كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)

قوله تعالى : { ربُّكم أعلم بكم } فيمن خوطب بهذا قولان .
أحدهما : أنهم المؤمنون . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما : { إِن يشأ يرحمكم } فينجيكم من أهل مكة ، { وإِن يشأ يعذبكم } فيسلطهم عليكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : إِن يشأ يرحمكم بالتوبة ، أو يعذبكم بالإِقامة على الذنوب ، قاله الحسن . والثاني : أنهم المشركون . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما : إِن يشأ يرحمكم ، فيهديكم للإيمان ، أو إِن يشأ يعذِّبكم ، فيميتكم على الكفر ، قاله مقاتل . والثاني : أنه لما نزل القحط بالمشركين فقالوا : { ربَّنا اكشف عنا العذاب إِنّا مؤمنون } [ الدخان : 12 ] ، قال الله تعالى : { ربُّكم أعلم بكم } مَنْ الذي يؤمن ، ومن [ الذي ] لا يؤمن ، { إِن يشأ يرحمكم } فيكشف القحط عنكم { أو إِن يشأ يعذبكم } فيتركه عليكم ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . قال ابن الأنباري : و«أو» هاهنا دخلت لسَعة الأمرين عند الله تعالى ، وأنه لا يردّ عنهما ، فكانت ملحقة ب «أو» المبيحة في قولهم : جالس الحسن ، أو ابن سيرين ، يعنون : قد وسَّعنا لك الأمر .
قوله تعالى : { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : كفيلاً تُؤخذ بهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : حافظاً وربّاً ، قاله الفراء .
والثالث : كفيلاً بهدايتهم وقادراً على إِصلاح قلوبهم ، ذكره ابن الأنباري . وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذا منسوخ بآية السيف .

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

قوله تعالى : { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } لأنه خالِقُهم ، فهدى من شاء ، وأضلَّ من شاء ، وكذلك فضَّل بعض النبيين على بعض ، وذلك عن حكمة منه وعِلم ، فخلق آدم بيده ، ورفع إِدريس ، وجعل الذرِّية لنوح ، واتخذ ابراهيم خليلاً ، وموسى كليماً ، وجعل عيسى روحاً ، وأعطى سليمان مُلْكاً جسيماً ، ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم فوق السموات ، وغفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخر . ويجوز أن يكون المفضَّلون أصحابَ الكتب ، لأنه ختم الكلام بقوله : { وآتينا داود زبوراً } . وقد شرحنا معنى «الزبور» في سورة [ النساء : 163 ] .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

قوله تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن نفراً من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم الجن والنفر من العرب لا يشعرون ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، روي عن ابن مسعود . والثاني : أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ، ويقولون : هي تشفع لنا عند الله ، فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين ، قيل لهم : «ادعوا الذين زعمتم» ، قاله مقاتل ، والمعنى : قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة ، { فلا يملكون كشف الضُّرِّ عنكم ولا تحويلاً } له إِلى غيركم .
قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعون } في المشار إِليهم ب «أولئك» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الجن الذين أسلموا . والثاني : الملائكة . وقد سبق بيان القولين . والثالث : أنهم المسيحُ ، وعزيرٌ ، والملائكةُ ، والشمسُ ، والقمرُ ، قاله ابن عباس . وفي معنى «يدعون» قولان .
أحدهما : يعبدون ، أي : يدعونهم آلهة ، وهذا قول الأكثرين .
والثاني : أنه بمعنى يتضرعون إِلى الله في طلب الوسيلة . وعلى هذا يكون قوله : «يدعون» راجعاً إِلى «أولئك» ، ويكون قوله : «يبتغون» تماماً للكلام . وعلى القول الأول : يكون «يدعون» راجعاً إِلى المشركين ، ويكون قوله : «يبتغون» وصفاً ل «أولئك» مستأنَفاً . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن : «تدعون» بالتاء قال ابن الأبناري : فعلى هذا ، الفعلُ مردودٌ إِلى قوله : { فلا يملكون كشف الضُّرِّ عنكم } . ومن قرأ «يدعون» بالياء ، قال : العرب تنصرف من الخطاب إِلى الغَيبة إِذا أُمن اللَّبْس . ومعنى «يدعون» : يدعونهم آلهة . وقد فسرنا معنى «الوسيلة» في [ المائدة : 35 ] .
وفي قوله : { أيُّهم أقرب } قولان ذكرهما الزجاج .
أحدهما : أن يكون «أيهم» مرفوعاً بالابتداء ، وخبره «أقرب» ، ويكون المعنى : يطلبون الوسيلة إِلى ربهم ، ينظرون أيُّهم أقرب إِليه فيتوسَّلون إِلى الله به .
والثاني : أن يكون «أيهم أقرب» بدلاً من الواو في «يبتغون» ، فيكون المعنى : يبتغي أيُّهم هو أقرب الوسيلةَ إِلى الله ، أي : يتقرَّب إِليه بالعمل الصالح .

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

قوله تعالى : { وإن من قرية إِلا نحن مُهْلِكوها } «إِن» بمعنى «ما» ، والقرية الصالحة هلاكها بالموت ، والعاصية بالعذاب ، والكتاب : اللوح المحفوظ ، والمسطور : المكتوب .

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

قوله تعالى : { وما مَنَعَنا أن نُرْسِل بالآيات } سبب نزولها فيه قولان .
أحدهما : " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، وأن ينحِّي عنهم الجبال فيزرعوا ، فقيل له : إِن شئتَ أن تستأني بهم لعلَّنا نجتبي منهم ، وإِن شئتَ نؤتيهم الذي سألوا ، فان كفروا أُهلكوا كما أُهلك من كان قبلهم ، قال : «لا ، بل أستأني بهم» " ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : قد ذكرناه عن الزبير في قوله : { ولو أن قرآناً سيِّرت به الجبال } [ الرعد : 31 ] ، ومعنى الآية : وما منَعَنا إِرسالَ الآياتِ التي سألوها إِلا تكذيبُ الأوّلين ، يعني : أن هؤلاء سألوا الآيات التي استوجب بتكذيبها الأولونَ العذابَ ، فلم يرسلها لئلا يكذِّب بها هؤلاء ، فيهلكوا كما هلك أولئك ، وسنَّة الله في الأمم أنهم إِذا سألوا الآيات ثم كذَّبوا بها عذَّبهم .
قوله تعالى : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } قال ابن قتيبة : أي : بَيِّنَةً ، يريد : مُبْصَراً بها . قال ابن الأنباري : ويجوز أن تكون مبصِّرة ، ويصلح أن يكون المعنى : مُبصِر مشاهدوها ، فنسب إِليها فعل غيرها تجوُّزاً ، كما يقال : لا أرينَّك هاهنا ، فأدخل حرف النهي على غير المنهي عنه ، إِذ المعنى لا تحضر هاهنا ، حتى إِذا جئتُ لم أركَ فيه . ومن قرأ «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد ، فمعناه : المبالغة في وصف الناقة بالتبيان ، كقولهم : «الولد مَجْبَنة» .
قوله تعالى : { فظلموا بها } قال ابن عباس : فجحدوا بها . وقال الأخفش : بها كان ظُلمهم .
قوله تعالى : { وما نرسل بالآيات إِلا تخويفاً } أي : نخوِّف العباد ليتَّعظوا .
وللمفسرين في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال .
أحدها : أنها الموت الذَّريع ، قاله الحسن . والثاني : معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفاً للمكذبين . والثالث : آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي . والرابع : تقلُّب أحوال الإِنسان من صِغَرٍ إِلى شبابٍ ، ثم إِلى كهولة ، ثم إِلى مشيب ، ليعتبر بتقلُّب أحواله فيخاف عاقبة أمره ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي ، ونسبَ القولَ الأخير منها إِلى إِمامنا أحمد رضي الله عنه .

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

قوله تعالى : { وإِذ قلنا لك إِن ربك أحاط بالناس } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أحاط عِلمه بالناس ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الربيع بن أنس . وقال مقاتل : أحاط علمه بالناس ، يعني : أهل مكة ، أن يفتحها لرسوله صلى الله عليه وسلم . والثاني : أحاطت قدرته بالناس ، فهم في قبضته ، قاله مجاهد .
والثالث : حال بينك وبين الناس أن يقتلوك ، لتبلِّغ رسالته ، قاله الحسن ، وقتادة .
قوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إِلا فتنة للناس } في هذه الرؤيا قولان .
أحدهما : أنها رؤيا عين ، وهي ما رأى ليلة أُسري به من العجائب والآيات . روى عكرمة عن ابن عباس قال : هي رؤيا عين رآها ليلة أُسري به ، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومسروق ، والنخعي ، وقتادة ، وأبو مالك ، وأبو صالح ، وابن جريج ، وابن زيد في آخرين . فعلى هذا يكون معنى الفتنة : الاختبار ، فإن قوماً آمنوا بما قال ، وقوماً كفروا . قال ابن الأنباري : المختار في هذه الرؤية أن تكون يقظة ، ولا فرق بين أن يقول القائل : رأيت فلاناً رؤية ، ورأيته رؤيا ، إِلا أن الرؤية يقلُّ استعمالها في المنام ، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام ، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين .
والثاني : أنها رؤيا منام . ثم فيها قولان . أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أُرِيَ أنه يدخل مكة ، هو وأصحابه ، وهو يومئذ بالمدينة ، فعَجل قبل الأجل ، فردَّه المشركون ، فقال أناس : قد رُدَّ ، وكان حدَّثَنَا أنه سيدخلها ، فكان رجوعهم فتنتهم ، رواه العوفي عن ابن عباس . وهذا لا ينافي حديث المعراج ، لأن هذا كان بالمدينة ، والمعراج كان بمكة . قال أبو سليمان الدمشقي : وإِنما ذكره ابن عباس على وجه الزيادة في الإِخبار لنا أن المشركين بمكة افتتنوا برؤيا عينه ، والمنافقين بالمدينة افتتنوا برؤيا نومه . والثاني : أنه أُري بني أمية على المنابر ، فساءه ذلك ، فقيل له : إنها الدنيا يُعْطَوْنَها ، فَسُرِّيَ عنه . فالفتنة هاهنا : البلاء ، رواه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب ، وإِن كان مثل هذا لا يصح ، ولكن قد ذكره عامة المفسرين .
وروى ابن الأنباري أن سعيد بن المسيّب قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على منابر ، فشَقَّ ذلك عليه ، وفيه نزل : { والشجرةَ الملعونةَ في القرآن } ، قال : ومعنى قوله : { إِلا فتنةً للناس } : إِلا بلاءً للناس ، قال ابن الأنباري : فمن ذهب إِلى أن الشجرة رجال رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه يصعدون على المنابر ، احتج بأن الشجرة يكنى بها عن المرأة لتأنيثها ، وعن الجماعة لاجتماع أغصانها . قالوا : ووقعت اللعنة بهؤلاء الذين كنى عنهم بالشجرة . قال المفسرون : وفي الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وما جعلنا الرؤيا والشجرة إِلا فتنة للناس .

وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها شجرة الزَّقُّوم ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومسروق ، والنخعي ، والجمهور . وقال مقاتل : لما ذكر الله تعالى شجرة الزَّقُّوم قال أبو جهل : يا معشر قريش إِن محمداً يخوِّفكم بشجرة الزَّقُّوم ، ألستم تعلمون أن النار تحرق الشجر؟ ومحمد يزعم أن النار تنبت الشجر ، فهل تدرون ما الزقوم؟ فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى : إِن الزَّقُّوم بلسان بَرْبَر : التمر والزُّبْد ، فقال أبو جهل : يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً ، فجاءته به ، فقال لمن حوله : تَزَقَّمُوا من هذا الذي يخوِّفكم به محمدٌ ، فأنزل الله تعالى : { ونخوِّفهم فما يَزِيدُهم إِلا طغياناً كبيراً } . قال ابن قتيبة : كانت فتنتهم بالرؤيا قولهم : كيف يذهب إِلى بيت المقدس ، ويرجع في ليلة؟! وبالشجرة قولهم : كيف يكون في النار شجرة؟!
وللعلماء في معنى «الملعونة» ثلاثة اقوال . أحدها : المذمومة ، قاله ابن عباس . والثاني : الملعون آكلُها ، ذكره الزجاج ، وقال : إِن لم يكن في القرآن ذِكْر لعنها ، ففيه لعن آكليها ، قال : والعرب تقول لكل طعام مكروه وضارٍّ : ملعون؛ فأما قوله : { في القرآن } فالمعنى : التي ذكرت في القرآن ، وهي مذكورة في قوله : { إِن شجرة الزَّقُّوم طعام الأثيم } [ الدخان : 43 ، 44 ] . والثالث : أن معنى «الملعونة» : المُبعَدة عن منازل أهل الفضل ، ذكره ابن الانباري . والقول الثاني : أن الشجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر ، يعني : الكَشُوثى ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أن الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيّب .
قوله تعالى : { ونخوِّفهم } قال ابن الأنباري : مفعول «نخوِّفهم» محذوف ، تقديره : ونخوِّفهم العذاب ، { فما يزيدهم } أي : فما يزيدهم التخويف { إِلا طغياناً } ؛ وقد ذكرنا معنى الطغيان في [ البقرة : 15 ] ، وذكرنا هناك تفسير قوله : { وإِذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليس } [ البقرة : 34 ] .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

قوله تعالى : { آسْجُدُ } قرأه الكوفيون : بهمزتين . وقرأه الباقون : بهمزة مطوَّلة؛ وهذا استفهام إِنكار ، يعني به : لم أكن لأفعل .
قوله تعالى : { لمن خلقتَ طيناً } قال الزجاج : «طيناً» منصوب على وجهين . أحدهما : التمييز ، المعنى : لمن خلقتَه من طين . والثاني : على الحال ، المعنى : أنشأتَه في حال كونه من طين . ولفظ { قال أرأيتَك } جاء هاهنا بغير حرف عطف ، لأن المعنى : قال آسجد لمن خلقتَ طيناً ، وأرأيتَكَ ، وهي في معنى : أخبرني ، والكاف ذُكرت في المخاطبة توكيداً ، والجواب محذوف ، والمعنى : أَخبِرني عن هذا الذي كرَّمت عليَّ ، لم كرَّمتَهُ عليَّ وقد خلقتَني من نار وخلقتَه من طين؟! فحذف هذا ، لأن في الكلام دليلاً عليه .
قوله تعالى : { لئن أَخَّرْتَنِ إِلى يوم القيامة } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمر : «أخرتني» بياء في الوصل . ووقف ابن كثير بالياء . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، بغير ياء في وصل ولا في وقف .
قوله تعالى : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِيَّتَهُ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لأَستولِيَنَّ عليهم ، قاله ابن عباس ، والفراء .
والثاني : لأُضِلَّنَّهم ، قاله ابن زيد .
والثالث : لأَستأصلنَّهم؛ يقال : احْتَنَكَ الجرادُ ما على الأرض : إِذا أكله؛ واحْتَنَكَ فلانٌ ما عند فلان من العلم : إِذا استقصاه ، فالمعنى : لأَقودنَّهم كيف شئتُ ، هذا قول ابن قتيبة .
فإن قيل : من أين عَلِمَ الغيب . فقد أجبنا عنه في سورة [ النساء : 119 ] .
قوله تعالى : { إِلا قليلاً } قال ابن عباس : هم أولياء الله الذين عصمهم .
قوله تعالى : { قال اذهب } هذا اللفظ يتضمن إِنظاره؛ { فمن تبعك } ، أي : تبع أمرك منهم ، يعني : ذرية آدم . والموفور : الموفَّر . قال ابن قتيبة : يقال : وفَّرْتُ ماله عليه ، ووَفَرْتُه ، بالتخفيف والتشديد .
قوله تعالى : { واستَفْزِز مَن استطعتَ منهم } قال ابن قتيبة : اسْتَخِفَّ ، ومنه تقول : استَفَزَّني فلان .
وفي المراد بصوته قولان . أحدهما : أنه كل داعٍ دعا إِلى معصية الله ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه الغناء والمزامير ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وأَجْلِب عليهم } أي : صِح { بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ } واحثثهم عليهم بالإِغراء؛ يقال : أجلبَ القوم وجلَّبوا : إِذا صاحوا . وقال الزجاج : المعنى : اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك؛ فعلى هذا تكون الباء زائدة . قال ابن قتيبة : والرَّجْلُ : الرَّجَّالة؛ يقال : رَاجِلٌ ورَجْل ، مثل تاجر وتَجْر ، وصاحِب وصَحْب . قال ابن عباس : كلّ خيل تسير في معصية الله ، وكلّ رَجُل يسير في معصية الله . وقال قتادة : إِن له خيلاً ورَجْلاً من الجن والإِنس . وروى حفص عن عاصم : «بخيلك ورَجِلِكَ» بكسر الجيم ، وهي قراءة ابن عباس ، وابي رزين ، وأبي عبد الرحمن السُّلَمي . قال أبو زيد : يقال : رَجُلٌ رَجِلٌ : للراجل ، ويقال : جاءنا حافياً رجِلاً . وقرأ ابن السميفع ، والجحدري : «بخيلك ورُجَّالك» برفع الراء وتشديد الجيم مفتوحة وبألف بعدها . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وعكرمة : «ورِجَالك» بكسر الراء وتخفيف الجيم مع ألف .

قوله تعالى : { وشاركهم في الأموال } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنها ما كانوا يحرِّمونه من أنعامهم ، رواه عطية عن ابن عباس . والثاني : الأموال التي أصيبت من حرام ، قاله مجاهد .
والثالث : التي أنفقوها في معاصي الله ، قاله الحسن .
والرابع : ما كانوا يذبحون لآلهتهم ، قاله الضحاك .
فأما مشاركته إِياهم في الأولاد ، ففيها أربعة أقوال .
أحدها : أنهم أولاد الزنا ، رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك .
والثاني : الموؤودة من أولادهم ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أنه تسمية أولادهم عبيداً لأوثانهم ، كعبد شمس ، وعبد العزى ، وعبد مناف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والرابع : ما مَجَّسُوا وهوَّدُوا ونصَّرُوا ، وصبغُوا من أولادهم غير صبغة الإِسلام ، قاله الحسن ، وقتادة .
قوله تعالى : { وعِدْهم } قد ذكرناه في قوله { يعدهم ويمنِّيهم . . . } إِلى آخر الآية [ النساء : 120 ] . وهذه الآية لفظها لفظ الأمر ، ومعناها التهديد ، ومثلها في الكلام أن تقول للانسان : اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك . قال الزجاج : إذا تقدم الأمرَ نهيٌ عما يؤمر به ، فمعناه التهديد والوعيد ، تقول للرجل : لا تدخُلَنْ هذه الدار؛ فاذا حاول أن يدخلها قلت : ادخُلها وأنت رجل ، فلستَ تأمره بدخولها ، ولكنك تُوعِده وتهدِّده ، ومثله { اعملوا ما شئتم } [ فصِّلت : 40 ] ، وقد نُهُوا أن يعملوا بالمعاصي . وقال ابن الانباري : هذا أمر معناه التهديد ، تقديره : إِن فعلت هذا عاقبناك وعذَّبناك ، فنقل إِلى لفظ الأمر عن الشرط ، كقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] .
قوله تعالى : { إِن عبادي ليس لك عليهم سلطان } قد شرحناه في [ الحجر : 42 ] .
قوله تعالى : { وكفى بربك وكيلاً } قال الزجاج : كفى به وكيلاً لأوليائه يعصمهم من القبول من إِبليس .

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)

قوله تعالى : { ربكم الذي يزجي لكم الفُلْك } أي : يسيِّرها . قال الزجاج : يقال : زجيت الشيء ، أي : قدمته .
قوله تعالى : { لتبتغوا من فضله } أي : في طلب التجارة .
وفي «من» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها زائدة . والثاني : أنها للتبعيض . والثالث : أن المفعول محذوف ، والتقدير : لتبتغوا من فضله الرزق والخير ، ذكرهنَّ ابن الأنباري .
قوله تعالى : { إِنه كان بكم رحيماً } هذا الخطاب خاصّ للمؤمنين ، ثم خاطب المشركين فقال : { وإِذا مسَّكم الضُّرُّ في البحر } يعني : خوفَ الغَرَقِ { ضلَّ مَنْ تَدْعُون } أي : يَضِلُّ من يدعون من الآلهة ، إِلا الله تعالى . ويقال : ضَلَّ بمعنى غاب ، يقال : ضَلَّ الماء في اللَّبَن : إِذا غاب ، والمعنى : أنكم أخلصتم الدعاء [ لله ] ، ونسيتم الأنداد . وقرأ مجاهد ، وأبو المتوكل : «ضَلَّ مَنْ يَدْعُون» بالياء . { فلما نجّاكم إِلى البَرِّ أعرضتم } عن الإِيمان والإِخلاص { وكان الإِنسان } يعني الكافر { كفوراً } بنعمة ربِّه . { أفأمنتم } إِذا خرجتم من البحر { أن يَخْسِف بكم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «نخسف بكم» «أو نرسل» «أن نعيدكم» «فنرسل» «فنغرقكم» بالنون في الكل . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، بالياء في الكُلِّ . ومعنى { نخسف بكم جانب البر } أي : نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر ، والمعنى : إِن حكمي نافذ في البر نفوذه في البحر ، { أو نرسل عليكم حاصباً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الحاصب : حجارة من السماء ، قاله قتادة .
والثاني : أنه الريح العاصف تحصب ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد للفرزدق :
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الريح تَضْرِبُهُم ... بِحَاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
وقال ابن قتيبة : الحاصب : الريح ، سميت بذلك لأنها تَحْصِبُ ، أي : ترمي بالحصباء ، وهي الحصى الصغار . وقال ابن الأنباري : قال اللغويون : الحاصب : الريح التي فيها الحصى . وإِنما قال في الريح : «حاصباً» ولم يقل : «حاصبة» لأنه وصْفٌ لزم الريح ولم يكن لها مذكَّر تنتقل إِليه في حال ، فكان بمنزلة قولهم : «حائض» للمرأة ، حين لم يُقَلْ : رجل حائض . قال : وفيه جواب آخر ، وهو أن نعت الريح عُريٌ من علامة التأنيث ، فأشبهت بذلك أسماء المذكَّر ، كما قالوا : السماء أمطر ، والأرض أنبت .
والثالث : أن الحاصب : التراب الذي فيه حصباء ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { ثم لاتجدوا لكم وكيلاً } أي : مانعاً وناصراً .
قوله تعالى : { أم أمنتم أن يعيدكم فيه } أي : في البحر { تارة أخرى } أي : مَرَّة أُخرى ، والجمع : تارات . { فيرسل عليكم قاصفاً من الريح } قال أبو عبيدة : هي التي تقصف كل شيء . قال ابن قتيبة : القاصف : [ الريح التي ] تقصف الشجر ، أي : تكسره .
قوله تعالى : { فيُغْرِقكم } وقرأ أبو المتوكل ، و [ أبو ] جعفر ، وشيبة ، ورويس : «فتغرقكم» بالتاء ، وسكون الغين ، وتخفيف الراء . وقرأ أبو الجوزاء ، وأيوب : «فيغرِّقكم» بالياء ، وفتح الغين ، وتشديدها . وقرأ أبو رجاء مثله ، إِلا أنه بالتاء ، { بما كفرتم } أي : بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى ، { ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعاً } قال ابن قتيبة : أي : من يتبع بدمائكم ، أي : يطالبنا .

قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : ريح العذاب أربع ، اثنتان في البر ، واثنتان في البحر ، فاللَّتان في البَرِّ : الصَّرْصَر ، والعَقِيم ، واللتان في البحر : العاصف ، والقاصف .
قوله تعالى : { ولقد كرَّمنا بني آدم } أي : فضَّلناهم . قال أبو عبيدة : و«كرَّمنا» أشد مبالغة من «أكرمنا» .
وللمفسرين فيما فُضِّلوا به أحد عشر قولاً .
أحدها : أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة : جبريل ، وميكائيك ، وإِسرافيل ، ومَلَك الموت ، وأشباههم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . فعلى هذا يكون المراد : المؤمنين منهم ، ويكون تفضيلهم بالإِيمان .
والثاني : أن سائر الحيوان يأكل بفيه ، إِلا ابن آدم فإنه يأكل بيده ، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس . وقال بعض المفسرين : المراد بهذا التفضيل : أكلهم بأيديهم ، ونظافة ما يقتاتونه ، إِذ الجن يقتاتون العظام والرَّوث .
والثالث : فُضِّلوا بالعقل ، روي عن ابن عباس .
والرابع : بالنطق والتمييز ، قاله الضحاك .
والخامس : بتعديل القامة وامتدادها ، قاله عطاء .
والسادس : بأن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم ، قاله محمد بن كعب .
والسابع : فضِّلوا بالمطاعم واللَّذات في الدنيا ، قاله زيد بن أسلم .
والثامن : بحسن الصورة ، قاله يمان .
والتاسع : بتسليطهم على غيرهم من الخلق ، وتسخير سائر الخلق لهم ، قاله محمد بن جرير .
والعاشر : بالأمر والنهي ، ذكره الماوردي .
والحادي عشر : بأن جعلت اللِّحى للرجال ، والذوائب للنساء ، ذكره الثعلبي .
فإن قيل : كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل ، وفيهم الكافر المُهان؟
فالجواب من وجهين . أحدهما : أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة . والثاني : أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة ، أجرى الصِّفة على جماعتهم ، كقوله : { كنتم خير أُمة أُخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] .
قوله تعالى : { وحملناهم في البر } على أكباد رطبة ، وهي : الإبل ، والخيل ، والبغال ، والحمير ، { و } في { البحر } على أعواد يابسة ، وهي : السفن . { ورزقناهم من الطيبات } فيه قولان .
أحدهما : الحلال . والثاني : المستطاب في الذوق .
قوله تعالى : { وفضَّلناهم على كثير ممن خلقْنا تفضيلاً } فيه قولان .
أحدهما : أنه على لفظه ، وأنهم لم يفضَّلوا على سائر المخلوقات . وقد ذكرنا عن ابن عباس أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غيرِ طائفة من الملائكة . وقال غيره : بل الملائكة أفضل .
والثاني : أن معناه : وفضَّلناهم على جميع مَنْ خلقنا . والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع ، كقوله : { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } [ الشعراء : 223 ] . وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده " .

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

قوله تعالى : { يوم ندعو } قال الزجاج : هو منصوب على معنى : اذكر { يوم ندعو كل أُناس بإمامهم } والمراد به : يوم القيامة . وقرأ الحسن البصري : «يوم يدعو» بالياء { كلَّ } بالنصب . وقرأ أبو عمران الجوني : «يوم يُدعى» بياء مرفوعة ، وفتح العين ، وبعدها ألف ، «كلُّ» بالرفع .
وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال .
أحدها : أنه رئيسهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال : إِمام هدى أو إِمام ضلالة . والثاني : عملُهم ، رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وأبوالعالية .
والثالث : نبيُّهم ، قاله أنس بن مالك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومجاهد في رواية .
والرابع : كتابُهم ، قاله عكرمة ، ومجاهد في رواية . ثم فيه قولان . أحدهما : أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم ، قاله قتادة ، ومقاتل . والثاني : كتابهم الذي أُنزل عليهم ، قاله الضحاك ، وابن زيد . فعلى القول الأول يقال : يا متَّبعي موسى ، يا متَّبعي عيسى ، يا متَّبعي محمَّدٍ؛ ويقال : يا متَّبعي رؤساء الضلالة . وعلى الثاني : يا من عمل كذا وكذا . وعلى الثالث : يا أُمَّة موسى ، يا أُمَّة عيسى ، يا أُمَّة محمد . وعلى الرابع : يا أهل التوراة ، يا أهل الإِنجيل ، يا أهل القرآن . أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا .
قوله تعالى : { فأولئك يقرؤون كتابهم } معناه : يقرؤون حسناتِهم ، لأنهم أخذوا كتبهم بأيْمانهم .
قوله تعالى : { ولا يُظلمون فتيلاً } أي : لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل ، وقد بيَّنَّاه في سورة [ النساء : 49 ] .
قوله تعالى : { ومن كان في هذه أعمى } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «أعمى فهو في الآخرة أعمى» مفتوحتي الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين . وقرأ أبو عمرو : «في هذه أعمى» بكسر الميم ، «فهو في الآخرة أعمى» بفتحها .
وفي المشار إِليها ب «هذه» قولان .
أحدهما : أنها الدنيا ، قاله مجاهد . ثم في معنى الكلام خمسة أقوال .
أحدها : من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خَلْق الأشياء ، فهو عمّا وُصِف له في الآخرة أعمى ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : من كان في الدنيا أعمى بالكفر ، فهو في الآخرة أعمى ، لأنه في الدنيا تُقبَل توبته ، وفي الآخرة لا تُقبَل ، قاله الحسن .
والثالث : من عمي عن آيات الله في الدنيا ، فهو عن الذي غيِّب عنه من أمور الآخرة أشدّ عمىً .
والرابع : من عمي عن نِعَم الله التي بيَّنها في قوله : { ربُّكم الذي يزجي لكم الفُلْك في البحر } إِلى قوله : { تفضيلا } فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه ، ذكرهما ابن الأنباري .
والخامس : من كان فيها أعمى عن الحُجَّة ، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة ، قاله أبو بكر الورّاق .
والثاني : أنها النِّعم . ثم في الكلام قولان .

أحدهما : من كان أعمى عن النِّعم التي تُرى وتُشاهَد ، فهو في الآخرة التي لم تُر أعمى ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني : من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النِّعم المذكورة في قوله : { ولقد كرَّمنا بني آدم } ولم يؤدِّ شكرها ، فهو فيما بينه وبين الله مما يُتقرَّب به إِليه أعمى { وأضل سبيلاً } ، قاله السدي . قال أبو علي الفارسي : ومعنى قوله : { في الآخرة أعمى } أي : أشدُّ عمىً ، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عَمَاهُ بالاستدلال ، ولا سبيل له في الآخرة إِلى الخروج من عماه . وقيل : معنى العمى في الآخرة : أنه لا يهتدي إِلى طريق الثواب ، وهذا كلُّه من عمى القلب .
فإن قيل : لم قال : { فهو في الآخرة أعمى } ولم يقل : أشدُّ عمىً ، لأن العمى خِلْقة بمنزلة الحُمرة ، والزُّرقة ، والعرب تقول : ما أشدَّ سواد زيد ، وما أبْيَنَ زرقة عمرو ، وقلَّما يقولون : ما أسود زيداً ، وما أزرق عمراً؟
فالجواب : أن المراد بهذا العمى عمى القلب ، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء ، فيخالف الخِلَقَ اللاّزِمة التي لا تزيد ، نحو عمى العين ، والبياض ، والحمرة ، ذكره ابن الأنباري .

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

قوله تعالى : { وإِن كادوا ليفتنونك } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : أن وفد ثَقيف أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : متِّعنا باللات سَنة ، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمْتَ مكة ، فأبى ذلك ، فأقبلوا يُكثرون مسألتهم ، وقالوا : إِنا نحب أن تعرِّف العرب فضلنا عليهم ، فإن خشيتَ أن يقول العرب : أعطيتهم مالم تعطنا ، فقل : الله أمرني بذلك؛ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عنهم ] ، وداخلهم الطمع ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس . وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا : أجِّلنا سنة ، ثم نُسلم ونكسر أصنامنا ، فهمَّ أن يؤجِّلهم ، فنزلت هذه الآية .
والثاني : " أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا نكفُّ عنك إِلا بأن تُلِمَّ بآلهتنا ، ولو بأطراف أصابعك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لَكاره»؟ " فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير ، وهذا باطل لا يجوز أن يُظَنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن يُنْظِرهم سنة ، وكل ذلك مُحال في حَقِّه وفي حق الصحابة أنهم رَوَواْ عنه .
والثالث : أن قريشاً خَلَواْ برسول الله ليلةً إِلى الصباح يكلِّمونه ويفخِّمونه ، ويقولون : أنت سيدنا وابن سيدنا ، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ، ثم عصمه الله من ذلك ، ونزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والرابع : أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اطرد عنك سُقَاط الناس ، ومواليهم ، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن ، وذلك أنهم كانوا يلبَسون الصوف ، حتى نجالسَك ونسمعَ منك ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يستدعي به إِسلامهم ، فنزلت هذه الآيات ، حكاه الزجاج؛ قال : ومعنى الكلام : كادوا يفتنونك ، ودخلت «إِن» واللام للتوكيد . قال المفسرون : وإِنما قال : «لَيفتنونك» ، لأن في إِعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن .
قوله تعالى : { لتفتريَ } أي : لتختلقَ { علينا غيرَه } وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك ، { وإِذاً } لو فعلت ذلك { لاتخذوك خليلاً } أي : والَوْكَ وصافَوْكَ .
قوله تعالى : { ولولا أن ثبَّتناك } على الحق ، لِعِصمتنا إِياك { لقد كدتَ تركَن إِليهم } أي : هممتَ وقاربتَ أن تَميل إِلى مرادهم { شيئاً قليلاً } قال ابن عباس : وذلك حين سكت عن جوابهم ، والله أعلم بنيَّته . وقال ابن الأنباري : الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الباطن للمشركين ، وتقديره : لقد كادوا يُركنونك إِليهم ، وينسبون إِليك ما يشتهونه مما تكرهه ، فنسب الفعل إِلى غير فاعله عند أمن اللَّبْس ، كما يقول الرجل للرجل : كدت تقتل نفسَك اليوم ، يريد : كدت تفعل فعلاً يقتلك غيرُك من أجله؛ فهذا من المجاز والاتساع . وشبيه بهذا قولُه :

{ فلا تموتُنَّ إِلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ، وقول القائل : لا أرينّكَ في هذا الموضع .
قوله تعالى : { إِذاً لأذقناك } المعنى : لو فعلت ذلك الشيء القليل { لأذقناك ضعف الحياة } أي : ضِعف عذاب الحياة { وضِعف } عذاب { الممات } ، ومثله قول الشاعر :
[ نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ ] ... واسْتَبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
أي : أهل المجلس . وقال ابن عباس : ضِعْفَ عذاب الدنيا والآخرة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً ، ولكنه تخويف لأُمَّته ، لئلا يركن أحد من المؤمنين إِلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه .
قوله تعالى : { وإِن كادوا ليَسْتَفِزُّونك من الأرض } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَدِم المدينة ، حسدته اليهود على مُقامه بالمدينة ، وكرهوا قربه ، فأتَوه ، فقالوا : يا محمد أنبيٌ أنت؟ قال : نعم ، قالوا : فوالله لقد علمتَ ما هذه بأرض الأنبياء ، وإن أرض الأنبياء الشام ، فان كنتَ نبياً فائت الشام ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشخص عن المدينة ، فنزلت هذه الآية . وقال عبد الرحمن بن غَنْم : لمّا قالت له اليهود هذا : صدَّق ما قالوا ، وغزا غزوة تبوك لا يريد إِلا الشام ، فلما بلغ تبوكَ ، نزلت هذه الآية .
والثاني : أنهم المشركون أهل مكة هَمُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، فأمره الله بالخروج ، وأنزل هذه الآية إِخباراً عما هَمُّوا به ، قاله الحسن ، ومجاهد . وقال قتادة : هم أهل مكة باخراجه من مكة ، ولو فعلوا ذلك ما نُوظِروا ، ولكنَّ الله كفَّهم عن إِخراجه حتى أمره بالخروج . وقيل : ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر . فعلى القول الأول ، المشار إِليهم : اليهود ، والأرض : المدينة . وعلى الثاني : هم المشركون ، والأرض : مكة . وقد ذكرنا معنى «الاستفزاز» آنفاً [ الاسراء : 64 ] ، وقيل : المراد به هاهنا : القتل ، ليخرجوه من الأرض كلِّها؛ روي عن الحسن .
قوله تعالى : { وإِذاً لا يَلْبَثون خَلفك } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «خلفك» . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «خلافك» . قال الأخفش «خلافك» في معنى خلفك ، والمعنى : لا يلبثون بعد خروجك { إِلا قليلاً } أي : لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بقليل ، وقد جازاهم الله على ما همُّوا به ، فقتل صناديد المشركين ببدر ، وقتل من اليهود بني قريظة ، وأجلى النضير . وقال ابن الأنباري : معنى الكلام : لا يَلْبَثون على خِلافك ومخالفتك ، فسقط حرف الخفض . وقرأ أبو رزين ، وأبو المتوكل : «خُلاَّفُكَ» بضم الخاء ، وتشديد اللام ، ورفع الفاء .
قوله تعالى : { سُنَّة مَنْ قد أَرسلْنا } قال الفراء : نصب السُّنَّة على العذاب المُضْمَر ، أي : يعذَّبوَن كسُنَّتنا فيمن أَرسلْنا . وقال الأخفش : المعنى : سَنّها سُنَّةً . وقال الزجاج : انتصب بمعنى «لا يلبثون» وتأويله : إِنّا سَنَنَّا هذه السُنَّة فيمن أَرسَلْنا قبلك أنهم إِذا أَخرجوا نبيَّهم أو قتلوه ، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم .

