأولاد
ولا ترثنيه الأذواد ... إن بني رب لم يفادي
لكن يمين قسم الجواد ... فقد تراني رب لم أضادي
ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم أعادوا الثانية، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:
يا رب قد أعطيتني سؤالي ... أكثرت بعد قلة عيالي
فاجعل فداه اليوم جل مالي ... معقلات تسحب الاجلال
ولا ترينه بشر حال ... فإنه يدخلني سلالي
بأن يكون النحر للهلال ... أو تصرف الموت فلا أبالي
عن ابني الأصغر ذا الجلال ... أنت الولي المعم المفضال
فأنعم اليوم لذاك بالي ... فإنه قد نزل الموالي
كلهم يبكي من السؤال ... كل فتى أبيض كالهلال
وقالت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم:
يا رب بارك في الإلام الأزهر ... في الهاشمي والكريم العنصر
ثم ضربوا بالقداح على الإبل، فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها أحد.

تزويج عبد الله بن عبد المطلب

حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس، عن ابن إسحق قال: ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد عبد الله، فمر به - فيما يزعمون - على امرأة من بني أسد ابن عبد العزى بن قصي، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه - فيما يذكرون - : أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي؛ قالت: لك عندي مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع علي الآن، فقال: إن معي أبي الآن، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، ولا أريد أن أعصيه شيئاً، فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة - ووهب يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً - فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وأم برة: أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي، وأم حبيب بنت أسد لبرة بنت عوف بن عبيد بن كعب بن لؤي.
قال ابن إسحق: فذكروا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه، فوقع عليها عبد الله، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من عندها حتى أتى المرأة التي قالت له ما قالت، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهي في مجلسها، فجلس إليها، وقال: مالك لا تعرضين علي اليوم مثل الذي عرضت علي أمس؟ قالت: فارقك النور الذي كان فيك، فليس لي بك اليوم حاجة.
حدثنا أحمد قالك نا يونس عن ابن إسحق قال: وكانت - فيما ذكروا، تسمع من أخيها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر واتبع الكتب - ويقول: أنه لكائن في هذه الأمة نبي من بني إسماعيل، فقالت في ذلك شعراً، واسمها أم قبال ابنة نوفل بن أسد، كذا قال: أم قبال:
الآن وقد ضيعت ما كنت قادراً ... عليه وفارقك الذي كان جابكاً
غدوت علي حافلاً قد بذلته ... هناك لغيري فالحقن بشأنكا
ولا تحسبني اليوم جلوا وليتني ... أصبت حبيباً منك يا عبد داركا
ولكن ذاكم صار في آل زهرة ... به يدعم الله البرية ناسكاً
فأجابها عبد الله فقال:
تقولين قولاً لست أعلم ما الذي ... يكون وما هو كائن قبل ذلك
فإن كنت ضيعت الذي كان بيننا ... من العهد والميثاق في ظل دارك
فمثلك قد أصبت عند كل حله ... ومثلي لا يستام عند الفوارك
فقالت له أيضاً أم قبال:
عليك بآل زهرة حيث كانوا ... وآمنة التي حملت إلاماً
يرى المهدي ين يرى ... عليه نور قد تقدمه أماما
فيمنع كل محصنة خريد ... إذا ما كان مرتدياً حساما
وتخفره الشمال وبان منها ... رياح الجدب تحسبه قتاما
فأنجبه ابن هاشم غير شك ... وأدته كريمته هماما
فكل الخلق يرجو جميعاً ... يسود الناس مهتدياً إماما
براه الله من نور مصفى ... فأذهب نوره عنا الظلاما
وذلك صنع ربك إذ حباه ... إذا ما سار يوماً أو أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر ... ويفرض بعد ذلكم الصياما
وقال عبد المطلب:
دعوت ربي مخفياً وجهرا ... أعلنت قولي وحمدت الصبرا
يا رب لا تنحر بني نحراً ... وفاده بالمال شفعاً ووترا
أعطيتك من كل سوام عشراً ... أو مائة دهما وكمتا وحمرا
معروفة أعلامها وصحرا ... لله من مالي وفاء ونذرا
عفوا ولم تشمت عيوناً خزرا ... بالواضح الوجه المزين عذرا
فالحمد لله الأجل شكرا ... أعطاني البيض بني زهرا
ثم كفاني في الأمور أمرا ... قد كان أشجاني وهد الظهرا
فلست والبيت المغطى سترا ... واللات والركن المحاذى حجرا
منك لأنعمك إلهي كفرا ... ما دمت حياً وأزور القبرا

حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير، عن ابن إسحق قال: حدثني والدي إسحق بن يسار قال: حدثت أنه كان لعبد اله بن عبد المطلب امرأة مع آمنة ابنة وهب بن عبد مناف، فمر بامرأته تلك، وقد أصابه أثر طين عمل به، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به أثر الطين، فدخل فغسل عنه أثر الطين، ثم دخل عامداً إلى آمنة، ثم دعنه صاحبته التي كان أراد إلى نفسها، فأبى للذي صنعت به أول مرة، فدخل على آمنة فأصابها، ثم خرج فدعاها إلى نفسه، فقالت: لا حاجة لي بك، مررت بي وبين عينيك غرة، فرجوت أن أصيبها منك، فلما دخلت على آمنة، ذهبت بها منك.
حدثنا أحمد قال: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحق قال: حدثت أن امرأته تلك كانت تقول: لمر بي وإن بين عينيه لنوراً مثل الغرة، فدعوته رجاء أن يكون لي، ودخل على آمنة فأصابها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أحمد نا يونس عن ابن إسحق قال: فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت محمداً صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
في كل بر عابد ... وكل عبد رائد
نزول غير زائد ... فإنه عبد الحميد الماجد
حتى أراه قد أتى المشاهد
فإنه آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الفرقان محمد فسميه بذلك.
فلما وضعته، بعثت إلى عبد المطلب جاريتها - وقد هلك أبوه عبد الله وهي حبلى، ويقال أن عبد الله هلك والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهراً، فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت: قد ولد لك الليلة إلام فانظر إليه، فلما جاءها، أخبرته خبره، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو الله، ويشكر الله أعطاه إياه، فقال:
السعد لله الذي أعطاني ... هذا الإلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه بالله ذي الأركان
حتى يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ البنان
أعيذه من كل ذي شنئان ... من حاسد مضطرب العنان
ذي همة ليس له عينان ... حتى أراه رافع اللسان
أنت الذي سميت في الفرقان ... في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوباً على اللسان
وقال عبد المطلب حين فرغ من شأن عبد الله، وفرج عنه ما كان فيه من البلاء وألهم بذبحه:
دعوت ربي دعوة المناصح ... دعوة مبتاع رضاه رابح
فالله عند قسمة المنائح ... أعطى على الشح من المشاحح
زمزم لا يمتاحها الممائح ... إلا الدلاء الزبد السوافح
كم من حجيج مغتد ورائح ... جاد بها من بعد لوح اللائح
سقيا على رغم العدو الماشح ... بعد كنوز الحلي والصفائح
حلي لبيت الله ذي المسارح ... بيت عليه النور كالمصابح
بنيان إبراهيم ذي المسابح ... بناه بالرفق وحلم راجح
بين الجبال الصم والصرادح ... فهو مثاب لذوي الطلائح
يتابه من كل فج نازح ... مشتبه الأعلام والصحاصح
وقال عبد المطلب:
الحمد للخالق لا العباد ... لما رأى جدي واجتهادي
وانني موفيه بالميعاد ... والعهد إن العهد ذو معاد
فرج عني كربة الفؤاد ... ونال مني فدية المفادي
فاديت عبد الله من تلادي ... إن البنين فلذ الأكباد
ثماره كالقرع للفؤاد ... أدم وحمر كلها تلاد
قلت للحباسي لها ذواد ... هل منكم من صيت ينادي
الإبل نهب بين أهل الوادي ... فتركوها وهي في عصواد
يركبها بالآلة الحداد ... كأنها رهو من المزاد

يردي بها ذو أحبل صياد ... وراح عبد الله في الأبراد
يغيظ أعدائي من الحساد ... نجيته من كرب شداد
وقال عبد المطلب أيضاً:
الحمد لله على ما أنعما ... أعطى على رغم العدو زمزما
تراث قوم لم يكن مهدما ... والحاسدون يخرقون الأدما
ولم يكن حافرها ليندما ... أصاب فيها حلية فتسلما
لله ما أجرى عليه الأسهما ... والله أوفى نذره إذ أقسما
أعطى بنين عصبة وخدما ... فلست والله أريد مأثما
في النذر أو اهريق لله دما ... منهم وقد أوفيتهم فتمما
من بعد ما كنت وحيداً أيما ... يراني الأعداء قرناً أعصما
أعضب أو ذا ارتياب أعسما
وقال عبد المطلب:
دعوت ربي دعوة المغلوب ... ونعم مدعى السائل المكروب
فالحمد للمستمع العجيب ... أعطى على رغم ذوي الذنوب
إلي والشحناء والعيوب ... زمزم ذات الموضع العجيب
بين سواد الصنم المتصوب ... وبين بيت الله ذي الحجوب
وتحت فرث النعم المغصوب

مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثنا أحمد بن عبد الجبار، نا يونس بن بكير، عن ابن إسحق قال: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين.
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة.
قال ابن إسحق: فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمه، والتمس له الرضعاء، واسترضع له حليمة ابنة أبي ذؤيب، وأبو ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام ابن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، واسم أبي رسول الله الذي أرضعه الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن فلان بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن.
وأخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة ابنة الحارث، وحذافة ابنة الحارث، وهي الشيماء، غلب عليها ذلك، ولا تعرف في قومها إلا به، وهي الحليمة أم رسول الله، وذكروا أن الشيماء كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذ كان عندهم.
حدثنا أحمد، نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني جهم بن أبي جهم - مولى لأمرأة من بني تميم، كانت عند الحارث بن حاطب، فكان يقال مولى الحارث بن حاطب - قال: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، يقول: حدثت عن حليمة ابنة الحارث - أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أرضعته - أنها قالت: قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس بها الرضعاء، وفي سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء كانت أذمت بالركب، ومعي صبي لنا، وشارفنا لنا، والله ما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، فقدمنا مكة، فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا قيل إنه يتيم تركناه، وقلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الوليد، فأما أمه فما عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك، فذهبت، فأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره.

فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري إلى ما بتنا به الليلة من الخبر حين أخذناه؟! فلم يزل الله يزيدنا خيراً، حتى خرجنا راجعين إلى بلادنا، فو الله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليلقين: ويلك، يا بنت أبي ذؤيب، أهذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟ فأقول: نعم، والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأناً، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله عز وجل أجدب منها، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله عز وجل أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعاً، لبناً، فنحلب ما شئنا، وما نحولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعاً، حتى أنهم ليقولون لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث نسرح، فيريحون أغنامهم جياعاً وما فيها قطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً، لبناً نحلب ما شئنا، فلم يزل الله عز وجل يرينا البركة، ونتعرفها حتى بلغ سنتيه، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان، فو الله ما بلغ سنتيه حتى كان إلاماً جفرا، فقدمنا به على أمه، ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه، قلنا لها: يا ظئر دعينا نرجع ببنينا هذه السنة، فإنا نخشى عليه أولاء مكة، فوالله ما زلنا بها حتى قالت: فنعم، فسرحته معنا.
فأقمنا به شهرين أو ثلاثة، فبينا نحن خلف بيوتنا، وهو مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا، جاءنا أخوه يشتد، فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائماً منتفعاً لونه، فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني، ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه، ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، انطلقي بنا، فنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما يتخوف.
قالت: فاحتملناه، فلم ترع أمه إلا به قد قدمنا به عليها، فقالت: ما رد كما به، قد كنتما عليه حريصين؟! فقلنا: لا والله يا ظئر، إلا أن الله عز وجل قد أدى عنا وقضينا الذي علينا، وقلنا: نخشى الإتلاف والأحداث، نرده إلى أهله، فقالت: ما ذلك بكما، فاصدقاني شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لا بني هذا شأن، ألا أخبر كما بخبره؟ قلنا: بلى، قالت: حملت به، فما حملت حملاً قط أخف منه، فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعاً ما يقعه المولود، معتمد أعلى يديه، رافعاً رأسه إلى السماء، فدعياه عنكما.
حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، فقال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لي في بهم لنا، أتاني رجلان عليهما ثياب بياض، معهما طست من ذهب مملوءة ثلجاً، فأضجعاني، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقان، فأخرجا منه علقة سوداء، فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذاك الثلج، حتى إذا أنقياه، رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنة بعشرة من أمته، فوزنني بألف، فوزنتم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بألف، فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنهم.
حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن أبي سنان الشيباني، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ملكين جاءاني في صورة كركيبن، معهما ثلج وماء بارد، فشرح أحدهما صدري، ومج الآخر منقاره، فغسله.

حديث تبع الحميري

حدثنا أحمد بن عبد الجبار: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: ثم إن تبعا أقبل من مسيره الذي كان سار يجول الأرض فيه، حتى نزل على المدينة، فنزل بوادي قباء، فحفر فيها بئراً، فهي اليوم تدعى بئر الملك، وبالمدينة إذ ذاك يهود، والأوس والخزرج، فنصبوا له فقاتلوه، فجعلوا يقاتلوه بالنهار، فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضياقة وإلى أصحابه، فلما فعلوا ذلك به ليالي استحي، فأرسل إليهم يريد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح بن حريش بن جحجبا بن كلده بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وخرج إليه من يهود بنيامين القرظي، فقال له أحيحة: أيها الملك نحن قومك، وقال بنيامن: أيها الملك هذه بلدة لا تقدر أن تدخلها لو جهدت بجميع جهدك، فقال: ولم؟ قال: لأنها منزل نبي من الأنبياء، يبعثه الله عز وجل من قريش، وجاء تبعاً مخبر خبره عن اليمن أنه بعث الله عليها ناراً تحرق كل ما مرت به، فخرج سريعاً، وخرج معه بنفر من يهود فيهم بنيامين وغيره، وهو يقول:
إني نذرت يميناً غير ذي خلف ... ألا أجوز وبالحجاز مخلد
حتى أتاني من قريظة عالم ... حبر لعمرك في اليهود مسود
ألقى إلي نصيحة كي أزدجر ... عن قرية محجورة بمحمد
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: ثم خرج يسير حتى إذا كان بالدف من جمدان، من مكة على ليلتين أتاه ناس من هذيل بن مدركة، وتلك منازلهم، فقالوا: أيها الملك ألا ندلك على بيت مملوء ذهباً وياقوتاً وزبرجداً تصيبه وتعطينا منه؟ فقال: بلى، فقالوا: هو بيت بمكة، فراح تبع وهو مجمع لهدم البيت، فبعث الله عز وجل عليه ريحاً فقفعت يديه ورجليه، وشجت جسده، فأرسل إلى من كان معه من يهود، فقالوا أحدثت نفسك بشيء؟ قال: نعم جاءني نفر منأهل هذا المنزل رحنا منه، فدلوني على بيت مملوء ذهباً وياقوتاً وزبرجداً، ودعوني إلى تخريبه وإصابة ما فيه، على أن أعطيهم منه شيئاً، فرأيت لهم بذلك، فرحت، وأنا مجمع لهدمه، فقال النفر الذين كانوا معه من يهود: ذلك بيت الله الحرام، ومن أراده هلك، فقال: ويحكم فيما المخرج مما دخلت فيه؟ قالوا: تحدث نفسك أن تطوف به كما يصنع به أهله وتكسوه وتهدي له، فحدث نفسه بذلك، فأطلقه الله عز وجل وقال في شعره:
بالدف من جمدان فوز مصعد ... حتى أتاني من هذيل أعبد
ذكروا إلي البيت، قالوا كنزه ... در ياقوت وفيه زبرجد
فأردت أمراً حال ربي دونه ... والرب يدفع عن خراب المسجد
ثم سار حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف، وكان أول من كساه، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافري، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الوصائل، وصائل اليمن، وأقام بمكة ستة أيام أيام - فيما ذكر لي - ينحر بها الناس، ويطعم من كان بها من أهلها ويستقيهم العسل، قال: فكان تبع فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى به ولادته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، ولا يقربوه ميتة، ولا دماً ولا مئلانا - وهو الحائض - وجعل باباً ومفتاحاً، وقال تبع في الشعر:
ونحرنا بالشعب ستة ألف ... ترى الناس نحوهن ورودا
وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضداً وبرودا
وأقمنا بها من الشهر ستا ... وجعلنا لبابه اقليدا
وأمرنا به الجرهمين خيرا ... وكانوا لحافيته شهودا
وأمرنا ألا يقربن مئلانا ... ولا ميتاً ولا دما مفصودا
ثم سرنا نؤم قصد سهيل ... قد رفعنا لواءنا معقودا
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فلما أراد الشخوص إلى اليمن، أراد أن يخرج حجر الركن، فيخرج به معه، فاجتمعت قريش إلى خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقالوا: ما دخل علينا يا خويلد أن ذهب هذا بحجرنا، قال: وما ذاك؟ قالوا: تبع يريد أن يأخذ السيف، وخرج وخرجت معه قريش بسيوفهم حتى أتوا تبعاً، فقالوا: ماذا تريد يا تبع إلى الركن؟ فقال: أردت أن أرج حتى أتوا الركن، فقاموا عنده، فحالوا بينه وبين ما أراد من ذلك، فقال خويلد في ذلك شعراً:

دعيني أم عمرو ولا تلومي ... ومهلاً عاذلي لا تعذليني
دعيني لا أخذت الخسف منهم ... وبيت الله حتى يقتلوني
فما عذرني وهذا السيف عندي ... وعضب نال قائمة يميني
ولكن لم أجد عنها محيداً ... وغني راهق ما أرهقوني
حدثنا أحمد قال: حدثنا يونس عن ابن إسحق، قال: ثم خرج متوجهاً إلى اليمن مدينتان يقال لاحدهما مأرب، والأخرى ظفار، وكان منزل الملك في مأرب مبيناً بصفائح الذهب، وكان منزله في ظفار، وكان منزل الملك في مأرب مبنياً بالرخام، وكان إذا شتى في مأرب، وإذا صاف، صاف في ظفار، وكانت مأرب بها ينشأ أبناء الملوك ويتعلمون الكلام، وكان ابن الحميري إذا بلغ قال: أرسلوا به إلى مأرب يتعلم المنطق، وكان في ظفار اصطوان من البلد الحرام مكتوب في أعلاها بكتاب من الكتاب الأول: لمن الملك، ظفار، لحمير الأخبار، فلما قدمها تبع نشرت يهود التوراة، وجعلوا يدعون الله عز وجل على النار حتى أطفأها الله عز وجل.
وكان لأهل اليمن شيطان يعبدونه، قد بنوا له بيتاً من ذهب، وجعلوا بين يديه حياضاً، فكانوا يذبحون له فيها، فيخرج، فيصيب من ذلك الدم، ويكلمهم، ويسألونه، فكانوا يعبدون فلما أطفأت يهود النار قالوا لتبع: إن ديننا هذا الذي نحن عليه خير من دينك، فلو أنك تابعتنا على ديننا، فقد رأيت أن إلهك هذا لم يغن عنك شيئاً، ولا عن قومك عند الذي نزل بكم، فقال تبع: فكيف نصنع به ونحن نرى منه ما ترون من الأعاجيب؟ قالوا: أفرأيت إن أخرجناه عنك تتبعنا على ديننا؟ قال: نعم، فجاءوا إلى باب ذلك البيت، فجلسوا علبه بتوراتهم ثم جعلوا يذكرون أسماء الله عز وجل، فلما سمع الشيطان، لم يثبت وخرج جهاراً حتى وقع في البحر، وهم ينظرون، وأمر تبع ببيته الذي كان فيه، فهدم، وتهود بعض ملوك حمير، ويزعم بعض الناس أن تبعاً قد كان تهود.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن زكريا بن يحيى المدني قال: حدثنا عكرمة قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يشبهن عليكم أمر تبع، فإنه كان مسلماً.

مقتل تبع
حدثنا أحمد بن عبد الجبار: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: لما فعل تبع ما فعل، غضبت ملوك حمير، وقالوا: ما كان يرضى أن يطيل غزونا، ويبعدنا في المسير من أهلينا حتى طعن أيضاً في ديننا وعاب آباءنا، فاجتمعوا على أن يقتلوه، ويستخلفوا أخاه من بعده، فاجتمع رأي الملوك على ذلك كلهم إلا ذا غمدان فإنه أبي، يماليهم على ذلك، فثاروا به، فأخذوه ليقتلوه فقال لهم: أتراكم قاتلي؟ قالوا: نعم، قال: اما أنا فإذا قتلتموني فادفنوني قائماً، فإنه لم يزال لكم ملك قائم ما دمت قائماً، فلما قتلوه، قالوا: والله لا يملكنا حياً وميتا، فنكسوه على رأسه، فقال في ذلك ذو غمدان، في الذي كان من أمره:
إن تك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ألا من يشتري سهراً بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
وقال في ذلك عبد كلال بعد قتل أخيه واستخلافهم إياه حين قتل وجوه حمير:
شفيت النفس ممن كان أمسى ... قرير العين قد قتلوا كريمي
فلما أن فعلت أصاب قلبي ... بما قد جئت من قتل رغيم
أشاروا لي بقتل أخ كريم ... وليس لذي الضرائب باللئيم
فعدت كأن قلبي في جناح ... بعيش ليس يرجع في نعيم
وعاد القلب كالمجنون ينمي ... إلى الغابات ليس بذي حميم
فلما أن قتلت به كراما ... وصاروا كلهم كالمستليم
رعت إلى الذي قد كان مني ... كأن القلب ليس بذي كلوم
جزى رب البرية ذار عين ... جزاء الخلد من داع كريم
فإني سوف أحفظه وربي ... وأعطيه الطريف مع القديم
وقال عبد كلال أيضاً يرثى أخاه:
أطعت القوم إذ غشوا جميعاً ... وقد اتهمت في غش النصيح
ولو طاوعت في رأيي رعينا ... لقلت له وقولي ذو ندوح
فلم أرفع بقوله لي كلاما ... وعدت كأنني عبد أسيح
فلما أن قبلت القول منه ... على الأرواح من حق الفضوح
فمن أمسى يطاوعني فإني ... سأجهد في المقال به أبوح

فلما أن لقيتهم أقامت ... لذاك النفس في هم مريح
ثم استخفلوا أخا له، يقال له عبد كلال، فزعموا أنه كان لا يأتيه النوم بالليل، فأرسل إلى من كان ثم من يهود، فقال: ويحكم، ما ترون شأني؟ فقالوا: إنك غير نائم حتى تقتل جميع من مالأك على قتل أخيك، فتتبعهم، فقتل رؤوس حمير ووجوههم، ثم خرج ابن لتبع يقال له دوس، حتى أتى قبصر، فهو مثل في اليمن يضرب بعد: لا كدوس ولا كمعلق رحله فلما انتهى إلى قيصر، دخل عليه، فقال له: إني ابن ملك العرب، وإن قومي عدوا على أخي فقتلوه، فجئت لتبعث معي من يملك لك بلادي، وذلك لأن ملكهم الذي ملكهم بعد أبي قد قتل أشرفهم ورؤوسهم، فدعا قيصر بطارقته فقال: ما ترون في شأنه هذا؟ قالوا: لا نرى أن تبعث معه أحداً إلى بلاد العرب، وذلك لأنا لا نأمن هذا عليهم ليكون إنما جاء ليهلكم، فقال قيصر: فكيف أصنع به وقد جاءني مستغيثاً؟ قالوا: اكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة، وملك الحبشة يدين لملك الروم.
فكتب له إليه، وأمره ان يبعث مع رجالاً إلى بلاده، فخرج دوس بكتاب قيصر حتى أتى به النجاشي، فلما قرأه نخر وسجد له، وبعث معه ستين ألفاً، واستعمل عليهم روزبه، فخرج في البحر، حتى أرسى إلى ساحل اليمن، فخرج عليهم هو وقومه، فخرجت عليهم حمير - وحمير يومئذ فرسان أهل اليمن - فقاتل أهل اليمن قتالاً شديداً على الخيل، فجعلوا يكردسونهم كراديس، ثم يحملون عليهم، فكلما مضى منهم كردوس تبعه آخر، فلما رأى ذلك روزبه قال لدوس: ما جئت بي ههنا إلا تفعل أيها الملك، ولكن أشير عليك فتقبل مني، قال: نعم فأشر علي، قال له دوس: أيها الملك، إن حمير قوم لا يقاتلون إلا على الخيل، فلو أنك أمرت أصحابك، فألقوا بين أيديكم ترسهم ودرقهم، ففعلوا ذلك، فجعلت حمير تحمل عليهم فتزلق الخيل على الترسة والدرق، فتطرح فرسانها، فيقتل الآخرون، فلم يزالوا كذلك حتى دقوا، وكثرهم الآخرون، وإنهم ساروا حتى دخلوا صنعاء، فملكوها وملكوا اليمن، وكان في اصحاب روزبة رجل يقال له أبرهة بن الأشرم، وهو أبو يكسوم، فلما ملكوا اليمن، قال أبرهة لروزبة: أنا أولى بهذا الأمر منك، فقال الآخر: وكيف، والملك بعثني؟ قال: وإن كان الملك بعثك، فأنا أولى بهذا الأمر منك، ففاته الآخر، واتبع أبرهة ناس من قومه، فخرجوا للقتال، فلما توافقوا ليقتتلوا، قال أبرهة لرزوبة: ما لك ولأن نفني الحبشة، فيذهب ملكنا من هذه البلاد، اخرج، فأينا قتل صاحبه كان الملك، فقالك الآخر: نعم، وكان روزبة رجلاً جسيما، وكان أبرهة رجلاً حادراً قصيراً، فقال أبرهة لإلام له: إذا خرجت إليه لأبارزه، فائته من خلفه فاقتله، فإن أصحابه لن يزدوا على أن يفروا، ولك عندي ما سألني من ملكي، فلما خرجا سل روزبه على أبرهة سيفه، فضربه عندي ما سألتني من ملكي، فلما خرجا سل روزبه على أبرهة سيفه، فضربه ضربة وسط رأسه بالسيف، وضربه إلام أبرهة من خلفه فقطعه باثنتين، فاحتمله أصحابه، واحتمل هذا أصحابه، ثم إنهم اصطلحوا على أبرهة، يولم يكن فيهم بعد صاحبهم مثله، وبلغ ذلك النجاشي، فكتب إليه يتهدده، فحلق أبرهة رأسه، وأخذ تراباً من تراب أرضه، فبعث به إليه وقال: أيها الملك، هذا رأسي وتراب أرضي، فهو تحت قدميك، وإنما كنت أنا وروزبه عبديك، فرأيت أني أقوى على أمر الملك منه، فلذلك فعلت ما فعلت، فكتب إليه النجاشي بالرضى، وأقره على ملكه.
ثم إن أبرهة بن الأشرم، وهو أبو يكسوم، بني كعبة باليمن وجعل عليها قباباً من ذهب، وأمر أهل مملكته بالحج إليها، يضاهي بذلك البيت الحرام.

