كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
فَصْلٌ فِي قُدُومِ وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
588
- رُوِينَا عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ قَالَ كَتَبَ إلَيّ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ الزّبَيْرِ الزّبَيْرِيّ
كَتَبْتُ إلَيْك بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَرَضْتُهُ وَسَمِعْته عَلَى
مَا كَتَبْتُ بِهِ إلَيْك فَحَدّثْ بِذَلِكَ عَنّي قَالَ حَدّثَنِي عَبْدُ
الرّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْحِزَامِيّ قَالَ حَدّثَنَا عَبْدُ
الرّحْمَنِ بْنُ عَيّاشٍ السّمْعِيّ الْأَنْصَارِيّ عَنْ دَلْهَمَ بْنِ
الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَاجِبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
الْمُنْتَفِقِ الْعُقَيْلِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمّهِ لَقِيطِ بْنِ
عَامِرٍ قَالَ دَلْهَمُ وَحَدّثَنِيهِ أَيْضًا أَبِي الْأَسْوَدِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطٍ أَنّ لَقِيطَ بْنَ عَامِرٍ
خَرَجَ وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ الْمُنْتَفِقِ . قَالَ لَقِيطٌ فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتّى
قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَوَافَيْنَاهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَقَامَ فِي
النّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ [ ص 589 ] أَيّهَا النّاسُ أَلَا إنّي قَدْ
خَبّأْتُ لَكُمْ صَوْتِي مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ أَلَا لِتَسْمَعُوا
الْيَوْمَ أَلَا فَهَلْ مِنْ امْرِئٍ بَعَثَهُ قَوْمُهُ " ؟ فَقَالُوا
لَهُ اعْلَمْ لَنَا مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " أَلَا ثَمّ رَجُلٌ لَعَلّهُ يُلْهِيهِ حَدِيثُ نَفْسِهِ أَوْ
حَدِيثُ صَاحِبِهِ أَوْ يُلْهِيهِ ضَالّ أَلَا إنّي مَسْئُولٌ هَلْ
بَلّغْت أَلَا اسْمَعُوا تَعِيشُوا أَلَا اجْلِسُوا " فَجَلَسَ النّاسُ
وَقُمْت أَنَا وَصَاحِبِي حَتّى إذَا فَرَغَ لَنَا فُؤَادُهُ وَنَظَرُهُ
قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدَك مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ ؟ فَضَحِكَ
لَعَمْرُ اللّهِ . عَلِمَ أَنّي أَبْتَغِي السّقْطَةَ فَقَالَ " ضَنّ
رَبّكَ بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنْ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلّا اللّهُ "
وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقُلْت : مَا هُنّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ "
عِلْمُ الْمَنِيّةِ قَدْ عَلِمَ مَتَى مَنِيّةُ أَحَدِكُمْ وَلَا
تَعْلَمُونَهُ وَعِلْمُ الْمَنِيّ حِينَ يَكُونُ فِي الرّحِمِ قَدْ
عَلِمَهُ وَمَا تَعْلَمُونَهُ وَعِلْمُ مَا فِي غَدٍ قَدْ عَلِمَ مَا
أَنْتَ طَاعِمٌ وَلَا تَعْلَمُهُ وَعِلْمُ يَوْمِ الْغَيْثِ يُشْرِفُ
عَلَيْكُمْ أَزِلِينَ مُشْفِقِينَ فَيَظَلّ يَضْحَكُ قَدْ عَلِمَ أَنّ
غَوْثَكُمْ إلَى قَرِيبٍ قَالَ لَقِيطٌ فَقُلْتُ لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبّ
يَضْحَكُ خَيْرًا يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ " وَعِلْمُ يَوْمِ السّاعَةِ
" قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلّمْنَا مِمّا تُعَلّمُ النّاسَ
وَتَعْلَمُ فَإِنّا مِنْ قَبِيلٍ لَا يُصَدّقُونَ تَصْدِيقَنَا أَحَدًا
مِنْ مُذْحِجٍ الّتِي تَرْبُو عَلَيْنَا وَخَثْعَمَ الّتِي تُوَالِينَا
وَعَشِيرَتُنَا الّتِي نَحْنُ مِنْهَا قَالَ " تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ
ثُمّ يُتَوَفّى نَبِيّكُمْ ثُمّ تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ ثُمّ تُبْعَثُ
الصّائِحَةُ فَلَعَمْرُ إلَهِكَ مَا تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا شَيْئًا إلّا
مَاتَ وَالْمَلَائِكَةُ الّذِينَ مَعَ رَبّك فَأَصْبَحَ رَبّكَ عَزّ
وَجَلّ يَطُوفُ فِي الْأَرْضِ وَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبِلَادُ فَأَرْسَلَ
رَبّكَ السّمَاءَ تَهْضِبُ مِنْ عِنْدِ الْعَرْشِ فَلَعَمْرُ إلَهِكَ مَا
تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ مَصْرَعِ قَتِيلٍ وَلَا مَدْفِنِ مَيّتٍ إلّا
شَقّتْ الْقَبْرَ عَنْهُ حَتَى تَخْلُفَهُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ
فَيَسْتَوِي جَالِسًا فَيَقُولُ رَبّك : مَهْيَمْ لِمَا كَانَ فِيهِ
يَقُولُ يَا رَبّ أَمْسِ الْيَوْمَ لِعَهْدِهِ بِالْحَيَاةِ يَحْسَبُهُ
حَدِيثًا بِأَهْلِهِ " فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَكَيْفَ يَجْمَعُنَا
بَعْدَ مَا تُمَزّقُنَا الرّيَاحُ وَالْبِلَى وَالسّبَاعُ ؟ قَالَ "
أُنَبّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللّهِ الْأَرْضُ أَشْرَفْتَ
عَلَيْهَا وَهِيَ فِي مَدَرَةٍ بَالِيَةٍ " فَقُلْت : لَا تُحْيَا أَبَدًا
. ثُمّ أَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهَا السّمَاءَ فَلَمْ تَلْبَثْ عَلَيْك إلّا
أَيّامًا حَتّى أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ شَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَعَمْرُ إلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَكُمْ مِنْ
الْمَاءِ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ نَبَاتَ الْأَرْضِ فَتَخْرُجُونَ مِنْ
الْأَصْوَاءِ وَمِنْ مَصَارِعِكُمْ فَتَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ
إلَيْكُمْ " قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ وَنَحْنُ مِلْءُ
الْأَرْضِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ يَنْظُرُ إلَيْنَا وَنَنْظُرُ إلَيْهِ ؟
قَالَ " أُنَبّئُك بِمِثْلِ هَذَا فِي آلَاءِ اللّهِ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ
آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهُمَا وَيَرَيَانِكُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً
وَلَا تُضَارّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا " وَلَعَمْرُ إلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ
عَلَى أَنْ يَرَاكُمْ وَتَرَوْنَهُ مِنْ أَنْ تَرَوْا نُورَهُمَا
وَيَرَيَانِكُمْ لَا تُضَارّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا قُلْت : يَا رَسُولَ
اللّهِ فَمَا يَفْعَلُ بِنَا رَبّنَا إذَا لَقِينَاهُ ؟ قَالَ "
تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةً لَهُ صَفَحَاتُكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ
مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَيَأْخُذُ رَبّكَ عَزّ وَجَلّ بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنْ
مَاءٍ فَيَنْضَحُ بِهَا قَبْلَكُمْ فَلَعَمْرُ إلَهِكَ مَا يُخْطِئُ
وَجْهُ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْهَا قَطْرَةٌ فَأَمّا الْمُسْلِمُ فَتَدَعُ
وَجْهَهُ مِثْلَ الرّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ وَأَمّا الْكَافِرُ فَتَنْضَحُهُ
أَوْ قَالَ فَتَخْطِمُهُ بِمِثْلِ الْحُمَمِ الْأَسْوَدِ أَلَا ثُمّ
يَنْصَرِفُ نَبِيّكُمْ وَيَفْتَرِقُ عَلَى أَثَرِهِ الصّالِحُونَ
فَيَسْلُكُونَ جِسْرًا مِنْ النّارِ يَطَأُ أَحَدُكُمْ الْجَمْرَةَ
يَقُولُ حِسّ يَقُولُ رَبّك عَزّ وَجَلّ أَوْ أَنّهُ أَلَا فَتَطّلِعُونَ
عَلَى حَوْضِ نَبِيّكُمْ عَلَى أَظْمَأَ - وَاَللّهِ - نَاهِلَةً
عَلَيْهَا قَطّ رَأَيْتهَا فَلَعَمْرُ إلَهِكَ مَا يَبْسُطُ أَحَدٌ
مِنْكُمْ يَدَهُ إلّا وَقَعَ عَلَيْهَا قَدَحٌ يُطَهّرُهُ مِنْ الطّوْفِ
وَالْبَوْلِ وَالْأَذَى وَتُخْنِسُ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ فَلَا تَرَوْنَ
مِنْهُمَا وَاحِدًا " . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَبِمَ نُبْصِرُ
؟ قَالَ " بِمِثْلِ بَصَرِكَ سَاعَتِك هَذِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشّمْسِ فِي يَوْمٍ أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ وَوَاجَهَتْ بِهِ الْجِبَالَ "
قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَبِمَ نُجْزَى مِنْ سَيّئَاتِنَا
وَحَسَنَاتِنَا ؟ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " الْحَسَنَةُ
بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالسّيّئَةُ بِمِثْلِهَا إلّا أَنْ يَعْفُوَ "
قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا الْجَنّةُ وَمَا النّارُ ؟ قَالَ "
لَعَمْرُ إلَهِكَ إنّ النّارَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مَا مِنْهَا
بَابَانِ إلّا يَسِيرُ الرّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَامًا " وَإِنّ
الْجَنّةَ لَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مَا مِنْهَا بَابَانِ إلّا يَسِيرُ
الرّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَامًا " . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ
فَعَلَامَ نَطّلِعُ مِنْ الْجَنّةِ ؟ قَالَ " عَلَى أَنْهَارٍ مِنْ عَسَلٍ
مُصَفّى وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ
وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ مَا يَتَغَيّرُ طَعْمُهُ وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ
وَفَاكِهَةٍ وَلَعَمْرُ إلَهِك مَا تَعْلَمُونَ وَخَيْرٌ مِنْ مِثْلِهِ
مَعَهُ وَأَزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ . قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَلَنَا
فِيهَا أَزْوَاجٌ أَوْ مِنْهُنّ مُصْلِحَاتٌ ؟ قَالَ الْمُصْلِحَاتُ
لِلصّالِحِينَ " . وَفِي لَفْظٍ الصّالِحَاتُ لِلصّالِحِينَ تَلَذّونَهُنّ
وَيَلَذّونَكُمْ مِثْلَ لَذّاتِكُمْ فِي الدّنْيَا غَيْرَ أَنْ لَا
تَوَالُدَ " قَالَ لَقِيطٌ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَقْصَى مَا
نَحْنُ بَالِغُونَ وَمُنْتَهُونَ إلَيْهِ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ
أُبَايِعُك ؟ فَبَسَطَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدَهُ
وَقَالَ " عَلَى إقَامِ الصّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ وَزِيَالِ
الْمُشْرِكِ وَأَنْ لَا تُشْرِكَ بِاَللّهِ إلَهًا غَيْرَهُ " قَالَ قُلْت
: يَا رَسُولَ اللّهِ وَإِنّ لَنَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
فَقَبَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدَهُ وَظَنّ
أَنّي مُشْتَرِطٌ مَا لَا يُعْطِينِيهِ قَالَ قُلْتُ نَحِلّ مِنْهَا
حَيْثُ شِئْنَا وَلَا يَجْنِي امْرُؤٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ فَبَسَطَ
يَدَهُ . وَقَالَ " لَك ذَلِكَ تَحِلّ حَيْثُ شِئْت وَلَا يَجْنِي
عَلَيْكَ إلّا نَفْسُكَ " قَالَ فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ ثُمّ قَالَ " هَا
إنّ ذَيْنَ هَا إنّ ذَيْنَ - مَرّتَيْنِ - لَعَمْرُ إلَهِك مَنْ أَتْقَى
النّاسِ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ " فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ
الْخُدْرِيّةِ أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِلَاب ٍ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ
اللّهِ ؟ قَالَ " بَنُو الْمُنْتَفِقِ بَنُو الْمُنْتَفِقِ بَنُو
الْمُنْتَفِقِ أَهْلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ " قَالَ فَانْصَرَفْنَا
وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ لِأَحَدٍ مِمّنْ
مَضَى مِنْ خَيْرٍ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ
قُرَيْشٍ وَاَللّهِ إنّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقَ لَفِي النّارِ قَالَ
فَكَأَنّهُ وَقَعَ حَرّ بَيْنَ جِلْدِ وَجْهِي وَلَحْمِهِ مِمّا قَالَ
لِأَبِي عَلَى رُءُوسِ النّاسِ فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ وَأَبُوك يَا
رَسُولَ اللّهِ ؟ ثُمّ إذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ
اللّهِ وَأَهْلُك ؟ قَالَ " وَأَهْلِي لَعَمْرُ اللّهِ حَيْثُ مَا
أَتَيْتَ عَلَى قَبْرِ عَامِرِيّ أَوْ قُرَشِيّ مِنْ مُشْرِكٍ قُلْ
أَرْسَلَنِي إلَيْك مُحَمّدٌ فَأُبَشّرُكَ بِمَا يَسُوءُك تُجَرّ عَلَى
وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النّارِ " . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ
وَمَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لَا يُحْسِنُونَ
إلّا إيّاهُ وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنّهُمْ مُصْلِحُونَ ؟ قَالَ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ بَعَثَ فِي آخِرِ كُلّ
سَبْعِ أُمَمٍ نَبِيّا فَمَنْ عَصَى نَبِيّهُ كَانَ مِنْ الضّالّينَ
وَمَنْ أَطَاعَ نَبِيّهُ كَانَ مِنْ الْمُهْتَدِينَ [ ص 590 ] [ ص 591 ]
تُنَادِي جَلَالَتُهُ وَفَخَامَتُهُ وَعَظَمَتُهُ عَلَى أَنّهُ قَدْ
خَرَجَ مِنْ مِشْكَاةِ النّبُوّةِ لَا يُعْرَفُ إلّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْمَدَنِيّ رَوَاهُ
عَنْهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزّبَيْرِيّ وَهُمَا مِنْ كِبَارِ
عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ ثِقَتَانِ مُحْتَجّ بِهِمَا فِي الصّحِيحِ احْتَجّ
بِهِمَا إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ
وَرَوَاهُ أَئِمّةُ أَهْلِ السّنّةِ فِي كُتُبِهِمْ وَتَلَقّوْهُ
بِالْقَبُولِ وَقَابَلُوهُ بِالتّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ وَلَمْ يَطْعَنْ
أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيهِ وَلَا فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهِ . [ ص 592 ]
فَمِمّنْ رَوَاهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْإِمَامِ أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ وَفِي
كِتَابِ " السّنّةِ " وَقَالَ كَتَبَ إلَيّ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ
بْنِ مُحَمّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ الزّبَيْرِ الزّبَيْرِيّ
كَتَبْتُ إلَيْك بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَرَضْته وَسَمِعْته عَلَى مَا
كَتَبْتُ بِهِ إلَيْك فَحَدّثْ بِهِ عَنّي . وَمِنْهُمْ الْحَافِظُ
الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ
النّبِيل ُ فِي كِتَابِ " السّنّةِ " لَهُ . وَمِنْهُمْ الْحَافِظُ أَبُو
أَحْمَدَ مُحَمّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ
الْعَسّالُ فِي كِتَابِ " الْمَعْرِفَةِ " . وَمِنْهُمْ حَافِظُ زَمَانِهِ
وَمُحَدّثُ أَوَانِهِ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
أَيّوبَ الطّبَرَانِيّ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِ . وَمِنْهُمْ الْحَافِظُ
أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ حَيّانَ أَبُو الشّيْخِ
الْأَصْبَهَانِي ّ فِي كِتَابِ " السّنّةِ " . وَمِنْهُمْ الْحَافِظُ
ابْنُ الْحَافِظِ أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ حَافِظُ أَصْبَهَانَ . وَمِنْهُمْ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مِرْدَوَيْهِ .
وَمِنْهُمْ حَافِظُ عَصْرِهِ أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ إسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْحُفّاظِ سِوَاهُمْ
يَطُولُ ذِكْرُهُمْ . وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ
مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ الصّنْعَانِيّ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعِرَاقِ بِمَجْمَعِ
الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدّينِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمّةِ مِنْهُمْ أَبُو
زُرْعَةَ الرّازِيّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ
إسْمَاعِيلَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يُتَكَلّمْ فِي إسْنَادِهِ
بَلْ رَوَوْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَلَا يُنْكِرُ
هَذَا الْحَدِيثَ إلّا جَاحِدٌ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ
وَالسّنّةِ هَذَا كَلَامُ أَبِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَنْدَهْ . [ ص 593 ]
السّكُونِ وَالْيَاءِ يَكُونُ قَدْ شَبّهَ الْأَرْضَ بِخُضْرَتِهَا
بِالنّبَاتِ بِخُضْرَةِ الْحَنْظَلَةِ وَاسْتِوَائِهَا . وَقَوْلُهُ حِسّ
كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَهُ عَلَى غَفْلَةٍ مَا
يُحْرِقُهُ أَوْ يُؤْلِمُهُ قَالَ الْأَصْمَعِيّ وَهِيَ مِثْلُ أوه .
وَقَوْلُهُ يَقُولُ رَبّك عَزّ وَجَلّ " أَوْ أَنّهُ " . قَالَ ابْنُ
قُتَيْبَةَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ " أَنّهُ "
بِمَعْنَى " نَعَمْ " . وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا
كَأَنّهُ قَالَ أَنْتُمْ كَذَلِكَ أَوْ أَنّهُ عَلَى مَا يَقُولُ .
وَالطّوْفُ الْغَائِطُ . وَفِي الْحَدِيثِ لَا يُصَلّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ
يُدَافِعُ الطّوْفَ وَالْبَوْلَ وَالْجِسْرُ الصّرَاطُ . وَقَوْلُهُ "
فَيَقُولُ رَبّك . مَهْيَمْ " : أَيْ مَا شَأْنُك وَمَا أَمْرُك وَفِيمَ
كُنْتَ . وَقَوْلُهُ " يُشْرِفُ عَلَيْكُمْ أَزِلِينَ " : الْأَزْلُ -
بِسُكُونِ الزّايِ - الشّدّةُ وَالْأَزِلُ عَلَى وَزْنِ كَتِفٍ هُوَ
الّذِي قَدْ أَصَابَهُ الْأَزْلُ وَاشْتَدّ بِهِ حَتّى كَادَ يَقْنَطُ .
[ الضّحِكُ مِنْ صِفَاتِ اللّهِ الْفِعْلِيّةِ وَكَذَلِكَ النّزُولُ وَغَيْرُهُمَا ]
وَقَوْلُهُ
" فَيَظَلّ يَضْحَكُ " هُوَ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الّتِي لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ
كَصِفَاتِ ذَاتِهِ وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الصّفَةُ فِي أَحَادِيثَ
كَثِيرَةٍ لَا سَبِيلَ إلَى رَدّهَا كَمَا لَا سَبِيلَ إلَى تَشْبِيهِهَا
وَتَحْرِيفِهَا وَكَذَلِكَ " فَأَصْبَحَ رَبّك يَطُوفُ فِي الْأَرْضِ "
هُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ كَقَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ } {
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ
رَبّكَ } و يَنْزِلُ رَبّنَا كُلّ لَيْلَةٍ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا و
يَدْنُو عَشِيّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ
الْمَلَائِكَةَ وَالْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ صِرَاطٌ وَاحِدٌ مُسْتَقِيمٌ
إثْبَاتٌ بِلَا تَمْثِيلٍ وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ .
[ مَوْتُ الْمَلَائِكَةِ ]
وَقَوْلُهُ
" وَالْمَلَائِكَةُ الّذِينَ عِنْدَ رَبّك " : لَا أَعْلَمُ مَوْتَ
الْمَلَائِكَةِ جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَرِيحٍ إلّا هَذَا وَحَدِيثِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الطّوِيل وَهُوَ حَدِيثُ الصّوَرِ [ ص 594 ] {
وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ } [ الزّمَرِ 68 ] .
[ جَوَازُ الْإِقْسَامِ بِصِفَاتِ اللّه ِ]
وَقَوْلِهِ
فَلَعُمْرُ إلَهِك هُوَ قَسَمٌ بِحَيَاةِ الرّبّ جَلّ جَلَالُهُ وَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِقْسَامِ بِصِفَاتِهِ وَانْعِقَادِ الْيَمِينِ
بِهَا وَأَنّهَا قَدِيمَةٌ وَأَنّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَسْمَاءُ
الْمَصَادِرِ وَيُوصَفُ بِهَا وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرّدِ
الْأَسْمَاءِ وَأَنّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى مُشْتَقّةٌ مِنْ هَذِهِ
الْمَصَادِرِ دَالّةٌ عَلَيْهَا . وَقَوْلُهُ ثُمّ تَجِئْ الصّائِحَةُ
هِيَ صَيْحَةُ الْبَعْثِ وَنَفْخَتُهُ . وَقَوْلُهُ حَتّى يَخْلُفَهُ مِنْ
عِنْدِ رَأْسِهِ هُوَ مِنْ أَخْلَفَ الزّرْعُ إذَا نَبَتَ بَعْدَ
حَصَادِهِ شِبْهَ النّشْأَةِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِإِخْلَافِ
الزّرْعِ بَعْدَ مَا حُصِدَ وَتِلْكَ الْخِلْفَةُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ
كَمَا يَنْبُتُ الزّرْعُ . وَقَوْلُهُ فَيَسْتَوِي جَالِسًا هَذَا عِنْدَ
تَمَامِ خِلْقَتِهِ وَكَمَالِ حَيَاتِهِ ثُمّ يَقُومُ بَعْدَ جُلُوسِهِ
قَائِمًا ثُمّ يُسَاقُ إلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إمّا رَاكِبًا وَإِمّا
مَاشِيًا . وَقَوْلُهُ يَقُولُ يَا رَبّ أَمْسِ الْيَوْمَ اسْتِقْلَالٌ
لِمُدّةِ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ كَأَنّهُ لَبِثَ فِيهَا يَوْمًا فَقَالَ
أَمْسِ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَقَالَ الْيَوْمَ يَحْسَبُ أَنّهُ حَدِيثُ
عَهْدٍ بِأَهْلِهِ وَأَنّهُ إنّمَا فَارَقَهُمْ أَمْسِ أَوْ الْيَوْمَ .
وَقَوْلُهُ كَيْفَ يَجْمَعُنَا بَعْدَ مَا تَمْرُقُنَا الرّيَاحُ
وَالْبِلَى وَالسّبَاع وَإِقْرَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَهُ عَلَى هَذَا السّؤَالِ رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنّ
الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا يَخُوضُونَ فِي دَقَائِقِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ
يَكُونُوا يَفْهَمُونَ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ بَلْ كَانُوا مَشْغُولِينَ
بِالْعَمَلِيّاتِ وَأَنّ أَفْرَاخَ الصّابِئَةِ وَالْمَجُوسِ مِنْ
الْجَهْمِيّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيّةِ أَعْرَفُ مِنْهُمْ
بِالْعِلْمِيّاتِ .
[ كانَ الصّحَابَةُ يُورِدُونَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَالشّبُهَات ]
وَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْئِلَةِ
وَالشّبُهَاتِ فَيُجِيبُهُمْ عَنْهَا بِمَا يُثْلِجُ صُدُورَهُمْ وَقَدْ
أَوْرَدَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَسْئِلَةَ
أَعْدَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ أَعْدَاؤُهُ لِلتّعَنّتِ وَالْمُغَالَبَةِ
وَأَصْحَابُهُ لِلْفَهْمِ وَالْبَيَانِ وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ
يُجِيبُ كُلّا عَنْ سُؤَالِهِ إلّا مَا لَا جَوَابَ عَنْهُ كَسُؤَالِهِ
عَنْ وَقْتِ [ ص 595 ] سَمّاهُ فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ
مِنْهُ . وَقَوْلُهُ " أُنَبّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللّهِ "
آلَاؤُهُ نِعَمُهُ وَآيَاتُهُ الّتِي تَعَرّفَ بِهَا إلَى عِبَادِهِ .
وَفِيهِ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ فِي أَدِلّةِ التّوْحِيدِ وَالْمُعَادِ
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ .
[ حُكْمُ الشّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ ]
و
َفِيهِ أَنّ حُكْمَ الشّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ إذَا
كَانَ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ فَكَيْفَ تَعْجِزُ قُدْرَتُهُ عَنْ نَظِيرِهِ
وَمِثْلِهِ ؟ فَقَدْ قَرّرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ أَدِلّةَ الْمُعَادِ فِي
كِتَابِهِ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ وَأَبْيَنَهُ وَأَبْلَغَهُ وَأَوْصَلَهُ
إلَى الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ فَأَبَى أَعْدَاؤُهُ الْجَاحِدُونَ إلّا
تَكْذِيبًا لَهُ وَتَعْجِيزًا لَهُ وَطَعْنًا فِي حِكْمَتِهِ تَعَالَى
عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا . وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ أَشْرَفْت
عَلَيْهَا وَهِيَ مَدَرَةٌ بَالِيَةٌ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } الرّومِ : 19 ] . وَقَوْلِهِ {
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي
الْمَوْتَى إِنّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فُصّلَتْ 39 ]
وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ . وَقَوْلُهُ فَتَنْظُرُونَ
إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْكُم فِيهِ إثْبَاتُ صِفَةِ النّظَرِ لِلّهِ عَزّ
وَجَلّ وَإِثْبَاتُ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ . وَقَوْلُهُ " كَيْفَ
وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ " قَدْ جَاءَ هَذَا فِي
هَذَا الْحَدِيثِ . وَفِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لَا شَخْصَ أَغْيَرُ
مِنْ اللّهِ وَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا قَوْمٌ عَرَبٌ يَعْلَمُونَ
الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ تَشْبِيهُهُ سُبْحَانَهُ
بِالْأَشْخَاصِ بَلْ هُمْ أَشْرَفُ عُقُولًا وَأَصَحّ أَذْهَانًا
وَأَسْلَمُ قُلُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَحَقّقَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وُقُوعَ الرّؤْيَةِ عِيَانًا بِرُؤْيَةِ الشّمْسِ وَالْقَمَرِ تَحْقِيقًا
لَهَا وَنَفْيًا لِتَوَهّمِ الْمَجَازِ الّذِي يَظُنّهُ الْمُعَطّلُونَ .
[ إثْبَاتُ صِفَةِ الْيَدِ لِلّه ]
وَقَوْلُهُ
فَيَأْخُذُ رَبّك بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنْ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ بِهَا
قَبْلَكُم فِيهِ إثْبَاتُ صِفَةِ [ ص 596 ] وَقَوْلُهُ ثُمّ يَنْصَرِفُ
نَبِيّكُمْ هَذَا انْصِرَافٌ مِنْ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنّةِ .
وَقَوْلُهُ وَيُفَرّقُ عَلَى أَثَرِهِ الصّالِحُون أَيْ يَفْزَعُونَ
وَيَمْضُونَ عَلَى أَثَرِهِ .
[ هَلْ الْحَوْضُ قَبْلَ الصّرَاط ؟]
وَقَوْلُهُ
فَتَطّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيّكُمْ ظَاهِرُ هَذَا أَنّ الْحَوْضَ مِنْ
وَرَاءِ الْجِسْرِ فَكَأَنّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَيْهِ حَتّى يَقْطَعُوا
الْجِسْرَ وَلِلسّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقُرْطُبِيّ فِي
" تَذْكِرَتِهِ " وَالْغَزَالِيّ وَغَلّطَا مَنْ قَالَ إنّهُ بَعْدَ
الْجِسْرِ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ : عَنْ أبِي هُرَيْرَة . أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ بَيْنَا أَنَا
قَائِمٌ عَلَى الْحَوْضِ إذَا زُمْرَةٌ حَتّى إذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ
رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ هَلُمّ فَقُلْتُ إلَى
أَيْنَ ؟ فَقَالَ إلَى النّارِ وَاَللّهِ قُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالَ
إنّهُمْ ارْتَدّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ فَلَا أَرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ
إلّا مِثْلُ هَمَلِ النّعَمِ قَالَ فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحّتِهِ
أَدَلّ دَلِيلٍ عَلَى أَنّ الْحَوْضَ يَكُونُ فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ
الصّرَاطِ لِأَنّ الصّرَاطَ إنّمَا هُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنّمَ
فَمَنْ جَازَهُ سَلِمَ مِنْ النّارِ . قُلْتُ وَلَيْسَ بَيْنَ أَحَادِيثِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَعَارُضٌ وَلَا تَنَاقُضٌ
وَلَا اخْتِلَافٌ وَحَدِيثُهُ كُلّهُ يُصَدّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا
وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إنْ أَرَادُوا أَنّ الْحَوْضَ لَا يُرَى
وَلَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلّا بَعْدَ قَطْعِ الصّرَاطِ فَحَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ هَذَا وَغَيْرُهُ يَرُدّ قَوْلَهُمْ وَإِنْ أَرَادُوا أَنّ
الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَازُوا الصّرَاطَ وَقَطَعُوهُ بَدَا لَهُمْ
الْحَوْضُ فَشَرِبُوا مِنْهُ فَهَذَا يَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ لَقِيطٍ
هَذَا وَهُوَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ قَبْلَ الصّرَاطِ فَإِنّ قَوْلَهُ
طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ فَإِذَا كَانَ بِهَذَا الطّولِ
وَالسّعَةِ فَمَا الّذِي يُحِيلُ امْتِدَادَهُ إلَى وَرَاءِ الْجِسْرِ
فَيَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبْلَ الصّرَاطِ وَبَعْدَهُ فَهَذَا فِي
حَيّزِ الْإِمْكَانِ وَوُقُوعُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خَبَرِ الصّادِقِ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ - وَاَللّهُ عَلَى أَظْمَأَ - نَاهِلَةٍ
قَطّ النّاهِلَةُ الْعِطَاشُ الْوَارِدُونَ [ ص 597 ] أَظْمَأَ مَا هُمْ
إلَيْهِ وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الصّرَاطِ فَإِنّهُ جِسْرُ
النّارِ وَقَدْ وَرَدُوهَا كُلّهُمْ فَلَمّا قَطَعُوهُ اشْتَدّ ظَمَؤُهُمْ
إلَى الْمَاءِ فَوَرَدُوا حَوْضَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا
وَرَدُوهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ . وَقَوْلُهُ تَخْنِسُ الشّمْسُ
وَالْقَمَر أَيْ تَخْتَفِيَانِ فَتَحْتَبِسَانِ وَلَا يُرَيَانِ .
وَالِاخْتِنَاسُ التّوَارِي وَالِاخْتِفَاءُ . وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي
هُرَيْرَةَ فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ . وَقَوْلُهُ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ
مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنّ مَا بَيْنَ
الْبَابِ وَالْبَابِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِالْبَابَيْنِ الْمِصْرَاعَيْنِ وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا جَاءَ مِنْ
تَقْدِيرِهِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : إنّهُ لَمْ
يُصَرّحْ فِيهِ رَاوِيهِ بِالرّفْعِ بَلْ قَالَ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا
أَنّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا .
وَالثّانِي : إنّ الْمَسَافَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سُرْعَةِ السّيْرِ
فِيهَا وَبُطْئِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ صِفَةُ خَمْرِ الْجَنّةِ ]
وَقَوْلُهُ
فِي خَمْرِ الْجَنّةِ أَنّهُ مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ تَعْرِيضٌ
بِخَمْرِ الدّنْيَا وَمَا يَلْحَقُهَا مِنْ صُدَاعِ الرّأْسِ
وَالنّدَامَةِ عَلَى ذَهَابِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ وَحُصُولِ الشّرّ
الّذِي يُوجِبُهُ زَوَالُ الْعَقْلِ . وَالْمَاءُ غَيْرُ الْآسِنِ هُوَ
الّذِي لَمْ يَتَغَيّرْ بِطُولِ مُكْثِهِ .
[ هَلْ تَلِدُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنّةِ ؟]
وَقَوْلُهُ
فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ قَدْ اخْتَلَفَ
النّاسُ هَلْ تَلِدُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنّةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَكُونُ فِيهَا حَبَلٌ وَلَا وِلَادَةٌ
وَاحْتَجّتْ هَذِهِ الطّائِفَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِحَدِيثٍ آخَرَ
أَظُنّهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَفِيهِ غَيْرَ أَنْ لَا مَنِيّ وَلَا
مَنِيّة وَأَثْبَتَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ الْوِلَادَةَ فِي الْجَنّةِ
وَاحْتَجّتْ بِمَا رَوَاهُ التّرْمِذِيّ فِي " [ ص 598 ] أَبِي الصّدّيقِ
النّاجِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ ا لْمُؤْمِنُ إذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنّةِ
كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي قَالَ
التّرْمِذِيّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . قَالَتْ
الطّائِفَةُ الْأُولَى : هَذَا لَا يَدُلّ عَلَى وُقُوعِ الْوِلَادَةِ فِي
الْجَنّةِ فَإِنّهُ عَلّقَهُ بِالشّرْطِ فَقَالَ إذَا اشْتَهَى وَلَكِنّهُ
لَا يَشْتَهِي وَهَذَا تَأْوِيلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ حَكَاهُ
الْبُخَارِيّ عَنْهُ . قَالُوا : وَالْجَنّةُ دَارُ جَزَاءٍ عَلَى
الْأَعْمَالِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الْجَزَاءِ قَالُوا :
وَالْجَنّةُ دَارُ خُلُودٍ لَا مَوْتَ فِيهَا فَلَوْ تَوَالَدَ فِيهَا
أَهْلُهَا عَلَى الدّوَامِ وَالْأَبَدِ لَمَا وَسِعَتْهُمْ وَإِنّمَا
وَسِعَتْهُمْ الدّنْيَا بِالْمَوْتِ . وَأَجَابَتْ الطّائِفَةُ الْأُخْرَى
عَنْ ذَلِكَ كُلّهِ وَقَالَتْ " إذًا " إنّمَا تَكُونُ لِمُحَقّقِ
الْوُقُوعِ لَا الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَقَدْ صَحّ أَنّهُ سُبْحَانَهُ
يُنْشِئُ لِلْجَنّةِ خَلْقًا يُسْكِنُهُمْ إيّاهَا بِلَا عَمَلٍ مِنْهُمْ
قَالُوا : وَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِيهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ .
وَأَمّا حَدِيثُ سِعَتِهَا : فَلَوْ رُزِقَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَشَرَةَ آلَافٍ مِنْ الْوَلَدِ وَسِعَتْهُمْ فَإِنّ أَدْنَاهُمْ مَنْ
يَنْظُرُ فِي مِلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ عَامٍ . وَقَوْلُهُ يَا رَسُولَ
اللّهِ أَقْصَى مَا نَحْنُ بَالِغُونَ وَمُنْتَهُونَ إلَيْهِ لَا جَوَابَ
لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنّهُ إنْ أَرَادَ أَقْصَى مُدّةِ الدّنْيَا
وَانْتِهَائِهَا فَلَا يَعْلَمُهُ إلّا اللّهُ وَإِنْ أَرَادَ أَقْصَى مَا
نَحْنُ مُنْتَهُونَ إلَيْهِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنّةِ وَالنّارِ فَلَا
تَعْلَمُ نَفْسٌ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ
الِانْتِهَاءُ إلَى نَعِيمٍ وَجَحِيمٍ وَلِهَذَا لَمْ يُجِبْهُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَوْلُهُ فِي عَقْدِ الْبَيْعَةِ
وَزِيَالِ الْمُشْرِك أَيْ مُفَارَقَتُهُ وَمُعَادَاتُهُ فَلَا [ ص 599 ]
لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ .
[ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا قَبْلَ الْبِعْثَةِ فَهُوَ فِي النّارِ ]
وَقَوْلُهُ
حَيْثُمَا مَرَرْت بِقَبْرِ كَافِرٍ فَقُلْ أَرْسَلَنِي إلَيْك مُحَمّدٌ
هَذَا إرْسَالُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ لَا تَبْلِيغِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى سَمَاعِ أَصْحَابِ أَهْلِ الْقُبُورِ كَلَامَ
الْأَحْيَاءِ وَخِطَابَهُمْ لَهُمْ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَنْ مَاتَ
مُشْرِكًا فَهُوَ فِي النّارِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبِعْثَةِ لِأَنّ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ غَيّرُوا الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ
وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا الشّرْكَ وَارْتَكَبُوهُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ حُجّةٌ
مِنْ اللّهِ بِهِ وَقُبْحُهُ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِالنّارِ لَمْ يَزَلْ
مَعْلُومًا مِنْ دِينِ الرّسُلِ كُلّهِمْ مِنْ أَوّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ
وَأَخْبَارُ عُقُوبَاتِ اللّهِ لِأَهْلِهِ مُتَدَاوَلَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ
قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَلِلّهِ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ فِي كُلّ وَقْتٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا مَا فَطَرَ
عِبَادَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رُبُوبِيّتِهِ الْمُسْتَلْزِمِ
لِتَوْحِيدِ إلَهِيّتِهِ وَأَنّهُ يَسْتَحِيلُ فِي كُلّ فِطْرَةٍ وَعَقْلٍ
أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إلَهٌ آخَرُ وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذّبُ
بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ وَحْدَهَا فَلَمْ تَزَلْ دَعْوَةُ
الرّسُلِ إلَى التّوْحِيدِ فِي الْأَرْضِ مَعْلُومَةً لِأَهْلِهَا
فَالْمُشْرِكُ يَسْتَحِقّ الْعَذَابَ بِمُخَالَفَتِهِ دَعْوَةَ الرّسُلِ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي قُدُومِ وَفْدِ النّخْعِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَقَدِمَ
عَلَيْهِ وَفْدُ النّخْعِ وَهُمْ آخِرُ الْوُفُودِ قُدُومًا عَلَيْهِ فِي
نِصْفِ الْمُحَرّمِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ
فَنَزَلُوا دَارَ الْأَضْيَافِ ثُمّ جَاءُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقِرّينَ بِالْإِسْلَامِ وَقَدْ كَانُوا بَايَعُوا
مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ زُرَارَةُ بْنُ
عَمْرٍو يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي رَأَيْتُ فِي سَفَرِي هَذَا عَجَبًا
قَالَ " وَمَا [ ص 600 ] قَالَ رَأَيْتُ أَتَانًا تَرَكْتُهَا فِي الْحَيّ
كَأَنّهَا وَلَدَتْ جَدْيًا أَسْفَعَ أَحْوَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَلْ تَرَكْتَ أَمَةً لَكَ مُصِرّةً
عَلَى حَمْلٍ " ؟
قَالَ نَعَمْ قَالَ " فَإِنّهَا قَدْ وَلَدَتْ
غُلَامًا وَهُوَ ابْنُكَ " قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَمَا بَالُهُ
أَسْفَعَ أَحْوَى ؟ فَقَالَ " اُدْنُ مِنّي " فَدَنَا مِنْهُ
فَقَالَ "
هَلْ بِكَ مِنْ بَرَصٍ تَكْتُمُهُ ؟ " قَالَ وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ
مَا عَلِمَ بِهِ أَحَدٌ وَلَا اطّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُك قَالَ " فَهُوَ
ذَلِكَ " قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَأَيْتُ النّعْمَانَ بْنَ
الْمُنْذِرِ عَلَيْهِ قُرْطَانِ مُدَمْلَجَانِ وَمَسْكَتَانِ قَالَ "
ذَلِكَ مَلِكُ الْعَرَبِ رَجَعَ إلَى أَحْسَنِ زِيّهِ وَبَهْجَتِهِ "
قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَأَيْتُ عَجُوزًا شَمْطَاءَ قَدْ خَرَجَتْ
مِنْ الْأَرْضِ .
قَالَ " تِلْكَ بَقِيّةُ الدّنْيَا " قَالَ
وَرَأَيْتُ نَارًا خَرَجَتْ مِنْ الْأَرْضِ فَحَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ
ابْنٍ لِي يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو وَهِيَ تَقُولُ لَظَى لَظَى بَصِيرٌ
وَأَعْمَى أَطْعِمُونِي آكُلُكُمْ أَهْلَكُمْ وَمَالَكُمْ . قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " تِلْكَ فِتْنَةٌ تَكُونُ فِي
آخِرِ الزّمَانِ " . قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا الْفِتْنَةُ ؟ قَالَ
" يَقْتُلُ النّاسُ إمَامَهُمْ وَيَشْتَجِرُونَ اشْتِجَارَ أَطْبَاقِ
الرّأْسِ " . وَخَالَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَيْنَ أَصَابِعِهِ - يَحْسَبُ الْمُسِيءُ فِيهَا أَنّهُ مُحْسِنٌ - "
وَيَكُونُ دَمُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ فِيهَا أَحْلَى مِنْ
شُرْبِ الْمَاءِ إنْ مَاتَ ابْنُكَ أَدْرَكْتَ الْفِتْنَةَ وَإِنْ مُتّ
أَنْتَ أَدْرَكَهَا ابْنُك " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ
أَنْ لَا أُدْرِكَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " اللّهُمّ لَا يُدْرِكْهَا " فَمَاتَ وَبَقِيَ ابْنُهُ وَكَانَ
مِمّنْ خَلَعَ عُثْمَانَ .
فَصْلٌ ذِكْرُ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ
[ الْكِتَابُ إلَى هِرَقْلَ ]
[
ص 601 ] ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنّهُ كَتَبَ إلَى هِرَقْل : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرّومِ
سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكَ
بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللّهُ أَجْرَكَ
مَرّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيّينَ وَ {
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّا اللّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
وَلَا يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ
تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
[ الْكِتَابُ إلَى كِسْرَى ]
وَكَتَبَ
إلَى كِسْرَى : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ
اللّهِ إلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى
وَآمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللّهِ فَإِنّي أَنَا رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ
كَافّةً لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى
الْكَافِرِينَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ فَإِنْ أَبَيْت فَعَلَيْكَ إثْمُ
الْمَجُوسِ " فَلَمّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مَزّقَهُ فَبَلَغَ
ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " مَزّقَ
اللّهُ مُلْكَهُ
[ الْكِتَابُ إلَى النّجَاشِيّ ]
[ ص 602 ]
وَكَتَبَ إلَى النّجَاشِيّ : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ
مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى النّجَاشِيّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ أَسْلِمْ
أَنْتَ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْكَ اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ
الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ وَأَشْهَدُ
أَنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رُوحُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى
مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطّيّبَةِ الْحَصِينَةِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى
فَخَلَقَهُ اللّهُ مِنْ رُوحِهِ وَنَفَخَهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ
وَإِنّي أَدْعُوكَ إلَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ
عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنْ تَتْبَعَنِي وَتُؤْمِنَ بِاَلّذِي جَاءَنِي
فَإِنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِنّي أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إلَى اللّهِ عَزّ
وَجَلّ وَقَدْ بَلّغْتُ وَنَصَحْت فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي وَالسّلَامُ
عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ عَمْرِو بْنِ
أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : إنّ عَمْرًا قَالَ لَهُ يَا
أَصْحَمَةَ إنّ عَلَيّ الْقَوْلَ وَعَلَيْكَ الِاسْتِمَاعَ إنّك كَأَنّك
فِي الرّقّةِ عَلَيْنَا وَكَأَنّا فِي الثّقَةِ بِك مِنْك لِأَنّا لَمْ
نَظُنّ بِك خَيْرًا قَطّ إلّا نِلْنَاهُ وَلَمْ نَخَفْكَ عَلَى شَيْءٍ
قَطّ إلّا أَمِنّاهُ وَقَدْ أَخَذْنَا الْحُجّةَ عَلَيْك مِنْ فِيك
الْإِنْجِيلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك شَاهِدٌ لَا يُرَدّ وَقَاضٍ لَا يَجُورُ
وَفِي ذَلِكَ مَوْقِعُ الْحَزّ وَإِصَابَةُ الْمُفَصّلِ وَإِلّا فَأَنْتَ
فِي هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ كَالْيَهُودِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَقَدْ فَرّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُسُلَهُ إلَى
النّاسِ فَرَجَاك لِمَا لَمْ يَرْجُهُمْ لَهُ وَأَمّنَك عَلَى مَا
خَافَهُمْ عَلَيْهِ بِخَيْرِ سَالِفٍ وَأَجْرٍ يُنْتَظَرُ . فَقَالَ
النّجَاشِيّ : أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَنّهُ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي
يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَنّ بِشَارَةَ مُوسَى بِرَاكِبِ
الْحِمَارِ كَبِشَارَةِ عِيسَى بِرَاكِبِ الْجَمَلِ وَأَنّ الْعِيَانَ
لَيْسَ بِأَشْفَى مِنْ الْخَبَرِ ثُمّ كَتَبَ النّجَاشِيّ جَوَابَ كِتَابِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ إلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ مِنْ النّجَاشِيّ أَصْحَمَةَ
سَلَامٌ عَلَيْك يَا نَبِيّ اللّهِ مِنْ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ
وَبَرَكَاتُهُ اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ فَقَدْ
بَلَغَنِي كِتَابُك يَا رَسُولَ اللّهِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ
عِيسَى فَوَرَبّ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنّ عِيسَى لَا يَزِيدُ عَلَى مَا
ذَكَرْتَ ثُفْرُوقًا إنّهُ كَمَا ذَكَرْت وَقَدْ عَرَفْنَا مَا بُعِثْت
بِهِ إلَيْنَا وَقَدْ قَرّبْنَا ابْنَ عَمّك وَأَصْحَابَهُ فَأَشْهَدُ
أَنّك رَسُولُ اللّهِ صَادِقًا مُصَدّقًا وَقَدْ بَايَعْتُك وَبَايَعْتُ
ابْنَ عَمّك وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " .