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)

قوله تعالى : { أقم الصلاة } أي : أَدِّها { لِدُلوك الشمس } أي : عند دُلوكها . وذكر ابن الأنباري في «اللام» قولين . أحدهما : أنها بمعنى «في» . والثاني : أنها مؤكِّدة ، كقوله : { رَدِفَ لكم } [ النمل : 72 ] . وقال أبو عبيدة : دُلوكها : من عند زوالها إِلى أن تغيب . وقال الزجاج : مَيْلها وقتَ الظهيرة دُلوك ، ومَيْلها للغروب دُلوك . وقال الأزهري : معنى «الدُّلوك» في كلام العرب : الزوال ، ولذلك قيل للشمس إِذا زالت نصف النهار : دالكة ، وإِذا أفلت : دالكة ، لأنها في الحالين زائلة . وللمفسرين في المراد بالدُّلوك هاهنا قولان .
أحدهما : أنه زوالها نصف النهار . " روى جابر بن عبد الله قال : دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه ، فطعِموا عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» " ؛ وهذا قول ابن عمر ، وأبي برزة ، وأبي هريرة ، والحسن ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعبيد بن عمير ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ، وهو اختيار الأزهري . قال الأزهري : لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس ، فيكون المعنى : أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إِلى غسق الليل ، فيدخل فيها الأولى ، والعصر ، وصلاتا غسق الليل ، وهما العشاءان ، ثم قال : { وقرآن الفجر } ، فهذه خمس صلوات .
والثاني : أنه غروبها ، قاله ابن مسعود ، والنخعي ، وابن زيد ، وعن ابن عباس كالقولين ، قال الفراء : ورأيت العرب تذهب في الدُّلوك إِلى غيبوبة الشمس ، وهذا اختيار ابن قتيبة ، قال : لأن العرب تقول : دَلَكَ النجم : إِذا غاب؛ قال ذو الرمة :
مَصَابِيْحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُوْدُهَا ... نُجُومٌ وَلاَ بالآفلاتِ الدَّوالِكِ
وتقول في الشمس : دلكتْ بَرَاحِ ، يريدون : غربت ، والناظر قد وضع كفَّه على حاجبه ينظر إِليها ، قال الشاعر :
والشَّمْسُ قَدْ كادَتْ تَكُونُ دَنَفَا ... أدْفَعُها بالرَّاحِ كَيْ تَزَحْلَفَا
فشبهها بالمريض [ في ] الدَّنَف ، لأنها قد همَّت بالغروب كما قارب الدَّنِف الموت ، وإِنما ينظر إِليها من تحت الكف ليعلم كم بقي لها إِلى أن تغيب ، ويتوقى الشعاع بكفِّه . فعلى هذا ، المراد بهذه الصلاة : المغرب . فأما غسق الليل ، فظلامُه .
وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال .
أحدها : العشاء ، قاله ابن مسعود . والثاني : المغرب ، قاله ابن عباس . قال القاضي أبو يعلى : فيحتمل أن يكون المراد بيانَ وقت المغرب ، أنه من غروب الشمس إِلى غسق الليل . والثالث : المغرب والعشاء ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وقرآنَ الفجر } المعنى : وأقم قراءة الفجر . قال المفسرون : المراد به : صلاة الفجر . قال الزجاج : وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إِلا بقراءة ، حين سمِّيت الصلاة قرآناً . قوله تعالى : { إِن قرآن الفجر كان مشهوداً } روى أَبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تشهده ملائكة الليل ، وملائكة النهار " .

قوله تعالى : { ومن الليل فتهجَّد به } قال ابن عباس : فَصَلَِّ بالقرآن . قال مجاهد ، وعلقمة ، والأسود : التهجُّد بعد النوم . قال ابن قتيبة : تهجَّدت : سَهِرت ، وهَجَدت : نِمْت . وقال ابن الأنباري : التهجُّد هاهنا بمعنى : التيقُّظ والسَّهَر ، واللغويون يقولون : هو من حروف الأضداد؛ يقال للنائم : هاجِد ومتهجِّد ، وكذلك للساهر ، قال النابغة :
وَلَو انَّها عَرَضَتْ لأشْمَطَ رَاهِبٍ ... عَبَد الإِلهَ صَرُوْرَةٍ مُتَهَجِّدِ
لَرَنَا لِبَهْجَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيْثِهَا ... وَلَخَالَهُ رَشَداً وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ
يعني بالمتهجد : الساهر ، وقال لبيد :
قَال هَجِدْنَا فَقَد طَالَ السُّرَى ... [ وقَدَرْنا إِن خَنَا الدَّهْرِ غَفَلْ
أي : نَوِّمْنا . وقال الأزهري : المتهجِّد : القائم إِلى الصلاة من النَّوم . وقيل له : متهجد ، لإِلقائه الهُجُود عن نفسه ، كما يقال : تَحَرَّج وتأثَّم .
قوله تعالى : { نافلةً لك } النافلة في اللغة : ما كان زائداً على الأصل .
وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان .
أحدهما : أنها زائدة فيما فُرِض عليه ، فيكون المعنى : فريضة عليك ، وكان قد فرض عليه قيام الليل ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أنها زائدة على الفرض ، وليست فرضاً؛ فالمعنى : تطوعاً وفضيلة . قال أبو أُمامة ، والحسن ، ومجاهد : إِنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قال مجاهد : وذلك أنه قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تأخَّر ، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة ، وهو لغيره كفارة . وذكر بعض أهل العلم : أن صلاة الليل كانت فرضاً عليه في الابتداء ، ثم رخِّص له في تركها ، فصارت نافلة . وذكر ابن الأنباري في هذا قولين .
أحدهما : يقارب ما قاله مجاهد ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا تنفَّل لا يقدر له أن يكون بذلك ماحياً للذنوب ، لأنه قد غُفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخَّر ، وغيره إِذا تنفَّل كان راجياً ، ومقدّراً محو السيئات عنه بالتنفل ، فالنافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على الحاجة ، وهي لغيره مفتقَر إِليها ، ومأمول بها دفع المكروه . والثاني : أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، والمعنى : ومن الليل فتهجدوا به نافله لكم ، فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب أمته .
قوله تعالى : { عسى أن يبعثكَ ربُّك } «عسى» من الله واجبه ، ومعنى «يبعثك» يقيمك { مقاماً محموداً } وهو الذي يحمَده لأجله جميع أهل الموقف . وفيه قولان .
أحدهما : أنه الشفاعة للناس يوم القيامة ، قاله ابن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن عبد الله ، والحسن ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثاني : يجلسه على العرش يوم القيامة . روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية ، وقال : يُقعده على العرش ، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد .
قوله تعالى : { وقل رب أدخلني مدخل صدق } وقرأ الحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، وحميد بن قيس ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بفتح الميم في «مَدخل» و«مَخرج» .

قال الزجاج : المدخل ، بضم الميم : مصدر أدخلته مُدخلاً ، ومن قال : مَدخل صدق ، فهو على أدخلته ، فدخل مَدخل صدق ، وكذلك شرح «مَخرج» مثله .
وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولاً .
أحدها : أدخلني المدينة مدخل صدق ، وأخرجني من مكة مخرج صدق . روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم أمر بالهجرة ، فنزلت عليه هذه الآية . وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أدخلني القبر مُدخل صدق ، وأخرجني منه مُخرج صدق ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أدخلني المدينة ، وأخرجني إِلى مكة ، يعني : لفتحها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والرابع : أدخلني مكة مدخل صدق ، وأخرجني منها مخرج صدق ، فخرج منها آمناً من المشركين ، ودخلها ظاهراً عليها يوم الفتح ، قاله الضحاك .
والخامس : أدخلني مُدخل صدقٍ الجنةَ ، وأخرجني مخرج صدق من مكة إِلى المدينة ، رواه قتادة عن الحسن .
والسادس : أدخِلني في النبوَّة والرسالة ، وأخرجني منها مخرج صدق ، قاله مجاهد ، يعني : أخرجني مما يجب عليَّ فيها .
والسابع : أدخِلني في الإِسلام ، وأخرجني منه ، قاله أبو صالح؛ يعني : من أداء ما وجب عليَّ فيه إِذا جاء الموت .
والثامن : أدخِلني في طاعتك ، وأخرجني منها ، أي : سالماً غير مقصِّر في أدائها ، قاله عطاء .
والتاسع : أدخِلني الغار ، وأخرجني منه ، قاله محمد بن المنكدر .
والعاشر : أدخلني في الدِّين ، وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق ، ذكره الزجاج .
والحادي عشر : أدخلني مكة ، وأخرجني إِلى حُنَين ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
وأما إِضافة الصدق إِلى المُدخل والمُخرج ، فهو مدح لهما . وقد شرحنا هذا المعنى في سورة [ يونس : 2 ] .
قوله تعالى : { واجعل لي من لدنك } أي : من عندك { سلطاناً } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التسلُّط على الكافرين بالسيف ، وعلى المنافقين باقامة الحدود ، قاله الحسن .
والثاني : أنه الحُجة البيِّنة ، قاله مجاهد .
والثالث : المُلك العزيز الذي يُقهَر به العصاة ، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري : وقوله : { نصيراً } يجوز أن يكون بمعنى مُنْصَراً ، ويصلح أن يكون تأويله ناصراً .
قوله تعالى : { وقل جاء الحق وزَهَق الباطل } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن الحق : الإِسلام ، والباطل : الشرك ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن الحق : القرآن ، والباطل : الشيطان ، قاله قتادة .
والثالث : أن الحق : الجهاد ، والباطل : الشرك ، قاله ابن جريج .
والرابع : الحق : عبادة الله ، والباطل : عبادة الأصنام ، قاله مقاتل . ومعنى «زهق» : بَطَل واضمحلَّ . وكلُّ شيء هلك وبَطَل فقد زَهَق . وزَهَقت نفسُه : تلفت .
وروى ابن مسعود أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إِن الباطل كان زهوقاً .
فإن قيل : كيف قلتم : إِنّ «زهق» بمعنى بَطَل ، والباطل موجود معمول عليه عند أهله؟
فالجواب : أن المراد من بطلانه وهلكته : وضوح عيبه ، فيكون هالكاً عند المتدبِّر الناظر .

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)

قوله تعالى : { وننزِّل من القرآن ما هو شفاء } «مِنْ» هاهنا لبيان الجنس ، فجميع القرآن شفاء . وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال .
أحدها : شفاء من الضلال ، لما فيه من الهدى . والثاني : شفاء من السَّقم ، لما فيه من البركة . والثالث : شفاء من البيان للفرائض والأحكام .
وفي «الرحمة» قولان . أحدهما : النعمة . والثاني : سبب الرحمة .
قوله تعالى : { ولا يزيد الظالمين } يعني المشركين { إِلا خساراً } لأنهم يكفرون به ، ولا ينتفعون بمواعظه ، فيزيد خسرانهم .

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)

قوله تعالى : { وإِذا أنعمنا على الإِنسان } قال ابن عباس : الإِنسان هاهنا : الكافر ، والمراد به : الوليد بن المغيرة . قال المفسرون : وهذا الإِنعام : سَعة الرزق ، وكشف البلاء . { ونأى بجانبه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «ونأى» على وزن «نعى» بفتح النون والهمزة . وقرأ ابن عامر : «ناء» مثل «باع» . وقرأ الكسائي ، وخلف عن سليم عن حمزة : «وناء» بامالة النون والهمزة . وروى خلاَّد عن سليم : «نئي» بفتح النون ، وكسر الهمزة؛ والمعنى : تباعد عن القيام بحقوق النِّعم ، وقيل : تعظَّم وتكبَّر . { وإِذا مسَّه الشرُّ } أي : نزل به البلاء والفقر { كان يَؤوساً } أي : قَنوطاً شديد اليأس ، لا يرجو فضل الله .
قوله تعالى : { قل كلٌّ يعمل على شاكلته } فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : على ناحيته ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير . قال الفراء : الشاكلة : الناحية ، والجديلة ، والطريقة ، سمعت بعض العرب يقول : وعبد الملك إِذ ذاك على جديلته ، وابن الزبير على جديلته ، يريد : على ناحيته . وقال أبو عبيدة : على ناحيته وخليقته . وقال ابن قتيبة : على خليقته وطبيعته ، وهو من الشكل . يقال : لستَ على شكلي ، ولا شاكلتي وقال الزجاج : على طريقته ، وعلى مذهبه .
والثاني : على نِيَّته؛ قاله الحسن ، ومعاوية بن قُرَّة . وقال الليث : الشاكلة من الأمور : ما وافق فاعله .
والثالث : على دينه ، قاله ابن زيد . وتحرير المعنى : أن كل واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه ، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند النِّعم واليأس عند الشدة ، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء ، والله يجازي الفريقين . وذكر أبو صالح عن ابن عباس : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وليس بشيء .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بناس من اليهود ، فقالوا : سَلُوهُ عن الروح؟ فقال بعضهم : لا تسألوه ، فيستقبلكُم بما تكرهون . فأتاه نفر منهم ، فقالوا : يا أبا القاسم : ما تقول في الروح؟ فسكت ، ونزلت هذه الآية ، قاله ابن مسعود .
والثاني : أن اليهود قالت لقريش : سلوا محمداً عن ثلاث ، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي؛ سلوه عن فِتيةٍ فُقدوا ، وسلوه عن ذي القرنين ، وسلوه عن الرُّوح . فسألوه عنها ، ففسَّر لهم أمر الفتية في الكهف ، وفسر لهم قصة ذي القرنين ، وأمسك عن قصة الروح ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس . وفي المراد بالروح هاهنا ستة أقوال .
أحدها : أنه الروح الذي يحيا به البدن ، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس . وقد اختلف الناس في ماهيَّة الروح ، ثم اختلفوا هل الروح النَّفْسُ ، أم هما شيئان فلا يحتاج إِلى ذكر اختلافهم لأنه لا برهان على شيء من ذلك وإِنما هو شيء أخذوه عن الطب والفلاسفة؟ فأما السلف ، فانهم أمسكوا عن ذلك ، لقوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } ، فلما رأَوا أن القوم سألوا عن الروح فلم يُجابوا ، ولوحي ينزل ، والرسول حيّ ، علموا أن السكوت عما لم يُحَطْ بحقيقة عِلمه أولى .
والثاني : أن المراد بهذا الروح : ملك من الملائكة على خِلْقة هائلة ، روي عن عليٍّ عليه السلام ، وابن عباس ، ومقاتل .
والثالث : أن الروح : خَلْق من خلق الله عز وجل صوَّرهم على صُوَر بني آدم ، رواه مجاهد عن ابن عباس .
والرابع : أنه جبريل عليه السلام ، قاله الحسن ، وقتادة .
والخامس : أنه القرآن ، روي عن الحسن أيضاً .
والسادس : أنه عيسى بن مريم ، حكاه الماوردي . قال أبو سليمان الدمشقي : قد ذكر الله تعالى الروح في مواضع من القرآن ، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إِلى موضع لا يليق به ، وظنوه مثله ، وإِنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم . وقوله : { من أمر ربي } أي : من عِلمه الذي منع أن يعرفه أحد . قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إِلا قليلاً } في المخاطبين بهذا قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنهم جميع الخلق ، عِلمهم قليل بالإِضافة إِلى علم الله عز وجل ، ذكره الماوردي .
فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : { ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] ؟
فالجواب : أن ما أوتيه الناس من العلم ، وإِن كان كثيراً ، فهو بالإِضافة إِلى عِلم الله قليل .

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)

قوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إِليك } قال الزجاج : المعنى : لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب ، حتى لا يوجد له أثر ، { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } أي : لا تجدَ من يتوكل [ علينا ] في ردّ شيء منه ، { إِلا رحمة من ربك } هذا استنثاء ليس من الأول ، والمعنى : لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين . وقال ابن الأنباري : المعنى : لكن رحمة من ربك تمنع من أن تُسْلَبَ القرآن ، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إِلى دين آبائهم ، فهدَّدهم الله عز وجل بسلب النِّعمة ، فكان ظاهر الخطاب للرسول ، ومعنى التهدُّدِ للأمة . وقال أبو سليمان : «ثم لا تجد لك به» أي : بما نفعله بك ، من إِذهاب ما عندك «وكيلاً» يدفعنا عما نريده بك . وروي [ عن ] عبد الله بن مسعود أنه قال : يسرى على القرآن في ليلة واحدة ، فيجيء جبريل من جوف الليل ، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم ، فيصبحون لا يقرؤون آية ، ولا يحسنونها . وردّ أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام : " إِن الله لا يقبض العلم انتزاعاً " ، وحديث ابن مسعود مروي من طُرُقٍ حِسان ، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالعلم ما سوى القرآن ، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر .

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)

قوله تعالى : { قل لَئِنِ اجتمعت الإِنس والجِنُّ } قال المفسرون : هذا تكذيب للنَّضْر بن الحارث حين قال : «لو شئنا لقلنا مثل هذا» . والمِثْل الذي طُلِبَ منهم : كلام له نظم كنظم القرآن ، في أعلى طبقات البلاغة . والظهير : المُعين .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

قوله تعالى : { ولقد صرَّفْنا للناس في هذا القرآن } قد فسَّرناه في هذه السورة [ الاسراء : 41 ] ، والمعنى : من كل مَثَل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار { فأبى أكثر الناس } يعني أهل مكة { إِلا كُفوراً } أي : جحوداً للحق وإِنكاراً .
قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض يَنبوعا } سبب نزول هذه الآية وما يتبعها ، " أن رؤساء قريش ، كعُتبة ، وشيبة ، وأبي جهل ، وعبد الله بن أبي أُمية ، والنضر بن الحارث في آخرين ، اجتمعوا عند الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إِلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذَروا فيه ، فبعثوا إِليه : إِن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلِّموك ، فجاءهم سريعاً ، وكان حريصاً على رشدهم ، فقالوا : يا محمد ، إِنا والله لا نَعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفَّهت الأحلام ، وفرَّقت الجماعة ، فإن كنتَ إِنما جئتَ بهذا لتطلب مالاً ، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً ، وإِن كنتَ إِنما تطلب الشرف فينا ، سوَّدناك علينا ، وإِن كان هذا الرَّئِيُّ الذي يأتيك قد غلب عليك ، بذلنا أموالنا في طلب الطِّب لك حتى نُبْرِئك منه ، أو نُعْذَر فيك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِن تقبلوا مِنِّي [ ما جئتكم به ] ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإِن تردُّوه عليَّ ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» . قالوا : يا محمد ، فإن كنتَ غير قابل مِنّا ما عرضنا ، فقد علمتَ أنه ليس من الناس أحد أضيقَ بلاداً ولا أشد عيشاً منا ، سل لنا ربك يُسيِّر لنا هذه الجبال التي ضيِّقت علينا ، ويُجري لنا أنهاراً ، ويبعث من مضى من آبائنا ، ولْيكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب ، فإنه كان شيخاً صدوقاً ، فنسألهم عما تقول : أحق هو؟ فإن فعلتَ صدَّقناك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بهذا بُعثتُ ، وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به»؛ قالوا : فَسَلْ ربَّك أن يبعثَ مَلَكاً يصدِّقك ، وسله أن يجعل لك جِناناً ، وكنوزاً ، وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك؛ قال : «ما أنا بالذي يسأل ربه هذا»؛ قالوا : فأسقط السماء [ علينا ] كما زعمت بأن ربَّك إِن شاء فعل؛ فقال : «ذلك إِلى الله عز وجل»؛ فقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً ، وقال عبد الله بن أبي أُمية : لا أؤمن لك حتى تتخذ إِلى [ السماء ] سُلَّماً ، وترقى فيه وأنا أنظر ، وتأتي بنسخة منشورة معك ، ونفرٍ من الملائكة يشهدون لك ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً لِمَا رأى من مباعدتهم إِياه " ، فأنزل الله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك . . . } الآيات ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

قوله تعالى : { حتى تفجر } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «حتى تُفَجِّرَ» بضم التاء ، وفتح الفاء ، وتشديد الجيم مع الكسرة . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «حتى تَفْجُرَ» بفتح التاء ، وتسكين الفاء ، وضم الجيم مع التخفيف . فمن ثقَّل ، أراد كثرة الانفجار من الينبوع ، ومن خفَّف ، فلأن الينبوع واحد . فأما الينبوع : فهو عين ينبع الماء منها؛ قال أبو عبيدة : هو يَفعول ، من نبع الماء ، أي : ظهر وفار .
قوله تعالى : { أو تكونَ لك جَنَّة } أي : بستان { فتفجر الأنهار } أي : تفتحها وتجريها { خلالها } أي : وسط تلك الجنة .
قوله تعالى : { أو تُسْقطَ السماء } وقرأ مجاهد ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، وحميد ، والجحدري : «أو تَسقُط» بفتح التاء ، ورفع القاف «السماءُ» بالرفع .
قوله تعالى : { كِسفاً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «كِسْفاً» بتسكين السين في جميع القرآن إِلا في [ الروم : 48 ] فإنهم حرَّكوا السين . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين ، وفي باقي القرآن بالتسكين . وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين ، وفي باقي القرآن بتسكينها . قال الزجاج : من قرأ «كِسَفاً» بفتح السين ، جعلها جمع كِسفة ، وهي : القطعة ، ومن قرأ «كِسْفاً» بتسكين السين ، فكأنهم قالوا : أَسْقِطها طبقاً علينا؛ واشتقاقه من كسفتُ الشيء : إِذا غطيَّته ، يعنون : أسقطها علينا قطعة واحدة . وقال ابن الأنباري : من سكَّن قال : تأويله : ستراً وتغطية ، من قولهم : قد انكسفت الشمس : إِذا غطاها ما يحول بين الناظرين إِليها وبين أنوارها .
قوله تعالى : { أو تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : عياناً ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل . وقال أبو عبيدة : معناه : مقابلة ، أي : معاينة ، وأنشد للأعشى :
نُصَالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوؤُوا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا
أي : قابِلَتُها . ويروى : وجَّهتْها [ يعني بدل : يسرتها ] .
والثاني : كفيلاً أنك رسول الله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفراء ، قال : القبيل ، والكفيل ، والزعيم ، سواء؛ تقول : قبلت ، وكفلت ، وزعمت .
والثالث : قبيلةً قبيلةً ، كل قبيلة على حِدَتها ، قاله الحسن ، ومجاهد . فأما الزخرف ، فالمراد به الذهب ، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في [ يونس : 24 ] ، و«ترقى» : بمعنى «تصعد»؛ يقال : رَقِيتُ أرقَى رُقِيَّاً .
قوله تعالى : { حتى تُنَزِّل علينا كتاباً } قال ابن عباس : كتاباً من رب العالمين إِلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه .
قوله تعالى : { قل سبحان ربي } قرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «قل» . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : «قال» ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام ، { هل كنتُ إِلا بشراً رسولاً } ، أي : أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر .
فإن قيل : لِم اقتصر على حكاية «قالوا» من غير إِيضاح الرد؟
فالجواب : أنه لما خصهم بقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } فلم يكن في وسعهم ، عجَّزهم ، فكأنه يقول : قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوَّتي ، ومن ذلك التحدِّي بمثل هذا القرآن ، فأما عَنَتُكم فليس في وسعي ، ولأنهم ألحُّوا عليه في هذه الأشياء ، ولم يسألوه أن يسألَ ربه ، فردَّ قولهم بكونه بشراً ، فكفى ذلك في الردِّ .

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)

قوله تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا } قال ابن عباس : يريد أهل مكة . قال المفسرون : ومعنى الآية : وما منعهم من الإِيمان { إِذ جاءهم الهُدى } وهو البيان والإِرشاد في القرآن { إِلا أن قالوا } [ أي : إِلا ] قولهم في التعجب والإِنكار : { أَبَعَثَ الله بَشَراً رسولاً } ؟ وفي الآية اختصار ، تقديره : هلا بعث الله مَلَكاً رسولاً ، فأُجيبوا على ذلك بقوله تعالى : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } أي : مستوطنين الأرض . ومعنى الطمأنينة : السكون؛ والمراد من الكلام أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم .
قوله تعالى : { قل كفى بالله شهيداً } قد فسرناه في [ الرعد : 43 ] { إِنه كان بعباده خبيراً بصيراً } قال مقاتل : حين اختص الله محمداً بالرسالة .

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)

قوله تعالى : { من يهدي الله فهوالمهتدي } قرأ نافع ، وأبو عمرو بالياء في الوصل ، وحَذَفاها في الوقف . وأثبتها يعقوب في الوقف ، وحذفها الأكثرون في الحالتين . «من يهد الله» قال ابن عباس : من يرد الله هداه { فهو المهتد ومن يُضْلِل فلن تجد لهم أولياء من دونه } يَهدونهم .
قوله تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يمشِّيهم على وجوههم ، وشاهِده ما روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أنس بن مالك " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال : «إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا ، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " . والثاني : أن المعنى : ونحشرهم مسحوبين على وجوههم ، قاله ابن عباس .
والثالث : نحشرهم مسرعين مبادرين ، فعبَّر بقوله : «على وجوههم» عن الإِسراع ، كما تقول العرب : قد مَرَّ القوم على وجوههم : إِذا أسرعوا ، قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى : { عمياً وبكماً وصماً } فيه قولان .
أحدهما : عمياً لا يرون شيئاً يَسرُّهم ، وبكماً لا ينطقون بحجَّة ، وصماً لا يسمعون شيئاً يسرُّهم ، قاله ابن عباس . وقال في رواية : عمياً عن النظر إِلى ما جعل لأوليائه ، وبكماً عن مخاطبة الله ، وصماً عما مدح به أولياءه ، وهذا قول الأكثرين .
والثاني : أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول . قال مقاتل : هذا يكون حين يقال لهم : { اخسؤوا فيها } [ المؤمنون : 108 ] فيصيرون عمياً بكماً صماً لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك .
قوله تعالى : { كلما خَبَتْ } قال ابن عباس : أي : سكنت . قال المفسرون : وذلك أنها تأكلهم ، فإذا لم تُبق منهم شيئاً وصاروا فحماً ولم تجد شيئاً تأكله ، سكنت ، فيُعادُون خلقاً جديداً ، فتعود لهم . وقال ابن قتيبة : يقال : خبت النار : إِذا سكن لهبها . فالَّلهب يسكن ، والجمر يعمل ، فإن سكن الَّلهب ، ولم يُطفَأ الجمر ، قيل : خَمَدت تَخْمُدُ خُمُوداً ، فإن طُفئت ولم يبق منها شيء ، قيل : هَمَدت تَهْمُد هُمُوداً . ومعنى { زدناهم سعيراً } : ناراً تتسعر ، أي : تتلهَّب . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ الاسراء : 49 ] إِلى قوله : { قادر على أن يخلق مثلهم } أي : على أن يخلقهم مرة ثانية ، وأراد ب «مثلهم» إِياهم ، وذلك أن مِثْل الشيءِ مساوٍ له ، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء ، يقال : مِثْلُك لا يفعل هذا ، أي : أنت ، ومثله قوله : { فان آمنوا بمثل ما آمنتم به } [ البقرة : 137 ] ، وقد تم الكلام عند قوله : { مِثلَهم } ، ثم قال : { وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه } يعني : أجل البعث { فأبى الظالمون إِلا كُفوراً } أي : جحوداً بذلك الأجل .
قوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } قال الزجاج : المعنى : لو تملكون أنتم ، قال المتلمِّس :

وَلَوْ غيرُ أَخْوَالِي أَرَادُوا نَقِيصَتِي ... نَصبْتُ لهم فَوْقَ العرانينِ مِيسَما
المعنى : لو أراد غير أخوالي .
وفي هذه الخزائن قولان .
أحدهما : خزائن الأرزاق . والثاني : خزائن النِّعم ، فيخرج في الرحمة قولان . أحدهما : الرِّزق . والثاني : النِّعمة . وتحرير الكلام : لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة . { وكان الإِنسان } يعني : الكافر { قتوراً } أي : بخيلاً مُمْسِكاً؛ يقال : قَتَر يَقْتُرُ ، وقَتَر يَقْتِرُ : إِذا قصَّر في الإِنفاق . وقال الماوردي : لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى ، لما جاد كجود الله تعالى ، لأمرين . أحدهما : أنه لا بد أن يُمسِك منه لنفقته ومنفعته . والثاني : أنه يخاف الفقر ، والله تعالى منزَّه في جُوده عن الحالين .
ثم إِن الله تعالى ذكر إِنكار فرعون آيات موسى ، تشبيهاً بحال هؤلاء المشركين ، فقال : { ولقد آتينا موسى تسع آيات } وفيها قولان .
أحدهما : أنها بمعنى المعجزات والدلالات ، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها ، وهي : يده ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقُمَّل ، والضفادع ، والدم ، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال .
أحدها : أنهما لسانه والبحر الذي فلق له ، رواه العوفي عن ابن عباس؛ يعني بلسانه : أنه كان فيه عقدة فحلَّها الله تعالى له .
والثاني : البحر والجبل الذي نُتق فوقهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : السّنون ونقص الثمرات ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، وقتادة . وقال الحسن : السِّنون ونقص الثمرات آية واحدة .
والرابع : البحر والموت أُرسل عليهم ، قاله الحسن ، ووهب .
والخامس : الحَجَر والبحر ، قاله سعيد بن جبير .
والسادس : لسانه وإِلقاء العصا مرتين عند فرعون ، قاله الضحاك .
والسابع : البحر والسِّنون ، قاله محمد بن كعب .
والثامن : ذكره [ محمد بن إِسحاق عن ] محمد بن كعب أيضاً ، فذكر السبع الآيات الأولى ، إِلا أنه جعل مكان يده البحر ، وزاد الطمسة والحجر ، يعني قوله : { اطمس على أموالهم } [ يونس : 88 ] .
والثاني : أنها آيات الكتاب ، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسّال ، " أن يهودياً قال لصاحبه : تعال حتى نسأل هذا النبيّ ، فقال الآخر : لا تقل : إِنه نبيٌّ ، فإنه لو سمع ذلك ، صارت له أربعة أعين؛ فأتَيَاه ، فسألاه عن تسع آيات بيِّنات ، فقال : «لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إِلا بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تَسرقوا ، ولا تأكلوا الرِّبا ، ولا تمشوا بالبريء إِلى السلطان ليقتلَه ، ولا تَسْحَروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف ، وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تَعْدُوا في السبتِ» ، قال : فقبَّلا يده ، وقالا : نشهد أنك نبيّ " .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

قوله تعالى : { فَاسْأَلْ بني إِسرائيل } قرأ الجمهور : «فاسأل» على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وإِنما أُمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر [ به ] عنهم ، ليكون حُجَّة على من لم يؤمن منهم . وقرأ ابن عباس : «فَسَأَلَ بني إِسرائيل» ، [ على معنى ] الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إِسرائيل . { فقال له فرعونُ إِني لأظنُّك } أي : لأحسِبك { يا موسى مسحوراً } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : مخدوعاً ، قاله ابن عباس . والثاني : مسحوراً قد سُحِرْتَ ، قاله ابن السائب . والثالث : ساحراً ، فوضع مفعولاً في موضعِ فاعلٍ ، هذا مروي عن الفراء ، وأبي عبيدة . فقال موسى : { لقد علمت } قرأ الجمهور بفتح التاء . وقرأ علي عليه السلام بضمها ، وقال : والله ما عَلِم عدوُّ الله ، ولكنَّ موسى هوالذي عَلِم ، فبلغ ذلك ابنَ عباس ، فاحتج بقوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : 14 ] . واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام ، وقد رُويت عن ابن عباس ، وأبي رزين ، وسعيد بن جبير ، وابن يعمر . واحتج من نصرها بأنه لما نَسَبَ موسى إِلى أنه مسحور ، أعلمه بصحة عقله بقوله : «لقد علمتُ» ، والقراءة الأولى أصح ، لاختيار الجمهور ، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه ، فلم يردّ عليه إِلا بالتعلل والمدافعة ، فكأنه قال : لقد علمتَ بالدليل والحجة «ما أنزل هؤلاء» يعني الآيات . وقد شرحنا معنى «البصائر» في [ الأعراف : 203 ] .
قوله تعالى : { وإِني لأظنك } قال أكثر المفسرين : الظن هاهنا بمعنى العِلم ، على خلاف ظن فرعون في موسى ، وسوّى بينهما بعضهم ، فجعل الأول بمعنى العِلم أيضاً .
وفي المثبور ستة أقوال .
أحدها : أنه الملعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك . والثاني : المغلوب ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثالث : الناقص العقل ، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس . والرابع : المُهْلَك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة ، وابن قتيبة . قال الزجاج : يقال : ثُبر الرجل ، فهو مثبور : إِذا أُهلك . والخامس : الهالك ، قاله مجاهد . والسادس : الممنوع من الخير؛ تقول العرب : ما ثبرك عن هذا ، أي : ما منعك ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { فأراد أن يستفزَّهم من الأرض } يعني : فرعون أراد أن يستفزَّ بني إِسرائيل من أرض مصر . وفي معنى «يستفزَّهم» قولان .
أحدهما : يستأصلهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : يستخفّهم حتى يخرجوا ، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج : جائز أن يكون استفزازُهم إِخراجَهم منها بالقتل أو بالتنحية . قال العلماء : وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون ، هلك فرعون وملَك موسى ، وكذلك أظهر الله نبيَّه بعد خروجه من مكة حتى رجع إِليها ظاهراً عليها .
قوله تعالى : { وقلنا من بعده } أي : من بعد هلاك فرعون { لبني إِسرائيل اسكنوا الأرض } وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها : فلسطين والأردنّ ، قاله ابن عباس . والثاني : أرضٌ وراء الصِّين ، قاله مقاتل . والثالث : أرض مصر والشام .
قوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة } يعني : القيامة { جئنا بكم لفيفاً } أي : جميعاً ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن قتيبة . وقال الفراء : لفيفاً ، أي : مِنْ هاهنا ومِن هاهنا . وقال الزجاج : اللفيف : الجماعات من قبائل شتى .

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

قوله تعالى : { وبالحق أنزلناه } الهاء كناية عن القرآن ، والمعنى : أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدِّين المستقيم ، فهو حَقٌّ ، ونزوله حق ، وما تضمنه حق . وقال أبو سليمان الدمشقي : «وبالحق أنزلناه» أي : بالتوحيد ، «وبالحق نزل» يعني : بالوعد والوعيد ، والأمر والنهي .
قوله تعالى : { وقرآنا فَرَقناه } قرأ علي عليه السلام ، وسعد بن أبي وقاص ، وأُبيّ بن كعب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو رجاء ، وابن محيصن : «فرَّقناه» بالتشديد . وقرأ الجمهور بالتخفيف .
فأما قراءة التخفيف ، ففي معناها ثلاثة أقوال .
أحدها : بيَّنَّا حلاله وحرامه ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : فرقنا فيه بين الحق والباطل ، [ قاله الحسن ] .
والثالث : أحكمناه وفصَّلناه ، كقوله تعالى : { فيها يُفرَق كُلُّ أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] ، قاله الفراء . وأما المشددة ، فمعناها : أنه أُنزل متفرِّقاً ، ولم ينزل جملة واحدة . وقد بيَّنَّا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها . قوله تعالى : { لتقرَأَه على الناس على مُكْثٍ } قرأ أنس ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو رجاءٍ ، وأبان عن عاصم ، وابن محيصن : بفتح الميم؛ والمعنى : على تُؤدة وترسُّل ليتدبَّروا معناه .
قوله تعالى : { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } هذا تهديد لكفار [ أهل ] مكة ، والهاء كناية عن القرآن . { إِن الذين أوتوا العلم } وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم ناس من أهل الكتاب ، قاله مجاهد .
والثاني : أنهم الأنبياء عليهم السلام ، قاله ابن زيد .
والثالث : طلاب الدِّين ، كأبي ذر ، وسلمان ، وورقة بن نوفل ، وزيد ابن عمرو ، قاله الواحدي .
وفي هاء الكناية في قوله : { من قبله } قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى القرآن ، والمعنى : من قبل نزوله .
والثاني : ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد . فعلى الأول { إِذا يتلى عليهم } القرآن . وعلى قول ابن زيد { إِذا يتلى عليهم } ما أُنزل إِليهم من عند الله .
قوله تعالى : { يَخِرُّون للأذقان } اللام هاهنا بمعنى «على» . قال ابن عباس : قوله «للأذقان» أي : للوجوه . قال الزجاج : الذي يَخِرُّ وهو قائم ، إِنما يَخِرُّ لوجهه ، والذَّقْن : مُجْتَمع الَّلحيَين ، وهو عضو من أعضاء الوجه ، فإذا ابتدأ يَخِرُّ ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن . وقال ابن الأنباري : أول ما يلقى الأرضَ من الذي يَخِرُّ قبل أن يصوِّب جبتهه ذقنُه ، فلذلك قال : «للأذقان» . ويجوز أن يكون المعنى : يَخِرُّون للوجوه ، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يُكتفى بالبعض من الكُلِّ ، وبالنوع من الجنس .
قوله تعالى : { ويقولون سبحان ربِّنا } نزَّهوا الله تعالى عن تكذيب المكذِّبين بالقرآن ، وقالوا : { إِن كان وعد ربنا } بإنزال القرآن وبعثِ محمد صلى الله عليه وسلم { لمفعولاً } واللام دخلت للتوكيد . وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعثٌ نبيّاً من العرب ، ومُنزِلٌ عليه كتاباً ، فلما عاينوا ذلك ، حمدوا الله تعالى على إِنجاز الوعد ، { ويَخِرُّون للأذقان } كرَّر القول ليدل على تكرار الفعل منهم . { ويزيدهم خشوعاً } أي : يزيدهم القرآن تواضعاً . وكان عبد الأعلى التيمي يقول : من أوتي من العلم ما لا يُبكيه ، لَخليق أن لا يكون أوتيَ علماً ينفعه ، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال : { إِن الذين أوتوا العلم . . . } إِلى قوله : «يبكون» .

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

قوله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن . . . } الآية . هذه الآية نزلت على سببين . [ نزل ] أولها إِلى قوله : { الحسنى } على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجَّد ذات ليلة بمكة ، فجعل يقول في سجوده : «يا رحمن ، يا رحيم» : فقال المشركون : كان محمدٌ يدعو إِلهاً واحداً ، فهو الآن يدعو إِلهين اثنين : الله ، والرحمن ، ما نعرف الرحمن إِلا رحمن اليمامة ، يعنون : مسيلمة ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول ما أوحي إِليه : باسمك اللهم ، حتى نزل : { إِنه من سليمان وإِنه بسم الله الرحمن الرحيم } [ النمل : 30 ] ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال مشركو العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ميمون بن مهران .
والثالث : أن أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنك لَتُقِلُّ ذِكْر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك .
فأما قوله : { ولا تجهر بصلاتك } فنزل على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقرآن بمكة ، فيسُبُّ المشركون القرآن و مَنْ أتى به ، فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بعد ذلك حتى لم يسمع أصحابه ، فأنزل الله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } أي : بقراءتك ، فيسمع المشركون فيسبُّوا القرآن ، { ولا تخافت بها } عن أصحابك ، فلا يسمعون ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن الأعرابيّ كان يجهر في التشهُّد ويرفع صوته ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عائشة .
والثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي بمكة عند الصفا ، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة ، فقال أبو جهل : لا تفترِ على الله ، فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته ، فقال أبو جهل للمشركين : ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة؟! رددته عن قراءته ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
فأما التفسير ، فقوله : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } المعنى : إِن شئتم فقولوا : يا ألله ، وإِن شئتم فقولوا : يا رحمن ، فانهما يرجعان إِلى واحد ، { أيّاً ما تدعوا } المعنى : أيَّ أسماء الله تدعوا؛ قال الفراء : و«ما» قد تكون صلة ، كقوله : { عما قليلٍ ليُصْبِحُنَّ نادمين } [ المؤمنون : 40 ] ، وتكون في معنى : «أيّ» معادَة لمَّا اختلف لفظهما .
قوله تعالى : { ولا تجهر بِصَلاتك } فيه قولان .
أحدهما : أنها الصلاة الشرعية . ثم في المراد بالكلام ستة أقوال .
أحدها : لاتجهر بقراءتك ، ولا تخافت بها ، فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة ، وشدة المخافتة ، قاله ابن عباس . فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان ذكرهما ابن الأنباري . أحدهما : أن يكون المعنى : فلا تجهر بقراءة صلاتك .