حديث الفيل
حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: وإن رجلاً من بني ملكان بن كنانة، وهو من الحمس، خرج حتى قدم أرض اليمن، فدخلها، فنظر إليها، ثم قعد فخري فيها؛ فدخلها أبرهة، فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ علي بهذا؟ فقال له أصحابه: هذا رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب، قال: فعلي اجترأ بهذا، ونصرانيتي، لأهدمن ذلك البيت ولأخربنه حتى لا يحجه حاج أبداً، فدعا بالفيل، وأذن في قومه بالخروج، ومن اتبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من تبعه من عك، والأشعريون، وخثعم، فخرجوا وهم يرتجزون:
إن البلد لبلد مأكول ... يأكله عك والأشعريون والفيل

فخرج يسير، حتى إذا كان ببعض طريقه، بعث رجلاً من بني سليم، ليدعو الناس إلى حجد بيته الذي بناه، فتلقاه أيضاً رجل من الحمس، من بني كنانة، فقتله، فازاداد بذلك لما بلغه حنقاً وحردا، وأحث السير والانطلاق، حتى إذا أشرف على وادي وج من الطائف، خرجت إليه ثقيف، فقالوا: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، وليست ربتنا هذه بالتي تريد يعنون اللات، صنمهم، وليست بالتي تحج إليها العرب، وإنما ذلك بيت قريش، الذي تجئ إليه العرب، قال: فابغوني دليلاً يدلني عليه، فبعثوا مع رجلاً من هذيل، يقال له نفيل، فخرج بهم يهديهم، حتى إذا كانوا بالمغمس، نزلوا المغمس من مكة على ستة أميال، فبعثوا مقدماتهم إلى مكة، فخرجت مكة عباديد في رؤوس الجبال، وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم، فلم يبق بمكة أحد إلا عبد المطلب بن هاشم، أقام على سقايته؛ وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب، ثم يقول:
اللهم إن المرء يمن ... ع حله فامنع حلالك
لا يغلبوا بصليبهم ... ومحالهم غدرا محالك
أن يدخلوا البلد الحرام ... غدا فأمر ما بدا لك
يقول: أي شئ ما، بدا لك، لم تكن تفعله بنا، ثم إن مقدمات أبرهة، أصابت نعماً لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، فلما بلغه ذلك، خرج حتى أنتهى إلى القوم، وكان حاجب أبرهة رجلاً من الأشعريين، وكانت له بعبد المطلب معرفة قبل ذلك، فلما انتهى إليه عبد المطلب، قال له الأشعري: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن تستأذن لي على الملك، فدخل عليه حاجبه، فقال له: أيها الملك، جاءك سيد قريش الذي يطعم أنيسها في السهل، ووحوشها في الجبل، فقال: ائذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً جميلاً، فأذن له، فدخل عليه، فلما أن رآه أبو يكسوم، أعظمه أن يجلسه تحته، وكره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره، فجلس على الأرض، وأجلس عبد المطلب معه، ثم قال: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي مائتان بعير، أصابتها مقدمتك، لي، فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثم تكلمت، فزهدت فيك، فقال له: ولم أيها الملك؟ قال: لأني جئت إلى بيت هو منعتكم من العرب، وفضلكم في الناس، وشرفكم عليهم، ودينكم الذي تعبدون، فجئته لأكسره، وأصيب لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلمتني في إبلك، ولم تطلب إلي في بيتكم! فقال له عبد المطلب: أيها الملك، إنما أكلمك في مالي، ولهذا البيت رب هو يمنعه، لست أنا منه في شيء، فراع ذلك أبا يكسوم، وأمر برد إبل عبد المطلب عليه، ورجع عبد المطلب.
وأمسوا في ليلتهم تلك، فأمست ليلة كالحة، نجومها كأنما تكلمهم كلاما، لاقترابهم منهم، وأحست أنفسهم بالعذاب، وخرج دليلهم حتى دخل الحرم، وتركهم، وقام الأشعريون وخثعم، فكسروا رماحهم وسيوفهم، وبرئوا إلى الله تعالى أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك باخبث ليلة، ثم أدلجوا بسحر، فبعثوا فيلهم يريدون أن يصبحوا مكة، فوجهوه إلى مكة، فربض، فضربوه فتمرغ، فلم يزالوا كذلك حتى كادوا يصبحون، ثم إنهم أقبلوا على الفيل، فقالوا: لك الله ألا نوجهك إلى مكة، فجعلوا يقسمون له، ويحرك أذنيه، يأخذ عليهم، حتى إذا أكثروا من القسم، انبعث، فوجهوه إلى اليمن راجعاً، فتوجه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقاً، حتى إذا ردوه إلى مكانه الأول، ربض وتمرغ، فلما رأوا ذلك، أقسموا له، وجعل يحرك أذنيه يأخذ عليهم، حتى إذا أكثروا، انبعث، فوجهوه إلى اليمن، فتوجه يهرول، فلما رأوا ذلك ردوه، فرجع معهم حتى إذا كان في مكانه الأول، ربض فضربوه، فتمرغ، فلم يزالوا كذلك، فعالجوه، حتى كان مع طلوع الشمس، طلعت عليهم الطير معها، وطلعت عليهم طير من البحر أمثال اليحاميم سود، فجعلت ترميهم وكل طائر في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، فإذا رمت بتلك مضت، وطلعت أخرى، فلا تقع حجرة من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقته، ولا عظم إلا أوهاه ونقبه.
وثار أبو يكسوم راجعاً، قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلما قدم أرضاً انقطع منه فيها أرب، حتى إذا انتهى إلى اليمن، ولم يبق منه شيء إلا اباده، فلما قدمها انصدع صدره، وانشق بطنه، فهلك، ولم يصب من الأشعريين وخثعم أحد.

ولما فزعوا إلى دليلهم ذلك، يسألون عنه، فجعلوا يقولون: يا نفيل، يا نفيل، وقد دخل نفيل الحرم، ففي ذلك يقول نفيل:
ألا ردي جمالك يا ردينا ... نعمناكم مع الاصباح عينا
فإنك لو رأيت، ولن نريه ... إلى جنب المحصب ما رأينا
إذا لخشيته وفزعت منه ... ولم تأسي على ما فات عينا
خشيت الله لما رأيت طيرا ... وقذف حجارة ترمي علينا
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا
وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم:
أنت حبست الفيل بالمغمس ... أهلكت أبا يكسوم والمغلس
كردستهم وأنت غير مكردس ... تدعسهم وأنت غير مدعس
وقال عبد المطلب، وهو يرتجز ويدعو على الحبشة:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... إنهم لن يقهروا قواكا
وقال عبد المطلب حين انصرفوا:
منعت الأرض التي حميت ... من للئام فلم تخلق لهم دارا
منعت مكة منهم إنني رجل ... ذو أسرة لم نكن في الحب غدارا
إذ قلت يا صاحب الحبشان إن لنا ... من دون أن يهدم المعمور أخطارا
فسار في جيشه بالفيل مقتدرا ... وسرت مستبسلا للموت صبارا
في فتية من قريش ليس ميتهم ... بمورث حيهم شينا ولا عارا
حدثنا أحمد، نا يونس بن بكير، عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عباس في قوله: وأرسل عليهم طيراً أبابيل، قال: طير لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
حدثنا أحمد قال: نا أبي، ويونس جميعاً، عن قيس بن الربيع، عن جابر بن عبد الرحمن بن أسباط، عن عبيد بن عمير: وأرسل عليهم طيراً أبابيل قال: طيراً أقبلت من قبل البحر كانها رجال الهند ترميهم بحجارة من سجيل أصغرها مثل رؤوس الرجال، وأعظمها مثل الإبل الهزل، ما رمت أصابت، ما أصابت قتلت، وزاد فيه أبي: الأبابيل المتتابعة، ما أرادت أصابت، وما أصابت قتلت.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد رأيت قائد الفيل، وسائسه أعميين مقعدين، يستطعمان بمكة.
حدثنا أحمد، نا يونس عن ابن أسحق قال: حدثني يعقوب بن عتيبة بن المغيرة ابن الأخنس قال: حدثت أنه أول ما رؤي في أرض العرب: الحصبة، والجدري، ومرائر الشجر من العشر والحرمل وأشباه ذلك، عام الفيل.
حدثنا أحمد: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: قدمت آمنة بنت وهب، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، برسول الله صلى الله عليه وسلم على أخواله من بني عدي بن النجار بالمدينة، ثم رجعت به، حتى إذا كانت بالأبواء هلكت بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين.
حدثنا أحمد: نا يونس، عن ابن إسحق، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب، فحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله قال: كان يوضع لعبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش في ظل الكعبة، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه، فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول جده عبد المطلب: دعوا بني، فيمسح على ظهره، ويقول: إن لبني هذا شأناً، فتوفي عبد المطلب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنين، بعد الفيل بثماني سنين.
حدثنا أحمد: نا يونس، عن ابن إسحق قال: ما عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: ذهب رجل بصنعاء بحفر خربة من خربها لبعض ما ينتفع به الناس، فكشف عن عبد الله بن التامر، قاعداً يده على شجة برأسه موضوعة، إذا أخروا يده عنها، نبعت دماً، وإذا أرسلوها ردها فوضعها عليها، في يده خاتم، نقشه ربي الله، فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب أن: ارددوا عليه ما كان عليه، وأقروه حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكان على دين عيسى عليه السلام.

حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: نا أبو العالية قال: لما فتحنا تستر، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ فقال: سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس، لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عليهم، برزوا بسريره فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير بشيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع.
حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: لما حضرت عبد المطلب الوفاة، قال لبناته: ابكين حتى أسمع كيف تقلن، وكن ست نسوة، وهم أميمة، وأم حكيم، وبرة، وعاتكة، وصفية، وأروى، فقالت أميمة:
ألا هلك راعي العشيرة ذو العقد ... وساقي الحجيج المحامي عن الحمد
ومن يؤلف الجار الغريب لبيته ... إذا ما سماء البيت تبخل بالرعد
وقالت عاتكة:
أعني جودا ولا تبخلا ... بدمعكما بعد نوم النيام
أعني واسحو فزا واسكبا ... وشوبا بكاء كما بالندام
على الجحفل الغمر في النائبا ... ت كريم المساعي وفي الذمام
على شيبة الحمد واري الزناد ... وذي مصدق بعد ثبت المقام
وقالت صفية:
أرقت لصوت نائحة بليل ... على رجل بقارعة الصعيد
ففاضت عند ذلكم دموعي ... على خدي كمنحدر الفريد
على الغياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير وارث كل جود
طويل الباع أروع شيظمي ... مطاع فيعشيرته حميد
عظيم الحلم من نفر كرام ... خضارمة ملاوئة أسود
وقالت البيضاء أم حكيم، والبيضاء جدة عثمان بن عفان، أم أمه، وكانت البيضاء عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فولدت له عامراً وأروى:
ألا يا عين جودي واستهلي ... وبكي ذا الندى والمكرمات
ألا يا عين ويحك أسعفيني ... بدمع من دموع هاطلات
فبكى خير من ركب المطايا ... أباك الخير تيار الفرات
طويل الباع شيبة ذا المعالي ... كريم الخيم محمود الهبات
وصولاً للقرابة هبرزيا ... وغيثاً في السنين الممحلات
فبكيه ولا تسمى بحزن ... وبكى ما بكين الباكيات
وقالت بره:
أعيني جودا بدمع درر ... على جطيب الخيم والمعتصر
على ماجد الجد واري الزنا ... د جميل المحيا عظيم الخطر
على شيبة الحمد ذي المكرما ... ت وذي المجد والعز والمفتخر
وذي الفضل والحلم في النائيا ... ت كثير المكارم جم الفخر
له فضل مجد على قومه ... مبين يلوح كضوء القمر
أتته المنايا فلم تسوءه ... بصرف الليالي وريب القدر
وقالت أروى:
بكت عيني وحق لها البكاء ... على سمح سجيته الحياء
على سهل الخليفة أبطحي ... كريم الجد نيته العلاء
على الغياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير ليس له كفاء
طويل الباع أملس شيظمى ... أغر كأن غرته ضياء
ومعقل مالك وربيع فهر ... وفاصلها إذا التبس القضاء
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: ومات عبد المطلب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنين، فلم يبك أحد كان قبله بكاه.

وولي زمزم والسقاية من بني المطلب بعده العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ أحدث إخوته سناً، فلم تزلا إليه حتى قام الإسلام وهي بيده، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما مضى، فهي إلى آل العباس بولاية العباس إياها إلى هذا اليوم.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: ولما هلك عبد المطلب، كانت الرئاسة بعده والشرف والسن في قومه بني عبد مناف لحرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فأطعم الناس، وحاط العشيرة، وشرف قومه، ونصب قبة بمكة للضيف، يطعم فيها من جاءه، وكان عبد المطلب فيما يزعمون يوصي أبا طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن عبد الله وأبا طالب لأم، فقال عبد المطلب فيما يزعمون فيما يوصيه به، واسم أبي طالب عبد مناف:
أوصيك يا عبد مناف بعدي ... بموحد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد ... فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد ... حتى إذا خفت مداد الوعد
أوصيت أرجى أهلنا للتوفد ... بابن الذي غيبته في اللحد
بالكره مني ثم لا بالعمد ... فقال لي والقول ذو مرد
ما ابن أخي ما عشت في معد ... إلا كأدنى ولدي في الود
عندي أرى ذلك باب الرشد ... بل أحمد قد يرتجى للرشد
وكل أمر في الأمور ود ... قد علمت علام أهل العهد
ان ابني سيد أهل نجد ... يعلو على ذي البدن الأشد
وقال عبد المطلب أيضاً:
أوصيت من كنيته بطالب ... عبد مناف وهو ذو تجارب
بابن الذي قد غاب آئب ... بابن أخ والنسوة الحبائب
بابن الحبيب أقرب الأقارب ... فقال لي كشبه المعاتب
لا توصني ان كنت بالمعاتب ... يثابت الحق علي واجب
محمد ذو العرف والذوائب ... قلبي إليه مقبل وائب
فلست بالآيس غير الراغب ... بأن يحق الله قول الراهب
فيه وأن يفضل آل غالب ... إني سمعت أعجب العجائب
من كل حبر عالم وكاتب ... هذا الذي يقتاد كالجنائب
من حل بالأبجطح والأخاشب ... أيضاً ومن ثاب إلى المثاوب
من ساكن للحرم أو مجانب
آخر الجزء الأول من كتاب المغازي لابن إسحق - يتلوه في الثاني إن شاء الله حديث بحيرا الراهب والحمد لله حق حمده، وصلواته على محمد خير خلقه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
بسم الله الرحمن الرحيم توكلت على الله

حديث بحيرا الراهب
أخرنا الشيخ أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور البزاز قراءة عليه وأنا أسمع قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص قال: قرئ على أبي الحسن رضوان بن أحمد وأنا أسمع قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحق قال: وكان أبو طالب هو الذي أضاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه بعد جده، فكان إليه ومعه.
ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع السير صب له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال: يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أم؟ فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً؛ أو كما قال.

فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا مما يمرون به قبل ذلك لا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا به قريباً من صومعته، فصنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك - فيما يزعمون - عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب، حين أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمام حتى أظلت تحتها، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وحركم وعبدكم، فقال له رجل منهم: يا بحيرا إن ذلك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا فيما مضى، وقد كنا نمر بك كثيراً فما 2 شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلكم صغيركم وكبيركم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم - لحداثة سنه - في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا، قالوا له: يا بحيرا ما تخلف في رحالهم، قال: فلا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل مع القوم من قريش: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا! ثم قام إليه فاحتضنه، ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيرا فقال له: يا إلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسلني باللات والعزى شيئاً، فو الله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما، فقال له بحيرا: فبالله إلا أخبرتني عما أسلك عنه، قال: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله: من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الإلام منك؟ قال: ابني، قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الإلام أن يكون أبوه حياً، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيرا وتماماً ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب - أشياء، فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله عز وجل، وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، أنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا، فقال أبو طالب في ذلك من الشعر، يذكر مسيره برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرادوا منهى - أولئك النفر - وما قال لهم فيه بحيرا:
إن ابن آمنة النبي محمداً ... عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق لازمام رحمته ... والعيس قد قلصن بالأزواد
فارفض من عيني دمع ذارف ... مثل الجمان مفرق الأفراد
راعيت فيه قرابة موصولة ... وحفظت فيه وصية الأحداد
وأمرته بالسير بين عمومة ... بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة ... فلقد تباعد طيه المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فأخبرهم حديثا صادقا ... عنه ورد معاشر الحساد
قوماً يهوداً قد رأوا ما قد رأى ... ظل الغمام وعز ذي الأكياد
ساروا لقتل محمد فنهاهم ... عنه وأجهد أحسن الاجهاد
فثنى زبيراً بحيرا فانثنى ... في القوم بعد تجادل وبعاد
ونهى دريساً فانتهى عن قوله ... حبر يوافق أمره برشاد
وقال أبو طالب أيضاً:
ألم ترني من بعد هم هممته ... بفرقه حر الوالدين كرام
بأحمد لما أن شددت مطيتي ... برحلي وقد ودعته بسلام
بكى حزناً والعيس قد فصلت بنا ... وأخذت بالكفين فضل زمام
ذكرى أباه ثم رقرقت عبرة ... تجود من العينين ذات سجام
فقلت: تروح راشداً في عمومة ... مواسين في البأساء غير لئام
فرحنا مع العير التي راح أهلها ... شآمي الهوى والأصل غير شآمي
فلما هبطنا أرض بصرى تشرفوا ... لنا فوق دور ينظرون جسام
فجاد بحيرا عند ذلك حاشداً ... لنا بشراب طيب وطعام 4
فقال: اجمعوا أصحابكم لطعامنا ... فقلنا جمعنا القوم غير إلام
يتيم، فقال: ادعوه إن طعامنا ... كثير، عليه اليوم غير حرام
فلما رآه مقبلاً نحو داره ... يوقيه حر الشمس ظل غمام
حنا رأسه شبه السجود وضمه ... إلى نحره والصدر أي ضمام
وأقبل ركب يطلبون الذي رأى ... بحيرا من الأعلام وسط خيام
فثار إليهم خشية لعرامهم ... وكانوا ذوي دهى معا وعرام
دريساً وتماما وقد كان فيهم ... زبيراً وكل القوم غير نيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد ... فردهم عنه بحسن خصام
بتاويله التوراة حتى تفرقوا ... وقال لهم: ما أنتم بطغام
فذلك من أعلامه وبيانه ... وليس نهار واضح كظلام
وقال طالب أيضاً:
بكى طرباً لما رآنا محمد ... كأن لا يراني راجعاً لمعاد
فبت يجافيني تهلل دمعة ... وقربته من مضجعي ووسادي
فقلت له: قرب قعودك وارتحل ... ولا تخشى مني جفوة ببلادي
وخل زمام العيسى وارتحلن بنا ... على عزمة من أمرنا ورشاد
ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً ... لذي رحم في القوم غير معاد
فرحنا مع العير التي راح ركبها ... يؤمون على غوري أرض إباد
فما رجعوا حتى رأوا من محمد ... أحاديث تجلو غم كل فؤاد
وحتى رأوا حبار كل مدينة ... سجوداً له من عصبة وفراد
زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً ... دريساً وهموا كلهم بفساد
فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا ... له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا ... وجاهدهم في الله كل جهاد
فقال ولم بملك له النصح: رده ... فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه ... أخو الكتب نكتوب بكل مداد
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ومعائبها لما يريد به من كرامته ورسالته، وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة وأحسنهم جواراً، وأعظمهم خلقاً، وأصدقهم حيثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش 5 والأخلاق التي تدنس الرجال تنزهاً وتكرماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر لي، يحدث عما كان يحفظه الله عز وجل به في صغره وأمر جاهليته.

حدثنا احمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: فحدثني والدي إسحق بن يسار عمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يذكر من حفظ الله عز وجل إياه: إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها نلعب بها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: أشدد عليك إزارك.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن عمرو بن ثابت عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: حدثني بنت قريش البيت، فأفردت قريش رجلين رجلين، وكان النساء ينقلن الشيد، وكان الرجال ينقلون الحجارة، فكنت أنقل أنا وابن أخي، فكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس ائتززنا، فبينا أنا أمشي ومحمد صلى الله عليه وسلم قدامي ليس عليه سيء، إذ خر محمد فانبطح، فألقت حجري وجئت أسعى وهو ينظر إلى السماء فوقه، فقلت: ماشأنك؟ فقام فأخذ ازاره وناني أمشي عرياناً، فلبثت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون، حتى أظهر الله عز وجل نبوته.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني محمد بن عبد الله ابن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما: قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أتبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر فيها كما يسمر عزفاً بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله عز وجل على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت: ما 6 فعلت شيئاً ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت فقيل: فلان نكح فلانة فجلست أنظر، وضرب الله عز وجل على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته.

حديث خديجة ابنة خويلد
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكانت خديجة ابنة خويلد إمرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في ما لها تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع إلام لها يقال له ميسرة، حتى قدم الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة ارهب من الرهبان، فاطلع الراهب على ميسرة، فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي.
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة فيما يزعمون، إذا كانت الهاجرة واشتد الحريرى ملكين يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف، أو قريباً، وحدتها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله عز وجل بها من كرامته.
فلما أخبرها ميسرة عما أخبرها به بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له - فيما يزعمون - : يا ابن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، كل قومها قد كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر على ذلك.

وهي خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأمها فاطمة ابنة زيد بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، وأمها هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عبد منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي، وأمها فلانة ابنة سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وأمها عاتكة ابنة عبد العزى بن قصي، وأمها ريطة ابنة كعب بن سعد ابن تيم بن مرة كعب بن لؤي، وأمها أميمة ابنة عامر بن الحارث بن فهر، وأمها ابنة سعد بن كعب بن عمرو، من خزاعة، وأمها فلانة ابنة حرب بن الحارث بن فهر، وأمها سلمى بنت غالب بن فهر، وأمها ابنة محارب بن فهر.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: فلما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالت، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على أسد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولدت له قبل أن ينزل عليه الوحي ولده كلهم: زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة والقاسم، والطاهر والطيب، فأما القاسم، والطاهر والطيب فهلكوا قبل الإسلام، وبالقاسم كان يكنى صلى الله عليه وسلم، فأما بناته فأدركن الإسلام، وهاجرن معه، واتبعنه، وآمن به عليه السلام.

