كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب

ألف كتابه المسمى بالوجيز في التفسير فأحسن فيه وأبدع، وطار بحسن نيته كل مطار. وألف برنامجاً ضمنه مروياته، وأسماء شيوخه، وجرز وأجاد.
شعرهقال الملاحي، ما حدثني به غير واحد من أشياخه عنه، قوله:
وليلة جيت فيها الجذع مرتديا ... بالسيف أسحب أذيالا من الظلم
والنجم حيران في بحر الدجا غرق ... والبدر في طيلسان الليل كالعلم
كأنما الليل زنجي بكاهله ... جرح فيثغب أحيانا له بدم
وقال يندب عهد شبابه:
سقياً لعهد شباب ظلت أمرح ... في ريعانه وليالي العيش أسحار
أيام روض الصبا لم تذو أغصنه ... ورونق العمر غض والهوى حمار
والنفس تركض في تضمين ثرتها ... طرفاً له في زمان اللهو إحضار
عهداً كريماً لبسنا منه أردية ... كانت عيوناً ومحيت فهي آثار
مضى وأبقى بقلبيي منه نار أسى ... كوني سلاماً أو برداً فيه يا نار
أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في ... ليل الشباب لصبح الشيب أسفار
ونازعتني الليالي وانثنت كسراً ... عن ضيغم ماله ناب وأظفار
ألا سلاح خلال أخلصت فلها ... في منهل المجد إيراد وإصدار
أصبو إلى روض عيش روضه خضل ... أو ينثني بي عن اللقيا إقصار
إذا تعطلت كفى من شبا قلم ... آثاره في رياض العلم أزهار
من روى عنهروى عنه أبو بكر بن أبي جمرة، وأبو محمد بن عبد الله، وأبو القاسم بن حبيش، وأبو جعفر بن مضاء، وأبو محمد عبد المنعم، وأبو جعفر ابن حكم، وغيرهم.
مولده: ولد سنة إحدى وثمانين وأربع ماية.
وفاته: توفي في الخامس والعشرين لشهر رمضان سنة ست وأربعين وخمس ماية بمدينة لورقة. قصد مرسية يتولى قضاءها، فصد عنها، وصرف منها إلى لورقة، اعتداء عليه.
عبد المنعم بن محمد

بن عبد الرحيم بن فرج الخزرجي
من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن الفرس، وقد تقدم ذكر طايفة من أهل بيته.
حالهكان حافظاً جليلاً، فقيها، عارفا بالنحو واللغة، كاتبا بارعا، شاعراً مطبوعا، شهير الذكر، عالي الصيت. ولي القضاء بمدينة شقر، ثم بمدينة وادي آش، ثم بجيان، ثم بغرناطة، ثم عزل عنها، ثم وليها الولاية التي كان من مضمن ظهيره بها، قول المنصور له، أٌول لك ما قاله موسى عليه السلام لأخيه هرون، إخلفني في قومي، واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، وجعل إليه النظر في الحسبة، والشرطة، وغير ذلك، فكان إليه النظر في الدماء فما دونها، ولم يكن يقطع أمر دونه ببلده وما يرجع إليه.
وقال ابن عبد الملك، كان من بيت علم وجلالة، مستبحراً في فنون المعارف، على تفاريقها، متحققاً بها، نافذا فيها، ذكي القلب، حافظاً للفقه. استظهر أوان طلبه للكتابين، المدونة، وكتاب سيبويه وغيرهما، وعني به أبوه وجده عناية تامة. وقال أبوة الربيع بن سالم، سمعت أبا بكر ابن الجد، وحسبك شاهدا، يقول غير ما مرة، ما أعلم بالأندلس، أحفظ لمذهب مالك من عبد المنعم بن الفرس، بعد أبي عبد الله بن زرقون.
مشيختهروى عن أبيه الحافظ أبي عبد الله، وعن جده أبي القاسم، سمع عليهما وقرأ، وعن أبي بكر بن النفيس، وأبي الحسن بن هذيل، وأبي عبد الله ابن سعادة، وأبي محمد عبد الجبار بن موسى الجذامي، وأبي عامر محمد ابن أحمد الشلبي، وأبي العباس أحمد وأخيه أبي الحسن ابني زيادة الله. هذه جملة من لقى من الشيوخ وشافهه وسمع منه، وأجاز له من غير لقاء وبعضهم باللقاء من غير قراءة، ابن ورد، وابن بقى، وأبو عبد الله ابن سليمن التونسي، وأبو جعفر بن قبلال، وأبو الحسن بن الباذش، ويونس بن مغيث، وابن معمر، وشريح، وابن الوحيدي، وأبو عبد الله ابن صاف، والرشاطي، والحميري، وابن واضاح، وابن موهب، وأبو مروان الباجي، وأبو العباس بن خلف بن عيشون، وأبو بكر بن طاهر، وجعفر بن مكي، وابن العربي، ومساعد بن أحمد بن مساعد، وعبد الحق بن عطية، وأبو مروان بن قزمان، وابن أبي الخصال، وعياض ابن موسى، والمازري، وغيرهم.
تواليفه

ألف عدة تواليف، منها كتاب الأحكام، ألفه وهو ابن خمسة وعشرين عاماً، فاستوفى ووفي، واختصر الأحكام السلطانية، وكتاب النسب لأبي عبيد بن سلام، وناسخ القرآن ومنسوخه لابن شاهين، وكتاب المحتسب لابن جنى. وألف كتابا في المسايل التي اختلف فيها النحويون من أهل البصرة ولاكوفة، وكتابا في صناعة الجدل، ورد على ابن غرسية في رسالته في تفضيل العجم على العرب. وكتب بخطه من كتب العربية واللغة والأدب والطب وغير ذلك.
من روى عنهحدث عنه الحافظ أبو محمد القرطبي، وأبو علي الرندي، وإبنا حوط الله، وأبو الربيع ين سالم، والجم الغفير.
شعرهأبى ما بقلبي اليوم أن يتكتما ... وحسبك بالدمع السفوح مترجما
وأعجب به من أخرس بات مفصحا ... يبين للواشين ما كان مبهما
فكم عبرة في نهر شقر بعثتها ... سباقا فأمسى النهر مختضبا دما
يرجع ترجيع الأنين اضطراره ... كشكوى الجريح للجريح تألما
كملن بصحبي في قوفة الدمع ناثر ... شقايق نعمان على متن أرقما
ولله ليل قد لبست ظلامه ... راداُ بأنوار النجوم منمنما
أناوح فيه الورق فوق غصونها ... فكم أورق منهن قد بات معجما
وممالي إلا للفرقدين مصاحب ... ويا بعد حالي في الصبابة منهما
أبيت شتيت الشمل والشمل فيهما ... جميع كما أبصرت عقدا منظما
فيا قاصداً تدمير عرج مصافحا ... نسألك رسما بالعقيق ومعلما
وأعلم بأبواب السلام صبابتي ... كما كان عرف المسك بالمسك علما
وإن طفت في تلك الأجارع لا تضع ... بحق هواها إن لم تلم مسلما
وما ضرها لو جاذبت ظبية النقا ... فضول رداء قد تغشته معلما
فيثني قضيباً أثمر البدر مايساً ... بحقف مسيل لفه السيل مظلما
وما كنت إلا البدر وافي غمامة ... فما لاح حتى غاب فيها مغيما
وما ذاك من هجر ولكن لشقوة ... أبت أن يكون الوصل منها متمما
فياليتني أصبحت في الشعر لفظة ... ترددني مهما أردت تفهما
ولله ما أذكى نسيمك نفحة ... أأنت أعرت للروض طيباً تنسما
ولله ما أشفى لقاك للجوى ... كأنك قد أصبحت عيسى بن مريما
وما الراح بالماء القراح مشوبة ... بأطيب من ذكراك إن خامرت فما
فمالي وللأيام قد كان شملنا ... جميعاً فأضحى في يديها مقسماً
وما جنيت الطيب من شهد وصلها ... جنيت من التبديد للوصل علقما
وق ذقت طعم البين حتى كأنني ... لألفة من أهواه ما ذقت مطعما
فمن لفؤاد شطره حازه الهوى ... وشطر لإحراز الثواب مسلما
ويا ليت أن الدار حان مزارها ... فلو صح قرب الدار أدركت مغنما
ولو صح قرب الدار لي لجعلته إلى ... مرتقى السلوان والصبر سلما
فقد طال ما ناديت سراً وجهرة ... عسى وطن يدنو بهم ولعلما؟
سلام على من شفني بعد داره ... وأصبحت مشغوفاً بقرب مزاره
ومن هو في عيني ألذ من الكرى ... وفي النفس أشهى من أمان المكاره
سلام عليه كلما ذر شارق ... ينم كعرف الزهر غب فطاره
لعمرك ما أخشى غداة وداعنا ... وقد سعرت في القلب شعلة ناره
وسال على الخدين دمع كأنه ... بقية ظل للروض في جلناره
وعانقت منه غصن بان منعماً ... ولاحظت منه الصيح عند اشتهاره
وأصبحت في أرض وقلبي بغيرها ... وما حال مسلوب الفؤاد مكاره
نأى وجه من أهوى فأظلم أفقه ... وقد غاب عن عينيه شمس نهاره
سل البرق عن شوقي يخبرك بالذي ... ألاقيه من برح الهوى وأواره
وهل هو إلا نار وجدي وكلما ... تنفست عم الجو ضوء شراره
ومن شعره أيضاً رحمة الله عليه:

أقرأ على شنجل سلام ... أطيب من عرفه نسيما
من مغرم القلب ليس ينسى ... منظره الرايق الوسيما
إذا رأى منظرا سواه ... عاف الجنى منه والشميما
وإن أتى مشربا حميدا ... كان وإن راقه ذميما
وقف بنجد وقوف صب ... يستذكر الخدن والحميما
وأندب أركاً بشعب رضوى ... قد رجعت بعدنا مشيما
وأذكر شباباً مضى سريعا ... أصبحت من بعده سقيما
هيهات ولي وجاء شيب ... وكيف للقلب أن يهيما
ما يصلح الشيب غير تقوى ... تحجب عن وجهه الجحيما
في كل يوم له ارتحال ... أعجب به ظاعناً مقيما
ما العمر إلا لديه دين ... قد آن أن يقضى الغريما
فعد إلى توبة نصوح ... وارج إلهاً بنا رحيما
قد سبق الوعد منه حتى ... أطمع ذا الشقوة النعيما
مولده في سنة أربع وعشرين وخمسماية وفاته: عصر يوم الأحد الرابع من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وخمسماية. وشهد دفنه بباب إلبيرة الجم الغفير، وازدحم الناس على نعشه حتى حملوه على أكفهم ومزقوه. وأمر أن يكتب على قبره:
عليك سلام الله يا من يسلم ... ورحمته مازرتني تترحم
أتحسبني وحدي نقلت إلى هنا ... ستلحق بي عما قريب فتعلم
فيا لمن يمسي لدنياه مؤثرا ... ويهمل أخراه ستشقى وتندم
فلا تفرحن إلا بتقديم طاعة ... فذاك الذي ينجي غدا ويسلم
ومن غير الأصلبين
عبد الحكيم بن الحسين

بن عبد الملك بن يحيى بن باسيو بن تادرت الشمالي اليدرازتيني ثم
الواغدينى
أصله من تينملل من نظر مراكش، وانتقل جده عبد الملك مع الخليفة عبد المؤمن بن علي إلى إقليم بجاية. ونشأ عبد الملك ببجاية، وانتقل إلى تونس في حدود خمسة وثمانين. وورد أبو محمد الأندلس في حدود سبعمائة.
حالهمن تعريف شيخنا أبي البركات: كان من أهل المعرفة، بالفقه وأصوله، على طريقة المتأخرين. وكان مع ذلك رجلا كريم النفس، صادق الهجة، سليم الصدر، منصفا في المذاكرة. قلت يجمع هذا الرجل إلى ما وصفه به، الأصالة ببلده إفريقية، وثبت اسمه في عايد الصلة بما نصه: الشيخ الأستاذ القاضي، يكنى أبا محمد. كان رحمه الله من أهل العلم بالفقه، والقيام على الأصلين، صحيح الباطن، سليم الصدر، من أهل الدين والعدالة والأصالة. بث في الأندلس علم أصول الفقه، وانتفع به. وتصرف في القضاء في جهات.
مشيختهمنقولا من خط ولده الفقيه أبي عبد الله صاحبنا، الكاتب بالدار السلطانية، قرأ ببلده على الفقيه الصدر أبي علي بن غنوان، والشيخ أبي الطاهر بن سرور، والإمام أبي علي ناصر الدين المشدالي، والشيخ أبي الشمل جماعة الحلبي، والشيخ أبي الحجاج بن قسوم وغيرهم. ومن خط المحدث أبي بكر بن الزيات، يحمل عن أبي الطاهر بن سرور، وعن أبي إسحق بن عبد الرفيع.
تواليفهمن تواليفه: المعاني المبتكرة الفكرية في ترتيب المعالم الفقهية. والإيجاز في دلالة المجاز، ونصرة الحق، ورد الباغي في مسألة الصدقة ببعض الأضحية، والكراس المرسوم بالمباحث البديعة في مقتضى الأمر من الشريعة.
مولدهببجاية في أحد لجمادى الأولى من عام ثلاثة وستين وستمائة.
وتوفي قاضيا بشالش يوم الجمعة، و الرابع عشر لجمادى الأولى من عام ثلاثة وعشرين وسبعماية. ودفن بجبانة باب إلبيرة بمقربة من قبر ولي الله أبي عبد الله التونسي. وكانت جنازته مشهورة.
ومن المقريين والعلماء
عبد الملك بن حبيب
بن سليمن بن هرون بن جلهمة بن العباس بن مرداس السلمي
أصله من قرية قورت، وقيل حصن واط من خارج غرناطة، وبها نشأ وقرأ.
حاله

قال ابن عبد البر. كان جماعا للعلم، كثير الكتب، طويل اللسان، فقيها، نحويا، عروضيا، شاعرا، نسابة، إخبارياًُ. وكان أكثر من يختلف إليه، الملوك وأبناؤهم. قال ابن مخلوف، كان يأتي إلى معالي الأمور. وقال غيره، رأيته يخرج من الجامع، وخلفه نحو من ثلاثمائة، بين طالب حديث، وفرايض، وفقه، وإعراب، وقد رتب الدول عليه، كل يوم ثلاثين دولة، لا يقرأ عليه فيهغا شيء إلا تواليفه، وموطأ مالك. وكان يلبس الخز والسعيد. قال ابن نمير، وإنما كان يفعله إجلالا للعلم، وتوقيرا له. وكان يلبس إلى جسمه ثوب شعر، وكان صواماً قواماً. وقال المغاسي، لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب، لزدريت غيره. وزعم الزبيدي، أنه نعى إلى سحنون فاسترجع، وقال مات عالم الأندلس. قال ابن الفرضي، جمع إلى إمامته في الفقه، التبحبح في الأدب، والتفنن في ضروب العلوم، وكان فقيها مفتيا. قال ابن خلف أبو القاسم الغافقي، كان له أرض وزبتون بقرية بيرة من طوق غرناطة، حبس جميع ذلك على مسجد قرطبة. وله ببيرة مسجد ينسب إليه. وكان يهبط من قرية قورت يوم الاثنين والخميس إلى مسجده ببيرة، فيقرأ عليه، وينصرف إلى قريته.
مشيختهروى عن صعصعة بن سلام، والغازي بن قيس، وزياد بن عبد الرحمن. ورحل إلى المشرق سنة ثمان ومائتين. وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكانت رحلته من قريته بفحص غرناطة. وسمع فيها من عبد الملك بن الماجشون، ومطرف بن عبد الله، وأصبغ بن الفرج، وابنه موسى، وجماعة سواهم، وأقام في رحلته ثلاثة أعوام وشهورا. وعاد إلى إلبيرة، إلى أن رحله عبد الرحمن بن الحكم إلى قرطبة، في رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين.
من روى عنه: سمع منه إبناه محمد وعبد الله، وسعيد بن نمر، وأحمد بن راشد، وإبراهيم بن خالد، وإبراهيم بن شعيب، ومحمد بن قطيس. وروى عنه من عظماء القرطبيين، مطرف بن عيسى، وبقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح، والمقامي في جماعة.
تواليفهقال أبو الفضل عياض بن موسى، في كتابه في أصحاب مالك قال بعضهم، قلت لعبد الملك بن حبيب. كم كتبك التي ألفت، قال ألف كتاب وخمسون كتابا. قال عبد الأعلى، منها كتب المواعظ سبعة، وكتب الفضايل سبعة، وكتب أجواد قريش وأخبارها وأنسابها خمسة عشر كتابا، وكتب السلطان وسيرة الإمام ثمانية كتب، وكتب الباه والنساء ثمانية، وغير ذلك. ومن كتب سماعاته في الحديث والفقه، وتواليفه في الطب، وتفسير القرآن، ستون كتابا. وكتاب المغازي، والناسخ والمنسوخ، ورغايب القرآن، وكتاب الرهون والحدثان، خمسة وتسعون كتابا، وكتاب مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنان وعشرون كتابا، وكتاب في النسب، وفي النجوم، وكتاب الجامع، وهي كتب فيها مناسك النبي، وكتاب الرغايب، وكتاب الورع في المال، وكتاب الربا. وكتاب الحكم والعدل بالجوارح. ومن المشهورات الكتاب المسمى بالواضحة. ومن تواليفه كتاب إعراب القرآن، وكتاب الحسبة في الأمراض، وكتاب الفرايض، وكتاب السخاء واصطناع المعروف، وكتاب كراهية الغناء.
شعرهأنشد ابن الفرضي مما كتب بها إلى أهله من المشرق سنة عشر ومايتين:
أحب بلاد الغرب والغرب موطني ... ألا كل غربي إلي حبيب
فيا جسداً أضناه شوق كأنه ... إذا انتضيت عنه الثياب قضيب
ويا كبداً عادت زمانا كأنما ... يلذغها بالكاويات طبيب
بليت وأبلاني اغترابي ونأيه ... وطول مقامي بالحجاز أجوب
وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم ... ومن دونهم بحر أجش مهيب
وهول كريه ليله كنهاره ... وسير حثيث للركاب دؤوب
فما الداء إلا أن تكون بغربة ... وحسبك داء أن يقال غريب
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بأكناف نهر الثلج حين يصوب
وحولي أصحابي وبنتي وأمها ... ومعشر أهلي والرؤوف مجيب
وكتب إلى الأمير عبد الرحمن في ليلة عاشوراء:
لا تنسى لا ينسك الرحمن عاشوراء ... واذكره لا زلت في الأحياء مذكورا
قال الرسول صلاة الله تشمله ... قولا وجدنا عليه الحق والنورا
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشه في الحول محبورا

فارغب فديتك فيما فيه رغبتنا ... خير الورى كلم حياً ومقبورا
وفاتهتوفي في ذي الحجة سنة ثماني وثلاثين. وقيل تسع وثلاثين ومايتين. قال ابن خلف، كان يقول في دعائه، إن كنت يا رب راضياً عني، فاقبضني إليك قبل انقضاء سنة ثمان وثلاثين، فقبضه الله في أحب الشهور إليه، رمضان من عام ثمانية وثلاثين، وهو ابن أربع وستين سنة، وصلى عليه ولده محمد، ودفن بمقبرة أم سلمة بقبلي محراب مسجد الضيافة من قرطبة. قالوا، والخبر متصل، إنه وجد جسده وكفنه وافرين لم يتغيرا بعد وفاته، بتسع وأربعين سنة، وقطعت من كفنه وافرين لم يتغيرا بعد وفاته، بتسع وأربعين سنة، وقطعت من كفنه قطعة، رفعت إلى الأمير عبد الله. ورثاه أبو عبد الله الرشاش وغيره، فقال:
لئن أخذت منا المنايا مهذبا ... وقد قل فيها من يقال المهذب
لقد طاب فيه الموت والموت غبطة ... لمن هو مغموم الفؤاد معذب
ولأحمد بن ساهي فيه:
مإذا تضمن قبر أنت ساكنه ... من التقى والندى يا خير مفقود
عجبت للأرض في أن غيبتك ... وقد ملأتها حكماً في البيض والسود
قلت، فلو لم يكن من المفاخر الغرناطية إلا هذا الخبر لكفى.
ومن الطارئين عليها
عبد الواحد بن محمد

بن علي بن أبي السداد الأموي المالقي، الشهير بالباهلي
حاله
كان رحمه الله بعيد المدى، منقطع القرين في الدين المتين والصلاح. وسكون النفس، ولين الجانب، والتواضع، وحسن الخلق، إلى وسامة الصورة، وملاحة الشيبة، وطيب القراءة، مولى النعمة على الطلبة من أهل بلده، أستإذا حافلا، متفننا، مضطلعا، إماما في القراءات، حايز خصل السباق إتقانا، وأداء، ومعرفة، ورواية، وتحقيقا. ماهرا في صناعة النحو، فقيها، أصولياً، حسن التعليم، مستمر القراءة، فسيح التحليق، نافعاً، متحبباً، مقوم الأزمنة على العلم وأهله، كثير الخضوع والخشوع، قريب الدمعة، أقرأ عمره، وخطب بالمسجد الأعظم من مالقة أو أخذ عنه الكثير من أهل الأندلس.
مشيختهقرأ على الأستاذ الإمام أبي جعفر بن الزبير، وكان من مفاخره. وعلى القاضي أبي علي بن أبي الأحوص، وعلى المقرئ الضرير أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن سالم بن خلف السهيلي، والراوية أبي الحجاج ابن أبي ريحانة المربلي. وكتب له بالإجازة العامة، الراوية أبو الوليد العطار، والإمام أبو عبد الله بن سمعون الطائي. وسمع على الراوية أبي عمر عبد الرحمن بن حوط الله الأنصاري، وقرأ على القاضي أبي القاسم، قاسم ابن أحمد بن حسن الحجري الشهير بالسكوت المالقي، وأخذ عن الشيخ الصالح أبي جعفر أحمد بن يوسف الهاشمي الطنجالي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. ويحمل عن خاله ولي الله أبي محمد عبد العظيم ابن ولي الله محمد بن أبي الحجاج ابن الشيخ رحمه الله.
تواليفه: شرح التيسير في القراءات. وله تواليف غيره في القرآن والفقه.
شعرهحدث الشيخ الفقيه القاضي أبو الحجاج المنتشافري. قال، رأيت في النوم أبا محمد الباهلي أيام قراءتي عليه بمالقة في المسجد الجامع بها، وهو قائم يذكر الناس ويعظهم. فعقلت من قوله، أتحسبونني غنياً فقيرا، أنا فقير، أنا، فاستيقظت وقصصتها عليه، فاستغفر الله، وقال، يا بني حقا ما رأيت. ثم رفع إلى ثاني يوم تعريفه، رقعة فيها مكتوب:
لئن ظن قوم من أهل الدنا ... بأن لهم قوة أو غنا
لقد غلطوا ويحهم بجمع مالهم ... فتاهوا عقولا وعموا أعينا
فلا تحسبوني إلى رأيهم ... فإني ضعيف فقير أنا
وليس افتقاري وفقري معا ... إلى الخلق فما عند خلق غنا
ولكن إلى خالقي وحده ... وفي ذاك عز ونيل المنا
فمن ذل للحق يرقى العلا ... ومن ذل للخلق يلق العنا
وفاتهببلده مالقة رضي الله عنه، ونفع به. في خامس ذي القعدة من عام خمسة وسبعماية. وكان الحفل في جنازته عظيما. وحف الناس بنعشه، وحمله الطلبة وأهل العلم على رؤوسهم، سكن غرناطة وأقرأ بها.
ومن الكتاب والشعراء في هذا الحرف
عبد الحق بن محمد

بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن
عطية المحاربي
صاحبنا الكاتب للدولة الغادرة.
حالهكان هذا الرجل في حال الدعة التي استصحبها، وقبل أن تبعته أيدي الفضول، بعفاف وطهارة، إلى خصل خط، نشط البنان، جلد على العمل. ونظمه وسط، ونثره جمهورى عامى، مبين عن الأغراض. وولي ببلده الخطابة والقضاء ... في الحداثة. ثم انتقل إلى غرناطة، فجاجأت به الكتابة السلطانية باختياري، مستظهرة منه ببطل كفاية، وباذل حمل كلفة، فانتقل رئيسا في غرض إعانتي، وانتشالي من الكلفة، على الضعف وإلمام المرض، والترفع عن الابتذال، والأنفة من الاستخدام، فرفع الكل، ولطف من الدولة محله. ثم لما حال الأمر، وحتم التمحيص، وتسورت القلعة، وانتثر النظم، واستأثر به الاصطناع، كشفت الخبرة منه عن سوءة لا تواري، وعورة لا يرتاب في أشنوعتها ولا يتمارى، فسبحان من علم النفس فجورها وتقواها، إذ لصق بالدايل الفاسق، فكان آلة انتقامه، وجارحة صيده، وأحبولة كيده، فسفك الدما، وهتك الأستار، ومزق الأسباب، وبدل الأرض غير الأرض، وهو يزقه في أذنه، فيؤم النصيحة، ويمحله لقب الهداية، ويبلغ في شد أزره إلى الغاية: عنوان عقل الفتى اختياره. يجري في جميل دعوته. طوالاً، أخرق، بسيء السمع، وينسى الإجابة، بدوياً، قحاً، جهورياً، ذاهلاً عن عواقب الدنيا والآخرة: طرقاً في سوء العهد، وقلة الوفا، مردوداً في الحافزة، منسلخا من آية السعادة، تشهد عليه بالحمل يده، ويقيم عليه الحجج شرهه، وتبوه هفوات الندم جهالته. ثم أسلم المحروم مصطنعه، أحوج ما كان إليه، وتبرأ منه، ولحقته بعده مطالبة مالية. لقي لأجلها ضغطا، وهو الآن بحال خزي، واحتقاب تبعات، خلصنا الله من ورطات الدنيا والآخرة.
أوليته وشيوخهوبسط كثير من مجمل حاله حسبما نقلت من خطه.
قال يخاطبني بما نصه:
يا سيداً فاق في مجد وفي شرف ... وفات سبقاً بفضل الذات والسلف
وفاضلا عن سبيل الذم منحرفاً ... وعن سبيل المعالي غير منحرف
وتحفة الزمن الآتي فلقد ... أربى بما حازه منها على التحف
ومعدناً لنفيس الدر فهو لما ... حواه منه لدى التشبيه كالصدف
وبحر بعلم جميع الناس مغترف ... منه ونيل المعالي حظ مغترف
وسابقاً بذ أهل العصر قاطبة ... فالكل في ذاك منهم غير مختلف
من ذا يخالف في نار على علم ... أو يجحد الشمس نوراً وهو غير خف
ما أنت إلا وحيد العصر في شيم ... وفي ذكاء وفي علم وفي ظرف
لله من منتم للمجد منتسب ... بالفضل متسم بالعلم متصف
لله من حسب عد ومن كرم ... قد شاده السلف الأخيار لخلف
أيه أيا من به تبأى الوزارة إذ ... كنت الأحق بها في الذات والشرف
يا صاحب القلم الأعلى الذي جمعت ... فيه المعالي ببعض البعض لم أصف
يا من يقصر وصفي في علاه ولو ... أنسى مديح حبيب في أبي دلف
شرفتني عندما استدعيت من قبلي ... نظما تدونه في أبدع الصحف
وربما راق ثغر في مباسمه حتى ... إذا ناله إلمام مرتشف
أجل قدرك أن ترضى لمنتجع ... بسوء كليلته حظا مع الحشف
هذا ولو أنني فيما أتيت به ... نافحت في الطيب زهر الروضة الأنف
لكنت أفضى إلى التقصير من خجل ... أخليت بالبعض مما تستحق أف
فحسبي العجز عما قد أشرت به ... والعجز حتماً قصارى كل معترف
لكن أجبت إلى المطلوب ممتثلا ... وإن غدوت بمرقى القوم كالهدف
فانظر إليها بعين الصفح عن زلل ... واجعل تصفحها من جملة الكلف
بقيت للدهر تطويه وتنشره ... تسمو من العز باسم غير منصرف

جيتك، أعزك الله، ببضاعة مزجاة، وأعلقت رجاي من قبولك بأمنية مرتجاة، وما مثلك يعامل بسقط المتاع، ولا يرضى له بالحشف مع بخس المد والصاع. لكن فضلك يغضي عن التقصير ويسمح، ويتجاوز عن الخطإ ويصفح، وأنت في كل حال إلى الأدنى من الله أجنح. ولولا أن إشارتك واجبة الامتثال، والمسارعة إليها مقدمة على ساير الأعمال، لما أتيت بها تمشي على استحياء، ولا عرضت نفسي أن أقف موقف حشمة وحياء، فما مثلي فيما أعرضه عليك، أو أقدمه من هذا الهذر بين يديك، إلا مثل من أهدى الخرز لجالب الدر، أو عارض للوشل موج البحر، أو كاثر بالحصى عدد الأنجم الزهر. على أني لو نظمت الشعرى شعراً، وجبتك بالسحر الحلال نظماً ونثراً، ونافحتك بمثل تلك الروضة الأدبية، التي تعبق أزاهرها نثرا، لما وصفتك ببعض البعض من نفايس حلاك، ولا وفيت ما يجب من نشر مآثر علاك. فما عسى أن أقول في تلك المآثر العلمية، والذات الموسومة باسم التعريف والعلمية، أو أعبر عنه في وصف تلك المحاسن اأدبية، والمفاخر الحسبية. إن وصفت مالك من شرف الذات، ملت إلى الاختصار، وقلت آية من الآيات. وإن ذهبت إلى ذكر مفاخرك الباهرة الآيات، بلغت في مدى الفخر والحب إلى أبعد الغايات، وإن حليتك ببعض الحلا والصفات، سلبت محاسن الروض الأريج النفحات. فكم لك من التصانيف الرايقة، والبدائع الفائقة، والآداب البارعة، والمحاسن الجامعة، فما شيت من حدايق ذات بهجة، كأنما جادتها سحب نيسان، وجنات ثمراتها صنوان وغير صنوان، تزري ببدايع بديع الزمان، وتخجل الروض كما يخجل الورد ابتسام الأقحوان. نظم كما انتثر الدر، ونثر تتمنى الجوزاء، أن تتقلده والأنجم الزهر، ومعان أرق من نسيم الأسحار، تهب على صفحات الأزهار. فأهلاً بك يا روضة الآداب، ورب البلاغة، التي شمس آياتها لا تتوارى بالحجاب، فما أنت إلا حسنة الزمان، ومالك أزمة البيان، وسباق غايات الحسن والإحسان. وقد وجدت مكان القول ذا سعة في أوصافك، وما في تحليك بالفضائل واتصافك. لكني رأيت أني لو مددت في ذلك باع الإطناب، وأتيت فيه بالعجب العجاب، فليس لي إلا تقصير عن المطاولة وإمساك، والعجز عن درك الإدراك إدراك. إيه أيها السيد الأعلى، والفاضل الذي له في قداح الفخر، القدح المعلى، فإنك أمرت أن أعرض عليك لتعريف بنفسي ومولدي، وذكر أشياخي الذين بأنوارهم أقتدي، فعلمت أن هذا إنما هو تهمم منك بشأني، وجري على معتاد الفضل الذي يقصر عنه لساني، وفضل جميل لا أزال أجري في الثناء عليه ملء عناني. وإلا فمن أنا في الناس حتى أنسب، أو من يذهب إلا أنت هذا المذهب.
أما التعريف بنفسي، فأبدأ فيه باسم أبي. هو أبو القاسم محمد بن عطيه بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب ابن عطية المحاربي. وجدي عطية هو الداخل إلى الأندلس عام الفتح، نزل بإلبيرة، وبها تفرع من تفرع من عقبه، إلى أن انتقلوا إلى غرناطة، فتأثل بها حالهم، واستمر بها استيطانهم، إلى حدود المائة السابعة، فتسبب في الانتقال من بقي منهم، وهو جدي الأقرب الأنساب، وقضى ارتحاله إلى مدينة وادي آش، ولك أجل كتاب. وذلك أنه استقضى بنظر ما في دولة أمير المسلمين الغالب بالله، أول ملوك هذه الدولة النصرية، نصر الله خلفها، ورحم سلفها، فاتخذ فيها صهراً ونسبا، وكان ذلك لاستيطانه بها سببا، واستمر مقامه بها إلى أن ارتحل إلى المشرق لأداء الفريضة، فكان إلى أشرف الحالات مرتحله، وقضى في إيابه من الحج أمله. واستمرت به الاستيطان. وتعذرت بعوده إلى غرناطة بعدما نبت فيها الأوطان. على أنه لم يعدم من الله الستر الجميل، ولا حظ من عنايته بإيصال النعمة كفيل، فإنه سبحانه حفظ من سلف فيمن خلف، وجعلهم في حال الاغتراب، فيمن اشتهر بنباهة الحال واتصف، وقبض لمصاهرتهم من خيار المجد والشرف، وبذلك حفظ الله بيتهم، وشمل باتصال النعمة حيهم وميتهم. فالحمد لله، بجميع محامده، على جميل عوايده. وتخلف بوادي آش أبي وأعمامي، تغمدهم الله وإياي برحمته، وجمع شملنا في جنته.

وأما التعريف بهم، فأنت أبقاك الله، بمن سلف قديما منهم أعلم، وسبيلك في معرفتهم أجدى وأقوم، بما وهبكم الله من عوارف المعارف، وجعل لكم من الإحاطة بالتالد منها والطارف. وأما من يقع به تعريف، ممن بعدهم، فمن اقتفى رسمهم في الطريقة العلمية، ولم يتجاوز جدهم وهو جدي أبو بكر عبد الله بن طلحة ورابع أجدادي. كان رحمه الله ممن جرى على سنن آبايه، وقام بالعلم أحسن قيام، ونهض بأعبايه. ألف كتابا في الرقايق، ففات في شأوه سبق السابق، وتصدر ببلده للفتيا، وانتفع به الناس، وكان شيخهم المقدم. ولم أقف على تاريخ مولده ولا وفاته، غير أنه توفي في حدود المائة الخامسة رحمه الله، وأما من بيني وبينه من الآباء، كجدي الأقرب وأبيه ومن خلفه من بنيه. فما منهم من بلغ رتبة السابق، ولا قصر أيضا عن درجة اللاحق، وإنما أخذ في الطلب بنصيب، ورمى فيه بسهم مصيب.
وأما مولدي فبوادي آش في أواخر عام تسعة وسبع ماية. وفي عام ثلاثة وعشرين، ابتدأت القراءة على الأستاذ أبي عبد الله الطرسوني وغيره ممن يأتي ذكره. ثم كتبت بعد ستة أعوام على من وليها من القضاة أولى العدالة والسير المرتضاة، ولم يطل العهد حتى تقدمت في جامعها الأعظم خطيبا وإماما، وارتسمت في هذه الخطة التي ما زالت على من أحسن تماما، وذلك في أواخر عام ثمانية وثلاثين. ثم وليت القضاء بها، وبما يرجع إليها من النظر، في شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وأربعين، واستمرت الولاية إلى حين انتقالي للحضرة، آخر رجب من عام ستة وخمسين، أسأل الله الإقالة والصفح عما اقترفت من خطإ أو زلل، أو ارتكبته من عمد وسهو، في قول أو عمل بمنه.
وأما أشياخي، فإني قرأت بالحضرة على الأستاذ الخطيب أبي الحسن القيجاطي. والأستاذ الخطيب أبي القاسم بن جزى. وبمالقة على الأستاذ القاضي أبي عمرو بن منظور. وبألمرية على الأستاذ القاضي أبي الحسن بن أبي العيش، وسيدي القاضي أبي البركات بن الحاج، والأستاذ أبي عثمن بن ليون، وبوادي آش على الأستاذ القاضي أبي عبد الله بن غالب، والأستاذ أبي عامر بن عبد العظيم. كل هؤلاء قرأت قراءة تفقه، وعرضت على أكثرهم جملة كتب في النحو والفقه والأدب، أكبرها كتاب المقامات للحريري. وأما من لقيته من المشايخ واستفدت، منهم أبو الحسن بن الجياب بالحضرة، وبمالقة القاضي أبو عبد الله بن بكر، والقاضي أبو عبد الله بن عياش، والأستاذ أبو عبد الله بن حفيد الأمين. ومن لقيته لقاء بترك، سيدي أبو جعفر بن الزيات ببلش، وبمالقة الخطيب أبو عبد الله الساحلي، والصوفي أبو الطاهر بن صفوان، والمقري أبو القاسم بن درهم. وبألمرية الخطيب أبو القاسم بن شعيب، والخطيب ابن فرحون. ولقيت أيضا القاضي أبا جعفر بن فركون القرشي، والقاضي الخطيب أبا محمد بن الصايغ. وممن رأيته بوادي آش، وأنا إذ ذاك في المكتب، وأخذت بحظ من التبرك به، سيدي أبو عبد الله الطنجالي نفع الله به. والحمد لله رب العالمين.
شعرهمن مطولاته قوله. ومن خطه نقلت:
ألا أيها الليل البطي الكواكب ... متى ينجلي صبح بنيل المسارب
وحتى متى أرعى النجوم مراقبا ... فمن طالع منها على إثر غارب
وحتى متى أرعى النجوم مراقبا ... فمن طالع منها على إثر غارب
أحدث نفسي أن أرى الركب سايرا ... وذنبي يقصيني بأقصى المغارب
فلا فزت من نيل الأماني بطايل ... ولا قمت من حق الحبيب بواجب
وكم حدثتني النفس أن أبلغ المنا ... وكم عللتني بالأماني الكواذب
وما قصرت بي عن زيارة قبره ... معاهد أنس من وصال الكواعب
ولا حب أوطان نبت بي ربوعها ... ولا ذكر خل فيها وصاحب
ولكن ذنوب أثقلتني فهأنا من الوجد قد ضاقت على مذاهب
إليك رسول الله شوقي مجدد ... فيا ليتني يممت صدر الركايب
وأعملت في تلك الأباطح والربى ... سراى مجداً بين تلك السباسب
وقضيت من لثم البقيع لبانتي ... وجبت الفلى ما بين ماش وراكب
ورويت من ماء زمزم غلتي ... فلله ما أشهاه يوماً لشارب

حبيبي شفيعي منتهى غايتي التي ... أرجى ومن يرجوهن ليس بخايب
محمد المختار والحاشر الذي ... بأحمد حاز الحمد من كل جانب
رؤوف رحيم خصه الله باسمه ... وأعظم لاج في الثناء وعاقب
رسول كريم رفع اله قدره ... وأعلى له قدرا رفيع الجوانب
وشرفه أصلاً وفرعاً ومحتداً ... يزاحم آفاق السهى بالمناكب
سراج الهدى ذو الجاه والمجد والعلا ... وخير الورى الهادي الكريم المناسب
هو المصطفى المختار من آل هاشم ... وذو الحسب العدل الرفيع المناصب
هو الأمد الأقصى هو الملجأ الذي ... ينال به مرغوبه كل راغب
إمام النبيين الكرام وإنه لكالبدر فيهم بين تلك المواكب
بشير نذير مفضل متطول ... سراج منير بذ نور الكواكب
عظيم المزايا ما له من مماثل ... كريم السجايا ماله من مناسب
ملاد منيع ملجأ عاصم لمن ... يلوذ به من بين آت وذاهب
حليم جميل الخلق والخلق ما له ... نظير وصف الله حجة غالب
ناهيك من فرع لمته أصوله ... إلى خير مجد من لؤى بن غالب
أولى الحسب العد الرفيع جنابه ... بدور الدياجي أو بدور الركايب
له معجزات مالها من معارض ... وآيات صدق ما لها من مغالب
تهدي بهن الخلق شرقا ومغربا ... وما ذاك عمن حاد عنها بعايب
فدونكها كلأنجم الزهر عدة ... ونور سنى لا تختفي للمراقب
فإحصارها مهما تتبعت معوز ... وهل بعد نور الشمس نور لطالب
لقد شرف الله الوجود بمرسل ... له في مقام الرسل أعلى المراتب
وشرف شهراً فيه مولده الذي ... جلا نوره الأسنى دياجي الغياهب
فشهر ربيع في الشهور مقدم ... فلا غرو أن للفخر ضربة لازب
فلله منه ليلة قد تلألأت ... بنور شهاب نير الأفق ثاقب
ليهن أمير المسلمين بها المنا ... وإن نال من مولاه أسنى الرغايب
على حين أحياها بذكر حبيبه ... وذكر الكرام الطاهرين الأطايب
وألف شملاً للمحبين فيهم ... فسار على نهج من الرشد لاحب
فسوف يجازي عن كريم صنيعه ... بتخليد سلطان وحسن عواقب
وسوف يريه الله في لهم دينه ... غرايب صنع فوق كل الغرايب
فيحمي حمى الإسلام عمن يرومه ... بسمر العوالي أو بيض القواضب
ويعتز دين اله شرقا ومغربا ... بما سوف يبقى ذكره في العجايب
إلا هي مالي بعد رحماك مطلب ... أراه بعين الرشد أسنى المطالب
سوى زورة القبر الشريف وإنها ... لموهبة فاتت جميع المواهب
عليه سلام الله مالح كوكب ... وما فارق الإظعان حادي الركايب
وقال في غرض المدح والتهنئة بعرض الجيش، وتضمن ذلك وصف حاله في انتقاله إلى الحضرة:
يا قاطع البيد يطوى السهل والجبلا ... ومنضيا في الفيافي الخيل والإبلا
يبكي في آفاق أرض لا يونسه ... إلا تذكر عهد للحبيب خلا
أو ظبية أذكرت عهد التواصل تحكي ... اللحاظ التي عاهدت والمقلا
أستغفر الله في تلك اللحاظ فقد ... أربى بها الحسن عن ضرب المها مثلا
أو هادل فوق غصن البان تحسبه ... صبا لفقد حبيب بان قد ثكلا
أو لامع البرق إذ تحكى إنارته ... كفا خضيباً مشيرا بالذي عذلا
مإذا عسى أن يقضي من زمانك في ... قطع المهامه ترجو أن تنال علا
وكم معالم أرض أو مجاهلها ... قطعتها لا تمل الريث والعجلا
إن كنت تأمل عزاً لا نظير له ... وتبتغي السؤل فيما شيت والأملا