وَالثّفْرُوقُ عِلَاقَةٌ مَا بَيْنَ النّوَاةِ وَالْقِشْرِ . [ ص 603 ]
النّجَاشِيّ سَنَةَ تِسْعٍ وَأُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَوْتِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَخَرَجَ بِالنّاسِ إلَى
الْمُصَلّى فَصَلّى عَلَيْهِ وَكَبّرَ أَرْبَعًا .
[ النّجَاشِيّ الّذِي صَلّى عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ
بِالنّجَاشِيّ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ يَدْعُوهُ ]
قُلْت
: وَهَذَا وَهْمٌ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَقَدْ خَلَطَ رَاوِيهِ وَلَمْ
يُمَيّزْ بَيْنَ النّجَاشِيّ الّذِي صَلّى عَلَيْهِ وَهُوَ الّذِي آمَنَ
بِهِ وَأَكْرَمَ أَصْحَابَهُ وَبَيْنَ النّجَاشِيّ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ
يَدْعُوهُ فَهُمَا اثْنَانِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيّنًا فِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَ
إلَى النّجَاشِيّ وَلَيْسَ بِاَلّذِي صَلّى عَلَيْهِ .
فَصْلٌ [ الْكِتَابُ إلَى الْمُقَوْقِسِ ]
وَكَتَبَ
إلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيّةِ : بِسْمِ اللّهِ
الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ عَبْدِ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلَى
الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى
أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ
تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللّهُ أَجْرَكَ مَرّتَيْنِ فَإِنْ
تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْكَ إثْمَ الْقِبْطِ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ
إِلّا اللّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ } [ آلِ عِمْرَانَ 64 ] وَبَعَثَ بِهِ مَعَ
حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ إنّهُ
كَانَ قَبْلَك رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنّهُ الرّبّ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ
اللّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمّ انْتَقَمَ
مِنْهُ فَاعْتَبَرَ بِغَيْرِك وَلَا يَعْتَبِرُ غَيْرُك بِك . فَقَالَ إنّ
لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إلّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَقَالَ
حَاطِبٌ نَدْعُوك إلَى دِينِ اللّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْكَافِي بِهِ
اللّهُ فَقْدَ مَا سِوَاهُ إنّ هَذَا النّبِيّ دَعَا النّاسَ فَكَانَ
أَشَدّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ وَأَعْدَاهُمْ لَهُ الْيَهُودُ
وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النّصَارَى وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ مُوسَى
بِعِيسَى إلّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمّدٍ وَمَا دُعَاؤُنَا إيّاكَ
إلَى الْقُرْآنِ إلّا كَدُعَائِك أَهْلَ التّوْرَاةِ إلَى الْإِنْجِيلِ
وَكُلّ نَبِيّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ مِنْ [ ص 604 ] أُمّتِهِ فَالْحَقّ
عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَأَنْتَ مِمّنْ أَدْرَكَهُ هَذَا النّبِيّ
وَلَسْنَا نَنْهَاك عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَلَكِنّا نَأْمُرُك بِهِ .
فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ : إنّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا النّبِيّ
فَوَجَدْتُهُ لَا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ وَلَا يَنْهَى عَنْ
مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسّاحِرِ الضّالّ وَلَا الْكَاهِنِ
الْكَاذِبِ وَوُجِدَتْ مَعَهُ آيَةُ النّبُوّةِ بِإِخْرَاجِ الْخَبْءِ
وَالْإِخْبَارِ بِالنّجْوَى وَسَأَنْظُرُ وَأَخَذَ كِتَابَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَهُ فِي حُقّ مِنْ عَاجٍ وَخَتَمَ
عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ إلَى جَارِيَةٍ لَهُ ثُمّ دَعَا كَاتِبًا لَهُ
يَكْتُبُ بِالْعَرَبِيّةِ فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ لِمُحَمّدِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ مِنْ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ سَلَامٌ عَلَيْك
أَمّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَك وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ
وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنّ نَبِيّا بَقِيَ وَكُنْتُ
أَظُنّ أَنّهُ يَخْرُجُ بِالشّام ِ وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَك وَبَعَثْتُ
إلَيْك بِجَارِيَتَيْنِ لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ عَظِيمٌ
وَبِكِسْوَةٍ وَأَهْدَيْتُ إلَيْك بَغْلَةً لِتَرْكَبَهَا وَالسّلَامُ
عَلَيْك . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَسْلَمْ وَالْجَارِيَتَانِ
مَارِيَةُ وَسِيرِينُ وَالْبَغْلَةُ دُلْدُلُ بَقِيَتْ إلَى زَمَنِ
مُعَاوِيَةَ .
فَصْلٌ [ الْكِتَابُ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى عَامِلِ الْبَحْرَيْنِ ]
وَكَتَبَ
إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى فَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ وَجَدْت هَذَا الْكِتَابَ فِي كُتُبِ ابْنِ عَبّاسٍ
بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَسَخْته فَإِذَا فِيهِ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ إلَى الْمُنْذِرِ
بْنِ سَاوَى وَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إلَى الْإِسْلَامِ
فَكَتَبَ الْمُنْذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَمّا بَعْدُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّي قَرَأْت كِتَابَك عَلَى أَهْلِ
الْبَحْرَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبّ الْإِسْلَامَ وَأَعْجَبَهُ وَدَخَلَ
فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَبِأَرْضِي مَجُوسٌ وَيَهُودُ فَأَحْدِثْ
إلَيّ فِي ذَلِكَ أَمْرَك فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 605 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ
مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى سَلَامٌ عَلَيْكَ
فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ وَأَشْهَدُ
أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمّا
بَعْدُ فَإِنّي أُذَكّرُكَ اللّهَ عَزّ وَجَلّ فَإِنّهُ مَنْ يَنْصَحْ
فَإِنّمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ وَإِنّهُ مَنْ يُطِعْ رُسُلِي وَيَتّبِعْ
أَمْرَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ نَصَحَ لَهُمْ فَقَدْ نَصَحَ لِي
وَإِنّ رُسُلِي قَدْ أَثْنَوْا عَلَيْكَ خَيْرًا وَإِنّي قَدْ شَفَعْتُكَ
فِي قَوْمِك فَاتْرُكْ لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ
وَعَفَوْتُ عَنْ أَهْلِ الذّنُوبِ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَإِنّكَ مَهْمَا
تُصْلِحْ فَلَنْ نَعْزِلَكَ عَنْ عَمَلِك وَمَنْ أَقَامَ عَلَى
يَهُودِيّةٍ أَوْ مَجُوسِيّةٍ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ
فَصْلٌ [ الْكِتَابُ إلَى مَلِكِ عُمَانَ ]
وَكَتَبَ
إلَى مَلِكِ عُمَانَ كِتَابًا وَبَعَثَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
إلَى جَيْفَرَ وَعَبْدٍ ابْنَيْ الْجُلَنْدَى سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ
الْهُدَى أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكُمَا بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ
أَسْلِمَا تَسْلَمَا فَإِنّي رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ كَافّةً
لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ
فَإِنّكُمَا إنْ أَقْرَرْتُمَا بِالْإِسْلَامِ وَلّيْتُكُمَا وَإِنْ
أَبَيْتُمَا أَنْ تُقِرّا بِالْإِسْلَامِ فَإِنّ مُلْكَكُمَا زَائِلٌ
عَنْكُمَا وَخَيْلِي تَحُلّ بِسَاحَتِكُمَا وَتَظْهَرُ نُبُوّتِي عَلَى
مُلْكِكُمَا . وَكَتَبَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَخَتَمَ الْكِتَابَ . قَالَ
عَمْرٌو : فَخَرَجْتُ حَتّى انْتَهَيْتُ إلَى عُمَانَ فَلَمّا قَدِمْتهَا
عَمَدْتُ إلَى عَبْدٍ وَكَانَ أَحْلَمَ الرّجُلَيْنِ وَأَسْهَلَهُمَا
خُلُقًا فَقُلْتُ إنّي رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَيْك وَإِلَى أَخِيك فَقَالَ أَخِي الْمُقَدّمُ عَلَيّ
بِالسّنّ وَالْمُلْكِ وَأَنَا أُوصِلُك إلَيْهِ حَتّى يَقْرَأَ كِتَابَك
ثُمّ قَالَ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ ؟ قُلْت : أَدْعُوك إلَى اللّهِ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَخْلَعَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ وَتَشْهَدُ
أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ يَا عَمْرُو إنّك ابْنُ
سَيّدِ قَوْمِك فَكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكُ فَإِنّ لَنَا فِيهِ قُدْوَةً ؟
قُلْتُ مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ [ ص 606 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَوَدِدْتُ أَنّهُ كَانَ أَسْلَمَ وَصَدّقَ بِهِ وَقَدْ كُنْتُ أَنَا
عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتّى هَدَانِي اللّهُ لِلْإِسْلَامِ قَالَ فَمَتَى
تَبِعْتَهُ ؟ قُلْتُ قَرِيبًا فَسَأَلَنِي أَيْنَ كَانَ إسْلَامُك ؟ قُلْت
: عِنْدَ النّجَاشِيّ وَأَخْبَرْته أَنّ النّجَاشِيّ قَدْ أَسْلَمَ قَالَ
فَكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ ؟ فَقُلْت : أَقَرّوهُ وَاتّبَعُوهُ
قَالَ وَالْأَسَاقِفَةُ وَالرّهْبَانُ تَبِعُوهُ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ
اُنْظُرْ يَا عَمْرُو مَا تَقُولُ إنّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ فِي رَجُلٍ
أَفْضَحَ لَهُ مِنْ الْكَذِبِ قُلْته : مَا كَذَبْت وَمَا نَسْتَحِلّهُ
فِي دِينِنَا ثُمّ قَالَ مَا أَرَى هِرَقْلَ عَلِمَ بِإِسْلَامِ
النّجَاشِيّ قُلْت : بَلَى .
قَالَ بِأَيّ شَيْءٍ عَلِمْت ذَلِكَ ؟
قُلْت
: كَانَ النّجَاشِيّ يُخْرِجُ لَهُ خَرْجًا فَلَمّا أَسْلَمَ وَصَدّقَ
بِمُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا وَاَللّهِ لَوْ
سَأَلَنِي دِرْهَمًا وَاحِدًا مَا أَعْطَيْته فَبَلَغَ هِرَقْلَ قَوْلُهُ
فَقَالَ لَهُ يَنّاقُ أَخُوهُ أَتَدَعُ عَبْدَك لَا يُخْرِجُ لَك خَرْجًا
وَيَدِينُ دِينًا مُحْدَثًا ؟ قَالَ هِرَقْلُ رَجُلٌ رَغِبَ فِي دِينٍ
فَاخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مَا أَصْنَعُ بِهِ وَاَللّهِ لَوْلَا الضّنّ
بِمُلْكِي لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ قَالَ اُنْظُرْ مَا تَقُولُ يَا
عَمْرُو قُلْت : وَاَللّهِ صَدّقْتُك . قَالَ عَبْدٌ فَأَخْبِرْنِي مَا
الّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيُنْهِي عَنْهُ ؟ قُلْتُ يَأْمُرُ بِطَاعَةِ
اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَيَأْمُرُ بِالْبِرّ
وَصِلَةِ الرّحِمِ وَيَنْهَى عَنْ الظّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَعَنْ الزّنَى
وَعَنْ الْخَمْرِ وَعَنْ عِبَادَةِ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ وَالصّلِيبِ .
قَالَ مَا أَحْسَنَ هَذَا الّذِي يَدْعُو إلَيْهِ لَوْ كَانَ أَخِي
يُتَابِعُنِي عَلَيْهِ لَرَكِبْنَا حَتّى نُؤْمِنَ بِمُحَمّدٍ وَنُصَدّقَ
بِهِ وَلَكِنْ أَخِي أَضَنّ بِمُلْكِهِ مِنْ أَنْ يَدَعَهُ وَيَصِيرَ
ذَنَبًا قُلْت : إنّهُ إنْ أَسْلَمَ مَلّكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذَ الصّدَقَةَ مِنْ غَنِيّهِمْ
فَرَدّهَا عَلَى فَقِيرِهِمْ . قَالَ إنّ هَذَا لَخُلُقٌ حَسَنٌ وَمَا
الصّدَقَةُ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَرَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الصّدَقَاتِ فِي الْأَمْوَالِ حَتّى انْتَهَيْتُ
إلَى الْإِبِلِ . قَالَ يَا عَمْرُو : وَتُؤْخَذُ مَنْ سَوَائِمِ
مَوَاشِينَا الّتِي تَرْعَى الشّجَرَ وَتَرِدُ الْمِيَاهَ ؟ فَقُلْت :
نَعَمْ . فَقَالَ وَاَللّهِ مَا أُرَى قَوْمِي فِي بُعْدِ دَارِهِمْ
وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ يُطِيعُونَ بِهَذَا قَالَ فَمَكَثْتُ بِبَابِهِ
أَيّامًا وَهُوَ يَصِلُ إلَى أَخِيهِ فَيُخْبِرُهُ كُلّ خَبَرِي ثُمّ
إنّهُ دَعَانِي يَوْمًا فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخَذَ أَعْوَانُهُ
بِضَبُعَيّ فَقَالَ دَعُوهُ فَأُرْسِلْت فَذَهَبْت لِأَجْلِسَ فَأَبَوْا
أَنْ يَدْعُوَنِي أَجْلِسَ فَنَظَرْت إلَيْهِ فَقَالَ تَكَلّمْ بِحَاجَتِك
فَدَفَعْت إلَيْهِ الْكِتَابَ مَخْتُومًا فَفَضّ خَاتَمَهُ وَقَرَأَ حَتّى
انْتَهَى [ ص 607 ] أَخِيهِ فَقَرَأَهُ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ إلّا أَنّي
رَأَيْت أَخَاهُ أَرَقّ مِنْهُ قَالَ أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ قُرَيْشٍ
كَيْفَ صَنَعَتْ ؟ فَقُلْت : تَبِعُوهُ إمّا رَاغِبٌ فِي الدّينِ وَإِمّا
مَقْهُورٌ بِالسّيْفِ . قَالَ وَمَنْ مَعَهُ ؟ قُلْت : النّاسُ قَدْ
رَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَارُوهُ عَلَى غَيْرِهِ وَعَرَفُوا
بِعُقُولِهِمْ مَعَ هُدَى اللّهِ إيّاهُمْ أَنّهُمْ كَانُوا فِي ضَلَالٍ
فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ غَيْرَك فِي هَذِهِ الْحَرَجَةِ وَأَنْتَ
إنْ لَمْ تُسْلِمْ الْيَوْمَ وَتَتْبَعْهُ يُوَطّئْك الْخَيْلَ وَيُبِيدُ
خَضْرَاءَك فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ وَيَسْتَعْمِلْك عَلَى قَوْمِك وَلَا
تَدْخُلْ عَلَيْك الْخَيْلُ وَالرّجَالُ . قَالَ دَعْنِي يَوْمِي هَذَا
وَارْجِعْ إلَيّ غَدًا فَرَجَعْتُ إلَى أَخِيهِ فَقَالَ يَا عَمْرُو إنّي
لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ إنْ لَمْ يَضِنّ بِمُلْكِهِ حَتّى إذَا كَانَ
الْغَدُ أَتَيْتُ إلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لِي فَانْصَرَفْتُ إلَى
أَخِيهِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنّي لَمْ أَصِلْ إلَيْهِ فَأَوْصَلَنِي إلَيْهِ
فَقَالَ إنّي فَكّرْتُ فِيمَا دَعَوْتنِي إلَيْهِ فَإِذَا أَنَا أَضْعَفُ
الْعَرَبِ إنْ مَلّكْتُ رَجُلًا مَا فِي يَدِي وَهُوَ لَا تَبْلُغُ
خَيْلُهُ هَا هُنَا وَإِنْ بَلَغَتْ خَيْلُهُ أَلْفَتْ قِتَالًا لَيْسَ
كَقِتَالِ مَنْ لَاقَى . قُلْت : وَأَنَا خَارِجٌ غَدًا فَلَمّا أَيْقَنَ
بِمَخْرَجِي خَلَا بِهِ أَخُوهُ فَقَالَ مَا نَحْنُ فِيمَا قَدْ ظَهَرَ
عَلَيْهِ وَكُلّ مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ قَدْ أَجَابَهُ فَأَصْبَحَ
فَأَرْسَلَ إلَيّ فَأَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ وَأَخُوهُ جَمِيعًا
وَصَدّقَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَلّيَا بَيْنِي
وَبَيْنَ الصّدَقَةِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَكَانَا لِي
عَوْنًا عَلَى مَنْ خَالَفَنِي .
فَصْلٌ [ الْكِتَابُ إلَى صَاحِبِ الْيَمَامَةِ ]
وَكَتَبَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى صَاحِبِ الْيَمَامَةِ
هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ وَأَرْسَلَ بِهِ مَعَ سَلِيطِ بْنِ عَمْرٍو
الْعَامِرِيّ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ
اللّهِ إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى
وَاعْلَمْ أَنّ دِينِي سَيَظْهَرُ إلَى مُنْتَهَى الْخُفّ وَالْحَافِرِ
فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَجْعَلْ لَكَ مَا تَحْتَ يَدَيْك فَلَمّا قَدِمَ
عَلَيْهِ سَلِيطٌ بِكِتَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَخْتُومًا أَنْزَلَهُ [ ص 608 ] وَحَيّاهُ وَاقْتَرَأَ عَلَيْهِ
الْكِتَابَ فَرَدّ رَدّا دُونَ رَدّ وَكَتَبَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَحْسَنَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ وَأَجْمَلَهُ
وَالْعَرَبُ تَهَابُ مَكَانِي فَاجْعَلْ إلَيّ بَعْضَ الْأَمْرِ أَتْبَعُك
وَأَجَازَ سَلِيطًا بِجَائِزَةٍ وَكَسَاهُ أَثْوَابًا مِنْ نَسْجِ هَجَرٍ
فَقَدِمَ بِذَلِكَ كُلّهِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَخْبَرَهُ وَقَرَأَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابَهُ
فَقَالَ لَوْ سَأَلَنِي سَيَابَةً مِنْ الْأَرْضِ مَا فَعَلْت بَادَ
وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ .
فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْفَتْحِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السّلَامُ بِأَنّ هَوْذَةَ قَدْ مَاتَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا إنّ الْيَمَامَةَ سَيَخْرُجُ بِهَا كَذّابٌ
يَتَنَبّأُ يُقْتَلُ بَعْدِي " فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ
يَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
" أَنْتَ وَأَصْحَابُك فَكَانَ كَذَلِكَ . وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَنّ
أُرْكُونَ دِمَشْقَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ النّصَارَى كَانَ عِنْدَ
هَوْذَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ جَاءَنِي كِتَابُهُ يَدْعُونِي إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ أُجِبْهُ
قَالَ الْأُرْكُونُ لَمْ لَا تُجِيبُهُ ؟ قَالَ ضَنِنْت بِدِينِي وَأَنَا
مَلِكُ قَوْمِي وَإِنْ تَبِعْتُهُ لَمْ أَمْلِكْ قَالَ بَلَى وَاَللّهِ
لَئِنْ تَبِعْتَهُ لَيُمَلّكَنك فَإِنّ الْخِيرَةَ لَك فِي اتّبَاعِهِ
وَإِنّهُ لَلنّبِيّ الْعَرَبِيّ الّذِي بَشّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَإِنّهُ لَمَكْتُوبٌ عِنْدَنَا فِي الْإِنْجِيلِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ
.
فَصْلٌ فِي كِتَابِهِ إلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسّانِيّ
وَكَانَ
بِدِمَشْقَ بِغُوطَتِهَا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا مَعَ شُجَاعِ بْنِ
وَهْبٍ مَرْجِعَهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي
شِمْرٍ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاَللّهِ وَصَدّقَ
وَإِنّي أَدْعُوكَ إلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ يَبْقَى لَكَ مُلْكُك وَقَدْ تَقَدّمَ ذَلِكَ [ ص 609 ] بِعَوْنِهِ
تَعَالَى تَمّ طَبْعُ الْجُزْءِ الثّالِثِ مِنْ زَادِ الْمَعَادِ فِي
هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الرّابِعُ وَأَوّلُهُ
فَصْلٌ فِي الطّبّ النّبَوِيّ
فَصْلٌ الطّبّ النّبَوِيّ
[ ص 5 ]
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُغَازِي وَالسّيَرِ وَالْبُعُوثِ
وَالسّرَايَا وَالرّسَائِلِ وَالْكُتُبِ الّتِي كَتَبَ بِهَا إلَى
الْمُلُوكِ وَنُوّابِهِمْ .
وَنَحْنُ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ فُصُولٍ
نَافِعَةٍ فِي هَدْيِهِ فِي الطّبّ الّذِي تَطَبّبَ بِهِ وَوَصَفَهُ
لِغَيْرِهِ وَنُبَيّنُ مَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الّتِي تَعْجِزُ
عُقُولُ أَكْثَرِ الْأَطِبّاءِ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَأَنّ نِسْبَةَ
طِبّهِمْ إلَيْهَا كَنِسْبَةِ طِبّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ فَنَقُولُ
وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ وَمِنْهُ نَسْتَمِدّ الْحَوْلَ وَالْقُوّةَ .
[ الْمَرَضُ نَوْعَانِ ]
الْمَرَضُ نَوْعَانِ مَرَضُ الْقُلُوبِ وَمَرَضُ الْأَبَدَانِ وَهُمَا مَذْكُورَانِ فِي الْقُرْآنِ .
[ نَوْعَا مَرَضِ الْقَلْبِ ]
وَمَرَضُ
الْقُلُوبِ نَوْعَانِ مَرَضُ شُبْهَةٍ وَشَكّ وَمَرَضُ شَهْوَةٍ وَغَيّ
وَكِلَاهُمَا فِي الْقُرْآنِ . قَالَ تَعَالَى فِي مَرَضِ الشّبْهَةِ {
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا } [ الْبَقَرَةُ 10 ]
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلًا } [ الْمُدّثّرُ
31 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقّ مَنْ دُعِيَ إلَى تَحْكِيمِ الْقُرْآنِ
وَالسّنّةِ فَأَبَى وَأَعْرَضَ { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ
لَهُمُ الْحَقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ
وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } [ النّورُ 48 و 49 ]
فَهَذَا مَرَضُ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ . [ ص 6 ] فَقَالَ تَعَالَى : {
يَا نِسَاءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ
فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [
الْأَحْزَابُ 32 ] . فَهَذَا مَرَضُ شَهْوَةِ الزّنَى وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ مَرَضُ الْأَبْدَانِ ]
وَأَمّا
مَرَضُ الْأَبَدَانِ فَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ
وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [
النّورُ 61 ] وَذَكَرَ مَرَضَ الْبَدَنِ فِي الْحَجّ وَالصّوْمِ
وَالْوُضُوءِ لِسِرّ بَدِيعٍ يُبَيّنُ لَك عَظَمَةَ الْقُرْآنِ
وَالِاسْتِغْنَاءَ بِهِ لِمَنْ فَهِمَهُ وَعَقَلَهُ عَنْ سِوَاهُ وَذَلِكَ
أَنّ قَوَاعِدَ طِبّ الْأَبْدَانِ ثَلَاثَةٌ حِفْظُ الصّحّةِ
وَالْحِمْيَةُ عَنْ الْمُؤْذِي وَاسْتِفْرَاغُ الْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ
فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأُصُولَ الثّلَاثَةَ فِي هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ الثّلَاثَةِ . فَقَالَ فِي آيَةِ الصّوْمِ { فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر } [
الْبَقَرَةُ 184 ] فَأَبَاحَ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ
وَلِلْمُسَافِرِ طَلَبًا لِحِفْظِ صِحّتِهِ وَقُوّتِهِ لِئَلّا
يُذْهِبَهَا الصّوْمُ فِي السّفَرِ لِاجْتِمَاعِ شِدّةِ الْحَرَكَةِ وَمَا
يُوجِبُهُ مِنْ التّحْلِيلِ وَعَدَمِ الْغِذَاءِ الّذِي يُخْلِفُ مَا
تَحَلّلَ فَتَخُورُ الْقُوّةُ وَتَضْعُفُ فَأَبَاحَ لِلْمُسَافِرِ
الْفِطْرَ حِفْظًا لِصِحّتِهِ وَقُوّتِهِ عَمّا يُضْعِفُهَا . وَقَالَ فِي
آيَةِ الْحَجّ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [
الْبَقَرَةُ 196 ] فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
مِنْ قَمْلٍ أَوْ حِكّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي
الْإِحْرَامِ اسْتِفْرَاغًا لِمَادّةِ الْأَبْخِرَةِ الرّدِيئَةِ الّتِي
أَوْجَبَتْ لَهُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ بِاحْتِقَانِهَا تَحْتَ الشّعَرِ
فَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ تَفَتّحَتْ الْمَسَامّ فَخَرَجَتْ تِلْكَ
الْأَبْخِرَةُ مِنْهَا فَهَذَا الِاسْتِفْرَاغُ يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلّ
اسْتِفْرَاغٍ يُؤْذِي انْحِبَاسُهُ . وَالْأَشْيَاءُ الّتِي يُؤْذِي
انْحِبَاسُهَا وَمُدَافَعَتُهَا عَشَرَةٌ الدّمُ إذَا هَاجَ وَالْمَنِيّ
إذَا تَبَيّغَ وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرّيحُ وَالْقَيْءُ
وَالْعُطَاسُ وَالنّوْمُ وَالْجُوعُ [ ص 7 ] أَدْنَاهَا وَهُوَ الْبُخَارُ
الْمُحْتَقَنُ فِي الرّأْسِ عَلَى اسْتِفْرَاغِ مَا هُوَ أَصْعَبُ مِنْهُ
كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ التّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى
الْأَعْلَى .
[ الْحِمْيَةُ ]
وَأَمّا الْحِمْيَةُ : فَقَالَ
تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ
النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا } [
النّسَاءُ 43 ] فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ الْعُدُولَ عَنْ الْمَاءِ إلَى
التّرَابِ حِمْيَةً لَهُ أَنْ يُصِيبَ جَسَدَهُ مَا يُؤْذِيهِ وَهَذَا
تَنْبِيهٌ عَلَى الْحِمْيَةِ عَنْ كُلّ مُؤْذٍ لَهُ مِنْ دَاخِلٍ أَوْ
خَارِجٍ فَقَدْ أَرْشَدَ - سُبْحَانَهُ - عِبَادَهُ إلَى أُصُولِ الطّبّ
وَمَجَامِعِ قَوَاعِدِهِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَدْيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَنُبَيّنُ أَنّ هَدْيَهُ فِيهِ
أَكْمَلُ هَدْيٍ .
[ طِبّ الْقُلُوبِ ]
فَأَمّا طِبّ الْقُلُوبِ
فَمُسَلّمٌ إلَى الرّسُلِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا
سَبِيلَ إلَى حُصُولِهِ إلّا مِنْ جِهَتِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ فَإِنّ
صَلَاحَ الْقُلُوبِ أَنْ تَكُونَ عَارِفَةً بِرَبّهَا وَفَاطِرِهَا
وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَنْ تَكُونَ
مُؤْثِرَةً لِمَرْضَاتِهِ وَمُحَابّهِ مُتَجَنّبَةً لِمَنَاهِيهِ
وَمَسَاخِطِهِ وَلَا صِحّةَ لَهَا وَلَا حَيَاةَ الْبَتّةَ إلّا بِذَلِكَ
وَلَا سَبِيلَ إلَى تَلَقّيهِ إلّا مِنْ جِهَةِ الرّسُلِ وَمَا يُظَنّ
مِنْ حُصُولِ صِحّةِ الْقَلْبِ بِدُونِ اتّبَاعِهِمْ فَغَلَطٌ مِمّنْ
يَظُنّ ذَلِكَ وَإِنّمَا ذَلِكَ حَيَاةُ نَفْسِهِ الْبَهِيمِيّةِ
الشّهْوَانِيّةِ وَصِحّتُهَا وَقُوّتُهَا وَحَيَاةُ قَلْبِهِ وَصِحّتُهُ
وَقُوّتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ وَمَنْ لَمْ يُمَيّزْ بَيْنَ هَذَا
وَهَذَا فَلْيَبْكِ عَلَى حَيَاةِ قَلْبِهِ فَإِنّهُ مِنْ الْأَمْوَاتِ
وَعَلَى نُورِهِ فَإِنّهُ مُنْغَمِسٌ فِي بِحَارِ الظّلُمَاتِ .
فَصْلٌ
[ طِبّ الْأَبْدَانِ ]
وَأَمّا طِبّ الْأَبْدَانِ فَإِنّهُ نَوْعَانِ
نَوْعٌ
قَدْ فَطَرَ اللّهُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ نَاطِقَهُ وَبَهِيمَهُ فَهَذَا
لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُعَالَجَةِ طَبِيبٍ كَطِبّ الْجُوعِ
وَالْعَطَشِ وَالْبَرْدِ وَالتّعَبِ بِأَضْدَادِهَا وَمَا يُزِيلُهَا .
[
ص 8 ] وَالثّانِي : مَا يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ وَتَأَمّلٍ كَدَفْعِ
الْأَمْرَاضِ الْمُتَشَابِهَةِ الْحَادِثَةِ فِي الْمِزَاجِ بِحَيْثُ
يَخْرُجُ بِهَا عَنْ الِاعْتِدَالِ إمّا إلَى حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ
أَوْ يُبُوسَةٍ أَوْ رُطُوبَةٍ أَوْ مَا يَتَرَكّبُ مِنْ اثْنَيْنِ
مِنْهَا وَهِيَ نَوْعَانِ إمّا مَادّيّةٌ وَإِمّا كَيْفِيّةٌ أَعْنِي إمّا
أَنْ يَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادّةٍ أَوْ بِحُدُوثِ كَيْفِيّةٍ وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا أَنّ أَمْرَاضَ الْكَيْفِيّةِ تَكُونُ بَعْدَ زَوَالِ
الْمَوَادّ الّتِي أَوْجَبَتْهَا فَتَزُولُ مَوَادّهَا وَيَبْقَى
أَثَرُهَا كَيْفِيّةً فِي الْمِزَاجِ . وَأَمْرَاضُ الْمَادّةِ
أَسْبَابُهَا مَعَهَا تَمُدّهَا وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمَرَضِ مَعَهُ
فَالنّظَرُ فِي السّبَبِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ أَوّلًا ثُمّ فِي
الْمَرَضِ ثَانِيًا ثُمّ فِي الدّوَاءِ ثَالِثًا . أَوْ الْأَمْرَاضُ
الْآلِيّةُ وَهِيَ الّتِي تُخْرِجُ الْعُضْوَ عَنْ هَيْئَتِهِ إمّا فِي
شَكْلٍ أَوْ تَجْوِيفٍ أَوْ مَجْرًى أَوْ خُشُونَةٍ أَوْ مَلَاسَةٍ أَوْ
عَدَدٍ أَوْ عَظْمٍ أَوْ وَضْعٍ فَإِنّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ إذَا
تَأَلّفَتْ وَكَانَ مِنْهَا الْبَدَنُ سُمّيَ تَأَلّفُهَا اتّصَالًا
وَالْخُرُوجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ فِيهِ يُسَمّى تَفَرّقَ الِاتّصَالِ أَوْ
الْأَمْرَاضُ الْعَامّةُ الّتِي تَعُمّ الْمُتَشَابِهَةَ وَالْآلِيّةَ .
وَالْأَمْرَاضُ الْمُتَشَابِهَةُ هِيَ الّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْمِزَاجُ
عَنْ الِاعْتِدَالِ وَهَذَا الْخُرُوجُ يُسَمّى مَرَضًا بَعْدَ أَنْ
يَضُرّ بِالْفِعْلِ إضْرَارًا مَحْسُوسًا . وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ
أَضْرُبٍ أَرْبَعَةٌ بَسِيطَةٌ وَأَرْبَعَةٌ مُرَكّبَةٌ
فَالْبَسِيطَةُ الْبَارِدُ وَالْحَارّ وَالرّطْبُ وَالْيَابِسُ .
وَالْمُرَكّبَةُ الْحَارّ الرّطْبُ وَالْحَارّ الْيَابِسُ وَالْبَارِدُ الرّطْبُ وَالْبَارِدُ الْيَابِسُ .
وَهِيَ
إمّا أَنْ تَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادّةٍ أَوْ بِغَيْرِ انْصِبَابِ مَادّةٍ
وَإِنْ لَمْ يَضُرّ الْمَرَضُ بِالْفِعْلِ يُسَمّى خُرُوجًا عَنْ
الِاعْتِدَالِ صِحّةً .
[ أَحْوَالُ الْبَدَنِ ]
وَلِلْبَدَنِ
ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ حَالٌ طَبِيعِيّةٌ وَحَالٌ خَارِجَةٌ عَنْ
الطّبِيعِيّةِ وَحَالٌ مُتَوَسّطَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . فَالْأُولَى :
بِهَا يَكُونُ الْبَدَنُ صَحِيحًا وَالثّانِيَةُ بِهَا يَكُونُ مَرِيضًا .
وَالْحَالُ الثّالِثَةُ هِيَ مُتَوَسّطَةٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَإِنّ
الضّدّ لَا يَنْتَقِلُ إلَى ضِدّهِ إلّا بِمُتَوَسّطٍ وَسَبَبُ خُرُوجِ
الْبَدَنِ عَنْ طَبِيعَتِهِ إمّا مِنْ دَاخِلِهِ لِأَنّهُ مُرَكّبٌ مِنْ
الْحَارّ وَالْبَارِدِ وَالرّطْبِ وَالْيَابِسِ وَإِمّا مِنْ خَارِجٍ
فَلِأَنّ مَا يَلْقَاهُ قَدْ يَكُونُ مُوَافِقًا [ ص 9 ] فَسَادٍ فِي
الْعُضْوِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْقُوَى أَوْ الْأَرْوَاحِ
الْحَامِلَةِ لَهَا وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى زِيَادَةِ مَا الِاعْتِدَالُ
فِي عَدَمِ زِيَادَتِهِ أَوْ نُقْصَانُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي عَدَمِ
نُقْصَانِهِ أَوْ تَفَرّق مَا الِاعْتِدَالُ فِي اتّصَالِهِ أَوْ اتّصَالُ
مَا الِاعْتِدَالُ فِي تَفَرّقِهِ أَوْ امْتِدَادُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي
انْقِبَاضِهِ أَوْ خُرُوجُ ذِي وَضْعٍ وَشَكْلٍ عَنْ وَضْعِهِ وَشَكْلِهِ
بِحَيْثُ يُخْرِجُهُ عَنْ اعْتِدَالِهِ .
[ وَظِيفَةُ الطّبِيبِ ]
فَالطّبِيبُ
هُوَ الّذِي يُفَرّقُ مَا يَضُرّ بِالْإِنْسَانِ جَمْعُهُ أَوْ يَجْمَعُ
فِيهِ مَا يَضُرّهُ تَفَرّقُهُ أَوْ يَنْقُصُ مِنْهُ مَا يَضُرّهُ
زِيَادَتُهُ أَوْ يَزِيدُ فِيهِ مَا يَضُرّهُ نَقْصُهُ فَيَجْلِبُ
الصّحّةَ الْمَفْقُودَةَ أَوْ يَحْفَظُهَا بِالشّكْلِ وَالشّبَهِ
وَيَدْفَعُ الْعِلّةَ الْمَوْجُودَةَ بِالضّدّ وَالنّقِيضِ وَيُخْرِجُهَا
أَوْ يَدْفَعُهَا بِمَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهَا بِالْحِمْيَةِ وَسَتَرَى
هَذَا كُلّهُ فِي هَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
شَافِيًا كَافِيًا بِحَوَلِ اللّهِ وَقُوّتِهِ وَفَضْلِهِ وَمَعُونَتِهِ .
فَصْلٌ [ التّدَاوِي ]
فَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِعْلُ التّدَاوِي فِي
نَفْسِهِ وَالْأَمْرُ بِهِ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِهِ
وَأَصْحَابِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَلَا هَدْيِ
أَصْحَابِهِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكّبَةِ الّتِي
تُسَمّى أقرباذين بَلْ كَانَ غَالِبُ أَدْوِيَتِهِمْ بِالْمُفْرَدَاتِ
وَرُبّمَا أَضَافُوا إلَى الْمُفْرَدِ مَا يُعَاوِنُهُ أَوْ يَكْسِرُ
سَوْرَتَهُ وَهَذَا غَالِبُ طِبّ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا
مِنْ الْعَرَبِ وَالتّرْكِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي قَاطِبَةً وَإِنّمَا
عَنِيَ بِالْمُرَكّبَاتِ الرّومُ وَالْيُونَانِيّونَ وَأَكْثَرُ طِبّ
الْهِنْدِ بِالْمُفْرَدَاتِ . وَقَدْ اتّفَقَ الْأَطِبّاءُ عَلَى أَنّهُ
مَتَى أَمْكَنَ التّدَاوِي بِالْغِذَاءِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى
الدّوَاءِ وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْبَسِيطِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى
الْمُرَكّبِ .
قَالُوا : وَكُلّ دَاءٍ قُدِرَ عَلَى دَفْعِهِ بِالْأَغْذِيَةِ وَالْحِمْيَةِ لَمْ يُحَاوَلْ دَفْعُهُ بِالْأَدْوِيَةِ .
قَالُوا
: وَلَا يَنْبَغِي لِلطّبِيبِ أَنْ يَوْلَعَ بِسَقْيِ الْأَدْوِيَةِ
فَإِنّ الدّوَاءَ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي [ ص 10 ] فَزَادَتْ كَمّيّتُهُ
عَلَيْهِ أَوْ كَيْفِيّتُهُ تَشَبّثَ بِالصّحّةِ وَعَبِثَ بِهَا .
وَأَرْبَابُ التّجَارِبِ مِنْ الْأَطِبّاءِ طِبّهُمْ بِالْمُفْرَدَاتِ
غَالِبًا وَهُمْ أَحَدُ فِرَقِ الطّبّ الثّلَاثِ . وَالتّحْقِيقُ فِي
ذَلِكَ أَنّ الْأَدْوِيَةَ مِنْ جِنْسِ الْأَغْذِيَةِ فَالْأُمّةُ
وَالطّائِفَةُ الّتِي غَالِبُ أَغْذِيَتِهَا الْمُفْرَدَاتُ أَمْرَاضُهَا
قَلِيلَةٌ جِدّا وَطِبّهَا بِالْمُفْرَدَاتِ وَأَهْلُ الْمُدُنِ الّذِينَ
غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الْأَغْذِيَةُ الْمُرَكّبَةُ يَحْتَاجُونَ إلَى
الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكّبَةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنّ أَمْرَاضَهُمْ فِي
الْغَالِبِ مُرَكّبَةٌ فَالْأَدْوِيَةُ الْمُرَكّبَةُ أَنْفَعُ لَهَا
وَأَمْرَاضُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالصّحَارِي مُفْرَدَةٌ فَيَكْفِي فِي
مُدَاوَاتِهَا الْأَدْوِيَةُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا بُرْهَانٌ بِحَسْبِ
الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ .
