كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية
المؤلف : أبو شامة المقدسي

بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله رب العالمين
الحمد لله الذي بلطفه تصلح الأعمال، وبكرمه وجوده تدرك الآمال، وعلى وفق مشيئته تتصرف الأفعال، و بإرادته تتغير الأحوال، و إليه المصير والمرجع والمال، سبحانه هو الباقي بلا زوال، المنزه، عن الحلول والانتقال، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، ذو العرش والمعارج والطول والإكرام والجلال؛ نحمده على ما أسبغ من الإنعام والأفضال، ومن به من الإحسان والنوال، حمدا لا توازنه الجبال، ملء السموات والأرض وعلى كل حال. ونصلى على رسوله ونبيه وخيرته من خلقه وصفيه وخليله ووليه وحبيبه المفضال، سيدنا أبي القاسم محمد بن عبد الله ذى الشرف الباذخ، والعلم الزاسخ، والفضل الشامخ، والجمال والكمال؛ صلى الله عليه وعلى الملائكة المقربين، والأنبياًء والمرسلين، وعترتهم الطيبين، ما أفَلَ كوكب وطلع هلال، وعلى آل محمد وصحبه خبر صحب وأكرم آل، وعلى تابيهم بإحسان وجميع الأولياء والأبدال، وعفا عن المقصرين من أمته أولى الكسل والملال، وحشرنا في زمرته، متمسكين بشرعته، مقتدين بسنته، متعظين بما ضرب من الأمئال، مزدحمين تحت لوائه، في جملة أوليائه، يوم لا بيع فيه ولا خلال.

أما بعد، فإنه بعد أن صرفت جل عمرى ومعظم فكرى في اقتباس الفوائد الشرعية، واقتقاص الفرائد الأدبية، عن لى أن أصرف إلى علم التاريخ بعضه، فاحوز بذلك سنة للعلم وفرضه؛ اقتداء بسيرة من مضى، من كل عالم مرتضى. فقل إمام من الأئمة إلا ويحكى عنه من أخبار من سلف فوائد جمة. منهم إمامنا أبو عبد الله الشافعي، رضى الله عنه. قال مصعب الزبيري " ما رأيت أحدا أعلم بأيام الناس من الشافعي " ويروى عنه أنه أقام على تعلم أيام الناس والأدب عشرين سنة، وقال: " ما أردت بذلك إلا الاستعانة على الفقه " قلت: وذلك عظيم الفائدة، جليل العائدة. وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أخبار الأمم السالفة، وأنباء القرون الخالفة ما فيه عبر لذوى البصائر، واستعداد ليوم تبلى السرائر. قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنباء الرسُل ما نُثَبِّت به فُؤَادَك وَجَاءَكَ في هِذِه الحق ومِوْعِظِةٌ وَذِكْرَى للمُؤمِنِين). وقال سبحانه: (وَلَقَدْ جَاءَهم من الأنْبَاء مَاِ فيه مُزْدَجَرٌ. حكمَة بالغة فما تُغْنِى النُّذُرُ). وحدث النبي صل الله عليه وسلم بحديث أم زرع وغيره مما جرى في الجاهلية والأيام الإسرائيلية، وحكى عن عجائب ما رآه ليله أسرى به وعرج، وقال: " حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج. وفي صحيح مُسلم عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمُره.: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام. وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون و يتبسم " صلى الله عليه وسلم " . وفي سنن أبي داود مهن عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى نُصبح ما يقوم إلا إلى عُظم صلاة قلت: ولم يزل الصحابة والتابعون فمن بعدهم يتفاوضون في حديث من مضى، ويتذاكرون ما سبقهم من الأخبار وانقضى، ويستنشدون الأشعار، و يتطلبون الآثار والأخبار؛ وذلك بين من أفعالهم لمن اطلع على أحوالهم، وهم السادة القدوة، فلنا بهم أسوة. فاعتنيت بذلك وتصفحته، و بحثت عنه مدة وتطلبته؛ فوقفت والحمد لله على جملة كبيرة من أحوال المتقدمين والمتأخرين، من الأنبياًء والمرسلين، والصحابة والتابعين، والخلفاء والسلاطين، والفقهاء والمحدثين، والأولياء والصالحين، والشعراء والنحويين، وأصناف الخلق الباقين؛ ورأيت أن المطلع على أخبار المتقدمين، انه قد عاصرهم أجمعين، وأنه عند ما تفكر في أحوالهم أو تذكرهم كأنه مُشاهدهم ومحاضرهم؛ فهو قائم له مقام طول الحياة، و إن كان متعجل الوقاة. قال نعيم بن حماد: كان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له ألا تستوحش؟ قال:كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي رواية قال: قيل لان المبارك: يا أبا عبد الرحمن تكثر القعود في البيت وحدك! فقال أأنا وحدي؟! أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تعني النظر في الحديث. وفي رواية أخرى: وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. قلت وقد أنشدت لبعض الفضلاء:
كتاب أطالعه مؤنس ... أحب إلى من الانسه
وأدرسه فيريني القرون ... حضورا وأعظمُهُم دراسه
وقد اختار الله سبحانه النا أن نكون آخر الأمم، وأطلعنا على أنباء من تقدم، لنَّتعظ بما جرى على القرون الخالية، وتَعِيَها أذنٌ واعِيَة، فَهَل تَرَى لَهُمْ من بَاقِيَةٍ، ولنقتدى بمن تقدمنا من الأنبياء، والأئمة الصلحاء، ونرجو بتوفيق الله عز وجل أن نجتمع بمن يدخل الجنة منهم، ونذاكرهم بما نقل إلينا عنهم، وذلك على رغم أنف من عدم الأدب، ولم يكن له في هذا العلم أرب، بل أقام على غّيه وأكبَّ؛ والمرء من أحب.

هذا وإن الجاهل بعم التاريخ راكبُ عمياء، خابط خبط عشواء؛ ينسب إلى من تقدم أخبار من تاخر، ويعكس ذلك ولا يتدبر، وإن رُد عليه وهمه لايتأثر، وإن ذكر ما جهله لا يتذكر؛ لا يفرق بين صحابي وتابعي، وحنفي ومالكي وشافعي؛ ولا بين خليفة وأمير، وسلطان ووزير؛ ولا يعرف من سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم أكثر من أنه نبي مرسل، فكيف له بعرفة أصحابه وذلك الصدر الأول، الذين بذكرهم ترتاح للنفوس، ويذهب البُوس. ولقد رأيت مجلسا جمع ثلاثة عشر مدرسا، وفيهم قاضي القضاة لذلك الزمان، وغيره من الأعيان، فجرى بينهم وأنا اسمع ذكر من تحرم عليه الصدقة، وهم ذوو القربى المذكورون في القرآن؛ فقال جميعهم: بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وعدلوا بأجمعهم في ذلك عما يحب. فتعجبت من جهلهم حيث لم يفرقوا بين عبد المطلب والمطلب، ولم يهتدوا إلى أن المطلب هو عم عبد المطلب، وأن عبد المطلب هو ابن هاشم، فما أحقهم بلوم كل لائم، إذ هذا أصل من أصول الشريعة قد أهملوه، وباب من أبواب العلم جهلوه؛ ولزم من قولهم إخراج بني المطب من هذه الفضيله. فابتغيت إلى الله تعالى الوسيله، وأنفت لنفسي من ذلك المقام، فاخذنها بعلم أخبار الأنام، وتصحيح نسبنها، و إيضاح محجتها؛ فإن كثيراً ممن يحفظ شيئا من الوقائع يفوته معرفة نسبتها إلى أربابها، وإن نسبها خلط فيها وصرفها عن أصحابها. وهو باب واسع غزير الفوائد، صعب المصادر والموارد؛ زلت فيه قدم كثير من نقلة الأخبار ورواة الآثار.

ثم أردت أن أجمع من هذا العلم كتاباً يكون حاويا لما حصلته، وأتقن فيه ما خبرته، فعمدت إلى أكبر كتاب وضع في هذا الفن على طريقة المحدثين، وهو تاريخ مدينة دمشق حماها الله عز وجل الذي صنفه الحافظ الثقة أبو القاسم على بن الحسن العساكرى رحمه الله، وهو ثمانمائة جزء في ثمانين مجلدا، فاًختصرته، وهذبته، وزدته فوائد من كتب أخرى جليله وأتقنته، ووقف عليه العلماء، وسمعه الشيوخ والفضلاء ومر بي فيه من الملوك المتاخرين، ترجمة الملك العادل نور الدين؛ فاطر بني ما رأيت من آثاره، وسمعت من أخباره، مع تأخر زمانه، وتغير خلانه. ثم وقفت بعد ذلك في غير هذا الكتاب على سيرة سيد الملوك بعده، الملك الناصر صلاح الدين. فوجدتهما في المتاخرين، كالعُمَرين رضي الله عنهما في التقدمين؛ فإن كل ثان من الفريقين حذا حذو من تقدمه في العدل والجهاد، واجتهد في إعزاز دين الله أى الجهاد، وهما ملكا بلدتنا، وسلطانا خطتنا، خصنا الله تعالى بهما فوجب علينا القيام بذكر فضلهما. فعزمت على إفراد ذكر دولتيهما بتصنيف، يتضمن التقريظ لهما والتعريف. فلعله يقف عليه من الملوك، من يسلك في ولايته ذلك السلوك، فلا أبعد أنهما حجة من الله على الملوك المتأخرين، وذكرى منه سبحانه فإن الذكرى تنفع المؤمنين. فإنهم قد يستبعدون من أنفسهم طريقة الخلفاء الراشدين، ومن حذا حذوهم من الأئمة السابقين؛ و يقولون: نحن في الزمن الأخير، وما لأولئك من نظير. فكان فيما قدر الله سبحانه من سيرة هذين الملكين إلزام الحجة عليهم، بمن هو في عصرهم، من بعض ملوك دهرهم، فلن يعجز عن التشبه بهما أحد، إن وفق الله تعالى الكريم وسدد. واخذت ذلك من قول أبي صالح شعيب بن حرب المدائني رحمه الله وكان أحد السادة الأكابر في الحفظ والدين قال: إني لأحسب يحاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله تعالى على هذا الخلق، يقال لهم إن لم تدركوا نبيكم فقد أدركتم سفيان؛ ألا اقتديتم به ؟! وهكذا أقول هذان الملكان حجة على المتأخرين من الملوك والسلاطين. فَلِله درهما من ملكين تعاقبا على حسن السيرة، وجميل السريرة. وهما حنفي وشافعي، شفى الله بهما كل غى، وظهرت بهما من خالقهما العناية، فتقاربا حتى في العمر ومدة الولاية. وهذه نكتة قل من فطن لها ونبه عليها، ولطيفة هداني الله بتوفيقه إليها. وذلك أن نور الدين رحمه الله ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة وتوفى سنة تسع ويتين، وولد صلاح الدين رحمه الله سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وتوفى سنة تسع وثمانين. فكان نور الدين أسن من صلاح الدين بسنة واحدة وبعض أخرى، وكلاهما لم يستكمل ستين سنة. فانظر كيف اتفق أن بين وفاتيهما عشرين سنة، وبين مولدهما إحدى وعشرين سنة. وملك نور الدين دمشق سنة تسع وأربعين، وملكها صلاح الدين سنة سبعين؛ فبقيت دمشق في الملكة الفورية عشرين سنة، وفي المملكة الصلاحية تسع عشرة سنة، تمحى فيه السيئة وتكتب الحسنة؛ وهذا من عجيب ما اتفق في العمر ومدة الولاية ببلدة معينة لملكين متعاقبين؛ مع قرب الشبه بينهما في سيرتهما، والفضل للمتقدم؛ فكأن زيادة مدة نور الدين كالتنبيه على زيادة فضله، والإرشاد إلى عظم محله، فإنه أصل ذلك الخير كله، مهد الأمور بعدله وجهاده وهيبته في جميع بلاده، مع شدة الفتق، واتساع الخرق وفتح من البلاد ما استعين به على مداومة الجهاد فهان على من بعده على الحقيقة، سلوك تلك الطريقة، لكن صلاح الدين أكثر جهادا، وأهم بلادا، صبر وصابر، ورابط وثابر، وذخر له من الفتوح أنفسه، وهو فتح الأرض المقدسة فرضى الله عنهما فما أحقهما بقول الشاعر: " كم ترك الأول للآخر "
وألبس الله هاتيك العظام، وإن ... بلين تحت الثرى، عفوا وغفرانا
سق ثرى أودعوه رحمة ملأت ... مثوى قبورهم روحا وريحانا

وقد سبقني إلى تدوين مآثرهما جماعة من العلماء، والأكابر الفضلاء. فذكر الحافظ الثقة أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي في تاريخه ترجمة حسنة لنور الدين محمود بن زنكي رحمة الله، ولأجله تمم ذلك الكتاب وذكر اسمه في خطبته. وذكر الرئيس أبو يعلى حمزة ابن أسد التميمي في مذيل التاريخ الدمشقي قطعة صالحة من أوائل الدولة النورية إلى سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وصنف الشيخ الفاضل عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الجزري، عرف بابن الأثير، مجلدة في الأيام الأتابكية كلها وما جرى فيه، وفيه شىء من أخبار الدولة الصلاحية لتعلق إحدى الدولتين بالأخرى لكونها متفرعة عنها. وصنف القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تمتم الموصلي. عرف بابن شداد قاضي حلب مجلدة في الأيام الصلاحية وسياق ما تيسر فيها من الفتوح، واستفتح كتابه بشرح منلقب صلاح الدين رحمه الله تعالى. وصنف الإمام العالم عماد الدين الكاتب أبو حامد محمد بن محمد حامد الأصفهاني كتابين كلاهما مسجوع متقن بالألفاط الفصيحة والمعاني الصحيحة؛ أحدهما الفتح القدسي، اقتصر فيه على فتوح صلاح الدين وسيرته، فاستفتحه بسنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. والثاني البرق الشامي ذكر فيه الوقائع والحوادث من الغزوات والفتوحلت وغيرهما مما وقع من سنة وروده دمشق، وهي سنة اثنتين وستين وخمسمائة إلى سنة وفاة صلاح الدين وهي سنة تسع وثمانين فاشتمل على قطعة كبيرة من أخبار أواخر الدولة النورية. إلا أن العماد في كتابيه طويل النفس في السجع والصف، يمل الناظر فيه، ويذهل طالب معرفة الوقائع عما سبق من القول و ينسيه. فحذفت تلك الأسجاع إلا قليلا منها، استحسنتها في مواضعها، ولم تك خارجة عن الغرض المقصود من التعريف بالحوادث والوقائع، نحو ما ستراه في أخبار فتح بيت المقدس شرفه الله تعالى وانتزعت المقصود من الأخبار، من بين تلك الرسائل الطوال، والأسجاع المفضية إلى الملال، وأردت أن يفهم الكلام الخاص والعام. واخترت من تلك الأشعار الكثيرة قليلا مما يتعلق بالقصص وشرح الحال، وما فيه نكتة غريبة، وفائدة لطيفة.
ووفقت على مجلدات من الرسائل الفاضلية، وعلى جملة من من الأشعار العمادية مما ذكره في ديوانه دون برقه؛ وعلى كتب أخر من دواوين وغيرها، فالتقطت منها أشياء مما يتعلق بالدولتين أو بإحداهما؛ و بعضه سمعته من أفواه الرجال الثقات، من المدكرين لتلك الأوقات. فاختصرت جميع ما في ذلك من أخبار الدولتين، وما حدث في مدتهما من وفاة خليفة أو وزير، أو أمير كبير، أو ذى قدر خطير، وغيرذلك. فجاء مجموعا لطيفا، كتابا طريفا، يصلح لمطالعة الملوك والأكابر، من ذوي المآثر والمفاخر. وسميته " كتاب الروضتين في أخبار الدولتين " . ولله در حبيب بن أوس حيت يقول:
ثم انقضت تلك السنون ... وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
فصلأما الدولة النورية فسلطانها لملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن عماد الدين أتابك وهو أبو سعيد زنكى بن قسيم الدولة آق سنقر التركي ويلقب زنكى أيضاً بلقب والده قسيم الدولة، ويقال لنور الدين ابن القسيم. وسنتكلم على أخبار أسلافه عند بسط أوصافه. وقدمت من إجمال أحواله ما يستدل به على أفعاله.

ذكر الحافظ أبو القاسم في تاريخه أنه ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وأن جده آق سنقر ولى حلب وغيرها من بلاد الشام، ونشأ أبوه زنكى بالعراق ثم ولى ديار للوصل والبلاد الشامية؛ وظهرت كفايته في مقابلة العدو عند نزوله على شيزر حتى رجع خائباً، وفتح الرها، والمعرة كفر طاب، وغيرها من الحصون الشامية واستنقذها من أيدى الكفار. فلما انقضى أجله قام ابنه نور الدين مقامه، وذلك سنة إحدى وأربعين وخمسمائة؛ ثم قصد نور الدين حلب فملكها وخرج غازيا في أعمال تل باشر، فافتتح حصونا كثيرة من جملتها قلعة عزاز، ومرعش، وتل خالد؛ وكَسَر إبرنس إنطاكية وقتله وثلاثة ا لاف فرنجي معه؛ وأظهر بحلب السنة وغير البدعة التي كانت لهم في التأذين، وقمع بها وقمع الرافضة، وبنى بها المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر العدل، وحاصر دمشق مرتين وفتحها في الثالثة، فضبط أمورها وحصن سورها، و بنى بها المدارس والمساجد، وأصلح طرقها، ووسع أسواقها، ومنع من أخذ ما كان يوخذ منهم من المغارم بدار الطبخ، وسوق الغنم، والكيالة، وغيرها، وعاقب على شرب الخمر، واستنقذ من العدو ثغر بانياس والمنيطرة وغيرهما. وكان في الحرب ثابت القدم، حسن الرمى، صليب الضرب، يقدم أصحابه، و يتعرض للشهادة وكان يسال الله تعالى أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير. ووقف رحمه الله تعالى وقوفا على المرضى ومعلمي الخط والقرآن وساكني الحرمين. وأقطع امراء العرب لئلا يتعرضوا للحجاج، وأمر بأكمال سور المدينة و استخراج العين التي بأحد، و بنى الر بط والجسور والخانات، وجدد كثيرا من قنى السبيل. كذا صنع في غير دمشق من البلاد التي ملكها. ووقف كتبا كثيرة، وحصل في أسره جماعة من أمراء الفرنج، كسر اللروم والأرمن والفرنج على حارم وكان عدتهم ثلاثين ألفا، ثم فتح حارم وأخذ قرى أنطاكية، ثم فتح الديار المصرية وكان العدو قد اشرف على أخذها، ثم أظهر بها السنة وانقمعت البدعة. وكان حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعا للآثار النبوية، مواظبا على الصلوات في الجماعات، عاكفاً على تلاوة القرآن، حريصاً على فعل الخير، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق، متحريا في المطاعم والملابس، لم تسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره. وأشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها.
وقال أبو الحسن بن الأثير: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومناً هذا، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزير ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أ كثر تحريا للعدل والإنصاف منه. قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجز له ، وظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه وإنعام يسديه. ونحن نذكر مل يعلم به محله في أمر دنياه وأخراه؛ فلو كان في أمة لافتخرت به، فكيف بيت واحدة.
اما زهده وعبادته وعلمه فانه كان مع سعة ملكه، وكثرة ذخائر بلاده وأموالها لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين. أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك فأخذ ما أفتوه بحله، ولم يتعده إلى غير ألبتة. ولم يلبس قط ما حرمه الشرع من حديد أو ذهب أو فضة. ومنع من شرب الخمر وبيعها في جميع بلاده ومن إدخالها إلى بلد ما وكان يحد شاربها الحد الشرعي، كل الناس عنده فيه سواء.

حدثني صديق لنا بدمشق كان رضيع الخاتون ابنة معين الدين، زوجة نور الدين ووزيرها، قال: كان نور الدين إذا جاء إليها يجلس في المكان المختص به وتقوم في خدمته لاتتقدم إليه إلا أن يأذن ثيابه عنه. ثم تعتزل عنه إلى المكان الذي يختص بها و ينفرد هو، تارة يطالع رقاع أصحاب الأشغال، أو في مطالعة كتاب أتاه و يجيب عنهما. وكان يصلى فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار؛ فإذا جاء الليل وصلى العشاء ونام يستيقظ نصف الليل. و يقوم إلى الوضوء والصلاة إلى بكره فيظهر الركوب و يشتغل بمهام الدولة قال: وإنها قلت عليها النفقة ولم يكفها ما كان قرره لها فأرسلتني إليه أطلب منه زيادة في وظيفنها. فلما قلت له ذلك تنكر وأحمر وجهه، ثم قال: من اين أعطيها، أما يكفيها مالها! والله لا أخوض نارجهنم في هواها. إن كانت تظن أن الذي بيدى من الأموال هي لي فبئس الظن. إنما هي أموال المسلمين مُرَصد؛ لمصالحهم ومعدة لفتق إن كان من عدو الإسلام.، وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها. ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكا وقد وهبتها إياها فلتأخذها. قال: وكان يحصل منها قدر قليل.
قال ابن الأثير: وكان رحمه الله لا يفعل فعلا إلا بنية حسنة. كان بالجزيرة رجل من الصالحين كثير العبادة والورع، شديد الانقطاع عن الناس، وكان نور الدين يكاتبه ويراسله ويرجع إلى قوله ويعتقد فيه اعتقادا حسنا. فبلغه أن نور الدين يُدْمِن اللعب بالكرة. فكتب إليه يقول: ماكنت أظنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل لغير فائدة دينية. فكتب إليه نور الدين بخظ يده يقول: والله ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنما نحن في ثغر، العدو قريب منا، و بينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب. ولا يمكنا أيضاً ملازمة الجهاد ليلا ونهاراً شتاء وصيفا إذ لابد من الراحة للجند. ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماما لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة. فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب فيذهب جمامها وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب. فهذا والله اللمى بعثني على اللعب بالكرة. قال ابن الأثير: فانظر إلى هذا الملك المعدوم النظير، الذي يقل في أصحاب الزوايا والمنقطعين إلى العبادة مثله، فإن من يجىء إلى اللعب يفعله بنية صالحة حتى يصيرمن أعظم العبادات وأكبر القربات يقل في العالم مثله، وفيه دليل على أنه كان لا يفعل شيئا إلا بنية صالحة، وهذه افعال العلماء الصالحين العاملين.
قال: وحكى لي عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة، فلم يحضرها عنده، فوصفت له فلم يلتفت إليها. وبيناهم معه في حديثها و إذا قد جاءه رجل صوفي فامر بها له؛ فقيل له إنها لا تصلح لهذا الزجل ولو أعطى غيرها كان أنفع له. قال: أعطوها له فإني أرجو أن أعوض عنها في الآخرة. فسُلمت له، فسار بها إلى بغداد فباعها. بستمائة دينار أميري أو سبعمائة دينار.
قلت: قرأت في حاشية هذا المكان من كتاب ابن الأثير يخظ ابن المعطى إياها قال: أعطاها الشيخ الصوفية عماد الدين أبى الفتح بن حمويه بغير طلب ولا رغبة، فبعثها لملى همدان فبيعت بالف دينار.
قال ابن الأثير: وحكى لنا الأمير بهاء الدين على بن السكرى، وكان خصيصا بخدمة نور الدين قد صحبه من الصبا وأنس به وله معه انبساط، قال: كنت معه يوما في الميدان بالرها والشمس في ظهورنا، فكلما سرنا تقدمنا الظل؛ فلما عدنا صار الظل وراء ظهورنا، فاجرى فرسه وهو يلتف وراءه، وقال لي: أتدري لأي شىء أجرى فرسى وألتفت وراثي قلت: لا. قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا، تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها. قلت رضى الله عن ملك يفكر في مثل هذا. وقد أنشدت بيتين في هذا المعنى:
مثل الززق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي ملك
أنت لاتدركه متَّبِعاً ... فإذا ولّيت عنه تبعك
قال ابن الأثير: وكان، يعنى نور الدين رحمه الله، يصلى كثيرا من الليل ويدعو و يستغفر ويقرأ، ولايزال كذلك إلى أن يركب:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب

قال: وكان عارفا بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، ليس عنده تعصب، بل الإنصاف سجيته في كل شىء. وسمع الحديت وأسمعه طلباً للأجر. وعلى الحقيقة فهو الذي جدد للموك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك؛ فإنهم كانوا قبله كالجاهلية: هم أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، حتى جاء الله بدولته فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه، وألزم بذلك أتباعه وذويه، فاقتدى به غيره منهم، واستحيوا أن يظهر عنهم ماكانوا يفعلونه. ومن سَن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة قال: فإن قال قائل كيف يوصف بالزهد من له الممالك الفسيحة، وتجبى إليه الأموال الكثيرة، فليذكر نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام مع ملكه وهو سيد الزاهدين في زمانه. ونبينا صلى الله عليه وسلم قد حكم على حضرموت واليمن والحجاز وجميع جزيرة العرب من حدود الشام إلى العراق، وهو على الحقيقة سيد الزاهدين. قال: و إنما الزهد خلو القلب من محبة الدنيا لاخلو اليد عنها.
قال: وأما عدله فإنه كان أحسن الملوك سيرة وأعدلهم حكما. فمن عدله أنه لم يترك في بلد من بلاده ضريبة ولا مكسا ولا عشرا، بل أطلقها رحمة الله جميعها في بلاد الشام والجزيرة جميعها والموصل وأعمالها وديار مصر وغيرها مما حكم عليه وكان المكس. في مصر يؤخذ من كل مائة دينار خمسة وأربعون ديناراً وهذا لم تتسع له نفس غيره. وكان يتحرى العدل وينصف المظلوم من الظالم كائنا من كان، القوى والضعيف عنده في الحق سواء. وكان يسمع شكوى المظلوم ويتولى كشف حاله بنفسه، ولا يكل ذلك إلى حاجب ولا أمير. فلا جَرَمَ سار ذكره في شرق الأرض وغربها.
قال: ومن عدله أنه كان يعظم الشريعة المطهرة ويقف عند أحكامها ويقول نحن شحن لها نُمضي أوامرها. فمن اتباعه أحكامها أنه كان يلعب بدمشق بالكرة، فرأى إنسانا يحدث آخر وبومئ بيده إليه، فارسل إليه يساله عن حاله. فقال: لي مع الملك العادل حكومة، وهذا غلام القاضي ليحضره إلى مجلس الحكم يحاكمني على الملك الفلاني. فعاد إليه ولم يتجاسر أن يعرفه ما قال ذلك الرجل وعاد يكتمه؛ فلم يقبل منه غير الحق، فذكر له قوله. فألقى الجوكان من يده وخرج من الميدان وسار إلى القاضي، وهو حينئذ كمال الدين ابن الشهرزورى، وأرسل إلى القاضي يقول له إنني قد جئت محا كما فاسلك معى ميل ماتسلكه مع غيرى. فلما حضر ساوى خصه وخاصمه وحاكمة فلم يثبت عليه حق؛ وثبت الملك لنور الدين. فقال نور الدين حينئذ للقاضي ولمن حضر: هل ثبَت له عندي حق؟ قالوا لا. فقال: اشهدوا أنني قد وهبت له هذا الملك الذي قد حاكمني عليه، وهُوَ لَهُ دُوني؛ وقد كنت أعلم أن لا حق له عندي وإنما حضرت معه لئلا يظن بي أني ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لي وهبته له قال اين الأثير: وهذا غاية العدل والإنصاف، بل غاية الإحسان، وهي درجة وراء العدل. فرحم الله هذه النفس الزكية الطاهرة، المنقادة للحق، الواقفة معه.
قلت: وهذا مستكثر من ملك متأخر بعد فساد الأزمنة وتفرق الكلمة؛ وإلا فقد انقاد إلى المضي إلى مجلس الحكم جماعة من المتقدمين مثل عمر وعلي ومعاوية رضي الله عنهم، ثم حكى نحو ذلك عن أبي جعفر المنصور. وقد نقلنا ذلك كله في التاريخ الكبير، وفيه عن عبد الله بن طاهر قريب من هذا، لكنه أحضر الحاكم عنده ولم يمض إليه. وقد بلغني أن نور الدين رحمه الله تعالى استُدعى مرة أخرى بحلب إلى مجلس الحكم بنفسه أو نائبه؛ فدخل حاجبه عليه متعجبا وأعلمه أن رسول الحاكم بالباب، فانكرعليه تعجبه وقام رحمه الله مسرعا ووجد في أثناء طريقه ما منعه من العبور من حفر جب بعض الحشوش واسخراج ما فيه؛ فوكل م ثم وكيلا وأشهد عليه شاهدين بالتوكيل ورجع.

قال ابن الأثير: ومن وعدله انه لم يكن يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه الأعصار على الظنة والتهمة، بل يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت البينة الشرعية عاقبه العقوبة الشرعية من غير تعد فدفع الله إذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة السياسة والمبالغة في العقوبة والأخذ بالظنة، وأمنت بلاده مع سعتها، وقل المفسدون بيركة العدل واتباع الشرع المطهر. قال: وحكى لي من أثق به أنه دخل يوما إلى خزانةالمال فرأى فيها مالا أنكره، فسأل عنه، فقيل إن القاضي كمال الدين أرسله وهو من جهة كذا. فقال: إن هذا المال ليس لنا، ولا لبيت المال في هذه الجهة شىء. وأمر برده وإعادته إلى كمال الدين ليرده على صاحبه. فأرسله متولي الخزانة إلى كمال الدين، فرده إلى الخزانة وقال: إذا سال الملك العادل عنه فقولوا له عنى إنه له. فدخل نور الدين إلى الخزانة مرة أخرى، فرآه، فأنكر على النواب، وقال لهم: ألم أقل لكم يعاد هذا المال على أصحابه؟ فذكروا له قول كمال الدين، فرده إليه وقال الرسول: قل لكمال الدين أنت تقدر على حمل هذا، وأما أنا فرقبتي دقيقة لا أطيق حمله، والمخاصمة عليه بين يدي الله تعالى. يُعاد قولاً واحداً.
قال: ومن عدله أيضا بعد موته وهو من أعجب ما يحكى أن إنسانا كان بدمشق غريباً، استوطنها وأقام بها لما رأى من عدل نور الدين رحمه الله. فلما توفى تعدى بعض الأجناد على هذا الرجل، فشكاه، فلم ينصف. فنزل من القلعة وهو يستغيث ويبكى وقد شق ثوبه وهو يقول: يانور الدين: لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم لرحمتنا؛ أين عدلك! وقصد تربة نور الدين ومعه من الخلق ماً لا يحصى وكلهم يبكى ويصبح. فوصل الخبر إلى صلاح الدين وقيل له: احفظ البلد والرعية و إلا خرج عن يدك. فأرسل إلى ذلك الرجل وهو عند تربة نور الدين يبكى والناس معه فطيب قلبه ووهبه شيئاً وأنصفه، فبكى أشد من الأول. فقال له صلاح الدين: لم تبكى؟ قلل: أبكى على سلطان عدل فينا بعد موته. فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما ترى فينا من عدل فمنه تعلمناه.
قلت: ومن عدله أن بنى دار العدل. قال ابن الأثير: كان نور الدين رحمه الله أول من بنى دارا للكشف وسماها دار العدل. وكان سبب بنائها أنه لما طال مقامه بدمشق وأقام بها أمراؤه، وفها أسد الدين شيركوه وهو أكبر أمير معه، وقد عظم شانه وعلا مكانه، حتى صار كأنه شريك في الملك واقتنوا الأموال وأكثروا؛ تعدى كل واحد منهم على من يجاوره في قرية أو غيرها. فكثرت الشكاوى إلى كمال الدين فانصف بعضهم من بعض، ولم يقدم على الإنصاف من أسد الدين شيركوه. فأنهى الحال إلى نور الدين، فأمر حينئذ ببَناء دار العدل. فلما سمع أسد الدين بذلك أحضر نوابه جميعهم وقال لهم: اعلموا أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلا بسببي وحدي؛ و إلا فمن هو الذى يمتنع على كمال الدين؟ ووالله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لأصلبنه. فامضوا إلى كل من بينكم و بينه منازعة في ملك فافصلوا الحال معه، وأرضوه بأي شيء أمكن، ولو أتى ذلك على جميع ما بيدي. فقالوا له: إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا في الطلب. فقال: خروج أملاكي عن يدي أسهل على من أن يراني نور الدين بعين أتي ظالم، أو يساوى بيني و بين آحاد العامة في الحكومة. فخرج أصحابه من عنده وفعلوا ما أمرهم، وأرضوا خصماءهم، وأشهدوا عليهم. فلما فرغت دار العدل جلس نور الدين فيها لفصل الحكومات. وكان يجلس في الأسبوع يومين وعنده القاضي والفقهاء؛ و بقى كذلك مدة فلم يحضر عنده أحد يشكو من أسد الدين. فقال نور الدين لكمال الدين: ما أرى أحدا يشكو من شيركوه. فعرفه الحال، فسجد شكرا لله تعالى، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا. قال ابن الأثير: فانظر إلى هذه المعدلة ما أحسنها، و إلى هذه الهيبة ما أعضمها، و إلى هذه السياسة ما أسدها؛ هذا مع أنه كان لا يريق دماً، ولا يبالغ في عقوبة، وإنما كان يفعل هذا صدقه في عدله وحسنُ نيته.

قال: وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه أصبر الناس في الحرب وأحسنهم مكيدة ورأيا، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، و به كان يضرب المثل في ذلك. سمعت جمعا كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون أنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق عليه لا يتحرك ولا يتزلزل. وكان من أحسن الناس لعباً بالكرة وأقدرهم عليها؛ لم يرجو كأنه يعلو على رأسه. وكان ربما ضرب الكرة و يجرى الفرس ويتناولها بيده من الهواء ويرميها إلى آخر الميدان. وكانت يده لا ترى والجوكان فيها بل يكون في كم قبائه استهانة باللعب وكان إذا حضر الحرب اخذ قوسين وتركاشين و باشر القتال بنفسه، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها. سمعه يوماً الإمام قطب الدين النيسابورى الفقيه الشافعي وهو يقول ذلك فقال له: بالله لا تخاطر بنفسك و بالإسلام والمسلمين فإنك عمادهم، ولئن اصب والعياذ بالله في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف وأخذت البلاد. فقال: يا قطب الدين: ومن محمود حتى يقال له هذا؟ قبلى من حفظ البلاد والإسلام، ذلك الله الذي لا إله إلا هو. قال: وكان رحمه الله يكثر إعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج، خذلهم الله تعالى، وأكثر ما ملكه من بلادهم به. ومن جيد الرأي ما سلكه مع مليح بن ليون ملك الأرمن صاحب الدروب، فإنه ما زال يخدعه و يستميله، حتى جعله في خدمته سفرا وحضرا؛ وكان يقاتل به الإفرنج، وكان يقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها إذا أراد فنال من بلاد الإسلام، فإذا طلب انحجر فيها فلا يقدر عليه. فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئا من للإقطاع على سبيل التالف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج. قال: وحين توفى نور الدين رحمة الله وسلك غيره غير هذا الطريق ملك المتولي الأرمن بعد مليح كثيرا من بلاد الإسلام وحصونهم، وصار منه ضرر عظيم، وخرق واسع لا يمكن رقعه.
قال: ومن أحسن الآراء ما كان يفعله مع أجناده؛ فإنه كان إذا توفى أحدهم وخلف ولدا أقر الإقطاع عليه، فإن كان الولد كبيرا استبد بنفسه، وإن كان صغيرا رتب معه رجلا عاقلا يثق إليه فيتولى أمره إلى أن يكبر. فكان الأجناد يقولون هذه أملاكناً يرثها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها، وكان ذلك سبَباً عظيما من الأسباب الموجبة للصبر في المشاهد والحروب. وكان أيضاً يثبت أسماء الأجناد، كل أمير في ديوانه، وسلاحهم خوفاً، من حرص بعض الأمراء وشحه أن يحمله على أن يقتصر على بعض ما هو مقرر عليه من العدد؛ ويقول: نحن كل وقت في النفير، فإذا لم يكن أجناد كافة الأمراء كاملي العَدَد والعُدد دخل الوهن على الإسلام. قال: ولقد صدق رضي الله عنه فيما قال، وأصاب فيما فعل، فلقد رأينا ما خافه عياناً.

فال: وأما ما فعله في بلاد الإسلام من المصالح مما يعود إلى حفظها وحفظ المسلمين فكثير عظيم. من ذلك أنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها؛ فمنها حلب، وحماة، وحمص، ودمشق، و بارين، وشيزر، ومنبج، وغيرها من القلاع والحصون، وحصنها وأحكم بناءها، وأخرج عليها من الأموال ما لا تسمح به النفوس وبنى أيضا المدارس بحلب، وحماة، ودمشق، وغيرها للشافعية والحنفية. وبنى الجوامع في جميع البلاد، فجامعه في الموصل إليه النهاية في الحسن والإتقان. ومن أحسن ما عمل فيه أنه فوض أمر عمارته والخرج عليه إلى الشيخ عمر الملا رحمه الله، وهو رجل من الصالحين، فقيل له إن هذا لا ويصلح لمثل هذا العمل. فقال: إذا وليت العمل بعض أصحابي من الأجناد والكتاب أعلم أنه يظلم في بعض الأوقات، ولا يفي الجامع بظلم رجل مسلم، وإذا وليت هذا الشيخ غلب على ظني أنه لا يظلم، فإذا ظلم كان الإثم عليه لا على. قال: وهذا هو الفقه في الخلاص من الظلم. وبنى أيضاً بمدينة حماة جامعاً على نهر العاصي من أحسن الجوامع وأنزهها. وجدد في غيرها من عمارة الجوامع ما كان قد تهدم، إما بزلزلة أو غيرها، وبنى البيمارستانات في البلاد؛ ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه بدمشق، فإنه عظيم كثير الخرج جدا. بلغني أنه لم يجعله وقفاً على الفقراء حسب، بل على كافة المسلمين من غني وفقير. قلت: وقد وقفت على كتاب وقفه فلم أره مشعرا بذلك، و إنما هذا كلام شاع على ألسنة العامة ليقع ما قدره الله تعالى من مزاحمة الأغنياء للفقراء فيه، والله المستعان. وإنما صرح بأن ما يعز وجوده من الأدوية الكبار وغيرها لا يمنع منه من احتاج إليه من الأغنياء والفقراء، فحص ذلك بذلك، فلا ينبغي أن يتعدى إلى غيره، لاسيما وقد صرح قبل ذلك بان وقف على الفقراء والمنقطعين، وقال بعد ذلك: من جاء إليه مستوصفا لمرضه أعطى. وروى أن نور الدين رحمه الله شرب من شراب البيمارستان فيه، وذلك موافق لقوله في كتاب الوقف: من جاء إليه مستوصفا لمرضه أعطى. والله أعلم. وبلغني في أصل بنائه نادرة، وهي أن نور الدين رحمه الله وقع في أسره بعض أكابر الملوك من الفرنج، خذلهم الله تعالى، فقطع على نفسه في فدائه مالا عظيما؛ فشاور نور الدين أمراءه فكل أشار بعدم إطلاقه لما كان فيه من الضرر على المسلمين، ومال نور الدين إلى الفداء بعد ما استخار الله تعالى، فأطلقه ليلا لئلا يعلم أصحابه، وتسلم المال. فلما بلغ الفرنجي مأمنه مات، و بلغ نور الدين خبره، فأعلم أصحابه فتجمعوا من لطف الله تعالى بالمسلمين حيث جمع الحُسْنَيَين، وهما الفداء وموت ذلك اللعين. فبنى نور الدين رحمه الله بذلك المال هذا البيمارستان ومنع المال الأمراء، لأنه لم يكن عن إرادتهم كان.

قال ابن الأثير: وبنى أيضا الخانات في الطرق، فأمن الناس وحفظت أموالهم، وباتوا في الشتاء في كن من البرد والمطر. و بنى أيضا الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج وجعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادى؛ فإذا رأوا من العدو أحدا أرسلوا الطيور فأخذ الناس حذرهم، واحتاطوا لأنفسهم فلم يبلغ العدو منهم غرضا؛ وكان هذا من ألطف الفكر وأكثرها نفعاً قال: و بنى الربط والخانقاهات في جميع البلاد للصوفية ووقف عليها الوقوف الكثيرة وأدر عليهم الإدرارات الصالحة، وكان يحضر مشايخهم عنده ويقربهم، ويدنيهم ويبَسطهم؛ ويتواضع لهم؛ وإذا أقبل أحدهم إليه، يقوم له مذ تقع عينه عليه، ويعتنقه ويجلس معه على سجادته، ويقبل عليه بحديثه. وكذلك كان أيضا يفعل بالعلماء من التعظيم والتوقير والاحترام، ويجمعهم عند البحث والنظر، فقصدوه من البلاد الشاسعة، من خراسان وغيرها. و بالجملة كان أهل الدين عنده في أعلى محل وأعظمه، وكان أمراؤه يحسدونهم على ذلك، وكانوا يقعون عنده فيهم فينهاهم، وإذا نقلوا عن إنسان عيباً يقول: ومن المعصوم؟! وإنما الكامل من تُعد ذنوبه. قال: وبلغني أن بعض أكابر الأمراء حسد قطب الدين النيسابوري، الفقيه الشافعي، وكان قد استقدمه من خراسان، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه؛ فحسده ذلك! الأمير فنال منه يوما عند نور الدين. فقال له: يا هذا إن صح ما تقول فله حسنة تغفر كل زلة تذكرها وهي العلم والدين. وأما أنت وأصحابك ففيكم أضعاف ما ذكرت وليست لكم حسنة تغفرها، ولو عقلت لشغلك عيبك عن غيرك؛ وأنا احتمل سيئاتكم مع عدم حسناتكم، أفلا أحتمل سيئة هذا، إن صحت، مع وجود حسنته على؟! إنني والله لا أصدقك فيما تقول، وإن عدت ذكرته أو غيره بسوء لأؤدبنك. فكف عنه. قال ابن الأثير: هذا والله هو الإحسان والفعل الذي ينبغي أن يكتب على العيون بماء الذهب.
وبنى بدمشق أيضا دار الحديث، ووقف عليه وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفا كثيرة، وهو أول من بنى دارا للحديث فيما علمنا. و بنى أيضا في كثير من بلاده مكاتب للأيتام وأجرى عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة؛ وبنى أيضاً مساجد كبيرة ووقف عليها وعلى من يقرأ بها القرآن. قال: وهذا فعل لم يسبق إليه. بلغني من طرف بإعمال الشام أن وقوف نور الدين في وقتنا هذا، وهو ثمان وستمائة، كل شهر تسعة الاف دينار صورية، وليس فيها ملك غير صحيح شرعي ظاهرا وباطنا، فإنه وقف ماً انتقل إليه وورث عنه، أو ما غلب عليه من بلاد الفرنج وصار سهمه.