قصة الأحبار
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: وكانت الأحبار والرهبان أهل الكتابين هم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وزمانه الذي يترقب فيه من العرب، لما يجدون في كتبهم من صفاته، وما أثبت فيها عندهم من اسمه، وبما أخذ عليهم من الميثاق له في عهد أنبيائهم وكتبهم في اتباعه، فيستفتحون به على أهل الأوثان من أهل الشرك، ويخبرونهم أن نبياً مبعوثاً بدين إبراهيم اسمه أحمد، كذلك يجدونه في كتبهم وعهد أنبيائهم، يقول الله تبارك وتعالى: الذي يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم إلى قوله: " أولئك هم المفلحون " وقال الله تبارك وتعالى: " وإذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل " الآية كلها، وقال " محمد رسول الله والذين معه " الآية كلها، وقوله: " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " إلى قوله: " فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين " .
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: وكانت العرب أميين لا يدرسون كتاباً، ولا يعرفون من الرسل عهداً، ولا يعرفون جنة ولا ناراً، ولا بعثاً ولا قيامة إلا شيئاً يسمعونه من أهل الكتاب، ولا يثبت في صدورهم، ولا يعلمون به شيئاً من أعمالهم.
فكان فيما بلغنا من حديث الأحبار والرهبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله عز وجل بزمان.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود، وكانوا آهل كتاب، وكنا أصحاب وثن، فكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن مبياً مبعوثاً الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروا به، ففينا والله وفيهم أنزل الله عز وجل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم الآية.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني صالح بن إبراهيم ين عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت قال: والله إني لإلام يفعة ابن سبع سنين أو ابن ثماني سنين أعقل كل ما سمعت إذ سمعت يهودياً وهو 96 على أطمه بيثرب، يصرخ: يا معشر يهود، فلما اجتمعوا إليه قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد، الذي يبعث به، الليلة.

حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني صالح بن إبراهيم عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومي بني عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان، فقال ذاك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، وذلك قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ويلك يا فلان، وهذا كائن، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟ قال: نعم والذي يحلف به، لوددت أن حظي من تلك النار، أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه، ثم تقذفوني فيه، ثم تطينون على، وإني أنجو من النار غداً، فقيل: يا فلان فما علامة ذلك؟ قال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن قالوا: فمتى تراه؟ فرى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي، فقال وأنا أحدث القوم إن يستنفذ هذا الإلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم وإنه لحي بين أظهركم فآمنا به، وصدقناه، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا له: يا فلان ألست الذي قلت ما قلت، وأخبرتنا؟ قال: ليس به.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عما كان اسلام أسيد وثعلبة بني سعية، وأسد بن عبيد، نفر من هذيل، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذلك؟ فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس خيراً منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين، فكنا إذا قحطنا، وقل علينا المطر نقول: يا بن الهيبان اخرج فاستسق لنا، فيقول لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه، ثم نخرج إلى ظاهر حرتنا، ونحن معه فيستسقي، فو الله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب، قد فعل ذلك غير 10 مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخبرني من أرض الخمر والخمير إلى ارض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم، قال: فإنما أخرجني، أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجره، فاتبعه، فلا تسبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، ثم مات فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الفتية الثلاثة، وكانوا شباباً أحداثاً: يا معشر يهود والله إنه الذي كان ذكر ابن الهيبان، فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله إنه لصفته، ثم نزلوا فأسلموا، وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم.
نا أحمد: قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: كانت أموالهم في الحصن مع المشركين، فلما فتح رد ذلك عليهم.
نا أحمد: نا يونس عن قيس بن الربيع عن يونس بن أبي مسلم عن عكرمة أن ناساً من أهل الكتاب آمنوا برسلهم، وصدقوهم، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، فذلك قوله تبارك وتعالى: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد ايمانهم وكان قوم من أهل الكتاب آمنوا برسلهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث محمد آمنوا به فذلك قوله: والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم.

إسلام سلمان الفارسي

نا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن محمد بن إسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلاً من أهل فارس من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان أرضه، وكان يحبني حباً شديداً، لم يحبه شيئاً من ماله ولا ولده، فما وال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما يحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، فكنت كذلك لا أعلم من أمر الناس شيئاً إلا ما أنا فيه حتى بنى أبي بنياناً له، وكانت له ضيعة فيها بعض العمل، فدعاني فقال: أي بني إنه قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه، ولا بد لي من اطلاعها، فانطلق إليهم فمرهم بكذا وكذا ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني شغلتني عن كل شيء، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة النصارى، فسمعت أصواتهم 11 فيها، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هؤلاء النصارى يصلون، فدخلت أنظر فأعجبني ما رأيت من حالهم، فو الله ما زلت جالساً عندهم حتى غربت الشمس، وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى جئته حين أمسيت، ولم أذهب إلى ضيعته، فقال: أي بني أين كنت، ألم أكن قلت لك؟! فقلت يا أبتاه مررت بأناس يقال لهم النصارى فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم، فجلست أنظر كيف يفعلون، فقال: أي نبي دينك ودين آبائك خير من دينهم، فقلت: لا والله ما هو بخير من دينهم، هؤلاء قوم يعبدون الله ويدعونه ويصلون له، ونحن إنما نعبد ناراً نوقدها بأيدينا، إذا تركناها ماتت، فخافني، فجعل في رجلي حديداً وحسبني في بيت عنده، فبعثت إلى النصارى فقلت لهم: أين أهل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ فقالوا: بالشام، فقلت: فإذا قدم عليكم من هناك أناس فآذنوني، فقالوا: نفعل، فقدم عليهم أناس من تجارهم، فبعثوا إلي: إنه قد قدم علينا تجار من تجارنا، فبعث إليهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرحيل بعثوا إلي بذلك، فطرحت الحديد الذي في رجلي، ولحقت بهم، فانطلقت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف صاحب الكنيسة، فجئته فقلت له: إني قد أحببت أن أكون معك في كنيستك، وأعبد الله فيها معك، وأعلم منك الخير؟ قال: فكن معي، فكنت معه، وكان رجل سوء، كان يأمرهم بالصدقة، ويرغبكم فيها، حتى إذا جمعتموها إليه اكتنزها ولم يعطها المساكين، فقالوا: وما علامة ذلك؟ فقلت: أنا أخرج لكم كنزه، فقالوا: فهاته فاخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، فلما راوا ذلك، قالوا: والله لا يدفن أبداً فصلبوه على خشبة ورموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فلا والله يا بن عباس ما رأيت رجلاً قط لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أشد اجتهادا، ولا أزهد في الدنيا، ولا أدأب ليلا ولا نهاراً منه، ما أعلمني أحببت شيئاً قط قبله حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان قد حضرك ما ترى من أمرلا الله عز وجل وإني والله ما 12 أحببت شيئاً قط حبك، فماذا تأمرني، وإلى من توصيني؟ قال: أي بني والله ما أعلمه إلا رجلاً بالموصل، فاتيه فإنك ستجده على مثل حالي، فلما مات وغيب، لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهاد في الدنيا فقلت له: إن فلاناً أوصني إليك أن آتيك، وأكون معك، قال: فأقم أي بني فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة، فقلت له: إن فلاناً أوصاني إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من؟ قال: والله ما أعلمه أي بني إلا رجلاً بنصيبين هو على مثل ما نحن عليه، فالحق به، فلما دفناه لحقت بالآخر فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصاني إلى فلان وفلان أوصاني إليك، قال: فأقم أي بني، فأقمن عنده على مثل حالهم حتى حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إنه قد حشرك من أمر الله ما ترى، وقد كان فلان أوصاني إلى فلان وأوصاني فلان إلى فلان، وأوصاني فلان إليك، فإلى من؟ قال: أي بني والله ما أعلم أحدأ على مثل ما نحن عليه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم فاتيه فإنك ستجده على مثل ما كنا عليه، فلما واريته خرجت حتى قدمت على صاحب عمورية فوجدته على مثل حالهم، فأقمت عنده، واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقرات، ثم حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان إن فلاناً كان أوصاني إلى فلان، وفلان إلى فلان، وفلان إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصيني؟ قال:

أي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرتك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكله الهدية، ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه أظلك زمانه، فلما واريناه أقمت على خير، حتى مر بي رجال من تجار العرب، من كلب، فقلت لهم تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى، فوالله لقد رأيت النخل وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي، وما حقت عندي حتى قدم رجل 13 من بني قريظة من يهود وادي القرى، فابتاعني من صاحبي الذي كنت عنده، فخرج بي حتى قدم المدينة هو الله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفت نعته، فأقمت في رقي مع صاحبي، وبعث الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، لا يذكر لي شيء من أمره مما أنا فيه من الرق حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له، فو الله إني لفيها إذ جاء ابن عم له، فقال: فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي، فو الله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذني العرواء - يقول الرعدة - حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول ما هذا الخبر، ما هو؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة وقال: ما لك ولهذا، أقبل قبل عملك، فقلت: لا شيء إنما سمعت خبراً، فأجبت أعلمه، فلما أمسيت وكان عندي شيء إنما سمعت خبراً، فأحببت أعلمه، فلما أمسيت وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بقياء، فقلت: إني بلغني أنك رجل صالح، إن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شيء للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به، فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، فقلت في نفسي: هذه خلة مما ووصف لي صاحبي، ثم رجعت، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئاً كان عندي، ثم جئته به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية وكرامة ليست بالصدقة، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل أصحابه، فقلت هذه خلتان، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبع جنازة، وعلي شملتان لي وهو في أصحابه، فاستدرت به لأنظر إلى الخاتم في ظهره، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبر عرف أني استثبت من شيء قد وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله، وأبكي، فقال: تحول يا سلمان هكذا، فتحولت، فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي عنه، فحدثته يا بن عباس كما حدثتك، فلما فرغت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له، وأربعين أوقية، فأعانني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخلة ثلاثين ودية 14 عشر، كل رجل منهم علي قدر ما عنده، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقر لها فإذا فرغت فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي، ففقرتها وأعانني أصحابي - يقول حفرت لها حيث توضع - حتى فرغنا منها، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد فرغنا منها، فخرج معي حتى جاءها، فكنا نحمل إليه الودي فيضعه بيده ويسوي عليه، فو الذي بعثه بالحق ما ماتت منها ودية واحدة.ي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرتك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكله الهدية، ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه أظلك زمانه، فلما واريناه أقمت على خير، حتى مر بي رجال من تجار العرب، من كلب، فقلت لهم تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى، فوالله لقد رأيت النخل وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي، وما حقت عندي حتى قدم رجل 13 من بني قريظة من يهود وادي القرى، فابتاعني من صاحبي الذي كنت عنده، فخرج بي حتى قدم المدينة هو الله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفت نعته، فأقمت في رقي مع صاحبي، وبعث الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، لا يذكر لي شيء من أمره مما أنا فيه من الرق حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له، فو الله إني لفيها إذ جاء ابن عم له، فقال: فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي، فو الله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذني العرواء - يقول الرعدة - حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول ما هذا الخبر، ما هو؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة وقال: ما لك ولهذا، أقبل قبل عملك، فقلت: لا شيء إنما سمعت خبراً، فأجبت أعلمه، فلما أمسيت وكان عندي شيء إنما سمعت خبراً، فأحببت أعلمه، فلما أمسيت وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بقياء، فقلت: إني بلغني أنك رجل صالح، إن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شيء للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به، فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، فقلت في نفسي: هذه خلة مما ووصف لي صاحبي، ثم رجعت، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئاً كان عندي، ثم جئته به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية وكرامة ليست بالصدقة، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل أصحابه، فقلت هذه خلتان، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبع جنازة، وعلي شملتان لي وهو في أصحابه، فاستدرت به لأنظر إلى الخاتم في ظهره، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبر عرف أني استثبت من شيء قد وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله، وأبكي، فقال: تحول يا سلمان هكذا، فتحولت، فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي عنه، فحدثته يا بن عباس كما حدثتك، فلما فرغت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له، وأربعين أوقية، فأعانني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخلة ثلاثين ودية 14 عشر، كل رجل منهم علي قدر ما عنده، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقر لها فإذا فرغت فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي، ففقرتها وأعانني أصحابي - يقول حفرت لها حيث توضع - حتى فرغنا منها، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد فرغنا منها، فخرج معي حتى جاءها، فكنا نحمل إليه الودي فيضعه بيده ويسوي عليه، فو الذي بعثه بالحق ما ماتت منها ودية واحدة.

وبقيت علي الدراهم، فأتاه رجل من بعض المعادن بمثل البيضة من الذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أين الفارسي المسلم المكاتب؟ فدعيت له، فقال: خذ هذه يا سلمان فأدبها ما عليك، فو الذي نفس سلمان بيده لوزنت لهم منها أربعين أوقية، فأديتها إليهم، - وعتق سلمان - وكان الرق قد حبسني حتى فاتتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، ثم عتقت فشهدت الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني من سمع عمر بن عبد العزيز، وحدث هذا من حديث سلمان، فقال: حدثت عن سلمان أن صاحب عمورية قال لسلمان، حين حضرته الوفاة: إئت غيضيتين من أرض الشام فإن رجلاً يخرج من إحداهما إلى الأخرى في لك سنة ليلة، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحدبه مرض إلا شفي، فسله عن هذا الدين الذي تسلني عنه، عن الحنيفية دين ابراهيم، فخرجت حتى أقمت بها سنة، حتى خرج تلك الليلة من إحدى الغيضيتين إلى الأخرى، وإنما كان يخرج مستجيراً، فخرج وغلبني عليه الناس حتى دخل في الغيضة التي يدخل فيها حتى ما بقي إلا منكبه، فاخذت به فقلت: رحمك الله أخبرني عن الحنفيفية دين ابراهيم؟ فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبي يخرج عند هذا البيت، بهذا الحرم، يبعث بسفك الدم، فلما ذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لئن كنت صدقت يا سلمان لقد رأيت عيسى بن مريم عليه السلام.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن رجل من عبد القيس عن سلمان قالك لما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الذهب فقال: اقض به عنك، فقلت يا رسول الله، وأين تقع 15 هذه مما علي؟ فقلبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسانه، ثم قذفها إلي، ثم قال: إنطلق بها فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك، فانطلقت فوزنت لهم منها حتى أوفيتهم منها أربعين أوقية.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن أبي ليلى قال: نا عتاب البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري فيبسط له على بابه بساط ثم يجعل عليه وسادة، ويتكئ على الوسادة ونحن حوله نحق به، فسألته عن الخاتم الذي كان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان؟ قال فأشار أبو سعيد بالسبابة ووضع الإبهام على أول أسفل من ذلك. قال يونس: أخرج المفصل كله، قال: كانت بضعة ناشزة كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نا أحمد يونس قال: قال ابن اسحق: وكانت قريش يعظمون الكعبة ويطوفون بها ويستغفرون عندها مع تعظيم الأوثان والشرك في ذبائحهم، ويحجون، ويقفون المواقف.

أثر الكعبة
نا أحمد: نا يونس عن سعيد بن ميسرة البكري قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان موضع البيت في زمن آدم شيراً أو أكثر علماً، فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم، ثم حج آدم فاستقبلته الملائكة، فقالوا: يا آدم من أين جئت؟ قال حججت البيت، قالوا: قد حجته الملائكة قبلك.
نا أحمد يونس عن ثابت بن دينار عن عطاء قال: أهبط آدم بالهند، فقال: يا رب مالي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة؟ فقال له: بخطيئتك يا آدم، فانطلق فابن لي بيتاً فتطوفون، فانطلق حتى أتى مكة فبنى البيت، فكان موضع قدمى آدم قرى وأنهار وعمارة، وما بين خطاه مفاوز، فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة.
نا أحمد: نا يونس عن يحيى بن كهيل عن أبيه عن مجاهد قال: لما قيل لابراهيم: أذن في الناس في بالحج قال يا رب كيف أقول؟ قال: قل يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فصعد الجبل فنادى أيها الناس أجيبوا ربكم، فأجابوه لبيك اللهم لبيك، فكان هذا أول التلبية.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني وهب بن سنان قال: سمعت عائد ابن عمير الليثي يقول: لما آمر إبراهيم بدعاء الناس إلى الحج استقبل المشرق، فدعا إلى الله عز وجل فأجيب لبيك لبيك، ثم استقبل المغرب فدعا إلى الله عز وجل فأجيب: لبيك لبيك، ثم استقبل الشام فدعا إلى الله عز وجل فأجيب لبيك 16 لبيك، ثم استقبل اليمن فدعا إلى الله عز وجل فأجيب لبيك لبيك.

نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني ثقة من أهل المدينة عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح، ولقد حجه نوح، فلما كان من الأرض ما كان من الغرق أصاب البيت ما أصاب الأرض، فكان البيت روثة حمراء، فبعث الله تعالى هوداً، فتشاغل بأمر قومه، حتى قبضه الله عز وجل إليه، فلم يججه حتى مات، ثم بعث الله تعالى صالحاً فتشاغل بأمر قومه، فلم يحجه حتى مات، فلما برأه الله عز وجل لإبراهيم حجه، ثم لم يبق نبي إلا حجه.
نا أحمد: ما يونس عن ابن اسحق عن عطاء بن أبي رباح عن كعب الحبر قال: شكت الكعبة إلى ربها عز وجل، وبكت إليه فقالت: أي رب، قل زواري، وجفاني الناس، فقال الله عز وجل لها: إني محدث لك إنجيلا، وجاعل لك زواراً يحنون إليك حنين الحمامة إلى بيضاتها.
نا أحمد قال: حدثني أبي قال: نا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو وقال: خلق البيت قبل الأرض بألفي عام، ثم دحيت الأرض منه.
نا أحمد: نا يونس عن الأسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال: خرج آدم من الجنة معه حجر في يده وورق في الكف الأخرى، فبث الورق بالهند فمنه ما ترون من الطيب، وأما الحجر فكان ياقوتة بيضاء يستضاء بها، فلما بنى إبراهيم البيت فبلغ موضع الحجر قال إسماعيل: إئتني بحجر من الجبل، فقال: غير هذا، فرده مراراً لا يرضى بما يأتيه، فذهب مرة، وجاءه جبريل بالحجر من الهند الذي أخرج به آدم من الجنة فوضعه، فلما جاءه اسماعيل قال: من جاءك بهذا؟ قال: من هو أنشط منك.
نا أحمد: نا يونس عن السري بن اسماعيل عن عامر عن عمر بن الخطاب أنه قال: الحجر الأسود من أحجار الجنة أهبط إلى الأرض وهو أشد بياضاً من الكرسف، فيما اسود إلا من خطايا بني آدم، ولولا ذلك ما مسه أبكم ولا أصم ولا أعمى إلا برأ.
نا أحمد: نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله عن سلمة بن كهيل عن رجل عن علي أنه قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان وهي في ذلك ريح هفافة.
نا أحمد: نا يونس عن ابراهيم بن اسماعيل عن يزيد الرقاشي عن ابيه عن ابي موسى الأشعري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبياً حفاه عليهم العبأ يؤمون بيت الله العتيق منهم موسى عليه السلام.
نا أحمد: نا يونس عن 17 سعيد بن ميسرة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان الحجر من ياقوت الجنة فمسحه المشركون فاسود من مسحهم إياه.
نا أحمد نا يونس عن مسلمة بن عبد القرشي عن عبد الكريم أبي أمية قال: كان البيت ياقوتة من ياقوتات الجنة، فلما كان زمن الطوفان رفع إلى السماء الدنيا، وقع الآن وقع على موضع البيت، يطوف به كل ليلة سبعون ألف ملك، واستودع جبريل أبا قبيس الحجر، وهو ياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة، فلما بنى إبراهيم البيت أتاه جبريل، فاخرج له الحجر، فوضعه في قواعد البيت؛ وهو يوم القيامة أعظم من أحد له لسان يشهد به.
نا أحمد: نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن سعيد بن أبي بردة الأشعري عن عبد الله بن عمر أنه قال لأبيه أبي بردة: اتدري ما كان قومك يقولن في الجاهلية إذا طافوا بالبيت؟ قال: وما كانوا يقولون؟ قال: كانوا يقولون:
اللهم هذا واحد إن تما ... أتمه الله وقد أتما
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
نا أحمد نا يونس عن قيس بن الربيع عن منصور عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية يقولون حين يطوفون بالبيت:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
نا أحمد نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لم يكن أحد يطوف بالكعبة عليه ثبات إلا الحمس، وكان بقية الناس الناس للرجال والنساء ويطوفون عراة، إلا أن تحتسب عليهم الحمس فيعطون الرجل أو المرأة الثوب يلبسه.

نا أحمد: نا يونس عن أبي معشر المديني عن محمد بن قيس قال: كان أهل الجاهلية من لم يكن من الحمس فإن طابت نفسه أن يرمي بالثوب الذي عليه إلى الكعبة إذا طاف بالبيت أو وجد عارية من أهل نكة، طاف فيه، فإن لم تطب نفسه بالثوب الذي عليه، ولم يجد عارية من أهل مكة طاف عريانا، فقالوا: وجدنا آباءنا عليها، والله أمرنا بها حتى بلغ خاصة يوم القيامة؛ قال محمد بن قيس: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا يشركهم فيها الكفار، فإذا كان يوم القيامة خلص بها المؤمنين.
نا أحمد: نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت قريش ومن يدين دينها، وهم الحمس، يقضون عشية عرفة بالمزدلفة يقولون: 18 نحن قطن البيت، وكان بقية الناس والعرب يقفون بعرفات، فأنزل الله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فتقدموا فوقفوا مع الناس بعرفات.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات، من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقاً من الله عز وجل له.
نا أحمد: نا يونس عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي اسحق عن عمرو بن ميمون عن عمر قال: كان المشركون بجمع يقلون: أشرق ثبير فيما نغير، قال: فكانوا لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذاك. قال زكريا: فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تطلع الشمس.
نا أحمد: نا يونس بن ميمون عن الحسن قال: كان الناس في الجاهلية إذا أتوا المعرف قام الرجل فوق جبل فقال: أنا فلان بن فلان، فعلت كذا، وفعل أبي كذا، وفعل جدي كذا فأنزل الله عز وجل: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا يوقل: كما كنتم تذكرون آباءكم في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: يا أيها الناس، إن الله قد رفع عنكم هذه النخوة والتفاخر في الآباء، فنحن ولد آدم، وخلق آدم من تراب، وقال الله عز وجل: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى إلى قوله أتقاكم.
نا أحمد: نا يونس عن يوسف بن ميمون التميمي عن عطاء بن أبي رباح أن إنساناً سأله عن السعي بين الصفا والمروة فقال: إن هاجر لما وضعها آبراهيم هي وابنها إسماعيل أصابها عطش شديد حتى أريت أن اسماعيل سيقتله العطش، فلما خشيت ذلك منه، وضعته في موضع البيت، وانطلقت حتى أتت الصفا، فصعدت فوقه تنظر هل مات بعد أم لا، فجعلت تدعو الله تعالى له، ثم نزلت حتى أتت بطن الوادي فسعت فيه ثم خرجت تمشي حتى أتت المروة، فصعدت فوقها تنظر هل مات بعد أم لا، وكانا حجرين إلى البيت، ففعلت ذلك سبع مرات، فهذا أصل السعي بين الصفا والمروة.
نا أحمد نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه، في هذه الآية: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " 19 الآية، فقلت لعائشة: لو أن انساناً حج فلم يطف بين الصفا والمروة ما ظننت أن عليه برحاً، قالت: فاتل علي، فتلوت عليها: " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " فقال: لو كان كما تقول كان: فلا جناح عليه ألا تطوف بهما " فقالت: لو كان كما تقول كان: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، وإنما نزلت هذه الآية في أناس من قريش كانوا يحرمون لمناة ولا يحل في دينهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما أسلموا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نحرم لمناة فلا يحل لنا في ديننا أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله عز وجل الآية: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " فقالت: عائشة: هما من شعائر الله، فما أتم حج من لم يطف بهما.
نا أحمد يونس عن يوسف بن ميمون عن عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن رمي الجمار فقال: إن إبراهيم أتى البيت الحرام فصلى به، ثم راح حتى أتى منى في بعض الليل فانطلق حتى أتى الشجرة فعرض له الشيطان، فرماه إبراهيم بسبعة أحجار، يكبر مع كل حجر، فذهب عنه، ثم مضى حتى أتى مكان الجمرة التي يليها عرض له الشيطان، فرماه بسبعة أحجار، يكبر مع كل حجر، فذهب عنه، ثم مضى حتى أتى موضع الجمرة الثالثة عرض له الشيطان، فرماه بسبعة أحجار يكبر مع كل حجر، فذهب عنه، فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم اقتص ما صنع إبراهيم فصنع مثله.