[ فَضْلُ طِبّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى طِبّ الْأَطِبّاءِ ]
وَنَحْنُ
نَقُولُ إنّ هَا هُنَا أَمْرًا آخَرَ نِسْبَةُ طِبّ الْأَطِبّاءِ إلَيْهِ
كَنِسْبَةِ طِبّ الطّرْقِيّةِ وَالْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ وَقَدْ
اعْتَرَفَ بِهِ حُذّاقُهُمْ وَأَئِمّتُهُمْ فَإِنّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ
الْعِلْمِ بِالطّبّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ قِيَاسٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ هُوَ تَجْرِبَةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ إِلْهَامَاتٌ
وَمَنَامَاتٌ وَحَدْسٌ صَائِبٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أُخِذَ كَثِيرٌ
مِنْهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيّةِ كَمَا نُشَاهِدُ السّنَانِيرَ
إذَا أَكَلَتْ ذَوَاتَ السّمُومِ تَعْمِدُ إلَى السّرَاجِ فَتَلَغُ فِي
الزّيْتِ تَتَدَاوَى بِهِ وَكَمَا رُئِيَتْ الْحَيّاتُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ
بُطُونِ الْأَرْضِ وَقَدْ عَشِيَتْ أَبْصَارُهَا تَأْتِي إلَى وَرَقِ
الرازيانج فَتُمِرّ عُيُونَهَا عَلَيْهَا . وَكَمَا عُهِدَ مِنْ الطّيْرِ
الّذِي يَحْتَقِنُ بِمَاءِ الْبَحْرِ عِنْدَ انْحِبَاسِ طَبْعِهِ
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمّا ذُكِرَ فِي مَبَادِئِ الطّبّ . وَأَيْنَ يَقَعُ
هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْوَحْيِ الّذِي يُوحِيهِ اللّهُ إلَى
رَسُولِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرّهُ فَنِسْبَةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ
الطّبّ إلَى هَذَا الْوَحْيِ كَنِسْبَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ
إلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ هَا هُنَا مِنْ الْأَدْوِيَةِ
الّتِي تَشْفِي مِنْ الْأَمْرَاضِ مَا لَمْ يَهْتَدِ إلَيْهَا عُقُولُ
أَكَابِرِ الْأَطِبّاءِ وَلَمْ تَصِلْ إلَيْهَا عُلُومُهُمْ
وَتَجَارِبُهُمْ وَأَقْيِسَتُهُمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيّةِ
وَالرّوحَانِيّةِ وَقُوّةِ الْقَلْبِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللّهِ
وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالِانْطِرَاحِ
وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدْيِهِ وَالتّذَلّلِ لَهُ وَالصّدَقَةِ
وَالدّعَاءِ [ ص 11 ] وَالتّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْإِحْسَانِ إلَى
الْخَلْقِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالتّفْرِيجِ عَنْ الْمَكْرُوبِ
فَإِنّ هَذِهِ الْأَدْوِيَةَ قَدْ جَرّبَتْهَا الْأُمَمُ عَلَى اخْتِلَافِ
أَدْيَانِهَا وَمِلَلِهَا فَوَجَدُوا لَهَا مِنْ التّأْثِيرِ فِي
الشّفَاءِ مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ عِلْمُ أَعْلَمِ الْأَطِبّاءِ وَلَا
تَجْرِبَتُهُ وَلَا قِيَاسُهُ . وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ
هَذَا أُمُورًا كَثِيرَةً وَرَأَيْنَاهَا تَفْعَلُ مَا لَا تَفْعَلُ
الْأَدْوِيَةُ الْحِسّيّةُ بَلْ تَصِيرُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسّيّةُ
عِنْدَهَا بِمَنْزِلَةِ أَدْوِيَةِ الطّرْقِيّةِ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ
وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَانُونِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيّةِ لَيْسَ خَارِجًا
عَنْهَا وَلَكِنّ الْأَسْبَابَ مُتَنَوّعَةٌ فَإِنّ الْقَلْبَ مَتَى
اتّصَلَ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ الدّاءِ وَالدّوَاءِ وَمُدَبّرِ
الطّبِيعَةِ وَمُصَرّفِهَا عَلَى مَا يَشَاءُ كَانَتْ لَهُ أَدْوِيَةٌ
أُخْرَى غَيْرَ الْأَدْوِيَةِ الّتِي يُعَانِيهَا الْقَلْبُ الْبَعِيدُ
مِنْهُ الْمُعْرِضُ عَنْهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنّ الْأَرْوَاحَ مَتَى
قَوِيَتْ وَقَوِيَتْ النّفْسُ وَالطّبِيعَةُ تَعَاوُنًا عَلَى دَفْعِ
الدّاءِ وَقَهْرِهِ فَكَيْفَ يُنْكِرُ لِمَنْ قَوِيَتْ طَبِيعَتُهُ
وَنَفْسُهُ وَفَرِحَتْ بِقُرْبِهَا مِنْ بَارِئِهَا وَأُنْسِهَا بِهِ
وَحُبّهَا لَهُ وَتَنَعّمِهَا بِذِكْرِهِ وَانْصِرَافِ قُوَاهَا كُلّهَا
إلَيْهِ وَجَمْعِهَا عَلَيْهِ وَاسْتِعَانَتِهَا بِهِ وَتَوَكّلِهَا
عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ وَأَنْ
تُوجِبَ لَهَا هَذِهِ الْقُوّةُ دَفْعَ الْأَلَمِ بِالْكُلّيّةِ وَلَا
يُنْكِرُ هَذَا إلّا أَجْهَلُ النّاسِ وَأَغْلَظُهُمْ حِجَابًا
وَأَكْثَفُهُمْ نَفْسًا وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ اللّهِ وَعَنْ حَقِيقَةِ
الْإِنْسَانِيّةِ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللّهُ السّبَبَ الّذِي بِهِ
أَزَالَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ دَاءَ اللّدْغَةِ عَنْ اللّدِيغِ الّتِي
رُقِيَ بِهَا فَقَامَ حَتّى كَأَنّ مَا بِهِ قَلَبَةٌ . فَهَذَانِ
نَوْعَانِ مِنْ الطّبّ النّبَوِيّ نَحْنُ بِحَوْلِ اللّهِ نَتَكَلّمُ
عَلَيْهِمَا بِحَسْبِ الْجَهْدِ وَالطّاقَةِ وَمَبْلَغِ عُلُومِنَا
الْقَاصِرَةِ وَمَعَارِفِنَا الْمُتَلَاشِيَةِ جِدّا وَبِضَاعَتِنَا
الْمُزْجَاةِ وَلَكِنّا نَسْتَوْهِبُ مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلّهُ
وَنَسْتَمِدّ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنّهُ الْعَزِيزُ الْوَهّابُ . [ ص 12 ]
فَصْلٌ [ الْحَثّ عَلَى التّدَاوِي وَرَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبّبَاتِ ]
رَوَى
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
قَالَ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدّاءِ بَرَأَ
بِإِذْنِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَطَاءٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ دَاءٍ إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً
وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " : مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ
عِلَاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءَتْ الْأَعْرَابُ فَقَالُوا : يَا
رَسُولَ اللّهِ أَنَتَدَاوَى ؟ فَقَالَ " نَعَمْ يَا عِبَادَ اللّهِ
تَدَاوَوْا فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلّا وَضَعَ لَهُ
شِفَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ " قَالُوا : مَا هُوَ ؟ قَالَ " الْهَرَمُ
وَفِي لَفْظٍ إنّ اللّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً
عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَه
وَفِي " الْمُسْنَدِ "
: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ
يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ
وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ [ ص 13 ] عَنْ أَبِي خُزَامَةَ قَالَ قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى
بِهِ وَتُقَاةً نَتّقِيهَا هَلْ تَرُدّ مِنْ قَدَرِ اللّهِ شَيْئًا ؟
فَقَالَ " هِيَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ
[ مَعْنَى لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ ]
فَقَدْ
تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبّبَاتِ
وَإِبْطَالَ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ
لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ عَلَى عُمُومِهِ حَتّى يَتَنَاوَلَ الْأَدْوَاءَ
الْقَاتِلَةَ وَالْأَدْوَاءَ الّتِي لَا يُمْكِنُ لِطَبِيبٍ أَنْ
يُبْرِئَهَا وَيَكُونُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَدْوِيَةً
تُبْرِئُهَا وَلَكِنْ طَوَى عِلْمَهَا عَنْ الْبَشَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ
لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلًا لِأَنّهُ لَا عِلْمَ لِلْخَلْقِ إلّا مَا
عَلّمَهُمْ اللّهُ وَلِهَذَا عَلّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الشّفَاءَ عَلَى مُصَادَفَةِ الدّوَاءِ لِلدّاءِ فَإِنّهُ لَا
شَيْءَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إلّا لَهُ ضِدّ وَكُلّ دَاءٍ لَهُ ضِدّ مِنْ
الدّوَاءِ يُعَالَجُ بِضِدّهِ فَعَلّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْبُرْءَ بِمُوَافَقَةِ الدّاءِ لِلدّوَاءِ وَهَذَا قَدْرٌ
زَائِدٌ عَلَى مُجَرّدِ وَجُودِهِ فَإِنّ الدّوَاءَ مَتَى جَاوَزَ
دَرَجَةَ الدّاءِ فِي الْكَيْفِيّةِ أَوْ زَادَ فِي الْكَمّيّةِ عَلَى مَا
يَنْبَغِي نَقْلُهُ إلَى دَاءٍ آخَرَ وَمَتَى قَصَرَ عَنْهَا لَمْ يَفِ
بِمُقَاوَمَتِهِ وَكَانَ الْعِلَاجُ قَاصِرًا وَمَتَى لَمْ يَقَعْ
الْمُدَاوِي عَلَى الدّوَاءِ أَوْ لَمْ يَقَعْ الدّوَاءُ عَلَى الدّاءِ
لَمْ يَحْصُلْ الشّفَاءُ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الزّمَانُ صَالِحًا لِذَلِكَ
الدّوَاءِ لَمْ يَنْفَعْ وَمَتَى كَانَ الْبَدَنُ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ
أَوْ الْقُوّةُ عَاجِزَةً عَنْ حَمْلِهِ أَوْ ثَمّ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ
تَأْثِيرِهِ لَمْ يَحْصُلْ الْبُرْءُ لِعَدَمِ الْمُصَادَفَةِ وَمَتَى
تَمّتْ الْمُصَادَفَةُ حَصَلَ الْبُرْءُ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَا بُدّ
وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَحْمِلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ . وَالثّانِي : أَنْ
يَكُونَ مِنْ الْعَامّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصّ لَا سِيّمَا وَالدّاخِلُ
فِي اللّفْظِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ
فِي كُلّ لِسَانٍ وَيَكُونُ [ ص 14 ] وَضَعَ لَهُ دَوَاءً فَلَا يَدْخُلُ
فِي هَذَا الْأَدْوَاءُ الّتِي لَا تَقْبَلُ الدّوَاءَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ
تَعَالَى فِي الرّيحِ الّتِي سَلّطَهَا عَلَى قَوْمِ عَادٍ : { تُدَمّرُ
كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا } [ الْأَحْقَافُ 25 ] أَيْ كُلّ شَيْءٍ
يَقْبَلُ التّدْمِيرَ وَمِنْ شَأْنِ الرّيحِ أَنْ تُدَمّرَهُ
وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَمَنْ تَأَمّلَ خَلْقَ الْأَضْدَادِ فِي هَذَا
الْعَالَمِ وَمُقَاوَمَةَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ وَدَفْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
وَتَسْلِيطَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ تَبَيّنَ لَهُ كَمَالُ قُدْرَةِ
الرّبّ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ وَإِتْقَانُهُ مَا صَنَعَهُ وَتَفَرّدُهُ
بِالرّبُوبِيّةِ وَالْوَحْدَانِيّةِ وَالْقَهْرِ وَأَنّ كُلّ مَا سِوَاهُ
فَلَهُ مَا يُضَادّهُ وَيُمَانِعُهُ كَمَا أَنّهُ الْغَنِيّ بِذَاتِهِ
وَكُلّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ بِذَاتِهِ .
[الْأَمْرُ بِالتّدَاوِي وَبِأَنّهُ لَا يُنَافِي التّوَكّلَ ]
وَفِي
الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالتّدَاوِي وَأَنّهُ لَا يُنَافِي
التّوَكّلَ كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ دَاءِ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ
وَالْحَرّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا بَلْ لَا تَتِمّ حَقِيقَةُ
التّوْحِيدِ إلّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الّتِي نَصَبَهَا اللّهُ
مُقْتَضَيَاتٍ لِمُسَبّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا وَأَنّ تَعْطِيلَهَا
يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التّوَكّلِ كَمَا يَقْدَحُ فِي الْأَمْرِ
وَالْحِكْمَةِ وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ مُعَطّلُهَا أَنّ
تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التّوَكّلِ فَإِنّ تَرْكَهَا عَجْزًا يُنَافِي
التّوَكّلَ الّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ فِي
حُصُولِ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَدَفْعِ مَا
يَضُرّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَلَا بُدّ مَعَ هَذَا الِاعْتِمَادِ
مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَإِلّا كَانَ مُعَطّلًا لِلْحِكْمَةِ
وَالشّرْعِ فَلَا يَجْعَلُ الْعَبْدَ عَجْزَهُ تَوَكّلًا وَلَا تَوَكّلَهُ
عَجْزًا .
[التّدَاوِي وَالشّفَاءُ مُقَدّرٌ وَالرّدّ عَلَى الْجَبْرِيّةِ ]
وَفِيهَا
رَدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التّدَاوِي وَقَالَ إنْ كَانَ الشّفَاءُ قَدْ
قُدّرَ فَالتّدَاوِي لَا يُفِيدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدّرَ
فَكَذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنّ الْمَرَضَ حَصَلَ بِقَدَرِ اللّهِ وَقَدَرُ
اللّهِ لَا يُدْفَعُ وَلَا يُرَدّ وَهَذَا السّؤَالُ هُوَ الّذِي
أَوْرَدَهُ الْأَعْرَابُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ . وَأَمّا أَفَاضِلُ الصّحَابَةِ فَأَعْلَمُ بِاَللّهِ
وَحِكْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ أَنْ يُورِدُوا مِثْلَ هَذَا وَقَدْ
أَجَابَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا شَفَى وَكَفَى
فَقَالَ هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ وَالرّقَى وَالتّقَى هِيَ مِنْ قَدَرِ
اللّهِ فَمَا خَرَجَ شَيْءٌ عَنْ قَدَرِهِ بَلْ يَرُدّ قَدَرَهُ
بِقَدَرِهِ وَهَذَا الرّدّ مِنْ قَدَرِهِ [ ص 15 ] وَيُقَالُ لِمُورِدِ
هَذَا السّؤَالِ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْك أَنْ لَا تُبَاشِرَ سَبَبًا مِنْ
الْأَسْبَابِ الّتِي تَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَةً أَوْ تَدْفَعُ بِهَا
مَضَرّةً لِأَنّ الْمَنْفَعَةَ وَالْمَضَرّةَ إنْ قُدّرَتَا لَمْ يَكُنْ
بُدّ مِنْ وُقُوعِهِمَا وَإِنْ لَمْ تُقَدّرَا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى
وُقُوعِهِمَا وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الدّينِ وَالدّنْيَا وَفَسَادُ
الْعَالَمِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلّا دَافِعٌ لِلْحَقّ مُعَانِدٌ لَهُ
فَيَذْكُرُ الْقَدَرَ لِيَدْفَعْ حُجّةِ الْمُحِقّ عَلَيْهِ
كَالْمُشْرِكِينَ الّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا
وَلَا آبَاؤُنَا } [ الْأَنْعَامُ 148 ] و { لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا
عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا } [ النّحْلُ
35 ] فَهَذَا قَالُوهُ دَفْعًا لِحُجّةِ اللّهِ عَلَيْهِمْ بِالرّسُلِ .
وَجَوَابُ هَذَا السّائِلِ أَنْ يُقَالَ بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ
تَذْكُرْهُ وَهُوَ أَنّ اللّهَ قَدّرَ كَذَا وَكَذَا بِهَذَا السّبَبِ
فَإِنْ أَتَيْتَ بِالسّبَبِ حَصَلَ الْمُسَبّبُ وَإِلّا فَلَا فَإِنْ
قَالَ إنْ كَانَ قَدّرَ لِي السّبَبَ فَعَلْته وَإِنْ لَمْ يُقَدّرْهُ لِي
لَمْ أَتَمَكّنْ مِنْ فِعْلِهِ . قِيلَ فَهَلْ تَقْبَلُ هَذَا
الِاحْتِجَاجَ مِنْ عَبْدِك وَوَلَدِك وَأَجِيرِك إذَا احْتَجّ بِهِ
عَلَيْك فِيمَا أَمَرْتَهُ بِهِ وَنَهَيْتَهُ عَنْهُ فَخَالَفَك ؟ فَإِنْ
قَبِلْته فَلَا تَلُمْ مَنْ عَصَاك وَأَخَذَ مَالَك وَقَذَفَ عِرْضَك
وَضَيّعَ حُقُوقَك وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا
مِنْك فِي دَفْعِ حُقُوقِ اللّهِ عَلَيْك . وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ
إسْرَائِيلِيّ أَنّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ قَالَ يَا رَبّ مِمّنْ الدّاءُ
؟ قَالَ " مِنّي " . قَالَ فَمِمّنْ الدّوَاءُ " ؟ قَالَ " مِنّي " .
قَالَ فَمَا بَالُ الطّبِيبِ ؟ . قَالَ " رَجُلٌ أُرْسِلُ الدّوَاءَ عَلَى
يَدَيْهِ " .
وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكُلّ
دَاءٍ دَوَاءٌ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطّبِيبِ وَحَثّ عَلَى
طَلَبِ ذَلِكَ الدّوَاءِ وَالتّفْتِيشِ عَلَيْهِ فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا
اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ أَنّ لِدَائِهِ دَوَاءً يُزِيلُهُ تَعَلّقَ
قَلْبُهُ بِرُوحِ الرّجَاءِ وَبَرُدَتْ عِنْدَهُ حَرَارَةُ الْيَأْسِ
وَانْفَتَحَ [ ص 16 ] وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوّةِ الْأَرْوَاحِ
الْحَيَوَانِيّةِ وَالنّفْسَانِيّةِ وَالطّبِيعِيّةِ وَمَتَى قَوِيَتْ
هَذِهِ الْأَرْوَاحُ قَوِيَتْ الْقُوَى الّتِي هِيَ حَامِلَةٌ لَهَا
فَقَهَرَتْ الْمَرَضَ وَدَفَعَتْهُ . وَكَذَلِكَ الطّبِيبُ إذَا عَلِمَ
أَنّ لِهَذَا الدّاءِ دَوَاءً أَمْكَنَهُ طَلَبُهُ وَالتّفْتِيشُ عَلَيْهِ
. وَأَمْرَاضُ الْأَبْدَانِ عَلَى وِزَانِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَمَا
جَعَلَ اللّهُ لِلْقَلْبِ مَرَضًا إلّا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً بِضَدّهِ
فَإِنْ عَلِمَهُ صَاحِبُ الدّاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَصَادَفَ دَاءَ
قَلْبِهِ أَبْرَأَهُ بِإِذْنِ اللّهِ تَعَالَى .
فَصْلٌ فِي
هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاحْتِمَاءِ مِنْ التّخَمِ
وَالزّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْقَانُونُ
الّذِي يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَكْلِ وَالشّرْبِ
فِي "
الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
قَالَ مَا مَلَأَ آدَمِيّ وِعَاءً شَرّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ
لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا بُدّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ
لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ .
[سَبَبُ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ ]
الْأَمْرَاضُ
نَوْعَانِ أَمْرَاضٌ مَادّيّةٌ تَكُونُ عَنْ زِيَادَةِ مَادّةٍ أُفْرِطَتْ
فِي الْبَدَنِ حَتّى أَضَرّتْ بِأَفْعَالِهِ الطّبِيعِيّةِ وَهِيَ
الْأَمْرَاضُ الْأَكْثَرِيّةُ وَسَبَبُهَا إدْخَالُ الطّعَامِ عَلَى
الْبَدَنِ قَبْلَ هَضْمِ الْأَوّلِ وَالزّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ الّذِي
يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَدَنُ وَتَنَاوُلُ الْأَغْذِيَةِ الْقَلِيلَةِ
النّفْعِ الْبَطِيئَةِ الْهَضْمِ وَالْإِكْثَارُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ
الْمُخْتَلِفَةِ التّرَاكِيبِ الْمُتَنَوّعَةِ فَإِذَا مَلَأَ الْآدَمِيّ
بَطْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَغْذِيَةِ وَاعْتَادَ ذَلِكَ أَوْرَثَتْهُ
أَمْرَاضًا مُتَنَوّعَةً مِنْهَا بَطِيءُ الزّوَالِ وَسَرِيعُهُ فَإِذَا
تَوَسّطَ فِي الْغِذَاءِ وَتَنَاوَلَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَكَانَ
مُعْتَدِلًا فِي كَمّيّتِهِ وَكَيْفِيّتِهِ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ
بِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِالْغِذَاءِ الْكَثِيرِ . [ ص 17 ]
[ مَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ]
وَمَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ثَلَاثَةٌ
أَحَدُهَا : مَرْتَبَةُ الْحَاجَةِ .
وَالثّانِيَةُ مَرْتَبَةُ الْكِفَايَةِ .
وَالثّالِثَةُ مَرْتَبَةُ الْفَضْلَةِ .
فَأَخْبَرَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ يَكْفِيهِ لُقَيْمَاتٌ
يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَلَا تَسْقُطُ قُوّتُهُ وَلَا تَضْعُفُ مَعَهَا فَإِنْ
تَجَاوَزَهَا فَلْيَأْكُلْ فِي ثُلُثِ بَطْنِهِ وَيَدَعْ الثّلُثَ
الْآخَرَ لِلْمَاءِ وَالثّالِثُ لِلنّفَسِ وَهَذَا مِنْ أَنْفَعِ مَا
لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ فَإِنّ الْبَطْنَ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الطّعَامِ
ضَاقَ عَنْ الشّرَابِ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الشّرَابُ ضَاقَ عَنْ
النّفَسِ وَعَرَضَ لَهُ الْكَرْبُ وَالتّعَبُ بِحَمْلِهِ بِمَنْزِلَةِ
حَامِلِ الْحِمْلِ الثّقِيلِ هَذَا إلَى مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ
الْقَلْبِ وَكَسَلِ الْجَوَارِحِ عَنْ الطّاعَاتِ وَتَحَرّكِهَا فِي
الشّهَوَاتِ الّتِي يَسْتَلْزِمُهَا الشّبَعُ . فَامْتِلَاءُ الْبَطْنِ
مِنْ الطّعَامِ مُضِرّ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ .
هَذَا إذَا كَانَ
دَائِمًا أَوْ أَكْثَرِيّا . وَأَمّا إذَا كَانَ فِي الْأَحْيَانِ فَلَا
بَأْسَ بِهِ فَقَدْ شَرِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِحَضْرَةِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّبَنِ حَتّى قَالَ وَاَلّذِي بَعَثَك
بِالْحَقّ لَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا وَأَكَلَ الصّحَابَةُ بِحَضْرَتِهِ
مِرَارًا حَتّى شَبِعُوا . وَالشّبَعُ الْمُفْرِطُ يُضْعِفُ الْقُوَى
وَالْبَدَنَ وَإِنْ أَخْصَبَهُ وَإِنّمَا يَقْوَى الْبَدَنُ بِحَسْبِ مَا
يَقْبَلُ مِنْ الْغِذَاءِ لَا بِحَسْبِ كَثْرَتِهِ . وَلَمّا كَانَ فِي
الْإِنْسَانِ جُزْءٌ أَرْضِيّ وَجُزْءٌ هَوَائِيّ وَجُزْءٌ مَائِيّ قَسَمَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ
وَنَفَسَهُ عَلَى الْأَجْزَاءِ الثّلَاثَةِ .
[هَلْ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ نَارِيّ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَأَيْنَ حَظّ الْجُزْءِ النّارِيّ ؟ قِيلَ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ
تَكَلّمَ فِيهَا الْأَطِبّاءُ وَقَالُوا : إنّ فِي الْبَدَنِ جُزْءًا
نَارِيّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِهِ وَاسْطِقْسَاتِهِ .
[
ص 18 ] وَقَالُوا : لَيْسَ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ نَارِيّ بِالْفِعْلِ
وَاسْتَدَلّوا بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنّ ذَلِكَ الْجُزْءَ النّارِيّ
إمّا أَنْ يُدْعَى أَنّهُ نَزَلَ عَنْ الْأَثِيرِ وَاخْتَلَطَ بِهَذِهِ
الْأَجْزَاءِ الْمَائِيّةِ وَالْأَرْضِيّةِ أَوْ يُقَالُ إنّهُ تَوَلّدَ
فِيهَا وَتَكُونُ وَالْأَوّلُ مُسْتَبْعَدٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا :
أَنّ النّارَ بِالطّبْعِ صَاعِدَةٌ فَلَوْ نَزَلَتْ لَكَانَتْ بِقَاسِرٍ
مِنْ مَرْكَزِهَا إلَى هَذَا الْعَالَمِ . الثّانِي : أَنّ تِلْكَ
الْأَجْزَاءَ النّارِيّةَ لَا بُدّ فِي نُزُولِهَا أَنْ تَعْبُرَ عَلَى
كُرَةِ الزّمْهَرِيرِ الّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْبَرْدِ وَنَحْنُ
نُشَاهِدُ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَنّ النّارَ الْعَظِيمَةَ تَنْطَفِئُ
بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ فَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ الصّغِيرَةُ عِنْدَ
مُرُورِهَا بِكُرَةِ الزّمْهَرِيرِ الّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْبَرْدِ
وَنِهَايَةُ الْعَظْمِ أَوْلَى بِالِانْطِفَاءِ . وَأَمّا الثّانِي : -
وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنّهَا تَكَوّنَتْ هَا هُنَا - فَهُوَ أَبْعَدُ
وَأَبْعَدُ لِأَنّ الْجِسْمَ الّذِي صَارَ نَارًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ
كَذَلِكَ قَدْ كَانَ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ إمّا أَرْضًا وَإِمّا مَاءً
وَإِمّا هَوَاءً لِانْحِصَارِ الْأَرْكَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ
وَهَذَا الّذِي قَدْ صَارَ نَارًا أَوّلًا كَانَ مُخْتَلَطًا بِأَحَدِ
هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَمُتّصِلًا بِهَا وَالْجِسْمُ الّذِي لَا يَكُونُ
نَارًا إذَا اخْتَلَطَ بِأَجْسَامٍ عَظِيمَةٍ لَيْسَتْ بِنَارٍ وَلَا
وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَكُونُ مُسْتَعِدّا لِأَنْ يَنْقَلِبَ نَارًا
لِأَنّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنَارٍ وَالْأَجْسَامُ الْمُخْتَلِطَةُ
بَارِدَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَعِدّا لِانْقِلَابِهِ نَارًا ؟ فَإِنْ
قُلْتُمْ لِمَ لَا تَكُونُ هُنَاكَ أَجْزَاءٌ نَارِيّةٌ تَقْلِبُ هَذِهِ
الْأَجْسَامَ وَتَجْعَلُهَا نَارًا بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهَا إيّاهَا ؟
قُلْنَا
: الْكَلَامُ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ كَالْكَلَامِ
فِي الْأَوّلِ فَإِنْ قُلْتُمْ إنّا نَرَى مِنْ رَشّ الْمَاءِ عَلَى
النّورَةِ الْمُطْفَأَةِ تَنْفَصِلُ مِنْهَا نَارٌ وَإِذَا وَقَعَ شُعَاعُ
الشّمْسِ عَلَى الْبَلّورَةِ ظَهَرَتْ النّارُ مِنْهَا وَإِذَا ضَرَبْنَا
الْحَجَرَ عَلَى الْحَدِيدِ ظَهَرَتْ [ ص 19 ] قَالَ الْمُنْكِرُونَ
نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ المصاكة الشّدِيدَةُ مُحَدّثَةً
لِلنّارِ كَمَا فِي ضَرْبِ الْحِجَارَةِ عَلَى الْحَدِيدِ أَوْ تَكُونُ
قُوّةُ تَسْخِينِ الشّمْسِ مُحَدّثَةً لِلنّارِ كَمَا فِي الْبَلّورَةِ
لَكِنّا نَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ جِدّا فِي أَجْرَامِ النّبَاتِ
وَالْحَيَوَانِ إذْ لَيْسَ فِي أَجْرَامِهَا مِنْ الِاصْطِكَاكِ مَا
يُوجِبُ حُدُوثَ النّارِ وَلَا فِيهَا مِنْ الصّفَاءِ وَالصّقَالِ مَا
يَبْلُغُ إلَى حَدّ الْبَلّورَةِ كَيْفَ وَشُعَاعُ الشّمْسِ يَقَعُ عَلَى
ظَاهِرِهَا فَلَا تَتَوَلّدُ النّارُ الْبَتّةَ فَالشّعَاعُ الّذِي يَصِلُ
إلَى بَاطِنِهَا كَيْفَ يُولَدُ النّارُ ؟ الْوَجْهُ الثّانِي : فِي
أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْأَطِبّاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الشّرَابَ
الْعَتِيقَ فِي غَايَةِ السّخُونَةِ بِالطّبْعِ فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ
السّخُونَةُ بِسَبَبِ الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ لَكَانَتْ مُحَالًا إذْ
تِلْكَ الْأَجْزَاءُ النّارِيّةُ مَعَ حَقَارَتِهَا كَيْفَ يُعْقَلُ
بَقَاؤُهَا فِي الْأَجْزَاءِ الْمَائِيّةِ الْغَالِبَةِ دَهْرًا طَوِيلًا
بِحَيْثُ لَا تَنْطَفِئُ مَعَ أَنّا نَرَى النّارَ الْعَظِيمَةَ تُطْفَأُ
بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ . الْوَجْهُ الثّالِثُ أَنّهُ لَوْ كَانَ فِي
الْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ جُزْءٌ نَارِيّ بِالْفِعْلِ لَكَانَ مَغْلُوبًا
بِالْجُزْءِ الْمَائِيّ الّذِي فِيهِ وَكَانَ الْجُزْءُ النّارِيّ
مَقْهُورًا بِهِ وَغَلَبَةُ بَعْضِ الطّبَائِعِ وَالْعَنَاصِرِ عَلَى
بَعْضٍ يَقْتَضِي انْقِلَابَ طَبِيعَةِ الْمَغْلُوبِ إلَى طَبِيعَةِ
الْغَالِبِ فَكَانَ يُلْزِمُ بِالضّرُورَةِ انْقِلَابَ تِلْكَ
الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ الْقَلِيلَةِ جِدّا إلَى طَبِيعَةِ الْمَاءِ
الّذِي هُوَ ضِدّ النّارِ الْوَجْهُ الرّابِعُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ
مُتَعَدّدَةٍ يُخْبِرُ فِي بَعْضِهَا أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ مَاءٍ وَفِي
بَعْضِهَا أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَفِي بَعْضِهَا أَنّهُ خَلَقَهُ
مِنْ الْمُرَكّبِ مِنْهُمَا وَهُوَ الطّينُ وَفِي بَعْضِهَا أَنّهُ
خَلَقَهُ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخّارِ وَهُوَ الطّينُ الّذِي ضَرَبَتْهُ
الشّمْسُ وَالرّيحُ حَتّى صَارَ صَلْصَالًا كَالْفَخّارِ وَلَمْ يُخْبِرْ
فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ
خَاصّيّةَ إبْلِيسَ . وَثَبَتَ [ ص 20 ] صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ
مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ
مِمّا وُصِفَ لَكُم وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّهُ خُلِقَ مِمّا وَصَفَهُ
اللّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَطْ وَلَمْ يَصِفْ لَنَا سُبْحَانَهُ أَنّهُ
خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ وَلَا أَنّ فِي مَادّتِهِ شَيْئًا مِنْ النّارِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنّ غَايَةَ مَا يَسْتَدِلّونَ بِهِ مَا
يُشَاهِدُونَ مِنْ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ
دَلِيلٌ عَلَى الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ وَهَذَا لَا يَدُلّ فَإِنّ
أَسْبَابَ الْحَرَارَةِ أَعَمّ مِنْ النّارِ فَإِنّهَا تَكُونُ عَنْ
النّارِ تَارَةً وَعَنْ الْحَرَكَةِ أُخْرَى وَعَنْ انْعِكَاسِ
الْأَشِعّةِ وَعَنْ سُخُونَةِ الْهَوَاءِ وَعَنْ مُجَاوَرَةِ النّارِ
وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ سُخُونَةِ الْهَوَاءِ أَيْضًا وَتَكُونُ عَنْ
أَسْبَابٍ أُخَرَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَارَةِ النّارُ .
[ حُجَجُ مَنْ ادّعَى وُجُودَ النّارِ فِي الْبَدَنِ ]
قَالَ
أَصْحَابُ النّارِ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ التّرَابَ وَالْمَاءَ إذَا
اخْتَلَطَا فَلَا بُدّ لَهُمَا مِنْ حَرَارَةٍ تَقْتَضِي طَبْخَهُمَا
وَامْتِزَاجَهُمَا وَإِلّا كَانَ كُلّ مِنْهُمَا غَيْرَ مُمَازِجٍ
لِلْآخَرِ وَلَا مُتّحِدًا بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَلْقَيْنَا الْبَذْرَ
فِي الطّينِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْهَوَاءُ وَلَا الشّمْسُ
فَسَدَ فَلَا يَخْلُو إمّا أَنْ يَحْصُلَ فِي الْمُرَكّبِ جِسْمٌ مُنْضَجٌ
طَابِخٌ بِالطّبْعِ أَوْ لَا فَإِنْ حَصَلَ فَهُوَ الْجُزْءُ النّارِيّ
وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَكّبُ مُسْخَنًا بِطَبْعِهِ بَلْ
إنْ سُخّنَ كَانَ التّسْخِينُ عَرَضِيّا فَإِذَا زَالَ التّسْخِينُ
الْعَرَضِيّ لَمْ يَكُنْ الشّيْءُ حَارّا فِي طَبْعِهِ وَلَا فِي
كَيْفِيّتِهِ وَكَانَ بَارِدًا مُطْلَقًا لَكِنْ مِنْ الْأَغْذِيَةِ
وَالْأَدْوِيَةِ مَا يَكُونُ حَارّا بِالطّبْعِ فَعَلِمْنَا أَنّ
حَرَارَتَهَا إنّمَا كَانَتْ لِأَنّ فِيهَا جَوْهَرًا نَارِيّا .
وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ مُسَخّنٌ لَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ فِي نِهَايَةِ الْبَرْدِ لِأَنّ الطّبِيعَةَ إذَا كَانَتْ
مُقْتَضِيَةً لِلْبَرْدِ وَكَانَتْ خَالِيَةً عَنْ الْمُعَاوِنِ
وَالْمُعَارِضِ وَجَبَ انْتِهَاءُ الْبَرْدِ إلَى أَقْصَى الْغَايَةِ
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَصَلَ لَهَا الْإِحْسَاسُ بِالْبَرْدِ
لِأَنّ الْبَرْدَ الْوَاصِلَ إلَيْهِ إذَا كَانَ فِي الْغَايَةِ كَانَ
مِثْلَهُ وَالشّيْءُ لَا يَنْفَعِلُ عَنْ مِثْلِهِ وَإِذَا لَمْ
يَنْفَعِلْ عَنْهُ لَمْ يَحُسّ بِهِ وَإِذَا لَمْ يَحُسّ بِهِ لَمْ
يَتَأَلّمْ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ [ ص 21 ] أَوْلَى فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْبَدَنِ جُزْءٌ مُسَخّنٌ بِالطّبْعِ لَمَا انْفَعَلَ عَنْ الْبَرْدِ
وَلَا تَأَلّمَ بِهِ . قَالُوا : وَأَدِلّتُكُمْ إنّمَا تُبْطِلُ قَوْلَ
مَنْ يَقُولُ الْأَجْزَاءُ النّارِيّةُ بَاقِيَةٌ فِي هَذِهِ
الْمُرَكّبَاتِ عَلَى حَالِهَا وَطَبِيعَتِهَا النّارِيّةِ وَنَحْنُ لَا
نَقُولُ بِذَلِكَ بَلْ نَقُولُ إنّ صُورَتَهَا النّوْعِيّةَ تَفْسُدُ
عِنْدَ الِامْتِزَاجِ .
[الرّدّ عَلَى حُجَجِ الْمُثْبِتِينَ ]
قَالَ
الْآخَرُونَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنّ الْأَرْضَ وَالْمَاءَ
وَالْهَوَاءَ إذَا اخْتَلَطَتْ فَالْحَرَارَةُ الْمُنْضَجَةُ الطّابِخَةُ
لَهَا هِيَ حَرَارَةُ الشّمْسِ وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ ثُمّ ذَلِكَ
الْمُرَكّبُ عِنْدَ كَمَالِ نُضْجِهِ مُسْتَعِدّ لِقَبُولِ الْهَيْئَةِ
التّرْكِيبِيّةِ بِوَاسِطَةِ السّخُونَةِ نَبَاتًا كَانَ أَوْ حَيَوَانًا
أَوْ مَعْدِنًا وَمَا الْمَانِعُ أَنّ تِلْكَ السّخُونَةَ وَالْحَرَارَةَ
الّتِي فِي الْمُرَكّبَاتِ هِيَ بِسَبَبِ خَوَاصّ وَقُوًى يُحْدِثُهَا
اللّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِزَاجِ لَا مِنْ أَجْزَاءٍ
نَارِيّةٍ بِالْفِعْلِ ؟ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى إبْطَالِ هَذَا
الْإِمْكَانِ الْبَتّةَ وَقَدْ اعْتَرَفَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُضَلَاءِ
الْأَطِبّاءِ بِذَلِكَ . وَأَمّا حَدِيثُ إحْسَاسِ الْبَدَنِ بِالْبَرْدِ
فَنَقُولُ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ فِي الْبَدَنِ حَرَارَةً وَتَسْخِينًا
وَمَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ ؟ لَكِنْ مَا الدّلِيلُ عَلَى انْحِصَارِ
الْمُسَخّنِ فِي النّارِ فَإِنّهُ وَإِنْ كَانَ كُلّ نَارٍ مُسَخّنًا
فَإِنّ هَذِهِ الْقَضِيّةَ لَا تَنْعَكِسُ كُلّيّةً بَلْ عَكْسُهَا
الصّادِقُ بَعْضُ الْمُسَخّنِ نَارٌ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ بِفَسَادِ
صُورَةِ النّارِ النّوْعِيّةِ فَأَكْثَرُ الْأَطِبّاءِ عَلَى بَقَاءِ
صُورَتِهَا النّوْعِيّةِ وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهَا قَوْلٌ فَاسِدٌ قَدْ
اعْتَرَفَ بِفَسَادِهِ أَفْضَلُ مُتَأَخّرِيكُمْ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمّى
بِالشّفَا وَبَرْهَنَ عَلَى بَقَاءِ الْأَرْكَانِ أَجْمَعَ عَلَى
طَبَائِعِهَا فِي الْمُرَكّبَاتِ . وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . [ ص 22 ]
فَصْلٌ [أَنْوَاعُ عِلَاجِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ]
وَكَانَ عِلَاجُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمَرَضِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
أَحَدُهَا : بِالْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ .
وَالثّانِي : بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيّةِ .
وَالثّالِثُ بِالْمُرَكّبِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ .
وَنَحْنُ
نَذْكُرُ الْأَنْوَاعَ الثّلَاثَةَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَنَبْدَأُ بِذِكْرِ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ الّتِي
وَصَفَهَا وَاسْتَعْمَلَهَا ثُمّ نَذْكُرُ الْأَدْوِيَةَ الْإِلَهِيّةَ
ثُمّ الْمُرَكّبَةَ . وَهَذَا إنّمَا نُشِيرُ إلَيْهِ إشَارَةً فَإِنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا بُعِثَ هَادِيًا
وَدَاعِيًا إلَى اللّهِ وَإِلَى جَنّتِهِ وَمُعَرّفًا بِاَللّهِ
وَمُبَيّنًا لِلْأُمّةِ مَوَاقِعَ رِضَاهُ وَآمِرًا لَهُمْ بِهَا
وَمَوَاقِعَ سَخَطِهِ وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنْهَا وَمُخْبِرَهُمْ أَخْبَارَ
الْأَنْبِيَاءِ وَالرّسُلِ وَأَحْوَالَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ وَأَخْبَارَ
تَخْلِيقِ الْعَالَمِ وَأَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَكَيْفِيّةَ
شَقَاوَةِ النّفُوسِ وَسَعَادَتِهَا وَأَسْبَابَ ذَلِكَ . وَأَمّا طِبّ
الْأَبْدَانِ فَجَاءَ مِنْ تَكْمِيلِ شَرِيعَتِهِ وَمَقْصُودًا لِغَيْرِهِ
بِحَيْثُ إنّمَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَإِذَا قَدَرَ
عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ كَانَ صَرْفُ الْهِمَمِ وَالْقُوَى إلَى
عِلَاجِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَحِفْظِ صِحّتِهَا وَدَفْعِ
أَسْقَامِهَا وَحِمْيَتِهَا مِمّا يُفْسِدُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ
بِالْقَصْدِ الْأَوّلِ وَإِصْلَاحُ الْبَدَنِ بِدُونِ إصْلَاحِ الْقَلْبِ
لَا يَنْفَعُ وَفَسَادُ الْبَدَنِ مَعَ إصْلَاحِ الْقَلْبِ مَضَرّتُهُ
يَسِيرَةٌ جِدّا وَهِيَ مَضَرّةٌ زَائِلَةٌ تَعْقُبُهَا الْمَنْفَعَةُ
الدّائِمَةُ التّامّةُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . [ ص 23 ]
ذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوّلِ وَهُوَ الْعِلَاجُ بِالْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْحُمّى
ثَبَتَ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّمَا الْحُمّى أَوْ شِدّةُ
الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ
[ خِطَابُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ عَامّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَخَاصّ بِبَعْضِهِمْ ]
وَقَدْ
أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ جَهَلَةِ الْأَطِبّاءِ
وَرَأَوْهُ مُنَافِيًا لِدَوَاءِ الْحُمّى وَعِلَاجِهَا وَنَحْنُ نُبَيّنُ
بِحَوْلِ اللّهِ وَقُوّتِهِ وَجْهَهُ وَفِقْهَهُ فَنَقُولُ خِطَابُ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ عَامّ لِأَهْلِ
الْأَرْضِ وَخَاصّ بِبَعْضِهِمْ فَالْأَوّلُ كَعَامّةِ خِطَابِهِ
وَالثّانِي : كَقَوْلِهِ لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا
بَوْلٍ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرّقُوا أَوْ غَرّبُوا فَهَذَا
لَيْسَ بِخِطَابٍ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَا الْعِرَاقِ [
ص 24 ] لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا عَلَى سَمْتِهَا كَالشّامِ
وَغَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
قِبْلَةٌ
[ حَدِيثُ الْحُمّى خَاصّ بِأَهْلِ الْحِجَازِ ]
وَإِذَا
عُرِفَ هَذَا فَخِطَابُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَاصّ بِأَهْلِ الْحِجَازِ
َمَا وَالَاهُمْ إذْ كَانَ أَكْثَرُ الْحَمِيّاتِ الّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ
مِنْ نَوْعِ الْحُمّى الْيَوْمِيّةِ الْعَرَضِيّةِ الْحَادِثَةِ عَنْ
شِدّةِ حَرَارَةِ الشّمْسِ وَهَذِهِ يَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ
شُرْبًا وَاغْتِسَالًا فَإِنّ الْحُمّى حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ
فِي الْقَلْبِ وَتَنْبَثّ مِنْهُ بِتَوَسّطِ الرّوحِ وَالدّمِ فِي
الشّرَايِينِ وَالْعُرُوقِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَتَشْتَعِلُ فِيهِ
اشْتِعَالًا يَضُرّ بِالْأَفْعَالِ الطّبِيعِيّةِ أَسْبَابُ الْحُمّى
وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ عَرَضِيّةٌ وَهِيَ الْحَادِثَةُ إمّا
عَنْ الْوَرَمِ أَوْ الْحَرَكَةِ أَوْ إصَابَةِ حَرَارَةِ الشّمْسِ أَوْ
الْقَيْظِ الشّدِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَرَضِيّةٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ
أَنْوَاعٍ وَهِيَ لَا تَكُونُ إلّا فِي مَادّةٍ أَوْلَى ثُمّ مِنْهَا
يُسَخّنُ جَمِيعُ الْبَدَنِ . فَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ تَعَلّقِهَا
بِالرّوحِ سُمّيَتْ حُمّى يَوْمٍ لِأَنّهَا فِي الْغَالِبِ تَزُولُ فِي
يَوْمٍ وَنِهَايَتُهَا ثَلَاثَةُ أَيّامٍ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ
تَعَلّقِهَا بِالْأَخْلَاطِ سُمّيَتْ عَفَنِيّةً وَهِيَ أَرْبَعَةُ
أَصْنَافٍ صَفْرَاوِيّةٌ وَسَوْدَاوِيّةٌ وَبَلْغَمِيّةٌ وَدَمَوِيّةٌ .
وَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ تَعَلّقِهَا بِالْأَعْضَاءِ الصّلْبَةِ
الْأَصْلِيّةِ سُمّيَتْ حُمّى دق وَتَحْتَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَصْنَافٌ
كَثِيرَةٌ . وَقَدْ يَنْتَفِعُ الْبَدَنُ بِالْحُمّى انْتِفَاعًا عَظِيمًا
لَا يَبْلُغُهُ الدّوَاءُ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ حُمّى يَوْمٍ وَحُمّى
الْعَفَنِ سَبَبًا لِإِنْضَاجِ مَوَادّ غَلِيظَةٍ لَمْ تَكُنْ تَنْضَجُ
بِدُونِهَا وَسَبَبًا لِتَفَتّحِ سُدَدٍ لَمْ يَكُنْ تَصِلُ إلَيْهَا
الْأَدْوِيَةُ الْمُفَتّحَةُ .
[ تُبْرِئُ الْحُمّى كَثِيرًا مِنْ الْأَمْرَاضِ ]
وَأَمّا
الرّمَدُ الْحَدِيثُ وَالْمُتَقَادِمُ فَإِنّهَا تُبْرِئُ أَكْثَرَ
أَنْوَاعِهِ بُرْءًا عَجِيبًا سَرِيعًا [ ص 25 ] الِامْتِلَائِيّ
وَكَثِيرًا مِنْ الْأَمْرَاضِ الْحَادِثَةِ عَنْ الْفُضُولِ الْغَلِيظَةِ .
[ تَأْكِيدُ هَذَا الْقَوْلِ لِلْمُصَنّفِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْأَطِبّاءِ ]
وَقَالَ
لِي بَعْضُ فُضَلَاءِ الْأَطِبّاءِ إنّ كَثِيرًا مِنْ الْأَمْرَاضِ
نَسْتَبْشِرُ فِيهَا بِالْحُمّى كَمَا يَسْتَبْشِرُ الْمَرِيضُ
بِالْعَافِيَةِ فَتَكُونُ الْحُمّى فِيهِ أَنْفَعَ مِنْ شُرْبِ الدّوَاءِ
بِكَثِيرٍ فَإِنّهَا تُنْضِجُ مِنْ الْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادّ
الْفَاسِدَةِ مَا يَضُرّ بِالْبَدَنِ فَإِذَا أَنْضَجَتْهَا صَادَفَهَا
الدّوَاءُ مُتَهَيّئَةً لِلْخُرُوجِ بِنِضَاجِهَا فَأَخْرَجَهَا فَكَانَتْ
سَبَبًا لِلشّفَاءِ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مُرَادُ الْحَدِيثِ مِنْ أَقْسَامِ الْحُمّيَاتِ الْعَرَضِيّةِ فَإِنّهَا
تَسْكُنُ عَلَى الْمَكَانِ بِالِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ
وَسَقْيِ الْمَاءِ الْبَارِدِ الْمَثْلُوجِ وَلَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا
مَعَ ذَلِكَ إلَى عِلَاجٍ آخَرَ فَإِنّهَا مُجَرّدُ كَيْفِيّةٍ حَارَةٍ
مُتَعَلّقَةٍ بِالرّوحِ فَيَكْفِي فِي زَوَالِهَا مُجَرّدُ وُصُولِ
كَيْفِيّةٍ بَارِدَةٍ تَسْكُنُهَا وَتُخْمِدُ لَهَبَهَا مِنْ غَيْرِ
حَاجَةٍ إلَى اسْتِفْرَاغِ مَادّةٍ أَوْ انْتِظَارِ نُضْجٍ .