قال: وأما هيبته ووقاره فإليه النهاية فيهما. ولقد كان كما قيل: شديد في غير عنف، رقيق في غير ضعف. واجتمع له ما لم يجتمع لغيره، فإنه ضبط ناموس الملك مع أجناده وأصحابه إلى غاية لا مزيد عليها. وكان يلزمهم بوظائف الخدمة الصغير منهم والكبير، ولم يجلس عنده أمير من غير أن يأمره بالجلوس إلا نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوسف، وأما من عداه، كأسد الدين شيركوه، ومجد الدين أبن الداية، وغيرهما فإنهم كانوا إذا حضروا عنده يقفون قياما إلى أن يأمرهم بالقعود. وكان مع هذه العظمة وهذا الناموس القائم إذا دخل عليه الفقيه أو الصوفي أو الفقير يقوم له ويمشي بين يديه، ويجلسه إلى جانبه كأنه أقرب الناس إليه. وكان إذا أعطى أحدهم شيئاً يقول: إن هؤلاء لهم في بيت المال حق، فإذا قنعوا منا ببعضه فلهم المنة علينا. وكان مجلسه كما روى في صفة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس حلم وحياء لا تؤبن فيه الحرم؛ وهكذا كان مجلسه لا يذكر فيه إلا العلم والدين وأحوال الصالحين، والمشاورة في أمر الجهاد، وقصد بلاد العدو، ولا يتعدى هذا. بلغني أن الحافظ ابن عساكر الدمشقي، رضي الله عنه، حضر مجلس صلاح الدين يوسف لما ملك دمشق فرأى فيه من اللغط وسوء الأدب من الجلوس فيه مالا حد عليه. فشرع يحدث صلاح الدين كما كان يحدث نور الدين فلم يتمكن من القول لكثرة الاختلاف من المحدثين وقلة استماعهم.. فقام و بقى مدة لا يحضر المجلس الصلاحي؛ وتكرر من صلاح الدين الطلب له، فحضر، فعاتبه صلاح الدين يوسف على انقطاعه، فقال: نزهت نفسي عن مجلسك فإنني رأيته كبعض مجالس السُّوقة، لا يستمع إلى قائل، ولا يرد جواب متكلم. وقد كنا بالأمس نحضر مجلس نور الدين فكنا، كما قيل، كأن على رءوسنا الطير، تعلونا الهيبة والوقار، فإذا تكلم أنصتنا و إذا تكلمنا استمع لنا. فتقدم صلاح الدين إلى أصحابه أنه لا يكون منهم ما جرت به عادتهم إذا حضر الحافظ. قال ابن الأثير: فهكذا كانت أحواله جميعها رحمه الله مضبوطة محفوظة.
وأما حفظ أصول الديانات فإنه كان مراعياً لها لا يهملها، ولا يمكن أحدا من الناس من إظهار ما يخالف الحق. ومتى أقدم مقدم على ذلك أدبه بما يناسب بدعته؛ وكان يبالغ في ذلك و يقول: نحن نحفظ الطرق من لص وقاطع طريق؛ والأذى الحاصل منهما قريب، أفلا نحفظ الدين وتمنع عنه ما يناقضه وهو الأصل! قال: وحكى أن إنسانا بدمشق يعرف بيوسف بن آدم، كان يظهر الزهد والنسك وقد كثر أتباعه، أظهر شيئاً من التشبيه، فبلغ خبره نور الدين فأحضره وأركبه حمارا وأمر بصفعه، فطيف به في البلد جميعه ونودي عليه: هذا جزاء من أظهر في الدين البدع. ثم نفاه من دمشق، فقصد حران وأقام بها إلى أن مات. قال ويسوق الله القصار الأعمار إلى البلاد الوخمة.

قلت وذكر العماد الكاتب في أول كتابه البرق الشامي أنه قدم دمشق في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة في دولة الملك نور الدين محمود بن زنكى؛ وأخذ في وصفه بكلامه المسجوع فقال: كان ملك بلاد الشام ومالكها، والذي بيده ممالكها، العادل نور الدين، أعف الملوك وأتقاهم وأثقبهم رأيا وأنقاهم؛ وأعدلهم وأعبدهم، وأزهدهم وأجهدهم؛ وأظهرهم وأطهرهم، وأقواهم؛ وأقدرهم؛ وأصلحهم عملا، وأنجحهم أملا! وأرجحهم رأياً، وأوضحهم آيا؛ وأصدقهم قولا! وأقصدهم طولا؛ وكان عصره فاصلا، ونصره واصلا وحكه عادلا، وفضله شاملا؛ وزمانه طيبا، وإحسانه صيباً؛ والقلو بمهابته ومحبته متلية والنفوس بعاطفته وعارفته متملية؛ وأمور مقتلبة، وأوامره ممتملة؛ وجده منزه عن الهزل ونوابهفي أمن العزل؛ ودولته مأمونه، وروضته مصوبة؛ والرياسة كاملة، والسياسة شاملة؛ والزيادة زائدة، والسعادة مساعدة؛ والعيشة ناضرة، والشيعة ناصرة. والإنصاف ضاف، والإسعاف عاف؛ وأزر الدين قوى، وظمأ الإسلام روى، وزند النجح ورى؛ والشرع مشروع، والحكم مسموع؛ والعدل مُولى والظلم معزول، والتوحيد منصور والشرك مخذول؛ وللتقى شروق، وما للفسوق سوق؛ وهو الذي أعاد رونق الإسلام، إلى بلاد الشام؛ وقد غلب الكفر، وبلغ الضر؛ فاستفتح معاقلها، واستخلص عقائلها؛ وأشاع بها شعار الشرع في جميع الحل والعقد، والإبرام والنفض، والبسط والقبض، والوضع والرفع. وكانت للفرنج في أيام غيره على بلاد الإسلام بالشام قطائع فقطعها، وعفى رسومها ومنعها؛ ونصره الله عليهم مرارا حتى أسر ملوكهم، وبدد سلوكهم؛ وصان الثغور منهم، وحماها عنهم وأحيا معالم الدين الدوارس وبنى للامة المدارس؛ وأنشأ الخانقاهات للصوفية، وكثرها في كل بلاد وكثر وقوفها، وقرر معروفها، وأدنى للوافدين من جنان جنابه قطوفها؛ وأجد الأسوار والخنادق، وأنمى المرافق، وحمى الحقائق؛ وأمر في الطرقات ببناء الربط والخاتات؛ وضاقت ضيوف الفضائل، وفاضت فيوض الأفاضل؛ وهو الذي فتح مصر وأعمالها، وأنشأ دولتها ورجالها.
ثم ذكر العماد في أثناء حوادث سنة تسع وستين، وهي السنة التي توفى فيها نور الدين، قال: وفي هذه السنة أكثر نور الدين من الأوقاف والصدقات وعمارة المساجد المهجورة، وتعفية آثارل الآثام، وإسقاط كل ما يدخل في شبهة الحرام، فما أبق سوى الجزية والخراج، وما تحصل من قسمة الغلات على قويم المنهاج. قال وأمرني بكتابة مناشير لجميع أهل البلاد فكتب أكثر من ألف منشور؛ وحسبنا ما تصدق به على الفقراء في تلك الأشهر فذلك على ثلاثين ألف دينار. وكانت عادته في الصدقة أن يحضر جماعة من أماثل البلد من كل محله، و يسألهم عمن يعرفن في جوارهم من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم. وكان برسم نفقة الخاصة في كل شهر من جزية أهل للذمة مبلغ ألفى قرطيس، يصرفه في كسوته ونفقته وحوائجه المهة، حتى أجرة خياطه، وجامكية طباخه، ويستفضل منه ما يتصدق به أخر الشهر. واما ما كان يهدي إليه من هدايا الملوك وغيرهم فإنه كان لا يتصرف في شيء منه، لا قليل ولا كثير، إذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي يحصل ثمنه، ويصرف في عمارة المساجد المهجورة. وتقدم بإحصاء ما في محال دمشق فاناف على مائة مسجد، فأمر بعمارة ذلك كله وعين له وقوفاً. قال: ولو اشتغلت بذكر وقوفه وصدقاته في كل بلد لطال الكتاب ولم يبلغ إلى أمد. أبيته الدالة على خلوص نيته تغنى عن خبرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان عن الرابط المدارس على اختلاف المذاهب واختلاف المواهب، وفي شرح طوله طول، وعمله لله مبرور مقبول. وواظب على عقد مجالس الوعاظ، ونصب الكرسي لهم في القلعة له للإنذار والاتعاط، وأكبرهم الفقيه قطب الدين النيسابوري، وهو مشغوف ببركة أنفاسه، واغتناًم كلامه واقتباسه. ووفد من بغداد ابن الشيخ أبي النجيب الأكبر، وبسط له في كل أسبوع المنبر، وشاقه وعظه، وراقه معناه ولفظه. وكذلك وفد إليه من أصبهان الفقيه شرف الدين عبد المؤمن بن شَوَرْوَه، وما أثمن تلك الأيام وابرك تلك الشتوه.

فال: ولما أسقط نور الدين الجهات المحظورة، والشبه المحذوره، عزل الشحن، وصرف عن الرعية بصرفهم المحن، وقال للقاضي الدين ابن الشهرزوري: انظر أنت في ذلك واحمل أمور الناس على الشريعة. قال: ولم يكن لمال المواريث الحشرية حاصل، ولا الديوانه طائل، فجعل نور الدين ثلث ما يحصل فيه لكمال الدين الحاكم، فوفره نوابه وكثروه، وما كان نور الدين يحاسب القاضي على شيء من الوقوف، ويقول: أنا قلدته على أن يتصرف بالمعروف؛ ومال من مصارفها وشروط واقفها يأمره بصرفه في بناء الأسوار وحفظ الثغور، وكانت دولته نافذة الأوامر منتظمة الأمور.
قلت: وحكى الشيخ أبو البركات الحسن بن هبة لله أنه حضر مع عمه لحالفظ أبي القاسم رحمه الله مجلس نور الدين لسماع شيء من الحديث، فمر في أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفا؛ فاستفاد نور الدين أمراً لم يكن يعرفه وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف! يشير إلى التعجب من عادة الجند، إذ هم على خلاف ذلك يربطونه بأوساطهم. قال: فلما كان من الغد مررنا تحت القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان. فوفقنا ننظر إليه معهم، فخرج نور الدين رحمه الله من القلعة وهو متقلد السيف وجميع عسكره كذلك. فرحمة الله على الملك الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة، لما بلغته رجع بنفسه ورد جنده عن عوائدهم، اتباعا لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فما الظن بغير ذلك من السنن. ولقد بلغني أنه أمر بإسقاط ألقابه في الدعاء على المنابر، ورأى له وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني الشاعر في منامه أنه يغسل ثيابه، وقض ذلك عليه. ففكر ساعة، ثم أمره بكتابه إسقاط المكوس، وقال: هذا تفسير منامك، وكان في تهجده يقول: ارحم العشار المكاس و بعد أن أبطل ذلك استعجال من الناس في حل وقال: والله ما أخرجناها إلا في جهاد عدو الإسلام، يعتذر بذلك إليه عن أخذها منهم. وعلى الجملة كان نور الدين رحمه الله تعالى فردا في زمانه من بين سائر الملوك. ولو لم يكن إلا استماعه للموعظة وانقياده لها، وإن اشتملت على ألفاظ قد أغلظ له فيها . قرأت في تاريخ إربل لشرف الدين ابن المستوفى رحمة الله: قال المنتخب الواعظ، هو أبو عثمان المنتخب بن أبي محمد البحتري الواسطي، ورد إبرل ووعظ بها وكان له قبول عظيم، وسافر إلى نور الدين محمود بن زنكى ابن آق سنقر إلى الشام بسبب الغزاة، وأنفذ له نور الدين جملة من مال فلم يقبلها وردها عليه؛ أنشدني له يحيى بن محمد بن صدقة قصيدة عملها في نور الدين وحلف أنه سمعها من لفظه:
مثل وقوفك أيها المغرور ... يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين رحت مسلما ... فأحذر بان تبقى ومالك نور
أنهيت عن شرب الخمور، وأنت من ... كأس المظالم طافح مخمور
عطلت كاسات المدام تعففا ... وعليك كاسات الحرام تدور
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى ... فردا، وجاءك منكر ونكير
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في ... يوم الحساب مُسَحَّبٌ مجرور
وتفرقت عنك الجنود وأنت في ضيق اللَّحود مُوَسَّدٌ مقبور
ووددت أنك ما وليت ولاية ... يوماً، ولا قال الأنامُ: أمير
وبقيت بعد العزّ رَهْن حُفيرة في ... عالم الموتى وأنت حقير
وحشرت عريانا،حزينا،باكيا ... قلقا، ومالَكَ في الأنام مجير
أرضيت أن تحياً وقلبك دارس ... عافي الخراب وجسسمُك المعمور
أرضيت أن يحظى سواك بقربه ... أبداً وأنت مبعد مهجور
مهد لنفسك حجة تنجو بها ... يوم المعاد لعلك لمعذور
قلت: ولعل هذه الأبيات كانت من أقوى الأسباب المحركة إلى إبطال تلك المظالم والخلاص من تلك المآثم. رضي الله عن الواعظ والمتعظ بسببه، ووفق من رام الاقتداء به.

ونقلت من خط الصاحب العالم كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة في كتاب تاريخ حلب الذي صنفه، وسمعت من لفظه، أن نور الدين رحمه الله كان مع أبيه بجلب، فلما حاصر أبوه قلعة جعبر وقتل عليها قصد حلب وصعد قلعتها وملكها في شهر ربيع الأول منة إحدى وأربعين وخمسمائة، وأحسن إلى الرعية و بث العدل ورفع الجور، وأبطل البدع واشتغل بالغزو، وفتح قلاعا كثيرة من عمل حلب كانت بيد الفرنج، وحدث بحلب ودمشق عن جماعة من العلماء أجازوا له، منهم أبو عبد الله بن رفاعة بن غدير السعدي المعرى، روى عنه جماعة من شيوخنا مثل أبي الفضل أحمد وأبى البركات الحسن وأبى منصور عبد الرحمن بن أبى عبد الله محمد بن الحسن بن هبه الله الشافعي. قال: ووقفت على رقعة بخط الوزير خالد بن محمد بن نصر ابن القيسراني كتبها إلى نور الدين، وجوابها من نور الدين على رأس الورقة وبين السطور؛ فنقلت جميع ما فيها من خطبهما. قال: وكان رحمه الله كتب رقعة يطلب من ابن القيسراني أن يكتب له صورة مايدعى له به على المنابر حتى لا يقول الخطيب ما ليس فيه، ويصونه عن الكذب وعما هو مخالف لحلله. ونسخة الورقة بخط خالد: " أعلى الله قدر المولى في الدارين، و بلغه آماله في نفسه وذريته، وختم له بخير في العاجلة والآجلة، بمنه وجوده، وفضله وحمده. وقف المملوك على الرقعة، وتضاعف دعاؤه وابتهاله إلى الله تعالى بأن يرضى عنه وعن والديه، وأن يسهل له السلوك إلى رضاه والقرب منه والفوز عنده، إنه على كل شيء قدير وقد رأى المملوك ما يعرضه على العلم الأشرف، زاده الله شرفا، وهو أن يذكر الخطيب على المنبر إذا أراد الدعاء للمولى: اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر أمير المؤمنين. فإن هذا جميعه لا يدخله كذب ولا تزيد والرأى أعلى وأسمى شاء الله تعالى " . فكتب نور الدين على رأس الرقعة بخطه ما هذا صورته: " مقصودى ألاّ بكذب على المنير، أنا بخلاف كل ما يقال. أفرح بماً لا أعمل، قله عقل عظيم، الذي كتبت جيد هو، اكتب به نسح حتى نسيره إلى جميع البلاد " . وكتب في آخر الرقعة: " ثم يبدءوا بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، الله وفقه، من هذا الجنس " قال: وحدثني والدي قال: استدعانا نور للذين أنا وعمك أبو غانم شرف الدين ابن أبي عصرون إلى الميدان الأخضر وأشهدنا عليه بوقف حوانيت على سور حمص. فلما شهدنا عليه التفت علينا وقال: بالله انظروا أي شيء علمتموه من أبواب البر والخير، دلونا عليه وأشركونا في الثواب. فقال شرف الدين ابن أبي عصرون: والله ما ترك المولى شيئا من أبواب البر إلا وقد فعله ولم يترك لأحد بعده فعل خير إلا وقد سبقه إليه. وقال: قال لي والدي: دخل في أيام نور الدين إلى حلب تاجر موسر فمات بها وخلف ولداً صغيرا ومالاً كثيرا فكتب بعض من بحلب إلى نور الدين يذكر له أنه قد مات ههنا رجل تاجر موسر وخلف عشرين ألف دينار أو فوقها وله ولد عمره عشر سنين. وحسن له أبن يرفع المال إلى الخزانة إلى أن يكبر الصغير ويرضى منه بشيء ويمسك الباقي للخزانة. فكتب على رقعته : أما الميت فرخمه الله، وأما الولد فأنشاه الله، وأما المال فثمره الله، وأما الساعي فعلنه الله. وبلغتني هذه الحكاية عن غير نور الدين أيضاً. وحدثني الحاج عمر بن سنقر عتيق شاذ بخت النوري قال: سمعت الطواشي شاذ بخت الخادم يحكى لنا قال: كنت يوما أنا وسنقرجا واقفين على رأس الدين وقد صلى المغرب وجلس وهو يفكر فكراً عظيما، وجعل ينكث بأصبعه في الأرض. فتعجبنا من فكره وقلنا تُرى في أي شيئ يفكر، في عائلته أو في وفاء دينه؟ فكأنه فطن بنا فرفع رأسه وقال: ما تقولان؟ فقلنا: ما قبلنا شيئاً. فقال بحياتي قولا لي. فقلنا عجبنا من إفراط مولانا في الفكر وقلنا يفكر في عائلته أو في نفسه فقال. والله إنني أفكر في وال وليته أمرا من أمور المسلمين فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي وأعواني، وأخاف المطالبة بذلك. فبالله عليكم. وإلا فخبري عليكم حرام لا تريان قصة ترفع إلى أو تعلمان مظلمة إلا وأعلماني بها وارفعاها إلى.

وسمعت قاضي القضاة بهاء الدين أبا المحاسن يوسف بن رافع بن تميم قال: كان نور الدين ينفذ كل سنة في شهر رمضان يطلب من الشيخ عمر الملأ شيئاً يفطر عليه، فكان ينفذ إليه الأكياس فيها الفتيت والرقاق وغير ذلك، فكان نور الدين يفطر عليه. وكان إذا قدم الموصل لا يأكل إلا من طعام الشيخ عمر الملأ. قال: وكان نور الدين لما صارت له الموصل قد أمر كمشتكين شحنة الموصل ألا يعمل شيئاً بالشرع إذا أمره القاضي له.، وألا يعمل القاضي والنواب كلهم شيئاً إلا بأمر الشيخ عمر الملأ. قال: فكان لا يعمل بالسياسة، و بطلت الشحنكية. فجاء أكابر الدولة وقالوا لكمشتكين قد كثر الدعار وأرباب الفساد،ولا يجئ من هذا شيء إلا بالقتل والصلب؛ فلو كتبت إلى نور الدين وقلت له في ذلك فقال لهم أنا لا أكتب إليه في هذا المعنى ولا أجسر على ذلك؛ فقولوا للشيخ عمر يكتب إليه فحضروا عنده وذكروا له ذلك، فكتب إلى نور الدين وقال له: إن الدعار والمفسدين وقطاًع الطريق قد كثروا ويحتاج إلى نوع سياسة، فمثل هذا لا يجئ إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له؟ قال: فقلب نور الدين كتابه وكتب على ظهره: إن الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه فما لنا حاجة إلى زيادة على ما شرعه الله تعالى. قال: فجمع الشيخ عمر الملأ أهل الموصل وأقرأهم الكتاب وقال: انظر وافي كتاب الزاهد إلى الملك وكتاب الملك إلى الزاهد! وسمعت صقر المعدل يقول: سمعت مقلداً - يعني الدولعي - يقول: لما ملت الحافظ المرادي، وكنا جماعة الفقهاء قسمين: العرب والأكراد؛ فمنا من مال إلى المذهب، وأردنا أن يستدعي الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون، وكان بالموصل، ومنا من مال إلى علم النظر والخلاف، وأراد أن يستدعي القطب النيسابوري، وكان قد جاء وزار البيت المقدس ثم عاد إلى بلاد العجم؛ فوقع بيننا كلام بسبب ذلك ووقعت فتنة بين الفقهاء. فسمع نور الدين بذلك فاستدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة بحلب وخرج إليهم مجد الدين - يعني ابن الداية - عن لسانه وقال: نحن ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم ودحض للبدع من هذه البلدة و إظهار الدين، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق. وقد قال المولى نور الدين: نحن نرضى الطائفتين ونستدعي شرف الدين ابن أبى عصرون وقطب الدين النيسابوري. فاستدعاهما جميعاً، وولى مدرسة ابن أبى عصرون لشرف الدين ومدرسة النفرى لقطب الدين قال وعلقت أيضاً من خط ففيه كان معيدا بالنظامية يقال له أبو الفتح بنجه بن أبى الحسن بنجه الأشترى، وكان ورد دمشق وجمع لنور الدين سيرة مختصرة، قال كان نور الدين يقعد في الأسبوع أربعة أيام أو خمسة أيام في دار العدل للنظر في أمور الرعية وكشف الظلامة، لا يطلب بذلك درهما ولا ديناراً ولا زيادة ترجع إلى خزانته، و إنما يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله وطلبا للثواب والزلفى في الآخرة، و يأمر بحضور العلماء والفقهاء، و يأمر بإزالة الحاجب والبواب حتى يصل إليه الضعيف والقوي، والفقير والغني، ويكلمهم بأحسن الكلام، و يستفهم منهم بأبلغ النظام، حتى لا يطمع الغني في دفع الفقير بالمال، ولا القوي في دفع الضعيف بالقال. و يحضر في مجلسه العجوز الضعيفة التي لا تقدر على الوصول إلى خصمها ولا المكالمة معه فيأمر بمساواتها له فتغلب خصمها طمعا في عدله، ويعجز الخصم عن دفعها خوفا من عدله. فيظهر الحق عنده فيجرى الله على لسانه ما هو موافق للشريعة، و يسأل العلماء والفقهاء عما يشكل عليه من الأمور الغامضة فلا يجرى في مجلسه إلا محض الشريعة.

قال: وأما زمانه فهو مصروف إلى مصالح الناس، و النظر في أمور الرعية، والشفقة عليهم. وأما فكره ففي إظهار شعار الإسلام وتأسيس قاعدة الدين من بناء الربط والمساجد حتى إن بلاد الشام كانت خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقرا للعلماء والفقهاء والصوفية، لصرف همته إلى بناء للدارس والربط وترتيب أمورهم، والناس آمنون على أموالهم وأنفسهم. ولو لم يكن من هذه الخصال إلا ما علم منه وشاع أنه إذا وعد وفي، وإذا أوعد عفا؛ وإذا تحدث بشيء يقف عليه ولا يخالف قوله، ولا يرجع عن لفظه ومنطقه، لكفى ولا يجرى في مجلسه الفسق والفجور، والشتم والغيبة، والقدح في الناس والكلام في أعراضهم، كما يجرى في مجالس سائر الملوك؛ ولا يطمع في أخذ أموال الناس، ولا يرضى بأن يأخذ أحد من أموال الشريعة شيئاً بغير حق.
قال: وبلغنا بأخبار التواتر عن جماعة أعتمد على قولهم أنه أكثر الليالي يصلي ويناجي ربه مقبلا بوجهه عليه، و يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها بتمام شرائطها وأركابها، وركوعها وسجودها. قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية الذين يعتمد على أقوالهم ممن دخلوا ديار القدس للزيارة حكاية عن الكفار أنهم يقولون: ابن القسيم له مع الله سر، فإنه ما يظفر علينا بكثرة جنده وعسكره، وإنما يظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل و يرفع يده إلى الله و يدعو، والله سبحانه وتعالى يستجيب دعاًءه ويعطيه سؤله، وما يرد يده خائبة، فيظفر عليناً. قال: فهذا كلام الكفار في حقه قال: وحدثنا الشيخ داود القدسي خادم قبر شعيب، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، قال: حضرت في دار العدل في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين؛ فقام رجل وادعى على نور الدين الملك العادل أن أباه أخذ من ماله شيئاً بغير حق، قال: وأنا مطالب لك بذلك. فقال نور الدين أنا ما أعلم ذلك، فإن كان لك بينة تشهد بذلك فهاتها وأنا أرد إليك ما يخصني، فإني ما ورثت جميع ماله، كان هناك وارث غيري. فمضى الرجل ليحضر البينة فقلت في نفسي هذا هو العدل. قال: وحضر رجل زاهد فيه سمة الخير معروف بالسداد والصلاح، فسألت عنه، فقالوا: أخو الشيخ أبى البيان. وكان قد أودع عند أخيه أبى الببان وديعة، وقد توفي، فادعى المودع على هذا الشيخ أنه يعلم بالوديعة، وطاًلبه. بالرد عليه؛ فأنكر هذا الرجل سلمه بالوديعة؛ فأوجب عليه القاضي كمال الدين حكم الشرع أن يحلف أنه لا علم له بهذه الوديعة، فحلف على ذلك. فجعل المودع يشنع عليه يقول: إنه حلف كاذباً، ويتكلم في عرضه، ويقول في حقه من التنمس وغيره. فحضر عند الملك العادل شاكياً منه وذاكرا سيرته وطريقته، ومن الذي يقدر أن يقول في حق هذا؛ و يتعرض بالتماسه من الملك العادل التقدم بإحضاره والإنكار عليه فيما يقول في حقه. فلما فرغ من الكلام ورمى ما كان في جعبته من دعوى للحقيقة والطريقة، وكان حاصله التماس الإنكار عليه. فقال الملك! العادل أليس أن الله تعالى يقول في كتابه: (وَإِذَا خَاطَبَهُم الَجْاهِلُونَ قالوا سَلاَماً). فإذا كان هو يجهل عليك ويقول في حقك بالجهل مالا يجوز فيجب عليك ألا تعمل معه مثل معاملته فتكون مثله، فكأنك قابلت الإساءة بالإساءة، ومن حقك أن تقابل الإساءة بالإحسان. فقلت في نفسي: الحق ما قال الملك العادل؛ إما قرأ هذا في كتب التفاسير فثبت في قلبه، أو أجراه الله على لسانه وأنطقه به. قال: وحضر جماعة من التجار وشكوا أن القراطيس كان ستون منها بدينار، فصار سبعة وستون بدينار، وتزيد وتنقص، فيخسرون. فسأل الملك العادل عن كيفية الحال فذكروا أن عقد المعاملة على اسم الدينار، ولا يرى الدينار في الوسط، وإنما يعدون القراطيس بالسعر، تارة ستين بدينار، وتارة سبعة وستين بدينار وأشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير الملكية، وتبطل القراطيس بالكلية. فسكت ساعة وقال: إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني خربت بيوت الرعية، فان كل واحد من السوقة عند عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس. " إيش يعمل به " فيكون سيبا لخراب بيته. قال: فأي شفقة تكون أعظم من هذا على الرعية!

قال: وحضر صبي وبكى عند الملك العادل وذكر أن أباه محبوس على أجرة حجرة من حجر الوقف. فسأل عن حاله. فقالوا: هذا الصبي ابن الشيخ أبى سعد الصوفي، وهو رجل زاهد قاعد في حجرة الوقف وليس له قدرة على الأجرة؛ وقد حبسه وكيل الوقف لأنه اجتمع عليه أجرة سنة. قال الملك العادل كم أجرة السنة؟ فقالوا: مائة وخمسون قرطاسا، وذكروا سيرته وطريقته وفقره. فرق له وأنعم عليه وقال: نحن نعطيه كل سنة هذا القدر ليصرفه إلى الأجرة ويقعد فيها. تقدم بذلك وبإخراجه من الحبس، فوصل إلى قلب كل واحد من الحاضرين الفرح حتى كأن الإنعام كان في حقه. أخبرنا افتخار الدين عبد المطلب ابن الفضل بن عبد المطلب الهاشمي قال: كان عند القاضي تاج الدين عبد الغفور بن لقمان الكردي قاضي حلب غلام قد جعله لمجلس الحكم يدعي سويداً يحضر الخصوم إلى مجلس الحكم. فحضر بعض التجار وادعى أن له على نور الدين دعوى. فقال الكردي لسويد المذكور: امض إلى نور الدين وادعه إلى مجلس الحكم وعرفه أنه حضر شخص يطلب حضوره؛ وكان نور الدين في الميدان، فجاء سويد إلى باب الميدان، فخرج إسماعيل الخازندار فوجده، فتقدم سويد إليه وقال: قد سيرني تاج الدين القاضي وذكر أنه حضر تاجر وذكر أن له دعوى على المولى نور الدين؛ وقد أنفذني تاًج الدين وقال لي كذا وكذا. فضحك إسماعيل الخازندار ودخل على نور الدين ضاحكا وقال له مستهزئا: يقوم المولى إلى مجلس الحكم فأنكر نور الدين على إسماعيل استهزاءه وقال: تستهزئ بطلبي إلى مجلس الحكم! وقال نور الدين: يحضر فرسي حتى نركب إليه، السمع والطاعة. قال الله تعالى (إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إذا دُعُوا إلىَ الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا) ثم نهض وركب حتى دخل باب المدينة، فاستدعى سويدا وقال " امض إلى القاضي تاج الذين وسلم عليه وقل له: أني جئت إلى ههنا امتثالا لأمر الشرع، وأحتاج في الحضور الى مجلسه إلى سلوك هذه الأزقة وفيها الأطيان؛ وهذا وكيلي يسمع الدعوى وإن توجهت على يمين أحضر إن شاء الله قال فحضر الوكيل وسمع الدعوى.، وتوجهت اليمين؛ فقال الكردي: قد توجهت الدين فليحضر. فلما بلع نور الدين ذلك وعلم أنه لا مندوحة عن حضور مجلسه لليمين استدعى ذلك التاجر وأصلح الأمر فيما بينه وبينه وأرضاه.

سمعت قاضي القضاة بهاء الدين يقول: حكى السلطان الملك الناصر صلاح الدين قال: أرسلني الملك العادل نور الدين إلى عمي أسد الدين شيركوه، وكان لا يفعل شيئا إلا بمشورته، فقال: امض وقل لأسد الدين قد خطر في بالي أن أبطل هذه الضمانات بأسرها والمؤن والمكوس، وخذ رأيه في ذلك. قال: فجئت إليه وأنهيت إليه ما قال لي. فقال: امض وقل له يا مولانا إذا فعلت ذلك فالأجناد الذين أرزاقهم على هذه الجهات من أين تعطيهم، وتحتاج إليهم للغزاة وخرج العساكر. فقال السلطان صلاح الدين: فقلت لعمي هذا أمر قد ألهمه الله إياه فساعده عليه. فصاح في وقال: امض إليه، وقل له ما أقول لك فعدت إلى نور الدين فأنهيت إليه ما قال لي عمي، فقال امض إليه وقل له إذا كنا نغزو من هذه الجهات نتركها ونقعد ولا تخرج. قال فعدت إلى عمي وقلت له ما قال. فقال قل له: إن تركوك تقعد فجيد هو. فراجعته في ألا يثبط ! في ذلك. فصاح في وقال: امض إليه وقل له ما أقول لك. قال فجئت إليه وقالت له ذلك فترك ذلك مدة ثم أمضى ما كان عزم عليه. قال لي صقر بن يحيى: بلغني أن موفق الدين خالدا رأى في النوم كأن نور الدين دفع إليه ثيابه ليغسلها، فقص منامه على نور الدين، فتمعر وجه نور الدين؛ فخجل موفق الذين وبقى أياما على غاية من الخجل فاستدعاه يوما نور الدين وقال: تعال، قد آن لك أن تغسل ثيابي اقعد واكتب بإطلاق المؤن والمكوس والأعشار واكتب للمسلمين: إنني قد رفعت عنكم مارفعه الله عنكم وأثبت عليكم ما أثبته الله عليكم. قال فكتب موفق الدين توقيعا. سمعت خليفة بن سليمان بن خليفة الفقيه يقول: سمعت أبي يقول لما كسر نور الدين، يعني كسرة البقيعة، تكلم البرهان البلخي فقال: أتريدون أن تنصروا وفي عسكركم الخمور والطبول والزمور! كَلاَّ وكَلا، مَامع هذا. فلما سمعه نور الدين قام ونزع عنه ثيابه تلك، وعاهد الله تعالى على التوبة وشرع في إبطال المكوس، إلى أن خرج في نوبة حارم وكسر الإفرنج. وسمعت صديقنا شمس الدين إسماعيل بن سودكين بن عبد الله النوري، وكان أبوه أحد مماليك نور الدين وعتيقه، يقول: سمعت والدي يقول: كان نور الدين محمود رحمه الله يلبس في الليل مسحا ويقوم يصلى فيه قطعة من الليل. قال: وكان يرفع يديه إلى السماء ويبكى ويتضرع ويقول: ارحم العشار المكاس. قال لي قاضي القضاة بهاء الدين: سير نور الدين إلى بغداد كتاباً يعلم الخليفة بما أطلق وبمقدار ما أطلق، و يسأله أن يتقدم إلى الوعاظ بان يستجعلوا من التجار ومن جميع المسلمين له في حل مما كان قد وصل إليه، يعنى من أموالهم فتقدم بذلك وجعل الوعاظ على المنابر ينادون بذلك. حدثني رضى الدين أبو سالم عبد المنعم بن المنذر أن نور الدين حين خرج لأخذ شيزر خرج أبو غانم بن المنذر صحبته، فأمره نور الدين رحمه الله بكتابة منشور بإطلاق المظالم بحلب ودمشق وحمص وحران وسنجار والرحبة وعزاز وتل باشر وعداد العرب فكتب عنه توقيعا نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقرب به إلى الله تعالى سبحانه صافحا وأطلقه مسامحاً لمن علم ضعفه من الرعايا، رعاهم الله، لضعفهم عن عمارة ما أخربته أيدي الكفار،.أبادهم الله تعالى، عند استيلائهم على البلاد وظهور كلمتهم في العباد، رأفة بالمسلمين المثاغرين، ولطفا بالضعفاء المرابطين، الذين خصهم الله سبحانه بفضيلة الجهاد، واستمحنهم بمجاورة أهل العناد اختبارا لصبرهم، وإعظاما لأجرهم، فصبروا احتسابا، وأجزل لله لهم أجرا وثوابا، إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب؛ وأعاد عليهم ما اغتصبوا عليه من أملاكهم التي أفاء الله عليهم بها من الفتوح العمرية؛ وأقرها في الدولة الإسلامية بعد ما طرأ عليها من الظلمة المتقدمين، واسترجعه بسيفه من الكفرة الملاعين، فطمس عنهم بذلك معالم الجور، وهدم أركان التعدي، وأقر الحق مقره. لقوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثاَلهاَ)، (واللهُ يُضاَعِفُ لُمِنَ يَشَاءُ). ثم لما أعانه الله بعونه وأيده بنصره، وقمع به عادية الكفر، وأظهر بهمته شعائر الإسلام وأظفره بالفئة الطاغية، وأنه من ملوكها الباغية فجعلهم بين قتيل غير مُقاد، وهارب ممنوع الرقاد، (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِين في الأصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنن أو أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسَاب، وَإن لَهُ عِنْدَنا لَزُلفى وَحُسْن

مآب).علم أن الدنيا فانية، فاستخدمها للآخرة الباقية، واستبقى ملكه الزائل بان قدمه أمامه و جعله ذخرا للمعاد، فالتقوى مادة دارة إذا انقطعت المواد، وجاًدة واضحة حين تلتبس الجواد (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). فصفح لكافة المسافرين وجميع المسلمين بالضرائب والمكوس وأسقطها من دواوينه، وحرمها على كل متطاول إليها، ومتهافت عليها، تجنبا لإثمها واكتسابا لثوابها. فكان مبلغ ما سامح به وأطلقه وأنفذ الأمر فيه، اتباعا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في كل سنة من العين مائة ألف وستة وخمسون ألف دينار. جهة ذلك حلب خمسون ألف دينار، عزاز، عن مكس جددته الفرنج، خذلهم الله، على المسافرين، عشرة آلاف دينار، تل باشر واحد وعشرون ألف دينار، المعرة ثلاثة آلاف دينار، دمشق المحروسة، لما استنجد به أهلها واستصرغ من فيها خوفاً على أنفسهم وأموالهم من القشة العدو، وضعفهم عن مقاومة ما كان يؤخذ منهم في كل سنة، وهو رسم يسمونه القشة، عشرون ألف دينار، حمص ستة وعشرون ألف دينار، حران خمسة آلاف دينار، سنجار ألف دينار، الرحبة عبرة آلاف دينار، عداد العرب عشرة آلاف دينار. وما وقفه وتصدق به وأجراه في سبل الخيرات ووجوه البر والصدقات تقدير ثمنه مائتا ألف دينار، وتقدير الحاصل من ارتفاع في كل سنة ثلاثون ألف دينار. من ذلك ما وقفه على المدارس الحنفية والشافية والمالكية والحنبلية وأتمها ومدرسيها وفقهائها، " وما وقفه على آدر الصوفية والربط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار " وما وقفه على السبيل في طريق الحجاز، وما وقفه على فكاك الأسرى و تعليم الأيتام ومقر الغرباء وفقراء المسلمين، وما وقفه على الأشراف العلويين والعباسيين، وما ملكه لجماعة من الأولياء والغزاة والمجاهدين. هذا جميعه سوى ما أنعم به على أهل الثغور حرمها الله تعالى من أملاكهم التي تقدم ذكرها فإنه يضاهي هذا المبلغ وزيادة عليه، جعل ذلك ذريعة عند الله تعالى وتقربا إليه، مضافا إلى ما أنفقه في الغزاة والجهاد، واستئصال شافة المكفر والعناد، من خزانته المعمورة، وأمواله الموروثة المذخورة، طلبا لما عند الله، والله عنده حسن الثواب. فالواجب على كل إمام عادل وسلطان قادر أن يُمِدَّه ويَوَدَّء، و يشد عضده، يقوي عزمه، وينفذ حكمه. وعلى كل مسلم أن يواصله والدعاء، آناء الليل وأطراف النهار. وكتب خادم دولته وغذى نعمته عبد الرحمن بن عبد المنعم بن رضوان بن عبد الواحد بن محمد بن المنذر الحلبي، غفر الله له ورحمه ورضي عنه، إلى كل من يصل إليه من أئمة الدين وفقهاء المسلمين،وأصحاب الزوايا المتعبدين، وكافة. التجار والمسافرين، أحسن لله توفيقهم، وسدد إلى الخير تفويقهم، ليشعروا بذلك من حضرهم من التجار، والمترددين إليهم من الشفار، ليعرفوا قدر ما أنعم الله به عليه وعليهم، (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، ويمدوه بأدعيتهم يبرئوا ذمته مما سبق من أخذ مؤنتهم، فإنه لم يصرف ذلك إلا في وجه بر، وتجهيز جيش، ومعونة مجاهد، وردع كافر ومعاند، فهم شركاؤه في الثواب. قال لي رضى الدين أبو سالم ابن المنذر: فلما وقف نور الدين على قوله: ويبرئوا ذمته مما سبق. استحسن ذلك كثيراً ووعده بإقطاع حسن، واتفق موته بعد ذلك. أن الدنيا فانية، فاستخدمها للآخرة الباقية، واستبقى ملكه الزائل بان قدمه أمامه و جعله ذخرا للمعاد، فالتقوى مادة دارة إذا انقطعت المواد، وجاًدة واضحة حين تلتبس الجواد (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). فصفح لكافة المسافرين وجميع المسلمين بالضرائب والمكوس وأسقطها من دواوينه، وحرمها على كل متطاول إليها، ومتهافت عليها، تجنبا لإثمها واكتسابا لثوابها. فكان مبلغ ما سامح به وأطلقه وأنفذ الأمر فيه، اتباعا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في كل سنة من العين مائة ألف وستة وخمسون ألف دينار. جهة ذلك حلب خمسون ألف دينار، عزاز، عن مكس جددته الفرنج، خذلهم الله، على المسافرين، عشرة آلاف دينار، تل باشر واحد وعشرون ألف دينار، المعرة ثلاثة آلاف دينار، دمشق المحروسة، لما استنجد به أهلها واستصرغ من فيها خوفاً على أنفسهم وأموالهم من القشة العدو، وضعفهم عن مقاومة ما كان يؤخذ منهم في كل سنة، وهو رسم يسمونه القشة، عشرون ألف دينار، حمص ستة وعشرون ألف دينار، حران خمسة آلاف دينار، سنجار ألف دينار، الرحبة عبرة آلاف دينار، عداد العرب عشرة آلاف دينار. وما وقفه وتصدق به وأجراه في سبل الخيرات ووجوه البر والصدقات تقدير ثمنه مائتا ألف دينار، وتقدير الحاصل من ارتفاع في كل سنة ثلاثون ألف دينار. من ذلك ما وقفه على المدارس الحنفية والشافية والمالكية والحنبلية وأتمها ومدرسيها وفقهائها، " وما وقفه على آدر الصوفية والربط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار " وما وقفه على السبيل في طريق الحجاز، وما وقفه على فكاك الأسرى و تعليم الأيتام ومقر الغرباء وفقراء المسلمين، وما وقفه على الأشراف العلويين والعباسيين، وما ملكه لجماعة من الأولياء والغزاة والمجاهدين. هذا جميعه سوى ما أنعم به على أهل الثغور حرمها الله تعالى من أملاكهم التي تقدم ذكرها فإنه يضاهي هذا المبلغ وزيادة عليه، جعل ذلك ذريعة عند الله تعالى وتقربا إليه، مضافا إلى ما أنفقه في الغزاة والجهاد، واستئصال شافة المكفر والعناد، من خزانته المعمورة، وأمواله الموروثة المذخورة، طلبا لما عند الله، والله عنده حسن الثواب. فالواجب على كل إمام عادل وسلطان قادر أن يُمِدَّه ويَوَدَّء، و يشد عضده، يقوي عزمه، وينفذ حكمه. وعلى كل مسلم أن يواصله والدعاء، آناء الليل وأطراف النهار. وكتب خادم دولته وغذى نعمته عبد الرحمن بن عبد المنعم بن رضوان بن عبد الواحد بن محمد بن المنذر الحلبي، غفر الله له ورحمه ورضي عنه، إلى كل من يصل إليه من أئمة الدين وفقهاء المسلمين،وأصحاب الزوايا المتعبدين، وكافة. التجار والمسافرين، أحسن لله توفيقهم، وسدد إلى الخير تفويقهم، ليشعروا بذلك من حضرهم من التجار، والمترددين إليهم من الشفار، ليعرفوا قدر ما أنعم الله به عليه وعليهم، (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، ويمدوه بأدعيتهم يبرئوا ذمته مما سبق من أخذ مؤنتهم، فإنه لم يصرف ذلك إلا في وجه بر، وتجهيز جيش، ومعونة مجاهد، وردع كافر ومعاند، فهم شركاؤه في الثواب. قال لي رضى الدين أبو سالم ابن المنذر: فلما وقف نور الدين على قوله: ويبرئوا ذمته مما سبق. استحسن ذلك كثيراً ووعده بإقطاع حسن، واتفق موته بعد ذلك.