والثاني : أن القراءة بعض الصلاة ، فنابت عنها ، كما قيل لعيسى : كلمة الله ، لأنه بالكلمة كان .
والثاني : لا تصلّ مراءاة للناس ، ولا تَدَعْها مخافة الناس ، قاله ابن عباس أيضاً .
والثالث : لا تجهر بالتشهُّد في صلاتك ، روي عن عائشة في رواية ، وبه قال ابن سيرين .
والرابع : لا تجهر بفعل صلاتك ظاهراً ، ولا تخافت بها شديد الاستتار ، قاله عكرمة .
والخامس : لا تُحسِنْ علانيتها ، وتُسِيءْ سريرتها ، قاله الحسن .
والسادس : لا تجهر بصلاتك كلِّها ، ولا تُخافت بجميعِها . فاجهر في صلاة الليل ، وخافِت في صلاة النهار ، على ما أمرناك به ، ذكره القاضي أبو يعلى . والقول الثاني : أن المراد بالصلاة : الدعاء ، وهو قول عائشة ، وأبي هريرة ، ومجاهد .
قوله تعالى : { ولا تخافت بها } المخافتة : الإِخفاء ، يقال : صوت خفيت . { وابتغ بين ذلك سبيلاً } أي : اسلك بين الجهر والمخافتة طريقاً . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نُسخت هذه الآية بقوله : { واذكر ربَّك في نفسك تضرعاً وخِيفة ، ودون الجهر من القول } [ الأعراف : 205 ] ، وقال ابن السائب : نُسخت بقوله : { فاصدع بما تؤمر } [ الحجر : 94 ] ؛ وعلى التحقيق ، وجود النسخ هاهنا بعيد .
قوله تعالى : { ولم يكن له شريك في المُلك } وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وطلحة بن مصرِّف : «في المِلك» بكسر الميم ، { ولم يكن له وليٌّ من الذُّلِّ } قال مجاهد : لم يحالف أحداً ، ولم يبتغ نصر أحد؛ والمعنى : أنه لا يحتاج إِلى موالاة أحد لِذُلٍّ يلحقه ، فهو مستغن عن الولي والنصير . { وكَبِّره تكبيراً } أي : عظِّمه تعظيماً تامّاً .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)

قوله تعالى : { الحمد لله } قد شرحناه في أول «الفاتحة» . والمراد بعبده هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم ، وبالكتاب : القرآن ، تمدَّح بانزاله ، لأنه إِنعام على الرسول خاصة ، وعلى الناس عامَّة . قال العلماء باللغة والتفسير : في هذه الآية تقديم وتأخير ، تقديرها : أنزل على عبده الكتاب { قيّماً } أي : مستقيماً عدلاً . وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن يعمر ، والنخعي ، والأعمش : «قِيَماً» بكسر القاف ، وفتح الياء ، وقد فسرناه في [ الأنعام : 161 ] .
قوله تعالى : { ولم يجعل له عوجا } أي : لم يجعل فيه اختلافا ، وقد سبق بيان العِوَج في [ آل عمران : 99 ] .
قوله تعالى : { لينذر بأساً شديداً } أي : عذاباً شديداً ، { من لدنه } أي : من عنده ، ومن قِبَلِه ، والمعنى : لينذر الكافرين { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم } أي : بأن لهم { أجراً حسناً } وهو الجنة . { ماكثين } أي : مقيمين ، وهو منصوب على الحال . { وينذر } بعذاب الله { الذين قالوا اتخذ الله ولداً } وهم اليهود حين قالوا : عزيرٌ ابن الله ، والنصارى حين قالوا : المسيح ابن الله ، والمشركون حين قالوا : الملائكة بنات الله ، { ما لهم به } أي : بذلك القول { من عِلْم } لأنهم قالوا : أفْتَرَى على الله ، { ولا لآبائهم } الذين قالوا ذلك ، { كَبُرَتْ } أي : عَظُمَتْ { كلمةً } الجمهور على النصب . وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وأبو رزين ، وأبو رجاء ، ويحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة : «كلمةٌ» بالرفع . قال الفراء : من نصب ، أضمر : كُبْرتْ تلك الكلمةُ كلمةً ، ومن رفع ، لم يضمر شيئاً ، كما تقول : عَظُم قولك . وقال الزجاج : من نصب ، فالمعنى : كبرت مقالتهم : اتخذ الله ولداً كلمة ، و«كلمةً» منصوب على التمييز . ومن رفع ، فالمعنى : عظمت كلمة هي قولهم : اتخذ الله ولداً .
قوله تعالى : { تخرج من أفواههم } أي : إِنها قول بالفم لا صحة لها ، ولا دليل عليها ، { إِن يقولون } أي : ما يقولون { إِلا كذبا } . ثم عاتبه على حُزْنِهِ لفوت ما كان يرجو من إِسلامهم ، فقال : { فلعلك باخع نفسك } وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وقتادة : «باخعُ نفسِك» بكسر السين ، على الإِضافة . قال المفسرون واللغويون : فلعلك مهلك نفسك ، وقاتل نفسك ، وأنشد أبو عبيدة لذي الرمَّة :
ألا أيُّهَذَا الباخِعُ الوجْد نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المقَادِرُ
أي : نحَّتْه . فإن قيل : كيف قال : { فلعلك } والغالب عليها الشك ، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟
فالجواب : أنها ليست بشكّ ، إِنما هي مقدَّرة تقدير الاستفهام الذي يعنى به التقرير ، فالمعنى : هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إِعراضهم ، فإن من حَكَمْنَا عليه بالشِّقْوَةِ لا تجدي عليه الحسرة ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { على آثارهم } أي : من بعد تولِّيهم عنك { إِن لم يؤمنوا بهذا الحديث } يعني : القرآن { أسفا } وفيه أربعة أقوال .
أحدها : حَزَناً ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة .
والثاني : جَزَعاً ، قاله مجاهد .
والثالث : غَضَباً ، قاله قتادة .
والرابع : نَدَماً ، قاله السدي . وقال أبو عبيدة : نَدَماً وتَلهُّفاً وأَسىً . قال الزجاج : الأسف : المبالغة في الحزن ، أو الغضب ، يقال : قد أسف الرجل ، فهو أَسيف ، قال الشاعر :
أَرَى رَجُلاً مِنْهُمْ أَسِيفاً كَأَنَّما ... يَضُمُّ إِلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبا
وهذه الآية يشير بها إِلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدّي ذلك إِلى هلاك نفسه بالأسف .

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

قوله تعالى : { إِنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنهم الرجال . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : العلماء ، رواه مجاهد عن ابن عباس فعلى هذين القولين تكون «ما» في موضع «مَنْ» لأنها في موضع إِبهام ، قاله ابن الانباري .
والثالث : أنَّه ما عليها من شيء ، قاله مجاهد . والرابع : النبات والشجر ، قاله مقاتل . وقول مجاهد أعمُّ ، يدخل فيه النبات ، والماء ، والمعادن ، وغير ذلك .
فإن قيل : قد نرى بعض ما على الأرض سَمِجاً وليس بزينة .
فالجواب : أنا إِن قلنا : إِن المراد [ به ] شيء مخصوص ، فالمعنى : إِنا جعلنا بعض ما على الأرض زينةً لها ، فخرج مخرج العموم ، ومعناه الخصوص . وإِن قلنا : هم الرجال أو العلماء ، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم . وإِن قلنا : النبات والشجر ، فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية . وإِن قلنا : إِنه عامّ في كل ما عليها ، فلكونه دالاًّ على خالقه ، فكأنَّه زينة الأرض من هذه الجهة .
قوله تعالى : { لنبلوهم } أي : لنختبر الخلق ، والمعنى : لنعاملهم معاملة المبتلى . قال ابن الأنباري : من قال : إِن «ما على الأرض» يعني به النبات ، قال : الهاء والميم ترجع إِلى سكان الأرض المشاهِدين للزينة ، ومن قال : «ما على الأرض» الرجال ، ردَّ الهاء والميم على «ما» لأنها بتأويل الجميع ، ومعنى الآية : لنبلوهم فنرى أيُّهم أحسن عملاً ، هذا ، أم هذا . قال الحسن : أيُّهم أزهد في الدنيا . وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة [ هود : 7 ] . ثم أعلم الخلقَ أنه يفني جميع ذلك ، فقال تعالى : { وإِنا لجاعلون ما عليها صعيداً } قال الزجاج : الصعيد : الطريق الذي لا نبات فيه . وقال ابن الأنباري : قال اللغويون : الصعيد : التراب ، ووجه الأرض . فأما الجُرُز ، فقال الفراء : أهل الحجاز يقولون : أرض جُرُزٌ ، وجَرْزٌ . وأسد تقول : جَرَز ، وجُرُز ، وتميم تقول : أرض جُرْز ، وجَرْز ، بالتخفيف ، وقال أبو عبيدة : الصعيد الجُرُز : الغليظ الذي لا يُنْبِتُ شيئاً . ويقال للسَّنَةِ المُجْدِبة : جُرُز ، وسِنُون أجراز ، لجدوبتها ، وقلَّة مطرها ، وأنشد :
قَدْ جَرّفَتْهُنَّ السِّنُون الأجْرَازْ ... وقال الزجاج : الجرز : الأرض التي لا ينبت فيها شيء ، كأنها تأكل النبت أكلاً . وقال ابن الأنباري : قال اللغويون : الجرز : [ الأرض ] التي لا يبقى بها نبات ، تحرق كل نبات يكون بها . وقال المفسرون : وهذا يكون يوم القيامة ، يجعل الله الأرض مستويةً لا نبات فيها ولا ماء .

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)

قوله تعالى : { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرَّقيم } نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } [ الإسراء : 85 ] . وقال ابن قتيبة : ومعنى «أم حسبت» : أحسبت . فأما «الكهف» فقال المفسرون : هو المغارة في الجبل ، إِلا أنه واسع ، فاذا صغر ، فهو غار . قال ابن الأنباري : قال اللغويون : الكهف بمنزلة الغار في الجبل .
فأما الرقيم ، ففيه ستة أقوال .
أحدها : أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطّلَع عليهم يوماً من الدهر ما قصتهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبِّه ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية . وقال السدي : الرقيم : صخرة كُتب فيها أسماء الفتية ، وجُعلت في سُور المدينة . وقال مقاتل : الرقيم : كتاب كتبه رجلان صالحان ، وكانا يكتمان إِيمانَهما من الملك الذي فرَّ منه الفتية ، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص ، ثم جعلاه في تابوت من نحاس ، ثم جعلاه في البناء الذي سَدُّوا به باب الكهف ، فقالا : لعل الله أن يُطْلِعَ على هؤلاء الفتية أحداً ، فيعلمون أمرهم إِذا قرؤوا الكتاب . وقال الفراء : كُتب في اللوح أسماؤهم ، وأنسابهم ، ودينهم ، وممن كانوا . قال أبو عبيدة : وابن قتيبة : الرقيم : الكتاب ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، ومنه : كتاب مرقوم ، أي : مكتوب .
والثاني : أنه اسم القرية التي خرجوا منها ، قاله كعب .
والثالث : اسم الجبل ، قاله الحسن ، وعطية .
والرابع : أن الرقيم : الدواة ، بلسان الروم ، قاله عكرمة ومجاهد في رواية . والخامس : اسم الكلب ، قاله سعيد بن جبير .
والسادس : اسم الوادي الذي فيه الكهف ، قاله قتادة ، والضحاك .
قوله تعالى : { كانوا من آياتنا عجباً } قال المفسرون : معنى الكلام : أحسبتَ أنهم كانوا أعجبَ آياتنا؟! قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم ، فإن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم . وقال ابن عباس الذي آتيتك من الكتاب والسنَّة والعلم ، أفضل من شأنهم .
قوله تعالى : { إِذ أوى الفتية } قال الزجاج : معنى : أوَوْا إِليه ، صاروا إِليه ، وجعلوه مأواهم . والفتية : جمع فتى ، مثل غُلام وغِلمة ، وصبي وصبية . و«فِعلة» من أسماء الجمع ، وليس ببناء يقاس عليه؛ لا يجوز غُراب وَغِرْبة ، ولا غنيٌّ وغِنية . وقال بعض المفسرين : الفتية : بمعنى الشبان . وقد ذكرنا عن القتيبي أن الفتى : بمعنى الكامل من الرجال ، وبيَّنَّاه في قوله تعالى : { من فتياتكم المؤمنات } [ النساء : 25 ] .
قوله تعالى : { فقالوا ربنا آتنا من لدنك } أي : من عندك { رحمة } أي : رزقاً { وهيِّىءْ لنا } أي : أصلح لنا { من أمرنا رشداً } أي : أرشدنا إِلى ما يقرِّبنا منك . والمعنى : هيِّىءْ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد . والرُّشد والرَّشد ، والرشاد : نقيض الضلال .
تلخيص قصة أصحاب الكهف
اختلف العلماء في بُدُوِّ أمرهم ، وسبب مصيرهم إِلى الكهف ، على ثلاثة أقوال .

أحدها : أنهم هربوا ليلاً من ملكهم حين دعاهم إِلى عبادة الأصنام ، فمروا براعٍ له كلب ، فتبعهم على دينهم ، فأوَوا إِلى الكهف يتعبَّدون ، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة ، إِلى أن جاءهم يوماً فأخبرهم أنهم قد ذُكِروا ، فبَكوا وتعَّوذوا بالله من الفتنة ، فضرب الله تعالى على آذانهم ، وأمر الملك فسدَّ عليهم الكهف ، وهو يظنهم أيقاظاً ، وقد توفَّى الله أرواحهم وفاة النَّوم ، وكلبُهم قد غشيه ما غشيهم . ثم إِن رجلين مؤمنَيْن يكتمان إِيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص ، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان ، وقالا : لعل الله يُطْلع عليهم قوماً مؤمنين ، فيعلمون خبرهم ، هذا قول ابن عباس . وقال عبيد بن عمير : فَقَدهم قومهم فطلبوهم ، فعمَّى الله عليهم أمرهم ، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان وفلان أبناء ملوكنا فَقَدْنَاهم في شهر كذا ، في سنة كذا ، في مملكة فلان ، ووضعوا اللوح في خزانة الملك ، وقالوا : لَيَكُونَنَّ لهذا شأن . والثاني : أن أحد الحواريِّين جاء إِلى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إِن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إِلا سجد له ، فكره أن يدخلها ، فأتى حمَّاماً قريباً من المدينة ، فكان يعمل فيه بالأجْر ، وعلقه فتية من أهل المدينة ، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض ، وخبر الآخرة ، فآمنوا به وصدَّقوه ، حتى جاء ابن الملك يوماً بامرأة ، فدخل معها الحمَّام ، فأنكر عليه الحواريُّ ذلك ، فسبَّه ودخل ، فمات وماتت المرأة في الحمام ، فأتى الملك ، فقيل له : إِن صاحب الحمام قتل ابنك ، فالْتُمِس فهرب ، فقال : من كان يصحبه؟ فسُمي له الفتيةُ ، فالْتُمِسوا فخرجوا من المدينة ، فمروا على صاحب لهم في زرع ، وهو على مثل أمرهم ، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إِلى الكهف ، فدخلوه فقالوا : نبيت هاهنا ، ثم نصبح إِن شاء الله فتَرَون رأيكم ، فضرب الله على آذانهم فناموا؛ وخرج الملك ، وأصحابه يتبعونهم ، فوجدوهم قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد رجل أن يدخل [ الكهف ] أُرعب ، فقال قائل للملك : أليس قلتَ : إِن قدرتُ عليهم قتلتُهم؟ قال : بلى ، قال : فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعاً وعطشاً ، ففعل ، هذا قول وهب بن منبِّه .
والثالث : أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم ، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال رجل منهم ، هو أسنهم : إِني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده ، فقالوا : ما تجد؟ قال : أجد في نفسي أن ربي ربُّ السموات والأرض ، فقاموا جميعاً فقالوا : ربُّنا ربُّ السموات والأرض ، فأجمعوا أن يدخلوا الكهف ، فدخلوا ، فلبثوا ما شاء الله ، هذا قول مجاهد . وقال قتادة : كانوا أبناء ملوك الروم ، فتفرَّدوا بدينهم في الكهف ، فضرب الله على آذانهم .
فصل
فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم ، فقال عكرمة : جاءت أمّةٌ مسلمةٌ ، وكان ملكهم مسلماً ، فاختلفوا في الروح والجسد ، فقال قائل : يُبعث الروح والجسد .

وقال قائل : يبعث الروح وحده ، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئاً ، فشق اختلافهم على الملك ، فانطلق فلبس المسوح ، وقعد على الرماد ، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم ، فبعث الله أصحاب الكهف . وقال وهب بن منبه : جاء راعٍ قد أدركه المطر إِلى الكهف ، فقال : لو فتحت هذا الكهف ، وأدخلته غنمي من المطر ، فلم يزل يعالجه حتى فتحه ، ورد الله إِليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد . وقال ابن السائب : احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه ، فهدم ذلك السدَّ ، فبنى به ، فانفتح باب الكهف . وقال ابن إِسحاق : ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه ، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة ، فنزعاها ، وفتحا باب الكهف ، فجلسوا فرحين ، فسلَّم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئاً يكرهونه ، إِنما هم على هيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن ملكهم في طلبهم ، فصلّوا ، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم : انطلق فاستمع ، ما نُذكَر به ، وابتغ لنا طعاماً ، فوضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها ، وخرج فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف ، فعجب ، ثم مَرَّ مستخفياً متخوِّفاً أن يراه أحد فيذهب به إِلى الملك ، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإِيمان ، فعجب ، وخُيِّل إِليه أنها ليست بالمدينة التي يعرف ، ورأى ناساً لا يعرفهم ، فجعل يتعجب ويقول : لعلِّي نائم؛ فلما دخلها رأى قوماً يحلفون باسم عيسى ، فقام مسنداً ظهره إِلى جدار ، وقال في نفسه : والله ما أدري ما هذا ، عشية أمس لم يكن على [ وجه ] الأرض من يذكر عيسى إِلا قُتل ، واليوم أسمعهم يذكرونه ، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف ، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا ، فقام كالحيران ، وأخرج وَرِقاً فأعطاه رجلاً وقال : بعني طعاماً ، فنظر الرجل إِلى نقشه فعجب ، ثم ألقاه إِلى آخر ، فجعلوا يتطارحونه بينهم ، ويتعجبون ، ويتشاورون ، وقالوا : إِن هذا قد أصاب كنزاً ، فَفَرق منهم ، وظنَّهم قد عرفوه ، فقال : أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إِليه ، فقالوا له : من أنت يا فتى؟ والله لقد وجدتَ كنزاً وأنت تريد أن تخفيه ، شاركنا فيه وإِلا أتينا بك إِلى السلطان فيقتلك ، فلم يدر ما يقول ، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول : فُرِّقَ بيني وبين إِخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيتُ ، فأتَوا به إِلى رجلين كانا يدبِّران أمر المدينة ، فقالا : أين الكنز الذي وجدتَ؟ قال : ما وجدتُ كنزاً ، ولكن هذه وَرِق آبائي ، ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ، ولا ما أقول لكم ، قال مجاهد : وكان وَرِق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإِبل ، فقالوا : من أنت ، وما اسم أبيك؟ فأخبرهم ، فلم يجدوا من يعرفه ، فقال له أحدهما : أتظن أنك تسخر مِنّا وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟! إني سآمر بك فتعذَّب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز ، فقال يمليخا : أنبؤني عن شيء أسالكم عنه ، فإن فعلتم صَدَقتكم ، قالوا : سل ، قال : ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا : لا نعرف اليوم على وجه الأرض مَلِكاً يسمى دقيانوس ، وإِنما هذا ملك كان منذ زمان طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال : والله ما يصدِّقني أحد بما أقوله ، لقد كُنّا فتيةً ، وأكرهنا الملكُ على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فهربنا منه عشية أمسِ فنمنا ، فلما انتبهنا خرجتُ أشتري لأصحابي طعاماً ، فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إِلى الكهف أُريكم أصحابي ، فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة ، وكان أصحابه قد ظنوا لإِبطائه عليهم أنه قد أُخذ ، فبينما هم يتخوّفون ذلك ، إِذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل ، فظنوا أنهم رُسُل دقيانوس ، فقاموا إِلى الصلاة ، وسلَّم بعضهم على بعض ، فسبق يمليخا إِليهم وهو يبكي ، فبكَوا معه ، وسألوه عن شأنه ، فأخبرهم خبره ، وقصّ عليهم النبأَ كلَّه ، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقاً للبعث؛ ونظر الناس في المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم ، فعجبوا ، وأرسلوا إِلى ملكهم ، فجاء ، واعتنق القومَ ، وبكى ، فقالوا له : نستودعك الله ونقرأ عليك السلام ، حفظك الله ، وحفظ ملكك ، فبينا الملك قائم ، رجعوا إِلى مضاجعهم ، وتوفَّى الله عزَّ وجلَّ أنفسهم ، فأمر الملك أن يُجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب ، فلما أَمْسَواْ رآهم في المنام ، فقالوا : إِنا لم نُخلَق من ذهب وفضة ، ولكن خُلقنا من تراب ، فاتركنا كما كُنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه ، وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالرُّعْب ، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم ، وأمر المَلِك فجُعِل على باب الكهف مسجدٌ يصلَّى فيه ، وجعل لهم عيداً عظيماً يؤتَى كلَّ سنة .

وقيل : إِنه لما جاء يمليخا ومعه الناس ، قال : دعوني أدخل إِلى أصحابي فأبشِّرهم ، فانهم إِن رأَوْكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشّرهم ، وقبض الله روحه وأرواحهم ، فدخل الناس ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً ، غير أنها لا أرواح فيها ، فقال الملك : هذه آيةٌ بعثها الله لكم .
قوله تعالى : { فضربنا على آذانهم } قال الزجاج : المعنى : أنمناهم ومنعناهم السمع ، لأن النائم إِذا سمع انتبه . و { عدداً } منصوب على ضربين .
أحدهما : على المصدر ، المعنى : تُعَدُّ عدداً .
والثاني : أن يكون نعتاً للسنين ، المعنى : سنين ذات عدد ، والفائدة في ذِكْر العدد في الشيء المعدود ، توكيد كثرة الشيء ، لأنه إِذا قَلَّ فُهِم مقداره ، وإِذا كَثُر احتيج إِلى أن يُعَدَّ العدد الكثير . { ثم بعثناهم } من نومهم ، يقال لكُلِّ مَنْ خرج من الموت إِلى الحياة ، أو من النوم إِلى الانتباه : مبعوث ، لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرِّف والانبعاث .

وقيل : معنى { سنين عدداً } : أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام ، إِنما هي كاملة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { لنعلم أيُّ الحزبين } قال المفسرون : أي : لنرى . وقال بعضهم : المعنى : لتعلموا أنتم . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران ، والنخعي : «ليُعلَم» بضم الياء ، على ما لم يُسمَّ فاعله «أيُّ الحزبين» ، ويعني بالحزبين : المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف . { أحصى لما لبثوا } أي : لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء ، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم ، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر . قال قتادة : لم يكن للفريقين عِلم بلبثهم ، لا لمؤمنيهم ، ولا لكافريهم . قال مقاتل : لما بُعثوا زال الشك وعُرفت حقيقة اللبث . وقال القاضي أبو يعلى : معنى الكلام : بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم ، لما في ذلك من العبرة .

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)

قوله تعالى : { نحن نَقُصُّ عليك نبأهم } أي : خبر الفتية { بالحق } أي : بالصدق .
قوله تعالى : { وزدناهم هدى } أي : ثبَّتناهم على الإِيمان ، { وربطنا على قلوبهم } أي : ألهمناها الصبر { إِذ قاموا } بين يدي ملكهم دقيانوس { فقالوا ربُّنا ربُّ السموات والأرض } وذلك أنه كان يدعو الناس إِلى عبادة الأصنام ، فعصم الله هؤلاء حتى عصَواْ ملِكهم . وقال الحسن : قاموا في قومهم فدعَوْهم إِلى التوحيد . وقيل : هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة . فأما الشطط ، فهو الجَوْر . قال الزجاج : يقال : شَطَّ الرجل ، وأَشَطَّ : إِذا جار . ثم قال الفتية : { هؤلاء قومُنا } يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس { اتخذوا من دونه آلهة } أي : عبدوا الأصنام { لولا } أي : هلاّ { يأتون عليهم } أي : على عبادة الأصنام { بسُلطان بَيِّن } أي : بِحُجَّةٍ . وإِنما قال : «عليهم» والأصنام مؤنَّثة ، لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز ، فجرت مجرى المذكَّرين من الناس .
قوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } فزعم أن له شريكاً؟!

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)

قوله تعالى : { وإِذ اعزلتموهم } قال ابن عباس : هذا [ قول ] يمليخا ، وهو رئيس أصحاب الكهف ، قال لهم : وإِذ اعتزلتموهم ، أي : فارقتموهم ، يريد : عبدة الأصنام ، { وما يعبدون إِلا الله } فيه قولان .
أحدهما : واعتزلتم ما يعبدون ، إِلا الله ، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة ، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة ، ولم يعتزلوا عبادة الله ، هذا قول عطاءٍ الخراساني ، والفراء .
والثاني : وما يعبدون غير الله؛ قال قتادة : هي في مصحف عبد الله : «وما يعبدون من دون الله» ، وهذا تفسيرها .
قوله تعالى : { فأووا إِلى الكهف } أي : اجعلوه مأواكم ، { ينشرْ لكم ربكم من رحمته } أي : يبسطْ عليكم من رزقه ، { ويهيِّءْ لكم من أمركم مرفقا } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «مِرفَقا» بكسر الميم ، وفتح الفاء . وقرأ نافع ، وابن عامر : «مَرفِقا» بفتح الميم ، وكسرالفاء . قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : «مَرفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء ، في كل مرفق ارتفقت به ، ويكسرون مِرفق الإِنسان ، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً . قال ابن الأنباري : معنى الآية : ويهيِّىء لكم بَدَلاً من أمركم الصَّعب مرفقاً ، قال الشاعر :
فليتَ لنا من ماءِ زمزمَ شَربَةً ... مُبرّدةً باتت على طَهَيانِ
معناه : فلَيت لنا بدلاً من ماء زمزم . قال ابن عباس : «ويهيِّىء لكم» : يسهِّلْ عليكم ما تخافون من الملِك وظلمه ويأتِكم باليُسر والرِّفق واللُّطف .
قوله تعالى : { وترى الشمس إِذا طلعت } المعنى : لو رأيتَها لرأيتَ ما وصفنا . { تزاور } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «تَزَّاوَرُ» بتشديد الزاي . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «تَزَاور» خفيفة . وقرأ ابن عامر : «تَزْوَرُّ» مثل : «تَحْمَرُّ» . وقرأ أُبيّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، والجحدري : «تَزْوَارُّ» باسكان الزاي ، وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة ، مشددة الراء . وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكل ، وابن السميفع : «تَزْوَئِرُّ» بهمزة قبل الراء ، مثل : «تَزْوَعِرُّ» . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو السماك : «تَزَوَّرُ» بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء ، مثل : «تَكَوَّرُ» ، أي : تميل وتعدل . قال الزجاج : أصل «تزاور» : تتزاور ، فأدغمت التاء في الزاي ، و { تقرضهم } أي : تعدل عنهم وتتركهم ، وقال : ذو الرمة :
إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أجْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمالاً وعَنْ أيْمانِهِنَّ الفَوَارِسُ
يقرضن : يتركن . وأصل القرض : القطع والتفرقة بين الأشياء ، ومنه قولك : أقرِضني درهماً ، أي : اقطع لي من مالك درهماً . قال المفسرون : كان كهفهم بازاء بنات نعش في أرض الروم ، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربةً لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرِّها وتغير ألوانهم . ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ، ونسيم الهواء ، فقال : { وهم في فجوة منه } قال أبو عبيدة : أي : [ في ] مُتَّسَع ، والجمع : فَجَوات ، وفِجاء بكسر الفاء . وقال الزجاج : إِنما صَرْفُ الشمس عنهم آيةٌ من الآيات ، ولم يرض قول من قال : كان كهفهم بازاء بنات نعش .
قوله تعالى : { ذلك من آيات الله } يشير إِلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم ، وصرف أذى الشمس عنهم ، والرعب الذي ألقى عليهم حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم . «من آيات الله» أي : من دلائله على قدرته ولطفه . { من يهد اللهُ فهو المهتد } هذا بيان أنه هو الذي تولَّى هداية القوم ، ولولا ذلك لم يهتدوا .

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

قوله تعالى : { وتحسَبُهم أيقاظاً } أي : لو رأيتَهم لحسِبتَهم أيقاظاً . قال الزجاج : الأيقاظ : المنتبهون ، واحدهم : يَقِظ ، ويَقْظان ، والجميع : أيقاظ؛ والرقود : النيام . قال الفراء : واحد الأيقاظ : يَقُظ ، ويَقِظ . قال ابن السائب : وإِنما يُحسَبون أيقاظاً ، لأن أعينهم مفتَّحة وهم نيام . وقيل : لتقلُّبهم يميناً وشمالاً . وذكر بعض أهل العلم : أن وجه الحكمة في فتح أعينهم ، أنه لو دام طَبْقها لذابت .
قوله تعالى : { ونُقَلِّبهم } وقرأ أبو رجاء : «وتَقْلِبُهم» بتاء مفتوحة ، وسكون القاف ، وتخفيف اللام المكسورة . وقرأ أبو الجوزاء ، وعكرمة : «ونَقْلِبُهم» مثلها ، إِلا أنه بالنون . { ذاتَ اليمين } أي : على أيْمانهم وعلى شمائلهم . قال ابن عباس : كانوا يُقلَّبون في كل عام مرتين ، ستة أشهر على هذا الجنب ، وستة أشهر على هذا الجنب ، لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقال مجاهد : كانوا ثلاثمائة عام على شِقّ واحد ، ثم قُلِّبوا تسع سنين . قوله تعالى : { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم ، وهو في رأي العين منتبه . وفي الوصيد أربعة أقوال .
أحدها : أنه الفِناء فِناء الكهف ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والفراء . قال الفراء : يقال : الوَصِيد والأَصِيد لغتان ، مثل الإكفاف والوكاف . وأرَّخت الكتاب وورَّخت ، ووكدت الأمر وأكَّدت؛ وأهل الحجاز يقولون : الوَصيد ، وأهل نجد يقولون : الأَصِيد ، وهو : الحظيرة والفِناء .
والثاني : أنه الباب ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال السدي . وقال ابن قتيبة : فيكون المعنى : وكلبهم باسط ذراعيه بالباب ، قال الشاعر :
بِأرْضِ فَضَاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيدُها ... عليَّ ومَعْرُوفي بها غيرُ مُنْكَرِ
والثالث : أنه الصعيد ، وهو التراب ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد في رواية عنهما .
والرابع : أنه عتبة الباب ، قاله عطاء . قال ابن قتيبة : وهذا أعجب إليَّ ، لأنهم يقولون : أَوصِد بابك ، أي : أَغلِقه ، ومنه قوله : { إِنها عليهم مؤصَدة } [ الهُمَزة : 8 ] ، أي : مُطْبَقة مُغْلَقة ، وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إِذا أغلقته ، ومما يوضح هذا أنك إِذا جعلت الكلب بالفِناء ، كان خارجاً من الكهف ، وإِن جعلته بعتبة الباب ، أمكن أن يكون داخل الكهف ، والكهفُ وإِن لم يكن له باب وعتبة ، فانما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت ، فاستُعير .
قوله تعالى : { لو اطَّلعتَ عليهم } [ وقرأ الأعمش ، وأبو حصين : «لوُ اطلعت» بضم الواو ] { لوليَّتَ منهم فراراً } رهبة لهم { ولملئت } قرأ عاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «ولَمُلِئْتَ» خفيفة مهموزة . وقرأ ابن كثير ، ونافع : «ولَمُلِّئْتَ» مشددة مهموزة ، { رُعْباً } [ أي ] : فزعاً وخوفاً ، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل إِليهم أحد . وقيل : إِنهم طالت شعورهم وأظفارهم جداً ، فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوباً ، حكاه الزجاج .

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

قوله تعالى : { وكذلك بعثناهم } أي : وكما فعلنا بهم ما ذكرنا ، بعثناهم من تلك النومة { ليتساءلوا } أي : ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم ، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبِرين بحالهم . { قال قائل منهم كم لبثتم } أي : كم مَرَّ علينا منذ دخلنا هذا الكهف؟ { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } وذلك أنهم دخلوا غُدوةً ، وبعثهم الله في آخر النهار ، فلذلك قالوا : { يوماً } ، فلما رأوا الشمس قالوا : «أو بعض يوم» { قالوا ربُّكم أعلم بما لبثتم } قال ابن عباس : القائل لهذا يمليخا رئيسهم ، ردَّ عِلْم ذلك إِلى الله تعالى . وقال في رواية أخرى : إِنما قاله مكسلمينا ، وهو أكبرهم . قال أبو سليمان : وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدَّثتْهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا . وقيل : إِنما قالوا ذلك ، لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جداً .
قوله تعالى : { فابعثوا أحدكم } قال ابن الأنباري : إِنما قال : «أحدَكم» ، ولم يقل : واحدَكم ، لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظَّم ، فان العرب تقول : رأيت أحد القوم ، ولا يقولون : رأيت واحد القوم ، إِلا إِذا أرادوا المعظَّم ، فأراد بأحدهم : بعضَهم ، ولم يُرِد شريفهم .
قوله تعالى : { بِوَرِقِكُمْ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «بِوَرِقِكُم» الراء مكسورة خفيفة . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء . وعن أبي عمرو : «بورقكم» مدغمة يُشِمُّها شيئاً من التثقيل؛ قال الزجاج : تصير كافاً خالصة . قال الفراء : الوَرِق لغة أهل الحجاز ، وتميم يقولون : الوَرْق ، وبعض العرب يكسرون الواو ، فيقولون : الوِرْق . قال ابن قتيبة . الوَرِق : الفضة ، دراهم كانت أو غير دراهم ، يدلك على ذلك حديث عَرْفَجَة أنه اتخذ أنفاً من وَرِق .
قوله تعالى : { إِلى المدينة } يعنون التي خرجوا منها ، واسمها دقسوس ، ويقال : هي اليوم طرسوس .
قوله تعالى : { فليَنْظُر أيُّها } قال الزجاج : المعنى : أيُّ أهلها { أزكى طعاماً } وللمفسرين في معناه ستة أقوال .
أحدها : أَحَلُّ ذبيحة؛ قاله ابن عباس ، وعطاء ، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفاراً ، فكانوا يذبحون للطواغيت ، وكان فيهم قوم يُخفون إِيمانهم .
والثاني : أَحَلُّ طعاماً ، قاله سعيد بن جبير؛ قال الضحاك : وكانت أكثر أموالهم غصوباً . وقال مجاهد : قالوا لصاحبهم لا تبتعْ طعاماً فيه ظلم ولا غصب .
والثالث : أكثر ، قاله عكرمة .
والرابع : خير ، أي : أجود ، قاله قتادة .
والخامس : أطيب ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والسادس : أرخص ، قاله يمان بن رياب . قال ابن قتيبة : وأصل الزكاء : النماء والزيادة .
قوله تعالى : { فليأتكم برزق منه } أي : بما تأكلونه . { ولْيتلطف } أي : ليدقِّق النظر فيه ، وليحتلْ لئلا يُطَّلَع عليه . { ولا يُشْعِرَنَّ بِكُم } أي : ولا يُخْبِرَنَّ أحداً بمكانكم . { إِنهم إِن يظهروا } أي : يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم ، { يرجموكم } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : يقتلوكم ، قاله ابن عباس . وقال الزجاج : يقتلوكم بالرجم .
والثاني : يرجموكم بأيديهم ، استنكاراً لكم ، قاله الحسن .
والثالث : بألسنتهم شتماً لكم ، قاله مجاهد ، وابن جريج .
قوله تعالى : { أو يُعيدوكم في مِلَّتهم } أي : يردُّوكم في دينهم ، { ولن تُفلحوا إِذاً أبداً } أي : إِن رجعتم في دينهم ، لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة .

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

قوله تعالى : { وكذلك أعثرنا عليهم } أي : وكما أنمناهم وبعثناهم ، أطلعنا وأظهرنا عليهم . قال ابن قتيبة : وأصل هذا أن من عَثَر بشيء وهو غافل ، نظر إِليه حتى يعرفه ، فاستعير العِثار مكان التبيين والظهور ، ومنه قول الناس : ما عثرت على فلان بسوءٍ قط ، أي : ما ظهرت على ذلك منه .
قوله تعالى : { ليعلموا } في المشار إِليهم بهذا العلم قولان .
أحدهما : أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث ، فبعث الله أهل الكهف ليعلموا { أن وعد الله } بالبعث والجزاء { حَقٌّ } وأن القيامة لا شك فيها ، هذا قول الأكثرين .
والثاني : أنهم أهل الكهف ، بعثناهم ليرَوْا بعد علمهم أن وعد الله حق ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { إِذ يتنازعون } يعني : أهل ذلك الزمان . قال ابن الأنباري : المعنى : إِذ كانوا يتنازعون ، ويجوز أن يكون المعنى : إِذ تنازعوا .
وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنهم تنازعوا في البنيان ، والمسجد . فقال المسلمون : نبني عليهم مسجداً ، لأنهم على ديننا؛ وقال المشركون : نبني عليهم بنياناً ، لأنهم من أهل سُنَّتنا ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم تنازعوا في البعث ، فقال المسلمون : تُبعث الأجساد والأرواح ، وقال بعضهم : تُبعث الأرواح دون الأجساد ، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف ، قاله عكرمة .
والثالث : أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية ، قاله مقاتل .
والرابع : أنهم تنازعوا في قدْر مكثهم .
والخامس : تنازعوا في عددهم ، ذكرهما الثعلبي .
قوله تعالى : { ابنوا عليهم بنياناً } أي : استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان . وفي القائلين لَهذا قولان .
أحدهما : أنهم مشركو ذلك الزمان ، وقد ذكرناه عن ابن عباس .
والثاني : أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { قال الذين غَلَبوا على أمرهم } قال ابن قتيبة : يعني المُطاعين والرؤساء ، قال المفسرون : وهم الملك وأصحابه المؤمنون اتخذوا عليهم مسجداً . قال سعيد بن جبير : بنى عليهم الملك بِيعة .