[ اعْتِرَافُ جالينوس بِأَنّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ فِي الْحُمّى ]
وَيَجُوزُ
أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْحُمّيَاتِ وَقَدْ اعْتَرَفَ
فَاضِلُ الْأَطِبّاءِ جالينوس : بِأَنّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ
فِيهَا قَالَ فِي الْمَقَالَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ كِتَابِ " حِيلَةِ
الْبُرْءِ " : وَلَوْ أَنّ رَجُلًا شَابّا حَسَنَ اللّحْمِ خِصْبَ
الْبَدَنِ فِي وَقْتِ الْقَيْظِ وَفِي وَقْتِ مُنْتَهَى الْحُمّى وَلَيْسَ
فِي أَحْشَائِهِ وَرَمٌ اسْتَحَمّ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ سَبَحَ فِيهِ
لَانْتَفَعَ بِذَلِكَ . قَالَ وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِذَلِكَ لَا تَوَقّفَ [
ص 26 ]
[ قَوْلُ الرّازِيّ ]
وَقَالَ الرّازِيّ فِي كِتَابِهِ
الْكَبِيرِ إذَا كَانَتْ الْقُوّةُ قَوِيّةً وَالْحُمّى حَادّةً جِدّا
وَالنّضْجُ بَيّنٌ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقٌ يَنْفَعُ
الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَإِنْ كَانَ الْعَلِيلُ خِصْبَ الْبَدَنِ
وَالزّمَانُ حَارّ وَكَانَ مُعْتَادًا لِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ
مِنْ خَارِجٍ فَلْيُؤْذَنْ فِيهِ .
[ مَعْنَى الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ ]
وَقَوْلُهُ
الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّم هُوَ شِدّةُ لَهَبِهَا وَانْتِشَارِهَا
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ شِدّةُ الْحَرّ مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ وَفِيهِ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ ذَلِكَ أُنْمُوذَجٌ وَرَقِيقَةٌ اُشْتُقّتْ
مِنْ جَهَنّمَ لِيَسْتَدِلّ بِهَا الْعِبَادُ عَلَيْهَا وَيَعْتَبِرُوا
بِهَا ثُمّ إنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدّرَ ظُهُورَهَا بِأَسْبَابٍ
تَقْتَضِيهَا كَمَا أَنّ الرّوحَ وَالْفَرَحَ وَالسّرُورَ وَاللّذّةَ مِنْ
نَعِيمِ الْجَنّةِ أَظْهَرَهَا اللّهُ فِي هَذِهِ الدّارِ عِبْرَةً
وَدَلَالَةً وَقَدّرَ ظُهُورَهَا بِأَسْبَابٍ تُوجِبُهَا . وَالثّانِي :
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التّشْبِيهَ فَشَبّهَ شِدّةَ الْحُمّى
وَلَهَبَهَا بِفَيْحِ جَهَنّمُ وَشَبّهَ شِدّةَ الْحَرّ بِهِ أَيْضًا
تَنْبِيهًا لِلنّفُوسِ عَلَى شِدّةِ عَذَابِ النّارِ وَأَنّ هَذِهِ
الْحَرَارَةَ الْعَظِيمَةَ مُشَبّهَةٌ بِفَيْحِهَا وَهُوَ مَا يُصِيبُ
مِنْ قُرْبٍ مِنْهَا مِنْ حَرّهَا .
[ مَعْنَى فَأَبْرِدُوهَا ]
وَقَوْلُهُ
" فَأَبْرِدُوهَا " رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا
رُبَاعِيّ مِنْ أَبْرَدَ الشّيْءَ إذَا صَيّرَهُ بَارِدًا مِثْلَ
أَسْخَنَهُ إذَا صَيّرَهُ سُخْنًا . وَالثّانِي : بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ
مَضْمُومَةً مِنْ بَرّدَ الشّيْءَ يُبَرّدُهُ وَهُوَ أَفْصَحُ لُغَةً
وَاسْتِعْمَالًا وَالرّبَاعِيّ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ عِنْدَهُمْ قَالَ إذَا
وَجَدْتُ لَهِيبَ الْحُبّ فِي كَبِدِي أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ
الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الْأَحْشَاءِ تَتّقِدُ
[ ص 27 ]
[ مَعْنَى بِالْمَاءِ ]
وَقَوْلُهُ
" بِالْمَاءِ " فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ كُلّ مَاءٍ وَهُوَ
الصّحِيحُ . وَالثّانِي : أَنّهُ مَاءُ زَمْزَمَ وَاحْتَجّ أَصْحَابُ
هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي
جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضّبَعِي قَالَ كُنْتُ أُجَالِسُ ابْنَ
عَبّاسٍ بِمَكّة َ فَأَخَذَتْنِي الْحُمّى فَقَالَ أَبْرِدْهَا عَنْك
بِمَاءِ زَمْزَمَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ إنّ الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ
قَالَ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَرَاوِي هَذَا قَدْ شَكّ فِيهِ وَلَوْ جَزَمَ
بِهِ لَكَانَ أَمْرًا لِأَهْلِ مَكّةَ بِمَاءِ زَمْزَمَ إذْ هُوَ
مُتَيَسّرٌ عِنْدَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَاءِ .
ثُمّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَلَى عُمُومِهِ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ
الصّدَقَةُ بِالْمَاءِ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
وَالصّحِيحُ أَنّهُ اسْتِعْمَالٌ وَأَظُنّ أَنّ الّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ
الْمُرَادُ الصّدَقَةُ بِهِ أَنّهُ أَشْكَلَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ
الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْحُمّى وَلَمْ يَفْهَمْ وَجْهَهُ مَعَ أَنّ
لِقَوْلِهِ وَجْهًا حَسَنًا وَهُوَ أَنّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ
فَكَمَا أَخْمَدَ لَهِيبَ الْعَطَشِ عَنْ الظّمْآنِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ
أَخْمَدَ اللّهُ لَهِيبَ الْحُمّى عَنْهُ جَزَاءً وِفَاقًا وَلَكِنّ هَذَا
يُؤْخَذُ مِنْ فِقْهِ الْحَدِيثِ وَإِشَارَتِهِ وَأَمّا الْمُرَادُ بِهِ
فَاسْتِعْمَالُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ يَرْفَعُهُ إذَا حُمّ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُشّ عَلَيْهِ الْمَاءَ
الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ السّحَر [ ص 28 ] سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ "
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ الْحُمّى كِيرٌ مِنْ كِيرِ جَهَنّمَ
فَنَحّوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفِي " الْمُسْنَدِ "
وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ يَرْفَعُهُ الْحُمّى
قِطْعَةٌ مِنْ النّارِ فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا حُمّ دَعَا
بِقِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَأَفْرَغَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَاغْتَسَلَ وَفِي "
السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ذُكِرَتْ الْحُمّى
عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّهَا رَجُلٌ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَسُبّهَا
فَإِنّهَا تَنْفِي الذّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ
لِمَا كَانَتْ الْحُمّى يَتْبَعُهَا حَمِيّةٌ عَنْ الْأَغْذِيَةِ
الرّدِيئَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ النّافِعَةِ وَفِي
ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى تَنْقِيَةِ الْبَدَنِ وَنَفْيُ أَخْبَاثِهِ
وَفُضُولِهِ وَتَصْفِيَتِهِ مِنْ مَوَادّهِ الرّدِيئَةِ وَتَفْعَلُ فِيهِ
كَمَا تَفْعَلُ النّارُ فِي الْحَدِيدِ فِي نَفْيِ خَبَثِهِ وَتَصْفِيَةِ
جَوْهَرِهِ كَانَتْ أَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِنَارِ الْكِيرِ الّتِي
تُصَفّي جَوْهَرَ الْحَدِيدِ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَعْلُومُ عِنْدَ
أَطِبّاءِ الْأَبْدَانِ .
[ الْحُمّى تَنْفَعُ الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ ]
وَأَمّا
تَصْفِيَتُهَا الْقَلْبَ مِنْ وَسَخِهِ وَدَرَنِهِ وَإِخْرَاجَهَا
خَبَائِثَهُ فَأَمْرٌ يَعْلَمُهُ أَطِبّاءُ الْقُلُوبِ وَيَجِدُونَهُ
كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ نَبِيّهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَلَكِنْ مَرَضُ الْقَلْبِ إذَا [ ص 29 ] صَارَ مَأْيُوسًا مِنْ
بُرْئِهِ لَمْ يَنْفَعْ فِيهِ هَذَا الْعِلَاجُ . فَالْحُمّى تَنْفَعُ
الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَسَبّهُ ظُلْمٌ
وَعُدْوَانٌ وَذَكَرْت مَرّةً وَأَنَا مَحْمُومٌ قَوْلَ بَعْضِ
الشّعَرَاءِ يَسُبّهَا : زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ وَوَدّعَت تَبّا
لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
فَقُلْت
: تَبّا لَهُ إذْ سَبّ مَا نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَنْ سَبّهِ وَلَوْ قَالَ زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ
لِصَبّهَا أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّع
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت : أَنْ لَا تُقْلِعِي
لَكَانَ
أَوْلَى بِهِ وَلَأَقْلَعَتْ عَنْهُ فَأَقْلَعَتْ عَنّي سَرِيعًا . وَقَدْ
رُوِيَ فِي أَثَرٍ لَا أَعْرِفُ حَالَهُ حُمّى يَوْمٍ كَفّارَةُ سَنَةٍ
وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْحُمّى تَدْخُلُ فِي كُلّ
الْأَعْضَاءِ وَالْمَفَاصِلِ وَعِدّتُهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتّونَ
مَفْصِلًا فَتُكَفّرُ عَنْهُ - بِعَدَدِ كُلّ مَفْصِلٍ - ذُنُوبَ يَوْمٍ .
وَالثّانِي : أَنّهَا تُؤَثّرُ فِي الْبَدَنِ تَأْثِيرًا لَا يَزُولُ
بِالْكُلّيّةِ إلَى سَنَةٍ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا إنّ أَثَرَ الْخَمْرِ يَبْقَى فِي جَوْفِ الْعَبْدِ
وَعُرُوقِهِ وَأَعْضَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَاَللّهُ أَعْلَمُ [ ص 30
] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبّ إلَيّ مِنْ
الْحُمّى لِأَنّهَا تَدْخُلُ فِي كُلّ عُضْوٍ مِنّي وَإِنّ اللّهَ
سُبْحَانَهُ يُعْطِي كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْ الْأَجْرِ وَقَدْ رَوَى
التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
يَرْفَعُهُ إذَا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ الْحُمّى - وَإِنّ الْحُمّى
قِطْعَةٌ مِنْ النّارِ - فَلْيُطْفِئْهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ
وَيَسْتَقْبِلْ نَهَرًا جَارِيًا فَلْيَسْتَقْبِلْ جَرْيَةَ الْمَاءِ
بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَلْيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ
اللّهُمّ اشْفِ عَبْدَك وَصَدّقْ رَسُولَك وَيَنْغَمِسُ فِيهِ ثَلَاثَ
غَمَسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فَإِنْ بَرِئَ وَإِلّا فَفِي خَمْسٍ فَإِنْ
لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٌ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ
فَتِسْعٌ فَإِنّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللّهِ قُلْت
: وَهُوَ يَنْفَعُ فِعْلُهُ فِي فَصْلِ الصّيْفِ فِي الْبِلَادِ
الْحَارّةِ عَلَى الشّرَائِطِ الّتِي تَقَدّمَتْ فَإِنّ الْمَاءَ فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ لِبُعْدِهِ عَنْ مُلَاقَاةِ
الشّمْسِ وَوُفُورِ الْقُوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمّا أَفَادَهَا
النّوُمُ وَالسّكُونُ وَبَرْدُ الْهَوَاءِ فَتَجْتَمِعُ فِيهِ قُوّةُ
الْقُوَى وَقُوّةُ الدّوَاءِ وَهُوَ الْمَاءُ الْبَارِدُ عَلَى حَرَارَةِ
الْحُمّى الْعَرَضِيّةِ أَوْ الْغِبّ الْخَالِصَةِ أَعْنِي الّتِي لَا
وَرَمَ مَعَهَا وَلَا شَيْءَ مِنْ الْأَعْرَاضِ الرّدِيئَةِ وَالْمَوَادّ
الْفَاسِدَةِ فَيُطْفِئُهَا بِإِذْنِ اللّهِ لَا سِيّمَا فِي أَحَدِ
الْأَيّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَهِيَ الْأَيّامُ الّتِي
يَقَعُ فِيهَا بُحْرَانُ الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ كَثِيرًا سِيّمَا فِي
الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لِرِقّةِ أَخْلَاطِ سُكّانِهَا وَسُرْعَةِ
انْفِعَالِهِمْ عَنْ الدّوَاءِ النّافِعِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ اسْتِطْلَاقِ الْبَطْنِ
[ عِلَاجُهُ بِالْعَسَلِ ]
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمُتَوَكّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيّ أَنّ رَجُلًا أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ إنّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ وَفِي رِوَايَةٍ اسْتَطْلَقَ
بَطْنَهُ فَقَالَ [ ص 31 ] اسْقِهِ عَسَلًا " فَذَهَبَ ثُمّ رَجَعَ
فَقَالَ قَدْ سَقَيْته فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا وَفِي لَفْظٍ فَلَمْ
يَزِدْهُ إلّا اسْتِطْلَاقًا مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلّ ذَلِكَ
يَقُولُ لَهُ اسْقِهِ عَسَلًا " فَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ أَوْ
الرّابِعَةِ صَدَقَ اللّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ
وَفِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " فِي لَفْظٍ لَهُ " إنّ أَخِي عَرِبَ بَطْنُهُ " أَيْ فَسَدَ
هَضْمُهُ وَاعْتَلّتْ مَعِدَتُهُ وَالِاسْمُ الْعَرَبُ بِفَتْحِ الرّاءِ
وَالذّرَبُ أَيْضًا .
[ مَنَافِعُ الْعَسَلِ ]
وَالْعَسَلُ فِيهِ
مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ فَإِنّهُ جَلَاءٌ لِلْأَوْسَاخِ الّتِي فِي
الْعُرُوقِ وَالْأَمْعَاءِ وَغَيْرِهَا مُحَلّلٌ لِلرّطُوبَاتِ أَكْلًا
وَطِلَاءً نَافِعٌ لِلْمَشَايِخِ وَأَصْحَابِ الْبَلْغَمِ وَمَنْ كَانَ
مِزَاجُهُ بَارِدًا رَطْبًا وَهُوَ مُغَذّ مُلَيّنٌ لِلطّبِيعَةِ حَافِظٌ
لِقُوَى الْمَعَاجِين وَلِمَا اُسْتُوْدِعَ فِيهِ مَذْهَبٌ لِكَيْفِيّاتِ
الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ مُنَقّ لِلْكَبِدِ وَالصّدْرِ مُدِرّ
لِلْبَوْلِ مُوَافِقٌ لِلسّعَالِ الْكَائِنِ عَنْ الْبَلْغَمِ وَإِذَا
شُرِبَ حَارّا بِدُهْنِ الْوَرْدِ نَفْعٌ مِنْ نَهْشِ الْهَوَامّ وَشُرْبِ
الْأَفْيُونِ وَإِنْ شُرِبَ وَحْدَهُ مَمْزُوجًا بِمَاءٍ نَفَعَ مِنْ
عَضّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبِ وَأَكْلِ الْفُطُرِ الْقَتّالِ وَإِذَا جُعِلَ
فِيهِ اللّحْمُ الطّرِيّ حَفِظَ طَرَاوَتَهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ
وَكَذَلِكَ إنْ جُعِلَ فِيهِ الْقِثّاءُ وَالْخِيَارُ وَالْقَرْعُ
وَالْبَاذِنْجَانُ وَيَحْفَظُ كَثِيرًا مِنْ الْفَاكِهَةِ سِتّةَ أَشْهُرٍ
وَيَحْفَظُ جُثّةَ الْمَوْتَى وَيُسَمّى الْحَافِظَ الْأَمِينَ . وَإِذَا
لُطّخَ بِهِ الْبَدَنُ الْمُقَمّلُ وَالشّعْرُ قَتَلَ قَمْلَهُ
وَصِئْبَانَهُ وَطَوّلَ الشّعَرَ وَحَسّنَهُ وَنَعّمَهُ وَإِنْ اكْتَحَلَ
بِهِ جَلَا ظُلْمَةَ الْبَصَرِ وَإِنْ اُسْتُنّ بِهِ بَيّضَ الْأَسْنَانَ
وَصَقَلَهَا وَحَفِظَ صِحّتَهَا وَصِحّةَ اللّثَةِ وَيَفْتَحُ أَفْوَاهَ
الْعُرُوقِ وَيُدِرّ الطّمْثَ وَلَعْقُهُ عَلَى الرّيقِ يُذْهِبُ
الْبَلْغَمَ وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ وَيَدْفَعُ الْفَضَلَاتِ
عَنْهَا وَيُسَخّنُهَا تَسْخِينًا مُعْتَدِلًا وَيَفْتَحُ سَدَدَهَا
وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْكَبِدِ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَهُوَ أَقَلّ
ضَرَرًا لِسُدَدِ الْكَبِدِ وَالطّحَالِ مِنْ كُلّ حُلْوٍ . وَهُوَ مَعَ
هَذَا كُلّهِ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ قَلِيلُ الْمَضَارّ مُضِرّ
بِالْعَرْضِ لِلصّفْرَاوِيّيْنِ [ ص 32 ] وَنَحْوِهِ فَيَعُودُ حِينَئِذٍ
نَافِعًا لَهُ جِدّا . وَهُوَ غِذَاءٌ مَعَ الْأَغْذِيَةِ وَدَوَاءٌ مَعَ
الْأَدْوِيَةِ وَشَرَابٌ مَعَ الْأَشْرِبَةِ وَحُلْوٌ مَعَ الْحَلْوَى
وَطِلَاءٌ مَعَ الْأطْلِيَةِ وَمُفَرّحٌ مَعَ الْمُفَرّحَات فَمَا خُلِقَ
لَنَا شَيْءٌ فِي مَعْنَاهُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَلَا مِثْلَهُ وَلَا
قَرِيبًا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مُعَوّلُ الْقُدَمَاءِ إلّا عَلَيْهِ
وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْقُدَمَاءِ لَا ذِكْرَ فِيهَا لِلسّكْرِ الْبَتّةَ
وَلَا يَعْرِفُونَهُ فَإِنّهُ حَدِيثُ الْعَهْدِ حَدَثَ قَرِيبًا وَكَانَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَشْرَبُهُ بِالْمَاءِ عَلَى
الرّيقِ وَفِي ذَلِكَ سِرّ بَدِيعٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ لَا يُدْرِكُهُ
إلّا الْفَطِنُ الْفَاضِلُ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللّهُ عِنْدَ
ذِكْرِ هَدْيِهِ فِي حِفْظِ الصّحّةِ . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ "
مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ لَعِقَ الْعَسَلَ ثَلَاثَ
غَدَوَاتٍ كُلّ شَهْرٍ لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمٌ مِنْ الْبَلَاءِ وَفِي
أَثَرٍ آخَرَ عَلَيْكُمْ بِالشّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآن فَجَمَعَ
بَيْنَ الطّبّ الْبَشَرِيّ وَالْإِلَهِيّ وَبَيْنَ طِبّ الْأَبْدَانِ
وَطِبّ الْأَرْوَاحِ وَبَيْنَ الدّوَاءِ الْأَرْضِيّ وَالدّوَاءِ
السّمَائِيّ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذَا الّذِي وَصَفَ لَهُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَسَلَ كَانَ اسْتِطْلَاقُ بَطْنه عَنْ
تُخَمَةٍ أَصَابَتْهُ عَنْ امْتِلَاءٍ فَأَمَرَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ
لِدَفْعِ الْفُضُولِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَوَاحِي الْمَعِدَةِ
وَالْأَمْعَاءِ فَإِنّ الْعَسَلَ فِيهِ جِلَاءٌ وَدَفْعٌ لِلْفُضُولِ
وَكَانَ قَدْ أَصَابَ الْمَعِدَةَ أَخْلَاطٌ لَزِجَةٌ تَمْنَعُ
اسْتِقْرَارَ الْغِذَاءِ فِيهَا لِلُزُوجَتِهَا فَإِنّ الْمَعِدَةَ لَهَا
خَمْلٌ كَخَمْلِ الْقَطِيفَةِ فَإِذَا عَلِقَتْ بِهَا الْأَخْلَاطُ
اللّزِجَةُ أَفْسَدَتْهَا [ ص 33 ] يَجْلُوهَا مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاطِ
وَالْعَسَلُ جِلَاءٌ وَالْعَسَلُ مِنْ أَحْسَنِ مَا عُولِجَ بِهِ هَذَا
الدّاءُ لَا سِيّمَا إنْ مُزِجَ بِالْمَاءِ الْحَارّ .
[ فَائِدَةُ تَكْرَارِ سَقْيِ الْعَسَلِ ]
وَفِي
تَكْرَارِ سَقْيِهِ الْعَسَلَ مَعْنًى طِبّيّ بَدِيعٌ وَهُوَ أَنّ
الدّوَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِقْدَارٌ وَكَمّيّةٌ بِحَسْبِ حَالِ
الدّاءِ إنْ قَصِرَ عَنْهُ لَمْ يُزِلْهُ بِالْكُلّيّةِ وَإِنْ جَاوَزَهُ
. أَوْهَى الْقُوَى فَأَحْدَثَ ضَرَرًا آخَرَ فَلَمّا أَمَرَهُ أَنْ
يَسْقِيَهُ الْعَسَلَ سَقَاهُ مِقْدَارًا لَا يَفِي بِمُقَاوَمَةِ الدّاءِ
وَلَا يَبْلُغُ الْغَرَضَ فَلَمّا أَخْبَرَهُ عَلِمَ أَنّ الّذِي سَقَاهُ
لَا يَبْلُغُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ فَلَمّا تَكَرّرَ تَرْدَادُهُ إلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكّدَ عَلَيْهِ الْمُعَاوَدَةَ
لِيَصِلَ إلَى الْمِقْدَارِ الْمُقَاوِمِ لِلدّاءِ فَلَمّا تَكَرّرَتْ
الشّرَبَاتُ بِحَسْبِ مَادّةِ الدّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللّهِ
وَاعْتِبَارُ مَقَادِيرِ الْأَدْوِيَةِ وَكَيْفِيّاتِهَا وَمِقْدَارِ
قُوّةِ الْمَرَضِ مَرَضٌ مِنْ أَكْبَرِ قَوَاعِدِ الطّبّ .
[ مَعْنَى صَدَقَ اللّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك ]
"
وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَ اللّهُ وَكَذَبَ
بَطْنُ أَخِيك إشَارَةً إلَى تَحْقِيقِ نَفْعِ هَذَا الدّوَاءِ وَأَنّ
بَقَاءَ الدّاءِ لَيْسَ لِقُصُورِ الدّوَاءِ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ
لِكَذِبِ الْبَطْنِ وَكَثْرَةِ الْمَادّةِ الْفَاسِدَةِ فِيهِ فَأَمَرَهُ
بِتَكْرَارِ الدّوَاءِ لِكَثْرَةِ الْمَادّةِ . وَلَيْسَ طِبّهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَطِبّ الْأَطِبّاءِ فَإِنّ طِبّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُتَيَقّنٌ قَطْعِيّ إلَهِيّ صَادِرٌ عَنْ
الْوَحْيِ وَمِشْكَاةِ النّبُوّةِ وَكَمَالِ الْعَقْلِ . وَطِبّ غَيْرِهِ
أَكْثَرُهُ حَدْسٌ وَظُنُونٌ وَتَجَارِبُ وَلَا يُنْكَرُ عَدَمُ
انْتِفَاعِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَرْضَى بِطِبّ النّبُوّةِ فَإِنّهُ إنّمَا
يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ تَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَاعْتِقَادِ الشّفَاءِ بِهِ
وَكَمَالِ التّلَقّي لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ فَهَذَا
الْقُرْآنُ الّذِي هُوَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصّدُورِ - إنْ لَمْ يُتَلَقّ
هَذَا التّلَقّي - لَمْ يَحْصُلْ بِهِ شِفَاءُ الصّدُورِ مِنْ
أَدْوَائِهَا بَلْ لَا يَزِيدُ الْمُنَافِقِينَ إلّا رِجْسًا إلَى
رِجْسِهِمْ وَمَرَضًا إلَى مَرَضِهِمْ وَأَيْنَ يَقَعُ طِبّ الْأَبْدَانِ
مِنْهُ فَطِبّ النّبُوّةِ لَا يُنَاسِبُ إلّا الْأَبْدَانَ الطّيّبَةَ
كَمَا أَنّ شِفَاءَ الْقُرْآنِ لَا يُنَاسِبُ إلّا الْأَرْوَاحَ
الطّيّبَةَ وَالْقُلُوبَ الْحَيّةَ فَإِعْرَاضُ النّاسِ عَنْ طِبّ
النّبُوّةِ كَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الِاسْتِشْفَاءِ بِالْقُرْآنِ الّذِي
هُوَ الشّفَاءُ النّافِعُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِي الدّوَاءِ
وَلَكِنْ لِخُبْثِ الطّبِيعَةِ وَفَسَادِ الْمَحَلّ وَعَدَمِ قَبُولِهِ
وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ . [ ص 34 ]
فَصْلٌ
[ بَيَانُ أَنّ الْعَسَلَ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ ]
وَقَدْ
اخْتَلَفَ النّاسُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا
شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ } [ النّحْلُ 69 ]
هَلْ الضّمِيرُ فِي " فِيهِ " رَاجِعٌ إلَى الشّرَابِ أَوْ رَاجِعٌ إلَى
الْقُرْآنِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ الصّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الشّرَابِ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَالْحَسَن ِ وَقَتَادَةَ
وَالْأَكْثَرِينَ فَإِنّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ وَالْكَلَامُ سِيقَ
لَأَجْلِهِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ
الصّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ " صَدَقَ اللّهُ " كَالصّرِيحِ فِيهِ وَاَللّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الطّاعُونِ وَعِلَاجِهِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَنْ
أَبِيهِ أَنّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ : مَاذَا
سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
الطّاعُونِ ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الطّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي
إسْرَائِيلَ وَعَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ
بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ
بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ "
أَيْضًا : عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ قَالَ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الطّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلّ مُسْلِمٍ [ ص 35 ]
[ مَا هُوَ الطّاعُونُ ]
الطّاعُونُ
- مِنْ حَيْثُ اللّغَةِ - نَوْعٌ مِنْ الْوَبَاءِ قَالَهُ صَاحِبُ "
الصّحَاحِ " وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الطّبّ : وَرَمٌ رَدِيءٌ قَتّالٌ
يَخْرُجُ مَعَهُ تَلَهّبٌ شَدِيدٌ مُؤْلِمٌ جِدّا يَتَجَاوَزُ
الْمِقْدَارَ فِي ذَلِكَ وَيَصِيرُ مَا حَوْلَهُ فِي الْأَكْثَرِ أَسْوَدَ
أَوْ أَخْضَرَ أَوْ أَكْمَدَ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى التّقَرّحِ سَرِيعًا
. وَفِي الْأَكْثَرِ يَحْدُثُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الْإِبْطِ
وَخَلْفَ الْأُذُنِ وَالْأَرْنَبَةِ وَفِي اللّحُومِ الرّخْوَةِ . وَفِي
أَثَرٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الطّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطّاعُونُ ؟ قَالَ غُدّةٌ
كَغُدّةِ الْبَعِيرِ يَخْرُجُ فِي الْمَرَاقّ وَالْإِبْط قَالَ
الْأَطِبّاءُ إذَا وَقَعَ الْخَرّاجُ فِي اللّحُومِ الرّخْوَةِ
وَالْمَغَابِنِ وَخَلْفَ الْأُذُنِ وَالْأَرْنَبَةِ وَكَانَ مِنْ جِنْسٍ
فَاسِدٍ سُمّيَ طَاعُونًا وَسَبَبُهُ دَمٌ رَدِيءٌ مَائِلٌ إلَى
الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ مُسْتَحِيلٌ إلَى جَوْهَرٍ سُمِيّ يُفْسِدُ
الْعُضْوَ وَيُغَيّرُ مَا يَلِيهِ وَرُبّمَا رَشَحَ دَمًا وَصَدِيدًا
وَيُؤَدّي إلَى الْقَلْبِ كَيْفِيّة رَدِيئَة فَيَحْدُثُ الْقَيْءُ
وَالْخَفَقَانُ وَالْغَشْيُ وَهَذَا الِاسْمُ وَإِنْ كَانَ يَعُمّ كُلّ
وَرَمٍ يُؤَدّي إلَى الْقَلْبِ كَيْفِيّة رَدِيئَة حَتّى يَصِيرَ لِذَلِكَ
قَتّالًا فَإِنّهُ يَخْتَصّ بِهِ الْحَادِثُ فِي اللّحْمِ الْغُدَدِيّ
لِأَنّهُ لِرَدَاءَتِهِ لَا يَقْبَلُهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ إلّا مَا كَانَ
أَضْعَفَ بِالطّبْعِ وَأَرْدَؤُهُ مَا حَدَثَ فِي الْإِبِطِ وَخَلْفَ
الْأُذُنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ الّتِي هِيَ أَرْأَسُ
وَأَسْلَمُهُ الْأَحْمَرُ ثُمّ الْأَصْفَرُ . وَاَلّذِي إلَى السّوَادِ
فَلَا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ . وَلَمّا كَانَ الطّاعُونُ يَكْثُرُ فِي
الْوَبَاءِ وَفِي الْبِلَادِ الْوَبِيئَةِ عَبّرَ عَنْهُ بِالْوَبَاءِ
كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ الْوَبَاءُ الطّاعُونُ . وَقِيلَ هُوَ كُلّ مَرَضٍ
يَعُمّ وَالتّحْقِيقُ أَنّ بَيْنَ الْوَبَاءِ [ ص 36 ] وَبَاءٌ وَلَيْسَ
كُلّ وَبَاءٍ طَاعُونًا وَكَذَلِكَ الْأَمْرَاضُ الْعَامّةُ أَعَمّ مِنْ
الطّاعُونِ فَإِنّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَالطّوَاعِينُ خَرّاجَاتٌ وَقُرُوحٌ
وَأَوْرَامٌ رَدِيئَةٌ حَادِثَةٌ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُتَقَدّمِ
ذِكْرُهَا .
[ آثَارُ الطّاعُونِ ]
قُلْت : هَذِهِ الْقُرُوحُ
وَالْأَوْرَامُ وَالْجِرَاحَاتُ هِيَ آثَارُ الطّاعُونِ وَلَيْسَتْ
نَفْسَهُ وَلَكِنّ الْأَطِبّاءَ لِمَا لَمْ تُدْرِكْ مِنْهُ إلّا
الْأَثَرَ الظّاهِرَ جَعَلُوهُ نَفْسَ الطّاعُونِ . وَالطّاعُونُ يُعَبّرُ
بِهِ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ
أَحَدُهَا : هَذَا الْأَثَرُ الظّاهِرُ وَهُوَ الّذِي ذَكَرَهُ الْأَطِبّاءُ .
وَالثّانِي
: الْمَوْتُ الْحَادِثُ عَنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الصّحِيحِ
فِي قَوْلِهِ الطّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلّ مُسْلِمٍ
وَالثّالِثُ
السّبَبُ الْفَاعِلُ لِهَذَا الدّاءِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
الصّحِيحِ أَنّهُ بَقِيّةُ رِجْزٍ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ
وَوَرَدَ فِيهِ " أَنّهُ وَخْزُ الْجِن " وَجَاءَ أَنّهُ دَعْوَةُ نَبِيّ .
[ بَيَانُ مَا لِلْجِنّ مِنْ تَأْثِيرٍ فِي الطّاعُونِ - وَكَيْفِيّةُ دَفْعِهِ ]
وَهَذِهِ
الْعِلَلُ وَالْأَسْبَابُ لَيْسَ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ مَا يَدْفَعُهَا
كَمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَدُلّ عَلَيْهَا وَالرّسُلُ تُخْبَرُ
بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَهَذِهِ الْآثَارُ الّتِي أَدْرَكُوهَا مِنْ
أَمْرِ الطّاعُونِ لَيْسَ مَعَهُمْ مَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ بِتَوَسّطِ
الْأَرْوَاحِ فَإِنّ تَأْثِيرَ الْأَرْوَاحِ فِي الطّبِيعَةِ
وَأَمْرَاضِهَا وَهَلَاكِهَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ إلّا مَنْ هُوَ
أَجْهَلُ النّاسِ بِالْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرَاتِهَا وَانْفِعَالِ
الْأَجْسَامِ وَطَبَائِعِهَا عَنْهَا وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يَجْعَلُ
لِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَصَرّفًا فِي أَجْسَامِ بَنِي آدَمَ عِنْدَ
حُدُوثِ الْوَبَاءِ وَفَسَادِ الْهَوَاءِ كَمَا يُجْعَلُ لَهَا تَصَرّفًا
عِنْدَ بَعْضِ الْمَوَادّ الرّدِيئَةِ الّتِي تُحْدِثُ لِلنّفُوسِ
هَيْئَةً رَدِيئَةً وَلَا سِيّمَا عِنْدَ هَيَجَانِ الدّمِ وَالْمِرّةِ
السّوْدَاءِ وَعِنْدَ هَيَجَانِ الْمَنِيّ فَإِنّ الْأَرْوَاحَ
الشّيْطَانِيّةَ تَتَمَكّنُ مِنْ فِعْلِهَا بِصَاحِبِ [ ص 37 ] أَقْوَى
مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ مِنْ الذّكْرِ وَالدّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ
وَالتّضَرّعِ وَالصّدَقَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ يَسْتَنْزِلُ
بِذَلِكَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيّةِ مَا يَقْهَرُ هَذِهِ
الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ وَيُبْطِلُ شَرّهَا وَيَدْفَعُ تَأْثِيرَهَا
وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا مِرَارًا لَا يُحْصِيهَا إلّا
اللّهُ وَرَأَيْنَا لِاسْتِنْزَالِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الطّيّبَةِ
وَاسْتِجْلَابِ قُرْبِهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي تَقْوِيَةِ الطّبِيعَةِ
وَدَفْعِ الْمَوَادّ الرّدِيئَةِ وَهَذَا يَكُونُ قَبْلَ اسْتِحْكَامِهَا
وَتَمَكّنِهَا وَلَا يَكَادُ يَنْخَرِمُ فَمَنْ وَفّقَهُ اللّهُ بَادَرَ
عِنْدَ إحْسَاسِهِ بِأَسْبَابِ الشّرّ إلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ الّتِي
تَدْفَعُهَا عَنْهُ وَهِيَ لَهُ مِنْ أَنْفَعِ الدّوَاءِ وَإِذَا أَرَادَ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ إنْفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ أَغْفَلَ قَلْبَ
الْعَبْدِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَتَصَوّرِهَا وَإِرَادَتِهَا فَلَا
يَشْعُرُ بِهَا وَلَا يُرِيدُهَا لِيَقْضِيَ اللّهُ فِيهِ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا . وَسَنَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى
إيضَاحًا وَبَيَانًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى التّدَاوِي بِالرّقَى
وَالْعُوَذِ النّبَوِيّةِ وَالْأَذْكَارِ وَالدّعَوَاتِ وَفِعْلِ
الْخَيْرَاتِ وَنُبَيّنُ أَنّ نِسْبَةَ طِبّ الْأَطِبّاءِ إلَى هَذَا
الطّبّ النّبَوِيّ كَنِسْبَةِ طِبّ الطّرْقِيّةِ وَالْعَجَائِزِ إلَى
طِبّهِمْ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ حُذّاقُهُمْ وَأَئِمّتُهُمْ وَنُبَيّنُ
أَنّ الطّبِيعَةَ الْإِنْسَانِيّةَ أَشَدّ شَيْءٍ انْفِعَالًا عَنْ
الْأَرْوَاحِ وَأَنّ قُوَى الْعُوَذِ وَالرّقَى وَالدّعَوَاتِ فَوْقَ
قُوَى الْأَدْوِيَةِ حَتّى إنّهَا تُبْطِلُ قُوَى السّمُومِ الْقَاتِلَةِ .
[ فَسَادُ الْهَوَاءِ جُزْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الطّاعُونِ وَبَيَانُ حَالِهِ فِي الْفُصُولِ ]
وَالْمَقْصُودِ
أَنّ فَسَادَ الْهَوَاءِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ السّبَبِ التّامّ
وَالْعِلّةِ الْفَاعِلَةِ لِلطّاعُونِ فَإِنّ فَسَادَ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ
الْمُوجِبِ لِحُدُوثِ الْوَبَاءِ وَفَسَادِهِ يَكُونُ لِاسْتِحَالَةِ
جَوْهَرِهِ إلَى الرّدَاءَةِ لِغَلَبَةِ إحْدَى الْكَيْفِيّاتِ
الرّدِيئَةِ عَلَيْهِ كَالْعُفُونَةِ وَالنّتِنِ وَالسّمَيّةِ فِي أَيّ
وَقْتٍ كَانَ مِنْ أَوْقَاتِ السّنَةِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ حُدُوثِهِ
فِي أَوَاخِرِ الصّيْفِ وَفِي الْخَرِيفِ غَالِبًا لِكَثْرَةِ اجْتِمَاعِ
الْفَضَلَاتِ الْمَرَارِيّةِ الْحَادّةِ وَغَيْرِهَا فِي فَصْلِ الصّيْفِ
وَعَدَمِ تَحَلّلِهَا فِي آخِرِهِ وَفِي الْخَرِيفِ لِبَرْدِ الْجَوّ
وَرَدْغَةِ الْأَبْخِرَةِ وَالْفَضَلَاتِ الّتِي كَانَتْ تَتَحَلّلُ فِي
زَمَنِ الصّيْفِ . فَتَنْحَصِرُ فَتَسْخَنُ وَتُعَفّنُ فَتُحْدِثُ
الْأَمْرَاضَ الْعَفِنَةَ وَلَا سِيّمَا إذَا صَادَفَتْ الْبَدَنَ
مُسْتَعَدّا قَابِلًا رَهَلًا قَلِيلَ [ ص 38 ] وَأَصَحّ الْفُصُولِ فِيهِ
فَصْلُ الرّبِيعِ . قَالَ إِبّقْرَاط : إنّ فِي الْخَرِيفِ أَشَدّ مَا
تَكُونُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَأَقْتَلُ وَأَمّا الرّبِيعُ فَأَصَحّ
الْأَوْقَاتِ كُلّهَا وَأَقَلّهَا مَوْتًا وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ
الصّيَادِلَةِ وَمُجَهّزِي الْمَوْتَى أَنّهُمْ يَسْتَدِينُونَ
وَيَتَسَلّفُونَ فِي الرّبِيعِ وَالصّيْفِ عَلَى فَصْلِ الْخَرِيفِ فَهُوَ
رَبِيعُهُمْ وَهُمْ أَشْوَقُ شَيْءٍ إلَيْهِ وَأَفْرَحُ بِقُدُومِهِ
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ إذَا طَلَعَ النّجْمُ ارْتَفَعَتْ الْعَاهَةُ
عَنْ كُلّ بَلَدٍ . وَفُسّرَ بِطُلُوعِ الثّرَيّا وَفُسّرَ بِطُلُوعِ
النّبَاتِ زَمَنَ الرّبِيعِ وَمِنْهُ { وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ
} [ الرّحْمَنُ 7 ] فَإِنّ كَمَالَ طُلُوعِهِ وَتَمَامَهُ يَكُونُ فِي
فَصْلِ الرّبِيعِ وَهُوَ الْفَصْلُ الّذِي تَرْتَفِعُ فِيهِ الْآفَاتُ .
وَأَمّا الثّرَيّا فَالْأَمْرَاضُ تَكْثُرُ وَقْتَ طُلُوعِهَا مَعَ
الْفَجْرِ وَسُقُوطِهَا .
قَالَ التّمِيمِيّ فِي كِتَابِ " مَادّةِ
الْبَقَاءِ " : أَشَدّ أَوْقَاتِ السّنَةِ فَسَادًا وَأَعْظَمُهَا
بَلِيّةً عَلَى الْأَجْسَادِ وَقْتَانِ
أَحَدُهُمَا : وَقْتُ سُقُوطِ
الثّرَيّا لِلْمَغِيبِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ . [ ص 39 ] وَالثّانِي :
وَقْتَ طُلُوعِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ عَلَى
الْعَالَمِ بِمَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَهُوَ وَقْتُ تَصَرّمٍ
فَصْلُ الرّبِيعِ وَانْقِضَائِهِ غَيْرَ أَنّ الْفَسَادَ الْكَائِنَ
عِنْدَ طُلُوعِهَا أَقَلّ ضَرَرًا مِنْ الْفَسَادِ الْكَائِنِ عِنْدَ
سُقُوطِهَا . وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ يُقَالُ مَا
طَلَعَتْ الثّرَيّا وَلَا نَأْتِ إلّا بِعَاهَةٍ فِي النّاسِ وَالْإِبِلِ
وَغُرُوبُهَا أَعْوَهُ مِنْ طُلُوعِهَا . وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلٌ ثَالِثٌ
- وَلَعَلّهُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِهِ - أَنّ الْمُرَادَ بِالنّجْمِ
الثّرَيّا وَبِالْعَاهَةِ الْآفَةُ الّتِي تُلْحِقُ الزّرُوعَ وَالثّمَارَ
فِي فَصْلِ الشّتَاءِ وَصَدْرِ فَصْلِ الرّبِيعِ فَحَصَلَ الْأَمْنُ
عَلَيْهَا عِنْدَ طُلُوعِ الثّرَيّا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ
وَلِذَلِكَ نَهَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ الثّمَرَةِ
وَشِرَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا . وَالْمَقْصُودُ
الْكَلَامُ عَلَى هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ وُقُوعِ
الطّاعُونِ .
فَصْلٌ
[النّهْيُ عَنْ الدّخُولِ إلَى أَرْضِ الطّاعُونِ أَوْ الْخُرُوجِ مِنْهَا ]
وَقَدْ
جَمَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْأُمّةِ فِي نَهْيِهِ
عَنْ الدّخُولِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي هُوَ بِهَا وَنَهْيهِ عَنْ
الْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَالِ التّحَرّزِ مِنْهُ فَإِنّ
فِي الدّخُولِ فِي الْأَرْضِ الّتِي هُوَ بِهَا تَعَرّضًا لِلْبَلَاءِ
وَمُوَافَاةً لَهُ فِي مَحَلّ سُلْطَانِهِ وَإِعَانَةً لِلْإِنْسَانِ
عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلشّرْعِ وَالْعَقْلِ بَلْ تَجَنّبُ
الدّخُولِ إلَى أَرْضِهِ مِنْ بَابِ الْحِمْيَةِ الّتِي أَرْشَدَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ إلَيْهَا وَهِيَ حَمِيّةٌ عَنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَهْوِيَةِ
الْمُؤْذِيَةِ .
[ مَعْنَى النّهْيِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ ]
وَأَمّا
نَهْيُهُ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ فَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا
: حَمْلُ النّفُوسِ عَلَى الثّقَةِ بِاَللّهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ
وَالصّبْرِ عَلَى أَقْضِيَتِهِ وَالرّضَى بِهَا .
[ يَجِبُ عَلَى الْمَطْعُونِ السّكُونُ وَالدّعَةُ وَهُوَ مُنَافٍ لِلسّفَرِ ]
وَالثّانِي
: مَا قَالَهُ أَئِمّةُ الطّبّ : أَنّهُ يَجِبُ عَلَى كُلّ مُحْتَرِزٍ
مِنْ الْوَبَاءِ أَنْ يُخْرِجَ [ ص 40 ] الرّيَاضَةَ وَالْحُمَامَ
فَإِنّهُمَا مِمّا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَا لِأَنّ الْبَدَنَ لَا يَخْلُو
غَالِبًا مِنْ فَضْلٍ رَدِيءٍ كَامِنٍ فِيهِ فَتُثِيرُهُ الرّيَاضَةُ
وَالْحُمَامُ وَيَخْلِطَانِهِ بالكيموس الْجَيّدِ وَذَلِكَ يَجْلِبُ
عِلّةً عَظِيمَةً بَلْ يَجِبُ عِنْدَ وُقُوعِ الطّاعُونِ السّكُونُ
وَالدّعَةُ وَتَسْكِينُ هَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ
مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ وَالسّفَرِ مِنْهَا إلّا بِحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ
وَهِيَ مُضِرّةٌ جِدّا هَذَا كَلَامُ أَفْضَلِ الْأَطِبّاءِ
الْمُتَأَخّرِينَ فَظَهَرَ الْمَعْنَى الطّبّيّ مِنْ الْحَدِيثِ
النّبَوِيّ وَمَا فِيهِ مِنْ عِلَاجِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ
وَصَلَاحِهِمَا . فَإِنْ قِيلَ فَفِي قَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ مَا يُبْطِلُ أَنْ
يَكُونَ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الّذِي ذَكَرْتُمُوهُ وَأَنّهُ لَا
يَمْنَعُ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ وَلَا يُحْبَسُ مُسَافِرًا عَنْ سَفَرِهِ ؟
قِيلَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ طَبِيبٌ وَلَا غَيْرُهُ إنّ النّاسَ يَتْرُكُونَ
حَرَكَاتِهِمْ عِنْدَ الطّوَاعِينِ وَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ
الْجَمَادَاتِ وَإِنّمَا يَنْبَغِي فِيهِ التّقَلّلُ مِنْ الْحَرَكَةِ
بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَالْفَارّ مِنْهُ لَا مُوجِبَ لِحَرَكَتِهِ إلّا
مُجَرّدَ الْفِرَارِ مِنْهُ وَدَعَتُهُ وَسُكُونُهُ أَنْفَعُ لِقَلْبِهِ
وَبَدَنِهِ وَأَقْرَبُ إلَى تَوَكّلِهِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى
وَاسْتِسْلَامِهِ لِقَضَائِهِ . وَأَمّا مَنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ
الْحَرَكَةِ كَالصّنّاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ وَالْبُرُدِ
وَغَيْرِهِمْ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ اُتْرُكُوا حَرَكَاتِكُمْ جُمْلَةً
وَإِنْ أُمِرُوا أَنْ يَتْرُكُوا مِنْهَا مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ إلَيْهِ
كَحَرَكَةِ الْمُسَافِرِ فَارّا مِنْهُ وَاَللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
[ حُكْمُ الْمَنْعِ مِنْ الدّخُولِ ]
وَفِي الْمَنْعِ مِنْ الدّخُولِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي قَدْ وَقَعَ بِهَا عِدّةُ حِكَمٍ
أَحَدُهَا : تَجَنّبُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْذِيَةِ وَالْبُعْدُ مِنْهَا .