نا أحمد: نا يونس عن أبي بكر الهذلي: نا الحسن قال: كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدماء وجه الكعبة، وشركوا اللحوم فوضعوها على الحجارة، وقالوا لا يحل لنا نأكل شيئاً جعلناه لله عز وجل حتى تأكله السباع والطير، فلما جاء الإسلام حاء الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: شيئاً كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن، فإنما هو لله عز وجل، فأنزل الله عز وجل: " فكلوا منها وأطعموا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله عز وجل. قال الحسن: فلم يعزم عليهم الأكل، فإن شئت فكل وإن شئت فدع.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الزمان قد استدار حتى صار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " فقال: كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً، وإنما كانوا يوافقوا ذا الحجة في كل اثنتي عشر سنة مرة، فوفق الله تعالى لرسوله 20 في حجته التي حج ذا الحجة فحج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الزمان قد استدار حتى صار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض " فقلت لابن أبي نجيع: فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد؟ فقال: على ما كان الناس يحجون عليه، ثم فسر ابن أبي نجيع فقال: كانوا يحجون في ذي الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى يبلغوا اثني عشر شهراً.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن أبي ليلى وابن أبي أنيسة عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزل جبريل على ابراهيم صلى الله عليهما، فراح به فصلى به الصوات بها، قال يحيى: الظهر، والعصر والمغرب، والعشاء. ثم اجتمعا، فبات به حتى صلى الفجر ثم سار به يوم عرفى حتى نزل به المنزل الذي ينزل الناس، فصلى به الصلاتين - قال يحيى: جميعاً - ثم اجتمعا، قال: فسار حتى وقف به في الموقف حتى كان كأعجل ما يصلى أحد من المسلمين صلاة المغرب، ثم أفاض حتى أتى به جميعاً فصلى به الصلاتين، قال يحيى: المغرب والعشاء جميعاً. قالا: ثم بات بها حتى إذا كان كأعجل ما يصلى أحد من المسلمين صلاة الفجر أفاض به حتى أتى به الجمرة فرماها، ثم ذبح وحلق تم أتى به البيت فطاف به - قال ابن أبي ليلى: ثم رجع به إلى منى فأقام فيها تلك الأيام، ثم أوحى الله عز وجل إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
نا أحمد: نا يونس عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي اسحق عن زيد بن يثيع عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت براءة ألا يطوف بالبيت عريان.

نا احمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وكانت قريش - لا أدري قبل بناء الكعبة أو بعده - ابتدعت رأي الحمس، رأياً رأوه وأداروه بينهم، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت، وقاطنو مكة وسكانها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا يعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئاً من الحل كما تعظمون له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تظموا شيئاً من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخف العرب حركتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يقرون ويعرفون أنها من المشاعر 21 والحج ودين إبراهيم عليه السلام، فيرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظمن غيرها كما يعظمها الحمس، والحمس أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم، وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك، ثم ابتدعوا في ذلك أموراً لم تكن، فقالوا: لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حراماً، ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاءوا حجاجاً أو عماراً، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول ظوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا شيئاً منها طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة لم يجد ثوباً من ثياب الحمس، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، لم ينتفع بها، ولم يمسها، ولا أحد غيره أبداً، وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى، فحملوا العرب على ذلك فدانت به، ووقفوا على عرفات، وأفاضوا منها، فأطافوا بالبيت عراة، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، فكان أهل الحل بأتون حجاجاً وعماراً، فإذا دخلوا الحرم وضعوا أزوادهم التي جاءوا بها، وابتعاعوا من طعام الحرم والتمسوا ثياباً من ثياب الحرم إما عارية وإما بإجارة، فطافوا فيها، فإن لم يجدوا طافوا عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع احداهن ثيابها كلها إلا درعاً تطرحه عليها، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب وهي كذلك تطوف:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها ألقاها فلم ينتفع بها هو ولا غيره، فقال قائل من العرب يذكر شيئاً تركه لا يقربه به وهو يحبه:
كفى حزناً كري عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم
يقول: لا تمس. فكانوا كذلك حتى بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم.

حديث بنيان الكعبة
حدثنا أحمد بن عبد الجبار: نا يونس بن بكير عن ابن اسحق قال: فأقامت قريش في كل قبيلة منها أشراف، فليس بينها اختلاف ولا نائرة. ثم إن قريشاً أجمعوا على بنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك فيهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعا وتسقيفها وذلك أن نفراً من قريش سرقوا كنز الكعبة، وكان يكون في بئر جوف الكعبة. وكان الذي وجد عنده الكنز دويل - أو دويد، شك أبو عمر - مولى لنبي مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده من بينهم، وكان ممن اتهم في ذلك الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أخا الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لأمه أبو وهب بن عبد المطلب، فهو الذي تزعم قريش أنهم وضعوا كنز الكعبة حين أخذوه عند وديل - أو دويد - فلما أتتهم قريش دولهم على دويل - أو دويد - فقطعوه، ويقال: إنهم وضعوه عنده، وذكروا أن قريشاً حين استيقنوا بأن ذلك كان عند الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، فخرجوا به إلى كاهنة من كهان العرب، فسجعت عليه من كهانتها بأن لا يدخل مكة عشر سنين بما استحل من حرمة العبة، فزعموا أنهم أخرجوه من مكة، فكان فيما حولها عشر سنين.

وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم في بعض ما يصلحها. وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها مما يهدي لها كل يوم، فتشرق على جادر الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنهم زعموا قلما كان يتقرب من بئر الكعبة أحد إلا احزألت وكشت، وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينما هي يوماً تشرق على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عز وجل عليها طائراً لا يدرون ما هو فاختطفها من متشرقها، فذهب بها، فقالت قريش: إنا نرجو أن يكون الله عز وجل قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا الخشب، وقد ذهب الله تعالى بالحية، وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة.
فلما أجمعوا أمرهم على هدمها وبنائها قام أبو وهب عامر بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم 23 فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه - فيما يزعمون - فقال: يا معشر قريش لا تدخلن في بنيانها من كسبكم إلا طيبا ولا تدخلن فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا وظلمة من أحد من الناس، وينحلون هذا الكلام الوليد بم المغيرة.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيع أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه رأى ابناً لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد عمران بن مخزوم يطوف بالبيت فسأل عنه، فقيل هذا ابن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فقال عبد الله بن صفوان: إن جده يعني أبا وهب هو الذي أخذ من الكعبة حجراً حين أرادت قريش هدمها فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش لا تدخلوا فيها من كسبكم إلا طيباً، لا تدخلوا مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد من الناس، وأبو وهب خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً، وله يقول شاعر من العرب:
لو بأبي وهب أنخت ميتي ... لرحت وراحت رحلها غير خائب
وأبيض من فرعي لؤي بن غالب ... إذا حصلت أنسابه للذوائب
أبي لأخذ الضيم يرتاح للندى ... توسط جداه فروع الأطايب
عظيم رماد القدر يملا جفانه ... من الخبر يعلوهن مثل السبائب
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم تجزأت قريش الكعبة، فكان شق الباب لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف، وبني زهرة، وكان مما بين الركنين الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش ضموا إليهم، وكان ظاهرها لسهم وجمع، وكان شق الحجر، وهو الحطيم، لبني عبد الدار بن قصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبني عدي بن كعب، ثم إن الناس هابوا هدمها، وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبؤوكم في هدمها، فأخذ المعول، فقام عليها، ثم قال: اللهم لا تردع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر ماذا يصيبه، فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله عز وجل ما صنعناه، فأصبح غادياً يهدم وهدم الناس معه فلما انتهى الهدم إلى أس الكعبة اتبعوه حتى انتهوا إلى 24 حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً.
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثت أن رجالاً من قريش ممن كان يهدمها قالوا أدخل رجل بين حجرين منها العثلة ليقلع إحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فهابوا عند ذلك تحريك ذلك الأس.
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: حدثت أنهم وجدوا في أس الكعبة أو في بعضها شيئاً من صفر مثل بيض النعام مكتوب في احدهما: هذا بيت الله عز وجل الحرام رزق أهله من كذا، لا يحله أول من أهله، وفي الأخرى: براءة لبني فلان حي من العرب، من حجة لله حجوها.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وحدثت أن قريشاً وجدت في الركن، أو في بعض المقام كتاباً بالسريانية لم يدورا ما هو حتى قرأه عليهم رجل من يهود: أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصنعت الشمس والقمر، وحففتهما بسبعة أملاحك حنفاء لا يزولون حتى تزول أخاشبها، مبارك لأهلها في الماء واللبن.

وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتاباً فيه: مكة الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
نا أحمد: يونس عن زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي قال: حدثني من قرأ في أسفل المقام أو في تختجة في سقف البيت:؛ أنا الله ذو بكة، بنيته على وجه سبعة أملاك حنفاء، باركت لأهله في اللحك، والماء، وجعلت رزقهم من ثلاثة سبل، ولا يستحل حرمتها أول من أهلها.
نا أحمد: نا يونس عن المنذر بن ثعلبة عن سعيد بن حرب قال: شهدت عبد الله بن الزبير وهو يقلع القواعد التي أسس إبراهيم صلى الله عليه وسلم لبناء البيت فأتوا تربة صفراء عند الحطيم، فقال ابن الزبير: هذا قبر اسماعيل عليه السلام فواراه.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم جمعت القبائل من قريش لبنائها كل قبيل تجمع على جدتها ثم بنوا حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا في رفع الركن، كل قبيلة تريد أن ترفعه دون الأخرى، فقالت كل قبيلة نحن نرفعه حتى تحازبوا أو تحالفوا، وأعدوا القتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة فملؤوها دماً، ثم تحالفوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، فأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة فغمسوها في الدم، فقال في ذلك عكرمة بن عامر بن هاشم 25 بن عبد مناف بن عبد الدار:
والله لا نأتي الذي قد أرتم ... ونحن جميع او نخضب بالدم
ونحن ولاة البيت لا تنكرونه ... فكيف على علم البرية نظلم
لنبغي به الحمد الذي هو نافع ... ونخشى عقاب الله في كل محرم
فكيف ترومونا وعز قناتنا ... له مكسر صلب على كل معلم
فهيهات أنى يقرب الركن سالم ... ونحن جميع عنده حين يقسم
فإما تخلونا وبيت حجابنا ... وإما تنوؤا ذلك الركن بالحرم
فأجابه وهب بن عبد مناف:
أبلغ قريشاً إذا ما جئت أكرمها ... أنا أبيتا فلا نؤتيكم غلبا
إنا أبينا إلي الغصب ظاهرة ... إنا وجدك لا نؤتيكم سلبا
نحن الكرام فلا حي يقاربنا ... نحن الملوك ونحن الأكرمون أبا
وقد أرى محدثاً في حلفنا ظهراً ... كما ترى في حجاب الملك محتجبا
أبا لنا عزنا ماذا أراد بنا ... قوم أرادوا بنا في حلفهم عجبا
قوم أرادوا بنا خسفاً لنقبله ... كلا وربك لا نؤتيهم غضبا
حدثنا احمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فمكثت قريش اربع ليال، أو خمساً، بعضهم من بعض، ثم أنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا، وتناصفوا، فزعم بعض أهل العلم والرواية أن أبا امية، وكان كبيراً، وسيد قريش كلها، قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل عليكم من باب المسجد، فلما توافقوا على ذلك، ورضوا به، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، فقال: هلموا ثواباً، أوه به، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فيه بيديه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعاً، فرفعوه حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم بنى عليه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى في الجاهلية الأمين قبل أن يوحى إليه.

نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: كنت جالساً مع أبي جعفر محمد بن علي فمر بنا عبد الرحمن الأعرج، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فدعاه فجاءه 26 فقال: يا اعرج ما هذا الذي تحدث به أن عبد المطلب هو الذي وضع حجر الركن في موضعه؟ فقال: أصلحك الله حدثني من سمع عمر ابن عبد العزيز يحدث أنه حدث عن حسان بن ثابت يقول: حضرت بنيان الكعبة، فكأني أنظر إلى عبد المطلب جالساً على السور شيخ كبير قد عصب له حاجباه حتى رفع إليه الركن، فكان هو الذي وضعه بيديه، فقال: انفذ راشداً، ثم اقبل علي أبو جعفر فقال: إن هذا الشيء ما سمعنا به قط، وما وضعه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، اختلفت فيه قريش فقالوا: أول من يدخل عليكم من باب المسجد فهو بينكم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا الأمين، فحكموه، فأمر بثوب فبسط، ثم أخذ الركن بيديه، فوضعه على الثوب، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة من الثوب بناحية، وارفعوا جميعاً، فرفعوا جميعاً، حتى إذا انتهوا به إلى موضعه أخذه رسول صلى الله عليه وسلم فوضعه في موضعه بيده ثم بني عليه.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، ونزل عليه الوحي بعد بناء الكعبة بخمس سنين، وهو ابن أربعين سنة، وأقام بمكة ثلاثة عشرة سنة ثم هاجر إلى المدينة.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم سقفت فكان ذلك أول ما سقفت الكعبة، فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما ارادوا قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها، فقال:
عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش ... واحياناً يكون لها وئاب
إذا قمنا إلى البنيان شدت ... تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الرجز جاءت ... عقاب قد يظل لها الضباب
فضمنها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين على بناء ... لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مساوينا ثياب
أعز به الملك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب 27
وقال الوبير بن عبد المطلب في ذلك أيضاً:
لقد كان في أمر العقاب عجيبة ... ومخطفها الثعبان حين تدلت
فكان مدى الأبصار آخر عهدنا ... بها بعدما باتت هناك وطلت
إذا جاء قوم يرفعون عماده ... من البيت شدت نحوهم واحزألت
فما برحت تحتى ظننا جماعة ... بأن علينا لعنة الله حلت
فقلنا جميعاً قد علمنا خطية ... فعسى لنا والحلم منا أضلت
وقال الوليد بن المغيرة في بنيان الكعبة وشأن الحية:
لقد كان في الثعبان يا قوم عبرة ... ورأي لمن رام الأمور على ذعر
غداة هوى النسر المحلق يرتمي ... به غير حمد منكم يا بني فهر
على حين ما ضلت حلوم سراتكم ... وخفتم بأن لا ترفعوا آخر الدهر
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وأنزل الله عز وجل علة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين أحكم أمره، وشرع له سنن حجه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله. الآية يعني قريشاً والناس العرب في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها، والإفاضة منها، وأنزل الله تعالى فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولباسهم عند البيت حين طافوا عراة وحرموا ما جاءوا به من الطعام ولباسهم عند البيت حين طافوا عراة وحرموا ما جاءوا به من الطعام من الحل: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله " إلى آخر الآية. فوضع الله تعالى امر الخمس وما كانت قريش ابتدعن من ذلك على الناس في الأسلام حين بعث الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير بن مطعم أنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقاً من الله عزز وجل له.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق، قال وكانت الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى فيما وجدوا من صفته في كتبهم وصفة زمانه لما كان في عهد انبيائهم اليهم 28 فيه، واما الكهان من العرب فتأتيهم به الشياطين من الجن فيما يستقون من السمع اذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة من العرب لا يقع منهما ذكر بعض امره لا تلقى العرب فيه بالاً حتى بعثه الله عز وجل، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون، فعرفوها، فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بيتها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من الله عز وجل في العباد يقول الله تعالى لنبيه عليه السلام حين بعثه، وهو يقص عليه خبر الجن إذ حجبوا عن السمع، فعرفوا ما عرفوا وما أنكروا من ذلك حين رأوا ما رأوا: " قل اوحي إلي انه استمع " إلى قوله: " ام أراد بهم ربهم رشداً " .
فلما سمعت الجن القول عرفت انما منعت من السمع قبل ذلك له لأن لا يشاكل الوحي شيء من خبر السماء، فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله عز وجل وقطع الشبه، فآمنوا وصدقوا ثم " ولوا إلى قومهم منذرين. قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا " إلى آخر الآية.
وكان قول الجن أنه كان رجال من الأنس يعوذون برجال من الجن فزادهم رهقاً انه كان رجال من العرب، من قريش وغيرهم، إذا سافر الرجل فنزل ببطن واد من الأرض ليبيت به قال اني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، من شر ما فيه.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني بعض اهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها العيطالجه كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها فقال: إذن من أذن يوم عقر ونحر، فقالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟ جاءها ليلة اخرى، فانقض تحتها فقال: شعوب ما لشعوب تصرع فيه كعب لجنوب، فلما بلغ ذلك قريشاً قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا الأمر هو كائن، فعروفا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته.
نا أحمد: نا الحسن عن جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ابراهم في قوله تعالى: " وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادهم رهقاً " قال: كانوا إذا نزلوا وادياً قالوا: إنا نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه 29 قال: فيقول الجنيون تتعوذون بنا نحن لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً! قال: " فزادهم رهقاً " قال: فازادوا عليهم جرأة.
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكان هذا الحي من الانصار يتحدثون مما كانوا يسمعون من يهود من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أول ذكر وقع بالمدينة، قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن فاطمة ام النعمان بن عمرو، اخي بني النجار - وكانت من بغيا الجاهلية - وكان لها تابع، فكانت تحدث انه كان إذا جاءها اقتحك البيت الذي هي فيه، اقتحاماً على من فيه حتى جاءها يوماً، فوقع على الجدار ولم يصنع كما كان يصنع، فقالت له: ما لك اليوم؟ قال: بعث نبي بتحريم الزنا.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس عن عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة بن مسعود أنه حدثه: أن رجلاً من ثقيف يقال له عمرو بن أمية، وكان منادهى العرب، وكان يضن برأيه على الناس؛ قال يعقوب: فلما رمي بالنجوم، كان أول حي فزع لها من الناس ثقيف، فجاءوا إلى عمر بن أمية فقالوا له: هل علمت بهذا الحدث الذي كان؟ فقال: وما هو؟ فقالوا: نجوم السماء يرمى بها، قال: ويحكم انظروا فإن كانت هي المعالم التي يهتدي بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء من الشتاء والصيف لصلاح معايش الناس، فهو والله فناء الدنيا، وفناء هذا الخلق، وأن كان غيرها، فهو لأمر حدث اراد الله عز وجل به هذا الخلق، فانظروا ما هو؟

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني الزهري عن علي بن حسين عن ابن عباس قال: حدثني رهط من الأنصار قالوا: بينا نحن جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، إذ رأى كوكباً، فقال ما تقولن في هذا الكوكب الذي رمي به؟ فقلنا: يولد مولود، يهلك هالك، يملك ملك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كذلك، ولكن الله عز وجل إذا قضى امراً في السماء سبح بذلك كله العرش فيسبح لتسبيح إلى السماء الدنيا فيقول أهل السماء الدنيا لمن يليهم من الملائكة مم سبحتم؟ فيقولون: ما ندري، سمعنا من فوقنا من الملائكة سبح فسبحنا الله عز وجل لتسبيحهم، ولكنا نسل، فيسلون من فوقهم، فما يزالون كذلك حتى ينتهي إلى حملة العرش، فيقولون: قضى الله عز وجل كذا وكذا، فيخبرون به من يليهم حتى ينتهوا إلى أهل السماء الدنيا 30 فيسترق الجن ما يقولون، فينزلون به إلى أوليائهم من الإنس فيلقونه على ألسنتهم، بتوهم منهم فيخبرون الناس، فيكون بعضه حقاً، وبعضه كذبا، فلم يزل الجن كذلك حتى رموا بهذه الشهب.
نا أحمد: نا يونس عن يونس بن عمرو عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء، فيستمعون الكلمة من الوحي، فيهبطون بها إلى الأرض، فيزيدون معها تسعاً، فيجد أهل الأرض تلك الكلمة حقاً والتسع باطلاً، فلم يزالوا بذلك حتى بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم، فمنعوا تلك المقاعد، فذكروا ذلك لإبليس، فقال: حدث في الأرض حدث، فبعثهم، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن بين حبلي نخل، فقالوا: هذا والله الحدث، وإنهم ليرمون فإذا توارى النجم عنكم فقد ادركه لا يخطئ أبداً، ولكنه لا يقتله، يحرق وجهه وجنبه ويده.
نا أحمدك نا يونس عن ابن اسحق قال: وقد كانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد، وكان ابن عمها، وكان نصرانياً قد تبع الكتب، وعلم من علم الناس ما ذكر لها إلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه، إذ كان الملكان يظلانه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقاً يا خديجة، أن محمداً لنبي هذه الأمة، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه - أو كما قال.
فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى، فكان فيما يذكرون يقول أشعاراً يستبطئ فيها خبر خديجة، ويتريث ما ذكرت له، فقال ورقة بن نوفل:
أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من اضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغوري والنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص دوالح
فخبرنا عن كل حبر بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقاً ... كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح 31
ومتبعه حياً لؤي جماعة ... شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن ارضك في الأرض العريضة سائح

حدثنا احمد: نا يونس عن محمد بن اسحق قال: وكانت قريش حين رفعوا بنيان الكعبة وسقوفها يترافدون على كسوتها كل عام، تعظيماً لحقها، وكانوا يطوفون بها، ويستغفرون الله عندها، ويذكرونه مع تعظيم الأوثان والشرك في ذبائحهم ودينهم كله، وقد كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن اسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم حليف بني أمية، حضروا قريشاً عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض، قالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين إبراهيم عليه السلام وخالفوه، ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع، فابتغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها، الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام.
فأما ورقة بن نوفل فتنصر، فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها، حتى علم علماً كثيراً من أهل الكتاب.
فلم يكن فيهم أعدل أمراً، ولا أعدل شأناً من زيد بن عمرو بن نفيل، اعتزل الأوثان وفارق الأديان من اليهود والنصارى واملل كلها إلا دين إبراهيم يوحد الله عز وجل ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه، باداهم بالفراق لما هم فيه.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيداً كان إذا دخل الكعبة قال: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، عذت بما عاذ به إبراهيم، وهو قائم، إذ قال: أنفي لك عان راغم 32 مهما تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا الخال - يقول: لا الفخر - ليس مهجر كمن قال.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحتى قال: حدثني هشام بن عروة قال: رواني عروة بن الزبير أن زيد بن عمرو بن نفيل قال:
أرباً واحداً أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أدير
ولا غنماً أدين وكان رباً لنا ... في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالاً ... كثيراً كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربك منهم الطفل الصغير
وبيننا المرء يعثر ثاب يوماً ... كما يتروح الغصن النضير
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وقال زيد بن عمرو بن نفيل أيضاً:
أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي شيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الريح تصرف حالا فحالا
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيد ابن عمرو بن نفيل حتى خرج عنه إلى أعلى مكة، فنزل حراء، مقابل مكة، ووكل به الخطاب شباباً من شباب قريش وسفهاء من سفائهم، فقال: لا تتركوه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سراً منهم، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب، فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد منهم على فراقهم، وكان الخطاب عم زيد، وأخاه لأمه، وكان الخطاب عمه وأخوه لأمه مع سنه، فكان يعاتبه على فراق دين قومه حتى آذاه، فقال زيد بن عمرو وهو يعظم حرمته على من استحل من قومه ما استحل:
اللهم إني محرم لا أحلة ... وإن بيتي أوسط المحلة
عند الصفا ليس بذي مظلة

نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: فحدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل: إن كان لأول 33 من عاب علي الأوثان، ونهاني عنها، أقبلت من الطائف ومعي زيد بن حارثة حتى مررت بزيد بن عمرو وهو بأعلى مكة وكانت قريش قد شهرته بفراق دينها حتى خرج من بين أظهرهم، وكان بأعلى مكة، فجلست إليه ومعي سفرة لي فيها لحم يحملها زيد بن حارثة من ذبائحنا على أصنامنا، فقربتها له، وأنا إلام شاب، فقلت: كل من هذا الطعام أي عم، قال: فلعلها أي ابن أخي من ذبائحكم هذه التي تذبحون لأوثانكم؟ فقلت: نعم، فقال: اما إنك يا ابن أخي لو سألت بنات عبد المطلب أخبرنك أني لا آكل هذه الذبائح، فلا حاجة لي بها، ثم عاب علي الأوثان ومن يعبدها ويذبح لها، وقال: إنما هي باطل لا تضر ولا تنفع، أو كما قال.
قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تحسست بوثن منها بعد ذلك على معرفة بها، ولا ذبحت لها حتى أكرمني الله عز وجل برسالته صلى الله عليه وسلم.
نا أحمد: نا يونس عن المسعودي عن نفيل بن هشام عن أبيه قال: مر زيد بن نفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى زيد بن حارثة، فدعواه إلى سفرة لهما، فقال زيد: يا ابن أخي إني لا آكل ما ذبح على النصب، قال: فما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم يأكل شيئاً ذبح النصب.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وقد كان زيد أجمع على الخروج من مكة يضرب في الأرض، يطلب الحنيفية دين إبراهيم، فكانت إمرأته صفية ابنة الحضرمي كلما أبصرته قد نهض إلى الخروج وأراده، آذنت به الخطاب بن نفيل، فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم، ويسأل عنه، فلم يزل في ذلك حتى أتى الموصل، أو الجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى أتى الموصل، أو الجزيرة كلها، ثم أقبل حتى إليه علم النصرانية، فيما يزعمون، فسأله عن الحيفية دين إبراهيم، فقال الراهب: إنك لتسأل عن دين نا أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درست علمه، وذهب من يعرفه، ولكنه قد أظلك خروج نبي يبعث بأرضك التي خرجت منها بدين إبراهيم، الحنيفية، فعليك ببلادك فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه، وقد كان شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئاً منهما فخرج شريعاً - حين قال له الراهب ما قال - يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم، عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة بن نوفل، وكان قد اتبع مثل أثر زيد، لوم يفعل في ذلك 34 ما فعل، فبكاه ورقه فقال:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حاميا
بدينك رباً ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض ستين وادياً
نا أحمد: نا يونس عن ابن أسحق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن عمر بن الخطاب، وسعيد ابن زيد قالا: يا رسول الله نستغفر لزيد؟ فقال: نعم، فاستغفروا له، فإنه يبعث أمة وحده.
نا أحمد: نا يونس عن المسعودي عن نفيل بن هشام عن أبيه أن جده سعيد بن زيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه ويد بن عمرو فقال: يا رسول الله إن أبي زيد بن عمرو كان كما رأيت، وكما بلغك، فلو أدركك آمن بك، فأستغفر له؟ قال: نعم، فاستغفر له فإنه يجيء يوم القيامة أمة وحده، وكان فيما ذكروا يطلب الدين، فمات وهو في طلبه.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: وكان حين أراد الله عز وجل كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورحمة العباد به واتخاذ الحجة عليهم، والعرب على أديان مختلفة متفرقة، مع ما يجمعهم من تعظيم الحرمة، وحج البيت، والتمسك بما كان بين أظهرهم من آثار إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهم يزعمون أنهم على ملته، وكانوا يحجون البيت على اختلاف من أمرهم فيه.