فالعز مرسي بعيد لا ينال سوى ... بعزم من شد عزم البين وارتحلا
والدر في صدف قلت نفاسته ... ولم يبن فخره إلا إذا انتقلا
فاربأ بنفسك عن أهل وعن وطن ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وانس الديار التي منها نأى وطني ... وعهد أنس به قلب المحب سلا
وعد عن ذكر محبوب شغفت به ... ولا تلم به مدحا ولا غزلا
واقصد إلى الحضرة العليا وحط بها ... رحلاً ولا تبغ عن أرجائها حولا
غرناطة لا عفا رسم بها أبداً ... ولا سلا قلب من يبغي بها بدلا
فهي التي شرف الله الأنام بمن ... في مقعد الملك من حمرائها نزلا
خليفة الله مولانا وموئلنا ... وخير من أمن الأرجاء والسبلا
محمد بن أبي الحجاج أفضل من ... قد قام فينا بحق الله إذ عدلا
من آل نصر أولى السلك الذي ... بهرت علاه كالشمس لما حلت الحملا
هو الذي شرف الله البلاد ومن ... فيها بدولته إذ فاقت الدولا
أقام عدلا ورفقا في رعيته ... وكان أرحم من آوى ومن كفلا
فهو المجار به من لا مجير له ... لم يخش إحن الليالي فادحا جللا
إن المدائح طرا لا تفي أبدا ببعض ... ما قد تحلا من نفيس علا
بالحزم والفهم والإقدام شيمته ... والجود مما على أوصافه اشتملا
إن قال أجمل في قول وأبدعه ... والفعل أجمل منه كلما فعلا
يولي الجميل ويعطي عز نايله ... من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي ع بني نصر فما أحد ... منهم بأبلغ منهم كلما فعلا
يولي الجميل ويعطي عز نايله ... من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي عن بني نصر فما أحد ... منهم بأبلغ منهم كلما سئلا
هم الذين إذا ما استمنحوا منحوا ... أسنى العطا وأبدوا بعده الخجلا
هم الإلى مهدوا أرجاء أندلس ... إذ حكموا في الأعادي البيض والأملا
فإن تسل عنهم يوم الرهان فلم ... يعدل بأحدثهم في سنه بطلا
من ذا يجاريهم في كل مكرمة ... أيشبه البحر في تمثيله الوشلا
مولاي يا خير من للنصر قد رفعت ... راياته ولواء الفخر قد حملا
لله عيني لما أبصرتك وقد أعددت بين يديك الخيل والخولا
وأنت في قبة يسمو بها عمد ... أقام منا دامر الدين فاعتدلا
والجيش يعش عيون الخلق منظره ... لما اكتسى منك نور الحق مكتملا
لا غرو أن شعاع الشمس يشمل ما ... أضحى عليه إذا ما لاح منسدلا
وراية النصر والتأييد خافقة ... قد أسبل الله منها النصر فانسدلا
والخيل قد كسيت أثواب زينتها ... فمن براقعها قد ألبست حللا
ترى الحماة عليها يوم عرضهم ... يمشون من فرط زهو مشية الخيلا
فمن رماة قسي العرب عدتها ... تحكي الأهلة مهما نورها اكتملا
ومن كماة شداد البأس شأنهم ... أن يعملوا البيض والخطية الذبلا
بسعدك انتظمت تلك الجيوش لأن ... أسهمت في نظمها أسلافك الأولا
وخلد الله ملكا أنت ناصره ... ما عاقبت بكر من دهرنا الأصلا
لا زلت تزداد بها نعمى مضاعفة ... لتملأ الأرض منها السهل والجبلا
ومن ذلك قوله:
يا عاذلي في الهوى أقصر عن العذل ... وعن حديثي مع المحبوب لا تسل
فكيف أصغي إلى عذل العذول وقد ... تقلص القلب مني صايد المقل
تملكته كما شاءت بنظرتها ... فتانة الطرف والألحاظ تنهدل

معبرة عن نفيس الدر فاضحة ... بقدها الغض المياس في الميل
من نور غرتها شمس تروق سنى ... تحتل منها محل الشمس في الحمل
يا حبذا عهدنا والشمل منتظم ... بجانب الغور في أيامنا الأول
أيام أعين هذا الدهر نائمة ... عنا وأحداثه منا على وجل
وحبذا أربع قد طال ما نظمت ... عقد التواصل في عيش بها خضل
قضيت منها أماني النفس في دعة ... من الزمان موفى الأنس والجذل
سطى الغمام رباها كل منهمر ... وكم سطتها دموعي كل منهمل
وجادها من سماء الجود صوب حياً ... بالعارض الهطل ابن العارض الهطل
خليفة الله والماحي بسيرته ... رسم الضلا ومحيي واضح السبل
محمد بن أبي الحجاج أفضل من ... سارت أحاديث علياه سرى المثل
والباعث الجيش في سهل وفي جبل ... حتى تغص نواحي السهل والجبل
من آل نصر أولى الفخر الذين لهم ... مزية أورثت من خاتم الرسل
مهما أردت غناء في الأمور به ... شاهدت منه جميع الخلق في رجل
لن يستظل بعلياه أخو أمل ... إلا غدا تحت ظل منه منسدل
ولا استجار به من لا مجير له ... إلا كفاه انتياب الحادث الجلل
ينمى إلى معشر شاد الآله لهم ... ملكاً على سالف الأعصار لم يزل
بملكهم قد تحلى الدهر فهو به ... والله واليه لا يخشى من العطل
هم الإلى نصروا أرجاء أندلس ... بالمشرفيات والخطية الذبل
هم الإلى مهدوا دين الهدى فسمت ... في الخلق ملته العليا على الملل
من أمهم صادى الآمال نال بهم ... جودا كفيلا له بالمعل والنهل
أو أمهم ضاحياً أضحى يجر من ... فضل النوال ذيول الوشي والحلل
إن الفضايل أضحت لاسمه تبعاً ... كالنعت والتأكيد والبدل
مولاي خذها تروق السامعين لها ... بما أجادته من مدح ومن غزل
لكنني باعتبار عظم ملكك لم أجد ... لعمري في مدحي ولم أطل
فإن خبرت كذاك الخلق أجمعهم ... سيان محتفل أو غير محتفل
لا زلت فخر ملوك الأرض كلهم ... تسمو بك الدولة العليا على الدول
ودمت للدهر تطويه وتنثره ... مبلغا كلما تبغى من الأمل
ومن ذلك ما نظمه لينقش في بعض المباني التي أنشأتها:
أنا مصنع قد فاق كل المصانع ... فما منزل زهى بمثل بدائع
فرسمي إذا حققته واعترته ... لكل المعاني جامع أي جامع
فقد جمع اله المحاسن كلها ... لدي فيا لله إبداع صانع
ظل كما جمعت كل الفضائل في الذي ... بسكناي قد وافاه أيمن طالع
وزير أمير المسلمين وحسبه ... مزية فخر ما لها من مدافع
وذو القلم الأعلى الذي فعله ... لمن يؤمله مثل السيوف القواطع
ومطلع آيات البيان لمبصر ... كشمس الضحى حلت بأسنى المطالع
وإنسان عين الدهر قرت لنابه ... عين وطابت منه ذكرى المسامع
هو ابن الخطيب السيد المنتمى ... إلى كرام سموا ما بين كهل ويافع
لقد كنت لولا عطفة من حنانه ... أعد زمانا في الرسوم البلاقع
فصيرني مغني كريما ومربعا ... لشمل بأنس من حبيبي جامع
فها أنا روض يروق نسيمه ... كما رق طبعاً ما له من منازع
وقد جمعتنا نسبة الطبع عندما ... وقعت لمرآه بأسنى المواقع
فأشبه إزهاري بطيب ثنايه ... وفضل هواي باعتدال الطبايع

فلا زلت معموراً به في مسرة ... معداً لأفراح وسعد مطالع
ولا زال من قد حلني أو يحلني ... موفي الأماني من جميل الصنايع
ودام لمولانا المؤيد سعده ... فمن نوره لنا كل ساطع
وفي التهنئة يإبلال من مرض:
الآن قد قامت الدنيا على قدم ... لما استقل رئيس السيف والقلم
والآن قد عادت الدنيا لبهجتها ... مذ أنست برؤه من طارق الألم
والآن قد عمت البشرى براحته ... فلم تزل للورى من أعظم النعم
لا سيما عند مثلي ممن اتضحت ... منه دلايل صدق غير متهم
فكيف لي وأيادي فضله ملكت ... رقي بما أجزلت من وافر القسم
وصيرتني في أهلي وفي وطني ... وبين أهل النهى ناراً على علم
وأحسبت أملي الأقصى لغايته ... إذ صرت من جاهه المأمول في حرم
ومإذا عسى أن أوفي من ثناي أو ... أنهى إلى مجده من فاضل الشيم
ولو ملكت زمام الفضل طوع يدي ... قصرت في ضمن منثور ومنتظم
يهنيك بشرى قد استبشرت مذ وردت بها لعمرك وهو البر في الضيم
ومذ دعت هذ البشرى بتهنية ... فنحن أولى ومحض العهد والكرم
لا زلت للعزة القعساء لممتطيا ... لمستصحبا لعلاء عبر المنصرم
دمت بدر سنى تهدى إنارته ... في حيث يعضل خطب أو يحار عم
ولا عدمت بفضل الله عافية ... تستصحب النعم المنهلة الديم
وليس لهذا العهد للرجل انتحال لغير الشعر والكتابة. وغير هذا للشعر فراره. فقل أن ينتهي الشعر والكتابة. وغير هذا النمط، فهو بعير ثان، شعراً وشكلاً وبلداً، لطف الله به. وهو لهذا العهد، على ما تقدم من النكبة، واتصال السخط من الدولة، تغمدنا الله وإياه بلطفه، ولا نكص عنا ل عنايته وستره.
مولده: حسبما تقدم من بسط حاله مما قيده بخطه في عام تسعة وسبعماية.
عبد الرزاق بن يوسف

بن عبد الرزاق الأشعري
من أهل قرية الأنجرون من إقليم غرناطة، أبو محمد.
حالهفقيه أديب كاتب سري، موصوف بكرم نفس، وحسن خلق لقي أشياخا وأخذ عنهم
شعرهيا منعماً ما زال من أمه ... يرفل في السابغ من أميته
ويا حساماً جردته العلا ... فربع صرف الدهر من سكوته
عبدك قد ساءت هنا حاله ... شوقا لمن خلف من إخوته
شوقها يبث الجمر في قلبه ... ويخلع للعهد على مقلته
فسكن المؤلم من شوقه ... وانسى المقلق من وحشته
وامنن عليه ببلوغ المنا ... في علمكم من مقتضى بغيته
وها كها نفشة ذي خجلة ... تفهم ما يلقيه من نفثته
إذا شدا مداحكم ساجعاً ... يحسده الطيار في نغمته
وفاته: سنة إحدى وسبعين وخمسماية عن سن عالية.
عبد الملك بن سعيد ين خلف العنسيمن أهل قلعة يحصب من عمل إلبيرة.
حاله ونسبه

هو عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد ابن الحسن بن عثمن بن محمد بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عينا من أعيان الأندلس، مشاراً إليه في البيت والرأي، والجزالة والفضل، علقت به الآمال، ورفعت إليه الممادح، وحطت لديه الرحال، وكان من أولى الجلالة والنباهة، والطلب والكتابة الحسنة، والخط البارع. واشتمل على حظوة الأمير يحيى بن غانية اللمتوني، وكتب عنه. بلده قلعة بني سعيد، فثقفها، وجعل بها أكبر بنيه عبد الرحمن ضابطا لها وحارسا، فحصنها أبو مروان ومهدها بالعمارة، فكانت في الفتنة مثابة وأمنا. وحرزا له ولبنيه، فانجلت الناس إليها من كل مكان. ولما قبض ابن غانية على القمط مرين وأصحابه النصارى عندما وصلوا لاستنجاز الوعد في الخروج عن جيان، وتحصلوا بيده بإشارة عبد الملك ابن سعدي، حسبما ثبت في اسم الأمير يحيى، ثقفهم بالقلعة بيد ثقته المذكور وأمينه أبي مروان، فتحصلوا في معقل حريز، عند أمير وافر العقل، سديد الرأي. ومات ابن غانية بغرناطة لأيام قلائل، واختلف قومه، فنظر أبو مروان لنفسه، وعاهد القمط مرين ومن معه من الزعماء على عهود، أخذها عليهم وعلى سلطانهم، أن يكون تحت أمن وحفظ طول مدته، فأجريت القلعة في الأمن والحماية، وكف أيدي التعدي مجرى ما لملك النصرى من البلاد، فشمل أهلها الأمن، واتسعت فيها العمارة، وتنكبتها النكبات، تحاشتها الغارات. ولم يزل أبو مروان بها إلى أن دخل في أمر الموحدين. ووصل هو وابنه إلى السيد أبي سعيد بغرناطة، وحضر معه غزوة ألمرية، ثم دخل بجملته، فكمل له الأمن، وأقر على القلعة، وأمر بسكني غرناجة بولده. ثم وصل ثانية إلى مراكش صحبة السيد أبي سعيد، ولقي من إلبير ولطف المكانة عادته، واستكتب ابنه أحمد بن أبي مروان الخليفة في هذه الوجهة، وانتظم في جملة الكتاب والأصحاب.
محنتهوعاد أبو مروان وبنوه إلى غرناطة صحبة واليها السيد أبي سعيد، فبقى في جملة العسكر عند دخول ابن مردنيش وصهره غرناطة، وقد اضطربت الفتنة، وفسد ما بين السيد وبين أبي جعفر بن أبي مروان منهم، بما تقدم في اسمه من حديث حفصة. ولما ظهرت دلايل التغير، وخافوا على أنفسهم، أداروا الرأي في الانحياز إلى خدمة ابن مردنيش، ونهاهم والدهم أبو مروان، وأشار عليهم بمصابرة الأمر، فلحق عبد الرحمن بالقلعة، وفر أحمد لما انكشف الأمر، وعثر عليه بجهة مالقة، فقتل، وانجرت بسبب ذلك النكبة على عبد الملك وابنه محمد، فبقيا بغرناطة، ومن يشار إليه من أهل بيتهما، واستصفيت أموالهما، واستخلصت ضياعهما، إلى أن ورد كتاب الخليفة أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي بإطلاقهم ورد أموالهم، بما اقتضته السياسة من استمالة من نزع منهم عن الطاعة، وأمر عبد الملك باستيلاف نافرهم. ولما هلك ابن مردنيش، ورد من اتصل به صحبة المستأمنين من أولاد الأمير الهالك، فقدموا على رحب وسعة، وثاب جاه أبي مروان، واتصل عزه، واتسعت حظوته، إلى أن هلك بعد أن ولي بمراكش النظر في العدة والأسلحة، والقيام على دار الصنعة.
وفاته: بغرناطة سنة ستين وخمسماية.
عبد العزيز بن عليبن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يست من أهل غرناطة، يكنى أبا سلطان.
حالهفاضل، حيي، حسن الصورة، بادي الحشمة، فاضل البيت، سريه. كتب في ديوان الأعمال، وترقى إلى الكتب مع الجملة بالدار السلطانية، وسفر في بعض الأغراض الغربية، ولازم الشيخ أبا بكر بن عتيق بن مقدم، من شيوخ الصوفية بالحضرة، فظهرت عليه آثار ذلك في نظمه ومقاصده الأدبية.
شعرهوشعره لا بأس به، ومن أمثله قوله ما أنشد له في ليلة الميلاد الأعظم:
القلب يعشق والمدامع تنطق ... برح الخفاء فكل عضو منطق
قلت، قد ذكرها ابن الخطيب في جملة ما أنشد في الميلاد الأعظم في السفر الخامس، فلا فائدة في تكرارها هنا.
ومما خاطبني به:
أطلت عبت زمان فل من أمل ... وسمته الذم في حل ومرتحل
عاتبته ليلين للعتب جانبه ... فما تراجع عن مطل ولا بخل
فعدت أمنحه العتبى ليشفق بي ... فقال لي إن سمعي عنك في شغل

فالعتب عندي والعتبى فلست أرى ... أصغى لمدحك إذ لم أصغ للعذل
فقلت للنفس كفى عن معاتبة لا ... تنقضي وجواب صيغ من وجل
من يعتلق بالدنا بابن الخطيب فقد ... سما عن الذل واستوى على الجدل
فقلت من لي بتقريبي لخدمته ... فقد أجاب قريبا من جوابك ل
قد اشتغلت عن الدنيا بآخرتي ... وكان ما كان في أيامي الأول
وقد رعيت وما أهملت من منح ... فكيف يختلط المرعى بالهمل
ولست أرجع للدنيا وزخرفها ... بعد شيب غدا في الرأس مشتعل
ألست تبصر أطماري وبعدي عن ... نيل الحظوظ وإعداد إلى أجل
فقال ذلك قول صح مجمله ... لكن من شأنه التفصيل للجمل
ما أنت طالب أمر تستعين به ... على المظالم في حال ومقتبل
ولا تحل حراماً أو تحرم ما ... أحل ربك في قول ولا عمل
ولا تبغ آجل الدنيا بعاجلها ... كما الولاة تبيع السيم بالوشل
وأين عنك الرشا إن كنت تطلبها ... هذا لعمري أمر غير منفعل
هل أنت تطلب إلا أن تعود إلى ... كتب المقام الرفيع القدر في الدول
فما لأوحد أهل الكون قاطبة ... وأسمح الخلق من حاف ومنتعل
لم يلتفت نحو ما تبغيه من وطر ... ولم يشد الذي قد بان من خلل
إن لم تقع نظرة منه عليك فما ... يصبو لديك للذي أملت من أمل
فدونك السيد الأعلى فمطلبكم ... قد نيط منه بفضل غير منفضل
فقد خبرت بني الدنيا بأجمعهم ... من عالم وحكيم عارف دول
فما رأيت له في الناس من شبه ... قل النظير له عندي فلا تسل
فقد قصدتك يا أسمى الورى نسباً ... وليس لي عن علياك من حول
فما سواك لما أملت من أمل ... وليس لي عنك من زيغ ولا ميل
فانظر لحالي فقد رق الحسود لها ... واحسم زمانة ما قد ساء من علل
قدمك لنا ولدين الله ترفعه ... ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل
لا زلت معتليا عن كل حادثة ... كما علت ملة الإسلام في الملل
عبد البر بن فرسان

بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الغساني
وادي آشي الأصل. يكنى أبا محمد.
حالهكان من جلة الأدباء، وفحول الشعراء، وبرعة الكتاب، كتب عن الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحق بن محمد بن علي المسوفي الميورقي. الثائر على المنصور بني عبد المؤمن، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم، وانقطع إليه وصحبه في حركاته. وكان آية في بعد الهمة، والذهاب بنفسه، والعنا، ومواقف الحرب، فإنه دهم في المثل. أشبه امرءاً يعض بزه، فقد كان أليق الناس بصحبة الميورقي، وأنسبهم إلى خدمته.
مشيخته: روى عن أبي زيد بن السهيلي.
بعض أخبارهفي البأو والصرامة. حدثنا أبو الحسن بن الجياب عمن حدثه من أشياخه، قال، وجهه الميورقي في عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق. وقد طال العراك، وكاد يكل الناس عن الحرب. إلى أن يباكروها من الغد، فنفذ لما أمر به. ولما بلغ الصدر، اشتد على الناس، وذعر أرباب الحفيظة، وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة. فانهزم عدوهم شر هزيمة، ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة. وقال له ما حملك على ما صنعت. فقال له، الذي عملت هو شأني. وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحهم. فانظر غيري.

وحدثني كذلك أن ولدا له صغيرا، تشاجر مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا، فنال منه ولد الأمير. وقال وما قدر أبيك. ولما بلغ ذلك أباه. خرج مغضبا لحينه، ولقي ولد الأمير المخاطب لولده، فقال حفظك الله، لست أشك في أني خديم أبيك. ولكني أحب أن أعرفك بمقداري ومقداره، إعلم أن أباك وجهني رسولا إلى الخليفة ببغداد بكتاب عن نفسه. فلما بلغت بغداد نزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر، وأجرى على سبعة دراهم في اليوم. وطولع بكتابي، وقيل من الميورقي الذي وجهه. فقال بعض الحاضرين، هو رجل مغربي ثائر على أستاذه. وأقمت شهرا، ثم استدعيت إلى الانصراف، ولما دخلت دار الخلافة، وتكلمت مع من بها من الفضلاء، أرباب المعارف والآداب، اعتذروا لي. وقالوا اللخليفة، هذا رجل جهل مقداره، فأعدت إلى محل، اكتريت بسبعين درهما، وأجري على مثلها في اليوم، ثم استدعيت، فودعت الخليفة، واقتضيت ما تيسر من جوابه. وصدر لي شيء له خطر من صلته. وانصرفت إلى أبيك. والمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار، والثانية كانت على قدري والمنة لله. وأخبار ابن فرسان كثيرة.
شعرهوقد نعم الأمير بعمامة بيضاء، ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء، فقال:
فديتك بالنفس التي قد ملكتها ... بما أنت موليها من الكرم الغض
توددت للحسن الحقيقي بهجة ... فصار بها الكلى في ذاك البعض
ولما تلألأ نور غرتك التي ... تقسم في طول البلاد وفي العرض
تلقفتها خضراء أحسن ناظر ... نبت عنك إجلالا وذاك من الفرض
وأسدلت حمر الملابس فوقها ... بمفرق تاج المجد والشرف المحض
وأصبحت بدرا طالعا في غمامة ... على شفق دان إلى خضرة الأرض
ومن شعره، ولا خفاء ببراعته:
ندى مخضلا ذاك الجناح المنمنما ... وسقياً وإن لم تشك يأسا جعاضما
أعدهن ألحانا على سمع معرب ... يطارح مرتاحا على القضب معجما
وطر غير مقصوص الجناح مرفها ... مسوغ أشتات الحبوب منعما
وقال أيضاُ رحمه الله:
كفى حزنا أن الرماح صقيلة ... وأن الشبا رهن الصدا بدمايه
وأن بياذيق الجوانب فرزنت ... ولم يعد رخ الدست بيت بنايه
عبد العظيم بن عمر

بن عبد الله بن حسان الغساني
جلياني من أهل وادي آش، وترد إلى غرناطة، يكنى أبا محمد، وأبا الفضل.
حالهتجول ببلاد المشرق سائحا، وحج ونزل القاهرة، وكان أديبا، بارعا حكيما، ناظما ناثرا.
تواليفهوله مصنفات منها جامع أنماط السايل في العروض والخطب والرسايل، أكثر كلامه فيه نظما ونثرا.
مشيخته ومن روى عنه. روى عنه أبو الحسن علي بن عبد الله ابن عبد الرحيم الخطيب بضريح الخليل، وأبو عبد الله بن يحيى المرسي.
شعرهقال من شعره:
ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت ... فما أكثر الغرقى على الجنبات
وأكثر من لاقيت يغرق إلفه ... وقل فتى ينجو من الغمرات
وفاته: سنة ثلاث وستماية.
/ومن الغرباء
عبد المهيمن بن محمد الحضرميبن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي يكنى أبا محمد، شيخنا الرئيس صاحب القلم الأعلى بالمغرب.
حالهمن عائد الصلة: كان رحمه الله خاتمة الصدورن ذاتاً وسلفاً وتربية وجلالة. له القدح المعلى في علم العربية، والمشاركة الحسنة في الأصلين، والإمامة في الحديث، والتبريز في الأدب والتاريخ واللغة، والعروض والمماسة في غير ذلك. نشأ فارس الحلبة، وعروس الوليمة، وصدر المجلس، ووفور الجاه والإغراق في النعمة، كثير الاجتهاد والملازمة، والتفنن والمطالعة، مقصور الأوقات على الإفادة والاستفادة، إلى أن دعته الدولة المرينية بالمغرب، إلى كتابة الإنشاء، فاشتملت عليه اشتمالاً، لم يفضل عنه من أوقاته، ما يلتمس فيه ما لديه، واستمرت حاله، موصوفاً بالنزاهة والصدق، رفيع الرتبة، مشيد الحظوة، مشاركاً للضيف فاضلاً، مختصر الطعمة والحلية، يغلب عليه ضجر يكاد يخل به، متصل الاجتهاد والتقييد، لا يفتر له قلم، إلى أن مضى بسبيله.

وجرى ذكره في الإكليل الزاهر من تأليفنا بما نصه: تاج المفرق وفخر المغرب على المشرق، أطلع منه نور أضاءت له الآفاق، وأثرى منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق. ما شيت من مجد سامي المصاعد والمراقب، عزيز عن لحاق المجد الثاقب، وسلف زينت سماؤث بنجوم المناقب. نشأ بسبتة بين علم يفيده، وفخر يشيده، وطهارة يلتحف مطارفها، ورياسة يتفيأ وارفها، وأبوه رحمه الله قطب مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك الوعوث من المعارف والسهول، وبذل على حداثة سنه الكهول، فلما تحلى من الفوايد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى، تنافست فيه همم الملوك الأخاير، واستأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير، فاستقلت بالسياسة ذراعه، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه، وكان عين الملك التي بها يبصر، ولسانه الذي به يسهب أو يختصر. وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة، وجلت به عليها الإفادة، وكتب عن بعض ملوكهان وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها، وله في الأدب الراية الخافقة، والعقود المتناسقة.
مشيختهقرأ ببلدة سبتة على الأستاذ الإمام أبي إسحق الغافقي المديوني، وعلى الأستاذ المقري أبي القاسم محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن الطيب، والأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، وعلى الأستاذ العارف أبي عبد الله محمد بن عمر بن الدارج التلمساني، وعلى ابن خال أبيه الأمير الصالح أبي حاتم العزفي، والعدل الرضا أبي فارس عبد الرحمن ابن إبراهيم الجزيري.
وقرأ بغرناطة على الشيخ العلامة أبي جعفر بن الزبير، وروى عن الوزير الراوية أبي محمد عبد الله المرادي ابن المؤذن وعلى الأستاذ أبي بكر القللوسي. وأخذ عن الشيخ الوزير أبي الوليد الحضرمي القرطي. وممالقة عن الإمام الولي أبي عبد الله الطناجلي. وببلش عن الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، وعن الخطيب أبي عبد الله بن شعيب المروي، والعلامة أبي الحسين بن أبي الربيع، وأبي الحكم بن منظور، وابن الشاطج وابن رشيد، وابن خميس، وابن برطال، وابن ربيع، وابن البنا، وسميه ابن البنا المالقي، وابن خميس النحوي، وأبي أمية بن سعد السعود بن عفير الأمدي. هؤلاء كلهم لقيهم وسمع منهم، وأجازوا له ما عندهم. وممن أجاز له مشافهة أو مكاتبة من أهل المغرب، الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري التلمساني ابن الدارج، والكاتب ابو علي الحسين بن عنيق، وتناول تواليفه، والأديب الشهير أبو الحكم مالك بن المرحل، والشريف أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي الشرف الحسيني، وأبو بكر بن خليل السكوني، وأبو العباس المطري، والجزاري، وشرف الدين بن معطي، وابن الغماز، وابن عبد الرفيع القاضي، وأبو الشمل جماعة بن مهيب، وأبو عبد الله محمد بن أحمد التجاني وأبناء عمه عمر وعلي، وابن عجلان، ومحمد بن إبراهيم القيسي السلولي ومحمد بن حماد اللبيدي، وابن سيد الناس، وابنه أبو الفتح، وابن عبد النور، والمومناني، والخطيب ابن صالح الكتاني، وابن عياش المالقي، والمشدالي، وابن هرون، والخلاسي، والدباغ، وابن سماك، وابن أبي السداد، وابن رزين، وابن مستقور، وأبو الحسن بن فضيلة، وأبو بكر بن محزز. وكتب له من أهل المشرق جماعة منهم: الأبرقيشي وابن أبي الفتح الشيباني، وابن حمادة، وابن الطاهري، وابن الصابوني، وابن تيمية، وابن عبد المنعم المفسر، وابن شيبان، وابن عساكر، والرضى الطبري، وابن المخزومي، وابن النحاس. قلت من أراد استيفاءهم ينظر الأصل. فقد طال على استيفاء ما ذكره الشيخ رحمه الله وقد ذكر جماعة من النساء، ثم قال بعد تمام ذلك، ولو قصدنا الاستقصاء لضاق عن مجاله المتبع.
شعرهوشعره متخل عن محله من العلم والشهرة، وإن كان داخلاً تحت طور الإجادة.
فمن ذلك قوله:
تراءى سحيراً والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل
وللفجر بحر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه خجول
بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب في السواد تجول
فمزق ساجي الليل منه شرارة ... خرق ستر الغيم منه نصول
تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام همول

ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول
وغنت على تلك الغصون حمايم ... لهن حفيف فوقها وهديل
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعاً لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونه وطلول
وجاد رياه كلما ذر شارق ... من الودق هتان أجش هطول
ومالي استسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول
وعاذلة ظلت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل
ذريني أسعى لنتى تكسب العلا ... سناء وتبقى الذكر وهو جميل
فإما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلاً فحد المشرفي نحيل
وفوق أنابيب اليراعة صفرة ... تزين وفي قد القناة ذبول
ولولا السرى لم يجتل البدر كاملاً ... ولا بات منه للسعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا النجوم قبيل
من القوم أما في الندى فإنهم ... هضاب وأما في الندى فسيول
حووا شرف العلياء إرثاً ومكسباً ... وطابت فروع منهم وأثول
وماجونة هطالة ذات عيجب ... مرتها شمال مرجف وقبول
لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت لسنين محول
ولولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... ينم عليها إذخر وجليل
وقد أذكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول
وفي مقل النوار للظل عبرة ... ترددها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول
حويت أبا عبد الآه مناقباً ... تفوت يداً من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل
فذاك رجال حاولوا درك العلا ... ببخل وهل نال العلاء بخيل
تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له ما أراد حصول
وألقى مقاليد الأمور مفوضاً ... إليك فلم يعدم يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعايا منك أروع باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها ... بثينته في الحب وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت ... إليه قلوب العالمين تميل
وأعدى قريضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء النجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل
تسددني سهماً لكل ثنية ضوامر ... أشباه القسى نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برجلي هوجل وهجول
فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان ذحول
ويهوى العلا حظي ويغري بضد ... لذاك اعترته رقة ونحول

وتأبى لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي إن الزمان مديل
فكل خضوع في حمامك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول
وهي طويلة، ومن شعره في الحنين إلى وطنه سبتة.
سقى ثرى سبتة بين البلاد ... وعهدها المحبوب صوب العهاد
وجاد منهل الحيا ربعها ... بوبله تلك الربى والوهاد
وكم لنا في طورسينائها ... من رائح للأنس في إثر غاد
وعينها البيضاء كم ليلة ... بيضاء فيها قد خلت لو تعاد
وبالمنارة التي نورها ... لكل من ضل دليل وهاد
نروح منها مثلما نغتدي ... للأنس والأفراح ذات ازدياد
في فتية مثل نجوم الدجى ... ما منهم إلا كريم جواد
ارتشفوا كأس الصفا بينهم ... وارتضعوا أخلاف محض الوداد
ويا لأيام بنيولش لقد ... عدت عنها صروف العواد
أدركت من لبنى بها كلما ... لبانة وساعدتني سعاد
ونلت من لذات دهري الذي ... قد شيته وللأماني انقياد
منازل ما إن على مبدل ... هاء مكان اللام فيها انتقاد
سلوتها مذ ضمني بعدها ... نادي الوزير ابن الحكيم الجواد
ومن المقطوعات قوله:
أبت همتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوماً له ذا خضوع
وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل القنوع
ومن ذلك في المشط والنشفة من آلات الحمام:
إني حسدت المشط والنشفة الذي ... لهما مزايا القرب دوني مخلصه
فأنامل من ذا تباشر صدغه ... ومراشف من ذا تقبل أخمصه
نثرهوقع هنا بياض مقدار وجهة في أصل الشيخ.
مولدهولد ببلدة سبتة في عام ستة وسبعين وستماية.
وتوفي بتونس في الثاني عشر لشوال من عام تسعة وأربعين وسبعماية في وقيعة الطاعون العام، بعد أن أصابته نبوة في مخدومه السلطان أبي الحسن. ثم استعتبه وتلطف له. وكانت جنازته مشهورة، ودفن بالزلاج من جبانات خارج تونس رحمه الله.
عبد المهيمن بن محمد الأشجعي

البلذوذي
نزيل مراكش
حالهمن كتاب المؤتمن، قال، كان شاعراً مكثراً، سهل الشعر، سريعه، كثيراً ما يستجدي به، وكان يتقلد مذهب أبي محمد علي بن حزم الفقيه الظاهري، ويصول بلسانه على من نافره. دخل الأندلس، وجال في بلادها. بعد دخوله مراكش. وكان أصله من بلذوذ. ورد مالقة أيام قضاء أبي جعفر بن مسعدة، وأ " ال بها لسانه، فحمل عليه هنالك حملاً أذاه، إلى أن كان مآل أمره ما أخبرني به شيوخ مالقة، وانسيته الآن، فتوصل إلى مآل أمره من جهة من بقي بها الآن من الشيوخ، نقلت اسمه ونسبه من خطه.
شعرهأما على ذي شرك ... في صيدنا من درك
تصيدنا لواحظ ... وما لها من حرك
والبدر إن غاب فمن ... يجلو ظلام الحلك
قد تاب القلب فما ... يدري إن لم تدرك
عدا السقام أو عدا ... وعد الذي لم يأفك
أو لن يكن حل دمي ... فلتبطي أو أترك
حاربت من لا قدرة ... لديه في المعترك
يفل غرب سيفه ... سيف لحاظ فتك
يا لفتى يا قبلتي ... يا حجتي يا نسك
إن عظم الحزن فما ... أرجل حسن فلك
أو أهديت الحي ... فلإبن عبد الملك
خطيب ومران للذي ... سلك على سلك
ركن التقا محمد ... ذو النبل والطبع الزك
منفرد في جوده ... بماله المشترك
يا نوق هذا بابه ... فهو أجل مبرك
وأنت يا حادية ... قربت ما أسعدك
فبركي وكبري ... وابركي وبرك

فقد أتينا بشراً ... له صفات الملك
كفك يهمى ملكت ... كأنها لم تملك
قصيدتي لو لم تنل ... منك حلى لم تسبك
أبكيت ديمة الندا ... فزهرها ذو ضحك
لكنني يا سيدي ... من فاقتي في شرك
وشعره على هذه الوتيرة. حدثني أبي، قال رايته رجلاً طوالاً، شديد الأدمة، حليق الرأس، دمينه، عاريه، كثير الاستجداء، والتهاتر مع المحابين من أدباء وقته، يناضل عن مذهب الظاهرية بجهده.
وفاتهمن خط الشيخ أبي بكر بن شبرين، وفي عام سبعة وتسعني وستماية توفي بفاس الأديب عبد المهيمن المكناسي، المكتني بأبي الجيوش البلذوذي، وكان ذا هذر وخرق، طوافاً على البلاد، ينظم شعراً ضعيفاً، يستمنح به الناس، وآلت حاله إلى أن سعى به لأبي فارس عزوز الملزوزي الشاعر، شاعر السلطان أبي يعقوب وخديمه، وذكر له أنه هجاه، فألقى إلى السلطان ما أوجب سجنه، ثم ضربت عنقه صبراً، نفعه الله.
عبد العزيز بن عبد الواحد

بن الملزوزي
من أهل العدوة الغربية، يكنى أبا فارس، ويعرف بعزوز.
حالهكان شاعراً مكثراً سيال القريحة، منحط الطبقة، متجنداً، عظيم الكفاية والجرأة، جسوراً على الأمرا، علق بخدمة الملوك من آل عبد الحق وأبنايهم، ووقف أشعاره عليهم، وأكثر النظم في وقايعهم وحروبهم، وخلط المعرف باللسان الزناتي في مخاطباتهم، فعرف بهم، ونال عريضاً من دنياهم، وجماً من تقريبهم. واحتل بظاهر غرناطة في جملة السلطان، أمير المسلمين أبي يعقوب، وأمير المسلمين أبيه، واستحق الذكر بذلك.
شعرهمن ذلك أرجوزة نظمها بالخضراء في شوال سنة أربع وثمانين وستماية، ورفعها إلى السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق، سماها: بنظم السلوك، في الأنبياء والخلفاء والملوك لم يقصر فيها عن إجادة.
ومن شعره: قال مخبراً عن الأمير أبي مالك عبد الواحد ابن أمير المسلمين أبي يوسف:
دعاني يوماً والسما قد ارتدت بالسحايب ... والغيث يبكي بالدموع السواكب
كأنه عاشق صد عنه حبيبه ... ففاضت دموعه عليه وكثر نحيبه
ولم يرق له مدمع ... كأنه لم يبق له فيه مطمع
فكان الوعد حسرته ... والبرق لوعته وزفرته
فقال لي ما أحسن هذا اليوم ... لو كان في غير شهر الصوم
فاقترح غاية الاقتراح علي ... وقال قل فيه شعراً بين يدي
فأنشدته هذه الأبيات:
اليوم يوم نزهة وعقار ... وتقرب الآمال والأوطار
أو ما ترى شمس النهار قد اختفت ... وتسترت عن أعين النظار
والغيث سح غمامه فكأنه ... دنف بكى من شدة التذكار
والبرق لاح من السماء كأنه ... سيف تألق في سماء غبار
لا شيء أحسن فيه من نيل المنا ... بمدامته تبدو كشعلة نار
لولا صيام عاقني عن شربها ... لخلعت في هذا النهار عذار
لو كان يمكن أن يعار أعرته ... وأصوم شهراً في مكان نهار
لكن تركت سروره ومدامه حتى ... أكون لديه ذا أفكار
ونديرها في الكأس بين نواهد ... تجلو الهموم بنغمة الأوتار
فجفونها تغنيك عن أكواسها ... وخدودها تغنيك عن أزهار
فشكره لما سمعه غاية الشكر، وقال أسكرتنا بشعرك من غير سكر. قال، وأتيته بهذه الأبيات:
أعلمت بعدك زفرتي وأنيني ... وصبابتي يوم النوى وشجون
أودعت إذ ودعت وجداً في الحشا ... ما إن تزال سهامه تصمين
ورقيب شوقك حاضر مترقب ... إن رمت صبراً بالأسى يغرين
من بعد بعدك ما ركنت لراحة ... يوماً ولا غاضت عليك شؤون
قد كنت أبكي الدمع أبيض ناصعاً ... فاليوم تبكي بالدماء جفون