الثّانِي : الْأَخْذُ بِالْعَافِيَةِ الّتِي هِيَ مَادّةُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ .
الثّالِثُ
أَنْ لَا يَسْتَنْشِقُوا الْهَوَاءَ الّذِي قَدْ عَفِنَ وَفَسَدَ
فَيَمْرَضُونَ . [ ص 41 ] بِمُجَاوَرَتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَمْرَاضِهِمْ .
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مَرْفُوعًا : إنّ مِنْ الْقَرَفِ التّلَفَ
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْقَرَفُ مُدَانَاةُ الْوَبَاءِ وَمُدَانَاةُ
الْمَرْضَى .
[حَمِيّةُ النّفُوسِ عَنْ الْعَدْوَى وَالطّيَرَةِ ]
الْخَامِسُ
حَمِيّةُ النّفُوسِ عَنْ الطّيَرَةِ وَالْعَدْوَى فَإِنّهَا تَتَأَثّرُ
بِهِمَا فَإِنّ الطّيَرَةَ عَلَى مَنْ تَطَيّرَ بِهَا وَبِالْجُمْلَةِ
فَفِي النّهْيِ عَنْ الدّخُولِ فِي أَرْضِهِ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ
وَالْحِمْيَةِ وَالنّهْيِ عَنْ التّعَرّضِ لِأَسْبَابِ التّلَفِ . وَفِي
النّهْيِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتّوَكّلِ وَالتّسْلِيمِ
وَالتّفْوِيضِ فَالْأَوّلُ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ وَالثّانِي : تَفْوِيضٌ
وَتَسْلِيمٌ .
[ قِصّةُ عُمَرَ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ دُخُولِ الشّامِ لِوُقُوعِ الطّاعُونِ بِهَا ]
وَفِي
الصّحِيحِ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ خَرَجَ إلَى الشّامِ حَتّى إذَا
كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَأَصْحَابُهُ
فَأَخْبَرُوهُ أَنّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشّامِ فَاخْتَلَفُوا
فَقَالَ لِابْنِ عَبّاسٍ اُدْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ قَالَ
فَدَعَوْتهمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ الْوَبَاءَ قَدْ
وَقَعَ بِالشّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ خَرَجْتَ
لِأَمْرٍ فَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ . وَقَالَ آخَرُونَ مَعَك
بَقِيّةُ النّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ
عُمَرُ ارْتَفَعُوا عَنّي ثُمّ قَالَ اُدْعُ لِي الْأَنْصَارَ
فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ
وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنّي ثُمّ قَالَ
اُدْعُ لِي مِنْ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ
الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ
رَجُلَانِ قَالُوا : نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ
عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَأَذِنَ عُمَرُ فِي النّاسِ إنّي مُصْبِحٌ عَلَى
ظَهْرٍ فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ :
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفِرَارًا مَنْ قَدَرِ اللّهِ تَعَالَى ؟
قَالَ لَوْ غَيْرُك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرّ مِنْ
قَدَرِ اللّهِ تَعَالَى إلَى قَدَرِ اللّهِ [ ص 42 ] كَانَ لَك إبِلٌ
فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إحْدَاهُمَا - خِصْبَةٌ
وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَسْت إنْ رَعَيْتهَا الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا
بِقَدَرِ اللّهِ تَعَالَى وَإِنْ رَعَيْتهَا الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا
بِقَدَرِ اللّهِ تَعَالَى ؟ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
وَكَانَ مُتَغَيّبًا فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ فَقَالَ إنّ عِنْدِي فِي هَذَا
عِلْمًا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَقُولُ إذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا
مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي دَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ وَعِلَاجِهِ
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ " قَدِمَ
رَهْطٌ مِنْ عَرِينَةَ وَعُكْلٍ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى إبِلِ
الصّدَقَةِ فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا
فَلَمّا صَحّوا عَمِدُوا إلَى الرّعَاةِ فَقَتَلُوهُمْ وَاسْتَاقُوا
الْإِبِلَ وَحَارَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِهِمْ فَأَخَذُوا فَقَطَعَ
أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَأَلْقَاهُمْ فِي
الشّمْسِ حَتّى مَاتُوا " . [ ص 43 ] كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ مَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُمْ قَالُوا : إنّا
اجْتَوَيْنَا الْمَدِينَةَ فَعَظُمَتْ بُطُونَنَا وَارْتَهَشَتْ
أَعْضَاؤُنَا وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ . .. وَالْجَوَى : دَاءٌ مِنْ
أَدْوَاءِ الْجَوْفِ - وَالِاسْتِسْقَاءُ مَرَضٌ مَادّيّ سَبَبُهُ مَادّةٌ
غَرِيبَةٌ بَارِدَةٌ تَتَخَلّلُ الْأَعْضَاءَ فَتَرْبُو لَهَا إمّا
الْأَعْضَاءُ الظّاهِرَةُ كُلّهَا وَإِمّا الْمَوَاضِعُ الْخَالِيَةُ مِنْ
النّوَاحِي الّتِي فِيهَا تَدْبِيرُ الْغِذَاءِ وَالْأَخْلَاطُ
وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ لَحْمِيّ وَهُوَ أَصْعَبُهَا . وزقي وَطَبْلِيّ .
[ عِلّةُ الِاسْتِشْفَاءِ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا ]
وَلَمّا
كَانَتْ الْأَدْوِيَةُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي عِلَاجِهِ هِيَ
الْأَدْوِيَةُ الْجَالِبَةُ الّتِي فِيهَا إطْلَاقٌ مُعْتَدِلٌ
وَإِدْرَارٌ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَوْجُودَةٌ فِي
أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا أَمَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشُرْبِهَا فَإِنّ فِي لَبَنِ اللّقَاحِ جَلَاءً
وَتَلْيِينًا وَإِدْرَارًا وَتَلْطِيفًا وَتَفْتِيحًا لِلسّدَدِ إذْ كَانَ
أَكْثَرُ رَعْيِهَا الشّيحُ وَالْقَيْصُومُ وَالْبَابُونَجُ
وَالْأُقْحُوَانُ وَالْإِذْخِرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ
النّافِعَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ . وَهَذَا الْمَرَضُ لَا يَكُونُ إلّا مَعَ
آفَةٍ فِي الْكَبِدِ خَاصّةً أَوْ مَعَ مُشَارَكَةٍ وَأَكْثَرُهَا عَنْ
السّدَدِ فِيهَا وَلَبَنُ اللّقَاحِ الْعَرَبِيّةِ نَافِعٌ مِنْ السّدَدِ
لِمَا فِيهِ مِنْ التّفْتِيحِ وَالْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ . قَالَ
الرّازِيّ : لَبَنُ اللّقَاحِ يَشْفِي أَوْجَاعَ الْكَبِدِ وَفَسَادَ
الْمِزَاجِ وَقَالَ الْإِسْرَائِيلِيّ لَبَنُ اللّقَاحِ أَرَقّ
الْأَلْبَانِ وَأَكْثَرُهَا مَائِيّةً وَحِدّةً وَأَقَلّهَا غِذَاءً
فَلِذَلِكَ صَارَ أَقْوَاهَا عَلَى تَلْطِيفِ الْفُضُولِ وَإِطْلَاقِ
الْبَطْنِ وَتَفْتِيحِ السّدَدِ وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مُلُوحَتُهُ
الْيَسِيرَةُ الّتِي فِيهِ لِإِفْرَاطِ حَرَارَةٍ حَيَوَانِيّةٍ
بِالطّبْعِ وَلِذَلِكَ صَارَ أَخَصّ الْأَلْبَانِ بِتَطْرِيَةِ الْكَبِدِ
وَتَفْتِيحِ سَدَدِهَا وَتَحْلِيلِ صَلَابَةِ الطّحَالِ إذَا كَانَ
حَدِيثًا [ ص 44 ] وَجَبَ أَنْ يُطْلَقَ بِدَوَاءٍ مُسَهّلٍ . قَالَ
صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا يُقَالُ مِنْ أَنّ
طَبِيعَةَ اللّبَنِ مُضَادّةٌ لِعِلَاجِ الِاسْتِسْقَاءِ . قَالَ
وَاعْلَمْ أَنّ لَبَنَ النّوقِ دَوَاءٌ نَافِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ
الْجَلَاءِ بِرِفْقٍ وَمَا فِيهِ مِنْ خَاصّيّةٍ وَأَنّ هَذَا اللّبَنَ
شَدِيدُ الْمَنْفَعَةِ فَلَوْ أَنّ إنْسَانًا أَقَامَ عَلَيْهِ بَدَلَ
الْمَاءِ وَالطّعَامِ شُفِيَ بِهِ وَقَدْ جُرّبَ ذَلِكَ فِي قَوْمٍ
دَفَعُوا إلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَقَادَتْهُمْ الضّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ
فَعُوفُوا . وَأَنْفَعُ الْأَبْوَالِ بَوْلُ الْجَمَلِ الْأَعْرَابِيّ
وَهُوَ النّجِيبُ انْتَهَى .
[ طَهَارَةُ بَوْلٍ مَأْكُولِ اللّحْمِ ]
وَفِي
الْقِصّةِ دَلِيلٌ عَلَى التّدَاوِي وَالتّطَبّبِ وَعَلَى طَهَارَةِ
بَوْلِ مَأْكُولِ اللّحْمِ فَإِنّ التّدَاوِي بِالْمُحَرّمَاتِ غَيْرُ
جَائِزٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ
بِغَسْلِ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا أَصَابَتْهُ ثِيَابُهُمْ مِنْ أَبْوَالِهَا
لِلصّلَاةِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ .
[مُقَاتَلَةُ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ ]
وَعَلَى
مُقَاتَلَةِ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ فَإِنّ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا
الرّاعِيَ وَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "
. وَعَلَى قَتْلِ الْجَمَاعَةِ وَأَخْذِ أَطْرَافِهِمْ بِالْوَاحِدِ .
[ اجْتِمَاعُ الْحَدّ وَالْقِصَاصِ ]
وَعَلَى
أَنّهُ إذَا اجْتَمَعَ فِي حَقّ الْجَانِي حَدّ وَقِصَاصٌ اسْتَوْفَيَا
مَعًا فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَطَعَ
أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ حَدّا لِلّهِ عَلَى حِرَابِهِمْ وَقَتَلَهُمْ
لِقَتْلِهِمْ الرّاعِيَ . [ ص 45 ] أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ
يَدُهُ وَرِجْلُهُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ وَقُتِلَ .
[إذَا تَعَدّدَتْ الْجِنَايَاتُ تَغَلّظَتْ عُقُوبَاتُهَا ]
وَعَلَى
أَنّ الْجِنَايَاتِ إذَا تَعَدّدَتْ تَغَلّظَتْ عُقُوبَاتُهَا فَإِنّ
هَؤُلَاءِ ارْتَدّوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَقَتَلُوا النّفْسَ وَمَثّلُوا
بِالْمَقْتُولِ وَأَخَذُوا الْمَالَ وَجَاهَرُوا بِالْمُحَارَبَةِ .
[ حُكْمُ رَدْءِ الْمُحَارِبِينَ حُكْمُ مُبَاشِرِهِمْ ]
وَعَلَى
أَنّ حُكْمَ رَدْءِ الْمُحَارِبِينَ حُكْمُ مُبَاشِرِهِمْ فَإِنّهُ مِنْ
الْمَعْلُومِ أَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ
بِنَفْسِهِ وَلَا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ
ذَلِكَ .
[ قَتْلُ الْغِيلَةِ يُوجِبُ قَتْلَ الْقَاتِلِ حَدّا ]
وَعَلَى
أَنّ قَتْلَ الْغِيلَةِ يُوجِبُ قَتْلَ الْقَاتِلِ حَدّا فَلَا يُسْقِطُهُ
الْعَفْوُ وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ وَهَذَا مَذْهَب ُ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد َ
اخْتَارَهُ شَيْخُنَا وَأَفْتَى بِهِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْجُرْحِ
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ
يَسْأَلُ عَمّا دُووِيَ بِهِ جُرْحُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ " جُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ
رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ
بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَغْسِلُ الدّمَ
وَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنّ
فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدّمَ لَا يَزِيدُ إلّا كَثْرَةً أَخَذَتْ
قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا حَتّى إذَا صَارَتْ رَمَادًا
أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ " بِرَمَادِ الْحَصِيرِ
الْمَعْمُولِ مِنْ الْبَرْدِيّ وَلَهُ فِعْلٌ قَوِيّ فِي حَبْسِ الدّمِ
لِأَنّ فِيهِ تَجْفِيفًا قَوِيّا وَقِلّةَ لَذْعٍ فَإِنّ الْأَدْوِيَةَ
الْقَوِيّةَ التّجْفِيفِ إذَا كَانَ فِيهَا لَذْعٌ [ ص 46 ] أَنْفِ
الرّاعِفِ قُطِعَ رُعَافُهُ . وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " :
الْبَرْدِيّ يَنْفَعُ مِنْ النّزْفِ وَيَمْنَعُهُ وَيُذَرّ عَلَى
الْجِرَاحَاتِ الطّرِيّةِ فَيُدْمِلُهَا وَالْقِرْطَاسُ الْمِصْرِيّ كَانَ
قَدِيمًا يُعْمَلُ مِنْهُ وَمِزَاجُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَرَمَادُهُ
نَافِعٌ مِنْ أَكَلَةِ الْفَمِ وَيَحْبِسُ نَفَثَ الدّمِ وَيَمْنَعُ
الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ أَنْ تَسْعَى .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الْعِلَاجِ بِشُرْبِ الْعَسَلِ وَالْحِجَامَةِ وَالْكَيّ
فِي
" صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الشّفَاءُ
فِي ثَلَاثٍ : شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيّةِ نَارٍ
وَأَنَا أَنْهَى أُمّتِي عَنْ الْكَيّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ
الْمَازِرِيّ : الْأَمْرَاضُ الِامْتِلَائِيّة : إمّا أَنْ تَكُونَ
دَمَوِيّةً أَوْ صَفْرَاوِيّةً أَوْ بَلْغَمِيّةً أَوْ سَوْدَاوِيّةً .
فَإِنْ كَانَتْ دَمَوِيّةً فَشِفَاؤُهَا إخْرَاجُ الدّمِ وَإِنْ كَانَتْ
مِنْ الْأَقْسَامِ الثّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ فَشِفَاؤُهَا بِالْإِسْهَالِ
الّذِي يَلِيقُ بِكُلّ خَلْطٍ مِنْهَا وَكَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نَبّهَ بِالْعَسَلِ عَلَى الْمُسَهّلَاتِ وَبِالْحِجَامَةِ عَلَى
الْفَصْدِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النّاسِ إنّ الْفَصْدَ يَدْخُلُ فِي
قَوْلِهِ شُرْطَةِ مِحْجَمٍ . فَإِذَا أَعْيَا الدّوَاءُ فَآخِرُ الطّبّ
الْكَيّ فَذَكَرَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَدْوِيَةِ
لِأَنّهُ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ غَلَبَةِ الطّبَاعِ لِقُوَى الْأَدْوِيَةِ
وَحَيْثُ لَا يَنْفَعُ الدّوَاءُ الْمَشْرُوبُ . وَقَوْلُهُ وَأَنَا
أَنْهَى أُمّتِي عَنْ الْكَيّ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَمَا أُحِبّ
أَنْ أَكْتَوِيَ إشَارَةً إلَى أَنْ يُؤَخّرَ الْعِلَاجَ بِهِ حَتّى [ ص
47 ] أَضْعَفَ مِنْ أَلَمِ الْكَيّ انْتَهَى كَلَامُهُ .
[الْأَمْرَاضُ الْمِزَاجِيّةُ وَعِلَاجُهَا ]
وَقَالَ
بَعْضُ الْأَطِبّاءِ الْأَمْرَاضُ الْمِزَاجِيّةُ إمّا أَنْ تَكُونَ
بِمَادّةٍ أَوْ بِغَيْرِ مَادّةٍ وَالْمَادّيّةُ مِنْهَا : إمّا حَارّةٌ
أَوْ بَارِدَةٌ أَوْ رَطْبَةٌ أَوْ يَابِسَةٌ أَوْ مَا تَرَكّبَ مِنْهَا
وَهَذِهِ الْكَيْفِيّاتُ الْأَرْبَعُ مِنْهَا كَيْفِيّتَانِ فَاعِلَتَانِ
وَهُمَا الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَكَيْفِيّتَانِ مُنْفَعِلَتَانِ
وَهُمَا الرّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ وَيَلْزَمُ مِنْ غَلَبَةِ إحْدَى
الْكَيْفِيّتَيْنِ الْفَاعِلَتَيْنِ اسْتِصْحَابُ كَيْفِيّةٍ مُنْفَعِلَةٍ
مَعَهَا وَكَذَلِكَ كَانَ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخْلَاطِ
الْمَوْجُودَةِ فِي الْبَدَنِ وَسَائِرِ الْمُرَكّبَاتِ كَيْفِيّتَانِ
فَاعِلَةٌ وَمُنْفَعِلَةٌ .
[ الْعِلَاجُ بِإِخْرَاجِ الدّمِ ]
فَحَصَلَ
مِنْ ذَلِكَ أَنّ أَصْلَ الْأَمْرَاضِ الْمِزَاجِيّةِ هِيَ التّابِعَةُ
لِأَقْوَى كَيْفِيّاتِ الْأَخْلَاطِ الّتِي هِيَ الْحَرَارَةُ
وَالْبُرُودَةُ فَجَاءَ كَلَامُ النّبُوّةِ فِي أَصْلِ مُعَالَجَةِ
الْأَمْرَاضِ الّتِي هِيَ الْحَارّةُ وَالْبَارِدَةُ عَلَى طَرِيقِ
التّمْثِيلِ فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ حَارّا عَالَجْنَاهُ بِإِخْرَاجِ
الدّمِ بِالْفَصْدِ كَانَ أَوْ بِالْحِجَامَةِ لِأَنّ فِي ذَلِكَ
اسْتِفْرَاغًا لِلْمَادّةِ وَتَبْرِيدًا لِلْمِزَاجِ . وَإِنْ كَانَ
بَارِدًا عَالَجْنَاهُ بِالتّسْخِينِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْعَسَلِ
فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى اسْتِفْرَاغِ الْمَادّةِ
الْبَارِدَةِ فَالْعَسَلُ أَيْضًا يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ
الْإِنْضَاجِ وَالتّقْطِيعِ وَالتّلْطِيفِ وَالْجَلَاءِ وَالتّلْيِينِ
فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ اسْتِفْرَاغُ تِلْكَ الْمَادّةِ بِرِفْقٍ وَأَمْنٍ
مِنْ نِكَايَةِ الْمُسَهّلَاتِ الْقَوِيّةِ .
[ الْعِلَاجُ بِالْكَيّ]ِ
وَأَمّا
الْكَيّ فَلِأَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ إمّا أَنْ
يَكُونَ حَادّا فَيَكُونُ سَرِيعَ الْإِفْضَاءِ لِأَحَدِ الطّرَفَيْنِ
فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُزْمِنًا وَأَفْضَلُ
عِلَاجِهِ بَعْدَ الِاسْتِفْرَاغِ الْكَيّ فِي الْأَعْضَاءِ الّتِي
يَجُوزُ فِيهَا الْكَيّ لِأَنّهُ لَا يَكُونُ مُزْمِنًا إلّا عَنْ مَادّةٍ
بَارِدَةٍ غَلِيظَةٍ قَدْ رَسَخَتْ فِي الْعُضْوِ وَأَفْسَدَتْ مِزَاجَهُ
وَأَحَالَتْ جَمِيعَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَى مُشَابَهَةِ جَوْهَرِهَا
فَيَشْتَعِلُ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ فَيُسْتَخْرَجُ بِالْكَيّ تِلْكَ
الْمَادّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي هُوَ فِيهِ بِإِفْنَاءِ
الْجُزْءِ النّارِيّ الْمَوْجُودِ بِالْكَيّ لِتِلْكَ الْمَادّةِ . [ ص 48
] أَخْذَ مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ جَمِيعِهَا كَمَا
اسْتَنْبَطْنَا مُعَالَجَةَ الْأَمْرَاضِ السّاذَجَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ شِدّةَ الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ
فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ .
فَصْلٌ [ الْعِلَاجُ بِالْحِجَامَةِ ]
وَأَمّا
الْحِجَامَةُ فَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ جُبَارَةَ بْنِ
الْمُغَلّسِ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ كَثِيرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْت
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَا مَرَرْتُ لَيْلَةً أُسْرِيَ بِي بِمَلَإٍ إلّا قَالُوا : يَا
مُحَمّدُ مُرْ أُمّتَكَ بِالْحِجَامَة وَرَوَى التّرْمِذِيّ فِي "
جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ
عَلَيْك بِالْحِجَامَةِ يَا مُحَمّدُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ
حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجّامَ أَجْرَهُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ
" أَيْضًا عَنْ حُمَيْدٍ الطّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ
بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفّفُوا عَنْهُ مِنْ
ضَرِيبَتِهِ وَقَالَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ [ ص 49 ]
وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْ عَبّادِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ
سَمِعْت عِكْرِمَةَ يَقُولُ كَانَ لِابْنِ عَبّاسٍ غِلْمَةٌ ثَلَاثَةٌ
حَجّامُونَ فَكَانَ اثْنَانِ يُغَلّانِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ
وَوَاحِدٌ لِحَجْمِهِ وَحَجْمِ أَهْلِهِ . قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ :
قَالَ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِعْمَ الْعَبْدُ
الْحَجّامُ يَذْهَبُ بِالدّمِ وَيُخِفّ الصّلْبَ وَيَجْلُو الْبَصَرَ
وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْثُ عُرِجَ
بِهِ مَا مَرّ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلّا قَالُوا : عَلَيْكَ
بِالْحِجَامَةِ وَقَال : إنّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمَ
سَبْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمَ إحْدَى وَعِشْرِينَ
وَقَالَ إنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السّعُوطُ وَاللّدُودُ
وَالْحِجَامَةُ وَالْمَشْيُ وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لُدّ فَقَالَ مَنْ لَدّنِي ؟ فَكُلّهُمْ أَمْسَكُوا فَقَالَ لَا
يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إلّا لُدّ إلّا الْعَبّاسَ قَالَ هَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
فَصْلٌ [ مَنَافِعُ الْحِجَامَةِ ]
وَأَمّا
مَنَافِعُ الْحِجَامَةِ فَإِنّهَا تُنَقّي سَطْحَ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنْ
الْفَصْدِ وَالْفَصْدُ لِأَعْمَاقِ الْبَدَنِ أَفْضَلُ وَالْحِجَامَةُ
تَسْتَخْرِجُ الدّمَ مِنْ نَوَاحِي الْجِلْدِ . قُلْت : وَالتّحْقِيقُ فِي
أَمْرِهَا وَأَمْرِ الْفَصْدِ أَنّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ
الزّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالْأَمْزِجَةِ فَالْبِلَادُ
الْحَارّةُ وَالْأَزْمِنَةُ الْحَارّةُ وَالْأَمْزِجَةُ الْحَارّةُ الّتِي
دُمّ أَصْحَابُهَا فِي غَايَةِ النّضْجِ الْحِجَامَةُ فِيهَا أَنْفَعُ
مِنْ الْفَصْدِ بِكَثِيرٍ فَإِنّ الدّمَ يَنْضَجُ وَيَرِقّ وَيَخْرُجُ
إلَى سَطْحِ الْجَسَدِ الدّاخِلِ فَتَخْرُجُ الْحِجَامَةُ مَا لَا
يُخْرِجُهُ الْفَصْدُ وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَنْفَعَ لِلصّبْيَانِ مِنْ
الْفَصْدِ وَلِمَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْفَصْدِ وَقَدْ نَصّ الْأَطِبّاءُ
عَلَى أَنّ الْبِلَادَ الْحَارّةَ الْحِجَامَةُ فِيهَا أَنْفَعُ
وَأَفْضَلُ مِنْ الْفَصْدِ وَتُسْتَحَبّ فِي وَسَطِ الشّهْرِ وَبَعْدَ
وَسَطِهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فِي الرّبُعِ الثّالِثِ مِنْ أَرْبَاعِ
الشّهْرِ لِأَنّ الدّمَ فِي أَوّلِ الشّهْرِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ
هَاجَ وَتَبَيّغَ وَفِي آخِرِهِ يَكُونُ [ ص 50 ] سَكَنَ . وَأَمّا فِي
وَسَطِهِ وبَعِيدِهِ فَيَكُونُ فِي نِهَايَةِ التّزَيّدِ . قَالَ صَاحِبُ
" الْقَانُونِ " : وَيُؤْمَرُ بِاسْتِعْمَالِ الْحِجَامَةِ لَا فِي أَوّلِ
الشّهْرِ لِأَنّ الْأَخْلَاطَ لَا تَكُونُ قَدْ تَحَرّكَتْ وَهَاجَتْ
وَلَا فِي آخِرِهِ لِأَنّهَا تَكُونُ قَدْ نَقَصَتْ بَلْ فِي وَسَطِ
الشّهْرِ حِينَ تَكُونُ الْأَخْلَاطُ هَائِجَةً بَالِغَةً فِي
تَزَايُدِهَا لِتَزَيّدِ النّورِ فِي جُرْمِ الْقَمَرِ . وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ
خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ وَفِي حَدِيثٍ خَيْرُ الدّوَاءِ الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ . انْتَهَى .
[ الْإِشَارَةُ بِالْحِجَامَةِ إلَى أَهْلِ ]
[ مَوَاضِعُ الْفَصْدِ وَنَفْعِهَا ]
وَقَوْلِهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ
الْحِجَامَةُ إشَارَةً إلَى أ َهْلِ الْحِجَازِ وَالْبِلَادِ الْحَارّةِ
لِأَنّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَهِيَ أَمْيَلُ إلَى ظَاهِرِ أَبْدَانِهِمْ
لِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ لَهَا إلَى سَطْحِ الْجَسَدِ
وَاجْتِمَاعِهَا فِي نَوَاحِي الْجِلْدِ وَلِأَنّ مَسَامّ أَبْدَانِهِمْ
وَاسِعَةٌ وَقُوَاهُمْ مُتَخَلْخِلَةٌ فَفِي الْفَصْدِ لَهُمْ خَطَرٌ
وَالْحِجَامَةُ تَفَرّقٌ اتّصَالِيّ إرَادِيّ يَتْبَعُهُ اسْتِفْرَاغٌ
كُلّيّ مِنْ الْعُرُوقِ وَخَاصّةً الْعُرُوقَ الّتِي لَا تُفْصَدُ
كَثِيرًا وَلِفَصْدِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَفْعٌ خَاصّ فَفَصْدُ الباسليق
: يَنْفَعُ مِنْ [ ص 51 ] الْحِجَازِ و َالْبِلَادِ الْحَارّةِ لِأَنّ
دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَهِيَ أَمْيَلُ إلَى ظَاهِرِ أَبْدَانِهِمْ
لِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ لَهَا إلَى سَطْحِ الْجَسَدِ
وَاجْتِمَاعِهَا فِي نَوَاحِي الْجِلْدِ وَلِأَنّ مَسَامّ أَبْدَانِهِمْ
وَاسِعَةٌ وَقُوَاهُمْ مُتَخَلْخِلَةٌ فَفِي الْفَصْدِ لَهُمْ خَطَرٌ
وَالْحِجَامَةُ تَفَرّقٌ اتّصَالِيّ إرَادِيّ يَتْبَعُهُ اسْتِفْرَاغٌ
كُلّيّ مِنْ الْعُرُوقِ وَخَاصّةً الْعُرُوقَ الّتِي لَا تُفْصَدُ
كَثِيرًا وَلِفَصْدِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَفْعٌ خَاصّ فَفَصْدُ الباسليق
: يَنْفَعُ مِنْ [ ص 51 ] الرّئَةِ وَيَنْفَعُ مِنْ الشّوْصَةِ وَذَاتِ
الْجَنْبِ وَجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ الدّمَوِيّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ
أَسْفَلِ الرّكْبَةِ إلَى الْوَرِكِ . وَفَصْدُ الْأَكْحَلِ يَنْفَعُ مِنْ
الِامْتِلَاءِ الْعَارِضِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ إذَا كَانَ دَمَوِيّا
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدّمُ قَدْ فَسَدَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ .
وَفَصْدُ الْقِيفَالِ يَنْفَعُ مِنْ الْعِلَلِ الْعَارِضَةِ فِي الرّأْسِ
وَالرّقَبَةِ مِنْ كَثْرَةِ الدّمِ أَوْ فَسَادِهِ . وَفَصْدُ
الْوَدَجَيْنِ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الطّحَالِ وَالرّبْوِ وَالْبَهَرِ
وَوَجَعِ الْجَبِينِ . وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْكَاهِلِ تَنْفَعُ مِنْ
وَجَعِ الْمَنْكِبِ وَالْحَلْقِ . وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ
تَنْفَعُ مِنْ أَمْرَاضِ الرّأْسِ وَأَجْزَائِهِ كَالْوَجْهِ
وَالْأَسْنَانِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْحَلْقِ
إذَا كَانَ حُدُوثُ ذَلِكَ عَنْ كَثْرَةِ الدّمِ أَوْ فَسَادِهِ أَوْ
عَنْهُمَا جَمِيعًا . قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَجِمُ فِي
الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِل
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ كَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَجِمُ ثَلَاثًا :
وَاحِدَةً عَلَى كَاهِلِهِ وَاثْنَتَيْنِ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ . [ ص 52
] احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ لِصُدَاعٍ كَانَ بِهِ
وَفِي
" سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ عَلِيّ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحِجَامَةِ الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ
وَفِي
" سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ فِي وَرِكِهِ مِنْ وَثْءٍ كَانَ بِهِ
فَصْلٌ [ اخْتِلَافُ الْأَطِبّاءِ فِي الْحِجَامَةِ عَلَى نُقْرَةِ الْقَفَا ]
وَاخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ فِي الْحِجَامَةِ عَلَى نُقْرَةِ الْقَفَا وَهِيَ القمحدوة .
وَذَكَرَ
أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطّبّ النّبَوِيّ حَدِيثًا مَرْفُوعًا
عَلَيْكُمْ بِالْحِجَامَةِ فِي جَوْزَةِ القمحدوة فَإِنّهَا تَشْفِي مِنْ
خَمْسَةِ أَدْوَاءٍ ذَكَرَ مِنْهَا الْجُذَامَ
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ
عَلَيْكُمْ بِالْحِجَامَةِ فِي جَوْزَةِ القمحدوة فَإِنّهَا شِفَاءٌ مِنْ
اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دَاءً فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ اسْتَحْسَنَتْهُ
وَقَالَتْ إنّهَا تَنْفَعُ مِنْ جَحْظِ الْعَيْنِ وَالنّتُوءِ الْعَارِضِ
[ ص 53 ] أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ احْتَاجَ إلَيْهَا فَاحْتَجَمَ فِي
جَانِبَيْ قَفَاهُ وَلَمْ يَحْتَجِمْ فِي النّقْرَةِ وَمِمّنْ كَرِهَهَا
صَاحِبُ " الْقَانُونِ " وَقَالَ إنّهَا تُورِثُ النّسْيَانَ حَقّا كَمَا
قَالَ سَيّدُنَا وَمَوْلَانَا وَصَاحِبُ شَرِيعَتِنَا مُحَمّدٌ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ مُؤَخّرَ الدّمَاغِ مَوْضِعُ الْحِفْظِ
وَالْحِجَامَةُ تُذْهِبُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَرَدّ عَلَيْهِ آخَرُونَ
وَقَالُوا : الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ وَإِنْ ثَبَتَ فَالْحِجَامَةُ إنّمَا
تُضْعِفُ مُؤَخّرِ الدّمَاغِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ
فَأَمّا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِغَلَبَةِ الدّمِ عَلَيْهِ فَإِنّهَا
نَافِعَةٌ لَهُ طِبّا وَشَرْعًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ احْتَجَمَ فِي عِدّةِ أَمَاكِنَ مِنْ قَفَاهُ
بِحَسْبِ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ وَاحْتَجَمَ فِي غَيْرِ
الْقَفَا بِحَسْبِ مَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَتُهُ .
فَصْلٌ [ تَتِمّةُ الْكَلَامِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحِجَامَةِ وَنَفْعِهَا ]
وَالْحِجَامَةُ
تَحْتَ الذّقَنِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَالْوَجْهُ
وَالْحُلْقُومُ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي وَقْتِهَا وَتُنَقّي الرّأْسَ
وَالْفَكّيْنِ وَالْحِجَامَةُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ تَنُوبُ عَنْ فَصْدِ
الصّافِنِ وَهُوَ عِرْقٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْكَعْبِ وَتَنْفَعُ مِنْ
قُرُوحِ الْفَخِذَيْنِ وَالسّاقَيْنِ وَانْقِطَاعِ الطّمْثِ وَالْحِكّةِ
الْعَارِضَةِ فِي الْأُنْثَيَيْنِ وَالْحِجَامَةُ فِي أَسْفَلِ الصّدْرِ
نَافِعَةٌ مِنْ دَمَامِيلِ الْفَخِذِ وَجَرَبِهِ وَبُثُورِهِ وَمِنْ
النّقْرِسِ وَالْبَوَاسِيرِ وَالْفِيلِ وَحِكّةِ الظّهْرِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي أَوْقَاتِ الْحِجَامَةِ
رَوَى
التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ
إنّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِي يَوْمِ سَابِعَ عَشْرَةَ أَوْ تَاسِعَ
عَشْرَةَ وَيَوْمِ إحْدَى وَعِشْرِينَ
[ ص 54 ] أَنَسٍ كَانَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ
وَالْكَاهِلِ وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَةَ عَشَرَ وَتِسْعَةَ عَشَرَ
وَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَنَسٍ
مَرْفُوعًا : مَنْ أَرَادَ الْحِجَامَةَ فَلْيَتَحَرّ سَبْعَةَ عَشَرَ
أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ لَا يَتَبَيّغْ
بِأَحَدِكُمْ الدّمُ فَيَقْتُلَهُ " وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : مَنْ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ
أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَتْ شِفَاءً مِنْ كُلّ
دَاءٍ وَهَذَا مَعْنَاهُ مِنْ كُلّ دَاءٍ سَبَبُهُ غَلَبَةُ الدّمِ .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُوَافِقَةٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَطِبّاءُ
أَنّ الْحِجَامَةَ فِي النّصْفِ الثّانِي وَمَا يَلِيهِ مِنْ الرّبُعِ
الثّالِثِ مِنْ أَرْبَاعِهِ أَنْفَعُ مِنْ أَوّلِهِ وَآخِرِهِ وَإِذَا
اُسْتُعْمِلَتْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا نَفَعَتْ أَيّ وَقْتٍ كَانَ
مِنْ أَوّلِ الشّهْرِ وَآخِرِهِ .
قَالَ الْخَلّالُ أَخْبَرَنِي
عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ قَالَ حَدّثَنَا حَنْبَلٌ قَالَ كَانَ أَبُو عَبْدِ
اللّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَحْتَجِمُ أَيّ وَقْتٍ هَاجَ بِهِ الدّمُ
وَأَيّ سَاعَةٍ كَانَتْ . وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : أَوْقَاتُهَا
فِي النّهَارِ السّاعَةُ الثّانِيَةُ أَوْ الثّالِثَةُ وَيَجِبُ
تَوَقّيهَا بَعْدَ الْحَمّامِ إلّا فِيمَنْ دَمُهُ غَلِيظٌ فَيَجِبُ أَنْ
يَسْتَحِمّ ثُمّ يَسْتَجِمّ سَاعَةً ثُمّ يَحْتَجِمُ انْتَهَى .
[مَفَاسِدُ الْحِجَامَةِ عَلَى الشّبَعِ ]
وَتُكْرَهُ
عِنْدَهُمْ الْحِجَامَةُ عَلَى الشّبَعِ فَإِنّهَا رُبّمَا أَوْرَثَتْ
سَدَدًا وَأَمْرَاضًا رَدِيئَةً لَا سِيّمَا إذَا كَانَ الْغِذَاءُ
رَدِيئًا غَلِيظًا .
وَفِي أَثَرٍ الْحِجَامَةُ عَلَى الرّيقِ دَوَاءٌ
وَعَلَى الشّبَعِ دَاءٌ وَفِي سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشّهْرِ شِفَاءٌ " .
[ ص 55 ] الْأَوْقَاتِ لِلْحِجَامَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ
الِاحْتِيَاطِ وَالتّحَرّزِ مِنْ الْأَذَى وَحِفْظًا لِلصّحّةِ . وَأَمّا
فِي مُدَاوَاةِ الْأَمْرَاضِ فَحَيْثُمَا وُجِدَ الِاحْتِيَاجُ إلَيْهَا
وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا . وَفِي قَوْلِهِ " لَا يَتَبَيّغْ بِأَحَدِكُمْ
الدّمَ فَيَقْتُلَهُ " دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي لِئَلّا يَتَبَيّغَ
فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرّ مَعَ ( أَنّ ثُمّ حُذِفَتْ ( أَنّ . وَالتّبَيّغُ
الْهَيْجُ وَهُوَ مَقْلُوبُ الْبَغْيِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فَإِنّهُ بَغْيُ
الدّمِ وَهَيَجَانُهُ . وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ الْإِمَامَ أَحْمَدُ كَانَ
يَحْتَجِمُ أَيّ وَقْتٍ احْتَاجَ مِنْ الشّهْرِ .
فَصْلٌ [اخْتِيَارُ أَيّامِ الْأُسْبُوعِ لِلْحِجَامَةِ ]
وَأَمّا
اخْتِيَارُ أَيّامِ الْأُسْبُوعِ لِلْحِجَامَةِ فَقَالَ الْخَلّالُ فِي "
جَامِعِهِ " : أَخْبَرَنَا حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ قُلْتُ
لِأَحْمَدَ تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيّامِ ؟ قَالَ
قَدْ جَاءَ فِي الْأَرْبِعَاءِ وَالسّبْتِ .
وَفِيهِ عَنْ الْحُسَيْنِ
بْنِ حَسّانَ أَنّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنْ الْحِجَامَةِ أَيّ
يَوْمٍ تَكْرَهُ ؟ فَقَالَ فِي يَوْمِ السّبْتِ وَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ
وَيَقُولُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
وَرَوَى الْخَلّالُ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا
: مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ يَوْمَ السّبْتِ فَأَصَابَهُ
بَيَاضٌ أَوْ بَرَصٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ
وَقَالَ الْخَلّالُ
أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ جَعْفَرٍ أَنّ يَعْقُوبَ بْنَ
بختان حَدّثَهُمْ قَالَ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ النّورَةِ وَالْحِجَامَةِ
يَوْمَ السّبْتِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ؟ فَكَرِهَهَا .
وَقَالَ
بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ أَنّهُ تَنَوّرَ وَاحْتَجَمَ يَعْنِي يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ [ ص 56 ] قَالَ نَعَمْ . وَفِي كِتَابِ "
الْأَفْرَادِ " لِلدّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ قَالَ قَالَ لِي
عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : تَبَيّغَ بِي الدّمُ فَابْغِ لِي حَجّامًا
وَلَا يَكُنْ صَبِيّا وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا فَإِنّي سَمِعْت رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ الْحِجَامَةُ تَزِيدُ
الْحَافِظَ حِفْظًا وَالْعَاقِلَ عَقْلًا فَاحْتَجِمُوا عَلَى اسْمِ
اللّهِ تَعَالَى وَلَا تَحْتَجِمُوا الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسّبْتَ
وَالْأَحَدَ وَاحْتَجِمُوا الِاثْنَيْنِ وَمَا كَانَ مِنْ جُذَامٍ وَلَا
بَرَصٍ إلّا نَزَلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ :
تَفَرّدَ بِهِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى وَقَدْ رَوَاهُ أَيّوبُ عَنْ نَافِعٍ
وَقَالَ فِيهِ وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَاءِ وَلَا
تَحْتَجِمُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي "
سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنّهُ كَانَ يَكْرَهُ
الْحِجَامَةَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمُ الثّلَاثَاءِ يَوْمُ الدّمِ
وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدّمُ
فَصْلٌ [ جَوَازُ احْتِجَامِ الصّائِمِ وَالْخِلَافُ فِي فِطْرِهِ ]
وَفِي
ضِمْنِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدّمَةِ اسْتِحْبَابُ التّدَاوِي
وَاسْتِحْبَابُ الْحِجَامَةِ وَأَنّهَا تَكُونُ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي
يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَجَوَازُ احْتِجَامِ الْمُحْرِمِ وَإِنْ آلَ إلَى
قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ الشّعَرِ فَإِنّ ذَلِكَ جَائِزٌ . وَفِي وُجُوبِ
الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ نَظَرٌ وَلَا يَقْوَى الْوُجُوبُ وَجَوَازُ
احْتِجَامِ الصّائِمِ فَإِنّ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ
وَلَكِنْ
هَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى الصّوَابُ
الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ لِصِحّتِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ [ ص 57 ] كَانَ فَرْضًا .
الثّانِي : أَنّهُ كَانَ مُقِيمًا .
الثّالِثُ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَرَضٌ احْتَاجَ مَعَهُ إلَى الْحِجَامَةِ .
الرّابِعُ
أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَأَخّرٌ عَنْ قَوْلِهِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ
وَالْمَحْجُومُ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدّمَاتُ الْأَرْبَعُ
أَمْكَنَ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلَى بَقَاءِ الصّوْمِ مَعَ الْحِجَامَةِ وَإِلّا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ
يَكُونَ الصّوْمُ نَفْلًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِالْحِجَامَةِ
وَغَيْرِهَا أَوْ مِنْ رَمَضَانَ لَكِنّهُ فِي السّفَرِ أَوْ مِنْ
رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ لَكِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا كَمَا تَدْعُو
حَاجَةُ مَنْ بِهِ مَرَضٌ إلَى الْفِطْرِ أَوْ يَكُونُ فَرْضًا مِنْ
رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا لَكِنّهُ مُبْقًى
عَلَى الْأَصْلِ . وَقَوْلُهُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ نَاقِلٌ
وَمُتَأَخّرٌ فَيَتَعَيّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى
إثْبَاتِ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدّمَاتِ الْأَرْبَعِ فَكَيْفَ
بِإِثْبَاتِهَا كُلّهَا . وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ الطّبِيبِ
وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدِ إجَارَةٍ بَلْ يُعْطِيهِ أُجْرَةَ
الْمِثْلِ أَوْ مَا يُرْضِيهِ .
[ جَوَازُ التّكَسّبِ بِصِنَاعَةِ الْحِجَامَةِ ]
وَفِيهَا
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التّكَسّبِ بِصِنَاعَةِ الْحِجَامَةِ وَإِنْ كَانَ
لَا يَطِيبُ لِلْحُرّ [ ص 58 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَاهُ
أَجْرَهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ أَكْلِهِ وَتَسْمِيَتِهِ إيّاهُ خَبِيثًا
كَتَسْمِيَتِهِ لِلثّومِ وَالْبَصَلِ خَبِيثَيْنِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ
ذَلِكَ تَحْرِيمُهُمَا . جَوَازُ ضَرْبِ الرّجُلِ الْخَرَاجَ عَلَى
عَبْدِهِ كُلّ يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
ضَرْبِ الرّجُلِ الْخَرَاجَ عَلَى عَبْدِهِ كُلّ يَوْمٍ شَيْئًا
مَعْلُومًا بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَأَنّ الْعَبْدَ أَنْ يَتَصَرّفَ فِيمَا
زَادَ عَلَى خَرَاجِهِ وَلَوْ مُنِعَ مِنْ التّصَرّفِ لَكَانَ كَسْبُهُ
كُلّهُ خَرَاجًا وَلَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيرِهِ فَائِدَةٌ بَلْ مَا زَادَ
عَلَى خَرَاجِهِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ مِنْ سَيّدِهِ لَهُ يَتَصَرّفُ فِيهِ
كَمَا أَرَادَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَطْعِ الْعُرُوقِ وَالْكَيّ
ثَبَتَ
فِي " الصّحِيحِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَى أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا
فَقَطَعَ لَهُ عِرْقًا وَكَوَاهُ عَلَيْه
وَلَمّا رُمِيَ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ حَسَمَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ثُمّ وَرَمَتْ فَحَسَمَهُ الثّانِيَةَ وَالْحَسْمُ هُوَ الْكَيّ .