قلت: ونقلت من خط الشيخ الأمين أبى القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الخضر ابن الحسين بن عبدان الأزدى الدمشقي: وقف المولى نور الدين بستان الميدن سوى الغيضة التي من قبليه بعد عمارته و إصلاح ما يحتاج إليه على تطييب المساجد التي يأتي ذكرها، وهي: جامع دمشق المحروسة، جامع قلعة دمشق، مدرسة الحنفية التي جددها نور الدين، مسجد ابن عطية داخل باب الجابية، مسجد ابن لبيد بالفسقار، مسجد سوق الرماحين؛ المسجد المعلق لسوق الصاغة، مسجد دار البطيخ المعلق، مسجد العباسي بسوق الأحد، مسجد جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، جامع الصالحين بجبل قاسيون. يبتاع بذلك طيب وعود ويفرق على هذه الأماكن: النصف للجامع بدمشق والنصف الثاني ينقسم على أحد عشر جزءا، جزء ن للمدرسة وتسعة أجزاء لتسعة المساجد الباقية لكل مسجد جزء واحد؛ تطيب هذه الأماكن في الأوقات الشريفة ومواسم. الاجتماعات وليالي شهر رمضان والأعياد وأيام الجمع وقت عقد الجمعة في الجوامع، وليالي الجمعة والخميس والاثنين. ونقلت من خطه أيضاً أن نور الدين رحمه الله تعالى حضر عنده بقلعة دمشق يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة القاضي زكي الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى القرشي والفقهاء الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون والخطيب عز الدين أبو البركات بن عبد، والإمام عز الدين أبو القاسم على بن الحسن بن الماسح الشافعيون، وشرف الدين أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى المالكي، وشرف الإسلام محمد بن عبد الوهاب الحنبلي ورضى الدين أبو غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد التميمي رئيس دمشق، ونظام الدين أبو الكرام المحسن ابن أبى المضاء متولي الوزارة بدمشق، والأعيان من شهود العدالة بدمشق وهم: عبد الصمد بن تميم، وعبد الواحد بن هلال، والصائن أبو الحسين، وغيرهم. فسألهم نور الدين عن المضاف إلى أوقاف المسجد الجامع بدمشق من المصاغ التي ليست وقفا عليه، وأن يظهر كل واحد منهم ما يعلمه من ذلك ليعمل به ويقع الاعتماد عليه، وقال لهم: ليس يجوز لأحد منك أن يعلم من ذلك شيئا إلا ويذكره، ولا ينكر شيئاً مما يقوله غيره إلا وينكره، والساكت منكم للناطق ومصوب لقوله، وليس العمل إلا على ما تتفقون عليه وتشهدون به؛ وعلى هذا كان الصحابة رضى الله عنهم يجتمعون و يتشاورون في مصالح المسلمين. فكل من الحاضرين شكره على ما قصده وأثنى عليه ودعا له بالبقاء. ثم أمر نور الدين متولي أوقاف الجامع والمساجد والبيمارستان وقني السبيل وما جرى مع ذلك أن يقرأ عليه بمحضر من المذكورين ضريبة الأوقاف موضعا موضعاً ليفرد ما يعلمون أنه للمصالح دون الوقف. فافتح بالسوق المستجد تحت المئذنة الغربية جوار البيمارستان، فقال الصائن وابن تميم وابن هلال: هذا السوق بكماله لمصالح المسلمين وليس من وقف الجامع لأنه احدث في طريق المسلمين، وقد صرف في الجامع من أجوره أوفى مما غرم على عمارته من وقفه. فصدقهم الحاضرون على ما شهدوا به، ومبلغ ذلك خمس وعشرون عضادة. ثم عين للمصالح أيضا ما في زيادة الجامع القبلية وزيادة باب البريد في الصف القبلى والشامي من العضائد والحوانيت والحجر التي طباقها وطباق الطريق بحضرتها وجميع بيوت الخضراء من قبلة الجامع والفرن المستجد بها، ودار الخيل والمساكن والحوانيت المجاورة لدار الخيل، وحانوت في الخواصين في الصف الغربي واثنا عشر حانوتاً متلاصقات في الصنف الشرقي تعرف. بالمعتصميات، ونصف حانوت والفرجة المستجدة بحضرة دار الوكالة إلى سوق على وعدتها ثلاثة عشر حانوت، ومصطبة وثلاثة حوانيت في الصف الشامي من سوق على بلصق الفرجة من شرقها، وحانوت بالفسقار في الصف القبلي يعرف بسكنى ثعلب الفقاعي، وحوانيت اللبادين، و التي بحضرة الفوارة، وتجت اللبادين، وقيسارية العقيقي بسوق الأحد وتعرف بدار الشجرة، وحانوتان في الصف الشرقي بحضرة فندق الزيت من غرب درب التمارين، وخانوت بقنطرة الشماعين في الصف الشامي بحضرة البياطرة، وقطعة جوار المامونية من غربها، والعضائد التي في الصف الشامي من سوق الأحد وهي خمس عشرة عضادة، وستة أسهم من طاحونة السقيفة. وذلك كله ميراث عن بنى أمية كالخضراء ودار الخيل، وبعضه اشترى بمال الوقف والمصالح، وبعضه أخذ من باد أهله الموقوف عليهم ولم يكن له مال وبعضه أحدث في الطريق قال فلما شهدوا بصحة

جميع ما ذكر وأن منافع ذلك وأجوره جارية في المصالح قال نور الدين: إن أهم المصالح سد ثغور المسلمين وبناء السور المحيط بدمشق والخندق لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم: فصوبوا ما أشار إليه وشكروه. ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوز صرفها في عمارة الأسوار وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين فأفتى شرف الدين ابن عبد الوهاب المالكي بجواز ذلك، ومنهم من روى في مهلة النظر، وقال الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون الشافعي لا يجوز أن يصرف وقف مسجد إلى غيره ولا وقف معين إلى جهة غير تلك الجهة، وإذا لم يكن بد من ذلك فليس طريقه إلا أن يقترضه من إليه الأمر في بيت مال المسلمين فيصرفه في المصالح ويكون القضاء واجبا من بيت المال. فوافقه الأئمة الحاضرون معه على ذلك. ثم سال ابن أبى عصرون نور الدين: هل أنفق شيء قبل اليوم على سور دمشق وعلى وبناء الكلام من شام الجامع وعلى إنشاء الوقف المقرنص تحت النسر بالجامع وعلى الرصاص المعمول على سطح الرواق الشامي من الجامع وسائر العمارات المتعلقة بالجامع المعور بغير إذن مولانا وهل كان إلا مبلغا للأمر العالي في عمل ذلك فقال نور الدين: لم ينفق ذلك ولاشيء منه إلا بإذني وأنا أمرت به و بفتح المشهدين من غربي الجامع المعمور اللذين كانا مخزنين، كتب مبلغا عنى ومؤديا بامري.ميع ما ذكر وأن منافع ذلك وأجوره جارية في المصالح قال نور الدين: إن أهم المصالح سد ثغور المسلمين وبناء السور المحيط بدمشق والخندق لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم: فصوبوا ما أشار إليه وشكروه. ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوز صرفها في عمارة الأسوار وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين فأفتى شرف الدين ابن عبد الوهاب المالكي بجواز ذلك، ومنهم من روى في مهلة النظر، وقال الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون الشافعي لا يجوز أن يصرف وقف مسجد إلى غيره ولا وقف معين إلى جهة غير تلك الجهة، وإذا لم يكن بد من ذلك فليس طريقه إلا أن يقترضه من إليه الأمر في بيت مال المسلمين فيصرفه في المصالح ويكون القضاء واجبا من بيت المال. فوافقه الأئمة الحاضرون معه على ذلك. ثم سال ابن أبى عصرون نور الدين: هل أنفق شيء قبل اليوم على سور دمشق وعلى وبناء الكلام من شام الجامع وعلى إنشاء الوقف المقرنص تحت النسر بالجامع وعلى الرصاص المعمول على سطح الرواق الشامي من الجامع وسائر العمارات المتعلقة بالجامع المعور بغير إذن مولانا وهل كان إلا مبلغا للأمر العالي في عمل ذلك فقال نور الدين: لم ينفق ذلك ولاشيء منه إلا بإذني وأنا أمرت به و بفتح المشهدين من غربي الجامع المعمور اللذين كانا مخزنين، كتب مبلغا عنى ومؤديا بامري.
قلت: هذا مختصر الذي كتب فيه صورة ما جرى في ذلك المجلس وهو مشتمل على فوائد حسنة وتأكيد نقل من سيرة هذا الملك في وقوفه مع أوامر الشريعة. وفي ذلك المختصر خطوط الجماعة الحاضرين. وصورة ما كتبه المالكي المفتي: " حضرت المجلس المذكور عمره الله وزينه بالعدل أبداً ما عاش صاحبه، وشهدت على ما تضمنه من المشورة المباركة وما نسب إلى الجماعة الشهادة به من المواضع المشهورة كما نسب إليهم، وقد أخل بذكر دار الحجارة وقد ذكروها في المصالح المشهورة، وما نسب إلى من الفتوى فقد كنت قيدته بالحاجة وفراغ وبيت المال أو ضعفه عن القيام بما يحتاج إليه المسلمون ومهماتهم الدينية كتبه عبد الوهاب بن عيسى بن محمد المالكي.
فصلوقد مدح نور الدين رحمه الله باشعار كثيرة، وأوصافه فوق ما مدح به. وكان في أول دولته شاعرا زمانه أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير، وأبو الحسن أحمد بن منير؛ ولهما فيه أشعار فائقة سيأتي جملة منها في مواضعها. وقد رأيت أن أقدم منها شيئا هنا.

قرأت في ديوان محمد بن نصر القيسراني: كتب إلى نور الدين سلام الله وحنانه، ورأفته وامتنانه، وروحه وريحانه، على من عصم بعزه العواصم، وخصم بحجته الدهر المخاصم وألجم بهيبته العائب والواصم؛. الذي انتضى في سبيل الله سيوف الجهاد، وارتضى بعز سلطانه شعار العُباد والزهاد، واهتدى إلى طاعة الله وليس غير الله من هاد؛ ومن أصبحت أطراف البلاد أوساطا لمملكته، ومعاقل الكفار في عقال ملكته، ومركز الشكر مراكز أعلامه وألويته؛ ومن عادت به ثغور الشام ضاحكة عن ثغور النصر، وممالك الإسلام متوجة بتيجان الفخر، وصعاب الأمور منقادة إليه بأزمة القهر؛ ومن رأى الحكم دراسة فبنى مدارسها، والهمم يابسة فسقى منابتها ومغارسها، والمنابر شامسة فأمكن من صهواتها فوارسها؛ومن عمر ربع السنن بعدها عفا، وأنقذ من الفتن من كان منها على شفا؛ ومن نشر أعلام الفضل، وأنشر بعد الوفاة أيام العدل؛ ومن أنار بوجهه الإيمان، وأخذ الناس به من الزمان توقيع الأمان.
ذو الجهادين من عدوّ ونفس ... فهو طول الحياة و في هيجاء
أيها المالك الذي ألزم النا ... س سلوك المحجة البيضاء
قد فضحت الملوك بالعدل لما ... سرت في الناس سيرة الخلفاء
قاسماً ما ملكت في الناس حتى ... لقسمت التقى على الأتقياء
شيم الصالحين في جتُر التُّر ... ك وكم من سكينة في قباء
أنت حينا تقاس بالأسد الور ... د وحينا تعد في الأولياء
صاغك الله من صميم المعالي ... حيث لا نسب سوى الآلاء
وكأن القباء منك لما ضم من الطهر مسجد لقُباء
أنت إلا تكن نبيا فما فا ... تك إلا خلائق الأنبياء
رأفة في شهامة، وعفاف ... في اقتدار، وسطوة في حياء
وجمال ممنطق بجلال ... وكمال متوج ببهاء
وإذا ما الملوك خافت سهام الذ ... م زرت عليك درع الثناء
عجب الناس منك انك في الحر ... ب شهاب الكتيبة الشهباء
وكأن السيوف من عزمك الما ... ضي أفادت ما عندها من مضاء
ولعمري لو استطاع فداك ال ... قومُ بالأمهات والآباء
وله فيه:
لله عزمك أي سيف وغى ... طبعت مضاربه على القهر
ما زفت الحرب العوان به ... إلا انجلت عن معقل بكر
هل وجه نور الدين غير سنا ... صدع الدجى عن خجله البدر
ملك مهابته طليعته ... أبدا أمام جيوشه تسرى
كم فل كيدهم بصاعقة ... شغلت قلوبهم عن الفكر
تركت حصونهم سجونهم ... فالقوم قبل الأسر في أسر
عصم العواصم فهي ضاحكة ... تجلو الظبي ثغرا على الثغر
وإذا القلاع بمثل جندلها ... حتى استكان الصخر بالصخر
ياسائلي عن نهج سيرته ... هل غيرُ مفرق هَامِه الفجر
وعدلٌ حقيقُ من تأمله ... أن يُحْيِىَ العُمَريْن بالذكر
وشهامة في الله خالصة ... عقدت عليه تمائم الأجر
وندى يد ماضر واردها ... ألا يبيت مجاور البحر
هذا المخيم في ذرا حلب ... وثناؤه أبدا على ظهر
وله وقد وصف داره:
دار تغار الشمس في أفقها ... من حسنها والشمس مغيار
يزأر فيها ضيغم ماله ... غير سيوف الهند أظفار
تمسي وتضحي وهو جارٌ لها ... والله ذو العرش له جار
لسيفه البائر من دهره ال ... جائر ما يهوى ويختار
قد ملأ الأسفار من ذكره ... نشر له في الروض إسفار
حمد يضوع الجوُّ من نَشره ... كأنما راويه عطار
إن خطرت في قلبه خطرة ... أجابها ماض وخطار
وإن دعا داعيه يوم الوغى ... سيوفه لبَّتْه أقدار
كأنما صارمه مرسلُ ... له من التأييد أنصار

يا مالك الدنيا ولكنها دنيا لها في الدين آثار ويا جواداً ما لآلآئه غير قضاء الحمد مضمار وله فيه:
تدرك ملة العربي ذبا ... إلى أن عده منه معد
وحل ذرا العواصم وهي نُهْبى ... فأجلى الشرك حتى ليس ضِدٌّ
ثنى يده عن الدنيا عفافا ... ومال بها عن الأموال زهد
رأى حط المكوس عن الرعايا ... فأهدر قبل ما أنشاه بعد
ومدلها رواق العدل شِرْعا ... وقد طُوِى الرِّواقُ ومن يمد
وبات وعند باب العرش منها ... لدولته دعاء لا يرد
وله فيه:
ملك أشبه الملائك فضلا ... وشبيه بمالك الأمر جندُه
عم إحسانه فأصبح يُتْلى ... شكره في الورى ويُدْرس حمده
فسقى الله ذكره أينما حل ... ولا فاته من النصر رفده
وله:
ضحكت تباشير الصباح كأنها ... قَسَماتُ نور الدين خير الناس
المشترِى العُقبى بأنفس قيمة ... والبائع الدنيا بغير مكاس
وسرى دعاء الخلق يحرس نفسه ... إن الدعاء يعد في الحراس
راض الخطوب الصُّم بعد جماحها ... وألان من قلب الزمان القاسي
وأعاد نور الحق في مشكاته ... وأقام وزن العدل بالقسطاس
واختار مجد الدين سائس ملكه ... فحمى الرياسة منه طود رأسي
فهو الخبير بكل داء معظل ... يأسو جراح زماننا ويواسي
وأذل السلطان النفاق بعزة ... خضعت لها الآساد في الآخياس
وعرته أقران الخطوب فصدها ... ألوى يمارسها أشد مراس
ولوان فيض النيل فائض فضله ... لم تفتقر مصرٌ إلى مقياس
سكنت شعب الدهر بعد تحمط ... وألنت من عِطْفيه بعد شِماس
وفتحت باب الحظ بعد رتاجه ... وأذنت للأطماع بعد الياس
حتى منحت الخلق كل مسرة ... فالناس في عرس من الأعراس
وله:
سام الشام ويالها من صفقة ... لولاء ما عنت على يد سائم
ولشمرت عنها الثغور وأصبحت ... فيها العواصم وهي غير عواصم
تلك التي جمحت على من ارضها ... ودعوت فانقادت بغير شكائم
وإذا سعادتك احتبت في دولة ... قام الزمان لها مقام الخادم
حصِّن بلادك هيبة لا رهبة ... فالدرع من عدد الشجاع الحازم
هيهات يطمع في محلك طامع طال البناء على يمين الهادم
كلفت همتك السُّمُوَّ فحَّلَقت ... فكأنما هي دعوة في ظالم
وأظن أن الناس لما لم يروا ... عدلاً لعدلك أرجفوا بالقائم
وله:
قلت تقول الله لا خائفاً ... مع حكم القرآن حكم القِران
لا رَاقِب النجم ولا سائلا ... ما فعل السعدان والنيران
بل غِرْت للإسلام حتى لقد ... دان له من بالطواغيت دان
رُعْتَ نواميس نواقيسها ... بحلبة الآذان وقت الأذان
تمحو تصاوير الدُّمى عن يد ... تبنى المحاريب خلال المحان
هذا وكم أنشأت من منبر ... فارسه فارس سحر البيان
من مال بالإخلاص ما مِلْتَهُ ... كان من الله مكين المكان
يا شائماً بالشام. صوب الحيا ... ودانيا من كل قاص ودان
هذى سجوف الملك مرفوعة ... عن ملك أخباره كالعيان
أوضح سُبْلَ العدل مفتنة ... فللبرايا بالدعاء افتتان
ألْغَى حمقوقاً كلها باطل ... إلى ضمان حط مال الضمان
عطفا ورفقا بالرعايا وإن ... أصبح تأديب ملوك الزمان
كم بين من نام على نشوة ... وساهد في صهوة من حصان
في كل يوم ينثني سيفه ... ببلدة بكر وأخرى عوان
وقرأت في ديوان أحمد بن منير الطرابلسي من قصائد يمدح بها نور الدين رحمه الله تعالى:

يا محيى العدل ويا مُنْشِرهُ ... من بين أطباق البلى وقد همد
وركن الإسلام الذي وطده ... طال وأرسى العزفيه ووطد
وشارع المعروف إذ لا سفه ... ينجح للقول ولا تسمح يد
محوت ما أثبته الجور مضى ... عليه إخلاد الليالي فخلد
من كل مكاس يظل قاعداً ... لما يسوء المسلمين بالرصد
كانت لأرجاس اليهود دولة ... أزالها منك الهصور ذو اللبد
الملك العادل لفظ طابق ال ... معنى وفي الوصف معاد مسترد
خير النعوت ما جرى الوصف على ... صفحته جرى النسيم في الومد
عدل جنيت اليوم حلو ريعه ... وسوف جنى لك أحلى منه غد
لازال للإسلام منك عدة ... تقيم منه كل زيغ وأود
الناس أنت والملوك شرط ... تعد ليثا ويعدون نقد
مثلك لا يسخوبه زمانه ... ومثل ما أوتبت لم يؤت أحد
وله:
أيا نور دين خبا نوره ... ومذ شاع عدلك فيه اتقد
رآك الصليب صليب القنا ... ة أمين العثارمتين العمد
تهم فتسلبه ما اقتنى ... وتدأى فتشكله ما احتشد
زبنتهم أمس عن صرخد ... ففضوا كان نعاما شرد
ويوم العرُيْمة أقبلتهم ... عراما تثعلب منه الأسد
حبيت مليكهم في الصفاد ... وعفوك عنه أعم الصفد
وقبل أزرتهم في الرها ... موازق مزقن جُرد الجرد
بقيت ترقع خرق الزمان ... قياما لأبنائه إن قعد
نثقف من زيفه ما التوى ... وتصلح من طبعه ما فسد
وله:
أيا ملك الدنيا الحلاحل والذي ... له للأرض دارٌ والبرية أعْبُد
وليست بدعوى لا يقوم دليلها ... ولكنها الحق الذي ليس يُجحد
أخو غزوات كالعقود تناسقت ... تحل بأجياد الجياد وتعقد
لسان بذكر الله يكسو نهاره ... بهاء وحتى في الدجى ليس يرقد
وبذل وعدل أعرقا وتألقا ... فلا الورد مثمود ولا الباب موصد
مرام سمائي وحزم مسدد ... ورأى شهابي وعزم مؤيد
وله:
أبداً تنكب عن ضلال سادرابثقوب زندك أو تدل على هدى
سُدت الكهول من الملوك مراهقا ... وشأوت شِيبَهم البوازل أمردا
إن شيدوا صرحا أناف مناره ... أو أسجدوا للكأس جدد مسجدا
وإذا استهزتهم قلائد معبد ... هزته موعظة فعرف معبدا
قسما لشام الشام منك مهند ... أرضاه مشهورا وراع مقلدا
وتمسك الإسلام منك بعروة ... الله أبرم حبلها فاستصحدا
أشفى فكنت شفاءه من حادث ... غاداه عارض مردى بالردا
كنت الصباح لليله لما دجا ... والغوث كف لظاه حين توقدا
لله يوم أطلعتك به النوى ... يجتاب من مهج الأصافر مسجدا
نشوان غنتك الظبي مفلولة ... وأمال عطفيك الوشيح مقصدا
في معرك ما قام بأسك دونه ... إلا أقام المشركين وأقعدا
ولكم مكر قمت فيه معلماً ... أرضى إلهك والمسيح وأحمدا
يوم العريمة والحطيم وحارم ... وشعاب باسوطا وهاب وصرخدا
لا يعدم الإشراك حدك إنه ... ما سل فيهم حاكما إلا اعتدى
أهمدتهم من بعد ما ملأ وا الملأ ... رجلا فهل كانت سيوفك مرقدا
طلعت نجوم الحق من آفاقها ... وأعاد هاكر العصور كما بدا
وهوى الصليب وحزبه وتبختر ال ... إسلام من بعد التساقف أعيدا
سبق المجلى للخطى فرفع ... نسق بثم وفد رُفعِت بالابتدا
وله:
محمود المربى على أسلافه ... إن زاد في حسب الحسيب تجار
ملك إذا تليت كسد اللطيم وهجّن النوار
ملأ الفرنجة جور سيفك فيهم ... فلهم على سيف المحيط جؤار

يوما يزيرك جوف عِرْقة معلما ... جون له خاف الدروب أوار
ويجر في الأردن فضلة ذيله ... نقع باكناف الأرنط مثار
إما تبيح حريم أنطاكية ... أو يفجأ الداروم منك دمار
عفى جهادك رسم كل مخوفة ... وعفت بصفوة عدلك الأكدار
ومحا المظالم منك نظرة راحم ... لله في خطراته أسرار
غضبان للإسلام مال عموده ... فلنوره مما عراه نوار
وجذمت كل يد تسور على يد ... فأحلت ذاك السور وهو سوار
لم يبق ماكس مسلم سلعا ولا ... ساع لمظلمة ولا عشار
همدوا كما همدت ثمود، وقادهم ... لخسارهم مما أتوه قدار
العارفي الدنيما شقوا بلباسه ... ولباسهم يوم الحساب النار
كم سيرة أحييتا عمرية ... رُفعت لها في الخافقين منار
ونوافل صيرتهن لوازما ... بأقلها تستعبد الأحرار
لازلت تقفو الصالحين مسابقاً ... لهم وتطلع خلفك الأبرار
نفس السيادة زهد مثلك في الذي ... فيه تفانت يعرب ونزار
ومتى أدعى ما تدعيه محكم ... أوهى مَعاقِد دِينِه دينار
لله ما ظفرت به منك المنى ... وتكنفت من ركنك الأستار
وسق الغمام ؤى أييك فإنه ... أزكى ثرى قطرت عليه قطار
وشهدت نضارة عودك الغض الجنا ... أن الذي استخلصت منه نضار
أما نهارك فهو لَيْلُ مجاهد ... والليل من طول القيام نهار
فلذلك النصر العزيز أدلة ... كيف اتجهت وللفتوح أمار
وله أيضم فيه رحمه الله تع إلى:
رأينا الملوك وقد ساجلوك ... تنموا منونا وغروا غرورا
أبى لك أن يدركوها أب ... يزير فينسى الأسود الزئيرا
وجد إذا جد يوم الرها ... ن أبقى لتاليه جدا عثورا
تصب عصاك على من عصا ... ك يوما عبوسا بها قمطريرا
لقد ألبس الشام هذا الإباء ... لبوسا من الأمن لينا وثيرا
تداركت أرماقه والقلوب ... توافر أن يستجن الصدور
أقمت جثاثا وكانت جثا ... وشدت قصورا وكانت قبورا
وكم لك من غضبة للهوى ... تميت الهوى وتجب الذكورا
إذا قَطَبَ البأسُ كانت ردى ... وإن ضحك العفو عادت نشورا
كملت فوْفيت عين الكمال ... تبيد السنين وتفنى العصورا
وجادَ لنا بكَ رَبٌّ برا ... ك للكفر نارا وللدين نورا
إذا ما خدمت فمولى كريما ... وإما عبدت فعبدا شكورا
أمام المحاريب برا حصورا ... وتحت الحروب هزيرا هصورا
تبارك من شاد هذى الخلا ... ل قى ظُلَّة الملك طودا وقورا
وألف في مَعْقِد التاج منك ... سطوا سعيرا وعفوا نميرا
وله:
عقل الحق ألسن المدعينا ... أنت خير الملوك دنيا ودينا
وأسدُّ الأنام قولا وأفعا ... لا ونفسا ونية ويقينا
أنت أسناهم أبا وإباء ... وامرأ حيا وأمرع حينا
بسط الرزق في البسيطة كفا ... ك فكلتا يديك تُلفى يمينا
فيد تحسم النوائب عنا ... ويد تقسم الرغائب فينا
أيها البحر لو تساجلك الأب ... حر عامت في ساحليك سفينا
ولكان المحيط منها محاطا ... مثل نون الهجاء أو خِيلَ نونا
مشرعا مترعا ومنا مهنا ... ورباعا فيحا وكفا لبونا
ومحيا طلقًا ومالاً طليقًا ... وابتهاجاً قصداً وحبلاً متيناً.
بين ذب بميت،عادية الشر ... ك وهب يحيا به المسلمونا
تتبدى من الفتوح ألوفا ... أنت أعلى من أن تعد المئينا

كلما احتزت ثوب نصرعزيز ... من مرام أقبلت فتحا مبينا
صرف الله عنك صرف زمان ... أنت علمت صرفه أن يهونا
يابن من طبق البسيطة آثا ... را وعك المنا بذيه الأجُونا
وغدت حصنه على سرح هذا الد ... ين من شكة الأعادى حصونا
كم تعالى صهيلها في ربا الشا ... م فأعلى خلف الخليج الرنينا
كان صنو الرشيد أبقاك للحك ... مة والبأس بعده المأمونا
سمع الله فيك دعوة سكن ... أوطنوا من حماك حصنا حصينا
عَرَقتهم مدى الخطوب فأحيي ... ت رفاتا من التراب دفينا
ألبسوا عدلك المدبج فاختا ... لوا بنات في وشيه وبنينا
سهرت عنيك الكَلٌوء وناموا ... تحت أكناف رعيها آمنينا
قلت: فهذا أنموذج من أشعار هذين الفحلين فيه، مع أنهما ماتا في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، قبل أن يفتج نور الدين دمشق؛ وبقى نور الدين حيا بعدهما إحدى وعشرين سنة يترقى كل عام في ازدياد، من جهاد واجنهاد؛ ولو كانا أدركا ذلك لأتبا فى وصفه بعجائب مع أنه قد تولى ذلك غيرهما ممن لم يبلغ شأوهما.
ولأبى المجد المسلم بن الخضر بن قسيم الحموي من قصيدة فيه:
تبدو الشجاعة من طلاقة وجهه ... كالرمح دل على القساوة لينه
و وراء يقظته أناة مجرب ... لله سطوة بأسه وسكونه
هذا الذي في الله صح جهاده ... هذا الذي بالله صح يقينه
هذا الذي بخل الزمان بمثله ... والمشمخز إلى العلا عرنينه
ملك الورى ملكٌ أغَرُّ متوج ... لا غدره يُخشى ولا تلوينه
إن حل فالشرف التليد أنيسه ... أوسار فالظفر الطريف قريشه
فالدهر خاذل من أراد عناده ... أبدا وجبار السماء معينه
والدين يشهد إنه لَمُعِزُّةُ ... والشرك يعسلم أنه لمهينه
ما زال يقسم أن يبدد شمله ... والله يكره أن تمين يمينه
فتح الرها بالأمس فانفتحت له ... أبواب ملك لايزال مصونه
وممادح نور الدين كثيرة رحمه الله تعالى. وذكر الحافظ أبر القاسم أنه كان قليل الابتهاج بالشعر. ومات حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بقلعة دمشق، ثم نقل إلى قبته بمدرسته جوار الخواصين. قلت وقد جرب استجابة الدطء عند قبره.
وهذا ذكر طرف من مناقبه جملة، ونحن بعد ذلك نأتي بأخباره وأخبار سلفه مفصلة مرتبة وما جرى في زمانهم على سبيل الاختصار إن شاء الله تعالى.
فصلأصل البيت الأتابكي هو قسيم الدولة آق سنقر جد نور الدين، رحمه الله، فنذكره وماتم في أيامه، ثم نذكر ولده زنكي وما تم في أيامه، ثم نذكر ولده محمود بن زنكي، ثم نذكر ما بعده وهى الدولة الصلاحية الأيوبية وما تم في أيامها فنقول:

كان آق سنقر تركيا من أصحاب السلطان ركن الدين ملكشاه بن ألب أرسلان، وهو عم دُقاق بن تُتُش ألب أرسلان الذي كان سلطان دمشق، وقبره بقبة الطواويس بها، بنته والمشهد والدته. وكان السلطان ملكشاه من جملة الملوك السلجوقية المتغلبين على للبلاد بعد بنى بويه بالعراق؛ فكان قسيم الدولة من أصحابه وأترابه وممن ربى معه في صغره، واستمر في صحبته إلى حين كبره. فلما أفغت السلطنة إليه بعد أبيه جعله من أعيان أمرائه وأخص أوليائه، واعتمد عليه في مهماته، وزاد قدره علوا إلى أن صار يتقيه مثل نظام الملك الوزير مع تحكمه على السلطان وتمكنه من المملكة. فأشار نظام الملك على السلطان أن يولى آق سنقر مدينة حلب وأعمالها، وأراد بذلك أن يبعده عن خدمة السلطان ويتخذ عنده بذلك يدا. قال ابن الأثير: من الدليل على علو مرتبته تلقبه قسيم الدولة، وكانت الألقلب حينئد مصونة لا تعطي إلا لمستحقها. وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائه سير للسلطان ملكشاه الوزير فخر الدولة ابن جهر وزير الخليفة إلى ديار بكر لتملكها، وسير عميد الدولة ابن فخر الدولة ابن جهير وكان زوج ابنة نظام الملك إلى الموصل، وسير معه جيشاً عظيما وجعل القدم على الجيش قسيم الدولة آق سنقر. فساروا نحو الموصل، ولقيهم في الطريق الأمير أرتق التركماني، جد ملوك الحصن وماردين، فاستصحبوه معهم، فحصروا الموصل وصالحوا من بها وتسلموها، وسار صاحبها إلى السلطان فردها عليه، وكانت حينئذ لأحد أمراء بني عقيل، وهو شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي. وكان ملكة من السندية بالعراق على نهر عيسى إلى منبج وما بينهما من البلاد الفراتية كهيت والأنبار وغيرهما، وملك الموصل وديار بكر والجزيرة بأسرها، وملك مدينة حلب؛ وكان عادلا ح سن السيرة عظيم السياسة. واتفق أن وقع بينه وبين صاحب أنطاكية خلاف، وذلك أن أنطاكية كان الروم قد استولوا عليها سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ولم يزالوا بها إلى هذه السنة، ففتحها سليمان بن قتلمشى وه و جد الملك غياث الدين كيخسرو صاحب قونية وغيرها. وكان لشرف الدولة صاحب حلى على صاحب أنطاكية الرومي جزية يأخذها كل سنة، فانقطعت عنه بسبب أخذ سليمان البلد. فأرسل شرف الدولة يطلب منه ما كان يأخذه من الروم و يهدده. فقال: أنا في طاعتك، وهذا الفتح بسعادتك والخطبة والسكة لك، ولست بكافر حتى أعطيك ما كنت تأخذه من الروم. فلج شرف الدولة فى طلب المال، فالتقيا وقتل شرف الدولة وانهزم عسكره، وسار سليمان إلى حلب فحصرها، وسار إليها من دمشق تاتج الدولة تش بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه. فالتقى عسكر تتش وسليمان فقتل سليمان وانهزم عسكره، وملك تتش مدينة حلب دون القلعة. فأرسل أهل القلعة إلى ملكشاه ليسلموها إليه، وهو يومئذ بالرها. وكان سبب مسيره إليها أن ابن عطية النميري كان قد باعها من الروم بعشرين ألف دينار وسلمها، فدخلوها وأخربوا المساجد وأجلوا المسلمين عنها. فسار ملكشاه إليها في هذه السنة فحصرها وفتحها وأقطعها اللأمير بزان. فلما أتاه رسل قلعة حلب با لتسليم سار إليهم. فلما بلغ مسيره إلى أخيه تاج الدولة لم رحل عن حلب إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حلب و بالقلعة سالم بن بدران القيلي، وهو ابن عم شرف الدولة، فسلمها إلى السلطان بعد قتال، وأعطاه السلطان عوضاً عنها قلعة جعبر، وكان قد ملكها في هذه السفرة من صاحبها جعبر النميرى، وكان شيخاً كبيراً أعمى. فبقيت بيد سالم وأولاده إلى أن أخذها منهم الملك العادل نور الدين كما يأتي.
فلما ملك السلطان حلب أرسل إليه الأمير نصر بن علي بن المقلد بن منقذ الكناني صاحب شيزر ودخل في طاعته وسلم إليه اللاذقية، وفامية، وكفر طلب.

ثم إن نظام الملك أشار على السلطان. بتسلهيم حلب وأعمالها وحماة ومنبج واللاذقية وما معها إلى قسيم الدولة آق سنقر، فأقطعه الجميع؛ وبقيت في يده لمد أن قتل سنة سبع وثمانين وأربعمائة كما سيأتي. وأقطع السلطان مدينة أنطاكية للأمير ياغي سيان. ولما استقر قسيم الدولة في الشام ظهرت كفايته وحمايته وهيبته في جميع بلاده. ثم إن السلطان، استدعاه إلى العراق فقدم إليه في تجمل عظيم لم يكن في عسكر السلطان من يقاربه، فاستحسن ذلك منه، وعظم محله عنده؛ ثم أمره بالعود إلى حلب فعاد إليها. فلما مات السلطان ملكشاه سير قسيم الدولة جيشا إلى تكريت فملكها. وفي سنة إحدى وثمانين قصد قسيم الدولة شيسز فهبها وعاد إلى حلب. وفي سنة ثلاث وثمانين اجتمع قسميم الدولة وبزان وحصروا مدينة حمص فملكوها ومضى ابن ملاعب إلى مصر. وفي سنة أربع وثمانين ملك قسيم الدولة حصن فامية من الشام وملك الرحبة.
فصلوفي عاشر رمضان سنة خمس وثمانين قتل الوزير نظام الملك أبوعلي الحسن بن علي ابن اسحق، قتله صبي ديلمي بعد الإفطار وقد تفرق عن طعامه الفقهاء والأمراء والفقراء وغيرهم من أصناف الناس؛ وحمل في محفة لنقرس كان به إلى خيمة الحرم فلقيه صبي ديلمي مسغيثا به فقربه منه ليسمع شكواه فقتله، وقُيل الصبي أيضاً. فعدمت الدنيا واحدها الذي لم تر مثله. وكان تلك الليلة قد حكى له بعض الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كانه أتاه وأخذه من محفته فتبعه؛ فاستبشر نظام الملك بذلك وأظهر السرور به وقال: هذا أبغي و إياه أطلب. و بلغ من الدنيا مبلغاً عظيا لم ينله غيره. وكان عالما فقيهاً دينياً خيراً متواضعا عادلا، يحب أهل الدين ويكرمهم و يجزل صلاتهم. وكان أقرب الناس منه وأحبهم إليه العلماء؛ وكان يناظرهم في المحافل ويبحث عن غوامض المسائل لأنه اشتغل بالفقه في حال حداثته مدة. وأما صدقاته ووقوفه فلا حد، عليها، ومدارسه في العلم مشهورة لم يخل بلد منها، حتى جزيرة ابن عمر التي هي في زاوية من الأرض لا يؤبه له بنى فيها مدرسة كبيرة حسنة، وهي التي تعرف الآن بمدرسة رضى الدين. واعماله الحسنة وصنائعه الجميلة مذكورة في التواريخ، لم يسبقه من كان قبله، ولا أدركه. من كان بعده. وكان من جملة عباداته أنه لم يحدث إلا توضأ ولا توضأ إلا صلى. وكان يقرأ القرآن حفظا ويحافظ على أوقات الصلوات محافظة لا يتقدمه، فيها المتفرغون للعبادة، حتى إنه كان إذا غفل المؤذن أمره بالأذان؛ وإذا سمع الأذان أمسك عن كل ما هو فيه واشتغل بجإبته ثم بالصلاة. وكان قد وزر للسلطان عضد الدولة ألب أرسلان والدملكشاه قبل أن يلي السلطنة، في حياة عمه السلطان طغرلبك أول الملوك السلجوقية ببغداد. فلما توفى طغرلبك سعى نظام الملك في أخذ السلطنة لصاحبه ألب أرسلان، وقام المقام الذي تعجز عنه الجيوش الكثيرة، واستقرت السلطاة له. و بقى معه إلى أن توفى، ثم وزر بعده لولده السلطان ملكشاه إلى أن قتل. وكان قد تحكم عليه إلى حد لا يقدر السلطان على خلافه لكثرة مماليكة ومحبة العساكر له والأمراء، وميل العامة والخاصة إليه لحسن سيرته وعدله. هذا كلام أبى ابن الأثير.
وقرأت في كتاب المعارف المتأخرة ويسمى عنوان السير لمحمد بن عبد الملك ابن إبراهيم الهمداني قال: وزر نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن اسحق الطوسي السلطان ألب أرسلان وولده السلطان ملكشاه أربعاً وثلاثين سنة، وقتل بالقرب من نهاوند وعمره ست وسبعون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما؛ اغتاله أحد الباطنية وقد فرغ من فطوره. قال: وقيل إن السلطان ملكشاه ولف عليه من قتله لانه سئم طول عمره. ومات بعده بشهر وخمسة أيام. وقد تقدم نظام الملك في الدنيا التقدم العظيم، وأفضل على الخلق الإفضال الكريم، وعم الناس بعروفه، وبنى المدارس لأصحاب الشافعي " رضي الله عنه " ووقف عليهم الوقوف، وزاد في الحلم والدين على من تقدمه من الوزراء، ولم يبلغ أحد منهم منزلته في جميع أموره. وعبر جيحون فوقع على العامل بأنطاكية بما يصرف إلى الملاحين، وملك من الغلمان الأثراك ألوفا؛ وكان جمهور العساكر وشجعانهم وفتاكهم من مماليكه.

