كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ، ولكنه في عصرنا هذا قد خمل هذا المذهب.
ولما كان اللحم يتضمن عند مالك الشحم ، ذهب إلى أنه لو حلف حالف أن لا يأكل لحماً ، فأكل شحماً ، أنه يحنث.
وخالفه أبو حنيفة والشافعي فقالا : لا يحنث ، كما لو حلف أنه لا يأكل شحماً ، فأكل لحماً.
وقال تعالى : { حرمنا عليهم شحومهما } والإجماع ، أن اللحم ليس بمحرم على اليهود ، فالحق أن كلاًّ منهما لا يندرج تحت لفظ الآخر.
واختلفوا في الانتفاع بشعره ، في خرز وغيره ، فأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي ، ولم يجز ذلك الشافعي.
وقال أبو يوسف : أكره الخرز به.
وروي عنه الإباحة أيضاً.
وهل يتناول لفظ الخنزير خنزير البحر؟ ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه؟ فمنعوا من أكله؟ وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي : لا بأس بأكله.
وقال الليث : لا يؤكل خنزير الماء ، ولا إنسانه ، ولا كلبه.
وسئل مالك عن خنزير الماء ، فتوقف وقال : أنتم تسمونه خنزيراً.
وقال ابن القاسم : أنا أتقيه ولا أحرمه.
وعلة تحريم لحم الخنزير قالوا : تفرد النصارى بأكله ، فنهى المسلمون عن أكله ، ليكون ذلك ذريعة إلى أن تقاطعوهم ، إذ كان الخنزير من أنفس طعامهم.
وقيل : لكونه ممسوخاً ، فغلظ تحريم أكله لخبث أصله.
وقيل : لأنه يقطع الغيرة ويذهب بالأنفة ، فيتساهل الناس في هتك المحرم وإباحة الزنا ، ولم تشر الآية الكريمة إلى شيء من هذه التعليلات التي ذكروها.
{ وما أهلّ به لغير الله } : أي ما ذبح للأصنام والطواغيت ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ، أو ما ذكر عليه اسم غير الله ، قاله الربيع بن أنس وغيره ، أو ما ذكر اسم المسيح عليه ، قاله الزهري ، أو ما قصد به غير وجه الله تعالى للتفاخر والتباهي ، قاله عليّ والحسن.
وروي أن علياً قال في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق : إنها مما أهلّ بها لغير الله ، فتركها الناس ، راعى على النية في ذلك.
ومنع الحسن من أكل جزور ذبحتها امرأة للعبها وقال : إنها نحرت لصنم.
وسئلت عائشة عن أكل ما يذبحه الأعاجم لأعيادهم ويهدون للمسلمين فقالت : لا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم.
والذي يظهر من الآية تحريم ما ذبح لغير الله ، فيندرج في لفظ غير الله الصنم والمسيح والفخر واللعب ، وسمي ذلك إهلالاً ، لأنهم يرفعون أصواتهم باسم المذبوح له عند الذبيحة ، ثم توسع فيه وكثر حتى صار اسماً لكل ذبيحة جهر عليها أو لم يجهر ، كالإهلال بالتلبية صار علماً لكل محرم رفع صوته أو لم يرفعه.
ومن حمل ذلك على ما ذبح على النصب ، وهي الأوثان ، أجاز ذبيحة النصراني ، إذا سمى عليها باسم المسيح.

وإلى هذا ذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والليث.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي : لا تؤكل ذبائحهم إذا سموا عليها اسم المسيح ، وهو ظاهر قوله : { لغير الله } كما ذكرناه ، لأن الإهلال لغير الله ، هو إظهار غير اسم الله ، ولم يفرق بين اسم المسيح واسم غيره.
وروي عن علي أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا.
وأهلّ : مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله.
والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله : به ، والضمير في به عائد على ما ، إذ هي موصولة بمعنى الذي.
ومعنى أهل بكذا ، أي صالح.
فالمعنى : وما صيح به ، أي فيه ، أي في ذبحه لغير الله ، ثم صار ذلك كناية عن كل ما ذبح لغير الله ، صيح في ذبحه أو لم يصح ، كما ذكرناه قبل.
وفي ذبيحتة المجوسي خلاف.
وكذلك فيما حرم على اليهودي والنصراني بالكتاب.
أما ما حرموه باجتهادهم ، فذلك لنا حلال.
ونقل ابن عطية عن مالك : الكراهة فيما سمى عليه الكتابي اسم المسيح ، أو ذبحه لكنيسة ، ولا يبلغ به التحريم.
{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ، وقال : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم } وقال : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فلم يقيد في هذه الآية الاضطرار ، وقيده فيما قبل.
فإن المضطر يكون غير متجانف لإثم.
وفي الأولى بقوله : { غير باغ ولا عاد }.
قال مجاهد وابن جبير وغيرهما : غير باغ على المسلمين وعاد عليهم.
فيدخل في الباغي والعادي : قطاع السبيل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم ، والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة.
وإلى هذا ذهب الشافعي ، وهو أنه إذا لم يخرج باغياً على إمام المسلمين ، ولم يكن سفره في معصية ، فله أن يأكل من هذه المحرّمات إذا اضطر إليها.
وإن كان سفره في معصية ، أو كان باغياً على الإمام ، لم يجز له أن يأكل.
وقال عكرمة وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم : غير قاصد فساد وتعدّ ، بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة.
وقال ابن عباس والحسن : غير باغ في الميتة في الأكل ، ولا عاد بأكلها ، وهو يجد غيرها ، وهو يرجع لمعنى القول قبله.
وبه قال أبو حنيفة ومالك : وأباح هؤلاء للبغاة الخارجين على المسلمين الأكل من هذه المحرّمات عند الاضطرار ، كما أباحوا لأهل العدل.
وقال السدي : غير باغ ، أي متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوّته ، فيجيء أكله شهوة ، ولا عاد ، أي متزوّد.
وقيل : غير باغ ، أي مستحل لها ، ولا عاد ، أي متزوّد منها.
وقال شهر بن حوشب : غير باغ ، أي مجاوز القدر الذي يحل له ، ولا عاد ، أي لا يقصده فيما لا يحل له.

والظاهر من هذه الأقوال ، على ما يفهم من ظاهر الآية ، أنه لا إثم في تناول شيء من هذه المحرمات للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد.
وإن قوله : { إلا ما اضطررتم إليه } ، لا بد فيه من التقييد المذكور هنا ، وفي قوله : { غير متجانف لإثم } ، لأن آية الأنعام فيها حوالة على هاتين الآيتين ، لأنه قال : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه }.
وتفصيل المحرّم هو في هاتين الآيتين ، والاضطرار فيهما مقيد ، فتعين أن يكون مقيداً في الآية التي أحيلت على غيرها.
والظاهر في البغي والعدوان ، أن ذلك من قبل المعاصي ، لأنهما متى أطلقتا ، تبادر الذهن إلى ذلك.
وفي جواز مقدار ما يأكل من الميتة ، وفي التزوّد منها ، وفي شرب الخمر عند الضرورة قياساً على هذه المحرمات.
وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه ، قالوا : وإن وجد ميتة وخنزيراً ، أكل الميتة ، قالوا : لأنها أبيحت له في حال الاضطرار ، والخنزير لا يحل بحال ، وليس كما قالوا ، لأن قوله : { فمن اضطر } جاء بعد ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.
فالمعنى : فمن اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، فرتبتها في الإباحة للأكل منها متساوية ، فليس شيء منها أولى من الآخر بالإباحة ، والمضطر مخير فيما يأكل منها.
فقولهم : إن الخنزير لا يحل بحال ليس بصحيح.
وذكر بعض المفسرين أنهم أجمعوا على أن من سافر لغزو ، أو حج ، أو تجارة ، وكان مع ذلك باغياً في أخذ مال ، أو عادياً في ترك صلاة أو زكاة ، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعاً من استباحة الميتة للضرورة.
وأنهم أجمعوا أيضاً على جواز الترخيص للباغي ، أو العادي الحاضر ، وفي نقل هذين الإجماعين نظر.
واختلف القراء في حركة النون من قوله : { فمن اضطر } { وأن احكم } { ولكن انظر } ، وشبهه وحركة الدال من : { ولقد استهزئ } والتاء من : { وقالت اخرج عليهن } وحركة التنوين من : { فتيلاً انظر } ونحوه ، وحركة اللام من نحو : { قل ادعوا الله } والواو من نحو : { أو ادعوا الرحمن } فكسر ذلك عاصم وحمزة ، وحركها أبو عمرو ، إلا في اللام والواو؛ وعباس ويعقوب ، إلا في الواو؛ وضم باقي السبعة ، إلا ابن ذكوان ، فإنه كسر التنوين.
وعنه في : { برحمة ادخلوا } و { خبيثة اجتثت } خلاف ، وضابط هذا أنه يكون ضمة هذه الأفعال لازمة ، فإن كانت عارضة ، فالكسر نحو : { أن امشوا } وتوجيه الكسر أنه حركة التقاء الساكنين ، والضم أنه اتباع.
ولم يعتدوا بالساكن ، لأنه حاجز غير حصين ، أو ليدلوا على أن حركة همزة الوصل المحذوفة كانت ضمة.
وقرأ أبو جعفر وأبو السمال : فمن اضطر ، بكسر الطاء ، وأصله اضطرر ، فلما أدرغم نقلت حركة الراء إلى الطاء.
وقرأ ابن محيصن : فمن اطر ، بإدغام الضاد في الطاء ، وذلك حيث وقع.
ومعنى الاضطرار : الالجاء بعدم ، وغرث هذا قول الجمهور.

وقيل معناه : أكره وغلب على أكل هذه المحرمات.
وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر ، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله : اضطر ، وقدره : فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد.
قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل ، لا في الاضطرار.
ولا يتعين ما لاقاه ، إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله : غير باغ ولا عاد ، بل هو الظاهر والأولى ، لأن في تقدير قبل غير باغ ولا عاد فصلاً بين ما ظاهره الاتصال بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله غير باغ ولا عاد.
وعاد : اسم فاعل من عدا ، وليس اسم فاعل من عاد ، فيكون مقلوباً ، أو محذوفاً من باب شاك ولاث ، كما ذهب إليه بعضهم ، لأن القلب لا ينقاس ، ولا نصير إليه إلا لموجب ، ولا موجب هنا لادعاء القلب.
وأصل البغي ، كما تقدم ، هو طلب الفساد ، وإن كان قد ورد لمطلق الطلب ، فاستعمل في طلب الخير ، كما قال الشاعر :
أألخير الذي أنا أبتغيه . . .
أم الشر الذي هو يبتغيني
وقال :
لا يمنعك من بغاء الخير تعقاد التمائم . . .
فلا إثم عليه ، الإثم : تحمل الذنب ، نفى بذلك عنه الحرج.
والمحذوف الذي قدرناه من قولنا : فأكل ، لا بد منه ، لأنه لا ينفي الإثم عمن لم يوجد منه الاضطرار ، ولا يترتب ذلك على الاضطرار وحده ، بل على الأكل المترتب على الاضطرار ، في حال كون المضطر لا باغياً ولا عادياً.
وظاهر هذا التركيب أنه متى كان عاصياً بسفره فأكل ، أنه يكون عله الإثم ، لأنه يطلق أنه باغ ، خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه ، فإنه يبيح له الأكل عند الضرورة.
وظاهر بناء اضطر حصول مطلق الضرورة بشغب ، أو إكراه ، سواء حصل الاضطرار في سفر أو حضر.
وظاهر قوله : { فلا إثم عليه } نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل ، لا وجوب الأكل.
وقال الطبري : ليس الأكل عند الضرورة رخصة ، بل ذلك عزيمة واجبة ، ولو امتنع من الأكل كان عاصياً.
وقال مسروق : بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار ، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له.
{ إن الله غفور رحيم } : لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها ، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له ، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم ، لأن المخاطب بصدد أن يخالف ، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات ، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بهم.
أو لأن المخاطب ، إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة ، فهو تعالى غفور له ذلك ، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة.

أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات ، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع ، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة ، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة ، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك.
.
{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } : روي عن ابن عباس أنها نزلت في علماء اليهود ، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم.
فلما بعث من غيرهم ، غيروا صفته وقالوا : هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، حتى لا يتبعوه.
وروي عنه أنه قال : إن الملوك سألوا علماءهم قبل المبعث : ما الذي تجدون في التوراة؟ فقالوا : نجد أن الله يبعث نبياً من بعد المسيح يقال له محمد ، بتحريم الربا والخمر والملاهي وسفك الدماء.
فلما بعث ، قالت الملوك لليهود : هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالوا ، طمعاً في أموال الملوك : ليس هذا بذلك النبي.
فأعطاهم الملوك الأموال ، فأنزلت إكذاباً لهم.
وقيل : نزلت في كل كاتم حق ، لأخذ غرض أو إقامة غرض من مؤمن ويهودي ومشرك ومعطل.
وإن صح سبب نزول ، فهي عامة ، والحكم للعموم.
وإن كان السبب خاصاً ، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك ، لسبب دنيا يصيبها.
{ ما أنزل الله من الكتاب } : ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل ، وأنه تعالى أنزل ملكاً به ، أي بالكتاب على رسوله.
وقيل : معنى أنزل الله ، أي أظهر ، كقوله : { سأنزل مثل ما أنزل الله } ، أي أظهر.
فكون المعنى : أن الذين يكتمون ما أظهر الله ، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان.
وفي المراد بالكتاب هنا أقوال : أحدها : أنه التوراة ، فيكون الكاتمون أحبار اليهود ، كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيروها ، وكتموا آيات في التوراة ، كآية الرجم وشبه ذلك.
وقيل : التوراة والإنجيل ، ووحد اللفظ على المكتوب ، ويكون الكاتمون اليهود والنصارى.
وصف الله نبيه في الكتابين ، ونعته فيهما وسماه فقال : { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } وقال : { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } والطائفتان أنكروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد شهدت التوراة والإنجيل بذلك ، والنصوص موجودة فيهما ، إلا أن في مواضع منها في التوراة في الفصل التاسع ، وفي الفصل العاشر من السفر الأول ، وفي الفصل العشرين من السفر الخامس.
ومنها في الإنجيل مواضع تدلّ على ذلك ، قد ذكر جميعها ، من تعرض للكلام على ذلك.
وقيل : الكتاب المكتوب ، وهو أعم من التوراة والإنجيل ، فيتناول كل من كتم ما أنزل الله مما يتعلق بالأحكام قديماً وحديثاً ، وكل كاتم لحق وساتر لأمر مشروع.
{ ويشترون به ثمناً قليلاً } : لما تعوضوا عن الكتم شيئاً من سحت الدّنيا ، أشبه ذلك البيع والشراء ، لانطوائهما على عوض ومعوض عنه ، فأطلق عليه اشتراء.
وبه : الضمير عائد على الكتمان ، أو الكتاب ، أو على الموصول الذي هو : ما أقوال ثلاثة ، أظهرها الآخر ، ويكون على حذف مضاف ، أي بكتم ما أنزل الله به.

والفرق بين هذا القول وقول من جعله عائداً على الكتم ، أنه يكون في ذلك القول عائداً على المصدر المفهوم من قوله : { يكتمون } ، وفي هذا عائداً على ما على حذف مضاف ، وتقدم الكلام في تفسير قوله : { ليشتروا به ثمناً قليلاً } فأغنى عن إعادته ، إلا فعل الاشتراء جعل علة هناك وهنا جعل معطوفاً على قوله { يكتمون } ، ورتب الخبر على مجموع الأمرين من الكتم والاشتراء ، لأن الكتم ليست أسبابه منحصرة في الاشتراء ، بل الاشتراء بعض أسبابه.
فكتم ما أنزل الله من الكتاب ، وهو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنكار نبوته وتبديل صفته ، كان لأمور منها البغي ، { بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } ومنها الخسارة ، لكونه من العرب لا منهم.
ومنها طلب الرياسة ، وأن يستتبعوا أهل ملتهم.
ومنها تحصيل أموالهم ورشاء ملوكهم وعوامهم.
{ أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } : أتى بخبر إن جملة ، لأنها أبلغ من المفرد ، وصدر بأولئك ، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة.
وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة : الأول : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار } ، فمنهم من حمله على ظاهره وقال : إن ذلك يكون في الدنيا ، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم ناراً ، فلا يحسون بها إلا بعد الموت.
ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار ، استدراجاً وإملاء لهم.
ويكون في هذا المعنى بعض تجوز ، لأنه حالة الأكل لم يكن ناراً ، إنما بعد صارت في بطونهم ناراً.
وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة ، فهو حقيقة أيضاً.
واختلفوا فقيل : جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل ناراً في الآخرة ، ثم يطعمهم الله إياه في النار.
وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه.
وأكثر العلماء على تأويل قوله : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار } ، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله ، والاشتراء به الثمن القليل ، بالنار.
وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار.
وعبر بالأكل ، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال.
وذكر في بطونهم ، إما على سبيل التوكيد ، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن ، فصار نظير : { ولا طائر يطير بجناحيه } أو كناية عن ملء البطن ، لأنه يقال : فلان أكل في بطنه ، وفلان أكل في بعض بطنه.
أو لرفع توهم المجاز ، إذ يقال : أكل فلان ماله ، إذا بذره ، وإن لم يأكله.
وجعل المأكول النار ، تسمية له بما يؤول إليه ، لأنه سبب النار ، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم ، يريدون الدية ، لأنها بدل من الدم ، قال الشاعر :

فلو أن حياً يقبل المال فدية . . .
لسقنا إليه المال كالسيل مفعما
ولكن لنا قوم أصيب أخوهم . . .
رضا العار واختاروا على اللبن الدما
وقال آخر :
أكلت دماً إن لم أرعك بضربة . . .
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال آخر :
تأكل كل ليلة أكافا . . .
أي ثمن أكاف ، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك.
وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير ، ومن ذلك : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرهم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول ، قاله الراغب.
وقال ابن عطية نحوه ، قال : وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم ، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم.
{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة } : هذا الخبر الثاني عن أولئك ، وظاهره نفي الكلام مطلقاً ، أعني مباشرتهم بالكلام ، فيكون ما جاء في القرآن ، أو في السنة ، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام ، متأولاً بأنه يأمر من يقول لهم ذلك ، نحو قوله تعالى : { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون } ويكون في نفي كلامه تعالى إياهم ، دلالة على الغضب عليهم ، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه؟ لأن في التكلم ، ولو كان بشر ، تأنيساً مّا والتفاتاً إلى المكلم.
وقيل : معنى ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم.
وليس المراد نفي الكلام ، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره : أنه يكلم الكافرين ، قاله الحسن.
وقيل : المعنى ليس على العموم ، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم ، كقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } والسؤال لا يكون إلا بالتكليم ، وقال : { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون }.
فالمعنى : لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية ، وإنما يكلمهم كلاماً يشق عليهم.
وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية.
وقيل : ولا يكلمهم الله ، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه.
وقيل : المعنى لا يحملهم على الكلام ، لأن من كلمته ، كنت قد استدعيت كلامه ، كأنه قال : لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } فنفى الكلام ، وهو يراد ما يلزم عنه ، وهو استدعاء الكلام.
{ ولا يزكيهم } : هذا هو الخبر الثالث ، والمعنى : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء ، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء.
وقيل : المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة.
وقيل : المعنى لا يثني عليهم من قولهم : زكى فلاناً ، إذ أثنى عليه ، قاله الزجاج.
وقيل : لا يطهرهم من دنس كفرهم ، وهو معنى قول بعضهم : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، قاله ابن جرير.
وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء.

{ ولهم عذاب أليم } : هذا هو الخبر الرابع لأولئك ، وقد تقدم تفسير قوله : { ولهم عذاب أليم } في أول السورة.
وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار الأربعة ، وانعطفت بالواو الجامعة لها.
وعطف الأخبار بالواو ، ولا خلاف في جوازه ، بخلاف أن لا تكون معطوفة ، فإن في ذلك خلافاً وتفصيلاً.
وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها ، ومناسب عطف بعضها على بعض ، لما نذكره فنقول : متى ذكر وصف ورتب عليه أمر ، فللعرب فيه طريقان : أحدهما : أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها ، الأول منها لأول تلك الأوصاف ، والثاني للثاني ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي ، حيث قوبل الأول بالأول ، والثاني بالثاني.
وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاوراً لما يليه من تلك الأوصاف ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ، لا من حيث الترتيب اللفظي ، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل.
لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل ، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية ، بدأ أولاً في الخبر بقوله : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار }.
ثم قابل تعالى كتمانهم الدين والكتمان ، هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى : { ولا يكلمهم الله } ، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم ، وابتنى على كتمانهم الدين ، واشترائهم بما أنزل الله ثمناً قليلاً ، أنهم شهود زور وأخبار سوء ، حيث غيروا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا ، فقوبل ذلك كله بقوله : { ولا يزكيهم }.
ثم ذكر أخيراً ما أعد لهم من العذاب الأليم ، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله : { ما يأكلون في بطونهم إلا النار } ، وعلى الكتمان قوله : { ولا يكلمهم الله } ، وعلى مجموع الوصفين قوله : { ولا يزكيهم عذاب أليم }.
فبدأ أولاً : بما يقابل فرداً فرداً ، وثانياً : بما يقابل المجموع.
ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله ، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله.
ولما كانت الثانية مسندة إليهم ، ليس فيها إسناد إلى الله ، جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم ، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار.
وناسب ذكر هذه الآية ما قبلها ، لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات ، ثم فصل أشياء من المحرمات ، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئاً من دين الله ، ومما أنزله على أنبيائه ، فكان ذلك تحذيراً أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب ، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمناً قليلاً.
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } ، أولئك : اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم ، وذكر ما أوعدوا به ، وتقدم تفسير : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } مستوعباً في أول السورة ، فأغنى عن إعادته.
{ والعذاب بالمغفرة } : لما قدم حالهم في الدنيا ، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة ، ذكر نتيجة ذلك في الآخرة ، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى.

وسبب النعم الأطول السرمدي ، العذاب الأطول السرمدي ، الذي هو نتيجة الضلالة ، لأنهم لما كانوا عالمين بالحق ، وكتموه لغرض خسيس دنياوي.
فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة.
وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب ، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة.
واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة ، وعدم النظر في العواقب.
{ فما أصبرهم على النار } : اختلف في ما ، فالأظهر أنها تعجبية ، وهو قول الجمهور من المفسرين.
وقد جاء : { قتل الإنسان ما أكفره } { أسمع بهم وأبصر } وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا ، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو.
الأول قول سيبويه والجمهور ، والثاني قول الفراء وابن درستويه ، والثالث والرابع للأخفش.
وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية ، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين ، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين.
وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده ، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟ وإذا قلنا : إن الكلام هو تعجب ، فالتعجب هو استعظام الشيء وخفاء حصول السبب ، وهذا مستحيل في حق الله تعالى ، فهو راجع لمن يصح ذلك منه ، أي هم ممن يقول فيهم من رآهم : ما أصبرهم على النار! واختلف قائلو التعجب ، أهو صبر يحصل لهم حقيقة إذا كانوا في النار؟ فذهب إلى ذلك الأصم وقال : إذا قيل لهم : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } سكتوا وانقطع كلامهم ، وصبروا على النار ليأسهم من الخلاص.
وضعف قول الأصم ، بأن ظاهر التعجب ، أنه من صبرهم في الحال ، لا أنهم سيصبرون ، وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع.
وقيل : الصبر مجاز عن البقاء في النار ، أي ما أبقاهم في النار.
أم هو صبر يوصفون به في الدنيا؟ وهو قول الجمهور.
واختلف ، أهو حقيقة أم مجاز؟ والقائلون بأنه حقيقة ، قالوا : معناه ما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار ، لأنهم كانوا علماء بأن من عاند النبي صلى الله عليه وسلم صار إلى النار ، قاله المؤرج.
وقيل : التقدير ما أصبرهم على عمل أهل النار ، كما تقول : ما أشبه سخاءك بحاتم ، أي بسخاء حاتم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وهو قول الكسائي وقطرب ، وهو قريب من قول المؤرج.
وقيل : اصبر هنا بمعنى أجرأ ، وهي لغة يمانية ، فيكون لفظ اصبر إذ ذاك مشتركاً بين معناها المتبادر إلى الذهن من حبس النفس على الشيء المكروه ، ومعنى الجراءة ، أي ما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار ، قاله الحسن وقتادة والربيع وابن جبير.

قال الفراء : أخبرني الكسائي قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه ، فوجبت اليمين على أحدهما ، فحلف له خصمه ، فقال له : ما أصبرك على الله! أي ما أجرأك على الله! والقائلون بأنه مجاز.
فقيل : هو مجاز أريد به العمل ، أي ما أعملهم بأعمال أهل النار! قاله مجاهد.
وقيل : هو مجاز أريد به قلة الجزع ، أي ما أقل جزعهم من النار! وقيل : هو مجاز أريد به الرضا ، وتقريره أن الراضي بالشيء يكون راضياً بمعلوله ولازمه ، إذا علم ذلك اللزوم.
فلما أقدموا على ما يوجب النار ، وهم عالمون بذلك ، صاروا كالراضين بعذاب الله والصابرين عليه ، وهو كما يقول لمن تعرض لغضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن! وقال الزمخشري : فما أصبرهم على النار! تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم.
انتهى كلامه ، وانتهى القول في أن الكلام تعجب.
وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية ، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم ، أي : أيّ شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهو قول ابن عباس والسدي.
يقال : صبره وأصبره بمعنى : أي جعله يصبر ، لا أن أصبر هنا بمعنى : حبس واضطر ، فيكون أفعل بمعنى : فعل ، خلافاً للمبرد ، إذ زعم أن أصبر بمعنى : صبر ، ولا نعرف ذلك في اللغة ، وإنما تكون الهمزة للنقل ، أي يجعل ذا صبر.
وذهب قوم إلى أن ما نافية ، والمعنى : أن الله ما أصبرهم على النار ، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب ، فتلخص في معنى قوله : { فما أصبرهم على النار } التعجب والاستفهام والنفي ، وتلخص في التعجب ، أهو حقيقة أم مجاز؟ وكلاهما : أذلك في الدنيا أو في الآخرة؟.
{ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } ، ذلك : إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، قاله الزجاج؛ أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار ، قاله الحسن ، أو العذاب ، قاله الزمخشري؛ أو الاشتراء ، قاله ابن عطية ، تقريعاً على بعض التفاسير في الكتاب من قوله : { نزل الكتاب } ، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم الله وورد أخباره به ، أو الكتمان.
وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار الله أنه ختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم ، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
واختلف في إعراب ذلك فقيل : هو منصوب بفعل محذوف تقديره : فعلنا ذلك ، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف.
وقيل : مرفوع ، واختلفوا ، أهو فاعل ، والتقدير : وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق.
فاختلفوا ، أم مبتدأ ، والخبر قوله : { بأن الله نزل } ؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق ، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور ، وهو العذاب ، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق ، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه ، وأقام السبب مقام المسبب.

والتفسير المعنوي : ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق ، أو الكتاب الذي نزله بالحق.
وقال الأخفش : الخبر محذوف تقديره : ذلك معلوم بأن الله ، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر ، والكتاب التوراة والإنجيل ، أو القرآن ، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه ، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله : { صم بكم عمي } ، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء ، أقوال أربعة.
بالحق ، قال ابن عباس : بالعدل.
وقال مقاتل : ضد الباطل.
وقال مكي : بالواجب ، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب.
{ وإن الذين اختلفوا في الكتاب } ، قيل : هم اليهود ، والكتاب : التوراة ، واختلافهم : كتمانهم بعث عيسى ، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
آمنوا ببعض ، وهو ما أظهروه ، وكفروا ببعض ، وهو ما كتموه.
وقيل : هم اليهود والنصارى ، قاله السدي؛ واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه عليهما السلام ، وبإنكار الإنجيل ، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا.
وقيل : كفار العرب ، والكتاب : القرآن.
قال بعضهم : هو سحر ، وبعضهم : هو أساطير الأولين ، وبعضهم : هو مفترى إلى غير ذلك.
وقيل : أهل الكتاب والمشركون.
قال أهل الكتاب : إنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس هو من كلام الله.
وقالوا : إنما يعلمه بشر ، وقالوا : دارست ، وقالوا : إن هذا إلا اختلاق ، إلى غير ذلك.
وقال المشركون : بعضهم قال : سحر ، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : كهانة ، وبعضهم : أساطير ، وبعضهم : افتراء إلى غير ذلك.
والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر ، لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين ، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع.
وفي المنتخب : الأقرب ، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيهما ، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه ، وعرفوا تأويله.
فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به ، فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم ، دون القرآن.
انتهى كلامه.
{ لفي شقاق بعيد } : تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق ، أو من كون هذا يشق على صاحبه.
وكنى بالشقاق عن العداوة ، ووصف الشقاق بالبعد ، إما لكونه بعيداً عن الحق ، أو لكونه بعيداً عن الألفة.
أو كنى به عن الطول ، أي في معاداة طويلة لا تنقطع.
وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق ، وأن غيره افتراء ، وقد كذبوا في ذلك.
كتب الله يشبه بعضها بعضاً ، ويصدق بعضها بعضاً.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء الناس ثانياً ، وأمرهم بالأكل من الحلال الطيب ، ونهيهم عن اتباع الشيطان ، وذكر خطواته ، كأنهم يقتفون آثاره ، ويطؤون عقبه.

فكلما خطا خطوة ، وضعوا أقدامهم عليها ، وذلك مبالغة في اتباعه.
ثم بين أنه إنما نهاهم عن اتباعه ، لأنه هو العدوّ المظهر لعداوته.
ثم لم يكتف بذكر العداوة حتى ذكر أنه يأمرهم بالمعاصي.
ولما كان لهم متبوعاً وهم تابعوه ، ناسب ذكر الأمر ، إذ هم ممتثلون ما زين لهم ووسوس.
ثم ذكر ما به أمرهم ، وهو أمره إياهم بالافتراء على الله ، والإخبار عن الله بما لا يعلمونه عن الله ، ثم ذكر شدة إعراضهم عما أنزل الله ، واقتفاء اتباع آبائهم ، حتى أنهم لو كان آباؤهم مسلوبي العقل والهداية ، لكانوا متبعيهم ، مبالغة في التقليد البحت والإعراض عن كتاب الله ، وجرياً لخلفهم على سلف سننهم ، من غير نظر ولا استدلال.
ثم ذكر أن مثل الكفار وداعيهم إلى ما أنزل الله ، مثل الناعق بما لا يسمع إلا مجرد ألفاظ.
ثم ذكر ما هم عليه من الصمم والبكم والعمي ، التي هي مانعة من وصول العلوم إلى الإنسان ، فلذلك ختم بقوله { فهم لا يعقلون } ، لأن طرق العقل والعلم منسدة عليهم.
ثم نادى المؤمنين نداء خاصاً ، وأمرهم بالأكل من الطيب وبالشكر لله.
ثم ذكر أشياء مما حرم ، وأباح الأكل منها حال الاضطرار ، وشرط في تناول ذلك أن لا يكون المضطر باغياً ولا عادياً.
ولما أحل أكل الطيبات وحرم ما حرم هنا ، ذكر أحوال من كتم ما أنزل الله واشترى به النزر اليسير ، لتعتبر هذه الأمة بحال من كتم العلم وباعه بأخس ثمن ، إذ أخبر تعالى أنه لا يأكل في بطنه إلا النار ، أي ما يوجب أكله النار.
وأن الله لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم حين يكلم المؤمنين تكليم رحمة وإحسان.
وذكر أنهم مع انتفاء التعليم الذي هو أعلى الرتب للمرؤوس من الرئيس ، حيث أهله لمناجاته ومحادثته ، وانتفاء الثناء عليهم لهم العذاب المؤلم.
ثم بالغ في ذمهم بأن هؤلاء هم الذين آثروا الضلال على الهدى ، والعذاب على النعيم.
ثم ذكر أنهم بصدد أن يتعجب من جلدهم على النار ، وأن ما حصل لهم من العذاب هو بسبب ما أنزل الله من الكتاب فخالفوه.
ثم ذكر أن الذين اختلفوا فيما أنزل الله هم في معاداة لا تنقطع.

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

قبل : ظرف مكان ، تقول : زيد قبلك.
وشرح المعنى : أنه في المكان الذي هو مقابلك فيه.
وقد يتسع فيه فيكون بمعنى : العندية المعنوية.
تقول لي : قبل زيد دين.
الرقاب : جمع رقبة ، والرقبة : مؤخر العنق ، واشتقاقها من المراقبة ، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم.
ولهذا المعنى يقال : أعتق الله رقبته ، ولا يقال : أعتق الله عنقه ، لأنها لما سميت رقبة ، كانت كأنها تراقب العذاب.
ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد : رقوب ، لأجل مراعاتها موت ولدها.
قال في المنتخب : وفعال جمع يطرد لفعلة ، سواء كانت اسماً نحو : رقبة ورقاب ، أو صفة نحو : حسنة وحسان ، وقد يعبر بالرقبة عن الشخص بجملته.
البأساء : اسم مشتق من البؤْس ، إلا أنه مؤنث وليس بصفة ، وقيل : هو صفة أقيمت مقام الموصوف.
والبؤس والبأساء : الفقر ، يقال منه : بئس الرجل ، إذا افتقر ، قال الشاعر :
ولم يك في بؤس إذا بات ليلة . . .
يناغي غزالاً ساجي الطرف أكحلا
والبأس : شدة القتال ، ومنه حديث عليّ : كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقال : بؤس الرجل ، أي شجع.
الضراء : من الضر ، فقيل : ليس بصفة ، وقيل : هو صفة أقيمت مقام الموصوف.
وفي الحديث : « وأعوذ بك من ضر أو مضرة » وقال أهل اللغة : الضراء ، بالفتح : ضد النفع ، والضر ، بالضم.
الزمانة.
القصاص : مصدر قاص يقاص مقاصة وقصاصاً؛ نحو : قاتل يقاتل مقاتلة وقتالاً.
والقصاص : مقابلة الشيء بمثله ، ومنه : قتل من قتل بالمقتول ، وأصله من قصصت الأثر : أي اتبعته ، لأنه اتباع بدم المقتول ، ومنه قصّ الشعر : اتباع أثره.
الحر : معروف ، تقول : حر الغلام يحرّ حرّية فهو حرّ ، وجمعه ، أعني فعلاً الصفة على أحرار محفوظ.
وقالوا مرّوا مراراً ، فإن كانت فعلاً صفة للآدميين ، جمعت الواو والنون ، وكما أن أحراراً محفوظ في الجمع ، كذلك حرائر محفوظ في جمع حرّة مؤنثة.
القتلى : جمع قتيل ، وهو منقاس في فعيل ، الوصف بمعنى ممات أو موجع.
الأنثى : معروف ، وهي فعلى ، الألف فيه للتأنيث ، وهو مقابل الذكر الذي هو مقابل للمرأة.
ويقال للخصيتين أنثيان ، وهذا البناء لا تكون ألفه إلا للتأنيث ، ولا تكون للإلحاق ، لفقد فعلل في كلامهم.
الأداء : بمعنى التأدية ، أدّيت الدين : قضيته ، وأدّى عنك رسالة : بلغها أنه لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ، أي لا يبلغ.
أولوا : من الأسماء التي هي في الرفع بالواو ، وفي الجرّ والنصب بالياء.
ومعنى أولوا : أصحاب ، ومفرده من غير لفظه ، وهو ذو بمعنى : صاحب.
وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ ، ومؤنثه أولات بمعنى : صاحبات ، وإعرابها كإعرابها ، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة ، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر ، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف ، ولو سميت باولوا ، زدت نوناً فقلت : جاء من أولون ، ورأيت أولين ، ومررت بأولين ، نص على ذلك سيبويه ، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل الإضافة.

