كتاب :تحفة الفقهاء
المؤلف : علاء الدين السمرقندي

لأنه أقرب إليه فيخرج درهم ويلتحق بالمستثنى منه وهو سبعة فصار ثمانية
ولو قال لفلان علي عشرة دراهم إلا ثوبا لا يصح الاستثناء عندنا
وعند الشافعي يصح ويخرج قدر قيمة الثوب
ولو استثنى شيئا من المكيل والموزون بأن قال علي عشرة دراهم إلا قفيز حنطة أو علي مائة دينار إلا عشرة دراهم يصح الاستثناء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويخرج من المستثنى منه قدر قيمة القفيز والعشرة لأن الجنس واحد وهو القدر وقال محمد و زفر رحمهما الله لا يصح الاستثناء كما في الثوب
ولو قال لفلان علي ألف درهم إلا قليلا يلزمه أكثر من النصف والقول قوله في الزيادة مع يمينه
وكذا إذا قال علي قريب من ألف أو زهاء ألف أو عظم الألف لأن هذا أكثر من النصف بيقين وفي الزيادة القول قوله
ولو قال علي ألف ونيف فعليه الألف وعليه بيان النيف لأنه عبارة عن الزيادة
ولو قال علي ألف ودرهم أو علي مائة ودينار يكون المعطوف عليه من جنس المعطوف بالاتفاق
وكذلك في جميع المكيل والموزون والعددي المتقارب
وأما في العروض والعددي المفاوات بأن قال علي عشرة وثوب أو عشرة وعبد أو عشرة ودابة فعلى قول محمد يلزمه المعطوف المسمى والقول قوله في بيان المعطوف عليه وعلى قول أبي يوسف يكون المعطوف عليه من جنس المعطوف لأن العرف على هذا
ولو قال لفلان علي ألف لا بل ألفان فجملة هذا إن الاستدراك في الإقرارات ثلاثة أنواع إما أن يكون في خلاف جنس الأول أو يكون في جنس الأول واستدرك الغلط في القدر من الكثرة والقلة أو في الصفة من الجودة والرادءة
فأما الأول فبأن يقول علي ألف درهم لا بل مائة دينار أو كر حنطة لا بل كر شعير
وحكمه أنه يلزمهما جميعا لأن الغلط فيه نادر والنادر ملحق بالعدم
وأما الثاني بأن قال علي ألف درهم لا بل ألفان أو قال علي دينار لا بل ديناران فيلزمه الأكثر استحسانا والقياس أن يلزمهما جميعا كما في خلاف الجنس وكما في الطلاق إذا قال أنت طالق واحدة لا بل ثنتين يقع الثلاث وهو قول أبي يوسف ومحمد وفي الاستحسان أنه إخبار ويجري فيه الغلط فيصح التدارك بخلاف إنشاء الطلاق حتى إن في الإخبار كذلك بأن قال كنت طلقت امرأتي أمس واحدة لا بل ثنتين يقع على الأكثر
وأما الثالث بأن قال علي ألف درهم سود لا بل بيض
أو قال علي قفيز حنطة جيدة لا بل وسط فيلزمه الأجود
ولو قال لفلان علي ألف ثمن مبيع إلا أنه زيوف فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه يلزمه الجيد ولا يصدق سواء وصل أو فصل كما لو قال بعتك هذا العبد على أنه معيب لم يصدق وإن وصل وعندهما إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق
وفي القرض روايتان عنه
وإذا قال علي ألفم درهم مطلقا ثم قال زيوف يصدق بشرط الوصل في قولهم

وفي الغصب والوديعة
يصدق وصل أو فصل
ولو قال علي من ثمن بيع ألف درهم ستوقة أو رصاصا لا يصدق عند أبي حنيفة وعن أبي يوسف أنه يصدق إذا وصل
وفي البيع الفاسد وفي الغصب والوديعة يصدق في الستوقة بشرط الوصل في قولهم جميعا
ولو قال له علي ألف درهم ثم قال هو ثمن عبد لم أقبضه منه لم يصدق في قول أبي حنيفة إلا أن يقول موصولا والعبد قائم بعينه في يد المقر له وعندهما إن صدقه المقر له كان القول قوله وإن لم يصدقه كان الألف له لازما عليه
ولو قال اقتضيت من فلان ألف درهم التي لي عليه أو قال استوفيت أو قبضت أو أخذت وقال المقر له لم يكن لك علي شيء يؤمر بردها إليه مع يمينه على ما يدعيه المقر
ولو قال أخذت من فلان ألف درهم وديعة فقال فلان بل أخذت غصبا فالقول قول المقر له لما قلنا
ولو قال أودعني فلان ألف درهم أو قال أعطاني وديعة فقال لا بل أخذتها غصبا فالقول قول المقر لأنه ما أقر بسبب الضمان وهو الأخذ
ثم الإقرار في حالة الصحة يصح للأجنبي والوارث جميعا من جميع المال ولا يكون الدين المتقدم أولى ويكون الغرماء أسوة إذا صار مريضا ليس له أن يؤثر البعض في القضاء وفي الأداء في حالة الصحة له أن يؤثر البعض لأن الدين يثبت في الذمة حالة الصحة وإنما ينتقلإلى المال بالمرض فكذلك على هذا
أما الإقرار في المرض فيصح للأجنبي من جميع المال ولا يصح للوارث إلا إذا أجاز الورثة لكن دين الصحة مقدم على دين المرض الثابت بإقراره
أما إذا ثبت بالبينة أو بمشاهدة القاضي فهما سواء
وإقرار المريض باستيفاء الدين في حالة المرض يصح سواء كان دين الصحة أو دين المرض في الجملة وهذا في حق الأجنبي وله تفاصيل كثيرة
وإما الإقرار بالوارث من المريض أو من الصحيح فنوعان في حق النسب وفي حق الميراث
أما في النسب فمن الرجل يصح بخمسة نفر بالوالدين وبالولد وبالزوجة وبكونه مولى لفلان لأنه ليس فيه تحميل النسب على غيره
من المرأة يصح بأربعة بالوالدين وبالزوج وبالولاء دون الولد لأن فيه تحميل النسب على الغير
ولا يصح الإقرار بالأخ والعم والخال في حق النسب ونحو ذلك لما فيه من تحميل النسب فلا بد من البينة
فأما في حق الميراث فإن لم يكن للمقر وارث ظاهر صح إقراره في حق الإرث لأنه إقرار على نفسه
فأما إذا كان له وارث ظاهر فلا يصح في حقه وإن كان الذي أقر به مقدما عليه بأن أقر بالأخ وله خال وعمة لأن فيه إبطال حق القريب
وكذلك لو كان له مولى الموالاة لأنه آخر الورثة فلا يصح إقراره في حقه
ولو أوصى بجميع ماله ثم أقر بأخ صح إقراره وتنفذ الوصية من الثلث
وكذا لو أقر بأخ ثم أوصى بجميع ماله يصح من الثلث لأن إقراره بالأخ صحيح في حقه إن لم يصح في حق غيره
ولو أقر بالأخ ثم رجع صح لأنه ثبت بقوله
وعلى هذا الوارث إذا أقر بوارث آخر يصح في حق نصيبه حتى إن الأخ إذا أقر بأخ آخر فإن ما في يده يكون بينهما نصفين
وهذا كله إذا صدقه المقر له في ذلك فأما إذا لم يصدقه لم يثبت
كتاب الوصايا
في هذا الكتاب فصلان فصل في الوصية وفصل في الإيصاء
نبدأ بالوصية فنقول نحتاج إلى بيان الوصية وإلى بيان صفة المشروعية وإلى بيان شرائط الصحة وإلى بيان الموصى به وإلى بيان الموصى له وما يتصل بهذه الجملة
أما الوصية فهي تمليك مضاف إلى ما بعدالموت بطريق التبرع إذ التمليك أنواع ثلاثة فلا بد لكل نوع من اسم خاص ليتميز عن صاحبه فالبيع اسم لتمليك عين المال بعوض في حالة الحياة والهبة والصدقة تمليك عين المال بغير عوض في حالة الحياة بطريق التبرع والعارية تمليك المنفعة بطريق التبرع في حالة الحياة فيكون الوصية اسما لتمليك المال بعد الموت بطريق التبرع في العين والمنافع جميعا
فأما الإعتاق في معرض الموت تنجيزا وكذا الهبة والمحاباة فليست من جملة الوصية فإنها نافذة للحال
وكذلك الكفالة وضمان الدرك لكن في معنى الوصية على معنى أنه يعتبر من ثلث المال لتعلق حق الغرماء بالتركة في مرض الموت
ولو كان عليه حجة الإسلام أو الزكاة أو الكفارات وجبت في الصحة أو في المرض فيبطل بالموت عندنا
ولو أوصى بها تصح من الثلث بمنزلة التبرع في المرض
وعلى هذا قلنا إن القبول من الموصى له والرد يعتبر بعد الموت لأن الإيجاب ينزل بعد الموت والقبول يشترط عند الإيجاب كما في البيع وغيره وهذا عندنا
وعند زفر القبول ليس بشرط ولا ترتد بالرد كالميراث
ولو رد أو قبل في حياة الموصي لا يصح حتى لو مات الموصى له بعد القبول قبل موت الموصي فإن الوصية لا يكون ملكا لورثة الموصى له
ولو مات الموصى له بعد موت الموصي قبل القبول والرد فالقياس أن لا يكون لورثة الموصى له شيء لأن القبول لم يوجد من الموصى له فيبطل وفي الاستحسان يصير لورثته إما لأنه وجد القبول منه دلالة أو لأن الإيجاب قد تم بنفسه وتوقف على قبوله فإذا مات ثبت الملك له كأنه قبل دلالة كالمشتري بالخيار إذا مات يلزم العبد
فلو رد ورثته بعد موته هل يصح ردهم اختلف المشايخ فيه قيل يجوز الرد لأنه صح لوجود القبول منهم دلالة فإذا وجد الردصريحا يبطل
وقيل لا يجوز لأنه صار ميراثا للورثة عن الموصى له لصيرورته ملكا له بالموت ولا يصح رد الميراث
وأما بيان المشروعية فنقول
قال بعضهم مشروعة بصفة الوجوب في حق الكل
وقال بعضهم واجبة في حق الوالدين لقوله تعالى { الوصية للوالدين والأقربين }
والصحيح أنها مشروعة بطريقة الندب لقوله عليه السلام إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم
وأما شرائط الصحة فمنها أهلية التبرع حتى لا يصح من الصبي والعبد والمكاتب في حق المولى
ومنها عدم الدين لقوله تعالى { فلن تجد له نصيرا }
ومنها التقدير بثلث التركة حتى أنها لا تصح فيما زاد على الثلث إلا أن يجيز الورثة وإجازتهم وردهم يصح بعد الموت
أما قبل الموت فلا يصح لما قلنا إن الملك بالوصية يثبت بعد الموت
ومنها أن يكون الموصى له أجنبيا حتى أن الوصية للوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة لقوله عليه السلام لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة فإن أجاز بعض الورثة تنفذ بقدر حصته من الميراث لا غير
ومنها أن لا يكون قائلا لقوله عليه السلام لا وصية لقاتل
ولو أجاز الورثة يجوز عند أبي حنيفة ومحمد لأنه لا يجوز لحق الورثة فيجوز بإجازتهم كما في وصية الوارث
وعند أبي يوسف لا يجوز لأن المانع حق الله تعالى فصار كالميراث
ومنها أن يكون الموصى له موجودا حيا حتى لو أوصى للجنين إن كان موجودا حيا عند الإيصاء يصح وإلا فلا
وإنما يعرف بأن ولد قبل ستة أشهر حيا
وأما بيان الموصى به فالموصى به يجب أن يكون مالا
ثم المال نوعان المنافع والأعيان
وأما الوصية بالمنافع فجائزة بأن أوصى بخدمة عبد بعينه لفلان يكون وصية بالخدمة له وعين العبد تكون للورثة ما دام الموصى له حيا وإذا مات فيسلم العبد إلى الورثة فإنها في معنى العارية المؤبدة فينتهي بموت الموصى له
وكذا لو أوصى بالعبد لإنسان وبخدمته لآخر جاز لما قلنا
وكذا لو أوصى بسكنى داره أو بغلة بستانه ولم يوقت في ذلك وقتا فيكون للموصى له مدة حياته ويعود البستان والدار إلى الورثة وما كان من الثمرة والغلة حاصلا قبل موت الموصى له فيكون لورثته وما يحصل بعد موته يكون لورثة الموصي
وإنما يجوز إذا خرج من الثلث وإنما يعتبر خروج قيمة الأعيان التي أوصى بغلتها وخدمتها وثمرتها من الثلث دون أن يضم الغلة وقيمة الثمرة والخدمة إلى رقبة الأعيان
ولو أوصى بالثمرة بالغلة للمساكين جاز بالإجماع
ولو أوصى بسكنى داره أو بخدمة عبده أو بظهر فرسه للمساكين لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما يجوز
ولو أوصى لفقير واحد بعينه جاز وهي مسألة معروفة
وأما الوصية بأعيان الأموال فإنه يجوز سواء كان الموصى به موجودا معينا أو بربع المال أو ثلثه أو خمسه وله مال أو أوصى بالمعدوم بأن يوصي بما يثمر نخله أو ما يخرج من بستانه أو بثلث ماله ولا مال له فإن الوصية جائزة من الثلث
ويعتبر الثلث وقت موت الموصي لا قبله لما ذكرنا أنها إيجاب الملك عند الموت حتى إنه لو أوصى بثلث ماله وله ثلاثة آلاف درهم ثم مات وله ألف فإن الوصية تصح في ثلث الألف لما قلنا
ولو أوصى بلبن غنمه وأصوافها وأولادها ثم مات الموصي فإنه يقع على ما هو الموجود يوم الموت دون ما يحدث من بعد الموت وإن لم يكن شيئا موجودا وقت الموت بخلاف الوصية بثمرة النخلة فإنه يقع على الموجود وقت الموت إن كان وإن لم يكن يقع على ما يحدث بعد موت الموصي
وأما الوصية بالموجود فإن كان شيئا معينا فإنه يصح فيه حتى إذا خرج من الثلث يكون للموصى له وإن لم يكن يخرج يكون له بقدر الثلث
وإذا هلك ثلثاه وبقي الثلث يكون كل الثلث له إن خرج من ثلث المال
وأما إذا كانت الوصية بثلث المال أو بربعه ونحو ذلك فإن خرج يكون له وإن لم يخرج يكون له بقدر الثلث
وأما إذا اجتمعت الوصايا لأحدهم بالثلث ولآخر بالربع ولآخربالخمس فإن أجاز الورثة جاز في الكل
وإلا يصرف إلى كل واحد منهم من الثلث بقدر وصيته ويتضاربون في ذلك فيكون ثلث الثلث لهذا وربع الثلث وخمس الثلث للآخرين كما في المواريث
وإن كان وصية أحدهم أكثر من الثلث بأن أوصى له بالنصف أو بالثلثين فعند أبي حنيفة يضرب من زاد نصيبه على الثلث بالثلث دون الزيادة ومن كان نصيبه دون الثلث فيما سمي له
وعندهما يضرب صاحب الزيادة بجميع ما سمي له كما في الميراث
وأجمعوا في خمس وصايا أنه يضرب بما سمي وإن جاوز عن الثلث في العتق الموقع في المرض وفي العتق المعلق بموت الموصي وهو التدبير وبالمحاباة في المرض وبالوصية بالإعتاق بعد الموت وبالوصية المرسلة وهي الوصية بشيء بغير عينه ولا يكون منسوبا إلى جزء من المال نحو الوصية لفلان بمائة درهم ونحوها
وهل يقدم بعض أصحاب الوصية معلى البعض فلا يخلو إما إن كانت الوصايا للعباد أو تقع الله تعالى
أما إذا كانت الوصايا للعباد فإنه يقدم العتق الموقع في المرض والعتق المعلق بمطلق الموت وهو التدبير الصحيح والمحاباة في البيع الواقع في المرض
وما سوى هذه الوصايا يتضارب فيها أهل الوصايا على السواء لا يقدم بعضهم على بعض
وإن ضاق الثلث عن العتق والمحاباة يبدأ بما بدأ به الموصي منهما لاستوائهما في القوة فترجح بالبداءة وهو قول أبي حنيفة وقالا يبدأ بالعتق لا محالة لأنه لا يحتمل الفسخ
وأما إذا كانت الوصايا بما هو من حقوق الله تعالى نحو الحج والزكاة والكفارات والصدقات ونحوها من أعمال البر ينظر إن كان كله تطوعا بدأ بما بدأ به الموصي لاستواء الكل في نفسه في القوة فيترجح بالبداءة لأنه هو الأهم عنده ظاهرا ولا يقدم الوصية بالإعتاق لأنه يحتمل الفسخ كسائر الوصايا فإذا بلغ الثلث للكل فبها ونعمت وإن فني الثلث بالبعض يبطل الباقي
وإن كانت كلها فرائض متساوية بأن كان وجوبها ثبت بدليل مقطوع به يرجح بالبداءة لتساويها في القوة وقالوا في الحج والزكاة عند أبي يوسف يقدم الحج في رواية وإن أخره جاز
وفي رواية يقدم الزكاة وهو قول محمد رحمه الله
ثم ما أوجبه الله تعالى ابتداء أولى مما أوجبه عند فعل من المكلف فقالوا يقدم الحج والزكاة على الكفارات المذكورة في القرآن
ثم هذه الكفارات مقدمة على صدقة الفطر والفطرة مقدمة على كفارة الفطر لأنها ثبتت بخبر الواحد وهي مقدمة على المنذور هو مقدم على الأضحية
والواجبات كلها مقدمة على النوافل
وأما إذا كان مع الوصايا الثابتة لحق الله تعالى الوصية للآدمي فإن الموصى له يضرب مع الوصايا بالقرب ويجعل كل جهة من جهات القرب مفردة بالضرب ولا يجعل كلها جهة واحدة بأن قال ثلث مالي في الحج والزكاة والكفارات ولزيد يقسم على أربعة أسهم لأن كل جهة غير الأخرى ولا يقدم الفرض على حق الأدمي لحاجة العبد إلى حقه
ثم إنما يصرف إلى الحج الفرض والزكاة و الكفارات إذا أوصىبها فأما بدون الوصية فلا يصرف الثلث إليها بل يسقط عندنا خلافا للشافعي على ما ذكرنا في الزكاة
وإذا أوصى يعتبر من الثلث لتعلق حق الورثة بماله في مرض الموت
وأما بيان الموصى له وأحكامه فنقول الموصى له يجب أن يكون حيا وأن يكون أجنبيا لا وارث له ولا قائلا إياه وقد ذكرنا هذا حتى لو أوصى لرجلين أحدهما ميت تكون الوصية كلها للحي
ولو أوصى لأجنبي ولوارثه يكون النصف للأجنبي لأن الوارث من أهل الوصية حتى لو أجاز باقي الورثة جاز
ولو أوصى لذوي قرابته أو لأقربائه أو لذي قراباته أو لأرحامه أو لذوي رحم منه فإن عند أبي حنيفة يعتبر في هذه الوصية أشياء ذو الرحم المحرم والأقرب فالأقرب وأن لا يكون فيهم والد ولا ولد وأن يكون اثنين فصاعدا إن كان بلفظ الجمع أو يقول لذوي قرابته
ولو قال لذي قرابته يقع على الواحد فصاعدا
وعند أبي يوسف ومحمد الوصية لجميع قرابته من جهة الرجال والنساء إلى أقصى أب له في الإسلام القريب والبعيد فيه سواء كما إذا أوصى للعلوية والعباسية يصرف إلى من يتصل بعلي وعباس رضي الله عنهما دون من فوقهما من الآباء
بيانه إذا ترك عمين وخالين فعنده الوصية للعمين للقرب وعندهما بين الكل أرباعا
ولو ترك عما وخالين فللعم النصف والنصف للخالين عندهلأن اسم الجمع في الوصية ينصرف إلى اثنين فيستحق كل واحد النصف فيكون للأقرب النصف والنصف للأبعدين بينهما سواء
وإن ترك عما واحدا ولم يكن له غيره من ذوي الرحم المحرم فالنصف للعم والنصف رد على الورثة عنده
وعندهما يصرف إلى ذي الرحم الذي ليس بمحرم
وإن كان أوصى لذي قرابته فجميع الثلث للعم لما بينا
ولو أوصى لأهل بيت فلان أو لحسبه أو نسبه أو لأنسبائه فهذا يقع على قرابة أبيه الذين ينسبون إليه إلى أقصى أب له في الإسلام دون قرابة أمه لأن النسب والحسب والبيت يختص بالأب دون الأم
وكذا لو أوصى لآل فلان فهو بمنزلة أهل بيت فلان
ولو أوصى لأهل فلان فالقياس أن يقع على زوجة فلان خاصة وهو قول أبي حنيفة وعندهما يصرف إلى جميع من كان في عياله من الأحرار ولا يدخل فيه المماليك وأما الابن الكبير الذي اعتزل عنه والبنت التي في بيت الزوج فلا تدخل
ولو أوصى لبني فلان فإن كانوا لا يحصى عددهم كبني تميم وبني العباس فإنه يصرف إلى جميع القبيلة
ويدخل فيهم الحليف والموالى بسبب الولاء والعتاقة لأن هذا بمنزلة الصدقة وله أن يصرف إلى واحد وأكثر عند أبي يوسف لأنه اسم جنس وعند محمد يصرف إلى اثنين وأكثر دون الواحد لأن اسم الجمع في الوصية يقع على الاثنين والذكر والأنثى فيه سواء لأنه اسم للقبيلة
ولو كانوا يحصون وأبوهم من العرب فإنه يدخل فيه بنو فلان من العرب دون الحلفاء والموالي
ثم عند أبي حنيفة يدخل فيه الذكور من أولاد الصلب دون الإناث
وقال أبو يوسف و محمد يدخل فيه الكل وهو قول أبي حنيفة الأول
وأجمعوا أنه إذا كان الكل إناثا لا يدخلون
وأما إذا لم يكن لفلان ولد الصلب فإن الوصية للذكور من أولاد البنين عند أبي حنيفة وعندهما يدخل الكل
وهل يدخل بنو البنات فروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم يدخلون وذكر في السير الكبير أنهم لا يدخلون
ولو كان له ابن واحد وبنو بنين فللابن النصف والباقي للورثة دون بني البنين وعندهما للابن النصف والباقي لبني البنين
ولو كان له ابنان وبنو ابن فالكل للابنين لأن الابنين في الوصية بمنزلة الجمع
ولو كان له ابن واحد وبنات فالنصف للابن والباقي للورثة عند أبي حنيفة
وعندهما للابن النصف والباقي للبنات
ولو كان له بنات وبنو ابن فلا شيء لهم بل للورثة عنده وعندهما للكل على السواء
ولو أوصى لولد فلان فإنه يدخل فيه الذكر والانثى على السواء ويدخل فيه الجنين الذي يولد لأقل من ستة أشهر ولا يدخل ولد الولد ما دام الصلبي حيا
ولو كان له بنات وبنو الابن فهي للبنات لا غير
ولو كان ولد واحد فالكل له لأن اسم الولد يقع له
ولو أوصى لعقب فلان فعقب الرجل هو ولده من الذكور والإناث
فإن لم يكن فولد ولده من الذكور دون الإناث ودون ولدالإناث
ويكون هذا الاسم بعد موت الأب لا قبله حتى إن الموصي إذا مات وفلان حي فلا شيء لهم لأنهم لا يكونون عقبا حال حياته
وكذا لو أوصى لورثة فلان فهو مثل عقب فلان إلا أن في العقب سهم الذكر والأنثى سواء في الورثة يكون بينهم على قدر المواريث
ولو أوصى لعصبة فلان فإنه يصح الوصية وإن لم يمت فلان حتى إذا مات الموصي تصرف الوصية إلى عصبته فإن كان له أب وابن فالعصبة هو الابن دون الأب ويكون للأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات
ولو أوصى لأختانه فالختن زوج كل ذات رحم محرم منه وكل ذي رحم محرم من أزواجهن من الذكر والأنثى وهم في الوصية سواء
ولو أوصى للأصهار فالصهر كل ذي رحم محرم من زوجته الذكر والأنثى
ولو أوصى لأيتام بني فلان فإنه يقع على من لا أب له
ولو أوصى لأيامى بني فلان فالأيم كل امرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا وعند محمد يقع على الثيب الأيم والأرملة كل امرأة محتاجة أرملت من زوجها ومالها
ثم هذه الوصايا نوعان فالوصية لقوم يحصون تقع على عدد رؤوسهم على السواء ذكرهم وأنثاهم غنيهم وفقيرهم صغيرهم وكبيرهم
فأما إذا كانوا لا يحصى عددهم فهو على ثلاثة أوجهإن أوصى لأهل الحاجة نصا بأن قال لفقراء بني تميم أو لمساكينهم وأراملهم فإنه يصح لأن الحق فيه لله تعالى والفقراء مصارف فصاحب الحق معلوم فصحت
والثاني أن يذكر اسما لا يدل على الحاجة لا عرفا ولا لغة كقوله أوصيت لبني فلان أو لأيامى بني فلان أو لشبانهم أو لكهولهم أو لشيوخهم فإنه لا يجوز لأن الوصية تقع لهم وهم مجهولون
والثالث أن يكون الاسم قد يقع على الفقراء إما في عرف اللغة أو في عرف الشرع كما إذا أوصى لأيتام بني فلان أو لعميانهم أو لزمناهم لقوله تعالى { واليتامى والمساكين } فمتى كانوا لا يحصون يستدل به أنه أراد به الفقراء منهم تصحيحا للوصية بخلاف ما إذا كانوا يحصون فإنه يقع على الأغنياء والفقراء جميعا لأنه يمكن العمل بحقيقة الاسم لأن الوصية تصح لهم
ولو أوصى لغلمان بني فلان ولصبيانهم يقع على من لم يحتلم
ولو قال لشبانهم أو لفتيانهم يقع على من بلغ منهم إلى أن يصير كهلا ودخل في الثلاثين إلا إذا غلبه الشمط قبل ذلك
والكهل يقع على من دخل في الثلاثين إلى خمسين إلا إذا غلب البياض
والشيخ يقع على الخمسين إلى آخر العمر إلا إذا غلب البياض قبله هذا هو الأشبه من الأقوال
فصل في الإيصاء
الله جل ذكره نقول الإيصاء جائز
ولا بد له من القبول من الموصي لأنه متبرع بالعمل فيه فلا بد من قبوله
وكان ينبغي أن يعتبر القبول بعد الموت كما في الوصية بالمال لأنه إيجاب بعد الموت لكن جاز هاهنا القبول في حال الحياة بخلاف الوصية بالمال لضرورة أن الميت إنما يوصي إلى من يعتمد عليه من الأصدقاء والأمناء فلو اعتبر القبول بعد الموت فربما لا يقبل فلا يحصل غرضه وهو الموصي الذي اختاره
وإذا صح فلا يخلو إما أن كان الموصي حاضرا أو غائبا
فإن كان حاضرا وقبل مواجهة صح
ولو أراد أن يرد الوصاية ويرجع لا يصح بدون محضر الموصي أو علمه لما فيه من الغرور به
وإذا رد في المواجهة صح
فأما إذا كان غائبا فبلغه الخبر فقبل فلا يصح رده إلا بحضرة الموصي
وإذا بلغه ولم يقبل ورده صح بغير محضره لأنه ليس بغرور
وأما إذا بلغه بعد الموت فإذا قبل أو تصرف في التركة تصرفا يدلعلى قبوله فلا يصح رده إلا عند الحاكم لأنه قائم مقام الموصي كالوكيل لا يملك عزل نفسه في حال غيبة الموكل ويملك في حال حضرته
فأما إذا لم يقبل ورد كما علم يصح وله الخيار بين أن يقبل ويرد لأنه متبرع في العمل فلا يجبر عليه
ولو لم يعلم القاضي بأن للميت وصيا والوصي غائب فأوصى إلى رجل فالوصي هو وصي الميت دون وصي القاضي لأنه اتصل به اختيار الميت كما إذا كان القاضي عالما
ثم للقاضي أن يعزل وصي الميت إذا كان فاسقا غير مأمون على التركة
وإن كان ثقة لكنه ضعيف لا يقدر على التصرف وحفظ التركة بنفسه فإن القاضي يضم إليه غيره ولا يعزله لاعتماد الموصي عليه لأمانته فيحصيل الغرض بهما
ولو أوصى الميت إلى رجل ثم أوصى إلى آخر كان هذا اشتراكا في الوصاية ما لم ينص على عزل الأول وإخراجه
وكذلك هذا من القاضي
ولو أنه أوصى إلى رجل بقضاء دينه وأوصى إلى آخر بأن يعتق عنه فهو وصيان فيهما جميعا عند أبي حنيفة و أبي يوسف
وكذلك إذا أوصى بنصيب بعض ولده إلى رجل وبنصيب من بقي إلى آخر
وعلى هذا لو أوصى بميراثه في بلد إلى رجل وفي بلد آخر إلى آخر
وكذلك لو أوصى بتقاضي الدين إلى رجل وبنفقة الورثة إلى آخر وبحفظالمال إلى آخر
وكذا إذا أوصى إنسان للحال وإلى آخر إن قدم فإذا قدم فلان فهو وصي دون الأول فهما وصيان في ذلك كله عند أبي حنيفة و أبي يوسف خلافا ل محمد لأن الوصاية لا تتجزأ عندهما متى ثبتت في البعض تثبت في الكل
وروي عن أبي حنيفة فيمن أوصى إلى فلان حتى يقدم فلان فإذا قدم فهو الوصي دون الأول فهو كما قال فيكون عن أبي حنيفة روايتان في هذا
ويجوز أن يكون الأول قول أبي يوسف خاصة
وعند و محمد كل واحد منهما وصي فيما جعل إليه هذا هو المشهور من الخلاف
ولو أوصى إلى رجل وهو وصي لرجل آخر فإنه يكون وصيا في تركته وتركة الأول عندنا خلافا لابن أبي ليلى
ولو أوصى إلى رجلين فإن أحدهما لا ينفرد بتصرف يحتاج فيه إلى الرأي عند أبي حنيفة ومحمد
وعند أبي يوسف ينفرد
ثم إن عندهما ينفرد في أشياء مخصوصة بأن يكون في تأخير التصرف ضرر إلى حضرة صاحبه أو لا يحتاج فيه إلى الرأي وذلك نحو شراء الكفن وجهاز الميت وكذا جمع الأموال المتفرقة من قبض الديون والودائع والمغصوب