فكانت الحمس: قريش وكنانة، وخزاعة، ومن ولدت قريش من سائر العرب يلهون بحجهم، فمن اختلافهم أن يقولوا: لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه، وما ملك. فيوحد فيه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده - يقول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " ولا يخرجون من الحرم ولا يدفعون من المزدلفة، يقولون: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه، وكانوا يسكنون البيوت إذا كانوا حرماً، وكان أهل نجد من مضر يهلون إلى البيت ويقفون على عرفة.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله عز وجل كرامته ورحمته ورحمة العباد به ألا يرى شيئاً إلا جاءت كفلق الصبح. 35 فمكث على ذلك ما شاء الله عز وجل أن يمكث، وحبب الله عز وجل إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، وكان واعية، عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله عز وجل كرامته، وابتدأه بالنبوة، كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة وهي تحييه بتحية النبوة: السلام عليك، رسول الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة ينسك فيه، وكان من نسك في الجاهلية من قريش يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته وقضاه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة حتى إذا كان الشهر الآخر الذي أراد الله عز وجل ما أراد من كرامته من السنة التي يبعثه فيها، وذلك شهر رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يخرج لجواره، وخرج معه بأهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله عز وجل فيها برسالته، ورحم العباد به جاءه جبريل بأمر الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءني وأنا نائم فقال: إقرأ، فقلت: وما اقرأ؟ حتى ظننت أنه الموت، ثم كشطه عني فقال: إقرأ، فقلت: وما أقرأ فعاد لي مثل ذلك ثم قال: إقرأ، فقلت: وما أقرأ؟ وما أقولها إلا تنجيا أن يعود لي بمثل الذي صنع بي فقال: " إقرأ بسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " ثم انتهى فانصرف عني، وهببت من نومي، وكأنما صور في قلبي كتاب، ولم يكن في خلق الله عز وجل أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أنظر إليهما، فقلت: إن الأبعد - يعني نفسه، صلى الله عليه وسلم - لشاعر أو مجنون، ثم قلت: لا تحدث قريش عني بهذا أبداً، لأعمدن إلى حالق من الجبل، فلأطرحن نفسي منه، فلأقتلنها، فلأستريحن، فخرجت ما أريد غير ذلك، فبينا أنا عامد لذلك سمعت منادياً ينادي من المساء يقول: يا محمد! أنت رسول الله، وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد! أنت رسول الله، وأنا جبريل، فوقعت أنظر إليه، وشغلني عن ذلك وعما أريد، فوقعت ما أقدر على أ، 93 أتقدم ولا أتأخر ولا أصرف وجهي في نحية من السماء إلا رأيته فيها، فما زلت واقفاً ما أتقدم ولأتأخر حتى بعث خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا، فلم أزل كذلك حتى كاد النهار يتحول، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا، فقلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت: أعيذك بالله يا أبا القاسم من ذلك، ما كان الله عز وجل ليفعل بك ذلك معما أعلم من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك، وما ذاك يا ابن عن، لعلك رأيت شيئاً أو سمعته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: أبشر يا بن عم، واثبت له، فو الذي تحلف به إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت ثيابها عليها، ثم انطلقت إلى مروقة بن نوفل - وهو ابن عمها، وكان قد قرأ الكتب، وكان قد تنصر، وسمع التوراة والانجيل، فاخبرته الخبر، وقصت عليه ما قص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة، إنه لنبي هذه الأمة، وإنه ليأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى عليه السلام، فقولي له فليثبت، ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ما قال لها ورقة، فسهل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهم بما جاءه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة، فقال ورقة: والذي نفس ورقة بيده إنه ليأتيك الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى عليه السلام، وإنك لنبي هذه الأمة، ولتؤذين، ولتكذبن، ولتقاتلن، ولتنصرن، ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرنك نصراً يعلمه الله، ثم أدنى إليه رأسه فقبل يا فوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله وقد زاده الله عز وجل من قول ورقة ثباتاً، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم.

نا أحمد: نا يونس عن قرة بن خالد قال: حدثني أبو رجاء العطاردي قال: أول سورة نزولت على محمد صلى الله عليه وسلم: " إقرأ باسم ربك الذي خلق " .
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وقد قال ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي فيما كانت ذكرت 37 له خديجة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يزعمون:
إن بك حقاً يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به العاتي الغوي المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخرى بأحواز الجحيم تغلل
إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت ... مقاطع في هاماتهم ثم من عل
فسبحان من تهوى الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
وقال ورقة في ذلك أيضاً:
يا للرجال لصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... وما لها بخفي الغيب من خبر
جاءت لتسألني عنه لأخبرها ... أمراً أراه سيأتيالناس من اخر
فخبرني بأمر قد سمعت به ... فميا مضى من قديم الدهر والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل إنك مبعوث إلى البشر
فقلت على الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظرى
وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمر ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقاً عجباً ... يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت في أهيب الصور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري أيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السور
وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا من ولا كدر
حدثنا أحمد: نا يونس بن بكير عن محمد بن إسحق قال: حدثني عبد الله ابن أبي بكر عن أبي جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تصيبه العين بمكة، فتسرع إليه قبل أن ينزل عليه الوحي فكانت خديجة إبنة خويلد تبعث إلى عجوز بمكة ترقيه، فلما نزل عليه القرآن فأصابه من العين تحو مما كان يصيبه، فقالت له خديجة: يا رسول الله ألا أبعث إلى تلك العجوز فترقيك؟ فقال: أما الآن فلا.
نا أحمد: نا يونس عن هشام بن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مت من نبي إلا وقد رعى الغنم، فقيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا.
نا أحمد: نا يونس عن يونس بن 38 عمرو عن أبيه عن عبيدة النصري قال: تفاخر رعاء الإبل ورعاء الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوطأهم رعاء الإبل غلبة، فقالوا: ما أنتم يا رعاء النقد، هل تحمون أو تصيدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فتكلم فقال: بعث موسى عليه السلام وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعث أنا، وأنا راعي غنم أهلي بأجياد، فغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نا أحمد: نا يونس عن عبيد بن عتيبة العيذي عن وهب بن كعب بن عبد الله بن سور الأزدي عن سلمان الفارسي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه ليس من نبي إلا وله وصي وسبطان، فمن وصيك وسبطاك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرجع شيئاً، فانصرف سلمان يقول: يا ويله، يا ويله كلما لقيه ناس من المسلمين قالوا: مالك سلمان الخير؟ فيقول سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فلم يرد علي، فخفت أن يكون من غضب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر قال: أدن يا سلمان، فجعل يدنو ويقول: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فقال: سألتني عن شيء لم يأتني فيه أمر، وقد أتاني أن الله عز وجل قد بعث أربعة آلاف نبي، وكان أربعة آلاف وصي وثمانية آلاف سبط، فو الذي نفسي بيده لأنا خير النبيين، وإن وصيي لخير الوصيين، وسبطاي خير الأسباط.

آخر الجزء الثاني - يتلوه في الثالث إن شاء الله: نا أحمدك نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وكافة للناس.
والحمد لله حق حمده وصلواته على محمد سيد المرسيلن وعلى أله الطيبين الظاهرين وسلم تسليماً كثيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
بسم الله الرحمن الرحيم توكلت على الله أخبرنا الشيخ أبو الحسين أحمد بن محمد النقور البزاز - قراءة عليه وأنا أسمع - قال: اخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص قال: قرئ على أبي الحسن رضوان بن أحمد وأنا أسمع قال: نا أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال قال: نا يونس بن بكير عن محمد بن إسحق قال: ثم بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وكافة للناس، وكان الله قد أخذله ميثاقاً على كل نبي بعثه قبله، وبالإيمان به، والتصديق له، والنصر له على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم، فأوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه، يقول الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم " إى آخر الآية، فأخذ الله ميثاق النبيين جميعاً بالتصديق له والنصر له على من خالفه، فأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين، فبعثه الله بعد بنيان الكعبة بخمس سنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن أربعين سنة.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان. بقول الله تبارك وتعالى: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " إلى آخر الآية، وقال الله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " إلى آخر السورة، وقال: " حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين " ، وقال: " إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " وذلك التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون يوم بدر صبيحة الجمعة لسبع عشرة من شهر رمضان.
نا أحمد: نا يونس عن أسباط بن اسماعيل بن عبد الرحمن قال: كان يوم بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من شهر رمضان.
نا أحمد: نا يونس عن قرة بن خالد قال: سألت عبد الرحمن بن قاسم عن ليلة القدر، فقال: كان زيد بن ثابت يعظم سابعة عشر ويقول: هي وقعة بدر.
نا أحمد: نا يونس عن بسر بن أبي حفص الكندي الدمشقي قال: نا مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ألا لا يغادرك صيام الإثنين، وأوحى إلى يوم الإثنين، وهاجرت يوم الإثنين ، وأموت يوم الإثنين.
نا أحمد بن عبد الجبار قال: نا محمد بن فضيل عن عاصم بن كليب عن أبيه عن عبد الله بن عباس قال: كنت عند عمر بن الخطاب رحمه الله وعنده أصحابه، فسألهم فقال: أرأيتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: التمسوها في العشر 46 الأواخر وتراً، أي ليلة ترونها؟ فقال بعضهم: ليلة إحدى، وقال بعضهم: ليلة ثلاث، وقال بعضهم: ليلة خمس، وقال بعضهم: ليلة سبع، وأما ساكت، فقالك مالك لا تتكلم؟ فقلت: إنك أمرتني ألا أتكلم حتى يتكلموا، فقال: ما أرسلت إليك إلا لتكلم، فقالك إني سمعت الله يذكر السبع فذكر " سبع سموات ومن الأرض مثلهن " ، وخلق الإنسان من سبع، ونبات الأرض من سبع، فقال عمر: هذا، أخبرتني ما أعلم، أرأيت ما لا أعلم قولك نبات الأرض سبع؟ قال: قلت: قال الله: " شققنا الأرض شقاً. فأنبتنا فيها حباً. وعنباً وقضباً. وزيتوناً ونخلاً. وحدائق غلباً " فالحدائق غلباً الحيطان من النخل والشجر، وفاكهة وأبا، قال: الأب ما أنبتت الأرض مما تأكل الدواب والأنعام ولا يأكله الناس، فقال عمر لأصحابه: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الإلام الذي لم تجتمع له شؤون رأسه، والله إني لأرى القول كما قال.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: تتام الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن بالله مصدق لما جاءه، قد تقبله بقول وتحمل منه ما حمله الله على رضا العباد وسخطهم، وللنبوة أثقالاً ومؤونة لا يحملها ولا يستطيعها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاء به من عند الله تعالى.
نا أحمد: نا يوسن عن ابن اسحق قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سمعت ابن منبه وهو في مسجد منى، وذكر له يونس النبي عليه السلام فقال: كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة - ولها أثقال، فلما حملت عليه تفسح الربع تحت الحمل الثقيل، فألقاها عنه وخرج هارباً.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق ما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبيته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به لا يرى شيئاً إلا جاءت كفلق الصبح، يمكث على ذلك ما شاء الله أن يمكث، وحبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.
نا أحمد: نا يونس عن يونس بن عمرو عن أبي ميسرة عم ر بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: إني إذا خلوت 47 وحدي أسمع نداء، وقد والله حشيت أن يكون هذا الأمر، فقالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك ذلك فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتنصل الرحم وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر رحمه الله. وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرت خديجة حديثه له، فقالت: يا عتيق إذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده: فقال: انطق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة، فانطلقا إليه فقصا عليه، فقال: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد، يا محمد، فانطلق هارباً في الأرض، فقال له: لا تفعل إذا أتاك فاثنت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين حتى بلغ " ولا الضالين " قل: لا إله إلا الله، فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، وأنك على مثل نا موسى موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك؛ فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني - يعني ورقة.
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ساب أخ لورقة، فتناول الرجل ورقة فسبه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأخيه: ل علمت أني رأيت لورقة جنة أو جنتين، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني اسماعيل بن أبي حكيم، مولى الزبير، انه حدث عن خديجة بنت خويلد أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما تثبتته به، فيما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، فقالت: إذا جاءك فأخبرني، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها يوماً، إذ حاء جبريل، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ي خديجة هذا جبريل قد جاءني، فقالت أتراه الآن؟ قال: نعم، قالت: فاجلس إلى شقي الأيسر فجلس، فقالت هل تراه الآن؟ قال: نعم، قالت: فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فقالت: هل تراه الآن؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، فقالت: هل تراه الآن؟ قال: نعم، فتحسرت فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، فقالت: هل تراه الآن؟ قال: لا، قالت: ما هذا الشيطان، إن هذا لملك يا بن عم فاثبت، وأبشر، ثم آمنت به، وشهدت أن الذي جاء به الحق.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فحدثت 48 عبد الله بن الحسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام.
نا يونس عن زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى استنبئت؟ فقال: بين خلق آدم ونفخ الروح فيه.
نا يونس عن إبراهيم بن اسماعيل بن مجمع الأنصاري عن رجل عن سعيد ابن المسيب قال: نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشراً، وبالمدينة عشراً.
نا أحمدك نا يونس عن ابن اسحق قال: ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشراً.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر لله على رسالته وتبليغ ما أمر به.
نا يونس عن عيسى بن عبد الله التيمي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: " فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل " : نوح، وهود، وإبراهيم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبر هؤلاء، وكانوا ثلاثة ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابعهم، عليهم السلام ورحمة الله، قال نوح: " يا قوم أن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله " إلى آخرها، فأظهر لهم المفارقة، وقال هود حين قالوا: " إن نقول ألا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون فأظهر لهم المفارقة، وقال إبراهيم: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم " إلى آخر الآية، فاظهر لهم المفارقة، وقال محمد: " إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله " فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، فقرأها على المشركين فأظهر لهم المفارقة.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة مل ذلك حتى شق عليه وأحزانه، ثم قال في نفسه مما أبلغ ذلك منه: لقد خشيت أن يكون صاحبي قد قلاني وودعني، فجاء جبريل بسورة والضحى، يقسم له به، وهو الذي أكرمه " ما ودعك ربك وما قلى " فقال: " والضحى والليل إذا سجى " يقول: " ما ودعك ربك وما قلى " ما صرمك وتركك، وما قلى: ما أبغضك منذ أحبك، وللآخرة خير لك من الأولى أي ما عندي من مرجعك إلي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا، " ولسوف يعطيك ربك فترضى " من الفتح في الدنيا والثواب في الآخرة، " ألم يجدك يتيماً فآزى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى " يعرفه ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه 49 وعيلته وضلالته، وستنقاذه من ذلك كله برحمته " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر " لا تكون جباراً ولا متكبراً ولا فاحشاً فظاً على الضعفاء من عباد الله " واما بنعمة ربك فحدث اذكرها وادع إليها، يذكره ما أنعم الله به عليه وعلى العباد ممن النبوة.
نا أحمد: نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن خديجة أنها قالت: لما أبطأ على رسول الله حروف الوحي جزع من ذلك جزعاً شديداً، فقلت له مما رأيت من جزعه: لقد قلاك ربك مما يرى من جزعك، فأنزل الله " ما ودعك ربك وما قلى " .
نا يونس عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فأنزل الله تعالى: " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا " إلى قوله: " ما كان ربك نسيا " .
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افترضت عليه الصلاة، فهمز له بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت منه عين ماء مزن، فوضأ وجهه ومضمض واستنشق ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين، ونضج فرجه، ثم قام فصلى ركعتين، وسجد أربع سجدات على وجهه، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر الله عينه وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة يصليان سراً.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة أن الصلاة أول ما افترضت ركعتين، ثم أكملت أربعاً، وأثبتت للمسافر. قال: فحدثت ذلك عمر بن عبد العزيز، فقال لروة: حدثتني أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً، فجاء عروة فقلت في نفسي لا يكون هذا بي، فسألته عن الحديث، فحدثه فقال عمر: ما أدري ما أحاديثكم هذه! ثم حول وركه ونزل عن سريره ودخل.
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: أول ما افترضت الصلاة ركعتين فأثبت للمسافر وأكملت للمقيم أربعاً.
نا يونس عن سالم مولى أبي المهاجر قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى مثنى مثنى، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً فصارت سنة، وأقرت الركعتين للمسافر وهي تمام.

اسلام علي بن أبي طالب
نا أحمد: حدثني: حدثي يونس عن ابن اسحق قال: ثم 50 إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيومين فوجدهما يصليان، فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده، وإلى عبادته، وكفر باللات والعزى، فقال له علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فليت بقاض أمراً حتى أحدث أبا طالب، فكره رسول الله حروف أن يفشي عليه شره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم، فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الآسلام، فأصبح غادياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ما عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل علي وأسلم، ومكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهر به.
وأسلم زيد بن حارثة فمكث قريباً من شهر يختلف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيع - قال: أراه عن مجاهد - قال: أسلم عبي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي - من اهل الكوفة - قال: حدثني اسماعيل بن اياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف أنه قال: كنت امرءاً تاجراً فقدمت أيام منى، أيام الحجن وكان العباس بن عبد المطلب امرءاً تاجراً، فأتيته أبتاع منه وأبيعه؛ قال فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء يصلي فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة، فقامت تصلي مع، وخرج إلام، فقام يصلي معه، فقلت: يا عباس ما هذا الدين، إن هذا الدين ما ندري ما هو؟ فقال العباس: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امراته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الإلام تبن عمه علي بن أبي طالب آمن به؛ قال العفيف: فلينتني آمنت يومئذ وكنت أكون ثانياً.
نا يونس عن يوسف بن صهيب عن عبد الله بن بريدة قال: أول الرجال إسلاماً علي بن أبي طالب ثم الرهط الثلاثة: أبو ذر، وبريدة، وابن عم لأبي ذر.
اسلام أبي بكر الصديق
نا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: ثم إن أبا بكر لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابا بكر إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى 51 الله بالحق، فو الله إنه للحق أدعوك، إلى الله يا أبا بكر، وحده لا شريك له، ولا يبعد غيره، والمولاة على طاعته أهل طاعته، وقرأ عليه القرآن، فلم يفر، ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عتم حين ذكرته له، وما تردد فيه.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: فابتدأ أبو بكر أمره، وأظهر إسلامه، ودعا الناس، وأظهر علي وزيد بن حارثة إسلامهما فكبر ذلك على قريش.

وكان أول من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد، زوجته، ثم كان أول ذكر آمن به علي، وهو يومئذ ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنهم.
فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله، وكان أبو بكر رجلاً مآلفاً لقومه، محبباً شهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلاً تاجراً، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه بأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل بدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليهن فأسلم على يديه فيما بلغني الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعهم أبو بكر، فانطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحق الإسلام، وبما وعدهم الله من كرامة فآمنوا، وأصبحوا مقرين بحق الإسلام، فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بما جاء من عند الله تعالى.
اسلام أبي ذر رضي الله عنه
نا يونس عن يوسف بن صهيب عن عبد الله بن بريدة قال: انطلق أبو ذر وبريدة معهم ابن عم لأبي ذر يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلمن وهو بالجبل مكتتم بطائفة من مكة، وأتوه وهو نائم في الجبل مسجاً بثوبه، خارجة قدميه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس قدماً، فقال أبو ذر: إن كان نبي بهذه البلاد فهو هذا النائم، فمشوا حتى قاموا عليه، ومع أبي ذر عصاً يتوطأ عليها، فقال أبو ذر: أنائم الرجل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً، فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نادى أبو ذر: أنائم الرجل فلم يجبه، ثم أعاد عليه أبو ذر: أنائم الرجل وغمز بعصاه في باطن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم 52 فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد، فقال له أبو ذر: يا محمد أتيناك لنسمع ما تقول، وإلى ما تدعو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقول: لا إله إلا الله وأني رسول الله، فآمن به أبو ذر وصاحباه وكان علي رضي الله عنه في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله فيها.
نا يونس عن جعفر بن حيان عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنتم توفون بسبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده محمد رسول الله، اسمه المتوطل، ليس بفظ ولا غيظ، ولا سخاب في الأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعيناً عوراً، ويسمع به آذناً وقرأ، ويقيم به ألسناً معوجة، حتى تشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.
نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا، قال: أنا محمد، وأحمد والمقضي، والحاشر، ونبي التوبة والملحمة.
نا يونس عن يونس بن عمرو عن العيزار بن حريث عن عائشة رضي الله عنها قال: لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل، لافظ، ولا غليظ، ولا سخاب بالاسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح.
نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله عن زيادة مولى مصعب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مضت تسع وستون أمة وأهنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: أخبرني الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا العاقب، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه.

اسلام المهاجرين رضي الله عنهم
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم انطلق أبو عبيدة بن الحارث، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعبد الله بن الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الأسلام، وقرأ عليهم القرآن، فأسلموا وشهدوا أنه على هدى ونور.

ثم أسلم ناس من قبائل العرب منهم: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أخو بني عدي بن كعب، وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون الجمحيان، وخباب بن الأرت حليف بني زهرة، وعمير بن أبي وقاص الزهري 53 وعبد الله بن مسعود حليف بني زهرة، ومسعود بن القاري وسليط بن عمرو أخو بني عامر بم لؤي، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي وامرأته أسماء بنت سلامة بن مخرمة التميمي، وخنيس ابن حذافة السهمي، وعامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب، وعبد الله بن جحيش الأسدي، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث الجمحي وامرأته أسماء بنت يسار، ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحي، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطالب بن أزهر بن عبد عوف الزهري وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صبير بن سعد بن سهم، والنحاس واسمه نعيم بن أسد أخو بني عدي بن كعب، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، وخالد بن سعيد بن العاصي وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة من خزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس أخو بني عامر بم لؤي، وأبو حذيفة بن عقبة بن ربيعة، وواقد بن فائد بن عبد الله بن عزيز بن ثعلبة التميمي حليف بني عدي بن كعب، وخالد بن البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد الله بن ناشب من بني سعد بن ليث، حلفاء بني عدي بن كعب، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم، وصهيب بن سنان حليف نبي تميم.
ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال حتى فشا ذكر الإسلام وتحدث به، فلما أسلم هؤلاء النفر وفشا أمرهم بمكة أعظمت ذلك قريش، وغضبت له، وظهر فيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم البغي والحسد، وشخص له منهم رجال فبادوه العداوة، وطلبوا له الخصومة منهم: أبو جهل بن هشام، وأصحابه وأبو لهب، وعبيد بن عبد يغوث، وعمرو بن الظلاظلة، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وأمية بن خلف، وأبي بم خلف، وهو الذي أصاب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وأبو قيس بن الفاكة بن المغيرة، وأبو قيس بن الأسلت والحضين أو الحضير بن الحارث بن سعيد بن الحجاج وهو زهير بن أبي أمية بن المغيرة والسائب بن صيفي بن عائذ، والأسود بن عبد السد، والعاصي بن سعيد، وعتيبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو شفيان بن حرب، وأبو العاصي بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأبو الأصد الهذلي، نطحته أروى فسقط فتقطع، والحكم بن أبي العاصي، وعدي بن جبر الثقفي، وزمعة بن الأسود.
وكان الذين يؤذونه: أبو لهب، وعقبة بن أبي معيط، والحكم بن أبي العاصي، وعدي بن جبر الثقفي، ورجل آخر.