كما تقول : ضاربو زيد ، وضاربين زيداً.
الألباب : جمع لب ، وهو العقل الخالي من الهوى ، سمى بذلك ، إما لبنائه من قولهم : ألبّ بالمكان ، ولبّ به : أقام ، وإما من اللباب ، وهو الخالص.
وهذا الجمع مطرد ، أعني أن يجمع فعل اسم على أفعال ، والفعل منه على فعل بضم العين وكسرها ، قالوا : لببت.
ولبيت ومجيء المضاعف على فعل بضم العين شاذ ، استغنوا عنه بفعل نحو : عزّ يعزّ ، وخفّ يخفّ.
فما جاء من ذلك شاذاً : لبيت ، وسررت ، وفللت ، ودممت ، وعززت.
وقد سمع الفتح فيها إلا في : لبيت ، فسمع الكسر كما ذكرنا.
الجنف : الجور ، جنف ، بكسر النون ، يجنف ، فهو جنف وجانف عن النحاس ، قال الشاعر :
إني امرؤ منعت أرومة عامر . . .
ضيمي وقد جنفت على خصوم
وقيل : الجنف : الميل ، ومنه قول الأعشى :
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي . . .
وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال آخر :
هم المولى وإن جنفوا علينا . . .
وأنا من لقائهم لزور
ويقال : أجنف الرجل ، جاء بالجنف ، كما يقال : ألام الرجل ، أتى بما يلام عليه ، وأخس : أتى بخسيس { ليسَ البرَّ أن تولوا وجُوهكُم قِبلَ المشرِق والمغرِب } قال قتادة ، والربيع ، ومقاتل ، وعوف الأعرابي : نزلت في اليهود والنصارى ، كانت اليهود تصلي للمغرب والنصارى للمشرق ، ويزعم كل فريق ان البرّ ذلك.
وقال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، والضحاك ، وسفيان : نزلت في المؤمنين ، سأل رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فدعاه وتلاها عليه.
وقال بعض المفسرين : كان الرجل إذا نطق بالشهادتين وصلى إلى أي ناحية ثم مات وجبت له الجنة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الفرائض ، وحدَّت الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ، أنزلها الله.
وقيل : سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويلهم عن بيت المقدس إلى الكعبة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنها إن كانت في أهل الكتاب ، فقد جرى ذكرهم بأقبح الذكر من كتمانهم ما أنزل الله واشترائهم به ثمنا قليلاً ، وذكر ما أعد لهم ، ولم يبق لهم مما يظهرون به شعار دينهم إلاَّ صلاتهم ، وزعمهم أن ذلك البر ، فردّ عليهم بهذه الآية.
وإن كانت في المؤمنين فهو نهي لهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء كما تعلق أهل الكتابين ، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بينها الله تعالى.
وقرأ حمزة ، وحفص { ليس البر } بنصب الراء ، وقرأ باقي السبعة برفع الراء.
وقال الأعمش في مصحف عبد الله : لا تحسبن البرَّ ، وفي مصحف أبيّ ، وعبد الله أيضاً : ليس البر بأن تولوا ، فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس ، وأن تولوا في موضع الاسم ، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي ، وهذه القراءة من وجه أولى ، وهو أن جعل فيها اسم ليس : أن تولوا ، وجعل الخبر البر ، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللام ، وقراءة الجمهور أولى من وجه ، وهو : أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل ، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيها لها : بما.

.
أراد الحكم عليها بأنها حرف ، كما لا يجوز توسيط خبر ما ، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبورود ذلك في كلام العرب.
قال الشاعر :
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم . . .
وليس سواء عالم وجهول
وقال الآخر.
أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّةٌ . . .
وليس علينا في الخطوب معوَّلُ
وقرأه : بأن تولوا ، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان ان وصلتها.
قال الشاعر :
أليسَ عجيباً بأن الفتى . . .
يصابُ ببعض الذي في يديه
أدخل الباء على اسم ليس ، وإنما موضعها الخبر ، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة ، وصار معنى الكلام : أعجب بأن الفتى ، ولو قلت : أليس قائماً بزيد لم يجز.
والبرّ اسم جامع للخير ، وتقدم الكلام فيه ، وانتصابُ قبل على الظرف وناصبه تولوا ، والمعنى : أنهم لما أكثروا الخوض في أمر القِبلة حتى وقع التحويلُ إلى الكعبة.
وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فردّ الله عليهم ، وقيل : ليس البر فيما أنتم عليه ، فإنه منسوخ خارج من البر.
وقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن يذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة.
وقال قتادة قبلة النصارى مشرق بيت المقدس لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام لقوله تعالى : { مكاناً شرقياً } واليهود مغربه والآية ردّ على الفريقين.
{ ولكنّ البرَّ منْ آمنَ باللهِ } البرُّ : معنىً من المعاني ، فلا يكون خبره الذوات إلاَّ مجازاً ، فإمّا أن يجعل : البرُّ ، هو نفس من آمن ، على طريق المبالغة ، قاله أبو عبيدة ، والمعنى : ولكنّ البارَّ.
وإمّا أن يكون على حذف من الأول ، أي : ولكنّ ذا البر ، قاله الزجاج.
أو من الثاني أي : برُّ من آمن ، قاله قطرب ، وعلى هذا خرَّجه سيبويه ، قال في كتابه : وقال جل وعز : { ولكنّ البرَّ من آمن } وإنما هو : ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله. انتهى.
وإنما اختار هذا سيبويه لأن السابق ، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى ، ونظير ذلك : ليس الكرم أن تبذل درهماً ، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف ، فلا يناسب : ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلاَّ إن كان قبله : ليس الكريم بباذل درهم.
وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء ، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل ، تقول : بررت أبرّ ، فأنا برّ وبارّ ، قيل : فبنى تارة على فعلٍ ، نحو : كهل ، وصعب ، وتارة على فاعل ، والأولى ادّعاء حذف الألف من البرّ ، ومثله : سرٌّ ، وقرّ ، ورَبٌّ ، أي : سارّ ، وقار ، وبارّ ، ورابُّ.

وقال الفراء : من آمن ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل ، كأنه قال : ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، وأنشد الفراء :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى . . .
ولكنما الفتيان كل فتى ندب
جعل نبات اللحية خبراً للفتى ، والمعنى : لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى ، وقرأ نافع ، وابن عامر : ولكن بسكون النون خفيفة ، ورفع البرّ ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ ، والإعراب واضح ، وقد تقدّم نظير القراءتين في { ولكن الشياطين كفروا }
{ واليومِ الآخَرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيينَ } ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحاً بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال : «أن تؤمنُ بالله وملائكتهِ وكتبهِ ورُسلهِ واليومِ الآخرِ والقدر خيره وشره» ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر ، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه ، ومضمون الآية : ان البرّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور.
أحدها : الإيمان بالله ، وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أمّا اليهود فللتجسم ولقولهم : { عزيرٌ ابن الله } وأمّا النصارى فلقولهم : { المسيحُ ابنُ اللهِ } الثاني : الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود أخلوا به حيث قالوا : { لنْ تمسنا النارُ إلاَّ أيّاماً } والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.
والثالث : الإيمانُ بالملائكة ، واليهود عادوا جبريل.
والرابع : الإيمان بكتب الله ، والنصارى واليهود أنكروا القرآن.
والخامس : الإيمان بالنبيين ، واليهود قتلوهم ، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.
والسادس : بذل الأموال على وفق أمر الله ، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال.
والسابع : إقامة الصلاة والزكاة ، واليهود يمتنعون منها.
والثامن : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوه.
وهذا النفيُ السابق ، والاستدراك لا يحمل على ظاهرهما ، لأنه نفى أن يكون التوجه إلى القبلة براً ، ثم حكم بأن البرّ أمورٌ.
أحدها : الصلاة ، ولا بدَّ فيها من استقبال القبلة ، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البرّ ، لا على نفي أصله ، أي : ليس البر كله هو هذا ، ولكن البر هو ما ذكر ، ويحمل على نفي أصل البرّ ، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثماً وفجوراً ، فلا يعدّ في البر ، أو لأن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى ، وإنما يكون براً مع الإيمان وتلك الشرائط.
وقدم الملائكة والكتب على الرسل ، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلاَّ بواسطة الرسل ، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي ، لأن الملك يوجد أولاً ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي ، لا الترتيب الذهني.

وقدّم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل ، لأن المكلف له مبدأ ، ووسط ، ومنتهى ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلاَّ بالرسالة ، وهي لا تتم إلاَّ بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، والموحى به : وهو الكتاب ، والموحى إليه : وهو الرسول.
وقدّم الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو : إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان.
وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان ، حصلت حقيقة الإيمان ، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات ، وتعلق قدرته بكل الممكنات ، وإرادته وكونه سميعاً وبصيراً متكلماً ، وكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم ، من أحكام : المعاد ، والثواب ، والعقاب ، وما يتصل بذلك.
والإيمان بالملائكة يستدعي صحة أدائهم الرسالة إلى الأنبياء وغير ذلك من أحوال الملائكة.
والإيمان بالكتاب يقتضي التصديق بكتب الله المنزلة.
والإيمان بالنبيين يقتضي التصديق بصحة نبوتهم وشرائعهم.
قال الراغب : فإن قيل لم قدّم هنا ذكر اليوم الآخر وأخره في قوله.
{ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } قيل : يجوز ذلك ، مع أن الواو لا تقتضي ترتيباً من أجل أن الكافر لا يعرف الآخرة ، ولا يعنى بها وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده ، فأخر ذكره.
ولما ذكر حال المؤمنين ، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة ، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى ، ثم أمر الآخرة ، فقدّم ذكره تنبيهاً على أن البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة ثم مراعاة غيرهما.
انتهى كلامه.
.
{ وآتى المال على حبه } إيتاء المال هنا قيل : كان واجباً ، ثم نسخ بالزكاة ، وضعف بأنه جمع هنا بينه وبين الزكاة.
وقيل : هي الزكاة ، وبين بذلك مصارفها ، وضعف بعطف الزكاة عليه ، فدل على أنه غيرها.
قيل : هي نوافل الصدقات والمبار ، وضعف بقوله آخر الآية { أولئك هم المتقون } وقف التقوى عليه ، ولو كان ندباً لما وقف التقوى ، وهذا التضعيف ليس بشيء لأن المشار إليهم بالتقوى من اتصف بمجموع الأوصاف السابقة المشتملة على المفروض والمندوب ، فلم يفرد التقوى ، ثم اتصف بالمندوب فقط ولا وقفها عليه ، بل لو جاء ذكر التقوى لمن فعل المندوب ساغ ذلك ، لأنه إذا أطاع الله في المندوب فلأن يطيعه في المفروض أحرى وأولى.
وقيل : هو حق واجب غير الزكاة.
قال الشعبي : إن في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية.
وقيل : رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر ، فأمَّا ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق ، فيحمل على الحقوق المقدرة.
أما ما لا يكون مقدراً فغير منسوخ ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة ، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك ، وذلك كله غير مقدّر.

{ على حبه } متعلق { بآتى } وهو حال ، والمعنى : أنه يعطي المال محباً له ، أي : في حال محبته للمال واختياره وإيثاره ، وهذا وصف عظيم ، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه ، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله ، كما جاء : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، والظاهر أن الضمير في { حبه } عائد على المال لأنه أقرب مذكور ، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلاَّ بدليل ، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي ، كما فسرناه ، وقيل : الفاعل المؤتون ، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم ، وإلى الأول ذهب ابن عباس ، أي : أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره ، فقول ابن الفضل : إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى ، أي : على حب الإيتاء ، بعيد من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به ، وعلى أبعد من المال ، وأما المعنى فلأن من فعل شيئاً وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك ، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها ، وقال زهير :
تراه إذا ما جئته متهللاً . . .
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وقول من أعاده على الله تعالى أبعد ، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب ، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافاً للفاعل ، وهو أيضاً بعيد.
قال ابن عطية : ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول انتهى كلامه.
فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك ، لأن شرط ذلك أن تكون جملة ، وأن لا يكون لها محل من الإعراب ، وهذه ليست بجملة ، ولها محل من الإعراب.
وإن أراد بالاعتراض فصلاً بين المفعولين بالحال فيصح ، لكن فيه إلباس ، فكان ينبغي أن يقول فصلاً بليغاً بين أثناء القول.
{ ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب } أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم ، وهو : من تقرب إليك بولادة ، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم ، كما ذهب إليه قوم ، لأن الحرم حكم شرعي ، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب ، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد.
وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، في قوله { وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً } فاغنى عن اعادته.
{ ذوي القربى } وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور ، { المال } هو المفعول الثاني.
ولما كان المقصود الأعظم هو ايتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى.
وأما على مذهب السهيلي فإن { المال } عنده هو المفعول الأول ، و { ذوي القربى } وما بعده هو المفعول الثاني ، فأتى التقديم على أصله عنده.

و { اليتامى } معطوف على { ذوي القربى } حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، ومتى فعل ذلك أخطأ ، فإن كان مراهقاً عارفاً بمواقع حقه ، والصدقة تؤكل أو تلبس ، جاز دفعها إليه ، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليهما يتيم ، فيدفع للبالغ ولولِيّ الصغير. انتهى.
ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق : آتيت زيداً مالاً ، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله { وابن السبيل } : الضيف ، قاله قتادة ، وابن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج؛ أو المسافر يمرّ عليك من بلد إلى بلد ، قاله مجاهد ، وقتادة أيضاً ، والربيع بن أنس.
وسمي : ابن السبيل بملازمته السبيل ، وهو الطريق ، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء ، ولمن مرت عليه دهور : ابن الليالي والأيام.
وقيل : سمي ابن سبيل لأن السبيل تبرزه ، شبه ابرازها له بالولادة ، فأطلقت عليه البنوّة مجازاً والمنقطع في بلد دون بلده ، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة ، قاله أبو حنيفة ، وأحمد ، وابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى؛ أو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة ، قاله الماوردي ، وغيره عن الشافعي.
والسائلين : هم المستطعمون ، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سدِّ خلته ، إذ لا تباح له المسألة إلاَّ عند ذلك.
ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة ، أجاز ايتاءه للمسلم والكافر ، وقد ورد في الحديث ما يدل على ذم السؤال ويحمل على غير حال الضرورة.
{ والرقاب } : هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم ، قاله عليّ وابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ، والشافعي.
أو : عبيد يشترون ويعتقون ، قاله مجاهد ، ومالك ، وأبو عبيد ، وأبو ثور.
وروي عن أحمد القولان السابقان.
أو الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر؛ وقيل : هؤلاء الأصناف الثلاثة ، وهو الظاهر.
فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا ، فقيل : لا يجوز إلاَّ في إعانة المكاتبين ، وقيل : يجوز في ذلك ، وفيمن يشتريه فيعتقه.
وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران ، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديماً ، الأَوْلى فالأَوْلى ، لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليها ، ولذلك يستحق بها الإرث ، فلذلك قدّم ثم أتبع باليتامى لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه لصغره ، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله ، ثم بالسائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدّم ذكره.

قال الراغب : اختير هذا الترتيب لما كان أَوْلى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه ، فكان تقديمه أولى ، ثم عقبه باليتامى ، والناس في المكاسب ثلاثة : معيل غير معول ، ومعول معيل ، ومعول غير معيل.
واليتيم : معول غير معيل ، فمواساته بعد الأقارب أولى.
ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضراً ولا غائباً ، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقراً ممن قدم ذكره عليه.
انتهى كلامه.
وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة ، فإنه يجب صرف المال إليها.
وقال مالك : يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، واختلفوا في اليتيم : هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنياً؟ أو لا يعطى حتى يكون فقيراً؟ قولان لأهل العلم.
{ وأقام الصلاة وآتى الزكاة } : تقدّم الكلام على نظير هاتين الجملتين ، فإن كان أريد بالإيتاء السابق الزكاة كان ذكر هذا توكيداً ، وإلاَّ فقد تقدّمت الأقاويل فيه إذا لم يُرَدْ به الزكاة ، هذا هو الظاهر ، لأن مصرف الزكاة فيه أشياء لم تذكر في مصرف هذا والإيتاء ، وقد تقدم القول في تقديم الصلاة على الزكاة ، وهو أن الصلاة أفضل العبادات البدنية ، وتكرر في كل يوم وليلة ، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة ، فلذلك قدمت.
وعطف قوله : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } على صلة من ، وصلة من آمن وآتى ، وتقدمت صلة من التي هي : آمن ، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها ، وهو رأس الأعمال الدينية ، وهو المطلوب الأول.
وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه ، لأن ذلك من آثر الأشياء عند العرب ، ومن مناقبها الجلية ، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة ، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة وإن كانوا مسيئين لهم ، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة ، ألا ترى إلى قول طرفة العبدي :
فمالي أراني وابن عمي مالكاً . . .
متى أدنُ منه ينأَ عني ويبعد
ويكفي من ذلك في الإحسان إلى ذوي القربى قصيدة المقنع الكندي التي أولها :
يعاتبني في الدِّين قومي وإنما . . .
ديوني في أشياء تكسبهم حمداً
ومنها :
لهم جل مالي أن تتابع لي غنى . . .
وإن قل مالي لم أكلفهم رِفداً
وكانوا يحسنون إلى اليتامى ويلطفون بهم ، وفي ذلك يقول بعضهم :
إذا بعض السنين تعرَّقتنا . . .
كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
ويفتخرون بالإحسان إلى المساكين وابن السبيل من الأضياف والمسافرين ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
على مكثريهم رزق من يعتريهم . . .
وعند المقلين السماحة والبذل
وقال المقنع
وإني لعبد الضعف ما دام نازلاً . . .
وقال آخر
ورب ضيفٍ طرق الحيَّ سُرى . . .
صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى

وقال مرة بن محكان :
لا تعذليني على إتيان مكرمة . . .
ناهبتها إذ رأيت الحمد منتهباً
في عقر نابٍ ولا مالٌ أجود به . . .
والحمد خير لمن ينتابه عقبا
وقال إياس بن الارت :
وإني لقوّال لعافيّ : مرحبا . . .
وللطالب المعروف : إنك واجدُه
وإني لما أبسط الكف بالند . . .
إذا شنجت كف البخيل وساعدُه
فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن ، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة ، يحرص عليها بذلك ، إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين ، وإيتاء السبيل على سبيل المكرمة ، فَلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه.
{ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } : والموفون معطوف على من آمن ، وقيل : رفعه على إضمار ، وهم الموفون ، والعامل في : إذا ، الموفون ، والمعنى أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة ، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وفي مصحف عبد الله : والموفين ، نصباً على المدح.
وقرأ الجحدري ، بعهودهم على الجمع.
{ والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } : انتصب : والصابرين على المدح ، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم ، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو.
وقرأ الحسن ، والأعمش ، ويعقوب : والصابرون ، عطفاً على : الموفون ، وقال الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم ، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل ، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام ، وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملة واحدة.
انتهى كلامه.
قال الراغب : وإنما لم يقل : ووفى ، كما قال : وأقام ، لأمرين : أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح ، والثاني : أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة ، وغير مستفاد إلاَّ منها ، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر الوفاء بالعهد ، وهو مما تقضي به العقود المجردة ، صار عطفه على الأول أحسن ، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه جامعاً للفضائل ، إذ لا فضيلة إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ ، غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد.
انتهى كلامه.
واتفقوا على تفسير قوله { حين البأس } أنه : حالة القتال.
واختلف المفسرون في : البأساء والضراء ، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وان الضراء الزمانة في الجسد ، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك ، وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك.
وقيل : البأساء : القتال ، والضراء : الحصار ، ذكره الماوردي.

وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد ، فذكر أولاً الصبر على الفقر ، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر ، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض.
قال الراغب : استوعب أنواع الصبر لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله ، وهو : البأساء ، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم ، وهو : الضراء في مدافعة مؤذية ، وهو : البأساء.
انتهى كلامه.
وعدّى الصابرين إلى البأساء والضراء بفي لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلاَّ إذا صار له الفقر والمرض كالظرف ، وأما الفقر وقتاً ما ، أو المرض وقتاً ما ، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك لأن ذلك قلَّ أن يخلو منه أحد.
وأما القتال فعدّى الصابرين إلى ظرف زمانه لأنها حالة لا تكاد تدوم ، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال ، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها ، كالجرم المحسوس ، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها ، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر ، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء عليهم السلام ، قال : لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها ، وقد تقدم الكلام على ذلك.
{ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } أشار : بأولئك ، إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية ، من الاتصاف بالإيمان وما بعده ، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى ، أي : يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة ، كقوله : { أولئك على هدى من ربهم } والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب والمعنى : أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقاً لا يتطرق إليه الكذب ، ومنه : « لا يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صادقاً ، ولا يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا ».
>
ويحتمل أن يراد بالصدق : الصدق في الأحوال ، وهو مقابل الرياء أي : أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة ، بل قصدوا وجه الله تعالى ، وكانوا عند الظن بهم ، كما تقول صدقني الرمح ، أي : وجدته عند اختباره كما اختار وكما اظن به ، والتقوى هنا اتقاء عذاب الله بتجنب معاصيه ، وامتثال طاعته.
وتنوع هنا الخبر عن أولئك ، فأخبر عن أولئك الأول : بالذين صدقوا ، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر ، واخبر عن أولئك الثاني : بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت ، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد ، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً ، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية ، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة.

{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } : روى البخاري عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدية.
فقال الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة والشعبي : نزلت في قوم من العرب أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلاَّ سيداً ، ولا بالمرأة إلاَّ رجلاً.
وقال السدي ، وأبو مالك : نزلت في فريقين قُتِل أحدهما مسلم ، والآخر كافر معاهد ، كان بينهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال ، فقُتِل من كلا الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد ، فنزلت ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الرجل قصاصاً بدية الرجل ، ودية المرأة قصاصاً بدية المرأة ، ودية العبد قصاصاً بدية العبد.
ثم أصلح بينهما.
وقيل : نزلت في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام ، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض.
قال ابن جبير : هما الأوس والخزرج.
وقال مقاتل بن حيان : هما قريظة والنضير ، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الاخرى في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية ، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت ، وأمرهم بالمساواة فرضوا ، وفي ذلك قال قائلهم :
هم قتلوا فيكم مظنة واحد . . .
ثمانية ثم استمروا فأربعوا
وروي أن بعض غني قتل شأس بن زهير ، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له ، وقال له بعض من يذب عنهم : سل في قتل شأس ، فقال : إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهنّ ، فقالوا : ما هنّ؟ فقال : تحيون شأساً ، أو تملؤون داري من نجوم السماء ، أو تدفعون لي غنياً بأسرها فأقتلها ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما حلل ما حلل قبل ، وحرّم ما حرّم ، ثم اتبع بذكر من أخذ مالاً من غير وجهه ، وأنه ما يأكل في بطنه إلاَّ النار ، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال ، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر ، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ يذكر تحريم الدماء ، ويستدعي حفظها وصونها ، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها ، ونبه على جواز أخذ مال بسببها ، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه ، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول ، لأن به قوام البنية ، وحفظ صورة الإنسان.
ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة ، لأن من كان مؤمناً يندر منه وقوع القتل ، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك ، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم ، ونبه أيضاً على أنه ، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر ، فليس ذلك مخرجاً له عن البر ، ولا عن الإيمان ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى }.

وأصل الكتابة : الخط الذي يقرأ ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات ، أي : فرض وأثبت ، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه.
وقيل : هو على حقيقته ، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ ، وسبق به القضاء.
وقيل : معنى كتب : أمر ، كقوله : { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } أي : التي أمرتم بدخولها.
وقيل : يأتي كتب بمعنى جعل ، ومنه { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } { فسأكتبها للذين يتقون } وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب ، { وفي القتلى } في هنا للسببية ، أي : بسبب القتلى ، مثل : «دخلت امرأة النار في هرة».
والمعنى : أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب ، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه ، أو يكون ذلك خطاباً مع القاتل ، والتقدير ، يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص ، وذلك أنه يجب على القاتل ، إذا أراد الولي قتله ، أن يستسلم لأمر الله وينقاد لقصاصه المشروع ، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق ، فإن لهما الهرب من الحدّ ، ولهما أن يستترا بستر الله ، ولهما أن لا يعترفا.
ويجب على الولي الوقوف عند قاتل وليه ، وأن لا يتعدى على غيره ، كما كانت العرب تفعل بأن تقتل غير قاتل قتيلها من قومه ، وهذا الكتب في القصاص مخصوص بأن لا يرضى الولي بدية أو عفو ، وإنما القصاص هو الغاية عند التشاحن ، وأمّا إذا رضي بدون القصاص من دية أو عفو فلا قصاص.
قال الراغب : فان قيل : على من يتوجه هذا الوجوب؟ قيل على الناس كافة ، فمنهم من يلزمه تسليم النفس ، وهو القاتل ، ومنهم من يلزمه استيفاؤه ، وهو الإمام إذا طلبه الولي ، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضى ، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدّى ، بل يقتص أو يأخذ الدية ، والقصد بالآية منع التعدّي ، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدّون في القتل ، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلاَّ بقتل حر.
اه كلامه.
وتلخص في قوله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ثلاثة أقوال.
أحدها : أنهم الأئمة ومن يقوم مقامهم.
الثاني : أنهم القاتلون.
الثالث : أنهم جميع المؤمنين على ما أوضحناه.
وقد اختلف في هذه الآية ، أهي ناسخة أو منسوخة؟ فقال الحسن : نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه ، إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف الدية ، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه ،.
وإن كان قاتل الرجل امرأة ، كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل ، وإن شاؤوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها.

قال : فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه.
اه.
ولا يكون هذا نسخاً ، لأن فعلهم ذلك ليس حكماً من أحكام الله فينسخ بهذه الآية.
وقال ابن عباس : هي منسوخة بآية المائدة ، وسيأتي الكلام في هذا.
ولما ذكر تعالى كتابة القصاص في القتل بين من يقع بينهم القصاص فقال : { الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } ، واختلفوا في دلالة هذه الجمل ، فقيل : يدل على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة ، فلا يكون مشروعاً إلاَّ بين الحرين ، وبين العبدين ، وبين الأنثيين ، فالالف واللام تدل على الحصر ، كأنه قيل : لا يؤخذ الحرّ إلاَّ بالحر ، ولا يؤخذ العبد إلاَّ بالعبد ، ولا تؤخذ الأنثى إلاَّ بالأنثى.
روي معنى هذا عن ابن عباس ، وأن ذلك نسخ بآية المائدة ، وروي عنه أيضاً أن الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة.
وممن ذهب إلى أنها منسوخة.
ابن المسيب ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري.
وقيل : لا تدل على الحصر ، بل تدل على مشروعية القصاص بين المذكور ، ألا ترى أن عموم : { والأنثى بالأنثى } تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة؟ فلو كان قوله : { الحر بالحر ، والعبد بالعبد } مانعاً من ذلك لتصادم العمومان.
وقوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } جملة مستقلة بنفسها ، وقوله : { الحر بالحر } ذكر لبعض جزئياتها فلا يمنع ثبوت الحكم في سائر الجزئيات.
وقال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس الذكر والأنثى سواء فيه ، وأعيد ذكر الأنثى توكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية.
وروي عن علي والحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً ، وذكرٌ أنثى ، أو أنثى ذكراً.
وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا بها صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة.
وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلاَّ أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلاَّ قيمة العبد ، وإن شاء استحيى وأخذ قيمة العبد.
وقد أُنكر هذا عن علي والحسن.
والإجماع على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الإتباع بفضل الديات ، والإجماع على قتل المسلم الحر إذا قتل مسلمٌ حراً بمحدد ، وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه ، وهو قول عثمان البتي ، قال : إذا قتل ابنه عمداً قتل به.
وقال مالك : إذا قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه ، وغير ذلك من أنواع القتل التي لا شبهة له فيها في ادعاء الخطأ قتل به ، وإن قتله يرمى بشيء أو يضرب ، ففي مذهب مالك قولان : أحدهما : يقتل ، والآخر : لا يقتل.

وقال عامة العلماء : لا يقتل الوالد بولده ، وعليه الدية فيما له ، قال بذلك : أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وسووا بين الأب والجد ، ورُوي ذلك عن عطاء ومجاهد.
وقال الحسن بن صالح : يُقاد الجدّ بابن الابن ، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه ، ولا يجيز شهادة الاب لابنه ، وظاهر قوله : { الحر بالحر } قتل الابن بابيه ، والظاهر أيضاً قتل الجماعة بالواحد ، وصح ذلك عن عمر وعلي ، وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أحمد : لا تقتل الجماعة بالواحد ، والظاهر أيضاً قتل من يجب عليه القتل لو انفرد إذا شارك من لا يجب عليه القتل كالمخطىء والصبيّ والمجنون والأب عند من يقول لا يقتل بابنه.
وقال أبو حنيفة : لا قصاص على واحد منهما وعلى الأب القاتل نصف الدية في ماله والصبي والمخطىء والمجنون على عاقلته ، وهو قول الحسن بن صالح.
وقال الأوزاعي : على عاقلة المشتركين ممن ذكر الدية.
وقال الشافعي : على الصبي القاتل المشارك نصف الدية في ماله ، وكذلك دية الحر والعبد إذا قتلاً عبداً ، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانياً ، وإن شاركه قاتل خطاً فعلى العامد نصف الدية ، وجناية المخطىء على عاقلته.
وقال ابن المسيب ، وقتادة ، والنخعي ، والشعبي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد يقتل الحر بالعبد.
وقال مالك ، والليث ، والشافعي؛ لا يقتل به ، واتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي.
وقال أبو حنيفة : يقتل المسلم بالذمي وقال ابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي : لا يقتل به.
قال مالك والليث : إن قتله غيلة قتل به وإلاَّ لم يقتل به وكلهم اتفقوا على قتل العبد بالحر.
والظاهر من الآية الكريمة مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء وقع القتل ، من مثقل حجر ، أو خشبة ، أو عصا ، أو شبه ذلك مما يقتل غالباً ، وهو مذهب مالك.
والشافعي ، والجمهور.
وقال أبو حنيفة : لا يقتل إذا قتل بمثقل.
والظاهر من الأئمة عدم تعيين الآلة التي يقتل بها من يستحق القتل وقال : أبو حنيفة ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : لا يقتل إلاَّ بالسيف.
وقال ابن الغنيم ، عن مالك : إن قتل بحجر ، أو عصا ، أو نار أو تغريق قتل به ، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتل به حتى يموت ، وإن زاد على فعل القاتل.
وروى ابن منصور عن أحمد أنه : يقتل بمثل الذي قتل به ، ونقل عن الشافعي : أنه إذا قتل بخشب ، أو بخنق قتل بالسيف ، وروي عنه أيضاً أنه : إن ضربه بحجر حتى مات فُعل به مثل ذلك ، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات فإن لم يمت في مثل تلك المدة.
وقال ابن شبرمة : يضرب مثل ضربه ولا يضرب أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون : يجزي ذلك كله السيف.

قال : فإن غمسه في الماء حتى مات ، فلا يزال يغمس في الماء حتى يموت.
والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله : { في القتلى } وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر.
وهو : أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس.
وقال ابن المسيب ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم وابن أبي ليلى : القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وقال الليث : يقتص للحر من العبد ، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات.
وقال الشافعي : من جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه في الجراح ، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس.
{ والأنثى بالأنثى }.
واتفقوا على ترك ظاهرها ، وأجمعوا ، كما تقدم ذكره ، على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، إلاَّ خلافاً شاذاً عن الحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة.
وروي أن عمر قتل نفراً من صنعاء بامرأة ، والمرأة بالرجل وبالعبد ، والعبد بالحر ، وقد وهم الزمخشري في نسبته أن مذهب مالك والشافعي أن الذكر لا يقتل بالأنثى ، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها.
وقال عثمان البتي : إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية ، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء.
واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء ، فذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة ، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلاَّ في الأنفس ، وذهب مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والليث ، والشافعي ، وابن شبرمة في رواية إلى أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها ، إلاَّ أن الليث قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه.
وإعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر ، وهي ذوات ابتدىء بها ، والجار والمجرور أخبار عنها ، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية ، فليس ذلك على حدّ قولهم : زيد بالبصرة ، وإنما هي للسبب ، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق ، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه ، إذا لكون الخاص لا يجوز حذفه إلاَّ في مثل هذا ، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى ، فالتقدير : الحر مقتول بالحر ، أي : بقتله الحر ، فالباء للسبب على هذا التقدير ، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً ، ولو قلت : الحر كائن بالحر ، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فيجوز ، والتقدير : قتل الحر كائن بالحر ، أي : بقتل الحر ، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله ، التقدير : يقتل الحر بقتله الحر ، إذ في قوله : { القصاص في القتلى } دلالة على هذا الفعل.
{ فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قال علماء التفسير : معنى ذلك أن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ، وجعل الله لهذه الأمة لمن شاء القتل ، ولمن شاء أخذ الدية ، ولمن شاء العفو.