قلت: وأنشد أبو سعد السمعاني في ذيل تاريخ بغداد وقال: أنشدني عمي الإمام أبو القاسم أحمد بن منصور السمعاني غير مرة من لفظه للأمير شبل الدولة، يعني مقاتل ابن عطية بن مقاتل التكريتى:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... ثمينة صاغها. الرحمن من شرف
عزّت ولم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها غيرة منه إلى الصَّدب
فصلعاش السلطان ملكشاه بعد نظام الملك خمسة وثلاثين يوما، ومات في منتصف شوال سنة خمس وثمانين وعمره ثمانية وثلاثون عاما ونصف عام. وكانت مماكته قد اتسعت اتساعا عظيما وخطب له من حدود الصين إلى الداروم من أرض الشام، وأطاعه اليمن والحجاز. وكان يأخذ الخراج من ملك القسطنطينية، وأطاعه صاحب طراز واسبيجاب وكاشغر وبلاسغون وغيرها من الممالك البعيدة، وملك سمرقند وجميع ما وراء النهر. ثم ان صاحب كاشغر عصى عليه فسار السلطان إليه، فلما قارب كاشعر هرب. صاحبها منه فسار في طلبه، ولم يزل حتى ظفر به وأحسن إليه واستصحبه معه إلى أصفهان وعمل السلطان من الخيرات وأبواب البر كثيراً، منها ما اصلحه وعمله من المصانع بطريق مكة وحفره من الابار، و بنى مدرسة عند قبر الإمام أبس حنيفة رحمة الله عليه، وبن الجامع الذي بظاهر بغداد عند دار السلطنة. وهو الذي بنى منارة القرون في طرف البر مما يلي الكوفة بمكان يعرف، بالسبعي وبنى مثلها بسمرقند أيضاً. قيل إنه خرج سنة من الكوفة لتوديع الحجيج، فجاوز العذيب و بلبغ السبعية بقرب الواقصة، وبنى هناك منارة أنزل في أثنائها قرون الظبي وحوافر الحمر الوحشية التي اصطادها في طريقه.
وبعد موته تنازع ابناه بكياروق ومحمد ودامت الحروب بينهما نحو ثنتي عشرة سنة إلى أن توفى بكياروق واستقرت السلطنة لمحمد. وفي مدة تلك الحروب ظهرت الفرنج بالساحل وملكوا أنطاكية أولا ثم غيرها من البلاد. وكان السلطان قد أقطع أخاه تتش تاج الدولة مدينة دمشق وأعمالها وما جاورها كطبرية والبيت المقدس، فلما توفى ملكشاه طمع تاج الدولة في السلطنة، فسار إلى حلب، و بها قسيم الدولة، فصالحه، وراسل بوزان صاحب حران وياغي سيان صاحب أنطاكية فسارا معه نحو الرحبة ونصيبين فأخذهما. وراسل صاحب الموصل إبراهيم بن قريش بن بدران يأمره بالخطبة له وان يعطيه طريقاً إلى بغداد فامتنع، فالتقيا، فهزم صاحب الموصل وقتل وأخذت بلاده. وسار إلى ميافارقين فملكها وسائر ديار بكر. ثم سار إلى أذربيجان فالتقى هو وابن أخيه بكياروق بن ملكشا، فانتقل قسيم الدولة و بوزان إلى بكياروق، فرجع تاج الدولة إلى الشام ورجعا إلى بلاد، بأمر بكياروق ليمنعا تاج الدولة عن البلاد إن قصدها. فجمع تاج الدولة العساكر وسار عن دمشق نحو حلب، فاجتمع قسيم الدولة وبوزان وأمدهما السلطان ركن الدين بكياروق بالأمير كربوفا، وهو الذي سار فيما بعد صاحب الموصل، فالتقوا بالقرب من تل السلطان، وبينه وبين حلب نحو من ستة فراسخ؛ فانهزم جيش قسيم الدولة وأخذ أسيرا، فقتله تاج الدولة صبراً. ودخل بوزان وكربوقا حلب، فحصرهما تاج الدولة حتى فتحها وأخذها أسيرين. وأرسل إلى حران والرها، وكانا لبوزان، فامتنع من بهما من التسليم؛ فقتل بوزان وأنفذ رأسه وتسلم البلدين. وأما كربوقا فإنه سجنه بحمص، فلم يزل إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تاج الدولة.
قال ابن الأثير: وكان قسيم الدولة أحسن الناس سياسة لرعيته وحفظالهم. وكانت بلاده بين. عدل عام ورخص شامل وأمن واسع. وكان قد شرط على أهل كل قرية في بلاده متى أخذ عند أحدهم ققل أو أحد من الناس غرم أهلها جميع مايؤخذ من الأموال من قليل وكثير. فكانت السيارة إذا بلغت قرية من بلاده ألقوا رحالهم وناموا آمنين وقام أهل القرية يحرسونهم إلى أن يرحلوا. فأمنت الطرق وتحدث الركبان بحسن سيرته.
وفي المحرم من سنة خمس وثمانين وأربعمائه توفى الخليفة المقتدي بأمر الله فجأة. وهو أبو القاسم عبد الله ابن الأمير محمد ابن القائم بأمر الله، وعمره تسع وثلاثون سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام. وكانت خلاقته تسع عشرة سنة وخمسة أشهر، وأمه تركية. و بويع من بعده ولده المستظهر بالله أبو العباس أحمد. ويلقب محمد ابن القائم والد المقتدي بالله الذخيرة، مات في حياة أبيه فلم يل الخلافة.
ذكر أخبار زنكي

والد نورالدين رحمهما الله تع إلى على طريق الاختصار في فصول إلى حين وفاته. ثم نذكر أخبار نور الدين على ترتيب السنين.
لما قتل قسيم الدولة آق سنقر لم يخلف من الأولاد غير واحد هو عماد الدين زنكي والد نور الدين؛ وكان حينئذ صبياً له من العمر نحو عشر سنين؛ فاجتمع عليه مماليك والده وأصحابه، وفيهم زين الدين علي، وهو صبي أيضاً. ثم إن الأمير كربوقا خلص من السجن بعد قتل تاح الدولة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وتوجه إلى حران وقد اجتمع معه عسكر صالح فملكها. ثم سار إلى نصيبين فملكها، ثم إلى الموصل فملكها وزال عنها علي ابن شرف الدولة العقلي، وسار نحو ماردين فملكها، وعظم شأنه وهو في طاعة ركن الدولة بكياروق. فلما ملك البلاد أحضر مماليك قسيم الدولة آق سنقر وأمرهم بإحضار عماد الدين زنكي وقال: هو ابن أخي وأنا أولى الناس بتربيته. فأحضروه عنده فأقطعهم الإقطاعات السنية، وجمعهم على عماد الدين زنكي، واستعان بهم في حروبه؛ وكانوا من الشجاعة في أعلى درجاتها. فلم يزالوا معه فتوجه بهم إلى آمد، وصاحبها من أمراء التركمان، فاستنجد بمعين الدين سقمان بن أرتق جد صاحب الحصن، فكسرهم قوام الدولة كربوقا. وهو أول مصاف حضره زنكي بعد قتل والده. ولم يزل كربوقا إلى أن توفى سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وملك بعده موسى التركماني فلم تطل مدته وقتل. وملك الموصل شمس الدولة جكرمش، وهو أيضاً من مماليك السلطان ملكشاه، فأخذ زنكي وقربه وأحبه واتخذه ولدا لمعرفته بمكانة والده، فبقى معه إلى أن قتل سنة خمسمائة. فلا جرم أن زنكي رعى هذا لجكرمش لما ملك الموصل وغيرها من البلاد، فإنه أخذ ولده ناصر الدين كورى فأكرمه وقدمه وأقطعه إقطاعا كبيراً، وجعل منزلته أعلى المنازل عنده، واتخذه صهراً. ثم ملك الموصل بعد جكرمش جاولى سقاوه فاتصل به عماد الدين زنكي وقد كبر وظهرت عليه أمارات السعادة والشهامة، ولم يزل معه حتى عصى على السلطان محمد. وكان جعاولى قد عبر إلى الشام ليملكه من الملك فخر الملك رضوان، فأرسل السلطان إلى الموصل الأمير مودودا وإقطعه إياها سنة اثنتين وخمسمائة. فلما اتصل الخبر. بجاولى فارقه زنكي وغيره من الأمراء. فلما استقر مودود بالموصل واتصل به زنكي أكرمه وشهد معه حروبه؛ فسار موعود إلى الغزاة بالشام، ففتح في طريقه قلاعا لهم منها شبخنان كانت للفرنج وقتل من كان بها منهم. ثم سار إلى الرها فحصرها، ولم يفتحها، فرحل وعبر الفرات، فحصر تل باشر خمسة وأربعين يوما؛ ثم سار إلى معرة النعمان فحصرها، ثم حضر عنده أتابك طغتكين صاحب دمشق فسفارا إلى طبرية وحاصراها وقاتلاها، قتالا شديداً، وظهر من أتابك زنكي شجاعة لم يسمع بمثلها. منها أنه كان. في نفر وقد خرج الفرنج من البلد، فحمل عليهم هو ومن معه، وهو يظن أنهم يتبعونه، فتخلفوا عنه وتقدم وحده وقد انهزم من بظاهر البلد من الفرنج فدخلوا البلد ووصل رمحه إلى الباب فأثر فيه وقاتلهم عليه، و بقى ينتظر وصول من كان معه، فحيث لم ير أحدا حمى نفسه وعاد سالما؛ كافعب لناس من إقدامه أولا ومن سلامته آخرا. ثم التقى. الجمعان فهزم الفرنج، لعنهم الله، ووصلوا إلى مضيق دون طبرية فاحتموا به، وجاءتهم نجدة فأذن الأمير مودود العسكر في الرجوع إلى بلادهم والاجتماع إليه في الربيع. فلما تفرقوا دخل دمشق وأقام بها. فخرج يوما يصلي الجمعة؛ فلما صلاها وخرج إلى صحن الجامع ويده بيد طغتكين وثب عليه إنسان فضربه بسكين معه فجره أربع جراحات، وكان صائما، فحمل إلى دار طغتكين واجتهد به ليفطر فلم يفعل وقال: لا لقيت الله إلا صائما، فإننى ميت لا محالة سواء افطرت أو صمت. وتوفى في بقية يومه رحمه الله؛ فقيل إن الباطنية بالشام خافوه فقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من يقتله. وكان خيراً عادلا كل حسن السيرة. قال ابن الأثير: فحدثنى والدي رحمه الله قال: كتب ملك الفرنج إلى طغتكين: إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها.

فلما قتل الأمير مودود أقطع السلطان البلاد، الموصل وغيرها، للأمير جيوش بك وسير معه ولده الملك مسعود إلى الموصل. ثم إنه جهز آق سنقر البرسقي في العساكر وسيره إلى قتال الفرنج، وكتب إلى عساكر الموصل وغيرها يأمرهم بالمسير معه فساروا، وفيهم عماد الدين زنكي، وكان يعرف في عساكر العجم بزنكي الشامي. فسار البرسقي إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس، فحصرها وقاتل من بها من الفرنج والأرمن، وضاقت الميرة عن العسكر فرحل إلى سميساط، وهي أيضاً للفرنج، فأخرب بلدها و بلد سروج وعاد إلى شبختان فأخرب ما فيه للفرنج. وأببلى زنكي في هذه المواقف كلها بلاء حسنا؛ ثم عادت العساكر تتحدث بما فعله، وعاد البرسقي إلى بغداد، وأقام زنكي بالموصل مع الملك مسعود والأمير جيوش بك إلى سنة اربع وعشرين وخمسمائة، وقد علا قدره وظهر اسمه.
فصلوفي سنة إحدى عشرة وخمسمائة ولد الولك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى. وفيها غرقت سنجار من سيل المطر وهلك منها خلق كثير. ومن أعجب مايحكى أن السيل حمل مهداً فيه طفل فعلق المهد في شجرة ونقص الماء فسلم ذلك الطفل وغرق غيره من الماهرين بالسباحة. وفيها أيضا زلزلت إربل وغيرها من البلاد المجاورة لها زلزلة عظيمة. وفيها في الرابع والعشرين من ذى الحجة توفى السلطان غياث الدين محمد ابن ملكشاه وعمره سبع وثلاثون سنة وأربعة أشهر وستة أيام. وأول ما خطب له ببغداد في ذى الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقطعت خطبته عدة مرار، ولقى من المشاق والأخطار ما لم يلقه أحد إلى أن توفى أخوه يكياروق، فحينئذ صفت له السلطنة واستقرت له، ودانت البلاد وأصحاب الأطراف لطاعته. وكان اجتماع الناس عليه بعد موت أخيه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر. وكان عادلا حسن السيرة شجاعا، وأطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد. ومن عدله أنه اشترى عدة مماليك من بعض التجار وأمر أن يوفى الثمن من عامل خوزستان، فأوصل إليه البعض ومطل بالباقي. فحضر التاجر مجلس الحكم وأخذ غلام الحاكم ووقف بطريق السلطان واستغاث إليه، فأمر من يستعلم عن حاله، فعاد الحاجب وأعلم السلطان حاله، فَعَظُم عليه وضاق صدره وأمر في الحال أن يحضر عامل خوزستان ويلزم بمال التاجر. ثم إنه ندم على تأخره عن مجلس الحكم. وكان يقول كثيراً: لقد ندمت على تركي حضور مجلس الحكم ولو فعلته لا قتدى بي غيري ولم بمتنع أحد عن أداء الحق. قال ابن الأثير: وهذه الفضيلة ذخرها الله تعالى لهذا البيت الأتابكى، فإن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فعل ما ندم السلطان محمد على تركه. وقد تقدم ذلك. لما علم الأمراء وغيرهم من خلق السلطان محبة العدل وأداء الحق وكراهية الظلم ومعاقبة من يفعله اقتدوا به فأمن الناس وظهر العدل.
وولى بعد السلطان محمد ولده محمود، وعمر يومئذ أربع عشرة سنة، فقام بالسلطنة وجرى بينه وبين عمه سنجر حرب انهزم فيها محمود وعاد إلى عمه بغير عهد فأكرمه وأقطعه من البلاد من حد خراسان إلى الداروم بأقصى الشام. وهي من الممالك هدان وأصبهان و بلد الجبال جميعه و بلاد فارس وكرمان وخوزستان والعراق وآذربيجان وأرمينية وديار بكر وبلاد الموصل والجزيرة وديار مضر وديار ربيعة والشام وبلد الروم الذي بيد قليج أرسلان وما بين هذه المالك من البلاد. قال ابن الأثير: ورأيت منشوره بذلك.

وفي سادس عشر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة توفى الإمام المستظهربالله أمير المؤمنين ابو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله. وكان عمره إحدى واربعين سنة وستة أشهر وستة أيام، وخلافته أربع وعشرون سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما، ومضى في أيامه ثلاث سلاطين خطب لهم ببغداد من الساجوقية، وهم أخو ملكشاه تاج الدولة تتش، وركن الدولة بكياروق بن ملكشاه وأخوه غياث الدين محمد بن ملكشاه. وكان المستظهر رحمه الله كريم الأخلاق، لين الجانب، مشكور المساعي، يحب العلم والعلماء؛ وصنفت له التصانيف الكثيرة في الفقه والأصول وغيرهما. وكان يسارع إلى أعمال البر والمثوبات، حسن الخط، جيد التوقيعات. ولما توفى صلى عليه ولده المسترشد بالله، ودفن في حجرة كانت له يألفها. وفي أيامه توفى جماعة من العلماء. ففي شعبان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة توفى قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي. وفي ذي القعدة منها توفى القاضي عبد السلام بن محمد القزويني المعتزلى، مصنف " حدائق ذات بهجة " في تفسير القرآن يزيد على ثلمائة مجلد. قال ابن الأثير رأيت منه تفسير الفاتحة في مجلد كبير. وفى ذي الحجة منها توفى الإمام أبو نصر الحميدي مصنف الجمج بين الصحيحين. وفى شوال سنة إحدى وتسعين توفى الكامل نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي وله نحو تسعين سنة. وفي سنة اثنتين وخمسمانة توفى أبو زكريا التبريزي اللغوي. وفي الحجة منها توفى أبو الفوارس الحسين بن علي الخازن صاحب الخط الحسن المشهور. وفي سنة خمس وخسمائة توفى الإمام أبو حامد الغزالي. وفي سنة سبع وخمسمائة توفى الإمام أبو بكر محمد ابن أحمد الشاشي الفقيه رحمهم الله أجمعين.
فصللما ولى السلطان محمود السلطنة أقر أخاه مسعودا على الموصل مع أتابكه جيوش بك، فبقى مطيعا لأخيه إلى سنة أربع عشرة وخمسمائة فحسن له الخروج عن طاعته وطلب السطنة، فأظهر العصيان وخطب الملك مسعود بالسلطنة، وكان زنكي يشير بطاعة السلطان و ترك الخلاف عليه، و يحذرهم عاقبة العصيان، فلم ينفع. فالتقى الأخوان في عسكريهما فهزم عسكر مسعود وأسر جماعة من الأمراء والأعيان، منهم الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن إسماعيل الطغرائي وزير مسعود فقتله السلطان محمود وقال قد صح عندي فساد اعتقاده ودينه، وكان قد جاوز ستين سنة، وكان حسن الكتابة جيد الشعر. قلت إنه قتل سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة أو ثماني عشرة وخمسمائة. وقيل إن الذي قتله هو السلطان طغرل بن محمد ابن ملكشاه. ذكر ذلك كله أبو سعد السمعاني في تاريخه وسماه الحسن بن علي بن عبد الصمد الدليمي، وأنشد له أشعاراً حسانا. منها
إذا ما لم تكن ملكا مطاعا ... فكن عبدا لمالكه مطيعا
وإن لم تملك الدنيا جميعا ... كما تهواه فاتركها جميعا
هما شيئان من ملك ونسك ... ينيلان الفتى الشرف الرفعيا
ومن يقنع من الدنيا بشيء ... سوى هذين يَحْىَ بها وضيعا
ثم استأ من مسعود وأتابكه جيوش بك فأمنها السلطان وأخذ الموصل منهما فأقطعها آق سنقر البرسقي مع أعمالها، كالجزيرة وسنجار ونصيبين وغيرها، في صفر سنة خمس عشرة وسيره إليها وأمره بحفظ عماد الدين زنكي وتقديمه والوقف عند إشارته، ففعل البرسقي ذلك وزاد عليه، لمكان زنكي من العقل والشجاعة وتقدم والده في الأيام الكنية. وكانت سيرة ملكشاه عندهم كالشريعة المتبعة، فأعظم الناس عندهم أكثرهم اتباعا لسيرته.

وفي سنة ست عشرة وخمسمائة أقطع أتابك زنكي مدينة واسط وشحنكية البصرة، وظفر من كفايته في البلدين ما لم بظنه أحد، فازداد شأنه عظما. وهاب الأمير دبيس ابن صدقة الأسدي صاحب الحلة ناحيته، وجرت بينه وبين البرسقي حروب ومواقفات، وهم دبيس بقصد بغداد فسار البرسقي إليه، وتبعه الخليفة المسترشد بالله بنفسه. فانهزم عسكر دبيس وقتل منهم وأسر خلق كثير. وكان لعماد الدين زنكي أثر حسن في هذه الوقعة، أيضا بين يدي الخليفة، وذلك في أول الحرم سنة سبع عشرة. وأما دبيس فإنه لما انهزم لحق بالملك طغرل بن السلطان محمد وصار معه من خواص أصحابه، وكان عاصياً على أخيه السلطان محمود. وأمر السلطان محمود البرسقي أن يرجع إلى الموصل، فعاد واستدعى زنكي من البصرة ليسير معه إلى الموصل؛ فقال زنكي لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه؛ كل يوم قد ملك البلاد أمير ونؤمر بالتصرف على اختياره وإرادته. ثم تارة بالعراق وتارة بالموصل وتارة بالجزيرة وتارة بالشام. فسار من البصرة إلى السلطان محمود فأقام عنده. وكان يقف إلى جانب تخت السلطان عن يمينه لا يتقدم عليه أحد، وهو مقام والده قسيم الدولة من قبله، وبقي ولده من بعده.
ثم أتي السلطان الخبر أن العرب قد اجتمعت ونهبت البصرة، فأمر زنكي بالمسير إليها وأقطعه إياها لما بلغه عنه من الحماية لها في العام الماضي وقت اختلاف العساكر والحروب. ففعل ذلك فعظم عند السلطان وزاد محله. وكان قد جرى بين برتقش الزكوى شحنة بغداد وبين الخليفة المسترشد بالله نفرة، فتهدده المسترشد، فسار عن بغداد إلى السلطان في رجب سنة تسع عشرة شاكيا من المسترشد، وحذر السلطان جانبه، وأعلمه أنه قد جمع العساكر عازماً على منعه من العراق. فسار السلطان إلى بغداد وجرى بينه و بين المسترشد حروب ووقائع، ثم اصطلحاً وعدا إلى ما كانا عليه؛ وأقام السلطان ببغداد إلى عاشر ربيع الآخر، ونظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية بغداد، والعراق يأمن معه من الخليفة ويضبط الأمور. فولى ذلك زنكي مضافا إلى ما بيده من الإقطاع وساًر السلطان عن بغداد.
وفي سنة عشرين وخمسمائة قتل آق سنقر البرسقي بالجامع العتيق بالموصل بعد الصلاة يوم الجمعة، ثار به من الباطنية ما يزيد على عشرة أنفس، فقتل بيده منهم ثلاثة، وقتل رحمه الله. وكان عادلا لين الأخلاق حسن العشرة، وكان يصلى كل ليلة صلاة كثيرة ولا يستعين في وضوئه بأحد. فقرر السلطان ولده عز الدين مسعوداً على ما كان لأبيه من الأعمال، وهي الموصل وديار الجزيرة وحلب وحماة وجزيرة ابن عمر وغيرها. وكان شابا عاقلا فضبط البلاد، ولم تطل أيامه؛ وتوفى سنة إحدى وعشرين، وولى الأمر بعده أخوه الصغير. وقام بتدبير دولتيهما الأمير جاولى، وهو مملوك تركي من مماليك أبيهما، فجرت الأمور على أحسن نظام.
فصل في ولاية زنكي الموصل وغيرها من البلاد التي كانت يد البرسقي

وذلك في شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين. وسيب ذلك أن عز الدين البرسقي لما توفى وقام بالبلاد بعده أخوه الصغير وتولى أمره جاولى أرسل إلى السلطان محمود يطلب ان يقر البلاد عليه؛ وكان المرسل بذلك، القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن المشزوي وصلاح الدين محمد للباغيساني. فحضرا بغداد ليخاطبا السلطان في ذلك، وكانا يخافان جاولى ولا يرضيان بطاعته والتصرف بحكمه. وكان بين الصلاح و بين نصير الدين جقر مصاهرة، فأشار عليهما أن يطلبا البلاد لعماد الدين زنكيم، ففعلا وقالا للوزير: قد علمت أنت والسلطان أن بلاد الجزيرة والشام قد استولى الفرنج على أكثرها وفي تمكنوا منها وقويت شوكهم، وكان البرسقي يكف بعض عاديتهم، فمند قتل ازداد طمعهم. وهذا ولده طفل صغر ولا بد للبلاد من شهم شجاع يذب عنها و يحمي حوزتها؛ وقد أنهينا الحال إليكم لئلا يجرى خلل أووهن على الإسلام والمسلمين فنحصل نحن بالإثم من الله تعالى واللوم من السلطان. فأنس الوزير ذلك إلى السللطان فأعجبه وقال: من تريان يصلح لهذه البلاد؟ فذكرا جماعة فيهم عماد الدين زنكي، وعظما محله أكثر من غيره. فأجاب السلطان إلى توليته لما علم من شهامته كفايته؛ فولى البلاد جميعها، وكتب منشوره بها وسار من بغداد إلى البوازيج ليملكها و يتقوى بها و يجعلها ظهره إن منعه جاولى عن البلاد. فلما استولى عليها سار عنها إلى الموصل، فخرج جاولى إلى لقائه وعاد في خدمته إلى الموصل، فسيره إلى الرحبة وأعمالها، وأقام، بالموصل يصلح أمورها و يقرر قواعدها. فولى نصير الدين دزدارية قلعة الموصل وفوضى إليه أمر الولاية جميعها، وجعل الدزدارية في البلاد جميعها له، وجعل الصلاح محمد الياغبساني أمير حاجب الدولة، وجعل بهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها وما يفتحه من البلاد، ووفي لهم بما وعدهم. وكان بهاء الدين أعظم الناس عنده منزلة وأكرمهم عليه، وأكثرهم انبساطا معه وقربا منه، ورتب الأمور على أحسن نظام وأحكم قاعدة.
وكان الفرنج قد اتسعت بلادهم، وكثرت أجنادهم، وعظمت هيبتهم، وزادت صولتهم، وامتدت إلى بلاد المسلمين أيديهم، وضعف أهلها عن كف عاديهم، وتتابعت غزواتهم، وساموا المسلمين سوء العذاب، واستطار في البلاد شرر شرهم، وافتدت مملكتهم من ناحية ماردين وشبختان إلى عريش مصر لم يتخللها من ولاية المسلمين غير حلب وحماة وحمص ودمشق. وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى آمد ومن ديار الجزيرة إلى نصيبين ورأس عين؛ أما أهل الرّقة وحر إن فقد كانوا معهم في ذل وهوان. وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر؛ ثم زاد الأمر وعظم الشر، حتى جعلوا على أهل كل بلد جاورهم خراجا وإتاًوة، يأخذونها منهم ليكفوا أذيتهم عنهم. ثم لم يضعوا بذلك حتى أرسلوا إلى مدينة دمشق واستعرض والرقيق ممن أخذ من الروم والأرمن وسائر بلاد النصرانية، وخيروهم بين المقام عند أربابهم والعود إلى أوطانهم؛ فمن اختار المقام تركوه ومن اثر العود إلى أهله أخذوه؛ وناهيك بهذه الحالة ذلة للمسلمين وصغاراً. وأما أهل حلب فإن الفرنج أخذوا منها مناصفة أعمالها حتى في الرحا التي على باب الجنان، وبينها وبين المدينة عشرون خطوة. وأما باقي بلاد الشام فكان حال أهلها أشد من حال هذين البلدين. فلما نظر الله سبحانه إلى بلاد المسلمين ولاها عماد الدين زنكي فغزا الفرنج في عقر ديارهم وأخذ للموحدين منهم بثأرهم، واستنقذ منهم حصونا ومعاقل. وسيأتي تفصيل ذلك وما فتحه من البلاد الإسلامية هو وابنه من بعده إن شاء الله تعالى.
فصل

ثم شرع زنكي رحمه الله في أخذ البلاد؛ فافتتح جزيرة ابن عمر ثم مدينة إربل في رمضان سنة اثنتين وعشرين، ثم عاد إلى الموصل. وسار في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين إلى سنجار فتسلمها وسير منها الشحن إلى الخابور فملكة، ثم قصد الرحبة فلكت قسرا، ثم افتتح نصيبين وساًر إلى حران. وكانت الرها وسروج وغيرهما من ديار الجزيرة الفرنج، لعنهم الله، وأهل حران معهم في ضيق عظيم؛ فراسلوا زنكي بالطاعة واستحثوه على الوصول إليهم ففعل، وهادن الفرنج مدة يسيرة يعلم أنه يفرغ فيها من الاستيلاء على ما بقى من البلاد الشامية والجزرية. وكان أهم الأشياء عنده عبور الفرات، وملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية. فلما عبر الفرات ملك مدينة منبج وحضن بزاعة، وحاصر حلب ثم فتحت له فرتب أمورها، وسار عنها إلى حماة فملكها وقبض على صاحب حمص وحصرها، وذلك سنة ثلاث وعشرين. وفي سنة أربع وعشرين اتفق صاحب آمد مع صاحب حصن كيفا وغيرهما من الملوك وجمعوا عساكر نحو عشرين ألفاً وقصدوا زنكي فلقيهم فهزمهم وملك سَرْجَة ودارا. ثم على الجهماد فنازل حصن الأثارب، وكان أضر شيء على أهل حلب، فجمع الفرنج جمعا عظيما فهزمهم وقتلهم مقتله عظيمة وبقيت عظام القتلى بتلك الأرض مدة طويلة. ثم رجع إلى حن فملكه عنوة فأخربه ومحا أثره، وأزال من تلك الأرض ضرره. ثم رحل إلى حصن حارم فحصره، فأنقذ من لم يحضر المعركة من الفرنج ومن نجا منها يسألون الصلح ويبذلون له المناصفة على ولاية حارم، فأجابهم ذلك لأن عسكره كان قد كثرت فيهم الجراحات والقتل فأراد أن يستريحوا، فهادنهم وعاد عنهم وقد أيقن المسلمون بالشام بالأمن وحلول النصر، وسيرت البشائر إلى البلاد بذلك، وفيها استولى زنكي على مدينة حماة وما فيها، وكان فيها بهاء الدين سونج بن تاج الملوك بورى، فأخذه ورجاله ثم طلب في إطلاقهم خمسين ألف دينار، فانفق حضور دبيس بن صدقة بن مزيد أمير العراق بدمشق منهزماً فطلبه زنكي وأطلق من كان عنده من سونج وأصحابه. ذكر ذلك الرئيس أبو العلى.

وفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة توفى السلطان محمود بهمذان، وكان عمره نحو ثماني وعشرين سنة، وكانت ولايته ما يقارب أربع عشرة سنة؛ وكان حليما كريما عاقلا عادلا كثير الاحتمال. وطلب السلطنة بعد وفاته ابنه داود بن محمود، وأخواه مسعود وسلجوق شاه ابنا محمد، وعمها سنجر بن ملكشاه ومعه طغرل ابن السلطان محمد. فجرت بينهم حروب واختلافات كثيرة ظفر فيها سنجر وخطب لابن أخيه طغرل بالسلطنة في هذان وأصفهان والري وسائر بلاد الجبل. وفي سنة سبع وعشرين سار الخليفة المسترشد بنفسه إلى الموصل في ثلاثين ألف فارس فحاصرها ثلاثة أشهر، ثم عاد إلى بغداد ولم يبلغ غرضا. وفي سنة تسع وعشرين استولى زنكي على سائر قلاع الحميدية وولاياتهم، منها قلعة العقير وقلعة شوش، وحاصر مدينة آمد ثم مدينة دمشق. وفيها توفيت والدته بالموصل. وفي المحرم سنة تسع وعشرين توفى السلطان طغرل بن محمد بن ملكشاه، فخرج السلطان مسعود والتق هو والخليفة المسترشد في عسكرين عظيمين عاشر رمضان، فهزم عسكر الخليفة وقبض عليه وعلى خواصه، وأنفذ السلطان شحنة إلى بغداد فقبض جميع أملاك الخليفة، وهجم جماعة من الباطنية على المسترشد وهو في الخيمة فقتلوه. وكتب السلطان إلى شحنة بغداد يأمره بالبيعة لابنه أبى جعفر المنصور بن المسترشد، فبايعه في السادس والعشرين من ذي القعدة ولقب بالراشد. وكان عمر المسترشد ثلاثا وأربعين سنة وثلاثة أنهر وثمانية أيام، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر. وكان شهما شجاعا، مقداماً فصيحاً، وتمكن في خلافته تمكنا عظيما لم يره أحد ممن تقدمه من الخلفاًء من عهد المنتصر بالله إلى خلافته، إلا أن يكون المعتضد والمكتفي، لأن المماليك كانوا قديما يخلعون الخلفاء ويحكمون عليهم؛ ولم يزالوا كذلك إلى مُلك الديلم واستيلائهم على العراق، فزالت هيبة الخلافة بالمرة إلى انقراض دولة الديلم. فلما ملك السلجوقية جددوا من هيبة الخلافة ما كان قد درس، لا سيما في وزارة نظام الملك فإنه أعاد الناموس والهيبة إلى أحسن حالاتها، إلا أن الحكم والشحن بالعراق كان إلى السلطان، وكذلك العهد وضمان البلاد، ولم يكن للخلفاء إلا إقطاع يأخذون دخله. وأما المسترشد فإن استبد بالعراق بعد السلطان محمود، ولم يكن للسلطان معه في كثير من الأوقات سوى الخطبة، واجتمعت عليه العساكر، وقاد الجيوش وباشر الحروب.
وفي سنة ثلاثين وخمسمائة سار الراشد إلى الموصل صحبة زنكي ملتجئا إليه. وذلك أن جماعة حسنوا له الخروج من بغداد لمحاربة السلطان مسعود فأجابهم إلى ذلك، وظهر منه تنقل في الأحوال وتلون في الآراء، وقبض على جماعة من أعيان أصحابه وخافه الباقون، وتقدم السلطان مسعود وحصر بغداد واستظهر عليها. فخرج الراشد ملتجئا إلى زنكي فسار به إلى الموصل، ودخل مسعود بغداد وأمر بخلع الراشد ومبايعة،عمة أبى عبد لله محمد ابن المستظهر بالله، ففعل ذلك ولقب المقتفى لأمر الله. وأما الراشد فإن السلطان سنجر أرسل إلى أتابك يأمره بإخراجه عن بلده، فسار إلى اذربيجان ثم إلى همدان، فاجتمع إليه مُلوك وعساكر كثيرة وسار السلطان إليهم فتصافوا فانهزم الراشد وقصد أصبهان، فقتله الباطنية بها في السابع والعشرين من رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، ودفن بأصبهان. وفي سنة اثنتين، وثلاثين أيضاً تزوج زنكي بالخاتون صفوة الملك زمرد ابنة الأمير جاولى،أم ششمس الملوك إسماعيل وإخوته بني تاج الملوك بن طغتكين أتابك؛ وهي أخت الملك دقاق لأمه. و إليها ينسب مسجد خاتون الذي هو مدرسة لأصحاب أبى حنيفة بأعلى الشرف القبلي بأرض دمشق بأرض صنعاء. وتسلم قلعة حمص.
فصل في جهاد زنكي للفرنج

لما كان في سنة اثنتين وثلاثين خرج ملك الروم من القسطنطينية ومعه خلق عظيم لا يحصون كثرة من الروم والفرنج وغيرهم من أنواع النصارى، فقصد الشام، لخافه الناس خوفا عظيما. وكان زنكي مشغولا بما تقدم ذكره لا يكنه مفارقة الموصل. فقعد ملك الروم مدينة بزاعة وحصرها، وهي على مرحلة من حلب، وفتحها عنوة وقتل المقاتلة وسبى الذرية في شعبان. ثم سار عنها إلى شيزر، وهي حصن منيع على مرحلة من حماة، فحصرها منتصف شعبان ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقا. وأرسل صاحبها أبو العساكر سلطان بن منقذ إلى زنكي يستنجده، فنزل على حماة، وكان يركب كل يوم في عساكره ويسير إلى شيزر بحيث يراه ملك الروم، ويرسل السرايا يتخطف من يخرج من عساكرهم للميرة والنهب، ثم يعود آخر النهار. وكان الروم والإفرنج قد نزلوا على شرقي شيزر، فأرسل إليهم زنكي يقول لهم: إنكم قد تحصنتم بهذه الجبال فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم أخذتم شيزر وغيرها، وإن ظفرت بكم أرحت المسلمين من شركم. ولم يكن له بهم قوة لكثرتهم، وإنما كان يفعل هذا ترهيبا لهم. فأشار الفرنج على ملك لروم بلقائه وقتاله وهونوا أمره، فقال لهم الملك أتظنون أن معه من العساكر ما ترون وله البلاد الكثيرة! و إنما هو يريكم قلة من معه لتطمعوا وتصحروا له، فحينئذ ترون من كثرة عسكره ما يعجزكم. وكان أتابك زنكي مع هذا يراسل فرنج الشام و يحذرهم ملك الروم و يعلمهم أنه إن ملك بالشام حصنا واحدا أخذ البلاد التي بأيديهم منهم. وكان يراسل ملك لروم يتهدد ويوهمه أن الفرنج معه. فاستشعر كل واحد من الفرنج والروم من صاحبه، فرحل ملك الروم عنها في رمضان، وكان مقامه عليها أربعة وعشرين يوما، وترك المجانيق والآت الحصار بحالها فسار زنكي خلفهم فظفر بطائفة منهم في ساقة العسكر فغنم منهم وقتل وأسر، وأخذ جميع ما خلفوه ورفعه إلى قلعة حلب، وكفى الله المؤمنين القتال. وكان المسلمون بالشام قد اشتد خوفهم وعلموا أن الروم إن ملكوا حصن شيزر لا يبق لمسلم معهم مقام، لاسيما حماة لقربها.
ولما يسر الله تعاًلى هذا الفتح مدح الشعراء الشهيد أتابك فأكثروا. منهم أبو المجد المسلم ابن الخض بن المسلم بن قسيم الحموي، له قصيدة، قد ذكرتها في ترجمته في التاريخ، أولها:
بعزمك أيها الملك العظيم ... تزل لك الصعاب وتستقيم
ألم تر أن كلب الروم لما ... تبين أنك الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلا ... كأن الجحفل الليل البهيم
وقد نزل الزمان على رضاه ... فكان الخطبه الخطب الجسيم
فحين رميته بك في خميس ... تيقن أن ذلك لا يدوم
وأبصر في المفاضة منك جيشا ... فأحزن لا يسير ولا يقيم
كأنك في العجاج شهاب نور ... توقد وهو شيطان رجيم
أراد بقاء مهجته فولى ... وليس سوى الحمام له حميم
يؤمل أن تجود بها عليه ... وأنت بها وبالدنيا كريم
أيلتمس الفرنج لديك عفوا ... وأنت بقطع دابرها زعيم
وكم جرعتها غصص المنايا ... بيوم فيه يكتهل الفطيم
ولما أن طلبتهم تمنى ال ... منية جوسلينهم اللئيم
أقام يطوف الآفاق حينا ... وأنت على معاقله مقيم
فسار وما يعادله مليك ... وعاد وما يعادله سقيم
إذا خطرت سيوفك في نفوس ... فأول ما يفارقها الجسوم
وله أيضاً من قصيدة يمدح بها صلاح الدين محمد بن أيوب العمادي التوتان صاحب حماة:
وما جاء كلب الروم إلا ليحتوي ... حماة، وما يسطو على الأسد الكلب
أراد بها أن يملك الشام عنوة ... وقد غُلبت عنه الضراغمة الغلب
وما ذم فيها العيش حتى صدمته ... فمال جناح الجيش وانكسر القلب
فولى وأطراف الرماح كأنها ... نجوم عليه بالمنية تنصب
ولابن منير من قصيدة في مدح أتابك زنكي رحمه الله ستأتي عند فتحه لمدنية الرها إن شاء الله تعالى:
وما يوم كلب الروم إلا أخو الذي ... أزحت به ما في الجناجن من نبل

أتاك بمثل الروم حشدا، وإنه ... ليفضل أضعافا كثيراً عن الرمل
فقاتلته بالله ثم بعزمة ... تصك قلوب العاشقين بما تسلى
توهم أن الشام مرعى، وما درى ... بأنك أمضى منه في الشزر والسجل
فطار وخير المغنمين ذماؤه ... إذا رد عنه مغنم المال والأهل
قال ابن الأثير: ومن عجيب ما يحكى في هذه الحادثة أن الخبر لما وصل بقصد الروم شيزر قام الأمير مرشد بن علي، أخو صاحبها، وهو ينسخ مصحفا، فرفعه بيده وقال: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء الروم فاقبضني إليك؛ فتوفى بعد أيام ونزل الروم بعد وفاته. ولما عاد الروم إلى بلادهم نزل أتابك إلى حصن عرقه، وهو من أعمال طرابلس، فحصره وفتحه عنوة ونهب ما فيه وأسر من به من الفرنج وأخربه وعاد سالما غانما. وفيها ملك قلعة دارا من حسام الدين تمرتاش. وفيها توفى، بهاء الدين علي بن القاسم الشهرزوري قاضي الممالك الأتابكية، وكان أعظم الناس منزلة عنده. وفيها ولد صلاح الدين يوسف بن أيرب بتكريت.
فصل في فتح شهرزور وبعلبك وحصار دمشققال ابن الأثير: كانت شهرزور وأعمالها وما يجاورها من البلاد والجبال في يد قفجق ابن أرسلان تاش التركماني، وكان ملكها نافذ الحكم على قاضي التركمان ودانيهم، يرون طاعته فرضا حتما. فتحامى، الملوك قصد ولايته ولم يتعرضوا لها لحصانتها، فعظم شأنه وازداد جمعه. فلما كانت سنة أربع وثلاثين بلغ الشهيد أتابك عنه ما اقتضى أن يقصد بلاده؛ فهزم عسكره ومذ بلاد شهرزور وغيرها، فأضافها إلى بلاده وأصلح أحوال أهلها، وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من التركمان. وعاد إلى الموصل عازما على المسير إلى الشام، فإنه كان لا يرى المقام، بل لا يزال ظاعنا، إما لرد عدو يقصده، وإما لقصد بلاد عدو، و إما لغزو الفرنج وسد الثغور. وكانت مياثر السروج آثر عنده من وثير المهاد، والسهر في حراسة المملكة أحب إليه من عرض الوساد، وأصوات السلاح ألذ في مسمعه من الغناء، لا يجد لذلك كله عناء. وفي هذه السنة، وهي سنة أربع وثلاثين، ولد تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب بن شاذي. وفيها سار الشهيد في جنوده بعد ملك شَهْرَزَوْرَ إلى مدينة دمشق فحصرها، وصاحبها حينئذ جمال الدين محمد بن بورى بن طغتكين، وكان محكوما عليه، والغالب على أمره معين الدين أثر مملوك جده طغتكين. وكان أنابك قد أمر كمال الدين أبا الفضل بن الشهرزوري بمكاتبة جماعة من مقدمي أحداثها وزناطرتها واستمالتهم وإطماعهم في الرغائب والصلات؛ ففعل ذلك فأجابه منهم خلق كثير إلى تسليم البلد، وخرجوا متفرقين إلى كمال الدين، وجدد عليهم العهود، وتواعدوا يوماً يزحف فيه الشهيد إلى البلد ليفتحوا له الباب و يسلموا البلد إليه. فأعلم كمال الدين الشهيد أتابك بذلك، فقال: لا أرى هذا رأياً، فإن البلد ضيق الطرُق والشوارع، ومتى دخل العسكر إليه لا يتمكنون من القتال فيه لضيقه، وربما كثر المقاتلون لنا فنعجز عن مقاومتهم لأنهم يقاتلون على الأرض والسطوحات، وإذا دخلنا البلد اضطررنا إلى التفرق لضيق المسالك فيطمع فينا أهله. وعاد عن ذلك العزم بحرمه وحذره.
ومن العجب أن محمد بن بورى صاحب دمشق توفى وأتابك يحصره، فضبط أثر الأمور يتغير بالناس حال. وأرسل إلى بعلبك فأحضر ولده مجير الدين آبق بن محمد بن بورى، ورتبه في الملك أبيه، فمشى الحال بتمكين معين الدين أثر وحسن تدبيره. وهذا مجير الدين آبق هو الذي منه أخذ نور الدين بن زنكي دمشق كما سيأتي. ولما دخل مجير الدين دمشق أقطع معين الدين أثر× فأرسل إليها نائبه وتسلمها. فلما علم الشهيد ذلك سار إلى بعلبك، وحصرها عدة شهور، فملكها عنوة، وترك بها نحم الدين أيوب والد صلاح الدين دزداراً، وزعم على العود عنها إلى دمشق، فجاءته رسل صاحبها ببذل الطاعة والخطبة، فأجابه إلى ذلك، وعاد عن قصد دمشق، وقد خطب له فيها وصار أصحابها في طاعته وتحت حكمه.