وكذلك في أداء ما على الميت من رد الودائع والمغصوب وقضاء الدين وتنفيذ الوصية بألفين أو بألف مرسلة أو بإعتاق عبد بعينه بخلاف الوصية بأعمال البر أو إعتاق عبد غير معين لأنه يحتاج فيه إلى الرأي
وكذا شراء ما لا بد لليتيم منه نحو الإنفاق والكسوة وكذا قبولالهبة وبيع ما يتسارع إليه الفساد لأن فيه منفعة للصبي
وهكذا ينفرد بالخصومة للميت وعليه
ولو مات أحد الوصيين وأوصى إلى رجل آخر جاز ويكون قائما مقامة
وإن لم يوص إلى آخر فللقاضي أن ينصب وصيا آخر حتى ينفذ تصرفهما عندهما خلافا لأبي يوسف
ثم وصي الأب أولى من الجد
فإن لم يكن فالجد ثم وصي الجد
فإن لم يكن فالقاضي ووصي القاضي
ثم ينظر إن كان في التركة دين يملك الوصي بيع كل شيء لقضاء الدين من العقار والمنقول
وإن لم يكن دين والورثة كلهم صغار يملك بيع كل شيء وإمساك ثمنه والتصرف فيه
وإن كان كلهم كبارا وهم حضور ليس له ولاية بيع شيء إلا إذا كان فيه وصايا
وإن كانوا غيبا يملك بيع المنقول لأن حفظ الثمن أيسر وله ولاية حفظ مال الغائب ولا يملك بيع العقار
وإن كان بعضهم صغارا وبعضهم كبارا غيبا يملك بيع العقار عند أبي حنيفة وعندهما لا يصح في حصة الكبار
وأما وصي الأم والأخ والعم فهؤلاء بأنفسهم يملكون حفظ مال الصبي وبيع المنقول لأنه من باب الحفظ
ولو قال لرجل إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا فأنت وصي في مالي فبرأ ولم يمت حتى رجع من السفر ثم مات لا يكون وصيا لأنه تعلق بشرط خاص ولم يوجد
ولو أوصى إلى عبد إنسان أو إلى ذمي أو إلى صبي عاقل فإنه لا ينفذ ويخرجه القاضي
ولو عتق العبد وأسلم الذمي قبل إخراج القاضي تنفذ الوصايا
وإذا بلغ الصبي لا تنفذ عند أبي حنيفة وعندهما تنفذ
ولو تصرف العبد أو الذمي قبل الإخراج يصح في رواية ولا يصح في رواية وفي الصبي لا يصح بالإجماع
ولو أوصى إلى عبد نفسه فإن لم يكن في الورثة كبير جاز عند أبي حنيفة خلافا لهما
ولو كان في الورثة كبير لا يصح بالإجماع
باب الرجوع عن الوصية
أصل الباب أن الرجوع في الوصية صحيح لأنه تبرع لم يتم لأن القبول فيه بعد الموت فيملك الرجوع كالرجوع عن الإيجاب في البيع قبيل القبول
وإذا ثبت أنه يصح الرجوع فيه فكل فعل يوجد من الموصي فيه دلالة على تبقية الملك لنفسه يكون رجوعا
وكل فعل يدل على إبقاء العقد وتنفيذ الوصية لا يدل على الرجوع كما إذا وجد منه فعل لو فعل في ملك غيره ينقطع حق الملك للمالك ويصير ملكا له
فإذا فعل بعد الوصية في الموصى به ما يدل على إبقاء الملك فيه لنفسه فيكون رجوعا كما إذا أوصى بثوب ثم قطعه وخاطه ونظائره كثيرة
وكذا إذا اتصلت بعين الموصى به زيادة لا يمكن تمييزها ولا يستحق عليه نقضها فإنه يكون رجوعا لأنه لا يمكن تسليمها إلا بتسليم تلك الزيادة ولا يجب عليه ذلك فيدل على الرجوع وذلك كالسويق إذالته بالسمن أو بني بناء في الدار الموصى بها وكذلك لو أوصى بقطن ثم حشا به قباء وضربه أو بثوب فجعله ظهارة أو بطانة لأنه لا يجب عليه نقض ذلك لكونه تصرفا في ملكه
وكذلك لو أزال الموصى به عن ملكه بأن باعها ثم اشتراهابطلت الوصية
ولو ذبح الشاة تبطل الوصية بنفس الذبح لأنه يدل على الرجوع لأن الذبيحة لا تبقى إلى ما بعد الموت
ولو أوصى بقميص ثم نقضه وجعله قباء يكون رجوعا
ولو لم يخطه قباء لكن نقض القميص فيه اختلاف المشايخ
ولو أوصى بدار ثم جصصها أو هدمها لا يكون رجوعا لأن البناء تبع والتجصيص زينة
وكذلك لو غسل الثوب الموصى به لإزالة الوسخ
ولو قال أوصيت بهذا العبد لفلان ثم قال أوصيت بهذا لفلان آخر يكون شركة
ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان يكون للثاني ولا يكون شركة
ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان يكون شركة
ولو أوصى ثم أنكر الوصية وجحدها فالجحود لا يكون رجوعا عند أبي يوسف وعند محمد يكون رجوعا
ولو أوصى بعبد لإنسان ثم قال ما أوصيت لفلان فهو لعمرو وهو حي ثم مات عمرو قبل موت الموصي يكون ميراثا لأن الوصية انتقلت إلى عمرو فإذا مات قبل موت الموصي بطلت الوصية فيكون ميراثا
ولو قال ما أوصيت لفلان فهو لعقب عمرو وعمرو حي فإن مات عمرو قبل موت الموصي فهو لورثة عمرو لأنهم صاروا عقباله قبل نفاذ الوصية بالموت ولو مات الموصي وعمرو حي فتكون الوصية لفلان لأنه لم تنتقل الوصية إليهم لأن العقب لا يكون قبل موت عمرو
ولو أوصى بسيف لإنسان فهو له بغمده وحمائله عند أبي حنيفة وزفر
وقال أبو يوسف له السيف لا غير
وكذا لو أوصى بالميزان والقبان والسرج فعند زفر يدخل كل ما كان توابع ذلك الشيء
وعند أبي يوسف يدخل ما كان متصلا به
وفي المصحف الذي له غلاف عند أبي حنيفة و أبي يوسف لا يدخل الغلاف
وعند زفر يدخل فأبو يوسف مر على أصله وكذا زفر
وأبو حنيفة إما أن يفرق بين المصحف وسائر المسائل أو يكون عنه روايتان
ولو أوصى بشيء في الظرف فإن المعتبر فيه العادة إن كان مما يباع مع الظرف يدخل وإلا فلا
كتاب الوكالة
يحتاج إلى بيان الوكالة لغة وشرعا وإلى بيان أنواعها
أما الوكالة في اللغة فهي الحفظ قال الله تعالى { حسبنا الله ونعم الوكيل } أي ونعم الحافظ
وقد يراد بها التفويض يقال توكلت على الله أي فوضت أمري إليه
وفي الشرع كذلك هي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل
ولهذا قال أصحابنا من قال وكلت فلانا في مالي يصير وكيلا في الحفظ لأنه أدنى
ثم الوكالة نوعان أحدهما في حقوق الله تعالى والثانى في حقوق العباد أما الوكالة في حقوق الله تعالى
فنوعان في الإثبات والاستيفاء
الأول التوكيل في إثبات الحدود وهو الذي يحتاج فيه إلى الخصومة من حد السرقة وحد القذف وفيه خلاف قال أبو حنيفة و محمد يجوز وقال أبو يوسف لا يجوز
وكذا الخلاف في إثبات القصاص أيضا
أما في غيرهما فلا يحتاج فيه إلى الخصومة فلا يصح فيه التوكيل في الإثبات بل يثبت ذلك عند القاضي بالشهود والإقرار
وأما في الاستيفاء فإن كان المسروق منه حاضرا والمقذوف يجوز التوكيل بالاستيفاء لأن ذلك إلى الإمام وهو لا يقدر أن يباشر بنفسه على كل حال
وإن كان غائبا اختلف المشايخ قيل يجوز لأنه لا يصح العفو والصلح عنهما
وقيل لا يجوز لأنه يحتمل الإقرار والتصديق
وأما في القصاص فإن كان الولي حاضرا يجوز وإن كان غائبا لا يجوز لاحتمال العفو
وأما الوكالة في حقوق العباد فأنواع منها الوكالة في الخصومة في إثبات الدين والعين والحقوق
واختلفوا فيها قال أبو حنيفة لا يصح من غير رضا الخصم إلا من عذر السفر أو المرض أو كانت امرأة مخدرة
وقال أبو بكر الرازي جواب أصحابنا في الرجل والمرأة سواء وإنما هذا شيء استحسنه المتأخرون
وعلى قول أبي يوسف و محمد يصح من غير رضا الخصم في الأحوال كلها وهي مسألة معروفةوإذا صح التوكيل بالخصومة فإذا أقر الوكيل على موكله فعند أبي حنيفة ومحمد يصح في مجلس القضاء ولا يصح في غير مجلسه
وقال أبو يوسف يصح فيهما جميعا
وقال زفر و الشافعي لا يصح أصلا
وأجمعوا أنه إذا استثنى الإقرار وتزكية الشهود في عقد التوكيل يصح ويكون وكيلا بالإنكار لا غير
وأما إذا وكل بالخصومة مطلقا ثم استثنى الإقرار في كلام منفصل فعند محمد لا يجوز وعند أبي يوسف يصح
وأجمعوا أن إقرار الأب والوصي وأمين القاضي على الصغير لا يصح
وأما التوكيل بالإقرار إن ثبت عنده ذكر الطحاوي أنه لا يجوز وذكر في الوكالة أنه يجوز
والوكيل بالخصومة في مال إذا قضى القاضي بالمال هل يملك القبض فعندنا يملك وعند زفر لا يملك
أما الوكيل بتقاضي الدين فيملك القبض أيضا في ظاهر الرواية ولكن أصحابنا المتأخرون قالوا لا يملك بحكم العرف كالوكلاء في باب القضاء
وأما الوكيل بقبض الدين فهل يملك الخصومة في إثبات الدين إذا أنكر الغريم عند أبي حنيفة يملك وعندهما لا يملك
وأجمعوا أن الوكيل بقبض العين إذا أنكر الغريم لا يملك الخصومة
وأجمعوا أن الوكيل بالملازمة لا يملك القبض
وقالوا في الوكيل بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة إنه يملك الخصومة
ثم لكل واحد من الخصمين أن يعزل وكيله من غير محضر من خصمه إلا إذا كان وكيلا بالتماس الخصم فلا بد من حضرة الخصم حتى يصح عزله ولكن لا بد من علم الوكيل أو حضرته حتى يصح عزله حتى لا يؤدي إلى الغرور في حقه
وكذا الجواب في كل وكالة
وإذا بلغ الوكيل الخبر بالعزل بالكتابة أو بالرسالة ينعزل بلا خلاف
وأما إذا جاءه على وجه الخبر لم ينعزل عند أبي حنيفة حتى يخبره رجل عدل أو رجلان على أي صفة كانا فالشرط عنده أحد شطري الشهادة إما العدالة أو العدد
وعندهما خبر الواحد مقبول ولا يشترط العدالة لأن هذا من باب المعاملة
ومنها الوكالة بقبض الدين صحيحة لحاجة صاحبه إلى قبض الوكيل لعجزه عن قبض ديونه بنفسه كلها إلا أن في قبض رأس مال السلم وثمن الصرف يصح التوكيل في المجلس لا خارج المجلس لأن الموكل يملك القبض في المجلس لا غير
وإذا قبض الوكيل يبرأ المديون وصار المقبوض ملكا لصاحب الدين ويكون أمانة في يد الوكيل ويكون حكمه حكم المودع في أن يقبل قوله إنه دفعه إلى صاحب الدين وفي كل ما يبرأ به المودع من الوديعة
وليس للوكيل بالقبض أن يوكل غيره لأنه رضي برأيه وأمانته وحده
فإن فعل ذلك وقبض الوكيل الثاني لم يبرأ الغريم من الدين لأن التوكيل لم يصح فهو كالأجنبي إلا إذا وصل ما قبض إلى الوكيل الأول لأنه وصل إلى يد من هو نائب المالك فإن هلك في يد القابض قبل ذلك ضمنه الذي قبضه ولم يبرأ الدافع من الدين الذي عليه وكان للطالب أن يأخذ الغريم بدينه
فإذا أخذه منه رجع الغريم على من دفعه إليه فيرجع الوكيل الثاني على الأول إن هلك ما قبض في يده إلا إذا قال الموكل للوكيل بالقبض اصنع ما شئت فله أن يوكل غيره بالقبض
وليس للوكيل بقبض الدين أن يأخذ عينا مكانه لأن هذا عقد معاوضة وقد وكله بقبض حقه لا غير لا بالاستبدال ولا بالاعتياض
ولو وكل رجلين بقبض دينه فليس لأحدهما أن يقبض دون صاحبه لأنه رضي برأيهما لا برأي أحدهما فإن قبض أحدهما لم يبرأ الغريم حتى يصل ما قبض أحدهما إلى صاحبه فيقع ذلك في أيديهما جميعا أو يصل إلى الموكل لأن المقصود بالقبض قد حصل فكأنهما قد قبضاه ابتداء
ولو أن الوكيل بقبض الدين قبضه فوجده معيبا فما كان للموكل رده فللوكيل رده وأخذ بدله لأنه قائم مقامه
ولو كان لرجل على رجل دين فجاءه رجل وقال له إن الطالب أمرني بقبضه منك فدفعه إليه ثم جاء الطالب وأنكر أن يكون أمره بذلك فهذا على ثلاثة أوجه أحدها إن صدق الوكيل بالوكالة ودفعه إليه فإنه يقال له ادفع الدين إلى الطالب ولا حق لك على الوكيل لأنه أقر بالوكالة ذوإقراره صحيح في حق نفسه فكأنه يقول إن الطالب ظلمني بالقبض فلا أظلم الوكيل القابض بحق
والثاني إن صدقه وضمنه ما دفعه إليه ثم حضر الموكل ورجع عليه رجع هو على القابض لأنه وإن اعترف أنه قبض بحق وأن الطالب ظالم فيما قبض ولكنه ضمنه ما يطلبه الطالب بغير حق فيصح الضمان كما لو قال ما غصبك فلان فهو علي
والثالث إن كان المطلوب يقول كذب الوكيل في الوكالة أو لم يصدق ولم يكذب ودفعه إليه ثم حضر الطالب وأخذ منه رجع على الوكيل لأنه لما كذبه أو لم يكذبه ولم يصدقه ثم طالبه عاد إلى التكذيب وله ذلك فلم يقر بكونه قابضا بحق فله أن يرجع
وأما التوكيل بالشراء فنقول جملة هذا أن الوكالة على ضربين وكالة عامة ووكالة خاصة
أما الوكالة العامة فإنها تصح مع الجهالة الكثيرة كما إذا قال اشتر لي ما شئت أو ما رأيت لأنه فوض الرأي إليه فصار بمنزلة البضاعة والمضاربة
وأما الوكالة الخاصة فالقياس أن لا تجوز ما لم يذكر الجنس وقدر الثمن والصفة كما في البيع
وفي الاستحسان أن الجهالة اليسيرة لا تمنع
وإنما تقل الجهالة إذا كان اسم ما وكل بشرائه لا يتناول إلا نوعا واحدا وذكر فيه أحد أمرين إما الصفة أو مقدار الثمن
فإذا كان الاسم يتناول أنواعا مختلفة أو في حكم الأنواع المختلفة فإن الجهالة كثيرة فلا تجوز الوكالة وإن بين مقدار الثمن أو الصفة أوكلاهما ما لم يبين مع ذلك نوعا منه
أما بيان الأول إذا قال الموكل للوكيل اشتر لي عبدا أو جارية إن بين الثمن أو الصفة بأن قال تركيا أو روميا أو هنديا جاز لأنه تقل الجهالة بذكر أحدهما وبحال الموكل
ولو قال اشتر لي حمارا أو بغلا أو فرسا ولم يبين له صفة ولا ثمنا قالوا يجوز لأن النوع لم يختلف والصفة تكون معلومة بحال الموكل
ولو قال اشتر شاة أو بقرة ولم يبين له صفة ولا ثمنا لم يجز لأنها لا تصير معلومة الصفة بحال الموكل وقد ذكرنا أنه لا بد من أن تكون الصفة أو الثمن معلوما
وأما بيان الثاني إذا قال اشتر لي حيوانا أو مملوكا أو دابة أو ثوبا لا يجوز وإن بين الثمن لأن الاسم يقع على أنواع مختلفة
وكذا إذا قال اشتر لي جوهرا لما قلناه
وكذا إذا قال اشتر لي حنطة لا تجوز الوكالة ما لم يبين الثمن أو عدد القفزان
ولو وكله بشراء عبد أو جارية وسمى الثمن أو الصفة فاشترى أعمى أو مقطوع اليدين أو الرجلين فإنه يجوز ذلك عند أبي حنيفة إذا اشترى ما يسمى عبدا أو جارية وعندهما يجوز الأعور أو مقطوع أحد الطرفين فأما فائت جنس المنفعة فلا يجوز
ولو وكله بأن يشتري له طعاما ولم يبين له فإن كان الثمن قليلايصرف إلى الخبز وإن كثيرا انصرف إلى الحنطة والدقيق
ولو قال اشتر لي بدرهم لحما انصرف إلى ما يباع في السوق في الأغلب دون لحم الوحش والطير والسمك والشواء والمطبوخ
وفي الرأس ينصرف إلى المشوي دون النيء ويقع على رأس الغنم دون البقر وهو أمر مبني على العادة
ولو قال اشتر لي جارية بعينها بمائة دينار فاشتراها بدراهم تكون قدر قيمة مائة دينار أو أقل جاز على الآمر في قياس قول أبي حنيفة و أبي يوسف
وقال زفر لا يلزم الآمر وهذا رواية الحسن بن زياد
وقال الكرخي المشهور من قول أبي حنيفة و أبي يوسف و محمد أنه لا يجوز أن يشتريها بالدراهم كما قال زفر لأنهما جنسان مختلفان
ثم الوكيل بالشراء إذا خالف يصير مشتريا لنفسه
فأما الوكيل بالبيع إذا خالف يكون موقوفا على إجازة صاحبه والفرق ظاهر
وأما التوكيل بالبيع فنقول عند أبي حنيفة الوكيل بالبيع مطلقا له أن يبيع بما عز وهان بأي ثمن كان وإن كان غبنا فاحشا وسواء كان الثمن عينا أو دينا
وعندهما لا يجوز إلا أن يبيع بالأثمان بمثل قيمته
وأما إذا باع الوكيل بعض ما وكل ببيعه فهو على وجهين إن كان ذلك مما لا ضرر في تبعيضه جاز بالاتفاق مثل المكيل والموزون أو يبيع شيئين
وإن كان في تبعيضه ضرر بأن كان التوكيل ببيع عبد
فباع نصفه جاز عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز إلا أن يجيزه الموكل
ثم الوكالة نوعان منها ما لا حقوق له إلا ما أمر به كالوكالة بتقاضي الدين والوكالة بالملازمة ونحوهما
ومنها ما يكون حقوقه للوكيل وعليه
ومنها ما يكون حقوقه للموكل وعليه
فكل ما لا يحتاج فيه إلى إضافة العقد إلى الموكل ويكتفي فيه بالإضافة إلى نفسه كالبياعات والأشربة والإجارات والصلح عن إقرار ونحوها فإن الحقوق ترجع إلى الوكيل حتى يجب عليه تسليم المبيع وقبض الثمن ويخاصم المشتري الوكيل في العيب ويجب عليه الضمان عند الاستحقاق إلا إذا كان العقد ليس من أهل لزوم العهد كالصبي المحجور والعبد المحجور والقاضي وأمين القاضي ونحو ذلك
وللوكيل أن يوكل غيره في الحقوق
وليس للموكل أن يباشر ذلك بنفسه ما دام الوكيل قائما فإن مات الوكيل أو جن جنونا مطبقا وهو شهر عند أبي يوسف وحول عند محمد يخرج الوكيل من الوكالة وترجع العهدة إلى الموكل
وأما ما يحتاج فيه إلى الإضافة إلى الموكل كالنكاح والخلع والطلاق على مال والصلح عن دم العمد والعتق على مال والكتابة والصلح عن إنكار ونحوها فالحقوق ترجع إلى الموكل
ثم الوكيل بالبيع إذا رد عليه المبيع بالعيب يملك أن يبيعه مرة أخرى
وكذلك في كل ما يكون هو الخصم فيه
ولو أن الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري من الثمن أو أجله أو أخذ بالثمن عوضا غيره أو صالحه من الثمن على شيء فذلك كله جائزعلى الوكيل عند أبي حنيفة ويضمن للموكل وعلى قولهما لا يجوز شيء من ذلك
وإن ارتد الوكيل توقفت الوكالة فإن أسلم جاز وإن قتل على ردته أو لحق بدار الحرب مرتدا وحكم بالحاقه تبطل وعندهما جائزة وأصل المسألة أن تصرفات المرتد موقوفة عنده وعندهما نافذة
وتصرفات المرتدة نافذة بلا خلاف
فإن رجع مسلما عاد إلى وكالته عند محمد وعند أبي يوسف لا يعود
كتاب الكفالة
قال يحتاج إلى بيان الكفالة لغة وشرعا وإلى بيان ألفاظ الكفالة وإلى بيان شرائط صحتها وإلى بيان أنواع المكفول به وإلى بيان أحكامها
أما الأول فالكفالة لغة هي الضم قال الله تعالى { وكفلها زكريا } أي ضمها إلى نفسه
وفي الشرع ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة أو في حق أصل الدين على حسب ما اختلف المشايخ فيه
وأما ألفاظ الكفالة فأن يقول الكفيل للطالب دعه فأنا ضامن ما عليه أو كفيل بذلك أو قبيل أو زعيم أو هو إلي أو علي أو هو لكعندي أو هو لك قبلي
وقد ذكرنا في كتاب الإقرار إذا قال لفلان عندي كذا يكون إقرارا بالوديعة وهاهنا يكون ضمانا لأن قوله عندي يحتمل هو في يدي ويحتمل هو في ذمتي فيقع على الأدنى وهو الوديعة فأما الدين فلا يكون إلا في الذمة ولا يكون في اليد فحمل على الوجوب هاهنا
وأما شرائطها فمن ذلك أن يكون الكفيل من أهل التبرع لأن الكفالة تبرع بالتزام المال
فلا يصح في الصبي والعبد المحجور عليه
وكذا لا تصح كفالة المكاتب
وكذا كفالة المريض لا تصح إلا من الثلث كتبرعه
ومن شرطها أيضا أن يكون الدين صحيحا سواء كان على الصغير أو العبد المحجور لأنه يطالب بعد العتق
أما الكفالة ببدل الكتابة فإنه لا تجوز لأنه ليس بدين صحيح لأنه لا يجب للمولى على عبده شيء وإنما وجب مخالفا للقياس لصحة الكتابة نظرا للعبد حتى يصل إلى العتق
وأما المكفول به فنوعان الديون والأعيان
وما الكفالة بالديون فصحيحة بلا خلاف وصاحب الدين بالخيار إن شاء طالب الأصيل وإن شاء طالب الكفيل ولا يوجب براءة الأصيل عندنا
وعند ابن أبي ليلى يوجب البراءة وهذا فاسد لأنه يصير الكفالة والحوالة سواء
وأيهما اختار مطالبته لا يبرأ الآخر بخلاف غاصب الغاصب مع الغاصب فإن للمالك أن يضمن أيهما شاء وإذا اختار تضمين أحدهما لم يكن له اختيار الآخر
وكذا في إعتاق أحد الشريكين الشريك الساكت بالخيار بين أن يضمن المعتق إن كان موسرا وبين أن يستسعي العبد فإذا اختار أحدهما ليس له أن يختار الآخر
وجملة هذا أن الكفيل ليس له أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن يؤدي عنه شيئا إلا أنه إذا طولب طالب المكفول عنه بالخلاص
فإن حبس كان له أن يحبس المكفول عنه
أما إذا أدى فينظر إن كان كفل بغير أمره فلا يرجع عندنا خلافا لمالك لأنه تبرع بقضاء دين غيره وإن كفل عنه بأمره وهو ممن يجوز إقراره على نفسه بالدين ويملك التبرع يرجع عليه لأن الكفالة في حق المكفول عنه استقراض وهو طلب القرض والكفيل بالأداء مقرض للمكفول عنه ونائب عنه في الأداء إلى المكفول له وفي حق المكفول له تمليك ما في ذمة المكفول عنه من الكفيل بما أخذه من المال فيرجع عليه بما أقرضه حتى إن الصبي المحجور إذا أمر رجلا بأن يكفل عنه فكفل وأدى لا يرجع عليه لأن استقراض الصبي لا يتعلق به الضمان وأما العبد المحجور فلا يرجع عليه إلا بعد العتق لما قلنا
ولو وهب صاحب الدين المال لأحدهما جاز وذلك بمنزلة أداء المال
وكذا لو مات الطالب فورثه أحدهما لأن بالهبة والميراث يملك ما في ذمته فإن كان الموهوبله أو الوارث هو الكفيل فقد ملك ما في ذمته فيرجع على الأصيل كما لو ملك ذلك بالأداء
وإن كان الموهوب له أو الوارث هو المكفول عنه برىء الكفيل كأنه أدى
ولو أبرأ الطالب الأصيل فقد برئا جميعا
وإن أبرأ الكفيل برىء دون الأصيل سواء كان ذلك بأمر المكفول عنه أو لا
ولو قال لأحدهما برئت إلي من المال فهو إقرار بالقبض بالاتفاق لأن هذا اللفظ يستعمل في الأداء
ولو قال لأحدهما برئت من المال فهو إقرار بالقبض عند أبي يوسف كأنه قال برئت إلي من المال
وعند محمد بمنزلة قوله أبرأتك من المال
ثم الكفيل يرجع بما ضمن لا بما أدى لأنه ملك ما في ذمة الأصيل حتى أنه إذا كان عليه دراهم صحاح جيدة فأدى زيوفا وتجوز به صاحب الدين فإنه يرجع بالجياد
وكذا لو أدى عنها من المكيل والموزون أو العروض فإنه يرجع بالدراهم بخلاف الوكيل بقضاء الدين فإنه يرجع بما أدى لا بما على الغريم وبخلاف الصلح إذا صالح من الألف على خمسمائة فإنه يرجع بخمسائة لا بالألف لأنه إسقاط البعض
ولو كفل لرجل بمال إلى القطاف أو إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى النيروز أو إلى المهرجان ونحوها من الآجال المجهولة يصح عندنا خلافا للشافعي بخلاف البيع إلى هذه الآجال فلا يجوز بالإجماع
ولو كان عليه ثمن بيع أو دين حال فأجله إلى هذه الآجال يصح أيضا بمنزلة الكفالة
ولا خلاف في جواز الكفالة إلى أجل معلوم من الشهر والسنة ونحوها
أما إذا كفل إلى أجل مجهول لا يشبه آجال الناس مثل مجيء المطر وهبوب الريح فالأجل باطل والكفالة جائزة لأن الكفالة وردت منجزة لكن الأجل باطل فلم يصح التأجيل فتبقى الكفالة حالة
أما إذا علق الكفالة بشرط فإن كان ذلك سببا لوجوب الحق أو وسيلة إلى الأداء في الجملة مثل أن يقول إذا قدم زيد أو استحق المبيع فالكفالة جائزة لأنه سبب للوصول إلى الأداء لأن زيدا ربما يكون مضاربا
فأما إذا قال إذا جاء المطر أو هبت الريح أو دخل زيد دارنا فأنا كفيل عندك بكذا فإنه لا يجوز لأن الأموال لا يجوز أن يتعلق وجوبها بالشروط
ولو كان على رجل دين مؤجل فكفل به رجل مطلقا فإنه يكون مؤجلا لأنه التزم مثل ما على الأصيل فإن سمي الكفيل أجلا زائدا عليه أو ناقصا أو مثله يلزمه كذلك لأنه متبرع فيلزمه على حسب ما تبرع به
ولو كان المال حالا فكفل إنسان مؤجلا بأمر المكفول له فإنه يجوز فيكون تأجيلا في حقهما في ظاهر الرواية
وفي رواية ابن سماعة عن محمد أنه حال على الأصيل مؤجل في حق الكفيل
ولو كفل عن رجل لرجل والمكفول له غائب فبلغه الخبر فأجاز لا يصح ولا تتوقف الكفالة على قبوله وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف خلافا لهما فهذا كذلك إلا أنهما استحسنا في المريض إذا قال عند موته لورثته اضمنوا ما علي من الدين لغرمائي وهم غيب ففعلوا فهو جائز ويلزمهم نظرا للغرماء
ولو كفل رجلان رجلا بألف درهم بأمره ولم يكفل كل واحد عن صاحبه فإن على كل واحد منهما خمسمائة لاستوائهما في الكفالة
ولو أدى أحدهما لا يرجع على صاحبه لأنه يؤدي عن نفسه لا عن صاحبه لكن يرجع على الأصيل بما أدى
ولو لقي المكفول له الكفيلين يعد ذلك فكفل أحدهما عن صاحبه صح لأن الكفالة عن الكفيل صحيحة ثم ما أدى فالقول قوله إنه أدى من كفالة الكفيل الآخر أو من كفالة نفسه لأنه لزمه المال من وجهين
ولو لقي المكفول له الكفيل الآخر الذي لم يكفل فطلب منه أن يكفل عن صاحبه وكفل صح والجواب فيه وفيما إذا كان في الابتداء كفل كل واحد من الكفيلين عن صاحبه سواء وهو أن كل ما يؤدي كل واحد منهما إلى المكفول له فذلك عن نفسه إلى خمسمائة
ولو قال أؤدي عن شريكي لا عن نفسي لا يقبل ويكون عن نفسه
فأما إذا زاد على خمسمائة فيرجع بالزيادة على شريكه إن شاء وإن شاء على المكفول عنه
وعلى هذا إذا اشترى رجلان من رجل عبدا بألف درهم على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه ثمن حصته
وكذا الجواب في المفاوضين بعد فسخ الشركة إذا كان عليهما دين لصاحبه أن يطالب به كل واحد منهما وإذا أدى أحدهما النصف لا يرجع فإذا أدى زيادة على النصف له أن يرجع على صاحبه لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه
وأما الكفالة بالأعيان فهي أنواع ثلاثة أحدهما كفالة بعين هي أمانة غير واجبة التسليم كالوديعة وكمال المضاربة والشركة وهي لا تصح أصلا
والثاني الكفالة بعين هي أمانة ولكنها واجبة التسليم كالعارية والمستأجر في يد المستأجر وكذا العين المضمونة بغيرها كالمبيع قبل القبض مضمون بالثمن وكالرهن مضمون بالدين والجواب في الكل واحد وهو أنه تصح الكفالة بتسليم العين فمتى هلكت العين لا يجب على الكفيل قيمة العين