وقال قتادة : لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة ، وروي أيضاً عن قتادة : أن الحُكم عند أهل التوراة كان القصاص أو العفو.
ولا أرش بينهم ، وعند أهل الإنجيل الدية والعفو لا أرش بينهم ، فخير الله هذه الأمة بين الخصال الثلاث.
وارتفاع : مَنْ ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة ، والظاهر أن : من ، هو القاتل والضمير في { له } و { من أخيه } عائد عليه ، { وشيء } : هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو بمعنى المصدر ، وبني { عفا } ، للمفعول ، وإن كان لازماً ، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } والأخ هو المقتول ، أي : من دم أخيه أو ولي الدم ، وسماه أخاً للقاتل اعتباراً بأخوة الإسلام ، أو استعطافاً له عليه ، أو لكونه ملابساً له من قبل أنه ولي للدم ومطالب به كما تقول : قل لصاحبك كذا ، لمن بينك وبينه أدنى ملابسة ، وهذا الذي أقيم مقام الفاعل وإن كان مصدراً فهو يراد به الدم المعفو عنه ، والمعنى : أن القاتل إذا عفي عنه رجع إلى أخذ الدية.
وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم ، واستدل بهذا على أن موجب العهد أحد الأمرين ، أما القصاص ، وأما الدية.
لأن الدية تضمنت عافياً ومعفواً عنه ، وليس إلاَّ وليّ الدم والقاتل ، والعفو لا يتأتي إلاَّ من الولي ، فصار تقدير الآية : فاذا عفا وليّ الأمر عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف.
وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية ، تقول : عفوت عن زيد ، وعفوت عن ذنب زيد ، فإذا عديت إليهما معاً تعدت إلى الجاني باللام ، وإلى الذنب بعن ، تقول : عفوت لزيد عن ذنبه ، وقوله : { فمن عفى له } من هذا الباب أي : فمن عفى له عن جنايته ، وحذف عن جنايته لفهم المعنى ، ولا يفسر عفى بمعنى ترك ، لأنه لم يثبت ذلك معدّى إلاَّ بالهمزة ، ومنه : «أعفوا اللحى» ولا يجوز أن تضمن عفى معنى ترك وإن كان العافي عن الذنب تاركاً له لا يؤاخذ به ، لأن التضمين لا ينقاش.
قال الزمخشري.
فإن قلت : فقد ثبت قولهم عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه : فمن محى له من أخيه شيء؟ قلت : عبارة قيلت في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نائية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء إذا عضل عليه تخريج المشكل من كلام الله على اختراع لغة.
وادّعاء على العرب ما لا تعرف ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها.

انتهى كلامه.
وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محافلاً يبعد حمل الآية عليه ، ويكون إسناد عفى لمرفوعه إسناداً حقيقياً لأنه إذ ذاك مفعول به صريح ، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده إليه مجازاً وتشبيهاً للمصدر بالمفعول به ، فقد يتعادل الوجهان أعني : كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات ، وعفا المتعدي لمعنى محا لتعلقه بمرفوعه تعلقاً حقيقياً.
وقول الزمخشري : وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم إلى آخره ، هذا الذي ذكره هو فعل غير المأمونين على دين الله ، ولا الموثوق بهم في نقل الشريعة ، والكذب من أقبح المعاصي وأذهبها الخاصة الإنسان ، وخصوصاً على الله ، وعلى رسوله.
وقال أبو محمد بن حزم ما معناه : إنه قد يصحب الإنسان وإن كان على حالة تكره ، إلاَّ ما كان من الكاذب ، فإنه يكون أول مفارق له ، لكن لا يناسب قول الزمخشري هنا : وترى كثيراً إلى آخر كلامه إثر قوله : فإن قلت إلى آخره ، لأن مثل هذا القول هو حمل العفو على معنى المحو ، وهو حمل صحيح واستعمال في اللغة ، فليس من باب الجرأة ، واختراع اللغة.
وبنى الفعل هنا للمفعول ليعم العافي كان واحداً أو أكثر ، هدا أن أريد بأخيه المقتول.
أي : من دم أخيه ، وقيل : شيء لأن معناه : شيء من العفو فسواء في ذلك أن يعفو عن بعض الدم أو عن كله ، أو أن يعفو بعض الورثة أو كلهم ، فإنه يتم العفو ويسقط القصاص ، ولا يجب إلاَّ الدية ، وقيل : من عفي له هو وليّ الدم ، وعفي هنا بمعنى يسَّر لا على بابها في العفو ، ومن أخيه : هو القاتل ، وشيء : هو الدية ، والاخوة هي : اخوة الإسلام ، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل : المقتول ، أي : من قبل أخيه المقتول ، وهذا القول قول مالك ، فسر المعفوّ له بوليّ الدم ، والأخ : بالقاتل ، والعفو بالتيسير ، وعلى هذا قال مالك : إذا جنح الوليّ إلى العفو على أخذ الدّية خير القاتل بين أن يعطيها أو يسلم نفسه.
وغير مالك يقول : إذا رضي الوليّ بالدية فلا خيار للقاتل ، ويلزم الدية ، وقد روي هذا عن مالك ، ورجحه كثير من أصحابه ، ويضعف هذا القول أن عفى بمعنى : يسر لم يثبت.
وقيل : هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها ، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة ، فمعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، وتكون : عفا بمعنى : فضل ، من قولهم : عفا الشيء إذا كثر ، أي : أفضلت الحالة له ، أو الحساب ، أو القدر ، وقيل : هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي : من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، وعفى هنا بمعنى : أفضل ، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ، ثم بينت الحكم إذا تداخلت ، والقول الأول أظهر كما قلناه ، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفى بمعنى : ترك ، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل ، قال : والأول أجود بمعنى أن يكون عفى لا يتعدى إلى مفعول به ، وإن ارتفاع شيء ، هو لكونه مصدراً أقيم مقام الفاعل ، وتقدم قول الزمخشري : إن عفى بمعنى : ترك لم يثبت.

{ فاتباع بمعروف وأداء إليه بإحسان }.
ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالحكم ، أو الواجب كذا قدره ابن عطية ، وقدره الزمخشري : فالأمر اتباع ، وجوز أيضاً رفعه بإضمار فعل تقديره : فليكن اتباع ، وجوّزوا أيضاً أن يكون مبتدأً محذوف الخبر وتقديره ، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية ، وقدروه أيضاً متأخراً تقديره ، فاتباع بالمعروف عليه.
قال ابن عطية بعد تقديره : فالحكم أو الواجب اتباع ، وهذا سبيل الواجبات ، كقوله { فإمساك بمعروف } وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله : { فضرب الرقاب } انتهى.
ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلاَّ ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله : { قالوا سلاماً قال سلام } فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا.
وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري : فليكن ، فهو ضعيف إذ : كان ، لا تضمر غالباً إلاَّ بعد أن الشرطية ، أو : لو ، حيث يدل على إضمارها الدليل ، و { بالمعروف } متعلق بقوله : فاتباع ، وارتفاع : { وأداء } لكونه معطوفاً على اتباع ، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في : فاتباع ، ويكون بإحسان متعلقاً بقوله : وأداء ، وجوزوا أن يكون : وأداء ، مبتدأ ، وبإحسان ، هو الخبر ، وفيه بعد.
والفاء في قوله : فاتباع ، جواب الشرط إن كانت مَن شرطاً ، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت مَن موصولة ، فإن كانت مَن : كناية عن القاتل وأخوه : كناية عن الولي ، وهو الظاهر ، فتكون الجملة توصية للمعفو عنه والعافي بحسن القضاء من المؤدي ، وحسن التقاضي من الطالب ، وإن كان الأخ كناية عن المقتول كانت الهاء في قوله : وآداء إليه ، عائدة على ما يفهم من يصاحب يوجه مّا ، لأن في قوله : عفى ، دلالة على العافي فيكون نظير قوله : { حتى توارت بالحجاب } إذ في العشي دلالة على مغيب الشمس ، وقول الشاعر :
لك الرجل الحادي وقد منع الضحى . . .
وطير المنايا فوقهن أواقع
أي : فوق الإبل ، لأن في قوله : الحادي ، دلالة عليهن ، وإن كانت مَن كناية عن القاتل فيكون أيضاً توصية له وللولي بحسن القضاء والتقاضي ، أي : فاتباع مَنْ الولي بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه بإحسان ، والإتباع بالمعروف أن لا يعنف عليه ولا يطالبه إلاَّ مطالبة جميلة ، ولا يستعجله إلى ثلاث سنين يجعل انتهاء الإستيفاء ، والأداء بالإحسان ، أن لا يمطله ولا يبخسه شيئاً.
وهذا مروي عن ابن عباس في تفسير الإتباع والأداء.
وقيل : اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه ، وقد روي في الحديث :

« من زاد بعيراً في إبل الدية وفرائضها فمن أمر الجاهلية »
وقيل الاتباع والأداء معاً من القاتل ، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه ، والأداء بالإحسان أن لا يؤخره.
وقيل : المعروف حفظ الجانب ولين القول ، والإحسان تطييب القول ، وقيل : المعروف ما أوجبه تعالى ، وقيل : المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى.
وظاهر قوله : { فمن عفى له من أخيه شيء } الآية.
أنه يمتنع إجابة القاتل إلى القود منه إذا اختار ذلك واختار المستحق الدية ويلزم القاتل الدية إذا اختارها الولي ، وإليه ذهب سعيد ، وعطاء ، والحسن ، والليث ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، ورواه أشهب عن مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد ، ومالك في إحدى الروايتين عنه ، والثوري ، وابن شبرمة : ليس للولي إلاَّ القصاص ، ولا يأخذ الدية إلاَّ برضى القاتل ، فعلى قول هؤلاء يقدر بمحذوف ، أي : فمن عفى له من أخيه شيء ورضي المعفو عنه ودفع الدية فاتباع بالمعروف ، وقد تقدّمت لنا الإشارة إلى هذا الخلاف عند تفسيرنا : { فمن عفى } واختلاف الناس فيه.
{ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } أشار بذلك إلى ما شرعه تعالى من العفو والدية إذ أهل التوراة كان مشروعهم القصاص فقط ، وأهل الإنجيل مشروعهم العفو فقط ، وقيل : لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة ، وقد تقدّم طرق من هذا النقل ، وهذه الأمة خيرت بين القصاص وبين العفو والدية ، وكان العفو والدية تخفيفاً من الله إذ فيه انتفاع الولي بالدّية ، وحصول الأجر بالعفو استبقاء مهجة القاتل ، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها ، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب لأنه المصلح لأحوال عبيده ، الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية ، وعطف { ورحمة } على { تخفيف } لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها فقد رحمك.
وأي : رحمة أعظم من ذلك؟ ولعل القاتل المعفو عنه يستقل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء ، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله.
{ فمن اعتدى بعد ذلك } أي : من تجاوز شرع الله بعد القود وأخذ الدية بقتل القاتل بعد سقوط الدم ، أو بقتل غير القاتل ، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك ، ويقتلون بالواحد الإثنين والثلاثة والعشرة ، وقيل : المعنى : من قتل بعد أخذ الدية ، وقيل : بعد العفو ، وقيل : من أخذ الدية بعد العفو عنها.
والأظهر القول الأول لتقدم العفو ، وأخذ المال ، والاعتداء ، وهو تجاوز الحد يشمل ذلك كله.
وقال الزمخشري : بعد ذلك التخفيف ، فجعل ذلك إشارة إلى التخفيف ، وليس يظهر أن ذلك إشارة إلى التخفيف ، وإنما الظاهر ما شرحناه به من العفو وأخذ الدية ، وكون ذلك تخفيفاً هو كالعلة لمشروعية العفو وأخذ الدية ، ويحتمل : مَنْ في قوله : { فمن اعتدى } أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة.

{ فله عذاب أليم } جواب الشرط ، أو خبر عن الموصول ، وظاهر هذا العذاب أنه في الأخرة ، لأن معظم ما ورد من هذه التوعدات إنما هي في الآخرة.
وقيل : العذاب الأليم هو في الدنيا ، وهو قتله قصاصاً ، قاله عكرمة ، وابن جبير ، والضحاك : وقيل : هو قتله البتة حداً ، ولا يمكِّن الحاكم الوليّ من العفو قاله عكرمة أيضاً ، وقتادة ، والسدي.
وقيل : عذابه أن يرد الدية ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، قاله الحسن.
وقيل : عذابه تمكين الإمام منه يصنع فيه ما يرى ، قاله عمر بن عبد العزيز.
ومذهب جماعة من العلماء أنه إذا قتل بعد سقوط الدم هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله ، وإن شاء عفا عنه.
{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } الحياة التي في القصاص هي : أن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ ، أمسك عن القتل ، فكان ذلك حياة له ، والذي امتنع من قتله ، فمشروعية القصاص مصلحة عامة ، وإبقاء القاتل والعفو عنه مصلحة خاصة به ، فتقدّم المصلحة العامة لتعذر الجمع بينهما.
أو المعنى : ولكم في شرع القصاص حياة ، وكانت العرب إذا قتل الرجل حمى قبيلة أن تقتص منه ، فيقتتلون ، ويقضي ذلك إلى قتل عدد كثير ، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود ، وصالحوا على الدية وتركوا القتال ، فكان لهم في ذلك حياة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل.
وقيل : حياة لغير القاتل ، لأنه لا يقتل غير خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية.
وقيل : حياة للقاتل.
وقيل : حياة لارتداع من يهم به في الآخرة إذ استوفى منه القصاص في الدنيا فإنه في الآخرة لا يقتص منه ، وإن لم يقتص اقتص منه في الآخرة.
فلا تحصل له تلك الحياة التي حصلت لمن اقتص منه.
وقرأ أبو الجوزاء ، أوس بن عبد الله الربعي : ولكم في القصص ، أي : فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص ، وقيل : القصص : القرآن ، أي : لكم في القرآن حياة القلوب ، كقوله : { روحاً من أمرنا } وكقوله : { أو من كان ميتاً فأحييناه }
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي : أنه إذا قص أثر القاتل قصصاً قتل كما قتل.
وقال الزمخشري : { ولكم في القصاص حياة } كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف ، القصاص ، وتنكير : الحياة ، لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، أو نوع من الحياة ، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل.
لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، انتهى كلامه.
وقالت العرب فيما يقرب من هذا المعنى : القتل أوقى للقتل ، وقالوا : أنفى للقتل ، وقالوا : أكف للقتل.

وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه.
أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سبباً لانتفاء نفسه ، وهو محال.
الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة.
الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفى للقتل.
الرابع : أن القتل ظلماً هو قتل ، ولا يكون نافياً للقتل.
وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك.
أما في الوجه الأول : ففيه أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة ، لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص ، اتضح كون شرع القصاص سبباً للحياة.
وأما في الوجه الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف ، لأن في كلام العرب كما قلناه تكراراً للفظ ، والحذف إذا نفي ، أو أكف ، أو أوفى ، هو افعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفى للقتل من ترك القتل.
وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل ، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس ، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة.
وأما في الوجة الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق ، فترتب على مشروعيته وجود الحياة.
ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى الطباق ، وهو شبه قوله تعالى : { وأنه هو أمات وأحيى } وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم ، وهو في موضع الخبر ، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة ، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة ، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة ، وهي مشروعية القصاص ، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب القائلون لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، وهم الذين خصهم الله بالخطاب ، { إنما يتذكر أولوا الألباب } { لآيات لقوم يعقلون } { لآيات لأولي الألباب } { لآيات لأولي النهى } { لذكرى لمن كان له قلب } وذوو الالباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف ، فلهذا خص به ذوي الألباب.
{ لعلكم تتقون } أي : القصاص ، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذراً من القصاص أو الانهماك في القتل ، أو تتقون الله باجتناب معاصيه ، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة أقوال خمسة ، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص.
{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } الآية.
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص ، والدية ، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية ، وبيان أنه مما كتبه الله على عباده حتى يتنبه كل أحد فيوصي مفاجأة الموت ، فيموت على غير وصية ، ولا ضرورة تدعو إلى أن : كتب ، أصله : العطف على.

{ كتب عليكم القصاص في القتلى } { وكتب عليكم } وأن الواو حذفت للطول ، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها ، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت ، ومعنى حضور الموت أي : حضور مقدماته وأسبابه من العلل والأمراض والأعراض المخوفة ، والعرب تطلق على أسباب الموت موتاً على سبيل التجوز.
وقال تعالى : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } وقال عنترة.
وان الموت طوع يدي إذا ما . . .
وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير.
انا الموت الذي حدثت عنه . . .
فليس لهارب مني نجاءُ
وقال غيره.
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا . . .
قولا يبرئكم : إني أنا الموت
والخطاب في : عليكم ، للمؤمنين مقيداً بالإمكان على تقدير التجوز في حضور الموت ، ولو جرى نظم الكلام على خطاب المؤمنين لكان : إذا حضركم الموت ، لكنه روعيت دلالة العموم في : عليكم ، من حيث المعنى ، إذ المعنى : كتب على كل واحد منكم ، ثم أظهر ذلك المضمر ، إذ كان يكون إذا حضره الموت ، فقيل : إذا حضر أحدكم ، ونظير مراعاة المعنى في العموم قول الشاعر :
ولست بسائل جارات بيتي . . .
أغياب رجالك أم شهود
فأفرد الضمير في رجالك لأنه رعى معنى العموم ، إذ المعنى ولست بسائل كل جارة من جارات بيتي ، فجاء قوله : أغياب رجالك ، على مراعاة هذا المعنى.
وهذا شيء غريب مستطرف من علم العربية.
وقيل : المراد بالموت هنا حقيقته لا مقدماته ، فيكون الخطاب متوجهاً إلى الأوصياء والورثة ، ويكون على حذف مضاف ، أي : كتب عليكم ، إذا مات أحدكم ، إنفاذ الوصية والعمل بها ، فلا تكون الآية تدل على وجوب الوصية ، بل يستدل على وجوبها بدليل آخر.
{ إِن ترك خيراً } يعني : مالاً ، في قول الجميع ، وقال مجاهد : الخير في القرآن كله المال { وانه لحب الخير لشديد } { إني أحببت حب الخير } { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً } { إني أراكم بخير } وظاهر الآية يدل على مطلق الخير ، وبه قال : الزهري ، وأبو مجلز ، وغيرهما ، قالوا : تجب فيما قلّ وفيما كثر.
وقال أبان : مائتا درهم فضة.
وقال النخعي : من ألف درهم إلى خمسمائة؛ وقال علي : وقتادة : ألف درهم فصاعداً ، وقال الجصاص : أربعة آلاف درهم.
هذا قول من قدّر الخير بالمال.
وأما من قدّره بمطلق الكثرة ، فإن ذلك يختلف بحسب اختلاف حال الرجل ، وكثرة عياله ، وقلتهم.
وروي عن عائشة أنها قالت : ما أرى فضلاً في مال هو أربعمائة دينار لرجل أراد أن يوصي وله عيال ، وقالت في آخر : له عيال أربعة وله ثلاثة آلاف ، إنما قال الله { ان ترك خيراً } وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك.
وعن علي : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه ، وقال : قال تعالى : { إن ترك خيراً } والخير : هو المال ، وليس لك مال.

انتهى.
ولا يدل عدم تقدير المال على أن الوصية لم تجب ، إذ الظاهر التعليق بوجود مطلق الخير ، وإن كان المراد غير الظاهر ، فيمكن تعليق الإيجاب بحسب الاجتهاد في الخير؛ وفي تسميته هنا وجعله خيراً إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث ، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه ، ويأثم بالوصية فيه.
واختلفوا ، فقال قوم : الآية محكمة ، والوصية للوالدين والأقربين واجبة ، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
وقال قوم : إنها محكمة في التطوع ، وقال قوم : إنها محكمة وليس معنى الوصية مخالفاً للميراث ، بل المعنى : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين في قوله : { يوصيكم الله في أولادكم }
وقال الزمخشري : أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ولا ينقص من أنصابهم.
انتهى كلامه.
وقيل : هي محكمة ، ويخصص الوالدان والأقربون بأن لا يكونوا وارثين بل أرقاء أو كفاراً ، كما خصص في الموصى به بالثلث فما دونه ، قاله الحسن ، وطاووس ، والضحاك.
وقال : ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين والأقرباء الذين لا يرثون جائزة.
وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : الآية عامة ، وتقرر الحكم بها برهة ، ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض.
وقال ابن عمر ، وابن عباس أيضاً ، وابن زيد : الآية كلها منسوخة.
وبقيت الوصية ندباً ، ونحو هذا هو قول الشعبي ، والنخعي ، ومالك.
وقال الربيع بن خيثم وغيره : لا وصية ، وقيل : كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث ، وبقوله عليه السلام : « ان الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألاَ لاَ وصية لوارث » ولتلقي الأمة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر.
وإن كان من الأحاد ، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلاّ المثبت الذي صحت روايته.
وقال قوم : الوصية للقرابة أولاً ، فإن كانت لأجنبي فمعهم ، ولا يجوز لغيرهم مع تركهم.
وقال الناس ، حين مات أبو العالية : عجباً له ، أعتقته امرأة من رياح ، وأوصى بماله لبني هاشم.
وقال الشعبي : لم يكن ذلك له ولا كرامة ، وقال طاووس : إذا أوصى لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله ، وقاله جابر ، وابن زيد.
وروي مثله عن الحسن ، وبه قال إسحاق بن راهويه.
وقال الحسن ، وجابر بن زيد ، أيضاً ، وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جعلها الميت.
وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد : إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته جاز ذلك وأمضي ، كان الموصى له غنياً ، أو فقيراً مسلماً أو كافراً.
وهو مروي عن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضى الله عنها.
وظاهر : كتب ، وجوب الوصية على من خلف مالاً ، وهو قول الثوري.
وقال أبو ثور : لا تجب إلاَّ على من عليه دين أو عنده مال لقوم ، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه ، وقيل : لا تجب الوصية ، واستدل بقول النخعي : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وبقوله في الحديث يريد أن يوصي ، فعلق بإرادة الوصية.

ولو كانت واجبة لما علقها بإرادته.
والموصى له ، إن كان وارثاً وأجاز ذلك الورثة جاز ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك.
أو قاتلاً عمداً وأجاز ذلك الورثة ، جاز في قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف : لا تجوز ولو أوصى لبعض ورثته بمال ، فقال : إن أجاز ذلك الورثة وإلاَّ فهو في سبيل الله فإن أجاز ذلك الورثة وإلاَّ كان ميراثاً.
هذا قول مالك.
وقال أبو حنيفة ، ومعمر : يمضي في سبيل الله.
ولو أوصى الأجنبي بأكثر من الثلث ، وأجازه الورثة قبل الموت فليس لهم الرجوع فيه بعد الموت ، وهي جائزة عليهم ، قاله ابن أبي ليلى ، وعثمان البتي.
وقال أبو حنيفة ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر ، والحسن بن صالح ، وعبيد الله بن الحسن : إن أجازوا ذلك في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت.
وروي ذلك عن عبد الله ، وشريح ، وإبراهيم.
وقال ابن القاسم عن مالك : إن استأذنهم فأذنوا فكل وارث بائن فليس له أن يرجع ، ومن كان في عياله ، أو كان من عم وابن عم ، أن يقطع نفقته عنهم إن صح ، فلهم أن يرجعوا.
وقال ابن وهب عن مالك : إن أذنوا له في الصحة فلهم أن يرجعوا ، أو في المرض فلا.
وقول الليث كقول مالك ، ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه.
وروي عن طاووس وعطاء ، إن أجازوه في الحياة جاز عليهم ، ولا خلاف في صحة وصية العاقل البالغ غير المحجور عليه؛ واختلف في الصبي ، فقال أبو حنيفة : لا تجوز وصيته.
قال المزني : وهو قياس قول الشافعي : وقال مالك وغيره : يجوز ، والقولان عن أصحاب الشافعي.
وظاهر قوله تعالى : { كتب } المنع.
لأنه ليس من أهل التكليف ، وأجمعوا على أنه للإنسان أن يغير وصيته وأن يرجع فيها.
واختلفوا في المدبر ، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له أن يغير ما دبر ، قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : هو وصيته ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وابن شبرمة ، والثوري ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع مدبراً ، وأن عائشة باعت مدبرة ، وإذا قال لعبده : أنت حرّ بعد موتي ، فله الرجوع عند مالك في ذلك.
وإن قال : فلان مدبر بعد موتي لم يكن له الرجوع فيه ، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك.
وأما الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، فكل هذا عندهم وصيته.
واختلفوا في الرجوع في التدبير بماذا يكون؟.
فقال أبو ثور : إذا قال : رجعت في مدبري بطل التدبير ، وقال الشافعي : لا يكون إلاَّ ببيع أو هبة ، وليس قوله رجعت رجوعاً.

ومن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية؟ وقال أشهب : هو مدبر.
وكيفية الوصية التي كان السلف الصالح يكتبونها : هذا ما أوصي فلان بن فلان ، أنه يشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله.
{ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } وأوصى من ترك ، من أهله بتقوى الله تبارك وتعالى حق تقاته ، وأن يصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، ويوصيهم بما أوصى به { إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون } رواه الدارقطني ، عن أنس بن مالك.
وبني كتب للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وللاختصار ، إذ معلوم أنه الله تعالى ، ومرفوعُ : كتب الظاهر أنه الوصية ، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل ، لا سيما هنا ، إذ طال بالمجرور والشرطين ، ولكونه مؤنثاً غير حقيقي ، وبمعنى الإيصاء.
وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه ، ولا يجوز أن يكون من معنى : كتب ، لمضي كتب واستقبال الشرطين.
ولكن يكون المعنى : كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيراً فليوص.
ودل على هذا الجواب سياق الكلام.
والمعنى : ويكون الجواب محذوفاً جاء فعل الشرط بصيغة الماضي ، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جواباً فيكون ذلك المقدر جواباً للشرط الأول ، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفاً يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف ، فيكون المحذوف دل على محذوف ، والشرط الثاني شرط في الأول ، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّماً في الوجود ، وإن كان متأخراً لفظاً.
واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جواباً للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية ، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، فيؤخذ منه.
وقيل : جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى { كتب عليكم الوصية } ويتجوز بلفظ : كتب ، عن لفظ : يتوجه إيجاب الوصية عليكم.
حتى يكون مستقبلاً فيفسر الجواب ، لأن مستقبل ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفاً محضاً لا شرطاً ، فيكون إذ ذاك العامل فيها : كتب ، على هذا التقدير ، ويكون جواب : { إن ترك خيراً } محذوفاً يدل عليه : كتب ، على هذا التقدير ، ولا يجوز عند جمهور النحاة أن يكون إذا معمولاً للوصية لأنها مصدر وموصول ، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه ، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفاً على العامل فيه إذا لم يكن موصولاً محضاً ، وهو عنده المصدر ، والألف واللام في نحو : الضارب والمضروب ، وهذا الشرط موجود هنا ، وإلى هذا ذهب في قوله.
أبعلى هذا بالرحى المتقاعس . . .
فعلق : بالرحى ، بلفظ : المتقاعس.
وقال أبو محمد بن عطية : ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون : كتب ، هو العامل في : إذا ، والمعنى : توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجيه الإيجاب : بكتب ، ليتنظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب ، وجواب الشرطين : إذا وإن ، مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله : { كتب عليكم } كما تقول : شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا.

انتهى كلامه.
وفيه تناقض لأنه قال : العامل في إذا : كتب ، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً ، ثم قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه ، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها إما الجواب ، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلاَّ على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ويفرع على أن الجواب هو العامل في : إذا.
ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم ، وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم ، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب.
والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً وهذا اصطلاحه ، قال في تفسيره : والوصية فاعل كتب ، وذكر فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى : أن يوصي ، ولذلك ذكر الراجع في قوله ، { فمن بدّله بعدما سمعه }.
اه.
ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً سهو من الناسخ ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء ، على تقدير الفاء ، والخبر إمّا محذوف ، أي : فعليه الوصية.
وإمّا منطوق به ، وهو قوله : { للوالدين والأقربين } أي : فالوصية للوالدين والأقربين ، وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم ، والمفعول الذي لم يسم فاعله : بكتب ، مضمر.
أي : الإيصاء يفسره ما بعده.
قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد ، هو العامل في إذا ، وترتفع الوصية بالابتداء ، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله :
من يفعل الحسنات الله يحفظه . . .
ويكون رفعها بالابتداء بتقدير.
فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال : فالوصية للوالدين.
اه.
كلامه.
وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر ، ثم قال : إن الوصية فيه جواب الشرطين ، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك ، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطاً ، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطاً فتناقضا ، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً وغير شرط في حالة واحدة ، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملاً في إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل في : إذا ، لفظ الإيصاء بحذف ، أو ضمير الإيصاء : لا ، جائز أن يقدره لفظ الإيصاء بحذف ، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، وابن عطية قدر لفظ : الإيصاء ، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء ، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل ، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً ، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل ، وأما قوله : وفيه جواب الشرطين ، فليس بصحيح ، فإنا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جواباً على حذفه ، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين ، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه.

من يفعل الحسنات الله يحفظه . . .
وهو تحريف على سيبويه ، وإنما سيبويه أيده في كتابه :
من يفعل الحسنات الله يشكرها . . .
والشر بالشر عند الله مثلان
وأما قوله : بتقدير فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قال : فالوصية للوالدين ، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه ، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلاَّ في ضرورة الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.
قال سيبويه : وسألته ، يعنى الخليل ، عن قوله : إن تأتني أنا كريم ، قال : لا يكون هذا إلاَّ أن يضطر شاعر من قِبَل : إن أنا كريم ، يكون كلاماً مبتداً ، والفاء وإذا لا يكونان إلاَّ معلقتين بما قبلها ، فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء ، وقد قاله الشاعر مضطراً ، وأنشد البيت السابق.
من يفعل الحسنات . . .
. . .
وذكر عن الأخفش : أن ذلك على إضمار الفاء ، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلاَّ في اضطرار ، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو : عليكم ، وهو قول لا بأس به على ما نقرره ، فنقول : لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيراً تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو ، فتكون الوصية مبتدأ ، أو خبر المبتدأ على هذا التقدير ، ويكون جواباً لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً؟ فقيل : الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة ، أو : المكتوب الوصية للوالدين والأقربين ، ونظيره : ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد ، فيكون هذا جواب بالسؤال مقدر ، كأنه قال : من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن ، وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله ، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء ، وضمير الإيصاء ، والوالدان معروفان ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً }
{ والأقربين } جمع الأقرب ، وظاهره أنه أفعل تفضيل ، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ ، وأقرب ما إليه الوالدان ، فصار ذلك تعميماً بعد تخصيص ، فكأنهما ذكراً مرتين : توكيداً وتخصيصاً على اتصال الخير إليهما ، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ ، وعند المفسرين : الأقربون الأولاد ، أو من عدا الأولاد ، أو جميع القرابات ، أو من لا يرث من الأقارب.

أقوال.
{ بالمعروف } أي : لا يوصى بأزيد من الثلث ، ولا للغنيّ دون الفقير ، وقال ابن مسعود : الأخل فالأخل ، أي : الأحوج فالأحوج ، وقيل : الذي لا حيف فيه ، وقيل : كان هذا موكولاً إلى اجتهاد الموصي ، ثم بين ذلك وقدر : «بالثلث والثلث كثير».
وقيل : بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ، فإنهم كانوا قد يوصون بالمال كله ، وقيل : بالمعروف من ماله غير المجهول.
وهذه الأقوال ترجع إلى قدر ما يوصي به ، وإلى تمييز من يوصى له ، وقد لخص ذلك الزمخشري وفسره بالعدل ، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ، ولا يتجاوز الثلث ، وتعلق بالمعروف بقوله : الوصية ، أو بمحذوف ، أي : كائنة بالمعروف ، فيكون بالمعروف حالاً من الوصية.
{ حقاً على المتقين } انتصب : حقاً ، على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي : حق ذلك حقاً ، قاله ابن عطية ، والزمخشري.
وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله : { على المتقين } إذن يتعلق على ب : حقاً ، أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد ، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري ، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام ، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو ، وأما جعله صفة : لحقاً أي : حقاً كائناً على المتقين ، فذلك يخرجه عن التأكيد ، لأنه إذا ذاك يتخصص بالصفة ، وجوز المعربون أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، إمّا لمصدر من : كتب عليكم ، أي : كتباً حقاً وإما لمصدر من الوصية أي إيصاءً حقاً ، وأبعدَ من ذهب إلى أنه منصوب : بالمتقين ، وأن التقدير : على المتقين حقاً ، كقوله : { أولئك هم المؤمنون حقاً } لأنه غير المتبادر إلى الذهن ، ولتقدمه على عامله الموصول ، والأولى عندي أن يكون مصدراً من معنى : كتب ، لأن معنى : كتبت الوصية ، أي : وجبت وحقت ، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر ، كقولهم : قعدت جلوساً ، وظاهر قوله : كتب وحقاً ، الوجوب ، إذ معنى ذلك الإلزام على المتقين ، قيل : معناه : من اتقى في أمور الورثة أن لا يسرف ، وفي الأقربين أن يقدّم الأحوج فالأحوج ، وقيل : من اتبع شرائع الإيمان العاملين بالتقوى قولاً وفعلاً ، وخصهم بالذكر تشريفاً لهم وتنبيهاً على علو منزلة المتقين عنده ، وقيل : من اتقى الكفر ومخالفة الأمر.
وقال بعضهم : قوله { على المتقين } يدل على ندب الوصية لا على وجوبها ، إذ لو كانت واجبة لقال : على المسلمين ، ولا دلالة على ما قال لأنه يراد بالمتقين : المؤمنون ، وهم الذين اتقوا الكفر ، فيحتمل أن يراد ذلك هنا.
.
{ فمن بدله بعدما سمعه } : الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء ، أي : فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت ، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية ، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي ، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي ، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول : هند خرجت.