قال يحيى بن أبى طي الحلبي: واتفق أن الامراء نزلوا من بعلبك أفسدوا ذخائرها فقبض عليهم أتابك زنكي وقتل بعضهم وصلبهم، وكان ولى قتلهم صلاح الدين محمد بن أيوب الياغساني فحكى أنه أحضر إليه في جملة الامراء شيخ مليح الشيبة، ومعه ولدله أمرد كأنه فلقة قمر فقال الشيخ لصلاح الدين، سألتك بحياة المولى أتابك إلا صلبتني قبل ولدي لئلا أراه يعالج سكرات الموت! وبكى وكان نجم الدين أيوب واقفا، فرحم الشيخ وبكى، وسال صلاح الدين في إطلاقه فقال: ما أفعل خوفا من المولى أتابك. فذهب نجم الدين إلى أتابك وسأله في الشيخ وولده ما قاله؛ فأذن بإطلاقه وإطلاق من بقى من الجماعة، ووهيه نصف بعلبك. وقيل إن نجم الدين ورد على أتابك وهو قد ملك بعلبك فسأله في الأمراء فأطلقهم له، وولاه بعبك، وكتب له ثلثها ملكا، واستقر فيها هو وأهله؛ ولم يزل بها إلى أيام نور الدين محمود بن زنكي، فأخرجه منها على مما سنذكره.
ثم إن أتابك بعد ملكة بعلبك سار إلى دمشق، فنزل البقاع. فوردت هدية صاحب دمشق، ويطلب العود و يعطيه خمسين كل ألف دينار، ويعطيه حمص. فأشار نجم الدين على زنكي بقبول ذلك، وقال هذا مال كثير، وقد حصل بلا تعب، و بلد كبير بلا عناء، ودمشق بلد عظيم، وقد ألف أهله هذا البيت وتمرنوا على سياستهم وقد بلغتهم الأحوال التي جرت بعلبك. فامتنع زنكي من قبول ما أشار به؛ ففاته فلك ولم يظفر بغرضه.
فصلثم سار أتابك الشهيد في هذه السنة، وهي سنة أربع وثلاثين، إلى بلاد الفرنج فأنار عليها،. واجتمع ملوك الفرنج وساروا إليه، فلقيهم بالقرب من حصن بارين، وهو للفرنج؛ فصبر الفريقان صبرا لم يسمع بمثله إلا ما يكى عن ليلة الهرير. ونصر الله المسلمين، وهرب ملوك الفرنج وفرسانهم، فدخلوا حصن بارين، وفيهم ملك القدس، لأنه كان أقرب حصونهم، وأسلموا عدتهم وعنادهم، وكثر فيهم الجراح. ثم سار الشهيد إلى حصن بارين فحصره حصرا شديدا؛ فراسلوه في طلب للأمان ليسلموا و يسلموا الحصن، فأبى إلا أخذهم قهرا. فبلغه أن من بالساحل من الفرنج قد ساروا إلى الروم والفرنج يستنجدونهم، وينهون إليهم ما فيه ملوكهم من الحصر عليهم؛ فجمعوا وحشدوا وأقبلوا إلى الساحل، ومن بالحصن لا يعلمون بشيء من ذلك لقوة الحصر عليهم. فأعادوا مراسلته في طلب الإمان، فأجابهم وتسلم الحصن وساروا، فلقيتهم أمداد النصرانية، فسأوهم عن حالهم فأخبروهم بتسليم الحصن. قلاموهم وقالوا عجزتم عن حفظه يوما أو يومين! فحلفوا لهم إنا لم نعلم بوصولكم، ولم يبلغنا عنكم خبر منذ حصرنا إلى الآن. فلما عميت الأخبار عنا ظننا أنكم قد أهلتم أمرنا، فحقنا دماءنا بتسليم الحصن.
قال ابن الأثير: وكان حصن بارين من أضر بلاد الفرنج على المسلمين، فأن أهله كانوا قد أخربوا ما بين حماة وحلب من البلاد ونهبوها، وتقطعت السبل؛ فأزال الله تعالى بالشهيد، رخمه الله هذا الضرر العظيم. وفي مدة مقامه على حصن بارين سير جنده إلى المعرة وكفر طاب وتلك الولاية جميعها، فاستولى عليها وملكها، وهي بلاد كبيرة وقرايا عظيمة.
قلت: وقد قال القيسراني يذكر هزيمة الفرنج ويمدح زنكي قصيدة أولها:
حَذار مِنَّا، وأني ينفُع الحذر ... وهي الصّوارم لا تُبقى ولا تَذَر
وأيْن ينجو ملوكُ الشرك ... من خيُله النَصُر، لا بل جُندُه القدر
سلُّوا سيوفا كأغماد السيوف بها ... صالوا فماَ غمدوا نصْلا ولا شهورا
حتى إذا ما عمادُ الدين أرهقهم ... في مأزق من سناه يبرق البصر
وَلَّوْا نضيق بهم ذرعا مسالكُهم ... والموت لا ملجأٌ منه ولا وَزَرُ
وفي المسافة من دون النجاة لهم ... طول وإن كان في أقطارها قصر
وأصبح الدين لا عينا ولا أثرا ... يخاف والكفر لا عين ولا أثر
فلا تخفف بعدها الإفرنج قاطبة ... فالقوم إن نفروا ألوى بهم نفر
إن قاتلوا قُتِلوا أو حاربوا حُرِبوا ... أو طاردوا طُرِدوا أو حاصر واحُصِروا
وطالما استفحل الْخَطْبُ البهيم ... حتى أتى مَلك آراؤه غُرر

والسيف مُفْترع أبكار أنفسهم ... ومن هنالك؟ قيل الصارم الذكر
لا فارقت ظِلَّ محيى العدل لامعة ... كالصبح تطوى من الأعداء ما نشروا
ولآ انثنى النّصْرُ عن أنصار دولته ... بحيث كان وإن كانوا به نصروا
حتى تعود ثغور الشام ضاحكة ... كانما حل في أكنافها عمر
وقال ابن منير:
فدتك الملوك وأيامها ... ودام لنقضك إبرامها
وزلت لِعَيْنِك أقدامها ... وزال لبطشك إقدامها
واو لم تُسلم إليك القلوب ... هواها لما صح إسلامها
أيا محيى العدل لما نعاه ... أيامي البرايا وأيتامها
مستنفذ الدين مع أمه ... أذال المحاربب أصنامها
دلفت لها تقتفيك الأسو ... دو البيض والسمر آجامها
جزرت جزيرتها،بالسٌّيو ... ف حتى تشاء مها شامها
وصارت عوارى أكنافه ... متى شئت أرخص مستامها

قال ابن الأثير: ولما وصل الروم والفرنج إلى الشام ورأوا الأمر قد فات، أرادوا جبر مصيبتهم بمنازلة بعض بلاد المسلمين. فنازلوا حلب وحصروها، فلم ير الشهيد أن يخاطر بالمسلمين و يلقاهم، لأنهم كانوا في جمع عظيم. فانحاز عنهم، ونزل قريبا منهم، يمنع عنهم الميرة، ويحفظ أطراف البلاد من انتشار العدو فيها، والإغارة عليها. وأرسل القاضي كمل الدين ابن الشهرزوري إلى السلطان مسعود. ينهى إليه الحال بأمر البلاد وكثرة العدؤ، و يطلب منه النجدة وإرسال العساكر. فقال كمل الدين: أخاف أن تخرج البلاد من أيديناً وبجعل السلطان هذا حجة ويُنفذ العساكر، فإذا توسطوا البلاد ملكوها. فقال الشهيد: إن هذا العدو قد طمع في، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام؛ وعلى كل خال فالمسلمون أولى بها من الكفار. قال: فلما وصلت إلى بغداد وأديت الرسالة، وعدني السلطان بإنفاذ العساكر، ثم أهمل ذلك ولم يتحر فيه بشيء؛ وكُتُبُ الشهيد إلى متصلة يحثني على المبادرة بإنفاذ العساكر، وأنا أخاطب فلا أزاد على الوعد. قال: فلما رأيت عدم اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم أحضرت فلانا، وهو فقيه كان ينوب عنه في القضاء، فقلت: خذ هذه الدنانير وفرقها في جماعة من أو بأش بغداد والأعاجم، و إذا كان يوم الجمعة وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر قاموا، وأنت معهم، واستغاثوا بصوت واحد: وَا إسْلاماه ! وَا دين مُحمّدَاه! ويخرجون من الجامع يقصدون دار السلطنة مستغيثين. ثم وضعت إنسانا آخر يفعل مثل ذلك في جامع السلطان. فلما كانت الجمعة وصعد الخطيب المنبر، قام ذلك. الفقيه ومزق ثوبه وألق عمامته عن رأسه،، وصاح، وتبعه أولئك النفر بالصياح والبكاء. فلم يبق بالجامع إلا من قام يبكي؛ و بطلت الجمعة، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان. وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم. فاجتمع أهل بغداد وكل من بالعسكر عند دار السلطان، يبكون ويصرخون ويستغيثون، وخرج، الأمراء عن الضبط، وخاف السلطان في داره وقال ما الخبر فقيل له: إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة. فقال: أحضروا ابن الشهرزوري. قال: فحضرت عنده وأنا خائف منه، إلأ أنني عزمت على صدقه وقول الحق. فلما دخلت عليه قال: ياقاضي: ما هذه الفتنة؟ فقلت: إن الناس قد فعلوا هذا خوفا من الفتنة الشر، ولا شك أن السلطان ما يعلم كم بينه وبين العدو، و إنما بينكم نحو أسبوع. ولئن أخذوا حلب انحدروا إليك في الفرات وفي البر، وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد. وعظمت الأمر عليه حتى جعلته كأنه ينظر إليهم فقال: اردُد هؤلاء العامة عنا، وخذ من العساكر ماشئت، وسر بهم والأمداد تلحقك. قال فخرجت إلى العامة ومن انضم إليهم فأخبرتهم وعرقهم الحال، وأمرتهم بالعود، فعادوا وتفرقوا. وانتخبت من عسكره عشرة آلاف فارس، وكتبت إلى الشهيد أعرفه الخبر وأنة لم يبق غير المسير، وأجدد استئذانه في ذلك. فأمرني بتسييرهم والحث على ذلك، فعبرت العساكر الجانب الغربي. فبينما نحر نتجهز للحركة وإذا قد وصل نجاب من الشهيد يخبر بأن الروم والفرنج قد رحلوا عن حلب خائبين، لم ينالوا منها غرضا؛ ويأمرني بترك استصحاب العساكر. فلما خوطب السلطان في ذلك أصر على إنفاذ العساكر إلى الجهاد وقصد بلاد الفرنج وأخذها؛ وكان قصده أن تطأ عساكره البلاد بهذه الحجة فيملكها. قال: فلم أزل أتوصل مع الوزير وأكابر الدولة حتى أعدت العساكر إلى الجانب الشرقي وسرت إلى الشهيد. قال ابن الأثير: فانظروا إلى هذا الرجل الذي هو خير من عشرة آلاف فارس، يعنى كمال الدين،. رحم الله الشهيد فلقد كان ذاهمة عالية، ورغبة في الرجال ذوى الرأي والعقل، يرغبهم و يخطبهم من البلاد، ويوفر لهم العطاء.
حكى لي والدي قال: قيل الشهيد: إن هذا كمال الدين يحصل له في كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية، وغيره يقنع منك بخمسمائة دينار. فقال لهم: بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي! إن كمال الدين يقل له هذا القدر، وغيرة يكثر له خمسمائة دينار! فإن شغلا واحدا يقوم فيه كمال الدين خير من مائة ألف دينار. وكان كما قال رحمه الله تعالى.
فصل

قال: وفي سنة سبع وثلاثين سار الشهيد إلى بلد الهكارية، وكان بيد الأكراد، وقد أكثر في البلاد الفساد، إلا إن نصير الدين جقر نائب السلطان الشهيد بالموصل كان قد ملك كثيرا من بلادهم. فلما بلغها الشهيد حصر قلعة الشعباني، وهي من أعظم قلاعهم وأحصنها، فملكها وأخربها، وأمر ببناء قلعة العمادية عوضا عنها. وكانت هذه العمادية حصنا كبيرا عظيما فأخربه الأكراد لعجزهم عن حفظه لكبره. فلما ملك أتابك الشهيد البلاد التي لهم قال: إذا عجز الأكراد عن هذا الحصن فأتا بحول الله لا أعجز عنه فأمر ببنائه، وكان رحمه الله ذا عزم ونفاذ أمر فُبنى وسماه العمادية، نسبة إلى لقبه عماد الدين وفي هذه السنة خطب لأتابك بآمد ،وكان قد أرسل إلى صاحبها يطلب منه الانفصال عن موافقة ركن الدولة داود احب الحصن والانتماء إلى خدمته والخطبة له؛ فأجابه إلى ذلك وفيها ملك الشهيد مدينة عانة. وفيها حصر مدينة حمص مرة أخرى وفتحها في شوال؛ وقصد ولاية دمشق بها.
وفي سنة ثمان وثلاثون عزم السلطان مسعود على قصد الموصل بعساكره؛ وكان قد وقع بينه وبين الشهيد وحشة. فترددت الرسل بينهما حتى استقرت الحال على مائة ألف دينار أمامية يحملها الشهيد إلى السلطان؛ وطلب أن يحضر الشهيد في خدمته، فامتنع، واعتذر باشتغاله بالفرنج، فعذره وشرط عليه فتح الرها. وكان من أعظم الأسباب في تأخر السلطان عن قصد الموصل أنه قيل له إن تلك البلاد لا يقدر على حفظها من الفرنج غير أتابك عماد الدين، فإنها قد وليها قبله مثل جاولى سقاوه، ومودود، وجيوش بك، والبرسقي، أو غيرهم من الأكابر. وكان السلاطين يمُدونهم بالعساكر الكثيرة ولا يقدرون على حفظها؛ ولا يزال الفرنج يأخذون منها البلد بعد البلد إلى أن وليها أتابك، فلم يمُده أحد من السلاطين بفارس واحد ولا بمال، ومع هذا فقد فتح من بلاد العدو عدة حصون وولايات، وهزمهم غير مرة، واستضعفهم، وعز الإسلام به. ومن الأسباب المانعة له أيضاً أن الشهيد كان لا يزال ولده الأكبر سيف الدين غازي في خدمة السلطان مسعود بأمر والده، وكان السلطان يحبه و يقربه، و يعتمد عليه ويثق به. فأرسل إليه الشهيد يأمره بالهرب. والمجيء إلى الموصل؛ وأرسل إلى نائبه بالموصل يأمره أن يمنعه من دخول الموصل ومن المسير إليه أيضا. ففعل ذلك، وقال له: ترسل إلى والدك تستأذنه في الذي تفعله. فأرسل إليه، فعاد الجواب: إنني لا أريدك مهما السلطان ساخط عيك. وألزمه بالعود إليه، فعد ومعه رسول إلى السلطان يقول له: إنني لما بلغني أن ولدي فارق الخدمة بغير إذن لم أجتمع به ورَدَدْته إلى بابك فحل هذا عند السلطان محلا كبيراً، وأجلب إلى ما أراد الشهيد. ولما استقر المال حمل منه نحو عشرين ألف دينار. ثم إن الأمور تقلبت عاد أصحاب الأطراف خرجوا على السلطان، فاحتاج إلى مداراة الشهيد، وأطلق له الباقي استمالة له.
وفي هذه السنة سار الشهيد إلى ديار بكر ففتح عدة بلاد منها طنزة، وإسعرد، وملك مدية المعدن الذي يعمل منه النحاس من إرمينية، ومدينة حيزان، وأخذ من أعماك ماردين عدة مواضع، ورتب أمور الجميع، وملك مدينة حاني، وحاصر امد، وأرسل عسكراً إلى مدينة عانة، فملكها له، وقد تقدم ذكرها في السنة قبلها.
فصل

في فتح الشهيد الرها في جمادى الآخرة من سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وكانت لجوسلين، وهو عاتي الفرنج وشيطانهم، والمقدم على رجالهم وفرسانهم. وكانت مدة حصاره لها ثمانية وعشرين يوما، وأعادها إلى حكم الإسلام. وهذه الرها من أشرف المدن عند النصارى وأعظمها محلا، وهي أحد الكراسي عندهم؛ فأشرفها البيت المقدس، ثم أنطاكية، ثم رومية ثم قسطنطينية والرها. وكان على المسلمين من الفرنج الذين بالرها شر عظيم. وملكوا من نواحي ماردين إلى الفرات على طريق سنجار عدة حصون كسروج، والبيرة، وجملين، والمُوزر. وكانت غاراتهم تبلغ مدينة آمد من ديار بكر، وماردين، ونصيبين، ورأس عين، والرّقة. وأما حران فكانت معهم في الحزى كل يوم قد صبحوها بالغارة. فلما رأى الشهيد الحال هكذا أنف منهم، وعلم أنة لا ينال منها غرضا ما دام جوسلين بها. فأخذ في إعمال الحيل والخداع، لعل جوسلين يخرج منها إلى بعض البقاع. فتشاغل عنها يقصد ما جاورها من ديار بكر التي بيد الإسلام كحاني وجبل جور وآمد؛ فكان يقاتل من بها قتالا فيه إبقاء، وهو يُسر حشوا في ارتغاء، فهو يخطبها وعلى غيرها يحوم، ويطلبها وسواها يروم. وكل بها من يخبره بخلو عرينها من آساده، وفراغ حصنها من أنصاره وأجناده. فلما رأى جوسلين اشتغال الشهيد بحرب أهل ديار بكر ظن أنه لا فراغ له إليه، وأنه لا يمكنه الإقدام عليه. ففارق الرها، إلى بلاده الشامية، ليلاحظ أعماله، و يتعهد ذخائره وأمواله. فأقبل الشهيد مسرعا بعساكر. إلى الرها.
ثم وصف ابن الأثير الجيش. وأنشد:
بجيشٍ جاش بالفرسان حتى ... ظننت البر بحرا من سلاح
وألسنهٍ من العَذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرياح
وأروع جيشه ليلٌ بهم ... وغرته عمود للصباح
صفوح عند قدرته ولكن ... قليل الصفح ما بين الصِّفاح
وكان ثباته للقلب قلبا ... وهيبته جناحاً للجناح
وألح الشهيد في حصاًرها فملكها عنوة، فاستباحها، ونكس صلبانها، وأبباد قُسُوسها ورهبانها، وقتل شجعانهاً وفرسانها، وملأ الناس أيديهم من النهب والسبي ثم إنه دخل البلد فراقه، فأنف لمثله من الخراب. فأمر بإعادة ما أخذ من أثاث ومال وسبى ورجل، وجوار وأطفال، فردوا عن أخرهم، لم يفقد منهم إلا الشاذ والنادر؛ فعاد البلد عامراً بعد أن كان داثراً. ثم رتب البلد وأصلح من شأنه، وسار عنه فاستولى على ما كان بيد الفرنج من المدن والحصون والقرايا، كسروج وغيرها، وأخلى ديار الجزيرة من معرة الفرنج وشرهم، وأصبح أهلها بعد الخوف آمنين. وكان قتحا عظيما طار في الآفاق ذكره، وطلب بها نشره، وشهده خلق كثير من الصالحين والأولياء.

قال ابن الأثير: حكى لي جماعة أعرف صلاحهم أنهم رأوا، يوم فتح الرها الشيخ أبا عبدا الله بن علي بن مهران الفقيه الشافعي، وكان من العلماء العاملين، والزاهدين في الدنيا، المنقطعين عنها، وله.الكرامات الظاهرة. ذكروا عنه أنه غلب عنهم في زاويته يومه ذلك ثم خرج عليهم وهو مُسْتَبشر مسرور، عنده من الارتياح ما لم يروه أبداً. فلما قعد معهم قال: حدثني بعض إخواننا أن أتابك زنكي فتح مدينة الرها، وأنة شهد معه فتحها يومنا هذا. ثم قال ما يضرك يا زنكي ما فعلت بعد اليوم؛ يرُدد هذا القول مراراً؛ فضبطوا ذلك اليوم فكان يوم الفتح. ثم إن نفرا من الأجناد حضروا عند هذا الشيخ وقالوا له: منذ رأيناك على سور تكبر أيقنا بالفتح؛ وهو ينكر حضوره، وهم يقسمون أنهم رأوه عيانا. قال: وحكى لي بعض العلماء بالأخبار والأنساب، وهو أعلم من رأيت بها، قال: كان ملك جزيرة، صقلية من الفرنج لما فتحت الرها، وكان بها بعض الصالحين من المغاربة المسلمين، وكان الملك في يحضره ويكرمه، ويرجع إلى قوله، ويقدمه على من عنده من الرهبان والقسيسين. فلما كان الوقت الذي فتحت فيه الرها سير هذا ملك الفرنج جيشا في البحر إلى أفريقية فنهبوا وأغاروا وأسروا، وجاءت الأخبار إلى الملك وهو جالس وعنده هذا العالم المغربي وقد نعس وهو شبيه النائم. فأيقظه الملك وقال: يافقيه: قد فعل أصحابا بالمسلمين كيت وكيت؛ أين كان محمد عن نصرهم: فقال له: كان قد حضر فتح الرها. فتضاحك من عنده من الفرنج؛ فقال لهم الملك: لا تضحكوا فوا الله ما قال عن غير علم. واشتد هذا على الملك؛ فلم يمض غير قليل حتى أتاهم الخبر بفتحها على المسلمين، فأنساهم شدة هذا الوهن رخاء ذلك الخبر، لعلو منزلة الرها عند النصرانية. قال: وحكى لي أيضا غير واحد ممن أثق إليهم، أن رجلا من الصالحين قال: رايت الشهيد بعد قتله في المنام في أحسن حال، فقلت له ما فعل الله بك؟ فقال غفر لي، فقلت بماذا. قال بفتح الرها.
قلت وهنأه القيسراني عند فتح الرها بقصيدة أولها:
هو السيف لا يغنيك إلا جلاده ... وهل طوق الأملاك إلا نجاده
وعن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظبا ... سناها وإن فات العيون اتقاده
سمت قبة الإسلام فخرا بطوله ... ولم يك يسمو الدين لولا عماده.
وذاد قسيم الدولة ابن قسيمها ... عن الله ما لا يستطاع ذياده
ليهن بنى الإيمان أمن ترفعت ... رواسيه عزا واطمأن مهاده
وفتح حديث في السماع،حديثه ... شهىٌّ إلى يوم المعاد مُعادُه
أراح قلوباً طرن من وُكُناتها ... عليها فوافى كل صدر فؤاده
لقد كان في فتح الرُّهاء دلالة ... على غير ما عند العُلوج اعتقاده
يرجعون ميلاد ابن مريم نُصرة ... ولم يغن عند القوم عنه ولاده
مدينة إفك منذ خمسين حجة ... يفل حديد الهند عنها حداده
تفوت مدى الأبصار حتى لوانها ... ترقت إليه خان طرفاً سواده
وجامحةٍ غزَّ الملوك قيادُها ... إلى أن ثناها من يعز قياده
فأوسعها حر القراع مؤيد ... بصير بتمرين الألد لداده
كأن سنا لمع الأسنة حوله ... سرار ولكن في يديه زناده
فأضرمها نارين: حرباً وخدعة ... فما راع إلا سورها وانهداده
فصدت صُدُودَ البكر عند افتضاضها ... وهيهات كان السيف حتما سفاده
فيا ظفراً عم البلاد صلاحُه ... بمن كان قد عم البلاد فساده
فلا مطلق إلا وشد وثاقه ... ولا موثق إلا وحل صفاده
ولا منبر إلا ترنح عوده ... ولا مصحف إلا أنار مداده
فإن يثكل الابرنز فيها حياته ... وإلا فقل للنجم كيف نهاده
وباتت سرايا القمص تقمص دونها ... كما تتنزى عن حريق حراده
إلى أين يا أسرى الضلالة بعدها ... لقد ذل غاويكُم وعز رشاده

رويدكم لا مانع من مظفر ... يعاند أسباب القضاء عناده
مُصيبُ سهام الرأي لو أن عزمه ... رمى سد ذي القرنين أصمي سداده
وقل لملوك الكفر تُسِلمُ بعدها ... ممالكها، إن البلاد بلاده
كذا عن طريق الصبح أيتها الدُّجى ... فيا طالما غال الظلام امتداده
ومن كان أملاك السَّموات جنده ... فأية أرض لم ترضها جياده
ولله عزم ماء سيحان ورده ... وروضة قسطنطينية، مستراده
وله من قصيدة هنأ بها القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري أولها:
هي جنة المأوى فهل من خاطب.
يقول فيها:.
إن الصفائح يوم صافحت الرها ... عطفت عليها كل أشرس ناكب
فتح الفُتوح مبشراً بتمامه ... كالفجر في صدر النهار الآيب
لله أية وقفةٍ بدرّيةِ ... نصرت صحائبها بأيمن صاحب
ظفر كمال الدين كنت لقاحه ... كم ناهض بالحرب غير محارب
وأمدكم جيش الملائك نصرة ... بكتائب محفوفة بكتائب
جنبوا الدبور وقد تم ريح الصبا ... جندُ النبوة هل لها من غالب!
أترى الرها الورهاء يوم تمنعت ... ظنت وجوب السور سورة لاعب
لا أين يا أسرى المهالك بعدها ... ضاق الفضاء على نجاة الهارب
شدا إلى أرض الفرنجة بعدها ... إن الدُّرُوب على الطريق اللاّحب
أفغركم والثارُ رهنُ دمائكم - ما كان من إطراق لحفظ الطالب؟!
وإذا رأيت الليث يجمع نفسه ... عون الفريسة فهو عين الواثب!
وقال ابن منير:
صفات مجدك لفظ جل معناه ... فلا استرد الذي أعطاكهُ الله
يا صارما بيمين الله قائمة ... وفى أعالي أعادي الله حداه
أصْبَحْتَ دْون ملوك الأرض مُنفرداً ... بلا شبيه إذا الأملاك أشباه
فداك من حاولت. مسعاك همته ... جهلا، وقصر عن مسعاك مسعاه
قل للأعادي:ألا موتوابه كمداً ... فالله خيبكم والله أعطاه
ملك تنام عن الفحشاء هِمّمُهُ ... تُقى وتسهر للمعروف عيناه
مازال يَسُمُك والأياًم تخدمه ... فيما ابتلاه وتدنى ما توخاه
حتى تعالت عن الشعري مشاعره ... قدراً، وجاوزت الجوزاء، نعلاه
وقد روى الناس أخبار الكرام مضوا ... وأين مما رَوَرْه ما رأينا
أين الخلائف عن فتح أتيح له ... مظلل أفق الدنيا جناحاه
على المنابر من انبائه أرج ... مقطوبة بفتيق المسك رياه
فتح أعاد على الإسلام بهجته ... فافتر مبسمه واهتز عطفاه
يهدى بمعتصم بالله فتكته ... حديثها نسخ الماضي وأنساه
إن الرها غير عمورية، وكذا ... من رامها ليس مَعْزَاهُ كمغزاه
أخت الكواكب عزا ما بغى أحدٌ ... من الملوك لها وقما فوتاه
حتى دلفت لها بالعزم يشحذه ... رأى يبيت فُوَيق النجم مسراه
مشمراً وبنو الإسلام في شُغُل ... عن بدء غرس لهم أثمار عقباه
يا مُحيي العدل إذ قامت نَوَادِبُه ... وعامر الجود لما مح مغناه
يا نعمة الله يستصفى المزيد بها ... للشاكرين ويستصفى صفاياه
أبقاك للدين والدنيا تحوطهما ... من لم يتوجك هذا التاج إلا هو
ولابن منير أيضاً من قصيدة تقدم بعضها:
أيا ملكاً ألقى على الشرك كلكلا ... أنخ على أماته كلكل الثكل
جمعت إلى فتح الرها سد باله ... بجمعك بين النهب والأسر والقتل
هو الفتح أنسى كل فتح حديثه ... وتوج مسطور الرواية والنقل

فضضت به نقش الخواتم بعده ... جزيت جزاء الصدق عن خاتم الرّسْل
تجردت للإسلام دون ملوكه ... تُبتِّكُ أسباب المذلة والخذل
أخو الحرب غذته القراع مفطًّما ... يشوب بإقدام الفتى حنكة الكهل
وله من قصيدة أخرى:
بعماد الدين أضحت عروة الد ... ين معصوبا بها الفتح المبين
واستزادت بقسيم الدولة ال ... قسم من إدْحاض كيدْ المارقين
ملك أسْهَر عينا لم تزل ... هُّمها تشريدُهمِّ الرّاقدين
لا خَلتْ من كَحَل النصر فقد ... فقات غيظا عيون الحاسديين
كلُّ يوم مر من أيامه ... فهو عيدٌ عائد للمسلمين
لو جرى الإنصاف في أوصافه ... كان أولادها أمير المؤمنين
ما روى الرّاوُون بل ما سطّروا ... مثل ما خطت له أيدي السنين
إذ أناخ الشرك في أكنافه ... بمئي ألفٍ ثناها بمئين
وقعة طاحت بكلب الرّوم من ... قطعة البين إلى قطع الوتين
إن حمت مصر فقد قام لها ... واضح البرهان أن الصّين صين
درج الدّهر عليها معصراً ... لم يدنس بمرام اللأئمين
والرها لو لم تكن إلا الرّها ... لكنت حَسْماً لشك الممترين
هم قسطنطين أن يفرعها ... ومضى لم يَحْوِ منها قِسْطَ طِيِنْ
ولكَم مِنْ مَلِكٍ حاولها ... فتحلى الحين وسماً في الجبين
هي أختُ النّجم إلا أنها ... منه كالنجم لرأى المُبْصرين
مُنِيَتْ منه بليثٍ قائد ... بعران الذل أساد العرين
زارها يزأر في أسد وغى ... تبدل الأسد من الزأر الأنين
صولجوا البيض بضرب نَثَر ال ... هامَ في ساحاتها نثر الكرين
ياَلَهَا هِمّةُ ثغرِ أضحكت ... من بنى القلف ثغور الشّامتين
برنست رأس برنس ذلة ... بعد ما جاست حوايا جوسلين
وسروج منذٌ وعت أسراجه ... فرقت جماعها عنها عضين
تلك أقفال رماها الله من ... عزمه الماضي بخير الفاتحين
شام منه الشام برقاً ودْقُه ... مؤمن الخوف مخيف الآمنين
كم كنيس كنست رامها ... منه بعد الروح في ظل السفين
دنت الآجال من آجالها ... فأحلّتها القطا بعدَ القطين
ومنار يجتلى صلبانه ... نجين بيض تتبارى فى البرين
قرعته البيض حتى بدلت ... قرعة الناقوس تثويب الأذين
بالقسيميّات مقسوما لها الد ... هر في علك لجين أو لجين
سل بها حران كم حرى سقت ... بردا من يوم ردت ماردين
سمطت أمس سُمَيْسَاط بها ... نظم جيش مبهْج للناظرين
وغدا يلقي على القدس لها ... كلكل يدرسها درس الدرين
همة تمسى وتضحي عزمة ... ليس حصن إن نحته بحصين
قل لقوم غرهم إمهاله ... ستذوقون شذاه بعد حين
إنه الموت الذي يدرك من ... فرمنه مُشحا للغافلين
وهو يُحيى مُمْسكى عروته ... إنها حبل لمن تاب متين
من يطع ينج، ومن يعص يكن ... من غداة عبرة للآخرين
بك ياشمس المعالي رُدت الر ... وح في المَيْتَيْن من دنيا ودين
أقسم الجد بأن تبقى لكي ... تملك الأرض يمينا لا يمين
وتُفيض العدل في أقطارها ... مُنسياً مُؤلم عسف الجأرين
لاتزال دارك كيف انتقلت ... كعباً محفوفة بالطائفين
كل يوم يتحلى جيدها ... من نظيم المدح بالدر الثمين
كلما أخلص فيها دعوة لك قالت ألْسُنُ الخلق أمين
فصل

لما فزغ الشهيد من أخذ الرها وإصلاح خالها والاستيلاء على ما وراءها من البلاد والولايات سار إلى قلعة البيرة، وهي حصن حصين مطل على الفرات، وهو لجوسلين أيضا، فحصره، وضايقه. فأتاه الخبر بقتل نائبه بالموصل والبلاد الشرقية، نصير الدين جغر بن يعقوب، فرحل عنها خوفا من أن يحدث بعده في البلاد فتق يحتاج إلى المسير إليها. فلما رحل عنها سير إليها حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي صاحب ماردين عسكراً، فسلمها الفرنج إليهم خوفا من الشهيد أن يعود إليهم فيأخذها. وكان قتل النصير في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين. وسببه أن الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجي ولد السلطان محمود بن محمد كان عند الشهيد، وهو أتابكه ومربيه، وكان هو يظهر للخلفاء وللسلطان وأصحاب الأطراف أن البلاد التي بيده للملك ألب أرسلان وأنه نائبه فيها؛ وكان إذا أرسل رسولا أو أجاب عن رسالة فإنما يقول قال الملك كذا وكذا. وكان ينتظر وفاة السلطان مسعود ليجمع العساكر باسمه و يخرج الأموال ويطلب السلطنة، فعاجلته المنية قبل ذلك. وكان هذا الملك بالموصل هذه السنة، وبها نصير الدين، وهو ينزل إليه كل يوم يخدمه ويقف عنده ساعة ثم يعود. فحسن المفسدون للملك قتله، وقالوا له: إنك إن قتلته ملكت الموصل وغيرها، و يعجز أتابك أن يقيم بين يديك، ولا يجتمع معه فارسان عيك؛ فوقع هذا في نفسه وظنه صحيحاً. فلما دخل نصير الدين إليه على عادته وثب عليه جماعة في خدمة الملك فقتلوه وألقوا رأسه إلى أصحابه، ظنا منم أن أصحابه إذا رأوا رأسه تفرقوا، ويملك الملك البلاد. وكان الأمر بخلاف ما ظنوا؛ فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين معه ك رأوا رأسه قاتلوا من بالدار مع الملك، واجتمع معهم الخلق الكثير. وكانت دولة الشهيد مملوءة بالرجال الأجلاد ذوى الرأي والتجربة، فلم يتغير عليه بهذا الفتق شيء. وكان في جملة من حضر القاض تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، أخو كمال الدين، فدخل إلى السلطان وخدعه حتى أصعده إلى القلعة وهو في يحسن له الصعود إليها، وحينئذ يستقرله ملك البلاد. فلما صعد القلعة سجنوه بها، وقتل الغلمان الذين قتلوا نصير، وأرسلوا إلى أتابك يعرفونه الحال؛ فسكن جأشه، واطمأن قلبه وأرسل زين الدين على بن بكتكين واليا على قلعة الموصل، وكان كثير الثقة به والاعتماد عليه، فسلك بالناس غير الطريق التي سلكها النصير، وسهل الأمر، فاطمأن الناس وأمنوا، وازدادت البلاد معه عمارة.،ولما رأى الشهيد صلاح أمر الموصل سار إلى حلب فجهز منها جيشا إلى قلعة شيزر، و بينها وبين حماة نحو أربعة فراسخ، فحصرها.
قلت كذا وقع في تحن ابن الأثير. وقد وهم في قوله ألب أرسلان المعروف بالخفاجي، فالخفاجي غير ألب أرسلان على ما ذكره العماد الكاتب في كتاب السلجوقية فإنه قال: كان مع زنكي ملكان من أولاد السلطان محمود بن حمد بن ملكشاه، أحدهما يسمى ألب أرسلان وهو في تنقل من معاقل شجار، والآخر يسمى فرخشاه و يعرف بالخفاجي الملك، وهو بالموصل، وكان هذا الملك فت مسلماً إلى الأمير دبيس بن صدقة، فانزعه منه زنكي في حرب جرت، فكانت زوجة زنكي، خاتون السكمانية، تربيه حتى بلغ. وكان النصير يقبض عنانه، ويبسط فيه لسانه، ويقول: إن عقل و إلا عقلته، وإن ثقل طبعه وإلا ثقلته. فدبر في قتله مع اصحابه، فقطعوه في دهليز داره لما دخل للسلام على الملك. ثم أصعد القاضي تاج الدين الملك إلى القلعة فلم يُر له أثر، والتقط مماليكه. ثم عطف زنكي على الملك الآخر ألب أرسلان فاستخرجه من معقله، وغنى بتفاصيل أمره وجمله، وضرب له نوبتية ونوبا، ورتب له في حالتي ركوبه وجلوسه رتبا؛ واغرى بتولي إكرامه وتوخيه، وغرضه خفاء ما جرى من هلاك أخيه. ثم ذكر قصة موت زنكي على قلعة جعبر، كما سيأتي.
وفي سنة أربعين وخمسمائة أرسل أتابك إلى زين الدين علي يأمره بإرسال عسكر إلى حصن فنك يحصره، فسير خلقا كثيراً من الفرسان والرجالة؛ فأقاموا عليه يحصرونه إلى أن أتاهم الخبر بقتل الشهيد أتابك. وهذا الحصن هو مجاور جزيرة ابن عمر، هو للأكراد البشنوية، وله معهم مدة طويلة، يقولون نحو ثلاثمائة سنة؛ وهو من أمنع الحصون، مطل على دجلة؛ وله سرب إلى عين ماء لا يمكن أن يحال بين أهله وبينها.

قلت وفي هذه السنة أنشد ابن منير بالرقة عماد الدين زنكي، يهنئه بالعافية من مرض عرض له في يده ورجله، قصيدة أولها:
يا بدر لا أفل ولا محاق ... ولا يرم مشرقك الإشراق
بالدين والدنيا الذي يشكو،وهل ... يهتز فرع لم يُقعه ساق
إن تورق القضب ويجرى ماؤها ... إلا إذا ما التاثت الأعراق
إن الرعايا ما سلمت في حمى ... للخطب عن طروقه إطراق
غرست بالعدل لهم خمائلا ... ترتع في حديقها الحداق
يا هضبة الدين، التي عاذبها ... فعاد لا بغت ولا إرهاق
لو ولم تحطه راحلاً وقافلا ... أصبح لا شام ولا عراق
عماد دين قد أقام زيغه ... حي، ومات الشرك والنفاق
يا محيي العدل الذي في ظله ... تسربلت زينتها الآفاق
يفديك من لاَنَ مِهاد جنبه ... لمانبا بجنبك الإقلاق
من بِشَبَا سيفك أنبطْت له ال ... عَذْبَ وما عيسه زُعاق
تجرع السم ولو لم تحمه ... بحده لَعزّهُ الدّرياق
ملوك أطراف لا حمى أطرافها ... عزمك هذا اللاحق السّبّاق
لو لم ترق ماء كرى العين لما ... ساغت بأفواههم الأرْياق
شققت من دونهم موج الردى ... وشق أكبادهم الشقاق
أقسم: لو كلفتهم أن يسمعوا ... حديث أيامك ما طاقوا
لما اشتكيت دب في أهوائهم ... توجس للسمع واستراق
تطالوا، لا عدمت آمالهم ... قصرا ولا جانبها الإخفاق
توهموها غسقا ثم انجلت ... والصفو من مشربهم غساق
لئن ألم ألم بقدم ... خد السها لنعلها طراق
أو كان مدَّ يّدّهُ إلى يدٍ ... تجرى بها الآجال والأرزاق
فالنصْل يُعْلَى صَدَأ وتحته ... حد حسام وسناُ رقراق
رمى الصَّليبَ بصليب الرَّأي عن ... زوراءَ أوهى نزعها الإغراق
ونوم من خلف الخليج سَهَرٌ ... والعيش في فرنجة سياق
ماتوا فلا همسٌ ولا إشارة خوف هموس زأره إزهاق
لا سلبت منك الليالي ماكست ... ولا عرت نجدتك الإخلاق
فصل في وفاة زنكي رحمه اللهقال ابن الأثير: كانت قلعة جعبر قد سلمها السلطان ملكشاه إلى الأمير سالم بن مالك العقيلي لما ملك قسيم الدولة بمدينة حلب؛ فلم تزل بيده و يد أولاده إلى سنه إحدى وأربعين. فسار الشهيد إليها فحصرها، وكان الباعث له على حصرها وحصر فنك ألا يبقى في وسط بلاده ما هو لغيره وإن قل، لِلْحَزْم الذي كان عنبده والاحتياط؛ وأقام عليه يحصره بنفسه إلى أن مضى من شهر ربيع خمس ليال.. فبينما هو نائم دخل عليه نفر من مماليك فقتلوه غيلة ولم يجهزوا عليه، وهربوا من ليلتهم إلى القلعة، ولم يشعر أصحابه بقتله. فلما صعد أولئك النفر إلى القلعة صاح من بها إلى العسكر يعلمهم بقتله، فبادر أصحابه إليه، فأدركه أوائلهم وبه رمق. ثم ختم الله له بالشهادة أعماله:
لاقى الحمام ولم أكن مستيقنا ... أن الحمام سُيبتلى بحمام
فأضحى وقد خانه الأمل، وأدركه الأجل، وتخلى عنه العبيد والخول. فأي نجم للإسلام. أفل، وأي ناصر للإيمان رحل؛ وأي بحر ندى نضب، وأي بدر بكارم غرب؛ وأي أسد افترس، ولم ينجه قلة حصن ولا صهوة فرس. فكم أجهد نفسه لتمهيد الملك وسياسته، وكم أذبها في حفظه وحراسته؛ فأتاه مبيد الأمم، ومُفنيها في الحدث والقدم؛ فأصاره بعد القهر للخلائق مقهورا، وبعد وثير المضاجع في التراب معفراً مقبوراً؛ رهين جدث لا ينفعه إلا ما قدم، قد طويت صحيفة عمله فهو موثوق في صورة مستسلم. ثم دفن بصفين عند أصحاب على أمير المؤمنين رضي الله عنه.

قلت وذكر العماد الكاتب في كتاب السلجوقية، قال: قصد زنكي حصار قلعة جعبر فنازلها؛ وكان إذا نام ينام حوله عدة من خدامه الصباح وهو يحبهم و يَحْبُوهم ولكنه. مع الوفاء منهم يجفوهم، وهم أبناء الفحول القروم، من الترك والأرمن والروم. وكان من دأبه أنه إذا نقم على كبير أرداه وأقصاه، واستبق ولده عنده وخصاه. فنام ليلة موته وهو سكران؛ فشرع الخُدام في اللعب فزجرهم، وزبرهم وتوعدهم، فخافوا من سطوته. فلما نام ركبه كبيرهم، واسمه برتقش، فذبحه، وخرج ومعه خاتمه، فركب فرس النوبة مُوِهماً أنه يمضي في مهم، وهو لا يرتاب به لأنه خاص زنكي. فأتي الخادم أهل القلعة فأخبرهم، وذكر الحديث. قلت: ثم نقل إلى الرّقة فدفن بها، وقبره الآن فيها.
قال ابن الأثير: وكان حسن الصورة مليح العينين، قد وخطه الشيب، طويلا وليس بالطويل البائن. وخلف من الأولاد سيف الدين غازيا، وهو الذي ولى بعده، ونور الدين محموداً الملك العادل، وقطب الدين مودوداً، وهو أبو الملوك بالموصل، ونُصرة الدين أمير أميران، و بتاً. فانقرض، عقب سيف الدين من الذكور والإناث، ونور. الدين من الذكور ولم يبق الملك إلا في عقب قطب الدين. ولقد أنجب رحمه الله، فبن أولاده الملوك لم يكن مثلهم.
قلت ومن عجيب ما حكى أنه لما اشتد حصار قلعة جعبر جاء في الليل أبى حسان المنبجي ووقف تحت القلعة ونادى صاحبها، فأجابه؛ فقال له: هذا المولى أتابك صاحب البلاد، وقد نزل عليك بعساكر الدنيا وأنت بلا وزر ولا معين؛ وأنا أرى أن ادخل في قضيتك واخذ لك من المولى أتابك مكانا عوض هذا المكان؛ وإن لم تفعل فأي شيء تنتظر؟! فقال له صاحب القلعة: أنتظر الذي انتظر أبوك. وكان بلك بن بَهرام صاحب حلب قد نزل على أبيه حسان وحاصره في منبج أشد حصار، ونصب عليه عدة مجانيق، وقال يوما لحسان، وقد أصرفه بحجارة المنجنيق: أي شيء تنتظر؛ أما تسلم الحصن؟! فقال له حسان: أنتظر سهام من سهام الله. فلما كان من الغد بينا بلك يرتب المنجنيق إذ أصابه سهم غرب، وقع في لبته فخر ميتا؛ ولم يكن من جسده شيء ظاهر إلا ذلك، المكان، لأنه كان قد لبس الدرع ولم يزرها على صدره. فلما سمع أبى حسان ذلك من مقالة صاحب قلعة جعبر رجع عنه. وفي تلك الليلة قتل أتابك، فكان هذا من الاتفاقات العجيبة والعبر الغريبة. ذكر ذلك يحيى بن أبى طي في كتاب السيرة الصلاحية.
فصل في بعض سيرة الشهيد أتابك زنكي.وكانت من أحسن سير الملوك وأكثرها حزما وضبطا للأمور، وكانت رعيته في أمن شامل يعجز القوى عن التعدي على الضعيف. قال أبن الأثير: حدثني والدي قال: قدم الشهيد أتابك زنكي إلينا بجزيرة ابن عمر، في بعض السنين، وكان زمن الشتاء، ونزل بالقلعة، ونزل العسكر في الخيام. وكان في جملة أمرائه الأمير عز الدين أبو بكر الدبيسي، وهو من أكابر أمرائه ومن ذوي الرأي عنده، فدخل الدبيسي البلد ونزل بدار في إنسان يهودي وأخرجه منها؛ فاستغاث اليهودي إلى الشهيد وهو راكب فسأل عن حاله، فأخبر به؛ وكان الشهيد واقفا والدبيسي إلى جانبه ليس فوقه أحد؛ فلما سمع أتابك الخبر نظر إلى الدبيسي نظر مغضب ولم يكلمه كلمة واحدة، فتأخر القهقرى، ودخل البلد فأخرج خيامه وأمر بنصبها خارج البلد، ولم تكن الأرض تحتمل وضع الخيام عليها لكثرة الوحل والطين. قال: ولقد رأيت الفراشين وهم ينقلون الطين لينصبوا خيمته؛ فلما رأوا كثرته جعلوا على الأرض تبناً ليقيموها، ونصبوا الخيام، وخرج إليها من ساعته.

قال: وكان ينهى أصحابه عن، اقتناء الأملاك ويقول: مهما كانت البلاد لنا فأي حاجة لكم إلى الأملاك،، فإن الاقطاعات تغنى عنها؛ وإن خرجت البلاد عن أيدينا فإن الأملاك تذهب معها؛ ومتى سارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وتعدوا عليهم وغصبوهم أملاكهم. ثم ذكر ما تجدد في أيامه من. عمارة البلاد، لا سيما بالموصل، وذلك لحسن سيرته، فكان يقصده الناس ويتخذون بلاده دار إقامة. وهو الشي أمر ببناء عور المملكة بالموصل، ولم يكن بها للسلطان غير الدار المعروفة بدار الملك مقابل الميدان. ثم رفع سورها وعمق خندقها. وهو الذي فتح الباب العمادي و إليه ينسب. قال: وكانت الموصل اقل بلاد الله فاكهة، وكان الذي يبع الفواكه يكون عنده مقراض يقص به العنب لقلته إذا أراد أن يزنه؛ فلما مرت البلاد عملت البساتين بظاهر الموصل وفي ولاينها.
قال: ومن أحسن آرائه أنه كان شديد العناية بأخبار الأطراف وما يجرى لأصحابها حتى في خلواتهم، ولا سيما دركاة السلطان، وكان يغرم على ذلك المال الجزيل فكان يطالع ويكتب إليه بكل ما يفعله السلطان في ليله ونهاره، من حرب وسلم،، وهزل وجد، وغير ذلك فكان يصل إليه كل يوم من عيونه عدة كتب. وكان مع اشتغاله بالأمور الكبار من أمور الدولة لا يهمل الاطلاع على الصغير؛ وكان يقول إذا لم يعرف ليمنع صار كبيراً. وكان لا يمكن رسول ملك يعبر في بلاده بغير أمره؛ وإذا استأذنه رسول في العبور في بلاده أذن له وأرسل إليه من يسيره، ولا يتركه يجتمع بأحد من الرعية ولا غيرهم؛ فكان الرسول يدخل بلاده ويخرج منها ولا يعلم من أحوالها شيئا. وكان يتعهد أصحابه و يمتحنهم. سلم يوما خشكنانكة إلى طشت دار له وقال احفظ هذه؛ فبقى نحو سنة لا تفارقه الخشكنانكة خوفا أن يطلبها منه. فلما كان بعد ذلك قال له: أين الخشكنانكة فأخرجها في قنديل وقدمها بين يديه، فاستحن ذلك منه وقال: مثلك ينبغي أن لا يكون مستحفظا لحصن. وأمر له بدُزْدَاريةَّ قلعة كواشي، فبقى فيها. إلى أن قتل أتابك. وكان لا يمكن أحدا من خدمه من مفارقة بلادة ويقول:إن البلاد كبستان عليه سياج، فمن هو خارج السياج يهاب الدخول، فإذا خرج منها من يدل على عورتها ويطمع العدوو فيها زالت الهيبة وتطرق الخصوم إليها قاله: ومن. صائب رأيه وجيده أن سير طائفة من التركمان الإيوانية مع الأمير اليارق إلى الشام، وأسكنهم بولاية حلب، وأمرهم بجهاد الفرنج، وملكهم كل ما استنقذوه من البلاد التي للفرنج وجله ملكا لهم فكانوا يغادرون الفرنج بالقتال و يراوحونهم؛ وأخذوا كثيراً من السواد وسدوا ذلك الثغر العظيم. ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم إلى نحو سنة ستمائة قال: ومن آارائه أنه لما اجتمع له الأموال الكثيرة أودع بعضها بالموصل وبعضها بسنجار وبعضها بحلب، وقال إن جرى على بعض هذه الجهات خرق أو حيل بيني و بينه استعنت على سد الخرق بالمال في غيره.
قال: واما شجاعته وإقدامه فإليه النهاية! فيها، وبه كانت تضرب الأمثال، ويكفى في معرفة ذلك جملة، أن ولايته أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب: الخليفة المترشد، والسلطان مسعود، وأصحاب أرمينية وأعمالها، بيت سكمان، وركن الدولة داود صاحب حصن كيفا، وابن عمه صاحب ماردين، ثم الفرنج، ثم دمشق. وكان ينتصف منهم و يغزو كلا منهم في عقر داره ويفتح من بلادهم، ماعدا للسلطان مسعود فإنه كان لا يباشر قصده، بل كان يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه، فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه، وطلب منه أن يجمعهم على طاعته، فيصير كالحاكم على الجميع، وكلٌ يداريه ويخضع له، ويطلب ما تستقر القواعد على يده.