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

قوله تعالى : { سيقولون ثلاثةُ } قال الزجاج : «ثلاثة» مرفوع بخبر الابتداء ، المعنى : سيقول الذين تنازعوا في أمرهم [ هم ] ثلاثةٌ . وفي هؤلاء القائلين قولان .
أحدهما : أنهم نصارى نجران ، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِدَّة أهل الكهف ، فقالت الملكيَّة : هم ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقالت اليعقوبية : هم خمسة سادسهم كلبهم ، وقالت النسطورية : هم سبعة وثامنهم كلبهم ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { رجماً بالغيب } أي : ظنّاً غير يقين ، قال زهير :
ومَا الحَرْبُ إِلاَّ ما علمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
فأما دخول الواو في قوله : { وثامنهم كلبهم } ولم تدخل فيما قبل هذا ، ففيه أربعة أقوال .
أحدها : أن دخولها وخروجها واحد ، قاله الزجاج .
والثاني : أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين ، فأعلم بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل ، وإِنما حذفت تخفيفاً ، ذكره أبو نصر في شرح «اللمع» .
والثالث : أن دخولها يدل على انقطاع القصة ، وأن الكلام قد تمَّ ، ذكره الزجاج أيضاً ، وهو قول مقاتل بن سليمان ، فإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها ، واستئناف ما بعدها؛ قال الثعلبي : فهذه واو الحكم والتحقيق ، كأن الله تعالى حكى اختلافهم ، فتم الكلام عند قوله : { ويقولون سبعة } ، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم . وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى : هم سبعة ، فحقَّق الله قول المسلمين .
والرابع : أن العرب تعطف بالواو على السبعة ، فيقولون : ستة ، سبعة ، وثمانية ، لأن العقد عندهم سبعة ، كقوله : { التائبون العابدون . . . } إِلى أن قال في الصفة الثامنة : { والناهون عن المنكر } [ التوبة : 112 ] ، وقوله في صفة الجنة : { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] وفي صفة النار : { فتحت أبوابها } [ الزمر : 71 ] ، لأن أبواب النار سبعة ، وأبواب الجنة ثمانية ، ذكر هذا المعنى أبو إِسحاق الثعلبي .
وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين .
أحدهما : أنهم كانوا سبعة ، قاله ابن عباس .
والثاني : ثمانية ، قاله ابن جريج ، وابن إِسحاق . وقال ابن الأنباري : وقيل : معنى قوله : { وثامنهم كلبهم } : صاحب كلبهم ، كما يقال : السخاء حاتم ، والشِّعر زهير ، أي : السخاء سخاء حاتم ، والشِّعر شِعر زهير . وأما أسماؤهم ، فقال هُشَيْم : مكسلمينا ، ويمليخا ، وطَرينوس ، وسَدينوس ، وسَرينوس ، ونَواسس ، ويرانوس ، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أُطل به .
واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان لراع مَرّوا به فتبعهم الراعي والكلب ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه كان لهم يتصيدون عليه ، قاله عبيد بن عمير .
والثالث : أنهم مَرّوا بكلب فتبعهم ، فطردوه ، فعاد ، ففعلوا ذلك به مراراً ، فقال لهم الكلب : ما تريدون مني؟! لا تخشوا جانبي أنا أُحِبُّ أَحِبَّاءَ الله ، فناموا حتى أحرسَكم ، قاله كعب الأحبار .

وفي اسم كلبهم أربعة أقوال .
أحدها : قطمير ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : اسمه الرقيم ، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير .
والثالث : قطمور ، قاله عبد الله بن كثير .
والرابع : حُمران ، قاله شعيب الجبائي . وفي صفته ثلاثة أقوال .
أحدها : أحمر ، حكاه الثوري .
والثاني : أصفر ، حكاه ابن إِسحاق .
والثالث : أحمر الرأس ، أسود الظهر ، أبيض البطن ، أبلق الذنب ، ذكره ابن السائب .
قوله تعالى { ربّي أعلمُ بعدَّتهم } حرك الياء ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .
قوله تعالى : { ما يعلمهم إِلا قليل } أي : ما يعلم عددهم إِلا قليل من الناس . قال عطاء : يعني بالقليل : أهل الكتاب . قال ابن عباس : أنا من ذلك القليل ، هم سبعة ، إِن الله عدَّهم حتى انتهى إِلى السبعة .
قوله تعالى : { فلا تُمارِ فيهم إِلا مراءً ظاهراً } قال ابن عباس ، وقتادة : لا تُمارِ أحداً ، حسبك ما قصصتُ عليكَ من أمرهم . وقال ابن زيد : لا تُمارِ في عِدَّتهم إِلا مراءً ظاهراً أن تقول لهم : ليس كما تقولون ، ليس كما تعلمون . وقيل : «إِلا مراءً ظاهراً» بحجة واضحة ، حكاه الماوردي . والمراء في اللغة : الجدال؛ يقال : مارى يُماري مُماراة ومِراءً ، أي : جادَل . قال ابن الأنباري : معنى الآية : لا تجادل إِلا جدال متيقِّنٍ عالِم بحقيقة الخبر ، إِذ الله تعالى ألقى إِليك مالا يشوبه باطل . وتفسير المراء في اللغة : استخراج غضب المجادل ، من قولهم : مَرَيْتُ الشاة : إِذا استخرجت لبنها .
قوله تعالى : { ولا تستفت فيهم } أي : في أصحاب الكهف ، { منهم } قال ابن عباس : يعني : من أهل الكتاب . قال الفراء : أتاه فريقان من النصارى ، نسطوري ، ويعقوبي ، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عددهم ، فنُهي عن ذلك .
قوله تعالى : { ولا تقولَنَّ لشيء إِني فاعل ذلك غداً إِلا أن يشاء الله } سبب نزولها أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، وعن الرُّوح ، وعن أصحاب الكهف ، فقال : غداً أخبركم بذلك ، ولم يقل : إِن شاء الله ، فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوماً لتركه الاستثناء ، فشقَّ ذلك عليه ، ثم نزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الكلام : ولا تقولن لشيء : إِني فاعل ذلك غداً ، إِلا أن تقول : إِن شاء الله ، فحذف القول .
قوله تعالى : { واذكر ربَّكَ إِذا نسيتَ } قال ابن الأنباري : معناه : واذكر ربَّكَ بعد تقضِّي النسيان ، كما تقول : اذكر لعبد الله إِذا صلّى حاجتك ، أي : بعد انقضاء الصلاة .
وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المعنى : إِذا نسيتَ الاستثناء ثم ذكرتَ ، فقل : إِن شاء الله ، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة ، قاله سعيد بن جبير ، والجمهور .
والثاني : أن معنى «إِذا نسيتَ» : إِذا غضبتَ ، قاله عكرمة ، قال ابن الأنباري : وليس ببعيد ، لأن الغضب يُنتج النسيان .

والثالث : إِذا نسيتَ الشيء فاذكر الله ليذكِّرك إِياه ، حكاه الماوردي .
فصل
وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إِذا لم يفعل ما حلف عليه ، كقوله في قصة موسى : { ستجدني إِن شاء الله صابراً } [ الكهف : 70 ] ، ولم يصبر ، فسَلِم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه . ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق ، وأنه إِذا قال : أنتِ طالق إِن شاء الله ، وأنتَ حُرٌّ إِن شاء الله ، أن ذلك يقع ، وهو قول مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يقع شيء من ذلك . وأما اليمين بالله تعالى؛ فإن الاستثناء فيها يصح ، بخلاف الطلاق ، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفِّر ، كالظهار ، والنذر ، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إِيقاع ، وإِذا علَّق به المشيئة ، علمنا وجودها ، لوجود لفظ الإِيقاع من جهته ، بخلاف سائر الأيمان ، لأنها ليست بموجبات للحكم ، وإِنما تتعلق بأفعال مستقبلة .
وقد اختُلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه لا يصح الاستثناء إِلا موصولاً بالكلام ، وقد روي عن أحمد نحو هذا ، وبه قال أكثر الفقهاء .
والثاني : أنه يصح ما دام في المجلس ، قاله الحسن وطاووس ، وعن أحمد نحوه .
والثالث : أنه لو استثنى بعد سنة ، جاز ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد ابن جبير ، وأبو العالية . وقال ابن جرير الطبري : الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه ، فيقول : إِن شاء الله ، ليخرج بذلك مما ألزمه اللهُ في هذه الآية ، فيسقط عنه الحرج ، فأما الكفَّارة فلا تسقط عنه بحال ، إِلا أن يكون الاستثناء موصولاً بيمينه ، ومن قال : له ثُنْياه ولو بعد سنة ، أراد سقوطَ الحرج الذي يلزمه بترك الاسثتناء دون الكفَّارة .
قوله تعالى : { وقل عسى أن يهديَني ربِّي } قرأ نافع ، وأبو عمرو : «يهديَني ربِّي» بياء في الوصل [ دون ] الوقف . وقرأ ابن كثير بياء في الحالين . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بغير ياء في الحالين .
وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : عسى أن يعطيني ربِّي من الآيات والدلالات على النبوَّه ما يكون أقرب في الرّشد وأدلَّ من قصّة أصحاب الكهف ، ففعل الله له ذلك ، وآتاه من عِلْم غيوب المرسَلين ما هو أوضح في الحُجَّة وأقرب إِلى الرَّشد من خبر أصحاب الكهف ، هذا قول الزجاج .
والثاني : أن قريشاً لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف ، قال : «غداً أُخبركم» كما شرحنا في سبب نزول الآية ، فقال الله تعالى له : { وقل عسى أن يهديني ربي } أي : عسى أن يعرِّفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حدَّدتُه لكم ، ويعجِّل لي من جهته الرشاد ، هذا قول ابن الأنباري .

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ سنين } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «ثلاثمائةٍ سنين» منوَّناً . وقرأ حمزة ، والكسائي : «ثلاثمائةِ سنين» مضافاً غير منوَّن . قال أبو علي : العدد المضاف إِلى الآحاد قد جاء مضافاً إِلى الجميع ، قال الشاعر :
ومَا زَوَّدُوني غير سَحْقِ عِمامةٍ ... وَخَمْسِمِىءٍ منها قَسِيٌّ وزائفُ
وفي هذا الكلام قولان .
أحدهما : أنه حكاية عما قال الناس في حقهم ، وليس بمقدار لبثهم ، قاله ابن عباس ، واستدل عليه فقال : لو كانوا لبثوا ذلك ، لما قال : { الله أعلم بما لبثوا } ، وكذلك قال قتادة ، وهذا قول أهل الكتاب .
والثاني : أنه مقدار ما لبثوا ، قاله عبيد بن عمير ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد؛ والمعنى : لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إِلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم .
قوله تعالى : { سنين } قال الفراء ، وأبو عبيدة ، والكسائي ، والزجاج : التقدير : سنين ثلاثمائة . وقال ابن قتيبة : المعنى : أنها لم تكن شهوراً ولا أيّاماً ، وإِنما كانت سنين . وقال أبو علي الفارسي : «سنين» بدل من قوله : «ثلاثمائة» . قال الضحاك : نزلت : { ولبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ } فقالوا : أياماً ، أو شهوراً ، أو سنين؟ فنزلت : «سنين» فلذلك قال : «سنين» ، ولم يقل : سنة . قوله تعالى : { وازدادوا تسعاً } يعني : تسع سنين ، فاستغنى عن ذِكْر السنين بما تقدَّم من ذِكْرها . ثم أعلمَ أنه أعلمُ بقدْر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها ، فقال : { قل الله أعلم بما لبثوا } قال ابن السائب : قالت نصارى نجران : أما الثلاثمائة ، فقد عرفناها ، وأما التسع ، فلا عِلْم لنا بها ، فنزل قوله تعالى : { قل الله أعلم بما لبثوا } وقيل : إِن أهل الكتاب قالوا : إِن للفتية منذ دخلوا الكهف إِلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين ، فرد الله تعالى عليهم ذلك ، وقال : «قل الله أعلم بما لبثوا» بعد أن قبض أرواحهم إِلى يومكم هذا ، لا يعلم ذلك غيرُ الله . وقيل : إِنما زاد التسع ، لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { أَبصِرْ به وأَسمِعْ } فيه قولان .
أحدهما : أنه على مذهب التعجب ، فالمعنى : ما أسمع الله به وأبصر ، أي : هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم ، هذا قول الزجاج ، وذكر أنه إِجماع العلماء .
والثاني : أنه في معنى الأمر ، فالمعنى : أَبصِر بِدِين الله وأَسمِع ، أي : بصّر بهدى الله وسمِّع ، فترجع الهاء إِما على الهدى ، وإِما على الله عز وجل ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ما لهم من دونه } أي : ليس لأهل السموات والأرض من دون الله من ناصر ، { ولا يُشرِك في حكمه أحداً } ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به ، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون شريكاً لله عز وجل في حكمه . وقرأ ابن عامر : «ولا تُشرِكْ» جزماً بالتاء ، والمعنى : لا تشرك أيها الإِنسان .

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)

قوله تعالى : { واتل ما أُوحي إِليك } في هذه التلاوة قولان .
أحدهما : أنها بمعنى القراءة .
والثاني : بمعنى الاتِّباع . فيكون المعنى على الأول : اقرأ القرآن ، وعلى الثاني : اتَّبِعْه واعمل به . وقد شرحنا في [ الأنعام : 115 ] معنى { لا مبدِّل لكلماته } .
قوله تعالى : { ولن تجد من دونه ملتحداً } قال مجاهد ، والفراء : مَلجَأً . وقال الزجاج : مَعْدِلاً عن أمره ونهيه . وقال غيرهم : موضعاً تميل إِليه في الالتجاء .
قوله تعالى : { واصبر نفسك } سبب نزولها " أن المؤلَّفة قلوبُهم جاؤوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، وذووهم ، فقالوا : يا رسول الله : لو أنك جلست في صدر المجلس ، ونحَّيت هؤلاء عنّا ، يعنون سلمانَ وأبا ذَرٍّ وفقراءَ المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف جلسنا إِليك ، وأخذنا عنك ، فنزلت هذه الآية إِلى قوله : { إِنا أعتدنا للظالمين ناراً } ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم ، حتى إِذا أصابهم في مؤخَّر المسجد يذكرون الله ، قال : «الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمَّتي ، معكم المحيا ومعكم الممات» " هذا قول سلمان الفارسي . ومعنى قوله : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } أي : احبسها معهم على أداء الصلوات { بالغداة والعشي } . وقد فسرنا هذه الآية في [ الأنعام : 52 ] إِلى قوله تعالى : { ولا تعد عيناك عنهم } أي : لا تصرف بصرك إِلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف؛ وكان عليه السلام حريصاً على إِيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم ، ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قطُّ ، فأُمر أن يجعل إِقباله على فقراء المؤمنين .
قوله تعالى : { ولا تُطِع من أغفلنا قلبه عن ذِكْرنا } سبب نزولها أن أُمية بن خلف الجمحي ، دعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِلى طرد الفقراء عنه ، وتقريبِ صناديد أهل مكة ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عنه أنه قال : هو عيينة وأشباهه . ومعنى «أغفلنا قلبه» : جعلناه غافلاً . وقرأ أبو مجلز : «من أغفلَنا» بفتح اللام ، ورفع باء القلب . «عن ذِكْرنا» : عن التوحيد والقرآن والإِسلام ، { واتبع هواه } في الشّرك . { وكان أمره فُرُطاً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه أفرط في قوله ، لأنه قال : إِنّا رؤوس مضر ، وإِن نُسلِم يُسلم الناس بعدنا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : ضيَاعاً ، قاله مجاهد . وقال أبو عبيدة : سَرَفاً وتضييعاً .
والثالث : نَدَماً ، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة .
والرابع : كان أمره التفريط ، والتفريط : تقديم العجز ، قاله الزجاج .

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

قوله تعالى : { وقل الحقِ مِنْ ربِّكم } قال الزجاج : المعنى : وقل الذي أتيتكم به ، الحقُّ من ربِّكم .
قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : فمن شاء الله فليؤمن ، روي عن ابن عباس .
والثاني : أنه وعيد وإِنذار ، وليس بأمر ، قاله الزجاج .
والثالث : أن معناه : لا تنفعون الله بإيمانكم ، ولا تضرُونه بكفركم ، قاله الماوردي . وقال بعضهم : هذا إِظهار للغنى ، لا إِطلاق في الكفر .
قوله تعالى : { إِنا أعتدنا } أي : هيَّأنا ، وأعددنا ، وقد شرحناه في قوله : { وأعتدتْ لهن متَّكأً } [ يوسف 31 ] . فأما الظالمون ، فقال المفسرون : هم الكافرون . وأما السُّرادِق ، فقال الزجاج : السُّرادِق : كلُّ ما أحاط بشيء ، نحو الشُّقَّة في المِضْرَب ، أو الحائط المشتمل على الشيء . وقال ابن قتيبة : السُّرادِق : الحُجرة التي تكون حول الفسطاط . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : السُّرادق فارسي معرَّب ، وأصله بالفارسية سَرَادَارْ ، وهو الدِّهليز ، قال الفرزدق :
تَمَنَّيْتَهُمْ حتى إِذا ما لَقِيتَهم ... تَركتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرَادِقا
وفي المراد بهذا السُّرادق قولان .
أحدهما : أنه سُرادق من نار ، قاله ابن عباس . روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لِسُرادِق النار أربعةُ جُدُرٍ كُثُفٌ ، كلُّ جدار منها مسيرة أربعين سنة " وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس ، قال : السرادق : لسان من النار ، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم .
والثاني : أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الظِّل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في [ المرسلات : 30 ] ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { وإِن يستغيثوا } أي : مما هم فيه من العذاب وشدة العطش { يُغاثوا بماءٍ كالمُهل } وفيه سبعة أقوال .
أحدها : أنه ماءٌ غليظٌ كدُرْدِيِّ الزيت ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه كل شيء أذيب حتى انماع ، قاله ابن مسعود . وقال أبو عبيدة ، والزجّاج : كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك ، فهول مُهل .
والثالث : قيح ودم أسود كعكر الزيت ، قاله مجاهد .
والرابع : أنه الفضة والرصاص يذابان ، روي عن مجاهد أيضاً .
والخامس : أنه الذي انتهى حَرُّه ، قاله سعيد بن جبير .
والسادس : [ أنه ] الصَّديد ، ذكره ابن الأنباري . قال مُغيث بن سُمي : هذا الماء هو ما يسيل من عَرَق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم ، وما يجري منهم من دم وقيح ، يسيل ذلك إِلى وادٍ في جهنم ، فتطبخه جهنم ، فيكون أول ما يُغاث به أهل النار .
والسابع : أنه الرماد الذي يُنفض عن الخُبزة إِذا خرجت من التَّنُّور ، حكاه ابن الأنباري .
قوله تعالى : { يشوي الوجوه } قال المفسرون : إِذا قرَّبه إِليه سقطت فروة وجهه فيه . ثم ذمَّه ، فقال : { بئس الشراب وساءت } النار { مُرْتَفَقاً } وفيه خمسة أقوال .
أحدها : منزلاً ، قاله ابن عباس . والثاني : مجتمعاً ، قاله مجاهد . والثالث : متَّكأً ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لأبي ذؤيب :
إِني أرِقْت فبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقاً ... كأنَّ عَيْنِيَ فِيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
وذبحه : انفجاره؛ قال الزجاج : «مرتفقاً» منصوب على التمييز؛ ومعنى مرتفقاً : متَّكأً على المِرفق .
والرابع : ساءت مجلساً؛ قاله ابن قتيبة .
والخامس : ساءت مطلباً للرفق ، لأن من طلب رِفقاً من جهتها ، عَدِمه ، ذكره ابن الأنباري . ومعاني هذه الأقوال تتقارب . وأصل المِرفق في اللغة : ما يُرتَفق به .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

قوله تعالى : { إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال الزجاج : خبر «إِن» هاهنا على ثلاثة أوجه . أحدها : أن يكون على إِضمار : { إِنا لا نُضيع أجر من أحسن عملاً } منهم ، ولم يحتج إِلى ذكر «منهم» لأن الله تعالى قد أعلَمنا أنه محبطٌ عملَ غير المؤمنين .
والثاني : أن يكون خبر «إِن» : { أولئك لهم جنات عدن } ، فيكون قوله : { إِنا لا نُضيع } قد فصل به بين الاسم وخبره ، لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول ، لأن من أحسن عملاً بمنزلة الذين آمنوا .
والثالث : أن يكون الخبر : { إِنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } ، بمعنى : إِنّا لا نُضيع أجرهم .
قال المفسرون : ومعنى { لا نضيع أجر من أحسن عملاً } أي : لا نترك أعماله تذهب ضَياعاً ، بل نُجازيه عليها بالثواب .
فأما الأَساور ، فقال الفراء : في الواحد منها ثلاث لغات : إِسوار ، وسِوار ، وسُوار؛ فمن قال : إِسوار ، جمعَه أساور ، ومن قال : سِوار أو سُوار ، جمعَه أسْوِرة ، وقد يجوز أن يكون واحد أَساورة وأَساور : سِوار؛ وقال الزجاج : الأَساور جمع أَسْوِرَة ، وأَسْوِرَة جمع سِوَار ، يقال : سِوار اليد ، بالكسر ، وقد حكي : سُوار . قال المفسرون : لما كانت الملوك تلبَس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس ، جعل الله ذلك لأهل الجنة . قال سعيد بن جبير : يُحلَّى كلُّ واحد منهم بثلاثة من الأساور ، واحدٍ من فضة ، وواحدٍ من ذهب ، وواحدٍ من لؤلؤ ويواقيت .
فأما «السُّنْدُسُ» و«الإِستبرق» ، فقال ابن قتيبة : السُّندس : رقيق الديباج ، والإِستبرق ثخينه . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : السندس : رقيق الديباج ، لم يختلف أهل اللغة في أنه معرَّب ، قال الراجز :
وليلة من الليالي حِندِسِ ... لون حواشيها كلون السندس
والاستبرق : غليظ الديباج ، فارسي معرَّب ، وأصله إِسْتفْرَهْ . وقال ابن دريد : إِستَرْوَهْ ، ونقل من العجمية إِلى العربية ، فلوا حُقِّر «إِستبرق» ، أو كُسِّر ، لكان في التحقير «أُبَيْرِق» ، وفي التكسير «أبارق» بحذف السين ، والتاء جميعاً .
قوله تعالى : { متكئين فيها } الاتّكاء : التحامل على الشيء . قال أبو عبيدة : والأرائك : الفُرُش في الحِجَال ، ولا تكون الأريكة إِلا بحَجَلة وسرير ، وقال ابن قتيبة : الأرائك : السُّرُر في الحِجال ، واحدها : أريكة . وقال ثعلب : لا تكون الأريكة إِلا سريراً في قُبَّة عليه شَواره ومتاعه؛ قال ابن قتيبة : الشَّوار ، مفتوح الشين ، وهو متاع البيت . وقال الزجاج : الأرائك : الفُرُش في الحِجال . قال : وقيل : إِنها الفُرُش ، وقيل : الأسِرَّة ، وهي على الحقيقة : الفُرُش كانت في حِجال لهم .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)

قوله تعالى : { واضرب لهم مَثَلاً رجلين } روى عطاء عن ابن عباس ، قال : هما ابنا ملك كان في بني إِسرائيل توفِّي وتركهما ، فاتخذ أحدهما الجِنان والقصور ، وكان الآخر زاهداً في الدنيا ، فكان إِذا عمل أخوه شيئاً من زينة الدنيا ، أخذ مثل ذلك فقدَّمه لآخرته ، حتى نَفِد ماله ، فضربهما الله عز وجل مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أن المسلم لما احتاج ، تعرَّض لأخيه الكافر ، فقال الكافر : أين ما ورثتَ عن أبيك؟ فقال : أنفقتُه في سبيل الله ، فقال الكافر : لكني ابتَعت به جِناناً وغنماً وبقراً ، والله لا أعطيتك شيئاً أبداً حتى تتبع ديني ، ثم أخذ بيد المسلِم فأدخله جِنانه يطوف به فيها ، ويرغِّبه في دينه . وقال مقاتل : اسم المؤمن يمليخا ، واسم الكافر قرطس ، وقيل : قطرس ، وقيل : هذا المَثَل [ ضُرِبَ ] لعيينة بن حصن وأصحابه ، ولسلمان وأصحابه .
قوله تعالى : { وحففناهما بنخل } الحَفّ : الإِحاطة بالشيء ، ومنه قوله : { حافِّين من حول العرش } [ الزمر : 75 ] . والمعنى : جعلنا النخل مُطِيفاً بها . وقوله : { وجعلنا بينهما زرعاً } إِعلام أن عمارتهما كاملة .
قوله تعالى : { كِلتا الجنتين آتت أُكُلَها } قال الفراء : لم يقل : آتتا ، لأن «كلتا» ثنتان لا تُفرد واحدتُهما ، وأصله : «كُلٌّ» ، كما تقول للثلاثة : «كُلٌّ» ، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع ، وجاز توحيده على مذهب «كُلّ» ، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في «كلتا» ، وكذلك فافعل ب «كلا» و«كلتا» و«كُلّ» ، إِذا أضفتَهُنَّ إِلى مَعْرِفة وجاء الفعل بعدهن ، فوحِّد واجمع ، فمن التوحيد قوله تعالى : { وكُلُّهم آتيه يوم القيامة فرداً } [ مريم : 96 ] ، ومن الجمع : { وكُلٌّ أَتَوه داخرين } [ النمل : 87 ] ، والعرب قد تفعل ذلك أيضاً في «أي» فيؤنّثون ويذكِّرون ، قال الله تعالى : { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] ، ويجوز في الكلام «بأيت أرض» ، وكذلك { في أيِّ صورة ما شاء ركبَّك } [ الانفطار : 8 ] ، ويجوز في الكلام «في أيَّت» ، قال الشاعر :
بأي بلاءٍ أم بأيَّة نعمةٍ ... تقدَّم قبلي مسلمٌ والمهلَّب
قال ابن الأنباري : «كلتا» وإِن كان واقعاً في المعنى على اثنتين ، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة ، فغلب اللفظ ، ولم يستعمل المعنى ثقةً بمعرفة المخاطَب به؛ ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ ، فيقول : «كلتا الجنتين آتت أُكُلَها» ، ويقول آخرون : «كلتا الجنتين آتى أُكُلَه» ، لأن «كلتا» تفيد معنى «كُلّ» ، قال الشاعر :
وكلتاهما قد خطَّ لي في صَحيفتي ... فلا الموت أهواه ولا العيش أروح
يعني : وكلُّهما قد خط لي ، وقد قالت العرب : كلكم ذاهب ، وكلكم ذاهبون . فوحَّدوا لِلَفظ «كُلّ» وجمعوا لتأويلها . وقال الزجاج : لم يقل «آتتا» ، لأن لفظ «كلتا» لفظ واحدة ، والمعنى : كل واحدة منهما آتت أكلها { ولم تظلم } أي : لم تنقص { منه شيئاً وفجرنا خلالهما نَهَراً } فأعلمَنَا أن شربهما كان من ماء نهر ، وهو من أغزر الشرب .

وقال الفراء : إِنما قال : «فجَّرنا» بالتشديد ، وهو نَهَر واحد ، لأن النهر يمتد ، فكان التفجُّر فيه كلِّه . قرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «وفَجَرْنا» بالتخفيف . وقرأ أبو مجلز ، وأبو المتوكل : «خلِلهما» . وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران : «نهْراً» بسكون الهاء .
قوله تعالى : { وكان له } يعني : للأخ الكافر { ثَمَر } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «وكان له ثُمُر» ، «وأُحيط بثُمُره» بضمتين . وقرأ عاصم : «وكان له ثَمَر» ، «وأُحيط بثَمَره» بفتح التاء والميم فيهما . وقرأ أبو عمرو : «ثُمْر» و«بثُمْره» بضمة واحدة وسكون الميم . قال الفراء : الثَّمَر ، بفتح الثاء والميم : المأكول ، وبضمها : المال . وقال ابن الأنباري : الثَّمر ، بالفتح : الجمع الأول ، والثُّمُر ، بالضم : جمع الثَّمَر ، يقال : ثَمَر ، وثُمُر ، كما يقال : أسَد ، وأُسُد ، ويصلح أن يكون الثُّمُر جمع الثِّمار ، كما يقال : حِمار وحُمُر ، وكِتاب وكُتُب؛ فمن ضَمَّ ، قال : الثُّمُر أعم ، لأنها تحتمل الثمار المأكولة ، والأموال المجموعة . قال أبو علي الفارسي : وقراءة أبي عمرو : «ثُمُر» يجوز أن تكون جمع ثمار ، ككتاب ، وكُتُب ، فتخفف ، فيقال : كُتْب ، ويجوز أن يكون «ثُمْر» جمع ثَمَرة ، كبَدَنة وبُدْن ، وخَشَبة ، وخُشْب . ويجوز أن يكون { ثُمُر } واحداً ، كعُنُق ، وطُنُب .
وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه المال الكثير من صنوف الأموال ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الذهب ، والفضة ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه جمع ثمرة ، قال الزجاج : يقال : ثَمَرة ، وثِمار ، وثمر .
فإن قيل : ما الفائدة في ذِكْر الثّمر بعد ذِكْر الجنَّتين ، وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه لم يكن أصل الأرض ملكاً له ، وإِنما كانت له الثمار ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن ذِكْر الثّمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنّتين وغيرهما ، ذكره ابن الأنباري .
والثالث : إِنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع ، وذكرنا أنها الذهب ، والفضّة ، وذلك يخالف الثمر المأكول؛ قال أبو علي الفارسي : من قال : هو الذهب ، والوَرِق ، فإنما قيل لذلك : ثُمُر على التفاؤل ، لأن الثمر نماء في ذي الثمر ، وكونه هاهنا بالجَنى أشبه من الذهب والفضة . ويقوي ذلك : { وأحيط بثمره فأصبح يقلِّب كفَّيه على ما أنفق فيها } ، والإِنفاق من الوَرِق ، لا من الشجر .
قوله تعالى : { فقال } يعني الكافر { لصاحبه } المؤمن { وهو يحاوره } أي : يراجعه الكلام ويجاوبه .
وفيما تحاورا فيه قولان .
أحدهما : أنه الإِيمان والكفر .
والثاني : طلب الدنيا ، وطلب الآخرة . فأما «النفر» فهم الجماعة ، ومثلهم : القوم والرهط ، [ ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها . وقال ابن فارس اللغوي ] : النفر : عدة رجال من ثلاثة إِلى العشرة .
وفيمن أراد بنَفَره ثلاثة أقوال .
أحدها : عبيده ، قاله ابن عباس .
والثاني : ولده ، قاله مقاتل .
والثالث : عشيرته ورهطه ، قاله أبو سليمان .

قوله تعالى : { ودخل جنَّته } يعني : الكافر { وهو ظالم لنفسه } بالكفر؛ وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه ، { قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً } أنكر فَناء الدنيا ، وفَناء جنته ، وأنكر البعث والجزاء بقوله : { وما أظن الساعة قائمةً } وهذا شك [ منه ] في البعث ، ثم قال : { ولئن رُدِدْتُ إِلى ربِّي } أي : كما تزعُم أنت . قال [ ابن عباس ] : يقول : إِن كان البعث حقاً { لأجدنَّ خيراً منها } قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «خيراً منها» ، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «خيراً منهما» بزيادة ميم على التثنية ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام . قال أبو علي : الإِفراد أولى ، لأنه أقرب إِلى الجَنَّة المفردة في قوله : { ودخل جنته } ، والتثنية لا تمتنع ، لتقدم ذِكْر الجَنَّتين .
قوله تعالى : { مُنْقَلَباً } أي : كما أعطاني هذا في الدنيا ، سيعطيني في الآخرة أفضل منه .

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)

قوله تعالى : { قال له صاحبه } يعني : المؤمن { وهو يحاوره أكفرتَ بالذي خلقك من تراب } يعني : خلق أباك آدم { ثم من نطفة } يعني : ما أنشىء هو منه ، فلما شَكَّ في البعث كان كافراً .
قوله تعالى : { لكنَّا هو الله ربِّي } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وقالون عن نافع : «لكنَّ هو الله ربِّي» ، باسقاط الألف في الوصل ، وإِثباتها في الوقف . وقرأ نافع في رواية المُسَيّبي بإثبات الألف وصلاً ووقفاً . وأثبت الألف ابن عامر في الحالين . وقرأ أبو رجاء : «لكنْ» بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين . وقرأ ابن يعمر : «لكنَّ» بتشديد النون من غير ألف في الحالين . وقرأ الحسن : «لكنْ أنا هو اللهُ ربِّي» باسكان نون «لكنْ» وإِثبات «أنا» . قال الفراء : فيها ثلاث لغات : لكنّا ، ولكنّ ، ولكنَّه بالهاء ، أنشدني أبو ثروان :
وترْمينني بالطَّرْف أي أنت مذنب ... وتَقْلِيَننِي لكنّ إِيّاكِ لاَ أَقْلِي
وقال أبو عبيدة : مجازه : لكن أنا هو الله ربي ، ثم حُذفت الألف الأولى ، وأُدغمت إِحدى النونين في الأخرى فشدِّدت . قال الزجاج : وهذه الألفُ تُحذف في الوصل ، وتُثبت في الوقف ، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف ، فهو على لغة من يقول : أنا قمتُ ، فأثبت الألف ، قال الشاعر :
أنا سَيْفُ العَشِيرَة فاعْرِفُونِي ... [ حُمَيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما ]
وهذه القراءة جيدة ، لأن الهمزة قد حذفت من «أنا» ، فصار إِثبات الألف عوضاً من الهمزة .
قوله تعالى : { ولولا إِذ دخلتَ جنتك } أي : وهلاّ؛ ومعنى الكلام التوبيخ . قال الفراء : { ما شاء الله } في موضع رفع ، إِن شئت رفعته بإضمار هو ، يريد : [ هو ] ما شاء الله؛ وإن شئتَ أضمرتَ فيه : ما شاء الله كان؛ وجاز طرح جواب الجزاء ، كما جاز في قوله : { فإن استطعت أن تبتغيَ نفقاً في الأرض } [ الانعام : 35 ] ، ليس له جواب ، لأنه معروف . قال الزجاج : وقوله : { لا قوَّة إِلا بالله } الاختيار النصب بغير تنوين على النفي ، كقوله : { لا ريب فيها } [ الكهف : 21 ] ، ويجوز : «لا قوة إِلا بالله» على الرفع بالابتداء ، والخبر «بالله» ، المعنى : لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إِلا بالله تعالى ، ولا يكون له إِلا ما شاء الله .
قوله تعالى : { إِن ترنِ } قرأ ابن كثير : «إِن ترني أنا» و«يؤتيني خيراً» بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو بياءٍ في الوصل . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بحذف الياء فيهما وصلاً ووقفاً . { أنا أقَلَّ } وقرأ ابن أبي عبلة : «أنا أقَلُّ» برفع اللام . قال الفراء : «أنا» هاهنا عماد إِن نصبتَ «أقلَّ» ، واسم إِذا رفعت «أقلُّ» ، والقراءة بهما جائز .
قوله تعالى : { فعسى ربِّي أن يؤتيَني خيراً من جنتك } أي : في الآخرة ، { ويرسلَ عليها حسباناً } وفيه أربعة أقوال .

أحدها : أنه العذاب ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضحاك . وقال أبو صالح عن ابن عباس : ناراً من السماء .
والثاني : قضاءً من الله يقضيه ، قاله ابن زيد .
والثالث : مراميَ من السماء ، واحدها : حسبانة ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة قال النَّضْر ابن شُمَيل : الحُسبان : سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تُنزع في القوس ، ثم يرمي بعشرين منها دفعة ، فعلى هذا القول يكون المعنى : ويرسل عليها مراميَ من عذابه ، إِما حجارة أو بَرَداً أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب .
والرابع : أن الحسبان : الحساب ، كقوله : { الشمس والقمر بحسبان } [ الرحمن : 5 ] أي : بحساب ، فيكون المعنى : ويرسل عيها عذابَ حسابِ ما كسبت يداه ، هذا قول الزجاج .
قوله تعالى : { فتصبحَ صعيداً زَلَقاً أو يُصْبِحَ ماؤها غَوراً } قال ابن قتيبة : الصعيد : الأملس المستوي ، والزَّلَق : الذي تَزِلُّ عنه الأقدام ، والغَور : الغائر ، فجعل المصدر صفة ، يقال : ماءٌ غَوْر ، ومياه غَوْرٌ ، ولا يثنَّى ، ولا يجمع ، ولا يؤنَّث ، كما يقال : رجلٌ نَوْمٌ ، ورجلٌ صَوْمٌ ، ورجلٌ فِطْر ، ورجالٌ نَوْمُ ، [ ونساءٌ نَوْمٌ ] ، ونساءٌ صَوْمٌ . ويقال : للنساء إِذا نُحْنَ : نَوْح ، والمعنى : يذهب ماؤها غائراً في الأرض ، أي : ذاهباً فيها . { فلن تسطيع له طلباً } فلا يبقى له أثر تطلبه به ، ولا تناله الأيدي ولا الأَرْشية . وقال ابن الأنباري : «غَوْراً» إِذا غوَّر ، فسقط المضاف ، وخلَفه المضاف إِليه ، والمراد بالطلب هاهنا : الوصول ، فقام الطلب مقامه لأنه سببه . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو المتوكل : «غُؤُورَاً» برفع الغين والواو [ الأولى ] جميعاً ، [ وواو بعدها ] .