والشمس طلعت ، ولا يجوز طلع إلاَّ في الشعر ، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم ، ومنه.
كخرعوبة البانة المنفطر . . .
ذهب إلى المعنى : القضيب ، كأنه قال : كقضيب البانة ، ومنه في العكس : جاءته كتابي ، فاحتقرها على معنى الصحيفة.
والضمير في { سمعه } عائد على الإيصاء كما شرحناه ، وقيل : يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية.
وقيل : الهاء ، في : { فمن بدله } عائدة إلى الفرض ، والحكم ، والتقدير : فمن بدل الأمر المقدم ذكره ، ومَنْ : الظاهر أنها شرطية ، والجواب : { فإنما إثمه } وتكون : مَنْ ، عامة في كل مبدل : مَنْ رضي بغير الوصية في كتابة ، أو قسمة حقوق ، أو شاهد بغير شهادة ، أو يكتمها ، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه ، وقيل : المراد بِمَنْ : متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له ، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء ، وقيل : المراد : بِمَنْ : هو الموصي ، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها ، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب ، فأمروا بصرفها إلى الأقربين.
ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله : { فمن بدّله } وفي قوله : { بعدما سمعه } عائداً على أمر الله تعالى في الآية ، وفي قوله : { بعدما سمعه } دليل على أن الإثم لا يترتب إلاَّ بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله.
{ فإنما إثمه } : الضمير عائد على الإيصاء المبدل ، أو على المصدر المفهوم من بدله ، أي : فإنما إثم التبديل على المبدل ، وفي هذا دليل على أن من اقترف ذنباً ، فإنما وباله عليه خاصةً ، فإن قصر الوصي في شيء مما أوصى به الميت ، لم يلحق الميت من ذلك شيء ، وراعى المعنى في قوله : { على الذين يبدلونه } إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول لكان : فإنما إثمه ، أو فإنما إثمه عليه على الذي يبدله ، وأتى في جملة الجواب بالظاهر مكان المضمر ليشعر بعلية : الإثم الحاصل ، وهو التبديل ، وأتى بصلة : الذين ، مستقبلة جرياً على الأصل ، إذ هو مستقبل.
{ إن الله سميع عليم } في هاتين الصفتين تهديد ووعيد للمبدلين ، فلا يخفى عليه تعالى شيء ، فهو يجازيهم على تبديلهم شر الجزاء ، وقيل : سميع لقول الموصي ، عليم بفعل الموصي ، وقيل : سميع لوصاياه ، عليم بنياته.
والظاهر القول الأول لمجيئه في أثر ذكر التبديل وما يترتب عليه من الإثم.
{ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه } الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا ، جرياً على أصل اللغة في الخوف ، فيكون المعنى : بتوقع الجنف أو الإثم من الموصي.

قال مجاهد : المعنى : من خشي أن يجنف الموصي ، ويقطع ميراث طائفة ، ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فوعظه في ذلك ورده ، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته ، فلا إثم عليه.
{ إن الله غفور } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية { رحيم } بِه.
وقيل : يراد بالخوف هنا : العلم ، أي : فمن علم ، وخرّج عليه قوله تعالى : { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله }
وقول أبي محجن.
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها . . .
والعلقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف ، وأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه ، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، وقال في ( المنتخب ) : الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم ، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظنّ مخصوص ، وبين الظنّ والعلم مشابهة في أمور كثيرة ، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الأخر.
انتهى كلامه.
وعلى الخوف بمعنى العلم ، قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وقتادة ، والربيع ، معنى الآية : من خاف ، أي علم بعد موت الموصي أن الموصي حاف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق ، فلا إثم عليه ، أي : لا يلحقه إثم التبديل المذكور قبل ، وإن كان في فعله تبديلها ، ولكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.
وقال عطاء : المعنى : فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله ، فأعطى بعضاً دون بعض ، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك.
وقال طاووس : المعنى : فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً في وصيته لغير ورثته بما يرجع بعضه على ورثته ، فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه.
وقال الحسن : هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب ، فيرّد إلى الأقارب ، قال : وهذا هو الإصلاح.
وقال السدي : المعنى : فمن خاف من موصٍ بآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه.
وقال علي بن عيسى : هو مشتمل على أمر ماضٍ واقع ، وأمر غير واقع ، فإن كانت الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحه ، ورد من الجنف إلى النَّصَف ، وإن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته.
وقيل : هو أن يوصي لولد ابنته ، يقصد بها نفع ابنته ، وهذا راجع إلى قول طاووس المتقدم.
وإذا فسرنا الخوف بالخشية ، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟ والجواب : أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي ، فظهرت منه إمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق ، أو نقص مستحق ، أو عدل عن مستحق ، فأصلح عند ظهور الأمارات لأنه لم يقطع بالجنف والإثم ، فناسب أن يعلق بالخوف ، لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع ، أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان ، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين ، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع أو علق بالخوف.

وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي ، يجوز أن يقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل والخطأ ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقراً ، فعلق بالخوف.
والجواب الأول أقوى ، ومَنْ : شرطية ، والجواب : فلا إثم عليه : و { من موص } متعلق ، بخاف ، أو بمحذوف تقديره : كائناً من موصٍ ، وتكون حالاً ، إذ لو تأخر لكان صفة ، كقوله : { جنفاً أو إثماً } فلما تقدم صار حالاً ، ويكون الخائف في هذين التقديرين ، ليس الموصي ، ويجوز أن يكون : مَنْ ، لتبيين جنس الخائف ، فيكون الخائف بعض الموصين على حد ، مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه ، أي : مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل ، والخائف هنا موصٍ.
والمعنى : فمن خاف من الموصي جنفاً أو إثماً من ورثته ومَن يوصى له ، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح ، وهذا معنى لم يذكره المفسرون ، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف ، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته ، ولا من يوصي له.
وأمال حمزة { خاف } وقرأ هو والكسائي وأبو بكر : موص ، من ، وص والباقون : موص ، من : أوصى ، وتقدم أنهما لغتان.
وقرأ الجمهور : جنفاً ، بالجيم والنون ، وقرأ علي : حيفاً ، بالحاء والياء.
وقال أبو العالية : الجنف الجهالة بموضع الوصية ، والإثم : العدول عن موضعها ، وقال عطاء ، وابن زيد : الجنف : الميل ، والإثم أن يكون قد أثم في ايثاره بعض الورثة على بعض ، وقال السدي : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد.
وأما الحيف فمعناه : البخس ، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء : تحيف مال أي : نقصه من حافاته ، وروي : من حاف في وصيته ألقي في ألوى ، وألوى وادٍ في جهنم.
{ فأصلح بينهم } : الضمير عائد على الموصي والورثة ، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدل على ذلك لفظ : الموصي ، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، كما قيل في قوله : { وأداء إليه } أي : إلى العافي ، لدلالة من عفى له ، ومنه ما أنشده الفراء رحمه الله تعالى :
وما أدري إذا يممت أرضاً . . .
أريد الخير أيهما يليني
فقال : أيهما ، فأعاد الضمير على الخير والشر ، وإن لم يتقدم ذكر الشر ، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر.
والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي ، والمشاهد ومن يتولى بعد موته ذلك من والٍ ، أو ولي ، أو مَن يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله : { فمن خاف } إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم ، ولا وجه لتخصيص الخائف بالوصي ، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان ، أو كف للعدوان { فلا إثم عليه } يعني : في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح ، والضمير : عليه ، عائد على من عاد عليه ضمير : فأصلح ، وضمير : خاف ، وهو : مَنْ ، وهو : الخائف المصلح.

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، لما ذكر المبدل في أول الآية : وكان هذا من التبديل بين مخالفته للأول ، وأنه لا إثم عليه ، لأنه رد الوصية إلى العدد ، ولما كان المصلح ينقص الوصايا ، وذلك يصعب على الموصى له ، أزال الشبهة بقوله : { فلا إثم عليه } وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي ، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره. انتهى.
وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول.
وقال أيضاً : إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول ، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل ، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح ، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع.
انتهى كلامه.
{ إن الله غفور رحيم }.
قيل : غفور لما كان من الخائف ، وقيل : للمصلح رحيم حيث رخص ، وقيل : غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق ، رحيم للمصلح.
وقال الراغب : أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ، أن البر ليس هو تولية الوجوه قِبَلَ المشرق والمغرب ، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع ، اعتقاداً وفعلاً وقولاً.
فمن الاعتقاد : الإيمان بالله ، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه ، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة ، وأنبيائه المتقين.
تلك الكتب من ملائكته.
ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب ، من : إيتاء المال ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيفاء بالعهد ، والصبر في الشدائد.
ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي ، ولما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل وما حرم ، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالاً من غير حله ، وعده بالنار ، وأشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال ، ثم ذكر من اتصف بالبر التام وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء ، ويستدعي صونها ، وكان تقديم ذكر المأكول لعمومِ البلوى بالأكل ، فشرع القصاص ، ولم يخرج من وقع منه القتل واقتص منه عن الإيمان ، ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان وفصل شيئاً من المكافأة فقال { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى }

، ثم أخبر ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف ، وليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل والولي ، ويزيل الإحن ، لأن مشروعية العفو تستدعيعلى التآلف والتحاب وصفاء البواطن.
ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى ، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا ، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك ، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة ، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل ، وكان عاقلاً ، منعه ذلك من الإقدام على القتل ، إذ في ذلك إتلاف نفس المقتول وإتلاف نفس قاتله ، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزاً من أن يقتل فيقتل ، فيحيي بذلك من أراد قتله وهو ، فكان ذلك سبباً لحياتيهما.
ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت ، وذكر أن الوصية للوالدين والأقربين ، وتوعد من بدل الوصية بعد ما علمها ، ثم ذكر أنه لا إثم على من أصلح بين الموصى إليهم إذا كان جنفاً أو إثماً من الموصي ، وأن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم ، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله وهو : الإيمان بالله ، وختم حاله وهو : الوصية عند مفارقة هذا الوجود ، وما تخلل بينهما مما يعرض من مبارِّ الطاعات ، وهَنَاتِ المعاصي ، من غير استيعاب لأفراد ذلك ، بل تنبيهاً على أفضل الأعمال بعد الإيمان ، وهو : إقامة الصلاة وما بعدها وعلى أكبر الكبائر بعد الشرك ، وهو : قتل النفس ، فتعالى مَنْ كلامه فصل ، وحكمه عدل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

الصيام والصوم مصدران لصامَ ، والعرب تسمي كل ممسك صائماً ، ومنه الصوم في الكلام { إني نذرت للرحمن صوماً } أي سكوتاً في الكلام ، وصامت الريح : أمسكت عن الهبوب ، والدابة : أمسكت عن الأكل والجري ، وقال النابغة الذبياني :
خيل صيام وخيل غير صائمة . . .
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي : ممسكة عن الجري.
وتسمى الدابة التي لا تدور : الصائمة ، قال الراجز.
والبكرات شرهن الصائمة . . .
وقالوا : صام النهار : ثبت حره في وقت الظهيرة واشتد ، وقال.
ذمول إذا صام النهار وهجرا . . .
وقال :
حتى إذا صام النهار واعتدل . . .
ومال للشمس لعابٌ فنزل
ومصام النجوم ، إمساكها عن اليسر ومنه.
كأن الثريا علقت في مصامها . . .
فهذا مدلول الصوم من اللغة.
وأما الحقيقة الشرعية فهو : إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص ويبين في الفقه.
الطاقة ، والطوق : القدرة والاستطاعة ، ويقال : طاق وأطاق كذا ، أي : استطاعه وقدر عليه ، قال أبو ذئب.
فقلت له احمل فوق طوقك إنها . . .
مطبعة من يأتها لا يضيرها
الشهر مصدر : شهر الشيء يشهره ، أظهره ومنه الشهرة ، وبه سمي الشهر ، وهو : المدة الزمانية التي يكون مبدؤ الهلال فيها خافياً إلى أن يستسر ، ثم يطلع خافياً.
سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات وغيرها من أمورهم وقال الزجاج : الشهر الهلال.
قال :
والشهر مثل قلامة الظفر . . .
سمي بذلك لبيانه ، وقيل : سمي الشهر شهراً باسم الهلال إذا أهل سمي شهراً ، وتقول العرب : رأيت الشهر أي : هلاله.
قال ذو الرمة ( شعر ).
ترى الشهر قبل الناس وهو نحيل . . .
ويقال : أشهرنا ، أي : أتى علينا شهر ، وقال الفراء : لم أسمع منه فعلاً إلاَّ هذا ، وقال الثعلبي : يقال شَهَرَ الهلال إذا طلع ، ويجمع الشهر قلة على : أفعل ، وكثرة على : فعول ، وهما مقيسان فيه.
رمضان علم على شهر الصوم ، وهو علم جنس ، ويجمع على : رمضانات وأرمضة ، وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمضى ، وهو : شدة الحرة ، كما سمي الشهر ربيعاً من مدّة الربيع ، وجمادى من مدّة الجمود ، ويقال : رمض الصائم يرمض : احترق جوفه من شدة العطش ، ورمضت الفِصال : أحرق الرمضاء أخفافها فبركت من شدّة الحر ، وانزوت إلى ظلّ أمهاتها ، ويقال : أرمضته الرمضاء : أحرقته ، وأرمضني الأمر.
وقيل : سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة ، وقيل : لأن القلوب تحترمَنَّ الموعظة فيه والفكرة في أمر الآخرة ، وقيل : من رمضت النصل : رققته بين حجرين ليرق ، ومنه : نصل رميض ومرموض ، عن ابن السكيت.
وكانوا يرمضون أسلحتهم في هذا الشهر ليحاربوا بها في شوّال قبل دخول الأشهر الحرام ، وكان هذا الشهر في الجاهلية يسمى : ناتقاً أنشد المفضل.
وفي ناتق أحلت لدى حرمة الوغى . . .
وولت على الأدبار فرسان خثعما
وقال الزمخشري : الرمضان ، مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء.

انتهى.
ويحتاج في تحقيق أنه مصدر إلى صحة نقل لأن فعلاناً ليس مصدر فعل اللازم ، بل إن جاء فيه ذلك كان شاذاً ، والأولى أن يكون مرتجلاً لا منقولاً.
وقيل : هو مشتق من الرمض ، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر الأرض من الغبار.
القرآن : مصدر قرأ قرآنا.
قال حسان ، رضي الله عنه.
محوا بإسمك عنوان السجود به . . .
يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي : وقراءة وأطلق على ما بين الدفتين من كلام الله عزّ وجلّ ، وصار علماً على ذلك ، وهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول في الأصل ، ومعنى : قرآن ، بالهمز : الجمع لأنه يجمع السور ، كما قيل في القرء ، وهو : إجماع الدّم في الرحم أولاً ، لأن القارىء يلقيه عند القراءة من قول العرب : ما قرأت هذه الناقة سلا قط : أي : ما رمت به ، ومن لم يهمز فالأظهر أن يكون ذلك من باب النقل والحذف ، أو تكون النون أصلية من : قرنت الشيء إلى الشيء : ضممته ، لأن ما فيه من السور والآيات والحروف مقترن بعضها إلى بعض.
أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع كذلك ، أو ما فيه من الدلائل ومن القرائن ، لأن آياته يصدّق بعضها بعضاً ، ومن زعم من : قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، فقوله فاسد لاختلاف المادتين.
السفر : مأخوذ من قولهم : سفرت المرأة إذا ألقت خمارها ، والمصدر السفور.
قال الشاعر.
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت . . .
فقد رابني منها الغداة سفورها
وتقول : سفر الرجل ألقى عمامته ، وأسفر الوجه ، والصبح أضاء.
الأزهري سمي مسافراً لكشف قناع الكنّ عن وجهه ، وبروزه للأرض الفضاء ، والسفْر ، بسكون الفاء : المسافرون ، وهو اسم جمع : كالصحْب والركْب ، والسِفر من الكتب : واحد الأسفار لأنه يكشف عما تضمنة.
اليسر : السهولة ، يسَّر : سهّل ، ويسُر : سهُل ، وأيسر : استغنى ، ويسر ، من الميسر ، وهو : قمار ، معروف.
وقال علقمة :.
لا ييسرون بخيل قد يسرت بها . . .
وكل ما يسر الأقوام مغروم
وسميت اليد اليسرى تفاؤلاً ، أو لأنه يسهل بها الأمر لمعاونتها اليمنى.
العسر : الصعوبة والضيق ، ومنه أعسر اعساراً ، وذو عسرة ، أي : ضيق.
الإكمال : الإتمام.
والإجابة : قد يراد بها السماع ، وفي الحديث أن أعرابياً قال : يا محمد.
قال : قد أجبتك.
وقالوا : دعاء من لا يجيب ، أي : من لا يسمع ، كما أن السماع قد يراد به الإجابة ، ومنه : سمع الله لمن حمده.
وأنشد ابن الاعرابي حيث قال :
دعوت الله حتى خفت أن لا . . .
يكون الله يسمع ما أقول
وجهة المجاز بينهما ظاهرة لأن الإجابة مترتبة على السماع ، والإجابة حقيقة إبلاغ السائل ما دعا به ، وأجاب واستجاب بمعنى ، وألفه منقلبة عن واو ، يقال : جاب يجوب : قطع ، فكأن المجيب اقتطع للسائل ما سأل أن يعطاه ، ويقال : أجابت السماء بالمطر ، وأجابت الأرض بالنبات ، كأن كلاَّ منهما سأل صاحبه فأجابه بما سأل.

قال زهير.
وغيث من الوسمي حلو بلاغه . . .
أجابت روابيه النجا وهواطل
الرشد.
ضد الغي ، يقال : رشد بالفتح ، رشداً ، ورشِد بالكسر رِشداً ، وأرشدت فلاناً : هديته ، وطريق أرشد ، أي : قاصد ، والمراشد : مقاصد الطريق ، وهو لرشدة ، أي : هو لحلال ، وهو خلاف هو لزينة ، وأم راشد : المفازة ، وبنو رشدان : بطن من العرب ، وبنو راشد قبيلة كبيرة من البربر.
الرفث : مصدر رفث ، ويقال : أرفث : تكلم بالفحش.
قال العجاج :
وربّ أسراب حجيج كظم . . .
عن اللغا ورفث التكلم
وقال ابن عباس ، والزجاج ، وغيرهما : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة.
وأنشد ابن عباس :
وهنّ يمشين بنا هميساً . . .
إن تصدق الطيرننك لميسا
فقيل له : أترفث وأنت محرم ، فقال : إنما الرفث عند النساء ، وفي الحديث : «من حج هذا البنية فلم يرفث ولم يفسق خرج منها كيوم ولدته أمه».
وقيل : الرفث : الجماع ، واستدل على ذلك بقول الشاعر :
ويرين من أنس الحديث زوانيا . . .
ولهنّ عن رفث الرجال نفار
وبقول الآخر.
فيأتوا يرفثون وباتِ منّا . . .
رجال في سلاحهم ركوبا
وبقول الآخر :
فظلنا هناك في نعمة . . .
وكل اللذاذة غير الرفث
ولا دلالة في ذلك ، إذ يحتمل أن يكون أراد المقدمات : كالقبلة والنظرة والملاعبة.
أختان : من الخيانة ، يقال : خان خوناً وخيانةً ، إذا لم يف ، وذلك ضد الأمانة ، وتخونت الشيء : نقصته ، ومنه الخيانة ، وهو ينقص المؤتمن.
وقال زهير :
بارزة الفقارة لم يخنها . . .
قطاف في الركاب ولا خلاء
وتخوّنه وتخوّله : تعهده.
الخيط : معروف ، ويجمع على فعول وهو فيه مقيس ، أعني في فعل الاسم الياء العين نحو : بيت وبيوت ، وجيب وجيوب ، وغيب وغيوب ، وعين وعيون ، والخيط ، بكسر الخاء : الجماعة من النعام ، قال الشاعر :
فقال ألا هذا صوار وعانة . . .
وخِيطُ نعام يرتقي متفرق
البياض والسواد : لونان معروفان ، يقال منهما : بيض وسود.
فهو أبيض وأسود ، ولم يعل العين بالنقل والقلب لأنها في معنى ما يصح وهما : أبيض وأسود.
العكوف : الإقامة ، عكف بالمكان : أقام به ، قال تعالى : { يعكفون على أصنام لهم } وقال الفرزدق يصف الجفان :
ترى حولهنّ المعتفين كأنهم . . .
على صنم في الجاهلية عكّف
وقال الطرماح :
باتت بنات الليل حولي عكّفا . . .
عكوف البواكي بينهن صريع
وفي الشرع عبارة عن عكوف مخصوف ، وقد بين في كتب الفقه.
الحد ، قال الليث : حدّ الشيء : منتهاه ومنقطعه ، والمراد بحدود الله مقدّراته بمقادير مخصوصة وصفات مخصوصة.
الإدلاء : الإرسال للدلو ، اشتق منه فعل ، فقالوا : أدلى دلوه ، أي : أرسلها ليملأها ، وقيل : أدلى فلان بماله إلى الحاكم : رفعه.
قال :
وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت . . .
بباب دارك أدلوها بأقوامِ
ويقال : أدلى فلان بحجته : قام بها ، وتدلى من كذا أي : هبط.
قال :
كتيس الظباء الأعفر انضرجت له . . .
عقاب تدلت من شماريخ ثهلان

{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى : أولاً : بكتب القصاص وهو : إتلاف النفوس ، وهو من أشق التكاليف ، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل ، ثم أخبر ثانياً بكتب الوصية وهو : إخراج المال الذي هو عديل الروح ، ثم انتقل ثالثاً إلى كتب الصيام ، وهو : منهك للبدن ، مضعف له ، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار ، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده ، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية ، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة : الإيمان ، والصلاة ، والزكاة ، فأتى بهذا الركن الرابع ، وهو : الصوم.
وبناء { كُتب } للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة ، وحذف الفاعل للعلم به ، إذ هو : الله تعالى ، لأنها مشاق صعبة على المكلف ، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى ، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها ، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل ، كما قال تعالى : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } وهذا من لطيف علم البيان.
أما بناء الفعل للفاعل في قوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية ، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين ، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف ، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد ، وهو : حضور الموت بقصاص أو غيره ، وتباين هذا التكليف الثالث منها ، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك ، نحو : ضُرب زيد بسوط ، لأن ما أحتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة ، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر المكتوب لتعلق الكتب لمن نودي ، فتعلم نفسه أولاً أن المنادى هو المكلف ، فيرتقب بعد ذلك لما كلف به.
والألف واللام في : الصيام ، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به ، أو للجنس إن كانت لم تسبق.
وجاء هذا المصدر على فعال ، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل ، وهو فعل الواوي العين ، الصحيح الآخر ، والبناآن هما فعول وفعال ، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين ، وقد جاء منه شيء على الأصل : كالفؤور ، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال : الفؤور.
{ كما كتب } الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق ، أي : كتباً مثل ما كتب أو كتبه ، أي : الكتب منها كتب ، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب ، وإن كان متعلقه مختلفاً بالعدد أو بغيره ، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل ، وعطاء ، وتكون إذ ذاك ما مصدرية.

وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام ، أي : مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم ، وتكون ما موصولة أي : مشبهاً الذي كتب عليكم ، وذو الحال هو : الصيام ، والعامل فيها العامل فيه ، وهو : كتب عليكم.
وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف ، التقدير : صوماً كما ، وهذا فيه بُعد ، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح ، هذا إن كانت ما مصدرية ، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضاً بُعد ، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلاَّ على تأويل بعيد.
وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله : الصيام ، قال : إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته بكما ، إذ لا ينعت بها إلاَّ النكرات ، فهي بمنزلة : { كتب عليكم الصيام } انتهى كلامه ، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير ، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا ، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة ، وجعل من ذلك قوله تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون ، وتلخص في : ما ، من قوله : كما وجهان أحدهما : أن تكون مصدرية ، وهو الظاهر ، والآخر : أن تكون موصولة ، بمعنى.
الذي.
{ على الذين من قبلكم } : ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا.
وقال عليّ : أولهم آدم ، فلم يفترضها عليكم ، يعني : أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم ، فلم يفترضها عليكم خاصة ، وقيل : الذين من قبلنا هم النصارى.
قال الشعبي وغيره : والمصوم معين وهو رمضان فرض على الذين من قبلنا وهم النصارى ، احتاطوا له بزيادة يوم قبله ويوم بعده قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً ، فصعب عليهم في الحر ، فنقلوه إلى الفصل الشمسي.
قال النقاش : وفي ذلك حديث عن دغفل ، والحسن ، والسدي.
وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم ، فنذر أن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم أخرّ سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.
وقيل : كان النصارى أولاً يصومون ، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا ، ثم انتبهوا في الليل ، وكان ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ بسبب عمر ، وقيس بن صرمة.
قال السدي أيضاً ، والربيع وأبو العالية.
قيل : وكذا كان صوم اليهود ، فيكون المراد : بالذين من قبلنا ، اليهود والنصارى ، وقيل : الذين من قبلنا : هم اليهود خاصة ، فرض علينا كما فرض عليهم ، ثم نسخه الله بصوم رمضان.

قال الراغب : للصوم فائدتان رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات ، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع. انتهى.
وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة ، فإذا ذكر أنه كان مفروضاً على من تقدّم من الأمم سهلت هذه العبادة.
{ تتقون } الظاهر : تعلق ، لعل بكتب ، أي : سبب فرضية الصوم هو رجاء حصول التقوى لكم ، فقيل : المعنى تدخلون في زمرة المتقين ، لأن الصوم شعارهم ، وقيل : تجعلون بينكم وبين النار وقاية بترك المعاصي ، فإن الصوم لإضعاف الشهوة وردعها ، كما قال عليه السلام « فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء »
وقيل : تتقون الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم ، قاله السدي.
وقيل : تتقون المعاصي ، لأن الصوم يكف عن كثير مما تشوق إليه النفس ، قاله الزجاج.
وقيل : تتقون محظورات الصوم ، وهذا راجع لقول السدي.
{ أياماً معدودات } إن كان ما فرض صومه هنا هو رمضان ، فيكون قوله أياماً معدودات عنى به رمضان ، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين ، ووصفها بقوله : معدودات ، تسهيلاً على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد ليست بالكثيرة التي تفوّت العد ، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل ، كقوله : { في أيام معدودات } { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة }
وإن كان ما فرض صومه هو ثلاثة أيام من كل شهر ، وقيل : هذه الثلاثة ويوم عاشوراء ، كما كان ذلك مفروضاً على الذين من قبلنا ، فيكون قوله : { أياماً معدودات } عنى بها هذه الأيام ، وإلى هذا ذهب ابن عباس ، وعطاء.
قال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة : هي الأيام البيض ، وقيل : وهي : الثاني عشر ، والثالث عشر ، والرابع عشر ، وقيل : الثالث عشر ويومان بعده ، وروي في ذلك حديث.
« إن البيض هي الثالث عشر ويومان بعده » فإن صح لم يمكن خلافه.
وروى المفسرون أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً ، وصوم يوم عاشوراء ، فصاموا كذلك في سبعة عشر شهراً ، ثم نسخ بصوم رمضان.
قال ابن عباس : أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ، والصوم ، ويقال : نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام ، وقيل : كان صوم تلك الأيام تطوعاً ، ثم فرض ، ثم نسخ.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ( ري الظمآن ) : احتج من قال إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم : « صوم رمضان نسخ كل صوم » ، فدل على أن صوماً آخر كان قبله ، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمها في الآية الآتية بعده ، فإن كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان هذا تكريراً ، ولأن قوله تعالى : { فدية } يدل على التخيير ، وصوم رمضان واجب على التعيين ، فكان غيره ، وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام : شهر رمضان ، لأن قوله : { كتب عليكم الصيام } يحتمل يوماً ويومين وأكثر ، ثم بينه بقوله : { شهر رمضان } وإذا أمكن حمله على رمضان فلا وجه لحمله على غيره ، وإثبات النسخ؛ وأما الخبر فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة ، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الامة ، وأما ما ذكر من التكرار فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض في رمضان في الحكم ، بخلاف التخيير في المقيم ، فإنه يجب عليهما القضاء ، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم ، كان من الجائز أن نظن أن حكم الصوم ، لما انتقل إلى التخيير عن التضييق ، يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم من حيث تغير الحكم في الصوم ، لما بين أن حال المريض والمسافر في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً ، فهذه فائدة الإعادة ، وهذا هو الجواب عن الثالث ، وهو قولهم : لأن قوله تعالى : { فدية } يدل على التخيير إلى آخره ، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً ، ثم صار معيناً.

وعلى كلا القولين لا بد من النسخ في الآية ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً ، والآية التي بعد تدل على التضييق ، فكانت ناسخة لها ، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول.
انتهى كلامه.
وانتصاب قوله : { أياماً } على إضمار فعل يدل عليه ما قبله ، وتقديره : صوموا أياماً معدودات ، وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله : الصيام ، وهو اختيار الزمخشري ، إذ لم يذكره غيره ، قال : وانتصاب أياماً بالصيام كقولك : نويت الخروج يوم الجمعة انتهى كلامه وهو خطأ ، لأن معمول المصدر من صلته ، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله : { كما كتب } فكما كتب ليس لمعمول المصدر ، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال ، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير : أن تعريف الصيام جنس ، فيوصف بالنكرة ، لم يجز أيضاً ، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله ، فإن قدَّرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام ، كما قد قال به بعضهم ، وضعَّفناه قبل ، فيكون التقدير : صوماً كما كتب ، جاز أن يعمل في : أياماً ، الصيام ، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً ، هو المصدر ، فلا يقع الفصل بينهما ، بما ليس لمعمول للمصدر ، وأجازوا أيضاً انتصاب : أياماً ، على الظرف ، والعامل فيه كتب ، وأن يكون مفعولاً على السعة ثانياً ، والعامل فيه كتب ، وإلى هذا ذهب الفراء ، والحوفي ، وكلا القولين خطأ.
أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل ، والكتابة ليست واقعة في الأيام ، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام ، فلو قال الإنسان لوالده وكان ولد يوم الجمعة : سرني ولادتك يوم الجمعة ، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني ، لأن ، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة ، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه ، وأما النصب على المفعول اتساعاً فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب ، وقد بينا أن ذلك خطأ.

والصوم : نفل وواجب ، والواجب معين الزمان ، وهو : صوم رمضان والنذر المعين ، وما هو في الذمة ، وهو : قضاء رمضان ، والنذر غير المعين ، وصوم الكفارة.
وأجمعوا على اشتراط النية في الصوم ، واختلفوا في زمانها.
فمذهب أبي حنيفة : أن رمضان ، والنذر المعين ، والنفل يصح بنية من الليل ، وبنية إلى الزوال ، وقضاء رمضان ، وصوم الكفارة ، ولا يصح إلاَّ بنية من الليل خاصة.
ومذهب مالك على المشهور : أن الفرض والنفل لا يصح إلاَّ بنية من الليل.
ومذهب الشافعي : أنه لا يصح واجب إلاَّ بنية من الليل.
ومذهب مالك : أن نية واحدة تكفي عن شهر رمضان.
وروي عن زفر أنه إذا كان صحيحاً مقيماً فأمسك فهو صائم ، وإن لم ينو.
ومن صام رمضان بمطلق نية الصوم أو بنية واجب آخر ، فقال أبو حنيفة : ما تعين زمانه يصح بمطلق النية ، وقال مالك ، والشافعي : لا يصح إلاَّ بنية الفرض ، والمسافر إذا نوى واجباً آخر وقع عما نوى ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يقع عن رمضان ، فلو نوى هو أو المريض التطوع فعن أبي حنيفة : يقع عن الفرض ، وعنه أيضاً : يقع التطوع ، وإذا صام المسافر بنية قبل الزوال جاز ، قال زفر : لا يجوز النفل بنية بعد الزوال ، وقال الشافعي : يجوز ولو أوجب صوم وقت معين فصام عن التطوع ، فقال أبو يوسف : يقع على المنذور ، ولو صام عن واجب آخر في وقت الصوم الذي أوجبه وقع عن ما نوى ، ولو نوى التطوع وقضاء رمضان ، فقال أبو يوسف : يقع عن القضاء ، ومحمد قال : عن التطوع ، ولو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان على القضاء في قول أبي يوسف ، وقال محمد : يقع على النفل ، ولو نوى الصائم الفطر فصومه تام ، وقال الشافعي : يبطل صومه.
ودلائل هذه المسائل تذكر في كتب الفقه.
{ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } ظاهر اللفظ اعتبار مطلق المرض بحيث يصدق عليه الأسم ، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين ، وعطاء ، والبخاري.
وقال الجمهور : هو الذي يؤلم ، ويؤذي ، ويخاف تماديه ، وتزيده؛ وسمع من لفظ مالك : أنه المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به التلف إذا صام ، وقال مرة : شدة المرض والزيادة فيه؛ وقال الحسن ، والنخعي : إذا لم يقدر من المرض على الصيام أفطر.
وقال الشافعي : لا يفطر إلاَّ من دعته ضرورة المرض إليه ، ومتى احتمل الصوم مع المرض لم يفطر.
وقال أبو حنيفة : إن خاف أن تزداد عينه وجعاً أو حمى شديدة أفطر.
وظاهر اللفظ اعتبار مطلق السفر زماناً وقصداً.