قال: وأما غيرته فكانت شديدة ولا سيما على نساء الأجناد، فإن التعرض إليهن كان من الذنوب التي لا يغفرها؛. كان يقول إن جندي لا يفارقوني في أسفاري وقلما يقيمون عند أهلم، فإن نحن لم نمنع من التعرض إلى حرمهم هلكن وفسدن. قلت: وفي صحيح مسلم من حديث أبى سعيد الخدري، وذكر حديث رجم النبي صل الله عليه وسلم ما عزاً، قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا قال: أو كُلَّماَ انطلقنا غُزَاةً في سَبِيلِ الله تَخَلَّفَ رَجُلٌ في عِيالنا لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التِّيْسِ!! على ألا أؤْتَي بِرَجُلٍ فَعَلَ ذلك إلا نَكَّلْتُ به. قال ابن الأثير: وكان قد أقام بقلعة الجزيرة دُزْادَاراً اسمه نور الدين حسن البربطي، وكان من خواصّه وأقرب الناس إليه، وكان غير مرضى السيرة؛ فبلغه عنه أنه يتعرض للحُرم؛ فأمر صاحبه صلاح الدين الياغبساني أنه يسير مجدا ويدخل الجزيرة، فإذا دخلها أخذ البربطي وقطع ذكره، وقلع عينيه عقوبة لنظره بهم إلى الحرم، ثم يصلبه. فسار الصلاح مجدا، فلم يشعر البربطي إلا وقد وصل إلى البلد؛ فخرج إلى لقائه، فأكرمه الصلاح ودخل معه البلد، وقال له: المولى أتابك يسلم عليك ويريد أن يُعلى قدرك، ويرفع منزلتك، ويسلم إليك قلعة حلب وبوليك جميع البلاد الشامية لتكون هناك مثل نصير الدين، فتجهز وتحدر مالك في الماء إلى الموصل وتسير إلى خدمته ففرح ذلك المسكين فلم يترك له قيلا ولا كثيراً إلا نقله إلى السفن ليحدرها إلى الموصل في دجلة. فحين فرغ من جمع ذلك أخذه الصلاح وأمضى فيه ما أمر به،، وأخذ جميع ماله. فلم يتجاسر بعده أحد على سلوك شيء من أفعاله.
قال: وأما صدقاته، فكان يتصدق كل جمعة بمائة دينار، أميري ظاهراً، ويتصدق فيما عداه من للأيام سرا مع من يثق به. وركب يوما فعثرت به دابته فكاد يسقط عنها، فاستدعى أميراً كان معه فقال له كلاما لم يفهمه ولم يتجاسر على أن يستفهمه منه، فعاد عنه إلى بيته وودع أهله عازما على الهرب؛ فقالت له زوجته ما ذنبك وما حملك على هذا الهرب فذكر لها الحال، فقالت له إن نصير الدين له عناية، فاذكر له قصتك وافعل ما يأمرك به. فقال أخاف أن يمنعني من الهرب فأهلك. فلم تزل زوجته تراجعه وتقوي عزمه، فعزف النصير حاله، فضحك منه وقال: خذ هذه الصرة الدنانير واحملها إليه فعي التي أراد. ففال: الله الله في دمي ونفسي. فقال: لا بأس عليك فإنه ما أراد غير هذه الصرة؛ فحملها إليه. فحين رآه قال: أمعك شيء قال نعم؛ فأمره أن يتصدق به. فلما فرغ من الصدقة تصد النصير وشكره، وقال: من أين علمت أنه أراد الصرة؟ فقال له: إنه يتصدق في هذا اليوم بمثل هذا القدر، يرسل إلى من يأخذ من الليل، وفي يومنا هذا لم يأخذه. ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض، وأرسلك إلي، فعلمت أنه ذكر الصدقة فقال: وحكى لي من شدة هيبته ما هو أشد من هذا. قال والدي خرج يوما الشهيد من قلعة الجزيرة من باب السّر خلوة وملاَّح له نائم فأيقظه بعض الجاندارية وقال له اقعد؛ فحين رأى الشهيد سقط إلى الأرض فحركوه فوجدوه ميَّتاً.
قال: وكان الشهيد قليل التلون والتنقل، بطيء الملل والتغير، شديد العزم، لم يتغير على أحد من أصحابه مُذْ مَلَكَ إلى أن قتل إلا بذنب يوجب التغير؛ والأمراء والمقدمون الذين كانوا معه أولاً هم الذين بقوا أخيراً، من سلم منهم من الموت؛ فلهذا كانوا ينصحونه ويبذلون نفوسهم له. وكان الإنسان إذا قدم عسكره لم يكن غريباً: إن كان جندباً اشتمل عليه الأجناد وأضافوه، و إن كان. صاحب ديوان تصد أهل الديوان، وإن كان عالما قصد القضاة بني الشهرزوري فُيحسنون إليه ويؤنسون غربته فيعود كأنه آهل. وسبب ذلك جميعه أنه كان يخطب الرجال ذوي الهمم العالية، والآراء الصائبة، والأنفس الأبية.، ويوسع عليهم في الأرزاق، فيسهل عليهم فعل الجميل واصطناع المعروف.
قلت: وما أحسن ما وصفه به أحمد بن منير من قوله في قصيدة:
في ذرا ملك هو الده ... ر عطاء واستلابا
من له كف تبز ال ... غيث سحا وانسكاباً
فاتح في وجه كل ... أمة للنصر باباً
تَرْجُف الدنيا إذا حر ... ك للسير الركابا
وتخر المشمخرا ... ت اختلالا واضطرابا

وترى.الأعداء من هي ... بته تأوى الشعاباً
وإذا ما لفحتهم ... ناره صاروا كبابا
با عماد الدين لا زل ... ت على الدين سحابا
جاعلا من دونه سي ... فك إن ريع حجابا
فالبس النعماء في الأ ... من الذي طبت وطابا
وأصف عيشاً إن أعدا ... ءك. قد صاروا تراباً
وقال العماد الكتاب: استولى زنكي على - الشامل من سنة اثنتين وعشرين إلى أن قتل في سنة إحدى وأربعين. وهو الذي فتح الرها عنوة، واحتل بها من السعادة ذروة؛ فتسنى بفتح الرها للمسلمين، جَوْسُ بلاد جوسلين؛ وعاد جمعها إلى الإسلام في عهد ولد زنكي نور الدين وصارت عقود الفرنج من ذلك لحين تنفسخ، وأمورها تنْتسخ؛ ومعاقلها تفرع، وعقائلُها تُفْتَرع.
وقال الرئيس أبو يعالي التميمي: كانت الأعمال بعد قتل زنكي قد اضطربت، والمسالك قد اختلت، بعد الهيبة المشهورة ؟، والأمنة المشكورة؛ وانطلقت أيدي التركمان والحرامية في فساد الأطراف.، والعيث في سائر النواحي والأكناف؛ ونظمت في صفة هذه الحال أبياتا من قصيدة:.
كذلك عماد الدين زنكي تنافرت ... سعادته عنه وخرت دعائمه
وكم بيت مال من نضار وجوهر ... وأنواع ديباج حوتها مخاتمه
وأضحت بأعلى كل حصن مصونة ... يُحامى عليها. جنده وخوادمه
ومن صافنات الخيل كل مطهم ... يروع الأعادي حليه وَبَرَاجمه
فلو رامت الكتاب وصف شياتها ... بأقلامها ما أدرك الوصف ناظمه
كم معقل قد رامه بسيوفه ... وشامخ حصْن لم تَفُتْه غنائمه
ودانت وُلاة الأرض فيها لأمره ... وقد أمنتهم كتبه وخواتمه
وأمن من في كل قطر لهتبة ... يراع بها أعرابُه وأعاجمه
وظالم قوم حين يذكر عدله ... فقد زال عنهم ظُلْمه وخصائمه
وأصبح سلطان البلاد بسيفه ... وليس له فيها نظير يزاحمه
وزاد على الأملاك بأساً وسطوة ... ولم يبق في الأملاك ملك يقاومه
فلما تناهي مُلكُه وجلاله ... وراعت ولاة الأرض منه لوائمه
أتاه قضاء لا ترد سهامه ... فلم تنجه أمواله ومغانمه
وأدركه لْلِحْين. فيها حِمامه ... وحامت عليه بالمنون حوائمه
وأضحى على ظهر الفراش مُجدلا ... صريعاً تولى ذبحه فيه خادمه
وقد كان في الجيش اللهام مبيته ... ومن حوله أبطاله وصوارمه
وسمر العوالي حوله بأكفهم ... تذود الردى عنه وقد نام نائمه
ومن دون هذا عصبة قد ترتَّبَت ... بأسهمها يُرْدى من، الطير حائمه
وكم رام في الأيام راحة سره ... وهمته تعلو وتقوى شكائمه
وكم مسلك للسفر أمن سُبله ... ومسرح حي أن تُراعَ سوائمه
وكم ثغر إسلام حواه بسيفه ... من الروم لماً أدركته مراحمه
فمن ذا الذي يأتي بهيبة مثله وتنفذ ... في أقصى البلاد مراسمه
فلَوْرَقِيتْ في كل مصر بذكره ... أراقمه ذلت هنك أراقمه
فمن ذا الذي ينجو من الدهر سالما ... إذا ما أتاه الأمر، والله حاتمه
ومن رام صفواً في الحياة فما يرى ... له صفو عيش والحمام يحاومه
فإياك لا تغبط ملكيا بملكه ... ودعه فإن الدهر لاشك قاصمه
وقل للذي يبني الحصون لنحفظه ... رويدك ما تبني فدهرك هادمُه
وفى ضل هذا عبرة ومواعظ ... بها يَتَناسى المرء ما هو عازمه

قال: وفي ثامن عشر جمادى الآخرة من السنة وصل الخادم يرتقش القاتل لعماد الدين زنكي وانفصل من قلعة جعبر لخوف صاحبها من طلبه منه، فوصل دمشق متيقنا أنه قد أمن بها، ومدلاَّ بما فعله، وظنا منه أن الحال على ما توهمه. فقبض عليه وانفذ إلى حلب صُحبة من حفظه وأوصله إليها، فأقام بها أياما ثم حمل إلى الموصل، وذكر أنه قتل بها.
قلت وللحكيم أبى الحكم المغربي قصيدة في مرثية الشهيد عماد الدين زنكي رحمه الله، منها:
عينُ لا تذخرى الدموع وبكى ... واستهلى دما على فقد زنكي
لم يَهَتْ شخصه الردى بعد أن كا ... نت له هيبة على كل تركي
خيرُ ملك ذي هيبة وبهاء ... وعظيم بين الأنام بُزُزْك
يهب المال والجياد لمن يم ... مه مادحا بغير تلكي
إن داراً تمدنا بالرزايا ... هي عندي أحق دارٍ بِتَرْك
فاسكبوا فوق قبره ماء وردٍ ... وانضحوه بزغفران ومسك
أي فتك جرى له في الأعادي ... بعد ما استفتح الرُّها، أي فتك
كل خطب أنت به نوب الده ... ر يسير في جنب مصْرع زنكي
بعد ما كاد أن تدين له الرو ... م ويحوي البلاد من غير شك
فصل فيما جرى بعد قتل زنكي من تفرق أصحابه وتملك ولديه غازي ومحمودقال الرئيس أبو يعلى: توجه الملك ولد السلطان، المقيم كان معه، فيمن صحبه وانضم، إليه إلى ناحية الموصل، ومعه سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك؛ وامتنع عليهم الوالي بالموصل، على كوجك، أياما إلى حين تقررت الحال بينهم. ثم فتح الباب ودخل ولده واستقام له الأمر، وانتصب منصبه. وعاد الأمير سيف الدولة سوار وصلاح الدين، يعنى محمد بن أيوب الياغبساني.، في تلك الحال إلى ناحية حلب، ومعهما الأمير نور الدين محمود ابن زنكي، وحصل بها. وشرع في جمع العساكر وإنفاق المال فيها، واستقام له الأمر وسكنت الدهماء. وفصل عنه الأمير صلاح الدين وحصل بحماة ولايته على سبيل الاستيحاش والخوف على نفسه من أمر يُدبر عليه.
وقال الحافظ أبو القاسم،: لما راهق نور الدين لزم خدمة والده إلى ان انتهت مدته على قلعة جعبر. وسير في صبيحة الأحد الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه، وقال لهم إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له وأنتم في خدمته، وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام وأتوجه إليكم. ثم قصد حلب ودخل قلعنها يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ورتب النواب في القلعة والمدينة.
وقال ابن أبى طي الحلبي: لما اتصل قتل أتابك بأسد الدين شيركره ركب من ساعته وقصد خيمة نور الدين وقال له: اعلم ان الوزير جمال الدين قد اخذ عسكر الموصل وعزم على تقديم أخيك سيف الدين وقصده إلى الموصل، وقد انضوى إليه جُل العسكر. وقد انفذ إلى جمال الدين وأرادني على اللحاق به فلم اعرج إليه وقد رأيت أن أصيرك إلى حلب وتجعلها كرسي مُلكك وتجتمع في خدمنك عساكر الشام؛ وأنا أعلم أن الأمر يصير جميعُه إليك لأن ملك الشام بحلب، ومن ملك جلب استظهر على بلاد الشرق. فركب وأمر أن لم ينادى في الليل في عساكر الشام بالاجتماع، فاجتمعوا وساروا في خدمة نور الدين إلى حلب، ودخلوها سابع ربيع الأول. ولما دخلوا حلب جاء أسد الدين إلى تحت القلعة ونادى واليها، وأصعد نور الدين إليها لي قرر أمره ومشى أحواله، فكان نور الدين يرى له ذلك وأسد الدين يمن بأنه كان السبب في توليته.

قال ابن الأثيرأ. لمنا قتل أتابك الشهيد ركب الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود، وكان مع الشهيد، واجتمعت العساكر عليه وخدموه. فأرسل جمال الدين الوزير إلى الصلاح يقول له: المصلحة أن نترك لم ما كان بيننا وراء ظهورنا، ونسلك طريقا يبقى به الملك في أولاد صاحبنا، ونعمر بيته جزاء لإحسانه إلينا؛ فإن الملك قد طمع في البلاد واجتمعت عليه العساكر؛ ولئن لم نتلاف هذا الأمر في أوله ونتداركه في بدايته لَيَتَّسِعَنَّ الخرق ولا يمكن رقعه. فأجابه الصلاح إلى ذلك وحلف كل واحد منهما لصاحبه. فركب الجمال إلى الملك فخدمه وضمن له فتح البلاد وأطمعه فيها، ومعه الصلاح، وقالا له: إن أتابك كان نائباً عنك في البلاد، وباسمك كنا نطيعه فقبل قولهما، وظنه حقاً، وقربهما، طمعاً أن يكونا عونا له على تحصيل غرضه. وأرسلا إلى زين الدين بالموصل يعرفانه قتل الشهيد ويأمرانه بالإرسال إلى سيف الدين غازي، وهو ولد عماد الدين زنكي الأكبر، وإحضاره إلى الموصل، وكان بشَهْرَزَوْر، وهي إقطاعُه من أبيه؛ ففعل زين الدين ذلك. وكان نور الدين محمود بن الشهيد قد سار لما قُتل والده إلى حلب فملكها، وذلك بإشارة أسد الدين شيركوه عليه. بذلك، وقال الجمال الملك: إن من الرأي أن يسير الصلاح إلى مملوك نور الدين بحلب يدبر أمره، وكانت حماة إقطاع الصلاح، فأمره فسار، وبقى الجمال وحده مع الملك فأخذه وقصد الرقة. فاشتغل بشرب الخمر والخلوة بالنساء، وأراد أن يعطي الأمراء شيئا فمنعه خوفا من أن تميل قلوبهم إليه، وقال: لهم الإقطاع الجزيل والنعم الوافرة. وشرع الجمال يستميل العسكر ويحلف الأمراء لسيف الدين بن أتابك الشهيد واحداً بعد واحد؛ وكل من حلف بأمره بالمسير إلى الموصل هاربا من الملك. وأقام بالملك في الرقة عدة أيام، ثم سار به إلى ماكسين تركه بها عدة أيام أيضاً، قد اشتغل بلذته عن طلب الملك ثم سار به نحو سنجار، وكان سيف الدين غازي قد دخل الموصل واستقر بها، فقوى حينئذ جنان جمال الدين، ووصل هو والملك إلى سنجار، فأرسل إلى دُزدارها وقال له: لا تسلم البلد ولا تمكن أحداً من دخوله، ولكن أرسل إلى الملك وقل له إنا تبع الموصل، فمتى دخلت الموصل سلمت إليك ففعل الدُّزدار ذلك. فقال الجمال للمك: المصلحة أننا نسير إلى الموصل، فإن مملوكا غازي، إذا سمع بقربنا منه خرج إلى الخدمة، فحينئذ نقبض عليه ونتسلم البلاد. فساروا عن سنجار، وكثر رحيل العسكر إلى الموصل هاربين من الملك؛ فبقى في قلة من العسكر، فساروا إلى مدينة بلد وعبر لملك دجلة من هناك. فلما عبرها دخل الجمال الموصل وأرسل الأمير عز الدين أبا بكر الدبيسي إلى الملك في عسكر، وهو في نفر يسير، فأخذه وأدخله الموصل، فكان آخر العهد به واستقر أمر سيف الدين، وأقرزين الدين على ما كان عليه من ولاية الموصل، وجعل الجمال وزيره. وأرسلوا إلى السلطان مسعود فاستحلفوه لسيف الدين فحلف له وأقره على البلاد، وأرسل له الخلع. وكان سيف الدين هذا قد لازم خدمة السلطان مسعود في أيام أبيه سفراً وحضراً، وكان السلطان يحبه كثيراً ويأنس به ويبسطه. فلما خوطب في اليمين وتقرير البلاد له لم يتوقف. قال ابن الأثير: فانظروا إلى جمال الدين وحُسْن عهده وكمال مروءته ورعايته لحقوق مخدومه!! وهذا المقام الذي ثبت فيه يعجز عنه عشرة آلاف فارس. ولقد قلل من قال الناس ألف منهم كواحد؛ وهو معذور لأنه لم ير مثل جمال الدين. قال: ولما استقر سيف الدين في الملك أطاعه جميع البلاد ما عدا ما كان بديار بكر كالمعدن وحيزان وإسْعَرد وغير ذلك، فإن المجاورين لها تغلبوا عليها.

قال: ولما فرغ سيف الدين من إصلاح أمر السلطنة وتحليفه وتقرير أمر البلاد عبر إلى الشام لينظر في تلك النواحي، ويمرر القاعدة بينه وبين أخيه نور الدين، وهو بحلب، وقد تأخر عن الحضور عند أخيه وجافه؛ فلم بزل يراسله و يستميله، فكلما طلب نور الدين شيئاً أجابه إليه استمالة لقلبه. واستقرت الحال بينهما على أن يجتمعا خارج العسكر السيفي، ومع كل واحد خمسمائة فارس، فلما كان يوم الميعاد بينهما سار نور الدين من حلب في خمسمائة فارس، وسار سيف الدين من معسكره في خمسة فوارس؛ فلم يعرف نور الدين أخاه سيف الدين حتى قرب منه، فحين رآه عرفه؛ فترجل له وقبل الأرض بين يديه، وأمر أصحابه بالعود عنه فعادوا. وقعد سيف الدين ونور الدين بعد أن اعتنقا وبكيا، فقال له سيف الدين: لم امتنعت من المجيء إلي، أكنت تخافني على نفسك؟ والله ما خطر في ببالي ما تكره، فلمن أريد البلاد، ومع من أعيش، وبمن أعتضد إذا فعلت السوء مع أخي وأحب الناس إلي!! فاطمأن نور الدين وسكن روعه، وعاد إلى حلب فتجهز وعاد بعسكره إلى خدمة أخيه سيف الدين، فأمره سيف الدين بالعود وترك عسكره عنده، وقال: لا غرض لي في مقامك عندي، وإنما غرضي أن يعلم الملوك والفرنج اتفاقنا، فمن يريد السوء بنا يكف عنه. فلم يرجع نور الدين ولزمه إلى أن قضيا ما كانا عليه.،وعاد كل واحد منهم إلى بلده.
قلت: ومن قصيدة لابن منير في نور الدين:
أيا خير الملوك أبا وجدا ... وأنقعهم حيا لغليل صاد
علوا وغلوا وقال الناس فيهم ... شوارد من ثناء أو أحاد
وما اقتسموا ولا عمدوا بناهم ... بمنصبك القسيمي العمادي
وهل حلب سوى نفس شاع ... تقسمها التمادي والتعادي
نفى ابن عماد دين الله عنها الش ... كاة فأصبحت ذات العماد
تبختر في كسا عدل وبذل ... مدبجة التهائم والنجاد
وفي محرابها داود منه ... يهذب حكمة آيات صاد
تجاوزت النجوم، فأين تبغي ... ترق، فلا خلوت من ازدياد
فصل فيما جرى بعد وفاة زنكي من صاحب دمشق والإفرنج المخذولينقال ابن أبى طي: في سابع يوم من استقرار نور الدين بحلب اتصل خبر مقتل أتابك بصاحب أنطاكية البيمند، فخرج ليومه في ساكر أنطاكية وقسم عسكره قسمين: قسما أنفذه إلى جهة حماة، وقسما أغار به على جهة حلب وعاث في بلادها، وكان الناس آمنين فقتل وسبى عالما عظيما، وتمادى حتى وصل إلى صلدى ونهبا. ووصل الخبر إلى حلب فخرج أسد الدين شيركوه فيمن كان بحلب من العساكر وجد في السير، ففاته. الفرنج وأدرك جماعة من الرجالة يسوقون الأسرى فقتلهم واستنقذ كثيرا مما كانت الفرنج أخذته؛ وسار مجنبا عن طريق الفرنج إلى أن شن الغارة على بلد أرتاح، واستاق جميع ما كان للفرنج فيه، وعاد إلى حلب مظفراً.
وقال ابن الأثير: لما قتل الشهيد سار مج ر الدين صاحب دمشق في عسكر إلى بعلبك وحاصرها، وبها نجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين، فسلمها إليه وأخذ منه مالا، وملكه قرايا من أعمال دمشق.؛ وانتقل أيوب إلى دمشق فأقام بها. وقال ابن أبى طي: اشتد صاحب دمشق في القتال، وصبر نجم الدين أيوب أحسن صبر. فاتفق أن الماء لما شاء الله من حصن بعلبك غار حتى لم لبق منه شيء، وأهل القلعة يستمدون من البلد. فلما ملك البلد منع من يريد الماء من القلعة، فاشتد الأمر فطلبوا الأمان والمصالحة. فاستخلف صاحب دمشق نجم الدين، وأقر له الملك الذي كان أتابك قد جعله له فيها، وأقره فيها. ولما بلع ذلك نور الدين خاف أن يفسد عليه أسد الدين إلى صاحب دمشق بحصول أخيه نجم الدين عند، ومال نور الدين إلى مجد الدين أبى بكر ابن الداية حتى ولاه جميع أموره وجميع مملكته، فشق ذلك على أسد الدين.

قال الرئيس أبو يعلى: لما اتصل خبر موت زنكي بمعين الدين أثر شرع في التأهب والاستعداد لقصد بعلبك وانتهاز الفرصة فيها بآلات الحرب والمنجنيقات. فنزل عليها وضايقه، ولم يمض إلا أيام قلائل حتى قل الماء في قلة دعتهم إلى النزول على حكمه. وكان الوالي بهاذا حزم وعقل ومعرفة بالأمور؛ فاشترط ما قام له به من إقطاع وغيره، وسلم البلد والقلعة إليه، ووفى له بما قرر الأمر عليه، وتسلم ما فيه من غلة وآلةٍ في أيام من جمادى الأول من السنة. وأرسل معين الدين إلى الوالي بحمص، وتقررت بينه وبينه مهادنة ومُوادعة يعودان بصلاح الأحوال وعمارة الأعمال. ووقعت المراسلة فيما بينه وبين صلاح الدين بحماة، وتقرر بينهما مثل ذلك. ثم انكفأ بعد ذلك إلى البلد عقيب فراغه من بعبك ترتيب من رتبه لحفظها والإقامة فيها قال: ووردت الأخبار في أيام من جمادى الآخرة من السنة بأن ابن جوسلين جمع الإفرنج من كل ناحية وقصد مدينة الرها، على غفلة، بموافقة من النصارى. المقيمين فيها، فدخلها واستولى عليها، وقتل من فيها من المسلمين. فنهض نور الدين صاحب حلب في عسكره ومن انضاف إليه من التركمان وغيرهم في زهاء عشرة آلاف فارس، ووقعت الدواب في الطرقات من شدة السير، ووافوا البلد وقد حصل ابن جوسلين، وأصحابه فيه، فيه عليهم ووقع السيف نجم. وقتل من أرمن الرها والنصارى من قتل، وانهزم إلى برج يقال له برج الماء، فحصل في ابن جوسلين في تقدير عشرين فارسا من وجوه أصحابه، وأحدق بهم المسلمون وشرعوا في النقب عليهم حتى تعرقب البرج، فانهزم ابن جوسلين في الخفية من أصحابه، وأخذ الباقون، ومحق بالسيف كل من ظفر به من نصارى الرها، واستخلص من كان فيه أسيراً من المسلمين، ونهب منها شيء كثير من المال والأثاث والسبى، وانكفأ المسلمون بالغنائم إلى حلب وسائر الأطراف.
قال ابن الأثير: لما قتل زنكي كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته غرب الفرات في تل باشر وما جاورها، فراسل أهل الرها، وكان عامتهم من الأرمن، وواعدهم يوما يصل إليهم فيه، فأجابوه إلى ذلك، فسار في عساكره إليها وملكها وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين، فقاتلهم وجد في قتالهم. فبلغ الخبر نور الدين، وهو يومئذ بحلب، فسار إليها بعسكره؛ فهرب جوسلين ودخل نور الدين مدينة الرها ونهبها وسبى أهلها. وفي هذه الدفعة نهبت وخربت وخلط من أهلها، ولم يبق منهم بها إلا القليل. ووصل خبر الفرنج إلى سيف الدين غازي بالموصل فجهز العساكر إلى الرها، فوصلت العساكر وقد ملكها نور الدين، فبقيت بيده ولم يعارضه فيها أخوه سيف الدين. قال: ومن عجيب ما جرى أن نور الدين أرسل من غنائمها إلى الأمراء، وأرسل إلى زيد الدين عل جملة من الجواري، فحملن إلى داره ودخل لينظر إليهن، فخرج وقد اغتسل وهو يضحك، فسُئل عن ذلك فقال: لما فتحنا الرها مع الشهيد كان في جملة ما غنمت جارية مالت نفس إليها، فعزمت على أن أبيت معها، فسمعت منادي الشهيد وهو يأمر بإعادة السبي والغنائم، وكان مهيبا مخوفا، فلم أجسر على إتيانها وأطلقتها. فلما كان الآن أرسل إلى نور الدين سهمي من الغنيمة وفيه تلك الجارية، فوطئتها خوفا من العود.
قلت: وللقيسراني قصيدة مدح بها جمال الدين وزير الموصل ذكر فيها فتح الرها أولها:
أماً آن أن يَزْهق الباطل ... وأن ينجز العدة المْاطلُ
لى كم يغب ملوك الظلا ... ل سيف بأعناقها كافل
فلا تحفلن بصول الذئاب ... وقد زأر الأسد الباسل
وهل يمنع الدين إلا فتى ... يصول انتقاماً فيستاصل
أبا جعفر أشرقت دولة ... أضاء لها بدرك الكامل
فإما نصبت لرفع اسمها ... فإنكما الفعلُ والفاعل
ليهنك ما أفرج النصر عنه ... وما ناله الملك العادل
فقل للحقاق الطريق الطريق ... فقد دلف المقرم البازل
وجاهد في الله حق الجها ... د محتسب بالعلا قافل
هل يمنع السور من طالع ... يُشايِعُه القدر النازل
فإن يك فتح الرها لُجَّة ... فساحلها القدس والساحل

فهل علمت علم تلك الديا ... ر أن المقيم بها راحل
أرى القمص يأمل فوت الرماح ... ولا بد أن يضرب الشائل
يقوى معاقله جاهداً ... وهل عاقل بعدها عاقل
وكيف بضبط بواقي الجهات ... لمن فات حسبته الحاصل
ولا بن منير من قصيدة في نور الدين:
ملك ما أذل بالفتح أرضا ... قط إلا أعزها إغلاقه
الوهي في الرها أزجي إليها ... عارضاً شيب الدجى إبراقه
جارت جأرة إليه فحلى ... عطلا من إعناقها إعناقه
تلك بكر الفتوح فالشام منها ... شامه والعراق بعد عراقه
أين كان الملوك عن وجهها الطل ... ق يُرينا إضاءة إطلاقه
سنة سنها أبوه بكلب الر ... وم لما أظله إرهاقه
خافقا قلبه إلى أمل عا ... جله دون نيله إخفاقه
قسمت راية المواضى القسيمي ... ات وبتز من لَهَاهْ عراقه
كذا أنت يا بْنَه ما عدا من ... خلقه فيك خصلة خَلاقه
وكفى البحر أنه ابن سحاب ... ما وَنَى سَحُّه ولا إصْعَاقه
لم يمت من سددت ثلمته يا ... من على الذين كظه إشفاقه
رهبة لم تدع على الأرض قلبا ... خلف صدر ينشق عنه شقاقه
كلما طن ذكرها منه في السم ... ع يكمى في النافقاء نفاقه
وجهاد عن حوزة الدين لم يأ ... ل له ركضه ولا إنفاقه
وله فيه من قصيدة أخرى:
بنور الدين روض كل محل ... من الدنيا وجدد كل بال
أقام على ثنية كل خوف ... سهادا بات يكلا كل كال كل
وصوب عدله في كل أوب فعوض عاطلا منه بحال
ينكس رأيه رأى المحامي ... ويقتل خوفه قبل القتال
لقد أحصدت للإسلام عزا ... يفوت سنامه يد كل قال
وأصبحت العواصم ملحقات ... عصاما غير منتكث الحبال
فصلوقفت على توقيع كتب في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين عن خليفة مصر يومئذ،وهو الملقب بالحافظ، وعليه علامته: الحمد لله رب العالمين: إلى القاضي الأشرف أبى المجد علي بن الحسن بن الحسين بن احمد البيساني، البيساني وهو والد القاضي الفاضل، وكان يومئذ متولي القضاء والحكم بمدينة عسقلان، يقول، فيه: انتهى إلى حضرة أمير المؤمنين أن قوما من أهل ثغر عسقلان، حماه الله، قد صاروا يؤدون توقيعات بقبول أقوالهم من غير تزكية من شهودها المعروفين بالتزكية لهم، مع كونهم غير مستوجبين الشهادة ولا مستحقين لسماع القول. فأنكر أمير المؤمنين ذلك من فعلهم، وخرج عالي أمره بألا يسمع قول شاهد، ولا من تقدم لخطابة ولا لصلاة بالناس، ولا لتلاوة في موضع شريف، إلا من زكاه أعيان شهود الثغر المحروس، وهم. فلان وفلان؛ وعد ثمانية أنفس: عبد الساتر بن عبد الرحمن، عبد العزيز بن مفضل، علي ابن قريش، أحمد بن حسن، أحمد بن علي، عبد الرحمن بن محسن، أسامة بن بد الصمد،، علي بن عبد الله. قلت: وهذا من أحسن ما يؤرخ عن إمام تلك الدولة المباينة للشريعة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال الرئيس أبو يعلى: وفي شوال من م سنة إحدى وأربعين ترددت المراسلإت بين نور الدين ومعين الدين أثر إلى أن استقرت الحال بينهما على أجمل صفة وأحسن قضية. وانعقدت الوصلة بين نور الدين وبين ابنة معين الدين، وتأكدت الأمور على ما اقترح كل منهما؛ بكتب كتاب العقد في دمشق بمحضر من رسل نزر الدين في الثالث والعشرين من شوال. وشرع في تحصيل الجهاز. وعند الفراع منه توجهت الرسل عائدة إلى حلب، وفي صحبتهم ابنة معين الدين ومن في جملتها من خواص الأصحاب، في النصف من ذي القعدة.
قال: وتوجه معين الدين إلى ناحية صرخد وبصرى بالحيل والرجل وآلات الحرب، ونزل على صرخد وبها المعروف بالتونتاش غلام أمين الدولة كمشتكين الأتابكي الذي كان واليها أولا. قلت هو الذي تنسب إليه المدرسة الأمينية قبلي الجامع بدمشق.

قال: وكانت نفس ألتونتاش قد حدثته، لجهله، أنه يقاوم من يكون مستولياً على دمشق، وأن الإفرنج يعينونه على مراده. وكان قد خرج من حصن صرخد إلى ناحية الفرنج للاستنصار بهم وتقرير أحوال الفساد معهم؛ فحال معين الدين بينه وبين العود إلى أحد الحصنين. وراسل نور الدين في إنجاده على الكفرة فأجابه، وكان مبرزاً بظاهر حلب في عسكره، فثنى إليه الأعنة وأغذ المسير، فوصل إلى دمشق في السابع والعشرين من ذي الحجة، فأقام أيام يسيرة.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائةفتوجه نور الدين نحو صرخد، ولم يشاهد أحسن من عسكره، وهيئته وعدته ووفور. عدته. واجتمع العسكران، وأرسل من بصرخد إليها يلتمسون الأماًن، والمهلة أياما وتسلم المكان؛ وكان ذلك منهم على سبيل المغالطة والمخاتلة إلى أن يصل عسكر الإفرنج لترحيلهم. وقضى الله تعالى وصول من أخبر بتجمع الفرنج واحتشادهم، ونهوضهم في فارسهم وراجلهم، مجدين السير إلى ناحية بصرى، وعليها فرقة وافرة من العسكر محاصرة لها. فنهض العسكر في الحال إلى ناحية بصرى فسبقوا الفرنج إليها، فحارا بينهم و بينها ووقعت العين على العين فانهزم الكفار، وولوا الأدبار؛ وتسلم معين الدين بصرى، وعاد إلى صرخد فتسلمها، وعاد العسكران إلى دمشق فوصلاها يوم الأحد السابع والعشرين من الحرم. وفي هذا الوقت. وصل ألتونتاش، الذي خرج من صرخد إلى الفزنج بجهله وسخافة عقله، إلى دمشق من بلاد الإفرنج من غير أمان، ولا تقرير واستئذان، توهما منه أنه يكرم ويُصطنع، بعد الإسامة القبيحة والارتداد عن الإسلام. فاعتقل في الحال، وطالبه أخوه خطلخ بما جناه عليه من كل عينيه؛ وعقد لهما مجلس حضره الفقهاء والقضاة وأوجبوا عليه القصاص. فسمل كما سمل أخاه، وأطلق إلى دار له بدمشق فأقام بها.
قلت: وقد ذكر ابن منير وقعة بصرى هذه وغيرها من الوقعات التي يأتي ذكرهاً في قصيدة قد تقدم بعضها. منها:
أي شأن أدركت يانور دين الل ... مه أعيا على الملوك لحاقه
نطق الحاسدون بالعجز عن مل ... ك محلى بالنيرات نطاقه
غض أبصارهم لحاق جواد ... ليس إلا إلى المعالي سباقه
سل بصيراً: كم أعتقت يوم بصرى ... من أسار الموت الزؤام عتاقه
كم عرام على العريمة شبت ... ضاق منه على الصليب خناقه
ولكم هبوة بهاب وأختي ... ها لها صكت الأسارى رباقه
بسط الذل فوق بسطة باسو ... طا ولكن طواه عنه ارتفاقه
وفي هذه السنة ولد في ببعلبك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب؛ وقيل في سنة فتح زنكي الرها قال: أبو يعلى: وفي ليلة الجمعة الثالث من ربيع الأول توفى الفقيه شيخ الإسلام أبو الفتح نصر الله بن محمد عبد القوى المصيصي بدمشق كان بقية الأئمة الفقهاء المفتنين على مذهب الإمام الشافعي، ولم يخلف بعده مثله. قال وفي جمادى الآخرة تقررت ولاية حصن ، صرخد للأمير مجاهد الدين بزان بن مامين على مبلغ من المال والغلة، وشروط وأيمان، دخل فيها وقام بها. واستبشر أهل تلك الناحية به، لما هو عليه من حب الخير والصلاح، والتدين والعفاف.
قال: وفي الحادي والعشرين من شوال، وهو مستهل نيسان، أظلم الجو ونزل غيث ساكن، ثم أظلمت الأرض في وقت العصر ظلاما شديداً بحيث كان ذلك كالغُدوة بين العشائين؛ وبقيت السماء في عين الناظرين إليها كصفرة الورس، وكذلك الجبال وأشجار الغوطة وكل ما ينظر إليه من حيوان ونبات وجماد. ثم جاء في أثر ذلك من الرعد القاصف، والبرق الخاطف، والهدات المزعجة، والرجفات المفزعة، ما ارتاع لها الشيب والشبان، فكيف الولدان والنسوان؛ وقلقت لذلك الخيول في مرابطها. و بق الأمر على هذه الحال إلى وقت العشاء الاخرة، ثم سكن بقدرة الله تعالى. وأصبح على الأرض والأشجار وسائر النبات غبار في رقة الهواء، بين البياض والغبرة.
قال ابن الأثير: وفى سنة اثنتين وأربعين فتح نور الدين ارتاح بالسيف، وحصن بارة، وبصرفوت، وكفر لاثا. وكان الفرنج قد طمعوا وظنوا أنهم بعد قتل الشهيد يستردون ما أخذ منهم. فلما رأوا من نور الدين هذا الجد علموا أن ما أملوه بعيد.
فصل في نزول الفرنج على دمشق ورجوعهم وقد خذلهم الله عنها.

قال الرئيس أبو يعلى: وفي هذه السنة تواصلت الأخبار من ناحية القسطنطينية وبلاد الفرنج والروم وما والاها بظهور ملوك الإفرنج من بلادهم؛ منهم الألمان والفنش، وجماعة من كبارهم، في العدد الذي لا يحصر، لقصد بلاد الإسلام بعد أن نادوا في سائر بلادهم ومعاقلهم: النفير النفير إليها، والإسراع نحوها؛ وخلوا بلادهم وأعمالهم خالية شاغرة من حُملتها والحفظة لها. ثم استصحبوا من ذخائرهم وأموالهم وعددهم الشيء الكثير الذي لا يحصى، بحيث يقال إن عدتهم ألف ألف من الرجالة والفرسان، ويقال أكثر من ذلك وغلبوا على أعمال قسطنطينية، واحتاج ملكها إلى الدخول في مداراتهم ومسالمتهم، والنزول على أحكامهم. وحين شاع خبرهم واشتهر امرهم، شرعت ولاة الأعمال المصاقبة لهم، والأطراف الإسلامية القريبة منهم، في التأهب للمدافعة لهم، والاحتشاد على المجاهدة فيهم. وقصدوا منافذهم، ودروب معابرهم، لكي يمنعوهم من العبور والنفوذ إلى بلاد الإسلام، وواصلوا شن الغارات على أطرافهم؛ واستحر القتل فيهم والفتك بهم إلى أن هلك منهم العدد الكثير، وحل بهم من عدم القوت والعُلوفات والمير وغلاء السعر، إذا وجدوه، ما أفنى الكثير منهم بالجوع والمرض. ولم تزل أخبارهم تتواصل بهلا كهم وفناء أعدادهم إلى أواخر سنة اثنتين وأربعين، بحيث سكنت النفوس بعض إلى سكون
ودخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائةوتواترت الأخبار بوصول مراكب الفرنج وحصولهم على سواحل الثغور الساحلية صور وعكا، واجتماعهم مع من بها من الفرنج. و يقال إنهم بعد ما فنى منهم بالقتل والمرض والجوع، وصل تقديرهم مائة ألف، وقصدوا البيت المقدس فقضوا حتى حجم وعاد من عاد منهم إلى بلادهم في البحر، وقد هلك منهم بالموت والمرض الخلق العظيم، وهلك من ملوكهم من هلك، وبق للألمان أكبر ملوكهم ومن هودونه واختلفت الآراء بينهم فيما يقصدون منازلته من البلاد الإسلامية، إلى أن استقرت الحال على منازلتهم دمشق. وبلغ ذلك معين الدين فاستعد لحربهم، فجاءوا في تقدير خمسين ألفا ودنوا من البلاد؛ ثم قصدوا في المنزله المعروفة بنزول العساكر فيها فصادفوا الماء مقطوعا؛ فقصدوا ناحية المزة فخيموا عليها لقربهم من الماء. وزحفوا إلى البلد بخيلهم ورجلهم، ووقف المسلمون بازائهم، في يوم السبت سادس ربيع الأول. ونشبت الحرب بين الفريقين، واجتمع عليهم من الأعمال الأجناد والأتراك والقتال وأحداث البلد والمطوعة والغزاة، الجم الغفير؛ واستظهر الكفار على المسلمين بكثرة الأعداد، وغلبوا على الماء، وانتشروا في البساتين وخيموا فيها، وقربوا من البلد وحصلوا منه بمكان لم يتمكن أحد من العساكر قديما وحديثا منه واستُشهد في هذا اليوم الفقيه الإمام يوسف الفندلاوي المالكي، رحمه الله، قريب الربرة على الماء، لوقوفه في وجوههم، وترك الرجوع عنهم ؟ اتبع أوامر الله تعالى في كتابه الكريم وقال بعنا واشترى. وكذلك عبد الرحمن الحلحول الزاهد، رحمه الله، جرى أمره هذا المجرى.
قلت: وذكر الأمير أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار أن ملك الألمان الفرنجي لما وصل إلى الشام اجتمع إليه كل من بالشام من الإفرنج، وقصد دمشق فخرج، عسكرها وأهلها لقتالهم، وفي جملتهم الفقيه الفندلاوي المالكي، والشيخ الزاهد عبد الرحمن الحلحول، رحمهما الله، وكانا من خيار المسلمين،. فلما قاربوهم قال الفقيه عبد الرحمن: أما هؤلاء الروم. قال: بلى: قال فإلى متى نحن وقوف قال: سر على اسم الله. فتقدما فقاتلا حتى قتلا في مكان واحد، رحمهما الله تعالى.