والثالث العين المضمونة بقيمتها كالمغصوب والمبيع بيعا فاسدا والمقبوض على سوم الشراء تصح الكفالة بها ويجب عليه تسليم العين ما دامت باقية وإذا هلكت يجب عليه تسليم قيمتها متى ثبت الغصب بالبينة أو الإقرار
ثم الكفالة بالنفس بعد الدعوى من قبيل القسم الثاني فإنه مضمون بالتسليم وإنه يجب عليه تسليم النفس والحضور إلى باب القاضي حتى يقيم الخصم البينة فتصح الكفالة به عندنا خلافا للشافعي ولكن لو هلك الكفيل لا شيء عليه من المال المدعى به حتى لا يؤخذ من تركته والمسألة معروفة
وكذا لو كفل بنفس من عليه التعزير
أما لو كفل بنفس من عليه حد القذف أو حد السرقة أو القصاص هل يجوز ذكر أبو الحسن أن الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص جائزة في قولهم إذا بذلها المطلوب بنفسه ولكن هل للقاضي أن يأمره بالتكفيل إذا طلب الخصم قال أبو حنيفة لا يأخذ القاضي منه كفيلا ولكن يحبسه حتى تقام عليه البينة أو يستوفي
ثم الكفيل بالنفس يؤخذ بإحضار المكفول عنه ما دام إحضارة ممكنا مقدورا
فإن صار بحال لا يقدر على إحضاره بوجه من الوجوه بأن مات بطلت الكفالة ولا شيء على الكفيل فأما إذا كان يرجى حضور المكفول عنه بأن غاب فإنه يتأخر المطالبة بالإحضار عنالكفيل للحال ويؤجل إلى مدة يمكنه الإحضار في تلك المدة فإن لم يحضره وظهرت مماطلته فإنه يحبس الكفيل فإذا ظهر للقاضي أنه لا يقدر على الإحضار بدلالة الحال أو شهد الشهود بذلك فإنه يخرج من الحبس وينظر إلى وقت القدرة كما في الإعسار في حق الدين وإذا أخرجه القاضي فإن الغرماء يلازمونه ولا يحول القاضي بينه وبين الغرماء ولكن ليس للغرماء أن يمنعوه من اشتغاله كما في الإفلاس سواء
هذا إذا كفل بالنفس مطلقا
فأما إذا ادعى عليه ألف درهم فكفل بنفسه على أن يوافيه به غدا فإن لم يوافه به غدا فعليه المال الذي ادعى فإن أقر المطلوب بالألف أو ثبت بالبينة وقضى القاضي وكفل على هذا الوجه صحت الكفالة بالنفس وتصح الكفالة بالمال معلقا بشرط ترك الموافاة غدا والكفالة بالشرط صحيحة فإذا لم يواف به غدا يؤخذ منه المال بسبب الكفالة بالمال وبقيت الكفالة بالنفس لأن من حجته أن يقول لي عليه مال آخر
ولو قال كفلت بنفسه على أني إن لم أواف به غدا فعلي الألف ولم يقل الألف الذين ادعيت فعلى قول محمد لا تصح الكفالة وعلى قولهما تصح كأنه قال فعلي الألف الذي تدعي لأنه هي المعهودة
فأما إذا أنكر المطلوب المال ثم كفل بنفسه على أن يوافيه به غدا وإن لم يواف به فعليه المال فلم يوافه به لا يلزمه المال لأن وجوب المال لا يتعلق بالخطر أما الكفالة بالمال الثابت فيتعلق بالخطر
ولو كفل بالنفس والمال وسماه ثم قال إن وافيتك به غدا فأنابريء منه فوافاه به من الغد يبرأ من المال في إحدى الروايتين وفي رواية لا يبرأ لأن هذا تعليق البراءة بالشرط وفي البراءة معنى التمليك فلا يصح تعليقه بالشرط
ولو كفل بالنفس على أن يوافي به عند القاضي غدا فسلمه إليه في السوق فإنه يبرأ
والأصل أنه إذا سلمه في مكان يقدر على أن يحضره فيه إلى القاضي فهو كتسليمه في مجلس القاضي
وكذا إذا سلمه في أطراف هذا المصر
ولو سلمه في قرية هذا المصر التي ليس فيها قاض لا يبرأ
ولو كفل على أن يدفع في مصر معين فدفع في مصر آخر يبرأ عند أبي حنيفة وفي كل موضع فيه قاض وعندهما لا يبرأ ما لم يسلم في ذلك المصر بعينه
كتاب الحوالة
الحوالة مشروعة لقوله عليه السلام من أحيل على مليء فليتبعه
ثم الحوالة مبرئة عندنا حتى يبرأ المحيل من الدين الذي عليه بالحوالة إلى المحتال عليه
وللمحتال له أن يطالب المحتال عليه لا غير
وقال زفر لا يبرأ وله أن يطالبهما كما في الكفالة
وكذا الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة أيضا عندنا لأنها حوالة معنى
ثم ليس للمحتال له أن يرجع على المحيل إلا إذا توى ما على المحتال عليه وذلك بطريقين عند أبي حنيفة بأن يموت المحتال عليه مفلسا أو يجحد المحتال عليه الحوالة ويحلف
وعندهما بهذين الطريقين وبطريق ثالث وهو أن يقضي القاضي بإفلاسه في حال الحياة لأن القضاء بالإفلاس صحيح عندهما في حالة الحياة وعند أبي حنيفة لا يصح
وعلى قول الشافعي لا يعود الدين إلى المحيل أبدا والمسألة معروفة
ثم الحوالة نوعان مطلقة ومقيدة أما المطلقة فأن يحيل صاحب الدين على رجل له مال عليه أو لم يكن وقبل ذلك الرجل
فإن لم يكن عليه مال يجب عليه أن يؤدي
وإن كان عليه مال ولم يقيد الحوالة به بأن لم يقل أحيله عليك بمالي عليك أو على أن تعطيه مما عليك وقبل المحتال عليه فعليه أداء الألفين ألف إلى المحيل وألف إلى المحتال له وللمحيل أن يطالبه بذلك الألف لأنه لم تتقيد الحوالة به كما إذا كان عند رجل ألف درهم وديعة فأحال غريمه عليه بألف درهم ولم يقيده بالألف الوديعة فقبله له أن يأخذ الوديعة وعلى المحتال عليه أداء الألف بالحوالة
فأما إذا قيد الأداء بالمال الذي عليه فليس للمحيل أن يطالبه بالأداء إليه لأنه تعلق به حق المحتال له فإذا أدى تقع المقاصة بينهما
ثم في الحوالة المطلقة إذا لم يكن على المحتال عليه دين فأدى إلى المحتال له أو وهب له المحتال له أو تصدق عليه أو ورث من المحتال له أو أدى المحتال عليه دنانير أو عروضا بدل الدراهم فإنه يرجع على المحيل بالمال بمنزلة الكفيل على ما مر
وإن أبرأه عن الدين وقبل منه ولم يرد الإبراء فإنه يبرأ
ولا يرجع على المحيل بشيء كما في الكفالة
هذا إذا كانت الحوالة بأمر المحيل فإن كانت بغير أمره فأدى المحتال عليه فإنه لا يرجع وإن كان عليه دين فهو بحاله
كتاب الصلح
الصلح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقوله تعالي { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير }
وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
وعليه الإجماع
ثم الصلح أنواع ثلاثة أحدها الصلح عن إقرار المدعى عليه وهو جائز بالإجماع
والثاني الصلح عن إنكاره وهو جائز عندنا
وقال ابن أبي ليلى لا يجوز وهو قول الشافعي
والثالث الصلح عن سكوت المدعى عليه وهو جائز أيضا عندنا وهو قول ابن أبي ليلى
وقال الشافعي لا يجوز والمسألة معروفة
ثم لا يخلو إما إن كان الصلح بين المدعي والمدعى عليه أو بين المدعي والأجنبي
أما الأول فلا يخلو إما أن تكون الدعوى في العين القائمة أو في الدين ولا يخلو إما إن كان الصلح عن إنكار أو عن إقرار
أما إذا كانت الدعوى في الأعيان القائمة والصلح عن إقرار فإن هذا الصلح في معنى البيع من الجانبين فما يجوز في البيع يجوز في الصلح وما لا فلا
فإن كان المدعى به عروضا أو عقارا أو حيوانا من العبيد والدواب يجوز الصلح إذا كان بدل الصلح عينا قائما معينا مملوكا له سواء كان كيليا أو وزنيا أو غير ذلك من الحيوان والعروض
أما إذا كان دينا فإن كان شيئا من المكيل والموزون معلوم القدر والصفة يجوز كما في البيع لأن هذه الأشياء تصلح ثمنا عينا كان أو دينا
وإن كان البدل ثيابا موصوفة في الذمة لا يجوز ما لم يوجد فيه جميع شرائط السلم بخلاف الكيلي والوزني فإنه يثبت دينا في الذمة مطلقا في المعاوضة المطلقة فيصلح ثمنا من غير أجل
وإن كان البدل حيوانا موصوفا في الذمة لا يجوز لأنه لا يصير دينا في مقابلة مال بمال فلا يصلح ثمنا
وإن كان الصلح عن إنكار فكذلك الجواب في جانب المدعي
فأما في جانب المدعى عليه فهو إسقاط وبدل عما ليس بمال
وعلى هذا يثبت حق الشفعة في الجانبين في الصلح عن إقرار حتى أن البدل إذا كان دارا والمدعى به دارا يثبت للشفيع الشفعة في الدارين وفي الصلح عن إنكار والمسألة بحالها يثبت للشفيع الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح دون الدار التي هي مدعى بها لما قلنا
وكذا حق الرد بالعيب وحكم الاستحقاق على هذا في الصلح عن إقرار يثبت من الجانبين وفي الصلح عن إنكار يثبت في جانب المدعي لا غير
أما إذا كان المدعى به ذهبا أو فضة فإن كان البدل غير الذهب والفضة فإنه يجوز الصلح كيفما كان وإن كان البدل ذهبا أو فضة
فإن كان الصلح عن إقرار والبدل من جنس المدعى به فلا يصح إلا سواء بسواء ويشترط التقابض
إن كان بخلاف جنسه كالذهب مع الفضة يجوز مع التفاضل ولكن يشترط القبض في المجلس لأن هذا صرف فيشترط فيه شرائط الصرف
وكذلك الجواب في الصلح عن إنكار في حق المدعي
هذا كله إذا كان المدعى به عينا فأما إذا كان دينا فإن كان دراهم أو دنانير وبدل الصلح عين مال معلوم من غير الكيلي والوزني فإنه يجوز ويكون ذلك بمنزلة بيع العين بالدين إن كان عن إقرار
وإن كان عن إنكار ففي حق المدعي كذلك إلا أنه إذا كان البدل من الذهب والفضة التي تتعين كالتبر والأواني منهما يكون صرفا فيشترط التساوي والتقابض في الجنس والتقابض في خلاف الجنس دون التساوي
وإن كان البدل من الدراهم والدنانير فإن كان من جنسه كما إذا كان عليه ألف درهم جيدة فصالح من ذلك على ألف درهم جيدة أو رديئة جاز ويكون هذا استيفاء عين حقه وإبراء عن صفته
وإن صالح على خمسمائة جيدة أو رديئة جاز ويكون استيفاءللبعض وإبراء عن البعض
وإن صالح على ألف درهم لا يجوز لأنه لا يمكن أن يجعل استيفاء فيجعل صرفا والتساوي شرط لصحة الصرف عند اتحاد الجنس
وأصل هذا أن الصلح متى وقع على جنس ما هو المستحق بعقد المداينة يجعل استيفاء وإن لم يمكن أن يجعل استيفاء يكون صرفا فيشترط فيه شرائط الصرف
وعلى هذا إذا صالح من ألف درهم رديء على خمسمائة جيدة لا يجوز لأن مستحق الرديء لا يستحق الجيد فلا يمكن أن يجعل استيفاء فيكون صرفا وبيع ألف درهم رديء بخمسمائة جيدة لا يجوز لأنه ربا
ولو صالح من ألف سود على ألف بيض وسلمها في المجلس جاز لأنه ليس باستيفاء وهو صرف فإذا وجد التقابض وهما في مجلس واحد جاز لأن الجودة لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها
وإن افترقا بطل
ولو صالح عن ألف بيض على خمسمائة سود جاز ويكون هذا حطا عن القدر والصفة واستيفاء لبعض الأصل
ولو صالح من الدين الحال على المؤجل وهما في القدر سواء جاز ويكون هذا تأجيلا للدين
ولو كان على العكس يجوز أيضا ويكون استيفاء ويصير الآخر تاركا حقه وهو الأجل
ولو كان الدين مؤجلا وصالح على بعضه معجلا لا يجوز لأن صاحب الدين المؤجل لا يستحق المعجل فلا يمكن أن يجعل استيفاء فصار عوضا وبيع خمسمائة بألف لا يجوز
ولو كان البدل بخلاف جنسه بأن صالح من الدراهم على الدنانير فإن وجد التقابض يجوز وإلا فلا لأنه لا يمكن أن يجعل استيفاء لاختلاف الجنس فيصير صرفا فيشترط شرائط الصرف
وكذا في سائر الوزنيات إذا كانت موصوفة في الذمة لأنه افترق عن دين بدين
وعلى هذا إذا كان الدين كيليا فصالح على جنسه أو على خلاف جنسه على الفصول التي ذكرنا من غير تفاوت
وأما إذا كان بدل الصلح المنافع بأن كان على رجل عشرة دراهم فصالح من ذلك على منفعة الدار سنة أو ركوب الدابة سنة ونحو ذلك فإنه يجوز ويكون إجارة إن كان الصلح عن إقرار من الجانبين
وإن كان عن إنكار من جانب المدعي فكل حكم عرف في الإجارة فهو الحكم هاهنا في موت العاقدين وهلاك المستأجر والاستحقاق من غير تفاوت وقد ذكرنا في الإجارة إلا أن في الصلح عن إقرار يرجع إلى المدعى به وفي الصلح عن إنكار يرجع إلى أصل الدعوى
وإن كان الدين المدعى به حيوانا بأن وجب في الذمة عن قتل الخطأ أو في المهر وبدل الخلع فصالح على دراهم في الذمة وافترقا من غير قبض جاز وإن كان هذا دينا بدين لأن هذا ليس بمعاوضة بل استيفاء عين حقه لأن الحيوان الذي وجب في الذمة لم يكن وجوبه لازما حتى إن من عليه إذا جاء بقيمته يجبر من له على القبول بخلاف سائر الديون
هذا الذي ذكرنا إذا كان المدعى به مالا فأما إذا كان حقوقا ليست بمال فصالح منها على بدل هو مال فهذا على ضربين ضرب يجوز وضرب لا يجوز
أما الضرب الذي يجوز فنحو الصلح عن موجب العمد في النفس وما دون النفس على أي بدل كان دينا كان أو عينا أقل من الدية وأرش الجناية أو أكثر لأن هذا بدل القصاص لا بدل الدية إلا أن البدل إذا كان دينا لا بد من القبض في المجلس حتى لا يكون افتراقا عن دين بدين
وبمثله لو كان الصلح في قتل الخطأ وجراح الخطأ فيما ذكرنا من جواز الصلح واشتراط القبض في الدين إلا أن الفرق بين العمد والخطأ أن في العمد الصلح على أكثر من الدية والأرض جائز وفي الخطأ على أكثر من الدية والأرش لا يجوز لأن ها هنا الأرش والدية مقدران شرعا والزيادة عليه ربا فلا يجوز فهو الفرق
ثم ينظر إن كان البدل مما يصلح مهرا في النكاح وتصح تسميته يجب ذلك
وإن كان مما لا يصلح مهرا ولا تصح تسميته ويجب في ذلك مهر المثل تجب هاهنا دية النفس في القتل وأرش الجناية فيما دون النفس إلا في فصل واحد وهو أنه إذا صالح على خمر أو خنزير في العمد فإن كان في النكاح يجب مهر المثل وهاهنا يسقط القصاص ولا يجب شيء ويكون ذلك عفوا منه
وما عرفت من الجواب في الصلح عن دم العمد فهو الجواب في الخلع والعتق على مال والكتابة فيما ذكرنا
وأما الضرب الثاني فأنواع كثيرة منها أن المشتري إذا صالح مع الشفيع عن حق الشفعة على مال معلوم لا يجوز
ومنها أن الكفيل بالنفس إذا صالح المكفول له بمال معلوم على أن يبرأ من الكفالة فالصلح باطل والكفالة لازمة
ولو كان لرجل ظلة على طريق نافذة أو كنيف شارع فخاصمه رجلفيه وأراد طرحه فصالحه على دراهم فالصلح باطل لأن هذا حق لجماعة المسلمين ولم يكن له حق معتبر حتى يكون إسقاطا لحقه
وبمثله لو كان الطريق غير نافذ فخاصمه رجل من أهل الطريق فصالحه على دراهم مسماة فالصلح جائز لأنه مشترك بين جماعة محصورة فيكون جزء منه ملكا لهذا الواحد فيكون صلحا عن حقه وفيه فائدة لاحتمال أن يصالح البقية بخلاف الأول لأنه لا يتصور الصلح من جميع الناس
ولو ادعى رجل على رجل مائة درهم فأنكرها المدعى عليه فصالح المدعي على أنه إن حلف المدعى عليه فهو بريء فحلف المدعى عليه ما لهذا المدعي قليل ولا كثير فإن الصلح باطل والمدعي على دعواه فإن أقام بينة أخذه بها وإن لم يكن له بينة وأراد استحلافه له ذلك وإنما بطل ذلك لأنه إبراء معلق بالشرط وهو فاسد لأن فيه معنى التمليك
وأما الاستحلاف فهو على وجهين إن حلف في غير مجلس القاضي فله أن يحلفه ثانيا لأن الحلف في غير مجلس القاضي لا عبرة به فيحلفه ثانيا
وأما إذا حلف في مجلس القاضي فلا يحلفه ثانيا لأن حق المدعي في الحلف صار مستوفي مرة فلا يجب عليه الإيفاء ثانيا
ولو اصطلحا على أن يحلف المدعي فمتى حلف فالدعوى لازمة للمدعى عليه فحلف المدعي على ذلك فإن الصلح باطل ولا يلزم المدعى عليه شيء بهذا لأن هذا إيجاب المال بشرط وهو فاسد
ولو ادعى على امرأة نكاحها فصالحها على مائة درهم على أن تقر له بالنكاح فهو جائز وتكون المائة زيادة في مهرها لأن إقرارها بالنكاح محمول على الصحة
وكذا لو قال لها أعطيتك مائة درهم على أن تكوني امرأتي فهو جائز إذا قبلت ذلك بمحضر من الشهود ويكون هذا كناية عن النكاح ابتداء
وكذا لو قال تزوجتك أمس على ألف درهم فقالت لا فقال أزيدك مائة على أن تقري لي بالنكاح فأقرت كان لها ألف ومائة والنكاح جائز ويحمل إقرارها على الصحة
وكذا لو ادعي على رجل مجهول النسب أنه عبده فأنكر وقال إني حر الأصل فصالح المدعي عليه مع المدعي على بدل معلوم جاز حتى لو أقام المدعي البينة بعد ذلك لا تقبل ويصير ذلك بمنزلة العتق ببدل ولكن تقبل البينة في حق إثبات الولاء
ولو ادعى على رجل ألف درهم فأنكر فقال أقر لي بها عليك على أن أعطيك مائة درهم كان باطلا لأن هذا إيجاب الألف على نفسه بمائة درهم
وكذلك لو صالح القاذف مع المقذوف بشيء على أن يعفو عنه ولا يخاصمه فهو باطل
وكذلك لو صالح الشاهد بمال على أن لا يشهد عليه أو أراد أن يشهد على الزاني أو السارق أو القاذف فصالحوه على مال فالصلح باطل ولا تقبل شهادته في هذه الحادثة وفي غيرها إلا أن يتوب ويسترد المال منه في جميع ذلك
ولو ادعى رجل قبل رجل وديعة أو عارية أو مالا مضاربة أو إجارة فقال الأمين قد رددتها عليك أو هلكت ثم صالحه على مال فإن الصلح باطل عند أبي يوسف وعند محمد جائز وهي من الخلافيات
وأما إذا كان الصلح بين المدعي والأجنبي فلا يخلو إما إن كان بإذن المدعى عليه أو بغير إذنه
أما إذا كان بإذنه فإنه يصح الصلح ويكون وكيلا عنه في الصلح ويجب المال على المدعى عليه دون الوكيل سواء كان الصلح عن إقرار أو عن إنكار لأن الوكيل في الصلح لا ترجع إليه الحقوق وهذا إذا لم يضمن بدل الصلح عن المدعى عليه فأما إذا ضمن فإنه يجب عليه بحكم الكفالة والضمان لا بحكم العقد
فأما إذا كان بغير إذنه فهذا صلح الفضولي
وهو على أربعة أوجه في ثلاثة منها يصح الصلح ويجب المال على المصالح الفضولي ولا يجب على المدعى عليه شيء بأن يقول الفضولي للمدعي أصالحك من دعواك هذه على فلان بألف درهم على أن ضامن لك هذه الألف أو علي هذه الألف أو قال علي ألفي هذه أو على عبدي هذا أضاف المال إلى نفسه أو عين البدل فقال علي هذه الألف أو علي هذا العبد وإنما كان هكذا لأن التبرع بإسقاط الدين بأن يقضي دين غيره بغير إذنه صحيح والتبرع بإسقاط الخصومة عن غيره صحيح والصلح عن إقرار إسقاط للدين والصلح عن إنكار إسقاط للخصومة فيجوز كيفما كان
وفي فصل واحد لا يصح بأن قال أصالحك من دعواك هذا مع فلان على ألف درهم أو على عبد وسط فإن هذا الصلح موقوف على إجازة المدعى عليه فإن أجاز يصح ويجب المال عليه دون المصالح لأن الإجازة بمنزلة ابتداء التوكيل والحكم في التوكيل كذلك وإن لم يجز يبطل الصلح لأنه لا يجب المال والمدعى به لا يسقط
وعلى هذا الخلع من الأجنبي على هذه الفصول إن كان بإذن الزوج يكون وكيلا عنه ويجب المال على المرأة للزوج دون الوكيل لأنه معبر وسفير فلا يرجع إليه بالحقوق
وإن كان بغير إذنه فإن وجد من الفضولي ضمان بدل الخلع أو قال خالع امرأتك على كذا درهم علي أو على عبدي هذا أوعلي هذا الألف أو علي هذا العبد فإن الخلع صحيح ويجب المال على الفضولي وليس له أن يرجع لأنه متبرع
وإن قال اخلع امرأتك على كذا فقال خلعت فإنه موقوف على إجازة المرأة فإن أجازت صح الخلع ويجب البدل عليها دون الفضولي
وإن لم تجز بطل الخلع ولا يقع الطلاق
وعلى هذه الفصول العفو عن دم العمد من الأجنبي
وعلى هذه الفصول الزيادة في الثمن من الأجنبي إن كانت بإذنه يكون وكيلا وتجب على المشتري
لا وإن كانت بغير إذن المشتري فهو على الفصول التي ذكرنا
باب آخر من الصلح
جمع في الباب مسائل متفرقة منها أن من كان له على آخر ألف درهم فقال للمديون أصالحك على أن أحط عنك منها خمسمائة على أن تعطيني اليوم خمسمائة فصالحه على ذلك قال أبو حنيفة و محمد إن أعطاه خمسمائة في ذلك اليوم برىء من الخمسمائة الأخرى وإن لم يعطه حتى مضى اليوم انتقض الصلح وعادت الألف عليه كما كانت
وقال أبو يوسف بأنه يبرأ من الخمسمائة ويبقى عليه خمسمائة
وأجمعوا أنه إذا قال أصالحك عن الألف على خمسمائة تعجلها اليوم فإن لم تعجلها فالألف عليك ولم يعجل اليوم بطل الصلح وعليه الألف
وحاصل هذا أن عندهما هذا الكلام في موضع الإجماع وهو الفصل الثاني ليس تعليق البراءة عن خمسمائة بشرط تعجيل خمسمائة لأن الألف كلها معجلة بحكم عقد المداينة فلا معنى لاشتراطه وهو ثابت ولأن تعليق البراءة بالشرط لا يجوز لأنه تمليك من وجه حتى يرتد بالرد وهذا الكلام صحيح بالإجماع ولكنه حط وإبراء عن الخمسمائة للحال وتعليق فسخ البراءة بترك التعجيل في اليوم وتعليق الفسخ بالشرط جائز فإن من قال لغيره أبيعك هذا العبد بألفدرهم على أن تعجلها اليوم فإن لم تعجلها فلا بيع بيننا فإن البيع جائز وجعل ترك التعجيل شرطا في الفسخ فكذا هذا وهذا المعنى موجود في فصل الخلاف
وعند أبي يوسف هذا تعليق البراءة بشرط التعجيل والبراءة لا يصح تعليقها بالشروط وجه قول أبي يوسف أنه صالح على عوض بشرط تعجيله فإذا لم يوجد الوفاء بالتعجيل لم ينفسخ العقد بدون شرط الفسخ صريحا ولم يوجد فبقي الحط صحيحا كما إذا قال بعتك هذا العبد بألف على أن تعجلها اليوم
بخلاف الفصل المجمع عليه لأن ذلك صلح على خمسمائة للحال وجعل ترك التعجيل شرطا للفسخ عرفنا ذلك بالتنصيص على ذلك الشرط
ولو صالح على أن يعطيه خمسمائة إلى شهر على أن يحط عنه خمسمائة الساعة فإن لم يعطه إلى شهر فعليه الألف فهو صحيح لأن هذا إبراء للحال وتعليق لفسخ الإبراء بالشرط
وعلى هذا الكفالة إذا أخذ منه كفيلا بألف درهم فصالح معه على أن يحط خمسمائة وشرط على الكفيل ذلك إن أوفاه خمسمائة إلى شهر فإن لم يوفه خمسمائة إلى رأس الشهر فعليه الألف فهو جائز والألف على الكفيل إن لم يوفه لما قلنا
ولو ضمن الكفيل الألف مطلقا ثم قال عنك حططت خمسمائة على أن توفيني رأس الشهر خمسمائة فإن لم توفني فالألف عليك فهذا صحيح وهو أوثق من الأول
ولو قال لمن عليه الألف متى ما أديت إلي خمسمائة فأنت تبرأ عن الباقي فإن هذا لا يصح ويبقى عليه الألف لأن هذا تعليق البراءة بالشرط
وكذلك إذا قال صالحتك على أنك متى ما أديت إلي خمسمائة فأنت بريء من خمسمائة لا يصح لما قلنا
وكذا من قال هذه المقالة لمكاتبه إذا أديت إلي خمسمائة فأنت بريء من باقي الكتابة لما قلنا
ولو قال له إن أديت إلي خمسمائة فأنت حر والبدل ألف يصح ويبرأ لأن هذا تعليق العتق وتثبت البراءة حكما
ومنها المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا فصالحه البائع من العيب على شيء دفعه إليه أو حط عنه من ثمنه شيئا فإن كان المبيع مما يجوز رده على البائع أو كان له حق المطالبة بأرشه دون رده فالصلح جائز لأن هذا صلح عن حقه وإن لم يكن له حق الرد ولا أخذ الأرش لا يجوز الصلح لأن هذا أخذ مال لا بمقابلة شيء فلا يجوز
وهذا إذا كان بيعا يجوز فيه التفاضل
وأما إذا كان في بيع الربا فلا يجوز لأنه يؤدي إلى الزيادة وهو ربا فلا يجوز
وفي الموضع الذي جاز إذا زال العيب بأن انجلى البياض يبطل الصلح ويأخذ البائع ما أدى لأنه زال حقه
ولو صالح عن عيب قائم وعن كل عيب يجوز
ولو لم يجد به عيبا وصالح مع هذا عن كل عيب جاز لوجود سبب الحق
ولو صالح عن عيب خاص كالعمى ونحوه يجوز لأنه لما جاز عن كل عيب جاز عن الواحد
كتاب المزارعة
في الكتاب فصلان فصل في المزارعة وفصل في المعاملات
ونحتاج إلى تفسيرهما في عرف اللغة والشرع
وإلى بيان مشروعيتهما وإلى بيان أنواع المزارعة وإلى بيان شرائط المزارعة المصححة منها والمفسدة وإلى بيان المعاني التي تجعل عذرا في فسخ المزارعة والامتناع منها بعد الشروع فيها
أما الأول فنقول المزارعة عبارة عن عقد الزراعة ببعض الخارج
وهو إجارة الأرض أو العامل ببعض الخارج
وأما إجارتهما بالدراهم والدنانير في الذمة أو معينة فلا يكون عقد مزارعة بل سمي إجارة وقد ذكرنا في كتاب الإجارة
وكذا المعاملة هو إجارة العامل ليعمل في كرمه وأشجاره من السقي والحفظ ببعض الخارج
وأما بيان المشروعية فقال أبو حنيفة كلتاهما فاسدتان غير مشروعتين
وقال أبو يوسف و محمد كلتاهما مشروعتان
وقال الشافعي المعاملة مشروعة دون المزارعة وهي معروفة في الخلافيات
وأما بيان أنواع المزارعة ذكر في الكتاب وقال المزارعة أنواع أربعة
وهي كذلك في الظاهر لكن يتفرع منها أنواع أخر ومعرفة ذلك مبنية على معرفة أصول منها أن المزارعة فيها معنى الإجارة والشركة لأنها إما إجارة الأرض أو العامل ببعض الخارج إن كان بالبذر من قبل صاحب الأرض فهو مستأجر العامل ليعمل له في أرضه بما يعطيه من العوض وهو بعض الخارج الذي هو نماء ملكه وهو البذر
وإن كان البذر من العامل فهو مستأجر الأرض ليزرعها ببعض الخارج الذي هو نماء ملكه وهو البذر
ومنها أيضا معنى الشركة بين المتعاقدين لكون الخارج مشتركا بينهما على قدر ما سميا في العقد
إذا ثبت هذا فنقول قد جاء الشرع بجواز المزارعة ببعض الخارج إذا كان عوضا عن منفعة الأرض أو عن منفعة العامل بخلاف القياس لحاجة الناس لأن الأجرة معدومة مجهولة فمتى كان العقد على هذا الوجه يكون مزارعة صحيحة وإلا فيكون مزارعة فاسدة
وأصل آخر وهو أن صاحب البذر يستحق الخارج بسبب أنه نماء ملكه لا بالإجارة والذي ليس بصاحب البذر يستحق الخارج بالشرط وهو عقد المزارعة فإن العقد إذا كان صحيحا يجب البدلالمسمى وإذا كان فاسدا لا يستحق البدل المسمى ولكن يجب أجر المثل بمقابلة منفعة الأرض أو منفعة العامل لأنه لم يرض ببذل المنفعة من غير عوض