وقد اختلفوا في المسافة التي تبيح الفطر ، فقال ابن عمر ، وابن عباس ، والثوري وأبو حنيفة : ثلاثة أيام.
وروى البخاري أن ابن عمر ، وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً ، وقد روي عن ابن أبي حنيفة : يومان وأكثر ثلاث ، والمعتبر السير الوسط لا غيره من الإسراع والإبطاء.
وقال مالك : مسافة الفطر مسافة القصر ، وهي يوم وليلة ، ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلاً ، وقال مرة : اثنان وأربعون ، ومرة ستة وأربعون؛ وفي المذهب : ثلاثون ميلاً ، وفي غير المذهب ثلاثة أميال.
وأجمعوا على أن سفر الطاعة من جهاد وحج وصلة رحم وطلب معاش ضروري مبيح.
فأما سفر التجارة والمباح ففيه خلاف ، وقال ابن عطية : والقول بالإجازة أظهر ، وكذلك سفر المعاصي مختلف فيه أيضاً ، والقول بالمنع أرجح.
انتهى كلامه.
واتفقوا على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر ، قالوا : ولا خلاف أنه لا يجوز لمؤمل السفر أن يفطر قبل أن يخرج ، فان أفطر فقال أشهب : لا يلزمه شيء سافر ، أو لم يسافر.
وقال سحنون : عليه الكفارة سافر ، أو لم يسافر ، وقال عيسى ، عن ابن القاسم : لا يلزمه إلاَّ قضاء يومه ، وروي عن أنس أنه أفطر وقد أراد السفر ، ولبس ثياب السفر ، ورجل دابته ، فأكل ثم ركب.
وقال الحسن يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج ، وقال أحمد : إذا برز عن البيوت ، وقال إسحاق : لا بل حتى يضع رجله في الرحل.
ومن أصبح صحيحاً ثم اعتل أفطر بقية يومه ، ولو أصبح في الحضر ثم سافر فله أن يفطر ، وهو قول ابن عمر ، والشعبي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقيل : لا يفطر يومه ذلك ، وإن نهض في سفره وهو قول الزهري ، ويحيى الأنصاري ، ومالك ، والأوزاعي ، وابن حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي.
واختلفوا إن أفطر ، فكل هؤلاء قال : يقضي ولا يكفر.
وقال ابن كنانة : يقضي ويكفر ، وحكاه الباجي عن الشافعي ، وقال به ابن العربي واختاره ، وقال أبو عمر بن عبد البر : ليس بشيء ، لأن الله أباح له الفطر في الكتاب والسنة ، ومن أوجب الكفارة فقد أوجب ما لم يوجبه الله.
وظاهر قوله : { أو على سفر } إباحة الفطر للمسافر ، ولو كان بيت نية الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر ، ولا كفارة عليه ، قاله الثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي وسائر فقهاء الكوفة.
وقال مالك : عليه القضاء والكفارة ، وروي عنه أيضاً أنه : لا كفارة عليه ، وهو قول أكثر أصحابه.
وموضع { أو على السفر } ، نصب لأنه معطوف على خبر : كان ، ومعنى : أو ، هنا التنويع ، وعدل عن اسم الفاعل وهو : أو مسافر إلى ، أو على سفر ، إشعاراً بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر ، بخلاف المرض ، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار ، فهو قهري ، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه ، ولذلك يقال : فلان على طريق ، وراكب طريق إشعاراً بالاختيار ، وأن الإنسان مستولٍ على السفر مختارٌ لركوب الطريق فيه.

{ فعدة من أيام أخر } قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، وقدر : قبل ، أي : فعليه عدة وبعد أي : أمثل له ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب ، أو : فالحكم عدة.
وقرئ : فعدة ، بالنصب على إضمار فعل ، أي : فليصم عدة ، وعدة هنا بمعنى معدود ، كالرعي والطحن ، وهو على حذف مضاف ، أي : فصوم عدة ما أفطر ، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام ، التقدير : فافطر فعدة ، ونظير في الحذف : { أن أضرب بعصاك البحر فانفلق } أي : فضرب فانفلق.
ونكر { عدة } ولم يقل : فعدتها ، أي : فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً ، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه ، والعدة هي المعدود ، فكان التنكير أخصر و { من أيام } في موضع الصفة لقوله فعدة ، وأخر : صفة لأيام ، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة.
فمن الأول : { إلا أياماً معدودة } ومن الثاني : { إلا أياماً معدودات } فمعدودات : جمع لمعدودة.
وأنت لا تقول : يوم معدودة ، إنما تقول : معدود ، لأنه مذكر ، لكن جاز ذلك في جمعه ، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث ، فكان ، يكون : من أيام أخرى ، وإن كان جائزاً فصيحاً كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله { فعدة } ، فلا يدرى أهو وصف لعدة ، أم لأيام ، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصوراً ، بخلاف : { أخر } فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة ، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو ، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر مقابل أخريين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة ، مقابلة الآخر المقابل للأول ، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة.
وقد اختلفا حكماً ومدلولاً.
أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة ، وأما اختلاف المدلول : فلأن مدلول أخرى ، التي جمعها أخر التي لا تتصرف ، مدلول : غير ، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول : متأخرة ، وهي قابلة الأولى.
قال تعالى : { قالت أولاهم لاخراهم } فهي بمعنى : الآخرة ، كما قال تعالى : { وإن لنا للآخرة والأولى } وأخر الذي مؤنثه : أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى : غير ، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلاَّ مِن جنس ما قبله ، تقول : مررت بك وبرجل آخر ، ولا يجوز : اشتريت هذا الفرس وحماراً آخر ، لأن الحمار ليس من جنس الفرس ، فأما قوله :
صلى على عزة الرحمان وابنتها . . .
ليلى ، وصلى على جاراتها الآخر
فإنه جعل : ابنتها جارة لها ، ولولا ذلك لم يجز ، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابتا ( التكميل ).
قالوا : واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر ، وأنه لا قضاء عليه إذا صام ، لأنهم ، كما ذكرنا ، قدروا حذفاً في الآية ، والأصل : أن لا حذف ، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر ، فلو صاما لم يجزهما ، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما.

قالوا : وروي عن أبي هريرة أنه قال : من صام في السفر فعليه القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس ، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر ، وابنه عبد الله ، وعن ابن عباس : أن الفطر في السفر عزيمة ، ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وقال به قوم من أهل الظاهر ، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر فقال ، فيما لخصناه في كتابنا المسمى ب ( الأنور الأجلى في اختصار المحلى ) ما نصه : ويجب على من سافر ولو عاصياً ميلاً فصاعداً الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان ، وليفطر المريض ويقضي بعد ، ويكره صومه ويجزى ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه.
وثبت بالخبر المستفيض أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر ، وروى ذلك عنه أبو الدرداء ، وسلمة بن المحنق ، وأبو سعيد ، وجابر ، وأنس ، وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر ، بقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي وقد قال : أصوم في السفر؟ قال : « إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر » وعلى قول الجمهور : أن ثم محذوفاً ، وتقديره : فأفطر ، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم.
واختلفوا في الأفضل ، فذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والشافعي في بعض ما روي عنهما : إلى أن الصوم أفضل ، وبه قال من الصحابة : عثمان بن أبي العاص الثقفي ، وأنس بن مالك.
قال ابن عطية : وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن الفطر أفضل ، وبه قال من الصحابة ابن عمر ، وابن عباس.
ومن التابعين : ابن المسيب ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة.
قال ابن عطية : وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما.
وكره ابن حنبل الصوم في السفر ، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط ، قاله الأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وزاد الليث : والكفارة.
وعن مالك القولان.
ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه ، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار ، فقال جابر بن يزيد ، والشافعي ، ومالك فيما رواه ابن القاسم : يأكلان ولا يمسكان.
وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي والحسن بن صالح ، وعبد الله بن الحسن : يمسكان بقية يومهما.
عن ما يمسك عنه الصائم.
وقال ابن شبرمة في المسافر : يمسك ويقضي ، وفي الحائض : إن طهرت تأكل.
.
والظاهر من قوله : فعدة ، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه ، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوماً ، قضى تسعة وعشرين يوماً ، وبه قال جمهور العلماء ، وذهب الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة عدد الإيام.

وروي عن مالك أنه يقضي بالأهلة ، وروي عن الثوري أنه يقضي شهراً تسعة وعشرين يوماً وإن كان رمضان ثلاثين ، وهو خلاف الظاهر ، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه : إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان ، فإنه يجب القضاء بالعدد ، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد.
وظاهر قوله تعالى : { فعدة من أيام أخر } أنه لا يلزم التتابع ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وروي عن علي ومجاهد وعروة : أنه لا يفرق ، وفي قراءة أبيّ : فعدة من أيام أخر متتابعات ، وظاهر الآية : أنه لا يتعين الزمان ، بل تستحب المبادرة إلى القضاء.
وقال داود : يجب عليه القضاء ثاني شوّال ، فلو لم يصمه ثم مات أثِمَ ، وهو محجوج بظاهر الآية ، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت : كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه ، إلاَّ في شعبان لشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظاهر الآية أنه : من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر ، أنه لا يجب عليه إلاَّ القضاء فقط عن الأول ، ويصوم الثاني.
وبه قال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وداود ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، يجب عليه الفدية مع القضاء.
وقال يحيى بن أكثم القاضي روى وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة ، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفاً.
وروي عن ابن عمر أنه : لا قضاء عليه إذا فرّط في رمضان الأوّل ، ويطعم عن كل يوم منه مدّا من بر ، ويصوم رمضان الثاني.
ومن أخر قضاء رمضان حتى مات فقال مالك ، والثوري ، والشافعي : لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره.
وقال الليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وأهل الظاهر : يصام عنه ، وخصصوه بالنذر.
وقال أحمد ، وإسحاق : يطعم عنه في قضاء رمضان.
{ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } قرأ الجمهور : يطيقونه مضارع أطاق ، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق ، كقولهم أطول في أطال ، وهو الأصل.
وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء ، والمسموع منه : أجود ، وأعول ، وأطول.
وأغيمت السماء ، وأخيلت ، وأغيلت المرأة وأطيب ، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس ، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين ، إلاَّ أبا زيد الأنصاري فانه يرى التصحيح في ذلك مقيساً إعتباراً بهذه الإلفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس.
وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه : يطوّقونه ، مبنياً للمفعول من طوّق على وزن قطع.

وقرأت عائشة ، ومجاهد ، وطاووس ، وعمرو بن دينار : يطوّقونه من أطوّق ، وأصله تطوّق على وزن تفعل ، ثم أدغموا التاء في الطاء ، فاجتلبوا في الماضي والأمر همزة الوصل.
قال بعض الناس : هو تفسير لا قراءة ، خلافاً لمن أثبتها قراءة ، والذي قاله الناس خلاف مقالة هذا القائل ، وأوردها قراءة.
وقرأت فرقة ، منهم عكرمة : يطيقونه ، وهي مروية عن مجاهد ، وابن عباس ، وقرىء أيضاً هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول ، ورد بعضهم هذه القراءة ، وقال : هي باطلة لأنه مأخوذ من الطوق.
قالوا : ولازمة فيه ، ولا مدخل للياء في هذا المثال.
وقال ابن عطية : تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف. انتهى.
وإنما ضعف هذا ، أو امتنع عند هؤلاء ، لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن تفعل ، فأشكل ذلك عليهم ، وليس كما ذهبوا إليه ، بل هو على وزن : تفعيل من الطوق ، كقولهم : تدير المكان وما بها دّيار ، فأصله : تطيوقون ، اجتمعت ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء ، فقيل : تطيق يتطيق ، فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه نحوي واضح.
فهذه ست قرآت يرجع معناها إلى الاستطاعة والقدرة ، فالمبني منها للفاعل ظاهر ، والمبني منها للمفعول معناه : يجعل مطيقاً لذلك ، ويحتمل قراءة تشديد الواو والياء أن يكون لمعنى التكليف ، أي : يتكلفونه أو يكلفونه ، ومجازه أن يكون من الطوق بمعنى القلادة ، فكأنه قيل : مقلدون ذلك ، أي : يجعل في أعناقهم ، ويكون كناية عن التكليف ، أي : يشق عليهم الصوم.
وعلى هذين المعنيين حمل المفسرون قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه } والضمير عائد على الصوم ، فاختلفوا ، فقال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، والحسن البصري ، والشعبي ، وعكرمة ، وابن شهاب ، والضحاك : كان الصيام على المقيمين القادرين مخيراً فيه ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم ، ثم نسخ ذلك { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وهذا قول أكثر المفسرين ، وقيل : ثم محذوف معطوف تقديره : يطيقونه ، أو الصوم ، لكونهم كانوا شباباً ثم عجزوا عنه بالشيخوخة ، قاله سعيد بن المسيب والسدي.
وقيل : المعنى : وعلى الذين يطيقون الصوم ، وهو بصفة المرض الذي يستطيع معه الصوم ، فخير هذا بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ، ثم نسخ ذلك بقوله : { فليصمه } فزالت الرخصة إلاَّ لمن عجز منهم ، قاله ابن عباس.
وجوّز بعضهم أن تكون : لا ، محذوفة ، فيكون الفعل منفياً ، وقدره : وعلى الذين لا يطيقونه ، قال : حذف : لا ، وهي مرادة.
قال ابن أحمد.
آليت أمدح مقرفاً أبدا . . .
يبقى المديح ويذهب الرفد
وقال الآخر :
فخالف ، فلا والله تهبط تلعة . . .
من الأرض إلاَّ أنت للذل عارف
وقال امرؤ القيس :
فقلت يمين الله أبر قاعدا . . .
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وتقدير : لا ، خطأ لأنه مكان إلباس.
ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم ، هو : أن الفعل مثبت ، ولا يجوز حذف : لا ، وإرادتها إلاَّ في القسم ، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم ، وعلة ذلك مذكورة في النحو.

وقيل : { الذين يطيقونه } المراد : الشيخ الهرم ، والعجوز ، أي : يطيقونه بتكلف شديد ، فأباح الله لهم الفطر والفدية ، والآية على هذا محكمة ، ويؤيده توجيه من وجه : يطوقونه ، على معنى : يتكلفون صومه ويتجشمونه ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وأنها نزلت في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة وزيد عن علي : والمريض الذي لا يرجى برؤه ، والآية عند مالك إنما هي في من يدركه رمضان وعليه صوم رمضان المتقدّم ، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم ، فتركه ، فعليه الفدية.
وقال الأصم : يرجع ذلك إلى المريض والمسافر لأن لهما حالين : حال لا يطيقان فيه الصوم ، وقد بين الله حكمها في قوله : { فعدّة من أيام أخر }.
وحال يطيقان ، وهي حالة المرض والسفر الذين لا يلحق بهما جهد شديد لو صاما ، فخيرّ بين أن يفطر ويفدي ، فكأنه قيل : وعلى المرضى والمسافرين الذين يطيقونه.
والظاهر من هذه الأقوال القول الأوّل ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فرض الصيام على المؤمنين قسمهم إلى قسمين : متصف بمظنة المشقة ، وهو المريض والمسافر ، فجعل حكم هذا أنه إذا أفطر لزمه القضاء ومطيق للصوم ، فإن صام قضى ما عليه ، وإن أفطر فدى : ثم نسخ هذا الثاني ، وتقدم أن هذا كان ، ثم نسخ.
والقائلون بأن الذين يطيقونه هم الشيوخ والعجز ، تكون الآية محكمة على قولهم ، واختلفوا ، فقيل : يختص هذا الحكم بهؤلاء ، وقيل : يتناول الحامل والمرضع ، وأجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر عليه الفدية ، هكذا نقل بعضهم ، وليس هذا الإجماع بصحيح ، لأن ابن عطية نقل عن مالك أنه قال : لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، ويستحب لمن قوي عليها.
وتقدم قول مالك ورأيه في الآية.
وقال الشافعي : على الحامل والمرضع ، إذا خافتا على ولديهما ، الفدية ، لتناول الآية لهما ، وقياساً على الشيخ الهرم ، والقضاء.
وروي في البويطي : لا إطعام عليهما.
وقال أبو حنيفة : لا تجب الفدية ، وأبطل القياس على الشيخ الهرم ، لأنه لا يجب عليه القضاء ، ويجب عليهما.
قال : فلو أوجبنا الفدية مع القضاء كان جمعاً بين البدلين ، وهو غير جائز ، وبه قال ابن عمر ، والحسن ، وأبو يوسف ومحمد وزفر.
وقال علي : الفدية بلا قضاء ، وذهب ابن عمر ، وابن عباس إلى أن الحامل تفطر وتفدي ولا قضاء عليها ، وذهب الحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والزهري ، وربيعة ، ومالك ، والليث إلى أن الحامل إذا أفطرت تقضي ، ولا فدية عليها وذهب مجاهد ، وأحمد إلى أنها تقضي وتفدي.
وتقدم أن هذا مذهب الشافعي ، وأما المرضع فتقدّم قول الشافعي ، وأبي حنيفة فيها إذا أفطرت.
وقال مالك في المشهور تقضي وتفدي.
وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع.

واختلفوا في مقدار ما يطعم من وجب عليه الإطعام ، فقال إبراهيم ، والقاسم بن محمد ، ومالك والشافعي فيما حكاه عنه المزني.
يطعم عن كل يوم مداً؛ وقال الثوري : نصف صاع من بر ، وصاع من تمر أو زبيب ، وقال قوم : عشاء وسحور ، وقال قوم : قوت يوم ، وقال أبو حنيفة وجماعة ، يطعم عن كل يوم نصف صاع ، من بر ، وروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقيس بن الكاتب الذي كان شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وعائشة ، وسعيد بن المسيب ، في الشيخ الكبير : أنه يطعم عنه كل يوم نصف صاع.
وظاهر الآية : أنه يجب مطلق طعام ، ويحتاج التقييد إلى دليل.
ولو جنّ في رمضان جميعه أو في شيء منه ، فقال الشافعي : لا قضاء عليه ولو أفاق قبل أن تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل ، وقال مالك وعبيد الله العنبري : يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة؛ وقال أبو حنيفة ، والثوري ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : إذا جنّ في رمضان كله فلا قضاء عليه ، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله.
وقرأ الجمهور : فدية طعام مسكين ، بتنوين الفدية ، ورفع طعام ، وإفراد مسكين ، وهشام كذلك إلا أنه قرأ : مساكين بالجمع ، وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية ، لأنها مصدر.
ومن نوّن كان طعام بدلاً من فدية ، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي.
ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضاً وتخصص بالإضافة ، وهي إضافة الشيء إلى جنسه ، لأن الفدية اسم للقدر الواجب ، والطعام يعم الفدية وغيرها ، وفي ( المنتخب ) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة.
قال : لأن الفدية لها ذات ، وصفتها أنها طعام ، وهذا ليس بجيد ، لأن طعاماً ليس بصفة ، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء ، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب ، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.
أما إذا كان مصدراً فإنه لا يوصف به إلاّ عند إرادة المبالغة ، ولا معنى لها هنا ، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جارياً على فعلٍ ولا منقاساً ، فلا تقول : في مضروب ضراب ، ولا في مقتول قتال ، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن ، لا يوصف بشيء منها ، ولا يعمل عمل المفعول ، ألا ترى أنه لا يجوز فيها ، مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه ، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته ، ومن قرأ مساكين ، قابل الجمع بالجمع ، ومن أفرد فعلى مراعاة أفراد العموم أي : وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين ، ونظيره { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }

أي : فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة.
وتبين من أفراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين ، ولا يفهم ذلك من الجمع.
{ فمن تطوّع خيراً فهو خير له } أي : من زاد على مقدار الفدية في الطعام للمسكين ، قاله مجاهد ، وعلى عدد من يلزمه إطعامه ، فيطعم مسكينين فصاعداً قاله ابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي.
أو جمع بين الإطعام والصوم ، قاله ابن شهاب.
وانتصاب { خيراً } على أنه مفعول على إسقاط الحرف ، أي : بخير ، لأنه تطوّع لا يتعدى بنفسه ، ويحتمل أن يكون ضمّن ، تطوّع معنى فعل متعد ، فانتصب خيراً ، على أنه مفعول به ، وتقديره ، ومن فعل متطوعاً خيراً ، ويحتمل أن يكون انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : تطوعاً خيراً ، ودل وصف المصدر بالخيرية على خيرية المتطوع به ، وتقدم ذكر قراءة من قرأ يطوع ، فجعله مضارع أطوع ، وأصله تطوع فأدغم ، واجتلبت همزة الوصل.
ويلزم في هذه القراءة أن تكون : مَن شرطية ، ويجوز ذلك في قراءة مَن جعله فعلاً ماضياً ، والضمير في فهو ، عائد على المصدر المفهوم من تطوع ، أي : فالتطوع خير له ، نحو قوله : { أعدلوا هو أقرب للتقوى } أي : العدل ، وخير : خبر : لهو ، وهو ، هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : أن الزيادة على الواجب ، إذا كان يقبل الزيادة ، خير من الاقتصار عليه ، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير ، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم ، وظاهر التطوع : التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك ، وأن الفعل أفضل.
ولا خلاف في ذلك ، فلو شرع فيه ثم أفسده ، لزمه القضاء عند أبي حنيفة ، ولا قضاء عليه عند الشافعي.
{ وأن تصوموا خير لكم } وقرأ أُبيُّ : والصوم خير لكم.
هكذا نقل عن ابن عطية.
ونقل الزمخشري : أن قراءته : والصيام خير لكم ، والخطاب للمقيمين المطيقين الصوم ، أي : خير لكم من الفطر والفدية ، أو للمريض والمسافر ، أي : خير لكم من الفطر والقضاء ، أو : لمن أبيح له الفطر من الجميع.
أقوال ثلاثة.
وأبعد من ذهب إلى أنه متعلق بأول الآية ، وهو { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } أي : وأن تصوموا ذلك المكتوب خير لكم ، والظاهر الأول ، وفيه حض على الصوم.
{ إن كنتم تعلمون } من ذوي العلم والتمييز ، ويجوز أن يحذف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي : ما شرعته وبينته لكم من أمر دينكم ، أو فضل أعمالكم وثوابها ، أو كنى بالعلم عن الخشية أي : تخشون الله ، لأن العلم يقتضي خشيته { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء }
{ شهر رمضان } قرأ الجمهور برفع شهر ، وقرأه بالنصب مجاهد ، وشهر : دين حوشب وهارون الأعور : عن أبي عمرو ، وأبو عمارة : عن حفص عن عاصم.
وإعراب شهر يتبين على المراد بقوله : { أياماً معدودات } فإن كان المراد بها غير أيام رمضان فيكون رفع شهر على أنه مبتدأ ، وخبره قوله : { الذي أنزل فيه القرآن } ويكون ذكر هذه الجملة تقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته والتنبيه على أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن هو الذي يفرض عليكم صومه ، وجوزوا أن يكون : الذي أنزل ، صفة.

إما للشهر فيكون مرفوعاً ، وإما لرمضان فيكون مجروراً.
وخبر المبتدأ والجملة بعد الصفة من قوله : { فمن شهد منكم الشهر } وتكون الفاء في : فمن ، زائدة على مذهب أبي الحسن ، ولا تكون هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان منها للشرط ، لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط ، قالوا : ويجوز أن لا تكون الفاء زائدة ، بل دخلت هنا كما دخلت في خبر الذي ، ومثله : { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } وهذا الذي قالوه ليس بشيء ، لأن الذي ، صفة لعلم ، أو لمضاف لعلم ، فليس يتخيل فيه شيء ما من العموم ، ولمعنى الفعل الذي هو { أنزل فيه القرآن } لفظاً ومعنى ، فليس كقوله : { قل إن الموت الذي تفرون منه } لأن الموت هنا ليس معيناً ، بل فيه عموم.
وصلة الذي مستقبلة ، وهي : تفرون ، وعلى القول ، بأن الجملة من قوله { فمن شهد } هي الخبر ، يكون العائد على المبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، أي : فمن شهده منكم فليصمه ، فأقام لفظ المبتدأ مقام الضمير ، وحصل به الربط كما في قوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . .
وذلك لتفخيمه وتعظيمه وإن كان المراد بقوله : { أياماً معدودات } أيام رمضان ، فجوزوا في إعراب شهر وجهين.
أحدهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو : شهر رمضان ، أي : المكتوب شهر رمضان ، قاله الأخفش ، وقدره الفراء : ذلكم شهر وهو قريب.
الثاني : أن يكون بدلاً من قوله : الصيام أي : كتب عليكم شهر رمضان ، قاله الكسائي ، وفيه بعد لوجهين : أحدهما : كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه ، والثاني : أنه لا يكون إذ ذاك إلاَّ مِن بدل الإشتمال ، لا ، وهو عكس بدل الاشتمال ، لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } وقول الأعشى :
لقد كان في حول ثواء ثويته . . .
تقضي لبانات ويسأم سائم
وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس ، فلو كان هذا التركيب : كتب عليكم شهر رمضان صيامه ، لكان البدل إذ ذاك صحيحاً.
وعكس : ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف ، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره : صيام شهر رمضان ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة ، وهو بعيد ، ويجوز على بُعدٍ أن يكون بدلاً من أيام معدودات ، على قراءة عبد الله ، فإنه قرأ : أيامٌ معدودات ، بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : المكتوب صومه أيام معدودات.
ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب ( البديع ) له في القرآن؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قرأ ذلك على إضمار فعل تقديره : صوموا شهر رمضان ، وجوزوا فيه أن يكون بدلاً من قوله : { أياماً معدودات } قاله الأخفش ، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل ، وأن يكون منصوباً على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان ، قاله أبو عبيدة والحوفي ، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوباً بقوله : { وأن تصوموا } حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال : وقرىء بالنصب على : صوموا شهر رمضان ، أو على الإبدال من : { أياماً معدودات } ، أو على أنه مفعول ، وأن تصوموا.

انتهى.
كلامه؛ وهذا لا يجوز ، لأن تصوموا صلة لأن ، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير ، لأن تصوموا في موضع مبتدأ ، أي : وصيامكم خير لكم ، ولو قلت : أن يضرب زيداً شديد ، وأن تضرب شديد زيداً ، لم يجز.
وأدغمت فرقة شهر رمضان.
قال ابن عطية : وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه ، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين ، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح ، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم ، نحو : هذا ثوب بكر ، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين ، ولا على ما اختاروه ، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه.
.
{ الذي أنزل فيه القرآن } : تقدّم اعرابه ، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن ، والقرآن يعم الجميع ظاهراً ، ولم يبين محل الإنزال ، فعن ابن عباس أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً.
وقيل : الإنزال هنا هو على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون القرآن مما عبر بكله عن بعضه ، والمعنى بدئ بإنزاله فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك في الرابع والعشرين من رمضان.
أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية ، كما تقول : أكلت اللحم ، لا تريد استغراق الأفراد ، إنما تريد تعريف الماهية.
وقيل معنى : { أنزل فيه القرآن } أن جبريل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بما أنزل الله عليه ، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء قاله الشعبي؛ فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة.
وقيل : أنزل في فرضية صومه القرآن ، وفي شأنه القرآن ، كما تقول : أنزل في عائشة قرآن.
والقرآن الذي نزل هو قوله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } قاله مجاهد ، والضحاك.
وقال سفيان بن عيينة : في فضله ، وقيل : المعنى.
{ أنزل فيه القرآن } أي أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهراً ، ونزل به جبريل في عشرين سنة.
قاله مقاتل.
وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، والتوراة لست مضين منه ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين » وفي رواية أبي ذر : « نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان ، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر » ، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل ، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول.
وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة ، إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام ، أو بالإضافة ، وهذا المختار من توجيه قراءته ، وقد تقدّم قول من قال : إن النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته.
{ هدى للناس وبينات } انتصاب : هدىً ، على الحال وهو مصدر وضع موضع أسم الفاعل ، أي : هادياً للناس ، فيكون : للناس ، متعلقاً بلفظ.
هدىً ، لما وقع موقع هادٍ ، وذو الحال القرآن ، والعامل : أنزل ، وهي حال لازمة ، لأن كون القرآن هدىً هو لازم له ، وعطف قوله : وبينات ، على : هدىً ، فهو حال أيضاً ، وهي لازمة ، لأن كون القرآن آياتٍ جليات واضحات وصف ثابت له ، وهو من عطف الخاص على العام ، لأن الهدى : منه خفي ومنه جلي ، فنص بالبينات على الجلي من الهدى ، لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، فذكر عليه أشرف أنواعه ، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة.
{ من الهدى والفرقان } هذا في موضع الصفة لقوله : هدى وبينات ، أي : أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته ، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية ، فهذا القرآن بعضها ، وعبر عن البينات بالفرقان ، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات ، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل ، فمتى كان الشيء جلياً واضحاً حصل به الفرق ، ولأن في لفظ : الفرقان ، مؤاخاة للفاصلة قبله ، وهو قوله : { شهر رمضان } ثم قال : { الذي أنزل فيه القرآن } ، ثم قال : { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل ، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، كما قررناه.
ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القران ، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه ، وفي ( المنتخب ) أنه يحتمل أن يحمل : هدىً الأول على أصول الدين ، والثاني على فروعه.
وقال ابن عطية : اللام في الهدى للعهد ، والمراد الأول.
انتهى كلامه.
يعني : أنه أتى به منكراً أولاً ، ثم أتى به معرفاً ثانياً ، فدل على أنه الأول كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه ، ومن ذلك قولهم : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، فالمضروب هو الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني ، فيصح المعنى ، لأنه لو أتى فعصاه فرعون ، أو : لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً ، ولا يتأتي هذا الذي قاله ابن عطية هنا ، لأنه ذكر هو والمعربون : أن هدىً منصوب على الحال وصف في ذي الحال ، وعطف عليه وبينات ، فلا يخلو قوله : من الهدى ، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله : هدى ، أو لقوله : وبينات ، أو لهما ، أو متعلق بلفظ بينات ، لا جائز أن يكون صفة لهدى ، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضاً ، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضاً.

كلاً بالنسبة لماهيته ، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط ، لأن وبينات معطوف على هدى ، وهدى حال ، والمعطوف على الحال حال ، والحال وصف في ذي الحال ، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت بينات بقوله : من الهدى ، خصصها به ، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معاً ، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى ، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محال ، ولا جائز أن يتعلق بلفظ : وبينات ، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به ، فهو كالوصف ، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف.
وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً ، فقلت : وبينات منه أي : من ذلك الهدى ، لم يصح ، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما.
.
{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه } الألف واللام في الشهر للعهد ، ويعني به شهر رمضان ، ولذلك ينوب عنه الضمير ، ولو جاء : فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحاً ، وإنما أبرزه ظاهراً للتنويه به والتعظيم له ، وحسن له أيضاً كونه من جملة ثانية.
ومعنى شهود الشهر الحضور فيه.
فانتصاب الشهر على الظرف ، والمعنى : أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم ، إذ الأمر يقتضي الوجوب ، وهو قوله : فليصمه ، وقالوا على انتصاب الشهر : أنه مفعول به ، وهو على حذف مضاف ، أي : فمن شهد ، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد.
وقيل : انتصاب الشهر على أنه مفعول به ، وهو على حذف مضاف ، أي : فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم ، وقالوا : يتم الصوم من دخل عليه رمضان وهو مقيم ، أقام أم سافر ، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر ، وإلى هذا ذهب علي ، وابن عباس ، وعبيدة المسلماني ، والنخعي ، والسدي.
والجمهور على أن من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيماً.
وقال الزمخشري : الشهر منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في : فليصمه ، ولا يكون مفعولاً به ، كقولك : شهدت الجمعة ، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر.

انتهى كلامه.
وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره : فمن شهد منكم دخول الشهر ، أي : من حضر.
وقيل : التقدير هلال الشهر ، وهذا ضعيف ، لأنك لا تقول : شهدت الهلال ، إنما تقول : شاهدت ، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك.
ومنكم ، في موضع الحال ، ومن الضمير المستكن في شهد ، فيتعلق بمحذوف تقديره كائناً منكم.
وقال أبو البقاء ، منكم حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد ، فتناقض ، لأن جعلها حالاً يوجب أن يكون العامل محذوفاً ، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالاً ، فتناقض.
ومَنْ ، من قوله فمن شهد ، الظاهر أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة ، وقد مر نظائره.
وقرأ الجمهور بسكون اللام في : فليصمه ، أجروا ذلك مجرى : فعل ، فخففوا ، وأصلها الكسر ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والزهري ، وأبو حيوة ، وعيسى الثقفي ، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن نحو : { فليكتب وليملل } بالكسر ، وكسر لام الأمر ، وهو مشهور لغة العرب ، وعلة ذلك ذكرت في النحو.
ونقل صاحب ( التسهيل ) أن فتح لام الأمر لغة ، وعن ابنه ان تلك لغة بني سليم.
وقال : حكاها الفراء.
وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة ، ونقل صاحب كتاب ( الإعراب ) ، وهو : أبو الحكم بن عذرة الخضراوي ، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها ، قال : فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم.
انتهى كلامه.
وذلك نحو : لينبذن ، ولتكرم زيداً ، وليكرم عمراً وخالداً ، وقوموا فلأصل لكم.
{ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر } تقدّم تفسير هذه الجملة ، وذكر فائدة تكرارها على تقدير : أن شهر رمضان هو قوله : { أياماً معدودات } ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تقدّم الكلام في الإرادة في قوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } والإرادة هنا إما أن تبقى على بابها ، فتحتاج إلى حذف ، ولذلك قدره صاحب ( المنتخب ) : يريد الله أن يأمركم بما فيه يسر ، وأما أن يتجوز بها عن الطلب ، أي : يطلب الله منكم اليسر ، والطلب عندنا غير الإرادة ، وإنما احتيج إلى هذين التأوّيلين لأن ما أراده الله كائن لا محالة ، على مذهب أهل السنة ، وعلى ظاهر الكلام لم يكن ليقع عسر وهو واقع ، وأما على مذهب المعتزلة فتكون الآية على ظاهرها ، وأراد : يتعدّى إلى الإجرام بالباء ، وإلى المصادر بنفسه ، كالآية.
ويأتي أيضاً متعدّياً إلى الإجرام بنفسه وإلى المصادر بالباء.
قال :
أرادت عرار بالهوان ومن يرد . . .
عراراً ، لعمري بالهوان فقد ظلم
قالوا : يريد هنا بمعنى أراد ، فهو مضارع أريد به الماضي ، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا ، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع ، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل ، فهي ثابتة له تعالى دائماً ، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية.