قل للذين قد ادعوا فرط الهوى ... إن شيتم علم الهوى فسلون
إني أخذت كثيره عن عروة ... ورويت سايره عن المجنون
هذي روايتنا عن أشياخ الهوى ... فإن ادعيتم غيرها فأرون
يا ساكني أكناف رملة عالج ... ظفرت بظبيكم الغرير يمين
كم بات في جنح الظلام معانقي ... ومجنت في صفروي إلى مجنون
في روضة نم النسيم بعرفها ... وكذاك عرف الروض غير مصون
والورق من فوق الغصون ترنمت ... فتريك بالألحان أي فنون
تصغي الغصون لما تقول فتنثني ... طرباً لها فأعجب لميل غصون
والأرض قد لبست فلايل سندس ... قد كللت باللؤلؤ المكنون
تاهت على زهر السماء بزهرها ... وعلى البدور بوجهها الميمون
قال أبو فارس، وكان أمير المسلمين أبو يوسف سار إلى مدينة سلا، فبويع بها ولده أبو يعقوب، وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام أحد وسبعين وستماية، يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشدته يوم بيعته هذه القصيدة ورفعتها إليه:
يا ظبية الوعساء قد برح الخفا ... إني صبرت على غرامك ما كفى
كم قد عصيت على هواك عواذلي ... وأناب بالتبعيد منك وبالجفا
حملتني ما لا أطيق من الهوى ... وسقيتني من غنج لحظك فرقفا
وكسوتني ثوب ألنحول فمنظري ... للناظرين عن البيان قد اختفا
هذا قتيلك فارحميه فإنه ... قد صار من فرط النحول على شفا
لهفي على زمن تقضى بالحما ... وعلى محل بالإجيرع قد عفا
أترى يعود الشمل كيف عهدته ... ويصير بعد فراقه متألقا
لله درك يا سلا من بلدة ... من لم يعاين مثل حسنك ما اشتفا
قد حزت براً ثم بحراً طامياً ... وبذاك زدت ملاحة وتزخرفا
فإذا رأيت بها القطائع خلتها ... طيراً يحوم على الورود مرفرفا
والجاذفين على الركيم كأنهم ... قوم قد اتخذوا إماماً مسرفا
جعل الصلاة لهم ركوعاً كلها ... وأتى ليشرع في السجود مخففا
والموج يأتي كالجبال عبابه ... فتظنه فوق المنازل مشرفا
حتى إذا ما الموج أبصر حده ... غض العنان عن السرى وتوقفا
فكأنه جيش تعاظم كثرة ... قد جاء مزدحماً يبايع يوسفا
ملك به ترضى الخلافة والعلا ... وبه تجدد في الرياسة ما عفا
من لم يزل يسبي الفوارس في الوغى ... إن سل في يوم الكريهة مرهفا
ألفت محبته القلوب لأنه ... ملك لنا بالجود أضحى متحفا
ألقى إليه الأمر والده الذي ... عن كل خطب في الورى ما استنكفا
يعقوب الملك الهمام المجتبا ... الماجد الأوفى الرحيم الأرأفا
يهواه من دون البنين كأنما ... يعقوب يعقوب ويوسف يوسفا
طوبى لمن في الناس قبل كفه ... والويل منه لمن غدا متوقفا
أعطاك ربك وارتضاك لخلقه ... فاقتل بسيفك من أبا وتخلفا
وامدد يمينك للوفود فكلهم ... لليوم عاد مؤملاً متشوفا
فايوم لا تخشى النعاج ذيابها ... ويعود من يسطو بها متعطفا
صلح الزمان فلا عدو يتقى ... لم يخش خلق في علاك تخوفا
لم لا وعدلك للبرية شامل ... طبعاً وغيرك لا يزال تكلفا
يا من سررت بملكه وعلايه ... اليوم أعلم أن دهري أنصفا
فإذا ملكت فكن وفياً حازماً ... واعلم بأن الملك يصلح بالوفا
وأفض بذلك للوجود وكن لهم ... كهفاً وكن ببعيدهم مستعطفا
فالجود يصلح ما تعلم في العلا ... وسواه يفسد في الخلافة ما صفا

إن البرية في يديك رمامها ... فاحذر فديتك إن تكون معنفا
يا من تسربل بالمكارم والعلا ... ما زال حاسدكم يريد تأسفا
خذها إليك قصيدة من شاعر ... في نظم فخرك كيف شا تصرفا
خضع الكلام له فصار كعبده ... ما شاء يصنع ناظماً ومؤلفا
لا زالت الأمجاد تخدم مجدكم ... ما زارت الحجاج مروة والصفا
ومن شعره في رثاء الأمير أبي مالك:
سهم المنية أين منه فرار ... من في البرية من رجاه يجار
حكم الزمان على الخلايق بالفنا ... فادار لا يبقى بها ديار
عش ما تشاء فإن غايتك الردى ... يبلى الزمان وتذهب الأعمار
فاحذر مسالمة الزمان وأمه ... إن الزمان بأهله غدار
وانظر إلى الأمراء قد سكنوا الثرى ... وعليهم كأس المنون تدار
تركوا القصور لغيرهم تورحلوا ... ومن اللحود عليهم أستار
قد وسدوا بعد الحرير جنادلاً ... ومن اللحود عليهم أستار
منعوا السرى للقباب وأسكنوا ... بطن الثرى حكمت بذاك عليهم الأقدار
لم تنفع الجرد الجياد ولا القنا ... يوم الردى والعسكر الجرار
في موت عبد الواحد الملك الرضا ... لجميع أملاك الورى إنذار
أن ليس يبقى في الملوك مملك ... إلا أتته منية وبوار
ناديته والحزن خامر مهجتي ... والقلب فيه لوعة وأوار
يا من ببطن الأرض أصبح آفلاً ... أتغيب في بطن الثرى الأقمار
أين الذين عهدت صفو ودادهم ... هل فيهم بعد الردى لك جار
تركوك في بطن الثرى وتشاغلوا ... بعلا سواك فهجرهم إنكار
لما وقفت بقبره مترحماً ... حان العزا وهاجني استعبار
فبكيت دمعاً لو بكت بمثاله ... غر السحاب لم تكن أمطار
يا زايريه استغفروا لمليككم ... ملك الملوك فإنه غفار
وفاتهتوفي خنقاً بسجن فاس بسعاية سعيت به، جناها تهوره في وسط عام سبعة وتسعين وستماية، وقد كان جعل له النظر في أمور الحسبة ببلاد المغرب.
ومن العمال
عبد العزيز بن عبد الله

بن عبد العزيز الأسدي العراقي
من أهل وادي آش، نزل سلفه طرش من أحوازها، وجده استوطنها، وذكروا أنه كان له بها سبعون غلاماً. وجده للأم أبو الحسن بن عمر شارح الموطأ ومسلم، ومصنف غير ذلك. كذا نقلته عن أبي عبد الله العراقي، قريبه.
حالهكان طبيباً، شاعراً مجيداً، حسن الخط، ظريف العمل، مشاركاً في معارف. تولى أعمالاً نبيهة.
شعرهنقلته من خطة ما نصه:
صرفت لخير صدر في الزمان ... عريق في أصالته عنان
كريم المنتمي من خير بيت ... سليل مجادة ورفيع شان
رحيب بنا فضل غير وان ... عن الأفضال في هذا الأوان
ومن هذا أذاك هو ابن عيسى ... محمد المعان على المعان
أبو عبدلي إنه المنتمي من ... مساوئ الفضل في سوى العنان
ذراني في مجادته محباً ... فهش لما به يحوي جنان
فأنس ثم بشر بالأماني ... ورفع بعد تأنيس مكان
سر لله ما أولى لير ... وليس كمن رآني فازدران
ويوجب ذو الفضايل كل فضل ... بما فيها ترشحت الأوان
وكم زهر رآه وسط روض ... وكم هاذ يدي بين الدنان
بمالقة وبالأقطار أضحت ... معاليكم مشيدة المبان
فأيدوا الآلة لسوف يأتي ... لكم مني سوابق في الرهان
قواف من الحكم قواف ... محامد للسماع وللعيان

يفوق نظيمها من كل معنى ... سلوك الدر من حلي الحسان
متى خف ازدحام من همومي ... ورجيت الأمان مع أمان
شكرت الله ثم صفا فؤادي ... وأملي ما تحب على لسان
فهأنذا ببركم غذائي ولي ... منكم على بعدي تدان
محبك حيث كنت بلا سلو ... وضيفك في البعاد وفي التوان
ثنائي ثابت يبقى بقاي ... ومن بعدي على طول الزمان
وما تهب الأكف قراك فان ... وما تهب الطروس فغير فان
هنيئاً بالنزاهة في سرور ... ومع من لا له في الفضل ثان
فلا زالت مسرته توالي ... ولا زالت تزف لك التهان
وفاته: ببلدة وادي آش عام خمسة عشر وسبعماية.
عبد القادر بن عبد الله بن عبد الملك بن سوار المحاربي
حالههذا الرجل دمث الأخلاق، سكون، وقور. خدم أبوه بغرناطة كاتباً للغزاة، منوهاً به، مشهوراً بكرم وظرف. وانتقل إلى العدوة، ونشأ ابنه المذكور بها، وارتسم بخدمة ولي العهد الأمير أبي زيان، وورد على الأندلس في وسط عام سبعة وخمسين وسبعماية في بعض خدمه، وأقام بغرناطة أياماً يحاضر محاضرة يتأنس به من أجلها الطالب، وينتظم بها مع أولى الخصوصية من أهل طريقه، وينقل حكايات مستطرفة. فمنم ذلك أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن القروي الفاسي كان مع أبي القاسم الزياني بجامع القرويين ليلة سبع وعشرين من رمضان، فدخل عليهم ابن عبدون المكناسي، فتلقاه الزياني وتأيده، وتوجهوا إلى الثريا بالقرويين وقد أوقدت، وهي تحتوي على نحو ألف كاس من الزجاج، فأنشد الزياني:
أنظر إلى نارية نورها يصدع بالألإ حجب الغسق.
فقال ابن عبدون:
كأنها في شكلها زهرة ... انتظم النور بها فاتسق
وحكيت القصة للأديب الشهير أبي الحكم مالك بن المرحل، فقال لو حضرت أنا لقلت:
أعيذها من شر ما يتقى ... من فجأة العين برب الفلق
واستنشد من شعره في الثامن والعشرين لربيع الآخر من العام بقصر نجد، فقال من حكايات، إن السلطان أمير المسلمين وجد يوماً على رجل أمر بتنكيله، ثم عطف عليه في الحال وأحسن إليه، وكان حاضراً مجلسه أبو الحسن المزدغى رحمه الله، فأنشده بديهة:
لا تونسنك من عثمن سطوته ... وإن تطاير من أثوابه الشرر
فإن سطوته والله يكلاه ... كالبرق والرعد يأتي بعده المطر
قال المترجم به، فحدثني بذلك والدي، فتعقبتها عليه عام تسعة وعشرين وسبعماية، لموجب جر ذلك بقولي:
لا تيأسن من رجا كهف الملوك ... أبي سعيد المرتجى للنفع والضرر
وإن بدا منه سخط أو رأيت له ... من سطوة أقبلت ترميك بالشرر
فإنما شيء مثل الرعد يتبعه ... برق ومن بعده ينهل المطر
وأنشدني لبعض الأحداث من طلبة فاس، يخاطب صاحبنا الفقيه الكاتب أبا عبد الله بن جزى، وقد توعده على مطل باستنساخ كتاب كان يتناول له وهو بديع:
إذا ما أتت أبطال قيس وعامر ... وأقيال عبس من بغمام وقسور
تصادمني وسط الفلا لا تهولني ... فكيف أبالي بابن جزء مصغر
مولده: بفاس في العشر الأول لذي حجة عام تسعة وسبعماية.
ومن الزهاد والصلحاء وأولا الأصليون عبد الأعلى بن معلا يكنى أبا المعلى الإلبيري، من قرى القلعة، ونشأ بالحاضرة، وكان ينسب إلى خولان. ويذكر أنه أسلم على يدي رجل من خولان، فتولاه وانتسب إليه، وخرج إلى البيرة، ونشأ بها، وشغف بكتب عبد الملك بن حبيب، ولم يكن أحد في عصره يشبهه في فضله وزهده وورعه، وتواضعه وانقباضه، وتستره. أرسل إليه حسين بن عبد العزيز أخو هاشم بن عبد العزيز، وهو بإلبيرة يرغب إليه في أن يشهد جنازة ابنة توفيت له، كان يشغف بها، فتعذر عليه إذ خشي الشهرة.

وقال لبعض جلسائه، ما علمت أن حسيناً يعرفني، وعمل على الخروج من إلبيرة، وتهيأ للخروج للحج، فحج، فلما كان منصرفه، ونزل في بعض السواحل، وجد هنالك مركبين يشحنان، فرغب كل من أصحاب المركبين، أن يركب عنده، وتنافسا في ذلك، حتى خشي أن تقع الفتنة بينهم، فاهتم لذلك، ثم اصطلح أرباب المركبين، على أن يخرج كل واحد منهما قاربه إلى البر، فمن سبق قاربه إليه دخل عنده. ونزل في منصرفه ببجاية وسكنها إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين.
عبد المنعم بن علي

بن عبد المنعم بن إبراهيم بن سدراي بن طفيل
يكنى أبا العرب، ويشهر بالحاج، ويدعى بكنيته
حالهكان عالماً فاضلاً صالحا، منقطعاً متبتلاً، بارع الخط، مجتهداً في العبادة، صاحب مكاشفات، وكرامات. نبذ الدنيا وراء ظهره، ولم يتلبس منها بشيء. ولا اكتسب مالاً ولا زوجة، وورث عن أبيه مالاً خرج عن جميعه، وقطع زمن فتايه في السياحة وخدمة الصالحين، وزمان شيخوخته، في العزلة والمراقبة، والتزام الخلوة. ورحل إلى الحج، وقرأ بالمشرق، وخدم مشايخ من الصالحين، منهم الفخر الفارسي، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهما، وكان كثير الإقامة بالعدوة، وفشا أمره عند ملوكها، فكانوا يزورونه، ويتبركون به، فيعرض عنهم، وهو أعظم الأسباب في جواز أهل المغرب لنصرة من بالأندلس في أول الدولة النصرية، إذ كان الروم قد طمعوا في استخلاصها، فكان يحرض على ذلك، حتى عزم صاحب العدوة على الجواز، وأخذ في الحركة، بعد استدعاء سلطان الأندلس إياه. وعندما تعرف يغمور بن زيان ملك تلمسان ذلك كله على بلاده بما منع من الحركة، فخاطبه الحاج أبو العرب مخاطبته المشهورة، التي كفت عدوانه، واقتصرته عما ذهب إليه.
وكان حياً في صفر عام ثلاثة وستين وستماية، وهو تاريخ مخاطبته أبا يحيى يغمور بن زيان.
ومن الطارئين وغيرهم
عبد الحق بن إبراهيم
بن محمد بن نصر بن فتح بن سبعين العكي
مرسي، رقوطي الأصل، سكن بآخرة مكة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن سبعين.
حالهقال ابن عبد الملك، درس العربية والأدب بالأندلس، عند جماعة من شيوخها. ثم انتقل إلى سبتة، وانتحل التصوف، بإشارة بعض أصحابه، وعكف برهة على مطالعة كتبه، وتعرض بعد لإسماعها، والتكلم على بعض معانيها، فمالت إليه العامة، وغشيت محله. ثم فصل عن سبتة، وتجول في بلاد المغرب منقطعاً إلى طريقة التصوف، داعياً إليها، محرضاً عليها. ثم رحل إلى المشرق، وحج حججاً، وشاع ذكره، وعظم صيته هنالك، وكثر أتباعه على مذهبه، الذي يدعو إليه من التصوف نحلة. ارتسموا بها من غير تحصيل لها، وصنف في ذلك أوضاعاً كثيرة، تلقوها منه، وتقلدوها عنه، وبثوها في البلاد شرقاً وغرباً، ولا يخلو أحد منها بطايل، وهي إلى وساوس المخبولين، وهذيان الممروضين أقرب منها إلى منازع أهل العلم، ولفظه غير ما بلد وصقع، لما كان يرمى به من بلايا الله أعلم بحقيقتها، وهو الملطع على سريرته فيها. وكان حسن الأخلاق، صبوراً على الأذى، آية في الإيثار، أبدع الناس خطاً.
وقال أبو العباس الغبريني في كتاب عنوان الدراية عند ذكره، وله علم وحكمة ومعرفة، ونباهة وبلاغة وفصاحة. ورحل إلى العدوة، وسكن بجاية مدة، ولقيه من أصحابنا ناس كثير، وأخذوا عنه، وانتفعوا به في فنون خاصة له، مشاركة في معقول العلوم ومنقولها، ووجاهة لسان، وطلاقة قلم، وفهم جنان، وهو آخر الفضلاء، وله أتباع كثيرة من الفقراء، ومن عامة الناس، وله موضوعات كثيرة، موجودة بأيدي الناس، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبي جاد، وله تسميات مخصوصات في كتبه هي نوع من الرموز وله تسميات ظاهرة كالأسامي المعهودة، وله شعر في التحقيق، وفي مراقي أهل الطريق، وكتابته مستحسنة في طريقة الأدباء. وله من الفضل والمزية، ملازمته لبيت الله الحرام، والتزامه الاعتمار على الدوام، وحجته مع الحجاج في كل عام، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام. ولقد مشى به للمغاربة بحظ في الحرم الشريف، لم يكن لهم في غير مدته. وكان أصحاب مكة شرفها الله، يهتدون بأفعاله، ويعتمدون على مقاله.

قلت، وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة، بعيدة عن الاعتدال، فمنهم الموهن المكفر، ومنهم المقلد المعظم، وحصل لطرفي هذين الاعتقادين من الشهرة والذياع ما لم يقع لغيره. والذي يقرب من الحق، أنه كان من أبناء الأصالة ببلده، وولى أبوه خطة المدينة، وبيته نبيه، ونشأ ترفاً مبجلاً، في ظل جاه، وعز نعمة، لم تفارق معها نفسه البلد، ثم قرأ وشدا. ونظر في العلوم العقلية، وأخذ التحقيق عن أبي إسحق ابن دهاق، وبرع في طريقة الشوذية، وتجرد واشتهر، وعظم أتباعه، وكان وسيماً جميلاً، ملوكي البزة، عزيز النفس، قليل التصنع، يتولى خدمته الكثير من الفقراء السفارة، أولى العبا والدقاقيس، ويحفون به في السكك، فلا يعدم ناقداً، ولا يفقد متحاملاً. ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء زياً وانتباذاً ونحلة وصحبة واصطلاحاً، كثر عليه التأويل، ووجهت لألفاظه المعاريض، وفليت موضوعاته، وتعاورته الوحشة، ولقيه فحول من منتابى تلك النحلة، قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والاضطلاع، والخوض في بحار تلك الأغراض، وساءت منه لهم في الملاطفة السيرة، فانصرفوا عنه مكظومين يندرون في الآفاق عليه من سوء القيلة، ما لا شيء فوقه. ورحل إلى المشرق، وجرت بينه وبين الكثير من أعلامه خطوب. ثم نزل مكة شرفها الله تعالى واختارها قراراً، وتلمذ له أميرها، فبلغ من التعظيم الغاية، وعاقه الخوف من أمير المدينة المعظمة النبوية، عن القدوم عليها، إلى أن توفي، فعظم عليه الحمل لأجل ذلك، وقبحت الأحدوثة.
شهرته ومحله من الإدراك أما اضطلاعه، فمن وقف على البد من كتبه، رأى سعة ذرعه وانفساح مدى نظره، لما اضطلع به من الآراء والأوضاع والأسماء، والوقوف على الأقوال، والتعمق في الفلسفة، والقيام على مذاهب المتكلمين، بما يقضي منه العجب. ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية، وكانت جملة من المسايل الحكمية، وجهها علماء الروم تبكيتاً للمسلمين، انتدب إلى الجواب عنها، على فتى من سنه، وبديهة من فكرته. وحدثني شيخنا أبو البركات، قال حدثني أشياخنا من أهل المشرق، أن الأمير أبا عبد اللهبن هود، سالم طاغية النصارى، فنكث عهده، ولم يف بشرطه، فاضطره ذلك إلى مخاطبته إلى القومس الأعظم برومة، فوكل أبا طالب بن سبعين، أخا أبي محمد، المتكلم عنه، والاستظهار بالعقود بين يديه، قال فلما بلغ باب ذلك الشخص المذكور برومة، وهو بلد لا تصل إليه المسلمون، ونظر إلى ما بيده، وسئل عن نفسه، كلم ذلك القس من دنا منه محله من علمايهم بكلام، ترجم لأبي طالب بما معناه، اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه.
دعواه وإزراؤهوقد شهر عنه في هذا الباب كثير والله أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه أو غير ذلك. فقد ذكروا أنه قال، وقد مر ذكر الشيخ أبي مدين رحمه الله، شعيب عبد عمل، ونحن عبيد حضرة.وقال لأبي الحسن الششتري عندما لقيه، وقد سأله عن وجهته، وأخبره بقصده الشيخ أبا أحمد، إن كنت تريد الجنة فشأنك ومن قصدت، وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلينا، وفي كتاب البد ما يتشوف إليه من هذا الغرض عند ذكره حكماء الملة. وأما ما ينسب إليه من آثار السيمياء والتصريف فكثير.
تواليفه

وتواليفه كثيرة تشذ عن الإحصاء، منها المسمى بالبد بد العارف، وكتاب الدرج، وكتاب الصفر، والأجوبة اليمنية، والكل والإحاطة. وأما رسايله في الأذكار، كالنورية في ترتيب السلوك، وفي الوصايا والعقايد فكثير، يشتمل على ما يشهد بتعظيم النبوة، وإيثار الورع، كقوله من رسالة: سلام الله عليك ورحمته. سلام الله عليك ثم سلام مناجاتك. سلام الله ورحمته الممتدة على عوالمك كلها، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك، وكصلاة أعز ملائكته من حيث حقيقتك ، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته. السلام عليك يا حبيبه. السلام عليك يا قياس الكمال، ومقدمة السعد، ونتيجة الحمد، وبرهان المحمود، ومن إذا نظر الذهن إليه قد أنعم العيد، السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء، وأسرار مشروطات الأزكياء الأتقياء. السلام عليك يا من جاوز في السماء مقام الرسل والأنبياء، وزاد رفعة، واستولى على ذوات الملأ الأعلى، ولم يسعه في وجهته تلك إلا ملاحظة الرفيق الأعلى، وذلك قوله، سبح اسم ربك الأعلى إلى الأخرى والأولى، لا إلى الآخرة والأولى، وبلغ الغاية والمطلوب، التي عجزت عنه قوة ماهية النهى، وزاد بعد ذلك، حتى نظر تحته من ينظر دونه سدرة المنتهى، إلى استغراق كثير، أفضى إلى حال من مقام.
ومن وصاياه يخاطب تلاميذه وأتباعه: حفظكم الله، حافظوا على الصلوات، وجاهدوا النفس في اجتناب الشهوات، وكونوا أوابين، توابين، واستعينوا على الخيرات بمكارم الأخلاق، واعملوا على نيل الدرجات السنية، ولا تغفلوا عن الأعمال السنية، وحصلو مخصص الأعمال الإلهية ومهملها، وذوقوا مفصل الذات الروحانية ومحملها، ولازموا المودة في الله بينكم، وعليكم بالاستقامة على الطريقة، وقدموا فرص الشريعة على الحقيقة، ولا تفرقوا بينهما، لأنهما من الأسماء المترادفة، واكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا، وقولوا عليها وعلى أهلها لعنة الله، لأنها حقيقة كما سمى اللديغ سليما، وأهلها مهملون حد الحلال والحرام، مستخفون بشهر الصوم والحجج وعاشوراء والإحرام، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ومنها: واعلموا أن القريب إلي منكم، من لا يخالف سنة أهل السنة ويوافق طاعة رب العزة والمنة، ويؤمن بالحشر والنار والجنة، ويفضل الرؤية على كل نعمة، ويعلم أن الرضوان بعدها، أجل كل رحمة، ثم يطلب الذات بعد الأدب مع الصفات والأفعال، ويغبط نفسه بالمشاهدة في النوم والبرزخ والأحوال، وكل مخالف سخيف، متهم منه الفساد، وإن كان من إخوانكم، فاهجروه في الله، ولا تلتفتوا إليه، ولا تسلموا له في شيء، ولا تسلموا عليه حتى يستغفر الله العظيم بمحضر الكل منهم، ويرضى عن نفسه وحاله وعنكم، ويخرج من صفاته المذمومة، ويترك نظام دعوته المحرومة. وأنا مذ أشهدت الله العظيم، أني قد خرجت من كل مخالف متخلف العقل واللسان، ولا نسبة بيني وبينه في الدنيا والآخرة، فمن زل قدمه يستغفر الله، ولا يخدعه قدمه، وأمثال هذا كثير.
دخوله غرناطةأخبرني غير واحد من أصحابنا المعتنين بهذا، أنه دخل غرناطة في رحلته، وأظنه يجتاز إلى سبتة، وأنه حل وسطه، على اصطلاح الفقراء، برابطة العقاب من خارجها، في جملة من أتباعه.
شعرهوشعره كثير، مما حضرني منه الآن قوله:
كم ذا تموه بالشعبين والعلم ... والأمر أوضح من نار على علم
وكم تعير عن سلع وكاظمة ... وعن زرود وجيرن بذي سلم
ظللت تسئل عن نجد وأنت بها ... وعن تهامة هذا فعل متهم
في الحي حتى ولا سوى ليلى ... وتسألها عنها سؤالك وهم جر للعدم
وفاتهتوفي بمكة شرفها الله تعالى يوم الخميس التاسع لشوال من عام تسعة وستني وستماية.
فيما يسمى بإحدى عيون الإسلام من الأسماء العينية وهم عتيق وعمر وعثمن وعلي، وأولا الأمراء والملوك وهم ما بين طارئ وأصلي وغريب
عمر بن حفصون

بن عمر بن جعفر الإسلامي بن كسمسم بن دميان
ابن فرغلوش بن أذفونش كبير الثوار، وعظيم النتزين، ومنازع الخلفاء بالأندلس.
أوليته وحاله

قال صاحب التاريخ، أصله من رندة، من كورة تاكرنا، وجده جعفر إسلامي، وانتقل إلى رندة، لأمر دار عليه بها في أيام الحكم بن هشام، فسكن قرية طرجيلة من كورة ريه المجاورة لحصن أوطة، فاستوطن بها، وأنسل بها عمر، ثم أنسل بها عمر حفصاً، وفخم فقيل حفصون. ثم أنسل عمر هذا الثاير مع أخوة له، منهم أيوب وجعفر. ولما ترعرع عمر، ظهر له من شراسته وعتوه، ما لم يعدم معه أبواه هرباً عن مواضعهما فزالا عن وطنهما، فذكر أنه لم يمسك من حين كان عن أحد ممن ناظره، ولا سكت عن أقبح ما يمكن من السب لمن عاتبه، وأنه قتل أحد جيرانه على سبب يسير دافعه عنه، فتغرب لذلك عن الموضع زماناً.
وذكر ابن القوطية، أن عامل ريه، عاقبه في جناية، وفر إلى العدوة، وصار يتهرب عند خياط كان من أهل ريه، فبينا هو جالس في حانوته يوماً، إذ أتاه شخص بثوب يقطعه، فقام إليه الخياط، فسأل ذلك الشخص الخياط عن عمر فقال له هو رجل من جيراني، فقال الشيخ متى عهدك بريه، فقال له، منذ أربعين يوماً، فقال له، أتعرف جبلاً يقال له ببشتر، فقال أنا ساكن عند أهله، فقال أله حركة، قال لا، قال الشيخ قد أذن ذلك. ثم قال، تعرف فيما يجاوره رجلاً يقال له عمر بن حفصون، ففزع من قوله، فأحد الشيخ النظر فيه وقال، يا منحوس، تحارب الفقر بالإبرة، إرجع إلى بلدك، فأنت صاحب بني أمية، وستملك ملكاً عظيماً، فقام من فوره، وأخذ خبزه في كمه، ورجع إلى الأندلس. فداخل الرجال، حتى ضبط الجبل المذكور، وانضوى إليه كل من يتوقع التهمة على نفسه، أو تشهره إلى الانتزاء بطبعه، وضم إلى القلعة كل من كان حولها من العجم والمولدين. ثم تملك حصن أوطة وميجش، ثم تلمك قمارش وأرجدونة. ثم اتسع نظره، حتى تملك كورة ريه، والخضراء، وإلبيرة، إلى بسطة وأبدة وبياسة وقبرة، إلى كل حصن بلى، المطل على قرطبة، وأشرق الخلافة بريقها، وقطع الزمان من استكانة إلى عهد، وكشف الوجه في ختر، وتشمير الساعد عن حرب، وحسر اللثام عن أيد وبسطة وشد الحزام على جهد وصبر ونازله الخلايف والقواد، فلم يحل بطايل، وأصابته جراحات مثخنة في الوقايع وأصبحت فتنته سمر الركاب، وحديث الرفاق، شدة أسر، وثقل وطأة، وسعة ذرع، واتصال حبل، وطول إملاء، استغرق بها السنين، وطوى الأعمار، وأورث ذلك ولده بعده، وعند الله جزاء وحساب، وإن امتد المآب، لا إله إلا هو.
دخوله غرناطة وإلبيرةقال ابن الفياض وغيره، ودخل إلبيرة مرات، عندما ثار بدعوته، قاتل، وانضوى إلى حصن منتشافر، من إقليم برجيلة قيس، في نحو ستة آلاف، وتغلب على يحيى بن صقالة، ثم نازله سوار بن حمدون أمير العرب بغرناطة، حتى غلبه، وأخذه أسيراً، ثم أوقع بجعد ومن معه من أهل إلبيرة وقايع مستأصلة، وتملك بعدها بياسة وأبدة، في أخبار تطول. قال أبو مروان، قصد ابن حفصون حاضرة إلبيرة وحصونها، وناصب الحرب سواراً، وقد استمد سوار رجالات العرب، من كورني جيان وريه وإلبيرة، فوقعت الهزيمة على ابن حفصون، وجرح جراحات مثخنة، وأصيب جماعة من فرسانه، وانقلب منهزماً، فغضب عند ذلك على أهل إلبيرة فأغرمهم مغرماً فدحهم، واستعمل عليهم، حفص بن الرة، فلم يزل لعمل الحيل على سوار، حتى أوقع به، وأتى بجثته إلى إلبيرة، وحمل رأسه إلى ببشتر، واستشرى داؤه، وأعيا أمره، فاتصل ملكه بالقواعد والأقطار، وغلب أكثر المدن، ما بين الموسطة والغرب، وأحدق ملكه بقرطبة، وحجر عليها الخيل من حصن بلى، من حصون قبرة، فجلت الكنبانية، وامتد إلى بنيان المعاقل. ولما رأى الأمير محمد ما أحاط به منه، تأهب إلى غزوه، ونزل حصن بلى، وناهضه، فأوقع به، وهزمه وألجأه إلى أن سلم في حصنه، فلما خرج منه بمن معه، تطيرهم ريح الفرار والسيوف تأخذهم، استولى الخليفة على الحصن. وفي ذلك يقول أحمد بن عبد ربه، شاعر دولتهم:
وله يوم بلى وقعة لم ... تدع للكفر رأساً في ثبج
لم يجد إبليس في حومتها ... نفعاً من رهبة حيث بلج
دفعتهم حملة السيل إلى ... كافح الأمواج مخض اللجج
فتح الله على الدين به ... وعلى الإسلام يا عام تتج
وكان هذا الفتح سنة سبع وسبعين ومائتين. ثم استخلص مدينة إستجة.
وفاته

قال، ومن هذا العهد، أدبر أمر ابن حفصون، وتوقف ظهوره، بعد تخبط شديد، ولجاج كبير، وشر مبير، وكانت وفاته ببشتر، موضع انتزائه على عهد الخليفة عبد الرحمن في سنة ست وثلاثمائة، بعد مرض شمل النفخ به جسده، حتى تشقق جلده، وانتقل أمره إلى ولده جعفر، ثم إلى ولده سليمان، ثم إلى ولده حفص. وعلى حفص انقرض أمرهم.
عمر بن محمد التجيبي

بن عبد الله بن محمد بن مسلمة التجيبي
يطليوسي، مكناسي الأصل، من مكناسة الجوف، الأمير بالثغر الغربي، الملقب من ألقاب السلطنة بالمتوكل على الله، المكنى بأبي محمد، المنبز بابن الأفطس.
أوليتهقال ابن حيان، كان جدهم عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، أصله من فحص البلوط، من قوم لا يدعون نباهة، غير أنه كان من أهل المعرفة التامة، والعقل، والدهاء، والسياسة. ثم كان هذا الصقع الغربي، بطليوس وأعمالها، وشنترين والأشبونة، وجميع الثغر الجوفي في أمر الجماعة، رجل من عبيد الحكم المستنصر، يسمى سابور. فلما وقعت الفتنة، وانشقت العصا، انتزى سابور على ما كان بيده، وكان عبد الله يدبر أمره إلى أن هلك سابور، وترك ولدين لم يبلغا الحلم، فاشتمل عبد الله على الأمر، واستأثر به على ولديه، فحصل على ملك غرب الأندلس، واستقام أمره، إلى أن مضى بسبيله، وأعقبه ابنه المظفر محمد بن عبد الله، وكان ملكاً شهيراً عالماً شجاعاً أديباً، وهو مؤلف الكتاب الكبير المسمى بالمظفري، فاستقامت أموره إلى أن توفي فقام بأمره ولده عمر هذا المترجم به.
حالهقال ابن عبد الملك، كان أديباً بارع الخط، حافظاً للغة، جواداً، راعياً حقوق بلده، مواخياً لهم، محبباً فيهم، مرت لهم معه أيام هدنة وتفضل إلى حين القبض عليه.
وقال الفتح في قلائده: ملك جند الكتائب والجنود، وعقد الألوية والبنود، وأمر الأيام فائتمرت، وطافت بكعبته الآمال واعتمرت، إلى لسن وفصاحة، ورحب جناب للوافدين وساحة، ونظم يزرى بالدر النظيم، ونثر تسرى رقته سري النسيم، وأيام كأنها من حسنها جمع، وليال كان فيها على الأنس حضور ومجتمع، راقت إشراقاً وتبلجاً، وسالت مكارمه فيها أنهاراً وخلجاً، إلى أن عادت الأيام عليه بمعهود العدوان، ودبت إليه دبيبها لصاحب الإيوان، وانبرت إليه انبراءها لابن زهير وراء عمان.
شعرهبلغه أنه ذكر في مجلس المنصور يحيى أخيه بسوء، فكتب إليه بما نصه
فما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينيطون بي ذماً وقد علموا فضلي
يسيئون لي في القول جهلاً وضلة ... وإني لا أرجو أن يسيئهم فعلي
لئن كان حقاً ما أذاعوا فلا مشت ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح العافين في زمن المحل
وكيف وراحي درس كل غريبة ... وورد التقى شمي وحرب العدى نقلي
وإلى خلق في السخط كالشرى طعمه ... وعند الرضى أحلى جنى من جنى النحل
فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلى مهلاً رويدك بالعل
نلطفئ ناراً أضرمت في صدورنا ... فمثلي لا يقلي ومثلك لا يقلي
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكياً ... فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي
فبادر إلى الأولى وإلا فإنني ... سأشكوك يوم الحشر للحكم العدل
وكتب جواباً لأبي محمد بن عبدون مع مركوب عن أبيات ثبتت في القلايد:
بعثت إليك جناحاً فطر ... على خفية من عيون البشر
على ذلل من نتاج البروق ... في ظل من نسيج الشجر
فحسبي ممن نأى ومن دنا ... فمن غاب كان كمن قد حضر
قال الفتح، أخبرني الوزير أبو أيوب بن أمية، أنه مر في بعض أيامه بروض مفتر المباسم، معطر الرياح النواسم، فارتاح إلى الكون به بقية نهاره، والتنعم ببنفسجه وبهاره. فلما حصل من أنسه في وسط المدى، عمد إلى ورقة كرنب قد بللها الندى، وكتب فيها بطرف غصن، يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم أحد ندمائه، ونجوم سمائه:
أقبل أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... ما لم تكن حاضراً لدينا

نثره
وهو أشف من شعره، وإنه لطبقة تتاقصر عنها أفذاذ الكتاب، ونهاية من نهاية الآداب، قال، كان ليلة مع خواصه للأنس معاطياً، ولمجلس كالشمس واطياً، قد تفرغ للسرور، وتفرغ عيشاً كالأمل المزرور، والمنى قد أفصحت ورقها، وأومص برقها، والسعد تطلع مخايله، والملك يبدو زهوه وتخايله، إذ ورد عليه كتاب بدخول أشبونة في طاعته، وانتظامها في سلك جماعته، فزاد في مسرته، وبسط من أسرته وأقبل خدامه، وأسبل نداه على جلسائه وندامه، فقال له ابن خيرة، وكان يدل بالشباب، وينزل منه منزلة الأحباب، لمن توليها، ومن يكون واليها، فقال له، أنت، فقال فاكتب الآن بذلك، فاستدعى الدواة والرق، وكتب وما جف له قلم، ولا توقف له كلم: لم يسوغ أولياء النعم، مثل الذي سوغتموه من التزام الطاعة، والدخول في نهج الجماعة، وذلك لا آلوكم ونفسي فيكم نصحاً فيمن أتخيره، للنيابة عني في تدبيركم، والقيام بالدقيق والجليل من أموركم، وقد وليت عليكم، من لم أوثر والله فيه دواعي التقريب، على بواعث التجريب، ولا فوات التخصص، على لوازم التمحيص، وهو الوزير القائد أبو عبد الله بن خيرة، ابني دربة، وبعضي صحبة، ونشأتي سكة وقرية، وقد رسمت له من وجوه الذب والحماية، ومعالم الرفق والرعاية، ما التزم الاستيفاء بعهده، والوقوف بجده عند حده، والمسؤول في عونه من لا عون إلا من عنده، ولن أعرفكم من حميد خصاله، وسديد فعاله، إلا بما سيبدو للعيان، ويزكو مع الامتحان. ويفشو من قبلكم إن شاء الله على كل لسان، وقد حددت له أن يكون لناشئكم أباً ولكهلكم أخاً. ولذي النفوس والكبرة إبناً، ما أعنتموه على هذا المراد، ولزوم الجواد، وركوب الانقياد. وأما من شق العصا، وبان عن الطاعة، وظهر منه المراد والهوى، فهو القصي منه، وإن مت إليه بالرحم الدنيا، فكونوا خير رعية، بالسمع والطاعة في جميع الأحوال، يكن لكم بالبر والموالاة خير وال إن شاء الله عز وجل.
وصوله إلى غرناطةوصلها صحبة حليفه ابن عباد، لما قبض يوسف بن تاشفين على صاحبها ونزل بالمشيجة من خارجها في رجب من عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة ورابهما الأمر، كما تقدم في ذكر المعتمد بن عباد، فتعجلا الرجوع إلى وطنهما بحيلة دبراها.
نكبته ووفاتهولما اشتد خوفه من أمير لمتونة، ورأى أنه أسوة ابن عباد في الخلع عن ملكه، وضيقت الخيل على أطرافه وانتزعتها، داخل طاغية الروم، وملكه من مدينة الأشبونة، رغبة في دفاعه عنه، فاستوحشت لذلك رعيته، وراسلت اللمتونيين، واقتحمت عليه مدينة بطليوس، واعتصم بالقصبة، وخانه المحاربة، فدخلت عليه عنوة، وتقبض عليه وعلى بنيه وعبيده، وتحصلوا في ثقاف قائد الجيش اللمتوني. وبادر إعلام الأمير سير بن أبي بكر، فلحق بها. واستخرج ما كان عند المتوكل من المال والذخيرة، وأزعجه إلى إشبيلية مع ابنين له، فلما تجاوز وبعد عن حضرته، أنزل وقيل له تأهب للموت، فسأل أن يقدم ابناه يحتسبهما عند الله، فكان ذلك، وقتلا صبراً بين يديه، ثم ضرب عنقه، وذلك صدر سنة سبع وثنانين واربعمائة، وانقرضت دولة بني الأفطس.
وممن رثاهم، فبلغ الأمد وفاء وشهرة وإجادة، أبو محمد عبد المجيد ابن عبدون بقصيدته الفريدة:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة ... عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة ... والبيض والسمر مثل البيض والسمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضراب وبين الصارم الذكر
فلا تغرنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السهر
ما لليالي أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد الغير
في كل حين لها في كل جارحة ... منا جراح وإن زاغت عن البصر
تسر بالشيء لكن تغربه ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك من خبر
هوت بداراً وفلت غرب قاتله ... وكانت غصباً على الأملاك ذا أثر