وَفِي
طَرِيقٍ آخَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى سَعْدَ
بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ ثُمّ حَسَمَهُ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ أَنّ
رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ رُمِيَ فِي أَكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ فَأَمَرَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ فَكُوِي وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ : وَقَدْ أُتِيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِرَجُلٍ نُعِتَ لَهُ الْكَيّ فَقَالَ اكْوُوهُ وَارْضِفُوهُ قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ : الرّضْفُ الْحِجَارَةُ تُسَخّنُ ثُمّ يُكْمَدُ بِهَا . [ ص 59
] وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ : حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي
الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَوَاهُ فِي أَكْحَلِه وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ أَنّهُ كُوِيَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيّ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنْ
الشّوْكَة وَقَدْ تَقَدّمَ الْحَدِيثُ الْمُتّفَقُ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَمَا
أُحِبّ أَنْ أَكْتَوِيَ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ وَأَنَا أَنْهَى أُمّتِي عَنْ
الْكَيّ
وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ
الْكَيّ قَالَ فَابْتُلِينَا فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا
أَنْجَحْنَا وَفِي لَفْظٍ نُهِينَا عَنْ الْكَيّ وَقَالَ فَمَا أَفْلَحْنَ
وَلَا أَنْجَحْنَ قَالَ الْخَطّابِيّ : إنّمَا كَوَى سَعْدًا لِيَرْقَأَ
الدّمُ مِنْ جُرْحِهِ وَخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِفَ فَيَهْلَكُ .
وَالْكَيّ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا يُكْوَى مَنْ تُقْطَعُ
يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ . وَأَمّا النّهْيُ عَنْ الْكَيّ فَهُوَ أَنْ
يَكْتَوِيَ طَلَبًا لِلشّفَاءِ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنّهُ [ ص 60 ]
هَلَكَ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ لِأَجْلِ هَذِهِ النّيّةِ . وَقِيلَ إنّمَا
نَهَى عَنْهُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ خَاصّةً لِأَنّهُ كَانَ بِهِ
نَاصُورٌ وَكَانَ مَوْضِعُهُ خَطَرًا فَنَهَاهُ عَنْ كَيّهِ فَيُشْبِهُ
أَنْ يَكُونَ النّهْيُ مُنْصَرِفًا إلَى الْمَوْضِعِ الْمُخَوّفِ مِنْهُ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْكَيّ جِنْسَانِ
كَيّ
الصّحِيحِ لِئَلّا يَعْتَلّ فَهَذَا الّذِي قِيلَ فِيهِ لَمْ يَتَوَكّلْ
مَنْ اكْتَوَى لِأَنّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ الْقَدَرَ عَنْ نَفْسِهِ .
وَالثّانِي
: كَيّ الْجُرْحِ إذَا نَغِلَ وَالْعُضْوُ إذَا قُطِعَ فَفِي هَذَا
الشّفَاءُ . وَأَمّا إذَا كَانَ الْكَيّ لِلتّدَاوِي الّذِي يَجُوزُ أَنْ
يَنْجَعَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَنْجَعَ فَإِنّهُ إلَى الْكَرَاهَةِ
أَقْرَبُ . انْتَهَى . وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " فِي حَدِيثِ
السّبْعِينَ أَلْفًا الّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
أَنّهُمْ الّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا
يَتَطَيّرُونَ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ فَقَدْ تَضَمّنَتْ
أَحَادِيثُ الْكَيّ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا : فِعْلُهُ وَالثّانِي
: عَدَمُ مَحَبّتِهِ لَهُ وَالثّالِثُ الثّنَاءُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ
وَالرّابِعُ النّهْيُ عَنْهُ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا بِحَمْدِ اللّهِ
تَعَالَى فَإِنّ فِعْلَهُ يَدُلّ عَلَى جِوَازِهِ وَعَدَمُ مَحَبّتِهِ
لَهُ لَا يَدُلّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ . وَأَمّا الثّنَاءُ عَلَى
تَارِكِهِ فَيَدُلّ عَلَى أَنّ تَرْكَهُ أَوْلَى وَأَفْضَلُ . وَأَمّا
النّهْيُ عَنْهُ فَعَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَالْكَرَاهَةِ أَوْ عَنْ
النّوْعِ الّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَلْ يُفْعَلُ خَوْفًا مِنْ
حُدُوثِ الدّاءِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الصّرَعِ
أُخْرِجَا
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ
قَالَ [ ص 61 ] ابْنُ عَبّاسٍ : أَلَا أُرِيَك امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ
الْجَنّةِ ؟ قُلْت : بَلَى . قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السّوْدَاءُ أَتَتْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ إنّي أُصْرَعُ وَإِنّي
أَتَكَشّفُ فَادْعُ اللّهَ لِي فَقَالَ " إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ
الْجَنّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللّهَ لَكِ أَنْ يُعَافِيَكِ "
فَقَالَتْ أَصْبِرُ . قَالَتْ فَإِنّي أَتَكَشّفُ فَادْعُ اللّهَ أَنْ لَا
أَتَكَشّفَ فَدَعَا لَهَا قُلْتُ الصّرْعُ صَرْعَانِ صَرْعٌ مِنْ
الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الْأَرْضِيّةِ وَصَرْعٌ مِنْ الْأَخْلَاطِ
الرّدِيئَةِ . وَالثّانِي : هُوَ الّذِي يَتَكَلّمُ فِيهِ الْأَطِبّاءُ
فِي سَبَبِهِ وَعِلَاجِهِ .
[ إثْبَاتُ صَرْعِ الْأَرْوَاحِ ]
وَأَمّا
صَرْعُ الْأَرْوَاحِ فَأَئِمّتُهُمْ وَعُقَلَاؤُهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ
وَلَا يَدْفَعُونَهُ وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنّ عِلَاجَهُ بِمُقَابَلَةِ
الْأَرْوَاحِ الشّرِيفَةِ الْخَيّرَةِ الْعُلْوِيّةِ لِتِلْكَ
الْأَرْوَاحِ الشّرّيرَةِ الْخَبِيثَةِ فَتَدَافُعُ آثَارِهَا وَتَعَارُضُ
أَفْعَالِهَا وَتَبَطّلِهَا وَقَدْ نَصّ عَلَى ذَلِكَ إِبّقْرَاط فِي
بَعْضِ كُتُبِهِ فَذَكَرَ بَعْضَ عِلَاجِ الصّرْعِ وَقَالَ هَذَا إنّمَا
يَنْفَعُ مِنْ الصّرْعِ الّذِي سَبَبُهُ الْأَخْلَاطُ وَالْمَادّةُ .
وَأَمّا الصّرْعُ الّذِي يَكُونُ مِنْ الْأَرْوَاحِ فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ
هَذَا الْعِلَاجُ . وَأَمّا جَهَلَةُ الْأَطِبّاءِ وَسَقَطُهُمْ
وَسِفْلَتُهُمْ وَمَنْ يَعْتَقِدُ بِالزّنْدَقَةِ فَضِيلَةً فَأُولَئِكَ
يُنْكِرُونَ صَرْعَ الْأَرْوَاحِ وَلَا يُقِرّونَ بِأَنّهَا تُؤَثّرُ فِي
بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلّا الْجَهْلُ وَإِلّا فَلَيْسَ
فِي الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ وَالْحِسّ وَالْوُجُودُ
شَاهِدٌ بِهِ وَإِحَالَتُهُمْ ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ
هُوَ صَادِقٌ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهِ لَا فِي كُلّهَا . وَقُدَمَاءُ
الْأَطِبّاءِ كَانُوا يُسَمّوْنَ هَذَا الصّرْعَ الْمَرَضَ الْإِلَهِيّ
وَقَالُوا : إنّهُ مِنْ الْأَرْوَاحِ وَأَمّا جالينوس وَغَيْرُهُ
فَتَأَوّلُوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ التّسْمِيَةَ وَقَالُوا : إنّمَا سَمّوْهُ
بِالْمَرَضِ الْإِلَهِيّ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعِلّةِ تَحْدُثُ فِي الرّأْسِ
فَتَضُرّ بِالْجُزْءِ الْإِلَهِيّ الطّاهِرِ الّذِي مَسْكَنُهُ الدّمَاغُ
. [ ص 62 ] نَشَأَ لَهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ
وَأَحْكَامِهَا وَتَأْثِيرَاتِهَا وَجَاءَتْ زَنَادِقَةُ الْأَطِبّاءِ
فَلَمْ يُثْبِتُوا إلّا صَرْعَ الْأَخْلَاطِ وَحْدَهُ . وَمَنْ لَهُ
عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرَاتِهَا يَضْحَكُ
مِنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ .
[ الْعِلَاجُ مِنْ صَرْعِ الْأَرْوَاحِ ]
وَعِلَاجُ
هَذَا النّوْعِ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ أَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ
وَأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعَالِجِ فَاَلّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ
يَكُونُ بِقُوّةِ نَفْسِهِ وَصِدْقِ تَوَجّهِهِ إلَى فَاطِرِ هَذِهِ
الْأَرْوَاحِ وَبَارِئِهَا وَالتّعَوّذِ الصّحِيحِ الّذِي قَدْ تَوَاطَأَ
عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللّسَانُ فَإِنّ هَذَا نَوْعُ مُحَارَبَةٍ
وَالْمُحَارِبُ لَا يَتِمّ لَهُ الِانْتِصَافُ مِنْ عَدُوّهِ بِالسّلَاحِ
إلّا بِأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ السّلَاحُ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ جَيّدًا
وَأَنْ يَكُونَ السّاعِدُ قَوِيّا فَمَتَى تَخَلّفَ أَحَدُهُمَا لَمْ
يُغْنِ السّلَاحُ كَثِيرَ طَائِلٍ فَكَيْفَ إذَا عُدِمَ الْأَمْرَانِ
جَمِيعًا : يَكُونُ الْقَلْبُ خَرَابًا مِنْ التّوْحِيدِ وَالتّوَكّلِ
وَالتّقْوَى وَالتّوَجّهِ وَلَا سِلَاحَ لَهُ . وَالثّانِي : مِنْ جِهَةِ
الْمُعَالِجِ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ أَيْضًا حَتّى
إنّ مِنْ الْمُعَالِجِينَ مَنْ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ " اُخْرُجْ مِنْهُ "
. أَوْ بِقَوْلِ " بِسْمِ اللّهِ " أَوْ بِقَوْلِ " لَا حَوْلَ وَلَا
قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ " وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ
يَقُولُ اُخْرُجْ عَدُوّ اللّهِ أَنَا رَسُولُ اللّهِ
[ عِلَاجُ ابْنِ تَيْمِيّةَ لِلْمَصْرُوعِ ]
وَشَاهَدْتُ
شَيْخَنَا يُرْسِلُ إلَى الْمَصْرُوعِ مَنْ يُخَاطِبُ الرّوحَ الّتِي
فِيهِ وَيَقُولُ قَالَ لَك الشّيْخُ اخْرُجِي فَإِنّ هَذَا لَا يَحِلّ لَك
فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ وَرُبّمَا خَاطَبَهَا بِنَفْسِهِ وَرُبّمَا
كَانَتْ الرّوحُ مَارِدَةً فَيُخْرِجُهَا بِالضّرْبِ فَيُفِيقُ
الْمَصْرُوعُ وَلَا يَحُسّ [ ص 63 ] وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي
أُذُنِ الْمَصْرُوعِ { أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [ الْمُؤْمِنُونَ 115 ] .
وَحَدّثَنِي أَنّهُ قَرَأَهَا مَرّةً فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ فَقَالَتْ
الرّوحُ نَعَمْ وَمَدّ بِهَا صَوْتَهُ . قَالَ فَأَخَذْت لَهُ عَصًا
وَضَرَبْته بِهَا فِي عُرُوقِ عُنُقِهِ حَتّى كَلّتْ يَدَايَ مِنْ
الضّرْبِ وَلَمْ يَشُكّ الْحَاضِرُونَ أَنّهُ يَمُوتُ لِذَلِكَ الضّرْبِ .
فَفِي أَثْنَاءِ الضّرْبِ قَالَتْ أَنَا أُحِبّهُ فَقُلْتُ لَهَا : هُوَ
لَا يُحِبّك قَالَتْ أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحُجّ بِهِ فَقُلْت لَهَا : هُوَ
لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجّ مَعَك فَقَالَتْ أَنَا أَدَعُهُ كَرَامَةً لَك
قَالَ قُلْتُ لَا وَلَكِنّ طَاعَةً لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَتْ فَأَنَا
أَخْرُجُ مِنْهُ قَالَ فَقَعَدَ الْمَصْرُوعُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا
وَشِمَالًا وَقَالَ مَا جَاءَ بِي إلَى حَضْرَةِ الشّيْخِ قَالُوا لَهُ
وَهَذَا الضّرْبُ كُلّهُ ؟ فَقَالَ وَعَلَى أَيّ شَيْءٍ يَضْرِبُنِي
الشّيْخُ وَلَمْ أُذْنِبْ وَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنّهُ وَقَعَ بِهِ ضَرْبٌ
أَلْبَتّةَ . وَكَانَ يُعَالِجُ بِآيَةِ الْكُرْسِيّ وَكَانَ يَأْمُرُ
بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهَا الْمَصْرُوعَ وَمَنْ يُعَالِجُهُ بِهَا
وَبِقِرَاءَةِ الْمُعَوّذَتَيْنِ .
[ الْتِفَاتُ الْمُصَنّفِ إلَى خَرَابِ الْقُلُوبِ ]
وَبِالْجُمْلَةِ
فَهَذَا النّوْعُ مِنْ الصّرْعِ وَعِلَاجِهِ لَا يُنْكِرُهُ إلّا قَلِيلُ
الْحَظّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَأَكْثَرُ تَسَلّطِ
الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ عَلَى أَهْلِهِ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ قِلّةِ
دِينِهِمْ وَخَرَابِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ
الذّكْرِ وَالتّعَاوِيذِ وَالتّحَصّنَاتِ النّبَوِيّةِ وَالْإِيمَانِيّةِ
فَتَلْقَى الرّوحُ الْخَبِيثَةُ الرّجُلَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ
وَرُبّمَا كَانَ عُرْيَانًا فَيُؤَثّرُ فِيهِ هَذَا . وَلَوْ كُشِفَ
الْغِطَاءُ لَرَأَيْت أَكْثَرَ النّفُوسِ الْبَشَرِيّةِ صَرْعَى هَذِهِ
الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ وَهِيَ فِي أَسْرِهَا وَقَبْضَتِهَا تَسُوقُهَا
حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا يُمْكِنُهَا الِامْتِنَاعُ عَنْهَا وَلَا
مُخَالَفَتُهَا وَبِهَا الصّرْعُ الْأَعْظَمُ الّذِي لَا يُفِيقُ
صَاحِبُهُ إلّا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَالْمُعَايَنَةِ فَهُنَاكَ
يَتَحَقّقُ أَنّهُ كَانَ هُوَ الْمَصْرُوعَ حَقِيقَةً وَبِاَللّهِ
الْمُسْتَعَانُ . [ ص 64 ] الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرّسُلُ
وَأَنْ تَكُونَ الْجَنّةُ وَالنّارُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَقِبْلَةَ
قَلْبِهِ وَيَسْتَحْضِرُ أَهْلَ الدّنْيَا وَحُلُولَ الْمَثُلَاتِ
وَالْآفَاتِ بِهِمْ وَوُقُوعَهَا خِلَالَ دِيَارِهِمْ كَمَوَاقِعِ
الْقَطْرِ وَهُمْ صَرْعَى لَا يُفِيقُونَ وَمَا أَشَدّ دَاءَ هَذَا
الصّرْعِ وَلَكِنْ لَمّا عَمّتْ الْبَلِيّةُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَى إلّا
مَصْرُوعًا لَمْ يَصِرْ مُسْتَغْرَبًا وَلَا مُسْتَنْكَرًا بَلْ صَارَ
لِكَثْرَةِ الْمَصْرُوعِينَ عَيْنَ الْمُسْتَنْكَرِ الْمُسْتَغْرَبِ
خِلَافَهُ . فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَفَاقَ مِنْ هَذِهِ
الصّرْعَةِ وَنَظَرَ إلَى أَبْنَاءِ الدّنْيَا مَصْرُوعِينَ حَوْلَهُ
يَمِينًا وَشِمَالًا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ
أَطْبَقَ بِهِ الْجُنُونُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا قَلِيلَةً
وَيَعُودُ إلَى جُنُونِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ مَرّةً وَيُجَنّ
أُخْرَى فَإِذَا أَفَاقَ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ الْإِفَاقَةِ وَالْعَقْلِ
ثُمّ يُعَاوِدُهُ الصّرْعُ فَيَقَعُ فِي التّخَبّطِ .
فَصْلٌ [ صَرْعُ الْأَخْلَاطِ ]
وَأَمّا
صَرْعُ الْأَخْلَاطِ فَهُوَ عِلّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ النّفْسِيّةَ
عَنْ الْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالِانْتِصَابِ مَنْعًا غَيْرَ تَامّ
وَسَبَبُهُ خَلْطٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ يَسُدّ مَنَافِذَ بُطُونِ الدّمَاغِ
سُدّةً غَيْرَ تَامّةٍ فَيَمْتَنِعُ نُفُوذُ الْحِسّ وَالْحَرَكَةِ فِيهِ
وَفِي الْأَعْضَاءِ نُفُوذًا تَامّا مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ بِالْكُلّيّةِ
وَقَدْ تَكُونُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ كَرِيحٍ غَلِيظٍ يُحْتَبَسُ فِي
مَنَافِذِ الرّوحِ أَوْ بُخَارٍ رَدِيءٍ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضِ
الْأَعْضَاءِ أَوْ كَيْفِيّةٍ لَاذِعَةٍ فَيَنْقَبِضُ الدّمَاغُ لِدَفْعِ
الْمُؤْذِي فَيَتْبَعُهُ تَشَنّجٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَلَا
يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مَعَهُ مُنْتَصِبًا بَلْ يَسْقُطُ
وَيَظْهَرُ فِي فِيهِ الزّبَدُ غَالِبًا . وَهَذِهِ الْعِلّةُ تُعَدّ مِنْ
جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ وُجُودِهِ
الْمُؤْلِمِ خَاصّةً وَقَدْ تُعَدّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ
الْمُزْمِنَةِ بِاعْتِبَارِ طُولِ مُكْثِهَا وَعُسْرِ بَرْئِهَا لَا
سِيّمَا إنْ تَجَاوَزَ فِي السّنّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهَذِهِ
الْعِلّةُ فِي دِمَاغِهِ وَخَاصّةً فِي [ ص 65 ] قَالَ إِبّقْرَاط : إنّ
الصّرْعَ يَبْقَى فِي هَؤُلَاءِ حَتّى يَمُوتُوا .
[ لَعَلّ صَرْعَ الْمَرْأَةِ الّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ كَانَ صَرْعُهَا مِنْ صَرْعِ الْأَخْلَاطِ ]
إذَا
عُرِفَ هَذَا فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الّتِي جَاءَ الْحَدِيثُ أَنّهَا
كَانَتْ تُصْرَعُ وَتَتَكَشّفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَرْعُهَا مِنْ هَذَا
النّوْعِ فَوَعَدَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَنّةَ
بِصَبْرِهَا عَلَى هَذَا الْمَرَضِ وَدَعَا لَهَا أَنْ لَا تَتَكَشّفَ
وَخَيّرَهَا بَيْنَ الصّبْرِ وَالْجَنّةِ وَبَيْنَ الدّعَاءِ لَهَا
بِالشّفَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ فَاخْتَارَتْ الصّبْرَ وَالْجَنّةَ .
[
جَوَازُ تَرْكِ التّدَاوِي وَأَنّ عِلَاجَ الْأَرْوَاحِ بِالتّوَجّهِ إلَى
اللّهِ يَفْعَلُ مَا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ]
وَفِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْمُعَالَجَةِ وَالتّدَاوِي وَأَنّ عِلَاجَ
الْأَرْوَاحِ بِالدّعَوَاتِ وَالتّوَجّهِ إلَى اللّهِ يَفْعَلُ مَا لَا
يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ وَأَنّ تَأْثِيرَهُ وَفِعْلَهُ وَتَأَثّرَ
الطّبِيعَةِ عَنْهُ وَانْفِعَالَهَا أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ
الْأَدْوِيَةِ الْبَدَنِيّةِ وَانْفِعَالِ الطّبِيعَةِ عَنْهَا وَقَدْ
جَرّبْنَا هَذَا مِرَارًا نَحْنُ وَغَيْرُنَا وَعُقَلَاءُ الْأَطِبّاءِ
مُعْتَرِفُونَ بِأَنّ لِفِعْلِ الْقُوَى النّفْسِيّةِ وَانْفِعَالَاتِهَا
فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ عَجَائِبُ وَمَا عَلَى الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ
أَضَرّ مِنْ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ وَسِفْلَتِهِمْ وَجُهّالِهِمْ .
وَالظّاهِرُ أَنّ صَرْعَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ كَانَ مِنْ هَذَا النّوْعِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْأَرْوَاحِ وَيَكُونُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ خَيّرَهَا بَيْنَ الصّبْرِ
عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْجَنّةِ وَبَيْنَ الدّعَاءِ لَهَا بِالشّفَاءِ
فَاخْتَارَتْ الصّبْرَ وَالسّتْرَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ عِرْقِ النّسَا
رَوَى
ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَقُولُ دَوَاءُ عِرْقِ النّسَا أَلْيَةُ شَاةٍ أَعْرَابِيّةٍ
تُذَابُ ثُمّ تُجَزّأُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ثُمّ يُشْرَبُ عَلَى الرّيقِ
فِي كُلّ يَوْمٍ جُزْءٌ [ ص 66 ] النّسَاءِ وَجَعٌ يَبْتَدِئُ مِنْ
مَفْصِلِ الْوَرِكِ وَيَنْزِلُ مِنْ خَلْفٍ عَلَى الْفَخِذِ وَرُبّمَا
عَلَى الْكَعْبِ وَكُلّمَا طَالَتْ مُدّتُهُ زَادَ نُزُولُهُ وَتَهْزُلُ
مَعَهُ الرّجْلُ وَالْفَخِذُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مَعْنًى لُغَوِيّ
وَمَعْنًى طِبّيّ . فَأَمّا الْمَعْنَى اللّغَوِيّ فَدَلِيلٌ عَلَى
جَوَازِ تَسْمِيَةِ هَذَا الْمَرَضِ بِعِرْقِ النّسَا خِلَافًا لِمَنْ
مَنَعَ هَذِهِ التّسْمِيَةَ وَقَالَ النّسَا هُوَ الْعِرْقُ نَفْسُهُ
فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الشّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ
وَجَوَابُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْعَرَقَ
أَعَمّ مِنْ النّسَا فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامّ إلَى الْخَاصّ
نَحْوُ كُلّ الدّرَاهِمِ أَوْ بَعْضُهَا . الثّانِي : أَنّ النّسَا : هُوَ
الْمَرَضُ الْحَالُ بِالْعِرْقِ وَالْإِضَافَةِ فِيهِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ
الشّيْءِ إلَى مَحَلّهِ وَمَوْضِعِهِ . قِيلَ وَسُمّيَ بِذَلِكَ لِأَنّ
أَلَمَهُ يُنْسِي مَا سِوَاهُ وَهَذَا الْعَرَقُ مُمْتَدّ مِنْ مَفْصِلِ
الْوَرِكِ وَيَنْتَهِي إلَى آخِرِ الْقَدَمِ وَرَاءَ الْكَعْبِ مِنْ
الْجَانِبِ الْوَحْشِيّ فِيمَا بَيْنَ عَظْمِ السّاقِ وَالْوَتَرِ .
وَأَمّا الْمَعْنَى الطّبّيّ فَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ كَلَامَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : عَامّ بِحَسْبِ
الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ . وَالثّانِي
: خَاصّ بِحَسْبِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بِضْعِهَا وَهَذَا مِنْ هَذَا
الْقِسْمِ فَإِنّ هَذَا خِطَابٌ لِلْعَرَبِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ
جَاوَرَهُمْ وَلَا سِيّمَا أَعْرَابُ الْبَوَادِي فَإِنّ هَذَا الْعِلَاجَ
مِنْ أَنْفَعِ الْعِلَاجِ لَهُمْ فَإِنّ هَذَا الْمَرَضَ يَحْدُثُ مِنْ
يُبْسٍ وَقَدْ يَحْدُثُ مِنْ مَادّةٍ غَلِيظَةٍ لَزِجَةٍ فَعِلَاجُهَا
بِالْإِسْهَالِ . وَالْأَلْيَةُ فِيهَا الْخَاصّيّتَانِ الْإِنْضَاجُ
وَالتّلْيِينُ فَفِيهَا الْإِنْضَاجُ وَالْإِخْرَاجُ . وَهَذَا الْمَرَضُ
يَحْتَاجُ عِلَاجُهُ إلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَفِي تَعْيِينِ الشّاةِ
الْأَعْرَابِيّةِ لِقِلّةِ فُضُولِهَا وَصِغَرِ مِقْدَارِهَا وَلُطْفِ
جَوْهَرِهَا وَخَاصّيّةِ مَرْعَاهَا لِأَنّهَا تَرْعَى أَعْشَابَ الْبَرّ
الْحَارَةِ كَالشّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَنَحْوِهِمَا وَهَذِهِ النّبَاتَاتُ
إذَا تَغَذّى بِهَا الْحَيَوَانُ صَارَ فِي لَحْمِهِ مِنْ طَبْعِهَا
بَعْدَ أَنْ يُلَطّفَهَا تُغَذّيهِ بِهَا وَيُكْسِبُهَا مِزَاجًا أَلْطَفَ
مِنْهَا وَلَا سِيّمَا الْأَلْيَةُ وَظُهُورُ فِعْلِ هَذِهِ النّبَاتَاتِ
فِي اللّبَنِ أَقْوَى مِنْهُ فِي اللّحْمِ وَلَكِنّ الْخَاصّيّةَ الّتِي
فِي الْأَلْيَةِ مِنْ الْإِنْضَاجِ [ ص 67 ] غَالِبِ الْأُمَمِ
وَالْبَوَادِي هِيَ الْأَدْوِيَةُ الْمُفْرَدَةُ وَعَلَيْهِ أَطِبّاءُ
الْهِنْدِ . وَأَمّا الرّومُ وَالْيُونَانُ فَيَعْتَنُونَ بِالْمُرَكّبَةِ
وَهُمْ مُتّفِقُونَ كُلّهُمْ عَلَى أَنّ مِنْ مَهَارَةِ الطّبِيبِ أَنْ
يُدَاوِيَ بِالْغِذَاءِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْمُفْرَدِ فَإِنْ عَجَزَ
فَبِمَا كَانَ أَقَلّ تَرْكِيبًا .
الْيُونَانُ فَيَعْتَنُونَ
بِالْمُرَكّبَةِ وَهُمْ مُتّفِقُونَ كُلّهُمْ عَلَى أَنّ مِنْ مَهَارَةِ
الطّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ بِالْغِذَاءِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْمُفْرَدِ
فَإِنْ عَجَزَ فَبِمَا كَانَ أَقَلّ تَرْكِيبًا . وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ
غَالِبَ عَادَاتِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي الْأَمْرَاضُ
الْبَسِيطَةُ فَالْأَدْوِيَةُ الْبَسِيطَةُ تُنَاسِبُهَا وَهَذَا
لِبَسَاطَةِ أَغْذِيَتِهِمْ فِي الْغَالِبِ . وَأَمّا الْأَمْرَاضُ
الْمُرَكّبَةُ فَغَالِبًا مَا تَحْدُثُ عَنْ تَرْكِيبِ الْأَغْذِيَةِ
وَتَنَوّعِهَا وَاخْتِلَافِهَا فَاخْتِيرَتْ لَهَا الْأَدْوِيَةُ
الْمُرَكّبَةُ وَاَللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ يُبْسِ الطّبْعِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى مَا يُمَشّيهِ وَيُلَيّنُهُ
رَوَى
التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " وَابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ
حَدِيثِ أَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَاذَا كُنْتِ تَسْتَمْشِينَ ؟ قَالَتْ
بِالشّبْرُمِ قَالَ حَارّ جَارّ قَالَتْ ثُمّ اسْتَمْشَيْتُ بِالسّنَا
فَقَالَ " لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَشْفِي مِنْ الْمَوْتِ لَكَانَ السّنَا . [
ص 68 ] سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ
قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُمّ حَرَامٍ وَكَانَ قَدْ صَلّى مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقِبْلَتَيْنِ يَقُولُ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ
عَلَيْكُمْ بِالسّنَا وَالسّنُوتِ فَإِنّ فِيهِمَا شِفَاءً مِنْ كُلّ
دَاءٍ إلّا السّامَ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا السّامُ ؟ قَالَ
الْمَوْتُ .
[الْعِلَاجُ بِالشّبْرُمِ ]
قَوْلُهُ بِمَاذَا كُنْت
تَسْتَمْشِينَ ؟ أَيْ تُلَيّنِينَ الطّبْعَ حَتّى يَمْشِيَ وَلَا يَصِيرُ
بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ فَيُؤْذِي بِاحْتِبَاسِ النّجْوِ وَلِهَذَا
سُمّيَ الدّوَاءُ الْمُسَهّلُ مَشِيّا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ . وَقِيلَ
لِأَنّ الْمَسْهُولَ يُكْثِرُ الْمَشْيَ وَالِاخْتِلَافُ لِلْحَاجَةِ
وَقَدْ رُوِيَ بِمَاذَا تَسْتَشْفِينَ ؟ فَقَالَتْ بِالشّبْرُمِ وَهُوَ
مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ الْيَتُوعِيّة وَهُوَ قِشْرُ عِرْقِ شَجَرَةٍ
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الرّابِعَةِ وَأَجْوَدُهُ الْمَائِلُ
إلَى الْحُمْرَةِ الْخَفِيفُ الرّقِيقُ الّذِي يُشْبِهُ الْجِلْدَ
الْمَلْفُوفَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الّتِي أَوْصَى
الْأَطِبّاءُ بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهَا لِخَطَرِهَا وَفَرْطِ إسْهَالِهَا
. وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " حَارّ جَارّ " وَيُرْوَى :
حَارّ يَارّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَأَكْثَرُ كَلَامِهِمْ بِالْيَاءِ .
قُلْت : وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْحَارّ الْجَارّ
بِالْجِيمِ الشّدِيدُ الْإِسْهَالُ فَوَصَفَهُ بِالْحَرَارَةِ وَشَدّةِ
الْإِسْهَالِ وَكَذَلِكَ هُوَ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ الدّينَوَرِيّ .
[مَا الْمَقْصُودُ بِالْإِتْبَاعِ ]
وَالثّانِي
- وَهُوَ الصّوَابُ - أَنّ هَذَا مِنْ الْإِتْبَاعِ الّذِي يُقْصَدُ بِهِ
تَأْكِيدُ الْأَوّلِ وَيَكُونُ بَيْنَ التّأْكِيدِ اللّفْظِيّ
وَالْمَعْنَوِيّ وَلِهَذَا يُرَاعُونَ فِيهِ إتْبَاعَهُ فِي أَكْثَرِ
حُرُوفِهِ كَقَوْلِهِمْ حَسَنٌ بَسَنٌ أَيْ كَامِلُ الْحُسْنِ
وَقَوْلُهُمْ حَسَنٌ قَسَنٌ بِالْقَافِ وَمِنْهُ شَيْطَانٌ لَيْطَانُ
وَحَارّ جَارّ مَعَ أَنّ فِي الْجَارّ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ [ ص 69 ]
وَيَارّ إمّا لُغَةٌ فِي جَارّ كَقَوْلِهِمْ صِهْرِيّ وَصِهْرِيج
وَالصّهَارِي وَالصّهَارِيجُ وَإِمّا إتْبَاعُ مُسْتَقِلّ .
[ نَبَاتُ السّنَا ]
وَأَمّا
السّنَا فَفِيهِ لُغَتَانِ الْمَدّ وَالْقَصْرُ وَهُوَ نَبْتٌ حِجَازِيّ
أَفْضَلُهُ الْمَكّيّ وَهُوَ دَوَاءٌ شَرِيفٌ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ
قَرِيبٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الْأُولَى
يُسْهِلُ الصّفْرَاءَ وَالسّوْدَاءَ وَيُقَوّي جِرْمَ الْقَلْبِ وَهَذِهِ
فَضِيلَةٌ شَرِيفَةٌ فِيهِ وَخَاصّيّتُهُ النّفْعُ مِنْ الْوَسْوَاسِ
السّوْدَاوِيّ وَمِنْ الشّقَاقِ الْعَارِضِ فِي الْبَدَنِ وَيَفْتَحُ
الْعَضَلَ وَيَنْفَعُ مِنْ انْتِشَارِ الشّعَرِ وَمِنْ الْقَمْلِ
وَالصّدَاعِ الْعَتِيقِ وَالْجَرَبِ وَالْبُثُورِ وَالْحِكّةِ وَالصّرِعِ
وَشُرْبِ مَائِهِ مَطْبُوخًا أَصْلَحُ مِنْ شُرْبِهِ مَدْقُوقًا
وَمِقْدَارُ الشّرْبَةِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَمِنْ مَائِهِ
خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ طُبِخَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ زَهْرِ
الْبَنَفْسَجِ وَالزّبِيبِ الْأَحْمَرِ الْمَنْزُوعِ الْعَجَمُ كَانَ
أَصْلَحَ . قَالَ الرّازِيّ : السّنَاءُ والشاهترج يُسَهّلَانِ
الْأَخْلَاطَ الْمُحْتَرِقَةَ وَيَنْفَعَانِ مِنْ الْجَرَبِ وَالْحِكّة
وَالشّرْبَةُ مِنْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ إلَى
سَبْعَةِ دَرَاهِمَ .
[ مَا هُوَ السّنُوت ]
وَأَمّا السّنُوت
فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ ؟ أَحَدُهَا : أَنّهُ الْعَسَلُ .
وَالثّانِي : أَنّهُ رُبّ عُكّةِ السّمْنِ يَخْرُجُ خُطَطًا سَوْدَاءَ
عَلَى السّمْنِ حَكَاهُمَا عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ السكسكي . الثّالِثُ
أَنّهُ حَبّ يُشْبِهُ الْكَمّونَ وَلَيْسَ بِهِ قَالَهُ ابْنُ
الْأَعْرَابِيّ . الرّابِعُ أَنّهُ الْكَمّونُ الْكَرْمَانِيّ .
الْخَامِسُ أَنّهُ الرازيانج . حَكَاهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ الدّينَوَرِيّ
عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ . السّادِسُ أَنّهُ الشّبِتّ . السّابِعُ أَنّهُ
التّمْرُ حَكَاهُمَا أَبُو بَكْرِ بْنُ السّنّيّ الْحَافِظُ . الثّامِنُ
أَنّهُ الْعَسَلُ الّذِي يَكُونُ فِي زِقَاقِ السّمْنِ حَكَاهُ عَبْدُ
اللّطِيفِ الْبَغْدَادِيّ . قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ وَهَذَا أَجْدَرُ [
ص 70 ] وَأَقْرَبُ إلَى الصّوَابِ أَيْ يُخْلَطُ السّنَاءُ مَدْقُوقًا
بِالْعَسَلِ الْمُخَالِطِ لِلسّمْنِ ثُمّ يُلْعَقُ فَيَكُونُ أَصْلَحَ
مِنْ اسْتِعْمَالِهِ مُفْرَدًا لِمَا فِي الْعَسَلِ وَالسّمْنِ مِنْ
إصْلَاحِ السّنَا وَإِعَانَتِهِ لَهُ عَلَى الْإِسْهَالِ . وَاَللّهُ
أَعْلَمُ . وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ ُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ إنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السّعُوطُ
وَاللّدُودُ وَالْحِجَامَةُ وَالْمَشْيُ وَالْمَشِيّ هُوَ الّذِي يُمَشّي
الطّبْعَ وَيُلَيّنُهُ وَيُسَهّلُ خُرُوجَ الْخَارِجِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ حِكّة الْجِسْمِ وَمَا يُوَلّدُ الْقَمْلَ
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ
رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لَحِكّةٍ كَانَتْ بِهِمَا وَفِي
رِوَايَةٍ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزّبَيْرَ بْنَ
الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا شَكَوْا الْقَمْلَ إلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخّصَ
لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا . هَذَا
الْحَدِيثُ يَتَعَلّقُ بِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا فِقْهِيّ وَالْآخَرُ
طِبّيّ .
[حُكْمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ ]
فَأَمّا الْفِقْهِيّ
فَاَلّذِي اسْتَقَرّتْ عَلَيْهِ سُنّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إبَاحَةُ الْحَرِيرِ لِلنّسَاءِ مُطْلَقًا وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الرّجَالِ
إلّا لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَالْحَاجَةُ إمّا مِنْ شِدّةِ
الْبَرْدِ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ أَوْ لَا يَجِدُ سُتْرَةً سِوَاهُ .
وَمِنْهَا : لِبَاسُهُ لِلْجَرَبِ وَالْمَرَضِ وَالْحِكّةِ وَكَثْرَةِ
الْقَمْلِ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا الصّحِيحُ . [ ص 71 ]
أَحْمَدَ وَأَصَحّ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ التّخْصِيصِ
وَالرّخْصَةُ إذَا ثَبَتَتْ فِي حَقّ بَعْضِ الْأُمّةِ لِمَعْنًى تَعَدّتْ
إلَى كُلّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذْ الْحُكْمُ يَعُمّ
بِعُمُومِ سَبَبِهِ . وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ قَالَ أَحَادِيثُ التّحْرِيمِ
عَامّةٌ وَأَحَادِيثُ الرّخْصَةِ يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهَا بِعَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزّبَيْرِ وَيُحْتَمَلُ تَعَدّيهَا إلَى
غَيْرِهِمَا . وَإِذَا اُحْتُمِلَ الْأَمْرَانِ كَانَ الْأَخْذُ
بِالْعُمُومِ أَوْلَى وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الرّوَاةِ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي أَبْلَغَتْ الرّخْصَةُ مِنْ بَعْدِهِمَا أَمْ
لَا ؟ وَالصّحِيحُ عُمُومُ الرّخْصَةِ فَإِنّهُ عُرْفُ خِطَابِ الشّرْعِ
فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرّحْ بِالتّخْصِيصِ وَعَدَمِ إلْحَاقِ غَيْرِ
مَنْ رَخّصَ لَهُ أَوّلًا بِهِ كَقَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي
تَضْحِيَتِهِ بِالْجَذَعَةِ مِنْ الْمَعْزِ تَجْزِيكَ وَلَنْ تَجْزِيَ
عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نِكَاحِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ { خَالِصَةً
لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الْأَحْزَابُ 50 ] . وَتَحْرِيمُ
الْحَرِيرِ إنّمَا كَانَ سَدّا لِلذّرِيعَةِ وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلنّسَاءِ
وَلِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَهَذِهِ قَاعِدَةُ مَا حُرّمَ
لِسَدّ الذّرَائِعِ فَإِنّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ
الرّاجِحَةِ كَمَا حَرُمَ النّظَرُ سَدّا لِذَرِيعَةِ الْفِعْلِ وَأُبِيحَ
مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الرّاجِحَةُ
وَكَمَا حَرُمَ التّنَفّلُ بِالصّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النّهْيِ سَدّا
لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ الصّورِيّةِ بِعُبّادِ الشّمْسِ وَأُبِيحَتْ
لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَكَمَا حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ سَدّا
لِذَرِيعَةِ رِبَا النّسِيئَةِ وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ
الْحَاجَةُ مِنْ الْعَرَايَا [ ص 72 ] التّحْبِيرُ لِمَا يَحِلّ
وَيَحْرُمُ مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ
فَصْلُ [ فَوَائِدِ الْحَرِيرِ ]
وَأَمّا
الْأَمْرُ الطّبّيّ فَهُوَ أَنّ الْحَرِيرَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ
الْمُتّخَذَةِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَلِذَلِكَ يُعَدّ فِي الْأَدْوِيَةِ
الْحَيَوَانِيّةِ لِأَنّ مَخْرَجَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ كَثِيرُ
الْمَنَافِعِ جَلِيلُ الْمَوْقِعِ وَمِنْ خَاصّيّتِهِ تَقْوِيَةُ
الْقَلْبِ وَتَفْرِيحُهُ وَالنّفْعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهِ وَمِنْ
غَلَبَةِ الْمِرّةِ السّوْدَاءِ وَالْأَدْوَاءِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا ؛
وَهُوَ مُقَوّ لِلْبَصَرِ إذَا اكْتَحَلَ بِهِ وَالْخَامُ مِنْهُ - وَهُوَ
الْمُسْتَعْمَلُ فِي صِنَاعَةِ الطّبّ - حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ
الْأُولَى . وَقِيلَ حَارّ رَطْبٌ فِيهَا : وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ . وَإِذَا
اُتّخِذَ مِنْهُ مَلْبُوسٌ كَانَ مُعْتَدِلَ الْحَرَارَةِ فِي مِزَاجِهِ
مُسَخّنًا لِلْبَدَنِ وَرُبّمَا بَرُدَ الْبَدَنُ بِتَسْمِينِهِ إيّاهُ .
قَالَ الرّازِيّ : الْإِبْرَيْسَمُ أَسْخَنُ مِنْ الْكَتّانِ وَأَبْرَدُ
مِنْ الْقُطْنِ يُرَبّي اللّحْمَ وَكُلّ لِبَاسٍ خَشِنٍ فَإِنّهُ يُهْزِلُ
وَيُصْلِبُ الْبَشَرَةَ وَبِالْعَكْسِ .
[أَقْسَامُ الْمَلَابِسِ مِنْ حَيْثُ تَسْخِينِ الْبَدَنِ ]
قُلْت
: وَالْمَلَابِسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ يُسَخّنُ الْبَدَنَ
وَيُدَفّئُهُ وَقِسْمٌ يُدَفّئُهُ وَلَا يُسَخّنُهُ وَقِسْمٌ لَا
يُسَخّنُهُ وَلَا يُدَفّئُهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُسَخّنُهُ وَلَا
يُدَفّئُهُ إذْ مَا يُسَخّنُهُ فَهُوَ أَوْلَى بِتَدْفِئَتِهِ فَمَلَابِسُ
الْأَوْبَارِ وَالْأَصْوَافِ تُسَخّنُ وَتُدَفّئُ وَمَلَابِسُ الْكَتّانِ
وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ تُدَفّئُ وَلَا تُسَخّنُ فَثِيَابُ الْكَتّانِ
بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ وَثِيَابُ الصّوفِ حَارَةٌ يَابِسَةٌ وَثِيَابُ
الْقُطْنِ مُعْتَدِلَةُ الْحَرَارَةِ وَثِيَابُ الْحَرِيرِ أَلْيَنُ مِنْ
الْقُطْنِ وَأَقَلّ حَرَارَةً مِنْهُ . قَالَ صَاحِبُ " الْمِنْهَاجِ " :
وَلُبْسُهُ لَا يُسَخّنُ كَالْقُطْنِ بَلْ هُوَ مُعْتَدِلٌ وَكُلّ لِبَاسٍ
أَمْلَسَ صَقِيلٍ فَإِنّهُ أَقَلّ إسْخَانًا لِلْبَدَنِ وَأَقَلّ عَوْنًا
فِي تَحَلّلٍ مَا يَتَحَلّلُ مِنْهُ وَأَحْرَى أَنْ يُلْبَسَ فِي الصّيْفِ
وَفِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ . وَلَمّا كَانَتْ ثِيَابُ الْحَرِيرِ
كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْيُبْسِ وَالْخُشُونَةِ [ ص 73 ]
صَارَتْ نَافِعَةً مِنْ الْحِكّةِ إذْ الْحِكّةُ لَا تَكُونُ إلّا عَنْ
حَرَارَةٍ وَيُبْسٍ وَخُشُونَةٍ فَلِذَلِكَ رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلزّبَيْرِ وَعَبْدِ الرّحْمَن ِ فِي لِبَاسِ
الْحَرِيرِ لِمُدَاوَاةِ الْحِكّةِ وَثِيَابُ الْحَرِيرِ أَبْعَدُ عَنْ
تَوَلّدِ الْقَمْلِ فِيهَا إذْ كَانَ مِزَاجُهَا مُخَالِفًا لِمِزَاجِ مَا
يَتَوَلّدُ مِنْهُ الْقَمْلُ .