وفي الحديث.
« دين الله يُسر يَسِّر ولا تعسر » وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وفي القرآن : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } { ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم } فيندرج في العموم في اليسر فطر المريض والمسافر اللذين ذكر حكمهما قبل هذه الآية ، ويندرج في العموم في العسر صومهما لما في حالتي المرض والسفر من المشقة والتعسير.
وروي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : أن اليسر الفطر في السفر ، والعسر الصوم فيه ، ويحمل تفسيرهم على التمثيل بفرد من أفراد العموم ، وناسب أن مثلوا بذلك ، لأن الآية جاءت في سياق ما قبلها ، فدخل فيها ما قبلها دخولاً لا يمكن أن يخرج منها ، وفي ( المنتخب ) { يريد الله بكم اليسر } كاف عن قوله : { ولا يريد بكم العسر } وإنما كرر توكيداً. انتهى.
وقرأ أبو جعفر ، ويحيى بن وثاب ، وابن هرمذ ، وعيسى بن عمر : اليسر والعسر ، بضم السين فيهما ، والباقون بالإسكان.
{ ولتكملوا العدة } : قرأ أبو بكر ، وأبو عمر بخلاف عنهما ، وروي : مشدد الميم مفتوح الكاف ، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف ، وفي اللام أقوال.
الأول : قال ابن عطية : هي اللام الداخلة على المفعول ، كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ، ويريد إكمال العدة ، وهي مع الفعل مقدرة بأن ، كأن الكلام : ويريد لأن تكلموا العدة ، هذا قول البصريين ، ونحوه ، قول أبي صخر.
أريد لأنسى ذكرها فكأنما . . .
تخيل لي ليلى بكل طريق
انتهى كلامه.
وهو كما جوّزه الزمخشري.
قال : كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ، ويريد لتكملوا ، لقوله : { يريدون ليطفئوا } وفي كلامه أنه معطوف على اليسر ، وملخص هذا القول : أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل ، وهو مما نصوا على أنه قليل ، أو ضرورة ، لكن يحسن ذلك هنا ، بعده عن الفعل بالفصل ، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله ، وهو : اليسر ، وفصل بينهما بجملة وهي : ولا يريد بكم العسر ، بعد الفعل عن اقتضائه ، فقوي باللام ، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت ، لأنه بالتقدم وتأخرُ العامل ضعف العامل عن الوصول إليه ، فقوي باللام ، اذ أصل العامل أن يتقدم ، وأصل المعمول أن يتأخر عنه ، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة ، وفيه بعُد.
وفي كلام ابن عطية تتبع ، وهو في قوله : وهي ، يعني باللام مع الفعل ، يعني تكملوا مقدرة بأن ، وليس كذلك ، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر ، ويبين ذلك أنه قال : كأن الكلام : ويريد لأن تكملوا العدة ، فأظهر أن بعد اللام ، فتصحيح لفظه أن تقول : وهي مع الفعل مقدران بعدها ، وقوله : هذا قول البصريين ونحوه ، قول أبي صخر :
أريد لانسى ذكرها . . .
. . .

ليس كما ذكر ، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء ، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت.
قال تعالى : { يريد الله ليبين لكم } { يريدون ليطفئوا } { وأن يطفئوا } { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } وقال الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها . . .
. . .
وقال تعالى : { وأمرنا لنسلم } { وان أسلم } وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها ، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر ، كأنه قال : الإرادة للتبيين ، وإرادتي لهذا ، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب ( التكميل في شرح التسهيل ) فتطالع هناك.
وتلخص مما ذكرناه أن ما قال : من أنه قول البصريين ليس كما قال : إنما يتمشى قوله : وهي ، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء ، لا على قول البصريين.
وتناقض قول ابن عطية أيضاً لأنه قال : هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ، ويريد إكمال العدة.
ثم قال : وهي مع الفعل مقدرة بأن ، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءاً من المفعول ، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءاً من المفعول ، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل ، فهي جزء له ، والشيء الواحد لا يكون جزءاً لشيء غير جزءٍ له ، فتناقض.
وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفاً على : اليسر ، فلا يمكن إلاَّ بزيادة اللام وإضمار : أن ، بعدها ، أو يجعل اللام لمعنى : أن ، فلا تكون أن مضمرة بعدها ، وكلاهما ضعيف.
القول الثاني : أن تكون اللام في { ولتكملوا العدة } لام الأمر قال ابن عطية ، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام.
انتهى كلامه.
ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية ، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا : أمر الفاعل المخاطب فيه التفات ، قالوا : أحدهما لغة رديئة قليلة ، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأمر قبلها ، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة ، وهو ، أن يكون الفعل عارياً من حرف المضارعة ومن اللام ، ويضعف هذا القول أيضاً أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام ، فلو كانت لام الأمر لكتاب كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها ، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر ، وقول ابن عطية : والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، يعني : أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل ، وإذا كانت كاللام في : ضربت لزيد ، كانت من قبل عطف المفردات.
القول الثالث : أن تكون اللام للتعليل ، واختلف قائلو هذا القول على أقوال.
أحدها : أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة ، التقدير : لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة ، قاله الزمخشري.
ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول : إرادة اليسر.
الثاني : أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل ، التقدير : وفعل هذا لتكملوا العدة ، قاله الفراء.

الثالث : أن يكون معطوفاً على علة محذوفة وقد حذف معلولها ، التقدير : فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا ، قاله الزجاج.
الرابع : أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد التعليل ، تقديره : ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة ، قال ابن عطية : وهذا قول بعض الكوفيين.
الخامس : أن الواو زائدة ، التقدير : يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة ، وهذا قول ضعيف.
السادس : أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد قوله؛ { ولعلكم تشكرون } وتقديره : شرع ذلك.
قاله الزمخشري ، قال ما نصه : شرع ذلك ، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله : لتكملوا ، علة الأمر بمراعاة العدة ، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ، ولعلكم تشكرون ، علة الترخيص والتيسير.
وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلاَّ النقاد المحذق من علماء البيان.
انتهى كلامه.
والألف واللام في قوله : { ولتكملوا العدة } الظاهر أنها للعهد ، فيكون ذلك راجعاً إلى قوله : { فعدة من أيام أخر } أي : وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها ، وقيل : عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوماً أم كان ثلاثين ، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه.
{ ولتكبروا الله علة ما هداكم } معطوف على : ولتكملوا العدة ، والكلام في اللام كالكلام في لام : ولتكملوا ومعنى التكبير هنا تعظيم الله والثناء عليه ، فلا يختص ذلك بلفظ التكبير ، بل يعظم الله ويثني عليه بما شاء من ألفاظ الثناء والتعظيم ، وقيل : هو التكبير عند رؤية الهلال في آخر رمضان.
وروي عن ابن عباس أنه قال : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوّال أن يكبروا ، وقيل : هو التكبير المسنون في العيد ، وقال سفيان : هو التكبير يوم الفطر.
واختلف في مدته وفي كيفيته ، فعن ابن عباس : يكبر من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره ، وقيل : وهو قول الشافعي : من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة.
وقال زيد بن أسلم ، ومالك : من حين يخرج من منزله إلى أن يخرج الإمام.
وروي ابن القاسم ، وعلي بن زياد : إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا في جلوسه حتى تطلع الشمس ، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام.
واختلف عن أحمد ، فنقل الأثر عنه أنه إذا جاء إلى المصلى يقطع؛ قال أبو يعلى : يعني : وخرج الإمام ، ونقل حنبل عنه أنه يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة.
واختلفوا في الأضحى ، فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد : الفطر والأضحى سواء في ذلك ، وبه قال ابن المسيب ، وأبو سلمة ، وعروة ، وقال أبو حنيفة : يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر.

وكيفيته عند الجمهور : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثلاثاً ، وهو مروي عن جابر ، وقيل : يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير ، ومنهم من يقول : الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وكان ابن المبارك يقول : الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله ، والله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا.
وقال ابن المنذر : كان مالك لا يجد فيه حدّاً ، وقال ابن العربي : اختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر الكتاب ، وقال أحمد : كل واسع ، وحجج هذه الأقاويل في كتب الفقه.
ورجح في ( المنتخب ) أن إكمال العدة هو في صوم رمضان ، وأن تكبير الله هو عند الانقضاء على ما هدى إلى هذه الطاعة ، وليس بمعنى التعظيم.
قال : لأن تكبير الله بمعنى تعظيمه هو واجب في جميع الأوقات وفي كل الطاعات ، فلا معنى للتخصيص انتهى.
و : على ، تتعلق : بتكبروا ، وفيها إشعار بالعلية ، كما تقول : أشكرك على ما أسديت إليّ.
قال الزمخشري : وإنما عدى فعل التكبر بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد ، كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم.
انتهى كلامه.
وقوله : كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ، هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن : على ، متعلقاً ، بتكبروا المضمنة معنى الحمد ، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها ، والتقدير الإعرابي هو ، أن تقول : كأنه قيل : ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم ، كما قدّر الناس في قولهم : قتل الله زياداً عني أي : صرف الله زياداً عني بالقتل ، وفي.
قول الشاعر :
ويركب يوم الروع فينا فوارس . . .
بصيرون في طعن الأباهر والكلى
أي : تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر ، والظاهر في : ما ، أنها مصدرية أي : على هدايتكم ، وجوّزوا أن تكون : ما ، بمعنى الذي ، وفيه بعد ، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما : حذف العائد على : ما ، أي : على الذي هداكموه وقدّرناه منصوباً لا مجروراً بإلى ، ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً.
والثاني : حذف مضاف به يصح الكلام ، التقدير : على اتباع الذي هداكموه ، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام.
والظاهر أن معنى : هداكم ، حصول الهداية لكم من غير تقييد ، وقيل : المعنى ، هدايتكم لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم ، وإذا كانت بمعنى : الذي ، فالمعنى على ما أرشدكم إليه من شريعة الإسلام.
{ ولعلكم تشكرون } هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية ، قاله ابن عطية : فيكون الشكر على الهداية ، وقيل : المعنى تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم.
وقال الزمخشري : ومعنى { ولعلكم تشكرون } وإرادة أن تشكروا ، فتأول الترجي من الله على معنى الإرادة ، وجعل ابن عطية الترجي من المخلوق ، إذ الترجي حقيقة يستحيل على الله ، فلذلك أوَّله الزمخشري بالإرداة ، وجعله ابن عطية من البشر ، والقولان متكافئان ، وإذا كان التكليف شاقاً ناسب أن يعقب بترجي التقوى ، وإذا كان تيسيراً ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر ، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله : { لعلكم تشكرون } لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر ، وقوله : { يريد الله بكم اليسر } وجاء عقيب قوله : { كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون } وقبله { ولكم في القصاص حياة } ثم قال : { لعلكم تتقون } لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف ، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية ، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان.

{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } سبب النزول فيما قال الحسن : أن قوماً ، قيل : اليهود ، وقيل : المؤمنون ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه.
وقال عطاء : لما نزل.
{ وقال ربكم أدعوني أستجب لكم } قال قوم : في أي ساعة ندعو؟ فنزل { وإذا سألك } ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } طلب تكبيره وشكره بيَّن أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره ، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبته ، تنبيهاً على أن يكون ولا بد مسبوقاً بالثناء الجميل.
والكاف في : سألك ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله { الذي أنزل فيه القرآن } أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل : أنزل عليك فيه القرآن ، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف.
و : عبادي ، ظاهره العموم ، وقيل : أريد به الخصوص : إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب ، وأما عبادي.
و : عني ، فالضمير فيه لله تعالى ، وهو من باب الالتفات ، لأنه سبق و : لتكبروا لله ، فهو خروج من غائب إلى متكلم ، و : عني ، متعلق بسألك ، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله : فإني قريب ، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قرباً بالمكان ، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعاً لدعائه ، مسرعاً في إنجاح طلبه من سأله ، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه ، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه.
ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وما روي من قوله عليه السلام : « هو بينكم وبين أعناق رواحلكم »
والفاء في قوله : فإني قريب ، جواب إذا ، وثم قول محذوف تقديره : فقل لهم إني قريب ، لإنه لا يترتب على الشرط القرب ، إنما يترتب الإخبار عن القرب.
{ أجيب دعوة الداعي إذا دعان } أجيب : إما صفة لقريب ، أو خبر بعد خبر ، وروعي الضمير في : فإني ، فلذلك جاء أجيب ، ولم يراع الخبر فيجيء : يجيب ، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب : أشهرهما : مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا ، وكقولهم :

{ بل أنتم قوم تفتنون } { بل أنتم قوم تجهلون } وكقول الشاعر :
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة . . .
والطريق الثاني : مراعاة الخبر كقولك : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ يريد الخير ، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية ، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم ب ( منهج السالك ) والعامل في : إذا ، قوله أجيب.
وروي أنه نزل قوله : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } لما نزل : { فإني قريب } وقال المشركون : كيف يكون قريباً من بيننا وبينه على قولك سبع سموات في غلظ ، سمك كل سماء خمسمائة عام ، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك ، فبين بقوله : { أجيب } : أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة ، وظاهر قوله : { أجيب دعوة الداع } عموم الدعوات ، إذ لا يريد دعوة واحدة ، والهاء في : دعوة ، هنّا ليست للمرة ، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو.
رحمة ، والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داعٍ مخصوص ، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد ، وإنما هي للعموم.
والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء ، والمعنى على هذا الظاهر أن الله تعالى يعطي من سأله ما سأله.
وذكروا قيوداً في هذا الكلام ، وتخصيصات ، فقيدت الإجابة بمشيئة الله تعالى.
التقدير : إن شئت ، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى ، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، وقيل : بوفق القضاء أي : أجيب إن وافق قضائي ، وهو راجع لمعنى المشيئة ، وقيل : يكون المسؤول خير السائل ، أي : إن كان خيراً.
وقيل : يكون المسؤول غير محال ، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه الله إلى ما سأل ، ولا يبلغه المقصود مما طلب ، فخصصوا الداعي بأن يكون : مطيعاً مجتنباً لمعاصيه.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يطيل السفر : « أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنَّى يستجاب له » ؟.
قالوا : ومن شرطه أن لا يمل ، ففي ( الصحيح ) : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : قد دعوت فلم يستجب لي.
وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم ، ولا قطيعة رحم ، ولا معصية ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها » وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور ، وأن لا يقصد فيه السجع ، سجع الجاهلية ، وأن يكون غير ملحون.

وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر ، وفي الثلث الأخير من الليل ، ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار ، وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصف في سبيل الله ، والعيدين ، والساعة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة : وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة : كذا ورد مفسراً في الحديث ، وقيل : بعد عصر الجمعة ، وعندما تزول الشمس.
ومن الأماكن : في الكعبة ، وتحت ميزابها ، وفي الحرم ، وفي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، والجامع الأقصى.
وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه ، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله ، ولا يقطع رجاءه من فضله ، فإن الله تعالى قال : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } وقال سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه ، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس : { قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون }
وقالت المعتزلة : الإجابة مختصة بالمؤمنين { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } لأن وصف الإنسان بأن الله أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم ، والفاسق لا يستحق التعظيم ، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله الله ولا يسمى إجابة.
قيل : والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار افتقار إلى الله تعالى ، والشرع قد ورد بالأمر به ، وقد دعت الأنبياء والرسل ، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية ، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه ، وذكر شبهاً له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة ، وقالوا : الأَوْلى بالعبد التضرع والسؤال إلى الله تعالى ، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء ، والحث عليه ، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس ، إنهم علماء الحقيقة : يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل ، فلا حاجة إليها.
وقال قوم منهم.
إن كان في حالة الدعاء أصلح ، وقلبه أطيب ، وسره أصفى ، ونفسه أزكى ، فليدع؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به.
وقال قوم منهم : ترك الدعاء في كل حال أصلح لما فيه من الثقة بالله ، وعدم الاعتراض ، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار.
وقال قوم منهم : ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه ، قال تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه }
وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه.
أحدها : أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله ، لأنك دعوته ووجدته ، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاءً سمي القبول إجابة ، لتجانس اللفظ.
الوجه الثاني : أن الإجابة هو السماع فكأنه قال : أسمع.
الوجه الثالث : أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة ، والإجابة قبول التوبة.
الوجه الرابع : أن يكون الدعاء هو العبادة وفي الحديث ( الدعاء العبادة ) قال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ثم قال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب
الوجه الخامس : الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه فالمعنى إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد
وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر

فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى أي فيطليوا أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني قاله ثعلب فيكون استفعل قد جاءت بمعنى الطلب كاستغفر وهو الكثير فيها أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبيبهم إذا دعوني لحوائجهم قاله مجاهد وأبو عبيدة وغيرهما ويكون استفعل فيه بمعنى أفعل وهو كثير في القرآن فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى إلا أن تعديته في القرآن باللام وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال : وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النداء . . .
فلم يستجبه عند ذاك مجيب.
أي فلم يجبه ومثل ذلك أعني كون استفعل موافق أفعل قولهم استبل بمعنى أبل واستحصد الزرع واحصد واستعجل الشيء وأعجل واستثاره وأثاره ويكون استفعل موافقة أفعل متعدياً ولازماً وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله وإياك نستعين
وقال أبو رجاء الخراساني معناه فليدعوا لي وقال الأخفش فليذعنوا الإجابة وقال مجاهد أيضاً والربيع فليطيعوا وقيل الإستجابة هنا التلبية وهو لبيك اللهم لبيك واللام لام الأمر وهي ساكنة ولا نعلم أحداً قرأها بالكسر
وليؤمنوا بي معطوف على فليجيبوا لي ومعناه الأمر بالإيمان بالله وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بُعدٌ لأن صدر الآية يقتضى أنهم مؤمنون فلذلك يؤول على الديمومة أو على إخلاص الدين والدعوة والعمل أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه أو بالإيمان في أني أجيب دعاءهم خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين وقرأ قوم يرشدون مبنياً للمفعول وروي عن أبي حيوة وإبراهيم بن أبي عبلة يرشدون بفتح الياء وكسر الشين وذلك باختلاف عنهما وقرىء أيضاً يرشدون بفتحهما والمعنى أنهم إذا استجابوا لله وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلاَّ وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه وإنما ذلك مختص بك
ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن ناسب ذكر الرشاد وهو الهداية كما قال تعالى اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَهَدَيْنَاهُمَا الصّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري عن البراء لما نزل صوم رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فنزلت وقيل كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل له قبل إلى القابلة وأن عمر وكعباً الأنصاري وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر وأصبح صائماً فغشي عليه عند انتصاف النهار فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ) فنزلت : وقال بعض العلماء نزلت الآية في زلة ندرت فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة هذا إحكام العناية
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا اقتضى عموم التشبيه في الكتابة وفي العدد وفي الشرائط وسائر تكاليف الصوم وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا وقيل بعد العشاء وكان المسلمون كذلك فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر لطفاً بهم وناسب أيضاً قوله تعالى في آخر آية الصوم يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وهذا من التيسير
وقوله أحل يقتضي أنه كان حراماً قبل ذلك وقد تقدّم نقل ذلك في سبب النزول لكنه لم يكن حراماً في جميع الليلة ألا ترى أن ذلك كان حلالاً لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء
وقرأ الجمهور أحل مبنياً للمفعول وحذف الفاعل للعلم به وقرىء أحل مبنياً للفاعل ونصب الرفث به فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله وأما أن يكون من باب الالتفات وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب لأن قبله فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى ولكم متعلق بأحل وهو التفات لأن قبله ضمير غائب وانتصاب ليلة على الظرف ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس قالوا والناصب لهذا الظرف أحل وليس بشيء لأن ليلة ليس بظرف لأحل إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا فلا يتقدّم معموله لكن يقدّر له ناصب وتقديره الرفث ليلة الصيام فحذف وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
أن تقديره إذعان للذلة إذعان وكما خرّجوا قوله إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَإِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ أي ناصح لكما وقال لعملكم فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر وأضيفت الليلة إلى الصيام على سبيل الاتساع لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلاَّ بصوم جزء منها صحت الإضافة
وقرأ الجمهور الرفث وقرأ عبد الله الرفث وكنى به هنا عن الجماع والرفث قالوا هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه كلفظ النيك وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجيناً لما وجد منهم إذ كان ذلك حراماً عليهم فوقعوا فيه كما قال فيه تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فجعل ذلك خيانة وعدى بإلى وإن كان أصله التعدية بالباء لتضمينه معنى الإفضاء وحسن اللفظ به هذا التضمين فصار ذلك قريباً من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله فَلَمَّا تَغَشَّاهَا وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ
والنساء جمع الجمع وهو نسوة أو جمع امرأة على غير اللفظ وأضاف النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلاَّ لمن اختصت بالمفضي أما بتزويج أو ملك
هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ اللباس أصله في الثوب ثم يستعمل في المرأة
قال أبو عبيدة يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك لما بينهما من الممازجة ولما كان يعتنقان ويشتمل كل منهما صاحبه في العناق شُبِّه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان
قال الربيع هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ وقال مجاهد والسدي
هن سكن لكم أي يسكن بعضكم إلى بعض كقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال وهو عدم الصبر عنهنّ لكونهنّ لكم في المخالطة كاللباس وقدّم هنّ لباس لكم على قوله وأنتم لباس لهنّ لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها والرجل هو البادىء بطلب ذلك الفعل ولا تكاذ المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن حتى إن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل
جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان الطباق المعنوي بقوله أُحِلَّ لَكُمُ فإنه يقتضي تحريماً سابقاً فكأنه أحل لكم ما حرّم عليكم أو ما حرّم على من قبلكم والكناية بقوله الرفث وهو كناية عن الجماع والاستعارة البديعة بقوله هنّ لباس لكم وأفرد اللباس لأنه كالمصدر تقول لابست ملابسةً ولباساً
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ إن كانت عَلِم معداة تعدية عرف فسدت أن مسد المفعول أو التعدية التي هي لها في الأصل فسدّت مسدّ المفعولين على مذهب سيبويه وقد تقدم لنا نظير هذا وتختاتون هو من الخيانة وافتعل هنا بمعنى فعل فاختان بمعن خان كاقتدر بمعنى قدر
قيل وزيادة الحرف تدل على الزيادة في المعنى والاختيان هنا معبر به عما وقفوا فيه من المعصية بالجماع وبالأكل بعد النوم وكان ذلك خيانة لأنفسهم لأن وبال المعصية عائد على أنفسهم فكأنه قيل تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير وقيل معناه تستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه وقيل معناه تتعهدون أنفسكم بإتيان نسائكم
يقال تخون وتخوّل بمعنى تعهد فتكون النون بدلاً من اللام لأنه باللام أشهر وقال أبو مسلم هي عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه من حق النفس ولذلك قال أنفسكم ولم يقل الله وظاهر الكلام وقوع الخيانة منهم لدلالة كان على ذلك وللنقل الصحيح في حديث الجماع وغيره وقيل ذلك على تقدير ولم يقع بعد والمعنى تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة وهذا فيه ضعف لوجود كان ولأنه إضمار لا يدل عليه دليل ولمنافاة ظاهر قوله فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ
فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي قَبِل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور وقيل معناه خفف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ معناه كله التخفيف وقيل معناه أسقط عنكم ما أفترضه من تحريم الأكل والشرب والجماع بعد العشاء أو بعد النوم على الخلاف وهذا القول راجع لمعنى القول الثاني وَعَفَا عَنكُمْ أي عن ذنوبكم فلا يؤاخذكم وقبول التوبة هو رفع الذنب كما قال صلى الله عليه وسلم ) ( التوبة تمحو الحوبة والعفو تعفية أثر الذنب ) فهما راجعان إلى معنى واحد وعاقب بينهما للمبالغة وقيل المعنى سهل عليكم أمر النساء فيما يؤتنف أي ترك لكم التحريم كما تقول هذا شيء معفو عنه أي متروك ويقال أعطاه عفواً أي سهلاً لم يكلفه إلى سؤال وجرى الفرس شأوين عفواً أي من ذاته غير إزعاج واستدعاء بضرب بسوط أو نخس بمهماز
فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ تقدم الكلام على الآن في قوله قَالُواْ الئَانَ جِئْتَ بِالْحَقّ أي فهذا الزمان أي ليلة الصيام باشروهن وهذا أمر يراد به الإباحة لكونه ورد بعد النهي ولأن الإجماع انعقد عليه والمباشرة في قول الجمهور الجماع وقيل الجماع فما دونه وهو مشتق من تلاصق البشرتين فيدخل فيه المعانقة والملامسة وإن قلنا المراد به هنا الجماع لقوله الرفث ولسبب النزول فإباحته تتضمن إباحة ما دونه
وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا وفي تفسير ما كتب الله أقوال
أحدهما أنه الولد قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والضحاك والربيع والسدي والحكم بن عتيبة لما أبيحت لهم المباشرة أمروا بطلب ما قسم الله لهم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد وكأنه أبيح لهم ذلك لا لقضاء الشهوة فقط لكن لابتغاء ما شرع الله النكاح له من التناسل ( تناكحوا تناسلوا فإني مكاثرٌ بكم الآمم يوم القيامة )
الثاني هو محل الوطء أي ابتغوا المحل المباح الوطء فيه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم لقوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
الثالث هو ما أباحه بعد الحظر أي ابتغوا الرخصة والإباحة قاله قتادة وابن زيد
الرابع وابتغوا ليلة القدر قاله معاذ بن جبل وروي عن ابن عباس قال الزمخشري وهو قريب من بدع التفاسير
الخامس هو القرآن قاله ابن عباس والزجاج أي ابتغوا ما أبيح لكم وأمرتم به ويرجحه قراءة الحسن ومعاوية بن قرة واتبعوا من الاتباع ورويت أيضاً عن ابن عباس
السادس هو الأحوال والأوقات التي أبيح لكم المباشرة فيهنّ لأن المباشرة تمتنع في زمن الحيض والنفاس والعدة والردّة
السابع هو الزوجة والمملوكة كما في قوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
الثامن إن ذاك نهي عن العزل لأنه في الحرائر
وكتب هنا بمعنى جعل كقوله كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ أو بمعنى قضى أو بمعنى أثبت في اللوح المحفوظ أو في القرآن
والظاهر أن هذه الجملة تأكيد لما قبلها والمعنى والله أعلم ابتغوا وافعلوا ما أذن الله لكم في فعله من غشيان النساء في جميع ليلة الصيام ويرجح هذا قراءة الأعم 5 وأتوا ما كتب الله لكم وهي قراءة شاذة لمخالفتها سواد المصحف
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ أمر إباحة أيضاً أبيح لهم ثلاثة الأشياء التي كانت محرمة عليهم في بعض ليلة الصيام حَتَّى يَتَبَيَّنَ غاية الثلاثة الأشياء من الجماع والأكل والشرب وقد تقدم في سبب النزول قصة صرمة بنت قيس فإحلال الجماع بسبب عمر وغيره وإحلال الأكل بسبب صرمة أو غيره لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ ظاهره أنه الخيط المعهود ولذلك كان جماعة من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له إلى أن نزل قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنما عنى بذلك من الليل والنهار
روي ذلك سهل بن سعد في نزول هذه الآية وروي أنه كان بين نزول وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ وبين نزول مِنَ الْفَجْرِ سنة من رمضان إلى رمضان
قال الزمخشري ومن لا يجوز تأخير البيان وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم فلم يصح عندهم هذا الحديث لمعنى حديث سهل بن سعد وأما من يجوّزه فيقول ليس بعبث لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به انتهى كلامه وليس هذا عندي من تأخير البيان إلى وقت الحاجة بل هو من باب النسخ ألا ترى أن الصحابة عملت به أعنى بإجراء اللفظ على ظاهره إلى أن نزلت من الفجر فنسخ حمل الخيط الأبيض والخيط الأسود على ظاهرهما وصارا ذلك مجازين شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل شبهاً بخيطين أبيض وأسود وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله من الفجر كقولك رأيت أسداً من زيد فلو لم يذكر من زيد كان استعارة وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة لأن الاستعارة لا تكون إلاَّ حيث يدل عليها الحال أو الكلام وهنا لو لم يأت من الفجر لم يعلم الإستعارة ولذلك فهم الصحابة الحقيقة من الخيطين قبل نزول من الفجر حتى إن بعضهم وهو عدي بن حاتم غفل عن هذا التشبيه وعن بيان قوله من الفجر فحمل الخيطين على الحقيقة وحكي ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) فضحك وقال ( إن كان وسادك لعريضاً ) وروي ( إنك لعريض القفاء ) إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل والقفا العريض يستدل به على قلة فطنة الرجل وقال عريض القفا ميزانه عن شماله
قد أنحصَّ من حسب القراريط شاربه وكل ما دق واستطال وأشبه الخيط سمته العرب خيطاً
وقال الزجاج هما فجران أحدهما يبدو سواداً معترضاً وهو الخيط الأسود والأخر يطلع ساطعاً يملأ الأفق فعنده الخيطان هما الفجران سميا بذلك لامتدادهما تشبيهاً بالخيطين وقوله من الفجر يدل على أنه أريد بالخيط الأبيض الصبح الصادق وهو البياض المستطير في الأفق لا الصبح الكاذب وهو البياض المستطيل لأن الفجر هو انفجار النور وهو بالثاني لا بالأوّل وشبه بالخيط وذلك بأول حاله لأنه يبدو دقيقاً ثم يرتفع مستطيراً فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك هذا مذهب الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب
وقيل يجب الإمساك بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال وهاذ مروي عن عثمان وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء والأعمش وغيرهم
وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار والنهار عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها وقد تقدم ذكر الخلاف في النهار وفي تعيينه إباحة المباشرة والأكل والشرب بتبين الفجر للصائم دلالة على أن من شك في التبين وفعل شيئاً من هذه ثم انكشف أنه كان الفجر قد طلع وصام أنه لا قضاء لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع
وروي عن ابن عباس أنه بعث رجلين ينظران له الفجر فقال أحدهما طلع الفجر وقال الآخر لم يطلع فقال اختلفتما فأكل وبان لا قضاء عليه
قال الثوري وعبيد الله بن الحسن والشافعي وقال مالك إن أكل شاكّاً في الفجر لزمه القضاء والقولان عن أبي حنيفة
وفي هذه التغيئة أيضاً دلالة على جواز المباشرة إلى التبين فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذوناً فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة والحسن يرى أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال إلا بعد الفجر وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة والحسن يرى أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال بطل صومه وقد روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) كان يصبح جنباً من جماع وهو صائم وهذه التغيئة إنما هي حيث يمكن التبين من طريق المشاهدة فلو كانت مقمرة أو مغيمة أو كان في موضع لا يشاهد مطلع الفجر فإنه مأمور بالاحتياط في دخول الفجر إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع فيجب عليه الإمساك إلى التيقن بدخول وقت الطلوع استبراءً لدينه
وذهب أبو مسلم أنه لا فطر إلا بهذه الثلاثة المباشرة والأكل والشرب وأما ما عداها من القيء والحقنة وغير ذلك فإنه كان على الإباحة فبقي عليهم
وأما الفقهاء فقالوا خصت هذه الثلاثة بالذكر لميل النفس إليها وأما القيء والحقنة فالنفس تكرههما والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها
ومن الأولى هي لابتداء الغاية قيل وهي مع ما بعدها في موضع نصب لأن المعنى حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود كما يقال بانت اليد من زندها أي فارقته ومن الثانية للتبعيض لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ويتعلق أيضاً يتبين وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية ومِنْ الثانية هي للتبعيض ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً على قول الزجاج لأن الفجر عنده فجران فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد بل يكون جنساً قيل ويجوز أن يكون من الفجر حالاً من الضمير في الأبيض فعلى هذا يتعلق بمحذوف أي كائناً من الفجر ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا فكأنه قيل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر من الخيط الأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحديهما بيان للثاني وكان الاكتفاء به أولى لأن المقصود بالتبين والمنوط بتبيينه الحكم من إباحة المباشرة والأكل والشرب ولقلق اللفظ لو صرح به إذ كان يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل فيكون من الفجر بياناً للخيط الأبيض ومن الليل بياناً للخيط الأسود ولكون من الخيط الأسود جاء فضلة فناسب حذف بيانه
ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ تقدم ذكر وجوب الصوم فلذلك لم يؤمر به هنا ولم يتقدّم ذكر غايته فذكرت هنا الغاية وهو قوله أُحِلَّ لَكُمْ والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها لم يدخل في حكم ما قبلها و الليل ليس من جنس النهار فلا يدخل في حكمه لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل
قال ابن عباس أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء فأمر الله تعالى بالخلاف لهم وبالإفطار عند غروب الشمس
والأمر بالإتمام هنا للوجوب لأن الصوم واجب فإتمامه واجب بخلاف المباشرة والأكل والشرب فإن ذلك مباح في الأصل فكان الأمر بها الإباحة
وقال الراغب فيه دليل على جواز النية بالنهار وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر وعلى نفي صوم الوصال انتهى
أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه فلا تعرض في الآية للنية بالنهار
وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضاً بل من الكلام الذي قبلها
وأما الدلالة على نفي صوم الوصال فليس بظاهر لأنه غياً وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط ولا منافاة بين هذا وبين الوصال وصح في الحديث النهي عن الوصال فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم وبعضهم على الكراهة وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتعابعين كعبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبي الحوراء ورخص بعضهم فيه إلى السحر منهم أحمد وإسحاق وابن وهب
وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه وهو قول الجمهور وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم وقال إسحاق وأهل الظاهر لا قضاء عليه كالناسي وروي ذلك عن عمر وقال مالك من أفطر شاكاً في الغروب قضى وكفر وفي ثمانية أبي زيد عليه القضاء فقط قياساً على الشاك في الفجر فلو قطع الإتمام متعمد الجماع فالإجماع على وجوب القضاء أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي والقضاء والكفارة عند بقية العلماء أو ناسياً بجماع فكالمتعمد عند الجمهور وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي وعند مالك يلزمه القضاء ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل بل رفع نية الصوم فهو على صومه عند الجمهور ولا يلزمه قضاء قال ابن حبيب وعند مالك في المدوّنة أنه يفطر وعليه القضاء
وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلاَّ على من تقدّم له الصوم فلو أصبح مفطراً من غير عذر لم يجب عليه الإمساك لأنه لم يسبق له صوم فيتمه قالوا لكن السنة أوجبت عليه الإمساك وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنيفة لأندراجه تحت عموم وأتموا الصيام
وقالت الشافعية المراد منه صوم الفرض لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض قال بعض أرباب الحقائق لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك فقال في حقه وَأَتِمُّواْ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى وحظك وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الأية وسياق المباشرة المذكورة قبل
وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط وقال بذلك فرقة فالمنهي عنه الجماع وقال الجمهور يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم وأن الاعتكاف يبطل بالجماع وأما دواعي النكاح كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك وقال أبو حنيفة إن فعل فأنزل فسد وقال المزني عن الشافعي إن فعل فسد وقال الشافعي أيضاً لا يفسد من الوطء إلاَّ بما مثله من الأجنبية يوجب وصح في الحديث أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وهو معتكف في المسجد ولا شك أنها كانت تمسه قالوا فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور وإذا كانت المباشرة معنياً بها اللمس وكان قد نهى عنه فالجماع أحرى وأولى لأن فيه اللمس وزيادة وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة
والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى الله وهو من الشرائع القديمة
وقرأ قتادة وأنتم عكفون بغير ألف والجملة في موضع الحال أي لا تباشروهن في هذه الحالة وظاهر الآية يقتضي جواز الإعتكاف والإجماع على أنه ليس بواجب وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) اعتكف فهو سنة ولم تتعرض الآية لمطلوبيته فنذكر شرائطه وشرطه الصوم وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والحسن بن صالح وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف وقال جماعة من التابعين منهم سعيد وإبراهيم ليس الصوم شرطاً وروي طاووس عن ابن عباس مثله وبه قال الشافعي
وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان بل كل ما يسمى لبثاً في زمن ما يسمى عكوفاً وهو مذهب الشافعي وقال مالك لا يعتكف أقل من عشرة أيام هذا مشهور مذهبه وروي عنه أن أقلّة يوم وليلة
وظاهر إطلاق العكوف أيضاً يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار وأحدهما فعلى هذا لو نذر اعتكاف ليلة فقط صَحَّ أو يوم فقط صَحَّ وهو مذهب الشافعي وقال سحنون لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه وقال أبو حنيفة لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها
وفي الخروج من المعتكف والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة والدخول إليه وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقة
وظاهر قوله عاكفون في المساجد أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطاً في وقوعها ونظير ذلك لا تضرب زيداً وأنت راكب فرساً ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلاَّ فرساً فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف فذكر المساجد إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلاَّ فيها لا أن ذلك شرط في الاعتكاف
والظاهر من قوله في المساجد أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد بل كل مسجد هو محل للاعتكاف وبه قال أبو قلابة وابن عيينة والشافعي وداود الطبري وابن المنذر وهو أحد قولي مالك والقول الآخر أنه لا اعتكاف إلاَّ في مسجد يجمع فيه وبه قال عبد الله وعائشة وإبراهيم وابن جبير وعروة وأبو جعفر
وقال قوم إنه لا اعتكاف إلاَّ في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة
وقال قوم لا اعتكاف إلاَّ في مسجد نبي وبه قال ابن المسيب وهو موافق لما قبله لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وروى الحارث عن عليّ أنه لا اعتكاف إلاَّ في المسجد الحرام وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم )
وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال وأما النساء فسكوت عنهن وقال أبو حنيفة تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره وقال مالك تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها وقال الشافعي حيث شاءت
وقرأ مجاهد والأعمش في المسجد على الإفراد وقال الأعمش هو المسجد الحرام والظاهر أنه للجنس ويرجع هذا قراءة من جمع فقرأ في المساجد
وقال بعض الصوفية في قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ الآية أخبر الله أن محل القربة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ انتهى
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف لأنه شيء واحد بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أوّلها إلى هنا وكانت آية الصيام قد تضمنت عدّة أوامر والأمر بالشيء نهي عن ضده فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي ثم جاء أخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف فأطلق على الكل حدود تغليباً للمنطوق به واعتباراً بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر فقيل حدود الله واحتيج إلى هذا التأويل لأن المأمور بفعله لا يقال فيه فلا تقربوها وحدود الله شروطه قاله السدّي أو فرائضه قاله شهر بن حوشب أو معاصيه قاله الضحاك وقال معناه الزمخشري قال محارمه ومناهيه أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية
وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا وحيث ذكرت تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها ولم تأت منكرة ولا معرّفة بالالف واللام لهذا المعنى
فَلاَ تَقْرَبُوهَا النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم ) ( إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) والرتع حول الحمى وقربانه واحد وجاء هنا فلا تقربوها وفي مكان آخر فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لأنه غلب هنا جهة النهي اذ هو المعقب بقوله تلك حدود الله وما كان منهياً عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ وأما حيث جاء فلا تعتدوها فجاء عقب بيان عدد الطلاق وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض فناسب أن ينهي عن التعدي فيها وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها وكذلك قوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ جاء بعد أحكام المواريث وذكر أنصباء الوارث والنظر في أموال الأيتام وبيان عدد ما يحل من الزوجات فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه وجاء قوله تلك حدود الله عقيب قوله وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ ثم وعد من أطاع بالجنة وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته
وقال أبو مسلم معنى لا تقربوها لا تتعرّضوا لها بالتغيير كقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ
كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ أي مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته وقال أبو مسلم المراد بالآيات الفرائض التي بينها كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل انتهى كلامه وهذا لا يتأتى إلاّ على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به
لِلنَّاسِ ظاهره العموم وقال ابن عطية معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي يتضمن إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم ويكسيها لهم حتى تصير جلية واضحة ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها لأنك تقول بينت له فما بين كما تقول علمته فما تعلم
ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين يجعل فيهم البيان فلذلك ادّعى أن المعنى على الخصوص لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى جعل في قوم الضلال فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعاً منا ومن المعتزلة وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر مشتهى بالطبع اشتهاءً عظيماً بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلاّ التقوى فلذلك ختمت هذه الآية بها أي هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم
وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ قال مقاتل نزلت في امرىء القيس بن عابس الكندي وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في أرض وكان امرؤ القيس المطلوب وعد أن الطالب فأراد امرؤ القيس أن يحلف فنزلت فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائماً له ممنوعاً من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلاّ من الحلال الخالص الذي ينور القلب ويزيده بصيرة ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة فلذلك نهى عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه وتخلل أيضاً بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي وسؤال العباد الله تعالى وقد جاء في الحديث ( إن من كان مطعمه حراماً وملبسه حراماً ومشربه حراماً ثم سأل الله أنَّى يستجاب له فناسب أيضاً النهي عن أكل المال الحرام
ويجوز أن تكون المناسبة أنه لما أوجب عليهم الصوم كما أوجبه على من كان من قبلهم ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا وما يستبيحونه من الأموال بالباطل كما قال تعالى وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وأن يكونوا مخالفيهم قولاً وفعلاً وصوماً وفطراً وكسباً واعتقاداً ولذلك ورد لما ندب إلى السحور ( خالفوا اليهود ) وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض إذ نزل فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ لاعتزال اليهود بأن لا يؤاكلوهنّ ولا يناموا معهنّ في بيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ) ( افعلوا كل شيء إلا النكاح ) فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فيه
والمفهوم من قوله تعالى ولا تأكلوا الأكل المعروف لأنه الحقيقة وذكره دون سائر وجوه الإعتداء والإستيلاء لأنه أهم الحوائج وبه يقع إتلاف أكثر الأموال ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازاً عبر به عن الأخذ والإستيلاء وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين وإضافة الأموال إلى المخاطبين والمعنى ولا يأكل بعضكم مال بعض كقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضاً فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهياً ومنهياً عنه وآكلاً ومأكولاً منه فخلط الضمير لهذه الصلاحية وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة بل هي من باب الإضافة بالملابسة وأجاز قوم الإضافة للمالكين وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم لقوله تريدونها بينكم بالباطل وقال الزجاج بالظلم وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغضب والنهب والقمار وحلوان الكاهن والخيانة والرشاء وما يأخذه المنجمون وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع
وقال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه فيجحد المال ويخاصم صاحبه وهو يعلم أنه آثم وقال عكرمة هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم وقال ابن عباس أيضاً هو أخذ المال بشهادة الزور قال ابن عطية ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه وهبة انتهى وهو صحيح
والناصب للظرف تأكلوا والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص ثم بين المعاني وفي قوله بينكم يقع لما هم يتعاطونه من ذلك لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك وقيل انتصاب بينكم على الحال من أموالكم فيتعلق بمحذوف أي كائنة بينكم وهو ضعيف والباء في بالباطل للسبب وهي تتعلق بتأكلوا وجوزوا أن تكون بالباطل حالاً من الأموال وأن تكون حالاً من الفاعل
وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ هو مجزوم بالعطف على النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام وكذا هي في مصحف أبيّ ولا تدلوا بإظهار لا الناهية والظاهر أن الضمير في بها عائد على الأموال فنهوا عن أمرين أحدهما أخذ المال بالباطل والثاني صرفه لأخذه بالباطل وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوباً على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري وحكى ابن عطية أنه قيل تدلوا في موضع نصب على الظرف قال وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى
ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي وتجويز الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألة لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالنصب
قال النحويون إذا نصبت كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين
أحدهما أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات
والثاني وهو أقوى إن قوله لتأكلوا علة لما قبلها فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما بل إنما يترتب على وجود أحدهما وهو الإدلاء بالأموال إلى الحكام والإدلاء هنا قيل معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكونن المال أمانة كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدّعي عليه والباء على هذا القول للسبب وقيل معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها قال ابن عطية وهذا القول يترجح لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل وأيضاً فإن اللفظتين متناسبتان تدلوا من إرسال الدلو والرشوة من الرشاء كأنها يمدّ بها لتقضي الحاجة انتهى كلامه وهو حسن
وقيل المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم أدلى فلان بحجته قام بها وهو راجع لمعنى القول الأوّل والضمير في عائد على الأموال كما قررناه وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور أي لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام فيحتمل على هذا القول أن يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور ويحتمل أن يكون الذين نهوا هم المشهود لهم ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس بسبب شهادة أولئك الشهور
لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا أي قطعة وطائفة مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ قيل هي أموال الأيتام وقيل هي الودائع والأوْلى العموم وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق و من أموال الناس في موضع الصفة أي فريقاً كائناً من أموال الناس بِالإثْمِ متعلق بقوله لتأكلوا وفسر بالحكم بشهادة الزور وقيل بالرشوة وقيل بالحلف الكاذب وقيل بالصلح مع العلم بأن المقضي له ظالم والأحسن العموم فكل ما أخذ به المال وماله إلى الإثم فهو إثم والاصل في الإثم التقصير في الأمر قال الشاعر جمالية تعتلى بالرداف
إذا كذب الآثمات الهجيرا
أي المقصرات ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثماً
والباء في بالإثم للسبب ويحتمل أن تكون للحال أي متلبسين بالإثم وهو الذنب وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية أي أنكم مبطلون آثمون وما أعدّ لكم من الجزاء على ذلك وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها وخصوصاً حقوق العباد وفي الحديث ( فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإن ما أقضي له قطعة من نار )
وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه وهذا في الأموال باتفاق وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور والمحكوم له يعلم بذلك
فقال أبو حنيفة هو نافذ وهو كالإنشاء وإن كانوا شهود زور
وقال الجمهور ينفذ ظاهراً ولا ينفذ باطناً
وفي قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه كأن يلقى لأبيه ديناً وأقام البينة على ذلك الدين فحكم له به الحاكم فيجوز له أخذه وإن كان لا يعلم صحة ذلك إذ من الجائز أن أباه وهبه أو أن المدين قضاه أو أنه مكره في الإقرار لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه والأصل عدم براءة المقرّ وعدم إكراهه فيجوز له أن يأخذه
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريباً لهم وتحريكاً لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسياً في هذا التكليف الشاقّ بمن قبلنا فليس مخصوصاً بنا وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله أيّاماً معدودات أول يحصرها العدّ من قلتها ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره وأوجب عليه قضاء عدتهاغ إذا صح وأقام ثم ذكر أن من أطلق الصوم وأراد الفطر فأفطر فإنه يفدى باطعام مساكين ثم ذكر أن التطوّع بالخير هو خير وإن الصوم أفضل من الفطر والفداء ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولاً بالأخف فالأخف ينتهي إلى الحدّ الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة فيستقرّ الحكم
ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه وعذر من كان مريضاً أو مسافراً فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر هو لإرادته تعالى بالمكلفين التسير
ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر وإباحة الفطر للمريض والمسافر وإرادة اليسر بنا هو لتكميل العدة ولتعظيم الله ولرجاء الشكر فقابل كل مشروع بما يناسبه ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم ذكر قربه بالمكانة فإذا سألوه أجابهم ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت دعائه ثم طلب منهم الإستجابة له إذا دعاهم كما هو يجيبهم إذا دعوه ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان لأنه أصل العبادات وبصحته تصح ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به ثم امتنّ عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الإخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وكذلك الأكل والشرب وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم وكان من أحوال الصائم الاعتكاف وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراماً نبه على ذلك بقوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
ثم أشار إلى الحواجز وهي الحدود وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدّها هو الله تعالى فنهاهم عن قربانها فضلاً عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة الله تعالى ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها ونهاكم أيضاً عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئاً من الأموال التي لا يستحقونها وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحاً لهم وتوبيخاً لهم لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيء كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها وبما يترتب عليها
ولما كان افتتاح هذه الآية الكريمة بالأمر المحتم بالصيام وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات حتى إنه جاء في الحديث ( فإن امرؤ سبه فليقل إني صائم ) وجاء عن الله تعالى ( الصوم لي وأنا أجزى به ) وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من ( الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش ) فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به واختتمت بمحرم منهي عنه وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضاً أمر ونهي وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى تعالى عنه أعاننا الله عليها