واسترجعت من بني ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبني يونان من أثر
وأتبعت أختها طسماً وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقص المرر
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوي الغايات من مضر
ومزقت سبأ في كل قاصية ... فما التقى رائح منهم بمبتكر
وأنفذت في كليب حكمها ورمت ... مهلهلاً بين سمع الأرض والبصر
ولم ترد على الضليل صحته ... ولا ثنت أسداً عن ربها حجر
ودوهت آل ذبيان وإخوتهم ... عبساً وعضت بني بدر على النهر
وألحقت بعدي بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشعر
وأهلكت أبرويزا بابنه ورمت ... بيزد جرد إلى مرو فلم يحر
وأشرفت بحبيب فوق قارعة ... وألحقت طلحة الفياض بالعفر
ومزقت جعفراً بالبيض واختلست ... من غيلة حمزة الظلام للجزر
وبلغت يزدرجرد الصين واختزلت ... عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر
ولم ترد مواضي رستم وقنا ... ذي حاجب عنه سعداً في ابنة الغير
وخضبت شيب عثمان دماً وخطت ... إلى الزبير ولم تستحي من عمر
وما رعت لأبي اليقظان صحبته ... ولم تزوده إلا الضح في الغمر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن ... وأمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة ... فدت علياً بمن شاءت من البشر
وفي ابن هند وفي ابن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما اغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر
وعمت بالردى فودى أبي أنس ... ولم ترد الردى عنه قنا زفر
وأردت ابن زياد بالحسين فلم ... يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر
وأنزلت مصعباً من رأس شاهقة ... كانت بها مهجة المختار في وزر
ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا ... راعت عياذته بالبيت والحجر
ولم تدع لأبي الزيان قاضبة ... ليس اللطيم لها عمرو بمنتصر
وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكاس والوتر
حبابة حب رمان ألم بها ... وأحمر قطرته نفحة القطر
ولم تعد قضب السفاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعه الفجر
وأسبلت دمعة الروح الأمين على ... دم يثج لآل المصطفى هدر
وأشرقت جعفراً والفضل ينظره ... والشيخ يحيى بريق الصارم الذكر
وأخفرت في الأمين العهد وانتدبت ... لجعفر بابنه بالأعبد الغدر
وروعت كل مأمون مؤتمن ... وأسلمت كل منصور ومنتصر
وأعثرت آل عباس لعالهم ... بذل زباء من بيض ومن سمر
ولا وفت بعهود المستعين ولا ... بما تأكد للمعتز من مرر
وأوثقت في عراها كل معتمد ... وأشرقت بقذاها كل مقتدر
بني المظفر والأيام ما برحت ... مراحل والورى منها على سفر
سحقاً ليومكم يوماً وما حملت ... بمثله ليلة في سالف العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو ... من للأسنة يهديها إلى الثغر
من لليراعة أو من للبراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضرر
من للظبي وعوالي الخط قد عقدت ... أطراف ألسنها بالعي والحصر
وطوقت بالمنايا السود بيضهم ... أعجب بذاك وما منها سوى ذكر
أو رفع كارثة أو دفع حادثة ... أو قمع آزفة تعيي على القدر
ويح السماح وويح الجود لو سلما ... وحسرة الدين والدنيا على عمر

سقت ثرى الفضل والعباس هامية ... تعزى إليهم سماحاً لا إلى المطر
ثلاثة ما ارتقى النسران حيث رقوا ... وكل ما طار من نسر ولم يطر
ثلاثة كذوات الدهر منذ نأوا ... عني مضى الدهر لم يربع ولم يحر
ومر من كل شيء فيه أطيبه ... حتى التمتع بالآصال والبكر
من للجلال الذي عمت مهابته ... قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
أين الإباء الذي أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه ... فلم يرد أحد منهم على كدر
كانوا رواسي أرض الله مذ نأوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
كانوا مصابيحها دهراً فمذ خبوا ... هذي الخليقة تالله في سدر
كانوا شجى الدهر فاستهوتهم خدع ... منه بأحلام عاد في خطا الخضر
من لي ولا من بهم إن أظلمت نوب ... ولم يكن ليلها يفضى إلى سحر
من لي ولا من بهم إن طبقت محن ... ولم يكن ورودها يفضي إلى صدر
من لي ولا من بهم إن عطلت سنن ... وأخفيت ألسن الآثار والسير
ويلمه من طلوب الثأر مدركه ... لو أن ديناً على الأيام ذي عسر
على الفضائل إلا الصبر بعدهم ... تسليم مرتقب للأجر منتظر
يرجو عسى وله في أختها طمع ... والدهر ذو عقب شتى وذو غير
قرطت آذان من فيها بفاضحة ... على الحسان حصى الياقوت والدرر
سيارة في أقاصي الأرض قاطعة ... شقاشقاً هذرت في البدو والحضر
مطاعة الأمر في الباب قاضية ... من المسامع ما لم يقض من وطر
ومن الغرباء
عثمن بن عبد الرحمن

بن يحيى بن يغمراسن الدايل بتلمسان، يكنى أبا سعيد.
حاله
كان شيخاً مخيلاً بسمة الخير، متظاهراً بالنسف، بقية آل زيان، متقدماً في باب الدهاء والذكر، بالغاً أقصى المبالغ في ذلك. سكن غرناطة ووادي آش، وولد بغرناطة، وكان أبوه ممن هلك في وقيعة فرتونة، فارتزق مع الجند الغربي بديوانها في حجر أبيه وبعده، ثم ثنى عنانه إلى وطنه، وتخطته المتالف عند تغلب السلطان صاحب المغرب على بلده تلمسان، وغاص في عرض من تهنأ الإبقاء من قبيله. وكان ممن شمله حصار الجزيرة، ووصل قبله ممداً مع الجيش الغربي بجيش غرناطة عند منازلة القلعة. ولما جرت على واترهم السلطان أبي الحسن الهزيمة بظاهر القيروان، وبعد الطمع في انتشاله وجبره، ولحق كل بوطنه، حوم الفل من بني زيان على ضعفهم، ومذ رحل عنه السلطان القايم بملك المغرب أبو عنان، إلى محل الأمر ودار الملك، وسد تلمسان بشيخ من قبيلتهم يعرف بابن حرار، له شهرة وانتفاخ لتنسيق رياح الاختلاف، فذ في إدارة الحيلة، وإحالة قداح السياسة، رأس الركب الحجازي غير ما مرة، وحل من الملوك ألطف محلة. ولما نهد القوم إلى تلمسان، ناهضهم ابن الحرار بمن استركب من جنده، وانضم إليه من قومه، فدارت عليهم الهزيمة، وأحيط به، فتملك البلد، وتحصل في الثقاف، إلى أن هلك به مغتالاً، واستولى عثمن بن يحيى على المدينة، وانقاد إليه ما يرجع إليها من البلاد والقبايل، فثاب لهم ملك لم تكد شعلته تقد حتى خبت، وعلى ذلك فبلغوا في الزمان القريب، من وفور العدة، واستجادة الآلة، وحسن السيرة، ما يقضى منه العجب، وانفرد عثمن بالأمر، وعين أخاه أبا ثابت الزعيم إلى إمارة الجيش، فاستقام الصف، وانضم النشر، وترتبت الألقاب، واستأنفوا الدولة، وتلقفوا الكرة. وقل ما أدبر شيء فأقبل. وبادر السلطان بالأندلس مفاتحته مهنياً، وللحلف مجدداً، بكتاب من أنشائي من فصوله:

بعد الصدر والتحميد، ولا وزايد بفضل الله المرجو في الشدايد، لجميل العوايد، إلا ما شرح الصدور، وأكد السرور، وبسط النفوس، وأضحك الرسن العبوس، من اتساق أمور ذلك الملك لديكم، واجتماع كلمته عليكم، وما تعرفنا أن الدولة الزيانية، وصل الله لبدورها استيناف الكمال، وأعلى أعلامها في هضاب اليمن والإقبال، تذكرت الرسايل القديمة الأذمة، وألقت إلى قومها بالأزمة، وحنت إلى عهدهم على طول النوى، وانشد لسان حالها، نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، فأصبح شتيتك بأهلها مجموعاً، وعلم عليائها بأيدي أوليائها مرفوعاً، وملابس اعتزازها بعد ابتزازها جديدة، وظلال سعودها على أغوارها ونجودها مديدة، وقبيلها قد أنجح الله في ائتلافه أمل الآمل، ومبتداها مرفوعاً مع وجود العوامل، والكثير من أوطانها قد سلكت مسلكها في الطاعة، وتبادرت إلى استباق فضيلة الوفاق بحسب الاستطاعة، فعظم الاستبشار بأن كان لكم ما لها، وفي إيالتكم انتيالها، من غير ان يعلق باسبابها من ليس من أربابها، ويطمع في اكتسابها من لم يكن في حسابها. وقلنا موارث وجب، وعاصب حجب، وركب علج من بعد القفول، وشمس طلعت من بعد الأفول، وجيد حلى بعد ما اشتكى العطل، وغريم قضى بعد ما مطل، وطرف تنبه بعد ما سجع، ودرى استقام سيره عقب ما رجع، وقضية انصرف دليلها عن حدود القواطع، وطرحت عليه أشعة السعود السواطع، لا بل عبد أبق لقدر سبق، حتى إذا راجع نهاه، وعذله العقل ونهاه، جنح بعد هجره، إلى كنف من نشأ في حجره. وعلمنا أن الدولة التي عرفنا مكارمها، قد دالت، والغمامة التي شكرنا مواقعها قد انثالت، فجرينا في المسرة ملء الأعنة، وشاركنا في شكر هذه المنة، وأصدرنا إليكم هذا الخطاب مهنياً، وعن الود الكريم والولاء الصميم منبيا، وفي تعزيز ما بين الأسلاف، جدد الله عليهم ملابس الرضوان معيداً مبدياً، وإن تأخر منه الغرض،وقضى بهذا العهد واجبه المفترض، والأعذار واضحة، وأدلتها راجحة، وللضرار أحكام تمضى، والفروض للفوات تقضى، فكيف والاعتقاد الجميل مسير مسكن، والوقت والحمد لله متمكن، وما برحنا في مناط اجتهاد، وترجيح استشهاد، والأخبار يضطرد مفهومها، والألفاظ لا يتخصص عمومها، والأحاديث يجول في متعارضها النظر، ولا يلزم العمل ما لم يصح الخبر. فلما تحققنا الأمر من قصة، وتعاضد قياسه بنصه، لم نقدم على المبادرة عملاً، وبينا لكم من حسن اعتقادنا ما كان مجملا، فليهن تلك الإيالة ما استأنفته من شبابها، وتسربلته من جديد أثوابها، وليستقبل العيش خضراً، والدهر معتذراً، والسعد مسفراً.
وتمادى ملكه من الثامن والعشرين لجمادى الآخرة من عام تسعة وأربعين وسبعماية إلى أن استوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنان، واستأثر إليه أبيه، وتحرك إلى منازلة تلمسان في جمادى الآخرة عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، وكسر جمعهم، واستولى على ملكهم حسبما يأتي، وبرز إليه سلطانها المذكور، مؤثراً الإصحار على الاجتحار، واللقاء على الانحصار، وكانت بين الفريقين حرب ضروس، ناشب الزيانيون محلات المغرب القتال، بموضع يعرف بإنكاد، على حين غفلة، وبين يدي شروع في تنقل وسكون، وتفرق من الحامية في ارتداد الخلا، وابتغاء الماء، فلم يرع إلا إطلال الرايات، وطلوع نواصي الخيل، فوقع الصراخ، وعلا النداء، وارتفع القتام، وبادر السلطان بمن معه من الخالصة، وروم الركاب الصدمة، ومضى قدماً، وقد طاش الخبر بهزيمته، وفعاثت العربان في محلته، وكانوا على الأموال أعدى من عدوه، وفر الكثير إلى جهة المغرب بسوء الأحدوثة.

ولما تقاربت الوجوه، وصدق المصاع، قذف الله في قلوب الزيانيين الرعب، واستولى عليهم الإدبار، فانهزموا أقبح هزيمة، وتفرقوا شذر مذر، واختفى سلطانهم عثمن المترجم به، وذهب متنكراً وقد ترجل، فعثر عليه من الغد، وأوتي به فشد وثاقه، وأسرع السلطان اللحاق بتلمسان، وقد تلقاه أهلها معلنين بطاعته. ولائذين بجناب عفوه، وتنكبها الجيش المفلول، لنظر الأمير أبي ثابت، فاستفر بأحواز جزاير بني مزغناي. ودخل السلطان تلمسان في يوم الأحد، الحادي عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، وتدامر بنو مرين، واستدركوا دحض الوصمة في اتباع أضدادهم المحروبين، فكان اللقاء بينهم، وبين الجيش المفلول وحكم الله باستيصالهم، فمضى عليهم السيف،وأوتي بزعيمهم الزعيم، فاحتمل مع أخيه في لمة من أوليائهم، ونفذ الأمر لأقتالهم من بني حرار بأخذ حقهم، فقتل عثمن والزعيم رحمهما الله بخارج تلمسان ذبحاً، وألحق بهما عميد الدولة يحيى بن داود، بعد أن استحضر عثمن بين يدي السلطان، واسمع تأنيباً، حسن عنه دوابه، بما دل على ثبات وصبر. وانقضى أمر كرتهم الثانية، وخلت منهم الأوطان، وخلصت لبني مرين الجهة،وصفت العمالة. والله يعطي ملكه من شاء سبحانه لا إله إلا هو، وكان مقتل عثمن وأخيه في أوايل شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وخمسين وسبعماية.
علي بن حمود

بن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد الله بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن
حسن بن علي بن أبي طالب.
أول ملوك بني هاشم بالأندلس، يكنى أبا الحسن، ويلقب من الألقاب السلطانية، بالناصر لدين الله.
حالهكان شهماً لبيباً، جريء اللقاء، باطش السيف، شديد السطوة، أسمر، أعين، نحيف الجسم، طويل القامة، حاد الذهن، من أولي الحزم والعزم.
خلافتهذكروا أن هشام بن الحكم، لما ضيق به الحجر، كتب إليه في السر بعهد ولايته، وأهله للأخذ بثاره، فكان كذلك، وأجاز البحر من سبتة، مظهراً القيام بنصر هشام عندما خلع، فانحاش غليه كثير من الناس، وقصد قرطبة، وبرز إليه الخليفة سليمن خالع هشام ومغتاله، فظهر عليه علي بن حمود وهزمه، ودخل قرطبة، فقتل سليمن، وبحث عن هشام، وقد فات فيه الأمر، وتسمى بأمير المؤمنين. وأنس به أهل قرطبة، لقهره من كان لنظره من البرارة، وإمضاء الأحكام عليهم. قال المؤرخ، فبرقت للعدل يومئذ بارقة، لم تكد تقد حتى خبت. وكان الأغلب عليه السخاء والشجاعة.
ومدحه الكثير من الشعراء، منهم أبو عمر بن دراج، وفيه يقول:
لعلك يا شمس عند الأصيل ... تحن بشجو الغريب الذليل
فكوني شفيعي إلى أين الشفيع ... وكوني رسولي إلى أين الرسول
فأما شهدت فأزكى شهيد ... وأما دللت فأهدى دليل
إلى الهاشمي إلى الطالبي ... إلى الفاطمي العطوف الوصول
وصوله إلى إلبيرةقل، ولما استوسق الأمر، واضطرب عليه خيران صاحب ألمرية، أغراه وأذن لحربه، فخرج من قرطبة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة من سنة ثمان وأربع ماية، وسار إلى أن بلغ وادي آش، وتردفت عليه الأمطار والسيول، وانصرف إلى إلبيرة ثم إلى قرطبة.
وفاتهقال المؤرخ، وفي سنة ثمان وأربعماية كان مقتل علي بن حمود، وذلك أن صقالبته قتلوه بموضع أمنه. في حمام قصره، وكانوا ثلاثة من أغمار صبيان قصره، منهم نجح وصاحباه، وسدوا باب الحمام عليه، وتسللوا، ولم يحس أحد بهم، واستطال نساؤه بقاءه، فدخلوا عليه، ودمه يسيل فصح خبر مقتله، وبعثت زناتة إلى أخيه بإشبيلية، فخاف أن يكون حيلة، حتى كشف عن الأمر، ولحق بقرطبة، فأخرج جسده، وصلى عليه، وأنفذه إلى سبتة، فدفن بها، وبني عليه مسجد هو الآن بسوق الكتان، وقبض من قاتليه على صبيين عذبا بأنواع العذاب، ثم قتلا وصلبا.
علي بن يوسف
بن تاشفين بن توحرت
وينظر اتصال نسبه في اسم أبيه هو أمير المسلمين بالعدوة والأندلس بعد أبيه، يكنى أبا الحسن، تصير إليه الملك بالعهد من أبيه عام سبعة وتسعين وأربعمائة، ثم ولى أمره يوم وفاته وهو يوم الإثنين مستهل محرم عام خمسماية.
حاله

وكان ملكاً عظيماً علي الهمة رفيع القدر، فسيح المعرفة شهير الحلم، عظيم السياسة، أنفذ الحق، واستظهر بالأزكياء، ووالى الغزو، وسد الثغور، إلى أن دهمه من أمر الدولة الموحدية ما دهمه، وكل شيء إلى مدى، فأمهل السرح، وحالف الإدبار، وجاز إلى الأندلس، وغزا فيها بنفسه، ودخل غرناطة وباشرها.
قال ابن عذارى، تقدم الأمير أبو الحسن لذلك فاستعان بالله واستنجده وسأله حسن الكفاية فيما قلده، فوجده ملكاً مؤسساً، وجنداً مجنداً، وسلطاناً قاهراً، ومالاً وافراً، فاقتفى إثر أبيه، وسلك سبيله، في عضد الحق، وإنصاف المظلوم، وأمن الخائف، وقمع المظالم، وسد الثغور، ونكاية العدو، فلم يعدم التوفيق في أعماله، والتسديد في حسن أفعاله.
دخوله غرناطةوفي سنة خمس وخمسماية، جاز البحر إلى الجهاد. قال المؤرخ، قدم علي بن يوسف غرناطة مرات مع أبيه. وفي سنة خمس وخمسماية تلوم بها ريثما تلاحقت حشوده، وتأهبت مطوعته وجنوده، فافتتح مدينة طلبيرة عنوة ثم عبر البحر عام أحد عشر وخمسماية، فغزى قولمرية.
ظهور الموحدين في أيامهقال ابن عذارى، في سنة أربع عشرة وخمسماية، كان ابتداء أمر الثاير على الدولة، الجالب للفتن الجمة، الجار لها منذ ثلاثين سنة، حتى أقفر المعمور، وأصار الضياء كالديجور، محمد بن ترمرت السوسي الملقب بالمهدي. قلت، وأخباره عجيبة، وما زال أمره في ظهور، وأمر هذه الدولة، في ثبار وإدبار، إلى أن محا رسومها، وقطع دابرها، والملك لله، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، سبحانه.
وفاتهقال، وفي سنة سبع وثلاثين وخمسماية، توفي أمير المسلمين علي ابن يوسف، لسبع خلون من رجب، ولم يشهر موته إلا لخمس خلون من شوال، فكانت مدته من حين قدمه أبوه، تسعاً وثلاثين سنة واشهراً. وعمره إحدى وستون سنة، قال ابن حماد، ولما يئس من نفسه، عهد أن يدفن بين قبور المسلمين، ودفن بها في جملتهم، رحمه الله.
الأعيان والوزراء والأماثل والكبرا

عتيق بن زكريا
بن مول التحبيبي
قرطبي الأصل، يمت إلى الإمارة النصرية بقربى صهر، يكنى أبا بكر.
حالهكان شهماً جرياً مقداماً، جهورياً، ذا أنفة وشارة، مليح التجند، ظاهر الرجولية، معروف الحق، نبيه الولاية، فصيح اللسان، مطبوعاً، ذكياً، مؤثراً للفكاهة. ولى القيادة بمدينة وادي آش، عقب الريس المنتزى بها، ثم عزل عنها بسعاية رفعت فيه إلى ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الحكيم، فساء ما بينهما لذلك، وأعمل عليه التدبير، بمداخلة الأمير نصر، وإغرايه بالأمر. فتم له التوثب على ملك أخيه، وخلعه يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعماية، وقتل الوزير ابن الحكيم بين يديه، وانتهبت منازله، واستقل بعد بالتدبير والوزارة، وحصل من صنايع الحاين ومتوقعي الضغط، على مال عريض، وقام بوظيف الوزارة محذور الشبا، مرهوب المدية، مسنو الفتكة، فلم ينشب أن عين للرسالة إلى باب السلطان ملك المغرب، وسد باب الإياب لوجهته، وأقام بالعدوة، تحت الحظوة، مشاراً إليه في وجوه الدولة، وزير المداخلة والرتبة. وقد كان في ريان حداثته، لحق بطاغية الروم، وركب في جملته، وعلقته جارية من بنات زعماء الروم، لفضل جماله، وزين شبيبته، ففر بها تحت حماية سيفه، ولحق ببلاد المسلمين، وكانت من أهل الأصالة والجمال، فاتصل بمحلة أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق، وكان جاز إلى الأندلس غازياً، فاستخلصت منه لمزية الحسن، واستقرت بقصر السلطان، حظية لطيفة المحل، وجد أثر رفدها وانتفع، هو وبنوه بعايد جاهها، وقد هلك السلطان. وقامت لمن خلفه مقام الأمومة، فنالوا بها دنيا عريضة، وباشر بالمغرب أهوالاً، وخاض في فتن، إلى أن أسن، وقيدته الكبرة، واستولت على بصره الزمانة، ولما ولي الوزارة ولده على عهد سادس الأمراء من بني نصر، استقدمه في ربيع الثاني من عام تسعة وعشرين وسبعماية، فقدم شيخاً، قد استثن أديمه واحقوقب، ومسحة الظرف واللوذعية، تتعلق منه بطلل بايد. ثم اقتضى تقلص ظل الولاية عن ولده، انصرف جميعهم إلى العدوة، فكان ذلك في رجب أو أول شعبان من العام، وبها هلك.
وفاتهتوفي بمدينة فاس رابع محرم عام ثلاثين وسبعماية. وكان كثيراً يتمثل بقول الشاعر:

نصحت فلم أفلح وخانوا فأفلحوا ... فأنزلني نصحي بدار هوان
فإن عشت لم أنصح وإن مت فالعنوا ... دون النصح من بعدي بكل لسان
أخبرني بذلك شيخنا أبو الحسن بن الجياب وغيره.
عمر بن يحيى بن محلى البطوييكنى أبا علي
حالهكان يمت إلى السلطان ملك المغرب رحمه الله، بالخؤولة، وله جرأة وجرم واضطلاع بالمهمة، إلى نكراء وخفوف إلى الفتنة، واستسهال العظيمة، ولما تصيرت مالقة إلى إيالة السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق من قبل رؤسايها من بني إشقيلولة، استظهر عليها من عمر هذا بحجاج رجاله، وقدمه بقصبتها، وجعل لنظره جيشاً أخشن، يقوده رجل من كبار وصفانه. وداخل السلطان ثاني الملوك من آل نصر، عمر بن محلى هذا بوساطة أخيه طلحة السابق إلى إيالته، فأحكم بينهما صرف مالقة إليه، وانتقال عمر إلى خدمته، معوضاً عن ذلك بمال له بال، مسلماً إليه حصن شلوبانية، ولأخيه طلحة مدينة المنكب، على أرزاق مقررة، وأحوال مرتبة مقدرة. فتم ذلك، وتحمل ثقات السلطان بقصبة مالقة ليلاً مع عمر، واستدعي للغداة قايد الجيش ومثله من الوجوه، مورياً بمعارضتهم، فسقط الغشاء بهم على سرحان، وأخذهم اعتقاله، رهينة استخلص بها من كان من عياله بالعدوة، وجاء بها جلواة عارية، أعربت عن لؤمه وخبث أمانته، وانتقل له موفى له بعهده، فحل بحصن شلوبانية منتصف عام سبعة وستني وسبعماية، حسبما كتب لي بعض الشيوخ من مسني بقية أهله، واحتل أخوه طلحة بمدينة المنكب، ولم يلبث أن خرج عنها للسلطان معوضاً بالمال، وأعمل الانصراف إلى الحج. وأقام عمر بشلوبانية وما يليها من العمالة، مظهراً للطاعة تمام العام المذكور، وفسد ما بينه وبين السلطان المذكور، وظهر الخلاف وأخيفت الطرق،وتحرك السلطان إلى منازلته لأشهر ثلاثة من خلافه، وحاصره أياماص شد فيها منخقه، فلما رأى عزمه، خاطب سلطانه، الذي نزع عنه أمير المسلمين أبا يوسف، وعرض الحصن عليه، فبادر إليه بالأسطول، فلما احتل بمرسى حصنه، واتصلت به يده، ونشرت عنده بنوده، أفرج عنه السلطان، وأنبت طعمه فيه، وصرف وجهه إلى حضرته، وبدا لعمر في أمره، فصرف الأسطول متعللاً ببعض الأعذار، وأقام على سبيله، واتصل ذلك بالسلطان، فرتب عليه الحصن، وضيق السبل، وتحرك في صايفة العام إلى منازلته في عدة عظيمة، وحاصره ورماه بالمجانيق، وتتبع بها مجاثمه، فأعياه الصبر،وأعمل الحيلة بإظهار الإنابة، وعرض على السلطان التخلي عن الحصن، وطلب منه أن يوجه لقبضه وزيره، وأحظى الرؤساء لديه، وصاحب بنده، فوجههم السلطان في طايفة من حاشيتهم، وقد أكمن لهم عمر بمعرجات الطريق، بين يدي باب القلعة. فلما توسطوا الكمنا، وبرز عمر ليسلم عليهم، ثار بهم رجاله الأسودة وغيرهم، وقبضوا عليهم بمرأى من السلطان، وأدخلوهم الحصن وعاد السلطان إلى قتاله، فتوعد بقتلهم، وجعلهم بأعلى السور، ورمى عليه بحجر، فطرح أحدهم الحين، وعلا صراخهم يسترحمون السلطان، فكف عنه، وانصرف مكظوماً. ولأيام وقعت المهادنة على تخليه عن شلوبانية في جملة شروط صعبة، منها العقد له على بنت السلطان المسماة بشمس، وانتقاله إلى مدينة المنكب، فتم ذلك في وسط ثمانية وستين بعده، وتمادت المهادنة شهوراً أربعة، ثم ثاب خلافه، وضيقت عليه الحصص المرتبة، وخرج للسلطان عن منكب على مال وعهد، وصرف بعد وجهه إلى سلطانه، وتطارح عليه، وهو بجزيرة طريف،بعد أن أخذ أمانه، زعموا، وقد كان أخوه طلحة سبق إليه، فاعتقل يسيراً. ثم حل اعتقاله إيثاراً للعفة، ورعياً للمتات. ولما توفي السلطان أبو يوسف، اضطره حاله، وآل أمره إلى العود إلى الأندلس، وبها الأشياخ من بني عبد الله بن عبد الحق، مطالبو أبيه بدم عمهم، سبقوا مقدمه على السلطان بإيعاز منه، وقد نزل بقرية أرملة على وادي أفلم، واعتصم منهم ببرج فقاتلوه واستنزلوه فقتلوه، فانقضى أمره على هذه الوتيرة، والبقاء لله سبحانه
عامر بن عثمن

بن إدريس بن عبد الحق
شيخ الغزاة بالأندلس، وابن شيخها، يكنى أبا ثابت، أجري مجرى الأصليين لولادته بالأندلس أوليته. تأتي في اسم أبيه.
حاله

كان رييساً جليلاً، فذاً في الكفاية والإدراك، نسيج وحده في الدهاء والنكراء، مشاراً إليه في سعة الصدر، ووفور العقل، وانفساح الذرع. وبعد الغور، باسلاً مقداماً، صعب الشكيمة على الهمة، لين الكلمة، ريش جناح العز، وافر أسباب الرياسة، مجرباً، محتنكاً، عارفاً بلسان قومه وأغراضهم. جاعلاً جفوات أخلاقهم دبر أذنه، مهيباً على دماثة وإلحاح سقام. تولى الأمر بعد أبيه فقام به أحمد قيام، مسلماً لبقية من مسني القرابة وأكابر الإخوة، اعترافاً بالفضل، وإيثاراً لمزية العتاقة على الهجنة، فحل أرفع المحال. وتبنك على حال الضنا نعيماً، وغزا غزوات شهيرة، إلى أن تناسى الأمر، وكبا بهم الجد، وحملهم قرب مخيفهم بالثارالمنيم ملك المغرب، لما اقتحم فرضة المجاز إلى الجهاد على المبايتة ومراسلة الطاغية، فساءت القالة، وفسد ما بينهم وبين سلطانهم، وأعمل عليهم التدبير.
نكبته

ثبت في الكتاب المسمى بطرفة العصر: ولما تتصلت ليدي المسلمين، وفصل أميرهم من ملك المغرب، تنمر أضدادهم النماوؤون له المعاندون قدرة الله فيه، المتهيئون إلى القاصمة بمشاحنته، فأظهروا النفور والحذر،وكانوو قد داخلوا ملك قشتالة وواعدوه اللحاق به، إن راعهم رايع، ووصلتهم مخاطبته بقبولهم. فلما تخلف المسلمون عنا للحاق به، نسب لهم الفشل والتكاسل، فانطلقت الألسن، ولمت القلوب، وتشوف إلى الفتك بهم، وهم عصابة بأسها شديد، أشهروا فروسية ونجدة وأتباعاً، فعظم الخطب، وأعملت الشورى في أمرهم، وصرفت الحيل إلى كف عاديتهم، ومعالجة أمرهم، فتم ذلك. ولما كان يوم السبت التاسع والعشرون من ربيع الأول، قعد لهم السلطان على عادته، ووجه عنهم في غرض الاستشارة في حال السفر إلى إمداد ملك المغرب، وقد عبر ونازل جزيرة طريف،وفاوضهم فيما عليه الناس من إنكار التلوم، ثم قام السلطان من مجلسه، وثارت بهم الرجال، فأحيط بهم، ونزعت سيوفهم عن عواتقهم، وطارت الخيل في ضم من شذ عنهم، فتقبض على طايفة من أعلامهم، كانوا بين غر يباشر قنصاً، أو مفلت لم يجد مهرباً، وطارت الكتب إلى مالقة في شأن من بها منهم، فشملهم الاعتقال، ثم نقلوا إلى مدينة المنكب، فجعلوا في مطبق الأسرى بها، إبلاغاً في النكال، وتناهياً في المثلة، فلم تجر عليهم مصيبة أعظم منها، لاضطرارهم إلى قضاء حاجة الإنسان برأي عين من أخيه، خطة خسف سيموها، مع العلم بنفور نفوسهم عن مثلها، وفيهم صدور البيت وأعلامه، كأبي ثابت المترجم به، وأخيه كبيره إبراهيم، وابن عمهم زين المواكب، وقريع السيوف، وعروس الخيل، حمو بن عبد الله، وسواهم، وقانا الله شر الهلكات، وأشرأب مخيفهم للسلطان صاحب المغرب،وولى الثرة، إلى صرفهم إليه، وقد استوجب من ملك الأندلس الملاطفة لالتفاته لسيئ البرد، واقتحامه باب القطر. وأخفق السعي، وضن بهم موقع النقمة عن إسلامهم إليه، سيرة أحسنها في جنسهم من أولى الجهالف، فأجلاهم عما قريب في البحر إلى إفريقية، فاستقروا ببجاية، ثم استقدموا إلى تونس تحت إرصاد ورقبة، وأخفر فيهم ملكها الذمة، وهم لديه، فوجههم على بعد الدار، ونزوح المزار، إلى السلطان صاحب المغرب، مصحبين بشفاعة فيهم، كانت قصارى ما لديه، فاستقروا في الجملة تحت فلاح وكفاية، لا تلفت إليهم عين، ولا يتشبث بذمل حظوتهم أمل. ثم نكبوا بظاهر سبتة نكبة ثقيلة البرك، مغارة البرك الحمل، وأودعوا شر السجون بمدينة مكناسة، فأصبحوا رهن قيود عديدة، ومسلحة مرتبة، جر ذلك عليهم ذرة من القول في باب طموحهم إلى الثورة، وعملهم على الانتزاء بسبتة، الله أعلم بحقه من مينه. ولما صير الله ملك المغرب إلى السلطان، أمير المؤمنين أبي عنان، واضطره الحال إلى الاستظهار بمثلهم، انتشلهم من النكبة، وجبرهم بعد الصدعة، وأعلق يد كبيرهم المترجم به بعروة العزة، واستعان بآرائه على افتراع الهضبة، فألفى منه نقاباً قد هذبته التجربة، وأرهقته المحنة، وأخلصته الصنيعة، فسل منه سيفاً على أعدايه، وزعموا أنه انقاد إلى هوى نفسه، واستفزته قوة الثرة، ولذة التشفي، وذهب إلى أن يكل للسلطان ناكبه. المجاراة صاعا بصاع، فانتدب إلى ضبط ما بالأندلس من عمالة راجعة إلى ملك المغرب، فانقلب يجر وراءه الجيش، ويجنب القوة، فقطع به عن أمله القاطع بالآمال، وأحانه الله ببعض مراحل طريقه مطعوناً لطفاً من الله به، وبمن استهدف إلى النصب بمجادته. وهو سبحانه مليء بالمغفرة عن المسرفين، سبحانه
وفاتهفي الأخريات من عام تسعة وأربعين وسبعماية.
علي بن بدر الدين

بن موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق
يكنى أبا الحسن.
حاله

هذا الرجل نسيج وحده في الفضل والتخلق، والوفاء، ونصح الجيب، وسلامة الصدر، وحسن الخلق، راجح العقل، سري الهمة، جميل اللقاء، رفيع البزة، كريم الخصال، يكتب ويشعر، ويحفظ ويطالع غرايب الفنون، صادق الموقف، معروف البسالة، ملوكي الصلات، غزل، كثير الفكاهة، على تيقور وحشمة، قدمه السلطان شيخ الغزاة بمدينة وادي آش، فلما وقعت به المحنة، وركب الليل مفلتاً إليها. اتفق لقاؤه إياه صباحاً على أميال منها، وجاء به، وأدخله المدينة على حين غفلة من أهلها، فاستقر بقصبتها وما كاد، وأخذ له صفقة أهلها، وشمر في الذب عنه تشميراً نبا فيه سمعه عن المصانعة، ودهيه عن الجملة، وكفه عن قبول الأعواض، فلم يلف فيه العدو مغمزاً، ولا المكيدة معجماً، ولا استأثر عنه بشيء مما لديه، إلى أن كان انتقال السلطان عنها إلى المغرب، فتبعه مشيعاً إلى مأمنه، فتركها غريبة في الوفاء، شاع خبرها وتعوطي حديثها، على حين نكر المعروف، وجحدت الحقوق، وأخوت بروق الأمل. ثم قلق المتغلب على الدولة بمكانه، فصرفه إلى العدوة الغربية، فاستقرت به الدار هنالك، في أوايل عام ثلاثة وستين أو أواخر العام قبله.
وخاطبته من مدينة سلا لمكان الود الذي بيني وبينه بما نصه:
يا جملة الفضل والوفا ... ما بمعاليك من خفاء
عندي بالود فيك عقد ... صححه الدهر باكتفاء
ما كنت أقضي علاك حقاً ... لو جيت مدحاً بكل فاء
فأول وجه القبول عذري ... وجنب الشك في صفاء
سيدي، الذي هو فضل جنسه، ومزية يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من الله ببدره، أفتخر منه بشمسه، رحلت عن المنشأ والقرارة، ومحل الصبوة والغرارة، فلم تتعلق نفسي بذخيرة، ولا عهد حيرة خيرة، كتعلقها بتلك الذات، التي لطفت لطافة الراح، واشتملت بالمجد الصراح، شفقة أن تصيبها معرة، والله يقيها ويحفظها ويبقيها، إذ الفضايل في الأزمان الرذلة غوامل، والضد عن ضده منحرف بالطبع ومايل. فلما تعرفت خلاص سيدي من ذلك الوطن، وإلقاه وراء الفرضة بالعطن، لم تبق لي تعلة، ولا أجرضتني علة، ولا أتي جمعي من قلة. فكتبت أهنئ نفسي الثانية، بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمن باليد الطولى، بالحمد لله الذي جمع الشمل بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مبدل لكلماته، وإياه أسئل أن يجعل العصمة حظ سيدي ونصيبه، فلا يستطيع حادث أن يصيبه، وأنا أحدج عن بث كمين، ونصح أنابه قمين، بعد أن أسبر غوره، وأخبر طوره، وأرصد دوره، فإن كان له في التفريق أمل، وفي ركب الحجاز ناقة وجمل، والرأي فيه، قد نجحت منه نية وعمل، فقد غني عن عوف والبقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ هذه الجمرات برمي الجمرات، وتأنس بوصل السري، ووصال السراه، وأناله إن رضي أرضى مرافق، ولو أغري به خافق، وإن كان على السكون بناؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمر له ما بعده، والله يحفظ من الغير سعده. والحق أن تحذف الأبهة وتختصر، وتحفظ اللسان وبغيض البصر، وينخرط في الغمار، ويخلى عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له، ممن لا يقبل الله قوله ولا عمله، فلا يكتم سراً، ولا يتطرق من الرجولة زمراً، ورفض الصحبة زمام السلامة، وترك النجاة علامة، وأما حالي فما علمتم ملازم كن، ومبهوظ تجربة وسن، أزجي الأيام، وأروم بعد التفرق الالتئام، خالي اليد، مالي القلب والخلد، بفضل الواحد الصمد، عامل على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسين وآمل في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور، والخلوص المشهور، وما أطلت في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم، إطالتي فيما يختص بكم من موالاته. وبذل مجهود القول والعمل في مرضاته. وأما ذكركم في هذه الأوضاع، فهو مما يقر عين المجادة، والوظيفة التي تنافس فيها أولو السيادة. والله يصل بقاءكم، وييسر لقاءكم والسلام.