لكن عند محمد يجب أجر المثل بالغا ما بلغ وعند أبي يوسف مقدرا بقيمة الخارج المسمى ذكر الخلاف في كتاب الشركة ويكون الخارج كله لصاحب البذر لأنه نماء ملكه
ثم إذا كان البذر من صاحب الأرض يكون الزرع كله له طيبا ولا يتصدق بشيء لأنه نماء ملكه وقد حصل في أرضه
وإن كان البذر من العامل فإن الخارج بقدر بذره وبقدر ما غرم من أجر مثل الأرض والمؤن يطيب له لأنه أدى عوضه ويتصدق بالفضل على ذلك لأنه وإن تولد من بذره لكن في أرض غيره بعقد فاسد فأورث شبهة الخبث
وعلى هذا قالوا في المزارعة الصحيحة إذا لم تخرج الأرض شيئا لا يجب على واحد منهما لا أجر العمل ولا أجر الأرض لأن الواجب هو الخارج لكون التسمية صحيحة فتقومت المنافع بهذا البدل فمتى لم يوجد بقيت المنافع على الأصل وهي غير متقومة
وفي المزارعة الفاسدة يجب أجر المثل وإن لم تخرج الأرض شيئا لأن المنافع تتقوم هاهنا بأجر المثل ففوات الخارج لا يمنع من وجوبه
إذا ثبت هذا فنقول ذكر في الكتاب وقال المزارعة أنواع أربعة وهي في الظاهر كذلك ولكن يتفرع منهما أنواع أخر
أما بيان الأربعة أن يكون الأرض والبذر من رب الأرض والبقر والعمل وآلاته من العامل
أو يكون الأرض والبقر والبذر من رب الأرض والعمل من العامل لا غير
أو تكون الأرض وحدها من صاحب الأرض والباقي كله من العامل
أو تكون الأرض والبقر من صاحب الأرض والبذر والعمل من العامل
ففي الثلاثة الأولى المزارعة صحيحة لأن في الفصل الأول صاحب الأرض مستأجر للعمل والبقر آلة العمل فيكون تبعا له فلا تكون الأجرة بمقابلة البقر كمن استأجر خياطا ليخيط بآلته يجوز
وفي الفصل الثاني صاحب الأرض مستأجر للعامل أيضا وحده
وفي الفصل الثالث يكون العامل مستأجرا للأرض وحدها
وقد ذكرنا أن استئجار الأرض وحدها واستئجار العامل ببعض الخارج وحده يكون مزارعة صحيحة لورود الحديث فيه مخالفا للقياص
وفي الفصل الرابع لا يجوز لأنه يصير صاحب البذر وهو العامل مستأجرا للأرض والبقر ببعض الخارج فيكون البعض بمقابلة البقر مقصودا ولم يرد الشرع به فبقي على أصل القياس
وروي عن أبي يوسف في الأمالي أنها جائزة
وأما ما يتفرع منها الاستئجار البذر وهو أن يدفع الرجل بذرا إلى رجل ليزرعه في أرضه ببقره بنصف أو بثلث فالمزارعة فاسدة لما قلنا إنه يصير مستأجرا الأرض والعامل جميعا ولم يرد الشرع به
وروي عن أبي يوسف أنها جائزة
ومنها أن يشترك أربعة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الثالث البقر ومن الرابع العمل فهي فاسدة
وفي عينهذه الحادثة ورد الأثر بالفساد
ولو شرط عمل صاحب الأرض مع العامل لا يجوز لأنه لم يوجد تخلية الأرض ويجب أجر المثل فيما إذا كان البذر من العامل ويجب أجر مثل عمل العامل إذا كان البذر من صاحب الأرض
ولو شرط عمل عبد صاحب الأرض على أن يكون الخارج أثلاثا ثلثه لصاحب الأرض وثلثه لعبده وثلثه للعامل إن كان البذر من صاحب الأرض جاز لأنه مستأجر للعامل فيكون العبد معينا له ويكون نصيب العبد لصاحبه
وإن كان البذر من العامل لا يجوز ويكون الخارج لصاحب البذر وعليه أجر مثل الأرض والعبد وكذا أجر البقر إن كان من صاحب الأرض أيضا
ولو شرط عمل رجل أجنبي مع العامل
على أن الخارج يكون أثلاثا فإن كان البذر من العامل لا يجوز في حق العامل الثاني ويجوز فيما بين صاحب الأرض والعامل الأول فيكون الثلث لصاحب الأرض والثلثان للعامل الأول وللعامل الثاني أجر المثل
وإن كان البذر من صاحب الأرض جاز ويكون الثلث له ولكل عامل الثلث لأنه يصير مستأجرا للعاملين وهذا جائز
وأما شرائط الصحة والفساد فمن شرائط الصحة بيان المدة سنة أو أكثر وهذا جواب ظاهر الرواية
وعن محمد بن سلمة أنه قال هذا في بلادهم لأن وقت الزراعةمتفاوت فيصير ابتداء الزراعة مجهولا أما في بلادنا فيجب أن يجوز لأن وقته معلوم فصار كالمعاملة ويقع على أول زرع يخرج
وأما في المعاملة فالقياس أن يشترط بيان المدة وفي الاستحسان أنه يقع على أول ثمر يخرج فإذا انتهى الثمر انتهى العقد
فأما في الرطاب فإذا دفع الأرض ليزرع الرطاب ودفع بذرها أو دفع أرضا فيها أصول رطبة ثابتة ولم يسم المدة فإن كان شيئا ليس لابتداء نباته ولا لانتهاء جزه وقت معلوم لا يجوز فأما إذا كان وقت جزه معلوما فإنه يجوز ويقع على وقت جزه واحدة كما في الشجرة المثمرة
ولو دفع إليه نخلا فيها طلع وبسر أحمر أو أصفر أو أخضر فإنه يجوز وإن لم يبين الوقت لأنه وقت إدراكه معلوم
ولو دفع إليه البسر وقد تناهى عظمه لكن لم يصر رطبا بعد لا يجوز لأنه لم يبق للعامل عمل يحصل به الثمر
وكذا الجواب في دفع الزرع مزارعة إن كان بقلا لم يستحصد جاز وإن استحصد لا يجوز لما قلنا
ومنها إذا شرط على العامل شرطا يبقى منفعته إلى السنة الثانية وقد دفع الأرض مزارعة سنة كحفر الأنهار الصغار والآبار ووضع المسناة تفسد المزارعة وإن كان في موضع لا يبقى يجوز
وعلى هذا إذا شرط الكراب لا تفسد لأنه لا تبقى منفعته فيالسنة الثانية وإن شرط الثنيان تفسد وبعضهم قالوا أراد به تثنية الكراب مرتين ومرارا وهذا تبقى منفعته في السنة الثانية
ومنهم من قال أراد به أن تثنى الكراب بعد انقضاء مدة المزارعة حتى يرد الأرض مكروبة إلى صاحبها وهو شرط مفسد
ثم شرط الكراب إذا لم يكن مفسدا هل يلزم المزارع فنقول يلزم بالشرط لأنه سبب لزيادة الغلة فصار كمن اشترى جارية على أنها خبازة أو كاتبة فيجبر على الكراب لو امتنع
ولو عقد المزارعة مطلقا هل يجب الكراب على العامل إن كان بحال يخرج الأرض زرعا معتادا من غير كراب لا يلزمه وإن كان لا يخرج زرعا معتادا فإنه يجبر عليه وإن كان يخرج شيئا قليلا لأنه وجب عليه مطلق عمل الزراعة فيقع على أدنى عمل معتاد فأما غير المتعاد من الزرع القليل فلا عبرة به
وكذا السقي يجب عليه إذا كان لا يخرج زرعا معتادا بماء السماء وحده
ولو دفع على أنه إن زرع بكراب فله كذا
إن ثنى فله كذا
وإن زرع بغير كراب وثنيان فكذا صح العقد في ظاهر الرواية
وكذا إذا قال إن زرع حنطة فله كذا وإن زرع شعيرا فله كذا فهو على هذا أيضا
ومنها أن يشترط الحصاد والدياس والتذرية والحمل إلى موضع البيدر فهو شرط مفسد للعقد في ظاهر الرواية وروي عن أبي يوسف أنه شرط صحيح وهو قول مشايخ خراسان
وأما شرط الحمل بعد القسمة إلى منزل صاحب الأرض فهو مفسد بالاتفاق
ومنها التخلية بين الأرض والمزارع شرط الصحة وقد ذكرنا
وأما المعاني التي تجعل عذرا للفسخ أو تجعل عذرا في الامتناع عن العمل أو حق أخذ الأرض فنقول إذا عقد عقد المزارعة ثم أراد أحدهما الامتناع فإن كان صاحب البذر له ذلك لأنه لا يمكنه الشروع إلا بعد إتلاف ملكه
وهو البذر
وإذ لم يكن صاحب البذر ليس له ذلك إلا بعذر يفسخ به العقد
ولو مات أحدهما فللآخر أن يمتنع إن كان قبل الشروع
وبعد الشروع ينفسخ العقد عندنا خلافا للشافعي على التفصيل الذي نذكر
والأعذار الموجبة حق الفسخ في جانب صاحب الأرض هو الدين الذي لا وجه لقضائه إلا بثمن الأرض أو كون العامل جانيا
وفي جانب العامل هو المرض الذي يعجزه عن العمل والسفر ونحو ذلك
ثم إذا فسخ أو ترك العقد وقد عمل فيها العامل من الكراب وكرى السواقي ونحوها فإنه لا يأخذ شيئا من صاحب الأرض لأنه لا قيمة للمنافع وهما قوماها بالخارج وقد بطل سبب الاستحقاق بالفسخ لكن هذا في الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى فعليه أن يرضي العامل بإعطاء عوض عمله
ثم بيان كيفية الفسخ بموت أحد العاقدين فنقول إن مات رب الأرض والزرع بقل وقد عقد المزارعة ثلاث سنين فإنه يبقى العقد في هذه السنة لهذا الزرع وليس لورثة رب الأرض أخذ الأرض ولكن تترك الأرض في يد المزارع حتى يستحصد فإذا استحصد قسموه على شرطهم وتنتقض المزارعة فيما بقي من السنين وإنما يبقى العقد نظرا للجانبين شرعا
ولو مات المزراع والزرع بقل فإن كان ورثة المزراع قالوا نحن نعمل فليس لصاحب الأرض أن يقلع
وتبقى المزارعة حكما
فأما إذا قال ورثة المزارع نحن لا نعمل ولكن نقلع الزرع والبقل بيننا لا يجبرون على العمل ويقال لصاحب الأرض اقلع فيكون بينكم أو أعطهم قيمة حصتهم والزرع كله لك أو أنفق على حصتهم وتكون نفقتك في حصتهم
فأما إذا انقضت المدة من غير موت المزارعين والزرع بقل انتهى عقد المزارعة ولكن الزرع مشترك بينهما فيكون العمل عليهما إلى أن يستحصد وعلى المزارع أجر مثل نصف الأرض
وعلى هذا في مدة الإجارة والعارية إذا انقضت والزرع بقل فإنه يجب أجر مثل الأرض ويترك الزرع حتى يستحصد نظرا لهما بخلاف الموت فإنه ثمة لا يجب أجر مثل الأرض لأن ثمة يبقى العقد حكما ويكون العمل على العامل لا عليهما
وعلى هذا قالوا إن الجمال إذا مات في بعض طريق مكة فإن المستأجر يمضي إلى مكة بالمسمى لأنا بقينا العقد حكما كذا هذا
وكذا إذا كان على صاحب الأرض دين فادح وفي الأرض الزرعبقل ليس له أن يبيع الأرض بل يبقى العقد إلى أن يستحصد لما قلنا
كتاب الإكراه
الإكراه نوعان نوع يوجب الإلجاء والإضرار كالتخويف بالقتل وقطع العضو والضرب المبرح المتوالي الذي يخاف منه التلف
ونوع لا يوجب كالتخويف بالحبس والقيد والضرب اليسير
والذي يقع عليه الإكراه من الفعل والترك إما إن كان من الأمور الحسية أو من الأمور الشرعية
أما إذا وقع الإكراه على الفعل الحسي فهو أقسام ثلاثة في حق الإباحة والرخصة والحرمة
أما الذي يحتمل الإباحة كشرب الخمر وأكل الميتة والخنزير فإن كان الإكراه بما يوجب الاضطرار وهو القتل وقطع العضو ونحوه
فإن كان غالب حال المكره أنه يقتله لو لم يشرب فإنه يباح له شربه وتناوله لأن هذا مما يباح عند الضرورة كما في حال المخمصة
وإن كان غالب حاله أنه لا يقتله ولا يحقق ما أوعده أو كان التخويف بما ليس فيه خوف تلف النفس كالحبس والقيد والضرب اليسير فإنه لا يباح الإقدام عليه ولا يرخص حتى يأثم بالإقدام عليه لأنه يجب تقديم حق الله تعالى على حق نفسه
وفي الفصل الأول يباح حتى لو أقدم لا إثم عليه
ولو لم يقدم حتى هلك يأثم لأنه صار مهلكا نفسه عن اختيار
وأما الفصل الذي يرخص فيه ولا يسقط الحرمة كما إذا أكره بالقتل على أن يجري كلمة الكفر على لسانه أو على أن يشتم محمدا صلى الله عليه وسلم أو على أن يصلي إلى الصليب فإنه لا يباح له ذلك ولكن يرخص له الفعل وإن امتنع حتى قتل كان مثابا ثواب الجهاد لأن الحرمة لم تسقط بخلاف الفصل الأول
وعلى هذا لو أكره على إتلاف مال إنسان بما فيه خوف التلف وغالب ظنه أن يفعل فإنه يرخص ولا يباح لأن حرمة مال الغير لا تسقط لحقه ولكن يرخص بالضمان كما في حال المخمصة
وأما الفصل الثالث فلا يباح ولا يرخص وإن كان يخالف القتل على نفسه كما إذا أكره بالقتل على أن يقتل فلانا المسلم أو يقطع عضوه أو يضربه ضربا يخاف فيه التلف وكذا في ضرب الوالدين على وجه يخاف منه التلف لأن القتل حرام محض وضرب الوالدين كذلك فلا يسقط لأجل حقه
ولو فعل فإنه يأثم في الآخرة
وأما أحكام الدنيا من القود والضمان فنقول في الإكراه على إتلاف مال الغير يجب الضمان على المكره بلا خلاف
وأما في القتل خطأ وعمدا فيكون الحكم على المكره عند أبي حنيفة و محمد ويصير المكره آلة ويصير قاتلا فيكون الحكم عليه
وعند أبي يوسف تجب الدية على المكره ولا يجب القود أصلا
وعند الشافعي يجب على المكره والمكره جميعا القود
وعند زفر على المكره والمسألة معروفة
وكذا في الإكراه على القطع على هذا الخلاف
هذا إذا لم يأذن المكره عليه للمكره على ما أكره
أما إذا أذن له بقطع اليد والقتل فلا يباح للمكره ذلك لأنه لا يباح بالإباحة والإذن ولكن في القطع لا يجب الضمان على أحد لوجود الإذن من جهته وفي القتل لا عبرة لإذنه بل تجب الدية على المكره كما لو لم يوجد الإذن هذا جواب ظاهر الرواية وفي رواية لا يجب
ولو أكره على الزنا بالقتل لا يباح ولا يرخص للرجل ويرخص للمرأة
وكان أبو حنيفة يقول أولا إنه لا يجب الحد ثم رجع وقال فإن كان الإكراه من السلطان لا يجب الحد ويجب العقر
وإن كان من غيره يجب الحد
وعندهما لا يجب الحد ويجب العقر كيفما كان
وأما الإكراه على الأمور الشرعية فنوعان في الأصل إما إن ورد الإكراه على إنشاء التصرف أو على الإقرار به
أما إذا ورد على الإنشاء فهو على وجهين إن كان تصرفا يحتمل الفسخ ويشترط فيه الرضا كالبيع والشراء والإجارة ونحوها والإكراه بأي طريق كان فإنه يكون التصرف فاسدا إن اتصل به التسليم يفيد الملك وإلا فلا
وعلى قول زفر يكون موقوفا على إجازة المكره والمسألة معروفة
وهذا إذا باع أو اشترى بالثمن الذي أكره عليه
فأما إذا باع بخلاف جنسه ينفذ ويخرج عن الإكراه لأنه أتى بغير ما أكره عليه
وإن باع بأقل من ذلك الثمن فالقياس أن ينفذ ولا يكون مكرها وفي الاستحسان يكون مكرها
وإن باعه بأكثر من ذلك الثمن يكون طائعا
وإن كان تصرفا لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق والنكاح واليمين والنذر ونحوها فإنه ينفذ التصرف عندنا خلافا للشافعي والمسألة معروفة
ثم الطلاق إن كان قبل الدخول بها يلزمه نصف المهر المسمى
والمتعة في غير المسمى على المكره لأنه وجب عليه بسبب إكراهه
وإن كان بعد الدخول يجب على الزوج المكره لأنه استوفى منفعة البضع
وأما في العتاق فيجب الضمان على المكره سواء كان موسرا أو معسرا ولا يسعى العبد في ذلك ويكون الولاء للمعتق المكره لأن العتق حصل بفعل المكره لكن جعل ذلك إتلافا من المكره فعليه قيمته
وفي النكاح إذا أكرهت المرأة على التزويج بألف ومهر مثلها عشرة آلاف فالنكاح صحيح ويقول القاضي للزوج إن شئت تمم لها مهر مثلها وإلا فرقت بينكما وإن لم ترض المرأة إن كان الزوج كفوا لها
وتخير المرأة إن كان غير كفء وإن تمم لها مهر مثلها
وإن رضيت المرأة بنقصان المهر وعدم الكفاءة يثبت الخيار للأولياء في عدم الكفاءة بالإتفاق وفي نقصان المهر عند أبي حينفة خلافا لهما هذا إذا كان قبل الدخول
فإن كان بعد الدخول وهي غير مكرهة في التمكين يجوز النكاح لوجود الرضا دلالة ويسقط الخيار للمرأة ويبقى الخيار للأولياء
وإن فرق القاضي بينهما فلا شيء عليه قبل الدخول لأنالفرقة جاءت من قبلها
وأما إذا أكره على الأقارير فلا يصح سواء كان بالمال أو الطلاق أو العتاق ونحو ذلك لأن الإقرار إخبار والخبر الذي ترجح كذبه لا يكون حجة والإكراه دليل رجحان الكذب
ولكن هذا إذا كان الإكراه بوعيد شيء معتبر عند الناس حتى يكون نافيا للضرر
ويختلف باختلاف حال المكره من الشرف والدناءة والضعف والقوة حتى قال أصحابنا بأن السوط الواحد والقيد والحبس في اليوم الواحد إكراه في حق بعض الناس وليس بإكراه في حق البعض فيكون مفوضا إلى رأي القاضي المجتهد لاختلاف أحوال الناس فيه
ولو أكره رجل على قتل وارثه بإكراه يوجب الإلجاء فإنه لا يحرم عن الميراث وإن كان لا يباح له الإقدام على قتله لأنه مضطر فيه
ولو أكره رجل على شراء ذي رحم محرم منه حتى عتق لا يجب على المكره شيء لأن الشراء يصح بمثل القيمة والزيادة عليه لا تجب والإعتاق وشراء القريب سواء في ثبوت العتق إلا أنه لا تجب القيمة هاهنا لأنه حصل له عوض وهو صلة الرحم
ولو أكره على شراء عبد قال له إن ملكتك فأنت حر فاشتراه وقبضه حتى عتق عليه لا يضمن المكره لأنه مباشر الشرط فإن العتق باليمين يقع
وكذا لو قال لعبده إن دخلت هذه الدار فأنت حر فأكره على أن يدخل الدار فدخل فعتق لا يضمن لأنه مباشر للشرط دون العلة
ثم الإكراه عند أبي حنيفة إنما يصح من السلطان لا غير
وعندهما يصح من كل مسلط له قدرة تحقيق ما وعد
وقيل إن هذا اختلاف زمان لأن في زمن أبي حنيفة كان لا يقدر على الإكراه إلا السلطان وفي زمانهما تغيرت الأمور فأجاب كل واحد على حسب زمانه
وبعضهم حققوا الاختلاف من حيث المعنى
ولو أن صبيا مسلطا بأن كان سلطانا أكره رجلا بالقتل على القتل ونحوه فالجواب فيه وفي البالغ سواء لأنه تحقق منه الإكراه له
وكذا إذا كان رجل به مرة يختلط به وهو مسلط يجوز إكراهه كالعاقل سواء
كتاب القسمة
القسمة في الأملاك المشتركة نوعان قسمة الأعيان وقسمة المنافع وهي المهايأة
أما قسمة الأعيان المشتركة فمشروعة عرفنا شرعيتها بحديث رسول صلى الله عليه وسلم أنه قسم خيبر بين الغانمين
وعليه توارث الأمة
والأعيان المشتركة قد تكون أمثالا متساوية فقسمتها تكون تمييز الأنصباء لا غير مثل المكيل والموزون والعددي المتقارب
وقد تكون أشياء مختلفة مثل الدور والعقار والعروض والحيوان وقسمتها تكون في معنى البيع
ثم القسمة قد تكون من القاضي وأمينه بإذنه وقد تكون من الشركاء عند التراضي
فإن كانت القسمة من القاضي عند المرافعة إليه فإن كان في ذلك منفعة لهم فإنه يقسم
وإن كان فيه ضرر أو لا حاجة لهم إلى ذلك فإنه لا يفعل وإن تراضيا عليه ولكن يفوض الأمر إليهم حتى يقسموا بأنفسهم فإن الحمام المشترك بين اثنين إذا طلبا من القاضي القسمة لا يقسم لأن في القسمة ضررا لأنهما يتضرران بذلك لأنه لا يمكن الانتفاع ببعض الحمام دون البعض ولو قسمابأنفسهما جاز لولايتهما على أنفسهما
وكذا في البيت الواحد والثوب الواحد والجوهرة الواحدة لا تجوز القسمة من القاضي
ولو طلبا منه القسمة لا يفعل ولو قسما بأنفسهما جاز
وكذا دار بين اثنين لأحدهما فيها شقص قليل إن طلب صاحب القليل لا يقسم لأنه لا فائدة له فيه فيكون متعنتا
وإن طلب صاحب الكثير يقسم لأن له حاجة في ذلك ويدفع الضرر عن نفسه ولو قسما بأنفسهما جاز لما قلنا
ثم المقسوم لا يخلو إما إن كان دورا أو عقارا أو منقولا فإن كان عقارا وهي في يد الجماعة وطلبوا القسمة من القاضي فإن قالوا هي بيننا ميراث عن فلان فإن عند أبي حنيفة لا يقسم حتى يقيموا البينة على موت فلان وعلى عدد الورثة وعندهما يقسم بإقرارهم ويشهد أنه قسمها بإقرارهم
ولو كان ذلك في عروض أو شيء منقول فإنه يقسم بإقرارهم بالاتفاق
وكذا إذا أقروا بكون العقار بينهم ملكا مطلقا ولم يدعوا انتقال الملك فيها من واحد فإنه يقسم بينهم بإقرارهم بالإجماع
وإن ادعوا أنهم اشتروا من فلان الغائب ففي رواية الأصل لا يقسم حتى يثبتوا الانتقال من الغائب وفي رواية يقسم بإقرارهم
وهذا إذا لم يكن في الورثة غائب كبير أو صغير لا ولي له فأما إذا كان في الورثة كبير غائب أو صغير فعند أبي حنيفة لا يقسم على كل حال
وعندهما ينظر إن كانت الدار في يد الكبار الحضور فإنه يقسم بينهم ويضع حق الغائب في يد أمين يحفظه ويوكل عن الصغيررجلا حتى يحفظه
وإن كانت الدار في يد الغائب أو في يد الصغير أو في أيديهما منها شيء فإنه لا يقسم حتى تقوم البينة على الميراث وعدد الورثة بالاتفاق
ثم إذا قامت البينة على الميراث ينظر إن كان الحضر اثنين فصاعدا والغائب واحد أو أكثر وفيهم صغير فإن القاضي يقسم بينهم ويعزل نصيب كل صغير وغائب ويجعل في يد أمين يحفظه
ولو كان هذا في ملك مطلق وشريكان حاضران وشريك غائب فالقاضي لا يقسم لأن القاضي له ولاية في الجملة في مال مشترك بين الورثة فيكون قضاء على الحاضر ولا ولاية له على مال الغائب مقصودا فلا يقسم من غير أن يحضر من يقوم مقامه
ولو حضر وارث واحد وغاب الباقون وطلب القسمة فإن القاضي لا يقسم لأن القسمة لا تصح إلا بين المتقاسمين الحاضرين
ولو كان وارث كبير حاضر وهناك وارث صغير نصب القاضي له وصيا وقسم لأنه حضر المتقاسمان وطلب أحدهما القسمة فإنه يحكم بالقسمة على أحدهما للطالب
ولو قسم دارا بين شريكين وفيها مسيل الماء والطريق ونحوهما فإن قسم مطلقا وأمكن أن يجعل في نصيب كل واحد منهما طريقا ومسيل ماء فإنه تصح القسمة في الكل
وإن كان لا يمكن جعل الطريق في ملك أحدهما بل يحتاج إلى تسييل الماء والاستطراق في نصيب شريكه فإن ذكر القاسم في القسمة إني قسمت الدار بينهما بحقوقها فإنه يبقى مشتركا بينهما فيكون له حق تسييل الماء والاستطراق في نصيب شريكه
وإن لم يذكر الحقوق تنقض القسمة ويكون ذلك غلطا منالقاسم لأنه لا يتمكن كل واحد منهما من الانتفاع به بدون الطريق
ولو قسم دورا بينهم وجعل لكل واحد نصيبه في دار واحدة سواء كانت متلاصقة أو في بلدة أو في بلاد لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما إن كان يمكن التعديل في القسمة في ذلك فلا بأس به
وعلى هذا قسمة الرقيق بأن جعل نصيب كل واحد في عبد لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما جائز
فأما في المنقول سوى الرقيق إذا كان جنسا واحدا مثل الإبل والبقر والغنم والمكيل والموزون فإنه جائز بلا خلاف لأن التفاوت يسير
فأما إذا جعل لأحدهم الإبل وللآخر الغنم وللآخر البقر لم يجز لاختلاف الأنواع
وكذا في الثياب من جنس واحد تجوز القسمة وفي الأجناس المختلفة لا تجوز
وفي الثوب الواحد لا تجوز لأنه يحتاج إلى القطع وهو ضرر
ثم إذا قسم الدار فإنه يقسم العرصة بالذراع ويقسم البناء بالقيمة ويجوز أن يجعل لأحدهما أكثر ذراعا من الآخر لأن قيمته أكثر
ثم ذكر أبو الحسن أن أبا حنيفة قال يحتسب في القسمة كل ذراع من السفل الذي لا علو له بذراعين من العلو الذي لا سفل له
وقال أبو يوسف ذراع من السفل بذراع من العلو
وقال محمد يقسم على القيمة دون الذراع
ومشايخنا قالوا إنما أجاب أبو حنيفة على عادة أهل الكوفةلاختيارهم السفل على العلو
العمل في هذه المسألة على قول محمد لاختلاف حال البلاد في ذلك فتعتبر القيمة
ثم ما كان في البيع من خيار الرؤية وخيار الشرط والرد بالعيب ففي القسمة كذلك لا يختلفان لأنها في معنى البيع وهذا إذا قسما بالتراضي
فأما إذا قسم القاضي فكذلك في العيب ولا يثبت خيار الرؤية ولا خيار الشرط فيه لأنه لو فسخ كان للقاضي أن يقسم ثانيا فلا فائدة فيه
ولأحد الشريكين أن يحفر في نصيبه بئرا أو بالوعة وإن كان يضر بقسم شريكه وكذا هذا في الجارين
وإذا ظهر للميت دين بعد القسمة أو وارث غائب أو طفل أدرك ولم يكن له وصي فلهم نقض القسمة لأن القاسم غلط فيها فإن كان للميت مال سوى ما قسم يقضي منه الدين ولا ينقض القسمة
وكذلك إذا قضى بعض الورثة الدين أو كفل رجل عن صاحب الدين
وكذا لو ظهر الدين للوارث الذي قسم ولا تكون القسمة منه إبراء للدين الذي عليه لأنه ربما لا يعلم ذلك
وكذلك إذا ظهرت الوصية لأجنبي أو ظهر ولد وارث فإنه تنقض القسمة لأن الموصى له كواحد من الورثة
وأما المهايأة فنوعان من حيث المكان أو من حيث الزمان
أما من حيث المكان بأن كانت دارا كبيرة يسكن أحدهما ناحية والآخر ناحية جاز وهي قسمة المنافع ولا يشترط فيها بيان المدة
ولو استغل أحدهما نصيبه جاز بخلاف العارية فإنها لا تؤاجر
وقال بعضهم لا يجوز كما في العارية إلا إذا اشترطا الاستغلال لمن شاء منهما
وأما من حيث الزمان بأن كانت دارا صغيرة يسكن أحدهما شهرا والآخر شهرا جاز وهذا في معنى العارية ولهذا يشترط المدة
ولو آجر أحدهما لا يجوز كما في العارية
ولو تهايآ في الرقيق المشترك فأخذ أحدهما عبدا والآخر عبدا جاز عندهما بلا شك لأن قسمة الرقيق جائزة عندهما
وعند أبي حنيفة تجوز هاهنا لأنها قسمة المنافع وهي من جنس واحد
وفي النخيل والشجر المشترك إذا أخذ أحدهما طائفة يستثمرها وينتفع بثمرها خاصة والآخر طائفة لا يجوز لأنها استحقاق العين بالإجارة
وفي الأراضي يزرع أحدهما البعض والآخر البعض جائز لأنها قسمة المنافع
كتاب المأذون
قال يحتاج إلى بيان مشروعية الإذن للعبد في التجارة وإلى تفسير الإذن
وإلى بيان حكم الإذن وما يملك به العبد من التصرف وما لا يملك
وإلى بيان صحة الحجر وإلى بيان حكم المأذون بعد الحجر
أما الأول فلما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يجيب دعوة المملوك
وعليه توارث الأمة
وأما إذن العبد الصغير العاقل أو الصبي الحر العاقل فصحيح عندنا
وعند الشافعي لا يصح والمسألة معروفة
وأما تفسير الإذن فنقول الإذن نوعان خاص وعام
فأما الإذن الخاص فأن يقول لعبده اشتر بدرهم لحما لنفسك أو اشتر كسوة لنفسك أو لفلان فاشتراه فإنه يجوز ويكونمأذونا في ذلك خاصة والقياس أن يكون مأذونا في الأنواع كلها لأن الإذن بالتصرف لا يتجزأ وفي الاستحسان يقتصر على ما أذن فيه لأن هذا من باب الاستخدام فلو نفذ الإذن إلى غيره ولم يكن قصد المولى أن يكون مأذونا في التجارات لا يقدر على الاستخدام