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

{ الأهلة } : جمع هلال ، وهو مقيس في فعال المضعف ، نحو : عنان وأعنة ، وشذ فيه فعل قالوا : عنن في : عنان ، وحجج في حجاج.
والهلال ، ذكر صاحب ( كتاب شجر الدر ) في اللغة : أنه مشترك بين هلال السماء وحديدة كالهلال بيد الصائد يعرقب بها الحمار الوحشي ، وذؤابة النعل ، وقطعة من الغبار ، وما أطاق من اللحم بظفر الأصبع ، وقطعة من رحى ، وسلخ الحية ، ومقاولة الأجير على الشهور ، والمباراة في رقة النسج ، والمباراة في التهليل.
وجمع هلة وهي المفرجة ، والثعبان ، وبقية الماء في الحوض.
انتهى ما ذكره ملخصاً.
ويسمى الذي في السماء هلالاً لليلتين ، وقيل : لثلاث.
وقال أبو الهيثم : لليلتين من أوله وليلتين من آخره.
وما بين ذلك يسمى قمراً.
وقال الأصمعي : يسمي هلال إلى أن يحجر ، وتحجيره أن يستدير له كالخيط الرقيق ، وقيل : يسمى بذلك إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل ، وذلك إنما يكون في سبع.
قالوا : وسمي هلالاً لارتفاع الأصوات عند رؤيته من قولهم : استهل الصبي ، والإهلال بالحج ، وهو رفع الصوت بالتلبية ، أو من رفع الصوت بالتهليل عند رؤيته.
وقد يطلق الهلال على الشهر كما يطلق الشهر على الهلال ، ويقال : أهل الهلال ، واستهل وأهللنا واستهللناه ، هذا قول عامة أهل اللغة.
وقال شمر : يقال استهل الهلال أيضاً يعني مبنياً للفاعل وهو الهلال ، وشهر مستهل وأنشد :
وشهر مستهل بعد شهر . . .
وحول بعده حول جديد
ويقال أيضاً : استهل : بمعنى تبين ، ولا يقال أهل ، ويقال أهللنا عن ليلة كذا ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : يقال أهل الهلال واستهل ، وأهللنا الهلال واستهللناه ، انتهى.
وقد تقدّم لنا الكلام في مادة هلل ، ولكن أعدنا ذلك بخصوصية لفظ الهلال بالأشياء التي ذكرناها هنا.
{ مواقيت } : جمع ميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ، وقال بعضهم : الميقات منتهى الوقت ، قال تعالى : { فتم ميقات ربه أربعين ليلة }
ثقف الشيء : إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ، ومنه : رجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه ، ومنه : فأما تثقفهم في الحرب وقول الشاعر :
فأما تثقفوني فاقتلوني . . .
فمن أثقف فليس إلى خلود
وقال ابن عطية : { ثقفتموهم } أحكمتم غلبتهم ، يقال : رجل ثقف لقف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور. انتهى.
ويقال : ثقف الشيء ثقافة إذا حذقه ، ومنه أخذت الثقافة بالسيف ، والثقافة أيضاً حديدة تكون للقوَّاس والرمَّاح يقوم بها المعوج ، وثقف الشيء : لزمه ، وهو ثقف إذا كان سريع العلم ، وثقفته : قوّمته ، ومنه الرماح المثقفة ، أي : المقومة وقال الشاعر :
ذكرتك والخطِّيُّ يخطر بيننا . . .
وقد نهلت منا المثقَّفَةُ السمرُ
يعنى الرماح المقومة.
{ التهلكة }.
على وزن تفعلة ، مصدر لهلك ، وتفعلة مصدراً قليلٌ ، حكى سيبويه منه : التضرة والتسرة ، ومثله من الأعيان : التنصبة ، والتنفلة ، يقال : هلك هلكاً وهلاكاً وتهلكةً وهلكاءً على وزن فعلاء ، ومفعل من هلك جاء بالضم والفتح والكسر ، وكذلك بالتاء ، هو مثلث حركات العين ، والضم في مهلك نادر ، والهلاك في ذي الروح : الموت ، وفي غيره : الفناء والنفاد.

وكون التهلكة مصدراً حكاه أبو علي عن أبي عبيدة ، وقلة غيره من النحويين قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما على أنها مصدر من هلك ، يعني المشدّد اللام ، فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار.
انتهى كلامه.
وما ذهب إليه ليس بجيد ، لأن فيها حملاً على شاذ ، ودعوى إبدال لا دليل عليه ، أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصل تفعله ذات الضم ، على تفعله ذات الكسر ، وجعل تهلكة مصدراً لهلك المشدّد اللام ، وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل ، نحو : كسر تكسيراً ، ولا يأتي على تفعله ، إلا شاذاً ، فالأَوْلى جعل تهلكة مصدراً ، إذ قد جاء ذلك نحو : التضرة.
وأما تهلكة فالأحسن أيضاً أن يكون مصدراً لهلك المخفف اللام ، لأن بمعنى تهلكة بضم اللام ، وقد جاء في مصادر فعل : تفعلة قالوا : جل الرجل تجلة ، أي جلالاً ، فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدراً لهلك المشدّد اللام ، وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ ، وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعى فيه الإبدال ، بل يبني المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذاً.
وزعم ثعلب أن التهلكة مصدر لا نظير له ، إذ ليس في المصادر غيره ، وليس قوله بصحيح ، إذ قد حكينا عن سيبويه أنه حكى التضرة والتسرّة مصدرين.
وقيل : التهلكة ما أمكن التحرز منه ، والهلاك ما لا يمكن التحرز منه ، وقيل التهلكة : الشيء المهلك ، والهلاك حدوث التلف ، وقيل : التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك.
{ أحصرتم } قال يونس بن حبيب : أحصر الرجل رد عن وجه يريده ، قيل : حصر وأحصر لمعنى واحد ، قاله الشيباني ، والزجاج ، وقاله ابن عطية عن الفراء ، وقال ابن ميادة :
وما هجر ليلى أن يكون تباعدت . . .
عليك ولا أن أحصرتك شغول
وقيل : أحصر بالمرض ، وحصره العدوّ ، قاله يعقوب.
وقال الزجاج أيضاً : الرواية عن أهل العلم في العلم الذي يمنعه الخوف والمرض : أحصر ، والمحبوس : حصر ، وقال أبو عبيدة والفراء أيضاً أحصر فهو محصَر ، فإن حبس في سجن أو دار قيل حُصِر فهو : محصور ، وقال ثعلب : أصل الحصر والإحصار : الحبس ، وحصر في الحبس أقوى من أحصر ، وقال ابن فارس في ( المجمل ) : حصر بالمرض ، وأحصر بالعدوّ.
ويقال : حصره صدره أي : ضاق ، ورجل حصر : وهو الذي لا يبوح بسره ، قال جرير :
ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا . . .
حَصِراً بسرِّك يا تميم ضنينا
والحصر : احتباس الغائط ، والحصير : الملك ، لأنه كالمحبوس بالحجاب.
قال لبيد :
حتى لدى باب الحصير قيام . . .

والحصير معروف : وهو سقيف من بردى سمى بذلك لانضمام بعضه إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره.
{ الهدي } الهدي ما يهدى إلى بيت الله تعالى تقرباً إليه ، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره.
يقال : أهديت إلى البيت الحرام هدياً وهديّاً بالتشديد ، والتخفيف ، فالتشديد جمع هديَّة ، كمطية ومطيّ ، والتخفيف جمع هديَة كجذية السرج ، وجذي.
قال الفراء : لا واحد للهدي ، وقيل : التشديد لغة تميم ، ومنه قول زهير :
فلم أر معشراً أسروا هديّاً . . .
ولم أر جار بيت يستباء
وقيل : الهديّ ، بالتشديد فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : الهدي بالتخفيف مصدر في الأصل ، وهو بمعنى الهدي كالرهن ونحوه ، فيقع للأفراد والجمع.
وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نِعم أو غير ذلك يسمى هدياً ، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم.
وقد وقع الخلاف فيما يسمى من النعم هدياً على ما سيأتي ذكره إن شاء الله.
الحلق : مصدر حلق يحلق إذا أزال الشعر بموسى أو غيره من محدّد ونورة ، والحلق مجرى الطعام بعد الفم.
الأذى : مصدر ، وهو بمعنى الألم ، تقول : آذاني زيد إيذاءً آلمني.
الصدقة : ما أعطي من مال بلا عوض تقرباً إلى الله تعالى.
النسك : قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل للمتعبد : ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها ، كالنسيكة المخلصة من الدنس ، ثم قيل للذبيحة : نسك ، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى ، وقيل : النسك مصدر نسك ينسك نَسكاً ونُسكاً ، كما تقول حلم الرجل ، حُلماً وحِلماً.
الأمن : زوال ما يحذر ، يقال : أمن يأمن أمناً وأمنة.
الثلاثة : عدد معروف ، ويقال منه : ثلثت القوم أثلثهم ، أي صيرتهم ثلاثة بي.
والثلاثون عدد معروف ، والثلث بضم اللام وتسكينها أحد أجزاء المنقسم إلى ثلاثة ، وثلث ممنوعاً من الصرف ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
العقاب : مصدر عاقب أي جازى المسيء على إساءته ، وهو مشتق من العاقبة ، كأنه يراد عاقبة فعله المسيء.
{ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال ، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، وغيرهم.
وروي أن من سأل هو معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاري ، قالا : يا رسول الله.
ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام ، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال ، وكذلك الإفطار في شهر شوال ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته »
وكان أيضاً قد تقدّم كلام في شيء من أعمال الحج ، وهو : الطواف ، والحج أحد الأركان التي بني الإسلام عليها.

وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى ، وفي الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو : الحج ، ليكون قد كملت الأركان التي بني الإسلام عليها.
وروي عن ابن عباس أنه قال : ما كان أمة أقل سؤالاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا منها في سورة البقرة أولها { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } والثاني : هذا ، وستة بعدها ، وفي غيرها : { يسألونك ماذا أحل لهم } { يسألونك عن الأنفال } { ويسألونك عن الروح } { ويسألونك عن ذي القرنين } { ويسألونك عن الجبال } { ويسألونك عن الساعة } قيل : اثنان من هذه الأسئلة في الأول في شرح في شرح المبدأ ، واثنان في الآخر في شرح المعاد ، ونظيره أنه افتتحت سورتان ب { يا أيها الناس } الأولى وهي الرابعة من السور في النصف الأول ، تشتمل على شرح المبدأ ، والثانية وهي الرابعة أيضاً من السور في النصف الآخر تشتمل على شرح المعاد.
والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة ، وإن كان من سأل اثنين ، كما روي ، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلاَّ من واحد منهم أو اثنين ، وهذا كثير في كلامهم ، قيل : أو لكون الإثنين جمعاً على سبيل الاتساع والمجاز.
والكاف : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، و : يسألونك ، خبر ، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الاخبار بالمغيب : وإن كانت نزلت بعد السؤال ، وهو المنقول في أسباب النزول ، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت.
و : عن ، متعلقة بقوله : يسألونك ، يقال : سأل به وعنه ، بمعنى واحد ، ولا يراد بذلك السؤال عن ذات الأهلة ، بل عن حكمة اختلاف أحوالها ، وفائدة ذلك ، ولذلك أجاب بقوله : { قل هي مواقيت للناس } فلو كانت على حالة واحدة ما حصل التوقيت بها.
والهلال هو مفرد وجمع باختلاف أزمانه ، قالوا : من حيث كونه هلالاً في شهر ، غير كونه هلالاً في آخر.
وقرأ الجمهور : عن الأهلة ، بكسر النون وإسكان لام الأهلة بعدها همزة ، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة ، وقرأ شاذاً بادغام نون : عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف.
{ قل هي } أي : الأهلة { مواقيت للناس } هذه : الحكمة في زيادة القمر ونقصانه إذ هي كونها مواقيت في الآجال ، والمعاملات ، والإيمان ، والعدد ، والصوم ، والفطر ، ومدة الحمل والرضاع ، والنذور المعلقة بالأوقات ، وفضائل الصوم في الأيام التي لا تعرف إلاَّ بالأهلة.
وقد ذكر تعالى هذا المعنى في قوله : { وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } وفي قوله : { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب }
وقال الراغب : الوقت الزمان المفروض للعمل ، ومعنى : مواقيت للناس أي ما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم.

انتهى.
وقال الرماني : الوقت مقدار من الزمان محدّد في ذاته ، والتوقيت تقدير حدّه ، وكلما قدّرت له غاية فهو موقت ، والميقات منتهى الوقت ، والآخرة منتهى الخلق ، والإهلال ميقات الشهر ، ومواضع الإحرام مواقيت الحج ، لأنها مقادير ينتهي إليها ، والميقات مقدار جعل علماً لما يقدّر من العمل.
انتهى كلامه.
وفي تغيير الهلال بالنقص والنماء ردّ على الفلاسفة في قولهم : إن الاحرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فأظهر تعالى الاختلاف في القمر ولم يظهره في الشمس ليعلم أن ذلك بقدرة منه تعالى.
والحج : معطوف على قوله : للناس ، قالوا : التقدير ومواقيت للحج ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأوّل ، والمعنى : لتعرفوا بها أشهر الحج ومواقيته.
ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة ، أفرد بالذكر ، وكأنه تخصيص بعد تعمم ، إذ قوله : مواقيت للناس ، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس ، وإنما المعنى : مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت ديناً ودنيا.
فجاء قوله : والحج ، بعد ذلك تخصيصاً بعد تعميم.
ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب الناس منابه في الإعراب.
ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعدادها إلى الإطناب ، اقتصر على قوله : مواقيت للناس.
وقال القفال : إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرض الحج ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر لأشهر أخر ، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء.
انتهى كلامه.
وقرأ الجمهور : والحج ، بفتح الحاء.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : والحِج بكسرها في جميع القرآن في قوله : { حِج البيت } فقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم.
وقال سيبويه : الحَج ، كالردّ والسدّ ، والحِج ، كالذِكر ، فهما مصدران.
والظاهر من قوله : مواقيت للناس والحِج ، ما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومالك من جواز الإحرام بالحج في جميع السنة لعموم الأهلة ، خلافاً لمن قال : لا يصح إلاَّ في أشهر الحج.
قيل : وفيها دليل على أن من وجب عليها عدتان من رجل واحد اكتفت بمضي عدة واحدة للعدتين ، ولا تستأنف لكل واحدة منهما حيضاً ، ولا شهوراً ، لعموم قوله : مواقيت للناس.
ودليل على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال ، وكانت بالشهور ، وجب استيفاؤها بالأهلة لا بعدد الأيام ، ودليل على أن من آلى من امرأته من أول الشهر إلى أن مضى الأربعة الأشهر معتبر في اتباع الطلاق بالأهلة دون اعتبار الثلاثين ، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً ، وكذلك الإجارات ، والأيمان ، والديون ، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك ، وسقط اعتبار العدد ، وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم ، وفيها ردّ على أهل الظاهر.
ومن قال بقولهم : إن المساقات تجوز على الأجل المجهول سنين غير معلومة ، ودليل على من أجاز البيع إلى الحصاد أو الدراس أو للغطاس وشبهه وهو : مالك ، وأبو ثور ، وأحمد؛ وكذلك إلى قدوم الغزاة وروي عن ابن عباس منعه ، وبه قال الشافعي ، ودليل على عدم اعتبار وصف الهلال بالكبر أو الصغر لأنه يقال : ما فصل ، فسواء رئي كبيراً أو صغيراً ، فإنه لليلة التي رئي فيها.

{ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى }.
قال البراء بن عازب ، والزهري ، وقتادة ، سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدران ، وقيل : كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة لم يأت حائطاً ، ولا بيتاً ، ولا داراً من بابه ، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقباً بدخل منه ويخرج ، أو ينصب سلماً ، يصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل إحرامه ، ويرون ذلك براً إلاَّ أن يكون ذلك من الحمس ، وهم : قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وثقيف ، وخثعم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر بن معاوية.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل وقال : إني أحمس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وأنا أحمس».
فنزلت.
ذكر هذا مختصراً السدي.
وروى الربيع " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل من الأنصار ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «لم دخلت وأنت قد أحرمت»؟ قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «إني أحمس ، إني من قوم لا يدينون بذلك».
فقال الرجل : وأنا ديني دينك " فنزلت.
وقال إبراهيم : كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز ، وقيل : كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة ، ويبقى كذلك حولاً كاملاً.
وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية راداً على من جعل إتيان البيوت من ظهورها براً ، آمراً بإتيان البيوت من أبوابها ، وهذه أسباب تضافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة ، وأن الإتيان هو المجيء إليها ، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تضافرت من هذه الآسباب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر ، فبين لهم أن ذلك ليس من البر ، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه ، في الحج ، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة ، وما حكمة ذلك ، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم ، فأفعاله جارية على الحكمة ، ردّ عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها ، إذا أحرموا ، ليس من الحكمة في شيء ، ولا من البر ، ولما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معاً ، ووصل إحداهما بالأخرى.

وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال.
أحدهما : أن ذلك ضرب ، مثل : المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ، ولكن اتقوا واسألوا العلماء.
فهذا كما يقال : أتيت الأمر من بابه ، قاله أبو عبيدة.
الثاني : أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج ، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء ، فانهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى ، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام ، فضرب مثلاً للمخالفة ، وقيل : واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم.
قاله أبو مسلم.
الثالث : أن أتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح ، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلاَّ الصواب ، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله ، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة ، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول.
أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم ، فالمعنى : أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر ، صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم ما تظنونه براً ، إنما البرّ أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم ، وهو حكمة الخالق على المجهول ، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمون ، قاله في ( ريّ الظمآن ) وهو قول ملفق من كلام الزمخشري.
قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره ، والمعنى : ليس البرّ ، وما ينبغي أن يكونوا عليه ، بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ، ولم يجسر على مثله.
ثم قال : { وأتوا البيوت من أبوابها } أي : وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها ، ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطيء النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك ، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } انتهى كلامه.
وحكى هذا القول مختصراً ابن عطية ، فقال : وقال غير أبي عبيدة : ليس البرّ أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها ، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع ، أنه كنى بالبيوت عن النساء ، الإيواء اليهنّ كالإيواء إلى البيوت ، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهنّ ، وآتوهنّ من حيث يحل من قَبُلهنّ.
قاله ابن زيد ، وحكاه مكي ، والمهدوي عن ابن الأنباري.
وقال ابن عطية : كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام ، انتهى.