وهذا الفاضل ممن جال فيه لاختيار الإمارة أيام مقامه بالعدوة الغربية، لذياع فضله، وكرم خلاله. وقفل إلى الأندلس، عند رجوع الدولة، فجنى ثمرة ما أسلفه، وقدم شيخ الغزاة بمالقة. ثم نقل إلى التي لا فوقها، من تقديمه شيخ الغزاة بحضرته، منة لا على ميادين حظوته، مقطعاً جانب تجلته، فبلى الناس على عهد ولايته الفتوح الهنية، والنعم السنية. ولما قفل السلطان أيده الله، من فتح قاعدة جيان، أصابه مرض، توفي منه في ثالث صفر من عام تسعة وستين وسبعماية. فتأثر الناس لفقده، لما بلوه من يمن طائره، وحسن موارده، ومصادره. وكان قد صدر ه المنشور الكريم، من إملائي، بما ينظر في اسم المؤلف، في آخر هذا الديوان.
علي بن مسعود

بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود المحاربي
الوزير، يكنى أبا الحسن.
حالهكان من أعيان أهل الحضرة، وذوي الهيآت والنباهة من بيوتها، أيدا، حسن الشكل، جهير الصوت، فصيح اللسان، ثرثاره، جيد الخط، حلو الدعابة، طيب النفس، لبقاً، ذكياً، أديباً، فاضلاً، لوذعياً، مدركاً. وزر للسلطان أبي الوليد، نزع إليه لما دعا إلى نفسه بمالقة من إيالة مخدوعه بعد اصطناعه، وصرف وجهته إلى جهته، فتغلب على هواه، وأشركه في الوزارة، مع القايد الوزير أبي عبد الله بن أبي الفتح الفهري، وقد مر ذكره، فأبر عليه بمزيد المعرفة بالأمور الاشتغالية، وجماح عنان اللسان والجرأة، في أبواب المداخلات الوزارية. فلم يزل يضم أذيال الخطة، ويقلصها عن قسيمه، إلى أن لم يبق له منها إلا الاسم إلى حين وفاته.
وفاتهواستمرت حاله على رسمه من القيام بالوزارة إلى أن فتك بسلطانه قرابته بباب داره كما تقدم في اسم السلطان أبي الوليد في حرف الألف فكر أدراجه وهاج بالباطشين، وسل سيفه، يدافع عنه، فمالت إليه الأيدي، وانصرفت إليه الوجوه، وأصيبت بجراحات مثخنة، أتى عليه مها جرح دماغي لأيام. وعلى ذلك فلم يبرح من سدة السلطان، حتى تعجل ثأره، وشمل السيف قتلته. وأخذ البيعة لولده. وكانت وفاته في السابع والعشرين لشعبان من عام خمسة وعشرين وسبعماية. ودفن بباب إلبيرة. وكان الحفل في جنازته عظيماً، والثناء عليه كثيراً، والرحمة له مستفيضة.
ورثاه شيخنا أبو الحسن بن الجياب رحمه الله بقوله:
أيا زفرتي زيدي ويا عبرتي جودي ... على فاضل الدنيا على ابن مسعود
على الشامخ الأبيات في المجد والعلا ... على السابق الغايات في البأس والجود
على غرة العصر التي جمعت إلى ... مهابة مرغوب طلاقة مودود
على من له في الملك غير منازع ... وزارة ميمون النقيبة محمود
على من إذا عد الكرام فإنه ... بواجب حق الفضل أول معدود
ومن كعلي ذي الشجاعة والرضا ... لإصراخ مذعور وإيواء مطرود
ومن كعلي ذي السماحة والندا ... لإسباغ إنعام وإنجاز موعود
ومن كعلي للوزارة قايماً عليها ... بتصويب عليها وتصعيد
ومن كعلي للإدارة سالكاً لها ... نهج تليين مشوب بتشديد
ومن كعلي للسياسة منفذاً ... أوامر تنفيذ وأحكام توطيد
ومن كعلي في رضا الله حاكماً ... بإنجاد معدوم وإعدام موجود
ومن كعلي واصل الرحم التي ... تمت بتقريب له أو بتبعيد
ومسدي الأيادي البيض بدأ وعودة ... مرددة تمحو دجا الثوب السود
أيا كافي السلطان كل عظيمة ... بآراء تسديد وأعمال تمهيد
ويا حامي الملك المشيد بناؤه ... بصولة محذورة وغرة مقصود
ويا كافل الأيتام يجري عليهم ... جراية نعمى بابها غير مسدود
ذكرتك في نادي الوزارة صادعاً ... بأمر مطاع حكمه غير مردود
كرتك في صدر الكتيبة قائماً ... بخدمة مولى بعد طاعة معبود

ذكرتك في المحراب والليل دامس ... تردد آي الذكر أطيب ترديد
ودمعك مرفض وقلبك واجب ... لخشية يوم بين عينيك مشهود
عفا على الدنيا ولا در درهماً ... فما جمعها إلا رهين بتبديد
فمهما حلت منها لديك مسرة ... ففي إثرها فارقب مرارة تنكيد
ألهفاً على الوجه الجميل معطراً ... بدار البلى رهين الأساود والدود
وعهدي به مستبشراً ومبشراً ... بتفريج مكروب وراحة مجهود
لأظلمت الدنيا علي لفقده ... فها أنا أرعاها بمقلة مرصود
وقلص من ظل الرجا فراقه ... فظل رجائي بعده غير ممدود
وكم سبحت فلك المنا في بحارها ... مواخر فاليوم استوت على الجود
وهون عندي كل خطب مصابه ... فبعد علي لست أبكي لمفقود
ولا أدعي أني وفيت بعهده ... فما بالردى عار فكل امرئ مود
ولا سيما إذا مات ميتة عزة ... بعيداً شهيداً ماضياً غير رعديد
وفياً لمولاه مطيعاً لربه وقد ... بطلت ذعراً رقاب الصناديد
فبشرى له أن فاز حياً وميتاً ... بميتة مفقود وعيشة محسود
عليه سلام الله ما ذر شارق ... وما صدعت ورقاء في فرع أملود
وجادت ثرى اللحد الزكي سحايب ... مجددة الرحمى بأحسن تجديد
علي بن لب

بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي
غرناطي، قلعي
حالهكان ظريفاً، مليح الحظ، حار التندير، عيناً من عيون القطر ووزرائه
شعرهحدث أبو الحسن بن سعيد، قال، تمشينا معاً أيام استيلاء النهب والتهدم، على معظم ديار مراكش بالفتنة المتصلة، قال، فانتهينا إلى قصر من قصور أحد كبرايهم، وقد سجدت حيطانه، وتداعت أركانه، وبقايا النهب والأصبغة والمقربسات، تثير الكمد، ولا تبقي جلداً لأحد، فوجدنا على بعضها مكتوباً بفحم:
ولقد مررت على رسوم ديارهم ... فبكيتها والربع قاع صفصف
وذكرت مجرى الجور في عرصاتهم ... فعلمت أن الدهر منهم منصف
فتناول أبو الحسن بياضاً من بقية جيار، وكتب تحتها ما نصه:
لهفي عليهم بعدهم فمثالهم ... بالله قل لي في الورى هل يخلف
من ذا يجيب منادياً لوسيلة ... أم من يجير من الزمان ويعطف
إن جار فيهم واحد من جملة ... كم كان فيهم من كريم ينصف
توفي بمراكش سنة سبع وعشرين وستماية.
علي بن يوسف
بن محمد بن كماشة
القايد والوزير بين القتادة والخرط، يكنى أبا الحسن
أوليته

كان جده من المنتزين ببعض حصون الأندلس، طلياطيه، وخدم طاغية الروم ببعضها، وانخرط في جملته، يشهد بذلك مكتوبات تلقاها بشماله، ووراء ظهره، صانها حافده المترجم به، في خرقة من السرق لا يزال، يعرضها في سبيل الفخر، على من يصل إلى باب السلطان من رسل الروم. ولقد عرضها أيام سفارته إلى ملك قشتالة على وزيره شمويل اللبي اليهودي، وطلب تجديدها، فقال له هذا يتضمن خدمة جدك للسلطان مولاي جد مولاي السلطان بجملة من بلاد المسلمين، وفيها الشكر له والرعاية على ذلك، فاذهب أنت هذا المذهب، الذي ذهبه جدك، يتجدد لك ذلك إن شاء الله، فلما هلك ووري بين مدافن الروم، بعد أن علق زماناً على سور الحصن في وعاء، توفية لشرط لا أحققه الآن، ولحق ولده بباب السلطان، فتفيئوا ظل كفالته، ونشئوا في عداد صبيته، ولما صلحوا للاستعمال، استخدم منهم كبيرهم في العمل، فاستظهر به على حفزه بحمى ألمرية، وما إليها، فأثرى ورآه استغنى، وطالت مدة ولايته، واستعمل أخاه يوسف والد المترجم به، في القيادة، وكان رجلاً مضعوفاً، فاستمرت حاله إلى أن فقد بصره، وجنى عليه شؤم ولده، الجلا شيخاً زمناً. ثم عاد إلى الأندلس فتوفي بها، حسبما يذكر في إسميهما. وكانوا يتبجحون بنسبة إلى معن بن زائدة. طوق جدهم بتلك النسبة، بعض أولي التنفق والكدية، فتعللوا منها بنسيج العناكب، وأكذبوها بالخلق الممقوت، والبخل بفتات القوت، والتعبد لعبدة الطاغوت، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
حالههذا الرجل حسن الشكل، كثير الهشة، جيد الرياش، كثير التعلق والتوسل، لصقت بشجرات الدول سمغته، وثبت بأسبابها قراده، شديد الملاطفة لحجبة الأبواب، والمداخلة لأذيال الأمراء، متصامم على أغراضهم، مكذب لمحسوس جفوتهم، متنفق بالسعاية، متبذل في أسواق الخدمة، يسبق في الطيالس، ويلفظ الزبير، ويصرخ بالإطراء، ويولول بالدعاء، مدل في الأخونة، محكم في نفسه للنادرة التي تضحكهم، بذي مهذار، قليل التصنع، بعيد عن التسمت، أطمع خلق الله وأبخلهم بما لديه، وابعدهم في مهاوي الخسة، أما فلسه فمخزون، وأما خوانه فمحجوب، وأما زاده فممنوع محجور، وأما رفده فمعدوم العين والأثر. وأما ثوبه فحبيس التخت إلى يوم القيامة، قد جعل لكل فصل من فصول معاشه، ونفاضة مخاليه، وسور دوابه مؤنة ما. فالنخالة بينة المصرف، وللسرجين معين الجهة، وفتات المنديل، وقفة على فطور الغد، ودهن الاستصباح جار في التجلة والادخار مجرى دهن البلسان.
أخبارهفي هذا الباب مغربة، ولزمت كعبة المنحسة، وعلق في عنقه طاير الشؤم، فلم تنجح له وجهة، ولا سعدت له حركة، واستقر عند الكاينة على الدولة بباب السلطان بالمغرب، خاطباً في حبل الغادر، المتوثب على الملك، ومعيناً للدهر على الأحب الحق وولي النعمة. ثم بدا له في المقام بالمغرب أمناً واضطراباً. ولما رحل السلطان أبو عبد الله بن نصر المذكور، إلى طلب حقه، وقد أعتبه، سدد به رسم الوزارة في طريقه، كما اضطر صياد إلى صحبة كلب مخابت آماله، ولحقت به المشأمة، وتبر الجد، واشتهر ذلك، فعلقت به الشفقة، إلى أن خاطب السلطان بعض من يهمه أمره بهذه الأبيات:
كماشكم من أجله انكمش السعد ... إذا ما اطرحتم شومه نجز الوعد
ومن لم تكن للسعد في بدء أمره ... مخيلة نجح كيف ترجى له بعد
وتصريفه المشئوم فلتتذكروا ... وما قلت إلا بالتي علمت سعد

واقتضى أمره تبرماً به، أن صرف من رندة، وقد استقر أمره بها رسولاً إلى باب ملك المغرب، لأمور منها استخلاص ولده وإيصاله إليه. فتعذر القصد، وسدت الأبواب، وأزفت بدار المغرب عهد بذ الآزفة، وترىخى مخنق مرسله لخلو دسته منه، فثاب الرجاء وقرب الفتح، وساعد السعد مما طال منه التعجب. ولما بلغ خبر صنع الله، وإفاقة الأيام وجبر السلطان بدخول مالقة في طاعته، لحق به، وقد قلقت به الجوانب، وتنكرت الوجوه، وساءت لطيرته الظنون، فتوفر العزم على صرفه عن الأندلس في أوليات رمضان عام ثلاثة وستين وسبعماية، فقبض عليه، وصرف إلى البلاد الشرقية، وقد شرع في إغراء سلطان قشتالة بالمسلمين، وكان آخر العهد به، وذكروا أنه حج وقفل والعودة تتبعه، والنفوس لمتوقع شومه مكرهة، ورجي أن يكون ماء زمزم، وضوء النقع، أو أن مشاهدته الآثار الكريمة، تصلح ما فسد من حاله، فآب شر إياب ، وربما نبض له شريان من جده، الذي تقدم في خدمة النصارى ذكره. فأجاز البحر إلى ملك برجلونة، فجعل تقبيل كفه، لاستلام الحجر الأسود، وسيلة ثانية، وقربة مزلفة، والقول بفضل وطنه حجة صادقة، ثم قلق لخيبة قصده، وخلو يده، من الزقوم، الذي كان قد احتجنة للمهم من أمره، واستيلاء النحس على بيت سعده، فصرف وجهه المشوم إلى المغرب، فاحتل به، وجعل يطوق كل من اسلف له بدا الذام، ويشيع عنه سوء القيلة، ويجهر في المجتمعات والدكاكين، بكل شنيع من القول، بالغاً في ألفاظ السغيلة، أقصى مبالغ الفحش، لطف الله بنا أجمعين.
عثمن بن إدريس

بن عبد الله بن عبد الحق بن محيو
من قبيل بني مرين، يكنى أبا سعيد، شيخ الغزاة بجزيرة الأندلس على عهده
أوليتهجدج هؤلاء الأقيال الكرام، الذي يشترك فيه الملوك الغر من بني مرين بالعدوة، مع هؤلاء القرابة، المنتبين عنهم أضرار التراث، ودواعي المنافسات، عبد الحق بن محيو، وكان له من الولد إدريس وعثمن وعبد الله ومحمد وأبو يحيى ويعقوب، فكان الملوك بالمغرب من ولد يعقوب، وهؤلاء من ولد عبد الله، وإدريس ويعقوب ورحو. ولما قتل جدهم يعقوب، بيد ابن عمه عبد الحق بن يعقوب، أجفل أخواه ومن معهم، وانتبذوا، واستقروا بتلمسان، بعد أمور يطول شرحها. ثم اجتاز الشيخ أبو سعيد في جملة من اجتاز منهم إلى الأندلس، فنال بها العزة والشهرة.
حاله

كان رجل وقته جلالة وأصالة، ودهاء وشهرة وبسالة، مرمى لاختيار عتاقة وفراهة، واحد الزمن أبهة ورواء. وخلقاً ورجاحة، أيداً، عظيم الكراديس، طوالاً، عريض المنكب، أقنى الأنف، تقع العين منه على أسد عيص، وفحل هجمة، بعيد الصيت، ذائع الشهرة، منجب الولد، يحمي السرح، ويزين الدست. لحق بتلمسان مع زوج أمه وعمهن موسى بن رحو، عندما فروا من الجبل بأحواز ورغة، شاباً كما اجتمع، وأجاز البحر منها، وخدم مرتزقاً بها. ثم عاد إلى العدوة، برضاً من عمه السلطان بها. ثم فر عنه ولحق بالأندلس، واستقر بها،وولى خطة الشياخة العامة، وهي ما هي، من سمو الهضبة، وورود الرزق، وانفساح الإقطاع، فشارك وتبنك النعيم، وأقبل ما استظهر به على ما وراء مدينة سبتة، عند انتظامها في الإيالة النصرية. فشن الغارة، ودعا إلى نفسه، وخلا فطلب النزال، فغلبت غارته أحواز وادي سبو. ثم رجع أدراجه إلى الأندلس، وذمر السلطان أبا الوليد، منفق حظوته على طلب الملك، ففازت به قداحه، واستولى على الجم من ريق دنياه، وسل الكثير من ماله وذخيرته في أبواب من العبادة، والاسترضاء والاستهداء، ولما توفي، تضاعف لطف محله من ولده، إلى أن ساء ما بينه وبين مدبر أمره ابن المحروق، ونفر عنه، مؤاخذاً بألقيات، كانت سلماً إلى تجنبه، يحسب أن الافتقار إليه، يعبد له كل وعث. فاغتنم المذكور نفرته، واستبصر في الانتباذ عنه، مطيعاً دواعي الخور والرهبة، من شؤوب حاله، وأجلى الأمير عن رحيله وولده إلى ساحل ألمرية، موادعاً، مزمعاً الرحيل عن الأندلس، وارتاد الجهات، وراسل الملوك بالعدوة، فكل صم عن ندايه، وسد السبيل إليه، فداخل قوماً من مشيخة حصن أندرش حاضرة وطن الجباية، فاستولى عليه، وانتقل إليه بجملته، وراسل الطاغية، فتحرك إلى منازلة حصن وبرة من الحصون التاكرونية. ففازت به قداحه، واستعدي عم السلطان، وهو الرئيس أبو عبد الله بن فرج ابن نصر من تلمسان، فدعا إليه، وشملت الفتنة، وكانت بنه وبين جيش الحضرة وقايع، تناصف فيها القوم خطتي المساجلة إلى أن نفد فعوهد على التخلي عن الحصن، وصرف أميره إلى متبوئه الأقصى، وانتقاله إلى مدينة وادي آش، ليكون سكنه بها، تحت جرايات مقدرة، وذلك في شهر رمضان ثمانية وعشرين وسبعماية، وعلى تفية ذلك، عدا على منايه أميره، ففتك به، واستقدم الشيخ أبا سعيد فأعاده إلى محله، واستمرت على ذلك حياته إلى مدة حياته، إلى أن توفي في أخريات أيامه.
وفاتهولما نزل العدو ثغر أطيبة، ونهض جيش المسلمين إلى مضايقته، أصابه المر ض. ولما أشفي ونقل إلى مالقة، فكانت بها وفاته يوم الأحد ثاني ذي حجة من عام ثلاثين وسبعماية عن سن عالة تنيف على الثمانين سنة، ونقل إلى غرناطة، فووري بها، وبنيت عليه بنية ضخمة، وصار أمره إلى ولده، ونقش على قبره في الرخام: هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال الكماة، واحد الجلالة، ليث الإقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتايب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، وإمام الصفوف، القايم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، وقاصم الأعاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الإمام المجاهد الأرضي، البطل الباسل الأمضى، المقدم، المرحوم، أبي سعيد عثمن، ابن الشيخ الجليل، الإمام الكبير، الأصيل الشهير، المقدس، المرحوم أبي العلاء إدريس، ابن عبد الله بن عبد الحق. كان عمره ثمانياً وتسعين سنة، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله، وغدوة، حتى استوفى في المشهور. سبع ماية واثنتين وثلاثين غزوة، وقطع عمره جاهداً مجاهداً، في طاعة الرب، محتسباً في إدارة الحرب، ماضي العزايم في جهاد الكفار، مصادماً من تدفق التيار، وصنع الله له فيهم، من الصنايع الكبار، ما صار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السيار، حتى توفي رحمه الله، وغبار الجهاد طي أثوابه، وهو مراقب لطافية الكفار وأحزابه، فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه، واستأثر به، سعيداً مرتضاً، وسيفه على رأس ملك الروم منتضاً، مقدمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلاً عن نيته الصالحة، وتجارته الرابحة، فارتجت الأندلس لفقده، أتحفه الله رحمة من عنده، توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من عام ثلاثين وسبعماية.
القضاة الأصليون

عتيق بن أحمد

بن محمد بن يحيى الغساني
غرناطي، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الفرا، ويعرف عقبة ببني الوادي آشي، وقد مر ذكر ولده أبي الفرج، وينبز بقرنيات.
حالهحدثني أبي رضي الله عنه، وكان صديقاً لأبيه، أنه كان من أهل الجلالة والفضل، حسن السمت، عظيم الوقار، جميل الرواء، فاضلاً، حسن العشرة، وقال القاضي ابن عبد الملك كان جامعاً لفنون من المعارف من معروف الفضل في كل ما يناول من الأمور العلمية، وقيد كثيراً، وعني بالعلم العناية التامة، واستقضي بالمنكب، وعرف في ذلك بالعدالة والنزاهة.
تواليفهصنف نزهة الأبصار في نسب الأنصار، ونظم الحلي في أرجوزة أبي علي، يعني ابن سينا.
شعرهقال ومما نظمته ووجهته به صحبة رسالتين:
يا راكباً يبغي الجناب الأشرفا ... ومناه أن يلقى الكريم المسعفا
عرج بطيبة مرة لترى بها ... علمي قبول رحمة وتعطفا
وإذا حللت بها فقبل تربها ... وارغب جلالهم عسى أن يسعفا
وأسل دموعك رغبة وتضرعاً ... وأطل بها عند التضرع موقفا
واذكر ذنوبك واعترف بعظيمها ... فعسى الذي ترجو له أن يعطفا
واجعل شفيعك إن قصدت عناية ... قبراً تقدس تربة وتشرفا
قبر حوى النور المبين ونوره ... يهدي به سبل السلام من اقتفا
قبر به الهاشمي محمد أبهى ... الأنام سناً وأوفى من وفا
خير الورى علم التقى شمس الهدى المنتقى والمجتبا والمصطفا
سلم عليه وخصه بتحية ... واقرأ عليه من السلام مضاعفا
واذكر هديت أخا البطالة عمره كم نقض العهود وأخلفا
ولكم تيقن بالدليل فماله ... ركب العناد لجاجة وتعسفا
وعصى فأسلم للقطيعة والجوى ... حق على من خان أو لا يعرفا
هل للعفو تنفح نحوه يوماً ... فيضحى بالرضا متعرفا
وأعد حديث مشوق قلب عنده ... من لم يذب شوقاً له ما أنصفا
إخبره عن حبي وطول تشوقي ... تفديك عطفة نفسي مخبراً ومعرفا
وتشك من جاء إليه فإن لي ... نفساً تسوفني المتاب تسوفا
مولده: بغرناطة في ذي حجة خمس وثلاثين وستماية.
وفاتهذكر أنه كان حياً سنة خمس وثمانية وستماية.
علي بن محمد بن توبةيكنى أبا الحسن
حالهكان من العلماء الجلة الفقهاء الفضلاء. ولي قضاء غرناطة لباديس ابن حبوس، وعلى يديه كان عمل منبر جامعها، وكان عمله في شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة. وكان من قضاة العدل، وإليه تنسب قنطرة القاضي بغرناطة، والمسجد المتصل بها في قبلتها. وكان كاتبه الزاهد أبا إسحق الإلبيري، وفيه يقول:
بعلي بن توبة فاز قدحي ... وسمت همتي على الجوزاء
فهنياً لنا وللدين قاض ... مثله عالم بفضل القضاء
يحسم الأمر بالسياسة والعدل ... كحسم الحسام للأماء
لو أنا سيرناه قال اعترافا ... غلط الواصفون لي بالذكاء
أو رأى أحنف وأكبر منه ... حلمه ما انتموا إلى الحلماء
أو رأى المنصفون بحر نداه ... جعلوا حاتماً من البحر لاء
هو أوفى من الشمول عهداً ... ولما زال مغرماً بالوفاء
وحيا المزن وحيا أخاه ... أهملت كفه بوبل العطاء
يشهد العالمون في كل فن ... أنه كان كالشهاب في العلماء
وقضاة الزمان أرض لديهم ... وهو من فوقهم كمثل السماء
لتعرضت مدحه فكأني ... رمت بحراً مساجلاً بالدلاء
فانا معجم على أن خيلي ... لا تجاري في حلبة الشعراء
لكساني محبراً ثوب فخر ... طال حتى حررته من وراء
ولو أنصفته وذاك قليل ... كان خدي لنعله كالحذاء
فأنا عبده وذاك فخاري ... وجمالي بين الورى وبهاء
وثناء وقف عليه وشكري ... ودعائي له بطول البقاء

علي بن عمر
بن محمد بن مشرق بن محمد بن أضحى بن عبد اللطيف بن الغريب بن يزيد بن
الشمر بن عبد شمس بن الغريب الهمداني
والغريب بن يزيد هو أول مولود ولد للعرب اليمانيين بالأندلس يكنى أبا الحسن.
ولي غرناطة. وكان من أهل العلم والفهم، والمشاركة في الطب، والكفاية الجيدة، والشعر في ذروة همدان، وذوايبهما، حسن الحظ، كريم النفس، جواد بما يماري، عطاياه جزلة، ومواهبة سنية، وخلقه سهلة، كثير البشاشة، مليح الدعابة، موطأ الأكناف، على خلق الأشراف والسادة.
مشيختهروي بألمرية عن القاضي أبي محمد بن سمحون وبه، تفقه. وقرأ الأدب على ابن بقنة، وعلى الإمام الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن الباذش، وسمع الحديث على الحافظ أبي بكر بن غالب بن عبد الرحمن ابن عطية وغيره.
شعرهمن شعره يخاطب الوزير ابن أبي ويعتذر إليه، وكان الفقيه أبو جعفر المذكور، قد خاطبه شافعاً في بعض الأعيان، فتلقى شفاعته بالقبول، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصراً، فكتب إليه:
ومستشفع عندي بخير الورى ... عندي وأولاهم بالشكر مني وبالحمد
وصلت فلما لم أقم بجزايه ... لففت له رأسي حياء من المجد
وكتب يخاطب أبا نصر بن عبد الله، وقد كان أبو نصر خاطبه قبل ذلك:
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر ... سريع كرجع الطرف في الخطرات
فأعربت عن وجد كمين طويته ... بأهيف طاو فاتر اللحظات
غزال أحم المقلتين عرفته ... نحيف مني للحسن أو عرفات
رماك فأصمى والقلوب رمية ... لكل كحيل الطرف ذي فتكات
وظن بأن القلب منك محصب ... فلباك من جنابه بالجمرات
تقرب بالنساك في كل منسك ... وضحى غداة النحر بالمهجات
وكانت له جيان مثوى فأصبحت ... ضلوعك مثواه بكل فلات
يعز علينا أن تهيم فتنطوي ... كبيباً على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للناس في الحب فدية ... فديناك بالأموال والبشرات
وخاطب أحد أوليائه شافعاً في رجل طلق امرأته، ثم علقت بها نفسه، فلم تسعفه، وكتب إليه:
ألا أيها السيد المجتبا ... ويا أيها الألمعي العلم
أتتني أبياتك المعجزات ... بما قد حوت من بديع الحكم
ولم أر من قبلها بابلاً ... وقد نفثت سحرها في الكلم
ولكنه الدين لا يشترى ... بنثر ولا بنظام نظم
وكيف أبيح حماً مانعاً ... وكيف أحلل ما قد حرم
ألست أخاف عقاب الإله ... وناراً مؤججة تضطرم
أأصرفها طالقة بتة ... على أنوك قد كعني واجترم
ولو أن ذاك الغبي الخمول ... تثبت في أمري ما ندم
ولكنه طاش مستعجلاً ... فكان أحق الورى بالندم
ومن شعره أيضاً قوله رحمه الله:
يا عليماً بمضمرات القلوب ... أنا عبد مثقل بالذنوب
فاعف عني وتب علي وفرج ... ما أنا فيه من أليم الكروب
حالما أشتكي سواك طبيب ... كيف أشجي به وأنت طبيب
أنا ممن دعا قريب مجيب ... فأرح ما بمهجتي عن قريب
تواليفهقال أبو القاسم بن خلف الغافقي، حدثني عنه الفقيه أبو خالد ابن يزيد بن محمد وغيره بتواليف، منها كتاب قوت النفوس، وأنيس الجليس وهو كتاب حسن، ضمن فيه كثيراً من شمايل النبي عليه الصلاة والسلام.
توفي بغرناطة في سنة أربعين وخمسماية، وهو يحاصر الملثمين بقصبة غرناطة حسبما ثبت في اسم ابن هود أحمد.
ومن الطاريين والغرباء
عثمن بن يحيى
بن محمد بن منظور القيسي
من أهل مالقة، يكنى أبا عمرو، ويعرف بابن منظور، الأستاذ القاضي من بيت بني منظور الإشبيليين أحد بيوت الأندلس المعمور بالنباهة.
حاله

كان رحمه الله صدراً في علماء بلده، أستاذاً ممتعاً من أهل النظر والاجتهاد والتحقيق، ثاقب الذهن، أصيل البحث، مضطلعاً بالمشكلات، مشاركاً في فنون، من فقه وعربية، برز فيهما، إلى أصول وقراءات وطب ومنطق. قرأ كثيراً، ثم تلاحق بالشادين، ثم غبر في وجوه السوابق. قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار، ولازم الأستاذ أبا محمد بن أبي السداد الباهلي، وتزوج ابنة الفقيه أبي علي بن الحسن، فاستقرت عنده كتب والدها، فاستعان بها على العلم والتبحر في المسايل، وقيد بخطه الكثير، واجتهد وصنف، وأقرأ ببلده، متحرفاً بصناعة التوثيق، فعظم به الانتفاع، وقعد للتدريس خلفاً للراوية أبي عثمن بن عيسى في شوال عام تسعة وسبعماية وولي القضاء ببلش وقمارش، وملتماس، ثم ببلده مالقة، وتوفي قاضياً بها. لقيته، وانتفعت بلقايه، وبلوت منه أحسن الناس خلقاً، وأعذبهم فكاهة.
شعرهوكان قليلاً ما يصدر عنه، كتب على ظهر الكتاب الذي ألفه للوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، مقتدياً بغيره من الأعلام في زمانه:
قد جمع الحكم وفصل الخطاب ... ما ضمه مجموع هذا الكتاب
من أدب غض ومن علية ... تسابقوا للخير في كل باب
فجاء فذاً في العلى والنهى ... ومنتقي صفو لباب اللباب
ألفه الحبر الجليل الذي ... حاز العلا إرثاً وكسباً فطاب
تواليفهألف كتاب اللمع الجدلية في كيفية التحدث في علم العربية. وله تقييد في الفرايض حسن، سماه، بغية المباحث في معرفة مقدمات الموارث، وآخر في المسح على الأنماق الأندلسي.
وفاتهتوفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين لذي حجة من عام خمسة وثلاثين وسبعماية، ولم يخلف بعده مثله.
علي بن أحمد

بن الحسن المذحجي
من أهل حصن ملتماس، وابن وزيره الفقيه الحافظ القاضي، يكنى أبا الحسن، ويعرف بجده.
حالهمن أولي الأصالة والصيانة والتعفف، والعكوف على الخير، والآوين إلى طعمة متوارثة، ونباهة قديمة، صناع اليد، متقن لكل ما يحاوله من تسعير ونجارة، مبذول المودة، مطعم للطعام بدار له معدة للضيفان من فضلاء من تطوه الطريق، ويغشاه من أبناء السبيل. ولي قضاء بلده في نحو عشرين سنة، فحمدت سيرته، ثم ولي قضاء مالقة، فظهرت دربته ومعرفته بالأحكام. فأعفي وعاد إلى ما كان بسبيله من القضاء بموضعه والخطابة.
مشيختهقرأ على الشيخين الصالحين، أبي جعفر بن الزيات، وأبي عبد الله بن الكماد ببلده، بلش، وأخذ عنهما.
تواليفهله أجوبة حسنة في الفقه. وصنف على كتاب البراذعي تصنيفاً حسناً، بلغ فيه إلى آخر رزمة البيوع ثلاثة عشر سفراً، واستمرت على ذلك حاله.
توفي ببلده بلشن في ............. من عام ستة وأربعين وسبعماية.
علي بن عبد الله
بن الحسن الجذامي النباهي المالقي
صاحبنا أبو الحسن.
أوليتهتنظر فيما تقدم من أهل بيته والمذكورين فيه من سلفه.
حالههذا الرجل، ولي قضاء الحضرة، وخطابة جامع السلطان، وعرض له تقزز فيما يقف عليه، من منتخب وصفه، وعدم رضاً بما يجتهد فيه من تحليته، فوكلنا التعريف بخصايصه، إلى ما اشتهر من حميدها، تحرجاً مما يجر عتبه، أو يثير عدم رضاه.
مشيخته

ذكر أنه أخذ عن الشيخ الخطيب أبي بكر الطنجالي، قريب أبيه، والناظر عليه بعده بوصاته. وكان من أهل الدراية والرواية، وعن الشيخ الفقيه أبي القاسم محمد بن أحمد الغساني، شهر بابن حفيد الأمين، وقرأ عليه الفقه والقرآن، وسمع عليه، وتلا على الشيخ الأستاذ المقري أبي محمد بن أيوب، وسمع عليه الكثير. وهو آخر من حدث عن أبي بن أبي الأحوص. وعلى الشيخ المقري أبي القاسم بن يحيى بن محمد بن درهم، وأخذ عن قريبه القاضي، نسيج وحده أبي بكر عبد الله بن بكر الأشعري. ومن أشياخه صهره القاضي الأستاذ أبو عمرو بن منظور، والأستاذ الحافظ المتكلم أبو عبد الله القطان، والصوفي أبي الطاهر محمد ابن صفوان، والقاضي الكاتب أبو القاسم محمد البناء. وصحب الشيخ أبا بكر بن الحكيم، ولازمه وروى عنه. ولقي الخطيب المقري أبا القاسم ابن جزي، وأخذ نسبته عن الشيخ أبي القاسم بن عمران. وبرندة عن القاضي المحدث المقيد أبي الحجاج يوسف المنتشافري. ورحل فلقي بتلمسان عمران أبا موسى المشدالي، وحضر مجلسه، والأخوين الإمامين أبا زيد وأبا موسى ابني الإمام. وبباجة، أبا العباس أحمد بن الرباعي، وأبا عبد الله بن هرون. وبتونس أعلاماً، كقاضي الجماعة أبي عبد الله ابن عبد السلام. قال ومن خطه نقلت، وأجازني من أهل المشرق والمغرب، عالم كثير.
شعرهقال، نظمت مقطوعتين، موطئاً بهما على البيتين المشهورين.
الأولى منهما قولي:
بنفسي من غزلان غزوي وغزالة ... جمال محياها عن النسك زاجر
تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها ... ولو أنه النسر الذي هو طاير
معطرة الأنفاس رائقة الحلى ... هواها بقلبي في المهامة ساير
إذا رمت عنها سلوى قال شافع ... من الحب ميعاد السلو المقابر
والأخرى تقول:
وقائلة لما رأت شيب لمتي ... لئن ملت عن سلمى قعذرك ظاهر
زمان التصابي قد مضى لسبيله ... وهل لك بعد الشيب في الحب عاذر
فقلت لها كلا وإن تلف الفتى ... فما لهواها عند مثلي آخر
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السراير
وكتب مع شكل يحذو على النعل الكريم، من شأنه أن يكتب ذلك لكل مزمع سفر:
فديتك لا يهدى إليك أجل من ... حديث نبي الله خاتم رسله
ومن ذلك الباب المثال الذي أتى ... به الأثر المأثور في شأن نعله
ومن فضله مهما يكن عند حامل ... له نال ما يهواه ساعة حمله
ولا سيما إن كان ذا سفر به ... فقد ظفرت يمناه بالأمن كله
فدونك منه أيها العلم الرضا ... مثالاً كريماً لا نظير لمثله
ومن ذلك قوله:
لا تلجأن لمخلوق من الناس ... من يافث كان أصلاً أو من الياس
وثق بربك لا تيأس ترى عجباً ... فلا أضر على عبد من الياس
ومن قوله يمدح السلطان ويصف الإعذار:
أبدى لنا من ضروب الحسن أفنانا ... هذا الزمان لمولانا ابن مولانا
يقول فيها لطف الله بنا وبه:
ولا تحرك لساناً يا أخا ثقة ... بريم رامة إن وفى وإن خانا
يظل ينشر ميت الوجد عن جدث ... من الجفون أو الأحشاء عريانا
ثم قال فيها بعد كثير يرجى عفو الله فيه:
فما النسيب أولى من حديث علا ... عن الإمام ينيل المرء رضوانا
يممه تحظ بما أملت من أمل ... يجنيك للسؤال أفناناً فأفنانا
ومنها في المدح:
ملك يخف لراجيه بنايله ... على وقار يرى كالعين ثملانا
ملك ينص له الآلاء عزته ... على السعادة في الدارين فرقانا
العاطر الذك رترتاح النفوس له ... تخال فيه لها روحاً وريحانا
الساحر المنطق في شتى العلوم ... إذا سألت منه لوجه الرشد هانا
كسا الزمان ثياب الفضل حتى ... قضا عن منكبي صرفه ظلماً وعدوانا
وعظم الشرع حتى أن داعيه ... لا يستطيع له المدعو عصيانا
ومنها في ذكر الإعذار:

لله درك يا مولاي من ملك ... شيدت بالحق للإسلام بنيانا
ولم تبال ببذل المال في غرض ... يعم بالفضل ولداناً وبلدانا
وقمت في الولد الميمون طائره ... بسنة الدين إكمالاً وإتقانا
بدا لنا قمراً ترنو العيون له ... مقلداً من نطاق المجد شعبانا
وقام يسحب أذيال الجمال على ... على بساط ملكك بالإعذار جذلانا
خجلان بالقصور عن بلوغ مداً ... من العلى بل الحسن منه قد بانا
فدته أنفسنا لو كان يقبلها ... منا وكانت على الإبلال قربانا
فيا دماً قد سال عن تقوى فعاد له ... بين الدماء طهوراً طيباً زانا
ولا دليل على الغفلة المعبر عنها بالسلامة والذهول كقوله: وقمت في الولد الميمون طائره. ومن ذلك قوله يخاطب صاح بالعلامة بالمغرب أبا القاسم بن رضوان:
لك الله قلبي في هواك رهين ... وروحي عني إن رحلت ظعين
ملكت بحكم الفضل كلي خالصاً ... وملكك للحر الصريح يزين
فهب لي من نطقي بمقدار ما به ... يترجم سر في الفؤاد دفين
فقد شملتنا من رضاك ملابس ... وسح لنا من نداك معين
أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل ... بدنياك في الأمر المهم تعين
وقصر من لم تعلم النفس أنه ... خذول إذا خان الزمان يخون
وإني بحمد الله عنه لفي غنى ... وحسبي صبر عن سواك يصون
أبى لي مجد عن كرام ورثته ... وقوفاً بباب للكرام يهين
ونفسي سمت فوق السماكين همة ... وما كل نفس بالهوان تدين
ولما رأت عيني محياك أقسمت ... بأنك للفعل الجميل ضمين
وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى ... برية إذ شرخ الشباب خدين
بحيث نشانا لابسين حلي التقى ... وكل بكل عند ذاك ضنين
وفتيان صدق كالشموس وكالحيا ... حديثهم ما شئت عنه يكون
لئن نزحت تلك الديار فوجدنا ... عليها له بين الضلوع أنين
إذا مر حين زاده الشوق جدة ... وليس يعاب للربوع حنين
لقد عبثت أيدي الزمان بجمعنا ... وحان افتراق لم نخله يحين
وبعد التقينا في محل تغرب ... وكل الذي دون الفراق يهون
فقابلت بالفضل الذي أنت أهله ... ومالك في حسن الصنيع قرين
وغبت وما غابت مكارمك التي ... على شكرها الرب العظيم يعين
يميناً لفد أوليتنا منك نعمة ... تلذ بها عند العيان عيون
ويقصر عنها الوصف إذ هي كلها ... لها وجه حر بالحياء مصون
ولما قدمت الآن زاد سرورنا ... ومقدمك الأسنى بذاك قمين
لأنك أنت الروح منا وكلنا ... جسوم فعند البعد كيف تكون
ولو كان قدر الحب فيك لقاؤنا ... إليك لكنا باللزوم ندين
ولكن قصدنا راحة المجد دوننا ... فراحته شمل الجميع تصون
هنيئاً هنيئاً أيها العلم الرضا ... بما لك في طي القلوب كمين
لك الحسن والإحسان والعلم والتقى فحبك دنيا للمحب ودين
وكم لك في دار الخلافة من يد ... أقرت لها بالصدق منك مرين
وقامت عليها للملوك أدلة ... فأنت لديها ما حييت مكين
فلا وجه إلا وهو بالبشر مقبل ... ولا نطق إلا عن علاك مبين
بقيت لربع الفضل تحمي ذماره ... صحيحاً كما قد صح منك يقين
ودونك يا قطب المعالي بنية ... من الفكر عن حال المحب تبين
أتتك ابن رضوان تمت بودها ... وما لسوى الإغضاء منك ركون
فخل انتقاد البحث عن هفواتها ... ومهد لها بالسمح حيث تكون