قوله عز وجل " وأنذر عشيرتك الأقربين "
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكان الذي تنتهي إليه عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتمع إليه فيها أبو جهل، حسداً وبغياً، لما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من كرامته.
ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاء به، وأن ينادي الناس بامره، وأن يدعو إلى لله تعالى، وكان ربما أخفى الشيء، واستسر به إلى أن أمر بإظهاره، فلبث سنين من مبعثه، ثم قال الله تعالى: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " . وقال: " وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. وقل إني أنا النذير المبين " .

نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث ابن نوفل واستكمني اسمه عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمت اتبعك من المؤمنين " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرفت أني إن بدأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت عليها، فجاءني جبريل فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرك ربك تعالى عذبك ربك، قال علي: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره، فصمت عن ذلك حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك، فاصنع لنا يا علي رجل شاة على صاع من طعام؛ وأعد لنا عسى لبن، ثم اجمع بنس عبد المطلب ففعلت، فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلاً أم ينقصون؛ فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث، فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذية فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها، ثم قال: كلوا باسم الله، فأكل مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقهم يا علي، فجئت بذلك القعب فشربوا حتى نهلوا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدوره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهد، ما سحركم صاحبكم! فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشارب، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما قد سمعت قبل أن أكلم القوم، ففعلت، ثم جمعهم له، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس، فأكلوا حتى نهوا عنه، ثم سقيتهم فشربوا من ذلك القعب حتى نهلوا عنه، وايم الله إن الرجل منهم ليأكل مثلها، ويشرب مثله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 55 يا بني عبد المطلب، والله ما أعلم شاباً من العرب حاء قومه بأفضل مما جئتكم به قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة.
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف ينزل عليك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك يأتيني الملك أحياناً في مثل صلصة الجرس، وهو أشقه علي، فيفصم عني قد وعيته، ويتمثل لي الملك أحياناً في صورة رجل فيكلمني فأعي ما يقول.
نا يونس عن عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إذا نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ثقل عليه، وتربد له جلده، وأمسك الناس عن كلامه.
نا يونس عن عمر بن ذر عن مجاهد قال: كان إذا نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأه على رجال ثم على النساء.
نا يونس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله حروف قال: يا بني عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم، واعلموا أن أول آت يوم القيامة المتقون، فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذاك وإياي لا يأتون الناس بالأعمال وتأتون بالدينا تحملونها على أعناقكم فأصد وجهي عنكم، فتقولون: يا محمد، فأقول هكذا، فصرف وجهه - ، فتقول يا محمد فأقول هكذا - وصرف وجهه إلى الشق الآخر.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، واستخفوا بصلاتهم عن قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، واقتتلوا، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلحى بتغير فشجه، فكان أول دم اهريق في الإسلام، فلما رأت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرف قريش إلى أبي طالب فيهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة، وأبو سفيان، وأبو البحتري، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، أو من مشى فيهم، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد شب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه فنكفيكه وإنك على مثل ما نحن عليه من 56 خلافه، فقال أبو طالب قولاً رفيقاً، ورد رداً جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم إن قريشاً تآمروا بينهم على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع رسوله بعمه أبي طالب، وقد قال أبو طالب، حين رأى قريشاً تصنع في بني هاشم وبني المطلب، دعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوا إلى ما دعاهم إليه من دفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من أبي لهب، وهو يحرض بني هاشم، وإنما كانت بنو المطلب تدعى لهاشم إذا دعوا بالحلف الذي كان بين بني هاشم وبين بني المطلب دون بني عبد مناف، فقال:
حتى متى نحن على فتنة ... يا هاشم والقوم في محفل
يدعون بالخيل على رقبة ... منا لدى الخوف وفي معزل
كالرحبة السوداء يعلو بها ... سرعان في سبسب مجفل
عليهم النزك على رعله ... مثل القطا الشارب لمهمل
يا قوم ذودوا عن جماهيركم ... بكل مفضال على مسبل
وقد شهدت الحرب في فتية ... عند الوغا في عثير القسطل
فلما اجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب معه ورأى أن قد امتنع بهم وأن قريشاً لن يعاوده معهم قال أبو طالب، وبادى قومه بالعداوة، ونصب لهم الحرب فقال:
منعنا الرسول رسول المليك ... ببيض تلألأ كلمع البروق
بضرب بزبر دون التهاب ... حذار البوادر كالخنفقيق
أذب وأحمي رسول المليك ... حماية حام عليه شفيق
وما أن أدب لأعدائه ... دبيب البكار حذار الفنيق
ولكن أزئر لهم سامياً ... كما زأر ليث بغيل مضيق
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم معه، وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ومكانه منهم، ليشتد لهم رأيهم فيه، وليحدبوا معه على أمرهم، فقال أبو طالب:
إذا اجتمعت يوماً قريشاً لفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها 57
وإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً ... هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديماً لاى نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة ... ونضرب على أحجارها من يرومها
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: ثم أقبل أبو طالب على أبي لهب حين ظافر عليه قومه، ونصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من نصب له، وكان أبو لهب للخزاعية، وكان أبو طالب وعبد الله أبو رسول الله والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فغمزه أبو طالب بأم له يقال لهت اسماحيج، وأغلظ له في القول:
مستعرض الأقوام يخبرهم ... عذري وما إن جئت من عذر

فاجعل فلانة وابنها عوضاً ... لكرائم الأكفاء والصهر
واسمع نوادر من حديث صادق ... تهوين مثل جنادل الصخر
إنا بنو أم الزبير وفحلها ... حملت بنا للطيب والطهر
فحرمت منا صاحباً ومؤازراً ... وأخاً على السراء والضر
قال: فلما مضى أبو طالب على أمره من خلاف قومه فيما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعت قريش على عدوانه وخلافه، قال أبو طالب في ذلك:
ما إن جنينا من قريش عظيمة ... سوى من وطئ التربا
أخاثقة للنائيات موراً كريماً ... ثناه لا لئيماً ولا ذربا
فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... فإياكما أن تسعرا بيننا حرا
وإن تصبحوا من بعدود ما كان في حرب داحس ... ورهط أبي يكسوم إذ ملأ والشعبا
فوالله لولا لا شيء غيره ... لأصبحتم لا تملكون لنا سربا
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال: يا معشر إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم 58 وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجتمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قول بعضكم بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقوم به، فقال: بل أنتم؛ قولوا أسمع، فقالوا: نقول: كاهن، فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه فقالوا: مقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته، فقالوا: نقول: شاعر، فقال ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر بزجره وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو ساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، ما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، إن أصله لغدق، وإن فرعه لجناً، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر: فقولوا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون يسألون الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وفي ذلك من قوله: " ذرني ومن خلقت وحيداً " إلى قوله: " سأصليه سقر " ، وأنزل الله عز وجل في النفر الذين كانوا معه يصنفون له القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به من عند الله تعالى: " الذين جعلوا القرآن عضين " أي أصنافاً " فو ربك لنسئلنهم أجمعين " أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
نا يونس عن أبي معشر عن محمد بن قيس في قوله: " وقالوا قلوبنا في أكنة " قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ما تقول حق، فو الله إن قلوبنا لفي أكنة منه ما نعقله، وفي آذاننا وقر فما نسمعه، ومن بيننا وبينك حجاب فما ندري ما تقول.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم إن قريشاً حين عرفت أن أبا طالب أبي خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك، وعدوانهم، مشوا إليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له فيما بلغنا: يا أبا طالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد جمالا، وشباباً، ونهادة، فهو لك نصره وعقله، فاتخذ ولداً لا تنازع فيه، وخل بيننا وبين ابن أخيك هذا 59 الذي فارق دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومه، وسفه أحلامهم، فغنما رجل كرجل لنقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة، وأفضل في عواقب الأمور مغبة، فقال لهم أبو طالب: والله ما أنصفوني، تعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابن أخي تقتلونه، هذا والله لا يكون أبداً، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: لقد أنصفك قومك يا أبا طالب؛ وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم، فقال أبو طالب للمطعم بن عدي: والله ما أنصفتموني ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال أبو طالب، فحقب الأمر عند ذلك، وجمعت للحرب، وتنادى القوم، وبادى بعضهم بعضا، فقال أبو طالب عند ذلك - وإنه يعرض بالمطعم - ويعم من خذله من بني عبد مناف، ومن عاداه من قبائل، ويذكر ما سألوه فيما طلبوا منه وما تباعد من أمرهم.
ألا ليت حظي من حياطتكم بكر ... يرش على الساقين من بوله قطر
من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... إذا ما علا الفيفاء تحسبه وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بل لهما أمر ولكن ترجمان ... كما ترجمت من رأس ذي الفلق الصخر
هما أغمزا للقوم في أخويهما ... وقد أصبحا منهم أكفهما صفر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر
فأقسمت لا ينفك منهم مجاور ... يجادرنا ما دام من نسلنا شفر
هما أشركا في المجد من لا أخا له ... من الناس إلا أن يرش له ذكر
وليداً أبوه كان عبداً لجدنا ... إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم ... وكانوا لنا مولى إذا ابتغى النصر
وقد سفهت أحلامهم وعقولهم ... وكانوا كجفر شرها ضغطت جفر

باب ما نال أصحاب رسول الله من البلاء والجهد
ثم إن قريشاً مشوا إلى أبي طالب تارة أخرى فكلموه، وقالوا: ما نحن يا أبا طالب، وإن كنت فينا ذا منزلة بسنك وشرفك وموضعك، بتاركي ابن أخيك على هذا حتى نهلكه أو يكف عنا ما قد أظهر بيننا من شتم آلهتنا، وسب آبائنا، وعيب 60 ديننا، فإن شئت فاجمع لحربنا، وإن شئت فدع، فقدر أعذرنا إليك، وطلبنا التخلص من حربك وعداوتك فكل ما نظن أن ذلك مخلصاً، فانظر في أمرك، ثم اقض إلينا قضاك.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشاً حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا بن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا: كذا وكذا، للذي قالوا له، وآذوني قبل، فأبق علي على نفسك، ولا تحملني من الأمر ما أطيق أنا ولا أنت، واكفف عن قومك نا يكرهون من قولك هذا الذي فرق بيننا وبينهم، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه؛ وضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم : أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا نسلمك بشيء أبداً.

نا يونس عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن موسى بن طلحة قالك أخبرني عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا، فقال يا عقيل انطلق فائتيني بمحمد - صلى الله عليه وسلم، فانطلقت إليه، فاستخرجته من خيس، يقول بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فجعل يطلب الفئ يمشي فيه من شدة الحر الرحض، فلما أتاهم قال أبو طالب: إن ابني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي فارجعوا.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق: ثم قال أبو طالب من شعر قاله حين أجمع لذلك من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفاع عنه على ما كان من عداوة قومه وفراقهم له:
والله لن يصلوا إليه بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
إمضي لأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيوناً
ودعوتني وعلمت أنك ناصح ... فلقد صدقت وكنت قديماً أمينا
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه ... من خير أديان البر دينا 61
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحاً لذاك مبينا
فلما قالت قريش: لقد سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وسب آباءنا، فو الله لا نقر بهذا أبداً، وقام أبو طالب دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحب الناس إليه، فشمر في شأنه، ونادى قومه، قال قصيدة تعوذ فيها منهم، وبأدأهم في آخرها، فقال:
لما رأيت القوم لا ود بينهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوماً علينا أظنة ... يعطون غيظاً خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بصفراء سمحة ... وأبيض غضب من سيوف المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وأسرتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
عكوفاً معاً مستقبلين وتاره ... لدى حيث يقضي حلفه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعريون ركابهم ... بمفضى السيول بين ساف ونائل
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي بعث به، وقامت بنو هاشم، وبنو المطلب دونه، وأبوا أن يسلموه، وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه، إلا أنهم أنفوا أن يستذلوا، ويسلموا أخاهم لمن فارقه من قومه، فلما فعلت ذلك بنو هاشم، وبنو المطلب، وعرفت قريش أنه لا سبيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم معهم، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم، ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، فكتبوا صحيفة في ذلك، وكتب في الصحيفة عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم، وآذوهم، واشتد البلاء عليهم، وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالاً شديداً، فخرج أبو لهب عدو الله يظاهر عليهم قريش، وقال: قد نصرت اللات والعزى يا معشر قريش، فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهب " إلى آخرها.
نا أحمد: نا يونس عن اسحق قال: وقالت: صفية بنت عبد المطلب:
ألا من مبلغ عني قريشاً ... ففيم الأمر فينا والإمار
لنا الأمر المقدم قد علمتم ... ولم توقد لنا بالغدو نار
مجازيل العطا إذا وهبنا ... وأيسار إذا ابتغى اليسار
وكل مناقب الخيرات فينا ... وبعض الأمر منقصة وعار
فلا والعاديات غداه جمع ... بايديها إذا سطع الغبار
لنصطبرن لأمر الله حتى ... يبين ربنا أين القرار
وقال إبو طالب:
الا أبلغا عني على ذات نأيها ... لؤياً وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً ... نبيا كموسى خط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة ... ولا خير فيمن خصه الله بالخب
وأن الذي أضفتم في كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الثرى ... ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا ... أياصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حرباً عوانا وربما ... أمر على من ذاقه حلب الحرب
ولسنا ورب البيت نسلم أحمدا ... على الحال من عض الزمان ولا كرب
أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ... ولا نتشكى ما ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفاظ والنهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرعب
وقال أبو طالب:
ألا أبلغا عني لؤيا رسالة ... بحق وما تغني رسالة مرسل
بني عمنا الادنين تيما نخصهم ... وأخوتنا من عبد شمس ونوفل
أظاهرتم قوماً علينا ولاية ... وأمر غوي من غواة وجهل
يقولون إن قد قتلنا محمداً ... أقرب نواصي هاشم بالتذلل
كذبتم ورب الهدي تدمى نحورها ... بمكة والركن العتيق المقبل
تناولونه أو تعطلون لقتله صوارم ... تفري كل عظم ومفصل
وتدعو بويل أنتم إن ظلمتم ... مقابله في يوم أغر محجل
فمهلا ولما تنجح الحرب بكرها ... ويأتي تماما أو بآخر معجل
وانا متى ما نمرها بسيوفنا ... تجلجل وتعرك من نشا بكلكل
ويعلو ربيع الأبطحين محمد ... على ربوة من راس عنقاء عيكل
ويأوي إليها هاشم إن هاشماً ... عرانين كعب آخر بعد أول
فإن كنتم ترجون قتل محمد ... فروموا بما جمعتم نقل يدبل
فإنا سنمنعه بكل طمرة ... وذي ميمة نهد المراكل هيكل
وكل رديني طمى كعوبة ... وغصب كما ماض الغمامة مفصل
بأيمان شم من ذوابة هاشم ... مغاوير بالأبطال في كل محفل
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: فلما سمعت قريش بذلك، ورأوا منه الجد وأيسوا منه، فأبدوا لبني عبد المطلب الجفاء، فانطلق بهم أبو طالب فقاموا بين أستار الكعبة، فدعوا الله على ظلم قومهم لهم، وفي قطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم، وبتأولهم سفك دمائهم، فقال أبو طالب: اللهم إن أبي قومنا إلا النصر علينا، فعجل نصرنا، وحل بينهم وبين قتل إبن أخي، ثم أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون إليه وإلى أصحابه، فقال أبو طالب: ندعو برب هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم، والله لتنتهن عن الذين تريدون، أو لينزلن الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون، فأجابوه إنكم يا بني عبد المطلب لا صلح بيننا وبينكم ولا رحم إلا على قتل هذا الصبي السفيه.
ثم عمد أبو طالب فأدخل الشعب إبن أخيه وبني أبيه ومن اتبعهم من بين مؤمن، دخل لنصرة الله، ونصره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بين مشرك يحمي، فدخلوا شعبهم، وهو شعب في ناحية من مكة، فلما قدم عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة إلى قريش وأخبروهم بالذي قال النجاشي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، اشتد وجدهم، وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذى شديداً وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق، فلم يدعوا أحداً من الناس يدخل عليهم طعاماً ولا شيئاً مما يرفق بهم، وكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم، وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويغلونها عليهم، ونادى منادي الوليد بن المغيرة في قريش: أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه.
نا يونس عن عيسى بن عبد الله التميمي عن الربيع بن أنس قال: نزلت في الوليد بن المغيرة: عتل بعد ذلك زنيم قال: فاحش مع ذلك لئيم.

نا أحمد: نا يونس عن إبن إسحق في حديثه عن الوليد: فمن رأيتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه، وحولوا بينهم وبينه ومن لم يكن عنده نقد فليشتر وعلي النقد، ففعلوا ذلك ثلاث سنين حتى بلغ القوم الجهد الشديد، وحتى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب، وكان المشركون يكرهون ما فيه بنو هاشم من البلاء، حتى كره عامة قريش ما أصاب بني هاشم، وأظهروا لكراهيتهم لصحيفتهم القاطعة الظالمة الذي تعاهدوا فيها على محمد صلى الله عليه وسلم ورهطه، وحتى أراد رجال منهم أن يبرءوا منها، وكان أبو طالب يخاف أن يغتالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً أو سراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخذ مضجعه أو رقد بعثه أبو طالب عن فراشه وجعله بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه، وتصبح قريش فيسمعوا من الليل أصوات صبيان بني هاشم الذين في في الشعب يتضاغون من الجوع، فإذا أصبحوا جلسوا عند الكعبة فيسأل بعضهم بعضاً، فيقول الرجل لصاحبه: كيف بات أهلك البارحة؟ فيقول: بخير، فيقول: لكن اخوانكم هؤلاء الذين في الشعب بات صبيانهم يتضاغون من الجوع حتى أصبحوا، فمنهم من يعجبه ما يلقى محمد صلى الله عليه وسلم ورهطه، ومنهم من يكره ذلك، فقال أبو طالب، وهو يذكر ما طلبوا من محمد صلى الله عليه وسلم، وما حشدوهم في كل موسم يمنعونهم أن يبتاعوا بعض ما يصلحهم، وكر في الشعر:
ألا من لهم آخر الليل معتم ... طواني وأخرى النجم لم يتقحم
طواني وقد نامت عيون كثيرة ... وسائر أخرى ساهر لم ينوم
لأحلام أقوام أرادوا محمداً ... بسوء ومن لا يتقي الظلم يظلم
سعوا سفها واقتادوهم سوء رأ ... يهم على قائل من رأيهم غير محكم
رجا أمور لم ينالوا نظامها ... وإن حشدوا في كل نفر وموسم
يرجون أن نسخا بقتل محمد ... ولم تختضب سمر العوالي من الدم
يرجون منا خطة دون نيلها ... ضراب وطعن بالوشيخ المقوم
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلة ... حليلها ونغشاً محرماً بعد محرم
وينهص قوم في الدروع إليكم ... يذبون عن أحسابهم كل مجرم
نا أحمد: نا يونس عن إبن إسحق: فأقامت قريش على ذلك من أمرهم في بني هاشم وبني المطلب سنتين أو ثلاثاً، حتى جهد القوم جهداً شديداً لا يصل إليهم شيء إلا سراً، أو مستخفاً ممن أراد صلتهم من قريش، فبلغني أن حكيم بن حزام خرج يوماً ومعه انسان يحمل طعاماً إلى عمته خديجة ابنة خويلد، وهي تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه في الشعب، إذ لقيه أبو جهل فقال: تذهب بالطعام إلى بني هاشم والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك عند قريش، فقال له أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد: تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده، فأبى أبو جهل أن يدعه، فقام إليه أبو البختري بساق بعير فشجه ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة بن عبد المطلب قريباً يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم، فقال أبو البختري بن هاشم في ذلك:
ذق يا أبا جهل لقيت غماً ... كذلك الجهل يكونذما
سوف ترى عودي إن ألما ... كذلك اللوم يعود ذما
تعلم أنا نفرج المهما ... ونمنع الأبلج أن يطما

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم إن الله عز وجل برحمته أرسل على صحيفة قريش التي كتبوا فيها تظاهرهم على بني هاشم، الأرضه، فلم تدع فيها اسم هو لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله عز وجل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أبا طالب، فقال أبو طالب: يا ابن أخي من حدثك هذا، وليس يدخل إلينا أحد ولا تخرج أنت إلى أحد، ولست في نفسي من أهل الكذب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني ربي هذا، فقال له عمه: إن ربك لحق، وأنا أشهد أنك صادق، فجمع أبو طالب رهطه ولم يخبرهم بما أخبره به رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين، فيحتالوا للصحيفة الخبث والمكر، فانطلق أبو طالب برهطه حتى دخلوا المسجد، والمشركون من قريش في ظل الكعبة، فلما أبصروه تباشروا به، وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلوه، فلما انتهى إليهم أبو طالب ورهطه رحبوا بهم وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم، وفي حياته فرقتكم وفسادكم! فقال أبو طالب: قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة فاقبلوا ذلك منا، هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا، فجاءوا بها، ولا يشكون إلا أنهم سيدفعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم إذا نشروها، فلما جاءوا بصحيفتهم قال أبو طالب: صحيفتكم بيني وبينكم، وإن ابن أخي قد خبرني ولم يكذبني أن الله عز وجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة، فلم تدع الله فيها إسماً إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فإن كان كاذبا فلكم علي أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق، وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا هم بالغدر أولى منهم، واستبشر أبو طالب وأصحابه، وقالوا: أينا أولى بالسحر والقطيعة والبهتان؟ فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وهشام بن عمرو، أخو عامر بن لؤي بن حارثة، فقالوا: نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحداً في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش، فخرج أقوام من شعبهم وقد أصابهم الجهد الشديد، فقال أبو طالب في ذلك من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما أرادوا من قتله:
تطاول ليلي بهم وصب ... ودمع كسح السقاء السرب
للعب قصي بأحلامها ... وهل يرجع الحلم بعد اللعب
ونفي قصي بني هاشم ... كنفي الطهاة لطاف الحطب
وقول لأحمد أنت امرء ... خلوف الحديث ضعيف النسب
وإن كان أحمد قد جاءهم ... بحق ولم يأتهم بالكذب
على أن أخوتنا وازروا ... بني هاشم وبني المطلب
هما أخوان كعظم اليمين ... أمر علينا كعقد الكرب
فيا لقصي ألم تخبروا بما ... قد مضى من شؤون العرب
فلا تمسكن بأيديكم ... بعد الأنوف بعجب الذنب
علام علام تلافيتم ... بأمر مزاح وحلم عزب
ورمتم بأحمد ما رمتم ... على الأصرات وقرب النسب
فأنى وما حج من راكب ... لكعبة مكة ذات الحجب
تنالون أحمداً وتصطلوا ... طبات الرماح وحد القضب
وتغترفوا بين أبياتكم ... صدور العوالي وحبل عصب
تراهن من بين صافي السبيب ... قصير الحزام طويل اللبب
وجرداء كالطير سمحوجة ... طواها المقانع بعد الحلب
عليها صناديد من هاشم ... هم الأنجبون مع المنتجب
وقال أبو طالب في شأن الصحيفة حين رأى قومه لا يتناهون وقد رأوا فيها العلم من العلم ما رأوا:
ألا من لهم آخر الليل منصب ... وشعب العصا من قومك المتشعب
وحرب أبينا من لؤي بن غالب ... متى ما تزاحمها الصحيفة تحرب
إذا ما مشير قام فيها بخطة ... الذؤابة ذنباً وليس بمذنب

وما ذنب من يدعو إلى البر والتقى ... ولم يستطع أن يا رب الشعب يأرب
وقد جربوا فيما غب أمرهم ... وما عالم أمراً كمن لم يجرب
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة ... متى ما يخبر غائب القوم يعجب
محى الله منها كفرهم وعقوقهم ... وما نقموا من باطل الحق معرب
فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً ... ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً ... على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبوا يا مسلمين محمداً ... لذي عربة منا ولا متغرب
ستمنعه منا يد هاشمية ... مركبها في الناس خير مركب
فلما باداهم أبو طالب بالعداوة، وباداهم بالحرب، عدت قريش على من أسلم منهم فأوثقوه وآذوه واشتد البلاء عليهم، وعظمت الفتنة فيهم، وزلزلوا زلزالاً شديداً. وعدت بنو جمح على عثمان بن مظعون، وفر أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم إلى أبي طالب ليمنعه، وكان خاله فجاءت بنو مخزوم ليأخذوه، فمنعهم، فقالوا: يا أبا طالب منعتنا ابن أخيك، أتمنع منا ابن أخينا؟! فقال أبو طالب: أمنع ابن اختي مما أمنع ابن أخي، فقال أبو لهب - ولم يتكلم بكلام خير قط، ليس يومئذ - : صدق أبو طالب لا يسلمه إليكم، فطمع فيه أبو طالب حين سمع منه ما سمع، ورجا نصره والقيام معه، فقال شعراً استجلبه بذلك:
وإن امرءاً أبو عتيبة عمه ... لفي روضة من أن يسام المظالما
أقول له وأين مني نصيحتي ... أبا معتب ثبت سوادك قائماً
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة ... تسب بها لما هبطت المواسما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى ... أخا الحرب يعطي الضيم إلا مسالما
وولي سبيل العجز غيرك منهم ... فإنك لن تلحق على العجز لازما
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم إنه قلم في نقض الصحيفة التي تكاتبت قريش على بني هاشم، وبني المطلب، نفر من قريش، ولم يبل أحد فيها بلاء أحسن بلاء من هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جريمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان عمرو ونضلة أخوين لأم، وكان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا شرف في قومه، وكان فيما بلغني يأتي بني المغيرة وبني هاشم وبني المطلب في الشعب ليلاً، قد أوقر حملاً طعاماً، حتى إذا أقبله في الشعب حل حطامه من رأسه ثم ضرب جنبه، فدخل الشعب عليهم، ويأتي به قد أوقره براً أو بزا فيفعل به مثل ذلك.

ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال لزهير: قد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، واخوانك حيث قد علمت لا يباعون ولا يباع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، ولا يأمنون ولا يؤمن عليهم، أما إي أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً، قال: ويحك فما أصنع أنا رجل واحد؟! قال: فقال: قد وجدت ثانياً، قال: ومن هو؟ قال: أنا أقوم معك فقال له زهير: أبغنا ثالثا؛ قال: وذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له يا مطعم قد رضيت أن تهلك بطن من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق عليه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها سراعا ًمنكم، فقال: ويحك فما أصنع إنما أنا رجل واحد؟! فقال: قد وجدت ثانياً، قال: فمن هو؟ قال أنا، قال: فابغنا ثالثاً، قال: قد فعلت، قال: ومن هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: فابغنا رابعاً يتكلم معنا، قال: فذهب إلى أبي البختري بن هشام فذكر قرابتهم وحقهم، فقال: هل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، المطعم بن عدي، وزهير بن أبي أميه، فقال: ابغنا خامساً، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له زمعة: هل معك على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ فقال: نعم ثم سمى له القوم، فتواعد عند خطم الجحون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك وأجمعوا أمرهم، وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، فقال زهير: أنا أبدؤ فأكون أولكم.
فلما أصبحوا غدوا على أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية في حلة له فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم بنوا المطلب هلكى لا يباعون ولا يباع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة، فقال أبو جهل. كذبت والله - وهو في ناحية المسجد - لا تشق هذه الصحيفه، فقال زمعة ابن الأسود: بل أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة بن الأسود، لا نرضى بما كتب فيها ولا نعرفه، فقال المطعم بن عدي صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله عز وجل منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو مثل ما قالوا في نقضها وردها، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل تشور فيه - يعني بغير هذا المكان - وأبو طالب جالس في ناحية المسجد يرى ما يصنع القوم، ثم إن المطعم بن عدي قام إلى الصحيفة فشقها فوجد الأرضة قد أكلها إلا بسمك اللهم وكان الذي كتب الصحيفة منصور بن عكرمة ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار فشلت يده فيما يزعمون، والله أعلم.
فلما مزقت وبطل ما فيها قال أبو طالب في ذلك مما كان في أمر أولئك النفر في نقضها يمدحهم:
ألا هل أتى الأعداء رأفة ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تداعى لها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
تداعى لها من ليس فيها بقربة ... فطائرها في وسطها يتردد
ألم تك حقاً وقعة صيلمية ... ليقطع فيها ساعد ومقلد
ويظعن أهل ماكثون فيهربوا ... فرائصهم من خشية الموت ترعد

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وقد كان عمارة بن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن العاص بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشي قريش بعمارة إلى أبي طالب قد خرجا تاجرين إلى أرض الحبشة، وكانت لقريش ملجأ ووجهاً، وهما على شركهما، وكلاهما كان شاعراً غازياً فاتكا، وكان عمارة رجلاً جميلاً وسيماً، يفتن النساء، صاحب محادثة، فركب البحر، ومع عمرو بن العاص إمرأته حتى إذا سارا في البحر ليالياً أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة بن الوليد قال لامرأة عمرو قبليني، فقال عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته، فألقاها عمارة بن الوليد فجعل يريدها عن نفسها، فامتنعت منه ثم إن عمراً قعد على منجاف السفينة يبول فدفعه عمارة في البحر، فلما وقع فيه سبح حتى أخذ بمنجاف السفينة، فقال له عمارة: أما والله لو عرفت يا عمرو أنك تسبح ما طرحتك، ولكن كنت أظنك لا تحسن السباحة، فلما قال ذلك عمارة لعمرو ضغن عليه عمرو في نفسه، وعرف أنه قد أراد قتله ومضيا في وجههما حتى قدما أرض الحبشة كتب عمرو إلى أبيه العاصي بن وائل أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وجميع بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته، فلما قدم الكتاب على العاصي مشى إلى رجال من بني مخزوم، ورجال من بني المغيرة فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث قد علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، غير مأمونين على أنفسهما: ولا أدري ما يكون، إني أتبرأ إليكم من عمرو وجريرته فقد خلعته، فقالت له عند ذلك بنو المغيرة ورجال من بني مخزوم: وأنت تخاف عمراً على عمارة ونحن قد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته، فخل بين الرجلين، فقال: قد فعلت، فخلعوهما وتبرأ كل واحد من صاحبهم، ومما جر عليهم.
فلما اطمأنا لم يلبث عمارة أن دب لإمرأة النجاشي، وكان رجلاً جميلاً وسيماً، فأدخلته فاختلف إليها، وجعل إذا رجع من مدخله ذلك يحدث عمراً بما كان من أمره، فجعل عمرو يقول: ما أصدقك إنك قدرت على هذا، شأن المرأة رفع من هذا! فلما أكثر عليه عمارة، وكان عمرو قد صدقه وعرف أنه قد دخل عليها، ورأى من هيئته وما يصنع به والذهاب إذا أمسى وبيتوتته عنه حتى يأتي من السحر ما عرف به في ذلك، وكانا في منزل واحد، ولكنه كان يريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفع شأنه إلى النجاشي، فقال له في بعض ما يذكر له من أمرها: إن كنت صادقاً أنك بلغت منها ما تقول، فقل لها فلتدهنك من دهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره، فإني أعرفه، وائتني منه بشيء حتى أصدقك بما تقول، قال: أفعل، قال: فجاءه في بعض ما يدخل عليها، فدهنته وأعطته منه شيئاً في قارورة، فلما شمه عمرو عرفه، وقال له عند ذلك أشهد أنك قد صدقت، ولقد أصبت شيئاً ما أصاب أحد من العرب مثله، امرأة الملك، ما سمعنا مثل هذا، وكانوا أهل جاهلية، وكان ذلك في أنفسهم فصلاً لمن أصابه وقدر عليه، ثم إنه سكت عنه حتى إذا اطمأن دخل عمرو على النجاشي فقال: أيها الملك معي سفيه من سفهاء قريش، وقد خشيت أن يعزى عندك أمره، وقد أردت أن أرفع إليك شأنه ولم أعلمك ذلك حتى استثبت أنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر، وهذا دهنك قد أعطته وادهن به، فلما شم النجاشي الدهن، قال: صدقت هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي، ثم دعي بعمارة بن الوليد، ودعا بالسواحر فجردنه من ثيابه ثم أمرهن فنفخن في احليله، ثم خلى سبيله فخرج هارباً في الوحش، فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخرج إليه رجال من بني المغيرة منهم عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، وكان اسم عبد الله قبل أن يسلم بجير، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، فرصده بأرض الحبشة بماء كان يرده مع الوحش، فذكروا أنه أقبل في حمر من حمر الوحش يرد معها، فلما وجد ريح الأنس هرب حتى أجهد العطش، فورد فشرب حتى إذا امتلأ خرجوا في طلبه، قال عبد الله بن أبي ربيعة: فسبقت إليه فالتزمته، فجعل يقول: أي بجير أرسلني فإني أموت إن أمسكتني، قال عبد الله: فضبطته فمات في يدي مكانه، فواريته ثم انصرفنا، وكان شعره فيما يزعمون قد غطى كل شيء منه، فقال عمرو، وهو يذكر ما صنع به وما أراد من امرأته:
تعلم عمار أن من شر شيمة ... لمثلك أن يدعا ابن عم لكائن ما

أإن كنت ذا بردين أحوى مرحلا ... فلست ترأى لابن عمك محرما
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منها يسيراً فأصبحت ... إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما
أصبت من الأمر الدقيق جليله ... وعيشاً إذا لاقيت من قد تلوها
ألا فارفع عن مطامع خشية ... وعالج أمر المجد لا يتندما
فليس الفتى ولو نمت عروقه ... بذي كرم إلا بأن يتكرما

اسلام حمزة بن عبد المطلب
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فحدثني رجل من أسلم، وكان واعية أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي لقريش عند الكعبة، فجلس معهم، ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه، راجعاً من قنص له، وكان إذا فعل ذلك لا يمر على نادي من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة، وكان يومئذ مشركاً على دين قومه، فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى بيته، فقالت له:، أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم آنقاً قبيل، وجده ها هنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد، فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله عز وجل به من كرامته، فخرج سريعاً لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالبيت، معدا لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر اليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه حتى قام من رأسه، رفع القوس وضربه بها ضربه شجه بها شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقالوا: ما تراك يا حمزة إلا قد صبأت؟! فقال حمزة: وما يمنعني منه وقد استبان لي منه ذلك، وأنا أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق، فو الله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحا ًءوتم حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن حمزه سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، فقال في ذلك شعراً ضرب أبا جهل وأسلم:
ذق يا أبا جهل بما عسيت ... من أمرك الظالم إذ مشيت
ستسعط الرغم بما أتيت ... تؤذي رسول الله إذ نهيت
عن أمرك الظالم إذ عتيت ... لو كنت ترجو الله ما شقيت
ولا تركت الحق إذ دعيت ... ولا هويت بعدما هويت
تؤذي رسول الله قد غويت ... ما كنت حباً بعدما غدرت
فحتى تذوق الخزي قد لقيت ... فقد شفيت النفس وأشفيت
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ، وتركت دين آبائك، للموت كان خير لك مما صنعت فأقبل على حمزة بثه فقال: ما صنعت اللهم، إن كان رشداً فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجاً، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان وتزيينه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلى على ما لا أدري ما هو أرشداً هو أم غي شديدة؟ فحدثني حديثاً فقد اشتهيت يا بن أخي أن تحدثني، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره، قال: فألقى الله عز وجل في نفسه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أشهد أنك صادق، شهادة الصدق العارف، فأظهر يا بن أخي دينك، فو الله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الاول فكان حمزة ممن أعز الله به الدين.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وقال حمزة بن عبد المطلب:
حمدت الله حين هدى فؤادي ... إلى الاسلام والدين الحنيف
لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعبادة بهم لطيف

إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذي اللب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبينات الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم ... ولما نقضي فيهم بالسيوف
ونترك منهم قتلى بقاع ... عليها الطير كالمورد العكوف
وقد خبرت ما صنعت ثقيف ... به فجزى القبائل من ثقيف
إله الناس شر جزاء قوم ... ولا أسقاهم صوب الخريف
ما جاء في هجرة اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ارض الحبشة نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: ومنع الله بأبي طالب رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وما يصيبهم من البلاء والشدة، وأن الله تعالى قد أعفاه من ذلك، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم من قومهم، وأنه ليس في قومهم من يمنعهم كما منعه عمه أبو طالب، أمرهم بالهجرة إلى أرض الحبشة، وقال لهم: إن بها ملكاً لا يظلم الناس ببلاده في أرض صدق فتحرزوا عنده يأتيكم الله عز وجل بفرح منه، ويجعل لي ولكم مخرجاً، فهاجر رجال من أصحابه إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفروا إلى الله عز وجل بدينهم، واستخفى آخرون بإسلامهم.
نا يونس عن عيسى بن عبد الله التميمي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله عز وجل: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم " الآية، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه يدعون الله عز وجل سراً وعلانية، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة، وكانوا بها خائفين يمسون ويصبحون في السلاح، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تعبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليس فيه حديد، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات " إلى آخر الآية، لقول الرجل ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: " فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " قال: ومن كفر بهذه النعمة، ليس يقول: من كفر بالله، وكانوا كذلك حتى قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا كذلك في إمرة أبي بكر، وعمر، وعثمان ثم غيروا فغير ما بهم، كفروا بهذه النعمة فأدخل الله عز وجل عليهم الخوف الذي كان قد وضعه عنهم.
نا يونس عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث فرق: فرقة بالمدينة، وفرقتين بمكة، فرقة كانوا يؤذون بمكة عشر سنين فيعفون عن المشركين، وفرقة كانوا إذا أوذوا انتصروا منهم، فأنزل الله عز وجل عليهم جميعاً، فقال: " الذين يجتنبون كبائر الاثم " وهو الشرك والفواحش وهو الزنا وإذا ما غضبوا هم يغفرون هؤلاء الذين كانوا لا ينتصرون من المشركين " والذين استجابوا لربهم وأقاموا لصلاة وأمرهم شورى بينهم " الذين كانوا بالمدينة لم يكن عليهم أمير، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم بالمدينة، يتشاورون في أمرهم " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " هؤلاء الذين انتصروا " وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله " الذين عفوا، ولمن انتصر بعد ظلمه، إلى قوله: " في الأرض بغير الحق " المشركين الذين كانوا يظلمون الناس المسلمين " لهم عذاب أليم " .
تسمية من هاجر إلى أرض الحبشة من مكة نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة، قبل هجرة جعفر وأصحابه من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: عثمان بن عفان معه إمرأته رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن عبد شمس معه لمرأته سهلة ابنة سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، ولدت هناك محمد بن أبي حذيفة.
ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر، حليف لهم من قيس عيلان.
ومن بني اسد بن عبد العزي بن قصي: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.
ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

ومن بني عبد بن قصي: طليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد ابن قصي.
ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، وعبد الله بن مسعود، حليف لهم، والمقداد، حليف لهم.
ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سلمة بن عبد الأسد معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وسلمة بن هشام بن المغيرة، حبس بمكة فلم يقدم إلا بعد بدر، وأحد، والخندق، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة هاجر معه إلى المدينة ولحق به أخوه لأمه: أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام فرجعا به إلى مكة فحبساه بها حتى مضى بدر وأحد والخندق.
ومن حلفائهم: عمار بن ياسر يشك فيه أكان خرج إلى الحبشة أم لا، ومعتب بن عوف بن عامر بن خزاعه من بني عدي بن كعب بن لؤي بن عامر بن ربيعة، حليفاً لهم، مع امرأته ليلى ابنة أبي حثمة بن غانم.
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وابنه السائب، وقدامة بن مظعون.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وهشام بن العاصي بن وائل.
ومن بني عامر بن لؤي: حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وهو أول من هاجر، فيما يقال، وسليط بن عمرو بن عبد شمس، معه امرأته أم يقظة بنت علقمة، ولدت له، ثم سليط بن سليط، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، معه امرأته سودة بنت زمعة بن قيس، مات بمكة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأته سودة ابنة زمعة.
ومن حلفائهم: سعيد بن خولة.
ومن بني الحارث بن فهر بن مالك: أبو عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبي شريح بن ربيعة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فأقاموا حتى بلغهم أن أهل مكة قد أسلموا وسجدوا، وذلك أن سورة النجم أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت لها كل مسلم ومشرك، حتى انتهى إلى قوله: " أفرأيتم اللات والعزى " فأصاخوا له والمؤمنون يتصدقون وارتد ناس حين سمعوا سجع الشيطان، فقال: والله لنعبدهن ليقربونا إلى الله زلفا، وعلم الشيطان بتيك الآيتين كل مشرك وذلت بها ألسنتهم، وكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتاه جبريل عليه السلام، فشكا إليه هاتين الآيتين وما لقي من الناس فيهما، فتبرأ جبريل عليه السلام منهما وقال: لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وخاف، فأنزل الله عز وجل تعزية له: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " إلى قوله " عليم حكيم " .
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فلما بلغ من بالحبشة من المسلمين سجود أهل مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلوا، أو من شاء الله عز وجل منهم، وهم يرون أنهم قد تابعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دنوا من مكة بلغهم الأمر فثقل عليهم أن يرجعوا إلى أرض الحبشة، وتخوفوا أن يدخلوا مكة بغير جوار، فمكثوا على ذلك حتى دخل كل رجل منهم بجوار من بعض أهل مكة، وقدم عثمان بن مظعون بجوار من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بجوار من أبي طالب، وكان خاله، وأم أبي سلمة برة بنت عبد المطلب.

فأما عثمان بن مظعون فكان من خبره أن يونس بن بكير: نا عن محمد بن اسحق قال: فحدثني صالح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عمن حدثه قال: لما رأى عثمان ما يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الأذى، وهو يغدو ويروح بأمان الوليد بن المغيرة قال عثمان: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل بيتي يلقون من البلاء والأذى في الله عز وجل ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة وهو في المسجد، فقال: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، قد كنت في جوارك، وقد أحببت أن أخرج منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي به وبأصحابه أسوة، قال الوليد: فلعلك يا لبن أخي أوذيت، أو انتهكت؟ فقال: لا ولكني أرضي بجوار الله تعالى ولا أريد أن أستجير بغيره، قال : فانطلق إلى المسجد، فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية، فقال: انطلق قال: فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان بن مظعون قد جاء ليرد علي جواري، فقال عثمان: صدق، وقد وجدته وفياً كريم الجوار، وقد أحببت ألا أستجير بغير الله، وقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان بن مظعون ولبيد بن ربيعة ابن جعفر بن كلاب القيسي في مجلس قريش، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد وهو ينشدهم: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان: كذبت، فالتفت إليه القوم وقالوا للبيد: أعد علينا، فأعاد لبيد، وعادله عثمان بتصديقه مرة وتكذيبه مرة، وإنما يعني عثمان إذ قال: كذبت، يعني نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: والله يا معشر قريش ما كانت مجالسكم هكذا! فقام سفيه منهم إلى عثمان ولطم عينه فاخضرت، فقال له من حوله: والله يا عثمان لقد كنت في ذمة منيعة، وكانت عينك غنية عما لقيت! فقال عثمان: جوار الله آمن وأعز، وعيني الصحيحة فقيرة إلى ما لقيت أختها ولي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وبمن معه أسوة، فقال الوليد: هل لك في جواري؟ قال عثمان: لا إرب لي في جوار أحد إلا جوار الله، ثم قال عثمان في ذلك:
لا إرب لي يا ابن المغيرة في الذي ... تقول ولكني بأحمد واثق
رسول عظيم الشان يتلو كتابه ... له كل من يبغي التلاوة وامق
محب عليه كل يوم طلاوة وإن ... قال قولاً فالذي قال صادق
فيا رب إني مؤمن لمحمد وجبريل ... إذ جبريل بالوحي طارق
وما نزل الرحمن من كل آية لها ... كل قلب حين يذكر خافق
من الخوف مما ينذر الله خلقه ... إذا صد عن آيات ذي العرش وامق
ترى الناس ضلالاً وقد ضل سعيه ... وبالخير مغبون وبالشر سابق

اسلام عمر بن الخطاب
نا أحمد: نا يونس عن محمد بن اسحق قال كان اسلام عمر بن الخطاب بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عبد العزيز بن عبد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه ليلى قالت: كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في اسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشه، جاءني عمر بن الخطاب وأنا على بعيري نريد ان نتوجه، فقال: اين يا أم عبد الله؟ فقلت له: آذيتمونا في ديننا فنذهب إلى أرض الله عز وجل حيث لا نؤذى في عبادة الله، فقال: صحبكم الله، فذهب، ثم جاءني زوجي عامر ابن ربيعة، فأخبرته بما رأيت من رقة عمر فقال: أترجين يسلم؟ فقلت: نعم، فقال: والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم إن قريشاً بعثت عمر بن الخطاب - وهو يومئذ مشرك - في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار في أصل الصفا، ولقيه النحام وهو نعيم بن عبد بن اسد، اخو بني عدي بن كعب، قد اسلم قبل ذلك، وعمر متقلد سيفه، فقال: يا عمر اين تراك تعمد؟ فقال: اعمد إلى محمد هذا الذي سفه احلام قريش، وسفه آلهتها، وخالف جماعتها، فقال له النحام: والله لبئست الممشى مشيت يا عمر، ولقد فرطت، واردت هلكة بني عدي بن كعب، او تراك تنفلت من بني هاشم، وبني زهرة وقد قتلت محمداً صلى الله عليه وسلم؟! فتحاورا حتى ارتفعت أصواتهما، فقال له عمر: إني لأظنك قد صبأت، ولو اعلم ذلك لبدأت بك، فلما رأى النحام انه غير منته قال: فإني اخبرك، إن اهلك واهل ختنك قد أسلموا وتركوك وما انت عليه من ضلالتك، فلما سمع عمر تلك المقالة يقولها قال: فأيهم؟ قال: خنتك وابن عمك واختك، فانطلق عمر حتى اتى اخته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتته الطائفة من اصحابه من ذوي الحاجة نظر إلى اولى السعة فيقول: عندك فلان فليكن إليك، فوافق ذلك ابن عم عمر وختنه زوج اخته سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت، مولى ثابت بن ام انمار حليف بني زهرة، وقد انزل الله عز وجل " طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ليلة الخميس فقال: اللهم اعز الاسلام بعمر بن الخطاب او بأبي الحكم بن هشام، فقال ابن عم عمرو واخته: نرجو ان تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر، فكانت.

فأقبل عمر حتى انتهى إلى باب اخته ليغير عليها ما بلغه من اسلامهما، فإذا خباب بن الآرت عند اخت عمر يدرس عليها طه، ويدرس عليها إذا الشمس كورت، وكان المشركون يدعون الدراسة الهينمة، فدخل عمر فلما ابصرته اخته عرفت الشر في وجهه فخبأت الصحيفة، وراغ خباب فدخل البيت، فقال عمر لأخته: ما هذه الهينمة في بيتك؟ قالت: ما عدا حديثاً نتحدث به بيننا، فعذلها وحلف الا يخرج حتى تبين شأنها، فقال له زوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: إنك لا تستطيع ان تجمع الناس على هواك يا عمر وإن كان الحق سواه، فبطش به عمر فوطئه وطئاً شديداً وهو غضبان، فقامت إليه اخته تحجره عن زوجها فنفحها عمر بيده فشجها، فلما رأت الدم قالت: هل تسمع يا عمر، أرأيت كل شيء بلغك عني مما يذكر من تركي آلهتك وكفري باللات والعزى فهو حق، اشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمداً عبده ورسوله، فائتمر امرك، واقض ما انت قاض، فلما رأى ذلك عمر سقط في يديه، فقال عمر لأخته: أرأيت ما كنت تدرسين اعطيك موثقاً من الله لا امحوها حتى اردها إليك، ولا اريبك فيها، فلما رأت ذلك اخته، ورأت حرصه على الكتاب رجت ان تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فقالت: إنك نجس ولا يمسه إلا المطهرون، ولست آمنك على ذلك، فاغتسل غسلك من الجنابة، واعطني موثقاً تطمئن إليه نفسي ففعل عمر، فدفعت إليه الصحيفة، وكان عمر يقرأ الكتاب، فقرأ طه حتى إذا بلغ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى إلى قوله فتردى وقرأ إذا الشمس كورت حتى بلغ علمت نفس ما أحضرت فأسلم عند ذلك عمر، فقال لأخته، وختنه: كيف الاسلام؟ قالا: تشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وتخلع الآنداد، وتكفر باللات والعزى، ففعل ذلك عمر، وخرج خباب، وكان في البيت داخلاً، فكبر خباب وقال: أبشر يا عمر بكرامة الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا لك أن يعز الله الاسلام بك، قال عمر: فدلوني على المنزل الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له خباب بن الأرت: أنا أخبرك، فأخبره أنه في الدار التي في أصل الصفا، فأقبل عمر، وهو حريص على أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر يطلبه ليقتله ولم يبلغه اسلامه، فلما انتهى عمر إلى الدار استفتح، فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر متقلدا بالسيف، أشفقوا منه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجل القوم قال: افتحوا له فإن كان الله عز وجل يريد بعمر خيراً اتبع الاسلام وصدق الرسول، وإن كان يريد غير ذلك لم يكن قتله علينا هينا، فابتدره رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع صوت عمر، وليس عليه رداء، حتى أخذ بمجمع قميص عمر، ورداءه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك منتهياً يا عمر حتى ينزل الله بك من الرجز ما أنزل بالوليد بن المغيرة، ثم قال: اللهم اهد عمر، فضحك عمر، فقال: يا نبي الله أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فكبر أهل الإسلام تكبيرة واحدة سمعها من وراء الدار والمسلمون يومئذ بضعة وأربعون رجلاً واحدى عشرة امرأة.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق: قال : قال عمر حين أسلم:
الحمد لله ذي المن الذي وجبت ... له علينا أيادي ما لها غير
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا ... صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدى ... ربي عشية قالوا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل ... بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة ... والدمع من عينها عجلان يبتدر
أيقنت أن الذي تدعوه خالفها ... فكاد يسبقني من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خالقنا ... وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة ... وافى الأمانة ما في عوده خور

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحاق قال: قال عمر عند ذلك: والله لنحن بالاسلام أحق أن ننادي منا بالكفر، فليظهرن لمكة دين الله، فإن أراد قومنا بغياً علينا ناجزناهم، وإن قومنا أنصفونا قبلنا منهم، فخرج عمر وأصحابه، فجلسوا في المسجد، فلما رأت قريش إسلام عمر سقط في أيديهم.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني نافع عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر بن الخطاب قال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج عمر، وخرجت وراء أبي وأنا اليم أعقل كلما رأيت، حتى أتاه، فقال: يا جميل هل علمت أني أسلمت؟ فو الله ما راجعه الكلام حتى قام يجر رداءه، وخرج عمر معه، وأنا مع أبي، حتى إذا قام على باب المسجد الكعبة صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش إن عمر قد صبا، فقال عمر: كذبت ولكني أسلمت، فبادروه فقاتلهم وقاتلوه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وبلح، فجلس وعرشوا على رأسه قياماً وهو يقول: اصنعوا ما بدا لكم فأقسم بالله لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم، فبينا هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبره وقميص قومسي، فقال: مه؟ فقالوا: خيراً، عمر بن الخطاب صبا، فقال فمه؟؟؟؟؟! رجل اختار لنفسه ديناً أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟! عن الرجل فو الله لكأنما كان ثوب كشف عنه، فلما قدمنا المدينة قلت: يا أبه من الرجل صاحب الحلة الذي صرف القوم عنك؟ قال: ذاك العاص بن وائل السهمي.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني المنكدر أن أعرابياً من بني الدئل قال حيث بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهوره واختلاف الناس بها قال: فما فعل الأصلع الطوال الأعسر، مع أي الحزبين هو، فو الله ليملأنها غداً خيراً أو شراً، يعني عمر بن الخطاب.
نا يونس عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أيد الاسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فأصبح عمر فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم خرج فصلى في المسجد ظاهراً.
نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله عن القاسم عن عبد الله بن مسعود أنه قال: كان اسلام عمر بن الخطاب فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة، وما استطعنا أن نصلي ظاهرين عند الكعبة حتى أسلم عمر رحمه الله.