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

قوله تعالى : { وأحيط بثمره } أي : أحاط اللهُ العذابَ بثمره ، وقد سبق معنى الثمر . { فأصبح يقلِّب كفيه } أي : يضرب بيد على يد ، وهذا فعل النادم ، { على ما أنفق فيها } أي : في جنته ، و«في» هاهنا بمعنى «على» . { وهي خاوية } أي : خالية ساقطة { على عروشها } والعُروش : السقوف ، والمعنى : أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدَّمت فصارت في قرارها ، فصارت الحيطان كأنها على السقوف ، { ويقول يا ليتني لم أُشرك بربِّي أحداً } فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم به عليه ، وحقق ما أنذره [ به ] أخوه في الدنيا ، ندم على شِركه حين لا تنفعة الندامة . وقيل : إِنما يقول هذا في القيامة . { ولم تكن له فئة } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «ولم تكن» بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : «ولم يكن» بالياء . والفئة : الجماعة { ينصرونه } أي : يمنعونه من عذاب الله .
قوله تعالى : { هنالك الوَلاية } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وعاصم : «الوَلاية» بفتح الواو و { للهِ الحقِّ } خفضاً . وقرأ حمزة : «الوِلاية» بكسر الواو ، و«لله الحقِّ» بكسر القاف أيضاً . وقرأ أبو عمرو بفتح الواو ، ورفع «الحقُّ» ، ووافقه الكسائيُّ في رفع القاف ، لكنه كسر «الوِلاية» ، قال الزجاج : معنى الولاية في [ مثل ] تلك الحال : تبيين نصرة وليِّ الله . وقال غيره : هذا الكلام عائد إِلى ما قبل قصة الرجلين . فأما من فتح واو «الوَلاية» فإنه أراد الموالاة والنصرة ، ومن كسر ، أراد السلطان والملك على ما شرحنا في آخر [ الأنفال : 72 ] . فعلى قراءة الفتح ، في معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنهم يتوَلَّون الله تعالى في القيامة ، ويؤمنون به ، ويتبرَّؤون مما كانوا يعبدون ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : هنالك يتولَّى اللهُ أمرَ الخلائق ، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين . وعلى قراءة الكسر ، يكون المعنى : هنالك السُّلطان لله . قال أبو علي : من كسر قاف «الحقِّ» ، جعله من وصف الله عزَّ وجلَّ ، ومن رفعه جعله صفة للولاية .
فإن قيل : لم نُعتت الولاية وهي مؤنثة بالحقِّ وهو مصدر؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري .
أحدهما : أن تأنيثها ليس حقيقياً ، فحُملت على معنى النصر؛ والتقدير : هنالك النصر لله الحقُّ ، كما حُملت الصيحة على معنى الصياح في قوله : { وأخذَ الذين ظلموا الصيحةُ } [ هود : 67 ] .
والثاني : أن الحقَّ مصدر يستوي في لفظه المذكَّر والمؤنث والاثنان والجمع ، فيقال : قولك حق ، وكلمتك حق ، وأقوالكم حق . ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية ، وعلى المدح لله تعالى بإضمار «هو» .
قوله تعالى : { هو خير ثواباً } أي : هو أفضل ثواباً ممن يُرجى ثوابه ، وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل .
قوله تعالى : { وخير عُقبا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : «عُقُباً» مضمومة القاف . وقرأ عاصم ، وحمزة : «عُقْباً» ساكنة القاف . قال أبو علي : ما كان [ على ] «فُعُل» جاز تخفيفه ، كالعُنُق ، والطُّنُب ، قال أبو عبيدة : العُقُب ، والعُقْب ، والعُقْبى ، والعاقبة ، بمعنى ، وهي الآخرة ، والمعنى : عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

قوله تعالى : { واضرب لهم مَثَل الحياة الدنيا } أي : في سرعة نفادها وذهابها ، وقيل : في تصرُّف أحوالها ، إِذ مع كلِّ فرحة تَرْحة ، وهذا مفسر في سورة [ يونس : 24 ] إِلى قوله : { فأصبح هشيماً } . قال الفراء : الهشيم : كل شيء كان رطباً فيبس . وقال الزجاج : الهشيم : النبات الجافّ . وقال ابن قتيبة : الهشيم من النبت : المتفتِّت ، وأصله من هشمتُ الشيء : إِذا كسرتَه ، ومنه سمِّي الرجل هاشماً . و { تذروه الرياح } تنسفه . وقرأ أُبيّ ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة : «تُذْرِيْهِ» برفع التاء وكسر الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة . وقرأ ابن مسعود كذلك ، إِلا أنه فتح التاء . والمقْتَدِر : مُفْتَعِل ، من قَدَرْتُ . قال المفسرون { وكان الله على كل شيء } من الإِنشاء والإِفناء { مقتدراً } .

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

قوله تعالى : { المالُ والبنونَ زينة الحياة الدنيا } هذا ردٌّ على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد ، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يُتزيَّن به في الدنيا ، [ لا ] مما ينفع في الآخرة .
قوله تعالى : { والباقيات الصالحات } فيها خمسة أقوال .
أحدها : أنها «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إِله إِلا الله ، والله أكبر»؛ روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِن عجزتم عن الليل أن تكابدوه ، وعن العدوِّ أن تجاهدوه ، فلا تعجِزوا عن قول : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إِله إِلا الله ، والله أكبر ، فقولوها ، فإنَّهن الباقيات الصالحات» " ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضحاك . وسئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات ، فقال هذه الكلمات ، وزاد فيها : «ولا حول ولا قوَّة إِلا بالله» . وقال سعيد بن المسيب ، ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء .
والثاني : «أنها لا إِله إِلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، ولا قوة إِلا بالله» ، رواه علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثالث : أنها الصلوات الخمس ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، ومسروق ، وإبراهيم .
والرابع : الكلام الطيِّب ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والخامس : هي جميع أعمال الحسنات ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، وابن زيد .
قوله تعالى : { خير عند ربِّك ثواباً } أي : أفضل جزاءً { وخير أملاً } أي : خير مما تؤمِّلون ، لأن آمالكم كواذب ، وهذا أمل لا يكذب .

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)

قوله تعالى : { ويوم تُسَيَّر الجبال } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «ويوم تُسَيَّر» بالتاء «الجبالُ» رفعاً . وقرأ نافع . وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «نُسَيِّرُ» بالنون «الجبالَ» نصباً . وقرأ ابن محيصن : «ويوم تَسِيْرُ» بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء «الجبالُ» بالرفع . قال الزجاج : «ويوم» منصوب على معنى : اذكر ، ويجوز أن يكون منصوباً على : والباقيات الصالحات خير يومَ تَسِيرُ الجبال . قال ابن عباس : تُسيَّر الجبال عن وجه الأرض ، كما يُسيَّر السحاب في الدنيا ، ثم تكسّر فتكون في الأرض كما خرجت منها .
قوله تعالى : { وترى الأرض بارزة } وقرأ عمرو بن العاص ، وابن السميفع ، وأبو العالية : «وتُرى الأرضُ بارزةً» برفع التاء والضاد . وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك ، إِلا أنه فتح ضاد «الأرضَ» .
وفي معنى «بارزة» قولان . أحدهما : [ ظاهرة ] فليس عليها شيء من جبل أو شجر أو بناءٍ ، قاله الأكثرون .
والثاني : بارزاً أهلها من بطنها ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { وحشرناهم } يعني المؤمنين والكافرين { فلم نُغادِر } قال ابن قتيبة : أي : فلم نُخَلِّف ، يقال : غادرتُ كذا : إِذا خلّفته ، ومنه سمي الغَدِير ، لأنه ماءٌ تُخَلِّفُه السيول . وروى أبان : «فلم تغادر» بالتاء .
قوله تعالى : { وعُرضوا على ربك صفاً } إِن قيل : هذا أمر مستقبل ، فكيف عُبِّر [ عنه ] بالماضي؟ فالجواب : أن ما قد علم الله وقوعه ، يجري مجرى المعايَن ، كقوله : { ونادى أصحاب الجنة } [ الأعرف : 43 ] .
وفي معنى قوله : { صفاً } أربعة أقوال .
أحدها : أنه بمعنى : جميعاً ، كقوله : { ثم ائتوا صفاً } [ طه : 64 ] ، قاله مقاتل .
والثاني : أن المعنى : وعُرضوا على ربِّك مصفوفين ، هذا مذهب البَصريين .
والثالث : أن المعنى : وعُرضوا على ربِّك صفوفاً ، فناب الواحد عن الجميع ، كقوله : { ثم نُخْرِجُكم طفلاً } [ الحج : 5 ] .
والرابع : أنه لم يَغِبْ عن الله منهم أحد ، فكانوا كالصف الذي تسهل الإِحاطة بجملته ، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري . وقد قيل : إِن كلَّ أمة وزمرة صفٌّ .
قوله تعالى : { لقد جئتمونا } ، فيه إِضمار «فيقال لهم» .
وفي المخاطبين بهذا قولان .
أحدهما : أنهم الكُلّ .
والثاني : الكُفار ، فيكون اللفظ عامّاً ، والمعنى خاصّاً . وقوله : { كما خلقناكم أول مَرَّة } مفسر في [ الأنعام : 94 ] . وقوله : { بل زعمتم } خطاب الكفار خاصة ، والمعنى : زعمتم في الدنيا { أن لن نجعل لكم موعداً } للبعث ، والجزاء .
قوله تعالى : { ووُضع الكتاب } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الكتاب الذي سُطِر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الحساب ، قاله ابن السائب .
والثالث : كتاب الأعمال ، قاله مقاتل . وقال ابن جرير : وُضع كتاب أعمال العباد في أيديهم ، فعلى هذا ، الكتاب اسم جنس .
قوله تعالى : { فترى المجرمين } قال مجاهد : [ هم ] الكافرون . وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذُكر في القرآن ، فالمراد به : الكافر .
قوله تعالى : { مشفقين } أي : خائفين { مما فيه } من الأعمال السيئة { ويقولون يا ويلتنا } هذا قول كل واقع في هَلَكة .

وقد شرحنا هذا المعنى في قوله : { يا حسرتنا } [ الأنعام : 31 ] .
قوله تعالى : { لا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرة إِلا أحصاها } هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها؛ وقد روى عكرمة عن ابن عباس ، قال : الصغيرة : التبسم ، والكبيرة : القهقهة . وقد يُتوهَّم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها ، وليس كذلك ، إِذ ليس الضحك والتبسم ، مجرَّدهما من الذنوب ، وإِنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال ، والضحك فعل كبير ، وقد روى الضحاك عن ابن عباس ، قال : الصغيرة : التبسم والاستهزاء بالمؤمنين ، والكبيرة : القهقهة بذلك؛ فعلى هذا يكون ذنباً من الذنوب لمقصود فاعله ، لا لنفسه . ومعنى «أحصاها» : عدَّها وأثبتها ، والمعنى : وُجدتْ مُحصاةً . { ووجدوا ما عملوا حاضراً } أي : مكتوباً مُثْبَتاً في الكتاب ، وقيل : رأوا جزاءه حاضراً . وقال أبو سليمان : الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وُعدوا العفو عنها إِذا اجتنبوا الكبائر ، إِنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها .
قوله تعالى : { ولا يظلم ربك أحداً } قال أبو سليمان : لا تنقص حسنات المؤمن ، ولا يزاد في سيئات الكافر . وقيل : إِن كان للكافر فِعل خير ، كعتق رقبة ، وصدقة ، خُفِّف عنه به من عذابه ، وإِن ظلمه مسلم ، أخذ الله من المسلم ، فصار الحق لله .
ثم إِن الله تعالى أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يذكِّر هؤلاء المتكبِّرين عن مجالسة الفقراء قصةَ إِبليس وما أورثه الكِبْر ، فقال : { وإِذ قلنا } أي : اذكر ذلك .
وفي قوله : { كان من الجن } قولان .
أحدهما : أنه من الجن حقيقة ، لهذا النص؛ واحتج قائلو هذا بأن له ذريةً وليس للملائكة ذريةٌ وأنه كَفَرَ ، والملائكة رسل الله ، فهم معصومون من الكفر .
والثاني : أنه كان من الملائكة ، وإِنما قيل : «من الجن» ، لأنه كان من قَبِيلٍ من الملائكة يقال لهم : الجن ، قاله ابن عباس؛ وقد شرحنا هذا في [ البقرة : 34 ] .
قوله تعالى : { ففسق عن أمر ربه } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : خرج عن طاعة ربه ، تقول العرب : فسَقت الرُّطَبة من قشرها : إِذا خرجت منه ، قاله الفراء ، وابن قتيبة .
والثاني : أتاه الفسق لما أُمر فعصى ، فكان سبب فسقه عن أمر ربه ، قال الزجاج : وهذا مذهب الخليل وسيبويه ، وهو الحق عندنا .
والثالث : ففسق عن ردِّ أمر ربِّه ، حكاه الزجاج عن قطرب .
قوله تعالى : { أفتتخذونه وذُرّيَّته أولياء من دوني } [ أي ] : توالونهم بالاستجابة لهم؟! قال الحسن ، وقتادة : ذريته : أولاده ، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . قال مجاهد : ذريته : الشياطين ، ومن ذريته زَلَنْبُور صاحب راية إِبليس بكل سوق ، وثبْر ، وهو صاحب المصائب ، والأعور صاحب الرياء ، ومِسْوَط صاحب الأخبار يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس ، فلا يوجد لها أصل ، وداسم صاحب الإِنسان إِذا دخل بيته ولم يسلِّم ولم يذكر اسم الله ، فهو يأكل معه إِذا أكل .

قال بعض أهل العلم : إِذا كانت خطيئة الإِنسان في كِبْر فلا تَرْجُه ، وإِن كانت في شهوة فارجه ، فإن معصية إِبليس كانت بالكِبْر ، ومعصية آدم بالشهوة .
قوله تعالى : { بئس للظالمين بدلاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : بئس الاتخاذ للظالمين بدلاً .
والثاني : بئس الشيطان .
والثالث : بئس الشيطان والذرِّيَّة ، ذكرهنَّ ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ما أشهدتُهم خَلْق السموات والأرضِ } وقرأ أبو جعفر ، وشيبة : «ما أشهدناهم» بالنون والألف .
وفي المشار إِليهم أربعة أقوال .
أحدها : إِبليس وذريته .
والثاني : الملائكة .
والثالث : جميع الكفار .
والرابع : جميع الخلق؛ والمعنى : إِني لم أشاورهم في خلقهن؛ وفي هذا بيان للغَناء عن الأعوان ، وإِظهار كمال القدرة .
قوله تعالى : { ولا خَلْقَ أنفسهم } أي : ما أشهدت بعضَهم خَلْقَ بعض ، ولا استعنت ببعضهم على إِيجاد بعض .
قوله تعالى : { وما كنتُ مُتَّخذَ المضِلِّين } [ يعني : الشياطين ] { عَضُداً } أي : أنصاراً وأعواناً . والعَضُد يستعمل كثيراً في معنى العون ، لأنه قِوام [ اليد ] ، قال الزجاج : والاعتضاد : التقوِّي وطلب المعونة ، يقال : اعتضدت بفلان ، أي : استعنت به .
وفي ما نفى اتخاذهم عضداً فيه قولان .
أحدهما : أنه الولايات ، والمعنى : ما كنت لأولي المضلِّين ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه خَلْق السموات والأرض ، قاله مقاتل . وقرأ الحسن ، والجحدري ، وأبو جعفر : «وما كنتَ» بفتح التاء .

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

قوله تعالى : { ويوم يقول } وقرأ حمزة : «نقول» بالنون ، يعني : يوم القيامة { نادوا شركائيَ } أضاف الشركاء إِليه على زعمهم ، والمراد : نادوهم لدفع العذاب عنكم ، أو الشفاعة لكم ، { الذين زعمتم } أي : زعمتموهم شركاء { فَدَعَوْهم فلم يستجيبوا لهم } أي : لم يجيبوهم ، { وجعلنا بينهم } في المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم المشركون والشركاء .
والثاني : أهل الهدى وأهل الضلالة .
وفي معنى { مَوْبقاً } ستة أقوال .
أحدها : مَهْلِكاً ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك . وقال ابن قتيبة : مَهْلِكاً بينهم وبين آلهتهم في جهنم ، ومنه يقال : أَوبَقتْه ذنوبُه ، [ أي : أهلكتْه ] . قال الزجاج : [ المعنى ] : جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم ، أي : يهلكهم ، فالمَوْبق : المهلك ، يقال : وَبِق ، يَيْبَقُ ، ويابَق ، وبَقاً ، ووَبَق ، يَبِق ، وُبُوقاً ، فهو وابق؛ وقال الفراء : جعلنا تواصُلهم في الدنيا مَوْبِقاً ، أي : مَهْلِكاً لهم في الآخرة ، فالبَيْن ، على هذا القول ، بمعنى التواصل ، كقوله تعالى : { لقد تَقَطَّع بينُكم } [ الأنعام : 94 ] على قراءة من ضمن النون .
والثاني : أن المَوْبِق : وادٍ عميق يُفرَّق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى ، قاله عبد الله بن عمرو .
والثالث : أنه وادٍ في جهنم ، قاله أنس بن مالك ، ومجاهد .
والرابع : أن معنى المَوْبِق : العدواة ، قاله الحسن .
والخامس : أنه المَحْبِس ، قاله الربيع بن أنس .
والسادس : أنه المَوْعِد ، قاله أبو عبيدة .
قال ابن الأنباري : إِن قيل : لم قال : «مَوْبِقاً» ولم يقل : «مُوبِقاً» ، بضم الميم ، إِذ كان معناه عذاباً مُوبقاً؟
فالجواب : أنه اسم موضوع لمَحْبِس في النار ، والأسماء لا تؤخذ بالقياس ، فيُعلم أن «مَوْبِقاً» : مَفْعِل ، من أوبقه الله : إِذا أهلكه ، فتنفتح الميم ، كما تنفتح في «مَوْعِد» و«مَوْلِد» و«مَحْتِد» إِذا سمّيت الشخوص بهنَّ .
قوله تعالى : { ورأى المجرمون النار } أي : عاينوها وهي تتغيَّظ حنقاً عليهم . والمراد بالمجرمين : الكفار . { فَظَنُّوا } أي : أيقنوا { أنهم مُواقِعُوها } أي : داخلوها . ومعنى المواقعة : ملابسة الشيء بشدَّة { ولم يجدوا عنها مَصْرِفا } أي : مَعْدِلاً؛ والمَصْرِف : الموضع الذي يُصْرَف إِليه ، وذلك أنها أحاطت بهم من كل جانب ، فلم يقدروا على الهَرَب .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)

قوله تعالى : { ولقد صَرَّفْنا في هذا القرآن } قد فسرناه في [ بني إِسرائيل : 41 ] .
قوله تعالى : { وكان الإِنسان أكثر شيء جدلاً } فيمن نزلت قولان .
أحدهما : أنه النَّضْر بن الحارث ، وكان جِداله في القرآن ، قاله ابن عباس .
والثاني : أُبيّ بن خلف ، وكان جِداله في البعث حين أتى بعظم قد رَمَّ ، فقال : أيقدر الله على إِعادة هذا؟! قاله ابن السائب . قال الزجاج : كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل ، والإِنسان أكثر هذه الأشياء جدلاً .
قوله تعالى : { وما منع الناسَ أن يؤمنوا } قال المفسرون : يعني : أهل مكة { إِذ جاءهم الهدى } وهو : محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، والإِسلام { إِلا أن تأتيَهم سُنَّةُ الأوَّلِين } وهو : أنهم إِذا لم يؤمنوا عذِّبوا .
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : ما منعهم من الإيمان إِلا طلب أن تأتيهم سُنَّة الأولين ، قاله الزجاج .
والثاني : وما منع الشيطانُ الناس أن يؤمنوا إِلا لأَن تأتيهم سُنَّة الأولين ، أي : منعهم رُشْدَهُم لكي يقع العذاب بهم ، ذكره ابن الأنباري .
والثالث : ما منعهم إِلا أنِّي قد قدَّرت عليهم العذاب . وهذه الآية فيمن قُتل ببدر وأُحُد من المشركين ، قاله الواحدي .
قوله تعالى : { أو يأتيَهم العذاب } ذكر ابن الأنباري في «أو» [ هاهنا ] ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها بمعنى الواو .
والثاني : أنها لوقوع أحد الشيئين ، إِذ لا فائدة في بيانه .
والثالث أنها دخلت للتبعيض ، أي : أن بعضهم يقع به هذا ، وهذه الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله عز وجل : { أو كصيِّب من السماء } [ البقرة : 19 ] .
قوله تعالى : { قُبُلاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «قُبُلاً» بضم القاف والباء . وقد بيَّنّا عِلَّة القراءتين في [ الأنعام : 111 ] . وقرأ أُبيّ ابن كعب ، وابن مسْعود : «قَبِيلاً» بوزن فَعِيل . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو المتوكل «قَبَلاً» بفتح القاف من غير ياء ، قال ابن قتيبة : أراد استئنافاً .
فإن قيل : إِذا كان المراد بسُنَّة الأولين العذاب ، فما فائدة التكرار بقوله : { أو يأتيَهم العذاب } ؟
فالجواب : أن سُنَّة الأولين أفادت عذاباً مبهماً يمكن أن يتراخى وقته ، وتختلف أنواعه ، وإِتيان العذاب قُبُلاً أفاد القتل يوم بدر . قال مقاتل : «سُنَّة الأولين» : عذاب الأمم السالفة؛ «أو يأتيَهم العذاب قِبَلاً» ، أي : عِياناً قتلاً بالسيف يوم بدر .

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

قوله تعالى : { ويجادل الذين كفروا بالباطل } قال ابن عباس : يريد : المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم . وجدالُهم بالباطل : أنهم ألزموه أن يأتيَ بالآيات على أهوائهم { ليُدْحِضُوا به الحق } أي : ليُبْطِلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : جدالُهم : قولُهم : { أإِذا كُنّا عظاماً ورُفاتاً } [ الإسراء 49 ] ، { أإِذا ضللنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] ، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذِكْر البعث والجزاء . قال أبو عبيدة : ومعنى «ليُدْحِضوا» : ليُزِيلوا ويذهبوا ، يقال : مكان دَحْض ، أي : مَزَلٌّ لا يثبت فيه قدم ولا حافر .
قوله تعالى : { واتَّخَذُوا آياتي } يعني القرآن . { وما أُنْذِروا } أي : خُوِّفوا به من النار والقيامة { هُزُواً } أي : مهزوءاً به .
قوله تعالى : { ومن أظلم } قد شرحنا هذه الكلمة في [ البقرة : 114 ] . و { ذُكِّر } بمعنى : وُعِظ . وآياتُ ربِّه : القرآن ، وإِعراضُه عنها : تهاونُه بها . { ونسي ما قدَّمت يداه } أي : ما سلف من ذنوبه؛ وقد شرحنا ما بعد هذا في [ الأنعام : 21 ] إِلى قوله : { وإِن تدعُهم إِلى الهُدى } وهو : الإِيمان والقرآن { فلن يهتدوا } هذا إِخبار عن عِلْمه فيهم .
قوله تعالى : { وربُّك الغفور ذو الرحمة } إِذ لم يعاجلهم بالعقوبة . { بل لهم موعد } للبعث والجزاء { لن يجدوا من دونه موئلا } قال الفراء : الموئل : المنجى ، وهو الملجأ في المعنى ، لأن المنجى ملجأٌ . والعرب تقول : إِنه لَيُوائل إِلى موضعه ، أي : يذهب إِلى موضعه ، قال الشاعر :
لاوَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَها ... للعامِرِيّيْن ، وَلمْ تُكْلَمِ
يريد : لا نجت نفسك ، وأنشد أبو عبيدة للأعشى :
وَقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ ... وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَايَئِلُ
أي : ما ينجو . وقال ابن قتيبة : الموئل : الملجِأ . يقال : وأل فلان إِلى كذا : إِذا لجأ .
فإن قيل : ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله ، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته .
فعنه جوابان .
أحدهما : [ أن ] الرحمة هاهنا بمعنى النعمة ، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر . فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى ، فليس للكافر فيها نصيب .
والثاني : أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة ، فأما في الدنيا ، فإنهم ينالون منها العافية والرزق .
قوله تعالى : { وتلك القرى } يريد : التي قصصنا عليكَ ذِكْرها ، والمراد : أهلها ، ولذلك قال : { أهلكناهم } والمراد : قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب . قال الفراء : قوله : { لَمّا ظَلَموا } معناه : بعدما ظَلَموا .
قوله تعالى : { وجعلنا لمهلكهم } قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام؛ قال الزجاج : وفيه وجهان .
أحدهما : أن يكون مصدراً ، فيكون المعنى : وجعلنا لإِهلاكهم .
والثاني : أن يكون وقتاً ، فالمعنى : لوقت هلاكهم .
وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام ، وهو مصدر مثل الهلاك . وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام ، ومعناه : لوقت إِهلاكهم .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

قوله تعالى : { وإِذ قال موسى لفتاه . . . } ، الآية ، سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر ، ما روى ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِن موسى قام خطيباً في بني إِسرائيل ، فسئل : أي الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عز وجل عليه إِذ لم يَرُدَّ العِلْم إِليه ، فأوحى الله إِليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك؛ قال موسى : يا رب فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مِكتل ، فحيثما فقَدتَ الحوت فهو ثَمَّ . فانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، حتى إِذا أتيا الصخرة ، وضعا رؤؤسهما فناما ، واضطرب الحوت في المِكْتَل فخرج منه فسقط في البحر ، فاتخذ سبيله في البحر سَرَباً ، وأمسك الله عن الحوت جِرْيَةَ الماء ، فصار عليه مثل الطاق . فلما استيقظ نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إِذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نَصَباً ، قال : ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ، فقال فتاه : { أرأيت إِذ أوينا إِلى الصخرة . . . } إِلى قوله : { عجبا } ، قال : فكان للحوت سَرَباً ، ولموسى ولفتاه عجباً ، فقال موسى : { ذلك ما كنا نبغي ، فارتدا على آثارهما قصصاً } قال : رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إِلى الصخرة ، فاذا هو مسجَّىً بثوب ، فسلَّم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام! مَنْ أنت؟ قال : أنا موسى ، قال موسى : بني إِسرائيل؟ قال : نعم أتيتك لتعلِّمني مما علِّمت رُشْداً ، قال : إِنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى ، إِني على عِلْم مِنْ عِلْم الله لا تعلمُه علَّمَنِيه ، وأنت على عِلْم من عِلْم الله علَّمَكهُ لا أعلمه؛ فقال موسى : ستجدني إِن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً؛ فقال له الخضر : فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أُحْدِث لك منه ذِكْراً ، فانطلقا يمشيان على الساحل ، فمرَّت سفينة فكلَّموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نَوْلٍ؛ فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إِلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقَدوم ، فقال له موسى : قوم قد حملونا بغير نَوْل عمدتَ إِلى سفينتهم { فخرقتها لتُغْرِقَ أهلها . . . } إِلى قوله : { عُسْراً } ؟! قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كانت الأُولى من موسى نسياناً» ، وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، فقال له الخضر : ما عِلْمي وعِلْمك من عِلم الله تعالى إِلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، إِذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله ، فقال له موسى : { أقتلت نفساً زكية } إِلى قوله : { يريد أن ينقضَّ } فقال الخضر بيده [ هكذا ] ، فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ، ولم يضيِّفونا { لو شئتَ لاتَّخذتَ عليه أجراً } ! { قال هذا فراق بيني وبينك . . . } الآية "

هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» ، وقد ذكرنا إِسناده في كتاب «الحدائق» فآثرنا الاختصار هاهنا .
فأما التفسير ، فقوله تعالى : { وإِذ قال موسى } المعنى : واذكر ذلك . وفي موسى قولان .
أحدهما : أنه موسى بن عمران ، قاله الأكثرون . ويدل عليه ما روي في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إِن نَوْفاً البِكاليّ يزعم أن موسى بني إِسرائيل هو موسى صاحب الخضر ، قال : كذب عدو الله ، أخبرني أُبيّ بن كعب . . . فذكر الحديث الذي قدمناه آنفاً .
والثاني : أنه موسى بن ميشا ، قاله ابن إِسحاق ، وليس بشيء ، للحديث الصحيح الذي ذكرناه . فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف . وإِنما سمي فتاه ، لأنه كان يلازمه ، ويأخذ عنه العلم ، ويخدمه .
ومعنى { لا أبرح } : لا أزال . وليس المراد به : لا أزول ، لأنه إِذا لم يُزل لم يقطع أرضاً ، فهو مثل قولك : ما برحت أناظر عبد الله ، أي : ما زلت ، قال الشاعر :
إِذا أنتَ لم تبرحْ تؤدِّي أمانَةً ... وتحملُ أخرى أفرحتْك الودائعُ
أي : أثقلتك ، والمعنى : لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ، أي : ملتقاهما ، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخَضِر فيه ، قال قتادة : بحر فارس ، وبحر الروم ، فبحر الروم نحو المغرب ، وبحر فارس نحو المشرق .
وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان .
أحدهما : إِفريقية ، قاله أُبيّ بن كعب .
والثاني : طنجة ، قاله محمد بن كعب القرظي .
قوله تعالى : { أو أمضيَ حُقُباً } وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وأبو مجلز ، وقتادة ، والجحدري ، وابن يعمر : «حُقْباً» بإسكان الكاف . قال ابن قتيبة : الحُقُب : الدَّهر ، والحِقَب : السِّنون ، واحدتها حِقْبة ، ويقال : حُقْبٌ وحُقُب ، كما يقال : قُفْل وقُفُل ، وهُزْؤ وهُزُؤ ، وكُفْؤ وكُفُؤ ، وأُكْل وأُكُل ، وسُحْت وسُحُت ، ورُعْب ورُعُب ، ونُكْر ونُكُر ، وأُذْن وأُذُن ، وسُحْق وسُحُق ، وبُعْد وبُعُد ، وشُغْل وشُغُل ، وثُلْث وثُلُث ، وعُذْر وعُذُر ، ونُذْر ونُذُر ، وعُمْر وعُمُرُ .
وللمفسرين في المراد بالحُقُب هاهنا ثمانية أقوال .
أحدها : أنه الدَّهر ، قاله ابن عباس .
والثاني : ثمانون سنة ، قاله عبد الله بن عمرو ، وأبو هريرة .
والثالث : سبعون ألف سنة ، قاله الحسن .
والرابع : سبعون سنة ، قاله مجاهد .
والخامس : سبعة عشر ألف سنة ، قاله مقاتل بن حيان .
والسادس : أنه ثمانون ألف سنة ، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا .
والسابع : أنه سنة بلغة قيس ، ذكرهما الفراء .
والثامن : الحُقُب عند العرب وقت غير محدود ، قاله أبو عبيدة . ومعنى الكلام : لا أزال أَسيرُ ، ولو احتجت أن أسير حُقُباً .
قوله تعالى : { فلما بلغا } يعني : موسى وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِما } يعني : البحرين { نسيا حوتهما } وكانا قد تزوَّدا حوتاً مالحاً في زَبيل فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء ، فلما انتهيا إِلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتلَ ، فأصاب الحوتَ بللُ البحر .

وقيل : توضأ يوشع من عين الحياة فانتضخ على الحوت الماءُ ، فعاش ، فتحرك في المِكْتَل ، فانسرب في البحر ، وقد كان قيل لموسى : تزوَّدْ حوتاً مالحاً ، فاذا فقَدته وجدتَ الرجل . وكان موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة ، فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي . وإِنما قيل : «نسيا حوتهما» توسعاً في الكلام ، لأنهما جميعاً تزوَّداه ، كما يقال : نسي القوم زادهم ، وإِنما نسيه أحدهم . قال الفراء : ومثله قوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] ، وإِنما يخرج ذلك من الملح ، لا من العذب . وقيل : نسي يوشع أن يحمل الحوت ، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء ، فلذلك أُضيف النسيان إِليهما .
قوله تعالى : { فاتخذ سبيله في البحر سرباً } أي : مسلكاً ومذهباً . قال ابن عباس : جعل الحوت لا يمسُّ شيئاً من البحر إِلا يبس حتى يكون صخرة . وقال قتادة : جعل لا يسلك طريقاً إِلا صار الماء جامداً . وقد ذكرنا في حديث أُبيّ بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت .
قوله تعالى : { فلما جاوزا } ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت ، أصابهما ما يصيب المسافر من النَّصَب ، فدعا موسى بالطعام ، فقال : { آتنا غداءنا } وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة . والنَّصَب : الإِعياءِ . وهذا يدل على إِباحة إِظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإِنسانَ من الأذى والتعب ، ولا يكون ذلك شكوى . { قال } يوشع لموسى { أرأيتَ إِذ أوينا إِلى الصخرة } أي : حين نزلنا هناك { فإني نسيتُ الحوت } فيه قولان .
أحدهما : نسيتُ أن أخبرك خبر الحوت .
والثاني : نسيت حمل الحوت .
قوله تعالى : { وما أنسانيه } قرأ الكسائي : «أنسانيه» باماله السين [ مع كسر الهاء ] . وقرأ ابن كثير : «أنسانيهي» بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء . وروى حفص عن عاصم : «أنسانيهُ إِلا» بضم الهاء [ في الوصل ] .
قوله تعالى : { واتخذ سبيله في البحر عجباً } الهاء في السبيل ترجع إِلى الحوت . وفي المُتَّخِذ قولان .
أحدهما : أنه الحوت ، ثم في المخبر عنه قولان .
أحدهما : أنه الله عز وجل ، ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : فاتخذ سبيله في البحر يُري عجباً ، ويُحدث عجباً .
والثاني : أنه لما قال الله تعالى : { واتخذ سبيله في البحر } ، قال : اعجبوا لذلك عجباً ، وتنَّبهوا لهذه الآية .
والثالث : أن إِخبار الله تعالى انقطع عند قوله : «في البحر» فقال موسى : عجباً ، لِما شوهد من الحوت . ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .
والثاني : [ أن ] المُخْبِر عن الحوت يوشع ، وصف لموسى ما فعل الحوت .
والقول الثاني : أن المتخِذ موسى ، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجباً ، فدخل في المكان الذي مَرَّ فيه الحوت ، فرأى الخَضِر . وروى عطية عن ابن عباس قال : رجع موسى إِلى الصخرة فوجد الحوت ، فجعل الحوت يضرب في البحر ، ويتبعه موسى ، حتى انتهى به إِلى جزيرة من جزائر البحر ، فلقي الخضر .

قوله تعالى : { قال } يعني : موسى { ذلك ما كُنَّا نبغي } أي : ذلك الذي نطلب من العلامة الدَّالة على مطلوبنا . قرأ ابن كثير : «نبغي» بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بحذف الياء في الحالين .
قوله تعالى : { فارتدا على آثارهما } قال الزجاج : أي : رجعا في الطريق الذي سلكاه ، يقصَّان الأثر والقَصَص : اتِّباع الأثر .
قوله تعالى : { فوجدا عبداً من عبادنا } يعني الخضر .
وفي اسمه أربعة أقوال .
أحدها : اليسع ، قاله وهب ، ومقاتل .
والثاني : الخَضِر بن عاميا .
والثالث : أرميا بن حلفيا ، ذكرهما ابن المنادي .
والرابع : بليا بن ملكان ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
فأما تسميته بالخضر ، ففيه قولان .
أحدهما : أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرَّت ، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفروة : الأرض اليابسة .
والثاني : أنه كان إِذا جلس اخضرَّ ما حوله ، قاله عكرمة . وقال مجاهد : كان إِذا صلى اخضرَّ ما حوله . وهل كان الخضر نبياً ، أم لا؟ فيه قولان ، ذكرهما أبو بكر بن الأنباري ، وقال : كثير من الناس يذهب إِلى أنه كان نبيّاً ، وبعضهم يقول : كان عبداً صالحاً . واختلف العلماء هل هو باقٍ إِلى يومنا هذا ، على قولين حكاهما الماوردي ، وكان الحسن يذهب إِلى أنه مات ، وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول ، ويقبِّح قول من يرى بقاءه ، ويقول : لا يثبت حديث في بقائه . وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن إِسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإِلياس : هل هما في الأحياء؟ فقال : كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد؟! " . قوله تعالى : { آتيناه رحمة من عندنا } في هذه الرحمة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها النبوَّة ، قاله مقاتل .
والثاني : الرِّقة والحُنُوُّ على من يستحقه ، ذكره ابن الأنباري .
والثالث : النِّعمة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { وعلَّمناه من لدنا } أي : من عندنا { علماً } قال ابن عباس : أعطاه عِلْماً من عِلْم الغيب .

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)

قوله تعالى : { أن تعلِّمني } قرأ ابن كثير : «تعلمني مما» بإثبات الياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر ، وعاصم بحذف الياء في الحالين .
قوله تعالى : { مما عُلِّمْتَ رشداً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «رُشداً» بضم الراء ، [ وَإسكان الشين ] خفيفة . وقرأ أبو عمرو : «رَشَداً» بفتح الراء والشين . وعن ابن عامر بضمهما . والرُّشْد ، والرَّشَد : لغتان ، كالنُّخْل والنَّخَل ، والعُجْم والعَجَم ، والعُرْب والعَرَب ، والمعنى : أن تعلمني عِلْماً ذا رشد . وهذه القصة قد حرَّضت على الرحلة في طلب العلم ، واتِّباع المفضول للفاضل طلباً للفضل ، وحثَّت على الأدب والتواضع للمصحوب .
قوله تعالى : { إِنك لن تستطيع معي صبراً } قال ابن عباس : لن تصبر على صنعي ، لأني علمت من غيب علم ربي .
وفي هذا الصبر وجهان .
أحدهما : على الإِنكار .
والثاني : عن السؤال .
قوله تعالى : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبْراً } الخُبْر : عِلْمك بالشيء؛ والمعنى : كيف تصبر على أمر ظاهره مُنْكر ، وأنت لا تعلم باطنه؟!
قوله تعالى : { ستجدني إِن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً } قال ابن الأنباري : نفي العصيان منسوق على الصبر . والمعنى : ستجدني صابراً ولا أعصي إِن شاء الله .