وأما الإذن العام فأن يقول أذنت لك في التجارات أو في التجارة يصير مأذونا في الأنواع كلها بلا خلاف
أما إذا أذن في نوع بأن قال اتجر في البز أو في بيع الطعام أو غير ذلك يصير مأذونا في أنواع التجارات عندنا
وعند زفر و الشافعي يقتصر على ما سمي
وكذا إذا قال اقعد في التجارة أو في الصناعة يصير مأذونا في جميع أنواع الحرف
وكذا إذا قال أذنت لك أن تتجر شهرا أو سنة يصير مأذونا في جميع الأوقات ما لم يحجر عليه حجرا عاما
وكذا لو قال اتجر في البز ولا تتجر في الخز لا يصح نهيه ويعم الإذن في النوعين وغيرهما والمسألة معروفة أن الإذن تمليك التصرف أو إسقاط الحق وفك الحجر ثم الإذن قد يثبت صريحا وقد يثبت بطريق الدلالة
فالصريح ما ذكرنا
وأما الدلالة بأن رأى المولى عبده يبيع ويشتري فسكت ولم ينهه عن ذلك يصير مأذونا في التجارات ولا يصير مأذونا في بيع ذلك الشيء بعينه وفي الشراء يصير مأذونا وهذا عندنا
وعند الشافعي لا يصير مأذونا
والكسوت يكون إذنا في مواضع فإن من باع عبدا من إنسانبحضرته والعبد ساكت يكون إقراراي منه بالرق دلالة
وكذا المشتري إذا قبض السلعة بحضرة البائع وسكت البائع يكون إذنا بالقبض
وكذا إذا سمع الشفيع بالبيع فلم يطلب الشفعة وسكت يكون تسليما للشفعة
وكذا البكر إذا زوجها وليها فسمعت من الولي وسكتت يكون إذنا
وله نظائر
وفي بعض المواضع لا يكون السكوت رضا على ما عرف في موضعه
وكذلك إذا قال لعبده أد إلي ألفا فأنت حر فإنه يصير مأذونا لأنه لا يقدر على الأداء إلا بالكسب فيكون إذنا له دلالة
وكذلك إذا كاتب عبده يصير مأذونا لأنه جعله أحق بكسبه
ثم الإذن بالتجارة يصح معلقا بشرط ومضافا إلى وقت بأن قال أذنت لك إلى رأس الشهر أو قال إذا جاء رأس الشهر فقد أذنت لك جاز لأن الإذن إسقاط لحق نفسه والإسقاط يصح تعليقه بالأخطار
وبمثله لو علق الحجر بالشرط لا يصح لأن الحجر فيه معنى الإثبات وإعادة الحق ولا يصح تعليق الإثبات بالشرط
وأما بيان حكم الإذن وما يملك المأذون وما لا يملكه فنقول كل ما كان من التجارة وتوابع التجارة وضروراتها فإنه يملكه المأذون وما لا فلا
وله أن يستأجر إنسانا ليعمل معه أو مكانا ليحفظ فيه أمواله أو دوابا ليحمل عليها أمتعته
وله أن يؤاجر ما اشترى من الدواب والرقيق
وله أن يؤاجر نفسه أيضا
ويصح منه الشراء بالنقد والنسيئة وبالعروض لأن ذلك معتاد للتجار
ويملك البيع والشراء بغبن يسير بالإجماع
وأما بالغبن الفاحش فيملك أيضا عند أبي حنيفة خلافا لهما كما اختلفوا في الوكيل بالبيع المطلق إذا باع بغبن فاحش إلا أن في الوكيل بالشراء بغبن فاحش لا يجوز عند أبي حنيفة
وعندهما يجوز
وفي المأذون الشراء والبيع سواء يجوز بغبن فاحش عند أبي حنيفة لأن الوكيل متهم ولا تهمة هاهنا
ويملك تأخير الدين من ثمن مبيع أو إقرار له بإتلاف كسبه ونحو ذلك
والقرض لا يصح تأجيله منه كما لا يصح من الحر
وأما الحط فلا يصح منه لكونه تبرعا
وكذلك الإبراء والكفالة لأنه تبرع
ويملك التصدق باليسير والضيافة اليسيرة لأنها من ضرورات التجارة عادة
ولا يملك التصدق بالدرهم الكامل ولا الهبة ولا الهدية ولا القرض
وكذا لا يملك الكفالة بالنفس ولا بالمال لأنها تبرع
ولا يملك أن يكاتب وأن يعتق على مال لأنه ليس من التجارة
ويملك أن يوكل بالبيع والشراء لأنه هذا من عادة التجارة فإنه لايقدر أن يفعل ذلك كله بنفسه
ويجوز له أن يتوكل عن غيره بالبيع بالاتفاق
وهل يجوز أن يتوكل بالشراء عن غيره إن وكله بالشراء نقدا ودفع الثمن إليه أو لم يدفع فالقياس أن لا يجوز لأنه يصير في معنى الكفيل بالثمن
وفي الاستحسان يجوز
وإذا توكل بشراء عبد نسيئة لا يجوز الشراء عن الآمر ويصير مشتريا لنفسه لأنه يصير الثمن عليه والملك يقع لغيره وعليه التسليم إليه لأن الثمن مؤجل فيكون بمعنى الكفالة
فأما إذا كان الشراء بالنقد فلا يجب عليه التسليم إلى الآمر بل له أن يحبسه حتى يستوفي الثمن من الموكل فلا يكون في معنى الكفالة بل في معنى البيع
ويملك أن يأذن لعبيده في التجارة
وله أن يعير دوابه
وله أن يودع ويقبل الوديعة لأن هذا من صنيع التجار
وله أن يدفع المال مضاربة ويأخذ المال من غيره وضاربه ويشارك مع غيره شركه عنان
ولا يجوز أن يشارك شركة مفاوضة لأنها تتضمن الكفالة ولا تصح منه الكفالة
وإذا شارك شركه مفاوضة تنقلب شركة عنان
وهل يملك أن يكاتب عبدا من أكسابه إن لم يكن عليه دين وأجاز المولى جاز ويكون العبد مكاتبا لمولاه ويدفع بدل الكتابة إلى المولى ويعتق إلا إذا أذن المولى إياه بقبض بدل الكتابة
وإن كان عليه دين لا يصح لأنه تعلق به حق الغرماء فيكون موقوفا على إجازة المولى فإن لم يجز المولى ورد الكتابة ينفسخ وما اكتسبه يصرف إلى دينه
وإن أجاز المولى الكتابة وأمر العبد بقبض بدل الكتابة إن كان عليه دين مستغرق لا تصح الكتابة لأن هذا إعتاق بشرط الأداء والمولىلا يملك كسب عبده المأذون إذا كان عليه دين مستغرق فكذا هذا ويباع المكاتب في الدين
وإن كان الدين غير مستغرق يعتق العبد ويضمن المولى قيمة العبد للغرماء لتعلق حقهم به كما لو أعتقه ابتداء
وعندهما تصح الكتابة كيفما كان كما يصح الإعتاق كيفما كان والكسب الذي أداه المكاتب إلى العبد المأذون يدفع إلى الغرماء وإن فضل شيء فعلى مولاه لإتلاف حقهم بالإعتاق
ولا يملك التسري بجارية من أكسابه لأنه لا يملك حقيقة
وليس له أن يتزوج لأنه ليس من التجارة فإن أذن المولى جاز وعليه المهر بعد العتاق إن كان النكاح بغير إذن المولى
وإن كان بالإذن منه يتعلق برقبته وكسبه لكن بعدما فضل من دين التجارة إن ثبت بإقرار المولى
فإن ثبت بالبينة تحاص المرأة الغرماء بمهرها
وليس له أن يزوج عبده لأنه ليس من التجارة وفيه ضرر بالمولى
وكذا ليس له أن يزوج أمته عندهما
وعند أبي يوسف يملك لأنه تصرف نافع
ويصح منه الإقرار على نفسه بالثمن والأجرة
ولو أقر بالغصب فإن كان معاينة فالضمان يتعلق برقبته لأنه من التجارة معنى فإنه يملك به المغصوب
وكذلك إذا جحد المضاربة والوديعة لأنه بمعنى الغصب
ثم إذا ثبت تعلق الدين برقبة العبد وكسبه فإن الدين يقضي من الكسب أولا
فإن فضل من الدين شيء أو لم يكن له كسب أصلا فإن القاضي يبيع الرقبة إذا طلبه الغرماء إلا إذا قضى المولى دينه
ولا يجوز من المولى بيع العبد إلا بإذن الغرماء أو بإذن القاضي أوبأن يقضي دينهم لأن ملكه قائم لكنه مشغول بحق الغرماء
ولو أعتقه المولى صح إعتاقه لأنه ملكه غير أنه إن كان عليه دين أقل من قيمته يقضي ديونه وإن كانت ديونه أكثر من قيمته غرم قيمته وإن كثرت فإن فضل شيء عن قيمته يؤاخذ العبد بعد العتاق
وإن كان المأذون مدبرا أو أم ولد ثم أعتقه جاز عتقه ولا ضمان للغرماء لأنه حقهم غير متعلق بهما لأنه لا يجوز بيعهما
ولو أعتق عبد عبده المأذون إن كان عليه دين مستغرق لا يصح إعتاقه عند أبي حنيفة خلافا لهما
وإن كان غير مستغرق يصح بالإجماع والمولى ضامن لقيمته إن كان موسرا وإن كان معسرا فللغرماء أن يضمنوا العبد ويرجع هو على المولى كما إذا أعتق العبد المرهون
فأما حكم الحجر فنقول إن المولى يملك حجر العبد المأذون إذا كان حجرا مشهورا بأن يشتهر ذلك في السوق
فأما إذا حجر في بيته فلا يصح لأن فيه ضررا بالناس وغرورا
ولو باعه ولا دين عليه يصير محجورا لأنه صار ملك الغير فلا تبقى ولاية الأول عليه
وكذا إذا كانت جارية فاستولدها المولى صارت ومحجورا عليها دلالة منع المولى أم الولد عن الخروج إلى الأسواق
وإن أغمي عليه لم يصر محجورا استحسانا
وفي الجنون يصير محجورا
وإذا أبق أو ارتد صار محجورا
وقال أبو يوسف لا يصير محجورا
إذا دبر المأذون لا يصير محجورا لأنه يمكنه التصرف مع التدبير
وإذا صح الحجر فلا يملك التصرف بعده في حق المولى
ولو أقر بشيء من حقوق الأموال فإنه لا يلزم مولاه ولا يتعلق برقبته لكن يؤاخذ بعد العتاق
وإذا كان في يده شيء من الأكساب وعليه دين فإنه لا يصح حجره في حقها
وليس للمولى أن يستردها لتعلق حق الغرماء به
ولو جنى المأذون جنايات فإنه يقتص فيما يجب فيه القصاص والدفع أو الفداء فيما لا يجب فيه القصاص
والمأذون وغير المأذون في ذلك سواء وقد ذكرنا هذا في كتاب الديات فلا نعيده
كتاب السير
قال يحتاج إلى تفسير الجهاد وإلى بيان كيفية فرض الجهاد وإلى بيان من يفترض عليه وإلى بيان ما يجب حال شهود الوقعة وإلى بيان أحكام الأنفال والغنائم وإلى بيان حكم الجزية وإلى بيان أحكام أهل الردة وإلى بيان أحكام البغاة ونحو ذلك
أما تفسير الجهاد
فهو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن القبول بالمال والنفس قال الله تعالى { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } وقال { إن الله اشترى من المؤمنين }
وأما بيان كيفية فرضه فنقول إنه فرض كفاية لا فرض عين
ونعني به أنه إذا لم يقم به البعض من أهل الثغور وغيرهم ممن هو يقرب منهم فإنه يفرض على جميع الناس ممن له قدرة عليه إما بالنفس أو بالمال
فإذا قام به البعض سقط عن الباقين لأن المقصود وهو دفع شر الكفرة والدعاء إلى دين الإسلام يحصل بالبعض فما لم يتعين البعض يجب على الكل وإذا تعين البعض سقط عن الباقين
ولهذا قلنا إذا كان النفير عاما يجب على العبد أن يخرج بغير إذن المولى وعلى المرأة القادرة عليه أن تخرج بغير إذن زوجها وعلى الولد أن يخرج بغير إذن الوالدين أو أحدهما إذا كان الآخر ميتا
فأما إذا قام به البعض فلا يجوز لهؤلاء أن يخرجوا إلا بالإذن
وأما بيان ما يجب حال شهود الوقعة فنقول إذا لقي الغزاة قوما من الكفار فإن لم تبلغهم الدعوة أصلا ينبغي أن يدعوهم إلى الإسلام أولا
فإن أبوا فإلى الذمة
فإن أبوا فحينئذ يقاتلونهم
فأما إذا بلغتهم الدعوة فالأولى البداءة بالدعاء إلى الإسلام
فإن بدأوا بالقتال والإغارة والبينات عليهم فلا بأس بذلك لأنه قد توجه عليهم الخطاب بالإيمان باتفاق الأمة
فإن سمع رجلا قال لا إله إلا الله أو قال أشهد أن محمدا رسول الله فإن كان من عبدة الأوثان أو من الثنوية أو من الدهرية فإنه لا يباح قتله لأنه أتى بالتوحيد
وإن كان من أهل الكتاب فإتيان الشهادتين لا يكفي ما لم يتبرأ من دين اليهودية والنصرانية
وكذا إذا قال أنا مسلم أو مؤمن أو أنا مصل لأنهميعتقدون أن دينهم إسلام وأن لهم شرائع وصلاة
وإذا قال أنا صليت مع المسلمين بجماعة أو أنا على دين محمد لا يباح قتله لأن ذلك دلالة الإسلام
ثم الغزاة لهم أن يقتلوا كل من كان من أهل القتال وكل من قاتل وإن لم يكن من أهل القتال في الجملة نحو الصبيان والمجانين والرهابين والشيوخ الهرمى
فأما إذا لم يقاتلوا فلا يباح قتل هؤلاء
وأما الرهابين فإن كانوا لا يخالطون الناس فكذلك
وإن كانوا يخالطون الناس أو يدلون على عورات المسلمين فيباح قتلهم
ولا بأس أن يحرقوا حصونهم بالنار ويغرقوها بالماء وينصبوا المجانيق على حصونهم ويهدموها عليهم وأن يرموها بالنبال وإن علموا أن فيهم أسارى المسلمين والتجار لأن فيه ضرورة
وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين وبأساراهم لكن ينبغي أن يقصدوا به قتل الكفار دون المسلمين لما فيه من ضرورة إقامة الفرض عليهم
ثم إذا ظفر الغزاة بهم فلا بأس بأن يقتل المقاتلة منهم من كان مقاتلا سوى الصبي والمجنون فإنه لا يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال لأنهما ليس من أهل القتل ليكون جزاء على قتالهما إلا إذا كان الصبي أو المعتوه ملكا فلا بأس بقتلهما كسرا لشوكتهما ويباح في حالة القتال لدفع الشر
وأما الشيوخ والرهابين والنسوان إذا قاتلوا فيباح قتلهم بعد الفراغ أيضا جزاء على قتالهم إلا إذا كانت المرأة ملكة فيباح قتلها وإن لم تقاتل
وينبغي لهم أن يخرجوا إلى دار الإسلام نساءهم وصبيانهم ويسترقوهم لما فيه من منفعة المسلمين ولا ينبغي أن يتركوهم في دارالحرب لما فيه من ضرر بالمسلمين
وأما الشيخ الفاني الذي لا قتال عنده ولا يقدر أن يلقح لكن يمكن أن يفادى به فإن شاؤوا تركوه وإن شاؤوا أخرجوه على قول من يرى مفاداة الأسير بالأسير وعلى قول من لا يرى يتركونه في دارهم لأنه لا فائدة فيه
وكذا في العجوز الكبيرة التي لا تلد
ولا ينبغي للغزاة أن يفر واحد من اثنين منهم
والحاصل أن الأمر مبني على غالب الظن فإن غلب في ظن المقاتل أنه يغلب ويقتل فلا بأس بأن يفر منهم ولا عبرة بالعدد حتى إن الواحد إذا لم يكن معه سلاح فلا بأس بأن يفر من اثنين معهما السلاح أو من الواحد الذي معه سلاح
ثم الغزاة هل لهم أن يؤمنوا الكفرة إن كان عندهم أن القوة للكفرة يجب أن يؤمنوا حتى يتقووا ثم يخبروهم بنقض الأمان ويشتغلوا بالقتال لأن الأمان في هذه الحالة في معنى القتال
ثم أمان الواحد الحر أو العبد المقاتل أو المرأة صحيح بلا خلاف
فأما أمان العبد المحجور فلا يصح عندهما وعند محمد و الشافعي يصح والمسألة معروفة
وأما أمان الصبي المراهق فلا يصح عندهم
وعند محمد يصح
وأجمعوا أنه لا يجوز أمان التاجر في دار الحرب ولا الأسير فيها ولا أمان المسلم الذي لم يهاجر إلينا ولا أمان الذمي المقاتل معهم لأنهم متهمون في ذلك
فأما المسلم الحر فيستوي فيه الأعمى والمريض والشيخ الكبير لأن هؤلاء من أهل الرأي
ثم بعد صحة الأمان للإمام أن ينقض إذا رأى المصلحة فيه لكن يخبرهم بذلك ثم يقاتلهم حتى لا يكون تغريرا لهم
وكذا الجواب في الموادعة وهو الصلح على ترك القتال مدة بمال أو بغير مال تجوز من الإمام إن رأى المصلحة ثم يخبرهم بالنقض وينقض حتى لا يكون تغريرا
وما أخذ من المال إن لم يتم المدة يرد إليهم بقدره
وكذلك الموادعة في حق المرتدين وأهل البغي جائزة إذا كان فيه مصلحة لأن هذا بمنزلة الأمان
وهذا إذا كان الصلح على أن يكونوا على حكم الكفر
ولو صالحوا على أن يكونوا على أحكام المسلمين فإنهم يصيرون ذمة ولا يجوز لنا نقض ذلك كعقد الذمة
وأما أحكام الأنفال والغنائم فنقول هنا ثلاثة أشياء النفل والغنيمة والفيء
أما النفل فما خصه الإمام لبعض الغزاة تحريضا لهم على القتال لزيادة قوة وجرأة منهم بأن قال من قتل قتيلا فله سلبه أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم أو قال لأحد معين ما أصبت فهو لك فإنه مختص به ويثبت الملك له في النفل ولا يشارك فيه غيره من الغزاة
والسلب عبارة عن ثياب المقتول وسلاحه التي معه ودابته التي عليها سرجها وآلاتها وما عليها من الحقيبة التي فيها الأموال وما على المقتول من الكيس الذي فيه الدراهم
فأما ما يكون مع غلامه على فرس آخر وأمواله التي على دابة أخرى فذلك منالغنيمة يشترك فيه الغزاة كلهم وهذا عندنا
وعند الشافعي السلب للقاتل وإن لم ينص عليه الإمام وهي مسألة معروفة
وأما الفيء فما حصل من غير مقاتلة فهو خاص لرسول عليه السلام فيتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف شاء قال الله تعالى { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء }
وأما الغنائم فهو اسم لما يؤخذ من أموال الكفرة بقوة الغزاة وقهر الكفرة بسبب القتال بإذن الإمام
ويتعلق بالغنائم أحكام منها حكم ثبوت الحق والملك فيها فنقول هذا أقسام ثلاثة أحدها أن يتعلق حق التملك أو حق الملك للغزاة بنفس الأخذ والاستيلاء ولا يثبت به الملك قبل الإحراز بدار الإسلام عندنا خلافا للشافعي فإن عنده في قول يثبت الملك بنفس الأخذ
وفي قوله بعد الفراغ من القتال وانهزام العدو
ويبتنى على هذا الأصل فروع منها أن الإمام إذا باع شيئا من الغنائم لا لحاجة الغزاة أو باع واحد من الغزاة فإنه لا يصح عندنا لعدم الملك
وكذا لو أتلف واحد من الغزاة في دار الحرب فإنه لا يضمن
ولو مات واحد من الغزاة لا يورث سهمه
ولو لحق المدد الجيش قبل القسمة في دار الحرب يشاركونهم في القسمة
ولو قسم الإمام في دار الحرب لا مجتهدا ولا باعتبار حاجة الغزاة فإنه لا يصح القسمة عندنا
وعند الشافعي يصح بخلاف ذلك في الفصول والمسألة معروفة
وأما بيان ثبوت الحق فإن الأسير إذا أسلم قبل الإحراز بدار الإسلام فإنه لا يكون حرا
ولو أسلم قبل الأخذ يكون حرا لما أنه يتعلق به حق الغزاة بالأخذ
وكذلك لو أسلم أرباب الأموال قبل الإحراز بدار الإسلام فإنهم لا يختصون بأموالهم بل هم من جملة الغزاة في الاستحقاق بسبب الشركة في الإحراز بدار الإسلام بمنزلة المدد
وكذا ليس لواحد من الغزاة أن يأخذ شيئا من الغنائم من غير حاجة ولو لم يثبت الحق كان بمنزلة المباح
والقسم الثاني بعد الإحراز بدار الإسلام قبل القسمة فإن حق الملك يتأكد ويستقر ولكن لا يثبت الملك أيضا
ولهذا قالوا لو مات واحد منهم يورث نصيبه
ولو قسم الإمام أو باع جاز
ولو لحقهم مدد لا يشاركونهم ويضمن المتلف ولكن الملك لا يثبت حتى لو أعتق واحد من الغزاة عبدا من عبيد الغنيمة لا يعتق لأنه لا يثبت الملك الخاص إلا بالقسمة
والقسم الثالث بعد القسمة يثبت الملك الخاص لكل واحد فيما هو نصيبه
فأما حكم الطعام والعلف في دار الحرب فنقول لا بأس بتناول الطعام والعلف لعموم الحاجة سواء كان المتناولغنيا أو فقيرا من غير ضمان لأن في إلزام الغني حمل الطعام والعلف مع نفسه مدة ذهابه وإيابه ومقامه في دار الحرب حرجا عظيما
وإذا كان محرزا بدار الإسلام لا يباح التناول بغير ضمان
وما فضل من الطعام والعلف بعد الإحراز قبل القسمة فإنه يرد إلى الغنيمة إن كان غينا وإن كان فقيرا يأكل بالضمان
وإن كان بعد القسمة فإنه يرد ثمنه إلى الفقراء
وإن باع شيئا منه يرد ثمنه إلى المغنم إن كان غنيا قبل القسمة وإن كان بعد القسمة يتصدق على الفقراء
وإن كان فقيرا يأكل إن كان بعد القسمة
وأما ما سوى الطعام والعلف من الأموال فلا يباح للغزاة أن يأخذوا شيئا منها لتعلق حق الكل بها إلا في السلاح والكراع والثياب عند الحاجة وإذا استغنى يرده إلى المغنم أو يدفع إليه بحصته من الغنيمة فلا يباح للغني أن يفعل ذلك بخلاف الطعام والعلف
ومنها حكم كيفية قسمة الغنائم فنقول يقسم على خمسة أسهم فأربعة أسهم للغزاة والخمس لأربابه وإنما يصرف إلى المقاتلة يعني به أهل القتال سواء كان شابا أو شيخا عبدا مأذونا أو حرا بعد أن كان رجلا مسلما مأذونا للقتال وسواء كان صحيحا أو مريضا
أما الصبي العاقل والمرأة والذمي والعبد المحجور عن القتل إذا قاتلوا فإنه يرضخ لهم الإمام شيئا لا سهما كاملا لأنه لا يجب القتال على هؤلاء إلا عند الضرورة
ثم ينظر إن كان راجلا فله سهم واحد وإن كان فارسا فلهسهمان عند أبي حنيفة سهم له وسهم لفرسه
وعندهما له ثلاث أسهم سهم له وسهمان لفرسه
ثم يسهم للفارس لفرس واحد عند أبي حنيفة و محمد و زفر
وعند أبي يوسف يسهم لفرسين ولا يسهم لما زاد على ذلك وهذه المقادير تعرف بالأخبار الواردة في الباب ومنها أنه يعتبر حال المقاتل في كونه فارسا أو راجلا في حال دخوله دار الحرب في ظاهر الرواية إذا كان قصده الدخول للجهاد حتى إذا كان يدخل تاجرا فإنه لا يستحق
ولو دخل فارسا لقصد الجهاد يستحق سهم الفرسان وإن مات فرسه
وعند الشافعي يعتبر وصف المقاتل حال شهود الوقعة والمسألة معروفة
ولو دخل راجلا ثم اشترى فرسا أو وهب له أو ورث أو استعار أو استأجر وقاتل فارسا فله سهم راجل لاعتبار حال الدخول
وروى الحسن عنه أنه له سهم فارس
ولو دخل فارسا ثم باع فرسه أو آجره أو أعاره أو رهنه أو وهبه وسلم روى الحسن عن أبي حنيفة أن له سهم فارس لاعتبار الدخول
وذكر في السير الكبير أن له سهم راجل لأنه لم يكن دخوله لقصد الجهاد فاعتبر الحسن حالة الدخول بناء على الظاهر واعتبر حال شهود الوقعة أيضا لأجل حقيقة القتال
ومنها حكم الأسرى فنقول الإمام بالخيار إن شاء قتل المقاتلة منهم سواء كانوا من المشركين أو من أهل الكتاب من العرب أو من العجم لأنه قد يكون مصلحةالمسلمين في قتلهم وإن شاء استرقهم وقسمهم بين الغانمين إلا في حق مشركي العرب فإنهم لا يسترقون ولكن يقتلون إن لم يسلموا قال الله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون }
فأما النساء والذراري فيسترقون كلهم العرب والعجم فيه سواء ولا يباح قتلهم لأنه فيه منفعة للمسلمين
وليس للإمام أن يمن على الأسرى فيترك قتلهم لأن فيه إبطال حق الغزاة من غير نفع يرجع إليهم
وهل يجوز أن يترك قتلهم بالمفاداة بأن يفادى بهم أسرى المسلمين عند أبي حنيفة لا تجوز المفاداة وعند أبي يوسف و محمد تجوز المفاداة بهم
ولا يجوز مفاداة أسر الكفار بمال يؤخذ منهم والمسألة معروفة
ثم للإمام خيار آخر في حق أهل الكتاب وعبدة الأوثان من العجم أن يعقد معهم عقد الذمة على أن يقبلوا الجزية ويترك الأراضي في أيديهم بالخراج كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق في حق مشركي العجم
فأما في حق مشركي العرب فلا يجوز أخذ الجزية منهم كما لا يجوز الاسترقاق فيقسم أراضيهم بين الغزاة لقوله عليه السلام لا يجتمع دينار في جزيرة العرب
ومنها حكم الخمس فنقول إن الخمس في زماننا يقسم على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهمللمساكين وسهم لأبناء السبيل
ولم يكن ذكر هؤلاء الأصناف على طريق الاستحقاق حتى لو صرف إلى صنف منهم جاز كما في الصدقة
واختلف مشايخنا قال بعضهم بأن في زمن النبي عليه السلام كان يقسم على خمسة أسهم سهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسهم لأقرباء الرسول عليه السلام للفقراء دون الأغنياء
وقال بعضهم يصرف إلى الفقراء والأغنياء من الأقرباء وثلاثة أسهم إلى ما ذكر الله تعالى في الكتاب وهذا عندنا
وعند الشافعي يقسم على خمسة أسهم فسهم الرسول يصرف إلى كل خليفة في زمانه وسهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم من أولاد فاطمة وغيرها وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم
وعندنا على الوجه الذي كان وقد بقي ثابتا وهم فقراء القرابة سوى سهم الرسول عليه السلام فإنه سقط بوفاته والمسألة معروفة
ثم الخمس إنما يجب فيما يؤخذ من أموال أهل الحرب إذا أخذ إما بإذن الإمام أو بقوة قوم لهم منعة وشوكة فإن الغنيمة اسم لمال يؤخذ على طريق القهر والغلبة أما في المنعة فظاهر
وكذا إذا أذن الإمام لسرية أو لواحد حتى يدخل للإغارة بخمس ما أصابه لأنه أخذ بقوة الإمام ومعونته والإمداد عند الحاجة
فأما إذا دخل قوم لا منعة لهم بغير إذن الإمام وأخذوا شيئا لا يجب فيه الخمس عندنا خلافا للشافعي وهم بمنزلة اللصوص والتجار ظفروا بمال أهل الحرب خفية وأخرجوه يكون ملكا لهم خاصة ولا خمس فيه لأنه ليس بغنيمة
هذا الذي ذكرنا حكم أموال الكفار التي أخذت منهم
وأما حكم أموالنا التي أخذوا من المسلمين بالقهر والغلبة في دار الإسلام فقبل أن يحرزوا بدار الحرب لا يثبت الملك لهم
وإن أحرزوا يثبت الملك لهم عندنا خلافا له
وكذا الجواب في عبيدنا إذا أخذوا في دار الإسلام
فأما إذا أبق العبد منا ودخل دار الحرب ثم أخذوه وأسروه لا يصير ملكا لهم عند أبي حنيفة وعندهما يملكونه
وأجمعوا أنهم إذا أخذوا مدبرينا ومكاتبينا وأمهات أولادنا أنهم لا يملكون حتى لو وجد الملك القديم يأخذه من غير شيء قبل القسمة وبعد القسمة وفي يد التاجر
فأما كل مال ملكوه فإن وجد قبل القسمة يؤخذ بغير شيء
وإن كان بعد القسمة يؤخذ بالقيمة
وإن وجد في يد تاجر أخرجه إلى دار الإسلام فإنه يأخذ بالثمن إن شاء لأن للمالك القديم حق التملك بالبدل كالشفيع وهذا في غير المكيل والموزون فأما في المثليات فلا يأخذ لأنه لا فائدة في أن يأخذ شيئا ويعطي مثله
ولو أن حربيا دخل دار الإسلام بغير أمان يصير فيئا لجماعة المسلمين حتى لو أسلم قبل أن يأخذه واحد من المسلمين فإنه لا يعتق وهذا عند أبي حنيفة
فأما عندهما فيصير ملكا للآخذ حتى لو أسلم قبل الأخذ يكون حرا
وأجمعوا أنه إذا عاد إلى دار الحرب قبل الأخذ ثم أسلم يكون حرا لأن حق أهل دار الإسلام لم يتأكد عند أبي حنيفة وعندهما لم يثبت
فإن دخل بأمان ثم أخذ يصح الأمان ولا يصير ملكا للآخذ لكن يقول له الإمام إن رجعت قبل سنة فلا شيء عليك وإنمضت سنة وضعت عليك الجزية وصرت ذميا فإن ذهب قبل مضي السن وإلا صار راضيا بالذمة ويصير ذميا
باب أخذ الجزية