وخذها على علاتها فحديثها ... حديث غريب قد عراه سكون
ومن شعره قوله في ليلة الميلاد الكريم سن قصيدة:
خليلي مرا على أرض مأرب ... ولا تعذلاني إنني غير آيب
وهي طويلة أثبتت في الرحلة. فلينظرها هنالك من أراد استيفاء غرضها.
نثرهمن أمثل ما صدر عنه في غرض غريب، وهو وصف نخلة بإزاء باب الحمراء. ونثره كثير، ولكنا اخترنا له ما اختار لنفسه، وأشاد بشفوفه على أبناء جنسه: يا أيها الأخلاء الذين لهم الصنايع، التي تحسدها الغمايم، والبدايع التي تودها بدلاً من أزهارها الكمايم، بقيتم وشملكم جميع، وروض أملكم مريع، والكل منكم للغريب الحسن من الحديث المحب سميع،
بأرض النخل قلبي مستهام ... فكيف يطيب لي عنها المقام
لذاك إذا رأيت لها شبهاً ... أقول وما يصاحبني ملام
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
فسلمت يوماً تسليم المبرة، على مدنها الحرة البرة، جارة حايط الدار، الواقفة للخدمة كالمنار، على سدة الجدار، بياض النهار، وسواد الليل، المتلفعة بشعار الوقار، المكفولة الذيل، أنيسة مشيخة الجماعة، القاطنة من الحمراء العلية، بباب ابن سماعة، فحين عطفت عليها، وصرفت فناءي وفنائها، وقلت لها كيف حالك أيتها الجارة، الساكنة بنجدة الحجارة، الواعظة للقريب والبعيد، بمقامها صامتة على الصعيد.
سقاك من الغر الغوادي مطيرها ... ولا زلت في خضراء خض نظيرها
خلتها اهتزت عند النداء اهتزاز السرور، وتمايلت أكمامها تمايل الثمل المسرور، ثم قالت لسايلها بلسان وسايلها، عند مشاهدة مثلي تقول العرب، عينها فرارها، واينو جدها للناظرين اصفرارها، وجملة بخيتي، بعد إتمام تحيتي، أن الدهر عجم قناتي، ومس الكبر كدر سناتي، وما عسى أن أبث من ثكناتي، وجل علاتي من تركيب ذاتي. ولكني أجد مع ذلك، أن وقاري، حسن لدى الحي احتقاري، وكثرة قناعتي، أثمرت إضاعتي، وكمال قدي، أوجب قدي، فما أنس من الأشياء، لا أنس عدوان جعسوس من لعبوش اليهود أو المجوس، يفحص يمديته عن وريدي، ويحرص على مد جريدي، ويجدع كل عام يخنجره أنفي، وكلما رمت كف إذايته عني، كشم كف، فلو رايتم صعصعة أفناني، وسمعتم عند جذم بناني، قعقعة جناني، والدمع لما جفاني، يفيض من أجفاني، والجعسوس الخبيث المنحوس، قد شد ما حد بأمراسه، ورفعه لبيعه كفره على راسه. بعد الأمر بوضعه على أسنمة القبور، حسبما ثبت في الحديث المشهور، لحملتكم يا

بني اسم وحام على الغيرة وشايج الأرحام، فقد علمتم بنص الأثر، أني عمتكم القديمة، وإن لم أكن لذلك بأهل، فإني لكم اليوم خديمة، أو من ذرية الفريق الموجب، المضروب به المثل يوم السقيفة، لمن رام من أشراف الأندلس أن يكون إذ ذاك خليفة. وخالة أبي كانت النخلة البرشا الكبيرة، التي حادثها الأمير عبد الرحمن بالرصافة القريبة من كورة إلبيرة. فكيف يسهل اليوم عليكم إهمالي، ويجمل لديكم إخمالي، وترك احتمالي، والأيام والحمد لله مساعدة، والملك ملك بني ساعدة. فلما سمعت عتابها، وعلمت أنها قد شدت للمناضلة أقتابها، قلت لها أهلاً بك وسهلاً، ومهلاً عليك أو بهلاً، لقد دسع بعيرك، وعادت بالخيبة عيرك. فليست الحقيقة كالمجاز، ولا دليقية في النيات كالحجاز. هنا جنات من أعناب مرسلة الذيولن مكملة الأطناب، قد طاب استيارها، وحمد اختبارها واختيارها، وعذبت عيون أنهارها، وتفتحت كمايم أزهارها، عن وردها ونرجسها وبهارها، وسرت بطرف محاسنها الرفاق، حتى قلقت منها الشام واليمن والعراق. قد صرت من المنال عشبة، وأصبحت تذلي خالفة، ورذلي بالهم تالفة، لا يجتنى بلحك ولا طلعك، ولا يرتجى نفعك، فالأولى قطعك أو قلعك، وإلا فأين قنوك أو صنوك، أو تمرك أو سبرك، هلا أبقيت يا فسيلة على نفسك، وراعيته صلحة جنسك. ولقد انتهت بك المحارجة إلى ارتكاب ما لا يجوز، وفي علمك أن من أمثال الحكماء، كل هالك عجوز. حسبك بحكم العجز ملامها. وما كان إلا أن نقل مقالي. فقال المتكلم بلسان القالي، أنا أتطوع بالجواب، وعلى الله جزيل الثواب، ليعلم كل سايل، أن تفضيل النخل على العنب، من المسايل التي لا يسع فيها جحد جاحد، وإن كانا أخوين سقيا بماء واحد. وقد جرى مثل هذا الخطاب بين يدي عمر بن الخطاب، فقيل يا بني حتمة، أيهما أطيب، الرطب أم العنب، فقال ليس كالصقر، في رؤوس الرقل، الراسخات في العقل، المطعمات في المحل، تحفة الصايم، ونقلة الصبي القادم، ونزل مريم نت عمران. والنخلة هي التي مثل بها المؤمن من الإنسان، ليس كالزبيب، الذي إن أكلته ضرست، وإن تركته غربت، وكفى بهذه الرواية حجة، لمن أراد سلوك المحجة. وعلى كل تقدير، فقد لزم التفضيل للنخلة على الكرمة، لزوم الصلة للموصول، والنصب للمنادى الممطول، والعجز لكتابي المحصل والمحصول. وكم على ترجيح ذلك من قياس صحيح، ونقل ثابت صريح. قال، واعتذاركم بالمهرمة عن فعل المكرمة لأمة في تلك الطباع كامنة، وسامة للتلف لا للخلف ضامنة. وذكرتم الثمرة والبسرة، والوقت ليس بوقت عسرة، فأذكرتم قول القايل، في بعض المسايل، دعنا من تمرتان وبسرتان أو تمرتين وبسرتين، على الوجهين، المتوجهين في المسلتين، وفس ضمن ذكركم لذلك أدلة صدق على تطلع النفس الفقيرة، للأعراض التافهة الحقيرة، والإمامة العظمى، أجل عندنا وأسمى، من أن تلحظ بعينها تلك الملاحظ، ولواصل لديها مراتبها وأفكارها ببيانه وتبيانه، عمرو بن بحر الجاحظ، إذ هي كافأ الله فضلها، ولا قلص ظلها كالسحاب، نجود بغيثها على الآكام والضراب، ومنابت الشجر من التراب، فضلاً عن الخدمة والأتراب، فليس يضيع مع جميل نظرها، ذو نسب، ولا يجهل في أيامها السعيدة مقدار منتسب إلى حسب. وإن وقعت هفوة صغيرة، أعقبتها حسنة كبيرة، ومنن أثيرة، ونعم كثيرة. ولم لا، وروح أمرها، ومذهب نصرة جمرها، علم السادة للقادة الأكابر، المغرم بجبر كل كسير، وناهيك من به جابر الرازي، ذكر مآثره، بعرف أطيب الطيب. الوزير أبو عبد الله بن الخطيب. والمطلوب منه لهذه الشجرة الثرما، الغريبة الشما، التي أصلها ثابت، وفرعها في السماء، إنما هو يسير بنا، وظهير اعتنا، وخنجر يوما، لعل عباسة أديم دوها أن تذهب. وأكمام كباسة قنوها، أن تفضض بنعيم النضارة ثم تذهب، ويعود إليها شرخ شبابها، وتستحكم صفرة ثيابها، وخضرة جلبابها، وذلك كله بمن اللطيف الخبير، من أسهل العمل على مجد الأمير، وفضل الوزير، إذ هما، دام عزهما، على بينة من أن الإحسان ألقاح، والشكر نتاجه، والثناء إكليل، وهو في الحقيقة تاجه. قال المسلم، ومن يا إخوتي لعلي، بمعارضة الحافظ أبي علي، ولو أني اشتملت شملة النضر بن شميل، وأصبحت أفصح من عامل بن الطفيل، وأخطب من شبيب، وأشعر من حبيب، وجزت من طرق الجدال، منازل نقدة صدور الأبدال. وعلى أنه ما قال إلا حقاً، فبعداً للمرء وسحقاً. ولكني

أقسم عليكم بمقدر الضيا والحلك، ومسخر نجوم الفلك، بإصابة الأعراب، وأصحاب الإغراب، وأرباب فنون الإعراب، ألا ما تأملتم فصول هذه المقالة، وأفتيتم بما يترجح فيها لديكم من نسخ أو فسخ، أو إجادة أو إقالة، فأنتم علماء الكلام، وزعماء كتايب الأقلام، والمراجعات بين شقاشق الرجال، شنشنة معروفة، وطريقة إليها الوجوه في كثير من المخاطبات مصروفة، لا زلتم مذكورين في أهل البيان، مشكورين على بذل الفضل مدى الأحيان. والله سبحانه يجعل التوفيق حاديكم، ونور العلم هاديكم، ومنه نسل جل اسمه، التطهير من كل معابة، والسمح فيما تخلل هذه المقامة من دعابة، والتحية الكريمة مع السلام الطيب المعاد، يعتمد من يقف عليها من الآن إلى يوم المعاد، والرحمات والمسرات والبركات والخيرات، من كاتبها على بن عبد الله بن الحسن، أرشده الله. عليكم بمقدر الضيا والحلك، ومسخر نجوم الفلك، بإصابة الأعراب، وأصحاب الإغراب، وأرباب فنون الإعراب، ألا ما تأملتم فصول هذه المقالة، وأفتيتم بما يترجح فيها لديكم من نسخ أو فسخ، أو إجادة أو إقالة، فأنتم علماء الكلام، وزعماء كتايب الأقلام، والمراجعات بين شقاشق الرجال، شنشنة معروفة، وطريقة إليها الوجوه في كثير من المخاطبات مصروفة، لا زلتم مذكورين في أهل البيان، مشكورين على بذل الفضل مدى الأحيان. والله سبحانه يجعل التوفيق حاديكم، ونور العلم هاديكم، ومنه نسل جل اسمه، التطهير من كل معابة، والسمح فيما تخلل هذه المقامة من دعابة، والتحية الكريمة مع السلام الطيب المعاد، يعتمد من يقف عليها من الآن إلى يوم المعاد، والرحمات والمسرات والبركات والخيرات، من كاتبها على بن عبد الله بن الحسن، أرشده الله.
المقريون والعلماء

علي بن أحمد
بن خلف بن محمد بن الباذش الأنصاري
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، الشيخ الأستاذ، إمام الفريضة بجامع غرناطة.
حالهمن الملاحي، أوحد زمانه إتقاناً، ومعرفة، ومشاركة في العلوم، وانفراداً بعلم العربية. وكان حسن الحظ، كثير الكتب، ترك منها بخطه كثيراً جداً، مشاركاً في الحديث، عالماً بأسماء رجاله ونقلته، مع الدين، والفضل، والزهد، والانقباض عن أهل الدنيا، وترك الملابسة لهم.
مشيختهقرأ علي المقري بغرناطة أبي القاسم نعم الخلف بن محمد بن يحيى الأنصاري، وأبي علي الصدفي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. وحدث عنه القاضي أبو الفضل عياض بن موسى، والقاضي أبو محمد بن عطية، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الرحيم، والقاضي أبو بكر جابر بن يحيى التغلبي، والقاضي أبو خالد عبد الله بن أبي زمنين، والقاضي أبو الحسن بن أضحى.
تواليفهألف في النحو كتباً كثيرة، منها على كتاب سيبويه، وعلى كتاب المقتضب، وعلى الأصول لابن السراج، وشرح كتاب الإيضاح، وكلامه على كتاب الجمل لأبي القاسم، وكلامه على الكافي لابن النحاس، مع التنبيه على وهمه في نحو مائة موضع، إلى غير ذلك.
شعرهقال أبو القاسم، وله نظم ليس بالكثير. فمن ذلك:
أصبحت تقعد بالهوى وتقوم ... وبه تقرظ معشراً وتديم
تعنيك نفسك فاشتغل بصلاحها ... إنني بغير السقام سقيم
وفاتهتوفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وخمسماية، وصلى عليه إثر صلاة العصر، ابنه الأستاذ أبو جعفر، ودفن بمقبرة باب إلبيرة، وازدحم الناس على نعشه، وكانت جنازته حافلة، وتفجع الناس على قبره. وقبره مشهور، يتبرك به الناس.
علي بن محمد بن دريالمقري الفقيه، الخطيب أبو الحسن، الإمام بجامع غرناطة، أصله من طليطلة.
حاله

كان من خيار الناس وفضلائهم، وأهل المعرفة منهم، عارفاً بإقراء كتاب الله عز وجل، والرواية للحديث. أخذ الناس عنه، وكانت عنده مشاركة، ومسارعة لقضاء الحوايج، والمشي للإصلاح بين الناس، والإشفاق على المساكين، كثير الصدقة، والسعي في فداء الأسرى، والوسائط الجميلة في مهمات الأمور ومشكلاتها. دخل رجل تاجر غريب الميضأة للوضوء، فنسي بها وعاء فيه جملة مال، فتذكر له، فرجع ولم يجده، فسقط مغشياً عليه، فاجتمع عليه الناس، وهو يقول مالي، ووافق خروج الأستاذ أبي الحسن المذكور من الجامع، فسأل عنه، فجالس أذنه، فقال مالك عندي وديعة تركته أنت عندي، وإذا كان بعد صلاة العصر تأخذه. فقام الرجل، فكأنما نشط من عقال، ومشى الخطيب في حينه، إلى مشرف غرناطة ابن مالك، فقال له، إني اشتريت لك قصراً في الجنة، بخمس ماية دنير، وأنا الضامن لذلك، فشكره، وأخبره الخطيب بالقصة، فدفع إليه المال، فدفعه إلى الرجل. وكان الناس لا يتوقفون له في أمر.
مشيختهروى بطليطلة عن أبي عبد الله المقامي، وعن أبي مسلم الضرير المقري، والقاضي أبي الوليد الوقشي، وأخذ عن أبوي على الصدفي والغساني، وعن أبي مروان بن سراج، وابنه سراج.
توفي بغرناطة في رممضان ستة عشرين وخمسماية، وصلى عليه القاضي أبو القاسم بن ورد، ودفن في مقبرة باب إلبيرة، وكانت جنازته حافلة، وتفجع الناس عليه، وأخلصوا الدعاء له.
وممن رثاه، أبو عبد الله بن أبي الخصال بقوله:
عتاب وما يغني العتاب على الزمن ... وشكوة كما تشكو الرياح إلى السفن
وما رضيت بعد الغضارة أيكة ... نبحت ولكن عالم الكون ممتحن
وماذا عليه والسلامة حظه ... بأن تتخطاه النوايب والمحن
فليت كريماً ينعش للناس خيره ... يعمر فيها عمرته الآن أو حضن
ولكنه يمضي كظل غمامة ... ويبقى لسم سره غير مؤتمن
يود الفتى طول البقاء وطوله ... يورثه ثكل الأحبة والبدن
وأي اغتباط في حياة مرزاً ... يروح على بث ويغدو على شجن
زيادته تغص وجدته بلى ... وراحته كرب وهدنته دهن
إذا فوق السهم المصيب فقلبه ... ومن صار فيه من أحبته فنن
فيا عجباً للمرء يلتذ عيشه ... لزت مع الموت في قرن
أرى كل حي للمنية حاملاً ... فيا ويحه مما تحمل واحتضن
إذا زادت الأيام فينا إساءة ... نزيد على علم بما ساء حسن ظن
ولم أر مثل الموت حقاً كباطل ... وكل قبالي بالموت مرتهن
أإخوتنا لم تبق إلا تحية ... أرقد بها تلك المعاهد والدمن
أإخوتنا هل تسمعون تحيتي ... وذو كلم ما تحجب السر والعلن
أبا الحسن خلد في الجنان منعماً ... جزاءً بما أسلفت من سعيك الحسن
يطير فؤادي روعة فإذا رأى ... محياك في دار الغنا والرضا سكن
وقد كنت ترتاد المواطن إذ نبت ... فبوأك الرحمن فردوسه وطن
وبت معنى بالجلاء فنلته ... وقد كان حاديه يغرد باظعن
ولم ترض إلا الأرض هجرتك التي ... تخيرها الأولياء على القنن
وفي مثلها أن الرسول لسعد ... وقد واراه أكرم مدفن
على أنك المدعو من كل بلدة ... هلم فإنا دونك الحجب والجنن
سيرضيك من أرضيته في عباده ... وجاهدت فيه بالفروض وبالسنن
ويبقى كما بقيت بعدك أنه لهم ... فلما استهوتهم روعة سكن
ويحفظهم حفظ اليتيمين أيدا ... بوقع جدار قد تداعى وقد وهن
أبا الحسن إن المدى بعد ما بدا ... طويل ولا يعتد في جنب ما بطن
وأسير وجد في فراقك أنه ... سيبقى عليك الوجد ما بقي الزمن

سقى الله والسقيا بكفيه تربة ... مباركة ضمتك أسرع ما هتن
ولا برحتها ديمة مستهلة إذا ... ركضتها الريح قام بها جرن
فلا زلت في روض وروح ورحمة ... ومقبرة تترى على ذلك الجنن
علي بن عمر

بن إبراهيم بن عبد الله الكناني القيجاطي
يكنى أبا الحسن، أصله من بسطة، واستوطن غرناطة، حتى عد من أهلها قراءة وإقراء ولزوماً
حالهمن العايد، أوحد زمانه علماً وتخلقاً وتواضعاً وتفنناً. ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعماية، وقعد بمسجدها الأعظم يقرى فنوناً من العلم، من قراءات وفقه وعربية وأدب. وولى الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة، مشكور المأخذ، حسن السيرة، عظيم النفع. وقصده الناس، وأخذ عنه البعيد والقريب. وكان أديباً لوذعياً، فكهاً، حلواً، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب، إثر قراءة الكتب.
مشيختهقرأ على أبيه ببلده بسطة القرآن، بالروايات السبع، وجمعها في ختمة، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن مساعد الغساني. وقرأ بغرناطة القرآن على الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور، والأستاذ أبي جعفر الطباع، والأستاذ الشهير أبي الحسن بن الضايع. والأستاذ النحوي أبي الحسن الأبدي. وعلى القاضي ابي عمرو بن الرندي، والفقيه القاضي ابي علي بن الأحوص، وعلى الفقيه النسابة أبي جعفر بن مسعدة، والأستاذ العلامة أبي جعفر بن الزبير. ولقي الشيخ الصالح ولي الله أبا إسحق بن عبيدس وحضر مجالسه العامة. وذكر أنه كان يفتتح مجلسه الذي يتكلم فيه بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، كنز من كنوز الجنة، رزقنا الله الأدب مع الله، واستعملنا فيما يرضيه، ويرضي رسوله، وجعل حظنا في الدار الآخرة. ولقي الإمام بجامع بسطة الخطيب الرواية أبا الحسن بن نافع وغيرهم، وله تواليف في فنون، وشعر، ونثر، فمن شعره قوله:
روض المشيب تفتحت أزهاره ... حتى استبان ثغامه وبهاره
ودجى الشباب قد استبان صباحه ... وظلامه قد لاح فيه نهاره
فأنى حمام لا يعاف وقوعه ... ومضى غروب لا نخاف مطاره
والعمر مثل البدر يرمق حسنه ... حيناً ويعقب بعد ذاك سراره
للإخاء تقلصت أفياؤه ... ما للصفاء تكدرت آثاره
الحر يصفح إن أخل خليله ... والبر يسمح أن تجرأ جاره
فتراه يدفع إن تمكن جاهه ... وتراه يرفع إن علا مقداره
ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت زنداً والحياء سواره
والهجر ما بين الأحبة لم يزل ... ترك الكلام أو السلام مثاره
ولكم تجافى عن خفاء خليله ... فطن وقد ظفرت به أظفاره
ولكم أصر على التدابر مدبر ... أفضى إلى ندم به إصراره
فأقام كالكسعي بان نهاره ... أو كالفرزدق فارقته نواره
أنكرتم من حق معترف لكم ... بالحق ما لا ينبغي إنكاره
والشرع قد منع التقاطع نصه ... قطعاً وقد رودت به أخباره
والسن سن تورع وتبرع ... وتسرع لتشرح تختاره
ما يومنا من أمسنا قطك اتبت ... ذهب الشباب فكيف يبقى عاره
هلا حظرتم أو حذرتم منه ما ... حق عليكم حظره وحذاره
عجباً لمن يجري هواه لغاية ... محدودة أضماره مضماره
يأتي ضحى ما كان يأتيه دجى ... فكأنه ما شاب منه عذاره
فبعد ما تنعى به حسناته ... ويعيد ما تبقى به أوزاره
فالنفس قد أجرته مليء عنانه ... يشتد في مضمارها إحضاره
والمرء من إخوانه في جنة ... بل جنة تجري بها أنهاره
فاليمن قد مدت إليه يمينه ... واليسر قد شدت عليه يساره
شعر به أشعرت بالنصح الذي ... يهديه من أشعاره إشعاره
ولو اختبرتم نقده بمحكة ... لامتاز بهرجه ولاح نضاره

هذا هدى فيه اقتده تنل المنا ... أو أنت في هذا وما تختاره
وعليكم مني سلام مثل ما ... أرجت بروض يانع أزهاره
ومن شعره في الرثاء قوله من قصيدة
حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ... نتهيج من الأشجان ما أوجد الوجد
وذلك شجو في حناجرنا جشى ... وذلك لهو في ضمايرنا جد
أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا ... وأيديها تسعى إلينا فتمتد
ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ... سوى أمل إيجابنا عنده جحد
فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ... فتسبيحه الساهي إذا سمع الرعد
مصاب به قدت قلوب وأنفس ... لدينا إذا في غيره قطعت برد
تلين له الصم الصلاب وتنهمي ... عيون ويبكي عنده الحجر الصلد
فلا مقلة ترنو ولا أذن تعي ... ولا راحة تعطو ولا قدم تعدو
وقد كان يبدو الصبر منا تجلداً ... وهذا مصاب صبرنا فيه لا يبدو
مولدهعام خمسين وستماية.
وفاتهتوفي بغرناطة ضحى يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي حجة من عام ثلاثين وسبعماية، ودفن في عصر اليوم بعد بجبانة باب إلبيرة. وكان الحفل في جنازته عظيماً، حضرها السلطان، واحتمل الطلبة نعشه.
ومن الطارئين

الرندي
عمر بن عبد المجيد بن عمر الأزدي المعروف بالرندي، من أهل رندة يكنى أبا علي.
حالهكان من جملة المقريين، جهابذة الأستاذين، مشاركاً في فنون، نقاداً، فاضلاً.
مشيختهروى عن أبي زيد السهيلي، وعنه أخذ العربية والأدب، وبه تفقه، وإياه اعتمد. وعن أبي محمد القاسم بن دحمان، وأبي عبد الله بن أبان، وتلا على هؤلاء القراءات، بقراءات السبعة. وعن أبي إسحق بن قرقول، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي الحسن صالح بن عبد الملك الأوسي، وأبي محمد عبد الحق بن بونه. وأبي عبد الله الحميري الإستجي، وأبي العباس بن اليتيم، وأبي عبد الله بن مدرك، وأبي القاسم بن حبيش وأبي عبد الله بن حميد. أخذ عن هؤلاء بمالقة، من أهلها، ومن الواردين عليها. ورحل إلى غرناطة، فأخذ بها عن يزيد بن رفاعة، وابن كوثر، وابن عروس، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس، وأبي جعفر بن حكم. وإلى قرطبة، فأخذ بها عن ابن بشكوال، وابي القاسم المشراط. وإلى إشبيلية، فأخذ بها عن أبي بكر بن الجد، وأبي عبد الله بن رزق، وابن خير، وابن صاف. وأخذ بسبتة عن ابن عبيد الله. وبالجزيرة الخضراء عن القاضي أبي جعفر بن عزرة. هؤلاء جملة من أخذ عنهم باللقاء والمشافهة. وأجازه جمغاعة من أهل المشرق كبيرة، ذكرهم في برنامجه، كالخشوعي، والأرحي، والحرشاني، وحدث عن السلفي الحافظ بإجازته العامة.
تواليفهشرح جمل أبي القاسم الزجاجي، ورد على ابن خروف، منتصراً بشيخه أبي زيد السهيلي في مسئلة نحوية، رد فيها ابن خروف على السهيلي وقيد فيما جرى بينه وبين الأستاذ أبي محمد القرطبي، جزءاً سماه بالحقبى في أغاليط القرطبي، لم يخل فيه عم حمل وتعسف. وألف برنامجاً جامعاً. روي عنه أبو عبد الله بن تسكر القاضي، والشيخ أبو عبد الله بن عبيد الأوسي، وأبو عبد الله الطنجالي، والخطيب ابن أبي ريحانة.
مولدهسنة سبع وأربعين وخمسماية.
وفاتهتوفي سحر يوم الجمعة الموفى عشرين لشهر ربيع الثاني سنة عشر وستماية.
عثمن بن سعيد
بن عثمن بن سعيد الأموي
المقري، الحافظ المعروف بابن الصيرفي، قرطبي الأصل، يكنى أبا عمرو، ويشتهر بالداني، لاستيطانه دانية. ودخل إلبيرة، وقرأ على أبي عبد الله بن أبي زمنين، فوجب ذكره لذلك.
حالهكان أحد الأيمة الأعلام في علم القرآن، وآياته، وتفسيره، ومعانيه وإعرابه، وجمع في ذلك كله التواليف العجيبة التي يكثر تعدادها، ويطول إيرادها، وله معرفة بالحديث وطرقه، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط، جيد الضبط، آية في الحفظ والعلم، والذكاء والفهم ديناً عارفاً، ورعا سنياً، قال المغلي، وكان أبو عمرو مجاب الدعوة. وذكره الحميدي فقال محدث مكثر، مقرئ متقدم.
مشيخته

روي عن أبي المطرف عبد الرحمن بن عثمن القشيري بقرطبة، وعن أبي بكر حاتم بن عبد الله البزاز، وأبي عبد الله محمد بن خليفة، وأحمد ابن فتح بن الرهان، وأبي بكر بن خليل، ويونس بن عبد الله القاضي. وخلف بن يحيى، وغيرهم. وبإلبيرة عن محمد بن أبي زمنين كثيراً من رواياته وتواليفه. وسمع بإستجة، وبجانة وسرقسطة من بلاد الثغر. ورحل إلى المشرق، فلقي أبيا الحسن بن أحمد بن مراس العنقي. وسمع بمصر من أبي محمد بن النحاس، وأبي القاسم بن ميسر، وخلف بن إبراهيم ابن خاقان، وفارس بن أحمد، وطاهر بن عبد المنعم، وبالقيروان من أبي الحسن القانسي. وقدم الأندلس فاستوطن دانية.
شعرهقال أبو القاسم بن بشكوال. ومما يذكر من شعره قوله:
قد قلت إذ ذكروا حال الزمان وما ... يجر على كل من يعزى إلى الأدب
لا شيء أبلغ من ذل تجرعه ... أهل الخساسة أهل الدين والحسب
القايمين بما جاء الرسول به ... والمبغضين لأهل الزيغ والريب
مولدهقال أبو عمرو، سمعت والدي يقول إني ولدت سنة إحدى وسبعين وثلاثماية، وابتدأ طلب العلم بعد خمس وثمانين.
وفاتهمن خط أبي الحسن المقري، يوم الاثنين منتصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة بدانية، ودفن عصر اليوم المذكور ببقيعها. ومشى السلطان راجلاً أمام نعشه.
علي بن أحمد بن حزم

بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد
الإمام أبو محمد بن حزم.
أوليتهأصله من الفرس، وجده الأقصى في الإسلام اسمه يزيد، مولى ليزيد بن أبي سفيان. قال أبو مروان ابن حيان، وقد كان من عجايبه، انتماؤه في فارس، وأتباع أهل بيته له في ذلك حقبة من الدهر، تولى فيها الوزير، المفضل في زمانه، الراجح في ميزانه، أحمد بن سعيد ابن حزم، لبني أمية أولياء نعمته، لا عن صحة ولاية لهم عليه، فقد عهده الناس مولد الأرومة من عجم لبلة، جده الأدنى، حديث عهد بالإسلام، لم يتقدم لسلفه نباهة. فأبوه أحمد، على الحقيقة، هو الذي بنى بيت نفسه في آخر الدهر، برأس رايته، وعمره بالخلال الفاضلة، من الرجاجة والدهاء والمعرفة والرجولة والرأي، فأسدى جرثومة شرف لمن نماهم، أغنتهم عن الرسوخ في أولى السابقة، فما من شرف إلا مسبوق عن خارجته، ولم يكن إلا كلا ولا، حتى تخطى على هذا أوليته لبلة. فارتقى قلعة إصطخر من أرض فارس. فالله أعلم كيف ترقاها، إذ لم يكن يؤتى من خطل ولا جهالة، بل وصله بها وسع علم، ووشجة رحم معقومة، فلها يستأخر الصلة، فتناهت حاله مع فقهاء عصره إلى ما وصف، وحسابه وحسابهم على الله، الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة. عزت قدرته.
حالهقال الحميدي، كان حافظاً، عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه، زاهداً في الدنيا، بعد الرياسة التي كانت له، ولأبيه من قبله، في الإدارة وتدبير الممالك، متواضعاً، ذا فضايل جمة، قال، وما رأينا مثله، فيما اجتمع له. مع الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين. قال أبو مروان ابن حيان، كان أبو محمد حامل فنون، من حديث وفقه ونسب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة. وله في ذلك عدة تواليف.
وقد مال أولاً به النظر في الفقه إلى رأي أبي عبد الله الشافعي، وناضل عن مذاهبه، وانحرف عن مذهب غيره، حتى وسم به، واستهدف بذلك إلى كثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ. ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر، مذهب داود بن علي، ومن تبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه، وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه إلى أن مضى بسبيله. وكان يحمل علمه، ويجادل عنه لمن خالفه فيه، على استرسال في طباعه، واستناد إلى العهد أخذه الله على العلماء من عباده، ليبينه للناس، ولا يكتمونه، فآل أمره إلى ما عرف.
مشيختهقال، سمع سماعاً جماً، وأول سماعه من أبي عمر أحمد بن محمد بن الجسور قبل الأربع ماية.
تواليفه

قال، بلغت تواليفه أربع مائة مجلد. وقال، حمل بعير. فمنها في علم الحديث كتاب كبير سماه الإيصال في فهم الخصال، الجامعة لجمل شرائع الإسلام، في الواجب والحلال والحرام، وساير الأحكام، على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع. أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أيمة المسلمين، وبيان ذلك كله، وتحقيق القول فيه. وله كتاب الإحكام لأصول الأحكام في غاية التقصي وإيراد الحجاج. وكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل. وكتاب الإجماع ومسائله على أبواب الفقه. وكتاب المجلى والمحلى وكتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض. وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل. وهذا مما سبق إليه، وكتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية. والأمثلة الفقهية. فإنه سلك في بيانه، وإزالة سوء الظن عنه، وتكذيب المنحرفين به، طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمنا.
شعرهقال، وكان له في الأدب والشعر نفسٌ واسع، وباع طويل. وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه. وشعره كثير، وقد جمع على حروف المعجم. ومنه قوله:
هل الدهر إلا ما عرفنا وأدركنا ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى
إذا أمكنت فيه مسرة ساعة ... تولت كمر الطرف واستخلفت حزنا
إلى تبعات في الحساب وموقف ... نود لديه أننا لم نكن كنا
حصلنا على هم وإثم وحسرة ... وفات الذي كنا نلذ به عنا
حنين لما ولى وشغل لما أتى ... وغم لما يرجى فعيشك لا يهنا
كان الذي كنا نسر بكونه ... إذا حققته النفس لفظٌ بلا معنى
ومن ذلك قوله من قصيدة في الفخر:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالعٌ ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب
فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب
هنالك يدري أن للبعد قصة ... وأنه كساد العلم آفته القرب
ومنها في الاعتذار عن المدح لنفسه:
ولكن لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من سار سيرته ذنب
يقول وقال والصدق أنني ... حفيظٌ عليمٌ ما على صادق عتب
ومن شعره قوله فيما كان يعتقده من المذهب الظاهري:
وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللوم ظالماً ... وعندي ردٌ لو أردت طويل
ألم تر ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل
ومن ذلك قوله:
أين وحه قول الحق في نفس سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رفقاً فينسى نفاره ... كما نسي القيد الموثق مطلق
ومن ذلك قوله:
لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فروحي عندكم أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنله طلبله طلب المعاينة الكليم
وفي المعنى:
يقول أخي شجاك رحيل جسم ... وروحك ماله عنا رحيل
فقلت له المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل
دخوله غرناطةوصل في جملة الإمام المرتضى. ولما جرت عليه الهزيمة واستولى باديس الأمير بغرناطة على محلته، كان أبو محمد من عداد أسراه مع مثله، إلى أن أطلقه بعد لأي، وخلصه الله منه.
محنته

قال ابن حيان، استهدف إلى فقهاء وقته، فتألبوا على بغضه، ورد قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا أعوامهم عن الدنو إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه على قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به، منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة، وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا، به يبث علمه فيمن ينتابه بباديته من عامة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة، الذين لا يحسون فيه الملامة بحداثتهم، ويفقههم ويدرسهم، ولا يدع المثابرة على العلم، والمواظبة على التأليف، والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون العلم وقر بعير، حتى لأحرق بعضها بإشبيلية، وفي ذلك يقول:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا ... الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركايبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
مولدهسنة أربع وثمانين وثلاثمائة بقرطبة.
وفاتهتوفي سنة ست وخمسين وأربعماية
علي بن إبراهيم

بن علي الأنصاري المالقي
يكنى أبا الحسن، صاحبنا حفظه الله.
حالهآية الله في الحفظ، وثقوب الذهن، والنجابة في الفنون، وفصاحة الإلقاء، خريج طبعه، وتلميذ نفسه، ومبرز اجتهاده. إمام في العربية، لا يشق فيها غباره، حفظاً وبحثاً، وتوجيهاً واطلاعاً، وعثوراً على سقطات الأعلام، ذاكر للغات والآداب، قايم على التفسير، مقصود للفتيا، عاقد للوثيقة، مشارك في الفنون، ينظم وينثر، فلا يعدو الإجادة والسداد، سليم الصدر، أبي النفس، كثير المشاركة، مجدي الصحبة، بعيد عن التسمت. رحل عن بلده مالقة، بعد التبريز في العدالة والشهرة بالطلب، واستقر بالمغرب، فاقرأ بمدينة أنفا ، منوهاً به، ثم بسلا، واستوطن بها، رئيس المدرسة بها، مجمهراً بكرسيها، فارعاً بمنبرها، بالواردة السلطانية، يفسر كتاب الله بين العشاءين، شرحاً كثير العيون، محذوف الفضول، بالغاً أقصى مبالغ الفصاحة، مسمعاً على المحال النابية، ويدرس من الغدوات بالمدرسة، دولاً في العربية والفقه، أخذه بزمام النبل، مترامية إلى أقصى حدود الاضطلاع. وحضر المناظرة، بين يدي السلطان، فاستأثر بشقصٍ من رعيه، وأعجب بقوة جأشه، وأصالة حفظه، فأنمى جراياته، ونوه به.
مشيختهقرأ ببلده على الأستاذين، علمي القطر، القاضي العالم أبي عبد الله إبن تبر، والقاضي النظار أبي عمرو بن منظور. وتلا القرآن على المقري أبي محمد بن أيوب. وذاكر بغرناطة إمام العربية أبا عبد الله بن الفخار، وربيس الكتاب، شيخنا أبا الحسن بن الجياب. وبالمغرب كثيراً من أعلامه، كالرئيس أبي محمد الحضرمي، والقاضي أبي عبد الله المقري وغيرهم. وهو الآن بحاله الموصوفة قاضياً بشرقي مالقة، وأستاذاً بها متكلماً، معجزٌ من مفاخر قطره.
شعرهمما يؤثر من شعره منقولاً من خط صاحبنا أبي الحسن بن الحسن:
رحماك رحماك في قلب يقلبه ... شوقٌ يكاد بلفح الوجد يذهبه
هام الفؤاد بمعنىً للجمال بدا ... عليك في السر للأرواح أعجبه
ولاح منك لذي الإشراف جوهرة ... ألاحت الحسن عما كان يحجبه
فلو هم الصحب أن الروح تيمها ... ماضي الجفون برود الثغر أشنبه
يظل معتقلاً من خوط قامته ... بأسمر غالني منه مؤربه
وذي فرند يدب الموت في شطب ... منه ويوحش في جنح تلهبه
يخاله ذو الصدا ماء فيبصره ... يود في الحال أن لو كان يشربه
بالهند وانى والذي ند توشجه ... وبالصبابة والأرواح ملعبه
كساه سر الجمال المحض حلته ... إذ جاده من نكوب الجود صيبه
وقام يرفل فيها وهي ضافية ... فأقبلت نحوه الأرواح تطلبه
هيهات من دونه باب بظاهره ... يجر الفنا وجند الروح يرهبه
فمرنا والموت فيه عين عيشته ... فأوج مرقي حياة الروح مرقبه
نبدت لوايحه من بحر جوهره ... برقاً يغير على الغيران خلبه
وتستعير له روحاً مظاهره ... سر الجمال بها يبدو تحجبه

بدرٌ وفي أفق الأرواح مطلعه ... مهما أفاقت وإلا فهي مغربه
بخاطره منه سر لا يفارقه ... وإن غدا بغرام الشوق يلهبه
لي هواه والبعد ينهاني ويصدقني ... في نصحه وصريح الوجد يكذبه
سر الغرام غريب ليس يعلمه ... إلا الذي قد غدا يرضيه مغضبه
وللصبابة أقوام وموردهم بها ... من الأنس أحلاه وأعذبه
وليس يعرف هذا حق معرفة ... إلا الذي قد تجلى عنه غيهبه
وأبصر الحسن قد لاحت لاوايحه ... وغرٌّ مستبشر الأضواء كوكبه
بذات أهيف من سر الحياة ... طرسٌ يغالبه طوراً فيغلبه
وفي لجين الجمال المحض قد فعلت ... فعلاً يرد لها في الحكم مذهبه
أروم إعجامه هوناً وتطمعني ... فيه النفاسة والأنفاس تعرفه
فم لمثلي بكتمانٍ ومن نفسي ... أخو بيان مع الساعات يسهبه
لبانة السر أن تحظى بمرقبة ... إلى سبيل من الزلفى تقربه
تسمو على منكب الجوزاء ذروتها ... عن رقة بشهود الفرق تسلبه
وفي مصافات سر القبض يبسطه ... لدى الوجود الذي قد عز مطلبه
فيرتقي في مراقي الجمع مختطفاً ... إلى السقام الذي عند بغيته
فذاك أعظم ما يرجوه أن سبقت ... عنا يدٌ نحو باب العز تجذبه
ومن منظومه في النسيب قوله:
لمحمد البرقاء حسن باهر ... كل الورى حلف الصبابة فيه
السحر مفتون بغنج لحاظه ... والشهد ممزوج بريقه فيه
فسحره أضنى المتيم في الهوى ... حتى يكاد سقامه يخفيه
ولو أنه بالشهد جاد ورشفه ... لصد لكان من الصدا يشفيه
بصدوده قلبي يقطع في الهوى ... يا ليته بوصاله رافيه
وصدر كتاباً بقوله يخاطبني:
أنسياناً فديتك يا حياتي ... لمن لم ينبيك حبك للممات
ورجماً بالظنون أخا حنين ... إليك رهين شوق وانبتات
يميناً بالنهار إذا تجلى ... وبالقمر المنير وبالآيات
لقد أحللت حبك من فؤادي ... محل الروح من بث الجهات
وشعره بديع، وإدراكه عجيب، وعارضته قوية.
علي بن محمد بن علي