ثم قال أبو يعلى: وشرعوا في قطع الأشجار والتحصن بها، وهدوا الفطائر؛ وباتوا تلك الليلة على هذه الحال، وقد لحق الناس من الارتياع لهول ما شاهدوه، والروع بما عاينوه، ما ضعفت به القلوب وحرجت معها الصدور. و باكروا الظهور إلها غد ذلك اليوم، وهو الأحد تاليه، وزحفوا إليهم، ووقع الطراد. بينهم؛ واستظهر المسلمون عليهم،. وأكثروا القتل والجراح فيهم؛ وأبلى الأمير معين الدين في حربهم بلاء حسناء، وظهر من شجاعته وصبره وبسالته ما لم يشاهد في غيره، بحيث كان لا يني في جهادهم، ولاينثنى عن دمارهم. ولم تزل رحا الحرب دائرة بيهم، وخيل الكفار محجمة عن الحملة المعروفة لهم، حتى تتهيأ الفرصة لهم، إلى أن مالت الشمس إلى الغروب، وأقبل الليل، وطلبت النفوس الراحة، وعاد كل منهم إلى مكانه. وبات الجند بإزائهم وأهل البلد على أسوارهم الحرس والاحتياط، وهم يشاهدون أعداءهم بالقرب منهم. وكانت المكاتبات قد نفذت إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ والاستنجاد، وجعلت خيل التركمان تتواصل، ورجالة الأطراف تتتابع؛ وباكرهم المسلمون وقد قويت شوكتهم ونفوسهم، وزال عنهم روعهم، وثبتوا بإزائهم؛ وأطلقوا فيهم السهام ونبل الجرخ، بحيث يقع في مخّيمهم في راجل أو فارس، أو فرس أو جمل. ووصل في هذا اليوم من ناحية البقاع وغيرها رجاله كثير من الرُّماة، فزادت بهم العدة وتضاعفت العدة. وانفصل كل فريق إلى . مستقره في هذا اليوم، وباكروهم من غده يوم الثلاثاء وأحاطوا بهم في مخيمهم، وقد لم تحصنوا بأشجار البساتين وأفسدوها رشقاً بالنشاب، وحذفا بالأحجار؛ وقد أحجموا عن البروز وخافوا وفشلوا، ولم يظهر منهم أحد وظن أنهم يعملون مكيدة أو يدبرون حيلة ولم يظهر منهم إلا النفر اليسير من الخيل والرجل على سبيل المطاردة والمناوشة، خوفا من المهاجمة، إلى أن يجدوا لحملتهم مجالا. وليس يدنو منهم أحد إلا صُرع برشقة أو طعنة وطمع فيهم نفر كثير من رجالة الأحداث والضياع، وجعلوا يقصدونهم في المسالك وقد أمنوا، فيقتلون من ظفروا به ويحضرون رُءوسهم لطلب الجوائز عليها. وحصل من رءوسهم العدد الكثير وتواترت إليهم أخبار العساكر الإسلامية بالمسارعة إلى جهادهم واستئصال شأفتهم، فأيقنوا بالهلاك والبوار، وحلول الدمار، وأعملوا الآراء بينهم. فلم يجدوا لنفوسهم خلاصا من الشبكة التي حصلوا بها غير الرحيل، فرحلوا سحر يوم الأربعاء التالي مفلولين. وحين عرف المسلمون ذلك برزوا إليهم في بكرة هذا اليوم، وسارعوا في آثارهم بالسهام، بحيث قتلوا في أعقابهم من الرجال والخيول والدواب العدد الكثير. ووجدوا في آثار منازلهم. وطرقاتهم من دفائن قتلاهم وخيولهم مالا عدد له ولا حصر يلحقه؛ بحيث لها أراييح من جيفتهم تكاد تصرع في الجو. وكانوا قد أحرقوا الرّبوة والقبة الممدودية في تلك الليلة. واستبشر الناس بهذه النعمة التي أسبغها الله عليهم، وأكثروا من الشكر له تعالى على ما أولاهم من إجابة دعائهم الذي واصلوه في أيام هذه الشدة فلله الحمد على ذلك والشكر. واتفق عقيب هذه الرحمة اجتماع معين الدين مع نور الدين عند قرية من دمشق للإنجاد لها.

وقال ابن الأثير: خرج ملك الألمان، من بلاد الإفرنج في جيوش كبيرة عظيمة لا تحصى كثرة من الفرنج إلى بلاد الشام. فاتفق هو ومن بساحل الشام من الفرنج فاجتمعوا وقصدوا مدينة دمشق ونازلوها، ولا يشك ملك الألمان إلا أنه يملكها وغيرها لكثرة جموعه وعساكره. قال: وهذا النوع من الفرنج هو أكثرهم عدداً وأوسعهم بلاداً، وملكهم أكثر عَدَداً وعُدَدا، وإن كان غير ملكهم أشرف منه عندهم وأعظم محلا. فلما حاصروا دمشق، و بها صاحبها مجير الدين آبُق بن محمد بن بورى بن طغتكين، وليس له من الأمر شيء، و إنما كان الأمر إلى مملوك جده طغتكين، وهو معين الدين أثر، فهو كان الحاكم والمدبر للبلد والعسكر،، وكان عاقلا دينا خيرا حسن السيرة؛ فجمع للعسكر وحفظ البلد؛ وحصرهم الفرنج وزحفوا إليهم سادس ربيع الأول، فخرج العسكر وأهل البلد لمنعهم. وكان فيمن خرج الشيخ الفقيه حجة الدين أبو الحجاج يوسف بن دوناس المغربي الفندلاوي شيخ المالكية بدمشق؛ وكان شيخا كبيراً، زاهدا عابدا؛ خرج راجلا، فرأى معين الدين، فقصده وسلم عليه وقال له: يا شيخ أنت معذور، ونحن نكفيك، وليس بك قوة على القتال. فقال: قد بعت واشترى، فلا نُقيله ولا نستقيله. يعنى قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ...) الآية. وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل، رحمه الله، عند النيرب، شهيدا. وقوى أمر الفرنج وتقدموا فنزلوا بالميدان الأخضر، وضعف أهل البد عن ردهم عنه. وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين يستغيث به ويستنجده، ويسأله القدوم عليه، ويعلمه شدة الأمر. فجمع سيف الدين عساكر. وسار مجدا إلى مدينة حمص، وأرسل إلى معين الدين يقول لم: قد حضرت ومعي كل من يطيق حمل السلاح من بلادي، فإن أنا جئت إليك ولقينا الفرنج وليست دمشق بيد نوابي وأصحابي وكانت الهزيمة والعياذ بالله علينا، لا يسلم منا أحد لبعد بلادنا عنا، وحينئذ تملك الفرنج دمشق وغيرها. فإن أردتم أن ألقاهم وأقاتلهم فتسلم البلد إلى من أثق إليه؛ وأنا أحلف لك، إن كانت النصر لنا على الفرنج، أنني لا آخذ دمشق ولا أقيم بها إلا مقدار ما يرحل العدو عنها، وأعود إلى بلادي فماطله معين الدين لينظر ما يكون من الفرنج. فأرسل سيف الدين إلى الفرنج الغرباء يتهددهم ويعلمهم أنه على قصدهم إن لم يرحلوا. وأرسل معين الدين إليهم أيضاً يقول لهم قد حضر ملك الشرق ومعه من العساكر مالا طاقة لكم به، فإن أنتم رحلتم عنّا وإلا سلمت البلد إليه، وحينئذ لا تطمعوا في السلامة منه. وأرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من أولئك الفرنج الخارجين إلى بلادهم، ويقول لهم أنتم بين أمرين مذمومين: إن ملك هؤلاء الفرنج الغرباء دمشق لا يبقون عليكم ما بأيديكم من البلاد، وإن سلمت أنا دمشق إلى سيف الدين فأنتم تعلمون أنكم لا تقدرون على منعه من البيت المقدس. و بذل لهم أن يسلم إليهم بانياًس أن رحلوا ملك الألمان عن دمشق. فأجابوه إلى ذلك وعلموا صدقه، واجتمعوا بملك الألمان وخوفو بن سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع أمداده، وأنه ربما ملك دمشق فلا يبقى لهم مقام بالساحل فأجابهم إلى الرحيل عن دمشق. فرحل ورحل فرنج الساحل، وتسلموا حصن بانياس من معين الدين وبقى معهم حتى فتحه نور للدين محمود، رحمه الله، كما سنذكر.
قلت: وذكر الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمة الله في تاريخه أن الفقيه الفندلاوي رؤى في المنام، فقيل له انت؟ قال في جنات عدن على سُرُرٍ متقابلين. وقبره الآن يزار بمقارب الباب الصغير من ناحية الملى، وعليه بلاط كبير مقورة فيها شرح حاله. واما عبد الرحمن الحلحول فقبره في بستان في جهة شرقه، وهو البستان المحاذي لمسجد عبان المعروف الآن بمسجد طالوت. وكان مقامه في حياته في ذلك المكان، رحمة الله. وقرأت قصيدة في شعر أبى الحكم الأندلسي شرح فيها هذه القصة منها:
بشطى نهر داريا ... أمور ما تؤاتينا
وأقوام رأوا سفك الد ... ما في جلق دينا
أتانا مائتا ألف ... عديدا أو يزيدونا
فبعضهم من أندلس ... وبعض من فلسطينا
ومن عكا ومن ور ... ومن صيدا وتبنينا

وإذا أبصرتهم أبصر ... ت أقواماً مجانينا
ولكن حرقوا في عا ... جل الحال البساتينا
وجازوا المرج والتعدي ... ل أيضاً والميادينا
تخالهم وقد ركبوا ... فطائرها جراذينا
وببن خيامهم ضموا ال ... سخنازر والقرابينا
ورايات وصلبانا ... على مسجد خاتونا
وقلنا إذ رأيناهم ... لعل الله يكفينا
سَمَا لهم معين قد ... أعان الخلق والدنيا
وفتيانٍ تخالهمُ ... لدى الهيجا شياطينا
فوَّوْا يطلبون المرْ ... جَ من شرقي جِسْرِينا
ولكن غادروا إليا ... س تحت الترب مدفونا
وشيخا فند لاويا ... فقيها يعضُد الدينا
وفتيانا، تفانوا من ... دمشق نحو سبعينا
ومنهم مائتا علج ... وخيل نحو تسعينا
وبا قيهم إلى الآنَ ... من القتل يفرّونا
وللعرقلة حسان في مدح مجير الدين صاحب دمشق حينئذ قصيدة ذكر فيها هؤلاء الفرنج ،أولها:
عرّج على نجد لعلك منجدى ... بنسيمها، وبذكر سعدي مسعدى
يقول فيها:
من قاتل الأفرنج دنْيا غيرهُ ... والخيل مثلُ السّيل عند المشهد
رد الأمان بكل نَذْبٍ باسل ... ومن الجياد بكل نهد أجرد
ومن السيوف بكل عضب أبيض ... ومن العجاج بكل نقع أسود
حتى لوى الإسلام تحت لوائه ... وغدا بحمد من شريعة أحمد
وقرأت في ديوان محمد بن نصر القيسراني قصيدة في مدح تاج الملوك بورى جد مجير الدين، أنشده إياها عند كسرة الفرنج على دمشق في أواخر سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة؛ وهي واقعة تشبه الواقعة في زمن مجير الدين.
أول القصيدة:
الحق مبتهج، والسيف مبتسم ... ومال أعدا مجيبر الدين مُقْتَسَمُ
يقول فيها:
قُدتَ الجياد، وحصنت البلاد، وأم ... نت العباد، فأنت الحل والحرم
وجئت بالخيل من أقصى مرابطها ... معاقد الحزم في أوساًطها الحُزُم
حتى إذا ما أحاط المشركون بنا ... كالليل، يلتهم الدُّنيا له ظلم
وأقبلوا، لا من الإقبال، في عدد ... يؤود حاسبه الإعياء والسأَم
أجريت بحرا من الماذي معتكرا ... أمواجه بأواسى اليأس تلتطم
وسُست جندك والرحمن بكلؤه ... سياسة ما يعفى إثرها ندم
وقفت في الجيش، والأعلام خافقة ... بالنصر، كل قناة فوقها علم
يحوطك الله صونا عن عيونهم والله يعصم من بالله يعتصم
حتى إذا بد الآراء ضاحكة ... وأقبلت أوجه الإقبال تبتسم
أتبعت جن سراياهم مضمرة ... فيها نجوم إذا جد الوغى رجموا
والنصر دان، وخيل الله مقبلة ... ترجو الشهادة في الهيجا، وتغتنم
صاب الغمام عليهم والسّهام معا ... فما دروا أيُّما الهطالة الدّيم
سروا لينهبوا الأعمار، فانتهبوا ... قتلا، ويغتنموا الأقوال فاغُتنموا
وأقبلت خيُلنا تردى بخيلهم ... مجنوبة، وعلى أرْماحنا القم
وأدْبر الملك الطاغي، يزعزعه ... حر الأسنة، وهو البارد الشبم
وَافَوا دمشق فظنوا أبها جدة ... ففارقوها وفي أيديهم العدم
وأيقنوا مع ضياء الصبح أنهم ... إن لم. يزولوا سراعا زالت الخيم
فغادروا أكثر القربان وانجفلوا ... وخلفوا أكبر الصُّلبان وانهزموا
فغادروا المسجد الأدْنى فما عبرت ... عن مسجد القدم الأقصى لهم قدم
مُسْتَسْلمين لأيدي المسلمين، وقد ... أعزى القنا بتمادي خطفهم نهم
لا يملك الجسُم دفعاً عن مقاتله ... كأنه حين يغشاهُ الردى صنم
فصل

قال ابن الأثير: لما رحل الفرنج عن. دمشق سار معين الدين أثر إلى بعلبك؛ وأرسل إلى نور الدين، وهو مع أخيه سيف الدين، يسأله أن يحضر عنده فاجتمعا. فوصل إليها كتاب القمص صاحب طرابلس يشير عليها بقصد حصن العُرَيْمة وأخذه ممن فيه من الفرنج. وكان سبب ذلك أن ولد الفنش صاحب جزيرة صقلية خرج مع ملك الألمان إلى الشام وتغلب على العُرَيم}ة وأخذها من القمص، وأظهر أنه يريد أخذ طرابلس منه أيضاً. وجد هذا الذي ملك العُريمة هو الذي غزا إفريقية وفتح مدينة طرابلس الغرب. فلما استولى هذا على العريمة كاتب القومص نور الدين ومعين الدين في قصده، فسارا إليه مجدين، فصحباه؛ وكتبا إلى سيف الدين يستنجد انه ويطلبان منه، المدد فأمدهما فحصروا الحصن، و به ابن الفنس، ونقبوا السور؛ فأذعن الفرنج واستسلموا، وألقوا بأيديهم. فملك المسلمون الحصن وأخذوا كل من به من رجل وصبي وامرأة في وفيهم ابن الفنس.؛ وأخربوا الحصن وعادوا إلى سيف الدين. وافتتح نور الدين أيضا باسوطا وهاب.
وقال الرئيس أبو يعلى: قتل أكثر من كان فيه، يعنى في حصن العُريمة، واخذوا ولد الملك وأمه، ونهب ما فيه من العدد والخيول والأثاث وعاد عسكر سيف الدين إلى مخيمه بحمص، ونور الدين عاد إلى حلب ومعه ولد الملك وأمه ومن اسر معهما، وانكفأ معين الدين إلى دمشق.
قال: ووردت الأخبار في رجب من ناحية حلب بأن نور الدين صاحبها كان قد توجه في عسكره إلى ناحية الأعمال الإفرنجية، وقصد أفاميةأ، وظفر بعدة من الحصون والمعاقل الإفرنجية، وبعدة وافرة من الإفرنج؛ء وأن صاحب أنطاكية جمع الفرنج وقصده على حين غفلة منه، فَنَال من عسكره وأثقاله وكُراعه ما أوْجبته الأقدار للنازلة، وانهزم، بنفيه وعسكره، وعاد إلى حلب سالما في عسكر لم يفقد منه إلا النفر اليسير، بعد قتل جماعة وافرة من الإفرنج. وأقام بحلب أياما بحيث جدد ما ذهب له من اليزك وما يحتاج إليه من آلات العسكر، وعاد إلى منزله، وقيل لم يَعُد.
وذكر ابن أبى طي أن أسد الدين لما كان في نفسه على نور الدين من تقديم ابن الداية عليه لم ينصح يومئذ، وهي وقعة يغرا؛ ومر به نور الدين فقال له: ما هذا الوقوف والغفلة في مثل هذا الوقت والمسلمون قد أنكسروا؟ فقال: " ياخوند إيش ننفع نحن؟ إنما ينفع مجد الدين أبو بكر، فهو صاحب الأمر " . فاستدرك نور الدين بعد ذلك، وألزم مجد الدين أن يعرف لأسد الدين حقه، وأصلح بينهما.
قال: وقتل في هذه الكسرة شاهنشاه بن أيوب، أخو الملك الناصر، وقيل في كسرة البقيعة. قلت وهو والد عز الدين فرخشاه، وتقى الدين عمر، والست عذرا المنسوب إليها العذاروية داخل باب النصر بدمشق. وقبره الآن بالتربة النجمية جوار المدرسة الحسامية بمقبرة العونية ظاهر دمشق، رحمهم الله تعالى.
قلت: ولابن منير من قصيدة تقدمت اعتذارا عما جرى في هذه الغزاة قال:
لم يشنه من ماء يغراء أن فر ... الأشابات ذاد عنها انذلاقه
كان فيها ليث العرين، حمى الأشْ ... بال منه غضبان، كالنار ماقه
وشبيه النبي يوم حُنيْن ... إذ تلافى أدواءهم درْيَاقه
وهي الحرب، فحلها يحسن الكر ... ة إن عض بأسها، لا نياقه
فصلوقال ابن الأثير: وفى سنة ثلاث وأربعين أيضاً سار نور الدين إلى بصرى، وقد اجتمع بها الفرج في قضهم وقضيضهم وقد عزموا على قصد بلاد الإسلام. فالتقى بهم هنالك واقتتلوا أشد قتال، ثم أنزل الله نصره على المسلمين وانهزم الفرنج، وكانوا بين قتيل وأسير. وفي هذه الوقعة يقول القيسراني من قصيدة أولها:
يا ليت أن الصدود مصدود ... أولا، فليت النوم مردود
إلى متى تعرض عن مغرم ... في خده للدمع أخدود
قالوا عيون البيض بيض الظبا ... قلت ولكن هذه سود.
يخاف منها وهي في جفنها ... والسيف يُخشى وهو مغمود
ثم خرج إلى المدح فقال:
وكيف لانثنى على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
فليشكر الناس ظلال المنى ... إن رواق العدل ممدود
ونيرات الملك وهاجة ... وطالع الدولة مسعود

صارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشْلوُ الكفر مقدود
مناقب لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
مظفر،في درعه ضيغم ... عليه تاج الملك معقود
نال المعالي حاكما مالكا ... فهو سليمان وداود
ترتشف الأفواه أسيافه ... أن رُضاب العز مورود
وكم له من وقعةٍ يومها عند ملوك الشرك مشهود
والقوم: إما مُرهق صرعة ... أو موثق بالقد مشدود
حتى إذا عادوا إلى مثلها ... قالت لهم هيبته عودوا
طالبْ بثأر ضَمِنِتْه الظبا ... فكل ما يضن مردود
والكنر والفر سجال الوغى ... فطارد طوراً ومطرود
وإنما الإفرنج من بغيها ... عادوا وقد عادلها هود
قد حصحص الحق، فما جاحد ... في قلبه بأسك مجحود
فكل مصر بك متفتح ... وكل ثغر بك مسدود
وقال أيضاًم قصيدة في نور الدين، وأنشده إياها بظاهر حلب، وقد كسر الإفرنج على يغرا وهزمهم إلى حصن حارم، وقد كانت الفرنج هزمت. المسلمين أولاً بهذا الموضع، أولها:
تفي بضمانها البيض الحداد ... وتقضى دينها السُّمر الصعاد
وتدرك ثارها من كل باغ ... فوارس من عزائمها الجلاد
ويغشى حومة الهيجا همام ... يُشَدُّ بضعه السبع الشداد
أظنوا أن نار الحرب تخبو ... ونور الدين في يده الزناد
وجند كالصقور على صقور ... إذا انقضوا على الأبطال صادوا
إذا أخفوا مكيدتهم أخافوا ... وإن أبدوا عداوتهم أبادوا
ونصرة دولة حاميت عنها ... وهل يخشى وأنت لها عماد
وإن تَتْلُ القوافي ما تلته ... بإنِّب ما يؤنبها سناد
جرت بالنصر أقلام العوالي ... وليس سوى النّجِيع لها مداد
وطاًلت أرؤس الأعلاج خصبا ... فنادى السيف قد وقع الحصاد
أحطت بهم فكان القتل صبراً ... ولا طعن هناًك ولا طراد
وللإبرنز فوق الرمح رأس ... تَوَسّدُ، والسِّنان له وساد
ترجل للسلام ف ففر سوه ... وليس سوى القناة له جواد
غضيض المقلتين ولا نعاس ... وغائرها وليس به مهاد
فَسِرْ واستوعب الدنيا فتوحا ... فلا هضب هناك ولا وهاد
وزز ببني الوغى مثوى حبيب ... فما عن باب مسلمه ذياد
ولا في باب فارس غير ثكلى ... بفارسها يضيء بها الحداد.
لأنطاكية يحمي ذراها وقد دانت لسطوتك البلاد
وأذعنت الممالك واستجابت ... ملبية لدعوتك العباد
قلت: ووقعة إنب هذه كانت عظيمة، وقد أكثر كذلك الشعراء لها؛ وسيأتي ذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.
فصلقال أبو يعلى التيمي: وفي رجب من هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين بن أتابك أمر بابطال " حي على خير العمل " في أواخر تأذين الغداة والتظاهر بسب الصحابة، وأنكر ذلك إنكاراً شديداً، وساعده على ذلك جماعة من أهل السنة بحلب. وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية وأهل التشيع وضاقت له صدروهم، وهاجوا وماجوا، ثم سكنوا وأحجموا، للخوف من السطوة النورية المشهورة، والهيبة المحذورة.
قلت وأنشده ابن منير في شهر رمضان:
فداك من صام ومن أفطرا ... ومن سعى سعيك أو قصرا
وما الورى أهلا فتفدى بهم ... وهل يوازي عرض جوهرا
عدل تساوى تحت أكنافه ... مطافل العين فاسد الشرى
يا نور دين الل ه:كم حادثٍ ... دجا وأسفرت له فانشرى
وكم حمى للشرك لا يهتدي ال ... وهم له غادرته مجزرا
يا ملك العصر الذي صدره ... أفسح من أقطارها مصدرا
وابن الذي طاول أفلاكها ... فلم يجد من فوقه مظهرا

مناقب تكسر كسرى كما ... تقصر عن إدراكها قيصرا
ما عام في أوصافها شاعر ... إلا رأى أوصافها أشعرا
لله أصل أنت فرع له ... ما أطيب المجنى وما أطهرا
ما حلب البيضاء مذ صنتها ... إلا حرام مثل أم القرى
شيدت في سور أرجائها ... لكل باغي عُمرة مشعرا
فأصبح الشادى إذا ثوب الد ... اعي له هلل أو كبرا
لا عدم للإسلام مَنْ كَفُّه ... كهفٌ لمن أرهق أو أُحْصرا
كأنما ساحٌته جنة ... أجرت بها راحته كوثرا
تصرم الشهر الذي كنت في أوقاته من قدره أشهرا
جهاد ليل في نهار، فَفُزْ ... إذ كنت فيه الأصْبرَ الأشكرا
أصدق ما يرشفه سامع ... ما هز من أو صافك المنبرا
أبقاك للدنيا وللدين من خلاك في ليلهما نيرا
حتى نرى عيسى من القدس قد ... لجا إلى سيفك مستنصرا
قال أبو يعلى: وفي رجب أذن لمن يتعاطى الوعظ بالتكلم في الجامع المعمور بدمشق على جارى العادة والرّسم، فبدا من اختلافهم في أحوالهم وأغراضهم، والخوض في قضايا لا حاجة إليها من المذاهب ما أوجب صرفهم عن هذه الحال وإبطال الوعظ، لما يتوجه معه من الفساد، وطمع سفهاء الأوغاد؛ وذلك في آخر شعبان منها.
قال: وكثر فساد الفرنج المقيمين بصور وعكا والثغور الساحلية في الأعمال الدمشقية بعد رحيلهم عن دمشق؛ فأغار. معين الدين على أعمالهم، وخيم في ناحية من حَوْرَان بالعسكر، وكاتب العرب، واستدعى جماعة وافرة من التركمان، وأطلق أيديهم في نهبهم والفتك بهم. فلم يزل على النكاية فيهم والمضايقة لهم إلى أن ألج أهم إلى طلب المصالحة.
ودخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائةفجددت المهادنة في المحرم مدة سنتين. وأنفذ نور الدين إلى معين الدين يعلمه أن صاحب أنطاكية قد جمع إفرنج بلاده وظهر يطلب بهم الإفساد في الأعمال الحلبية، وأنه قد برز في عسكره إلى ظاهر حلب للقائه، والحاجة ماسة إلى معاضدته، فندب معين الدين مجاهد الدين بزان بن مامين في فريق وافر من العسكر الدمشقي للمصير إلى جهته، وبذل المجهود في طاعته ومناصحته؛ وبقى معين الدين في باقي العسكر بناحية حَوْرَان.

قال: وفي صفر من السنة وردت البشائر من جهة نور الدين بما أولاه الله تعالى، وله الحمد، على حشد الإفرنج المخذول، ولم يُفلت منهم إلا من خبر ببوارهم وتعجيل دمارهم. وذلك أن نور الدين اجتمع له بن سائر العساكر سنة آلاف فارس مقاتلة سوى الأتباع والسواد، فنهض بهم إلى الفرج في الموضع المعروف بإنب، وم في نحو أربعمائة فارس وألف راجل، فقتلوهم وغنموهم؛ ووجد اللعين البرنس مقدمهم صريعا بان حُماته وأبطاله، فعرف وقطع رأسه وحمل إلى نور الدين. وكان هذا للعين من أبطال الفرنج المشهورين بالفروسية وشدة البأس، وقوة الحيل وعظم الخلعة، مع اشتهار الهيبة وكثرة السطوة، والتناهي في الشر؛ وذلك يوم الأربعاء الحادي والعشرين من صفر. ثم نزل نور الدين في العسكر على باب أنطاكية، وقد خلت من حُماتها، والذابين عنها، ولم يبق فيها غير أهلها مع كثرة أعدادهم وحصانة بلدهم. وترددت المرسلات بينه وبينهم في طلب لتسليم إليه وإيمانهم وصيانة أموالهم، فوتع الاحتجاج منهم بأن هذا أمر لا يمكنهم الدخول فيه إلا بعد انقطاع آمالهم من الناصر لهم، والمعين على من يقصدهم. وحملوا ما أمكنهم من التحف والمال، ثم استمهلوا فأمهلوا. ثم رتب نور الدين بعض العسكر للإقامة عليها والمنع لمن يصل إليها، ونهض في باقية العسكر إلى ناحية أفامية، وقد كان رتب الأمير صلاح الدين في فريق وافر من العسكر لمنازلتها ومضايقتها، فالتمسوا الأمان. فأومنوا على أنفسهم، وسلموا البلد في ثامن عشر ربيع الأول، وانكفأ نور الدين في عسكره إلى ناحية أنطاكية، وقد انتهى الخبر بنهوض الفرنج من ناحية الساحل إلى صوب أنطاكية لإنجاد من بها. فاقتضت الحال مهادنة من في أنطاكية وموادعتهم، وتقرير أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية له، وما قرب من أنطاكية لهم. ورحل عنهم إلى جهة غيرهم، بحيث كان قد ملك في هذه التوبة مما حول أنطاكية من الحصون والقلاع والمعاقل وغيرها المغانم الجّمة.
وفصل عنه الأمير مجاهد الدين بزان في العسكر الدمشقي، وقد كان له في هذه الوقعة ولمن في جملته البلاء المشهور والذكر المشكور، لما هو موصوف به من الشهامة والبسالة، وإصابة الرأى، والمعرفة بمواقف الحروب.
وقال ابن أبى طي: حمل أسد الدين على حامل صليب الفرنج فقتله، وقُتل البرنس صاحب أنطاكية وجماعة من وجوه عسكره، ولم يقتل من المسلمين من يقوم به، وعاد المسلمون بالغنائم والأسارى. وكان لأسد الدين في هذه الحرب اليد البيضاء ومدحه بها بعض الشعراء الحلبين بقصيدة يقول فيها.
إن كان آل فرنج أدركوا فلجا ... في يوم يغرا، ونالوا منية الظفر
ففي الخطيم خطمت الكفر منصلتا ... أبا المظفر بالصمصامة الذكر
نالوا بيغرا نهابا، وانْتَهبْت لنا ... على الخطيم نفوس المعشر الأشر
واستقودوا الخيل عرياً واستَقَدْتَ لنا ... قوامص الكفر في ذل وفى صغر
قال: وحصل لأسد الدين من هذه الكسرة سلاح كثير، وعدة أسارى وخيول كثيرة، فأنفذ لأخيه نجم الدين منها شيئا. وفي هذه السنة عظم أمر أسد الدين.
وقال ابن الأثير: سار نور الدين إلى حصن حارم، وهو للفرنج، فحصره وخرب ربضه، ونهب سواده؛ ثم رحل عنه إلى حصن إنب فحصره. فاجتمعت الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وساروا إليه ليُرَحِّلُوه عن إنب فلم يرحل، بل لقيهم وتصاف الفريقان، واقتتلوا، وصبروا. وظهر من نور الدين من الشجاعة والصبر في الحرب على حداثة سنه ما تعجب منه الناس. وانجلت الحرب عن هزيمة الفرنج؛ وقتل المسلمون منهم خلقاً كثيراً؛ وفيمن قتل البرنس صاحب أنطاكية، وكان عاتياً من عتاة الفرنج، وذوى التقدم فيهم والماًل. ولما قتل البرنس خلف ابنا صغيرا، وهو بيمند، فبقى مع أمه بأنطاكية؛ فتزوجت أمه ببرنس آخر وأقام معها بأنطاكية يدبر الجيش و يقودهم و يقاتل بهم إلى أن يكبر بيمند. ثم إن نور الدين غزا بلد الفرنج غزوة أخرى وهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان في الأسرى البرنس الثاني زوج أم بيمند. فلما أسره تملك بيمند أنطاكية بلد أبيه وتمكن منه، وبقى بها إلى أن أسره نور الدين بحارم، سنة تسع وخمسين وخمسمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

وأكثر الشعراء مدح نور الدين وتهنئته بهذا الفتح وقتل البرنس، وممن قال فيه القيسراني الشاعر من قصيدة أنشده إياها يجسر الحديد، الفاصل ببن عمل حلب وعمل أنطاكية، أولها:
هذى العزائم، لا ما تدعى القضب ... وذى المكارم، لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاّتي متى خَطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت ياَبْن عماد الدين ذروتها ... براحة، للمساعي دونها تعب
ما زال جدك يبق كل شاهقة ... حتى ابتنى قبة أوتادها الشهب
لله عزمك ما أمضى، وهمك ما ... أقضى اتساعا بما ضاقت به الحِقَب
ياساهد الطرف والأجفان هاجعة ... وثابت القلب والأحشاًء تضطرب
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يجب
ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
قل للطغاة وإن صمت مسامعها ... قولاً لصُم القنا في ذكره أرب
ما يوم إنّب، والأيام دائلة ... من يوم يغرا بعيدٌ، لاَ ولاَ كثب
أغركم خدعة الآمال ظنكم ... كم اسلم الجهل ظنا غرّهُ السكذب
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى ... وكان دين الهدى مرضاته الغضب
طّهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
حتى استطار شرار الزند قادحُه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب
والخيل من تحت قتلاها تقر لها ... قوائم خانهن الركض والخبب
والنقع فوق صقال البيض منعقد ... كما استفل دخان تحته لهب
والسيف هام على هاًم بمعركة ... لا البيض ذو ذمّةٍ فيها ولا اليَلَب
والنبل كالوبل هطال، وليس له ... سوى القسي وأيدٍ فوقها سحب
وللظبا ظفر حلوٌ مذاقته ... كأنما الضرب فيما بينهم ضَرَب
وللأسنة عما في صدورهم ... مصادر، أقلوب تلك أم قُلُب
خانوا فخانت رماح الطعن أيديهم ... فاستسلموا وهي لا نبع ولا غرب
كذلك من لم يوق الله مهجته ... لاقى العدا والقنا في كفه قصب
كانت سيوفهم أوحى حتوفهم ... يا رب حاثنة منجاتها العطب
حتى الطواراق كانت من طوارقهم ... ثارت عليهم بها من تحتها النوب
أجسادهم في ثياب من دمائهم مسلوبة، وكأن القوم ما سُلبوا
أنباء ملحمةٍ لو أنها ذكرت ... فيما مضى نسيت أيامها العرب
من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا ... من الملوك فنور الدين محتسب
ذو غرة، ما سمت والليل معتكر ... إلا تَمَزَّقَ عن شمس الضحى الحجب
أفعاله كاسمه في كل حادثة ... ووجهه نائب عن وصفه الّلقب
في كل يوم لفكرى من وقائعه ... شغل، فكل مديحى في مقتضب
من باتت الأسد أسرى في سلاسله ... هل يأسر الغُلْبَ إلاَّ من له الغَلَب
فملكوا سلب الإبرنز قاتله ... وهل له غير أنطاكية سلب
من للشقي بما لاقت فوارسه ... وإن بسائرها من تحته قتب
عجبت للصَّعْدة السمراء مثمرة ... برأسه إن أثمار القنا عجب
سما عليها سو الماء أرهقهُ ... أنبوبُهُ في صَعُود أصلها صَبب
ما فارقت عذبات التاج مفرقه ... إلاّ وهامتهُ تاج ولا عذب
إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا ... بدا لثعلبها من نحره سَرَب
كنا نَعُد حمى أطرافنا ... ظفراً فملكتك الظبا ماليس نحتسب
عمت فتوحك بالعدوى معاقلها ... كان تسليم هذا عند ذا جرب
لم يبق منهم سوى بيض بلا رمق ... كما التوَى بعد رأس الحية الذنب
فانهض إلى المسجد الأقصى بذى لجب ... يوليك أقصى المنى، فالقدس مرتقب

وائذن لموجك في تطهير سلحه ... فإنما أنت بحر لُجُّه لجب
يامَن أعاد ثغور الشام ضاحكة ... من الظبا عن ثغور زانها الشنب
ما زلت تلحق عاصيها بطائعها. حتى أقمت وأنطاكية حلب
حلت من عقلها أيدي معاقلها ... فاستحلفت وإلى ميثاقك الهرب
وأيقنت أنها تتلو مراكزها ... وكيف يثبت بيت ماله طُنُب
أجريت من ثغر الأعناق أنفسها ... جرى الجفون امتراها بارح حصب
وما ركزت القنا إلا ومنك على ... جسر الحديد هزبرٌ غيله أشب
فاسعد بما نلته من كل صالحة ... يأوى إلى جنة المأوى لها حسب
إلا تكن أحد الأبدال في فلك الت ... قوى فلا نمارى أنك القطب
فلو تناسب أفلاك السماء بها ... لكن بينكما من عفة نسب
هذا، وهل كان في الإسلام مكرمة ... إلا شهدت وعّبادُ الهوى غُيُب
وله فيه من قصيدة أخرى:
ألا لله درك، أي در ... صريح جاء بالكرم الصريح
وعسكرك الذي استولى مسيحا ... على ما بين فامية، وسيح
ووقعتك التي بنت العوالي ... صوادر عن قتيل أو جريح
بإنب يوم أبرزت المذاكى ... من النقع الغزالة في مسوح
غداة كأنما العاصى احمرارا ... من الدم عبرة الجفن الفريح
وقد وافاك بالإبرنزا حتف ... أتيح له من القدر المتيح
قتلت أشحهم بالنفس، إذلا ... يجود بفسه غير الشحيح
ملأت بهم ضرائحهم، فأمسوا ... وليس سوى القشاعم من ضريح
وعدت إلى ذرا حلب حميدا ... سمو البدر من بعد الجنوح
فإن حَلِيَتْ بغرتك الليالي ... فكم لِسَنَاك من زمن مليح
رويدك تسكن الهيجا فواقا ... بحيث تريح من تعب المريح
فأنت وإن أرحت الخيل وقتا ... فهمُّك غيرُهَمّ المسترتح
وقال أحمد بن منير يمدحه ويذكر ظفره بالبرنس وأصحابه وحمل رأسه إلى حلب، وأنشده إياها أيضا بجسر الحديد:
أقوى الضّلالُ وأقفرت عرصاته ... وعلا الهدى وتبلجت قسماته
وانتاش دين محمد محموده ... من بعد ما عُلت دما عبراته.
ردت على الإسلام عصر شبابه ... وثباثه من دونه وثباته
أرسى قواعده، ومدعماده ... صُعُداً، وشيد سوره سوراته
وأعاد وجه الحق أبيض ناصعا ... إصْلاَته، وصِلاَتُه، وصَلاَتُه.
لما تواكل حزبه، وتخاذلت ... أنصاره، وتقاصرت خطواته
رفعت لنور الدين نار عزيمة ... رجعت لها عن طبعها ظلماته
ملك مجالس لهوه شداته ... ومُشُوقُهُ بين الصفوف شذاته
يغرى بحثحثة اليراع بنانه ... إن لذ حثحثة الكئوس لداته
ويروقُه ثغر العداء فاني دما ... لا الثغر يعبق في لما لثاته
فصبوحه خمر الطلى، وغبوقه ... نطف النفوس تديرها نشواته
فتح تعّمعت السماء بفخره ... وهفت على أغصانها عذباته
سبغت على الإسلام بيض حجوله ... واختال في أوضاحها جبهاته
وانهل فوق الأبطحين غمامُهُ ... وسرت إلى سكينها نفحاته
لله لمجة ليلة محصت به ... واليوم دبج وشيه ساعاته
حط القوامص فيه بعد قماصها ... ضرب يصلصل في الطلي صعقاته
نبذوا السلاح لضيغم، عاداته ... فرس الفوارس، والقنا غاباته
لمجرب عمريه غضباته ... لله، معتصمية غزواته
نحيا لضيق صفاده اسراؤه ... وتغيض ماء شؤونها نقماته
بين الجبال خواضعا أعناقها ... كالذود نابت عن براه حداته

نشرت على حلب عقود بنودهم ... حلل الربيع تناسقت زهراته
روض جناه لها مكر جياده ... واستوأرت حّمالهُ حملاته
متساندين على الرحال، كما انتشى ... شرْب أمالت هامه قهواته
لم تُنبت الآجام قبل رماحه ... شجراً أصولُ فروعه ثمراته
فليحمد الإسلام ماجدحت له ... شربات غرس هذه مجناته
وسقى صدى ذاك الحياصوب الحيا ... خير الثرى ما كنت أنت نباته
نصب السرير ومال عنه، ومهدت ... لمقر منصبك السري سرايته
ما ضر هذا البدر وهو محلق ... أن الكواكب في الذرا ضراته
في كل يوم تستطيل قناته فوق السماء، وتعتلى درجاته
وتظل ترقم في الضحى آثاره ... مجدا وألسنة الزمان رواته
أين الأولى ملأوا الطروس زخارفا ... عن نزف بحر هذه قطراته
غدقوا بأعناق العواطل ماله ... من جوهر فأتتهم في ذاته
لو فصلوا سمطا ببعض فتوحه ... سخرت بما افتعلوا لهم فعلاته
يُمسى قنانيه بنات قيونه ... فوق القوانس والقنا قيناته
صلتان من دون الملوك تقرها ... حركاته وتنيمها يقظاته
قعدت بهم عن خطوه هماتهم وسمت به عن قطوهم هماته
سكنوا مسجّفة الحجال، وأسكنت ... زحل الرحال مع السها عزماته
لو لاح للطائي غرة فتحه ... بآءت بحمل تأوه باءاته
أوهب للطبري طيب نسيمه ... لا حتش من تاريخه حشواته
صدم الصليب على صلابة عوده ... فتفرقت أيدي سباخَشَباتُه
وسقى البرنس، وقد تبرنس ذلة ... بالروح ممقرما جنت غدراته
فانقاد في خطم المنية أنفه ... يوم الخطيم، وأقصرت نزواته
ومضى يؤنب تحت إنب همة ... أمست زوافرغيها زفراته
أسد تبوا كالغرنف فجأته ... فتبوأت طرف السنان شواته
دون النجوم مغمضا، ولطالما ... أغضت وقد كرّت لها لحظاته
فجلوته تبكي الأصادق تحته ... بدم إذا طحكت له شُمّاته
تمشي القناة برأسه، وهو الذى ... نظمت مدار النيرين قناته
لوعانق العيوق يوم رفعته ... لأراك شاهد خفضه إخباته
ما انقاد قبلك أنفه بخزامه ... كلا، ولا همت لها هدراته
طّيان خف السرح طال زئيره ... نطقت سُطاك له فطال صُماته
لما بدا مسود رايك، فوقه ... مبيض نصرك، نكست راياته
ورأى سيوفك كالصوالج طاوحت ... مثل الكرين تقلصت كراته
ولى وقد شربت ظباك كماته ... تحت العجاج وأسلمته حماته
ترك الكنائس والكناس لناهب ... بالبيض ينهب ماحواه عفاته
غلاب، أروع، لا يُميت عِدَاته ... داء المطال، ولا تعيش عُداتُه
للوحش ملقى بالعرا يقتاته ... ما كان قبل بصيده يقتاته
اليوم ملّكك القراع قلاعه ... متسنّما ما استشرفت شرفاته
وغدا تحل لك الحلائل أسهم ... متوزغات بينهن بناته
أوطأت أطراف السّنابك هامه ... فتقاذفت بعيقها قذفاته
لا زال هذا الملك يشمخ شأنه ... أبدا، ويكفت في الحضيض شناته
ما أخطأتك يد الزمان فدونه ... من شاء فلتسرع إليه هناته
أنت الذي تحلى الحياة حياتُه ... وتهب أرواح القصيد هباته
فصل