وحكم المرتدين أما حكم الجزية فنقول إن أخذ الجزية وعقد الذمة مشروع في حق جميع الكفار إلا في حق مشركي العرب والمرتدين فإنه لا يقبل منهم الجزية كما لم يشرع فيهم الاسترقاق
فأما في حق أهل الكتاب فلقوله تعالى { هم المعتدون }
وأما في حق العجم فبحديث عمر رضي الله عنه أن فتح سواد العراق وضرب الجزية على جماعتهم ووضع الخراج على أراضيهم
ثم الجزية إنما تشرع في حق المقاتلين من الرجال العقلاء الأحرار الأصحاء دون النساء والصبيان والمجانين والأرقاء لأنها تجب على من يجب عليه القتل
ثم الجزية على التفاوت في حق الموسر المكثر في كل سنة ثمانية وأربعون درهما
وفي حق المتوسط أربعة وعشرون
وفي حق الفقير المعتمل أعني القادر على العمل والكسب اثنا عشر درهما حتى لا يجب على الزمن والأعمى والشيخ الفاني إذا لم يكونوا أغنياء وإذاكانوا أغنياء فكذلك في ظاهر الرواية لأن هؤلاء ليسوا من التقل
وعن أبي يوسف في رواية أنه يجب على الأغنياء منهم
وعلى هذا في التغلبي الفقير الذي لا يقدر على العمل لا شيء عليه لأن الصدقة المضاعفة جزية حقيقة
وكذلك إن مرض الذمي أكثر السنة لا تجب الجزية لأن الصحة شرط
وكذلك أهل الصوامع والرهابين والسياحون يؤخذ منهم الخراج إذا كانوا ممن يقدرون على العمل
وعن محمد أنه لا خراج عليهم لأنهم لا يقتلون إذا لم يكن منهم شر ظاهر فلا تؤخذ منهم الجزية ثم الجزية تجب زجرا لهم عن الكفر في المستقبل عند أبي حنيفة حتى تؤخذ منهم الجزية في السنة التي يعقد فيها الذمة
وإذا مضت السنة لا يؤخذ منهم الجزية في السنة التي يعقد فيها الذمة
وإذا مضت السنة لا يؤخذ لما مضى
وعندهما تؤخذ ما دام ذميا لما مضى
ولقب المسألة أن الموانيد هل تؤخذ أم لا فعنده لا تؤخذ خلافا لصاحبيه
وأما إذا أسلم الذمي أو مات تسقط الجزية عندنا خلافا للشافعي والمسألة معروفة
وأما حكم أهل الردة فنقول لهم أحكام من ذلك أن الرجل المرتد يقتل لا محالة إذا لم يسلم ولا يسترق لكن المستحب أن يعرض عليه الإسلام أولا فإن أسلم وإلافيقتل من ساعته إذا لم يطلب التأجيل
فأما إذا طلب التأجيل إلى ثلاثة أيام لينظر في أمره فإنه يؤجل ولا يزاد عليه
ولكن مشايخنا قالوا الأولى أن يؤجل ثلاثة أيام ويحبس ويعرض عليه الإسلام فإذا وقع اليأس فحينئذ يقتل
فأما المرأة فلا تقتل عندنا
خلافا للشافعي ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام وتضرب في كل ثلاثة أيام إلى أن تسلم
وكذا الجواب في الأمة إلا أن الأمة تحبس في بيت المولى لأن ملكه قائم بخلاف المرتدة المنكوحة فإن النكاح قد بطل بالردة
ولو لحقت بدار الحرب ثم ظهر المسلمون عليهم لهم أن يسترقوا المرتدة دون المرتد
فأما الصبي العاقل إذا ارتد فردته صحيحة عند أبي حنيفة و محمد كإسلامه
وعند أبي يوسف إسلام صحيح دون ارتداده
وعند الشافعي لا يصح كلاهما والمسألة معروفة
لكن لا يقتل ويعرض عليه الإسلام ولكن لا يحبس ولا يضرب وإذا بلغ الآن يعرض عليه الإسلام جبرا ويحبس ويضرب لكن لا يقتل لأنه لا يجب القتل بهذه الردة
وعلى هذا الصبي إذا حكم بإسلامه تبعا لأبويه ثم بلغ كافرا ولم يسمع منه الإقرار بعد البلوغ فإنه يجبر على الإسلام ولكن لا يقتل أيضا فأما إذا سمع منه الإقرار بعد البلوغ يقتل إذا ارتد
والسكران إذا ارتد في حال ذهاب عقله فالقياس أن تصح ردته في حق الأحكام وفي الاستحسان لا تصح
وإن ذهب عقله بسببالبرسام والإغماء فارتد في تلك الحالة لا تصح ردته قياسا واستحسانا لأن الكفر لا يصح بدون القصد
ومنها حكم مال المرتد وتصرفاته قال أبو حنيفة إنه موقوف فإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب بطل جميع ذلك إلا أن يدعي ولد جارية له فيثبت نسبه وتصير الجارية أم ولد له
وإن أسلم صح ذلك كله لأن ماله موقوف عنده بين أن يصير لورثته من وقت الردة وبين أن يبقى له إذا أسلم فالتصرفات المبنية عليه كذلك
وعند أبي يوسف تصرفاته صحيحة مثل تصرف الصحيح
وعند محمد تصرفاته مثل تصرف المريض لا تصح تبرعاته إلا من الثلث لأن عندهما ملكه باق بعد الردة وإنما يزول بالموت والقتل وإلحاق بدار الحرب
وأما حكم مال المرتدة وتصرفاتها فمثل قولهما في المرتد عند أبي حنيفة لأنها لا تقتل
ومنها حكم ميراث المرتد وإذا مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وترك ماله في دار الإسلام قال أبو حنيفة فما اكتسبه في حال الإسلام
فهو ميراث لورثته المسلمين وما اكتسبه في حال الردة فهو فيء
وعندهما الكل ميراث
ثم عندهما يعتبر حال الوارث وقت الموت والقتل دون الردة فإن كان مسلما حرا يرث وإلا فلا
وعن أبي حنيفة روايتان في رواية يعتبر حال الردة لا غير
وفي رواية يعتبر حال الردة والدوام إلى وقت الموت والقتل
وكذلك إذا لحق بدار الحرب فإنه يورث ماله لأن اللحاق بدار الحرب بمنزلة الموت
لكن هل يشترط قضاء القاضي بلحاقه ففيه روايتان
ولكن القاضي يحكم بعتق أمهات أولاده ومدبريه
وأما المكاتب فإذا أدى بدل الكتابة إلى ورثته عتق ويكون الولاء للمرتد ويقوم الورثة مقامه في حق قبض بدل الكتابة كما إذا مات المولى وترك مكاتبا
ولو أن المرتد بعدما لحق بدار الحرب عاد إلى دار الإسلام مسلما فإن كان قبل قضاء القاضي بلحاقه فما له على حاله ولم يعتق مدبروه ومكاتبوه وأمهات أولاده
وإن كان بعد القضاء فما وجد من ماله في يد وارثه بحاله فهو أحق به كأنه وهب منه وله أن يرجع
وما زال عن ملكه بالتمليك أو بالأكل فلا رجوع فيه
ولا سبيل له على أمهات الأولاد والمدبرين ولا يفسخ عتقهم لأنه لا يحتمل الفسخ وإن وجد بدل الكتابة في يد الورثة يأخذه وإلا فلا شيء على الورثة
باب أحكام البغاة
قال إذا خرج طائفة على الإمام على التأويل وخالفوا الجماعة فإن لم يكن لهم منعة فللإمام أن يأخذهم ويحبسهم حتى يحدثوا توبة
وإن كانت لهم منعة فإنه يجب على الذين لهم قوة وشوكة أن يعينوا إمام أهل العدل ويقاتلوهم حتى يهزموهم ويقتلوهم
وبعد الانهزام يقتلون مدبريهم وأسرائهم ويجهزون على جريحهم
وأصله قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله }
وإن عفا الإمام عن أسرائهم فلا بأس به أيضا
وإن لم يكن لهم منعة ينحازون إليها فليس للإمام أن يقتل أسراهم ولا مدبريهم ولكن يحبسهم حتى يحدثوا توبة
ثم يخلى سبيلهم
ثم بعد التوبة ما أخذ الإمام من أموالهم وسلاحهم وهو قائم يرد إليهم
وما استهلكوه فلا ضمان عليهم
وكذا في جانب أهل البغي إذا أتلفوا أموال أهل العدل
وأصله حديث الزهري أنه قال وقعت الفتنة فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون على أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو هدر وكل ما أتلف بتأويل القرآن فلا ضمان فيه وكل فرج استبيح بتأويل القرآن فلا حد فيه وما كان قائما يرد
وهذا إذا أتلفوا في حال التجبر والمنعة
فأما إذا أتلفوا مالهم ونفوسهم قبل ظهور المنعة أو بعد الانهزام فإنهم يضمنون لأنهم من أهل دار الإسلام
وهذا جواب الحكم وإنما نعني به أن يضمن كل واحد من الفريقين للآخر ما أتلف من الأنفس والأموال لكونها معصومة في هذه الحالة إلا بطريق الدفع
ثم كل من لا يباح قتله من أهل الحرب لا يباح قتله من أهل البغي إلا إذا وجد القتال من العبيد والنسوان والشيوخ فيحنئذ يقتلون في حالة القتال
وبعد الانهزام لا يباح
ويكره أن يبعث برؤوس البغاة أو الحربى إلى الآفاق إلا إذا كان في ذلك وهن لهم فلا بأس به
ثم قتلى أهل العدل شهداء يفعل بهم مثل ما يفعل بالشهداء يكفنون في ثيابهم ولا يغسلون ويصلى عليهم
فأما قتلى أهل البغي فلا يصلى عليهم سواء كان لهم منعة أو لم يكن وهو الصحيح
ولكن يغسلون ويكفنون ويدفنون لأن هذا من شيمة الموتى
وأما قضاء قاضي أهل البغي بشهادة أهل البغي فلا يصح لاحتمال أنه قضى بما هو باطل عندنا لأنهم يستحلون أموالنا ودماءنا ولا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضيهم لما ذكرنا من الاحتمال
وإذا تابوا ورجعوا ينظر الإمام في قضاياه فإن قضى بما هو الحق بشهادة أهل العدل ينفذ وإلا فيرد الكل
وأما إذا نصبوا قاضيا من أهل العدل فإن قضاءه نافذ لأن لهم شوكة وقوة وأمكن للقاضي تنفيذ قضاياه بقواهم والله أعلم
كتاب الشرب
في هذا الكتاب فصلان أحدهما في أحكام الشرب
الثاني في أحكام الأراضي
أما الأول فنقول إن المياه أنواع أربعة ماء مملوك وهو ما أحرز في الأواني
وحكمه حكم سائر الأملاك ليس لأحد فيه حق ولا يحل لأحد أن يأخذه ولا أن يشربه إلا عند الضرورة القاتلة بأن أصابه العطش على وجه يهلك فيباح له الأخذ والشرب ولو منع صاحبه له أن يقاتله بالسلاح حتى يتمكن من تناوله بقدر ما يدفع به عطشه إذا كان معه فضل ماء عن حاجته الماسة
وفي الطعام يباح له أن يأخذ جبرا وقهرا ولكن لا يقاتل بالسلاح كما قال بعض المشايخ
وقال بعضهم هذا في البئرالخاص والنهر الخاص فإن حق الشفة ثابت لكل الناس فمن منع حقه له أن يقاتل معه
فأما في الماء المملوك فعند الضرورة القاتلة يباح له الأخذ قهرا لكن لا يقاتل كما في الطعام
والثاني الماء الذي يكون في البئر والحوض والعين المملوكة له فهو حق خاص له كالمملوك لكن لعامة الناس حق الشفة من هذا الماء حتى يشرب بنفسه ويأخذ الماء لنفسه ولمواشيه وليس لصاحب الماء حق المنع وهو معنى قوله عليه السلام الناس شركاء في الثلاث في الماء والكلأ والنار
ولكن لو أراد أحد أن يسقي زرعه من ذلك الماء لا يجوز له ذلك ويمنعه السلطان عنه
لأن هذا يبطل حقه لأنه لو أطلق هذا لشاركه فيه كل من يمكنه سقي أرضه منه فيبطل حقه أصلا
والثالث أن يكون نهرا مشتركا بين جماعة محصورة حتى يثبت الشفعة بسبب الشركة فيه كان لهؤلاء الشركاء حق السقي بقدر شركتهم في النهر وليس لغيرهم حق السقي للمزارع والأشجار إنما لهم حق الشفة
ولو أراد واحد من الشركاء أن يكري نهرا صغيرا ويأخذ الماء من النهر المشترك فيسوق إلى أرض أحياها ليس لها منه شرب ليس له ذلك إلا برضا الشركاء
وكذلك إذا أراد أن ينصب عليه رحى ليس له ذلك إلا برضا الشركاء لأن بقعة الرحى حق وملك لجماعتهم فإذا بنى اختص بتلك البقعة وانقطع حق الشركاء عنها فيمنع
أما إذا كان موضع الرحى ملكه موليس فيه ضرر بالشركاء بأن كان الماء يدير الرحى ويجري الماء على سننه في النهر فليس لهم حق المنع لأن الماء مشترك بينهم ولكل واحد منهم أن ينتفع بحقه على وجه لا يتضرر به شركاؤه
فأما إذا كرى نهرا من هذا النهر وعرج الماء حتى يصل إلى الرحىالمملوكة له في أرضه فيدير رحاه ثم يجري النهر من أسفله ليس له ذلك لأن فيه ضررا بالشركاء بقطع الماء عن سننه فيتأخر وصول حقهم إليهم وينتقص في الجملة أيضا
وكذا الجواب في نصب الدالية والسانية
والرابع الأنهار العظام كالفرات والدجلة والجيحون وغيرها فلا حق لأحد فيها على الخصوص بل هو حق العامة فكل من يقدر على سقي أراضيه منها فله ذلك
وكذا نصب الرحى والدالية ونحو ذلك
وهذا إذ لم يكن فيه ضرب بالنهر العظيم أما إذا كان فيه ضرب فيمنع عن ذلك
ثم كري الأنهار العظام على السلطان من مال بيت المال لأن منفعتها ترجع إلى عامة الناس فيكون مؤونة ذلك في مال العامة وهو مال بيت المال
وأما كري النهر المشترك بين أقوام معلومين فعليهم واختلفوا في كيفية ذلك قال أبو حنيفة عليهم جميعا أن يكروا من أعلاه فإذا جاوز أرض رجل واحد دفع عنه حصته يكرن الكرى على من بقي
وقال أبو يوسف و محمد الكري عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأرض
وبيان ذلك أن النهر إذا كان بين عشرة ولكل واحد منهم عليه أراض على السواء فإن الكري من فوهة النهر إلى أن يجاوز شرب أولهم بينهم على عشرة أسهم على كل واحد منهم العشر فإذا تجاوز شرب الأول خرج هو من الكري ويكون الكري على الباقين على تسعة أسهم فإذا تجاوز شرب الثاني سقطت عنه النفقة ويكون الكري على الباقين على ثمانية أسهم على هذا الترتيب
وقالا إن المؤونة بينهم على عشرة أسهم من أول النهر إلى آخره
فهما يقولان إن لصاحب الأعلى منفعة في حفر الأسفل فإنه مسيل مائة كما أن لصاحب الأسفل منفعة في الأعلى ثم حفر الأعلى مشترك فكذلك الأسفل
و أبو حنيفة يقول إن فوهة النهر مشتركة لا يتوصل أحدهم إلى الانتفاع بشربه إلا بحفرها
وكذا حفر ما بعدها فإذا تجاوز شرب أحدهم فلا حق له فيحفر ما بعد أرضه لأن ذلك ملك الباقي لا ملكه إنما له حق تسييل الماء فيه فتكون المؤونة على المالك لا على صاحب الحق كما في مسيل الماء على سطع مملوك لغيره
وإذا كان نهر لرجل بين أراض فاختلفوا في المسناة قال صاحب الأرض هي ملكي وقال صاحب النهر هي ملكي ولا يعرف أن المسناة في يد من هي وفي تصرف من هي قال أبو حنيفة هي ملك صاحب الأرض حتى إن له أن يغرس فيها ويزرع ويمنع صاحب النهر عن إلقاء الطين فيها وعن المرور فيها إلا أنه ليس له أن يحفر المسناة فيسيل ماء النهر في غير موضعه فيكون حق صاحب النهر في إمساك الماء لا غير
وعلى قولهما إنما هي ملك صاحب النهر
ومن مشايخنا من قال إن هذا الخلاف مبني على أن النهر هل له حريم أم لا فإن كرى رجل نهرا في أرض موات بإذن السلطان فعندأبي حنيفة ليس له حريم
وعندهما له حريم فكان الظاهر شاهدا لصاحب النهر عندهما وليس بشاهد له عند أبي حنيفة
لكن أهل التحقيق من مشايخنا قالوا لا خلاف أن للنهر حريما في أرض موات فإن النبي عليه السلام جعل للبئر حريما فيكون جعله ذاك جعلا للنهر حريما بطريق الأولى لشدة حاجة النهر إلى الحريم
ولكن الخلاف هاهنا فيما إذا لم يعرف أن المسناة في يد صاحب النهر بأن كانت متصلة بالأراضي مساوية لها ولم تكن أعلى منها فالظاهر شاهد أنها من جملة أراضيه إذ لو لم تكن هكذا لكانت أعلى لإلقاء الطين فيها ونحو ذلك
وعندهما الظاهر شاهد لصاحب النهر لكونه حريما له فوقع الكلام بينهم في الترجيح
ثم الشرب الخاص أو المشترك لا يجوز بيعه وهبته ونحو ذلك إلا الوصية
ويجري فيه الإرث لأنه ليس بعين مال بل هو حق مالي
فأما إذا باع تبعا لأرضه جاز ويصير الشرب لصاحب الأرض وإنما يدخل الشرب إذا ذكره صريحا في البيع أو يذكر إني بعت الأرض بحقوقها أو بمرافقها أو بكل قليل وكثير هو لها داخل فيها وخارج منها من حقوقها فحينئذ يدخل
فأما في الإجارة فيدخل الشرب من غير ذكر لأن الانتفاع بالأرض المستأجرة لا يكون إلا بالماء بخلاف البيع
أما أحكام الأراضي
فهي أنواع وأرض مملوكة عامرة لا يجوز لأحد التصرف فيها والانتفاع بها إلا برضا صاحبها
والثانية أرض خراب انقطع ماؤها وهي ملك صاحبها لا تزولعنه إلا بإزالته وتورث عنه إذا مات
وهذا إذا عرف صاحبها
وإن لم يعرف فحكمها حكم اللقطة
الثالثة الأرض المباحة وتسمى الموات وهي نوعان أحدهما ما يكون تبعا لبعض القرى مرعى لمواشيهم ومحتطبا لهم فهي حقهم لا يجوز للإمام أن يقطعها من أحد لأن في ذلك ضررا بهؤلاء
ولكن ينتفع بالحطب والقصب التي فيها هؤلاء وغيرهم وليس لهم أن يمنعوها عن غيرهم لأنها ليست بملك لهم
والحد الفاصل أن يسمع صوت الرجل من أدنى الأرض المملوكة إليه فما لم يسمع صوته فيه فهي ليست بتابعة لقريتهم
والنوع الثاني ما لا يكون تبعا لقرية من القرى فهي على الإباحة من أحياها بإذن الإمام فعند أبي حنيفة تكون ملكا له وعندهما بغير إذن الإمام تصير ملكا له ويصير هو أحق بها من غيره ملكا
والإحياء أن يبني ثمة بناء
أو يحفر نهرا أو يجعل للأراضي مسناة ونحو ذلك
أما إذا وضع أحجارا حولها وجعل ذلك حدا فإنه لا تصير ملكا له ولكن يكون هو أحق بالانتفاع بها بسبق يده على ما روي مني مناخ من سبق
ثم في الأراضي المملوكة لا شركة لأحد في الحطب والقصب منها وإنما لهم حق في الكلأ وليس لأربابها منع الغير عن ذلك للحديث الذي روينا
ولو منع عن الدخول يقول له أخرج الكلأ إلى الطالب وإلا فاتركه حتى يدخل فيحصد بنفسه
وهكذا المروج المملوكة والأجمة المملوكة في حق الكلأ والسمك لا في الحطب والقصب
ثم إذا حفر نهرا هل له حريم عند بعض المشايخ على الخلاف الذي ذكرنا في المسناة
وعند بعضهم له حريم بقدر ما يحتاج إليه بالاتفاق لإلقاء الطين ونحوه
واختلف أبو يوسف و محمد في مقداره قال أبو يوسف قدر عرض نصف النهر من هذا الجانب وقدر النصف من الجانب الآخر
وقال محمد قدر عرض جميع النهر من كل جانب
وكذا الاختلاف في الحوض
فأما حريم بئر العطن فأربعون ذراعا بالإجماع
وحريم العين خمسمائة ذراع من كل جانب بالإجماع
واختلفوا في بئر الناضح قال أبو حنيفة أربعون من كل جانب
وقالا ستون ذراعا
كتاب الأشربة
قال يحتاج إلى تفسير أسماء الأشربة المحرمة في الجملة وإلى بيان أحكامها
أما الأسماء فثمانية الخمر والسكر ونقيع الزبيب ونبيذ التمر والفضيخ والباذق والطلاء ويسمى المثلث والجمهوري ويسمى أبو يوسفي
أما الخمر فهو اسم للنيء من ماء العنب بعدما غلي واشتد وقذف بالزبد وسكن عن الغليان وصار صافيا وهذا عند أبي حنيفة
وقال أبو يوسف و محمد إذا غلي واشتد فهو خمر وإن لم يسكن عن الغليان
وأما السكر فهو النيء من ماء الرطب بعدما غلي واشتد وقذف بالزبد وسكن غليانه عنده وعندهما إذا غلي ولم يسكن غليانه
وأما نقيع الزبيب فهو الزبيب إذا نقع في الماء حتى خرجت حلاوته إلى الماء من غير طبخ
وأما نبيذ التمر فيقع على الماء الذي نقع فيه التمر فخرجت حلاوته ثم اشتد وغلي وقذف بالزبد وهذا الأسم يقع على المطبوخ والنيء منه
وأما الفضيخ فهو البسر إذا خرج منه الماء وغلي واشتد وقذف بالزبد وذلك بأن يكسر ويدق يسمى فضيخا لأنه يفضخ أي يكسر ويرض
وأما الباذق فهو اسم لما طبخ أدنى من ماء العنب حتى ذهب أقل من الثلثين سواء كان أقل من الثلث أو النصف أو طبخ أدنى طبخه بعدما صار مسكرا وسكن عن الغليان
وأما الطلاء فهو اسم للمثلث وهو المطبوخ من ماء العنب بعدما ذهب ثلثاه وبقي الثلث وصار مسكرا
وأما الجمهوري فهو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق ويعود إلى المقدار الذي كان في الأصل ثم طبخ أدنى طبخه وصار مسكرا وهذا بيان الأسماء
أما بيان الأحكام فنقول أما الخمر فلها أحكام ستة الأول تحريم شرب قليلها وكثيرها
ويحرم الانتفاع بها للتداوي وغيره
لكن عند أبي حنيفة ما لم تسكن من الغليان يباح شربها وعندهما إذا صار مسكرا يحرم شربه وإن لم يسكن من الغليان قال عليه السلام حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب
والثاني تكثير جاحد حرمتها لأن حرمتها ثبتت بنص الكتاب
والثالث يحرم تمليكها وتملكها بسبب الملك من البيع والهبة وغيرهما مما للعباد فيه صنع
والرابع هي نجسه نجاسة غليظة حتى إذا أصاب الثوب أكثرمن قدر الدرهم يمنع جواز الصلاة لقوله تعالى { رجس من عمل الشيطان }
والخامس يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها بإجماع الصحابة عليه
والسادس يجب فيه الحد مقدرا بثمانين سوطا في حق الأحرار وفي حق العبيد نصف ذلك
وأما حكم السكر ونقيع الزبيب والتمر من غير طبخ والفضيخ والباذق فواحد وهو أنه يحرم شرب قليلها وكثيرها لكن هذه الحرمة دون حرمة الخمر حتى إن من جحد حرمة هذه الأشربة لا يكفر بخلاف الخمر
وكذا لا يجب الحد بشرب قليلها وإنما يجب الحد بالسكر
وقال بعض الناس بإباحة هذه الأشربة مثل بشر المريسي وغيره لورود الأخبار في إباحة شربها
واختلفت الروايات في النجاسة ففي رواية عن أبي حنيفة أنه نجس العين كالخمر ويمنع من جواز الصلاة ما كان مقدرا بأكثر من قدر الدرهم وفي رواية ظاهر
وعن أبي يوسف أنه اعتبر فيه الكثير الفاحش
أو ما بيع هذه الأشربة وتمليكها فجائز عند أبي حنيفة
وعند أبي يوسف و محمد لا يجوز ذلك فهما يقولان إن المال ما يباح الانتفاع بهحقيقة وشرعا وهذه الأشربة لا يباح شربها ولا الانتفاع بها شرعا فلا تكون مالا كالخمر
أبو حنيفة يقول إن الأخبار تعارضت في هذه الأشربة في الحل والحرمة فقلنا بحرمة الشرب احتياطا ولا تبطل المالية الثابتة في الحالة الأولى احتياطا لأن الاحتياط لا يجري في إبطال حقوق الناس
وأما حكم الطلاء وحكم مطبوخ التمر والزبيب أدنى طبخ على السواء فالقليل منه حلال ظاهر والمسكر حرام وهو القدح الذي يسكر
فإذا سكر يجب عليه الحد
ويجوز بيعه وتمليكه ويضمن متلفه وهذا في قول أبي حنيفة و أبي يوسف
وعن محمد روايتان في رواية أنه حرام شربه لكن لا يجب الحد ما لم يسكر وهو قول الشافعي
وفي رواية قال لا أحرمه ولكن لا أشرب منه والصحيح قولهما باتفاق عامة الصحابة على إباحة شربه حتى إن عند أبي حنيفة هذا من علامة مذهب السنة والجماعة حتى سئل عنها فقال السنة أن تفضل الشيخين وتحب الختنين إلى أن قال ولا تحرم نبيذ الجر
ثم ما سوى هذه الأشربة مما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والسكر والفانيذ والعسل والتين فهي مباحة وإن سكر منها ولا حد على من سكر منها هذا هو الصحيح من الرواية لأن هذه من جملة الأطعمة ولا عبرة بالسكر فإن في بعض البلاد قد يسكر المرء من الخبز ونحوه والبنج يسكر ولبن الرمكة يسكر
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن المسكر منه حرام كما في المثلث ولكن إذا سكر منه لا حد فيه بخلاف المثلث
ثم حد السكر الذي يتعلق به وجوب الحد والحرمة عند أبي حنيفة أن يزول عقله بحيث لا يفهم شيئا
وعندهما إذا كان غالب كلامه الهذيان
فما قاله أبو حنيفة غاية السكر فاعتبر الكمال في درء الحد ولو كان الخمر فيها حموضة غالبة وفيها طعم المرارة لكنه مغلوب فإنه لا يحل ما لم يزل من كل وجه
وهما اعتبرا الغالب فيحل عندهما
ويحرم على الأب أن يسقي الصبيان خمرا وعليه الإثم في الشرب
وكذلك لو سقى الدواب حتى سكرت ثم ذبحها لا يحرم أكل لحمها
ولو نقعت فيها الحنطة ثم غسلت حتى زال طعمها ورائحتها يحل أكلها
ولو ألقى في الخمر علاجا من الملح والمسك والبيض والخل حتى صارت حامضا يحل شربها عندنا وصارت خلا
وعند الشافعي لا يحل
ولقب المسألة أن تحليل الخمر بالعلاج هل يباح أم لا ولو نقل الخمر من الظل إلى الشمس ومن الشمس إلى الظل حتى تصير حامضا تحل عندنا وللشافعي فيه قولان والمسألة معروفة
والله أعلم
كتاب الحظر والإباحة
سمى محمد بن الحسن رحمه الله ومشايخنا هذا الكتاب
كتاب الاستحسان
لما فيه من المسائل التي استحسنها العقل والشرع
والشيخ أبو الحسن الكرخي سماه كتاب الحظر والإباحة لما فيه من بيان أحكام الحظر والإباحة والكراهة والندب على الخصوص
وبدأ الكتاب بإباحة المس والنظر إلى الرجال والنساء فنقول النسوان على أربعة أنواع نوع منها الزوجات والمملوكات بملك اليمين
ونوع منها الأجنبيات وذوات الرحم التي لا يحرم نكاحهن
ونوع آخر ذوات الرحم المحرم والمحارم التي لا رحم لها كالمحرمة بالرضاع والصهرية
ونوع آخر مملوكات الغير
أما النوع الأول فيحل للزوج وللمالك النظر والمس من قرنها إلى قدمها عن شهوة ويحل الاستمتاع في الفرج وما دون الفرج إلا في حالة الحيض فإنه لا يباح الوطء في هذه الحالة ما لم تطهر
وهل يباح الجماع فيما دون الفرج قال أبو حنيفة و أبو يوسف لايباح الاستمتاع إلا فوق الإزار
وقال محمد يجتنب شعار الدم ويحل له ما وراء ذلك من غير إزار
واختلف المشايخ في تفسير قول أبي حنيفة و أبي يوسف ما فوق الإزار بعضهم قالوا أراد ما فوق السرة من البطن ونحوه ولا يباح ما دون السرة إلى الركبة
وقال بعضهم أراد به أنه يحل الاستمتاع مع الإزار لا مكشوفا
وكذا لا يحل الاستمتاع بالدبر عند عامة العلماء
وقال بعض أصحاب الظواهر يباح
والأصل في ذلك قوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين }
من غير فصل إلا أن حالة الحيض صارت مستثناة لقوله تعالى { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى }
وصار الاستمتاع بالدبر مستثنى بأجماع الصحابة وبحديث علي رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى كاهنا فصدقه فيما يقول فهو كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
وأما النظر إلى عين الفرج فمباح أيضا لأن الاستمتاع مباح فالنظر أولى لكن ليس من الأدب النظر إلى فرج نفسه أو إلى فرجها
وأصل ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نظرت إلى ما منه وما نظر إلى ما مني