بن يوسف الكتامي
يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن الضايع: من أهل إشبيلية.
حالهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، بلغ الغاية في الفن النحوي، وفاق أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين بأسرهم، وله في مشكلات الكتاب العجايب . وقرأ ببلده أيضاً علم الكلام، وأصول الفقه، وكان متقدماً في هذه العلوم الثلاثة، متصرفاً فيها. وأما فن العربية، وعلم الكلام، فلم يكن في وقته من يقاربه في هذين العلمين. وأما فهمه وتصرفه في كتاب سيبويه، فما أراه يسبقه في ذلك أحد. وله إملاءٌ على طايفة كبيرة من إيضاح الفارسي. وكان له اعتناءٌ كبير بكلام الفارسي على الجملة، وبحسب ذلك استقضى اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على أبي علي بالرد، واستوفى ما وقع له في ذلك، حتى لم يبق بيده شيء على طريقة من الإنصاف، ودليل الهدى. لم يسبق إليها. وكذا فعل في رد أبي محمد بن السيد، علي أبي القاسم الزجاجي. وكذا فعل في اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على كتاب سيبويه. وكان بالجملة إماماً في هذا كله لا يجارى. وأما اختيارات أبي الحسن بن عصفور في مغربه وغير ذلك من تعاليقه، وما قيد في ذلك، فرد عليه معظمها أو أكثرها. ولم يلق بالأندلس والعدوة، ولا سمعنا بأنبه منه، ممن وقفنا على كلامه أو شاهدناه، ولا رأيت مختلفاً عليه من أهل بلده من أترابه، ومن فوقهم. وكان إذا أخذ في فن أتى بعجايب. قال الأستاذ، لازمته، وأخذت عليه كتاب سيبويه في عدة سنين، وأكثر كتاب الإيضاح، وجمل الزجاجي. إلى غير ذلك، وجميع التلقيحات للسهر وردي. وطايفة كبيرة من إرشاد أبي المعالي، ومن كتاب الأربعين لابن الخطيب، وغير ذلك.
مشيخته

أجاز له من أهل بلده الرواية المسن، أبو الحسن بن السراج، والقاضي أبو الخطاب بن خليل. ومن غيرهم، القاضي أبو بكر بن محرز، والمقري المعمر أبو بكر الشماتي المعروف بالشريشي، وأبو عبد الله الأزدي، وأبو عبد الله بن جوبر وآخرين. وقرأ ببلده. ولازم الأستاذ أبا علي الشلوبين، حتى كمل عليه إيضاح الفارسي، وكتاب سيبويه. وسمع جمل الزجاجي وغير ذلك من كتب العربية، ممن كان يقرأ في المجلس، وقرأ عليه طائفة كبيرة من تذكرة الفارسي، مما يتعلق بمسائل الكتاب، بعد أن جردها من التذكرة. وبلغ الغاية في الفن النحوي، وفاق أصحاب أبي علي بأسرهم.
وفاتهتوفي رحمه الله، في شهر ربيع الآخر من سنة ثمانين وستماية، وقد قارب التسعين. قلت العجب من الشيخ الخطيب رحمه الله، كيف لا يذكر للمترجم به رحمه الله، شرحه لجمل الزجاجي، بل شرحه الصغير والكبير. ولم يكن اليوم على الزجاجي أجدى منها، ولا أنفع، ولا أقل فضولاً، ولا أفصح عبارة، ولا أوجز خطابة، ولا أجمل إنصافاً، ولا أجود نظراً
الكتاب والشعراءوأولا الأصليون منهم
علي بن محمد بن عبد الحق

بن الصباغ العقيلي
يكنى أبا الحسن من أهل غرناطة.
حالهصاحبنا أبو الحسن، من أهل الفضل والسراوة والرجولة والجزالة. فذ في الكفاية، ظاهر السذاجة والسلامة، مصعب لأضدده، شديد العصبة لأولي وده، في أخلاقه حدة، وفي لسانه نبلى أخلابه، مشتملٌ على خلال من خط بارع، وكتابة حسنة، وشعر جيد، ومشاركة في فقه وأدب ووثيقة، ومحاضرة ممتعة. ناب عن بعض القضاة، وكتب الشروط، وارتسم في ديوان الجند، وكتب عن شيخ الغزاة أبي زكريا بن عمر على عهده. ثم انصرف إلى العدوة سابع عشر جمادى الأولى من عام ثلاث وخمسين وسبعماية، فارتسم في الكتابة السلطانية منوهاً به، مستعملاً في خدم مجدية، بان غناؤه فيها، وظهرت كفايته.
وجرى ذكره في كتاب التاج بما نصه: اللسن العارف، والناقد لجواهر المعاني، كما يفعل بالسكة الصيارف، الأديب المجيد، الذي تملى به العصر والنحر والجيد، إن أجال جياد براعته، فضح فرسان المهارق، وأخجل بين بياض طرسه، وسواد نفسه الطور تحت المفارق. وإن جلى أبكار أفكاره وأثار طير البيازين أوكاره، سلب الرحيق المفدم فضل أبكاره، إلى نفس لا يفارقها ظرف، وهمة لا يرتد إليها طرف، وإباية لا يفل لها غرب ولا حرف. وله أدب غض، زهره عن مجتنيه مرفض. كتبت إليه أنتجز وعده في الالتحاف برايقه، والإمتاع بزهر هواتفه، وهو قولي:
عندي لموعدك افتقارٌ مجوج ... وعهودك افتقرت إلى إنجازها
والله يعلم فيك صدق مودتي ... وحقيقة الأشياء غير مجازها
فأجابني بقوله:
يا مهدي الدر الثمين منظماً ... كلما حلال السحر في إيجازها
أدركت حلبات الأوايل وانياً ... ورددت أولاها على أعجازها
أحرزت في المضمار خصل سباقها ... ولأنت أسبقهم إلى إحرازها
حليت بالسمطين مني عاطلاً ... وبعثت من فكري متات مفازها
فلأنجزن مواعدي مستعطفاً ... فاسمح وبالإغضاء منك مجازها
ومن مقطوعاته قوله:
ليت شعري والهوى أمل ... وأماني الصب لا تقف
هل لذاك الوصل مرتجع ... أو لهذا البحر منصرف
ومن ذلك:
وظبي سبا بالطرف والعطف والجيد ... وما حاز من غنج ولين ومن غيد
أتيت إليه بالدنو مداعباً ... فقال أيدنو الظبي من غابة الأسد
وقال من مبدإ قصيدة مطولة فيما يظهر منها:
حديث المغاني بعدهن شجون ... وأوجه أيام التباعد جون
لحا الله أيام الفراق فكم شجت ... وغادرت الجذلان وهو حزين
وحيا دياراً في ربى إغرناطة ... وإني بذاك القرب فيه ضنين
ليالي أنفقت الشباب مطاوعاً ... وعمري لدى البيض الحسان ثمين
فأرخصت فيها من شبابي ما غلا ... وغرمي على مال العفاف أمين
خليلي لا أمر بأربعها قفا ... فعندي إلى تلك الربوع حنين
ألم ترياني كلما ذر شارق ... تضاعف عندي عبرة وأنين

إذا لم يساعدني أخٌ منكما فلا ... حدت نحو قرن بعد ذاك أمون
أليس عجيباً في البرية من لنا ... إلى عهد إخوان للزمان ركون
فلما تثغن من ذرى وفاء بعهده ... فقد أجن السلسال وهو معين
أذلني عذر في فراق ضلوعه ... وللدمع في ترك الشئون شئون
ومن ترك الحزم المعين فإنه ... لعانٍ بأيدي الحادثات رهين
رعى الله أيامي الوثيق ذمامها ... فإن مكاني في الوفاء مكين
ولم أر مثل الدهر أما عدوه ... فخب وأما خله فخئون
ولولا أبو عمرو وجود يمينه ... لما كان في عهد الزمان معين
ومن شعره قوله:
زار الخيال ويا لها من لذة ... لكن لذات الخيال منام
ما زلت ألثم مبسماً منظومه ... در ومورده الشهي مدام
وأضم غصن البان من أعطافه ... فأشم مسكاً فض عنه ختام
مولدهعام ستة وسبعماية.
وفاتهوتوفي بمدينة فاس، وقد تخلفه السلطان كاتب ولده، عند وجهته إلى إفريقية، في شوال عام ثمانية وخمسين وسبعماية، فتوفي في العشرين لرمضان منه.
ابن الجيابعلي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن الأنصاري من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن الجياب، شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله، على ما كان عليه من التفنن، والإمامة في البلاغة، والأخذ بأطراف الطلب، والاستيلاء على غاية الأدب، صاحب مجاهدة، وملازمة عبادة، على طريقة مثلى من الانقباض والنزاهة، وإيثار التقشف، محباً في أهل الخير والصلاح، منحاشاً إليهم، منافراً عن أضدادهم، شيخ طلبة الأندلس، رواية وتحقيقاً، ومشاركة في كثير من العلوم، قايماً على العربية واللغة، إماماً في الفرايض والحساب، عارفاً بالقراءات والحديث، متبحراً في الأدب والتاريخ، مشاركاً في علم التصوف، فذاً في المسايل الأدبية البيانية، حامل راية المنظوم والمنثور، والإكثار من ذلك، والاقتدار عليه، جلداً على الخدمة، مغتبطاً بالولاية، محافظاً على الرتبة، مراقباً لوظايف الأبواب السلطانية، متوقد الذهن، ذلق الجوانب، مشغوفاً بالأنس والمفاوضة في الأدب، محسناً للنادرة الظريفة، مليح الدعابة، غزير الحفظ، غيوراً على الخطة، كثير النشاط إلى المذاكرة، مع استغراق الكلف، وعلو السن. طال به المرض حتى أذهب جواهر بدنه، وعلى ذلك فما اختل تميزه، ولا تغير إدراكه. بعثت إليه باكور رمان، فقال لي من الغد، نعم بالهدنة زمانك، يعني نعمت الهدية رمانك. فعجب الناس من اجتماع نفسه، وحضور فكره. وهو شيخي الذي نشأت بين يديه وتأدبت به، وورثت خطته عن رضى منه. كتب عن الدول النصرية نحواً من خمسين سنة أو ما ينيف عليها، متين الجاه، رفيع المكانة، بعيد الصيت، وسفر إلى الملوك، واشتهر بالخير، والحمل على أهل الظلم، وجرى ذكره في التاج بما نصه: صدر الصدور الجلة، وعلم أعلام هذه الملة، وشيخ الكتابة وبنيها وهاصر أفنان البدايع وجانيها، اعتمدته الرياسة، فنأى بها على حبل ذراعه، واستعانت به السياسة فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه. فتفيأ للعناية ظلاً ظليلاً، وتعاقبت الدول، فلم تر به بديلاً، من ندب على علوه متواضع، وحبر لثدي المعارف راضع، لا تمر مذاكرة في فن إلا وله فيه التبريز، ولا تعرض جواهر الكلام على محاكاة الأفهام، إلا وكلامه الإبريز، حتى أصبح الدهر راوياً لإحسانه وناطقاً بلسانه، وغرب ذكره وشرق، فأشام وأعرق وتجاوز البحر الأخضر والخليج الأزرق، إلى نفس هذبت الآداب شمايلها، وجادت الرياض خمايلها، ومراقبة لربه، واستباق لروح الله من مهبه. ودين لا يعجم عوده. ولا تخلف وعوده. وكل ما ظهر علينا بنيه من شارة تجلى بها العين، أو إشارة كما سبك اللجين، فهي إليه منسوبة، وفي حسناته محسوبة، فإنما هي أنفس راضها بآدابه، وأعلقها بأهدابه، وهذب طباعها، كالشمس تلقي على النجوم شعاعها، والصور الجميلة تترك في الأجسام الصقيلة انطباعها وما عسى أن أقول في إمام الأيمة، ونور الدياجي المدلهمة، والمثل الساير في بعد الصيت، وعلو الهمة.
مشيخته

نقلت من خطه، في بعض ما كتب به إلى من الأشياخ الذين ليقتهم وأجازوني عامة. الشيخ الفقيه الخطيب الصالح الصوفي المحقق صاحب الكرامات والمقامات، نسيح وحده، أبو الحسن فضل بن محمد بن علي ابن فضيلة المعافري. قرأت عليه كذا. ومنهم الشيخ الفقيه الأستاذ العالم العلم الكبير، خاتمة المسندين بالمغرب، أبو جعفر أحمد بن إبراهيم ابن الزبير الثقفي، نشأت بين يديه، وقرأت عليه كثيراً وسمعت، وأجازني. ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن محمد الخشني البلوطي. قرأت عليه القرآن العزيز بالقراءات السبع وغير ذلك. ومنهم الشيخ الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن عياش الخزرجي القرطبي، لقيته بمالقة. ومنهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن علي الغساني السعدي الخطيب الصالح، قرأت عليه وسمعت. ومنهم الشيخ العدل أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن أحمد بن مستقور الطائي. ومنهم قاضي الجماعة الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد العنسي، ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الإمام أبو عبد الله محمد ابن عمر بن رشيد. ومنهم الشيخ الخطيب أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري الكحيلي. ومنهم الشيخ الخطيب الأستاذ الصالح أبو محمد عبد الواحد ابن محمد بن أبي السداد الأموي الباهلي. ومنهم الشيخ الوزير الحسيب أبو عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري، والشيخ الخطيب الأستاذ النظار أبو القاسم بن الشاط، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن مالك بن المرحل والشيخ المبارك أبو محمد عبد المولى بن عبد المولى الخولاني. هؤلاء كلهم لقيتهم، وأجازوني إجازة عامة، وأما من أجازني ولم ألقه، فعالم كثير من أهل المغرب والمشرق، منهم أبو العباس بن الغماز قاضي الجماعة بتونس، وأبو عبد الله بن صالح الكناني خليب بجاية، والشريف أبو علي الحسن بن طاهر بن أبي الشرف بن رفيع الحسني، وأبو فارس عبد العزيز الهواري، وأبو محمد بن هرون القرطبي، وأبو علي ناصر الدين المشدالي، وغيرهم.
شعرهوشعره كثير مدون، جمعته ودونته، يشتمل على الأغراض المتعددة من المعشرات النبويات، والقصائد السلطانيات، والإخوانيات، والمقطوعات الأدبيات، والألغاز والأحجيات.
فمن ذلك من المعشرات في حرف الجيم على وجه التبرك:
جريئاً على الزلات غير مفكر ... جباناً على الطاعات غير معرج
جمعت لما يفنى اغتراراً بجمعه ... وضيعت ما يبقى سجية أهوج
جنوناً بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدىً ليست بعشك فادرج
جيادك في شأو الضلال سوابقٌ ... تفوت مدىً بين الوجيه وأعوج
جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج
جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرب في السبع الطباق بمعرج
جمالٌ أنار الأرض شرقاً ومغرباً ... فكل سنىً من نوره المتبلج
جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصا ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج
جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسايل تخطيني بما أنا أرتج
ومن الأغراض الصوفية السلطانية قوله:
هات اسقني صرفاً بغير مزاج ... واحي التي هي راحتي وعلاجي
إن صب منها في الزجاجة قطرة ... شف الزجاج عن السني الوهاج
فإذا الخليع أصاب منها شربةً ... حاجاه بالسر المصون محاج
وإذا المريد أصاب منها جرعة ... ناجاه بالحق المبين مناج
تاهت به في مهمهٍ لا يهتدى ... فيه لتأديب ولا إدلاج
يرتاح من طرب بها فكأنها ... غنته بالأرمال والأهزاج
هبت عليه نفحةٌ قدسية ... في فتح باب دائم الأرتاج
فإذا انتشى يوماً وفيه بقية ... سارت به قصداً على المنهاج
وإذا تمكن منه سكر معربدٍ ... فليبصرن لمصرع الحلاج
قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يفيض بمنطقٍ لجلاج
أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يهبط في الظلام الداج

رام الصعود بها لمركز أصله ... فرمت به في بحرها المواج
فلئن أمد برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج
وليرجعن بغنيمة موفورة ... ما شيب عذب شرابها بأجاج
ولئن تحظاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكساً على الأدراج
ما أنت إلا درة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج
فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرج بها في أرفع المعراج
واشدد يديك معاً على حبل التقى ... فإن اعتصمت به فانت الناج
ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ... وإلى الغنى امدد يد المحتاج
هذا الطريق له مقدمتان صا ... دقتان انتجا أصح نتاج
فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج
حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال وطول حجاج
والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج
ألا ترى إلا الحقيقة وحدها ... والكل مضطر إليها لاج
هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجاج
وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثجاج
من آل نصرٍ نخبة الملك الرضا ... أمن المروع هم وغيث اللاج
من آل قبلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج
ماذا أقول وكل قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج
منه لباغي العرف درٌّ فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاج
دامت سعودك في مزيد والمنى ... يأتيك أفواجاً على أفواج
ومن الأمداح المطولة:
لمن المطايا في السراب سوابحا ... تفلى الفلاة غوادياً وروايحا
عوج كأمثال اللقيى ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا
أو كالسحاب تسير مثقلة ... بما حملته من سقيا البطاح دوالحا
ركبٌ ييمم غاية بل آية ... أبدت محيا الحق أبلح واضحا
لما دعا داعي الرشاد مردداً ... لبوه شوقاً والحمام هوادحا
فلهم عجيج بالبسيطة صاعد ... يذكى بنار الشوق منك جوانحا
وإذا حدا الحادي بذكر المصطفى ... أذروا في الأكوار دمعاً سابحا
عيسٌ تهادى بالمحبين الألى ... ركبوا من العزم المصمم جامحا
طارت بهم أشواقهم سباقةٌ ... فتركن أعلام المطى روازحا
رفقاً بهن فهن خلق مثلكم ... أنضاء أسفار قطعن منادحا
قد جين للهادي وهادا جمة ... وسلكن نحو الأبطحي أباطحا
ناشدتك الرحمن وافد مكة ... ألا صرفت إلى صرفاً طامحا
وأخاً أتيت القبر قبر محمد ... وحمدت سعياً من سفارك ناجحا
وذهلت عن هذا الوجود مغيباً ... لما لمحت من الجمال ملامحا
فاقرأ سلامي عند قبر المصطفى ... وامسح بيمناك الجدار مصافحا
قسماً بوفد يزخرون رواحلاً ... قطعت سباسباً بلقعاً وضحاضحا
حتى أناخوا بالمحصب من منى ... وتأملوا النور المبين اللايحا
وتعرضوا لعوارض عرفية هبت ... بها تلك الرياح لوافحا
وآووا إلى الحرم الشريف فطافعاً ... بالبيت أو بالركن منه ماسحا
وسقوا به من ماء زمزم شربةً ... نالوا بها في الخلد حظاً رابحا
ثم انثنوا قصداً إلى دار الهدى ... يتسابقون عزايماً وجوارحا
فتبوؤا المغنى الذي بركاته ... فاضت على الآفاق بحراً طافحا
ختموا مناسكهم بزورة أحمد ... بختام مسك طاب عرفاً نافحا

إن السماحة والشجاعة والندى ... والبأس والعقل الأصيل الراجحا
وقفٌ على شمس المعالي يوسف ... أعلى الملوك خواتماً وفواتحا
فهو الذي ملأ البلاد فضايلاً ... صارت لمن بارى علاه فضايحا
إن أجملت سير الكرام فخلقه ... ما زال للإجمال منها شارحا
حامي الذمار مدافعاً وموادعاً ... كافي العدو محارباً ومصافحا
للملك بالعزم المؤيد مانعاً ... للعرف بالجود المردد مانحا
إن تلقه في يوم جود هامر ... تلق السحاب على البلاد سوابحا
أو تلقه في يوم بأس قاهر ... تلق الأسود لدى العرين كوافحا
أو تلقه في يوم فخر ظاهر ... تلق الكواكب في السماء لوايحا
من أسرة النضر الألى هم ناصحوا ... بعزايم الصدق الأمين الناصحا
هم أسسوا الملك المشيد بناؤه ... فكفوا به الإسلام خطباً فادحا
فاستفهم الأيام عن آثارهم ... تطلع عليك صحايفاً وصفايحا
كان إذا ضن الغمام سحايباً ... يهمى وإن جن الظلام مصابحا
شادوا له مجداً صميماً راسخاً ... يبقى على الأعقاب ذكراً صالحا
وسما فخر فوق أمن جهادهم ... سمكوا له سماكاً رامحا
الأعظمون مغانياً ومناقباً ... والأكرمون محامداً وممادحا
يا دولةً نصريةً قد جددت ... نصراً لأبواب المعاقل فاتحا
وأمامة سعدية قد أطلعت ... سعداً ولكن للأعادي ذابحا
فاضت جداً فكأنما أيامها ... جعلت لأرزاق العباد مفاتحا
كفت عداً فكأنما أوقاتها ... جاءت لآيات الأمان شوارحا
عدلاً لأقطار الإيالة كالباً ... ولجامحات البغي منها كافحا
بشرى بيوسف ناصر الملك الذي ... ما زال عنه مجالداً ومكافحا
جمع المواهب للمواهب مانحاً ... فوق المنى وعن الجرايم صافحا
ابن الإمام أبي الوليد وحسبنا ... مدحاً تضمن في الفخار مدايحا
يهنيك عيد النحر أسعد قادم ... وافاك من جدوى يمينك ماتحا
وفيته قربانه وصلاته وأقمت ... فيه شعايراً وذبايحا
ورجعت في الجيش الذي أخباره ... تروى غرايبها الحسان صحائحا
أسدٌ ضراغم فوق خيل ترتمي ... نحو العدو سوانحاً وبوارحا
طيارةٌ بالدارعين تخالها ... تنقض في يوم القتال جوارحا
من كل من تخذ القنا خيماً له ... بلقى العدو مماسياً ومصابحا
والشمس أضرمت السبيكة عندما ... لقي الحديد شعاعها المطارحا
فاهنأ به وانعم بدولتك التي ... ترضي الولي بها وتشجى الكاشحا
دامت ودام الحق فيها ثابتاً ... يعلو يداً والإفك فيها طالحا
وقال يمدح ويصف مصنعاً سلطانياً:
زارت تجرر نحوه أذيالها ... هيفاء تخلط بالنفار دلاها
والشمس من حسدٍ لها مصفرةٌ ... إذ قصرت عن أن تكون مثالها
وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طي العتاب نوالها
كم رمت كتم مزارها لكنه ... صحت دلايل لم تطق إعلالها
تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجاً كأن المسك فت خلالها
ما واصلتك محبةً وتفضلاً ... لو كان ذاك لواصلت أفضالها
لكن توقعت السلو فجددت ... لك لوعةً لا تتقي ترحالها
فوحبها قسماً بحق بروره ... لتجشمنك في الهوى أهوالها
حسنت نظم الشعر في أوصافها ... إذ قبحت لك في الهوى أفعالها
يا حسن ليلة وصلها ما ضرها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها

لما سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسك لم ترد إعمالها
هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها
واخلع عذارك في البطالة جامحاً ... واقرن بأسحار المنى آصالها
في جنة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها
شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضالها
وصمها أصلاً وفرعاً خيرها ... ذاتاً وخلقاً سمحها بذالها
الطاهر الأعلى الإمام المرتضى ... بحر المكارم غيثها سلسالها
حاز المعالي كابراً عن كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها
إن تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمايم أرسلت هطالها
أو تلقه في يوم حرب عداته ... تلق الضراغم فارقت أشبالها
ملك إذا ما صال يوماً صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها
فبسيفه وبسيفه نال المنا ... واستعجلت أعداؤه آجالها
الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها
القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها
إن قلت بحر كفه قصرت إذ ... شبهت بالملح الأجاج نوالها
ملأ البسيطة عدله ونواله ... فالوحش لا تعدو على من غالها
وسقى البرية فيض كفيه فقد ... عم البلاد سهولها وجبالها
جمع العلوم عناية بفنونها ... آدابها وحسابها وجدالها
منقولها معقولها وأصولها ... وفروعها تفصيلها إجمالها
فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لما رأوا من كفك استهلالها
وإذا عداتك أبصروك تيقنوا ... أن المنية سلطت ريبالها
بددت شملهم ببيض صوارم ... رويت من علق الكماة نصالها
وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... جزراً تغادر نهبة أموالها
فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها
وبنت مصانع رايقات ذكرت ... دار النعيم جنانها وظلالها
وأجلبها قدراً وأرفعها مدىً ... هذا الذي سامى النجوم فطالها
هو جنة فيها الأمير مخلد ... بلغت إمارته بها آمالها
ولأرض أندلسٍ مفاخر أنتم ... أربابها أضفيتم سربالها
فحميتم أرجاءها وكفيتم ... أعداءها وهديتم ضلالها
فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم نعتمد من قبلهم أقيالها
بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألد نضالها
فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ... جرداً كسين من النجيع جلالها
وهم الألى فتحوا لكل ملمة ... باباً أراح بفتحه إشكالها
متقلدون من السيوف عضابها ... متأبطون من الرماح طوالها
الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها
أولي عهد المسلمين ونخبة الأم ... لاك صفوة محضها وزلاها
إن العباد مع البلاد مقرة ... بفضايل لك مهدت أحوالها
فتفك عانيها وتحمي سربها ... وتفيد حلماً دائماً جهالها
ومن الرثاء قوله يرثي ولده أبا القاسم:
هو البين حتماً لا لعل ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عنده أسى
وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتباً لهذا القلب سرعان ما قسا
ويا لجفوني لا تفيض مورداً ... من الدمع يهمى تارة ومورسا
وما للساني مفصحاً بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينبسا
أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ... ووسدت مني فلذة القلب مرمسا
وبعد فراق ابني أبي القاسم الذي ... كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا
أؤمل في الدنيا حياة وارتضي ... مقيلاً لدى أبنائها ومعرسا

فآهاً وللمفجوع فيها استراحة ... ولابد للمصدور أن يتنفسا
على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران مفلسا
ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا
إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبس منه القلب ما قد تلبسا
وصدمة خطب نازلتني عشية ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا
فقد صدعت شملي وأصمت مقاتلي ... وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا
ثبت لها صبراً لشدة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا
وأطمع في أن يلقى برحمته الرضا ... وأجزع أن يشقى بذنب فينكسا
أبا القاسم اسمع شجو والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا
وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ... وأشهد لا ينفك وقفاً محبسا
وقطعت آمالي من الناس كلهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا
تواريت يا شمسي وبدري وناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا
وخلفت لي عبئاً من الثكل فادحاً ... فما أتعب الثكلان نفساً وأتعسا
أحقاً ثوى ذاك الشباب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا
فيا غصناً نضراً ثوى عندما استوى ... فأوحشني أضعاف ما كان آنسا
ويا نعمةً لما تبلغتها انقضت ... فأنعم أحوالي بها صار أبؤسا
فودعته والدمع يهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريدا المجنسا
وقبلت في ذاك الجبين مودعاً ... لأكرم من نفسي علي وأنفسا
وخفف من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر ما عسا
فيا رحمة للشيب يبكي شبيبةً ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا
فلو أن هذا الموت يقبل فديةً ... حبوناه أموالاً كراماً وأنفسا
ولكنه حكم من الله واجب ... يسلم فيه من بخير الورى ائتسى
تغمدك الرحمن بالعفو والرضا ... وكرم مثواك الجديد وقدسا
وألف منا الشمل في جنة العلا ... فنشرب تسنيماً ونلبس سندسا
وكتب إليه قصيدة أولها:
أمستخرجا كنز العقيق بآماقي ... أناشدك الرحمن في الرمق الباقي
فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي ... عليك وضافت عن زفيري أطواق
فأجابني رحمة الله عليه عن ذلك:
سقاني فأهلاً بالسقاية والعناق ... سلافاً بها قام السرور على ساق
ولا نقل إلا من بدايع حكمة ... ولا كأس إلا من سطورٍ وأوراق
فقد أنشأت لي نشوة بعد نشوة ... تمد بروحانية ذات أذواق
فمن حظها الفاني متاعٌ لناظري ... وسمعي وحظ الروح من حظها الباقي
أعادت شبابي بعد سبعين حجة ... فأثوابه قد جددت بعد إخلاق
وما كنت يوماً للمدامة صاحباً ... ولا قبلتها قط نشأة أخلاق
ولا خالطت لحمي ولا مازجت دمي ... كفى شرها مولاي فالفضل للواق
وهذا على عهد الشباب فكيف لي ... بها بعد ما للشبيبة مهراق
تبصر فحكماً القهوتين تخالفاً ... فكم بين إثبات لعقل وإزهاق
وشتان ما بين المدامين فاعتبر ... فكم بين إنجاح لسعي وإخفاق
فتلك تهادى بين ظلم وظلمة ... وهذي تهادي بين عدل وإشراق
أيا علم الإحسان غير منازع ... شهادة إجماع عليها وإصفاق
فضائلك الحسنى علي تواترت ... بمنهمر من سحب فكرك غيداق
خزاين آداب بعثت بدرها ... إلى ولم تمنن بخشية إنفاق
ولا مثل بكر حرة عربية ... زكية أخلاق كريمة أعراق

فأقسم ما البيض الحسان تبرمت ... تناجيك سراً بين وحي وإطراق
بدورٌ بدت من أفق أطواقها على ... رياض شدت في قضبه ذات أطواق
فناظر منها الأقحوان ثغورها ... وقابل منها نرجس سحر أحداق
وناسب منها الورد خداً مورداً ... سقاه الشباب النضر بورك من ساق
وألبسن من صنعاء وشياً منمنماً ... وحلين من در نفايس أعلاق
بأحلىً لأفواه وأبهىً لأعين ... وأحلىً لألباب وأشهىً لعشاق
رأيت بها شهب السماء تنزلت ... إلى تحييني تحية مشتاق
ألا إن هذا السحر لا سحر بابل ... فقد سحرت قلبي المعنى فمن راق
لقد أعجزت شكري فضايل ماجد ... أبر بأحباب وأوفى بميثاق
تقاضى ديون الشعر مني منبهاً ... رويدك لا تعجل علي بإرهاق
فلو نشر الصادان من ملحديهما ... لإنصاف هذا الدين لاذا بإملاق
فخذ زمام الرفق شيخاً تقاصرت ... خطاه وعاهده بمعهود وإشفاق
فلا زلت تحيى للمكارم رسمها ... وقدرك في أهل العلا والنهى راق
وكتبت إليه في غرض العتاب والاستعتاب:
أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا ... مدامة عتب بيننا نقلها الرضا
فلله عيناً من رآنا وللحيا حيى ... بآفاق البشاشة أومضا
نفر إلى عدل الزمان الذي أتى ... ونبرأ من جور الزمان الذي مضى
ونأسو كلوم اللفظ باللفظ عاجلاً ... كذا قدح الصهباء داوى وأمرضا
فراجعني بقوله:
ألا حبذا ذاك العتاب الذي مضى ... وإن جره واش بزور تمضمضا
أغارت له خيلٌ فما ذعرت حمى ... ولكنها كانت طلائع للرضا
تألق منها بارق صاب مزنة ... على معهد الحب الصميم فروضا
تلألأ نور للصداقة حافظاً ... وإن ظن سيفاً للقطعية منتضا
فإن سود الشيطان منه صحيفة ... أتى ملك الرحمى عليها فبيضا
وما كان حب أحكم الصدق عهده ... ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا
أعيذ وداداً زاكي القصد وافياً ... تخلص من أدرانه فتمحضا
ونية صدق في رضى الله أخلصت ... سناها بآفاق البسيطة قد أضا
من الآفك الساعي ليخفي نورها ... أيخفى شعاع الشمس قد ملأ الفضا
وكيف يحل المبطلون بإفكهم ... معاقد حب أحكمتها يد القضا
تعرض يبغي هدمها فكأنه ... لتشييد مبناها الوثيق تعرضا
وحرض في تنفيره فكأنما ... على البر والتسكين والحب حرضا
وأوقد ناراً فهو يصلى جحيمها ... يقلب منها القلب في موقد الغضا
أيا واحدي المعدود بالألف وحده ... ويا ولدي البر الزكي إن ارتضا
بعثت من الدر النفيس قلايداً ... على ما ارتضى حكم المحبة واقتضا
نتيجة آداب وطبعٍ مهذب ... أطال مداه في البيان وأعرضا
ولا مثل بكر باكرتني آنفاً ... كزورة خلٍّ بعد ما كان أعرضا
هي الروضة الغناء أينع زهرها ... تناظر حسناً مذهباً ومفضضا
أو الغادة الحسناء راقت فينقضي ... مدى العمر في وصفي لها وهو ما انقضا
تطابق منها شعرها وجبينها ... فذا الليل مسوداً وذا الصبح أبيضا
أو الشهب منها زينة وهداية ... ورجمٌ لشيطان إذا هو قيضا
أتت ببديع الشعر طوراً مصرحاً ... بأبياتك الحسنى وطوراً معرضا
ومهدت الأعذار دون جناية ... ولو أنك الجاني لكنت المغمضا

لك الله من بر وفيٍّ وصاحبٍ ... محضت له صدق الضمير فأمحضا
لسانك في شكري مفيض تفضلاً ... فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا
وقلبك فاضت فيه أنوار خلتي ... فأبقى يدي تسليمه لي مفوضا
وقصدك مشكور وعهدك ثابت ... وفضلك منشور وفعلك مرتضا
فهل مع هذا ريبةٌ في مودة ... بحال وإن رأيت فما أنا معرضا
فثق بولائي إنني لك مخلص ... هوىً ثابتاً يبقى فليس له انقضا
عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما بارق جنح الدجنة أومضا
وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش:
أهزلاً وقد جدت بك اللمة الشمطاء ... وأمناً وقد ساورتها حية رقطا
أغرك طول العمر في غير طايل ... وسرك أن الموت في سيره أبطا
رويداً فإن الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركايبه حطا
فإذ ذاك لا تستطيع إدراك ما مضى ... بحال ولا قبضاً تطيق ولا بسطا
تأهب فقد وافى مشيبك منذراً ... وها هو في فوديك أحرفه خطا
فرافقت منه كاتب السر واشياً ... له القلم الأعلى يخط به وخطا
معمى كتاب فكه احذر فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشطا
وإن طال ما خاضت بك اللجج التي ... خبطت بها في كل مهلكة خبطا
وما زلت في أمواجها متقلباً ... فآونة رفعاً وآونة حطا
فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشد عليك الجانبين بها ضغطا
ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاقٍ أرضواناً من الله أم سخطا
وأعجب شيءٍ منك دعواك في النها ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطا
قسطت عن الحق المبين جهالةً ... وقد غالطتك النفس فادعت القسطا
وطاوعت شيطاناً تجيب إذا دعا ... وتقبل أن أغوى وتأخذ إن أعطا
تناءى عن الأخرى وقد قربت مدىً ... تداني عن الدنيا وقد أزمعت شحطا
وتمنحها حباً وفرط صبابة ... وما منحت إلا القتادة والخرطا
فها أنت تهوى وصلها وهي فاركٌ ... وتأمل قرباً من حماها وقد شطا
صراط هدىً نكبت عنه عمايةً ... ودار ردىً أوعيت في سجنها سرطا
فما لك إلا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كل ما يرتجي يعطى
دليل إلى الرحمن فانهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا
محبته شرط القبول فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشرطا
وما قبلت منه لدى الله قربة ... ولا زكت الأعمال بل حبطت حبطا
به الحق وضاح به الإفك زاهق ... به الفوز مرجوٌّ به الذنب قد حطا
هو الملجأ الأحمى هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطا
إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبل تبجيلاً أناملك السبطا
وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتى بدايعها بسطا
وتتلو آيات التشيع إنها ... لموثقة عهداً ومحكمة ربطا
لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمي إلى سبطه سبطا
إلى شرفي دينٍ وعلمٍ تظاهرا ... تبارك من أعطى وبورك في المعطا
ورهطك أهل البيت بيت محمد ... فأعظم به بيتاً وأكرم بهم رهطا
بعثت به عقداً من الدر فاخراً ... وذكر رسول الله درته الوسطا
وأهديت منها للسيادة غادة ... نظمت من الدر الثمين بها سمطا

وحاشيتها من كل ما شأنها فإن ... تجعد حوشي تجد لفظها سبطا
وفي الطيبين الظاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا
عليك سلام الله ما در شارق ... وما رددت ورقاء في غصنها لغطا
ومن غريب ما خاطبني به قوله:
أقسم بالقيسين والنابغتين ... وشاعري طيىء المولدين
وبابن حجر وزهير وابنه ... والأعشيين بعد ثم الأعميين
ثم بعشاق الثريا والرقيات ... وعزة ومي وبثين
وبأبي الشيص ودعبل ومن ... كشاعري خزاعة المخضرمين
وولد المعتز والرضى والسرى ... ثم حسن وابن الحسين
وأختم بقسٍّ وسحبان فإن ... أوجب حق أن يكونا أولين
وحليتي نثرهم ونظمهم ... في مشرقي أقطارهم والمغربين
أن الخطيب ابن الخطيب سابق ... بنثره ونظمه للحلبتين
وافتني الصحيفة الحسنى التي ... شاهدت فيها المكرمات رأي عين
تجمع من يراعة المعنى إلى ... يراعة الألفاظ كلتا الحسنيين
أشهد أنك الذي سبقت في ... طريقي الآداب أقصى الأمدين
شعر حوى جزالة ورقة ... تصاغ منه حلية للشعريين
رسايل أزهارها منثورة ... سرور قلب ومتاع ناظرين
يا أحوذياً يا نسج وحده ... شهادة تنزهت عن قول مين
بقيت في مواهب الله التي ... تقر عينيك وتملأ اليدين
ومن المقطوعات الموطنات على المثال:
لله عصر الشباب عصرا ... فتح للخير كل باب
حفظت ما شئت فيه حفظا ... كنت أراه بلا ذهاب
حتى إذا ما المشيب وافى ... ند ولكن بلا إياب
لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيدوا العلم بالكتاب
ومن ذلك قوله:
يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل
إنفق وثق بالإله تربح ... فإن إحسانه جزيل
وقدم الأقربين واذكر ... ما روي ابدأ بمن تعول
ومن ذلك قوله:
وقائلة لم عراك المشيب ... وما أن يعهد الصبا من قدم
فقلت لها لم أشب كبرة ... ولكنه الهم نصف الهرم
ومن ذلك قوله:
هي النفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعة
وإن أنت جشمتها خطة ... تنافى رضاها تجدها مطيعة
فإن شئت فوزاً فناقض هواها ... وإن واصلتك أجزها بالقطيعة
ولا تعبأن بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعة
ومن المقطوعات أيضاً:
من أنت يا مولى الورى مقصود ... طوبى له قد ساعدته سعوده
فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده
وليفنين عن نفسه ورسومه ... طراً وفي ذاك الفناء وجوده
وليخطفنه بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده
حتى يظل وليس يدري دهشة ... تقريبه المقصود أو تبعيده
لكنه ألقى السلاح مسلماً ... فمراده ما أنت منه تريده
فلقد تساوى عنده إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده
ومن ذلك قوله في المعنى:
يقيني أن الله جل جلاله ... يقيني فراجي الله ليس يخيب
ومن مقطوعاته في الألغاز والأحاجي قوله في حجلة:
حاجيت كل فطن لبيب ... ما اسم الأنثى من بني يعوب
ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحق بالتقريب
تشركها في الإسم أنثى لم تزل ... حافظة لسرها المحجوب
وقد جرى في خاتم الوحي الرضا ... لها حديث ليس بالمكذوب
وهو إذا ما الفاء منه صحفت ... صبغ الحيا لا الحيا المسكوب
فهاكها واضحةٌ أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب
وفي آب الشهر:

حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم
يخبر بالرجعة وهو ... راجع كما زعم
وصف الحميم هو ... بالتصحيف أو بدء قسم
دونكه أوضح من ... نار على رأس علم
ومن ذلك قوله في كانون:
وما اسم لسميين ... ولم يجمعهما جنس
فهذا كلما يأتي ... فبالآخر لي أنس
وهذا ما له شخص ... وهذا ماله حس
وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس
وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس
وهذا واحد من سبعة ... تحيا به النفس
فمن محموله الجن ... ومن موضوعه الإنس
فقد بان الذي ألغزت ... ما في أمره لبس
ومن ذلك قوله في نمر:
ما حيوان ما له من حرمة ... إن اسمه صحف فابن العمة
وقلبه من بعد تصحيف له ... يريك في الذكر الحكيم أمة
ومن ذلك قوله في سلم:
ما اسم مركب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع
ينصب لكن أكثر استعمال من ... يعنى به في الخفض أو في الرفع
وهو إذا خففته مغيراً ... تراه شملاً لم يزل ذا صدع
فالاسم إن طلبته تجده في ... خامسة من الطوال السبع
وهو إذا صحفته يعرب عن ... مكسر في غير باب الجمع
له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشرع
هما جميعاً من بني النجار ... والأفضل أصل في حنين الجذع
فهاكه قد سطعت أنواره ... لاسيما لكل زاكي الطبع
ومن ذلك قوله في فنار:
ما اسم إذا حذفت منه فاءه الممنوعة ... فإنه بنت الزنا مضافة لأربعة
ومن ذلك قوله في حوت:
ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون
حروفه ثلاثة ... والكل منها نون
تصحيفه قطع الفلا ... أو ما جناه المذنبون
أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الخؤون
وقلبه مصحفاً عليه ... دارت السنون
كانت به في مضى ... عبرة قوم يعقلون
أودع فيها عنده ... سر من السر المصون
فهاكه كالنار في ... الزند لها فيه كمون
ومن ذلك قوله في مائدة:
حاجيت كل فطن نظار ... ما اسم لأنثى من بني النجار
وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقل ما يغفل عنها القار
في خبر المهدي فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار
ما هي إلا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار
بشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار
فهاكه كالشمس في وقت الضحى ... قد شف عنها حجب الأستار
ومن ذلك قوله في زينب:
ما نقي العرض طاهر الجسد ... عندما خالطه ألماً فسد
خالط الماء القراح فغوى ... بعد ما كان من أهل الرشد
عجمي الأصل تم حسنه ... عندما صاد الغزالة الأسد
واسمه اسم امرأة مصحفاً ... ولقد يكون وصفاً لولد
هاكه قد بهرت أنواره ... فارم بالفكر تصب قصد الرشد
جميع هذه الأغراض المنسوبة إليه، بحر لا ينفد مدده، وقطر لا يبلغ عدده.
وأما نثره فسلطانيات مطولات، عرضت بما تخللها من الأحوال متونها، وقلت لمكان الاستعجال والبديهة عيونها. وقد اقتضبت منها أجزأً سميته تافهاً من جم ونقطة من يم
مولدهولد بغرناطة في جمادى الآخرة عام ثلاثة وسبعين وستماية.
وفاتهليلة يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعماية. ودفن بباب إلبيرة. وكانت جنازته آخذة نهاية الاحتفال، حضرها السلطان فمن دونه.
ومما رثي به: رثيته بقصيدة أنشدتها على قبره خامس يوم دفنه ثبتت في غير ما موضع وهي:

ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النعي فهن في إطراق
وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسقم من جزع ومن إشفاق
ما للصحائف صوحت روضاتها ... أسفاً وكن نضيرة الأوراق
ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام الساق
ما لي عدمت تجلدي وتصبري ... والصبر في الأزمات من أخلاق
خطب أصاب بني البلاغة والحجا ... شب الزفير به عن الأطواق
أما وقد أودى أبو الحسن الرضا ... فالفضل قد أودى على الإطلاق
كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوماً ولا تفنى على الإنفاق
من للبدائع أصبحت سمر السرى ... ما بين شامٍ للورى وعراق
من لليراع يجيل من خطبها ... سم العدا ومفاتح الأرزاق
قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالترياق
من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق
تغتال أحشاء العدو كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق
وتهز أعطاف الولي كأنها ... راحٌ مشعشعة براحة ساق
من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الإعراق
من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق
من للمساعي الغر تقصد جاهه ... حرماً فينصرها على الإخفاق
كم شد من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحل وثاق
رحب الذراع بكل خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذاق
صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين والطراق
ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق
فاعجب لأنس في مظنة وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق
أمطيباً بمحامد العمل الرضي ... ومكفناً بمكارم الأخلاق
ما كنت أحسب قبل نعشك أن ... أرى رضوى تسير على الأعناق
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن اللحود خزائن الأعلاق
يا كوكب الهدى الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق
يا واحداً مهما جرى في حلبة ... جلى بغرة سابق السباق
يا ثاوياً بطن الضريح وذكره ... أبداً رفيق ركائب ورفاق
يا غوث من وصل الضريح فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق
ما كنت إلا ديمةً منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق
ما كنت إلا روضة ممطورة ... ما شئت بن ثمر ومن أوراق
يا مزمعاً عنا العشي ركابه ... هلا لبثت ولو بقدر فواق
رفقاً أبانا جل ما حملتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق
واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقى بها منا على الأرماق
وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ... كان الخيال تعلة المشتاق
عجباً لنفس ودعتك وأيقنت ... أن ليس بعد ثواك يوم تلاق
ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق
إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق
واستوقفت دهشاً فإن قلوبنا ... نهضت بكل وظيفة الآماق
ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدي في العهد والميثاق
سجعت بما طوقتها من منةٍ ... حتى زرت بحمايم الأطواق
تبكي فراقك خلوة عمرتها ... بالذكر في طفلٍ وفي إشراق
أما الثناء على علاك فذائع ... قد صح بالإجماع والإصفاق
والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق

جادت ضريحك ديمةٌ هطالة ... تبكي عليه بواكفٍ رقراق
وتغمدتك من الآله سعادة ... تسمو بروحك للمحل الراق
صبراً بني الجياب فقيدكم ... سيسر مقدمه بما هو لاق
وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أي رواق
وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله بن جزي رحمه الله:
ألم تر أن المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوضت دعائمه
هوى من سماء المعلوات شهابها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه
وثلث من الفخر المشيد عروشه ... وفلت من العز المنيع صوارمه
وعطل من حلي البلاغة قسها ... وعرى من جود الأنامل حاتمه
أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ... وثلم غرب الدين والعلم هاجمه
وإلا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصت قوادمه
وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيا الدهر قطب باسمه
وما لدموع العين فضت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه
قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه
ومن قارع الأيام سبعين حجة ... ستنبو عراره ويندق قائمه
وفي مثلها أعيى النطاسي طبه ... وضل طريق الحزم في الرأي حازمه
تساوي جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه ولا البخل عاصمه
وما نفعت رب الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغنى كرايمه
وكل تلاق فالفراق أمامه ... وكل طلوع فالغروب ملازمه
وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه
لبيك علياً مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع ظالمه
لبيك علياً ماتح بحر علمه ... يروي بأنواع المعارف هائمه
لبيك علياً مظهر فضل نصحه ... يحلا عن ورد المآثم حايمه
لبيك علياً معتف جود كفه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه
لبيك علياً ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه
لبيك علياً فضل كل بلاغة ... يخلده في صفحة الطرس راقمه
وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشرى في خيسها وضراغمه
تكفل بالرزق المقدر للورى ... إذا الله أعطى فهو للناس قاسمه
يسدده سهماً وينضوه صارماً ... ويشرعه رمحاً فكل يلائمه
إذا سال من شقيه سايل حبرة ... بما شاء منه سايل فهو عالمه
لبيك عليه الآن من كان باكياً ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه
تقلد منه الملك عضب بلاغة ... يقد السلوقي المضاعف صارمه
وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعي حازم الرأي عازمه
ففي يده وهو الزعيم بحقها ... يراعته والمشرفي وخاتمه
سخيٌّ على العافين سهلٌ قياده ... أنى على العادين صعبٌ شكائمه
إذا ضلت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الحق ناجمه
وقام بأمر الملك للدين حامياً ... فذل معاديه وضل مراغمه
وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ... به وهو ما نيطت عليه تمايمه
ودوخ أعناق الليالي بهمة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه
وزاد على بعد المنال تواضعاً ... أبى الله إلا أن تتم مكارمه
سقيت الغوادي أي علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه
وما زلت يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقي لقبرك ساجمه

بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ... يؤلفه من روح فضلك ناعمه
وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمايمه
ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... فوقد في جنبيه للحزن جاحمه
فتى نال منه الدهر إلا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهدٍ عزايمه
عليل الذي زرت عليه جيوبه ... قريح الذي شدت عليه حزايمه
فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه
سأصبر مضطراً وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرة وأسالمه
وأهديك إذ عز اللقاء تحية ... وطيب ثناءٍ كالعبير نواسمه
وأنشد القاضي أبو بكر القرشي قوله من قصيدة في ذلك:
هي الآجال غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد
وأنشد الفقيه الكاتب أبو بكر القاسم بن الحكيم قوله من قصيدة:
لينع الحجا والحلم من كان ناعياً ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا
وأنشد الفقيه القاضي أبو بكر بن جزي قصيدة أولها:
أبثكما والصبر للعهد ناكث ... حديثاً أملته على الحوادث
قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض، فكان هذا التأبين غريباً لم يتقدم به عهد بالحضرة لكونها دار ملك، والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر. فمضى بسبيله رحمه الله.
ابن سعيدعلي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين بن لوذم ابن ثعلب بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن نام بن عبس واسمه زيد بن مالك بن أدد بن زيد العنسي المذحجي من أهل قلعة يحصب ، غرناطي قلعي ، سكن تونس، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن سعيد.
أوليته قد تقرر من كرم أوليته، وذكر بيته ما ينظر في محله.
حالههذا الرجل وسطي عقد بيته، وعلم أهله، ودرة قومه، المصنف الأديب، الرحال، الطرفة، الإخباري، العجيب الشأن في التجول في الأوطان، ومداخلة الأعيان، والتمتع بالخزاين العلمية، وتقييد الفوايد المشرقية والمغربية.
مشيختهأخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشلوبين، وابي الحسن الدباج، وأبي الحسن بن عصفور وغيرهم.
تواليفهوتواليفه كثيرة ، منها المرقصات والمطربات، عزيز الوجود، والمقتطف أغرب وأعجب، والطالع السعيد في تاريخ بيته وبلده. والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار، وهما المغرب في حلى المغرب، والمشرق في حلى المشرق، وغير ذلك مما لم يتصل إلينا، فلقد حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم، أنه تخلف كتاباً يسمى المرزمة ، يشتمل على وقر بعير، لا يعلم ما فيه من الفوايد الأدبية والإخبارية إلا الله
شعرهقال، تعاطى نظم الشعر في حد زمن الشبيبة، يعجب فيه من مثله، فيذكر أنه خرج مع والده، وقد مر في صحبته إلى إشبيلية، وفي صحبته سهل بن مالك، فجعل سهل يباحثه عن نظمه، إلى أن أنشده في صفة النهر والنسيم يردده، والغصون تميل عليه:
كأنما النهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم ينشيها
لما أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها
فطرب أبو الحسن وأثنى عليه، ثم شدا، وناب عن أبيه في أعمال الجزيرة، ومازج الأدباء، ودون كثيراً من نظمه، وحفظ له في المدح:
يا أيها الملك الذي هباته ... وهباته شدت عرى الإسلام
لما أسال نداه سل حسامه ... فأراك برقاً في متون غمام
لله شيعتك التي ترك العدا ... أقداحهم بمواطىء الأقدام
طاروا بأجنحة السيوف إليهم ... مثل الحمام جلبن كل حمام
فهم سهام والجياد قسيهم ... وعداهم هدف وسعدك رام
وقال، ومما نظمته بالحضرة في فرس كان لهم لوباني أغر أكحل بحلية:
وأجرد تبرى أثرت به الثرى ... والفجر في خصر الظلام وشاح
عجبت له وهو الأصيل بعرفه ... ظلام وبين الناظرين صباح

رحلته المشرقية، وفيها الكثير من نظمه، قال في الطالع لما قدم الديار المصرية واشتهر، كان مما نظمه سلماً لمعرفة الأدباء والظرفاء قوله، وقد رأى بساحلها وجوهاً لا يعرفها، وألسناً غير ما عهد:
أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى ... من بينها وجهاً لمن أدريه
ويح الغريب توحشت ألحاظه ... في عالم ليس له بشبيه
عودي على بدئي ضلالاً بينهم ... حتى كأني من بقايا التيه
ودخل القاهرة، فصنع له أدباؤها صنيعاً في ظاهرها، وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس، وكان فيهم أبو الحسن الجزار، فجعل يدوس النرجس، برجله، فقال أبو الحسن:
يا واطىء النرجس بالأرجل ... ما تستحي أن تطأ الأعين بالأرجل
فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته.
فقال ابن أبي الأصبغ:
فقال دعني لم أزل محرجاً ... على لحاظ الرشاد الأكحل
وكان أمثل ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غيره، فقال:
قابل جفوناً بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل
ثم استدعاه سيف الدين بن سابق صاحب الأشغال السلطانية إلى مجلس بضفة النيل، مبسوط بالورد، وقد قامت حوله شمامات نرجس، فقال في ذلك:
من فضل النرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس
أما ترى الورد غداً قاعداً ... وقام في خدمته النرجس
ووافق ذلك مماليك الترك، وقوفاً في الخدمة على عادة المشارقة، فطرب الحاضرون، من حسود ومنصف. ولقي بمصر محيي الدين بن ندا واقد التركي، الإمام زهير الحجاري بهاء الدين، وبالقاهرة جمال الدين ابن مطروح، وجمال الدين بن يغمور ، وتعرف بكمال الدين بن العديم رسول سلطان حلب، فاستصحبه يتحف به الملك الناصر صاحب حلب، فلقي بحمص وبيت المقدس وحماه أعلا ما جلة، وله معهم أخبار يطول ذكرها، ودخل على السلطان بحلب، وأنشده قصيدة أولها:
جدلي بما ألقى الخيال من الكرى ... لابد للطيف الملم من الكرا
فقال كمال الدين هذا رجل عارف مذ روى لمقصده من أول كلمة.. ثم قال بعد أبيات:
الناصر الملك الذي عزماته ... أبداً تكون مع العساكر عسكرا
ما كان أنبا الفتح يلزم لامه ... والجمع من أعدائه متكسرا
فعظم استظراف السلطان لهذه المقاصد، وأثنى عليه. ثم وصل فقال:
الدين أصلحه وعم صلاحه الدنيا ... وأصبح ناصراً ومظفرا
فكأن كنيته غدت موضوعه ... من ربه والوصف منه مقررا
وكأنما الأسماء قد عرضت على ... علياه قبل وجوده متخيرا
فقال السلطان كيف ترون واستعاده. فقال عون الدين العجمي عميد المجلس، وكاتب الإنشاء، استنباطه ما سمع الملوك بمثله يا خوند. ثم أنشد:
من آل أيوب الذين هم هم ... ورثوا الندى والبأس أكبر أكبرا
أهل الرياسة والسياسة والعلا ... بسيوفهم حلوا الذرى منحوا الذرا
سم العداة على هيافيهم ... لا تعجبوا فكذاك آساد الشرى
كادوا يقيلون العداة من الردى ... لو لم يمدوا كالحجاب العثيرا
جعلوا خواتم سمرهم من قلب ... كل معاند عد المثقف خنصرا
وببيضهم قد توجوا أعداءهم ... حتى لقد حلوا لكيما تشكرا
لو لم يخافوا تيسار نحوهم ... وهبوا الكواكب والصباح المسفرا

وهي طويلة. ثم استجلسه السلطان، وسأله عن بلاده، ومقصده بالرحلة، فأخبره أنه جمع كتاباً في الحلى البلادية والحلى العبادية المختصة بالمشرق، وأخبره أنه سماه المشرق في حلى المشرق. وجمع مثله فسماه المغرب في حلى المغرب. فقال نعينك بما عندنا من الخزاين، ونوصلك إلى ما لا عندنا. مثل خزاين الموصل وبغداد، وتضيف لنا المغرب. فخدم على عادتهم، وقال أمر مولاي بذلك، إنعام وتأنيس، ثم قال له السلطان مداعباً، إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور. وقد اخترت لك لقباً يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر، فإن كنت ترضى به، وإلا لم يعلمه عندنا، وهو البلبل، فقال قد رضي المملوك بذلك يا خوند. فتبسم السلطان، وقال اختر واحدة من ثلاث، أما الضيافة التي ذكرتها أول شعرك، وأما جائزة القصيدة، وإما حق الإسم. فقال يا خوند المملوك ممن لا يختنق بعشر لقم، فكيف بثلاث. فطرب السلطان، وقال هذا مغربي ظريف، ثم أتبعه من الدنانير والخلع الملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف. ولقي بحضرته عون الدين العجمي، وهو بحر لا تنزفه الدلاء، والشهاب التلعفري الشهير الذكر، والتاج بن شقير، وابن نجيم الموصلي، والشرف بن سليمان الإربلي. وطائفة من بني الصاحب. ثم تحول إلى دمشق، ودخل الموصل وبغداد، ودخل مجلس السلطان المعظم ابن الملك الصالح بدمشق، وحضر بمجلس خلوته. وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها. ثم رحل إلى البصرة، ودخل أرجان، وحج. ثم عاد إلى المغرب. وقد صنف في رحلته الأولى إليها مجموعاً سماه بالنفحة المسكية في الرحلة المكية. وكان نزوله بساحل مدينة إقلنية من إفريقية في إحدى جمادين من عام اثنين وخمسين وستمائة، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر فنال الدرجة الرفيعة من حظوته، وقال عند اتصاله به لحين قدومه:
وما زلت أضرب في الخافقين ... أروم البلاد وأرعى الدول
إلى أن رجعت إلى تونس ... محل الإمام وأقصى الأمل
فقلت البلاد لهذي قرىً ... وقلت الأنام لهذا خول
نكبتهوحدثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم، أن المستنصر جفاه في آخر عمره، وقد أسن لجراء خدمة مالية أسندها إليه، وقد كان بلاءً منه قبل جفوة، أعقبها انتشال وعناية. فكتب إليه:
يا غزالاً في الحشا منزله ... وبعيني دائماً منهله
لا ترعبني بالجفا ثانية ... ما بقي في الجسم ما يحمله
فرق له، وعاد إلى حسن النظر فيه، إلى أن توفي تحت بر وعناية. رحمه الله
مولدهولد بغرناطة ليلة الفطر في سنة عشر وستماية.
وفاتهتوفي بتونس حرسها الله في أحواز عام خمسة وثمانين وستماية.
علي بن عبد الرحمن

بن موسى بن جودي القيسي
الأديب الكاتب يكنى أبا الحسن
حالهمن أهل المعرفة بالعلوم القديمة، وأصله من عمل سرقسطة. وكان صديقاً للوزير أبي الحسن بن هاني.
مشيختهقرأ على الحكيم أبي بكر بن الصايغ، المعروف بابن باجة . وكان خليع الرسن فيما ذكر عنه.
شعرهمن شعره:
خليلي من نعمان بالله عرجا ... على الأيك من وادي العقيق فسلما
وقولا له ما حال لبني لعله ... إذا سمع النجوى بلبنى تكلما
فعهدي به والظل ينفض دوحه ... وقد خضلت عيدانه فتنعما
تباكره لبنى لإتيان موعد ... عزيز عليها أن يخان ويصرما
نبث حديثها فنبكي بعبرة ... فترسلها ماءً ونرسلها دما
ومن شعره قوله:
أدر كأس المدام فقد تغنى ... بفرع الأيك أورقها الصدوح
وهب على الرياض نسيم صبح ... يمر كما ونى ساد طليح
وسال النهر يشكو من حصاه ... جراحات كما أن الجريم
وقال:
سقى الله دهراً ضم شمل مودة ... وجمع إخوان الصفاء بلا وعد
بميناء تعلوها الرياح بليلةً ... وتنظر منها الشمس بالأعين الرمد
وفاته: توفي بغرناطة في حدود الثلاثين وخمسماية.
ومن الطاريين
عمر بن خلاف
بن سليمان بن سلمة
من أهل شابش يكنى أبا علي.

حاله
كان فقيهاً أديباً مكثراً، شهير المكان بجهته، مولعاً بمكاتبة الأدباء، وتقييد ما يصدر عنهم، مؤرخاً من أهل النباهة والعناية. ألف كتاباً سماه نخبة الأعلاق، ونزهة الأحداق في الأدباء، وحلى من ذكر فما قصر من السداد. وله نظم ونثر وخطب، وبيعات ومراجعات، تضمنها الكثير من كتبه.
شعرهما قاله يخاطب بعض إخوانه:
خذها إليك أبا إسحق تذكرة ... من ذاكر لك في قرب وفي شحط
يرعى ذمامك لا تنسى لوازمه ... ولا يمازجه بالسهو والغلط
ولا يزال بحفظ العهد معتنياً ... ولا يعامل في البحران بالشطط
فأنت عندي أولى من أذمة ربحي ... ومن صفوتي في أرفع النمط
قد طال شوقي للإعلام منك بما ... لديك إذ فيه لي تأنيس مغتبط
وقد تيت بنكري في التغافل عن ... معهود ما كنت توليه لذي الشحط
وقد عفا رسم عرفان الإخاء بما ... أوليت من كثرة الإهمال والغلط
جبر أخي وهيه وارجع لصالح ما ... عودت في الكتب من مستحسن الخطط
وجد ببسط انبساط أنت تبذله ... فإن أقبح شيء قبض منبسط
خذ سلاماً كعرف المسك نفحته ... من ذي ولاءٍ بذاك المجد مغتبط
وفي مفاتحة بعض الأدباء:
أبا جعفر وافتك في صفحة الطرس ... عقيلة ود لم تشنها يد اللمس
لها حلل الإخلاص زياً وحليها ... عطر ثنا عرف روض الربى ينبس
وموجبها ما قد فشى من محامد ... حباك بها الرحمن ذو العرش والكرسي
وغر علوم حزتها ومعارف غلوت بها ... فحيي علي البدر والشمس
فإن رزقت منك القبول تشرفت ... وفازت بتحصيل المسرة والأنس
خطابك يا قاضي العدالة بغيتي ... وروحي وريحاني وقصوي مني نفسي
إقتضبتها أعلى الله قدرك، كما أسنى في سماء المعارف والأدب التالد والطارف بدرك، عن ود ملك زمامي، وفضل في سبيل المنافسة في خطبة ودادك غاية اهتمامي، وقد تقرر لدي من محاسنك وإحسانك بالسماع ما أوجب علي مخاطبتك عند تعذر المشافهة بألسنة اليراع، فانقدت بزمام ذلك الواجب، وقصدت أداءه على أصح المذاهب، راجياً من تجاوزك وإغضايك ما يليق بباهر علايك، وفي جوابك هو الشفاء، ولدى خطابك يلقى الاعتناء والاحتفاء، والله يطلع منك السار، ويصل لك المبار. وقال يخاطب السلطان:
إلى الحضرة العليا يستبق العبد ... وفي القرب سنها والدنو هو القصد
إلى حضرة الولي الإمارية التي ... تبلح فيها العدل وابتسم السعد
وفيها وجود للدين والدنا ... وقد خصها بالرحمة الصمد الفرد
وفاتهكان حياً في سنة خمس وستماية
علي بن أحمد بن محمد
بن يوسف بن عمر الغساني
من أهل قرية أرينتيرة من قرى سند مدينة وادي آش، يكنى أبا الحسن
حالهكان من جلة الطلبة ونيهائهم وأذكيائهم وصلحائهم. عنده معرفة بالفقه، ومشاركة في الحديث، ومعرفة بالنحو والأدب. وحسن نظم ونثر، من أحسن الناس نظماً للوثائق، وأتقنهم لها. وأعرفهم بنقدها، وأقصدهم لمعانيها يستعين على ذلك بأدب وكتابة، فيأتي بأشياء عجيبة.
مشيختهروى عن الراوية أبي العباس الخروبي. والمقري أبي الحسن طاهر بن يوسف بن فتح الأنصاري. والقاضي أبي محمد بن عبد الرحيم الخزرجي
تواليفهألف كتاباً في شرح المسند الصحيح لمسلم بن الحجاج في أسفار كثيرة، أجاد فيها الإجادة. وله كتاب سماه بالوسيلة في الأسماء الحسنى. ونظم في شمايل النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
شعرهله شعر في الزهد وغيره فمنه قوله:
أيا كريماً لم يضع ... لديك عبد أملك
بالباب من أنت له ... وود لو كان لك
عبدٌ له أسولة ... وليستحي أن يسلك
أفواههم تسله ... ولم تحسن عملك
فإن أنت خنته ... أمانة قد حملك
ولم تكن تشكر ما ... من فضله قد خولك

وكلما أهملته من ... حقه ما أهملك
إنا كما قالوا سوى ... أنك أعلى من ملك
تلك التي تؤنسني ... وترتجي بفضلك
بشراي إن نال ... الرضا بها توسلك
علي بن محمد علي

بن هيضم الرعيني
من أهل إشبيلية، يكنى أبا الحسن.
حالهالكاتب البليغ المحدث الراوية. قال الأستاذ، كان من أهل العلم والمشاركة، وغلبت عليه الكتابة السلطانية. واعتمدها صناعة. وكتب لجلة من ملوك الأندلس والعدوة. وكان انفصاله من الأندلس قبل سنة أربعين وستماية.
قلت، وكتب للسلطان المتوكل على الله أبي عبد الله بن هود، ثم للسلطان المتوكل الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر. وسكن بغرناطة مدة مديدة. ثم رحل إلى مراكش. فكتب عن أمير سبتة، وعن ملوك الموحدين بمراكش. ونمت حاله ونبهت رتبته، واستقل بالإنشاء، بعد شيخة أبي زيد الفازازي، وكان محدثاً عارفاً بارواية، متعدد المشيخة. فاضلاً، ديناً. مشاركاً في كثير من المعارف. حسن الخط. جيد الكتابة. متوسط الشعر. قلت هذا الرجل له مشيخة في أصل ابن الخطيب طويلة اختصرتها .
شعره ونثرهمن ذلك ما جمعفيه بين النظم والنثر:
وافى الكتاب وقد تقلد جيده ... ما أنت تحسن نظمه وتجيده
من كل معنى ضمن لفظه في حلى ... خط يزيل طلى الطروس فريده
أبا المطرف دعوة من خالص ... لعلاك غابت وده وشهيده
أنت الوحيد بلاغة وبراعة ... ولك البيان طريفه وتليده
فانثر أنت بديعه وعماده ... وانظم أنت حبيبه ووليده
إيه أيها السيد الذي جلت سيادته، وحلت صميم الفؤاد سعادته، ودامت بها ينفع الناس عادته. ألقى إلى كتاب كريم، خطته تلك اليمنى التي اليمن فيها تخطه. ونسقت جواهر بيانه، التي راق بها سمطه، فلا تسلوا عن ابتهاجي بأعاجيبه، وانتهاجي لأساليبه، وشدة كلفي بالتماح وسيمه، وجدة شغفي باسترواح نسيمه. فإنه قدم، وأنس النفس راحل، واستعاده وروض الفكر ماحل، فجاده، لا جرم أنه بما حوى من حدق النوى، وروى من طرق الهوى، وبكى الربيع المحيل، وشكى من صابح الرحيل، هيج لواعج الأشواق وأثارها، وحرك للنفس حوارها، فحنت، واستوهبت العين مدارها فما ضنت. فجاشت لوعة أسكنت، وتلاشت سلوة عنت، وكف دمع كف، وثقل عذلٌ خف، واشتد الحنين، وامتد الأنين، وعلا النحيب، وعرا الوجيب، والتقى الصب والحين، وهدى المحب قدر ما جناه البين، وطالما أعمل في احتمال المشاق عزيمه، وشد لاجتياب الآفاق حيازيمه.
وادع مثوى المقام معتزما ... لا يرى الغرام ملتزما
وأزمع الباين عن أحبته ... أشعل البين في الحشى ضرما
وهل جرى ذاك في تصوره ... فربما أحدث الهوى لمما
إلهي ألا نوى مشيئته ... شملاً من العيش كان منتظما
وعاذلٌ قال لي يعنتني ... لا تبد فيما فعلته ندما
ما حيلة في يدي فأعملها ... عدلٌ من الله كل ما حكما
أما أن القلب لو فهم حقيقة البين قبل وقوعه وعلم قدر ما يشب من الروع في روعه، لبالغ في اجتنابه، واعتقد المعفى عنه من قبيل المعتنى به. ولحا الله الأطماع، فإنها تستدرج المرء وتغره، وتغريه بما يسره. ما زالت تقتل في الغارب والذروة، وتخيل بالترغيب والثروة، حتى أنأت عن الأحباب والحبايب، ورمت بالغريب أقصى المغارب. فيا لوحشة ألوت بإيناسة، وبالغربة أحلت في غير وطنه وناسه، ويا عجباً للأيام وإساءتها، وقرب مسرتها من مساتها، كأنها لم تتحف بوصال، ولم تسعف باتصال، ولم تمتع بشباب، ولم تفتح لقضاء أوطار النفس كل باب.
عجباً للزمان عق وعاقا ... وعدمنا مسرة ووفاقا
أين أيامه وأين ليال ... كلآل تلألؤاً واتساقا
كم نعمنا بظلها فكأنا ... مرقها للصبا علينا رماقا
كم بغرناطة وحمص وصلنا ... باصطباح من السرور اغتباقا
وفي ربى نجد تلك أو نهر هدى ... والأماني تجري إلينا استباقا

في رياض راقت وراق ولكن ... حين ند الحيا لها فأراقا
رق فيها النسيم فهو نسيب ... قد سبا رقة نفوساً رفاقا
وثنا للغصون منها قدوداً ... تتلاقى تصافحاً واعتناقا
كلما هب من صباه عليل ... وتداوى بها العليل أفاقا
حكم السعد للأحبة فيه ... بكؤوس الوصال أن تنساقا
ثم كرت للدهر عادة سوء ... شق فيها خطب النوى حين شاقا
شتت الشمل بعد طول اجتماع ... وسقى الفراق كأساً دهاقا
وأعاد الأوطان قفراً ولكن ... قد أعاد القطان فيها الرفاقا
ليت شعري والعيش تطوي بالفيافي ... أشاماً تبوؤا أم عراقا
يا حداة القلوب رفقاً بصبٍّ ... بلغت نفسه السياق اشتياقا
فآه من شجوة وآه لبين ألزم ... النفس لوعة واحتراقا
هذه يا سيدي استراحة من فؤاد، وقدته الفرقة والقطيعة، واستباحته لحمى الوقار بما لم تحظره الشريعة، فقديماً تشوكيت الأحزان، وتبوكيت الأوطان، وحن المشتاق، وكن له من الوجد ما لا يطاق، فاستوقف الركب يشكو البلابل، واستوكف السحب لسقيا المنازل، وفدى الربع وإن زاده كرباً، ومن له إن يلم لائماً له تربا. حسبه دموع تفيض مجاريها، ونجوم يسامرها ويسايرها.
ألف السهاد فشأنه إدمانه ... واستغرقت أحيانه أشجانه
وشكا جفا الطيف إذ لم يأته ... هل ممكن من لم ينم إتيانه
واستعبدته صبابة وكذا الهوى ... في حكم أحراره عبدانه
كم رام كتمان المحبة جهده ... ودموعه يبدو بها كتمانه
وإذا المحب طوى حديث غرامه ... كبى الضلوع وشت به أجفانه
وهي طويلة.
وفاتهبمراكش سحر ليلة الأربعاء الرابعة والعشرين من رمضان سنة ستة وستين وستماية. ودفن عقب ظهره، بجبانة الشيوخ مقارباً باب السادة أحد أبواب قصر مراكش. وكان الحفل في جنازته عظيماً. لم يتخلف كبير أحد.
علي بن محمد بن علي بن البنامن أهل وادي آش يكنى أبا الحسن.
حالهمن الإكليل الزاهر، قال فيه، فاضل يروقك وقاره، وصقرٌ بعد مطاره. قدم من بلده وادي آش يروم اللحاق بكتاب الإنشاء، وتوسل بنظم أنيق، وأدب في نسب الإجادة عريق، تعرف براعته عن لسان ذليق، وطبع طليق، وذكاء بالأثرة خليق، وبينا هو يلحم في ذلك الغرض ويسدي، ويعيد ويبدي، وقد كادت وسايله أن تنجح، وليلة رجايه أن تصبح، اغتاله الحمام، وخانته الأيام، والبقاء لله والدوام.
شعرهمن شعره يخاطبني لما تقلدت الكتابة العليا:
هو العلا جرى باليمن طايره ... فكان منك على الآمال ناصره
ولو جرى بك ممتداً إلى أمل ... لأعجز الشمس ما أمت عساكره
لقد حباه منيع العز خالقه ... بفاضل منك لا تحصى مآثره
فليزه فخراً فما خلقٌ يعارضه ... ولا علاً مدى الدنيا يفاخره
لله أوصافك الحسنى لقد عجزت ... من كل ذي لسن عنها خواطره
هيهات ليس عجيباً عجز ذيل سن ... عن وصف بحر رمى بالدر زاخره
هل أنت إلا الخطيب ابن الخطيب ... ومن زانت حلى الدين والدنيا مفاخره
فإن يقصر عن الأوصاف ذو أدب ... فما بدا منك في التقصير عاذره
يابن الكرام الألى ما شب طفلهم ... إلا وللمجد قد شدت مآزره
مهلاً عليك فما العلياء قافية ... ولا العلا بسجعٍ أنت ناثره
ولا المكارم طرساً أنت راقمه ... ولا المناقب طباً أنت ماهره
ماذا على سابق يسري على سنن ... إن كان من نفعه خل يسايره
سر حيث شيت من العليا سيداً ... فما أمامك سابقٌ تحاذره

أنت الإمام لأهل الفخر إن فخروا ... أنت الجواد الذي عزت مفاخره
ما بعد ما حزته من عزة وعلاً ... شأو يطارد فيه المجد كابره
نادت بك الدولة الشعرى محتدها ... نداء مستجد أزراً يوازره
حلية لما برد البر مرتدياً ... وصج يمنك فجر السعد ساجره
فالملك يرفل في أبراده مرحاً ... قد عمت الأرض إشراقاً بشايره
فأضاء بها نعمة ما أن يقوم فيها ... من اللسان ببعض الحق شاكره
وليهننا أنه ألقت مقالدها ... إلى سرى زكت منه عناصره
فإنه بدر تم في مطالعها ... قد طبق الأرض بالأنوار نايره
ومن أطبع ما هز به إلى إقامة سوقه، ورعى حقوقه، قوله:
يا معدن الفضل موروثاً ومكتسبا ... فكل مجد إلى عليائها انتسبا
بباب مجدكم الأسمى أخو أدب ... مستصرخ بكم يستنجد الأدبا
ذل الزمان له طوراً فبلغه ... من بعض آماله بعض الذي طلبا
والآن أركبه من كل نابية ... صعب الأعنة لا يألو به نصبا
فحملته دواعي حبكم وكفى ... بذاك شافع صدقٍ يبلغ الأربا
فهل سرى نسمة من جاهكم ... فيها خليفة الله فينا يمطر الذهبا
وأهدى إلي قباقب خشب برسمي ومعها من جنسها صغار للأولاد من مدينة وادي آش من خشب الجوز وكتب لي معها:
هاكها ضمراً مطايا حساناً ... نشأت في الرياض قضباً لدانا
وثوت بين روضة وغدير ... مرضعات من النمير ليانا
ثم لما أراد إكرامها الله ... وسنى لها المنى والأمانا
قصدت بابك العلى ابتداراً ... ورجت في قبولك الإحسانا
قد قبلنا جيادك الدهم لما ... لما أن بلونا منها العتاق الحسانا
أقبلت خلف كل حجر ببيع ... خلعت وصفها عليه عيانا
فقبلنا برعيها وفسحنا في ... ديار العلى لها ميدانا
وأردنا امتطاها فأفخذنا ... من شراك الأديم فيها عنانا
قدمت قبلها كتيبة سحر ... من كتابٍ سبت به الأذهانا
مثلما تجنب الجيوش المذاكى ... عدة للقاء مهما كانا
لم ترق مقلتي ولا رق قلبي ... كحلاها براعة وبيانا
من يكن مهدياً فمثلك يهدى ... لم أجد للثنا عليك لسانا
وفاتهتوفي في الرابع لشعبان من عام خمسين وسبعماية معتبطاً في الطاعون لم يبلغ الثلاثين.
الواردعلي بن محمد بن علي العبدري سكن غرناطة، يكنى أبا الحسن ويعرف بالوارد، ويشهر أبوه باليربوني.
حاله

بقية مسني أدباء الأندلس في فن الهزل والمعرب، والهزل متولى شهرته، وله القدح المعلى فيه، والطريقة المثلى، ظريف المأخذ، نبيل الأغراض، حافظ للعيون، مال بآخرة إلى النسك، وصحبة الصالحين. ولم يزل بحاله الموصوفة إلى أن استولت عليه الكبرة، وظرفه يتألق خلال النسك. وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه: أديب نار ذكايه كأنه يتوقد، وأريبٌ لا يعترض كلامه ولا ينقد. أما الهزل فطريقته المثلى، التي ركض في ميدانها وجلى، وطلع في أفقها وتجلى، فاصبح علم أعلامها، وعابر أحلامها. إن أخذ بها في وصف الكاس، وذكر الورد والآس، وألم بالربيع وفصله، والحبيب ووصله، والروض وطيبه، والغمام وتقطيبه. شق الجيوب طرباً، وعل النفوس إرباً وضرباً. وأن اشفق لاعتلال العشية، في فرش الربيع الموشية، ثم تعداها إلى وصف الصبوح، وأجهز على الرق المجروح، وأشار إلى نغمات الورق يرفلن في الحلل الزرق، وقد اشتعلت الليل نار البرق، وطلعت بنور الصباح في شرفات الشرق، سلب الحليم وقاره، وذكر الخليع كأسه وعقاره، بلسان يتزاحم على مورده الخيال، ويتدفق من حافاته الأدب السيال، وبيان يقيم أود المعاني، ويشيده صانع اللفظ محكمة المباني، ويكسو حلل الإحسان جسوم المثالث والمثاني، إلى نادرة لمثلها يشار، ومحاضرة يجنى بها الشهد ويسار.
وقد أثبت من شعره المعرب. وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلاً، ولا يجاوره إلا تعليلاً، أبياتاً لا تخلو من مسحة جمال على صفحاتها، وهبة طيبٍ ينم في نفحاتها.
فمن ذلك قوله:
يذكرني حسن الكواعب روضة ... لها خطر قيد النواظر مونق
خدود من الورد النضير وأعين ... من النرجس السامي إليها تحدق
وخامات زرع يانع كذؤاب ... وما شقها من جدول الماء مفرق
ومن شعره قوله:
أسافرة النقاب سحرت لما ... أمطت الخز عن بدر التمام
وتيمت الفؤاد بفنج طرفٍ ... كحيل ما يفيق من المنام
لعمر أبيك ما بالنوم بعدٌ ... عن الجفن المكحل بالظلام
ومن معانيه المخترعة وأغراضه المبتدعة. وكلها كذلك:
مالي إذا غبتم تهمى لفرقتكم ... عيني بمنهمر كالغيث هتان
أشبهت نيلوفراً والشمس بهجتكم ... إن غبتم غبت في أمواه أجفان
السقم يشهد لي والدمع برح بي ... متى استوى عندكم سرٌّ وإعلان
وقال من المستحسن الذي رمى فاصاب، واستمطر طبعه فصاب:
يقولون لاح الشيب فاله عن الصبا ... وعن قهوة تصبو لها وتنيب
فقلت دعوني نصطحبها سلافة ... على صبح شيبي فالصبح عجيب
وقال كذلك:
لا تعجبن من اليليد مخولاً ... ومن اللبيب يعد في الفقراء
الماء أصل الخصب غير مدافع ... وأخو البلادة طبعه كالماء
والنار مؤثرة الجدوب وإنها ... لشبيهة بطبائع الفطناء
ومن قصائده الغربية:
ومعذرٌ لحظ المشيب بعارضي ... فتصرمت دوني حبال وصاله
هلا ثنتهه نسبة لمحبه ... إن العذار لشيبة لجماله
وقال أيضاً:
تحر الصدق إن حدثت يوماً ... وإن حدثت لا تنقل حديثاً
وكن للسر صواناً كتوماً ... وريما كان سرك أو حديثاً
قال مما يكتب في غمد سيف:
لئن راق مني منظر بان حسنه ... لقد سامني بالمهند باطن
كان أديمي رقعة من حديقة ... تلقفها صلٌّ لدى الروض كامن
وقال مما يكتب على قوس:
إن كان من وتر الألحان منبعثاً ... سرور قوم مدى الآصال والبكر
فإن حزن العدا ما نال منبعثاً ... مني وحينهم في النقر في وتر
وقال في غير هذا الغرض:
الخير كل الخير في ستة لم ... تلف إلا في كرام الرجال
الحزم والحلم وحمل الأذى ... والصبر والصمت وصدق المقال
ومما نختتم به محاسنه قوله:
ألا إن باب الله ليس بمغلق ... ولا دونه من مانع لموفق
ولكن بلينا في سلوك طريقه ... بكلبٍ من الشيطان ليس بمطرق
فمن يرم بالدنيا إليه كلقمة ... فذاك الذي من شره ليس يتق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10