قال ابن الأثير: وفيها سار نور الدين إلى حصن أفامية،. وهو للفرنج أيضاً، وبينه وبين حماة مرحلة؛ وهو حصن منيع على تل مرتفع عال من أحصن القلاع وأمنعها. وكان من به من الفرنج يغيرون على أعمال حماة وشيرر وينهبونها، فأهل تلك الأعمال معهم تحت الذل والصغار. فسار نور الدين إليه وحصره وضيق عليه، ومنع من به القرار ليلا ونهارا، وتابع عليهم القتال لينعوا الاستراحة. فاجتمعت الفرنج من سائر بلادها وساروا نحوه ليزحزحوه عنها، فلم يصلوا إليه إلا وقد ملك الحصن وملأه ذخائر، من طعام ومال، وسلاح ورجال، وجميع ما يحتاج إليه. فلما بلغه قرب الفرنج سار نحوهم؛ فحين رأوا جده في لقائهم رجعوا واجتعوا ببلادهم، وكان قصاراهم أن صالحو. على ما أخذ ومدحه الشعراء وأكثروا؛ منهم أبو الحسين أحمد بن منير. قال:
أسنى ما الممالك ما أطلت منارها ... وجعلت مرهفة الشفاردسارها
وأحق من ملك البلاد وأهلها ... رَؤُفٌ تكّنف عدلُه أقطارها
من عام سام الخافقين وحامها ... مننا، وزاد هوًى فخصّ نزارها
مضرية طبعت مضاربه، وإن ... عدته ذروة فارس أسوارها
آل الرعية وهي تجهل آلها ... وتعاف نطفتها وتكره دارها
فأقرّ ضجعتها وأنبت نيها ... وأساغ جزْعتها وأثبت زارها
ملك أبوه سما لها، فسما، بها ... وأجارها، فعلت سُهيلا جارها
نهج السبيل له فأوضع خلفه ... وشدا له يمن العلا فأنارها
أنشرْت يامحمود ملة أحمد ... من بعد ما شمل البلى أبشارها
إن جانأت عدل السنان قوامها ... أو نأنأت كان الحسام جبارها
عقلت مع العصم العواصم مذغدت ... هذي العزائم أسرها وإسارها
وتكفلت لك ضُمر أنضيتها ... في صونها أن تسترد ضمارها
كلأت هواملها ورد مطارها ... ما أريشته، وثقفت آطارها
كم حاولت من كفتيها غرة ... غلب الأسود فقلمت اظفارها
أني، وحامى سرحها من لم سمت ... للفلك بَسْطته أحال مدارها
في كل يوم من فتوحك سورة ... للدّين يحمل سفره أسفارها
ومطيلة قصر المنابر إن غدا ال ... خطباء تنثر فوقها تقصارها
هم تحجّلت الملوك وراءها ... بدم العثار، وما اقتفت آثارها
وعزائم تستوئر الآساد عن ... نهش الفراش إن أحس أوارها
أبدا تقر طول مشرفة الذرا ... بالمشرفية، أو تطيل قصارها
فغرت أفاميةٌ فما فهتمته ... كبوار أجناها الأران بوارها
أرهقت رائك فوق رائك تحتها ... فحططت من شعفاتها أعَفارها
أدركت ثأرك في البغاة، وكنت يا ... مختار أمة احمد مختارها
عارية الزمن المغير، سمالها ... منك المعير فاسترد معارها
زأر الهزبر فقيدت عاناتها ... عصر الضلال وأسلمت أعيارها
ضاءت نجومك فوقها، ولربما ... باتت تنافثها النجوم سرارها
أمست مع الشعرى العبور وأصبحت ... شعراء تستفلى الفحول شوارها
ولكم قرعت بمقرباتك مثلها ... تلعا، وقلدت الكماة عذارها
حتى إذا اشتملتك أشرق سورها ... عزا، وحلاها سناك سوارها
خر الصليب وقد علت نغماتها ... واستوبلت صلواته تكرارها
لما وعاها سمع أنطاكية ... سرت الوقار وكشفت استارها
فاليوم اضحت تستذم مجيرها ... من جوره، وغدت تذم جوارها
علمت بأن ستذوق جرعة أختها ... إن زز أطواق القباء وزارها
ماض، إذا قرع الركاب لبلدة ... ألقت له قبل القراع إزارها
وإذا مَجَانقه ركعن لصعبة ال ... ملقاة أسجد كالجدير جدارها

ملأ البلاد مواهبا ومهابة ... حتى استرقت آيُهُ أحرارها
يذكى العيون إذا أقام لعونها أبداً، ويفضى بالظّبا أبكارها
أوما إلى رمم الندى فأعاشها ... وهى لسابقة المنى فأزارها
نبوىّ تشبيه الفتوح، كانما ... أنصاره رجعت له أنصارها
أحبا لصرح سلامها سلمانها ... وأمات تحت عمارها عمارها
إن سار سار وقد قدم جيشه ... رجفٌ يقصع في اللها دعارها
أوحل حل حبا القروم بهيبة ... سَلَب البدور بدارها أبدارها
وإذا الملوك تنافسوا درج العلا ... أربى بنفس أفرعته خيارها
ونُهّى إذاهيضت تدل بخيرها ... وسُطى تُذل إذا عنت جبارها
تهدى لمحمود السجايا كاسكه ... لو لز فاعلة بها لأبارها
الفاعل الفعلات ينظم في الدجى ... بين النجوم حسودها أسمارها
ساع سعى والسابقات وراءه ... عنقا، فعصفر منتماه عثارها
كالمضرجي إذا يُصَرْصِر آيبياً ... خرس البغاث وهاجرت أوكارها
عرفت لنور الدين نور وقائع ... يُغشى إذا اكتحلت به أبصارها
مشهورة سعطت وقد حاولتها الْ ... أقدار عجزاً أن تشق غبارها
لله وجهك والوجوه كأنما ... حطت بها أوقار هِيت وقارها
واليض تخنس في الصدور صدورها ... هبرا، وتكتحل الشفور شفارها
والخيل تدلج تحت أرشية القنا ... جذب المواتح غاورت آبارها
فبفيت تستجلى الفتوح عرائسا ... متمليا صدر العلا وصدارها
في دولة للنصر فوق لوائها ... زبر تنمق في الطلى أسطوارها
فالدين موماة رفعت بها الصوى ... وحديقة ضمنت يداك إيارها
وله فيه من قصيدة أخرى:
خنس الثعالب حين زمجر مصحر ... ملأ البلاد هماهماً وزئيرا
تركوا مشجارة الرماح لحاذق ... جعلت محافته القصور قبور
لريب حرب، لم تزل فعلاته ... كالراء يلزم لفظها التكريرا
أسد إذا ما عاد من ظفر بمف ... ترس أحدَّ لمثله أظفورا
يتناذر الأعداد منه سطوة ... ملء الزمان تغيظاً ورفيراً
عرفوا لنور الدين وقع وقائع ... وفي بها الإسلام أمس نذورا
أبدا يظافرك القضاء على الذي ... تبغى، فترجع ظافرا منصورا
قوّضت، فانتقع الظهائر ظلمة ... وقفلت، فاشتغل الدياجر نورا
وعلى العواصم من دفاعاك عاصم ... ينشى الرشيد وينشر المنصور
فصل في وفاة معين الدين أثر بدمشق وما كان الرئيس ابن الصوفي في هذه السنة
قال أبو يعلى التميمي: فصَل معين لدين من عسكره بحَوْرَان ووصل إلى دمشق في أواخر ربيع الآخر، لأمر أوجب ذلك ودعا إليه، وأمعن في الاكل، فلحقه عقيب ذلك انطلاق تمادى به؛ وحمله اجتهاد فيما يدبره على العود إلى عسكره بناحية حوران وهو على هذه الصفة من الانطلاق، وقد زاد به وضعفت قوته، وتولد معه مرض في الكبد. فأوجب الحال إلى دمشق في محفة لمداواته؛ فوصل وقضى نحبه في لية الثالث والعشرين من ربيع الآخر، ودفن في إيوان الدار الأتابكية التى كان يسكنها، ثم نقل بعد ذلك المدرسة التى عمرها.
قلت: قبره في قبة بمقابر العونية شمالي دار البطيخ الآن، واسمه مكتوب على بابها، فلعله نقل من ثم إليها.
وفيهه يقول الأميرمؤيد الدولة أسامة بن منقذ، وكتب بها إليه من مصر لمّا لقى الفرنج في أرض بصرى وصرخد مع نور الدين، وقد تقدم ذلك كتب إليه قصيدة يقول فيها:
كل يوم فتح مبين ونصر ... واعتلاء على الأعادي وقهر
صدق النعت فيك، أنت معين الد ... ين، إن النعوت قال وزجر
أنت سيف الإسلام حقا، فلا كَل ... غراريك ايها السّيفُ دهر
لم تَزل تُضمر الجهاد مُسِرَّا ... ثم أعلنت حين أمكن جهر

كل ذخر الملوك يَفْنَى، وذخرا ... ك هما الباقيان: أجرٌ وشكر
قال: وفي يوم الجمعة تاسع رجب قرئ المنشور المنشأ عن مجيرالدبن بعد الصلاة على المنبر بإبطال الفسة المستخرجة من الرعية، وإزالة حكمها وتعفية رسمها، وإبطال دار الضرب؛ فكثر دعاء الناس له وشكرهم.
قال: واستوحش الرئيس مؤيد الدلولة من مجير الدين استيحاشاً أوجب جمع من أمكنه من سفهاء الأحداث والغوغاء، وحَمَلة السلاح من الجهلة والعوام، وترتيبهم حول داره ودار أخيه زين الدولة حيدرة، للاحتماء بهم من مكروه يتم عليهما؛ وذلك في ثالث عشر رجب. ووقعت المراسلات من مجير الدين بما في يُسَكنها ويطيب أنفسهما، فما وثقا بذلك، وجدا في الجمع والاحتشاد من العوام وبعض الأجناد، وأثارا الفتفة فقصدوا باب السجن وكسروا أغلاقه وإطلقوا من فيه. واسنفرُوا جماعة من أهل الشاغور وغيرهم، وقصدوا الباب الشرقي وفعلوا مثل ذلك، وحصلوا في جميع كثير، وامتلأت بهم الأزقة والدروب. فحين عرف مجير الدين وأصحابه هذه الصورة اجتمعوا في القلعة بالسلاح الشاكي، وأخرج ما في خزانته من السلاح والعدد، وفُرِّقت على العسكرية، وعزموا على الزحف على جميع الأوباش، والإيقاع بهم، والنكاية فهيم. فسأل جماعة من المقدمين التمهل في هذا الأمر وترك العجلة، بحيت تحقن الدماء ويسلم. البلد من النهب والحريق؛ وألحوا عليه إلى أن أجلب سؤالهم.
ووقعت المراسلة والتلطف في إصلاح ذات البين. فاشترط الرئيس وأخره شروطا أجيبا إلى بعضها وأعرض عن بعض، بحيث يكون ملازما لداره، ويكون ولده و ولد أخيه في الخدمة في الديوان، ولا يركب إلى القلعة إلا مُسدعى إليها؛ وتقررت الحال على ذلك، سكنت الدهماء. ثم حدث بعد هذا التقرير عود الحال إلى ما كانت عليه من العناد وإثارة الفساد، وجمع الجمع الكثير من الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين، واتفقوا على الزحف إلى القلعة وحصر من بها، وطلب من عين من الأعداء الأعيان، في أواخر رجب ونشبت الحرب بين الفريقين، وجرح وقتل بينهم نفر يسير، وعاد كل فريق منهم إلى مكانه. ووافق ذلك هروب السلار زين الدين إسماعيل الشحنة واخيه إلى ناحية بعلبك ولم تزل الفتننة ثائرة والمحاربة متصلة، إلى أن اقتضت الصورة إبعاد كل من التمس إبعاده من خواص مجير الدين، وسكنت الفتنة وأطلقت أيدى النهاية في دار السلاربن وأصحابهما، وعمها النهب والخراب ودعت الضرورة إلى تطييب نفس الرئيس وأخيه والخلع عليهما، و إعادة الرئيس إلى الو زارة والرئاسة، بحيث لا يكون له في ذلك معترض ولا مشارك.
قلت: وفى هذه الفتنة يقول العرقلة:
ذر الأتراك والعربا ... وكُنْ في حزب من غلبا
بجلق أصبحت فتنٌ ... تجر الويل والحربا
لئن تمت فوا أسفا ... ولم تخرب فواعجبا
وقال في الرئيس لما زحف إلى القلعة:
زد علوا في المجد يابن علي ... هكذا من أراد أن يتعالى
قد حوى الدين، يا مؤيّدهُ، مِنْ ... كَ، هزبرا، وديمة، وهلالا
وغدت جلق تناديك عجبا ... هكذا هكذا، وإلا فلا. لا
جثتَها في الظلام خيْلا وَرَجْلا ... وحميت النفوس والأموالا
لن تبالى من بعدها بعدوّ ... إنما ذاك كان قطعاً فزالا
قد بلغت المراد من كل ضد ... وَكَفَى الله الْمُؤمِنِينَ الْقِتَاَلا
قال أبو يعلى التميمي: وفيها ورد الخبر من ناحية مصر بوفاة المستخلف بها الملقب بالحافظ، واسمه عبد المجيد بن الآمر بن المستنصر، في خامس جمادى الآخرة. وولى الأمر بعده والده الأصغر أبو منصور إسماعيل، ولقب بالظافر، وولى الوزارة له أمير الجيوش أبو الفتح ابن مصال المغربي.
فصل في وفاة سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل وهو أخو نور الذين الأكبر

قال ابن الأثير: كان أتابك الشهيد، يعني زنكي، ملك دارا وبقيت بيده إلى أن قتل، فأخذها صاحب ماردين، ثم سار إليها سيف الدين ابن الشيهد، في سنة أربع وأربعين، فحاصرها وملكها، واستولى على كثير من بلاد ماردين بسببها، ثم حصر ماردين عازما على أن يدخل ديار بكر ويستبعد ما اخذ من البلاد بعد قتل والده. فتفرق العسكر في بلادها ينهبون ويخربون. فقال صاحب ماردين: كنا نشكو من أتابك وأين أيامه. فلقد كانت أعياداً!! قد حَصَرَنا غير مرة فلم يتعد هو وعسكره حاصل السلطان، ولا أخذوا كفا من التبن بغير ثمن:
رُب دهرٍ بكيت منهُ، فلما ... صِرْتُ في غيرِه بكيت عليه
ثم إنه راسل سيف الدين وصالحه على ما أراد وزوجه ابنته الخاتون، ورحل سيف اللإين عن ماردين وعاد إلى الموصل؛ وجُهِّزت الخاتون وسُيرت إليه، فوصلت إلى الموصل وهو مريض، فتوفى ولم يدخل بها؛ وذلك في أواخر جمادى الآخرة، وكان عمره نحو أربعين سنة؛ وكان من أحسن الناس صورة. ودفن بالمدرسة التي أنشأها بباطن الموصل وخلف ولدا ذكراً، أخذه نور الدين محمود عمه فرباه فأحسن تربيته، وزوجه ابنة عمه قطب الدين مودود، فلم تطل ايامه، وأدركه أجله في عنفوان شبابه، فتوفي، وانقرض عقب سيف الدين.
وكان كريها شجاعا ذا عزم وحَزم؛ وهو أؤل من حمل على رأسه سنجق من أصحلب الأطراف، فإنه لم يكن فيهم من يفعله لأجل السلاطين السلجوقية. وهو أؤل من أمر عسكره ألا يركب أحدهم إلا والسيف في وسطه، فلما أمر هو بذلك اقتدى به غيره من أصحاب الأطراف. و بنى بالموصل المدرسة الأتابكية العتيقة، وهي من أح - ن المدارس وأوسعها، وجعلها وقفاً على الفقهاء الشافعية والحنفية نصفين. و بنى رباط الصوفية، وهو الر باط المجاور لباب المشرعة، ووقف علبهها الوقوف الكثيرة، وكان كريما. قصده شهاب الدين حيص بيص، وامتدحه بقصيدته المشهورة، وهي من جيد شعر، فأجازه عنها ألف دينار أميري سوى الإقامة والتعّهد مدَّة مُقَامه، وسوى الخلع والثياب.
قلت أول تلك القصيدة:
إلاَمَ يراك المجد في زي شاعر
و يقول في آخرها:
أتابك، إن سُميت في المهد غازيا ... فسابقة معدودة في البشائر
وَفَيتَ بها والدين قد مال رَوْفُه ... وصدقتها والكفر بادى الشعائر
وعز ى أبو الحسن أحمدُ بن منير نور الدين بأخيه بقصيدة تقدم بعضها، أولها:
هو الجذ بز التمام البدورا
يقول فيها:
شوى كل ماجنت الحادثا ... ت ما كنت ظلا علينا قريرا
أسان وأحسن صن الهلال وملأننا منك بدرا منيرا
إذأ ثبح البحر أخطأنه ... فلا غرْو أن ينتشفن الغديرا
وأصُغِر بفقداننا الذاهبين ... ماعشت نأتيك مَلكا كبيرا
وما أغمد الدّهر ذاك الحسا ... م ماسل حدَّاك عضْبا بتورا
قسيمُ عُلاك، ونعم القسيم ... أخٌ شاف نزراً وأعطى كثيرا
وكان نظيرك،غار الزما ... ن من أن يرى لك فيه نظيرا
فدتك نفوسٌ بك استوطنت ... من الأمن نوراً، وقد كُنً بُورا
بقيت مُعزًّا من الهالكين ... تُوقّى الرّدى وتوفي الأجورا
وغيرك يمهد بسسط العزاء ... ويولى المُسَلّين سمعاً وقورا
وما نقص الدّهرُ أعدادكم ... إذا شف قطراً وأبقى بُحُورا
ولو أنصف المجد موتاكم ... لَخَطّ لهم في السماء القُبُورا
حياتُك أحيت رميم الرّجاء ... وأمْطَت من الجود ظهراً ظهيرا
وللقيسراني قصيدة منها:
ما أطرق الجو حتى اشرق الأفق ... إن أغمد السيف فالصَّمصام يأتلق
دون الأسى منك، نور الدين، في حلب ... مُلّكٌ ينجلى عن وجهه الغسق
كُنْتَ الشقيق الشفيق الغيب، حين ثوى ... أراق ماء الكرى من جفنك الأرق
تلقى الأسى من لباس الصبْر في جُنن ... حصينة، تحتها الأحشاء تحترق
ومدّةُ الأجل المحتوم إن خفيت ... فإن أيامنا من دونها طُرُق
وإنما نحن في مضمار حلبتها ... خيل إلى غاية الأعمار تسْتبِق

شأو إذا ابتدر الأقوام غايته ... كان المؤخر فيها من له السبق
إن كان صنوك هذا قد ثوى فذوى ... ففي مغارسك الأثمار والورق
أو أصبحت بعده الأهواء نافرة أيدى ... سبا، فعلى علياك تّتفق
ما غاب من غاب عن آفاق مطلعه ... إلاَّ لِيْفترَّ عن أنوارك الأفق
ما دام شمسك فينا غير آفلةٍ ... فالدين منتظم والملك مُتَّسق
فصلقال ابن الأثير: ولما توفى سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مودود بالموصل؛ فاتفقت كلمة جمال الدين وزين الدين على توليته وتمليكه طلباً للسلامة منه، فإنه كان لين الجانب، حسن الأخلاق، كثير الحلم، كريم الطباع. فأحضروه من داره وحلفوه لهم وحلفوا له، ونزل بدار المملكة، وحلف له الأمراء والأجناًد، واستقر في الملك وأطاعه جميع ما كان لأخيه سيف الدين، لأن المرجع كان في جميع المملكة إلى جمل الدين وزين الدين. ولما ملك واستقر في الملك تزوج امرأة أخيه، التي مات ولم يدخل بها، الخاتون ابنة. حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين فولدت لقطب الدين أولاده الذين ملكوا الموصل بعده، على ماسنذكره، ولم يملكها من، أولاد قطب الدين أحد غير أولادها.
قال: وكانت هذه الخاتون يحل لهاً ان تضع خمارها عند خمسة عشر ملكا من آبائها، وأجدادها، وإخوتها، وبني إخوتها، وأزواجها، وأولادها، وأولاد أولادها. ثم ذكرهم ابن الأثير في كتابه وسماهم، وذكر أنها أشبهت في ذلك فاطمة بنت عبد الملك ابن مروان، زوج عمر بن عبد العزبز، رضي الله عنه؛ كان لها أن تضع خهارها عند ثلاثة عشر خليفة، وهم: من معاوية رضي الله عنه إلى آخر خلفاء بني أمية، سوى آخرهم، وهو مروان بن محمد، فإنه ابن عم لها ليس بمحرم، والباقون محارم لها. وما تم له ذلك إلا بعد ذكره أن أمها عاتكة بنت يزيد بن معاو ية؛ فمعاوية جدّها لأمها، ومعاوية بن يزيد خالها، ومروان جدها لأبيها، وعبد الملك أبوها، والويد وسليمان وهشام و يزيد إخوتها، وعمر بن عبد العزيز زوجها، والوليد بن يزيد ويزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد أولاد أخويها، وهؤلاء كلهم خلفاء وعدتهم ثلاثة عشر. قلت: وهذا كله مبني على أصل فيه خلل، وهو أن فاطمة بنت عبد الملك ليست أمها عاتكة بنت يزيد بن معاوية، بل أمها امرأة مخزوميّة، على ما بيناه في ترجمتها في تاريخ دمشق. ولكن الصواب في ذلك أن يقال: كان لفاطمة إن تضع خمارها عند عشرة من الخلفاء، وهم: مروان بن الحكم ونسله، سوى مروان بن محمد؛ وأما عاتكة فالجيمع محرم لها سوى عمر بن عبد العزيز ومروان ابن محمد، بقى ثنا عشر خليفة كلهم محارم لها: معاوية جدها، ويزيد أبوها، ومعاوية بن يزيد أخوها، ومروان حموها، وعبد الملك زوجها، والوليد وسليمان وهشام أولاد زوجها، ويزيد بن عبد الملك ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، ويزيد بن الوليد وأبرابيم بن الوليد انبا ابن زوجها. ولو أضيف إلى ذلك الملوك من محارم عاتكة أو فاطمة كالإخوة والأعمام والأخوال وبني الإخوة، لتضاعف العدد، كخالد بن يزيد بن معاوية أخى عاتكة، وعبد العزيز بن مروان عم فاطمة، ومسلمة وعبد الله ابنى عبد الملك، وغيرهم. وذلك ظاهر لمن عرف أنساب بني أمية. وما ذكره ابن الأثير من أمر بنت حسام الدين، فسِتُّ الشام بنت أيوب أكثر منها محارم من الملوك، يجتمع لها من ذلك اكثر من ثلاثين ملكا. من إخوتها الأربعة: المعظم، وصلاح الدين، والعادل، وسيف الإسلام، ومن أولادهم وأولاد أولادهم، وأولاد أخيها الأكبر شاهنشاه بن أبوب تقي الدين، وذريته أصحاب حماة، وفرخشاه.
فصل

قال ابن الأثير: ولما ملك قطب الدين الموصل والبلاد الجزرية كان أخوه نور الدين بحلب، وهو أكبر من قطب الدين، فكاتبه بعض الأمراء وطلبوه إليهم؛ منهم المقدم والد شمس الدين ابن المقدم، وهو حينئذ دزدار سنجار. فسار نور الدين جريدة في سبعين فارسا من أكابر دولته، منهم أسد الدين شيركوه، ومجد الدين أبو بكر ابن الداية، وغيرهما. فوصلوا إلى ماكِسِين في ستة أنفس في يوم شديد المطر وعليهم اللبابيد، فلم يعرفهم الذين بالباب، وأرسلوا إلى الشحنة وأخبروه بوصول نفر من الأجناد وكأنهم تركمان؛ فلم يستتم القاصد كلامه حتى وصل نور الدين. فحين رآه الشحنة قبّل يده وخرج عن الدار، فنزلها نور الدين حتى لحق به أصحابه. وسار مجد الدين إلى سنجار فوصلها وليس معه إلا نفر يسير، فنزل بظاهر البلد وألقى نفسه على محفورة صغيرة من شدّة تَعبه، وأرسل إلى المقدم بالقلعة يعرفه وصوله، وكان المقدم قد استُدعى من الموصل لأن خبره مع نور الدين بلغ من بها، فأرسلوا إليه فتوقف عدة أيام، فلم يصل نورالدين، فسار إلى الموصل وترك ابنه شمس الدين بسنجار، وقال له: أنا أتأخر في الطريق، فإن وصل نور الدين فأرسل من يعلمني، فلما فارق سنجار وصل نور الدين، فلما علم شمس الدين بوصوله أرسل قاصدا إلى أبيه بالخبر وأنهى الحال إلى نور الدين، فحاف فوات الأمر. ورصل القاصد الذي سيره ابن المقدم إلى أبيه فأدركه بتل يعفر، فعاد إلى سنجار وسلمها إلى نور الدين، وكاتب فخر الدين قرا أرسلان بن داود صاحب الحصن يستنجده، وبذل له قلعة الهيثم، فسار إليه بجنده. فلما سمع قطب الدين الخبر جمع عساكره وسار عن الموصل نحو سنجار، ومعه الجمال والزين، ونزلوا بتل يعفر، وأرسلوا إلى نور الدين ينكرون عليه. إقدامه وأخذه ما ليس له، وتهددوه بقصده وإخراجه من البلاد قهراً إن لم يرجع اختياراً. فأعاد الجواب: إنني أنا الأ كبر، وأنا أحق ان أدبر أمر أخى منكم. وما جئت إلا لما تتابعت إلى كتب الأمراء يذكرون كراهيتَهم لولا يتكم عليهم، يعني الجمال والزين، فخِفت أن يحملهم الغيظ والأنفة على أن يخرجوا البلاد من أيدينا. فأما تهدُّدُكم إياى بالقتال فأنا ما أقاتلكم إلا بجندكم؛ وكان قد هرب إليه جماعة من أجنادهم. فخافوا أن يلقوه لئلا يخامر عليهم باقي العسكر، ودخل الأمراء في الصلح، وأشار به جمال الدين الوزير وقال: نحن نظهر للسلطان والخليفة أننا تبع نورالدين، ونور الدين يظهر للفرنج أنه يحكمنا ويهددهم بنا. فإن كاشفناه وحاربناه فإن ظفر بناً طمع فينا السّلطان، وإن ظفرنا، به طمع فينا الفرنج. ولنا بالشام حمص وقد صار له عندنا سنجار، فهذه أنفع لنا من تلك، وتلك إنفع له من هذه؛ والرأى أن نسلم إليه حمص ونأخذ سنجار؛ وهو في ثغر بإزاء الفرنج ويتعين مساعدته. فاتفق الجماعة على هذا الرأي، وسار جمال الدين إلى نور الدين وابرم معه الأمر وتسلم حمص وسلم سنجار إلى أخيه؛ وعاد نور الدين وأخذ ما كان بسنجار من المال. ولما تسلم قطب الدين سنجار أقطعها لزين الدين، لأن حمص كانت لأخيه ينال وهو مقيم بها. واتففت كلمتهم واتحدت آراؤهم، كل واحد منهما لا يصدر إلا عن أمر أخيه. وطلب نور الدين أن يكون الجمال عنده، فقال له الجمال: أنت عندك من الكفاية ما يستغنى به، عن وزير ومشير، وليس عندك من الأعداء مثل ما عند أخيك، لأن عدوك كافر فالناس يدفعونه ديانة، وأعداء أخيك مسلمون فيحتاج من يقوم بدفعهم. وإذا كُنت عند أخيك فالنفع إليك عائد؛ وأريد من بلادك مثل مالي من بلاد أخيك معونة على كثرة خرجي. فأجابه له إلى ذلك فقال له جمال الدين أنت عليك خرج كثير لأجل الكفار فيجب مساعدتك، وأنا أقنع منك بعشرة آلاف دينار كل سنة. فأمر له بها. فكان نائب جمال الدين يقبضها كل سنة ويشتري بها أسرى من الفربج ويطلقهم. قلت: وقرأت في ديوان القيسراني: وقال في نور الدين عند قدومه، وقد استولى على سنجار وأعمال الرّحبة والفرات، وذلك في منتصف ذى القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة:
هذا الذي ولدت له الأفكار ... وتمخَضت فألا به الأشعار
وجرت له خيل النهى في حلبة ... وردت وصفو ضميرها المضمار
وأتت به نذر القوافي برهة ... إن القوافي وحيها إنذار

حكمت لسيفك بالممالك عنوة ... حكما، لَعموى، ماعليه غبار
يأيها الملك المطيل نجاده ... بَرُّ يَدِينُ بِهَدْيه الأبرار
يابْن السيوف،وهل فخرت بنسبة ... إلا سمابك قائم وغرار
فارقت دار الملك غير مفارق ... لك من علاك بكل أرض دار.
في عسكر يخفي كواكب ليله ... نقعاً، فيطلعها القنا الخطَار
جرّاز أذيال العجاج وراءه ... وأمامه، بل جحفلٌ جرّار
تدنى لك الغايات أكبر همة ... نوريّة، هم الملوك كبار
حتى ملأت الخافقين مهابة ... دانت لُعظم نظامها الأقطار
وملكت سنجاراً، وما من بلدة ... إلا تَمَنَّى أنها سنجار
وبسطْت بالأموال كفَّا طالما ... طالت بها الآمال وهي قصار
وجرت أمداد الجياد شعابها ... جرْى السيول، وما عداك قرار
وثنى الفراتُ إلى يديك عنَانه ... والبحر ما اتّصلت به الأنهار
وملكت رحبة مالك فتبرَّجت ... منها لِعَيْنِك كاعبٌ مِعطار
جاءتك في حُلل الربيع وحَلْيها ... قبل الربيع شقائق وبهار
نثرت عليلث هوى القلوب محبة ... وتدّ لو أن النجوم نثار
فأقمت كالشمس المنيرة، إن نأت ... عن أفْقها فَلَها بِهَ أقمار
من كان نور الدين ثم أجَنَّه ... ليلُ السُّرى حفّت به الأنوار
تدعو البلاد إليك ألسنة الظّبا ... فتجيبك الأنجاد والأغوار
حتى عمدت الدين يابن عماده ... بقنا أسنّتها عليه منار
وقفلت من أسفار جدك قادما ... كالصبح نمّ بثغره الإسفار
يغشى البصائر نور وجهك بعد ما اع ... تركت على قسماته الأبصار
حتى عمرت بكل قلب صدره ... حين الصدور من القلوب قفار
إن تُمسِ في حلب رياحك غضة ... فلها بأنطاكية إعصار
وغدت جيادك بالشآم مقيمة ... ولها بأطراف الدروب مغار
هم سبقت بها إلى مهج العدا ... صرف الردى، ومسيره إحضار
وأرى صياح القمص كان خديعة ... فطغى وَجَارَ، وليس ثَمّ وِجَار
سأل الصنيعة غير محقوق بها ... والخير يهدم ما بنى الختار
حتى إذا ما غبت أقدم عاثيا ... إقدام من لم يدْنُ منه قرار
أمضى السّلاح على عدّوك بغيهُ ... بالغدر يُطعن في الوغي الغدار
فاحسم عنا ذوي العناد بجحفل ... كالليل فيه من الصفيح نهار
جند على جُرد، أمام صدورها ... صدر عليه من اليقين صِدَار
قد بايع الإخلاص بيعة نصرة ... ولكلّ هادي أمٍة أنصار
ملك له من عدله ووفائه ... جيش، به تستفتح الأمصار
وإذا الملوك تثاقلت عن غاية ... وأرادها حَفّت به الأقدار
وإذا انتضته إلى الثغور عزيمة ... قامت مقام جنوده الأخبار
ولابن منير من قصيدة فيه:
ترنح معطف الزوراء لما ... دعاك لزَوْرَ سنجار لمام
وزلزلت الصّعيد وراء مصر ... غداة علتك في قطنا الخيام
رجاء هَزَّ تيك، وتلك خوفٌ ... ولو قد شئت ضمهما قرام
بعيشك يامبيد الخيل ركضا ... حَمامٌ هنّ تحتك أم حِمام
وقال ابن منير أيضاً يهنئه بتسلم قلعة حمص من بنال، وأنشده في القلعة، قصيدة أولها:
أرحها فهي أزلام المعالي ... لهنّ إلى الوغى تَوْقُ المغالي

أقاد مقيلهن بكل نقع ... يقوّض، بالهدى عمر الضّلال
وأي سيوفك الحمر الحواشي ... منزلة متى دُعِيتْ نَزَال
مَواضٍ، إن سُللن سلكن جزما ... نفاه من الطلي لفظ اعتلال
لقد غلت الصليب بِحَرْ حرْب ... يُشيب أوارُها لمم الليالى
وشمت لنصر هذا الدين بأساً تحرم منه كل حمّى حلال ومنها:
وقائع أنزعت في كل فج ... وقائع جوّها دامي العَزَال
تسائل حمص عن منسىّ دين ... تقاضاه لك الحِجج الخوالي
فواتَت وهي أخت النجم بُعدا ... ووعدا صيغ فن مطل مطَال
تشامخ أنفها عزا وشدت ... على أن لاتنال يدا ينال
فما زالت رقاك تجدّ نقضا ... لما تثنيه من مرر الحِبال
إلى أن أطلق الخسناء كرها ... وآل إلى ملاوحة المآلي
يصد الوجه عن شمّاء ألقت ... يداً لأشمّ ذي باع طوال
شغلت بها يمينك، والمواضي ... تكّفلُ أنّ مصرا للشمال
إذا فتح القتال عليك أرضا ... أباحك أختها لاَ عَنْ قتال
فصلقال الرئيس أبو يعلى: اتصل الخبر بنور الدين بإفساد الفرنج في الأعمال الحَوْرَانيّة بالنّهب والسبي، فعزم على التأهب لقصدهم، وكتب إلى مَنْ دمشق يعُلمهم بما عزم عليه من الجهاد ويستدعي المعونة على ذلك بألف فارس تصل إليه مع مقدم يعول عليه. وقد كانوا عاهدوا الفرنج على أن يكونوا يداً واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين، قاحتج عليه وغولط. فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس، و بعض العسكرية بيعفور. فلما قرب من دمشق وعرف من بها خبره ولم يعلموا أين قصده، وقد كانوا راسلوا الإفرنج بخبره، قرروا معهم الإنجاد عليه، وكانوا قد نهضوا إلى ناحية عسقلان لعمارة غزة، ووصلت أوائلهم إلى بانياس. وعرف نور الدين خبرهم فلم يحفل بهم، وقال لا أنحرف عن جهادهم، وهو مع ذلك كافّ أيدي أصحابه عن العيث والإفساد في الضايع، وأمر بإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف عنهم، والدعاء له مع ذلك متواصل من أهل دمشق وأعمالها، وسائر البلاد وأطرافها وكان الغيث قد انحبس عن حَوْرَان والمرج والغوطة، ونزح أكثر أهل حوران عنها للْمَحْل واشتداد الأمر. فلما وصل نور الدين إلى بعلبك اتفق نزول المطر يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة، وأقام إلى مثله، فروّى الآكام والوهاد، وجرت الأودية، وزادت الأنهار، وامتلأت برك حوران ودارت أرحيتها، وط د ما صوّح من النبات والزرع غضَّا طريا، وجد الناس بالدعاء لنور الدين وقالوا هذا ببركته وحُسْن مَعْدلته وسيرته. ثم رحل من منزله بالأعوج، ونزل بجسر الخشب المعروف بمنازل العساكر في السادس والعشرين من ذي الحجة، وأرسل إلى مجير الدين والرئيس، وقال: إنني ما قصدت بنزول هذا المنزل طلبا لمحاربتكم ولا منازلتكم، و إنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين من أهل حَوْران. والعربان بأن الفلاحين أخذت أموالهم وسُبيت نساؤهم وأطفالهم بيد الأفرنج، وعدم الناصر لهم ولا يسعني، مع ما أعطاني الله، وله الحمد، من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين، وكثرة المال والرجال، أن أقعد عنهم ولا أنتصر لهم، مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذبّ عنها، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالإفرنج على محاربتي، وبذْلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظُلْماً لهم وتعدّياً عليهم. وهذا ما لا يرضي الله تعالى ولا أحداً من المسلمين؛ ولابد من المعونة بألف فارس مُزاحِي العلّة، تُجرّدُ مع من يوثق بشجاعته من المقدّمين، لتخليص ثغر عسقلان وغزّة. قال: فكان الجواب عن هذه الرسالة: ليس بيننا وبينك إلا السيف، وسُيوافينا من الإفرنج ما يُعينُنا على دفعك إن قصدتنا ونزلت إلينا. فلما عاد الرسول بهذا الجواب ووقف عليه، أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى البلد ومحاربته في غد ذلك اليوم. فأرسل الله من الأمطار وتدارُكها ودوامها ما منعه من ذلك.
ثم دخلت سنة خمس واربعين وخمسمائة

ففي مستهل المحرم تقررالصلح بين نور الدين وأرباب دمشق. والسبب في ذلك أن نور الدين أشفق من سفك دماء المسلمين إن أقام على حربها والمضايقة لها، بعد ما اتصل به من أخبار دعته إلى ذلك. واتفق أنهم بذلوا له الطاعة وإقامة الخطبة له على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان، وكذا السكة، ووقعت الأيمان على ذلك. وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة كاملة بالطوق، وأعاده مكرما محترماً، وخطب له على منبر دمشق يوم الجمعة رابع عشرمحرم. ثم استدعى الرئيس إلى المخيم وخلع عليه خلعة كاملة أيضاً وأعاده إلى البلد. وخرج اليه جماعة من الأجناد والخواصّ إلى المخيم واختلطوا به ووصل من استماحه من الطلاب والقراء والضعفاء، بحيث ما خاب فاصدُه، ولا أكدى سائله. ورحل عن مخّيمه عائداً إلى حلب بعد إحكام ما قرر وتكميل ما دبّر.
قلت: وفي فلك يقول القسراني:
لك الله؛ إن حاربت فالنصر والفتح ... وإن شئت صلحاًعُدَّ من حَزمك الصلح
وهل أنت إلا السيف في كل حالة ... فطَوراً له حدّ وطوراً له صفح
سقيت الرّدينيات حتى رددتها ... تَرَنَّحُ من سكر فحلّ القنا تصحو
وما كان كف العزم إلا إشارة ... إلى الحزم لو لم يغضب السيف والرمح
وقد علم الأعداء مُذ بِتَّ جانحا ... إلى السلم ما تتوي بذاك وما تنحو
إذا ما دمشق، ملكتك عنانها ... تيقن من في إيليا أنه الذبح
متى التف نقع الحجفلين على الهدى ... فلا مهمهٌ يحوي الضلال ولا سفح
إذا سار نور الدين في الجيش غازيا ... فقولا لليل الإفك قد طلع الصبح
تركت قلوب الشرك تشكو جراحها ... فلا زالت الشكوى ولا اندمل الجرح
صبرت فكان الصبر خير مغبة ... فسيق إليك الملك يسعى به النجح
كان القنا تجلو له وجه أمره ... ولو أمهلت بلقيس ما غرها الصّرح
بدولتك الغراء أصبح ضدها ... بهيما، ولولا الحسن ما عرف القبح
وكم من قريح القلب لو بات وارداً ... موارد هذا العدل ما مّسه قرح
سخابك هذا الدهر جودا على الورى ... على أنه ما زال في طبعه شح
وقد كان يمحو رسم كل فضيلة ... ونحن نراه اليوم يثبت ما يمحو
بك ابتهج الألباب، وانتهج الححا ... وأثمرت الآداب، واطّرد المدح
ولا ذت بك، التقوى وعاذت بك العلا ... ودانت لك الدنيا، وعز بك السرح
فلا قلب إلاقد تملكته هوى ... ولا صدر إلا قد جلاه لك النصح
وما الجود في الأملاك إلا تجارة ... فمن فاته حمد الورى فاته الربح
ولم أختصر ما قلت إلا لأنني ... اعبر عما لا يقوم به الشرح
فصل في فتح عزازقال أبو يعلى: وورد الخبر في الخامس من المحرم من ناحية حلب بأن عسكرها من التركمان ظفر بابن جوسلين صاحب عزاز وأصحابه، وحصلوا في قبضة الأسر في قلعة حلب. فسر هذا الفتح كافة الناس، وتوجه نور الدين في عكسره إلى عزاز ونزل عليها وضايقها وواظب قتالها، إلى أن سهل الله تعالى ملكها بالأمان، وهي على غاية من المنعة والحصانة والرّقعة. فلما تسلمها رتب فيها من ثفاته من وثق به، ورحل عنها ظافراً مسرورا، عائدا إلى حلب، في أيام من شهر ربيع الأول.
قلت: وذكر ابن منير فتح عزاز وغيرها وأمر دمشق في قصيدة أولها:
فدتك القلوب بألبابها ... وَساحُ الملوك بأربابها
كتائب ترمى جنود الصلي ... ب منها بتقطيع أصلابها
إذا ما انثنت من قراع الكماة ... كست وقدها وشي أسلابها
تبرنس منها البرنس الثياب ... حلته وقع أحلابها
عشية غصت على إنّب ... نفوس النصارى بغصابها
وقام لأحمد محمودها بجدْع موارن أحزابها
تجلى لها حيدرى المصا ... ع أغلب مُودٍ بغلابها
مورث أركاسها من أب ... أكول الفوارس شرابها

همامٌ إذا اعْصَوْ صَبَتْ نَبوة ... دهاها بها أعصابها
مضى وجنى لك حلو الشها ... د مما تمطق من صابها
وأوصى بها لك من بعد ما ... تجرع ممقر أوصابها
وأقسم جدك ألا يليق ... بغيرك ملبس أثوابها
صبحت دمشق بمشق الجياد ... زبور الوغى بين أحدابها
وأصْلَت رأيك قبل الحسام ... فحمد جمرة أجلابها
فأعطتك ما لم تنله يدُ وفازت رقاك بأصحابها
وأنت تصرف فضل الزما ... م من حمص تأخير ركابها
تخونها الجور فاستدركت ... بعد لك أغبار ظبظابها
وفاجأت قُورُس بالشائلات ... تمج القنا سمّ أذنابها
فما رِمت حتى رَمَت بيضها ... إليك أزمّة ضرّابها
وعَزّت غزاز فأذللتها ... بمجر مضيق لأسهابها
بأشمخ من أنفها منكبا ... وأكثر من عد تورابها
دلفت لعيطاء أم النجو ... م في الأمر إيطاء أترابها
وعذراء مذ عَمَرت ما اهتدت ... ظنون الليالى لإخْرَابها
تفرّعتها بفروع الوشي ... ج مثمرة هام أوشابها
وعوج إذا أنبضت اغمضت ... ذكاء لإرسال نشابها
ومحدودبات تطير الخطوب ... ملافظ ألسُن خطابها
تصوب عقبان ريب المنون ... متى زبَنَتْها بأعقابها
وما ركعت حول شم الهضا ... ب إلا سجدن لأنصابها
فلاذت بمعتصم بالكتاب ... وَهوبِ الممالك سلابها
بمعتصمى الندى والهدى ... هموس السُّرى غير هيابها
محلى المحل بوصف الفتوح ... ووصف التهاني وأربابها
وتعجز مداحه أن تحيط ... بآدابه فلك آدابها
بدائع، لو رد دهر رمين ... بَنات حبيب بأحبابها
وأين ابن أوس وآياته ... من اللاء أودت بحسابها
من اللاء عاد عتيق لها ... ورد عليها ابن خطابها
فأيامه من حبور تكاد ... يطير بها فرط إعجابها
لك الفضل إن راسلتك الجياد وقامت أدلة أنجابها
إذا اعتسفت هم الجائرين أتيت السيادة من بابها
أبوك أبوها، وأنت ابنها الْ ... عريق، ودمية محرابها
أقول لمؤجره بالغرور ... تمطت هواها فأهوى بها
حذار فعند ابتسام الغيو ... ث تحشى صواعق ألهابها
ولا تخدعوا بافترار الليو ... ث فالنار في برد أنيابها
فصل في صفة أسر جوسلين

أقسام الكتاب
1 2 3 4