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

قوله تعالى : { فلا تسألني } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «فلا تسألْني» ساكنة اللام . وقرأ نافع : «فلا تسأَلَنِّي» مفتوحة اللام مشددة النون . وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني : «فلا تسألَنِّ عن شيء» بتحريك اللام من غير ياء ، والنون مكسورة . والمعنى : لا تسألني عن شيء مما أفعله { حتى أحدث لك منه ذِكْراً } أي : حتى أكون أنا الذي أُبيِّنه لك ، لأن عِلْمه قد غاب عنك .
قوله تعالى : { خرقها } أي : شقَّها . قال المفسرون : قلع منها لوحاً ، وقيل : لوحين مما يلي الماء ، فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه ما فعل بقوله : { أخرقتَها لتُغرق أهلَها } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «لتُغرِق» بالتاء «أهلَها» بالنصب . وقرأ حمزة والكسائي : «ليَغرَق» بالياء «أهلُها» برفع اللام . { لقد جئتَ شيئاً إِمراً } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : منكراً ، قاله مجاهد . وقال الزجاج : عظيماً من المنكر .
والثاني : عجباً ، قاله قتادة ، وابن قتيبة .
والثالث : داهية ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { لا تؤاخذني بما نسيتُ } في هذا النسيان ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه على حقيقته ، وأنه نسي ، روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الأولى كانت نسياناً من موسى» " . والثاني : أنه لم ينس ، ولكنه من معاريض الكلام ، قاله أُبيّ بن كعب ، وابن عباس .
والثالث : أنه بمعنى التَّرك ، فالمعنى : لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ولا تُرهقني } قال الفراء : لا تُعجلني . وقال أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج : لا تُغْشِني . قال أبو زيد : يقال : أرهقتُه عسراً : إِذا كلفتَه ذلك . قال الزجاج : والمعنى : عاملني باليُسْرِ ، لا بالعُسْرِ . قوله تعالى : { فانطلقَا } يعني : موسى والخضر . قال الماوردي : يحتمل أن يوشع تأخر عنهما ، لأن الإِخبار عن اثنين ، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تَبَعٌ لموسى ، فاقتصر على حكم المتبوع .
قوله تعالى : { حتى إِذا لقيا غلاماً } اختلفوا في هذا الغلام هل كان بالغاً ، أم لا؟ على قولين .
أحدهما : أنه لم يكن بالغاً ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والأكثرون .
والثاني : أنه كان شابّاً قد قبض على لحيته ، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضاً ، واحتج بأن غير البالغ لم يَجْرِ عليه قلم ، فلم يستحق القتل . وقد يُسمَّى الرجلُ غلاماً ، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج :
[ شَفَاها من الدَّاءِ العُضَالِ الذي بها ] ... غُلامٌ إِذا هزّ القناةَ سقاها
وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اقتلع رأسه ، وقد ذكرناه في حديث أُبَيٍّ .
والثاني : كسر عنقه ، قاله ابن عباس .
والثالث : أضجعة وذبحه بالسكين ، قاله سعيد بن جبير .
قوله تعالى : { أقتلت نفساً زاكية } قرأ الكوفيون ، وابن عامر : «زكيَّة» بغير ألف ، والياء مشددة .

وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد . قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ، وهما بمنزلة القاسية ، والقَسيّة .
وللمفسرين فيها ستة أقوال .
أحدها : أنها التائبة ، روي عن ابن عباس أنه قال : الزكية : التائبة ، [ وبه ] قال الضحاك .
والثاني : أنها المسلمة ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا ، قاله سعيد بن جبير .
والرابع : أنها الزكية النامية ، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري : القويمة في تركيبها .
والخامس : أن الزكية : المطهرة ، قاله أبو عبيدة .
والسادس : أن الزكية : البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها ، قاله الزجاج .
وقد فَرَّق بعضهم بين الزاكية ، والزكيَّة ، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : الزاكية : التي لم تذنب قطُّ ، والزكية : التي أذنبت ثم تابت . وروي عن أبي عبيدة أنه قال : الزاكية في البدن ، والزكية في الدِّين .
قوله تعالى : { بغير نفس } أي : بغير قتل نفس { لقد جئت شيئاً نكراً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «نكْراً» خفيفة في كل القرآن ، إِلا قوله { إِلى شيءٍ نُكُر } [ القمر : 6 ] ، وخفف ابن كثير أيضاً «إِلى شيء نُكْر» . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «نُكُراً» و«إِلى شيء نُكْر» . مثقل . والمخفف إِنما هو من المثقل ، كالعُنْق ، والعُنُق ، والنُكْر ، والنُكُر . قال الزجاج : والمعنى : لقد أتيت شيئاً نكراً . ويجوز أن يكون معناه : جئت بشيء نكر ، فلما حذف الباء ، أفضى الفعل فنصب نكراً ، و«نكراً» أقل منكراً من قوله : «إِمراً» لأن تغريق مَنْ في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة .
قوله تعالى : { قال ألم أقل لك } .
إِن قيل : لم ذكر «لك» هاهنا ، واختزله من الموضع الذي قبله؟
فالجواب : أن إِثباته للتوكيد ، واختزاله لوضوح المعنى ، وكلاهما معروف عند الفصحاء . تقول العرب : قد قلت لك : اتق الله . وقد قلت لك : يا فلان اتق الله ، وأنشد ثعلب :
قد كنتُ حَذَّرْتُكَ آلَ المصْطَلِقْ ... وقلتُ : يا هَذا أَطِعْنِي وَانْطَلِقْ
فقوله : يا هذا ، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه . وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول : وقَّره في الأول ، فلم يواجهه بكاف الخطاب ، فلما خالف في الثاني ، واجهه بها .
قوله تعالى : { إِن سألتك عن شيء } أي : سؤال توبيخ وإِنكار { بعدها } أي : بعد هذه المسألة { فلا تصاحبني } وقرأ كذلك معاذ القارىء ، وأبو نهيك ، وأبو المتوكل ، والأعرج ، إِلا أنهم شدَّدوا النون . قال الزجاج : ومعناه : إِن طلبتُ صحبتك فلا تُتَابعني على ذلك . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : «فلا تَصحبني» بفتح التاء من غير ألف . وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، والأعمش كذلك ، إِلا أنهم شددوا النون . وقرأ أبو رجاء ، وأبو عثمان النهدي ، والنخعي ، والجحدري : «تُصْحِبْني» بضم التاء ، وكسر الحاء ، وسكون الصاد والباء . قال الزجاج : فيهما وجهان .
أحدهما : لا تتابعني في شيء ألتمسه منك . يقال : قد أصحب المهر : إِذا انقاد .
والثاني : لا تصحبني علماً من علمك .

{ قد بلغت من لدني } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «من لدنِّي» مثقل . وقرأ نافع : «من لدُني» بضم الدال مع تخفيف النون . وروى أبو بكر عن عاصم : «من لَدْني» بفتح اللام مع تسكين الدال . وفي رواية أخرى عن عاصم : «لُدْني» بضم اللام وتسكين الدال . قال الزجاج : وأجودها تشديد النون ، لأن أصل «لدن» الإِسكان ، فاذا أضفتها إِلى نفسك زدت نوناً ، ليسلم سكون النون الأولى ، تقول : من لدن زيد ، فتسكِّن النون ثم تضيف إِلى نفسك ، فتقول : من لدنِّي ، كما تقول : عن زيد وعنِّي . فأما إِسكان دال «لَدْني» فإنهم أسكنوها ، كما تقول في عضُد : عَضْد ، فيحذفون الضم . قال ابن عباس : يريد : إِنك قد أُعذرت فيما بيني وبينك ، يعني : أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبراً .
قوله تعالى : { فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قرية } فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها أنطاكية ، قاله ابن عباس .
والثاني : الأُبُلَّة ، قاله ابن سيرين .
والثالث : باحروان ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { استطعما أهلها } أي : سألاهم الضيافة { فأبَوْا أن يضيِّفوهما } روى المفضل عن عاصم : «يُضيفوهما» بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية . وقرأ أبو الجوزاء كذلك ، إِلا أنه فتح الياء [ الأولى ] . وقرأ الباقون : «يضيِّفوهما» بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها . قال أبو عبيدة : ومعنى يضيِّفوهما : ينزلوهما منزل الأضياف ، يقال : ضِفت أنا ، وأضافني الذي يُنزلني . وقال الزجاج : يقال : ضِفتُ الرجل : إِذا نزلتَ عليه ، وأضفته : إِذا أنزلته وَقَرَيْتَهُ . وقال ابن قتيبة : [ يقال ] : ضيفت الرجل : إِذا أنزلتَه منزلة الأضياف ، ومنه هذه الآية ، وأضفته : أنزلته ، وضِفته : نزلت عليه . وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " «كانوا أهل قرية لئاماً» " . قوله تعالى : { فوجدا فيها جداراً } أي : حائطاً . قال ابن فارس : وجمعه جُدُر ، والجَدْر : أصل الحائط . ومنه حديث الزبير : " ثم دع الماء يرجع إِلى الجَدْر " ، والجيدر : القصير .
قوله تعالى : { يريد أن ينقضَّ } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو رجاء : «ينقاض» بألف ممدودة ، وضاد معجمة؛ وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، وأبو عثمان النهدي : «ينقاص» بألف ومدة وصاد غير معجمة ، وكلُّه بلا تشديد . قال الزجاج : فمعنى : ينقضَّ : يسقط بسرعة ، وينقاص ، غير معجمة : ينشق طولاً ، يقال : انقاصت سِنُّه : إِذا انشقَّت . قال ابن مقسم : انقاصت سِنُّه ، وانقاضت بالصاد ، والضاد على معنى واحد .
فإن قيل : كيف نسبت الإِرادة إِلى ما لا يعقل؟
فالجواب : أن هذا على وجه المجاز تشبيهاً بمن يعقل ، ويريد : لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين ، فوصف بالإِرادة إِذ كانت الصورتان واحدة ، وقد أضافت العرب الأفعال إِلى مالا يعقل تجوُّزاً ، قال الله عز وجل : { ولما سكت عن موسى الغضبُ } [ الأعراف : 154 ] ، والغضب لا يسكت ، وإِنما يسكت صاحبه ، وقال :

{ فإذا عزم الأمر } [ محمد : 21 ] ، وأنشدوا من ذلك :
إِنَّ دهْراً يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ ... لَزَمَانٌ يَهُمُّ بالإِحْسانِ
وقال آخر :
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ ... وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عقيلِ
وقال آخر :
ضحكوا والدهرُ عنهم سَاكتٌ ... ثم أبكاهم دماً لمَّا نَطَقْ
وقال آخر :
يشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... [ صَبْراً جَمِيلاً فَكِلانا مُبْتَلَى ]
وهذا كثير في أشعارهم .
قوله تعالى : { فأقامه } أي : سوّاه ، لأنه وجده مائلاً .
وفي كيفية ما فعل قولان . أحدهما : أنه دفعه بيده فقام . والثاني : هدمه ثم قعد يبنيه ، روي القولان عن ابن عباس .
قوله تعالى : { لو شئتَ لَتَخِذْتَ عليه أجراً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «لَتَخِذْتَ» بكسرالخاء ، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال ، وابن كثير يظهرها . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «لاتَّخَذْتَ» وكلُّهم أدغموا ، إِلا حفصاً عن عاصم ، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير . قال الزجاج : يقال : تَخِذ يَتْخَذُ في معنى : اتَّخَذَ يتَّخِذُ . وإنما قال له هذا ، لأنهم لم يضيِّفوهما .
قوله تعالى : { قال } يعني : الخضر { هذا } يعني : الإِنكار عَلَيَّ { فراق بيني وبينك } أي : هو المفرِّق بيننا . قال الزجاج : المعنى : هذا فراقُ بينِنا ، أي : فراق اتصالنا ، وكرر «بين» توكيداً ، ومثله في الكلام : أخزى اللهُ الكاذب مني ومنك . وقرأ أبو رزين ، وابن السميفع ، وأبو العالية ، وابن أبي عبلة : «هذا فِراقٌ» بالتنوين «بيني وبينَك» بنصب النون . قال ابن عباس : كان قول موسى في السفينة والغلام ، لربِّه ، وكان قوله في الجدار ، لنفسه ، لطلب شيء من الدنيا .

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

قوله تعالى : { فكانت لمساكين } في المراد بمسكنتهم قولان .
أحدهما : أنهم كانوا ضعفاءَ في أكسابهم .
والثاني : في أبدانهم . وقال كعب : كانت لعشرة إِخوة ، خمسةٍ زمْنى ، وخمسةٍ يعملون في البحر .
قوله تعالى : { فأردتُ أن أعيبَها } أي : أجعلها ذات عيب ، يعني بخرقها ، { وكان وراءهم } فيه قولان .
أحدهما : أمامهم ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن مسعود : «وكان أمامَهم مَلِك» .
والثاني : خلفهم؛ قال الزجاج : وهو أجود الوجهين . فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه ، ولم يعلموا بخبره ، فأعلم الله تعالى الخضرَ خَبَرَه . قوله تعالى { يأخذ كل سفينة غصباً } أي : كل سفينة صالحة . وفي قراءة أُبيِّ [ بن كعب ] : «كلَّ سفينة صحيحة» . قال الخضر : إِنما خرقتها ، لأن الملك إِذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلُها فانتفعوا بها .
قوله تعالى : { وأما الغلام } روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «وأما الغلام فكان كافراً» . وروى أُبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " «إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً ، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً " قال الربيع بن أنس : كان الغلام على الطريق لا يمرُّ به أحدٌ إِلا قتلَه أو غصبه ، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه . وقال ابن السائب : كان الغلام لصّاً ، فإذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل .
قوله تعالى : { فخشينا } في القائل لهذا قولان .
أحدهما : الله عز وجل . ثم في معنى الخشية المضافة إِليه قولان . أحدهما : أنها بمعنى : العلم . قال الفراء : معناه : فعلمنا . وقال ابن عقيل : المعنى : فعلنا فعل الخاشي .
والثاني : الكراهة ، قاله الأخفش ، والزجاج .
والثاني : أنه الخضر ، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم ، قاله ابن الأنباري . وقد استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله : { فأردنا أن يبدلهما ربهما } . قال الزجاج : المعنى : فأراد الله ، لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى . ومعنى { يرهقهما } : يحملهما على الرَّهَق ، وهو الجهل . قال أبو عبيدة : «يُرْهِقَهُما» : يغشِيَهما . قال سعيد بن جبير : خشينا أن يحملَهما حُبُّه على أن يدخلا في دينه . وقال الزجاج : فرحا به حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فرضي امروءٌ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره ، خير له من قضائه فيما يحب .
قوله تعالى : { فأردنا أن يبدلَهما ربهما } قرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم : «أن يُبْدِلَهُما» بالتخفيف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو بالتشديد .
قوله تعالى : { خيراً منه زكاةً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : ديناً ، قاله ابن عباس .
والثاني : عملاً ، قاله مقاتل .
والثالث : صلاحاً ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { وأقربَ رُحْماً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «رُحْماً» ساكنة الحاء ، وقرأ ابن عامر : «رُحُماً» مثقلة .

وعن أبي عمرو كالقراءتين . وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، وأبو رجاء : «رَحِماً» بفتح الراء ، وكسر الحاء .
وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : أوصل للرحم وأبَرّ للوالدين ، قاله ابن عباس ، وقتادة . وقال الزجاج : أقرب عطفاً ، وأمسّ بالقرابة . ومعنى الرُّحْم والرُّحُم في اللغة : العطف والرحمة ، قال الشاعر :
وكيف بظلم جَاريةٍ ... ومنها اللِّينُ والرُّحُم
والثاني : أقرب أن يُرحَما به ، قاله الفراء . وفيما بُدِّلا به قولان . أحدهما : جارية ، قاله الأكثرون . وروى عطاء عن ابن عباس ، قال : أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيّاً .
والثاني : غلام مسلم ، قاله ابن جريج .
قوله تعالى : { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } يعني : القريةَ المذكورة في قوله : { أتيا أهل قرية } ، قال مقاتل : واسمهما : أصرم ، وصريم .
قوله تعالى : { وكان تحته كنزٌ لهما } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان ذهباً وفضة ، رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن ، وعكرمة ، وقتادة : كان مالاً .
والثاني : أنه كان لوحاً من ذهب ، فيه مكتوب : عجباً لمن أيقن بالقدر ثم هو يَنْصَب ، عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجباً لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، عجباً لمن يوقن بالرزق كيف يتعب ، عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل ، عجباً لمن رأى الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إِليها ، أنا الله الذي لا إِله إِلا أنا ، محمد عبدي ورسولي ، وفي الشِّق الآخر : أنا الله لا إِله إِلا أنا وحدي لا شريك لي ، خلقتُ الخير والشَّر ، فطوبى لمن خلقتُه للخير وأجريتُه على يديه ، والويل لمن خلقتُه للشر وأجريتُه على يديه ، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن الأنباري : فسُمِّي كنزاً من جهة الذَّهب ، وجعل اسمه هو المغلَّب .
والثالث : كنز علم ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد : صُحُف فيها عِلْم ، وبه قال سعيد بن جبير ، والسدي . قال ابن الأنباري : فيكون المعنى على هذا القول : كان تحته مثل الكنز ، لأنه يُتعجَّل من نفعه أفضل مما يُنال من الأموال . قال الزجاج : والمعروف في اللغة : أن الكنز إِذا أُفرد ، فمعناه : المال المدفون المدَّخَر ، فاذا لم يكن المال ، قيل : عنده كنز علم ، وله كنز فهم ، والكنز هاهنا بالمال أشبه ، وجائز أن يكون الكنز كان مالاً ، مكتوب فيه علم ، على ما روي ، فهو مال وعِلْم عظيم .
قوله تعالى : { وكان أبوهما صالحاً } قال ابن عباس : حُفِظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاحاً . وقال جعفر بن محمد عليه السلام : كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء . وقال مقاتل : كان أبوهما ذا أمانة .
قوله تعالى : { فأراد ربُّك } قال ابن الأنباري : لما كان قوله : «فأردتُ» و«وأردنا» كل واحد منهما يصلح أن يكون خبراً عن الله عز وجل ، وعن الخضر ، أتبعهما بما يحصر الإِرادة عليه ، ويزيلها عن غيره ، ويكشف البُغية من اللفظتين الأولَيين . وإِنما قال : «فأردتُ» «فأردنا» «فأراد ربُّك» ، لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتِّفاقه مع تساوي المعاني ، لأنه أعذب على الألسن ، وأحسن موقعاً في الأسماع ، فيقول الرجل : قال لي فلان كذا ، وأنبأني بما كان ، وخبَّرني بما نال . فأما «الأَشُدُّ» فقد سبق ذكره في مواضع [ الأنعام : 152 ، ويوسف : 22 ، والإسراء : 34 ] ولو أن الخضر لم يُقِم الحائط لنُقض وأُخِذ ذلك الكنز قبل بلوغهما .
قوله تعالى : { رحمةً من ربك } أي : رحمهما الله بذلك . { وما فعلتُه عن أمري } قال قتادة : كان عبداً مأموراً .
فأما قوله { تَسْطِع } فإن «استطاع» و«اسطاع» بمعنى واحد .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)

قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين } قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } [ الإسراء : 85 ] .
واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال .
أحدها : عبد الله ، قاله علي عليه السلام ، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله بن الضحاك .
والثاني : الاسكندر ، قاله وهب .
والثالث : عيِّاش ، قاله محمد بن علي بن الحسين .
والرابع : الصعب بن جابر بن القلمس ، ذكره ابن أبي خيثمة .
وفي علَّة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال .
أحدها : أنه دعا قومه إِلى الله تعالى ، فضربوه على قرنه فهلك ، فغبر زماناً ، ثم بعثه الله ، فدعاهم إِلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك ، فذانك قرناه ، قاله علي عليه السلام .
والثاني : أنه سمي بذي القرنين ، لأنه سار إِلى مغرب الشمس وإِلى مطلعها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس .
والرابع : لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء إِلى الأرض وأخذ بقرني الشمس ، فقصَّ ذلك على قومه ، فسمِّي بذي القرنين .
والخامس : لأنه مَلَك الروم وفارس .
والسادس : لأنه كان في رأسه شبه القرنين ، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبِّه .
والسابع : لأنه كانت له غديرتان من شعر ، قاله الحسن . قال ابن الأنباري : والعرب تسمي الضفيرتين من الشعر غديرتين ، وجميرتين ، وقرنين؛ قال : ومن قال : سمي بذلك لأنه ملك فارس والروم ، قال : لأنهما عاليان على جانبين من الأرض يقال لهما : قرنان .
والثامن : لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف .
والتاسع : لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس ، وهو حيّ .
والعاشر : لأنه سلك الظلمة والنور ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إِسحاق الثعلبي .
واختلفوا هل كان نبيّاً ، أم لا؟ على قولين .
أحدهما : أنه كان نبيّاً ، قاله عبد الله بن عمرو ، والضحاك بن مزاحم .
والثاني : أنه كان عبداً صالحاً ، ولم يكن نبيّاً ، ولا مَلكاً ، قاله علي عليه السلام . وقال وهب : كان ملكاً ، ولم يوح إِليه .
وفي زمان كونه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه من القرون الأُوَل من ولد يافث بن نوح ، قاله علي عليه السلام .
والثاني : أنه كان بعد ثمود ، قاله الحسن . ويقال : كان عمره ألفاً وستمائة سنة .
والثالث : [ أنه ] كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، قاله وهب .
قوله تعالى : { سأتلوا عليكم منه ذِكْراً } أي : خبراً يتضمن ذِكْره . { إِنا مكَّنَّا له في الأرض } أي : سهَّلْنا عليه السَّير فيها . قال علي عليه السلام : إِنه أطاع الله ، فسخَّر له السحاب فحمله عليه ، ومَدَّ له في الأسباب ، وبسط له النُّور ، فكان الليل والنهار عليه سواء . وقال مجاهد : مَلَك الأرضَ أربعةٌ : مؤمنان ، وكافران؛ فالمؤمنان : سليمان بن دواد ، وذو القرنين؛ والكافران : النمرود ، وبختنصر .

قوله تعالى : { وآتيناه من كل شيء سبباً } قال ابن عباس : عِلْماً يتسبب به إِلى ما يريد . وقيل : هو العِلْم بالطُّرق والمسالك .
قوله تعالى : { فأتبع سبباً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «فاتَّبع سبباً» «ثم اتَّبع سبباً» «ثم اتَّبع سبباً» مشددات التاء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «فأتبع سبباً» «ثم أتبع سبباً» «ثم أتبع سبباً» مقطوعات . قال ابن الأنباري : من قرأ «فاتَّبع سبباً» فمعناه : قفا الأثر ، ومن قرأ «فأتبع» فمعناه : لحق؛ يقال : اتَّبَعَني فلان ، أي : تَبِعَني ، كما يقال : أَلْحَقَني فلان ، بمعنى لَحِقَني . وقال أبو علي : «أتبع» تقديره : أتبع سبباً سبباً ، فأتبع ما هو عليه سبباً ، والسبب : الطريق ، والمعنى : تبع طريقاً يؤدِّيه إِلى مَغْرِب الشمس . وكان إِذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشاً فسار بهم إِلى غيرهم .
قوله تعالى : { وجدها تغرب في عين حمئة } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن وعاصم : «حمئة» ، وهي قراءة [ ابن عباس . وقرأ ] ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «حامية» ، وهي قراءة عمرو ، وعلي ، وابن مسعود ، والزبير ، ومعاوية ، وأبي عبد الرحمن ، والحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، وقتادة ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، والأعمش ، كلُّهم لم يهمز . قال الزجاج : فمن قرأ : «حمئة» أراد في عَيْنٍ ذاتِ حَمْأَة . يقال : حَمَأْتُ البئر : إِذا أخرجتَ حَمْأتَها؛ وأَحْمَأْتُها : إِذا ألقيتَ فيها الحَمْأَة . [ وحمئت ] فهي حمئة : إِذا صارت فيها الحَمْأَة . ومن قرأ : «حامية» بغير همز ، أراد : حارّة . وقد تكون حارَّة ذاتَ حَمْأَة . وروى قتادة عن الحسن ، قال : وجدها تَغْرُب في ماءٍ يغلي كغليان القدور { ووجد عندها قَوْماً } لباسهم جلود السِّباع ، وليس لهم طعام إِلا ما أحرقت الشمس من الدوابّ إِذا غربت نحوها ، وما لفظت العين من الحيتان إِذا وقعت فيها الشمس . وقال ابن السائب : وجد عندها قوماً مؤمنين وكافرين ، يعني عند العين . وربما توهَّم متوهِّم أن هذه الشمس على عِظَم قدْرها تغوص بذاتها في عين ماءٍ ، وليس كذلك . فإنها أكبر من الدنيا مراراً ، فكيف تَسَعُها عين [ ماء؟! . وقيل : إِن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مَرَّة ، وقيل : بقدر الدنيا مائة وعشرين مَرَّة ، والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة ] . وإِنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طَرَفه أن الشمس تغيب في الماء ، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان فوجد عيناً حَمِئة ليس بعدها أحد .
قوله تعالى : { قلنا يا ذا القرنين } فمن قال : إِنه نبيّ ، قال : هذا القول وحي؛ ومن قال : ليس بنبي ، قال : هذا إِلهام .
قوله تعالى : { إِما أن تُعَذِّب } قال المفسرون : إِما أن تقتلَهم إِن أبَوْا ما تدعوهم إِليه ، وإِما أن تأسرهم ، فتبصِّرهم الرشد . { قال أمّا مَنْ ظَلَم } أي : أشرك { فسوف نُعَذِّبُه } بالقتل إِذا لم يرجع عن الشرك . وقال الحسن : كان يطبخهم في القدور { ثم يُرَدُّ إِلى ربِّه } بعد العذاب { فيعذبه عذاباً نُكْراً } بالنار .

قوله تعالى : { فله جزاءً الحسنى } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «جزاءُ الحسنى» برفع مضاف . قال الفراء : «الحسنى» : الجنة ، وأضيف الجزاءُ إِليها ، وهي الجزاء ، كقوله : { إِنه لَحَقُّ اليقين } [ الحاقة : 51 ] و { دينُ القيِّمة } [ البيِّنة : 5 ] و { ولدار الآخرة } [ النحل : 30 ] . قال أبو علي الفارسي : المعنى : فله جزاء الخلال الحسنى ، لأن الإِيمان والعمل الصالح خِلال . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ، ويعقوب : «جزاءً» بالنصب والتنوين؛ قال الزجاج : وهو مصدر منصوب على الحال ، المعنى : فله الحسنى مَجْزِيّاً بها جزاءًَ . وقال ابن الأنباري : وقد يكون الجزاء غير الحسنى إِذا تأوَّل الجزاء بأنه الثواب؛ والحسنى : الحسنة المكتسبة في الدنيا ، فيكون المعنى : فله ثواب ما قدَّم من الحسنات .
قوله تعالى : { وسنقول له من أمرنا يُسْراً } أي : نقول له قولاً جميلاً .

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

قوله تعالى : { ثم أَتْبَعَ سبباً } أي : طريقاً آخر يوصله إِلى المَشْرِق . قال قتادة : مضى يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إِلا من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوماً في أسرابٍ عراةً ، ليس لهم طعام إِلا ما أحرقت الشمس إِذا طلعت ، فإذا توسطت السماء خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم مما أحرقته الشمس . وبلغَنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان ، فيقال : إِنهم الزنج . قال الحسن : كانوا إِذا غربت الشمس خرجوا يتراعَون كما يتراعى الوحش . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، وابن محيصن : «مَطْلَع الشمس» بفتح اللام . قال ابن الأنباري : ولا خلاف بين أهل العربية في أن المَطْلِع ، والمَطْلَع كلاهما يعنى بهما المكانُ الذي تطلع منه الشمس . ويقولون : ما كان على فَعَل يَفْعُل ، فالمصدر واسم الموضع يأتيان على المَفْعَل ، كقولهم : المَدْخَل ، للدخول ، والموضِع الذي يُدخَل منه ، إِلا أحد عشر حرفاً جاءت مكسورة إِذا أريد بها المواضع ، وهي : المَطْلِع ، والمَسْكِن ، والمَنْسِك ، والمَشْرِق ، والمَغرِب ، والمَسْجِد ، والمَنْبِت ، والمَجْزِر ، والمَفْرِق ، والمَسْقِط ، والمَهْبِل ، الموضع الذي تضع فيه الناقة؛ وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفاً سُمع فيهن الكسر والفتح : المَطْلِع ، والمَطْلَع . والمَنْسِك ، والمَنْسَك . والمَجْزِر ، والمَجْزَر . والمَسْكِن ، والمَسْكَن . والمَنْبِت ، والمَنْبَت . فقرأ الحسن على الأصل من احتمال المَفْعل الوجهين الموصوفين [ بفتح العين وكسرها ] ، وقراءة العامة على اختيار العرب وما كثر على ألسنتها ، وخصت المَوْضِع بالكسر ، وآثرت المصدر بالفتح . قال أبو عمرو : المطلِع ، بالكسر : الموضع الذي تطلع فيه؛ والمطلَع ، بالفتح : الطُّلوع؛ قال ابن الأنباري : هذا هو الأصل ، ثم إِن العرب تتسع فتجعل الاسم نائباً عن المصدر ، فيقرؤون : { حتى مَطْلِع الفجر } [ القدر : 5 ] بالكسر وهم يعنون الطُّلوع؛ ويقرأ من قرأ { مَطْلَع الشمس } بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه .
قوله تعالى : { كذلك } فيه أربعة أقوال .
أحدها : كما بلغ مَغْرِب الشمس بلغ مطلعها .
والثاني : أتبع سبباً كما أتبع سبباً .
والثالث : كما وجد أولئك عند مَغْرِب الشمس وحكم فيهم ، كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها وحكم فيهم .
والرابع : أن المعنى : كذلك أمْرُهم كما قصصنا عليك؛ ثم استأنف فقال : { وقد أحطنا بما لديه } أي : بما عنده ومعه من الجيوش والعدد . وحكى أبو سليمان الدمشقي : «بما لديه» أي : بما عند مطلع الشمس . وقد سبق معنى الخُبْر [ الكهف : 68 ] .

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

قوله تعالى : { ثم أتبع سبباً } أي : طريقاً ثالثاً بين المَشْرِق والمَغْرِب { حتى إِذا بلغ بين السدين } قال وهب بن منبه : هما جبلان منيفان في السماء ، من ورائهما البحر ، ومن أمامهما البلدان ، وهما بمنقطَع أرض التُّرك مما يلي بلاد أرمينية . وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : الجبلان من قِبَل أرمينية وأذربيجان . واختلف القراء في «السدّين» فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم بفتح السين . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي بضمها .
وهل المعنى واحد ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدها : أنه واحد . قال ابن الأعرابي : كل ما قابلك فسَدَّ ما وراءه ، فهو سَدٌّ ، وسُدٌّ ، نحو : الضَّعف والضُّعف ، والفَقر والفُقر . قال الكسائي ، وثعلب : السَّد والسُّد لغتان بمعنى واحد ، وهذا مذهب الزجاج .
والثاني : أنهما يختلفان .
وفي الفرق بينهما قولان .
أحدهما : أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم ، وما هو من فعل الآدميين فهو مفتوح ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وأبو عبيدة . قال الفراء : وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين .
والثاني : أن السَّد ، بفتح السين : الحاجز بين الشيئين ، والسُدُّ ، بضمها : الغشاوة في العَيْن ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
قوله تعالى : { وَجَد من دونهما } يعني : أمام السدين { قوماً لا يكادون يفقهون قولاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يَفْقَهُون قولاً» بفتح الياء ، أي : لا يكادون يفهمونه . قال ابن الأنباري : قال اللغويون : معناه أنهم يفهمون بعد إِبطاءٍ ، وهو كقوله : { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] . قال المفسرون : وإِنما كانوا كذلك لأنهم لا يعرفون غير لغتهم . وقرأ حمزة ، والكسائي : «يُفْقِهُون» بضم الياء ، أراد : يُفْهِمُون غيرهم . وقيل : كلَّم ذا القرنين عنهم مترجِمون ترجموا .
قوله تعالى : { إِن يأجوج ومأجوج } هما : اسمان أعجميان ، وقد همزهما عاصم . قال الليث : الهمز لغة رديئة . قال ابن عباس : يأجوج رجل ، ومأجوج رجل ، وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام ، فيأجوج ومأجوج عشرة أجزاء ، وولد آدم كلُّهم جزء ، وهم شِبْر وشِبْران وثلاثة أشبار . وقال عليّ عليه السلام : منهم مَنْ طوله شِبْر ، ومنهم من هو مُفْرِط في الطُّول ، ولهم من الشَّعر ما يواريهم من الحَرِّ والبَرْد . وقال الضحاك : هم جيل من التُّرك . وقال السدي : التُرك سريّة من يأجوج ومأجوج خرجت تُغِير ، فجاء ذو القرنين فضرب السَّد ، فبقيت خارجه . وروى شقيق عن حذيفة ، قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال : «يأجوج أُمَّة ، ومأجوج أُمَّة ، كل أُمَّة أربعمائة [ ألف ] أُمَّة ، لا يموت الرجُل منهم حتى ينظر إِلى ألف ذَكَر بين يديه من صُلْبه كُلٌّ قد حمل السلاح؛ قلت : يا رسول الله ، صِفْهُم لنا ، قال : «هم ثلاثة أصناف ، صنف منهم أمثال الأرز»؛ قلت : يا رسول الله : وما الأرز؟ قال : «شجر بالشام ، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء؛ وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ، ويلتحف بالأخرى ولا يمرُّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إِلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدِّمتهم بالشام ، وساقّهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية» " .

قوله تعالى : { مُفْسِدون في الأرض } في هذا الفساد أربعة أقوال .
أحدها : أنهم كانوا يفعلون فِعْل قوم لوط ، قاله وهب بن منبِّه .
والثاني : أنهم كانوا يأكلون الناس ، قاله سعيد بن عبد العزيز .
والثالث : يُخرِجون إِلى الأرض الذين شَكَوْا منهم أيام الربيع ، فلا يَدَعون شيئاً أخضر إِلا أكلوه ، ولا يابساً إِلا احتملوه إِلى أرضهم ، قاله ابن السائب .
والرابع : كانوا يقتلون الناس ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فهل نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «خَرجاً» بغير ألف . وقرأ حمزة ، والكسائي : «خراجاً» بألف . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان .
أحدهما : أنهما لغتان بمعنى واحد ، قاله أبو عبيدة ، والليث .
والثاني : أن الخَرْجَ : ما تبرعت به ، والخراج : ما لزمك أداؤه ، قاله أبو عمرو بن العلاء . قال المفسرون : المعنى : هل نُخرج إِليك من أموالنا شيئاً كالجُعل لك؟
قوله تعالى : { ما مكَّنّي } وقرأ ابن كثير : «مكَّنَني» بنونين ، وكذلك هي في مصاحف مكة . قال الزجاج : من قرأ : «مكَّنِّي» بالتشديد ، أدغم النون في النون لاجتماع النونين . ومن قرأ : «مكَّنني» أظهر النونين ، لأنهما من كلمتين ، الأولى من الفعل ، والثانية تدخل مع الاسم المضمر .
وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان .
أحدهما : أنه العِلْم بالله؛ وطلب ثوابه .
والثاني : ما ملك من الدنيا . والمعنى : الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي .
قوله تعالى : { فأعينوني بِقُوَّة } فيها قولان .
أحدهما : أنها الرجال ، قاله مجاهد ، ومقاتل .
والثاني : الآلة ، قاله ابن السائب . فأما الرَّدْم ، فهو : الحاجز؛ قال الزجاج : والرَّدْم في اللغة أكبر من السدِّ ، لأن الرَّدْم : ما جُعل بعضه على بعض ، يقال : ثوب مُرَدَّم : إِذا كان قد رقِّع رقعة فوق رقعة .
قوله تعالى : { آتوني زُبَرَ الحديد } قرأ الجمهور : «ردماً آتوني» أي : أعطوني . وروى أبو بكر عن عاصم : «ردمٍ ايتوني» بكسر التنوين ، أي : جيئوني بها . قال ابن عباس : احملوها إِليَّ . وقال مقاتل : أعطوني . وقال الفراء : المعنى : إِيتوني بها ، فلما ألقيت الياء زيدت ألف . فأما الزُّبُر ، فهي : القِطَع ، واحدتها : زُبْرَة؛ والمعنى : فأَتَوه بها فبناه ، { حتى إِذا ساوى } وروى أبان «إِذا سوَّى» بتشديد الواو من غير ألف . قال الفراء : ساوى وسوَّى سواء . واختلف القراء في { الصَّدَفَين } فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «الصُّدُفَين» بضم الصاد والدال ، وهي : لغة حِمْيَر . وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم : «الصُّدْفين» بضم الصاد وتسكين الدال .

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ، بفتح الصاد والدال جميعاً ، وهي لغة تميم ، واختارها ثعلب . وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، وابن يعمر : «الصَّدُفين» بفتح الصاد ورفع الدال . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران ، والزهري ، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال . قال ابن الأنباري : ويقال : صُدَف ، على مثال نُغَر ، وكل هذه لغات في الكلمة . قال أبو عبيدة : الصَّدَفان : جَنْبا الجبل . قال الأزهري : يقال لجانبي الجبل : صَدَفان ، إِذا تحاذيا ، لتصادفهما ، أي : لتلاقيهما . قال المفسرون : حشا ما بين الجبلين بالحديد ، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم ، ووضع عليها المنافيخ ، ثم { قال انفخوا } فنفخوا { حتى إِذا جعله } يعني : الحديد ، وقيل : الهاء ترجع إِلى ما بين الصدفين { ناراً } أي : كالنار ، لأن الحديد إِذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار ، { قال آتوني } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : «آتوني» ممدودة؛ والمعنى : أعطوني . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «إِيتوني» مقصورة؛ والمعنى : جيئوني به أُفرغه عليه .
وفي القِطْر أربعة أقوال .
أحدها : أنه النحاس ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : أنه الحديد الذائب ، قاله أبو عبيدة .
والثالث : الصُّفْر المُذاب ، قاله مقاتل .
والرابع : الرصاص ، حكاه ابن الأنباري . قال المفسرون : أذاب القِطْر ثم صبَّه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلاً صلداً من حديد وقِطْر . قال قتادة : فهو كالبرد المحبر ، طريقة سوداء وطريقة حمراء .
قوله تعالى : { فما اسطاعوا } أصله : فما «استطاعوا» فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبُّوا التخفيف فحذفوا . قال ابن الأنباري : إِنما تقول العرب : اسطاع ، تخفيفاً ، كما قالوا : سوف يقوم ، وسيقوم ، فأسقطوا الفاء .
قوله تعالى : { أن يَظْهَروه } أي : يعلوه؛ يقال : ظهر فلان فوق البيت : إِذا علاه ، والمعنى : ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وامِّلاسه { وما استطاعوا له نقباً } من أسفله ، لشدته وصلابته . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِن يأجوج ومأجوج ليَحفرون السدَّ كل يوم ، حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا ، فستحفرونه غداً ، فيعودون إِليه ، فيرونه كأشد ما كان ، حتى إِذا بلغت مدتهم ، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم على الناس ، حفروا ، حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا ، فستحفرونه غداً إِن شاء الله ، ويستثني ، فيعودون إِليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون على الناس " وذكر باقي الحديث؛ وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب «الحدائق» فكرهت التطويل هاهنا .
قوله تعالى : { قال هذا رحمة من ربِّي } لمّا فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا . وفيما أشار إِليه قولان .
أحدهما : أنه الرَّدم ، قاله مقاتل؛ قال : فالمعنى : هذا نِعْمة من ربِّي على المسلمين لئلا يخرجوا إِليهم .
والثاني : أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { فإذا جاء وعد ربِّي } فيه قولان .
أحدهما : القيامة . والثاني : وعده لخروج يأجوج ومأجوج .
قوله تعالى : { جعله دكّاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «دكّاً» منوناً غير مهموز ولا ممدود . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «دكّاء» ممدودة مهموزة بلا تنوين . وقد شرحنا معنى الكلمة في [ الأعراف : 143 ] .
قوله تعالى : { وكان وعد ربي حقاً } أي : بالثواب والعقاب .