والباء في : بان تأتوا زائدة في خبر ليس ، وبأن تأتوا ، خبر ليس ، ويتقدّر بمصدر ، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى ، وبالأعرف عما دونه في التعريف ، لأن : أن وصلتها ، عندهم بمنزلة الضمير.
وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وقالون ، وعباس ، عن أبي عمرو؛ والعجلي عن حمزة؛ والشموني عن الأعشى ، عن أبي بكر : البيوتِ ، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء ، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول ، وبه قرأ باقي السبعة و : مِنْ ، متعلقة : بتأتوا ، وهي لابتداء الغاية ، والضمير في : أبوابها ، عائد على البيوت.
وعاد كضمير المؤنث الواحدة ، لأن البيوت جمع كثرة ، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره ، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير ، والأفصح في كثيره أن يفرد.
كهو في ضمير المؤنث الواحدة ، ويجوز العكس.
وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره ، والأفصح أن يجمع الضمير.
ولذلك جاء في القرآن : { هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ } ونحوه ، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح.
{ ولكنّ البرّ من اتقى } التأويلات التي في قوله : { ولكنّ البرّ من آمن } سائغة هنا ، من أنه أطلق البر ، وهو المصدر ، على من وقع منه على سبيل المبالغة ، أو فيه حذف من الأوّل ، أي : ذا البرّ ، ومن الثاني أي : بر من آمن.
وتقدّم الترجيح في ذلك.
وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عدّ أوصافاً كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف ، وقال في آخرها : { أولئك هم المتقون } وقال هنا : { ولكنّ البرّ من اتقى } والتقوى لا تحصل إلاَّ بحصول تلك الأوصاف ، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمناً إذ جاء معها : هو المتقي.
وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيف : ولكنّ ، ورفع : البرّ ، والباقون بالتشديد والنصب.
{ وأتوا البيوت من أبوابها } تفسيرها : يتفرّغ على الأقوال التي تقدّمت في قوله : { وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها }.
{ واتقوا الله } : أمر باتقاء الله ، وتقدمت جملتان خبريتان وهما { وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتقى } فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأولى ، والثانية راجعة للثانية ، وهذا من بديع الكلام.
ولما كان ظاهر قوله : من اتقى ، محذوف المفعول ، نص في قوله : واتقوا الله ، على من يتقي ، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله.
{ لعلكم تفلحون } ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة ، وهي قوله { واتقوا الله } لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، فعلق التقوى برجاء الفلاح ، وهو الظفر بالبغية.
{ وقاتلوا في سبيل الله } الآية.
قال ابن عباس : نزلت لما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيحلوا له مكة ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش ، ويصدوهم ، ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت.

وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك ، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها ، لأن ما قبلها متضمن شيئاً من متعلقات الحج ، ويظهر أيضاً أن المناسب هو : أنه لما أمر تعالى بالتقوى ، وكان أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله ، فأمر به فقال تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته ، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، أمر فيها بقتال من قاتل ، والكف عن من كف ، فهي ناسخة لآيات الموادعة.
وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } قال الراغب : أمر أولاً بالرفق والاقتصار على الوعظ والمجادلة الحسنة ، ثم أذن له في القتال ، ثم أمر بقتال من يأبى الحق بالحرب ، وذلك كان أمراً بعد أمر على حسب مقتضى السياسة. انتهى.
وقيل : إن هذه الآية منسوخة بالأمر بقتال المشركين ، وقيل : هي محكمة ، وفي ( ريّ الظمآن ) هي منسوخة بقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه } وضعف نسخها بقوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } لأنه من باب التخصيص لا من باب النسخ ، ونسخ : { ولا تقاتلوهم } بقوله : { وقاتلوهم } بأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم لم ينسخ ، بل هو باق ، وبأنه يبعد أن يجمع بين آيات متوالية يكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى ، وأبعد من ذهب إلى أن قوله : وقاتلوا ، ليس أمراً بقتال ، وإنما أراد بالمقاتلة المخاصمة والمجادلة والتشدّد في الدين ، وجعل ذلك قتالاً ، لأنه يؤول إلى القتال غالباً ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
والآية على هذا محكمة.
هذا القول خلاف الظاهر ، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يناسب : في سبيل الله ، السبيل هو الطريق ، واستعير لدين الله وشرائعه ، فإن المتبع ذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الإجرام للمعاني ، ويتعلق : في سبيل الله ، بقوله : وقاتلوا ، وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسببب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : في نصرة دين الله ، ويحتمل أن يكون من باب التضمين كأنه قيل : وبالغوا بالقتال في نصرة سبيل الله ، فضمن : قاتلوا ، معنى المبالغة في القتال.
{ الذين يقاتلونكم } ظاهره : من يناجزكم القتال ابتداءً ، أو دفعاً عن الحق ، وقيل : من له أهلية القتال سوى من جنح للسلم فيخرج من هذا : النسوان ، والصبيان ، والرهبان.
وقيل : من له قدرة على القتال ، وتسمية من له الأهلية والقدرة مقاتلاً مجاز ، وأبعد منه مجازاً من ذهب إلى أن المعنى : الذين يخالفونكم ، فجعل المخالفة قتالاً ، لأنه يؤول إلى القتال ، فيكون أمراً بقتال من خالف ، سواء قاتل أم لم يقاتل ، وقدّم المجرور على المفعول الصريح لأنه الأهم ، وهو أن يكون القتال بسبب إظهار شريعة الإسلام ، ألا ترى الاقتصار عليه في نحو قوله :

{ وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } { ولا تعتدوا } نهي عام في جميع مجاوزة كل حدّ ، حدّه الله تعالى ، فدخل فيه الاعتداء في القتال بما لا يجوز ، وقيل : المعنى : ولا تعتدوا في قتل النساء ، والصبيان ، والرهبان ، والأطفال ، ومن يجري مجراهم.
قاله ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد.
ورجحه جماعة من المفسرين : كالنحاس وغيره ، لأن المفاعلة غالباً لا تكون إلاَّ من اثنين ، والقتال لا يكون من هؤلاء.
ولأن النهي ورد في ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء ، والصبيان ، وعن المثلة ، وفي وصاية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان النهي عن قتل هؤلاء ، والشيخ الفاني ، وعن تخريب العامر ، وذبح البقرة والشاة لغير مأكل ، وإفساد شجرة مثمرة بحرق أو غيره.
وقيل : ولا تعتدوا في قتال من بذل الجزية.
قاله ابن بحر ، وقيل : في ترك القتال ، وقيل : بالبداءة والمفاجأة قبل بلوغ الدعوة.
وقيل : بالمثلة ، وقيل : بابتدائهم في الحرم في الشهر الحرام ، وقيل : في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر.
{ إن الله لا يحب المعتدين }.
هذا كالتعليل لما قبله كقوله : أكرم زيداً إن عمراً يكرمه.
وحقيقة المحبة : وهي ميل النفس إلى ما تؤثره مستحيلة في حق الله تعالى ، ولا واسطة بين المحبة والبغضاء بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنهما مجازان عن إرادة ثوابه ، وإرادة عقابه ، أو عن متعلق الإرادة من الثواب والعقاب.
وذلك بخلاف محبة الانسان وبغضه ، فإن بينهما واسطة ، وهي عدمهما ، فلذلك لا يرد على نفي محبة الله تعالى أن يقال : لا يلزم من نفي المحبة وجود البغض ، بل ذلك لازم لما بيناه من عدم الواسطة بينهما في حقه تعالى.
{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم } ضمير المفعول عائد على : الذين يقاتلونكم ، وهذا أمر بقتلهم ، و : حيث ثقفتموهم ، عام في كل مكان حل أو حرم ، ويلزم منه عموم الأزمان ، في شهر الحرام وفي غيره ، وفي ( المنتخب ) أمر في الآية : الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على المقاتلة ، وفي هذه الآية زاد في التكليف.
فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام. انتهى.
وليس كما قال : إنه زاد في التكليف فأمر بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، لأن الضمير عائد على : الذين يقاتلونكم ، فالوصف باقٍ إذْ المعنى : واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث ثقفتموهم ، فليس أمراً بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا.

قال ابن إسحاق : نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله وافد بن عبد الله التميمي ، وذلك في سرية عبد الله بن جحش.
{ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } أي : من المكان الذي أخرجوكم منه ، يعني مكة ، وهو أمر بالإخراج أمر تمكين ، فكأنه وعد من الله بفتح مكة ، وقد أنجز ما وعد ، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بمن لم يسلم معهم ، و : مِنْ حيثُ ، متعلق بقوله : وأخرجوهم ، وقد تصرف في : حيث ، بدخول حرف الجر عليها : كمن ، والباء ، وفي ، وبإضافة لدى إليها.
وضمير النصب في : أخرجوكم ، عائد على المأمورين بالقتل ، والإخراج ، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم ، جعل إخراج بعضهم ، وهو أجلهم قدراً رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون ، إخراجاً لكلهم.
{ والفتنة أشدّ من القتل } في الفتنة هنا أقوال.
أحدها : الرجوع إلى الكفر أشدّ من أن يقتل المؤمن ، قاله مجاهد.
وكانوا قد عذبوا نفراً من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر ، فعصمهم الله.
والكفر بالله يقتضي العذاب دائماً ، والقتل ليس كذلك ، وكان بعض الصحابة قتل في الشهر الحرام ، فاستعظم المسلمون ذلك.
الثاني : الشرك ، أيّ : شركهم بالله أشدّ حرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.
الثالث : هتك حرمات الله منهم أشدّ من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم.
الرابع : عذاب الآخرة لهم أشدّ من قتلهم المسلمين في الحرم ومنه : { ذوقوا فتنتكم } { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } أي : عذبوهم.
الخامس : الإخراج من الوطن لما فيه من مفارقة المألوف والأحباب ، وتنغيص العيش دائماً ، ومنه قول الشاعر :
لموت بحدّ السيف أهون موقعاً . . .
على النفس من قتلٍ بحدِّ فراقِ
السادس : أن يراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام ، أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم ، إن قتلوكم ، فلا تبالوا بقتالهم ، قاله الزمخشري ، وهو راجع لمعنى القول الثالث.
السابع : تعذيبهم المسلمين ليرتدوا ، قاله الكسائي.
وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ، ثم صار يستعمل في الامتحان ، وإطلاقه على ما فسر به في هذه الاقوال شائع ، والفتنة والقتل مصدران لم يذكر فاعلهما ، ولا مفعولهما ، وإنما أقرَّ أن ماهية الفتنة أشدّ من ماهية القتل ، فكل مكان تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلاً في عموم هذه الأخبار سوآء كان المصدر فاعله أو مفعوله : المؤمنون أم الكافرون ، وتعيين نوع مّا من أفراد العموم يحتاج إلى دليل.
{ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } هو أن يبدأهم بالقتال في هذا الموطن حتى يقع ذلك منهم فيه ، قال مجاهد : وهذه الآية محكمة لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلاَّ بعد أن يقاتل.
وبه قال طاووس ، وأبو حنيفة؛ وقال الربيع : منسوخة بقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة }

وقال قتادة بقوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } والنسخ قول الجمهور ، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا النسخ ، في هذه الآية.
وقرأ حمزة ، والكسائي والأعمش : ولا تقتلوهم ، وكذلك حتى يقتلوكم فإن قتلوكم ، من القتل ، فيحتمل المجاز في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم ، ويحتمل المجاز في المفعول ، أي : ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم ، فإن قتلوا بعضكم ، يقال : قتلنا بنو فلان ، يريد قتل بعضنا وقال :
فإن تقتلونا نقتلكم . . .
وان تقصدوا الذم نقصد
ونظيره : قتل { معه ربيون كثير } فأوهنوا أي : قتل معهم أناس من الربيين ، فاوهن الباقون ، والعامل في عند : ولا تقاتلوهم ، و : حتى ، هنا للغاية ، وفيه متعلق بيقاتلوكم ، والضمير عائد على عند ، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إليه إلى : في ، هذا ، ولم يتسع فتعدى الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح ، لا يقال : إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع ، لأن ظاهره لا يجوز فيه ذلك ، بل الاتساع جائز إذ ذاك.
ألا ترى أنه يخالفه في جره بغي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك؟ فكذلك يخالفه في الاتساع.
فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر.
{ فإن قاتلوكم فاقتلوهم } هذا تصريح بمفهوم الغاية ، وفيه محذوف.
أي : فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، ودل على إرادته سياق الكلام.
ولم يختلف في قوله : فاقتلوهم ، أنه أمر بقتلهم على ذلك التقدير ، وفيه بشارة عظيمة بالغلبة عليهم ، أي : هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم لا بقتالهم ، فأنتم متمكنون منهم بحيث لا يحتاجون إلاّ إلى إيقاع القتل بهم ، إذا ناشبوكم القتال لا إلى قتالهم.
{ كذلك جزاء الكافرين } الكاف في موضع رفع لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين.
المعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء ، وهو القتل ، أي : من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل ، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل.
{ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم } أي : عن الكفر ، ودخلوا في الاسلام ، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة وهما لا يكونان مع الكفر { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين ، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار ، وقيل : فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك ، لتقدمهما في الكلام ، وهو حسن ، وقيل : عن القتال دون الكفر ، وليس الغفران لهم على هذا القول ، بل المعنى : فإن الله غفور لكم رحيم بكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم ، وقيل : الجواب محذوف ، أي : فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم ، وعلى قول : إن الانتهاء عن القتال فقط ، تكون الآية منسوخة ، وعلى القولين قبله تكون محكمة ، ومعنى : انتهى : كف ، وهو افتعل من النهي ، ومعناه فعل الفاعل بنفسه ، وهو نحو قولهم : اضطرب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها : افتعل.

قالوا : وفي قوله : { فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم } دلالة على قبول توبة قاتل العمد ، إذ كان الكفر أعظم مأثماً من القتل ، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر.
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } ضمير المفعول عائد على من قاتله وهم كفار مكة ، والفتنة هنا الشرك وما تابعه من أذى المسلمين ، أُمروا بقتالهم حتى لا يعبد غير الله ، ولا يُسَنُّ بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، والسدي.
أعني : أن الفتنة هنا والشرك وما تابعه من الأذى ، وقيل : الضمير لجميع الكفار أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان ، فالآية عامة تتناول كل كافر من مشرك وغيره ، ويخص منهم بالجزية من دل الدليل عليه ، وقد تقدّم قول من قال : إنها ناسخة ، لقوله : ولا تقاتلوهم.
قال في ( المنتخب ) : و الصحيح أنه ليس كذلك ، بل هذه الصيغة عامة وما قبله خاص ، وهو : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } ومذهب الشافعي تخصيص العام سواء تقدّم على المخصص أم تأخر عنه.
وقال أو مسلم : الفتنة هنا : القتال في الحرم ، قال : أمرهم الله بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار.
و : حتى ، هنا للغاية ، أو للتعليل ، وإذا فسرت الفتنة بالكفر ، والكفر لا يلزم زواله بالقتال ، فكيف غي الأمر بالقتال بزواله؟.
والجواب : أن ذلك على حكم الغالب ، والواقع ، وذلك أن من قتل فلقد انقطع كفره وزال ، ومن عاش خاف من الثبات على كفره ، فأسلم ، أو يكون المعنى : وقاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر ، لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر ، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه.
{ ويكون الدين لله } الدين هنا : الطاعة ، أي : يكون الانقياد خالصاً لله ، وقيل : الدين هنا السجود والخضوع لله وحده ، فلا يسجد لغيره ، وغي هنا الأمر بالقتال بشيئين : أحدهما : انتفاء الفتنة ، والثاني : ثبوت الدين لله ، وهو عطف مثبت على منفي ، وهما في معنى واحدة ومتلازمان ، لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع ، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غي بأمرين مختلفين : أحدهما : انتفاء القتال في الحرم ، والثاني : خلوص الدين لله تعالى.
قيل وجاء في الأنفال : { ويكون الدين كله الله } ولم يجىء هنا : كله ، لأن آية الأنفال في الكفار عموماً ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه.
قيل : وهذا لا يتوجه إلاَّ على قول من جعل الضمير في : وقاتلوهم ، عائداً على أهل مكة على أحد القولين ، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلاً عليه بقوله :

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } فعارضه بقوله : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } فقال : ألم يقل : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } ؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان الإسلام قليلاً ، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه ، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
{ فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين }.
متعلق الانتهاء محذوف ، التقدير : عن الشرك بالدخول في الاسلام ، أو عن القتال.
وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم ، أو : عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم ، وذلك على الاختلاف في الضمير ، إذ هو عام في الكفار ، أو خاص بكفار مكة.
والعدوان مصدر عدا ، بمعنى : اعتدى ، وهو نفي عام ، أي : لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلاَّ على من ظلم ، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء.
سماه عدواناً من حيث هو جزاء عدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب ، وذلك على المقابلة ، كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل } { ومكروا ومكر الله } وقال الشاعر :
جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم . . .
قصاصاً سواء حذوك النعل بالنعل
وقال الرماني ، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى ، كأنه يقول : انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلاَّ على الظالمين انتهى كلامه.
وهذا النفي العام يراد به النهي ، أي : فلا تعتدوا ، وذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام ، وصار ألزم في المنع ، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلاً ، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلاً لوجود العدوان على غير الظالم.
فكأنه يكون إخباراً غير مطابق ، وهو لا يجوز على الله تعالى.
وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال ، وقيل : من بقي على كفر وفتنة ، قال عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلاَّ الله.
وقال الأخفش المعنى : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلاَّ على من لم ينته ، وهو الظالم.
قال الزمخشري : فلا تعتدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : إلاَّ على الظالمين ، موضع : على المنتهين انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله لا يصح إلاَّ على تفسير المعنى ، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن : على المنتهين ، ليس مرادفاً لقوله : إلاَّ على الظالمين ، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلاَّ بالمفهوم مفهوم الصفة.
وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي ، وإلاَّ وفرق بين الدلالتين ، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب.
ألا ترى قوله : فوضع قوله : إلاَّ على الظالمين ، موضع : على المنتهين؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب ، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين ، ألا ترى فرق ما بين قولك : ما أكرم الجاهل وما أكرم إلاَّ العالم؟ وإلاَّ على الظالمين ، استثناء مفرغ من الاخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر لا ، على مذهب الأخفش ، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع ، لا عدوان ، على مذهب سيبويه.

وقد تقدّم التنبيه على ذلك ، وجاء : بعلى ، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه.
وقيل : معنى لا عدوان ، لا سبيل ، كقوله : { أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ } أي لا سبيل عليّ ، وهو مجاز عن التسليط والتعرض ، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان.
ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي : إلاَّ على الظالمين منهم ، أو بالاندراج في عموم الظالمين ، فكان الربط بالعموم.
{ الشهر الحرام بالشهر الحرم والحرمات قصاص } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقسم ، والسدي ، والربيع ، والضحاك ، وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية ، وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال ، وذلك في ذي القعدة : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي : هتكه بهتكه ، تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم.
وقال الحسن : سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل ، فنزلت.
والشهرُ ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور وبعده ، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبراً ، فلا بد من حذف التقدير : انتهاك حرمة الشهر الحرام ، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام؛ والألف واللام في الشهر ، في اللفظ هي للعهد ، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء ، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية { والحرمات قصاص } والألف واللام للعهد في الحرمات ، أي : حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد ، والشهر ، والقطان ، حين دخلتم.
وهذا التفسير على السبب المنقول عن ابن عباس ومن معه ، وأما على السبب المنقول عن الحسن فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض ، أي : وكل حرمة يجري فيها القصاص ، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها ، وقيل : { والحرمات قصاص } جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة ، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام ، أي : من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت طائفة : ما كان من تعدٍّ في مال أو جرح لم ينسخ ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه ، ويخفي ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك ، وبه قال الشافعي ، وهي رواية في مذهب مالك.

وقالت طائفة ، منهم مالك : القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلاَّ هم.
وقرأ الحسن { والحرمات } باسكان الراء على الأصل ، إذ هو جمع حرمة ، والضم في الجمع اتباع.
{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } هذا مؤكد لما قبله من قوله { والحرمات قصاص } وقد اختلف فيها : أهي منسوخة أم لا؟ على ما تقدم من مذهب الشافعي ومذهب مالك.
وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة ، والإسلام لم يعز ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه ، أُمرالمسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم ، وأُمروا بقتال الكفار.
وقال مجاهد : بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهو من التدريج في الأمر بالقتال.
وقوله : { فاعتدوا } ليس أمراً على التحتم إذ يجوز العفو ، وسمي ذلك اعتداءً على سبيل المقابلة ، والباء في : بمثل ، متعلقة بقوله : فاعتدوا عليه ، والمعنى : بعقوبة مثل جناية اعتدائه ، وقيل : الباء زائدة ، أي : مثل اعتدائه ، وهو نعت لمصدر محذوف ، أي : اعتداءً مماثلاً لاعتدائه.
{ واتقوا الله } أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدّى الإنسان في القصاص من إلى ما لا يحل له.
{ واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصرة والتمكين والتأييد ، وجاء بلفظ : مع ، الدالة على الصحبة والملازمة حضاً على الناس بالتقوى دائماً إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر ، أَلا ترى إلى ما جاء في الحديث « أرموا وأنا مع بني فلان » ؛ فأمسكوا ، فقال : « ارموا وأنا معكم كلكم؛ » أو : كلاماً هذا معناه ، وكذلك قوله لحسان : « اهجم وروح القدس معك » ؛ { وأنفقوا في سبيل الله } هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام ، فكل ما كان سبيلاً لله وشرعاً له كان مأموراً بالانفاق فيه؛ وقيل : معناه الأمر بالانفاق في أثمان آلة الحرب ، وقيل : على المقلين من المجاهدين ، قاله ابن عباس ، قال : نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : بماذا نتجهز؟ فوالله ما لنا زاد وقيل : في الجهاد على نفسه وعلى غيره ، وقيل : المعنى : إبذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله.
وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقاً مجازاً واتساعاً كقول الشاعر :
وأنفقت عمري في البطالة والصبا . . .
فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر
والأظهر القول الأول ، وهو : الأمر بصرف المال في وجوه البرّ من حج ، أو عمرة ، أو جهاد بالنفس ، أو بتجهيز غيره ، أو صلة رحم ، أو صدقة ، أو على عيال ، أو في زكاة ، أو كفارة ، أو عمارة سبيل ، أو غير ذلك.
ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به ، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة.
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال عكرمة : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، وقال النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله لي ، فنزلت.

وفي حديث طويل تضمن أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم ، ودخل فيهم وخرج ، فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الانصاري : تأوّلتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلاَّ فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت.
وفي تفسير التهلكة أقوال.
أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب.
الثاني : ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة ، قاله حذيفة ، وإبن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وابن جبير.
الثالث : التقحم في العدّو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي.
الرابع : التصدّق بالخبيث ، قاله عكرمة.
الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } قاله أبو علي.
السادس : الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته ، قاله البراء ، وعبيدة السلماني.
السابع : القنوط من التوبة ، قاله قوم.
الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله زيد بن أسلم ، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم إلى الإنقطاع في الطريق ، أو إلى كونهم عالة على الناس.
التاسع : إحباط الثواب إمّا بالمنّ أو الرياء والسمعة ، كقوله : { ولا تبطلوا أعمالكم }
وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية.
والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ، فإن الجهاد في سبيل الله مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى ، وقد ردّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو : أن يقتل في سبيل الله ثم يحيى ، فيقاتل فيقتل ، أو كما جاء في الحديث؛ ويقال : ألقى بيده في كذا ، أو إلى كذا ، إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : والله إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز.
وألقى يتعدى بنفسه ، كما قال تعالى : { فألقى مويى عصاه } وقال الشاعر :
حتى إذا ألقت يداً في كافر . . .
وأجنّ عورات الثغور ظلامُها
وجاء مستعملاً بالباء لهذه الآية ، وكقول الشاعر :
وألقى بكفيه الفتى إستكانة . . .
من الجوع وهناً ما يمرّ وما يحلى
وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين ، فقال أبو عبيدة وقوم : الباء زائدة ، التقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، ويكون عبّر باليد عن النفس ، كأنه قيل : ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة.
وقد زيدت الباء في المفعول كقوله.
سود المحاجر لا يقرأن بالسور . . .
أي : لا يقرأن السور ، إلاَّ أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس ، وقيل : مفعول ألقى محذوف ، التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وتتعلق الباء بتلقوا ، أو تكون الباء للسبب ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك.

والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو : بأيديكم ، لكنه ضمن : ألقى ، معنى ما يتعدى بالباء ، فعداه بها ، كأنه قيل : ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة.
كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحت جنبي على الأرض ، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي ، لأن بها الحركة والبطش والامتناع ، فكأنه يقول : إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك ، ولا يهمل ما وضع له ، ويفضي به إلى الهلاك وتقدّمت معاني : أفعل ، في أول البقرة ، وهي أربعة وعشرون معنى ، وعرضتها على لفظ : ألقى ، فوجدت أقرب ما يقال فيه : أن : أفعل ، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول : أن تجعله كقولك : أخرجته ، أي : جعلته يخرج ، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية.
القسم الثاني : أن تجعله على صفة ، كقوله : أطردته ، فالهمزة فيه ليست للتعدية ، لأن الفعل كان متعدّياً دونها ، وإنما المعنى : جعلته طريداً.
والقسم الثالث : أن تجعله صاحب شيء بوجه مّا ، فمن ذلك : أشفيت فلاناً ، جعلت له دواء يستشفى به ، وأسقيته : جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي.
ومن هذا النوع : أقبرته ، وأنعلته ، وأركبته ، وأخدمته ، وأعبدته : جعلت له قبراً ، ونعلاً ، ومركوباً ، وخادماً ، وعبداً.
فأما : ألقى ، فإنها من القسم الثاني ، فمعنى : ألقيت الشيء : جعلته لقى ، واللقى فعل بمعنى مفعول ، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول ، فكأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك.
وقد حام الزمخشري نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه ، فقال : الباء في : بأيديكم ، مثلها في أعطى بيده للمنقاد ، والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، مالكة لكم ، انتهى كلامه.
وفي كلامه أن الباء مزيدة ، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس.
{ وأحسنوا } هذا أمر بالإحسان ، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين.
وقال عكرمة : المعنى : وأحسنوا الظنّ بالله ، وقال زيد بن أسلم : وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله ، وفي الصدقات.
وقيل : وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ، قال ذلك بعض الصحابة قيل وأحسنوا ، معناه : جاهدوا في سبيل الله ، والمجاهد محسن.
{ إن الله يحب المحسنين } هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاماً بأن الله يحب من الإحسان صفة له ، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائماً بحيث لا يخلو منه محبة الله دائماً.
{ وأتموا الحج والعمرة لله } الإتمام كما تقدّم ضد النقص ، والمعنى : إفعلوهما كاملين ولا تأتوا بهما ناقصين شيئاً من شروطهما ، وأفعالهما التي تتوقف وجود ماهيتهما عليهما ، كما قال غيلان :
تمام الحج أن تقف المطايا . . .
على خرقاء واضعة اللثام

جعل : وقوف المطايا على محبوبته ، وهي : مي ، كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلاَّ به.
هذا ظاهر اللفظ ، وقد فسر : الإتمام ، بغير ما يقتضيه الظاهر.
قال الشعبي ، وابن زيد : إتمامهما أن لا ينفسخ ، وأن تتمهما إذا بدأت بهما.
وقال علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد ، وطاووس : إتمامهما أن تحرم بهما مفردين من دويرة أهلك ، وفعله عمران بن حصين.
وقال الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : لله.
وقال القاسم بن محمد وقتادة : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحد من حج أو عمرة ولا تقرن ، والإفراد عند هؤلاء أفضل.
وقال قوم : إتمامهما : أن تقرن بينهما ، والقران عند هؤلاء أفضل.
وقال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وغيرهم : إتمامها أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء ، وهذا يقرب من القول الأول ، وقال قوم : أن يفرد لكل واحد منهما سفراً.
وقيل : أن تكون النفقة حلالاً وقال مقاتل : إتمامهما أن لا تستحلٍ فيهما ما لا يجوز ، وكانوا يشركون في إحرامهم ، يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك.
فقال : أتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً.
وقال الماتريدي : إنما قال { وأتموا الحج والعمرة لله } لأن الكفرة كانوا يفعلون الحج لله والعمرة للصنم ، وقال المروزي : كان الكفار يحجون للأصنام.
وقرأ علقمة : وأقيموا الحج وقرأ طلحة بن مصرف : الحج ، بالكسر هنا ، وفي آل عمران ، وبالفتح في سائر القرآن وتقدّم قراءة ابن إسحاق : الحج بالكسر في جميع القرآن ، وسيأتي ذكر الخلاف في قوله : { حج البيت } في موضعه.
وقرأ ابن مسعود : واتموا الحج والعمرة إلى البيت لله ، وقرأ علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وابن عمر والشعبي ، وأبو حيوة ، والعمرة لله بالرفع على الإبتداء والخبر ، فيخرج العمرة عن الأمر ، وينفرد به الحج.
وروي عنه أيضاً : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون.
و : لله ، متعلق بأتموا وهو مفعول من أجله ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، ويكون العامل محذوفاً تقديره : كائنين لله ، ولا خلاف في أن الحج فرض ، وأنه أحد الأركان التي بني الإسلام عليها ، وفروضه : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي بين الصفا والمروة ، خلافاً لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة ، على قول ابن الماجشون ، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي.
وأما أعمال العمرة : فنية ، وإحرام ، وطواف ، وسعي.
ولا يدل الأمر بإتمام الحج والعمرة على فرضية العمرة ، ولا على ، أنها سنة ، فقد يصح صوم رمضان وشيئاً من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية ، وإن اختلفت جهتا الطلب ، ولذلك ضعف قول من استدل على أن العمرة فرض بقوله : وأتموا.

وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومسروق ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والشعبي ، وابن جبير ، وأبي بردة ، وعبد الله بن شدّاد؛ ومن علماء الأمصار : الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وابن حميم ، من المالكيين.
وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة ، منهم : ابن مسعود ، وجابر ، ومن التابعين : النخعي ، ومن علماء الأمصار : مالك ، وأبو حنيفة ، إلاَّ أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها.
وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين ، والحجج منقولة في كتب الفقه.
{ فإن أحصرتم } ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة ، وأنه يتحلل بالإحصار.
وروي عن عائشة وابن عباس : أنه لا يتحلل من إحرامه إلاَّ بأداء نسكه ، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره.
وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت ، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه وتقدم الكلام في الإحصار.
وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة : أن الإحصار والحصر سواء ، وأنهما يقالان في المنع بالعدوّ ، وبالمرض ، وبغير ذلك من الموانع ، فتحمل الآية على ذلك ، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار.
وليس في الآية تقييد ، وبهذا قال قتادة ، والحسن ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، وقال علقمة ، وعروة : الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدوّ ، وقال ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومالك ، والشافعي.
لا يكون الإحصار إلاَّ بالعدوّ فقط.
قال ابن عباس : والآية نزلت فيمن أحصر بالعدوّ لا بالمرض.
وقال مالك ، والشافعي : ولو أحصر بمرض فلا يحله إلاَّ البيت ، ويقيم حتى يفيق ، ولو أقام سنين.
وظاهر قوله : { فان أحصرتم } استواء المكي والآفاقي في ذلك ، وقال عروة ، والزهري ، وأبو حنيفة : ليس على أهل مكة إحصار.
وظاهر لفظ : أحصرتم ، مطلق الإحصار ، وسواء علم بقاء العدوّ استيطانه لقوته وكثرته ، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور ، أو رجا زواله ، وقيل : لا يباح له التحلل إلاَّ بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدوّ لم يدرك الحج ، فيحل حينئذ ، وبه قال ابن القاسم ، وابن الماجشون.
وقيل : من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافاً لأبي حنيفة ، فإن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف فلا يكون محصراً؛ وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء.
{ فما استيسر من الهدي } هو شاة ، قاله علي ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير ، وقتادة ، وإبراهيم ، والضحاك ، ومغيرة.
وقد سميت هدياً في قوله : { هدياً بالغ الكعبة } وقال الحسن ، وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة.
وبه قال مالك ، وأبو يوسف ، وزفر ، يكون من الثلاثة ، يكون المستيسر على حكم حال المهدي ، وعلى حكم الموجود.

وروى طاووس عن ابن عباس : أنه على قدر الميسرة ، وقال ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، وعروة : هو جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة ، ولا يكون الهدي إلاَّ من هذين ، ولا يكون الشاة من الهدي ، وبه قال أبو حنيفة.
قال ابن شبرمة : من الإبل خاصة ، وقال الأوزاعي يهدي الذكور من الإبل والبقر.
ولو عدم المحصر الهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ قال أبو حنيفة : تكون في ذمته أبداً ولا يحل حتى يجد هدياً فيذبح عنه ، وقال أحمد : له بدل ، والقولان عن الشافعي ، فعلى القول الأول : يقيم على إحرامه أو يتحلل ، قولان.
وعلى الثاني : يقوم الهدي بالدراهم ، ويشترى بها الطعام ، والكل أنه لا بدل للهدي ، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار ، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة.
والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجزى إلاَّ الثني فصاعداً ، وقال مالك : لا يجزي من الإبل إلاَّ الثني فصاعداً ، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي.
وقال مالك : يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب ، والظاهر وجوب { ما استيسر من الهدي } وقال ابن القاسم : لا يهدي شيئاً إلاَّ إن كان معه هدي ، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي ، ويحلق رأسه.
وقال قتادة ، وإبراهيم : يبعث هديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالاً.
وقال أبو حنيفة : إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء ، وقال أبو يوسف ، ومحمد في أيام النحر : وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً ، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة ، وهو من الحرم ، وعن الزهري : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم.
وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة.
واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدوِّ أو مرض ، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني.
فذهب الثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأصحابهم إلى أنه لا ينفعه الاشتراط.
وقال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والشافعي : في القديم لا بأس أن يشترط ، وله شروط ، فيه حديث خرج في الصحيح : ولا قضاء عليه عند الجميع إلاَّ من كان لم يحج ، فعليه حجة الإسلام ، وشذ بن الماجشون فقال : ليس عليه حجة الإسلام ، وقد قضاها حين أحصر.
وما ، من قوله : { فما استيسر } موصولة ، وهي مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر ، قاله الأخفش ، أو : في موضع نصب : فليهدِ قاله أحمد ابن يحيى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب له استيسر ، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد ، أي : يسر ، بمعنى : استغنى وغني ، واستصعب وصعب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46