وأما النوع الثاني وهو المحارم من ذوات الرحم والمحارم التي لا والركبة وإلى البطن والظهر ويباح النظر إلى ما سوى ذلك من الشعر والصدر والساعدين والساقين ونحوها لقوله تعالى { ولا يبدين زينتهن } رحم لها من الأجنبيات فنقولالنظر حرام إلى هؤلاء إلى ما بين السرة { إلا لبعولتهن }
ولكن هذا إذا كان غالب رأيه أنه لا يشتهي
فأما إذا كان غالب حاله أنه يشتهي فلا يباح له النظر
وما عرفت من الجواب في حق النظر فهو الجواب في حق المس أنه لا يباح له مس الأعضاء التي لا يباح له النظر إليها ويباح مس الأعضاء التي يباح له النظر إليها
وهذا إذا كانت الأعضاء مكشوفة
فأما إذا كانت مع الثياب واحتاج ذو الرحم المحرم إلى مس هذه الأعضاء الأربعة وراء الثوب للإركاب والإنزال والوضع في القبر واللحد فلا بأس بذلك إذا كان لا يشتهي لأجل الحاجة
وأما النوع الثالث وهو مملوكات الغير فحكمها وحكم ذوات الرحم المحرم في حرمة النظر والمس سواء
وأما النوع الرابع وهو الأجنبيات وذوات الرحم بلا محرم فإنه يحرم النظر إليها أصلا من رأسها إلى قدمها سوى الوجه والكفين فإنه لا بأس بالنظر إليهما من غير شهوة فإن كان غالب رأيه أنه يشتهي يحرم أصلا
وأما المس فيحرم سواء عن شهوة أو عن غير شهوة وهذا إذا كانت شابة
فإن كانت عجوزا فلا بأس بالمصافحة إن كان غالب رأيه أنه لايشتهي
ولا تحل المصافحة إن كانت تشتهي وإن كان الرجل لا يشتهي
فإن كان عند الضرورة فلا بأس بالنظر وإن كان يشتهي كالقاضي والشاهد ينظر إلى وجهها عند القضاء وتحمل الشهادة أو كان يريد تزوجها لأن الغرض ليس هو اقتضاء الشهوة على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال للمغيرة بن شعبة لو نظرت إليها لأحرى أن يؤدم بينكما
وأما النظر إلى القدمين هل يحرم ذكر في كتاب الاستحسان هي عورة في حق النظر وليس بعورة في حق الصلاة
وكذا ذكر في الزيادات إشارة إلى أنها ليست بعورة في حق الصلاة
وذكر ابن شجاع عن الحسن عن أبي حنيفة أنها ليست بعورة في حق النظر كالوجه والكفين
وأما الرجال في حق الرجال فيباح لكل واحد النظر إلى الآخر سوى ما بين الركبة إلى السرة
والركبة عورة عندنا خلافا للشافعي والسرة ليست بعورة عندنا وعنده عورة
وكذلك النساء في حق النساء يباح النظر إلى جميع الأعضاء سوى ما بين الركبة إلى السرة
وما يباح النظر يباح المس من غير شهوة
ولا يباح المس والنظر إلى ما بين السرة والركبة إلا في حالة الضرورة بأن كانت المرأة ختانة تختن النساء أو كانت تنظر إلى الفرج لمعرفة البكارة أو كان في موضع العورة قرح أو جرح يحتاج إلى التداوي وإن كان لا يعرف ذلك إلا الرجل يكشف ذلك الموضع الذي فيه جرح وقرح فينظر إليه ويغض البصر ما استطاع
وكذا يباح للنساء النظر إلى الرجال إلا فيما بين السرة إلى الركبة لأن هذا ليس بعورة فإن الرجال قد يكونون في إزار واحد في الأسواق ولم ينكر عليهم أحد
باب آخر قال رجل رأى
إنسانا قتل أباه عمدا بالسلاح أو أقر عنده ثم قال القاتل إنما قتلته لأنه قتل وليي عمدا أو أنه ارتد عن الإسلام ولم يعرف الابن ذلك إلا بدعواه فإنه يباح له أن يقتص منه لا يقبل قوله لأن القصاص ثبت عنده لوجود القتل العمد ظاهرا بالعيان أو بالإقرار فإن الإقرار حجة بنفسه وقول القائل يحتمل الصدق والكذب فلا يعتبر إلا بحجة
ولو شهد عنده رجلان عدلان إن هذا الرجل قتل أباك عمدا بالسلاح فإنه لا يباح له أن يقتله لأن قول الشاهدين لا يصير حجة بدون قضاء القاضي بخلاف الإقرار والعيان
ولو شهد عند الابن شاهدان على دعوى القاتل أنه قتله بحق ينظر إن كان بحال لو شهدا عند القاضي فالقاضي يقضي بشهادتهما فإنه لا يتعجل بالقتل بل يتوقف إلى أن يشهدا عند القاضي
وإن كان بحال لا يقبل القاضى قولهما يباح له أن يقتله للحال بيانه إذا كان الشاهدان محدودين في القذف أو فاسقين أو النساء وحدهن فالقاضي لا يقضي بقولهم ويباح له أن يقتله للحال
وإن كانا رجلين عدلين يتوقف
وكذلك في الشاهد الواحد يتوقف
وروي عن محمد في المحدودين أحب إلي أن يتوقف لأن القاضي ربما يقبل شهادتهما على رأي الشافعي ويكون اجتهاده يفضي إليه ويراه حقا وصوابا وقضاء القاضي في فصل مختلف فيه جائز
وكذلك في الفاسقين والنساء وحدهن يجب أن يكون الجواب كذلك عنده لأن ذلك فصل مختلف فيه أيضا
وكذلك الجواب فيما إذا رأى إنسانا أخذ مال أبيه أو أقر عنده ثم قال كان ذلك عنده وديعة لي فأخذته أو كان لي عليه دين فاقتضيته فله أن يأخذه
ولو شهد رجلان عنده بذلك ليس له أن يأخذ لما قلنا
ولو أن القاضي إنما قضى في فصل مجتهد فيه وهو من أهل الاجتهاد برأيه والمقضى عليه فقيه مجتهد يرى بخلاف ما يقضي به القاضي فإنه يجب عليه أن يترك رأيه برأي القاضي سواء كان ذلك من باب الحل أو الحرمة أو الملك أو الطلاق أو العتاق ونحوه لأن قضاء القاضي في فصل مجتهد فيه ينفذ بإجماع الأمة لأن رأيه ترجح بولاية القاضي وهذا قول محمد
وكذا قال أبو يوسف فيما ليس من باب الحرمة فأما إذا كان من باب الحرمة فيتبع رأي نفسه احتياطا في باب الحرمة بيانه رجل قال لامرأته أنت طالق ألبتة وهو رجل فقيه في زعمه واجتهاده أنه طلاق ثلاث أو بائن فرفعت المرأة الأمر إلى القاضي ورأيه أنه طلاق واحد يملك الرجعة فقضى بالحل للمرأة عليه يحل للزوج وطؤها ويصير رأيه متروكا برأي القاضي عند محمد وعند أبي يوسف بخلافه
ولو كان رأي الزوج أن هذا طلاق رجعي ورأي القاضي أنه طلاق بائن أو ثلاث فقضى بالحرمة يحرم عليه وطؤها في القولين
ولو كان الرجل المطلق ليس بفقيه فأفتى له الفقهاء بأن هذا طلاق محرم ورفعت الأمر إلى القاضي وقضى القاضي بالحل يحل له وطؤها لأن فتوى الفقهاء للمطلق بمنزلة الاجتهاد منها فيجب عليه ترك الفتوى برأي القاضي عند محمد خلافا لأبي يوسف
وإذا كانت المسألة على العكس فالجواب كذلك أنه يتبع رأي القاضي من القولين
ولو أن فقيها مجتهدا قال لامرأته أنت طالق ألبتة ورأيه أنه ثلاث وعزم على الحرمة وأمضى رأيه فيما بينه وبينها وأجنب عنها ثم تحول رأيه إلى أنه طلاق يملك الرجعة يجب العمل بالرأي الأول في حق هذه المرأة حتى لا يحل له وطؤها إلا بنكاح جديد أو بعد الزوج الثاني وبالرأي الثاني في المستقبل في حقها وفي حق غيرها لأن ما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله
ولو لم يعزم على الحرمة ولم يمض اجتهاده بينه وبينها حتى تحول رأيه إلى الحل وأنه طلاق رجعي له أن يطأها ولا تقع الفرقة لأنه لم يوجد إمضاء الاجتهاد الأول فصار كالقاضي إذا كان رأيه التحريم فقيل أن يقضي تحول رأيه إلى الحل يعمل بالرأي الثاني ويقضي بالحل في حق هذه المرأة فكذا هذا
باب آخر منه لا خلاف
بين الأمة في إباحة استعمال الحرير للنساء لبسا واستفراشا وجلوسا عليه ونحو ذلك
فأما في حق الرجال فاللبس حرام بالإجماع بأن جعله قباء أو قيمصا أو قلنسوة وهو حرير خالص في غير حالة الحرب
فأما في حال الحرب فكذلك عند أبي حنيفة وعندهما يباح اللبس في حال الحرب
وهذا إذا كان كله حريرا
فأما إذا كان لحمته حريرا فلا يكره في الحرب بالإجماع ويكره في غيره
وإذا كان السدى حريرا لا غير لا يكره بالإجماع
وأصله قوله عليه السلام على ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي عليه السلام أخذ حريرا بشماله وذهبا بيمينه ورفع بهما يديه وقال إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها ف أبو حنيفة أخذ بعموم الحديث ولم يفصل بين الحرب وغيره
وهما قالا بالإباحة في حق أهل الحرب لأن لباس الحرير أهيب للعدو وأثبت للسلاح فخصا أهل الحرب من عموم الحديث ولكن أبا حنيفة قال هذا المعنى يحصل بما إذا كان لحمته حريرا فلا ضرورة في الحرير الخالص
وأما لباس الصبيان والمجانين فحرام على الأولياء ويأثمونبذلك
أما لا حرمة في حقهم فلأنه لا خطاب عليهم
وأما النوم على الحرير واستعماله في الجلوس عليه والاتكاء عليه فجائز عند أبي حنيفة لأنه ليس فيه تعظيم بخلاف اللباس
وعندهما لا يجوز للرجال أيضا لأنه لباس الكفرة من الأعاجم
ولكن القليل من الحرير عفو في حق اللبس وذلك مقدار ثلاث أصابع أو أربع فإن النبي عليه السلام لبس فروة أطرافها من حرير وكذلك العلم في الثياب معتاد من غير نكير من أحد فيكون إجماعا
وأما استعمال الذهب والفضة بطريق التحلي فمباح في حق النساء وفي حق الرجال حرام سوى التختم بالفضة
لما روينا من الحديث وجاءت الرخصة في الخاتم
وأما استعمال الأواني من الذهب والفضة في الشرب والأكل والأدهان ونحو ذلك مما يستعمل في البدن فحرام في حق الرجال والنساء جميعا حتى المكحلة والمرآة والمجمر ونحوها وكذلك الركاب واللجام والثفر والكرسي والسرير ونحوها
أما إذا كان ففا أو مضببا فلا بأس باستعماله عند أبي حنيفة وكذلك إذا كان على السيف
وعندهما يكره ذلك كله لأن الذهب والفضة صارا من أجزاء ذلك الشيء
و أبو حنيفة يقول إنه تبع لما ليس بذهب وفضة والعبر للأصل وهذا في إحدى الروايتين
وفي رواية إذا كان فمه عند الشرب يقع على العود لا يكره وإن كان يقع على الفضة يكره
وكذا إذا كان الجلوس على الكرسي المف والمذهب على هاتين الروايتين إن كان الجلوس على موضع العود لا يكره وإن كان على الفضة يكره
وفي رواية لا يكره أصلا
وهما رخصا في المصحف في رواية
وفي رواية يكره في المصحف أيضا
وهذا إذا كان الذهب مما يخلص بالإذابة
فأما إذا كان مموها بماء الذهب والفضة فلا بأس به لأنه لا يخلص عند الإذابة
وكذا كتابة الذهب والفضة على الثياب فعلى هذا الاختلاف
وإذا جدع أنفه فجعل أنفا من فضة لإزالة الشين لا يكره ولو جعل من الذهب لا يكره أيضا لأنه إذا كان من الفضة ينتن فرخص في ذلك وفي عين هذا ورد الأثر
ولو تحرك سنه فشدها بذهب أو فضة فلا بأس به عند أبي حنيفة
وفي الجامع الصغير لا يشدها بالذهب
وعند محمد لا بأس به
وكان أبو حنيفة لا يرى بأسا بشدها بالفضة لأنه لا حاجة إلى الذهب
ولو خيف سقوط الفص من خاتم الفضة فشد بمسمار من ذهب فلا بأس به بالاتفاق لأجل الضرورة
ولو سقطت سن إنسان وأراد أن يعيدها ويشدها بالذهب والفضة يكره عند أبي حنيفة كما لو وضع سن ميت آخر يكره
وقال أبو يوسف لا بأس بإعادة سنه مكانها ولا يشبه سنه سن ميت آخر وبينهما فصل عندي وإن لم يحضرني ذلك
ثم ذكر في الكتاب مسائل ذكرها متفرقة في الكتب وقد جمعها هاهنا وقد ذكرناها في مواضعها فلا نعيدها ونذكر بعض ما لم نذكره
ومنها أنه يكره شرب لبن الأتان للتداوي بالاتفاق أما عند أبي حنيفة فلا يشكل كما في بول ما يؤكد لحمه
و أبو يوسف فرقوقال الأصل هو الكراهة لقوله عليه السلام إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ولكن في البول ورد حديث خاص فبقي الباقي على الأصل
وقال لا بأس بعيادة اليهودي والنصراني للحديث الوارد فيه ولأجل إلف أهل الذمة خصوصا في حال المرض مما يدعوهم إلى الدين الحق
أما السلام فقالوا يكره لما فيه من التعظيم وتعظيمهم مكروه
وأما رد السلام فلا بأس به لأن الامتناع من ذلك يؤذيهم والإحسان في حقهم مندوب لكن ينبغي أن لا يزيد على قوله وعليكم لأنه قيل إنهم يقولون السام عليكم فيجابون بقوله وعليكم بطريق المجازاة
وهل يكره منع هؤلاء من الدخول في المساجد قال مالك يمنعون عن دخول المسجد الحرام وعن كل مسجد
وقال الشافعي يمنعون عن دخول المسجد الحرام لا غير
وعندنا لا يمنعون عن دخول شيء من المساجد وذلك لأن المشركين كانوا يدخلون المسجد الحرام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرض الإسلام عليهم ونحو ذلك
ويكره للمرأة أن تصل شعرها المقطوع بشعرها وكذا بشعر غيرها لقوله عليه السلام لعن الله الواصلة والمستوصلة
ولا بأس بأن تصل شعرها بشعر البهيمة لأن ذلك من باب الزينة وهي غير ممنوعة عنها للزوج
ويكره اللعب بالنرد والشطرنج
والأربعة عشر وكل لهو لقولهعليه السلام ما أنا من دد ولا الدد مني
وبعض أصحاب الحديث أباحوا اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخاطر
ولكن الصحيح هو الكراهة على ما روينا كل لعب حرام إلا ثلاثة
وهذا إذا لم يكن فيه قمار
فأما إذا كان فيه قمار فهو حرام محض لثبوت حرمته بنص الكتاب وهو قوله تعالى { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه }
ولو أن حاملا ماتت وفي بطنها ولد يضطرب فإن كان غالب الظن أنه ولد حي وهو في مدة يعيش غالبا فإنه يشق بطنها لأن فيه إحياء الآدمي بترك تعظيم الآدمي وترك التعظيم أهون من مباشرة سبب الموت
ولو ابتلع إنسان درة رجل فمات لم يشق بطنه لإخراج الدرة لأن حرمة النفس فوق حرمة المال
وإن كان الذي ابتلع غنيا يضمن قيمة الدرة لصاحبها
وإن كان فقيرا فيكون له ثواب التصدق بها والله تعالى أعلم
كتاب السبق
قال لا بأس بالمسابقة في أربعة أشياء في النصل والحافر والخف والقدم لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال كل لعب حرام إلا ثلاث ملاعبة الرجل أهله ورميه عن قوسه وتأديبه فرسه
وتفسير المسابقة في النصل هو الرمي بالسهام والرماح وكل سلاح يمكن أن يرمى به
فكانت المسابقة بذلك من باب تعلم أسباب الجهاد فكان مرخصا وإن كان في الأصل من اللعب
وتفسير المسابقة بالحافر هو عدو الفرس والحمار والبغل
والمراد بالخف هو الإبل والبقر لأنه قد يركب عليها في باب الجهاد بعض الناس
والمراد بالمسابقة بالقدم هو المشي بالقدم وهذا مما يحتاج إليه للكر وللفر في الجهاد
فكان من رياضة النفس
وأصله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سابقت النبي عليه السلام فسبقته فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقلت هذه بتلك
ثم المسابقة على أربعة أوجه فثلاثة أوجه منها حلال والرابع حرام
أما أحد الأوجه الحلال بأن كان السلطان أو أحد من الرؤساء إذاقال لجماعة من الفرسان أو لاثنين من سبق منكم فله كذا أو إن سبق فلا شيء عليه فمن سبق جعل له خطر
وكذا إذا قال لجماعة من الرماة إلى الهدف من أصاب منكم الهدف فله كذا لأن هذا تحريض لهم على فعل هو سبب الجهاد في الجملة
والترجيح من الإمام في الغنيمة لبعض الغزاة تحريضا لهم على الجهاد جائز بأن قال من قتل قتيلا فله سلبه ومن دخل الحصن أولا فله من النفل كذا مع أن الغنيمة حق الغزاة في الجملة فهذا يعطي من ماله فأحق بالجواز
والثاني أن يسابق رجلان أو يسابق جماعة في السهام أو في الفرس أو المشي بالقدم وقال لصاحبه إن سبقتني فلك كذا وإن سبقتك فلا شيء عليك فهذا مباح لأن الخطر فيه من أحد الجانبين
والثالث إن كان الخطر من الاثنين أو من الجماعة ومعهم محلل يأخذ خطرهم إن سبق ولا يغرم وإنه سبق فهذا جائز
الرابع أن يكون الخطر من كل واحد على أنه إن سبق فله الخطر وإن سبق فيغرم لصاحبه مثله فهذا لا يجوز لأن هذا من باب القمار وإن حرام
ثم إنما يجوز الرهان والمسابقة فيما يجوز أن يسبق أحدهما ويسبق الآخر
فأما إذا كان في موضع يعلم من حيث الغالب أنه يسبق أحدهما فإن ذلك لا يجوز لأن هذا إيجاب المال للغير على نفسه بشرط لا منفعة له فيه وإنما جوزنا ذلك في الفصل الأول لأنه تحريض على مباشرة سبب الجهاد في الجملة
كتاب المفقود
قال يحتاج إلى تفسير المفقود وإلى بيان أحكامه على الخصوص
أما الأول فالمفقود هو الذي غاب عن بلده بحيث لا يعرف أثره ومضى على ذلك زمان ولم يظهر أثره
وأما حكمه فنوعان أحدهما في الحال والثاني في المآل
أما حكم المآل إذا تطاول الزمان بعدما فقد من وقت ولادته بحيث لا يعيش مثله إلى ذلك الزمان بيقين أو من حيث الغالب يحكم بموته
وتقع الفرقة بينه وبين نسائه
ويعتق أمهات أولاده ومدبروه
ويقسم ماله بين ورثته
ولا يرث هو من أحد
ولم يقدر في ظاهر الرواية تقديرا في ذلك
وروى ابن زياد عن أبي حنيفة أنه قدر ذلك بمائة وعشرين سنة من وقت الولادة
وأما حكم الحال فهو أن القاضي هو الحافظ لماله والمتصرف فيه فيما يرجع إلى الحفظ
فإن كان شيئا مما يتسارع إليه الفساد فإنه يبيعه ويحفظ ثمنه
وكذا إذا كان عروضا وحفظ الثمن أيسر فلا بأس ببيعه
ولا يبيع العقار أصلا
وإن كان له ودائع يترك في أيديهم لكونهم أمناء ما دام المفقود في حكم الأحياء
ثم إن له أن ينفق من ماله على نسائه إن كان يعلم ببقاء النكاح بينهما
وكذا على أولاده الصغار والذكور الكبار الزمنى والإناث
وإن لم يكن له مال وله ودائع فإنه ينفق من ذلك إذا كان من جنس الطعام والثياب والدراهم والدنانير
ولا يبيع العروض للنفقة على هؤلاء ولكن للأب أن يبيع العروض في نفقته لأن للأب ولاية التصرف في مال الابن في الجملة وإن لم يكن من باب الحفظ بخلاف القاضي
وهذا إذا كان المودع مقرا بالوديعة وبالنكاح وبالنسب
فأما إذا كان منكرا فإنه لا يسمع عليه الخصومة في إثبات المال ولا في إثبات النكاح والنسب لأن هذا قضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر وإنه غير جائز عندنا
ولو مات واحد من أقربائه فإنه لا يرث حتى لا يأخذ القاضي حصته من تركة الميت فيحفظ على المفقود ولكن يوقف حتى يظهر أمره لأنه حي من حيث الظاهر والظاهر لا يصلح حجة لاستحقاق أمر لم يكن ولكن لما كانت الحياة ثابته ظاهرا اعتبر في حق التوقف
كتاب اللقيط واللقطة
وجعل الآبق قال يحتاج إلى تفسير اللقيط واللقطة والآبق والضالة وإلى بيان أحكامها على الخصوص
أما الأول فنقول أما اللقيط فما يلتقط ويؤخذ مما طرح على الأرض من صغار بني آدم
واللقطة ما يلتقط مما يوجد مطروحا على الأرض من الأموال من غير الحيوان
والآبق هو المملوك الذي فر من صاحبه قصدا
والضالة هي الدابة التي ندت وضلت الطريق إلى مربطها
وأما الثاني فنقول أما حكم اللقيط فنقول إن اللقيط يساوي الصبي الذي ليس بلقيط في عامة الأحكام
وله أحكام على الخصوصمنها أن التقاطه واجب على كل من وجده لأن في تركه ضياعه فيجب عليه صيانته
ومنها أنه إذا التقطه فإن شاء تبرع بتربيته والإنقاف عليه وإن شاء رفع الأمر إلى السلطان ليأمر بتربيته أحدا من مال بيت المال والإنفاق عليه لأن بيت المال معد لحوائج جميع المسلمين
وهذا إذا لم يكن له مال
فإن كان له مال بأن وجد الملتقط معه مالا فيكون مال اللقيط فنفقته من ذلك المال لأنه غير محتاج فلا يثبت حقه في بيت المال
ولو أنفق عليه الملتقط ليرجع عليه بعد بلوغه فإن كان بإذن القاضي له أن يرجع وإلا فيكون متبرعا
ومنها أن الولاية عليه للسلطان في حق الحفظ وفي حق التزويج لقوله عليه السلام السلطان ولي من لا ولي له وليس للملتقط ولاية التزويج
وإذا زوجه السلطان فالمهر في بيت المال إلا إذا كان للقيط مال فيكون في ماله
ومنها الولا فيكون ولاؤه لبيت المال حتى إنه إذا جنى على إنسان خطأ فإن ذلك يكون في بيت المال لأن عاقلته جميع المسلمين فيكون عقله من مالهم وهو مال بيت المال
وكذلك ميراثه لبيت المال إذا لم يظهر له وارث
ومنها حكم الحرية فهو حر من حيث الظاهر لأن دار الإسلام دار حرية فيبني على الظاهر
ولو ادعى الملتقط أنه عبده فإن لم يقر بأنه لقيط فالقول قوله لأن الصغير لا يد له فهو وسائر الأموال سواء فإذا كان في يده فهوملكه ظاهرا فيكون القول قوله
فأما إذا أقر أنه لقيط فلا يصح دعواه لأنه ثبتت حريته ظاهرا
ولو بلغ اللقيط وأقر أنه عبد فلان إن لم يجز عليه حكم الأحرار من قبول شهادته وضرب قاذفه ونحو ذلك يصح إقراره
وإن أجرى عليه من أحكام الحرية شيء لا يصح
ومنها حكم النسب إذا ادعى الملتقط أو غيره أنه ابنه والمدعي مسلم أو ذمي فالقياس أن لا يصح دعواه إلا بالبينة
وفي الاستحسان يصح لأن في هذا نفع للصغير
ولو ادعاه رجلان أحدهما مسلم والآخر ذمي فإنه يثبت نسبه من المسلم
ولو ادعى المسلم أنه عبده والذمي أنه ابنه فإنه يثبت نسبه من الذمي حتى يثبت له الحرية ويكون مسلما لأن حكمه حكم دار الإسلام
ولو كانا مسلمين وأحدهما عبد مأذون أو مكاتب فالنسب يثبت من الحر
ولو كانا حرين مسلمين فإن لم يكن لهما بينة ولم يذكر أحدهما علامة أو ذكرا جميعا العلامة أو أقاما جميعا البينة فهو بينهما
وإن كان لأحدهما بينة أو ذكر العلامة ولم يكن للآخر ذلك فالأول أولى لأنه ترجح جانبه بمرجح
وإن ادعت امرأة اللقيط أنه ابنها فإن لم يكن لها زوج لا يصح لأن في ذلك حمل النسب على الغير وإن كان لها زوج فصدقها أو شهدت لها القابلة أو شاهدان يثبت النسب بينهما
ولو ادعت امرأتان فإن لم يكن لهما بينة لا تقبل
وإن أقاما البينة على أنه ابنها من فلان فعن أبي حنيفة أنه يقبل منهما ومن الرجل
وعن محمد روايتان في رواية أبي حفص يجعل ابنهما وفي رواية أبي سليمان لا يجعل ابنهما
وأما حكم الإسلام فقد اختلفت الرواية عن أصحابنا ففي ظاهر الروايات اعتبر المكان دون الواجد فإن وجد في دار الإسلام يكون مسلما
وإن وجد في كنيسة اليهود أو في بيعة النصارى أو في قرية كلهم أهل الذمة فهو تبع لهم
وفي رواية اعتبر الواجد كيفما كان دون المكان
وفي رواية اعتبر جانب الإسلام إما الواجد أو المكان
وأما حكم اللقطة على الخصوص فمنها أن من ظفر على لقطة فالأخذ أولى
أما الترك فقالوا إن كان يأمن على نفسه أنه يعرفها ويردها على صاحبها ولا محالة أو غالبا فالأخذ أولى لأنه ربما يأخذه فاسق لو تركه
وأما إذا كان لا يأمن على نفسه فالترك أولى لأن صيانه نفسه عن الوقوع في الفساد أولى مع احتمال أن يأخذه مصلح فيصل إلى صاحبه أيضا
وإذا أخذ وأراد أن يضعها مكانها وندم على الأخذ فوضعها هل يضمن في ظاهر الرواية لا يضمن وفي بعض الروايات يضمن وهو قول الشافعي
ولو دفعها إلى غيره بغير إذن القاضي فإنه يضمن لأنه يجب عليه حفظها بنفسه بالتزامه الحفظ بالالتقاط
ولو هكلت في يده فإن أشهد على اللقطة بأن قال للناس إنيوجدت لقطة فمن طلبها فدلوه علي فإنه لا يضمن
ولو لم يشهد فعند أبي حنيفة يضمن وعندهما لا يضمن إذا كان أخذه ليرده إلى صاحبه ويحلف على ذلك إن لم يصدقه صاحبه
ثم الملتقط إذا أخذه ليرده إلى صاحبه وأشهد ينبغي أن يرفع الأمر إلى القاضي فإن كانت اللقطة حيوانا فالقاضي يأمره حتى يؤاجرها فتكون نفقتها ومؤونتها من الأجرة إن رأى المصلحة في ذلك
وإن لم ير المصلحة في الإجارة فإن رأى أن يأمره بأن ينفق عليها بما لنفسه ليرجع على صاحبه فعل وإن رأى أن يبيعها ويأمره بإمساك ثمنها فعل
ويعرف ذلك سنة في جواب ظاهر الرواية وفي رواية الحسن على قدر حال اللقطة في النفيس سنة وفي الدني الذي قيمته زائدة على عشرة دراهم لا ينقص من شهر على هذا الاعتبار
فإذا مضى وقت التعريف ولم يظهر صاحبها فإن كان الرجل موسرا لا يحل له أن ينفق على نفسه ولكن يتصدق بها على الفقراء
وقال الشافعي يحل
وإن كان معسرا له أن يتصدق على نفسه وإن شاء يتصدق بها على الفقراء
فإن ظهر صاحبها فإن شاء أمضى الصدقة وله ثوابها وإن شاء أخذ من المتصدق عليه وإن شاء ضمن الملتقط
وإن كان شيئا يتسارع إليه الفساد فإنه يعرفها بقدر ما لا يفسد ثم يتصدق أو ينفق على نفسه على ما ذكرنا
وإنما يدفع إلى من يدعي اللقطة إذا أقام البينة
فإن ذكر علاماتهي فيها فإن شاء الملتقط صدقه ودفع إليه وإن شاء امتنع حتى يقيم البينة
وكذا الجواب في الدابة الضالة من الغنم والإبل وغيرهما فأما إذا لم تكن ضالة ولكنها نفرت في المراعي فإنه لا يأخذها لأن ذلك أمر معتاد إذا كان قريبا من البلدة أو القرية أو الخيام
فأما إذا كان غالب ظنه أنها ضالة فإنه يأخذها
وأما العبد إذا لم يكن ضالا للطريق ولكنه آبق من صاحبه فالجواب ما ذكرنا
لا ولكن هاهنا متى رده إلى المالك إن كان من مسيرة سفر يستحق الجعل على صاحبه أربعين درهما عندنا وعند الشافعي لا يجب شيء
وإن كان الرد في أقل من مدة السفر يستحق الرضخ بقدره
ولو كان الراد اثنين فيكون الجعل بينهما
وهذا إذا كانت قيمته أكثر من أربعين درهما
فأما إذا كانت أربعين أو دون ذلك فإنه ينقص من الجعل درهما عند أبي حنيفة و محمد
وقال أبو يوسف لا ينقص منه شيء
ولو كان الراد من كان في عياله لا يستحق الجعل
فأما من لم يكن في عياله فإنه يستحق سواء كان أجنبيا أو ذا رحم محرم منه إلا الوالدين والمولودين ففيه اختلاف بين أبي يوسف ومحمد
كتاب الخنثى
قال الخنثى من يكون له آلة الرجال وآلة النساء
والشخص الواحد لا يكون ذكرا وأنثى ولكن يحتمل أن يكون ذكرا وآلة النساء في حقه نقصان بمنزلة موضع شجة لم تلتئم ويحتمل أن يكون أنثى وآلة الرجال في حقها زيادة بمنزلة الأصبع الزائدة