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)

قوله تعالى : و { تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } في المشار إِليهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم يأجوج ومأجوج . ثم في المراد ب «يومئذ» قولان .
أحدهما : أنه يوم انقضى أمر السدِّ ، تُركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم؛ وقيل : ماجوا متعجبين من السدِّ .
والثاني : أنه يوم يخرجون من السدِّ تُركوا يموج بعضهم في بعض .
والثاني : أنهم الكفار .
والثالث : أنهم جميع الخلائق . الجن والإِنس يموجون حيارى . فعلى هذين القولين ، المراد باليوم المذكور يوم القيامة .
قوله تعالى : { ونُفخ في الصُّور } هذه نفخة البعث . وقد شرحنا معنى «الصُّور» في [ الأنعام : 73 ] .
قوله تعالى : { وعرضنا جهنم } أي : أظهرناها لهم حتى شاهدوها .
قوله تعالى : { الذين كانت أعينهم } يعني : أعين قلوبهم { في غِطاءٍ } أي : في غفلةٍ { عن ذِكْري } أي : عن توحيدي والإِيمان بي وبكتابي { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } هذا لعداوتهم وعنادهم وكراهتهم ما يُنْذَرون به ، كما تقول لمن يكره قولك : ما تقدر أن تسمع كلامي .

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

قوله تعالى : { أفحسب الذين كفروا } أي : أفَظَنَّ المشركون { أن يتخذوا عبادي } في هؤلاء العباد ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الشياطين ، قاله ابن عباس .
والثاني : الأصنام ، قاله مقاتل .
والثالث : الملائكة والمسيح وعزير وسائر المعبودات من دونه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { من دوني } فتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو . وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف ، وفي تقديره قولان .
أحدهما : أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء ، كلا بل هم أعداءٌ لهم يتبرؤون منهم .
والثاني : أن يتخذوهم أولياء ولا أغضبُ ولا أعاقُبهم . وروى أبان عن عاصم ، وزيد عن يعقوب : «أَفَحَسْبُ» بتسكين السين وضم الباء ، وهي قراءة علي عليه السلام ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وابن محيصن؛ ومعناها : أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟ .
فأما النُّزُل ففيه قولان .
أحدهما : أنه ما يُهيَّأَ للضيف والعسكر ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : أنه المنزل ، قاله الزجاج .

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)

قوله تعالى : { قل هل نُنَبِّئكم بالأخسرين أعمالاً } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم القسِّيسون والرهبان ، قاله علي عليه السلام ، والضحاك .
والثاني : اليهود والنصارى ، قاله سعد بن أبي وقاص .
قوله تعالى : { أعمالاً } منصوب على التمييز ، لأنه لما قال : «بالأخسرين» كان ذلك مبهماً لا يدل على ما خسروه ، فبيَّن ذلك في أي نوع وقع .
قوله تعالى : { الذين ضل سعيهم } أي : بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا ، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم ، فرؤساؤهم يعلمون الصحيح ، ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم ، وأتباعُهم مقلِّدون بغير دليل . { أولئك الذين كفروا بآيات ربِّهم } جحدوا دلائل توحيده ، وكفروا بالبعث والجزاء ، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ، صاروا كافرين بهذه الأشياء { فحبطت أعمالهم } أي : بطل اجتهادهم ، لأنه خلا عن الإِيمان { فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزناً } وقرأ ابن مسعود ، والجحدري : «فلا يُقيم» بالياء .
وفي معناه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إِنما يثقل الميزان بالطاعة ، وإِنما توزن الحسنات والسيئات ، والكافر لا طاعة له .
والثاني : أن المعنى : لا نُقيم لهم قَدْراً . قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية : يقال : ما لفلان عندنا وزن ، أي : قَدْر ، لخسَّته . فالمعنى : أنهم لا يُعتدُّ بهم ، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة . وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة ، اقرؤوا إِن شئتم : { فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنا } " . والثالث : أنه قال : «فلا نقيم لهم» لأن الوزن عليهم لا لهم ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ذلك جزاؤهم } أي : الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخِسَّة قدرهم ، ثم ابتدأ فقال : { جزاؤهم جهنم } ، وقيل : المعنى : ذلك التصغير لهم ، وجزاؤهم جهنم ، فأضمرت واو الحال .
قوله تعالى : { بما كفروا } أي : بكفرهم واتخاذهم { آياتي } التي أنزلتها { ورُسُلي هزواً } أي : مهزوءاً به .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

قوله تعالى : { كانت لهم جنات الفردوس } قال ابن الأنباري : كانت لهم في علم الله قبل أن يُخلَقوا . وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " جِنانُ الفردوس أربع ، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيها ، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، الفردوس أعلاها ، ومنها تفجَّر أنهار الجنة ، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس " قال أبو أمامة : الفردوس سرّة الجنة . قال مجاهد : الفردوس : البستان بالرومية . وقال كعب ، والضحاك : «جنات الفردوس» : جنات الأعناب . قال الكلبي ، والفراء : الفردوس : البستان الذي فيه الكرم . وقال المبرد : الفردوس فيما سمعت من كلام العرب : الشجر المتلف ، والأغلب عليه العنب . وقال ثعلب : كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس ، قال عبد الله بن رواحة :
في جنانِ الفردوسِ ليسَ يخافو ... ن خروجاً عنها ولا تحويلا
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قال الزجاج : الفردوس أصله رومي أعرب ، وهو البستان ، كذلك جاء في التفسير ، وقد قيل : الفردوس تعرفه العرب ، وتسمي الموضع الذي فيه كرم : فردوساً . وقال أهل اللغة : الفردوس مذكَّر ، وإِنما أنث في قوله تعالى : { يَرِثون الفردوس هم فيها خالدون } [ المؤمنون : 11 ] لأنه عنى به الجنة . وقال الزجاج : وقيل : الفردوس : الأودية التي تنبت ضروباً من النبت ، وقيل : هو بالرومية منقول إِلى لفظ العربية ، قال : والفردوس أيضاً بالسريانية كذا لفظه : فردوس ، قال : ولم نجده في أشعار العرب إِلا في شعر حسان ، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين ، لأنه عند أهل كل لغة كذلك ، وبيت حسان :
فَإِنِّ ثَوَابَ اللهِ كلَّ مُوَحِّدٍ ... جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ فيهَا يُخَلَّدِ
وقال ابن الكلبي باسناده : الفردوس : البستان بلغة الروم ، وقال الفراء : وهو عربي أيضاً ، والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوساً . وقال السدي : الفردوس أصله بالنبطية «فرداسَا» . وقال عبد الله بن الحارث : الفردوس : الأعناب . وقد شرحنا معنى قوله : «نُزُلاً» آنفاً .
قوله تعالى : { لا يبغون عنها حِوَلاً } قال الزجاج : لا يريدون عنها تحوُّلاً ، يقال : قد حال من مكانه حِوَلاً ، كما قالوا في المصادر : صَغُر صِغرَاً ، وعَظُم عِظَماً ، وعادَني حُبُّها عِوَداً؛ قال : وقد قيل أيضاً : إِن الحِوَل : الحِيلة ، فيكون المعنى : لا يحتالون مَنْزِلاً غيرها .
فإن قيل : قد عُلم أن الجنة كثيرة الخير ، فما وجه مدحها بأنهم لايبغون عنها حِوَلاً؟
فالجواب : أن الإِنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه ، فيحب أن ينتقل إِلى دار أخرى ، وقد يملّ ، والجنة على خلاف ذلك .

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)

قوله تعالى : { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } سببب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إِلا قليلاً } [ الإسراء : 85 ] قالت اليهود : كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . ومعنى الآية : لو كان ماء البحر مداداً يُكتَب به . قال مجاهد : [ والمعنى ] : لو كان البحر مداداً للقلم ، والقلم يكتب . وقال ابن الأنباري : سمي المداد مداداً لإِمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء . وقرأ الحسن ، والأعمش : «مدداً لكلمات ربِّي» بغير ألف .
قوله تعالى : { قبل أن تنفدَ كلمات ربي } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «تنفد» بالتاء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «ينفد» بالياء . قال أبو علي : التأنيث أحسن ، لأن المُسنَد إِليه الفعلُ مؤنث ، والتذكير حسن ، لأن التأنيث ليس بحقيقي ، وإِنما لم تنفد كلمات الله ، لأن كلامه صفة من صفات ذاته ، ولا يتطرق على صفاته النفاد ، { ولو جئنا بمثله } أي : بمثل البحر { مدداً } أي : زيادة؛ والمدد : كل شيء زاد في شيء .
فإن قيل : لم قال في أول الآية : «مداداً» وفي آخرها : «مدداً» وكلاهما بمعنى واحد ، واشتقاقهما غير مختلف؟
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال : لما كان الثاني آخر آية ، وأواخر الآيات هاهنا أتت على الفُعُل ، والفِعَل ، كقوله : «نُزُلاً» «هُزُواً» «حِوَلاً» كان قوله : «مَدَداً» أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد ، واتفاقُ المقاطع عند أواخر الآي ، وانقضاء الأبيات ، وتمام السجع والنثر ، أخف على الألسن ، وأحلى موقعاً في الأسماع ، فاختلفت اللفظتان لهذه [ العلة ] . وقد قرأ ابن عباس ، وسعيد ابن جبير ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وابن محيصن : «ولو جئنا بمثله مداداً» فحملوها على الأولى ، ولم ينظروا إِلى المقاطع . وقراءة الأوَّلِين أَبْيَن حُجَّة ، وأوضح منهاجاً .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

قوله تعالى : { قل إِنما أنا بَشَر مِثْلُكم } قال ابن عباس : علَّم الله تعالى رسوله التواضع لئلا يزهى على خلقه ، فأمره أن يُقِرَّ على نفسه بأنه آدمي كغيره ، إِلا أنه أُكرم بالوحي .
قوله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربِّه } سبب نزولها " أن جندب بن زهير الغامدي قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إِني أعمل العمل [ لله تعالى ] فاذا اطُّلع عليه سرَّني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِن الله طَيِّب لا يقبل إِلا الطيِّب ، ولا يقبل ماروئي فيه» " فنزلت فيه هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال طاووس : جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إِني أُحب الجهاد [ في سبيل الله ] وأُحب أن يُرى مكاني ، فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إِني أتصدق ، وأصل الرحم ، ولا أصنع ذلك إِلا لله تعالى ، فيُذكَر ذلك مِنِّي وأُحمَد عليه فيسرُّني ذلك وأُعجَب به ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية .
وفي قوله : { فمن كان يرجو } قولان .
أحدهما : يخاف ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : يأمل ، وهو اختيار الزجاج . وقال ابن الأنباري : المعنى : فمن كان يرجو لقاء ثواب ربِّه . قال المفسرون : وذلك يوم البعث والجزاء . { فَلْيعمل عملاً صالحاً } لا يرائي به { ولا يشركْ بعبادة ربه أحداً } قال سعيد بن جبير : لا يرائي . قال معاوية بن أبي سفيان : هذه آخر آية نزلت من القرآن .

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

قوله تعالى : { كهيعص } قرأ ابن كثير : «كهيعص ذِكْر» بفتح الهاء والياء وتبيين الدال التي في هجاء «صاد» . وقرأ أبو عمرو : «كهيعص» بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال ، وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح ، ولا يدغم الدال التي في هجاء «صاد» في الذال من «ذِكْر» . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، والكسائي ، بكسر الهاء والياء ، إِلا أن الكسائي لا يبيِّن الدال ، وعاصم يُبيِّنها . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان . وقرأ أُبيّ بن كعب : «كهيعص» برفع الهاء وفتح الياء . وقد ذكرنا في أول «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس . وقد خصَّ المفسرون هذه الحروف المذكورة هاهنا بأربعة أقوال .
أحدها : أنها حروف من أسماء الله تعالى ، قاله الأكثرون . ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أي اسم هو ، على أربعة أقوال . أحدها : أنه من اسم الله الكبير .
والثاني : من الكريم .
والثالث : من الكافي ، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والرابع : أنه من الملك ، قاله محمد بن كعب . فأما الهاء ، فكلُّهم قالوا : هي من اسمه الهادي ، إِلا القرظي فإنه قال : من اسمه الله . وأما الياء ، ففيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها من حكيم .
والثاني : من رحيم .
والثالث : من أمين ، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس . فأما العين ، ففيها أربعة أقوال .
أحدها : أنها من عليم .
والثاني : من عالم .
والثالث : من عزيز ، رواها أيضاً سعيد [ بن جبير ] عن ابن عباس .
والرابع : أنها من عدل ، قاله الضحاك . وأما الصاد ، ففيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها من صادق .
والثاني : من صدوق ، رواهما سعيد [ بن جبير ] أيضاً عن ابن عباس .
والثالث : من الصمد ، قاله محمد بن كعب .
والقول الثاني : أن «كهيعص» قَسَم أقسم الله به ، وهو من أسمائه ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس . وروي عن عليّ عليه السلام أنه قال : هو اسم من اسماء الله تعالى . وروي عنه أنه كان يقول [ يا ] كهيعص اغفر لي . قال الزجاج : والقَسَم بهذا والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد ، لأن الداعي إِذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات الله فدعا بها ، فكأنه قال : يا كافي ، يا هادي ، يا عالم ، يا صادق ، وإِذا أقسم بها ، فكأنه قال : والكافي الهادي العالم الصادق ، وأُسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجٍّ ، النيَّة فيها الوقف .
والثالث : أنه اسم للسورة ، قاله الحسن ، ومجاهد .
والرابع : اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
فإن قيل : لم قالوا : ها يا ، ولم يقولوا في الكاف : كا ، وفي العين : عا ، وفي الصاد : ص ، لتتفق المباني كما اتفقت العلل؟
فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة ، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ واستواء الأوزان ، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم ، فيغيِّرون بعض الكِلَم ليختلف الوزن وتتغيَّر المباني ، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع .

قوله تعالى : { ذِكْر رحمة ربك } قال الزجاج : الذِّكر مرفوع بالمُضمَر ، المعنى : هذا الذي نتلو عليك ذِكْر رحمة ربِّك عبدَه . قال الفراء : وفي الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى : ذِكْر ربِّك عبده بالرحمة ، و«زكريا» في موضع نصب .
قوله تعالى : { إِذ نادى ربَّه } النداء هاهنا بمعنى الدعاء .
وفي علة إِخفائه لذلك ثلاثة أقوال .
أحدها : ليبعد عن الرياء ، قاله ابن جريج .
والثاني : لئلا يقول الناس : انظروا إِلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكِبَر ، قاله مقاتل .
والثالث : لئلا يعاديه بنو عمه ، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . وهذه القصة تدل على أن المستحب إِسرار الدعاء ، ومنه الحديث : " إِنكم لا تدعون أصمّ " . قوله تعالى : { قال ربِّ إِني وهن العظم منِّي } وقرأ معاذ القارىء ، والضحاك : «وَهُن» بضم الهاء ، أي : ضَعُف . قال الفراء : وغيره : وَهَن العظم ، ووَهِن ، بفتح الهاء وكسرها؛ والمستقبل على الحالين كليهما : يَهِن . وأراد أن قوَّة عظامه قد ذهبت لِكبَره؛ وإِنما خصّ العظم ، لأنه الأصل في التركيب . وقال قتادة : شكا ذهاب أضراسه .
قوله تعالى : { واشتعل الرأس شيباً } يعني : انتشر الشيب فيه ، كما ينتشر شعاع النار في الحطب ، وهذا من أحسن الاستعارات . { ولم أكن بدعائك } أي : بدعائي إِياكَ { ربِّ شقياً } أي : لم أكن أتعب بالدعاء ثم أُخيَّب ، لأنك قد عودتَني الإِجابة؛ يقال : شقي فلان بكذا : إِذا تعب بسببه ، ولم ينل مراده .
قوله تعالى : { وإِني خِفتُ الموالي } يعني : الذين يلونه في النسب ، وهم بنو العم والعَصبة { من ورائي } أي : من بعد موتي .
وفي ما خافهم عليه قولان .
أحدهما : أنه خاف أن يَرِثوه ، قاله ابن عباس . فإن اعترض عليه معترض ، فقال : كيف يجوز لنبيّ أن يَنْفَس على قراباته بالحقوق المفروضة لهم بعد موته؟
فعنه جوابان .
أحدهما : أنه لما كان نبيّاً ، والنبيّ لا يورث ، خاف أن يرِثوا ماله فيأخذوا ما لا يجوز لهم .
والثاني : أنه غلب عليه طبع البشر ، فأحبَّ أن يتولَّى مالَه ولدُه ، ذكرهما ابن الأنباري .
قلت : وبيان هذا أنه لا بد أن يتولَّى ماله وإِن ولم يكن ميراثاً ، فأحبَّ أن يتولاه ولده .
والقول الثاني : أنه خاف تضييعهم للدِّين ونبذهم إِيّاه ، ذكره جماعة من المفسرين .
وقرأ عثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن أبي شريح عن الكسائي : «خَفَّت» بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى «قلَّت»؛ فعلى هذا يكون إِنما خاف على عِلْمه ونبوَّته ألاَّ يُورَثا فيموت العِلْم . وأسكن ابن شهاب الزهري ياء «المواليْ» .
قوله تعالى : { من ورائي } أسكن الجمهور هذه الياء ، وفتحها ابن كثير في رواية قنبل .

وروى عنه شبل : «ورايْ» مثل «عصايْ» .
قوله تعالى : { فَهَبْ لي من لدنك } أي : من عندك { وليّاً } أي : ولداً صالحاً يتولاَّني .
قوله تعالى : { يَرِثني ويرث من آل يعقوب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «يَرِثُني ويَرِثُ» برفعهما . وقرا أبو عمرو ، والكسائي : «يَرِثْني ويَرِثْ» بالجزم فيهما . قال أبو عبيدة : من قرأ بالرفع ، فهو على الصفة للوليّ؛ فالمعنى : هب لي وليّاً وارثاً ، ومن جزم ، فعلى الشرط والجزاء ، كقولك : إِن وهبتَه لي ورثني .
وفي المراد بهذا الميرث أربعة أقوال .
أحدها : يَرِثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوَّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال أبو صالح .
والثاني : يَرِثني العِلْم ، ويَرِث من آل يعقوب المُلْكَ ، فأجابه الله تعالى إِلى وراثة العِلْم دون المُلْك ، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : يَرِثني نبوَّتي وعِلْمي ، ويَرِث من آل يعقوب النبوَّة أيضاً ، قاله الحسن .
والرابع : يَرِثني النبوَّة ، ويرث من آل يعقوب الأخلاق ، قاله عطاء . قال مجاهد : كان زكريا من ذرية يعقوب ، وزعم الكلبي أن آل يعقوب كانوا أخواله ، وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف . وقال مقاتل : هو يعقوب بن ماثان ، وكان يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوين .
والصحيح : أنه لم يُرِد ميراثَ المال لوجوه .
أحدها : أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نحن معاشر الأنبياء لا نورَث ، ما تركناه صدقة " . والثاني : [ أنه ] لا يجوز أن يتأسَّف نبيّ الله على مصير ماله بعد موته إِذا وصل إِلى وارثه المستحق له شرعاً .
والثالث : أنه لم يكن ذا مال . وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زكريا كان نجاراً .
قوله تعالى : { واجعله ربّ رضيّاً } قال اللغويون : أي : مرضيّاً ، فصُرِف عن مفعول إِلى فَعيل ، كما قالوا : مقتول وقتيل .

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

قوله تعالى : { يا زكريا إِنا نبشرك } في الكلام إِضمار ، تقديره : فاستجاب الله له فقال : «يا زكريّا إِنا نبشِّرك» . وقرأ حمزة : «نَبْشُرك» بالتخفيف . وقد شرحنا هذا في [ آل عمران : 39 ] .
قوله تعالى : { لم نجعل له من قبلُ سَمِيّاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لم يُسمَّ يحيى قبله ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وقتادة ، وابن زيد ، والأكثرون .
فإن اعترض معترض ، فقال : ما وجه المِدْحَة باسم لم يُسمَّ به أحد قبله ، ونرى كثيراً من الأسماء لم يُسبَق إِليها؟ فالجواب : أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولَّى تسميته ، ولم يَكِل ذلك إِلى أبويه ، فسماه باسم لم يُسبَق إِليه .
والثاني : لم تلد العواقر مثله ولداً ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . فعلى هذا يكون المعنى : لم نجعل له نظيراً .
والثالث : لم نجعل له من قبل مِثْلاً وشِبْهاً ، قاله مجاهد . فعلى هذا يكون عدم الشَّبَه من حيث أنه لم يعص ولم يهمَّ بمعصية . وما بعد هذا مفسر في [ آل عمران : 39 ] إِلى قوله : { وكانت امرأتي عاقراً } .
وفي معنى «كانت» قولان .
أحدهما : انه توكيد للكلام ، فالمعنى : وهي عاقر ، كقوله : { كنتم خير أُمَّة } [ آل عمران : 110 ] أي : أنتم .
والثاني : أنها كانت منذ كانت عاقراً ، لم يحدُث ذلك بها ، ذكرهما ابن الأنباري ، واختار الأول .
قوله تعالى : { وقد بلغتُ من الكِبَر عتياً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «عُتيّاً» و«بُكيّاً» [ مريم : 58 ] و«صُليّا» [ مريم : 70 ] بضم أوائلها . وقرأ حمزة ، والكسائي ، بكسر أوائلها ، وافقهما حفص عن عاصم ، إِلا في قوله : «بُكيّاً» فإنه ضم أوله . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد : «عُسِيّاً» بالسين قال مجاهد : «عتيّاً» هو قُحُول العظم . وقال ابن قتيبة : أي يُبْساً؛ يقال : عَتَا وعَسَا بمعنى واحد . قال الزجاج : كل شيء انتهى ، فقد عَتَا يَعْتُو عِتِيّاً ، وعُتُوّاً ، وعُسُوّاً ، وعُسِيّاً .
قوله تعالى : { قال كذلكَ } أي : الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكِبَر { قال ربُّكَ هو عليَّ هيِّن } أي : خَلْقُ يحيى عليَّ سَهْل . وقرأ معاذ القارىء ، وعاصم الجحدري : «هَيْن» باسكان الياء . { وقد خلقتُك مِنْ قَبْلُ } أي : أوجدتُك . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «خَلَقْتُكَ» . وقرأ حمزة ، والكسائيُّ : «خَلَقْنَاكَ» بالنون والألف . { ولم تك شيئاً } المعنى : فخلْقُ الولد ، كخلقك . وما بعد هذا مفسر في [ آل عمران : 39 ] إِلى قوله : { ثلاثَ ليال سويّاً } قال الزجاج : «سَوِيّاً» منصوب على الحال ، والمعنى : تُمْنَع عن الكلام وأنت سَوِيّ . قال ابن قتيبة : أي : سليماً غير أخرس .
قوله تعالى : { فخرج على قومه } وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها أمرأته { من المحراب } أي : من مصلاَّه وقد ذكرناه في [ آل عمران : 39 ] .
قوله تعالى : { فأوحى إِليهم } فيه قولان .
أحدهما : أنه كتب إِليهم في كتاب ، قاله ابن عباس .
والثاني : أومأَ برأسه ويديه ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { أن سَبِّحوا } أي : صلُّوا { بُكْرة وعَشِيّاً } قد شرحناه في [ آل عمران : 39 ] ، والمعنى : أنه كان يخرج إِلى قومه فيأمرهم بالصلاة بُكْرة وعَشِيّاً ، فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة إِشارة .

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

قوله تعالى : { يا يحيى } قال الزجاج : المعنى : فوهبنا له يحيى ، وقلنا له : يا يحيى { خذ الكتاب } يعني : التوراة ، وكان مأموراً بالتمسك بها . وقال ابن الأنباري : المعنى : اقبل كُتُبَ الله كلَّها إِيماناً بها واستعمالاً لأحكامها . وقد شرحنا في [ البقرة : 63 ] معنى قوله : { بقوّة } .
قوله تعالى : { وآتيناه الحُكْم } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه الفهم ، قاله مجاهد .
والثاني : اللُّب ، قاله الحسن ، وعكرمة .
والثالث : العِلْم ، قاله ابن السائب .
والرابع : حفظ التوراة وعلْمها ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقد زدنا هذا شرحاً في سورة [ يوسف : 23 ] . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن [ من ] قبل أن يحتلم ، فهو ممن أُوتيَ الحُكم صبيّاً .
فأما قوله : { صبيّاً } ففي سنِّه يوم أُوتيَ الحُكم قولان .
أحدهما : أنه سبع سنين ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : ثلاث سنين ، قاله قتادة ، ومقاتل .
قوله تعالى : { وحناناً من لَدُنّا } قال الزجاج : أي : وآتيناه حناناً . وقال ابن الأنباري : المعنى : وجعلناه حناناً لأهل زمانه .
وفي الحنان ستة أقوال .
أحدها : أنه الرحمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، والفراء ، وأبو عبيدة ، وأنشد :
تَحَنَّنْ عليَّ هَدَاكَ الملِيك ... فإنّ لكلِّ مقامٍ مَقَالاَ
قال : وعامة ما يُستعمَل في المنطق على لفظ الاثنين ، قال طرفة :
أبا مُنْذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بَعضَنَا ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بَعْضِ
قال ابن قتيبة : ومنه يقال : تحنَّن عليَّ ، وأصله من حنين الناقة على ولدها . وقال ابن الأنباري : لم يختلف اللغويون أن الحنان : الرحمة ، والمعنى : فعلنا ذلك رحمةً لأبويه ، وتزكيةً له . والثاني : أنه التعطف من ربِّه عليه ، قاله مجاهد . والثالث : أنه اللِّين ، قاله سعيد بن جبير . والرابع : البَرَكة ، وروي عن ابن جبير أيضاً . والخامس : المَحبَّة ، قاله عكرمة ، وابن زيد . والسادس : التعظيم ، قاله عطاء بن أبي رباح .
وفي قوله : { وزكاة } أربعة أقوال .
أحدها : أنها العمل الصالح ، قاله الضحاك ، وقتادة .
والثاني : أن معنى الزكاة : الصدقة ، فالتقدير : إِن الله تعالى جعله صدقة تصدّق بها على أبويه ، قاله ابن السائب .
والثالث : أن الزكاة : التطهير ، قاله الزجاج .
والرابع : أن الزكاة : الزيادة ، فالمعنى : وآتيناه زيادة في الخير على ما وُصف وذُكِر ، قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى : { وكان تقيّاً } قال ابن عباس : جعلته يتَّقيني ، ولا يعدل بي غيري .
قوله تعالى : { وبَرّاً بوالديه } أي : وجعلناه بَرّاً بوالديه ، والبَرُّ بمعنى : البارّ؛ والمعنى : لطيفاً بهما ، محسناً إِليهما . والعَصِيَّ بمعنى : العاصي . وقد شرحنا معنى الجبّار في [ هود : 59 ] .
قوله تعالى : { وسلام عليه } فيه قولان .
أحدهما : أنه السلام المعروف من الله تعالى . قال عطاء : سلام عليه مِنِّي في هذه الأيام؛ وهذا اختيار أبي سليمان .
والثاني : أنه بمعنى : السلامة ، قاله ابن السائب .

فإن قيل : كيف خَصَّ التسليم عليه بالأيام ، وقد يجوز أن يولد ليلاً ويموت ليلاً؟
فالجواب : أن المراد باليوم الحِين والوقت ، على ما بيّنا في قوله : { اليوم أكملتُ لكم دينَكم } [ المائدة : 3 ] .
قال ابن عباس : وسلام عليه حين وُلد . وقال الحسن البصري : التقى يحيى وعيسى ، فقال يحيى لعيسى : أنتَ خير مني ، فقال عيسى ليحيى : بل أنت خير مني ، سلَّم الله عليك ، وأنا سلَّمتُ على نفسي . وقال سعيد بن جبير مثله : إِلا أنه قال أثنى الله عليك ، وأنا أثنيت على نفسي . وقال سفيان بن عيينه : أوحش ما يكون الإِنسان في ثلاثة مواطن ، يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم ، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر لم يره ، فخص الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)

قوله تعالى : { واذكر في الكتاب } يعني : القرآن { مريمَ إِذ انتبذت } قال أبو عبيدة : تنحَّت واعتزلت { مكاناً شرقيّاً } مما يلي المشرق ، وهو عند العرب خير من الغربيّ .
قوله تعالى : { فاتّخذتْ من دونهم } يعني : أهلها { حجاباً } أي : ستراً وحاجزاً ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها ضربت ستراً ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن الشمس أظلَّتْها ، فلم يرها أحد منهم ، وذلك مما سترها الله به ، [ روي ] هذا المعنى عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنها اتخذت حجاباً من الجدران ، قاله السدي عن أشياخه .
وفي سبب انفرادها عنهم قولان .
أحدهما : [ أنها ] انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط ، قاله ابن عباس .
والثاني : لتفلّي رأسها ، قاله عطاء .
قوله تعالى : { فأرسلنا إِليها روحنا } وهو جبريل في قول الجمهور . وقال ابن الأنباري : صاحب روحنا ، وهو جبريل . والرُّوح بمعنى : الرَّوْح والفرح ، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم ، وإِبطال طريق المصدر ، ويجوز أن يُراد بالرُّوح هاهنا : الوحي وجبريل صاحب الوحي .
وفي وقت مجيئه إِليها ثلاثة أقوال .
أحدها : وهي تغتسل .
والثاني : بعد فراغها ، ولبسها الثياب .
والثالث : بعد دخولها بيتها . وقد قيل : المراد بالروح هاهنا : [ الروح ] الذي خُلق منه عيسى ، حكاه الزجاج ، والماوردي ، وهو مضمون كلام أُبيّ بن كعب فيما سنذكره عند قوله : { فحملتْه } . قال ابن الأنباري : وفيه بُعد ، لقوله : { فتمثَّل لها بَشَراً سويّاً } ، والمعنى : تصوَّر لها في صورة البَشَر التامّ الخِلْقة . وقال ابن عباس : جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد قطط حين طرَّ شاربه . وقرأ أبو نهيك : «فأرسلنا إِليها رَوحنا» بفتح الراء ، من الرَّوْح .
قوله تعالى : { قالت إِني أعوذ بالرحمن منكَ إِن كنتَ تقيّاً } المعنى : إِن كنتَ تتَّقي الله ، فستنتهي بتعوُّذي منك ، هذا هو القول عند المحققين . وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي ، وكان فاجراً ، فظنتْه إِياه ، ذكره ابن الأنباري ، والماوردي . وفي قراءة عليّ عليه السلام ، وابن مسعود ، وأبي رجاء : «إِلا أن تكون تقيّاً» .
قوله تعالى : { قال إِنما أنا رسول ربِّك } أي : فلا تخافي { لِيَهَبَ لك } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «لأهب لك» بالهمز . وقرأ أبو عمرو ، وورش عن نافع : «ليهب لك» بغير همز . قال الزجاج : من قرأ «ليهب» فالمعنى : أرسَلني ليهب ، ومن قرأ «لأهب» فالمعنى : أُرسلتُ إِليكِ لأهب لكِ . وقال ابن الأنباري : المعنى : أرسلني يقول لك : أرسلتُ رسولي إِليكِ لأهبَ لكِ .
قوله تعالى : { غلاماً زكيّاً } أي : طاهراً من الذنوب . والبغيّ : الفاجرة الزانية . قال ابن الأنباري : وإِنما لم يقل : «بغيَّة» لأنه وصف يغلب على النساء ، فقلَّما تقول العرب : رجل بغيّ ، فيجري مجرى حائض ، وعاقر . وقال غيره : إِنما لم يقل : «بغيَّة» لأنه مصروف عن وجهه ، فهو «فعيل» بمعنى : «فاعل» .

ومعنى الآية : ليس لي زوج ، ولستُ بزانية ، وإِنما يكون الولد من هاتين الجهتين . { قال كذلِكِ قال ربُّكِ } قد شرحناه في قصة زكريا ، والمعنى : أنه يسيرٌ عليّ أن أهب لكِ غلاماً من غير أب . { ولنجعله آية للناس } أي : دلالة على قدرتنا كونه من غير أب . قال ابن الأنباري : إِنما دخلت الواو في قوله : { ولنجعلَه } لأنها عاطفة لِما بعدها على كلام مضمر محذوف ، تقديره : قال ربُّكِ خَلْقُه عليّ هيِّن لننفعكِ به ، ولنجعلَه عبرة .
قوله تعالى : { ورحمةً مِنّا } أي : لمن تبعه وآمن به { وكان أمراً مقضيّاً } أي : وكان خَلْقُه أمراً محكوماً به ، مفروغاً عنه ، سابقاً في عِلْم الله تعالى كونه .

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

قوله تعالى : { فحملته } يعني : عيسى .
وفي كيفية حملها له قولان .
أحدهما : أن جبريل نفخ في جيب دِرعها ، فاستمرَّ بها حملها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . قال السدي : نفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قُدَّامها ، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها .
والثاني : الذي خاطبها هو الذي حملته ، ودخل مِنْ فيها ، قاله أُبيّ بن كعب .
وفي مقدار حَمْلها سبعة أقوال .
أحدها : أنها حين حملت وضعت ، قاله ابن عباس ، والمعنى : أنه ما طال حملها ، وليس المراد أنها وضعته في الحال ، لأن الله تعالى يقول : { فحملته فانتبذت به } ، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتاً يحتمل الانتباذ به .
والثاني : أنها حملته تسع ساعات ، ووضعت من يومها ، قاله الحسن .
والثالث : تسعة أشهر ، قاله سعيد بن جبير ، وابن السائب .
والرابع : ثلاث ساعات ، حملته في ساعة ، وصوِّر في ساعة ، ووضعته في ساعة ، قاله مقاتل بن سليمان .
والخامس : ثمانية أشهر ، فعاش ، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر ، فكان في هذا آية ، حكاه الزجاج .
والسادس : في ستة أشهر ، حكاه الماوردي .
والسابع : في ساعة واحدة ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { فانتبذت به } يعني بالحَمْل { مكاناً قصيّاً } أي : بعيداً . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : { قاصياً } . قال ابن إِسحاق : مشت ستة أميال . قال الفراء : القصيّ والقاصي بمعنى واحد . وقال غير الفراء : القصيّ والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد . وإِنما بَعُدت ، فراراً من قومها أن يعيِّروها بولادتها من غير زوج .
قوله تعالى : { فأجاءها المَخاض } وقرأ عكرمة ، وإِبراهيم النخعي ، وعاصم الجحدري : «المِخاض» بكسر الميم . قال الفراء : المعنى : فجاء بها المخاض ، فلما أُلقيت الباء ، جُعلت في الفعل ألفاً ، ومثله : { آتنا غداءنا } [ الكهف : 62 ] أي : بغدائنا ، ومثله : { آتوني زُبَر الحديد } [ الكهف : 96 ] أي : بزبر الحديد . قال أبو عبيدة : أفعلها من جاءت هي ، وأجاءها غيرها . وقال ابن قتيبة : المعنى : جاء بها ، وألجأها ، وهو من حيث يقال : جاءت بي الحاجة إِليك ، وأجاءَتني الحاجة إِليك ، والمَخاض : الحمل . وقال غيره : المخاض : وجع الولادة . { إِلى جِذع النخلة } وهو ساق النخلة ، وكانت نخلة يابسة في الصحراء ، ليس لها رأس ولا سعف . { قالت يا ليتني مُتُّ قبل هذا } اليوم ، أو هذا الأمر . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص : «مِتُّ» بكسر الميم .
وفي سبب قولها هذا قولان .
أحدهما : أنها قالته حياءً من الناس .
والثاني : لئلا يأثموا بقذفها .
قوله تعالى : { وكنتُ نسياً منسيّاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، بكسر النون ، وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «نَسياً» بفتح النون . قال الفراء : وأصحاب عبد الله يقرؤون : «نَسياً» بفتح النون ، وسائرالعرب بكسرها ، وهما لغتان ، مثل الجَسر والجِسر ، والوَتر والوِتر ، والفتح أحب إِليَّ .