ما جاء في أول من جهر بالقرآن بمكة
نا يونس عن محمد بن اسحق قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن آذوه، فقال: دعوني فإن الله عز وجل سيمنعني، فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في انديتها حتى قام عند المقام فقال رافعاً صوته: بسم الله الرحمن الرحيم " الرحمن علم القرآن " فاستقبلها فقرأها، فتأملوا فجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد، ثم قالوا: إنه يتلو بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله عن المطعم قال: كان أول من أفشى القرآن بمكة وعذب في رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
آخر الجزء الثالث يتلوه إن شاء الله من عذب في الله بمكة من المؤمنين وحسبنا الله وصلى الله على سيدنا النبي محمد وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم توكلت على الله
من عذب في الله بمكة من المؤمنين

أنا الشيخ أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور البزاز قراءة عليه وأنا أسمع قال : أنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص قال: قرئ على أبي الحسين رضوان بن أحمد وأنا أسمع قال: نا أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال: نا يونس بن بكير عن ابن اسحق قال: نا الزهري قال: حدثت أنا أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن الشريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع فيه، وكلا لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يسمعون له حتى إذا أصبحوا أو طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودون لو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصا ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: حدثني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وأشياء ما أعرف معناها ولا ما يراد بها، فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت له، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى تدرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه؛ فقام عنه الأخنس بن شريق.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: ثم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يعذبونهم.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر ببلال وهو يعذب على الاسلام، وهو يقول أحد، أحد، فيقول ورقة: أحد، أحد والله يا بلال لن تفنى، ثم يقبل على من يفعل ذلك به من بني جمح وعلى أمية فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فبلغني أن عمار بن ياسر قال: وهو يذكر بلال بن رباح، وأمه حمامه وأصحابه، وما كانوا فيه منالبلاء، وعتاقة أبي بكر رضي الله عنه إياهم، فقال:
جزى الله خيراً عن بلال وصحبه ... عتيقاً وأخزى فاكهاً وأبا جهل
عشية هموا في بلال بسوءة ... ولم يحذروا ما يحذر المرء ذو العقل
بتوحيده رب الأنام وقوله: ... شهدت بأن الله ربي على مهل
فإن تقتلوني تقتلوني ولم أكن ... لأشرك بالرحمن من خيفة للقتل
فيا رب إبراهيم والعبد يونس ... وموسى وعيسى نجني ثم لا تملي
لمن ظل يهوى الغي من آل غالب ... على غير بركان منه ولا عدل
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله عز وجل سبعة، أعتق: بلالاً، وعامر بن فهيرة، والزنيرة، وجارية بني عمرو بن مؤمل، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وذكر أنه مر بالنهدية ومولاتها تعذبها، تقول والله لا أعتقك حتى تعتقك حياتك، فقال أبو بكر: أجل يا أم فلان، قالت: فاعتقها إذاً فإنها على دينك، قال أبو بكر فبكائن؟ قالت: بكذا وكذا، فقال: قد أخذتها وأعتقتها، ردي عليها طحينها، قالت: دعني أطحنه لها.
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ذهب بصر الزبيرة، وكانت ممن تعذب في الله عز وجل على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذا؟! والله ما هو كذلك، فرد الله علها بصرها.

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني أبو عبد الله عن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: لما جعل أبو بكر يعتق أولئك الضعفاء بمكة قال له قحافة: أي بني لو أنك إذا أعتقت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون معك، فقال له: يا أبه إنما أريد ما أريد لله عز وجل قال: فيحدث أن هذه الآيات نزلن في أبي بكر: فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى إلى آخر السورة.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: فحدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة بن عبد الله بن مخزوم على الاسلام وهي تأبى غيره حتى قتلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وبأمه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة، فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنة.
نا أحمد: : نا يونس عن ابن إسحق قال: وكان ياسر عبداً لبني بكر من بني الأشجع بن ليث فاشتروه منهم، فزوجوه سمية أم عمار، فولدت عمار، وكانت سمية أمة لهم، فأعتقوا سمية، وعماراً، وياسراً.
نا يونس عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمار بن ياسر وهو يبكي بذلك عينيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك، أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا، وكذا، فإن عادوا لك فقل كما قلت.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: يا أبا عباس أكان المشركون يبلغون من المسلمين في العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ فقال : نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به حتى أنه ليعطيهم ما سألوه من الفتنة وحتى يقولوا: أاللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، وحتى أن الجعل ليمر بهم فيقولون أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، إفتداء منهم لما يبلغون من جهده.
نا يونس عن العيزار بن حريث قال: مر خالد بن الوليد على اللات والعزى فقال:
كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ثم مضى.
نا يونس عن حبيب بن حسان الأسدي عن مسلم بن صبيح قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كثرنا، فلو أمرت كل عشرة منا فأتوا رجلاً من صناديد قريش ليلاً وأخذوه فقتلوه، فتصبح البلاد لنا؟ فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حتى رؤي في وجهه، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله أبناءنا، آباءنا، إخواننا، فما زال عثمان يردد ذلك حتى سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم الأول ورؤي في وجهه، حتى رفض ذلك، وأخذنا المشركون حين أمسينا فما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا قد أعطى الفتنة غير بلال فإنه قال: الأحد الأحد.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا قوماً يصيبنا صلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترافنا لذلك، وصبرنا له، وكان مصعب بن عمير أنعم إلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثم لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديدا حتى لقد رأيت جلده يتحشف تحشف جلد الحية عنها حتى أن كنا لنعرضه على قسينا فنحمله مما به من الجهد، وما يقصر عن شيء بلغناه، ثم أكرمه الله عز وجل بالشهادة يوم أحد.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثني من سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، قال: فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة وما لهو هو فيه اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف بك إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة ورفعت أخرى، وسترقم جدر بيوتكم كما تستر الكعبة، فقالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم خير منكم يومئذ.

نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجت من الليل أبول فإذا أنا أسمع قعقعة شيء تحت بولي فنظرت فإذا قطعه جلد بعير فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فرضضتها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها من الماء، فقويت عليها ثلاثاً.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثني من سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: خرجت في يوم شاتي من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد أخذت إهاباً معطوفاً فخويت وسطه فأدخلته في عنقي، وشددت وسطي وحزمته بخوص النخل، وإني لشديد الجوع فلو كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام لطعمت منه، فخرجب ألتمس شيئاً، فمررت بيهودي في مال له وهو يستقي ببكرة له، فاطلعت عليه من ثلمة في الحائط فقال: مالك يا عربي، هل لك في كل دلو بتمرة؟ فقلت: نعم، فافتح حتى أدخل، ففتح فدخلت فأعطاني دلوه فلما نزعت دلواً أعطاني تمرة، حتى إذا انتلت كفي أرسلت الدلو وقلت: حسبي، فأكلتها، ثم نزعت في الماء فشربت، ثم جئت المسجد فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أدماً حشوه ليف.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق عن الزهري عن عبيد الله بن أبي ثور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على خصفة وإن بعضه لفي التراب، متوسداً وسادة أدم محشوة ليفاً، فوق رأسه إهاب معطون معلق في سقف العلية، وفي زاوية شيء من قرط.
نا يونس عن أبي معشر المدني عن سعيد المقبري قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير يفرشه بالنهار حتى إذا كان الليل احتجره في المسجد فصلى فيه.
نا يونس عن المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حصير فقام وقد أثر بجلده، فلا استيقظ جعلت أمسح عنه وأقول: ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئاً يقيك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنا والدنيا، ما أنا والدنيا، إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي قال: قدم رجل من إراش بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، وأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد فقال: يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي، وأنا غريب ابن سبيل؟ فقال أهل المجلس: ترى ذلك الرجل - وهم يهزؤون به، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة - إذهب إليه فهو يؤديك عليه، فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله، وأنا غريب إبن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، يأخذ لي حقي منه فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، رحمك الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنطلق إليه، وقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: إتبعه فانظر ماذا يصنع، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه، فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ فقال: محمد فاخرج إلي، فخرج إليه وما في وجهه رائحة، قد امتقع لونه، فقال له: أعط هذا الرجل حقه، فقال: نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للإراشي: الحق بشأنك

فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيراً فقد أخذ الذي لي، وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا له: ويحك ماذا رأيت؟ فقال: عجباً من العجب، والله إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه فقال: أعط هذا الرجل حقه، قال: نعم لا يبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه إياه؛ ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك مالك فو الله ما رأينا مثل ما صنعت؟؟ قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب على بابي وسمعت صوته فملئت رعباً ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي لفحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيايه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني.
؟؟؟

حديث النبي حيث خاصمه المشركون
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني شيخ من أهل مكة قديم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة إبني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أخا بني عبد الدار، وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاصي ابن وائل، ونبيه ومنبه ابني الحجاج السهميين اجتمعوا، أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، ولقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رئى تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رئى، فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال لهم رسول صلى الله عليه وسلم: ما أدري ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلاداً ولا أقل ماء، ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجري فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً، نسلهم عما تقول أحق هو أم باطل، فإن صنعت لنا ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولاً كما تقول، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بعثت إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
فقالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، وحتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسل ربه هذا ولا بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وببينكم.

قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك إليه إن شاء فعل ذلك بكم؛ قالوا: يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى تهلك أو تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهن بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً، فلما قالوا له ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، ابن عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل، ثم أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب، فو الله لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك منشور ومعك أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول، وإيم الله أن أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً آسفاً لما فاته مما كان فيه يطمع من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلس له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك وامنعوني فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدوا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام وكان إذا صلى صلى بين الركنين الأسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع متهيباً منتفعاً قد تغير لونه مرعوباً قد يبست يده على حجره حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، ولما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بأن يأكلني.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل لو دنا لأخذه.
نا يونس قال: ثم رجع الحديث إلى الأول قال: فلما قال له ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فقال: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما اشلتم له نبله بعد، لقد كان محمد فيكم إلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم، ساحر، ولا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، ولا والله ما هو بكاهن، وقد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، ولا والله ما هو بشاعر ولقد روينا الشعر وأصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون، ولا والله ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش انظروا في شأنكم، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.

وكان النضر من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم وأسفندباذ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً يذكر فيه بالله ويحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفندباذ، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني رجل من أهل مكة عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: أنزل الله في النضر ثماني آيات، قول الله تعالى: إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن.
فلما قال النضر ذلك بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهما: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره، وأخبروهم ببعض قوله، وقالوا لهم: إنكم أهل التوراة فقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث يأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه، وسلوه عن الروح ما هو، فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم عما سألتم عنه غداً، ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله تعالى إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبريل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة وقد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشئ مما سألناه عنه، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، يقول الله تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال: الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب يعني محمداً إنك رسول مني، تحقيقاً لما سألوه عنه من نبوته ولم يجعل له عوجاً، قيماً أي معتدلاً لا اختلاف فيه لينذر بأساً شديداً من لدنه قال: عاجل عقوبة في الدنيا، وعذابه في الآخرة من عند ربك الذي بعثك رسولاً.

باب أحاديث الأحباروأهل الكتاب بصفة النبي
نا يونس عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يمشي في حرث ومعه عسيب يتوكأ عليه فمر على ناس من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا يسلوه، فقام إليه بعضهم فقال: أخبرنا يا محمد عن الروح ما هو؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكتاً لا يتكلم، فعرفت أنه يوحى إليه، وكنت وراءه فتأخرت، ثم تكلم رسول الله فقال: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي إلى قوله قليلاً فقالوا: أليس قد نهيناكم أن تسألوه؟!

نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني رجل بمكة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد أرأيت قولك وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه، فأنزل الله عز وجل فيما سألوه عنه من ذلك: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام إلى قوله: ما نفدت كلمات الله إني أرى التوراة في علم الله قليل.
نا يونس عن بسام مولى علي بن أبي الطفيل قال: قام علي بن أبي طالب على المنبر فقال: سلوني قبل ألا تسألوني ولن تسألوا بعدي مثلي؛ فقام ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين ما ذو القرنين، أنبي أو ملك؟ فقال: ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه وناصح الله بنصحه فضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه، ثم ضرب على قرنه الأيسر فمات وفيكم مثله.
نا يونس عن عمرو بن ثابت عن سماك بن حرب عن رجل من بني أسد قال: سأل رجل علياً: أرأيت ذا القرنين كيف استطاع أن يبلغ المشرق والمغرب؟ فقال: سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه، فحال الحسد منهم له بينهم وبين أتباعه وتصديقه، فعتوا على الله وتركوا أمره عياناً، ولجوا فيما هم عليه من الكفر فقال قائلهم: لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون، أي اجعلوه لعباً وباطلاً، واتخذوه هزواً، أي لعلكم تغلبون، تغلبوه بذلك، فإنكم إن وافقتموه وناصفتموه غلبكم، فلما ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يسمعوا له، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استتر واستمع دونهم، فرقاً منهم، فإن رأى أنهم عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم ولم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذين يستمعون أنهم لم يسمعوا من قراءته شيئاً وسمع هو دونهم أشاح له ليستمع منه.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني داود بن الحسين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي يسترق السمع دونهم فرقاً منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذا هم ولم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذي يستمع أنهم لم يسمعوا شيئاً من قراءته وسمع من دونهم أشاح له يستمع، فأنزل الله تعالى: ولا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ولا تخافت بها فلا يسمع من أراد أن يستمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فيقتنع به وابتغى بين ذلك سبيلاً.
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ولا تجهر بصلاتك ولاتخافت بها قالت: نزلت في الدعاء.
نا يونس عن عيسى بن عبد الله التميمي عن رجل عن مجاهد في قول الله تعالى: فاصدع بما تؤمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالقرآن بمكة.
نا يونس عن يونس بن عمرو الهمداني عن أبيه عن سعد بن عياض اليماني قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقل الناس منطقا، فلما أمر بالقتال شمر، فكان من أشد الناس بأساً.

نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني يزيد بن زياد مولى بني هاشم عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيداً حليماً قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطه أيها شاء ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم فكلمه، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفاً شرفناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، ولعل هذا الذي تأتي به شعر جاش به صدرك، فإنكم لعمري يا بني عبد المطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاستمع مني، قال: أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره معتمداً عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي، إني والله قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.
نا أحمد: نا يونس عن بن إسحق قال: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة حتى كثر في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من الناس، فقال أبو طالب يمدح عتبة بن ربيعة حين رد على أبي جهل، فقال: ما تنكر أن يكون محمد نبياً؟!
عجبت لحلم يا ابن شيبة ... وأحلام أقوام لديك سخاف
يقولون شايع من أراد محمد ... بسوء وقم في أمره بخلاف
فلا تركبن الدهر مني ظلامة ... وأنت امرؤ من خير عبد مناف
ولا تتركنه ما حييت لمطمع ... وكن رجلاً ذا نجدة وعفاف
تدور العدى عن دورة هاشمية ... ألا فهم في الناس خير آلاف
فإن له قرباً لديك قريبة ... وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكن من هاشم في صميمها ... إلى أبحر فوق البحور صواف
وزاحم جميع الناس فيه وكن له ... ظهيراً على الأعداء غير مجاف
فإن غضبت فيه قريش فقل لهم ... :بني عمنا ما قومكم بضعاف
فما بالكم تغشون منا ظلامة ... وما بال أحلام هناك خفاف
وما قومنا بالقوم يغشون ظلمنا ... وما نحن فيما ساءهم بخفاف
ولكنا أهل الحفاظ والنهى ... وعز ببطحاء الحطيم مواف

نا أحمد: نا يونس عن إبن إسحق قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش اتبعوني وأطيعوا أمري فإنه الهدى ودين الحق يعززكم ويمنعكم من الناس ويمددكم بأموال وبنين فقالت قريش: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا، فأنزل الله تعالى: أو لم نمكن لهم حرماً آمناً إلى قوله: أكثرهم لا يعلمون.
نا يونس عن يونس بن عمرو عن العيزار بن حريث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أني أدعو قريشاً لتملك بتلك براً وبحراً، وقد جعلوا طعامي كطعام الحجلة، يا معشر قريش أطيعوني يطأ الناس أعقابكم إلى يوم القيامة، قال أبو جهل: والله لئن بايعناك يا بن أخي لا تبايعك مضر ولا ربيعة، قال: بلى والله طوعاً وكرها، وفارس والروم.
نا يونس عن محمد بن أبي حميد المديني عن محمد بن المكندر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: إن قريشاً يتواعدونك ليقتلوك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا حتى وقف عندها فأتاه جبريل عليه السلام فقال له يا محمد إن الله قد أمر السماء أن تطيعك، والأرض أن تطيعك، وأمر الجبال أن تطيعك، فإن أحببت فمر السماء أن تنزل عليهم عذاباً منها، وإن أحببت فمر الأرض أن تخسف بهم، وإن أحببت فمر الجبال أن تنضم عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوخر عن أمتي لعل الله أن يتوب عليهم.
نا أحمد بن عبد الجبار قال: نا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي المنهال عن سعيد وعبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال: لما أتى موسى قومه فأمرهم بالزكاة جمعهم قارون فقال: هذا جاءكم بالصوم والصلاة وأشياء تحملونها، أفتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: ما نحتمل أن نعطيه أموالنا فما ترى؟ قال: أرى أن ترسلوا إليه بغي بني اسرائيل فتأمروها أن ترميه بأنه أرادها على نفسها، فرمت موسى على رؤوس الناس بأنه قد أرادها على نفسها، فدعا الله عليهم، فأمر الله الأرض ان تطيعه، فقال للأرض: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى حجزهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال: خذيهم، فأخذتهم فغيبتهم فيها، فأوحى الله إليه أن يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، لو إياي دعوا لأجبتهم.
نا يونس عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم لأبي جهل: يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله، إني أدعوك إلى الله، فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا، هل تريد إلا أن تشهد أن قد بلغت، فنحن نشهد أن قد بلغت، فو الله لو أني أعلم أن ما تقول حقاً ما تبعتك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم؛ قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم؛ قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم؛ قالوا: فينا السقاية: قلنا: نعم؛ ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي فلا والله لا أفعل.
نا يونس عن المبارك بن فضالة عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل أمة فرعون، فإن فرعون هذه الأمة أبو جهل.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني حكيم بن حكيم عن عباد بن حنيف عن عكرمة عن ابن عباس أنه تلا والشجرة الملعونة في القرآن قال: يقول المذمومة نزلت في أبي جهل بن هشام.

نا يونس عن يونس بن عمرو عن أبيه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: نا عبد الله بن مسعود قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فقال أبو جهل لأصحابه، وهم جلوس عنده: من يذهب فيأتينا بسلي الجزور عند بني فلان، فقام غاو منهم فجاء به فقيل له: إذا رأيت محمداً ساجداً فضعه بين كتفيه، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفية، فلم يتحلل حتى فرغ من سجوده، وبلغ فاطمة فجاءت وهي جارية فأخذته وجعلت تمسح عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبلت عليهم تشتمهم واستضحكوا حتى صرعوا فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته استقبل الكعبة ورفع يديه فدعا عليهم: اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة وعمارة بن الوليد، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، قال عبد الله بن مسعود: وأنا يومئذ إلام غير ذي منعة في القوم، فو الذي أنزل الكتاب على محمد لقد رأيتهم صرعى في الطوي طوي بدر.
نا أحمد نا يونس عن ابن اسحق قال: وقد قال عمر بن الخطاب فيما يزعمون بعد اسلامه يذكر ما رأت قريش من العبرة فيما كان أبو جهل هم به من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقائل يقول قالها أبو طالب، فالله أعلم بمن قالها:
أفيقوا بني غالب وانتهوا ... عن البغي في بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذاً خائف ... بوائق في داركم تلتقي
تكون لغابركم عبرة ... ورب المغارب والمشرق
كما ذاق من كان من قبلكم ... ثمود وعاد فمن ذا بقي
غداة أتاهم بها صرصراً ... وناقة ذي العرش إذ تستقي
فحل عليهم بها سخطة من الله ... في ضربة الازرق
غداة يعض بعرقوبها حسام ... من الهند ذو رونق
وأعجب من ذاك من أمركم ... عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من حينه ... إلى الصابر الصادق المتقي
فأيبسه الله في كفه ... على رغم ذا الخائن الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى ... بغي الغواة ولم يصدق
نا يونس عن المبارك بن فضالة عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس انظروني وقريشاً فإن غلبوني فسترون ذاكم، وإن غلبهم الله لي فانتظروا، فكف ناس وقالوا: صدق إن غلب قريشاً فما ذاك إلا من الله ليس من هذا فكفوا عن قتاله، وأبى آخرون فهلكوا.
نا يونس عن قيس بن الربيع عن حكيم بن الديلم عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس في قوله تعالى: وأنتم سامدون قال: كانوا يمرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ألم تر إلى البعير يكون في الابل فتراه يخطر بذنبه شائحاً.

حديث الهجرة الاولى إلى الحبشة
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمناً على ديننا، ولم نخش منه ظلماً.فلما رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاصي، وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيأوا له هدية على ذي حده، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا.
فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا له هديته وكلموه وقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، وكان أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم، فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، فبعنا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عيناً، فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عيناً، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك، فغضب ثم قال: لا لعمر الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أخل بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عيناً.
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاصي وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم، فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول، نقول والله ما نعرف، وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا كائن في ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم، ولا تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا قوماً على الشرك: نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئاً ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم، ولا نعبد غيره، فقال: هل معك شيء مما جاء به - وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله - ؟ فقال جعفر: نعم، قال: هلم فاتل علي ما جاء به، فقرأ عليه صدراً من كهيعص فبكا والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة الذي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عيناً، فخرجا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة، فقال له عمرو بن العاصي: والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم، لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد - عيسى بن مريم - عبد، فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحماً ولهم حقاً، فقال: والله لأفعلن

أقسام الكتاب
1 2