والشرع جعل العلامة الفاصلة بينهما قبل البلوغ هو المبال على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال الخنثى يورث من حيث يبول فلما جعل الأمارة هذا في حق الإرث فكذا في حق الأحكام التي تختص بالخنثى يجب أن يكون هو العلامة
فإن كان يبول من مبال الرجال فهو ذكر
وإن كان يبول من مبال النساء فهو أنثى وإن كان يبول منهما جميعا فالحكم للأسبق منهما
وإذا استويا في السبق قال أبو حنيفة أتوقف فيه
وقالا يعتبر الأكثر في ذلك ثم إذا استويا في الكثرة والقلة توقفا فيه أيضا كما توقف أبو حنيفة
والتوقف في موضع عدم الدليل واجب وهو الخنثى المشكل
وإنما يظهر الحال ويزول الإشكال بالبلوغ بظهور الحيض والحبل ونهود الثديين ونبات اللحية والاحتلام ونحوها فيجري عليه أحكام الذكر أو الأنثى
فأما في حال كونه مشكلا فله أحكام مخصوصة منها الختان ينبغي أن يشترى له جارية ختانة من ماله إن كان له مال ومن مال الأبوين إن كان وإلا فالقاضي يشتري له من مال بيت المال جارية ختانة فتختنه فإن كان ذكرا فهي جاريته وإن كان أنثى فالأنثى قد تختن الأنثى عن الحاجة إليه
ولا يلبس الحرير احتياطا
وموقفه في الصلاة خلف صف الذكور قبل صف النساء
وكذا في ترتيب الجنائز عند الاجتماع تقدم جنازته على جنازة الإناث
وتغسله زوجته إن كانت وإلا فلا يغسل ولكن ييمم إن كان له ذو رحم محرم ييممه بلا خرقة وإن كان أجنبيا فمع الخرقة
وأما حكم الميراث فعند أصحابنا يكون له أقل الأنصباء وهو نصيب الأنثى إن كان أقل
وأن كان أكثر في بعض الأحوال يكون له نصيب الذكور
وعلى قول الشعبي يكون له نصف ميراث الرجال ونصف ميراث النساء
بيانه
إذا ترك ابنا معروفا وخنثى للابن الثلثان وللخنثى الثلث لأنه أقل
وإذا ترك خنثى وعصبة فللخنثى النصف وهو ميراث البنت والباقي للعصبة
ولو ترك اختا لأب وأم وخنثى لأب وعصبة يجعل أنثى أنه ترك أختا لأب وأم وأختا لأب وعصبة فللأخت للأب والأمالنصف وللخنثى السدس والباقي للعصبة
وإن تركت زوجا وأختا لأب وأم وخنثى لأب فللزوج النصف وللأخت لأب وأم النصف ولا شيء للخنثى ويجعل ذكرا لأن هذا أسوأ حالة لأنا لو جعلناه أنثى يكون نصيبه السدس وتعول المسألة ولو جعلناه ذكرا لا يرث شيئا كما إذا تركت زوجا وأختا لأب وأم وأخا لأب على هذا القياس
وبيان قول الشعبي وتفسير قول أبي يوسف وتخريجه له وتخريج محمد على وجه آخر يذكر في الفرائض إن شاء الله تعالى ونشير إليه هاهنا إذا ترك ابنا وخنثى فعلى تخريج أبي يوسف يجعل المال بينهما على سبعة أسهم للابن المعروف أربعة وله ثلاثة
وعلى تخريج محمد الميراث بينهما على اثني عشر سهما بطريق تنزيل الأحوال فيكون للابن المعروف سبعة وللخنثى خمسة والله تعالى أعلم بالصواب
كتاب الشهادات
يحتاج إلى ثلاثة فصول إلى بيان تحمل الشهادة
وإلى بيان حضور الشهود عند النكاح وإلى بيان جواز أداء الشهادة عند القاضي
أما الأول فنقول تحمل الشهادة إنما يجوز عند المعاينة أو عن سماع الإقرار وإنشاء القول من النكاح والطلاق والبيع ونحوها من الخصم
فأما التسامع من الناس فلا عبرة به إلا في مواضع مخصوصة في النكاح والنسب والموت وفي الولاء اختلاف عند أبي حنيفة و محمد لا يقبل وعند أبي يوسف يقبل
وإنما يصح التحمل ممن له عقل وتمييز ليفهم كلام الخصمين أو يعلم ما يفعله سواء كان حرا أو عبدا أو فاسقا أو كافرا أو صغيرا عاقلا أو بالغا حتى إذا زالت هذه المعاني وحدثت ضدها تقبل شهادته
وكذا العبد إذا تحمل الشهادة لمولاه أو المرأة لزوجها تقبل بعد العتق والبينونة
لكن لو شهد لمولاه وردت شهادته أو شهدت المرأة لزوجها وردت ثم شهد بعد العتق والبينونة في تلك الحادثة لا تقبل بخلاف الكافر إذا شهد على مسلم في حادثة فردت شهادته ثمأعاد تلك الشهادة بعد الإسلام تقبل والفرق مذكور في الخلافيات
وأما حضور الشهود عند عقد النكاح فقد بينا ذلك في كتاب النكاح
فلا نعيده
وأما جواز الشهادة عند القاضي فنقول شهادة رجلين عدلين مقبولة في جميع الأحكام في أسباب العقوبات وغيرها إلا في الزنى فإنه لا تقبل إلا شهادة أربعة رجال عدول
وشهادة رجل وامرأتين مقبولة في جميع الأحكام عندنا إلا في الحدود والقصاص
وعند الشافعي لا تقبل إلا في الأموال وتوابعها
وكذا حكم الشهادة على الشهادة مثل حكم شهادة رجلين أو رجل وامرأتين
وتجوز شهادة الأقارب مثل شهادة الأجانب إلا شهادة الوالدين والمولودين وشهادة أحد الزوجين لصاحبه
وعند الشافعي تقبل شهادة الأزواج
ولا تجوز شهادة المحدود في القذف إذا تاب عندنا خلافا للشافعي
ولا تجوز شهادة الأعمى وإن كان بصيرا عند التحمل عند أبي حنيفة
وقال أبو يوسف تقبل إذا كان بصيرا عند التحمل
ولا تجوز شهادة العبد والأخرس
والصبي العاقل والمعتوه ولا شهادة الأخير له في تجارته التي استأجره فيها ولا شهادة أحد الشريكين في مال الشركة والتصرف فيها وتقبل فيما سوى ذلك
وأما شهادة الفاسق فإن تحرى القاضي الصدق في شهادته تقبل وإلا فلا
وعند الشافعي لا تقبل أصلا ولا تقبل في العقوبات
ولو طعن المشهود عليه في الشاهد أنه رقيق أو فاسق لم تمض الشهادة ما لم يقم البينة على الحرية إن كان مجهول النسب
وكذا ما لم يسل عن عدالتهم في السر والعلانية
ولا يجوز القضاء بظاهر العدالة بالاتفاق
وقبل الطعن يجوز عند أبي حنيفة خلافا لهما
ولو اختلف الشاهدان في الوقت والمكان والعبارة مع استواء العبارتين في المعنى فإن كان ذلك في الإقرار تقبل شهادتهما ولا يوجب اختلاف الشهادة
وإن كان في الفعل
من الغصب والقتل والقطع وإنشاء البيع والطلاق ونحوها
فإنه يوجب اختلاف الشهادة فما لم يوجد على كل واحد شاهدان لا يقبل
وإذا اختلف الشاهدان في جنس المشهود به لا يقبل
ولو اختلفا في المقدار وأحدهما يدخل في الآخر والمدعي يدعي الأكثر كما إذا شهد أحدهما على ألف والآخر على ألفين لا تقبل عند أبي حنيفة وعندهما تقبل على الأقل
وكذا إذا شهد أحدهما على طلقة والآخر على طلقتين أو ثلاث لا يقبل عند أبي حنيفة وعندهما يقبل على الأقل
وأجمعوا أنه إذا شهد أحدهما على ألف والآخر على ألف وخمسمائة والمدعي يدعي الأكثر يقبل على ألف وقد ذكرنا في الطلاق
وأكثر مسائل الشهادة ذكرنا في الكتب السابقة فلا نعيدها
كتاب الرجوع عن الشهادات
الرجوع عن الشهادة لا يصح بعد قضاء القاضي ويصح قبله لأنه إخبار يحتمل الغلط
وإنما يصير حجة ضرورة صحة القضاء فما لم يتصل به قضاء القاضي يصح الرجوع
ولا يلزم الشهود بذلك شيء لأنه لم يثبت به الحكم
وبعد الحكم لا يصح الرجوع في حق الخصم ولكن يصيب متلفا في حق المشهود عليه فيلزمه ضمانه إلا إذا حصل العوض للمشهود عليه فبذلك لا يضمن لأنه يكون إتلافا بعوض فلا يكون إتلافا معنى
والعبرة في الرجوع بقاء من بقي من الشهود لا رجوع من رجع ويبقى الحق بقدر بقاء الشهود ويتلف بقدر ما رجع
إذا ثبت هذا الأصل تخرج عليه المسائل
إذا شهد شاهدان على رجل بمال وقضى القاضي بذلك وسلم المال إلى المدعي ثم رجع أحدهما غرم نصف المال لأنه بقي النصف ببقاء شاهد واحد
ولو رجعا جميعا غرما المال بينهما نصفين
ولو كانوا أربعة فرجع اثنان أو واحد منهم فلا شيء عليه لبقاء المال ببقاء الشاهدين
ولو رجع ثلاثة يلزمهم نصف المال لبقاء النصف ببقاء شاهد واحد
ولو شهد رجل وامرأتان على مال فرجعت امرأة غرمت ربعالمال
ولو رجعتا غرمتا نصف المال لبقاء النصف ببقاء رجل لأن المرأتين بمنزلة رجل واحد
ولو شهد رجل واحد وعشر نسوة على رجل بمال ثم رجعوا جميعا بعد الحكم فقال أبو حنيفة على الرجل سدس المال وعلى النساء خمسة أسداسه لأن كل امرأتين بمنزلة رجل واحد
وعند أبي يوسف و محمد على الرجل النصف وعلى النساء النصف لأن النساء وإن كثرن لهن شطر الشهادة
ولو شهدا على رجل أنه باع عبده من فلان بألف وقبض الثمن ثم رجعا لم يضمنا لأن هذا إتلاف بعوض
وكذا لو شهدا على رجل أنه تزوج امرأة بألف درهم وهو مهر مثلها وقضى القاضي بالنكاح ثم رجعا لم يضمنا لأنهما أثبتا له البضع بمقابلة المال
ولو شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا وقد دخل بها وقضى القاضي ثم رجعا لم يضمنا إلا ما زاد على مهر المثل لأنه بقدر مهر المثل إتلاف بعوض وهو استيفاء منافع البضع
ولو كان قبل الدخول فإن كان المهر مسمى ضمنا النصف وإن لم يكن المهر مسمى يضمنان المتعة لأن ذلك تلف بشهادتهما ولم يحصل له بمقابلته عوض
وكذلك لو شهدا على رجل بإجارة داره سنة ثم رجعا بعد استيفاء السكنى فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل لأنه بقدر أجر المثل حصل العوض والباقي بغير عوض فيكون إتلافا
وكذا لو شهدا على رجل أنه أعتق عبده بألف درهم وسلم إليه أولا ثم رجعا لم يضمنا لأن هذا إتلاف بعوض
ولو شهدا أنه أعتق بغير مال ثم رجعا يضمنان للإتلاف بغير عوض
ولو شهدا على أنه قال لعبده إن دخلت هذه الدار فأنت حر وقد دخل وقضى القاضي بالعتق ثم رجعا ضمنا لأن هذه شهادة على الإعتاق وهو إتلاف بغير عوض فيضمنان
ولو شهدا أنه حلف بعتق عبده بدخول الدار وشهد آخران على الدخول وقضى القاضي بالعتق ثم رجعوا فإن الضمان يجب على شهود اليمين لا على شهود الدخول لأن الدخول شرط وكلام اليمين صار إعتاقا والتلف يضاف إلى العلة دون الشرط ويكون المتلف هو شاهد اليمين
ولو شهدا على رجل بسرقة عشرة دراهم وقضى القاضي عند خصومة المالك وقطعت يده ثم رجعا يغرمان دية اليد
وكذلك لو شهدا على رجل بقتل الخطأ أو بجراحه خطأ ثم رجعا
ولو شهدا على القتل العمد وقضى القاضي واقتص ثم رجعا لا يجب القصاص على الشهود عندنا
وعند الشافعي يجب ولكن عندنا يجب المال لأنه لا يمكن إيجاب القصاص بالتسبيب ويمكن إيجاب المال كما في حفر البئر
ولو شهد أربعة على رجل بالزنا وشهد آخران على الإحصان ثم رجعوا بعد إقامة الرجم لا يجب على شهود الإحصان شيء وتجب الدية على شهود الزنى لأن الزنا علة والإحصان شرط
ولو رجع أحد الشهود بالزنا بعد الرجم فإنه يجد حد القذفلأن شهادته صارت قذفا بإقراره ويغرم ربع الدية لبقاء ثلاثة أرباع بثلاثة شهود
وإن رجع آخر فكذلك
ولو أنه إذا رجع واحد منهم بعد القضاء قبل إقامة الحد عليهم يحدون جميعا عند أبي حنيفة و أبي يوسف
وقال محمد يحد الراجع وحده استحسانا
وأجمعوا أنه إذا رجع واحد قبل القضاء بالرجم فإنهم يحدون جميعا وهي من مسائل الخلافيات
كتاب أدب القاضي
القضاء فريضة محكمة يجب على من وجد في حقه شرائط القضاء من الولاية على المقضي عليه بتسليم المقضي به إلى المقضي له وهو السلطان أو من يقوم مقامه لأن هذا من باب إنصاف المظلوم من الظالم وهذا مفوض إلى الخلفاء والسلاطين غير أنهم إذا عجزوا بأنفسهم إما لعدم العلم أو لاشتغالهم بأمور أخر يجب عليهم أن يقلدوه من كان يصلح له ممن هو من أفقه الناس بحضرتهم وأورعهم
فإن وجدوا اثنين أحدهما أفقه والآخر أورع فالأورع أولى لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره ولا بد من الورع حتى لا يتجاوز حد الشرع ولا يصور الباطل بصورة الحق طمعا في الرشوة
ويجب على من استجمع فيه شرائط القضاء أن يقبله إذا قلدوه حتى لو امتنع يأثم إلا إذا كان في العلماء بحضرتهم ممن يصلح له كثرة فلا بأس بأن يعتذر بعذر فيدفع عن نفسه إلى غيره لأنه ليس بمتعين لذلك والذي تعين لا يحل له الامتناع إذا قلد ولكن لا ينبغي أن يطلب لأنه ربما لا يقلد فيذهب ماؤه وحرمة علمه
ثم القضاء له واجبات وآداب فأما الواجبات فمنها أنه يجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى إما بدليل قطعي نحو نص الكتاب مفسرا لا شبهة في معناه أو السنة المتواترة أو المشهورة أو الإجماع وإما بدليل ظاهر موجب للعمل كظاهر النص من الكتاب والسنة والقياس وذلك في موضع لا إجماع فيه بين الفقهاء
وإن كان مختلفا فيه أو لم تكن واقعة أو كانت واقعة ولا رواية في جوابها عن السلف يجب عليه أن يعمل برأي نفسه إن كان من أهل الاجتهاد وإن لم يكن من أهل الاجتهاد يختار قول من هو أفقههم وأورعهم
ولو كان القاضي من أهل الاجتهاد لكن لم ينظر في دليل المسألة واعتمد على اجتهاد من هو أفقه منه هل يجوز له القضاء به على قول أبي حنيفة جاز وعلى قولهما لا يجوز إلا وأن يعمل باجتهاد نفسه ذكر الاختلاف في كتاب الحدود
ومما يجب عليه أيضا أن يقضي بما ثبت عنده بالبينة أو الإقرار أو يكون المدعى به مما يدخل فيه النكول لأن الشرع جعل هذه الجملة حجة في حقه ولكن لا بد من أن يثبت عدالة الشهود عنده بالسؤال عنهم ممن له علم بأحوالهم في السر والعلانية فعدلوه وقالوا هو جائز الشهادة
وأما القضاء بعلم نفسه بالمعاينة أو بسماع الإقرار أو بمشاهدة الأحوال فإن قضى بعلم حادث له في زمان القضاء وفي مكانه في الأملاك المرسلة والحقوق من الطلاق والعتاق ونحوهما وفيالقصاص وفي حد القذف جاز
وإن كان في سائر الحدود لا يجوز وهذا عندنا
وعن الشافعي قولان في قول لا يجوز في الكل وفي قول يجوز في الكل
وأما إذا قضى بعلم كان قبل أن يقلد القضاء أو بعلم بعد التقليد لكن قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه فقد أجمع أصحابنا أنه لا يجوز في الحدود غير حد القذف
فأما في سائر الأحكام وفي حد القذف والقصاص فقد اختلفوا قال أبو حنيفة لا يجوز
وعلى قول أبي يوسف و محمد يجوز وفروع هذا الفصل ودلائله تعرف في المبسوط إن شاء الله تعالى
ولا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه ولا لأبويه وإن علوا ولا لزوجته ولا لأولاده وإن سفلوا ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم
وهل يقضي بكتاب قاضي ورد إليه من قضاة البلدان ليس له أن يقضي في الحدود والقصاص وأما في الديون والعروض والعقار فقد جاز القضاء به
ولا يجوز في الحدود والقصاص القضاء بالشهادة على الشهادة
وفي الغلام والجارية عند أبي حنيفة و محمد لا يكتب إلى القضاء ولا يقبل
وعن أبي يوسف يقبل وهو قول ابن أبي ليلى وعمل القضاة على هذا لأجل الضرورة العامة
ثم فيما يقبل فيها الكتاب إذا ورد الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه ينبغي أن لا يفك الكتاب ولا يقرأه إلا بحضرة الخصم كي لا يتهم في ذلك
وأما آداب القضاة فللقاضي أن يجلس مع نفسه قوما من الفقهاء ليشاور معهم إذا احتاج إليه
فإن اتفقوا عليه والحادثة معروفة في السلف يقضي به
وإن اختلفوا فعلى ما ذكرنا
فإن بدا له أن يرجع فيما اعتمد على قول بعضهم ورأى الصواب في قول الآخر فله ذلك لأن له أن يقضي في المجتهد فيه بما لاح له من دليل الاجتهاد إن كان مجتهدا
فأما بعد الحكم فليس له أن يبطل ذلك القضاء لأن صار بالقضاء كالمتفق عليه ولكن يعمل في المستقبل بخلافه إذا رأى ذلك صوابا
وينبغي أن يعدل بين الخصمين في مجلسهما منه لا يقرب أحدهما دون الآخر وإن كان له شرف العلم والنسب
وإن كان يريد تعظيم ذلك في المجلس ينبغي أن يجلس خصمه معه أينما أجلس الأول
وكذلك يعدل بينهما النظر والمنطق ولا يشير إلى أحد الخصمين دون الآخر
وكذلك لا يخلو بأحدهما دفعا للتهمة
ولا يرفع صوته على أحدهما ما لم يرفع على الآخر عند الشغب والمنازعة
فأما إذا وجد من أحدهما فإنه يرفع صوته عليه تأديبا له
ولا ينبغي أن يلقن أحد الخصمين حجته
ولا بأس بأن يلقن الشاهد إذا كان يستحي ويهاب مجلس القاضي بشيء هو حق
وإذا تكلم أحدهما أسكت الآخر حتى يسمع كلامه ويفهم ثم يستنطق الآخر حتى يكون أقرب إلى الفهم
ولا ينبغي أن يجلس للقضاء وبه ما يشغله عنه نحو الهموالغصب والنعاس وغيرها على ما قال عليه السلام لا يقضي القاضي وهو غضبان
وينبغي أن يقدم الرجال على حدة والنساء على حدة الأول فالأول
ولا يخلط النساء بالرجال لأنه سبب للفتنة
وينبغي أن يتخذ كاتبا من أهل العفاف والصلاح وهو فقيه عالم بصنعة الكتابة ثم يقعده حيث يرى ما يكتب وما يصنع
وفي عادة السلف أن القاضي هو الذي يكتب خصومة كلا الخصمين على كاغذ السؤال والسؤال والجواب ثم يكتب شهادة الشهود على حسب ما شهدوا بعد كتابة جواب الخصم ثم يطوي الكتاب ثم يختمه ثم يكتب على ظهره خصومة فلان وفلان في شهر كذا في سنة كذا ويضعه في قمطرة على حدة
وفي زماننا العادة أن الكاتب هو الذي يكتب كتاب الدعوى ويترك موضع التاريخ ولا يكتب جواب الخصم ويكتب أسماء الشهود بعد ذلك ويترك فيما بين الخطين فرجة فإذا رفع الدعوى عند القاضي فيكتب التاريخ بنفسه ويكتب جواب الخصم على الوجه الذي تقرر
وإذا شهد الشهود في المجلس على ما يدعيه المدعي يكتب شهادة كل واحد تحت اسمه على الوجه الذي تقرر ويختم الكتاب ثم يكتب بنفسه في ذلك اليوم أسماء الشهود أو يأمر الكاتب حتى يكتبه بين يديه ويختم ويبعث بذلك على يد رجل من أهل الثقة في السر إلى أهل الثقة والسلاح عنده حتى يعدلوا الشهود
فإذا اتفق اثنان أو أكثر على تزكية رجل قبل قوله وعمل به
وإن اجتمع جماعة على أنه ثقة واثنان على جرحه يأخذ بالجرح
والعدد شرط عندهما في المزكين
وأما عند أبي حنيفة فالواحد كاف
وكذا الخلاف في الذي يبعث المستورة يشترط فيه العدد عندهما خلافا له
ثم يسأل عن التزكية علانية بعدما يسأل في السر حتى لا يقع فيه ريبة على القاضي فيتهم بذلك
ولا ينبغي للقاضي أن يقبل الهدية إلا من ذي رحم محرم منه أو من صديق قديم الصحبة قد كان بينهما التهادي قبل زمان القضاء فأما من غير هذين فلا يقبل الهدية ويكون ذلك في معنى الرشوة
وأما الدعوة فإن كان دعوة عامة مثل دعوة العرس والختان فلا بأس بذلك
فأما الدعوة الخاصة فإن كانت من ذي الرحم المحرم أو الصديق القديم الذي كان يضيفه قبل القضاء فلا بأس بالإجابة
وفي غيرهما لا ينبغي أن يحضر لأن ذلك يوجب تهمة فيه
ولا بأس للقاضي أن يبعث الخصمين إلى المصالحة إن طمع منهما المصالحة
وإن لم يطمع ولم يرضيا بذلك فلا يردهما إلى الصلح ويتركهما على الخصومة وينفذ القضاء في حق من قامت الحجة له والله تعالى أعلم
كتاب الوقف والصدقة
في الكتاب فصلان فصل في الوقف وفصل في الصدقة
أما الأول فقد أجمع العلماء أن من وقف أرضه أو داره مسجدا بأن قال جعلت هذه الأرض مسجدا يصلي فيه الناس أنه جائز لأن هذا إبطال ملكه عنه وجعله لله تعالى خالصا كمن أعتق عبده
لكن التسلم شرط عند أبي حنيفة و محمد وعند أبي يوسف ليس بشرط
وتسليمه عندهما أن يأذن للناس بصلاة الجماعة فيه فيصلي فيه جماعة من الناس بجماعة فإنه يصير مسلما إلى الناس كذا ذكر هلال الرأي في كتاب الوقف الذي صنفه
وقال بعض المشايخ إذا جعل له متوليا قيما يتصرف في مصالحه ويأذن له بقبضه بطريق النيابة عن الناس
ويأمرهم بالصلاة فيه فيكون التسليم صحيحا ولا يمكنه الرجوع بعد ذلك عندهما
وأما إذا جعل أرضه أو داره وقفا على الفقراء أو على وجوه الخير فعند أبي حنيفة إن جعله وقفا في حال حياته ولم يقل وصية بعد وفاته فإنه يكون هذا الوقف صحيحا في حق التصديق بالغلة وبالسكنى في الدار إلى وقت وفاته ويكون نذرا بالتصدق بذلك وتكون رقبة الأرض على ملكه يجوز له بيعه والتصرفات فيه
وإذا مات يصير ميراثا للورثة وهذا معنى قول بعض المشايخ إن الوقف لا يجوز عند أبي حنيفة أن الوقف لا حكم له عنده بل يكون نذرا بالتصدق بغلته ومنافعه
وأما إذا وقف في حال حياته وأوصى بذلك بعد وفاته فإنه يجوز بلا خلاف لكن ينظر إن خرج من الثلث يجوز في الكل وإن لم يخرج من الثلث يجوز الوقف فيه بقدر الثلث ويبقى الباقي إلى أن يظهر له مال آخر أو يجيزه الورثة
فإن لم يظهر له مال ولم يجز الورثة تقسم الغلة بينهم أثلاثا الثلث للوقف والثلثان بين الورثة على قدر أنصبائهم
وإن أجازه الورثة يصير جائزا ويتأبد الوقف بحيث لا يبطل بعد ذلك
ولو رفع الأمر إلى القاضي فأمضى القاضي الوقف بناء على دعوى صحيحة وشهادة قائمة على ذلك وأنكر الواقف ذلك صح
ولو شهد الشهود على الوقف من غير دعوى قالوا إن القاضي يقبل لأن الوقف حكمه التصدق بالغلة وهو حق الله تعالى وفي حقوق الله تعالى لا يشترط الدعوى
وهذا إذا كان من رأي القاضي أن الوقف صحيح لازم لا يجوز نقضه بحال كما قال أبو يوسف و محمد حتى يكون قضاء في فصل مجتهد فيه فينفذ قضاؤه ولا يمكن نقضه بعد ذلك ولا يجوز بيعه ولا يورث بالاتفاق لأن قضاء القاضي في فصل مجتهد فيه على أحدالوجهين برأيه وهو من أهل الاجتهاد ينفذ بالإجماع
هذا الذي ذكرنا على مذهب أبي حنيفة
أما عند أبي يوسف و محمد والشافعي وعامة الفقهاء فإن الوقف صحيح في حق الرقبة ويزول عن ملكه كما في المسجد
لكن اختلف أبو يوسف و محمد فيما بينهما قال محمد إنما يجوز بأربع شرائط أحدها أن يخرجه من يده ويسلمه إلى المتولي حتى يتصرف فيه فيصرف أولا إلى مصالح الوقف ويصرف الباقي إلى المستحقين
والثاني أن يكون في المفروز دون المشاع
والثالث أن لا يشترط لنفسه شيئا من منافع الوقف
والرابع أن يكون مؤبدا بأن يجعل آخره إلى فقراء المسلمين
وعلى قول أبي يوسف لا يشترط شيء من هذه الأشياء
وهذا الذي ذكرنا إذا وقف في حالة الصحة
فأما إذا وقف في حالة المرض فإن وقف وأوصى بها بعد وفاته فهذا وحالة الصحة مع الوصية سواء يعتبر خروجه من الثلث ولا يكون ميراثا للورثة
وإن لم يجعله وصية بعد وفاته ففي جواب ظاهر الرواية هذا والوقف في حالة الصحة سواء
وذكر الطحاوي هو بمنزلة الوقف بعد وفاته
والتوفيق بين الروايتين أو مراد محمد أن وقف المريض نافذ للحال غير مضاف إلى ما بعد الموت كالوصية فإن المريض إذا أعتق في حالة المرض ينفذ عتقه وإن كان لا يخرج من الثلث عندهما ويسعى وهو حر
وعند أبي حنيفة ينفذ بقدر الثلث دون الثلثين ويسعىوهو رقيق فيعتق الباقي
ومراد الطحاوي أنه لا يصح من جميع المال بل من الثلث بمنزلة الوصية
وبمنزلة الوقف والوصية بعد الموت هذا هو الصحيح
هذا الذي ذكرنا في العقار
فأما في المنقول هل يجوز وقفه إن كان تبعا للعقار كالثيران وآلا الحراثة والعبيد فإنه يجوز ويعجل وقفا ويكون ملكا لعامة الفقراء كعبيد الخمس في الغنائم
وأما إذا كان مقصودا فإن كان مما يجري فيه التعامل وهو معتاد فيما بين الناس يجوز عندهما خلافا لأبي حنيفة وذلك نحو الكراع والسلاح في سبيل الله ولا نحو المر والقدوم لحفر القبور وكثياب الجنازة ونحوها
وأما وقف الكتب فقد اختلف المشايخ فيه على قولهما وعن نصير بن يحيى أنه وقف كتبه على الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة
ولو جعل أرضه أو داره رباطا أو مقبرة أو سقاية فعند أبي حنيفة لا يجوز
وعندهما يجوز غير أن محمدا يشترط الشرائط التي ذكرنا والتسليم عنده هو أن ينزل في الرباط بعض المارة وأن يدفن فيها الموتى وأن يسقى منها الناس وسقي الواحد كاف أو يسلم إلى المتولي ويأمره أن يأذن للمارة بالنزول فيها والدفن في المقبرة والشرب من السقاية بعدما صب الماء فيها
ولو وقف أرضا على عمارة المساجد ومرمة الرباط والمقابر جاز عندهما
فأما الوقف على مسجد بعينه هل يجوز اختلف المشايخ فيه قال بعضهم على الخلاف على قول محمد لا يجوز لأن هذا لا يتأبد عنده فإن المسجد إذا خرب واستغنى الناس عن الصلاة فيه يعود ملكا لصاحبه إن كان حيا ويصير ميراثا لورثة الواقف بعد وفاته
وعلى قول أبي يوسف يجوز لأن عنده لا يصير ميراثا بالخراب فإنه يبقى مسجدا أبدا
وقال أبو بكر الأعمش ينبغي أن يجوز بالاتفاق
وقال أبو بكر الإسكاف ينبغي أن لا يجوز بالاتفاق
وأما حكم الصدقة إذا قال داري هذه صدقة في المساكين فإنه يجب عليه أن يتصدق إن شاء بعين الدار وإن شاء باعها وتصدق بثمنها على الفقراء لأن الصدقة عند الإطلاق تقع على تمليك الرقبة دون التصدق بالسكنى والغلة بخلاف ما إذا قال داري هذه صدقة موقوفة على المساكين أنه ينصرف عند أبي حنيفة إلى التصدق بالغلة لوجود التعارف
ولو قال جميع ما أملك فهو صدقة فإنه ينصرف إلى أموال الزكاة من السوائم وأموال التجارة والصامت دون العقار والرقيق وعليه أن يتصدق بالكل ويمسك نفقة نفسه وعياله
ثم إذا ملك مالا يتصدق بمثل ما أنفق من المال الذي نذر بالتصدق به
ولو قال ما لي صدقة في المساكين فإنه لا يدخل فيه السوائم والعقار والرقيق ويدخل أموال التجارة والصامت وقد ذكرنا فيما سبق نظائره وبينا الفرق فلا نعيده
والله تعالى أعلم
انتهى بحمد الله تعالى
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5