قال أبو علي الفارسي : الكسر على اللغتين . وقال ابن الأنباري : من كسر النون قال : النِسي : اسم لما يُنسى ، بمنزلة البِغض اسم لما يُبْغَض ، والسِّب اسم لما يُسَب . والنَسي بفتح النون : اسم لما يُنسى أيضاً على أنه مصدر ناب عن الاسم ، كما يقال : الرجل دَنِف ودَنَف . فالمكسور : هو الوصف الصحيح ، والمفتوح : مصدر سدَّ مسدَّ الوصف . ويمكن أن يكون النِسي والنَسي اسمين لمعنىً ، كما يقال : الرِّطل والرَّطل .
وللمفسرين في قوله تعالى : { نسياً منسيّاً } خمسة أقوال .
أحدها : يا ليتني لما أكن شيئاً ، قاله الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وابن زيد .
والثاني : «وكنت نسياً منسيّاً» أي : دم حيضة ملقاة ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة . قال الفراء : النّسي : ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها . وقال ابن الأنباري : هي خرق الحيض تلقيها المرأة فلا تطلبها ولا تذكرها .
والثالث : [ أنه من ] السقط ، قاله أبو العالية ، والربيع .
والرابع : أن المعنى : يا ليتني لا يُدرى من أنا ، قاله قتادة .
والخامس : أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم ، فيهون عليهم فلا يرجعون إِليه ، قاله ابن السائب . وقال أبو عبيدة : النِسي ، والمنسي : ما ينسى من إِداوة وعصا . يعني أنه ينسى في المنزل ، فلا يرجع إِليه لاحتقار صاحبه إِياه . وقال الكسائي : معنى الآية : ليتني كنت ما إِذا ذُكر لم يُطلب .
قوله تعالى : { فناداها من تحتها } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «مَن تحتها» بفتح الميم ، والتاء . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «مِن تحتها» بكسر الميم ، والتاء . فمن قرأ بكسر الميم ، ففيه وجهان .
أحدهما : ناداها الملك من تحت النخلة . وقيل : كانت على نَشَز ، فناداها الملك أسفل منها .
والثاني : ناداها عيسى لما خرج من بطنها . قال ابن عباس : كلُّ ما رفعت إِليه طرفك ، فهو فوقك ، وكلُّ ما خفضت إِليه طرفك ، فهو تحتك . ومن قرأ بفتح الميم ، ففيه الوجهان المذكوران . وكان الفراء يقول : ما خاطبها إِلا الملك على القراءتين جميعاً .
قوله تعالى : { قد جعل ربُّكِ تحتكِ سريّاً } فيه قولان .
أحدهما : أنه النهر الصغير ، قاله جمهور المفسرين ، واللغويون ، قال أبو صالح ، وابن جريج : هو الجدول بالسريانية .
والثاني : أنه عيسى كان سرياً من الرجال ، قاله الحسن ، وعكرمة ، [ وابن زيد ] . قال ابن الأنباري : وقد رجع الحسن عن هذا القول إِلى القول الأول ، ولو كان وصفاً لعيسى ، كان غلاماً سرياً أو سوياً من الغلمان ، وقلَّما تقول العرب : رأيت عندك نبيلاً ، حتى يقولوا : رجلاً نبيلاً .
فإن قيل : كيف ناسب تسليتها أن قيل : لا تحزني ، فهذا نهر يجري؟
فالجواب : من وجهين .
أحدهما : أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه ، وعدمِ الطعام والشراب والماء الذي تتطهر به ، فقيل : لا تحزني قد أجرينا لك نهراً ، وأطلعنا لك رطباً ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني : أنها حزنت لِما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج ، فأجرى الله تعالى لها نهراً ، فجاءها من الأردنِّ ، وأخرج لها الرَّطب من الشجرة اليابسة ، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إِيجاد عيسى ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وهزِّي إِليك } الهزُّ : التحريك .
والباء في قوله تعالى : { بجذع النخلة } فيها قولان .
أحدهما : أنها زائدة مؤكدة ، كقوله تعالى : { فليمدد بسبب إِلى السماء } [ الحج : 15 ] قال الفراء : معناه : فليمدد سبباً . والعرب تقول : هزَّه ، وهزَّ به ، وخذ الخطام ، وخذ بالخطام ، وتعلَّق زيداً ، وتعلَّق به . وقال أبو عبيدة : هي مؤكدة ، كقول الشاعر :
نَضْرِبُ بالسَّيفِ ونرجو بالفرَج ... والثاني : أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهزِّ ، فهي مفيدة للالصاق ، قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى : { تساقط } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «تَسَّاقط» بالتاء مشددة السين . وقرأ حمزة ، وعبد الوارث : «تَسَاقط» بالتاء مفتوحة مخففة السين . وقرأ حفص عن عاصم : «تُساقِط» بضم التاء وكسر القاف مخففة السين . وقرأ يعقوب ، وأبو زيد عن المفضل : «يَسَّاقَط» بالياء مفتوجة وتشديد السين وفتح القاف . فهذه القراآت المشاهير . وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو حيوة : «تَسْقُط» بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف . وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعائشة ، والحسن : «يُساقِط» بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف . وقرأ الضحاك ، وعمرو بن دينار : «يُسْقِط» برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف . وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو عمران الجوني مثله ، إِلا أنه بالتاء . وقرأ معاذ القارىء ، وابن يعمر مثله ، إِلا أنه بالنون . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابن أبي عبلة : «يَسْقُط» بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف . وقرأ أبو السماك العدوي ، وابن حزام : «تتساقط» بتاءين مفتوحين وبألف . وقال الزجاج : من قرأ «يسَّاقط» فالمعنى : يتساقط ، فأدغمت التاء في السين . ومن قرأ «تسَّاقط» ، فكذلك أيضاً ، وأنث لأن لفظ النخلة يؤنث . ومن قرأ «تساقط» بالتاء والتخفيف ، فإنه حذف من «تتساقط» اجتماع التاءين . ومن قرأ «يُساقط» ذهب إِلى معنى : يُساقط الجذع عليك . ومن قرأ «نُساقط» بالنون ، فالمعنى : نحن نُساقط عليك ، فنجعله لك آية ، والنحويون يقولون : إِن «رطباً» منصوب على التمييز إِذا قلت : يسَّاقط أو يتساقط ، المعنى : يتساقط الجزع رطباً . وإِذا قلت : تسَّاقط بالتاء ، فالمعنى : تتساقط النخلة رطباً .
قوله تعالى : { جَنِيّاً } قال الفراء : الجَنِيّ : المجتنى ، وقال ابن الأنباري : هو الطريُّ ، والأصل : مجنوٌّ ، صُرف من مفعول إِلى فعيل ، كما يقال : قديد ، وطبيخ . وقال غيره : هو الطريّ بغباره : ولم يكن لتلك النخلة رأس ، فأنبته الله تعالى ، فلما وضعت يدها عليها ، سقط الرطب رَطْباً . وكان السلف يستحبُّون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام .
قوله تعالى : { فكلي } أي : من الرطب { واشربي } من النهر { وقَرِّي عينا } بولادة عيسى عليه السلام . قال الزجاج : يقال : قَرِرت به عيناً أقَر ، بفتح القاف في المستقبل ، وقَرِرت في المكان أقر ، بكسر القاف ، و«عيناً» : منصوب على التمييز .

وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال : معنى «وقرِّي عيناً» ، ولتبرد دمعتك ، لأن دمعة الفرح باردة ، ودمعة الحزن حارَّة . واشتقاق «قرِّي» من القَرور ، وهو الماء البارد . وقال لنا أحمد بن يحيى : تفسير «قرِّي عيناً» بلغتِ غاية أملك حتى تقرَّ عينك من الاستشراف إِلى غيره ، واحتج بقول عمرو ابن كلثوم :
بيوم كريهةٍ ضرباً وطعناً ... أقرَّ به مواليك العيونا
أي : ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم ، فقرَّت عينهم من تطلّع إِلى غيره .
قوله تعالى : { فإما تَرَيِنّ } وقرأ ابن عباس ، وأبو مجلز ، وابن السميفع ، والضحاك ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري : «ترئِنَّ» بهمزة مكسورة من غير ياء . أي : إِن رأيتِ من البشر أحداً فقولي؛ وفيه إِضمار تقديره : فسألك عن أمر ولدك . { فقولي إِنِّي نذرتُ للرحمن صوماً } فيه قولان .
أحدهما : صمتاً ، قاله ابن عباس ، وأنس بن مالك ، والضحاك؛ وكذلك قرأ أُبيّ بن كعب ، وأنس بن مالك ، وأبو رزين العقيلي : «صمتاً» مكان قوله : «صوماً» . وقرأ ابن عباس : صياماً .
والثاني : صوماً عن الطعام والشراب والكلام ، قاله قتادة . وقال ابن زيد : كان المجتهد من بني إِسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام ، إِلا من ذِكْر الله عز وجل . قال السدي : فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت . قال ابن مسعود : أُمِرتْ بالصمت ، لأنها لم تكن لها حُجَّة عند الناس ، فأُمرتْ بالكفِّ عن الكلام ليكفيَها الكلامَ ولدُها مما يُبرِّىء به ساحتها . وقيل : كانت تُكلِّم الملائكة ولا تكلِّم الإِنس . قال ابن الأنباري : الصوم في لغة العرب على أربعة معانٍ ، يقال : صوم لترك الطعام والشراب ، وصوم للصمت ، وصوم لضرب من الشجر ، وصوم لذَرْق النعام .
واختلف العلماء في مقدار سنِّ مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها وَلَدت وهي بنت خمس عشرة سنة ، قاله وهب بن منبِّه .
والثاني : بنت اثنتي عشرة سنة ، قاله زيد بن أسلم .
والثالث : بنت ثلاث عشرة سنة ، قاله مقاتل .

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } قال ابن عباس في رواية أبي صالح : أتتهم به بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها . وقال في رواية الضحاك : انطلق قومها يطلبونها ، فلما رأتْهم حملت عيسى فتلقَّتْهم به ، فذلك قوله تعالى : { فأتتْ به قومها تحمله } .
فإن قيل : «أتت به» يغني عن «تحمله» فلا فائدة للتكرير .
فالجواب : أنه لما ظهرت منه آيات ، جاز أن يتوهَّم السامع «فأتت به» أن يكون ساعياً على قدميه ، فيكون سعية آيةً كنطقه ، فقطع ذلك التوهُّمَ ، وأعلم أنه كسائر الأطفال ، وهذا مِثْل قول العرب : نظرت إِلى فلان بعيني ، فنفَوْا بذلك نظر العطف؛ والرحمة ، وأثبتوا [ أنه ] نظرُ عَيْنٍ . وقال ابن السائب : لما دخلت على قومها بَكَوْا ، وكانوا قوماً صالحين؛ و { قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : شيئاً عظيماً ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . قال الفراء : الفريُّ : العظيم ، والعرب تقول : تركته يفري الفريَّ ، إِذا عمل فأجاد العمل فَفَضَلَ الناس ، قيل هذا فيه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما رأيت عبقرياً يفري فَرْيَ عمر " . والثاني : عَجباً فائقاً ، قاله أبو عبيدة .
والثالث : شيئاً مصنوعاً ، ومنه يقال : فريت الكذب ، وافتريته ، قاله اليزيدي . قوله تعالى : { يا أخت هارون } في المراد بهارون هذا خمسة أقوال .
أحدها : أنه أخ لها من أُمِّها ، وكان من أمثل فتى في بني إِسرائيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . و قال الضحاك : كان من أبيها وأُمِّها .
والثاني : أنها كانت من بني هارون ، قاله الضحاك عن ابن عباس . وقال السدي : كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام ، فنُسبت إِليه ، لأنها من ولده .
والثالث : أنه رجل صالح كان في بني إِسرائيل ، فشبَّهوها به في الصلاح ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، وقتادة ، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أهل نجران ، فقالوا : ألستم تقرؤون : «يا أخت هارون» وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدرِ ما أُجيبهم ، فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه ، فقال : «ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم» " . والرابع : أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ ، فنسبوها إِليهم ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس : أنه رجل من فُسَّاق بني إِسرائيل شبَّهوها به ، قاله وهب بن منبِّه . فعلى هذا يخرج في معنى «الأخت» قولان .
أحدهما : أنها الأخت حقيقة .
والثاني : المشابهة ، لا المناسبة ، كقوله تعالى : { وما نريهم من آية إِلا هي أكبر من أختها } [ الزخرف : 48 ] .
قوله تعالى : { ما كان أبوكِ } يعنون : عِمران { امرأَ سَوْءٍ } أي : زانياً { وما كانت أُمُّكِ } حنَّة { بَغِيّاً } أي : زانية ، فمن أين لكِ هذا الولد؟!
قوله تعالى : { فأشارت } أي : أومأت { إِليه } أي : إِلى عيسى فتكلَّم .

وقيل المعنى : أشارت إِليه أنْ كلِّموه . وكان عيسى قد كلَّمها حين أتت قومها ، وقال : يا أُماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلما أشارت أن كلِّموه ، تعجَّبوا من ذلك ، و { قالوا كيف نكلِّم من كان } وفيها أربعة أقوال .
أحدها : أنها زائدة ، فالمعنى كيف نكلِّم صبياً في المهد؟! .
والثاني : أنها في معنى : وقع ، وحدث .
والثالث : أنها في معنى الشرط والجزاء ، فالمعنى : من يكن في المهد صبياً ، فكيف نكلِّمه؟! حكاها الزجاج ، واختار الأخير منها؛ قال ابن الأنباري : وهذا كما تقول : كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟! أي : من يكن لا يقبل ، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء .
والرابع : أن «كان» بمعنى : صار ، قاله قطرب .
وفي المراد بالمهد قولان .
أحدهما : حِجْرُها ، قاله نوفٌ ، وقتادة ، والكلبي .
والثاني : سرير الصبي المعروف ، حكاه الكلبي أيضاً .
قال السدي : فلما سمع عيسى كلامهم ، لم يزد على أن ترك الرَّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، فقال : إِني عبد الله . قال المفسرون : إِنما قدَّم ذِكر العبودية ، ليُبطلَ قول من ادَّعى فيه الربوبية . وفي قوله : { آتانيَ الكتاب } أسكن هذه الياء حمزة . وفي معنى الآية قولان .
أحدهما : أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أُمه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقيل : علم التوراة والإِنجيل وهو في بطن أُمه .
والثاني : قضى أن يؤتيني الكتاب ، قاله عكرمة .
وفي «الكتاب» قولان .
أحدهما : أنه التوراة .
والثاني : الإِنجيل .
قوله تعالى : { وجعلني نبيّاً } هذا وما بعده إِخبار عما قضى الله له وحكم له به ومنحه إِيَّاه مما سيظهر ويكون . وقيل : المعنى : يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيّاً إِذا بلغتُ؛ فحلَّ الماضي محلَّ المستقبل ، كقوله تعالى : { وإِذ قال الله يا عيسى } [ المائدة : 116 ] .
وفي وقت تكليمه لهم قولان .
أحدهما : أنه كلَّمهم بعد أربعين يوماً .
والثاني : في يومه . وهو مبنيٌّ على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم .
قوله تعالى : { وجعلني مبارَكاً أينما كنتُ } روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : " نفّاعاً حيثما توجهت " وقال مجاهد : معلِّماً للخير .
وفي المراد «بالزكاة» قولان .
أحدهما : زكاة الأموال ، قاله ابن السائب .
والثاني : الطهارة ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وبَرّاً بوالدتي } قال ابن عباس : لمَّا قال هذا ، ولم يقل : «بوالديّ» علموا أنه وُلد من غير بَشَر .
قوله تعالى : { ولم يجعلني جباراً } أي : متعظِّماً { شقيّاً } عاصياً لربه { والسَّلام عليَّ يومَ وُلدتُ } قال المفسرون : السلامة عليَّ من الله يوم وُلدتُ حتى لم يضرَّني شيطان . وقد سبق تفسير الآية [ مريم : 15 ] .
فإن قيل : لم ذكر هاهنا «السلام» بألف ولام ، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنه لمّا جرى ذِكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام ، كان الأحسن أن يَرِد ثانية بألف ولام ، هذا قول الزجاج .

وقد اعتُرِض على هذا القول ، فقيل : كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى ، على الأول وهو قول الله عز وجل؟!
وقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال : عيسى إِنما يتعلَّم من ربِّه ، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى ، فبنى عليه وألصقه بنفسه ، ويجوز أن يكون الله عز وجل عرَّف السلام الثاني لأنه أتى بعد سلام قد ذكره ، وأجراه عليه غير قاصدٍ به إِتباع اللفظ المحكيّ ، لأن المتكلِّم ، له أن يغيِّر بعض الكلام الذي يحكيه ، فيقول : قال عبد الله : أنا رَجُل منصف ، يريد : قال لي عبد الله : أنتَ رَجُل منصِف .
والجواب الثاني : أن سلاماً والسلام لغتان بمعنى واحد ، ذكره ابن الأنباري .

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)

قوله تعالى : { ذلك عيسى ابن مريم } قال الزجاج : أي ، ذلك الذي قال : إِني عبد الله ، هو ابن مريم ، لا ما تقول النصارى : إِنه ابن الله ، وإِنه إِله .
قوله تعالى : { قولَ الحق } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : «قولُ الحق» برفع اللام . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، ويعقوب : بنصب اللام . قال الزجاج : من رفع «قولُ الحق» فالمعنى : هو قولُ الحق ، يعني هذا الكلام؛ ومن نصب ، فالمعنى : أقول قول الحقّ . وذكر ابن الأنباري في الآية وجهين .
أحدهما : أنه لما وُصف بالكلمة جاز أن يُنعت بالقول .
والثاني : أن في الكلام إِضماراً ، تقديره : ذلك نبأُ عيسى ، ذلك النبأ قول الحق .
قوله تعالى : { الذي فيه يمترون } أي : يشكُّون . قال قتادة : امترت اليهود فيه والنصارى ، فزعم اليهود أنه ساحر ، وزعم النصارى أنه ابن الله وثالث ثلاثة . قرأ أبو مجلز ، ومعاذ القارىء ، وابن يعمر ، وأبو رجاء : «تمترون» بالتاء .
قوله تعالى : { ما كان لِلهِ أن يتَّخِذ مِن ولد } قال الزجاج : المعنى : أن يتخذ ولداً . و«مِنْ» مؤكِّدة تدل على نفي الواحد والجماعة ، لأن للقائل أن يقول : ما اتخذت فرساً ، يريد : اتخذت أكثر من ذلك ، وله أن يقول : ما اتخذت فرسين ولا أكثر ، يريد : اتخذت فرساً واحداً؛ فإذا قال : ما اتخذت من فرس ، فقد دلَّ على نفي الواحد والجميع .
قوله تعالى : { كن فيكون } وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن أبي عبلة : «فيكونَ» بالنصب ، وقد ذكرنا وجهه في [ البقرة 117 ] .
قوله تعالى : { وإِنّ الله ربِّي وربُّكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «وأنّ الله» بنصب الألف . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «وإِن الله» بكسر الألف . وهذا من قول عيسى؛ فمن فتح ، عطفه على قوله : { وأوصاني بالصَّلاة والزَّكاة } وبأن الله ربّي؛ ومن كسر ، ففيه وجهان .
أحدهما : أن يكون معطوفاً على قوله : { إِنِّي عبد الله } .
والثاني : أن يكون مستأنفاً .

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب مِنْ بينهم } قال المفسرون : «مِنْ» زائدة ، والمعنى : اختلفوا بينهم . وقال ابن الأنباري : لما تمسَّك المؤمنون بالحق ، كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين مقصوراً عليهم .
وفي الأحزاب قولان .
أحدهما : أنهم اليهود والنصارى ، فكانت اليهود تقول : إِنه لغير رِشْدَةٍ ، والنصارى تدَّعي فيه ما لا يليق به .
والثاني : أنهم فِرَق النصارى ، قال بعضهم : هو الله ، وقال بعضهم : ابن الله ، وقال بعضهم : ثالث ثلاثة .
قوله تعالى : { فويل للذين كفروا } بقولهم في المسيح { مِنْ مَشْهَدِ يومٍ عظيمٍ } أي : من حضورهم ذلك اليوم للجزاء .
قوله تعالى : { أَسْمِع بهم وَأَبْصِرْ } فيه قولان .
أحدهما : أن لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الخبر؛ فالمعنى : ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ، سمعوا وأبصروا حين لم ينفعهم ذلك لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه إِلى نظر وفِكر فعلموا الهدى وأطاعوا ، هذا قول الأكثرين .
والثاني : أَسْمِع بحديثهم اليوم ، وأبصِرْ كيف يُصنَع بهم { يوم يَأتوننا } ، قاله أبو العالية .
قوله تعالى : { لكن الظالمون } يعني : المشركين والكفار { اليومَ } يعني : في الدنيا { في ضلال مبين } .
قوله تعالى : { وأَنْذِرهم } أي : خوِّف كفَّار مكة { يومَ الحسرة } يعني : يوم القيامة يتحسَّر المسيء إِذ لم يُحْسِن ، والمقصِّر إِذ لم يَزْدَدْ من الخير .
وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرةٌ ، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنة ، فيشرئِبُّون وينظرون ، وقيل : يا أهل النار فيشرئبُّون وينظرون ، فيُجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيقال لهم : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : هذا الموت ، فيُذبَح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت؛ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وأَنذِرهم يومَ الحسرة إِذْ قُضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } " . قال المفسرون : فهذه هي الحسرة إِذا ذُبِح الموت ، فلو مات أحد فرحاً مات أهل الجنة ، ولو مات أحد حزناً مات أهل النار .
ومن موجبات الحسرة ، ما روى عديُّ بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " «يؤتى يوم القيامة بناسٍ إِلى الجنة ، حتى إِذا دَنَوْا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إِلى قصورها ، نودوا : أن اصرفوهم عنها ، لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون بحسرةٍ مَا رَجَعَ الأوَّلُون بمثلها ، فيقولون : يا ربنا لو أدخلْتَنا النار قبل أن تُرِيَنا ما أريتَنا كان أهون علينا؛ قال : ذلك أردتُ بكم ، كنتم إِذا خَلَوْتُمْ بارزتموني بالعظائم ، وإِذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم ، هِبْتم الناس ولم تهابوني ، وأجللتم الناس ولم تُجِلُّوني ، تركتم للناس ولم تتركوا لي ، فاليوم أُذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب " .

ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال : ليس من نفس يوم القيامة إِلا وهي تنظر إِلى بيت في الجنة ، وبيت في النار ، ثم يقال : يعني لهؤلاء : لو عملتم ، ولأهل الجنة : لولا أن منَّ الله عليكم . ومن موجبات الحسرة : قطع الرجاءِ عند إِطباق النار على أهلها .
قوله تعالى : { إِذ قُضي الأمر } قال ابن الأنباري : «قُضي» في اللغة بمعنى : أُتقن وأُحكم ، وإِنما سمِّي الحاكم قاضياً ، لإِتقانه وإِحكامه ما ينفِّذ . وفي الآية اختصار ، والمعنى : إِذ قضي الأمر الذي فيه هلاكهم .
وللمفسرين في الأمر قولان .
أحدهما : أنه ذبح الموت ، قاله ابن جريج ، والسدي .
والثاني : أن المعنى : قُضي العذاب لهم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وهم في غفلة } أي : هم في الدنيا في غفلة عما يُصنَع بهم ذلك اليوم { وهم لا يؤمنون } بما يكون في الآخرة .
قوله تعالى : { إِنّا نحن نرث الأرض } أي : نُميت سكَّانها فنرثها { ومَنْ عليها وإِلينا يُرْجَعون } بعد الموت .
فإن قيل : ما الفائدة في «نحن» وقد كفت عنها «إنّا»؟
فالجواب : أنه لما جاز في قول المعظَّم : «إِنّا نفعل» أن يوهم أن أتباعه قعلوا ، أبانت «نحن» بأن الفعل مضاف إِليه حقيقة .
فإن قيل : فلم قال : «ومَنْ عليها» وهو يرث الآدميين وغيرهم؟!
فالجواب : أن «مَنْ» تختص أهل التمييز ، وغيرُ المميِّزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون مجراها ، ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

قوله تعالى : { واذكر في الكتاب إِبراهيم } أي : اذكر لقومك قصته . وقد سبق معنى الصِّدِّيق في [ النساء : 69 ] .
قوله تعالى : { ولا يغني عنكَ شيئاً } أي : لا يدفع عنكَ ضرّاً .
قوله تعالى : { إِني قد جاءني من العِلْم } بالله والمعرفة { مالم يأتك } .
قوله تعالى : { لا تعبد الشيطان } أي : لا تُطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي . وقد شرحنا معنى «كان» آنفاً . و { عَصِيّاً } أي : عاصياً ، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» .
قوله تعالى : { إِني أخاف أن يَمَسَّكَ عذاب من الرحمن } قال مقاتل : في الآخرة؛ وقال غيره : في الدنيا ، { فتكونَ للشيطان وليّاً } أي : قريناً في عذاب الله ، فجرت المقارنة مجرى الموالاة . وقيل : إِنما طمع إِبراهيم في إِيمان أبيه ، لأنه حين خرج من النار قال له : نِعْمَ الإِله إِلهك يا إِبراهيم ، فحينئذ أقبل يعظه ، فأجابه أبوه : { أراغبٌ أنتَ عن آلهتي يا إِبراهيم } ! أي : أتارك عبادتها انت؟! { لئن لم تنته } عن عيبها وشتمها { لأرجمنَّك } وفيه قولان .
أحدهما : بالشتم والقول ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : بالحجارة حتى تتباعدَ عني ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { واهجرني مليّاً } فيه قولان .
أحدهما : اهجرني طويلاً ، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والفرَّاء ، والأكثرون . قال ابن قتيبة : اهجرني حيناً طويلاً ، ومنه يقال : تَمَليّت حبيبك .
والثاني : اجتنبني سالماً قبل أن تصيبَك عقوبتي ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضحاك؛ فعلى هذا يكون من قولهم : فلان مليٌّ بكذا وكذا : إِذا كان مضطلعاً به ، فالمعنى : اهجرني وعرضك وافر ، وأنت سليم من أذايَ ، قاله ابن جرير .
قوله تعالى : { قال سلام عليكَ } أي : سَلِمتَ من أن أُصيبَك بمكروه ، وذلك أنه لم يؤمَر بقتاله على كفره ، { سأستغفر لكَ ربِّي } فيه قولان .
أحدهما : أن المعنى : سأسأل الله لك توبةً تنال بها مغفرته .
والثاني : أنه وعده الاستغفار وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حقّ المُصرّين على الكفر ، ذكرهما ابن الأنباري .
قوله تعالى : { إِنه كان بي حفيّاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لطيفاً ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد ، والزجاج .
والثاني : رحيماً ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : بارّاً عوّدني منه الإِجابة إِذا دعوتُه ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { وأَعتزِلُكم } أي : وأتنحَّى عنكم ، { و } أعتزلُ { ما تدعون من دون الله } يعني : الأصنام .
وفي معنى «تَدْعُون» قولان .
أحدهما : تَعْبُدون .
والثاني : أن المعنى : وما تدعونه ربّاً ، { وأدعو ربِّي } أي : وأعبُده { عسى ألاَّ أكون بدعاء ربِّي شقيّاً } أي : أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شَقِيتُم أنتم بعبادة الأصنام ، لأنها لا تنفعهم ولا تُجيب دعاءَهم { فلما اعتزلهم } قال المفسرون : هاجر عنهم إِلى أرض الشام ، فوهب الله له إِسحاق ويعقوب ، فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولادٍ كرامٍ . قال أبو سليمان : وإِنما وهب له إِسحاق ويعقوب بعد إِسماعيل .
قوله تعالى : { وكلاً } أي : وكلاًّ من هذين . وقال مقاتل : «وكلاَّ» يعني : إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب { جعلناه نبيّاً } .
قوله تعالى : { ووهبنا لهم من رحمتنا } قال المفسرون : المال والولد والعِلْم والعمل ، { وجعلنا لهم لسان صِدْق عليّاً } قال ابن قتيبة : أي : ذِكْراً حَسَناً في النّاس مرتفعاً ، فجميع أهل الأديان يتولَّون إِبراهيم وذريَّته ويُثنون عليهم ، فوضع اللسان مكان القول ، لأن القول يكون باللسان .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)

قوله تعالى : { إِنه كان مخلصاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والمفضل عن عاصم : «مُخْلِصاً» بكسر اللام . وقرأ حمزة ، والكسائى ، وحفص عن عاصم بفتح اللام . قال الزجاج : المُخْلِص ، بكسر اللام : الذي وحَّد الله ، وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غيرَ دَنِسة ، والمُخْلَص ، بفتح اللام : الذي أخلصه الله ، وجعله مختاراً خالصاً من الدَّنَس .
قوله تعالى : { وكان رسولاً } قال ابن الأنباري : إِنما أعاد «كان» لتفخيم شأن النبيّ المذكور .
قوله تعالى : { وناديناه من جانب الطُّور } أي : من ناحية الطُّور ، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زَبِير . قال ابن الأنباري : [ إِنما ] خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم ، ومن كلامهم : عن يمين القِبلة وشمالها ، يعنون : مما يلي يمين المستقبِل لها وشماله ، فنقلوا الوصف إِلى ذلك اتِّساعاً عند انكشاف المعنى ، لأن الوادي لا يَدَ لَهُ فيكون له يمين . وقال المفسرون : جاء النداء عن يمين موسى ، فلهذا قال : «الأيمنِ» ، ولم يُرِد به يمين الجبل .
قوله تعالى : { وقرَّبناه نجيّاً } قال ابن الأنباري : معناه : مناجياً ، فعبَّر «فَعيل» عن «مُفَاعِل ، كما قالوا : فلان خليطي وعشيري : يعنون : مخالطي ومُعاشري . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : «وقرَّبناه» قال : حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح .
قوله تعالى : { ووهبنا له من رحمتنا } أي : من نعمتنا عليه إِذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل معه أخاه وزيراً له .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

قوله تعالى : { إِنه كان صادق الوعد } هذا عامّ فيما بينه وبين الله ، وفيما بينه وبين الناس . وقال مجاهد : لم يَعِد ربَّه بوعدٍ قطُّ إِلا وفى له به .
فإن قيل : كيف خُصَّ بصدق الوعد إِسماعيل ، وليس في الأنبياء من ليس كذلك؟
فالجواب : أن إِسماعيل عانى [ في الوفاء ] بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء ، فأُثني عليه بذلك . وذكر المفسرون : أنه كان بينه وبين رجل ميعاد ، فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أقام حَوْلاً ، قاله ابن عباس .
والثاني : اثنين وعشرين يوماً ، قاله الرقاشي .
والثالث : ثلاثة أيام ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وكان رسولاً } إِلى قومه ، وهم جُرْهُم . { وكان يأمر أهله } قال مقاتل : يعني : قومه . وقال الزجاج : أهله : جميعُ أُمَّته . فأما الصلاة والزكاة ، فهما العبادتان المعروفتان .
قوله تعالى : { ورفعناه مكاناً عَلِيّاً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه في السماء الرابعة ، روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج : أنه رأى إِدريس في السماء الرابعة ، وبهذا قال أبو سعيد الخدريّ ، ومجاهد ، وأبو العالية .
والثاني : أنه في السماء السادسة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والثالث : أنه في الجنة ، قاله زيد بن أسلم ، وهذا يرجع إِلى الأول ، لأنه قد روي أن الجنة في السماء الرابعة .
والرابع : أنه في السماء السابعة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
وفي سبب صعوده إِلى السماء ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان يصعد له من العمل مِثْلُ ما يصعد لجميع بني آدم ، فأحبَّه مَلَك الموت ، فاستأذن اللهَ في خُلَّته ، فأذن له ، فهبط إِليه في صورة آدمي ، وكان يصحبه فلما عرفه ، قال إِنِّي أسألك حاجة ، قال : ما هي؟ قال : تذيقني الموت ، فلعلِّي أعلم ما شدَّته فأكون له أشدّ استعداداً؛ فأوحى الله إِليه أن اقبض روحه ساعةً ثم أَرْسِله ، ففعل ، ثم قال : كيف رأيتَ؟ قال : كان أشدَّ مما بلغني عنه ، وإِني أُحب أن تريَني النار ، قال : فحمله ، فأراه إِيّاها؛ قال : إِني أُحِبُّ أن تريَني الجنة ، فأراه إِياها ، فلما دخلها وطاف فيها ، قال له ملك الموت : اخرج ، فقال : والله لا أخرج حتى يكون الله تعالى يُخرجني؛ فبعث الله مَلَكاً فحكم بينهما ، فقال : ما تقول يا مَلَك الموت؟ فقصَّ عليه ما جرى؛ فقال : ما تقول يا إِدريس؟ قال : إِن الله تعالى قال : { كُلُّ نَفْس ذائقة الموت } [ آل عمران : 185 ] ، وقد ذُقْتُه ، وقال : { وإِن منكم إِلا واردها } [ مريم : 71 ] ، وقد وردتُها ، وقال لأهل الجنة : { وما هم منها بمُخْرَجِين } [ الحجر : 48 ] ، فوالله لا أخرج حتى يكون الله يُخرجني؛ فسمع هاتفاً من فوقه يقول : باذني دخل ، وبأمري فعل ، فخلِّ سبيله؛ هذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

فإن سأل سائل فقال : من أين لإِدريس هذه الآيات ، وهي في كتابنا؟! فقد ذكر ابن الأنباري عن بعض العلماء ، قال : كان الله تعالى قد أعلم إِدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود ، وامتناع الخروج من الجنة ، وغير ذلك ، فقال ما قاله بعلم .
والثاني : أن ملَكاً من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إِلى إِدريس ، فأذن له ، فلما عرفه إِدريس ، قال : هل بينك وبين ملك الموت قرابة؟ قال : ذاك أخي من الملائكة ، قال : هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت؟ قال سأكلِّمه فيك ، فيرفق بك ، اركب ببن جناحيّ ، فركب إِدريس ، فصعد به إِلى السماء ، فلقي ملك الموت ، فقال : إِن لي إِليك حاجة ، قال : أعلم ما حاجتك ، تكلِّمني في إِدريس وقد محي اسمه من الصحيفة ولم يبق من أَجَله إِلا نصف طرفة عين؟! فمات إِدريس بين جناحي الملَك ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال أبو صالح عن ابن عباس : فقبض ملك الموت روح إِدريس في السماء السادسة .
والثالث : أن إِدريس مشى يوماً في الشمس ، فأصابه وهجها ، فقال : اللهم خفِّف ثقلها عمَّن يحملها ، يعني به الملك الموكَّل بالشمس ، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرِّها مالا يعرف ، فسأل الله عز وجل عن ذلك ، فقال : إِن عبدي إِدريس سألني أن أُخفِّف عنكَ حِملها وحرَّها ، فأجبْتُه ، فقال : يا رب اجمع بيني وبينه ، واجعل بيننا خُلَّة ، فأَذِن له ، [ فأتاه ] ، فكان مما قال له إِدريس : اشفع لي إِلى ملك الموت ليؤخِّر أجَلي ، فقال : إِن الله لا يؤخِّر نفساً إِذا جاء أَجَلُها ، ولكن أُكلِّمه فيك ، فما كان مستطيعاً أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك ، ثم حمله الملك على جناحه ، فرفعه إِلى السماء ، فوضعه عند مطلع الشمس ، ثم أتى ملكَ الموت فقال : إِن لي إِليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفَّعَ بي إِليك لتؤخِّر أجَلَه ، قال : ليس ذاك إِليَّ ، ولكن إِن أحببتَ أعلمتُه متى يموت ، فنظر في ديوانه ، فقال : إِنك كلمتني في إِنسان ما أراه يموت أبداً ، ولا أجده يموت إِلا عند مطلع الشمس ، فقال : إِني أتيتك وتركته هناك ، قال : انطلق ، فما أراك تجده إِلا ميتاً ، فوالله ما بقي من أجله شيء ، فرجع الملك فرآه ميتاً . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وكعب في آخرين . فهذا القول والذي قبله يدلاّن على أنه ميت ، والقول الأول يدل على أنه حيّ .

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

قوله تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين } يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة { من ذُرِّيَّة آدم } يعني إِدريس { وممن حَمَلْنا مع نوح } يعني إِبراهيم ، لأنه من ولد سام بن نوح { ومن ذرية إِبراهيم } يريد : إِسماعيل وإِسحاق ويعقوب { وإِسرائيل } يعني : ومن ذرية إِسرائيل ، وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى .
قوله تعالى : { وممن هَدَينا } أي : هؤلاء كانوا ممن أرشَدْنا ، { واجتَبَيْنَا } أي : واصطَفَيْنا .
قوله تعالى : { خرُّوا سُجَّداً } قال الزجاج : «سُجَّداً» حال مقدَّرة ، المعنى : خرُّوا مقدِّرين السجود ، لأن الإِنسان في حال خروره لا يكون ساجداً ، ف «سُجَّداً» منصوب على الحال ، وهو جمع ساجد «وبُكيّاً» معطوف عليه ، وهو : جمع باكٍ ، فقد بيَّن الله تعالى أن الأنبياء كانوا إِذا سمعوا آيات الله سجدوا وبَكَوْا من خشية الله .
قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خَلْفٌ } قد شرحناه في [ الأعراف : 169 ] . وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم اليهود ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : اليهود والنصارى ، قاله السدي .
والثالث : أنهم من هذه الأُمَّة ، يأتون عند ذهاب صالحي أُمة محمد صلى الله عليه وسلم يتبارَوْن بالزنا ، ينزو بعضهم على بعض في الأزقّة زناة ، قاله مجاهد ، وقتادة .
قوله تعالى : { أضاعوا الصلاة } وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين العقيلي ، والحسن البصري : «الصلوات» على الجمع .
وفي المراد باضاعتهم إِياها قولان .
أحدهما : أنهم أخَّروها عن وقتها ، قاله ابن مسعود ، والنخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم بن مخيمرة .
والثاني : تركوها ، قاله القرظي ، واختاره الزجاج .
قوله تعالى : { واتَّبَعوا الشهوات } قال أبو سليمان الدمشقى : وذلك مثل استماع الغناء ، وشرب الخمر ، والزنا ، واللهو ، وما شاكل ذلك مما يقطع عن أداء فرائض الله عز وجل .
قوله تعالى : { فسوف يلقون غيّاً } ليس معنى هذا اللقاء مجرد الرؤية ، وإِنما المراد به الاجتماع والملابسة مع الرؤية . وفي المراد بهذا الغيّ ستة أقوال .
أحدها : أنه وادٍ في جهنم ، روراه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال كعب .
والثاني : أنه نهر في جهنم ، قاله ابن مسعود .
والثالث : أنه الخسران ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والرابع : أنه العذاب ، قاله مجاهد .
والخامس : أنه الشرُّ ، قاله ابن زيد ، وابن السائب .
والسادس : أن المعنى : فسوف يلقون مجازاة الغي ، كقوله : { يلقَ أثاماً } [ الفرقان : 68 ] أي : مجازاة الآثام ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { إِلا من تاب وآمن } فيه قولان .
أحدهما : تاب من الشرك ، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
والثاني : تاب من التقصير في الصلاة ، وآمن من اليهود والنصارى .
قوله تعالى : { جناتِ عدن } وقرأ أبو رزين العقيلي ، والضحاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «جناتُ» برفع التاء . وقرأ الحسن البصري ، والشعبي ، وابن السميفع : «جنةُ عدن» على التوحيد مع رفع التاء .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20