[عِلّةُ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ ]
وَأَمّا
الْقِسْمُ الّذِي لَا يُدَفّئُ وَلَا يُسَخّنُ فَالْمُتّخَذُ مِنْ
الْحَدِيدِ وَالرّصَاصِ وَالْخَشَبِ وَالتّرَابِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ قِيلَ
فَإِذَا كَانَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ أَعْدَلَ اللّبَاسِ وَأَوْفَقَهُ
لِلْبُدْنِ فَلِمَاذَا حَرّمَتْهُ الشّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ
الّتِي أَبَاحَتْ الطّيّبَاتِ وَحَرّمَتْ الْخَبَائِثَ ؟ قِيلَ هَذَا
السّؤَالُ يُجِيبُ عَنْهُ كُلّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ
بِجَوَابٍ فَمُنْكِرُو الْحُكْمِ وَالتّعْلِيلِ لِمَا رُفِعَتْ قَاعِدَةُ
التّعْلِيلِ مِنْ أَصْلِهَا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى جَوَابٍ عَنْ هَذَا
السّؤَالِ . وَمُثْبِتُو التّعْلِيلِ وَالْحُكْمِ - وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ
- مِنْهُمْ مَنْ يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنّ الشّرِيعَةَ حَرّمَتْهُ
لِتَصْبِرَ النّفُوسُ عَنْهُ وَتَتْرُكهُ لِلّهِ فَتُثَابُ عَلَى ذَلِكَ
لَا سِيّمَا وَلَهَا عِوَضٌ عَنْهُ بِغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيبُ
عَنْهُ بِأَنّهُ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِلنّسَاءِ كَالْحِلْيَةِ
بِالذّهَبِ فَحَرُمَ عَلَى الرّجَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ
تَشَبّهِ الرّجَالِ بِالنّسَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ حَرُمَ لِمَا
يُورِثُهُ مِنْ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْعُجْبِ . وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ بِمُلَامَسَتِهِ لِلْبَدَنِ مِنْ
الْأُنُوثَةِ وَالتّخَنّثِ وَضِدّ الشّهَامَةِ وَالرّجُولَةِ فَإِنّ
لُبْسَهُ يُكْسِبُ الْقَلْبَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْإِنَاثِ وَلِهَذَا
لَا تَكَادُ تَجِدُ مَنْ يَلْبَسُهُ فِي الْأَكْثَرِ إلّا وَعَلَى
شَمَائِلِهِ مِنْ التّخَنّثِ وَالتّأَنّثِ وَالرّخَاوَةِ مَا لَا يَخْفَى
حَتّى لَوْ كَانَ مِنْ أَشْهَمِ النّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ فَحَوْلِيّةً
وَرُجُولِيّةً فَلَا بُدّ أَنْ يُنْقِصَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ مِنْهَا
وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْهَا وَمَنْ غَلُظَتْ طِبَاعُهُ وَكَثُفَتْ عَنْ
فَهْمِ هَذَا فَلْيُسَلّمْ لِلشّارِعِ الْحَكِيمِ وَلِهَذَا كَانَ [ ص 74
] أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ أَنّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيّ أَنْ يُلْبِسَهُ
الصّبِيّ لِمَا يَنْشَأُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ التّأْنِيثِ .
وَقَدْ رَوَى النّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ اللّهَ أَحَلّ
لِإِنَاثِ أُمّتِي الْحَرِيرَ وَالذّهَبَ وَحَرّمَهُ عَلَى ذُكُورِهَا
وَفِي لَفْظٍ حَرُمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمّتِي
وَأُحِلّ لِإِنَاثِهِمْ وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ حُذَيْفَةَ
قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ لُبْسِ
الْحَرِيرِ وَالدّيبَاجِ وَأَنْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ وَقَالَ هُوَ لَهُمْ
فِي الدّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ ذَاتِ الْجَنْبِ
رَوَى
التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَم َ أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تَدَاوَوْا مِنْ ذَاتِ
الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيّ وَالزّيْتِ وَذَاتُ الْجَنْبِ عِنْدَ
الْأَطِبّاءِ نَوْعَانِ حَقِيقِيّ وَغَيْرُ حَقِيقِيّ . فَالْحَقِيقِيّ
وَرَمٌ حَارّ يَعْرِضُ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ فِي الْغِشَاءِ
الْمُسْتَبْطِنِ لِلْأَضْلَاعِ . وَغَيْرُ الْحَقِيقِيّ أَلَمٌ يُشْبِهُهُ
يَعْرِضُ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ عَنْ رِيَاحٍ غَلِيظَةٍ مُؤْذِيَةٍ
تَحْتَقِنُ بَيْنَ الصّفَاقَاتِ [ ص 75 ] قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " :
قَدْ يَعْرِضُ فِي الْجَنْبِ وَالصّفَاقَاتِ وَالْعَضَلِ الّتِي فِي
الصّدْرِ وَالْأَضْلَاعِ وَنَوَاحِيهَا أَوْرَامٌ مُؤْذِيَةٌ جِدّا
مُوجِعَةٌ تُسَمّى شَوْصَةً وَبِرْسَامًا وَذَاتَ الْجَنْبِ . وَقَدْ
تَكُونُ أَيْضًا أَوْجَاعًا فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَيْسَتْ مِنْ وَرَمٍ
وَلَكِنْ مِنْ رِيَاحٍ غَلِيظَةٍ فَيُظَنّ أَنّهَا مِنْ هَذِهِ الْعِلّةِ
وَلَا تَكُونُ مِنْهَا . قَالَ وَاعْلَمْ أَنّ كُلّ وَجَعٍ فِي الْجَنْبِ
قَدْ يُسَمّى ذَاتَ الْجَنْبِ اشْتِقَاقًا مِنْ مَكَانِ الْأَلَمِ لِأَنّ
مَعْنَى ذَاتِ الْجَنْبِ صَاحِبَةُ الْجَنْبِ وَالْغَرَضُ بِهِ هَا هُنَا
وَجَعُ الْجَنْبِ فَإِذَا عَرَضَ فِي الْجَنْبِ أَلَمٌ عَنْ أَيّ سَبَبٍ
كَانَ نُسِبَ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ حُمِلَ كَلَامُ بُقْرَاطَ فِي قَوْلِهِ
إنّ أَصْحَابَ ذَاتِ الْجَنْبِ يَنْتَفِعُونَ بِالْحَمَامِ . قِيلَ
الْمُرَادُ بِهِ كُلّ مَنْ بِهِ وَجَعُ جَنْبٍ أَوْ وَجَعُ رِئَةٍ مِنْ
سُوءِ مِزَاجٍ أَوْ مِنْ أَخْلَاطٍ غَلِيظَةٍ أَوْ لَذّاعَةٍ مِنْ غَيْرِ
وَرَمٍ وَلَا حُمّى . قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ وَأَمّا مَعْنَى ذَاتِ
الْجَنْبِ فِي لُغَةِ الْيُونَانِ فَهُوَ وَرَمُ الْجَنْبِ الْحَارّ
وَكَذَلِكَ وَرَمُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَإِنّمَا
سُمّيَ ذَاتَ الْجَنْبِ وَرَمَ ذَلِكَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ وَرَمًا
حَارّا فَقَطْ . وَيَلْزَمُ ذَاتَ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيّ خَمْسَةُ
أَعْرَاضٍ وَهِيَ الْحُمّى وَالسّعَالُ وَالْوَجَعُ النّاخِسُ وَضِيقُ
النّفَسِ وَالنّبْضُ الْمِنْشَارِيّ . وَالْعِلَاجُ الْمَوْجُودُ فِي
الْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ لِهَذَا الْقِسْمِ لَكِنْ لِلْقِسْمِ الثّانِي
الْكَائِنِ عَنْ الرّيحِ الْغَلِيظَةِ فَإِنّ الْقُسْطَ الْبَحْرِيّ -
وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيّ عَلَى مَا جَاءَ مُفَسّرًا فِي أَحَادِيثَ
أُخَرَ - صِنْفٌ مِنْ الْقُسْطِ إذَا دُقّ دَقّا نَاعِمًا وَخُلِطَ
بِالزّيْتِ الْمُسَخّنِ وَدُلِكَ بِهِ مَكَانُ الرّيحِ الْمَذْكُورُ أَوْ
لُعِقَ كَانَ دَوَاءً مُوَافِقًا لِذَلِكَ نَافِعًا [ ص 76 ] لِمَادّتِهِ
مُذْهِبًا لَهَا مُقَوّيًا لِلْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ مُفَتّحًا
لِلسّدَدِ وَالْعُودُ الْمَذْكُورُ فِي مَنَافِعِهِ كَذَلِكَ . قَالَ
الْمُسَبّحِيّ الْعُودُ حَارّ يَابِسٌ قَابِضٌ يَحْبِسُ الْبَطْنَ
وَيُقَوّي الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ وَيَطْرُدُ الرّيحَ وَيَفْتَحُ
السّدَدَ نَافِعٌ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَيُذْهِبُ فَضْلَ الرّطُوبَةِ
وَالْعُودُ الْمَذْكُورُ جَيّدٌ لِلدّمَاغِ . قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ
يَنْفَعَ الْقُسْطُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيّةِ أَيْضًا إذَا
كَانَ حُدُوثُهَا عَنْ مَادّةٍ بَلْغَمِيّةٍ لَا سِيّمَا فِي وَقْتِ
انْحِطَاطِ الْعِلّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَاتُ الْجَنْبِ مِنْ
الْأَمْرَاضِ الْخَطِرَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ
أَنّهَا قَالَتْ بَدَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِمَرَضِهِ فِي بَيْت ِ مَيْمُونَة وَكَانَ كُلّمَا خَفّ عَلَيْهِ خَرَجَ
وَصَلّى بِالنّاسِ وَكَانَ كُلّمَا وَجَدَ ثِقَلًا قَالَ مُرُوا أَبَا
بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بِالنّاسِ " وَاشْتَدّ شَكْوَاهُ حَتّى غُمِرَ عَلَيْهِ
مِنْ شِدّةِ الْوَجَعِ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ نِسَاؤُهُ وَعَمّهُ
الْعَبّاسُ وَأُمّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ
عُمَيْسٍ فَتَشَاوَرُوا فِي لَدّهِ فَلَدّوهُ وَهُوَ مَغْمُورٌ فَلَمّا
أَفَاقَ قَالَ " مَنْ فَعَلَ بِي هَذَا هَذَا مِنْ عَمَلِ نِسَاءٍ جِئْنَ
مِنْ هَا هُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَتْ
أُمّ سَلَمَةَ وَأَسْمَاءُ لَدّتَاهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ
خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ . قَالَ " فَبِمَ
لَدَدْتُمُونِي " ؟ قَالُوا : بِالْعُودِ الْهِنْدِيّ وَشَيْءٍ مِنْ
وَرْسٍ وَقَطَرَاتٍ مِنْ زَيْتٍ . فَقَالَ " مَا كَانَ اللّهُ
لِيَقْذِفَنِي بِذَلِكَ الدّاءِ " ثُمّ قَالَ " عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ
لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إلّا لُدّ إلّا عَمّي الْعَبّاسُ [ ص 77
] وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قَالَتْ لَدَدْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَشَارَ أَنْ لَا تَلُدّونِي فَقُلْنَا : كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ
لِلدّوَاءِ فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدّونِي لَا
يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا لُدّ غَيْرَ عَمّي الْعَبّاسِ فَإِنّهُ لَمْ
يَشْهَدْكُمْ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ الْأَصْمَعِيّ : اللّدُودُ مَا
يُسْقَى الْإِنْسَانُ فِي أَحَدِ شِقّيْ الْفَمِ أُخِذَ مِنْ لَدِيدَيْ
الْوَادِي وَهُمَا جَانِبَاهُ . وَأَمّا الْوَجُورُ فَهُوَ فِي وَسَطِ
الْفَمِ . قُلْت : وَاللّدُودُ - بِالْفَتْحِ - هُوَ الدّوَاءُ الّذِي
يُلَدّ بِهِ . وَالسّعُوطُ مَا أُدْخِلَ مِنْ أَنْفِهِ .
[ مُعَاقَبَةُ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ ]
وَفِي
هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ مُعَاقَبَةُ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا
فَعَلَ سَوَاءٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُحَرّمًا لِحَقّ اللّهِ
وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ لِبِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا
قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَهُوَ
ثَابِتٌ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ وَتَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ
بِالْقِصَاصِ فِي اللّطْمَةِ وَالضّرْبَةِ وَفِيهَا عِدّةُ أَحَادِيثَ لَا
مُعَارِضَ لَهَا أَلْبَتّةَ فَيَتَعَيّنُ الْقَوْلُ بِهَا . [ ص 78 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الصّدَاعِ وَالشّقِيقَةِ
رَوَى
ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " حَدِيثًا فِي صِحّتِهِ نَظَرٌ أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا صُدِعَ غَلّفَ
رَأْسَهُ بِالْحِنّاءِ وَيَقُولُ إنّهُ نَافِعٌ بِإِذْنِ اللّهِ مِنْ
الصّدَاعِ وَالصّدَاعُ أَلَمٌ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الرّأْسِ أَوْ كُلّهِ
فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَحَدِ شِقّيْ الرّأْسِ لَازِمًا يُسَمّى
شَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ شَامِلًا لِجَمِيعِهِ لَازِمًا يُسَمّى بَيْضَةً
وَخُودَةً تَشْبِيهًا بِبَيْضَةِ السّلَاحِ الّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى
الرّأْسِ كُلّهِ وَرُبّمَا كَانَ فِي مُؤَخّرِ الرّأْسِ أَوْ فِي
مُقَدّمِهِ .
[ حَقِيقَةُ الصّدَاعِ ]
وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ
وَأَسْبَابُهُ مُخْتَلِفَةٌ . وَحَقِيقَةُ الصّدَاعِ سُخُونَةُ الرّأْسِ
وَاحْتِمَاؤُهُ لِمَا دَارَ فِيهِ مِنْ الْبُخَارِ يَطْلُبُ النّفُوذَ
مِنْ الرّأْسِ فَلَا يَجِدُ مَنْفَذًا فَيَصْدَعُهُ كَمَا يَصْدَعُ
الْوَعْيُ إذَا حَمِيَ مَا فِيهِ وَطَلَبَ النّفُوذَ فَكُلّ شَيْءٍ رَطْبٍ
إذَا حَمِيَ طَلَبَ مَكَانًا أَوْسَعَ مِنْ مَكَانِهِ الّذِي كَانَ فِيهِ
فَإِذَا عَرَضَ هَذَا الْبُخَارُ فِي الرّأْسِ كُلّهِ بِحَيْثُ لَا
يُمْكِنُهُ التّفَشّي وَالتّحَلّلُ وَجَالَ فِي الرّأْسِ سُمّيَ السّدْرُ
. [ ص 79 ]
[ أَسْبَابُ الصّدَاعِ ]
وَالصّدَاعُ يَكُونُ عَنْ
أَسْبَابٍ عَدِيدَةٍ أَحَدُهَا : مِنْ غَلَبَةِ وَاحِدٍ مِنْ الطّبَائِعِ
الْأَرْبَعَةِ . وَالْخَامِسُ يَكُونُ مِنْ قُرُوحٍ تَكُونُ فِي
الْمَعِدَةِ فَيَأْلَمُ الرّأْسُ لِذَلِكَ الْوَرَمِ لِاتّصَالِ الْعَصَبِ
الْمُنْحَدِرِ مِنْ الرّأْسِ بِالْمَعِدَةِ . وَالسّادِسُ مِنْ رِيحٍ
غَلِيظَةٍ تَكُونُ فِي الْمَعِدَةِ فَتَصْعَدُ إلَى الرّأْسِ فَتَصْدَعُهُ
. وَالسّابِعُ يَكُونُ مِنْ وَرَمٍ فِي عُرُوقِ الْمَعِدَةِ فَيَأْلَمُ
الرّأْسُ بِأَلَمِ الْمَعِدَةِ لِلِاتّصَالِ الّذِي بَيْنَهُمَا .
وَالثّامِنُ صُدَاعٌ يَحْصُلُ عَنْ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ مِنْ الطّعَامِ
ثُمّ يَنْحَدِرُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ نِيئًا فَيُصَدّعُ الرّأْسَ
وَيُثْقِلُهُ . وَالتّاسِعُ يَعْرِضُ بَعْدَ الْجِمَاعِ لِتَخَلْخُلِ
الْجِسْمِ فَيَصِلُ إلَيْهِ مِنْ حَرّ الْهَوَاءِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِهِ
. وَالْعَاشِرُ صُدَاعٌ يَحْصُلُ بَعْدَ الْقَيْءِ وَالِاسْتِفْرَاغِ إمّا
لِغَلَبَةِ الْيُبْسِ وَإِمّا لِتَصَاعُدِ الْأَبْخِرَةِ مِنْ الْمَعِدَةِ
إلَيْهِ . وَالْحَادِي عَشَرَ صُدَاعٌ يَعْرِضُ عَنْ شِدّةِ الْحَرّ
وَسُخُونَةِ الْهَوَاءِ . وَالثّانِي عَشَرَ مَا يَعْرِضُ عَنْ شِدّةِ
الْبَرْدِ وَتَكَاثُفِ الْأَبْخِرَةِ فِي الرّأْسِ وَعَدَمِ تَحَلّلِهَا .
وَالثّالِثَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ السّهَرِ وَعَدَمِ النّوْمِ .
وَالرّابِعُ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ضَغْطِ الرّأْسِ وَحَمْلِ الشّيْءِ
الثّقِيلِ عَلَيْهِ . وَالْخَامِسَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ كَثْرَةِ
الْكَلَامِ فَتَضْعُفُ قُوّةُ الدّمَاغِ لِأَجْلِهِ . وَالسّادِسَ عَشَرَ
مَا يَحْدُثُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَالرّيَاضَةِ الْمُفْرِطَةِ .
وَالسّابِعَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَعْرَاضِ النّفْسَانِيّةِ
كَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْوَسَاوِسِ وَالْأَفْكَارِ
الرّدِيئَةِ . [ ص 80 ] وَالثّامِنَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ شِدّةِ
الْجُوعِ فَإِنّ الْأَبْخِرَةَ لَا تَجِدُ مَا تَعْمَلُ فِيهِ فَتَكْثُرُ
وَتَتَصَاعَدُ إلَى الدّمَاغِ فَتُؤْلِمُهُ . وَالتّاسِعَ عَشَرَ مَا
يَحْدُثُ عَنْ وَرَمٍ فِي صِفَاقِ الدّمَاغِ وَيَجِدُ صَاحِبُهُ كَأَنّهُ
يُضْرَبُ بِالْمَطَارِقِ عَلَى رَأْسِهِ . وَالْعِشْرُونَ مَا يَحْدُثُ
بِسَبَبِ الْحُمّى لِاشْتِعَالِ حَرَارَتِهَا فِيهِ فَيَتَأَلّمُ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ سَبَبُ صُدَاعِ الشّقِيقَةِ ]
[ تَعْصِيبُ الرّأْسِ يُسْكِنُ الْوَجَعَ ]
وَسَبَبُ
صُدَاعِ الشّقِيقَةِ مَادّةٌ فِي شَرَايِينِ الرّأْسِ وَحْدَهَا حَاصِلَةٌ
فِيهَا أَوْ مُرْتَقِيَةٌ إلَيْهَا فَيَقْبَلُهَا الْجَانِبُ الْأَضْعَفُ
مِنْ جَانِبَيْهِ وَتِلْكَ الْمَادّةُ إمّا بُخَارِيّةٌ وَإِمّا أَخْلَاطٌ
حَارّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ وَعَلَامَتُهَا الْخَاصّةُ بِهَا ضَرْبَانِ
الشّرَايِينُ وَخَاصّةً فِي الدّمَوِيّ . وَإِذَا ضُبِطَتْ بِالْعَصَائِبِ
وَمُنِعَتْ مِنْ الضّرَبَان سَكَنَ الْوَجَعُ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو
نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " الطّبّ النّبَوِيّ " لَهُ أَنّ هَذَا النّوْعَ
كَانَ يُصِيبُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَمْكُثُ
الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَلَا يَخْرُجُ . وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ
قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ
عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ وَفِي " الصّحِيحِ " أَنّهُ قَالَ فِي مَرَضِ
مَوْتِهِ وَارْأَسَاه وَكَانَ يُعَصّبُ رَأْسَهُ [ ص 81 ] الشّقِيقَةِ
وَغَيْرِهَا مِنْ أَوْجَاعِ الرّأْسِ .
فَصْلٌ [ عِلَاجُ الصّدَاعِ ]
وَعِلَاجُهُ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَأَسْبَابِهِ فَمِنْهُ مَا
عِلَاجُهُ بِالِاسْتِفْرَاغِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِتَنَاوُلِ
الْغِذَاءِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِالسّكُونِ وَالدّعَةِ وَمِنْهُ مَا
عِلَاجُهُ بِالضّمَادَاتِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِالتّبْرِيدِ وَمِنْهُ
مَا عِلَاجُهُ بِالتّسْخِينِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِأَنْ يَجْتَنِبَ
سَمَاعَ الْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ .
[ الْعِلَاجُ بِالْحِنّاءِ جُزْئِيّ ]
إذَا
عُرِفَ هَذَا فَعِلَاجُ الصّدَاعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْحِنّاءِ هُوَ
جُزْئِيّ لَا كُلّيّ وَهُوَ عِلَاجُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ فَإِنّ
الصّدَاعَ إذَا كَانَ مِنْ حَرَارَةٍ مُلْهِبَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ
مَادّةٍ يَجِبُ اسْتِفْرَاغُهَا نَفَعَ فِيهِ الْحِنّاءُ نَفْعًا ظَاهِرًا
وَإِذَا دُقّ وَضُمّدَتْ بِهِ الْجَبْهَةُ مَعَ الْخَلّ سَكَنَ الصّدَاعُ
وَفِيهِ قُوّةٌ مُوَافِقَةٌ لِلْعَصَبِ إذَا ضُمّدَ بِهِ سَكَنَتْ
أَوْجَاعُهُ وَهَذَا لَا يَخْتَصّ بِوَجَعِ الرّأْسِ بَلْ يَعُمّ
الْأَعْضَاءَ وَفِيهِ قَبْضٌ تُشَدّ بِهِ الْأَعْضَاءُ وَإِذَا ضُمّدَ
بِهِ مَوْضِعُ الْوَرَمِ الْحَارّ وَالْمُلْتَهِبِ سَكّنَهُ . وَقَدْ
رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " تَارِيخِه ِ " وَأَبُو دَاوُدَ فِي " السّنَنِ "
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا شَكَا إلَيْهِ
أَحَدٌ وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إلّا قَالَ لَهُ " احْتَجِمْ " وَلَا شَكَا
إلَيْهِ وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ إلّا قَالَ لَهُ " اخْتَضِبْ بِالْحِنّاءِ
" . وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ سَلْمَى أُمّ رَافِعٍ خَادِمَةِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ كَانَ لَا يُصِيبُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُرْحَةٌ وَلَا شَوْكَةٌ إلّا وَضَعَ عَلَيْهَا
الْحِنّاءَ . [ ص 82 ]
فَصْلٌ [ مَنَافِعُ الْحِنّاءِ وَخَوَاصّهُ ]
وَالْحِنّاءُ
بَارِدٌ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ وَقُوّةُ شَجَرِ
الْحِنّاءِ وَأَغْصَانُهَا مُرَكّبَةٌ مِنْ قُوّةٍ مُحَلّلَةٍ
اكْتَسَبَتْهَا مِنْ جَوْهَرٍ فِيهَا مَائِيّ حَارّ بِاعْتِدَالٍ وَمِنْ
قُوّةٍ قَابِضَةٍ اكْتَسَبَتْهَا مِنْ جَوْهَرٍ فِيهَا أَرْضِيّ بَارِدٍ .
وَمِنْ مَنَافِعِهِ إنّهُ مُحَلّلٌ نَافِعٌ مِنْ حَرْقِ النّارِ وَفِيهِ
قُوّةٌ مُوَافِقَةٌ لِلْعَصَبِ إذَا ضُمّدَ بِهِ وَيَنْفَعُ إذَا مُضِغَ
مِنْ قُرُوحِ الْفَمِ وَالسّلَاقِ الْعَارِضِ فِيهِ وَيُبْرِئُ الْقُلَاعَ
الْحَادِثَ فِي أَفْوَاهِ الصّبْيَانِ وَالضّمَادُ بِهِ يَنْفَعُ مِنْ
الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ الْمُلْهِبَةِ وَيَفْعَلُ فِي الْجِرَاحَاتِ
فَهَلْ دَمُ الْأَخَوَيْنِ . وَإِذَا خُلِطَ نَوْرُهُ مَعَ الشّمْعِ
الْمُصَفّى وَدُهْنِ الْوَرْدِ يَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الْجَنْبِ .
وَمِنْ خَوَاصّهِ أَنّهُ إذَا بَدَأَ الْجُدَرِيّ يَخْرُجُ بِصَبِيّ
فَخُضِبَتْ أَسَافِلُ رِجْلَيْهِ بِحِنّاءٍ فَإِنّهُ يُؤْمَنُ عَلَى
عَيْنَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهُ وَهَذَا صَحِيحٌ مُجَرّبٌ
لَا شَكّ فِيهِ . وَإِذَا جُعِلَ نَوْرُهُ بَيْنَ طَيّ ثِيَابِ الصّوفِ
طَيّبَهَا وَمَنَعَ السّوسَ عَنْهَا وَإِذَا نُقِعَ وَرَقُهُ فِي مَاءٍ
يَغْمُرُهُ ثُمّ عُصِرَ وَشُرِبَ مَنْ صَفْوِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كُلّ
يَوْمٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا مَعَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سُكّرٍ وَيُغَذّى
عَلَيْهِ بِلَحْمِ الضّأْنِ الصّغِيرِ فَإِنّهُ يَنْفَعُ مِنْ ابْتِدَاءِ
الْجُذَامِ بِخَاصّيّةٍ فِيهِ عَجِيبَةٍ . وَحُكِيَ أَنّ رَجُلًا
تَشَقّقَتْ أَظَافِيرُ أَصَابِعِ يَدِهِ وَإِنّهُ بَذَلَ لِمَنْ
يُبْرِئُهُ مَالًا فَلَمْ يُجْدِ فَوَصَفَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَنْ يَشْرَبَ
عَشَرَةَ أَيّامٍ حِنّاءَ فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ ثُمّ نَقَعَهُ بِمَاءٍ
وَشَرِبَهُ فَبَرَأَ وَرَجَعَتْ أَظَافِيرُهُ إلَى حُسْنِهَا .
وَالْحِنّاءُ إذَا أُلْزِمَتْ بِهِ الْأَظْفَارُ مَعْجُونًا حَسّنَهَا
وَنَفَعَهَا وَإِذَا عُجِنَ بِالسّمْنِ [ ص 83 ] أَصْفَرَ نَفَعَهَا
وَنَفَعَ مِنْ الْجَرَبِ الْمُتَقَرّحِ الْمُزْمِنِ مَنْفَعَةً بَلِيغَةً
وَهُوَ يُنْبِتُ الشّعْرَ وَيُقَوّيهِ وَيُحَسّنُهُ وَيُقَوّي الرّأْسَ
وَيَنْفَعُ مِنْ النّفّاطَاتِ وَالْبُثُورِ الْعَارِضَةِ فِي السّاقَيْنِ
وَالرّجْلَيْنِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِتَرْكِ
إعْطَائِهِمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَإِنّهُمْ
لَا يُكْرَهُونَ عَلَى تَنَاوُلِهِمَا
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي "
جَامِعِهِ " وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا
تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطّعَامِ وَالشّرَابِ فَإِنّ اللّهَ عَزّ
وَجَلّ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الْأَطِبّاءِ
مَا أَغْزَرَ فَوَائِدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ النّبَوِيّةِ الْمُشْتَمِلَةِ
عَلَى حِكَمٍ إلَهِيّةٍ لَا سِيّمَا لِلْأَطِبّاءِ وَلِمَنْ يُعَالِجْ
الْمَرْضَى وَذَلِكَ أَنّ الْمَرِيضَ إذَا عَافَ الطّعَامَ أَوْ الشّرَابَ
فَذَلِكَ لِاشْتِغَالِ الطّبِيعَةِ بِمُجَاهَدَةِ الْمَرَضِ أَوْ
لِسُقُوطِ شَهْوَتِهِ أَوْ نُقْصَانِهَا لِضَعْفِ الْحَرَارَةِ
الْغَرِيزِيّةِ أَوْ خُمُودِهَا وَكَيْفَمَا كَانَ فَلَا يَجُوزُ
حِينَئِذٍ إعْطَاءُ الْغِذَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ . وَاعْلَمْ أَنّ
الْجُوعَ إنّا هُوَ طَلَبُ الْأَعْضَاءِ لِلْغِذَاءِ لِتَخَلّفِ
الطّبِيعَةِ بِهِ عَلَيْهَا عِوَضَ مَا يَتَحَلّلُ مِنْهَا فَتَجْذِبُ
الْأَعْضَاءَ الْقُصْوَى مِنْ الْأَعْضَاءِ الدّنْيَا حَتّى يَنْتَهِيَ [
ص 84 ] الطّبِيعَةُ بِمَادّتِهِ وَإِنْضَاجِهَا وَإِخْرَاجِهَا عَنْ
طَلَبِ الْغِذَاءِ أَوْ الشّرَابِ فَإِذَا أُكْرِهَ الْمَرِيضُ عَلَى
اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعَطّلَتْ بِهِ الطّبِيعَةُ عَنْ
فِعْلِهَا وَاشْتَغَلَتْ بِهَضْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ عَنْ إنْضَاجِ مَادّةِ
الْمَرَضِ وَدَفْعِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَرَرِ الْمَرِيضِ وَلَا
سِيّمَا فِي أَوْقَاتِ الْبُحْرَانِ أَوْ ضَعْفِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ
أَوْ خُمُودِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْبَلِيّةِ وَتَعْجِيلِ
النّازِلَةِ الْمُتَوَقّعَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي هَذَا
الْوَقْتِ وَالْحَالِ إلّا مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ قُوّتَهُ وَيُقَوّيهَا
مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ مُزْعِجٍ لِلطّبِيعَةِ أَلْبَتّةَ وَذَلِكَ
يَكُونُ بِمَا لَطُفَ قِوَامُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَغْذِيَةِ
وَاعْتَدَلَ مِزَاجُهُ كَشَرَابِ اللّينُوفَرِ وَالتّفّاحِ وَالْوَرْدِ
الطّرِيّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمِنْ الْأَغْذِيَةِ مَرَقُ
الْفَرَارِيجِ الْمُعْتَدِلَةِ الطّيّبَةِ فَقَطْ وَإِنْعَاشُ قُوَاهُ
بِالْأَرَايِيحِ الْعَطِرَةِ الْمُوَافِقَةِ وَالْأَخْبَارِ السّارّةِ
فَإِنّ الطّبِيبَ خَادِمُ الطّبِيعَةِ وَمُعِينُهَا لَا مُعِيقُهَا .
وَاعْلَمْ أَنّ الدّمَ الْجَيّدَ هُوَ الْمُغَذّي لِلْبَدَنِ وَأَنّ
الْبَلْغَمَ دَمٌ فَجّ قَدْ نَضِجَ بَعْضَ النّضْجِ فَإِذَا كَانَ بَعْضُ
الْمَرْضَى فِي بَدَنِهِ بَلْغَمٌ كَثِيرٌ وَعَدِمَ الْغِذَاءَ عَطَفَتْ
الطّبِيعَةُ عَلَيْهِ وَطَبَخَتْهُ وَأَنْضَجَتْهُ وَصَيّرَتْهُ دَمًا
وَغَذّتْ بِهِ الْأَعْضَاءَ وَاكْتَفَتْ بِهِ عَمّا سِوَاهُ وَالطّبِيعَةُ
هِيَ الْقُوّةُ الّتِي وَكَلَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ بِتَدْبِيرِ
الْبَدَنِ وَحِفْظِهِ وَصِحّتِهِ وَحِرَاسَتِهِ مُدّةَ حَيَاتِهِ .
[ إجْبَارُ الْمَرِيضِ عَلَى الطّعَامِ ]
وَاعْلَمْ
أَنّهُ قَدْ يَحْتَاجُ فِي النّدْرَةِ إلَى إجْبَارِ الْمَرِيضِ عَلَى
الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَذَلِكَ فِي الْأَمْرَاضِ الّتِي يَكُونُ مَعَهَا
اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ الْعَامّ
الْمَخْصُوصِ أَوْ مِنْ الْمُطْلَقِ الّذِي قَدْ دَلّ عَلَى تَقْيِيدِهِ
دَلِيلٌ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّ الْمَرِيضَ قَدْ يَعِيشُ بِلَا غِذَاءٍ
أَيّامًا لَا يَعِيشُ الصّحِيحُ فِي مِثْلِهَا . [ ص 85 ]
[ مَعْنَى فَإِنّ اللّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ ]
"
وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَإِنّ اللّهَ
يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ " مَعْنًى لَطِيفٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
الْأَطِبّاءُ لَا يَعْرِفُهُ إلّا مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَحْكَامِ
الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرِهَا فِي طَبِيعَةِ الْبَدَنِ
وَانْفِعَالِ الطّبِيعَةِ عَنْهَا كَمَا تَنْفَعِلُ هِيَ كَثِيرًا عَنْ
الطّبِيعَةِ وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَيْهِ إشَارَةً فَنَقُولُ النّفْسُ إذَا
حَصَلَ لَهَا مَا يَشْغَلُهَا مِنْ مَحْبُوبٍ أَوْ مَكْرُوهٍ أَوْ مَخُوفٍ
اشْتَغَلَتْ بِهِ عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ وَالشّرَابِ فَلَا تُحِسّ
بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ بَلْ وَلَا حَرّ وَلَا بَرْدٍ بَلْ تَشْتَغِلُ بِهِ
عَنْ الْإِحْسَاسِ الْمُؤْلِمِ الشّدِيدِ الْأَلَمِ فَلَا تُحِسّ بِهِ
وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلّا وَقَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا
مِنْهُ وَإِذَا اشْتَغَلَتْ النّفْسُ بِمَا دَهَمَهَا وَوَرَدَ عَلَيْهَا
لَمْ تُحِسّ بِأَلَمِ الْجُوعِ فَإِنْ كَانَ الْوَارِدُ مُفْرِحًا قَوِيّ
التّفْرِيحِ قَامَ لَهَا مَقَامَ الْغِذَاءِ فَشَبِعَتْ بِهِ
وَانْتَعَشَتْ قُوَاهَا وَتَضَاعَفَتْ وَجَرَتْ الدّمَوِيّةُ فِي
الْجَسَدِ حَتّى تَظْهَرَ فِي سَطْحِهِ فَيُشْرِقُ وَجْهُهُ وَتَظْهَرُ
دَمَوِيّتُهُ فَإِنّ الْفَرَحَ يُوجِبُ انْبِسَاطَ دَمِ الْقَلْبِ
فَيَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ فَتَمْتَلِئُ بِهِ فَلَا تَطْلُبُ
الْأَعْضَاءُ حَظّهَا مِنْ الْغِذَاءِ الْمُعْتَادِ لِاشْتِغَالِهَا بِمَا
هُوَ أَحَبّ إلَيْهَا وَإِلَى الطّبِيعَةِ مِنْهُ وَالطّبِيعَةُ إذَا
ظَفِرَتْ بِمَا تُحِبّ آثَرَتْهُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ . وَإِنْ كَانَ
الْوَارِدُ مُؤْلِمًا أَوْ مُحْزِنًا أَوْ مَخُوفًا اشْتَغَلَتْ
بِمُحَارَبَتِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ
فَهِيَ فِي حَالِ حَرْبِهَا فِي شَغْلٍ عَنْ طَلَبِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ
. فَإِنْ ظَفِرَتْ فِي هَذَا الْحَرْبِ انْتَعَشَتْ قُوَاهَا وَأَخْلَفَتْ
عَلَيْهَا نَظِيرَ مَا فَاتَهَا مِنْ قُوّةِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَإِنْ
كَانَتْ مَغْلُوبَةً مَقْهُورَةً انْحَطّتْ قُوَاهَا بِحَسَبِ مَا حَصَلَ
لَهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا
الْعَدُوّ سِجَالًا فَالْقُوّةُ تَظْهَرُ تَارَةً وَتَخْتَفِي أُخْرَى
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَرْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثَالِ الْحَرْبِ
الْخَارِجِ بَيْنَ الْعَدُوّيْنِ الْمُتَقَاتِلَيْنِ وَالنّصْرُ
لِلْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ إمّا قَتِيلٌ وَإِمّا جَرِيحٌ وَإِمّا أَسِيرٌ
. فَالْمَرِيضُ لَهُ مَدَدٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى يُغَذّيهِ بِهِ زَائِدًا
عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبّاءُ مِنْ تَغْذِيَتِهِ بِالدّمِ وَهَذَا
الْمَدَدُ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ وَانْكِسَارِهِ وَانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْ
رَبّهِ عَزّ وَجَلّ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ لَهُ قُرْبًا
مِنْ رَبّهِ فَإِنّ الْعَبْدَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ [ ص 86 ] رَبّهِ إذَا
انْكَسَرَ قَلْبُهُ وَرَحْمَةُ رَبّهِ عِنْدَئِذٍ قَرِيبَةٌ مِنْهُ فَإِنْ
كَانَ وَلِيّا لَهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْقَلْبِيّةِ مَا
تَقْوَى بِهِ قُوَى طَبِيعَتِهِ وَتَنْتَعِشُ بِهِ قُوَاهُ أَعْظَمَ مِنْ
قُوّتِهَا وَانْتِعَاشِهَا بِالْأَغْذِيَةِ الْبَدَنِيّةِ وَكُلّمَا
قَوِيَ إيمَانُهُ وَحُبّهُ لِرَبّهِ وَأُنْسُهُ بِهِ وَفَرَحُهُ بِهِ
وَقَوِيَ يَقِينُهُ بِرَبّهِ وَاشْتَدّ شَوْفُهُ إلَيْهِ وَرِضَاهُ بِهِ
وَعَنْهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْقُوّةِ مَا لَا يُعَبّرُ
عَنْهُ وَلَا يُدْرِكُهُ وَصْفُ طَبِيبٍ وَلَا يَنَالُهُ عِلْمُهُ .
وَمَنْ غَلَظَ طَبْعُهُ وَكَثُفَتْ نَفْسُهُ عَنْ فَهْمِ هَذَا
وَالتّصْدِيقِ بِهِ فَلْيَنْظُرْ حَالَ كَثِيرٍ مِنْ عُشّاقِ الصّوَرِ
الّذِينَ قَدْ امْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ بِحُبّ مَا يَعْشَقُونَهُ مِنْ
صُورَةٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِلْمٍ وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ مِنْ
هَذَا عَجَائِبَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ .
[ وِصَالُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّوْمِ ]
وَقَدْ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّهُ كَانَ يُوَاصِلُ فِي الصّيَامِ الْأَيّامَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ
وَيَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْوِصَالِ وَيَقُولُ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ
إنّي أَظَلّ يُطْعِمُنِي رَبّي وَيَسْقِينِي وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا
الطّعَامَ وَالشّرَابَ لَيْسَ هُوَ الطّعَامَ الّذِي يَأْكُلُهُ
الْإِنْسَانُ بِفَمِهِ وَإِلّا لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا وَلَمْ يَتَحَقّقْ
الْفَرْقُ بَلْ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فَإِنّهُ قَالَ أَظَلّ يُطْعِمُنِي
رَبّي وَيَسْقِينِي " وَأَيْضًا فَإِنّهُ فَرّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ
فِي نَفْسِ الْوِصَالِ وَأَنّهُ يَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى مَا لَا
يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِفَمِهِ لَمْ
يَقُلْ لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ وَإِنّمَا فَهِمَ هَذَا مِنْ الْحَدِيثِ مَنْ
قَلّ نَصِيبُهُ مِنْ غِذَاءِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ وَتَأْثِيرُهُ فِي
الْقُوّةِ وَإِنْعَاشِهَا وَاغْتِذَائِهَا بِهِ فَوْقَ تَأْثِيرِ
الْغِذَاءِ الْجُسْمَانِيّ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ . [ ص 87 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْعُذْرَةِ وَفِي الْعِلَاجِ بِالسّعُوطِ
ثَبَتَ
عَنْهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّهُ قَالَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ
الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيّ وَلَا تُعَذّبُوا صِبْيَانَكُمْ
بِالْغَمْزِ مِنْ الْعُذْرَةِ " وَفِي " السّنَنِ " و " الْمُسْنَدِ "
عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا
صَبِيّ يُسِيلُ مَنْخَرَاهُ دَمًا فَقَالَ مَا هَذَا ؟ " . فَقَالُوا :
بِهِ الْعُذْرَةُ أَوْ وَجَعٌ فِي رَأْسِهِ فَقَالَ " وَيْلَكُنّ لَا
تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنّ أَيّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَ وَلَدَهَا عُذْرَةٌ
أَوْ وَجَعٌ فِي رَأْسِهِ فَلْتَأْخُذْ قُسْطًا هِنْدِيّا فَلْتَحُكّهُ
بِمَاءٍ ثُمّ تُسْعِطْهُ إيّاهُ فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا فَصُنِعَ ذَلِكَ بِالصّبِيّ فَبَرَأَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ الْعُذْرَةُ تَهَيّجٌ فِي الْحَلْقِ مِنْ الدّمِ فَإِذَا
عُولِجَ مِنْهُ قِيلَ قَدْ عُذِرَ بِهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ انْتَهَى .
وَقِيلَ الْعُذْرَةُ قُرْحَةٌ تَخْرُجُ فِيمَا بَيْنَ الْأُذُنِ
وَالْحَلْقِ وَتَعْرِضُ لِلصّبْيَانِ غَالِبًا .
[ عِلَاجُ الْعُذْرَةِ بِسَعُوطِ الْقُسْطِ ]
وَأَمّا
نَفْعُ السّعُوطِ مِنْهَا بِالْقُسْطِ الْمَحْكُوكِ فَلِأَنّ الْعُذْرَةَ
مَادّتُهَا دَمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْبَلْغَمُ لَكِنّ تَوَلّدَهُ فِي
أَبْدَانِ الصّبْيَانِ أَكْثَرُ وَفِي الْقُسْطِ تَجْفِيفٌ يَشُدّ
اللّهَاةَ وَيَرْفَعُهَا إلَى مَكَانِهَا وَقَدْ يَكُونُ نَفْعُهُ فِي
هَذَا الدّاءِ بِالْخَاصّيّةِ وَقَدْ يَنْفَعُ فِي الْأَدْوَاءِ
الْحَارّةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْحَارّةِ بِالذّاتِ تَارَةً وَبِالْعَرْضِ
أُخْرَى . وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " فِي مُعَالَجَةِ سُقُوطِ
اللّهَاةِ الْقُسْطَ مَعَ الشّبّ الْيَمَانِيّ وَبِزْرِ الْمَرْوِ . [ ص
88 ] الْعُودُ الْهِنْدِيّ وَهُوَ الْأَبْيَضُ مِنْهُ وَهُوَ حُلْوٌ
وَفِيهِ مَنَافِعُ عَدِيدَةٌ وَكَانُوا يُعَالِجُونَ أَوْلَادَهُمْ
بِغَمْزِ اللّهَاةِ وَبِالْعِلَاقِ وَهُوَ شَيْءٌ يُعَلّقُونَهُ عَلَى
الصّبْيَانِ فَنَهَاهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ
ذَلِكَ وَأَرْشَدَهُمْ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْأَطْفَالِ وَأَسْهَلُ
عَلَيْهِمْ . وَالسّعُوطُ مَا يُصَبّ فِي الْأَنْفِ وَقَدْ يَكُونُ
بِأَدْوِيَةٍ مُفْرَدَةٍ وَمُرَكّبَةٍ تُدَقّ وَتُنْخَلُ وَتُعْجَنُ
وَتُجَفّفُ ثُمّ تُحَلّ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُسْعَطُ بِهَا فِي أَنْفِ
الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ مَا
يَرْفَعُهُمَا لِتَنْخَفِضَ رَأْسُهُ فَيَتَمَكّنُ السّعُوطُ مِنْ
الْوُصُولِ إلَى دِمَاغِهِ وَيَسْتَخْرِجُ مَا فِيهِ مِنْ الدّاءِ
بِالْعُطَاسِ وَقَدْ مَدَحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
التّدَاوِي بِالسّعُوطِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ . وَذَكَرَ أَبُو
دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
اسْتَعَطَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمَفْئُودِ
رَوَى
أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ
مَرِضْت مَرَضًا فَأَتَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَعُودُنِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيّ حَتّى وَجَدْت
بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي وَقَالَ لِي : " إنّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ فَأْتِ
الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ مِنْ ثَقِيفٍ فَإِنّهُ رَجُلٌ يَتَطَبّبُ
فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنّ
بِنَوَاهُنّ ثُمّ لِيَلُدّكَ بِهِنّ " الْمَفْئُودُ الّذِي أُصِيبَ
فُؤَادُهُ فَهُوَ يَشْتَكِيهِ كَالْمَبْطُونِ الّذِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ .
[ ص 89 ] أَحَدِ جَانِبَيْ الْفَمِ .
[ عِلَاجُ الْمَفْئُودِ بِالتّمْرِ ]
وَفِي
التّمْرِ خَاصّيّةٌ عَجِيبَةٌ لِهَذَا الدّاءِ وَلَا سِيّمَا تَمْرَ
الْمَدِينَةِ وَلَا سِيّمَا الْعَجْوَةَ مِنْهُ . وَفِي كَوْنِهَا سَبْعًا
خَاصّيّةٌ أُخْرَى تُدْرَكُ بِالْوَحْيِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ
حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَصَبّحَ بِسَبْعِ
تَمَرَاتٍ مِنْ تَمْرِ الْعَالِيَةِ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمّ
وَلَا سِحْرٌ وَفِي لَفْظٍ مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمّا بَيْنَ
لَابَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَضُرّهُ سَمّ حَتّى يُمْسِيَ
[ فَوَائِدُ التّمْرِ ]
وَالتّمْرُ
حَارّ فِي الثّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الْأُولَى . وَقِيلَ رَطْبٌ فِيهَا .
وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ وَهُوَ غِذَاءٌ فَاضِلٌ حَافِظٌ لِلصّحّةِ لَا سِيّمَا
لِمَنْ اعْتَادَ الْغِذَاءَ بِهِ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ
وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ
وَالْحَارّةِ الّتِي حَرَارَتُهَا فِي الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَهُوَ
لَهُمْ أَنْفَعُ مِنْهُ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لِبُرُودَةِ
بَوَاطِنِ سُكّانِهَا وَحَرَارَةِ بَوَاطِنِ سُكّانِ الْبِلَادِ
الْبَارِدَةِ وَلِذَلِكَ يُكْثِرُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ
وَالطّائِفِ وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ الْبِلَادِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا مِنْ
الْأَغْذِيَةِ الْحَارّةِ مَا لَا يَتَأَتّى لِغَيْرِهِمْ كَالتّمْرِ
وَالْعَسَلِ وَشَاهَدْنَاهُمْ يَضَعُونَ فِي أَطْعِمَتِهِمْ مِنْ
الْفُلْفُلِ وَالزّنْجَبِيلِ فَوْقَ مَا يَضَعُهُ غَيْرُهُمْ نَحْوَ
عَشَرَةِ أَضْعَافٍ أَوْ أَكْثَرَ وَيَأْكُلُونَ الزّنْجَبِيلَ كَمَا
يَأْكُلُ غَيْرُهُمْ الْحَلْوَى وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مَنْ يَتَنَقّلُ بِهِ
مِنْهُمْ كَمَا يَتَنَقّلُ بِالنّقْلِ وَيُوَافِقُهُمْ ذَلِكَ وَلَا
يَضُرّهُمْ لِبُرُودَةِ أَجْوَافِهِمْ وَخُرُوجِ الْحَرَارَةِ إلَى
ظَاهِرِ الْجَسَدِ كَمَا تُشَاهَدُ مِيَاهُ الْآبَارِ تَبْرُدُ فِي
الصّيْفِ وَتَسْخَنُ فِي الشّتَاءِ وَكَذَلِكَ تُنْضِجُ الْمَعِدَةُ مِنْ
الْأَغْذِيَةِ الْغَلِيظَةِ فِي الشّتَاءِ مَا لَا تُنْضِجُهُ فِي
الصّيْفِ . [ ص 90 ] أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَالتّمْرُ لَهُمْ يَكَادُ أَنْ
يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ لِغَيْرِهِمْ وَهُوَ قُوتُهُمْ
وَمَادّتُهُمْ وَتَمْرُ الْعَالِيَةِ مِنْ أَجْوَدِ أَصْنَافِ تَمْرِهِمْ
فَإِنّهُ مَتِينُ الْجِسْمِ لَذِيذُ الطّعْمِ صَادِقُ الْحَلَاوَةِ
وَالتّمْرُ يَدْخُلُ فِي الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ
وَهُوَ يُوَافِقُ أَكْثَرَ الْأَبْدَانِ مُقَوّ لِلْحَارّ الْغَرِيزِيّ
وَلَا يَتَوَلّدُ عَنْهُ مِنْ الْفَضَلَاتِ الرّدِيئَةِ مَا يَتَوَلّدُ
عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ بَلْ يَمْنَعُ لِمَنْ
اعْتَادَهُ مِنْ تَعَفّنِ الْأَخْلَاطِ وَفَسَادِهَا .
[ اخْتِصَاصُ الْأَدْوِيَةِ بِالْأَمْكِنَةِ ]
وَهَذَا
الْحَدِيثُ مِنْ الْخِطَابِ الّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصّ كَأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ وَلَا رَيْبَ أَنّ لِلْأَمْكِنَةِ
اخْتِصَاصًا بِنَفْعِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ
دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الدّوَاءُ الّذِي قَدْ يَنْبُتُ فِي هَذَا
الْمَكَانِ نَافِعًا مِنْ الدّاءِ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ النّفْعُ
إذَا نَبَتَ فِي مَكَانٍ غَيْرِهِ لِتَأْثِيرِ نَفْسِ التّرْبَةِ أَوْ
الْهَوَاءِ أَوْ هُمَا جَمِيعًا فَإِنّ لِلْأَرْضِ خَوَاصّ وَطَبَائِعَ
يُقَارِبُ اخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ طَبَائِعِ الْإِنْسَانِ وَكَثِيرٌ
مِنْ النّبَاتِ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ غِذَاءً مَأْكُولًا وَفِي
بَعْضِهَا سَمّا قَاتِلًا وَرُبّ أَدْوِيَةٍ لِقَوْمٍ أَغْذِيَةٌ
لِآخَرِينَ وَأَدْوِيَةٍ لِقَوْمٍ مِنْ أَمْرَاضٍ هِيَ أَدْوِيَةٌ
لِآخَرِينَ فِي أَمْرَاضٍ سِوَاهَا وَأَدْوِيَةٍ لِأَهْلِ بَلَدٍ لَا
تُنَاسِبُ غَيْرَهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ
[ خَاصّيّتُهُ عَدَدَ سَبْعٍ ]
وَأَمّا
خَاصّيّةُ السّبْعِ فَإِنّهَا قَدْ وَقَعَتْ قَدْرًا وَشَرْعًا فَخَلَقَ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ السّمَاوَاتِ سَبْعًا وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا
وَالْأَيّامَ سَبْعًا وَالْإِنْسَانُ كَمُلَ خَلْقُهُ فِي سَبْعَةِ
أَطْوَارٍ وَشَرَعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الطّوَافَ سَبْعًا
وَالسّعْيَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَرَمْيَ الْجِمَارِ
سَبْعًا سَبْعًا وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَبْعًا فِي الْأُولَى .
وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرُوهُمْ بِالصّلَاةِ لِسَبْعٍ "
وَإِذَا صَارَ لِلْغُلَامِ سَبْعُ سِنِينَ خُيّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ " فِي
[ ص 91 ] أَبُوهُ أَحَقّ بِهِ مِنْ أُمّهِ " وَفِي ثَالِثَةٍ أُمّهُ
أَحَقّ بِهِ وَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
مَرَضِهِ أَنْ يُصَبّ عَلَيْهِ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ وَسَخّرَ اللّهُ
الرّيحَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ سَبْعَ لَيَالٍ وَدَعَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعِينَهُ اللّهُ عَلَى قَوْمِهِ بِسَبْعٍ
كَسَبْعِ يُوسُفَ وَمَثّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا يُضَاعِفُ بِهِ
صَدَقَةَ الْمُتَصَدّقِ بِحَبّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ وَالسّنَابِلُ الّتِي رَآهَا صَاحِبُ يُوسُفَ
سَبْعًا وَالسّنِينَ الّتِي زَرَعُوهَا دَأَبًا سَبْعًا وَتُضَاعَفُ
الصّدَقَةُ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ
وَيَدْخُلُ الْجَنّةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ سَبْعُونَ
أَلْفًا. فَلَا رَيْبَ أَنّ لِهَذَا الْعَدَدِ خَاصّيّةً لَيْسَتْ
لِغَيْرِهِ وَالسّبْعَةُ جَمَعَتْ مَعَانِيَ الْعَدَدِ كُلّهِ وَخَوَاصّهُ
فَإِنّ الْعَدَدَ شَفْعٌ وَوَتْرٌ . وَالشّفْعُ أَوّلٌ وَثَانٍ .
وَالْوَتْرُ كَذَلِكَ فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ شَفْعٌ أَوّلٌ وَثَانٍ
. وَوَتْرٌ أَوّلٌ وَثَانٍ وَلَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ فِي
أَقَلّ مِنْ سَبْعَةٍ وَهِيَ عَدَدٌ كَامِلٌ جَامِعٌ لِمَرَاتِبِ
الْعَدَدِ الْأَرْبَعَةِ أَعْنِي الشّفْعَ وَالْوَتْرَ [ ص 92 ]
وَبِالثّانِي الْخَمْسَةَ وَبِالشّفْعِ الْأَوّلِ الِاثْنَيْنِ
وَبِالثّانِي الْأَرْبَعَةَ وَلِلْأَطِبّاءِ اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ
بِالسّبْعَةِ وَلَا سِيّمَا فِي الْبَحّارِينَ . وَقَدْ قَالَ بُقْرَاطُ :
كُلّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فَهُوَ مُقَدّرٌ عَلَى سَبْعَةِ
أَجْزَاءٍ وَالنّجُومُ سَبْعَةٌ وَالْأَيّامُ سَبْعَةٌ وَأَسْنَانُ
النّاسِ سَبْعَةٌ أَوّلُهَا طِفْلٌ إلَى سَبْعٍ ثُمّ صَبِيّ إلَى أَرْبَعَ
عَشْرَةَ ثُمّ مُرَاهِقٌ ثُمّ شَابّ ثُمّ كَهْلٌ ثُمّ شَيْخٌ ثُمّ هَرَمٌ
إلَى مُنْتَهَى الْعُمُرِ وَاَللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحِكْمَتِهِ
وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ هَلْ هُوَ لِهَذَا
الْمَعْنَى أَوْ لِغَيْرِهِ ؟ وَنَفَعَ هَذَا الْعَدَدُ مِنْ هَذَا
التّمْرِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ مِنْ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِعَيْنِهَا مِنْ
السّمّ وَالسّحْرِ بِحَيْثُ تَمْنَعُ إصَابَتُهُ مِنْ الْخَوَاصّ الّتِي
لَوْ قَالَهَا بُقْرَاطُ وجالينوس وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَطِبّاءِ
لَتَلَقّاهَا عَنْهُمْ الْأَطِبّاءُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ
وَالِانْقِيَادِ مَعَ أَنّ الْقَائِلَ إنّمَا مَعَهُ الْحَدْسُ
وَالتّخْمِينُ وَالظّنّ فَمَنْ كَلَامُهُ كُلّهُ يَقِينٌ وَقَطْعٌ
وَبُرْهَانٌ وَوَحْيٌ أَوْلَى أَنْ تُتَلَقّى أَقْوَالُهُ بِالْقَبُولِ
وَالتّسْلِيمِ وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ . وَأَدْوِيَةُ السّمُومِ تَارَةً
تَكُونُ بِالْكَيْفِيّةِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْخَاصّيّةِ كَخَوَاصّ
كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْجَارِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ الْعَلِيلِ بِالدّوَاءِ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُ النّفْعِ بِهِ ]
وَيَجُوزُ
نَفْعُ التّمْرِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ السّمُومِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ
مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوصِ وَيَجُوزُ نَفْعُهُ لِخَاصّيّةِ تِلْكَ
الْبَلَدِ وَتِلْكَ التّرْبَةِ الْخَاصّةِ مِنْ كُلّ سَمّ وَلَكِنْ هَا
هُنَا أَمْرٌ لَا بُدّ مِنْ بَيَانِهِ وَهُوَ أَنّ مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ
الْعَلِيلِ بِالدّوَاءِ قَبُولَهُ وَاعْتِقَادَ النّفْعِ بِهِ
فَتَقْبَلُهُ الطّبِيعَةُ فَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَفْعِ الْعِلّةِ
حَتّى إنّ كَثِيرًا مِنْ الْمُعَالَجَاتِ يَنْفَعُ بِالِاعْتِقَادِ
وَحُسْنِ الْقَبُولِ وَكَمَالِ التّلَقّي وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ مِنْ
ذَلِكَ عَجَائِبَ وَهَذَا لِأَنّ الطّبِيعَةَ يَشْتَدّ قَبُولُهَا لَهُ
وَتَفْرَحُ النّفْسُ بِهِ فَتَنْتَعِشُ الْقُوّةُ وَيَقْوَى سُلْطَانُ
الطّبِيعَةِ وَيَنْبَعِثُ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ فَيُسَاعِدُ عَلَى دَفْعِ
الْمُؤْذِي وَبِالْعَكْسِ يَكُونُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَدْوِيَةِ نَافِعًا
لِتِلْكَ الْعِلّةِ فَيَقْطَعُ عَمَلَهُ سُوءُ اعْتِقَادِ الْعَلِيلِ
فِيهِ وَعَدَمُ أَخْذِ الطّبِيعَةِ لَهُ بِالْقَبُولِ فَلَا يُجْدِي
عَلَيْهَا شَيْئًا . وَاعْتَبَرَ هَذَا بِأَعْظَمِ [ ص 93 ] دَاءٍ كَيْفَ
لَا يَنْفَعُ الْقُلُوبَ الّتِي لَا تَعْتَقِدُ فِيهِ الشّفَاءَ
وَالنّفْعَ بَلْ لَا يَزِيدُهَا إلّا مَرَضًا إلَى مَرَضِهَا وَلَيْسَ
لِشِفَاءِ الْقُلُوبِ دَوَاءٌ قَطّ أَنْفَعُ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ
شِفَاؤُهَا التّامّ الْكَامِلُ الّذِي لَا يُغَادِرُ فِيهَا سَقَمًا إلّا
أَبْرَأَهُ وَيَحْفَظُ عَلَيْهَا صِحّتَهَا الْمُطْلَقَةَ وَيَحْمِيهَا
الْحَمِيّةَ التّامّةَ مِنْ كُلّ مُؤْذٍ وَمُضِرّ وَمَعَ هَذَا
فَإِعْرَاضُ أَكْثَرِ الْقُلُوبِ عَنْهُ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهَا
الْجَازِمِ الّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنّهُ كَذَلِكَ وَعَدَمُ
اسْتِعْمَالِهِ وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْأَدْوِيَةِ الّتِي رَكّبَهَا
بَنُو جِنْسِهَا حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّفَاءِ بِهِ وَغَلَبَتْ
الْعَوَائِدُ وَاشْتَدّ الْإِعْرَاضُ وَتَمَكّنَتْ الْعِلَلُ
وَالْأَدْوَاءُ الْمُزْمِنَةُ مِنْ الْقُلُوبِ وَتَرَبّى الْمَرْضَى
وَالْأَطِبّاءُ عَلَى عِلَاجِ بَنِي جِنْسِهِمْ وَمَا وَضَعَهُ لَهُمْ
شُيُوخُهُمْ وَمَنْ يُعَظّمُونَهُ وَيُحْسِنُونَ بِهِ ظُنُونَهُمْ
فَعَظُمَ الْمُصَابُ وَاسْتَحْكَمَ الدّاءُ وَتَرَكّبَتْ أَمْرَاضٌ
وَعِلَلٌ أَعْيَا عَلَيْهِمْ عِلَاجُهَا وَكُلّمَا عَالَجُوهَا بِتِلْكَ
الْعِلَاجَاتِ الْحَادِثَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا وَقَوِيَتْ وَلِسَانُ
الْحَالِ يُنَادِي عَلَيْهِمْ
وَمِنْ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمّة ٌ
قُرْبُ الشّفَاءِ وَمَا إلَيْهِ وُصُولُ
كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظّمَأُ
وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي دَفْعِ ضَرَرِ
الْأَغْذِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَإِصْلَاحِهَا بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهَا
وَيُقَوّي نَفْعَهَا
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ الرّطَبَ بِالْقِثّاءِ وَالرّطَبُ حَارّ
رَطْبٌ فِي الثّانِيَةِ يُقَوّي الْمَعِدَةَ الْبَارِدَةَ وَيُوَافِقُهَا
وَيَزِيدُ فِي [ ص 94 ] وَمُضِرّ بِالْأَسْنَانِ وَالْقِثّاءُ بَارِدٌ
رَطْبٌ فِي الثّانِيَةِ مُسَكّنٌ لِلْعَطَشِ مُنْعِشٌ لِلْقُوَى بِشَمّهِ
لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِطْرِيّةِ مُطْفِئٌ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ
الْمُلْتَهِبَةِ وَإِذَا جُفّفَ بِزْرُهُ وَدُقّ وَاسْتُحْلِبَ بِالْمَاءِ
وَشُرِبَ سَكّنَ الْعَطَشَ وَأَدَرّ الْبَوْلَ وَنَفَعَ مِنْ وَجَعِ
الْمَثَانَةِ . وَإِذَا دُقّ وَنُخِلَ وَدُلِكَ بِهِ الْأَسْنَانُ
جَلَاهَا وَإِذَا دُقّ وَرَقُهُ وَعُمِلَ مِنْهُ ضِمَادٌ مَعَ الميبختج
نَفَعَ مِنْ عَضّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا حَارّ
وَهَذَا بَارِدٌ وَفِي كُلّ مِنْهُمَا صَلَاحُ الْآخَرِ وَإِزَالَةٌ
لِأَكْثَرِ ضَرَرِهِ وَمُقَاوَمَةُ كُلّ كَيْفِيّةٍ بِضِدّهَا وَدَفْعِ
سُورَتِهَا بِالْأُخْرَى وَهَذَا أَصْلُ الْعِلَاجِ كُلّهِ وَهُوَ أَصْلٌ
فِي حِفْظِ الصّحّةِ بَلْ عِلْمُ الطّبّ كُلّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا .
وَفِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ فِي الْأَغْذِيَةِ
وَالْأَدْوِيَةِ إصْلَاحٌ لَهَا وَتَعْدِيلٌ وَدَفْعٌ لِمَا فِيهَا مِنْ
الْكَيْفِيّاتِ الْمُضِرّةِ لِمَا يُقَابِلُهَا وَفِي ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى
صِحّةِ الْبَدَنِ وَقُوّتِهِ وَخَصْبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا : سَمّنُونِي بِكُلّ شَيْءٍ فَلَمْ أَسْمَنْ فَسَمّنُونِي
بِالْقِثّاءِ وَالرّطَبِ فَسَمِنْت . وَبِالْجُمْلَةِ فَدَفْعُ ضَرَرِ
الْبَارِدِ بِالْحَارّ وَالْحَارّ بِالْبَارِدِ وَالرّطَبِ بِالْيَابِسِ
وَالْيَابِسِ بِالرّطَبِ وَتَعْدِيلُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مِنْ
أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجَاتِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَنَظِيرُ هَذَا مَا
تَقَدّمَ مِنْ أَمْرِهِ بِالسّنَا وَالسّنّوتِ وَهُوَ الْعَسَلُ الّذِي
فِيهِ شَيْءٌ مِنْ السّمْنِ يَصْلُحُ بِهِ السّنَا وَيُعْدِلُهُ
فَصَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ بُعِثَ بِعِمَارَةِ الْقُلُوبِ
وَالْأَبْدَانِ وَبِمَصَالِحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحِمْيَةِ
الدّوَاءُ
كُلّهُ شَيْئَانِ حِمْيَةٌ وَحِفْظُ صِحّةٍ . فَإِذَا وَقَعَ التّخْلِيطُ
اُحْتِيجَ إلَى [ ص 95 ] الطّبّ كُلّهِ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ
الثّلَاثَةِ . وَالْحِمْيَةُ : حِمْيَتَانِ حِمْيَةٌ عَمّا يَجْلِبُ
الْمَرَضَ وَحِمْيَةٌ عَمّا يَزِيدُهُ فَيَقِفُ عَلَى حَالِهِ فَالْأَوّلُ
حِمْيَةُ الْأَصِحّاءِ . وَالثّانِيَةُ حِمْيَةُ الْمَرْضَى فَإِنّ
الْمَرِيضَ إذَا احْتَمَى وَقَفَ مَرَضُهُ عَنْ التّزَايُدِ وَأَخَذَتْ
الْقُوَى فِي دَفْعِهِ . وَالْأَصْلُ فِي الْحِمْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
{ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا } [ النّسَاءِ 43 الْمَائِدَةِ 6 ] فَحَمَا
الْمَرِيضَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنّهُ يَضُرّهُ . وَفِي "
سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " وَغَيْرِهِ عَنْ أُمّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ
الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ عَلِيّ وَعَلِيّ نَاقِهٌ مِنْ مَرَضٍ وَلَنَا
دَوَالِي مُعَلّقَةٌ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَامَ عَلِيّ يَأْكُلُ مِنْهَا فَطَفِقَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِعَلِيّ : " إنّك
نَاقِهٌ " حَتّى كَفّ . قَالَتْ وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْت
بِهِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ : " مِنْ
هَذَا أَصِبْ فَإِنّهُ أَنْفَعُ لَكَ " وَفِي لَفْظٍ فَقَالَ " مِنْ هَذَا
فَأَصِبْ فَإِنّهُ أَوْفَقُ لَكَ " وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ "
أَيْضًا عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ فَقَالَ اُدْنُ
فَكُلْ فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْت فَقَالَ أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِكَ
رَمَدٌ ؟ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْضَغُ مِنْ النّاحِيَةِ
الْأُخْرَى فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِي حَدِيثٍ مَحْفُوظٍ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ
اللّهَ إذَا أَحَبّ عَبْدًا حَمَاهُ مِنْ الدّنْيَا كَمَا يَحْمِي
أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ عَنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَفِي لَفْظٍ إنّ اللّهَ
يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدّنْيَا [ ص 96 ] الْحِمْيَةُ رَأْسُ
الدّوَاءُ وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ وَعَوّدُوا كُلّ جِسْمٍ مَا
اعْتَادَ فَهَذَا الْحَدِيثُ إنّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ
كَلَدَةَ طَبِيبِ الْعَرَبِ وَلَا يَصِحّ رَفْعُهُ إلَى النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمّةِ
الْحَدِيثِ . وَيُذْكَرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّ الْمَعِدَةَ حَوْضُ الْبَدَنِ وَالْعُرُوقُ إلَيْهَا وَارِدَةٌ
فَإِذَا صَحّتْ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالصّحّةِ وَإِذَا
سَقِمَتْ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالسّقَمِ وَقَالَ الْحَارِثُ
رَأْسُ الطّبّ الْحِمْيَةُ وَالْحِمْيَةُ عِنْدَهُمْ لِلصّحِيحِ فِي
الْمَضَرّةِ بِمَنْزِلَةِ التّخْلِيطِ لِلْمَرِيضِ وَالنّاقِهِ وَأَنْفَعُ
مَا تَكُونُ الْحِمْيَةُ لِلنّاقِهِ مِنْ الْمَرَضِ فَإِنّ طَبِيعَتَهُ
لَمْ تَرْجِعْ بَعْدُ إلَى قُوّتِهَا وَالْقُوّةُ الْهَاضِمَةُ ضَعِيفَةٌ
وَالطّبِيعَةُ قَابِلَةٌ وَالْأَعْضَاءُ مُسْتَعِدّةٌ فَتَخْلِيطُهُ
يُوجِبُ انْتِكَاسَهَا وَهُوَ أَصْعَبُ مِنْ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ .
وَاعْلَمْ أَنّ فِي مَنْعِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِعَلِيّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْ الدّوَالِي وَهُوَ نَاقِهٌ أَحْسَنُ
التّدْبِيرِ فَإِنّ الدّوَالِيَ أَقْنَاءٌ مِنْ الرّطَبِ تُعَلّقُ فِي
الْبَيْتِ لِلْأَكْلِ بِمَنْزِلَةِ عَنَاقِيدِ الْعِنَبِ وَالْفَاكِهَةِ
تَضُرّ بِالنّاقِهِ مِنْ الْمَرَضِ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا وَضَعْفِ
الطّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِهَا فَإِنّهَا لَمْ تَتَمَكّنْ بَعْدُ مِنْ
قُوّتِهَا وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِدَفْعِ آثَارِ الْعِلّةِ وَإِزَالَتِهَا
مِنْ الْبَدَنِ . وَفِي الرّطَبِ خَاصّةً نَوْعُ ثِقَلٍ عَلَى الْمَعِدَةِ
فَتَشْتَغِلُ بِمُعَالَجَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ عَمّا هِيَ بِصَدَدِهِ مِنْ
إزَالَةِ بَقِيّةِ الْمَرَضِ وَآثَارِهِ فَإِمّا أَنْ تَقِفَ تِلْكَ
الْبَقِيّةُ وَإِمّا [ ص 97 ] وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ السّلْقَ
وَالشّعِيرَ أَمَرَهُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُ فَإِنّهُ مِنْ أَنْفَعِ
الْأَغْذِيَةِ لِلنّاقِهِ فَإِنّ فِي مَاءِ الشّعِيرِ مِنْ التّبْرِيدِ
وَالتّغْذِيَةِ وَالتّلْطِيفِ وَالتّلْيِينِ وَتَقْوِيَةِ الطّبِيعَةِ مَا
هُوَ أَصْلَحُ لِلنّاقِهِ وَلَا سِيّمَا إذَا طُبِخَ بِأُصُولِ السّلْقِ
فَهَذَا مِنْ أَوْفَقِ الْغِذَاءِ لِمَنْ فِي مَعِدَتِهِ ضَعْفٌ وَلَا
يَتَوَلّدُ عَنْهُ مِنْ الْأَخْلَاطِ مَا يُخَافُ مِنْهُ . وَقَالَ زَيْدُ
بْنُ أَسْلَمَ : حَمَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَرِيضًا لَهُ حَتّى
إنّهُ مِنْ شِدّةِ مَا حَمَاهُ كَانَ يَمُصّ النّوَى . وَبِالْجُمْلَةِ
فَالْحِمْيَةُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ قَبْلَ الدّاءِ فَتَمْنَعُ
حُصُولَهُ وَإِذَا حَصَلَ فَتَمْنَعُ تَزَايُدَهُ وَانْتِشَارَهُ .
فَصْلٌ [ لَا حَرَجَ فِي تَنَاوُلِ الْإِنْسَانِ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مَا ]
وَمِمّا
يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ كَثِيرًا مِمّا يُحْمَى عَنْهُ الْعَلِيلُ
وَالنّاقِهُ وَالصّحِيحُ إذَا اشْتَدّتْ الشّهْوَةُ إلَيْهِ وَمَالَتْ
إلَيْهِ الطّبِيعَةُ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ الشّيْءَ الْيَسِيرَ الّذِي لَا
تَعْجِزُ الطّبِيعَةُ عَنْ هَضْمِهِ لَمْ يَضُرّهُ تَنَاوُلُهُ بَلْ
رُبّمَا انْتَفَعَ بِهِ فَإِنّ الطّبِيعَةَ وَالْمَعِدَةَ تَتَلَقّيَانِهِ
بِالْقَبُولِ وَالْمَحَبّةِ فَيُصْلِحَانِ مَا يُخْشَى مِنْ ضَرَرِهِ
وَقَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ تَنَاوُلِ مَا تَكْرَهُهُ الطّبِيعَةُ
وَتَدْفَعُهُ مِنْ الدّوَاءِ وَلِهَذَا أَقَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُهَيْبًا وَهُوَ أَرْمَدُ عَلَى تَنَاوُلِ التّمَرَاتِ
الْيَسِيرَةِ وَعَلِمَ أَنّهَا لَا تَضُرّهُ وَمِنْ هَذَا مَا يُرْوَى
عَنْ عَلِيّ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُوَ أَرْمَدُ وَبَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ تَمْرٌ يَأْكُلُهُ فَقَالَ يَا عَلِيّ تَشْتَهِيهِ؟ وَرَمَى
إلَيْهِ بِتَمْرَةٍ ثُمّ بِأُخْرَى حَتّى رَمَى إلَيْهِ سَبْعًا ثُمّ
قَالَ " حَسْبُكَ يَا عَلِيّ " . وَمِنْ هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَادَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ مَا
تَشْتَهِي ؟ فَقَالَ أَشْتَهِي خُبْزَ بُرّ . وَفِي لَفْظٍ أَشْتَهِي
كَعْكًا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَانَ
عِنْدَهُ خُبْزُ بُرّ فَلْيَبْعَثْ إلَى أَخِيهِ ثُمّ قَالَ إذَا اشْتَهَى
مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ [ ص 98 ] فَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ سِرّ طِبّيّ لَطِيفٌ فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا تَنَاوَلَ مَا
يَشْتَهِيهِ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ طَبِيعِيّ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مَا كَانَ
أَنْفَعَ وَأَقَلّ ضَرَرًا مِمّا لَا يَشْتَهِيهِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا
فِي نَفْسِهِ فَإِنّ صِدْقَ شَهْوَتِهِ وَمَحَبّةَ الطّبِيعَةِ يَدْفَعُ
ضَرَرَهُ وَبُغْضَ الطّبِيعَةِ وَكَرَاهَتَهَا لِلنّافِعِ قَدْ يَجْلِبُ
لَهَا مِنْهُ ضَرَرًا . وَبِالْجُمْلَةِ فَاللّذِيذُ الْمُشْتَهَى
تُقْبِلُ الطّبِيعَةُ عَلَيْهِ بِعِنَايَةٍ فَتَهْضِمُهُ عَلَى أَحْمَدِ
الْوُجُوهِ سِيّمَا عِنْدَ انْبِعَاثِ النّفْسِ إلَيْهِ بِصِدْقِ
الشّهْوَةِ وَصِحّةِ الْقُوّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي
هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الرّمَدِ
بِالسّكُونِ وَالدّعَةِ وَتَرْكِ الْحَرَكَةِ وَالْحِمْيَةِ مِمّا يَهِيجُ
الرّمَدَ
وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَمَا صُهَيْبًا مِنْ التّمْرِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَكْلَهُ
وَهُوَ أَرْمَدُ وَحَمَا عَلِيّا مِنْ الرّطَبِ لَمّا أَصَابَهُ الرّمَدُ
. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " الطّبّ النّبَوِيّ " : أَنّهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا رَمِدَتْ عَيْنُ امْرَأَةٍ
مِنْ نِسَائِهِ لَمْ يَأْتِهَا حَتّى تَبْرَأَ عَيْنُهَا
[حَقِيقَةُ الرّمَدِ ]
الرّمَدُ
وَرَمٌ حَارّ يَعْرِضُ فِي الطّبَقَةِ الْمُلْتَحِمَةِ مِنْ الْعَيْنِ
وَهُوَ بَيَاضُهَا الظّاهِرُ وَسَبَبُهُ انْصِبَابُ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ
الْأَرْبَعَةِ أَوْ رِيحٌ حَارّةٌ تَكْثُرُ كَمّيّتُهَا فِي الرّأْسِ
وَالْبَدَنِ فَيَنْبَعِثُ مِنْهَا قِسْطٌ إلَى جَوْهَرِ الْعَيْنِ أَوْ
ضَرْبَةٌ تُصِيبُ الْعَيْنَ فَتُرْسِلُ الطّبِيعَةُ إلَيْهَا مِنْ الدّمِ
وَالرّوحِ مِقْدَارًا كَثِيرًا تَرُومُ بِذَلِكَ شِفَاءَهَا مِمّا عَرَضَ
لَهَا وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَرِمُ الْعُضْوَ الْمَضْرُوبَ وَالْقِيَاسُ
يُوجِبُ ضِدّهُ . [ ص 99 ] وَاعْلَمْ أَنّهُ كَمَا يَرْتَفِعُ مِنْ
الْأَرْضِ إلَى الْجَوّ بُخَارَانِ أَحَدُهُمَا : حَارّ يَابِسٌ
وَالْآخَرُ حَارّ رَطْبٌ فَيَنْعَقِدَانِ سَحَابًا مُتَرَاكِمًا
وَيَمْنَعَانِ أَبْصَارَنَا مِنْ إدْرَاكِ السّمَاءِ فَكَذَلِكَ
يَرْتَفِعُ مِنْ قَعْرِ الْمَعِدَةِ إلَى مُنْتَهَاهَا مِثْلَ ذَلِكَ
فَيَمْنَعَانِ النّظَرَ وَيَتَوَلّدُ عَنْهُمَا عِلَلٌ شَتّى فَإِنْ
قَوِيَتْ الطّبِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ وَدَفَعَتْهُ إلَى الْخَيَاشِيمِ
أَحْدَثَ الزّكَامَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى اللّهَاةِ وَالْمَنْخِرَيْنِ
أَحْدَثَ الْخُنَاقَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الْجَنْبِ أَحْدَثَ
الشّوْصَةَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الصّدْرِ أَحْدَثَ النّزْلَةَ وَإِنْ
انْحَدَرَ إلَى الْقَلْبِ أَحْدَثَ الْخَبْطَةَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى
الْعَيْنِ أَحْدَثَ رَمَدًا وَإِنْ انْحَدَرَ إلَى الْجَوْفِ أَحْدَثَ
السّيَلَانَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى مَنَازِلِ الدّمَاغِ أَحْدَثَ
النّسْيَانَ وَإِنْ تَرَطّبَتْ أَوْعِيَةُ الدّمَاغِ مِنْهُ وَامْتَلَأَتْ
بِهِ عُرُوقُهُ أَحْدَثَ النّوْمَ الشّدِيدَ وَلِذَلِكَ كَانَ النّوْمُ
رَطْبًا وَالسّهَرُ يَابِسًا . وَإِنْ طَلَبَ الْبُخَارُ النّفُوذَ مِنْ
الرّأْسِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَعْقَبَهُ الصّدَاعُ وَالسّهَرُ
وَإِنْ مَالَ الْبُخَارُ إلَى أَحَدِ شِقّيْ الرّأْسِ أَعْقَبَهُ
الشّقِيقَةُ وَإِنْ مَلَكَ قِمّةَ الرّأْسِ وَوَسَطَ الْهَامَةِ
أَعْقَبَهُ دَاءُ الْبَيْضَةِ وَإِنْ بَرُدَ مِنْهُ حِجَابُ الدّمَاغِ
أَوْ سَخُنَ أَوْ تَرَطّبَ وَهَاجَتْ مِنْهُ أَرْيَاحٌ أَحْدَثَ
الْعُطَاسَ وَإِنْ أَهَاجَ الرّطُوبَةَ الْبَلْغَمِيّةَ فِيهِ حَتّى
غَلَبَ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ أَحْدَثَ الْإِغْمَاءَ وَالسّكَاتَ وَإِنْ
أَهَاجَ الْمِرّةَ السّوْدَاءَ حَتّى أَظْلَمَ هَوَاءُ الدّمَاغِ أَحْدَثَ
الْوَسْوَاسَ وَإِنْ فَاضَ ذَلِكَ إلَى مَجَارِي الْعَصَبِ أَحْدَثَ
الصّرَعَ الطّبِيعِيّ وَإِنْ تَرَطّبَتْ مَجَامِعُ عَصَبِ الرّأْسِ
وَفَاضَ ذَلِكَ فِي مَجَارِيهِ أَعْقَبَهُ الْفَالِجُ وَإِنْ كَانَ
الْبُخَارُ مِنْ مِرّةٍ صَفْرَاءَ مُلْتَهِبَةٍ مَحْمِيّةٍ لِلدّمَاغِ
أَحْدَثَ الْبِرْسَامَ فَإِنْ شَرِكَهُ الصّدْرُ فِي ذَلِكَ كَانَ
سِرْسَامًا فَافْهَمْ هَذَا الْفَصْلَ .
[ عِلّةُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْجِمَاعِ حَالَ الرّمَدِ ]
وَالْمَقْصُودُ
أَنّ أَخْلَاطَ الْبَدَنِ وَالرّأْسِ تَكُونُ مُتَحَرّكَةً هَائِجَةً فِي
حَالِ الرّمَدِ وَالْجِمَاعُ مِمّا يَزِيدُ حَرَكَتَهَا وَثَوَرَانَهَا
فَإِنّهُ حَرَكَةٌ كُلّيّةٌ لِلْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالطّبِيعَةِ . فَأَمّا
الْبَدَنُ فَيَسْخُنُ بِالْحَرَكَةِ لَا مَحَالَةَ وَالنّفْسُ تَشْتَدّ
حَرَكَتُهَا طَلَبًا لِلّذّةِ وَاسْتِكْمَالِهَا [ ص 100 ] أَوّلَ
تَعَلّقِ الرّوحِ مِنْ الْبَدَنِ بِالْقَلْبِ وَمِنْهُ يَنْشَأُ الرّوحُ
وَتَنْبَثّ فِي الْأَعْضَاءِ . وَأَمّا حَرَكَةُ الطّبِيعَةِ فَلِأَجْلِ
أَنْ تُرْسِلَ مَا يَجِبُ إرْسَالُهُ مِنْ الْمَنِيّ عَلَى الْمِقْدَارِ
الّذِي يَجِبُ إرْسَالُهُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجِمَاعُ حَرَكَةٌ
كُلّيّةٌ عَامّةٌ يَتَحَرّكُ فِيهَا الْبَدَنُ وَقُوَاهُ وَطَبِيعَتُهُ
وَأَخْلَاطُهُ وَالرّوحُ وَالنّفْسُ فَكُلّ حَرَكَةٍ فَهِيَ مُثِيرَةٌ
لِلْأَخْلَاطِ مُرَقّقَةٌ لَهَا تُوجِبُ دَفْعَهَا وَسَيَلَانَهَا إلَى
الْأَعْضَاءِ الضّعِيفَةِ وَالْعَيْنُ فِي حَالِ رَمَدِهَا أَضْعَفُ مَا
تَكُونُ فَأَضَرّ مَا عَلَيْهَا حَرَكَةُ الْجِمَاعِ . قَالَ بُقْرَاطُ
فِي كِتَابِ " الْفُصُولِ " : وَقَدْ يَدُلّ رُكُوبُ السّفُنِ أَنّ
الْحَرَكَةَ تُثَوّرُ الْأَبْدَانَ . هَذَا مَعَ أَنّ فِي الرّمَدِ
مَنَافِعَ كَثِيرَةً مِنْهَا مَا يَسْتَدْعِيهِ مِنْ الْحِمْيَةِ
وَالِاسْتِفْرَاغِ وَتَنْقِيَةِ الرّأْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ فَضَلَاتِهِمَا
وَعُفُونَاتِهِمَا وَالْكَفّ عَمّا يُؤْذِي النّفْسَ وَالْبَدَنَ مِنْ
الْغَضَبِ وَالْهَمّ وَالْحُزْنِ وَالْحَرَكَاتِ الْعَنِيفَةِ
وَالْأَعْمَالِ الشّاقّةِ . وَفِي أَثَرٍ سَلَفِيّ لَا تَكْرَهُوا
الرّمَدُ فَإِنّهُ يَقْطَعُ عُرُوقَ الْعَمَى . وَمِنْ أَسْبَابِ
عِلَاجِهِ مُلَازَمَةُ السّكُونِ وَالرّاحَةِ وَتَرْكُ مَسّ الْعَيْنِ
وَالِاشْتِغَالُ بِهَا فَإِنّ أَضْدَادَ ذَلِكَ يُوجِبُ انْصِبَابَ
الْمَوَادّ إلَيْهَا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السّلَفِ مَثَلُ أَصْحَابِ
مُحَمّدٍ مَثَلُ الْعَيْنِ وَدَوَاءُ الْعَيْنِ تَرْكُ مَسّهَا . وَقَدْ
رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ اللّهُ أَعْلَمُ بِهِ عِلَاجُ الرّمَدِ
تَقْطِيرُ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ
الْأَدْوِيَةِ لِلرّمَدِ الْحَارّ فَإِنّ الْمَاءَ دَوَاءٌ بَارِدٌ
يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى إطْفَاءِ حَرَارَةِ الرّمَدِ إذَا كَانَ حَارّا
وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
لِامْرَأَتِهِ زَيْنَبَ وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا : لَوْ فَعَلْتِ كَمَا
فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ خَيْرًا لَك
وَأَجْدَرَ أَنْ تُشْفِيَ تَنْضَحِينَ فِي عَيْنِك الْمَاءَ ثُمّ
تَقُولِينَ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبّ النّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشّافِي لَا
شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا وَهَذَا مِمّا
تَقَدّمَ مِرَارًا أَنّهُ خَاصّ بِبَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ أَوْجَاعِ
الْعَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ كَلَامُ النّبُوّةِ الْجُزْئِيّ الْخَاصّ
كُلّيّا عَامّا وَلَا الْكُلّيّ الْعَامّ [ ص 101 ] أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْخَدَرَانِ الْكُلّيّ الّذِي يَجْمُدُ مَعَهُ الْبَدَنُ
ذَكَرَ
أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ
النّهْدِيّ أَنّ قَوْمًا مَرّوا بِشَجَرَةٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا
فَكَأَنّمَا مَرّتْ بِهِمْ رِيحٌ فَأَجْمَدَتْهُمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرّسُوا الْمَاءَ فِي الشّنَانِ وَصُبّوا
عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ ثُمّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ :
قَرّسُوا : يَعْنِي بَرّدُوا . وَقَوْلُ النّاسِ قَدْ قَرَسَ الْبَرْدُ
إنّمَا هُوَ مِنْ هَذَا بِالسّينِ لَيْسَ بِالصّادِ . وَالشّنَانُ
الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ الْخُلْقَانِ يُقَالُ لِلسّقَاءِ شَنّ
وَلِلْقِرْبَةِ شَنّةٌ . وَإِنّمَا ذَكَرَ الشّنَانَ دُونَ الْجُدُدِ
لِأَنّهَا أَشَدّ تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ . وَقَوْلُهُ " بَيْنَ
الْأَذَانَيْنِ " يَعْنِي أَذَانَ الْفَجْرِ وَالْإِقَامَةَ فَسَمّى
الْإِقَامَةَ أَذَانًا انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ
وَهَذَا الْعِلَاجُ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
أَفْضَلِ عِلَاجِ هَذَا الدّاءِ إذَا كَانَ وُقُوعُهُ بِالْحِجَازِ وَهِيَ
بِلَادٌ حَارّةٌ يَابِسَةٌ وَالْحَارّ الْغَرِيزِيّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ
سُكّانِهَا وَصَبّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ
الْمَذْكُورِ - وَهُوَ أَبْرَدُ أَوْقَاتِ الْيَوْمَ - يُوجِبُ جَمْعَ
الْحَارّ الْغَرِيزِيّ الْمُنْتَشِرِ فِي الْبَدَنِ الْحَامِلِ لِجَمِيعِ
قُوَاهُ فَيُقَوّي الْقُوّةَ الدّافِعَةَ وَيَجْتَمِعُ مِنْ أَقْطَارِ
الْبَدَنِ إلَى بَاطِنِهِ الّذِي هُوَ مَحَلّ ذَاكَ الدّاءِ
وَيَسْتَظْهِرُ بِبَاقِي الْقُوَى عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ
فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَوْ أَنّ بُقْرَاطَ أَوْ
جالينوس أَوْ غَيْرَهُمَا وَصَفَ هَذَا الدّوَاءَ لِهَذَا الدّاءِ
لَخَضَعَتْ لَهُ الْأَطِبّاءُ وَعَجِبُوا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ .
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا وَقَعَ الذّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ فَإِنّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ [ ص 102 ] وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَحَدُ جَنَاحَيْ الذّبَابِ سَمّ وَالْآخَرُ شِفَاءٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي الطّعَامِ فَامْقُلُوهُ فَإِنّهُ يُقَدّمُ السّمّ وَيُؤَخّرُ الشّفَاءَ
[ إذَا مَاتَ الذّبَابُ فِي مَائِعٍ لَا يُنَجّسُهُ ]
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَمْرَانِ أَمْرٌ فِقْهِيّ وَأَمْرٌ طِبّيّ فَأَمّا الْفِقْهِيّ فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرُ الدّلَالَةِ جِدّا عَلَى أَنّ الذّبَابَ إذَا مَاتَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَإِنّهُ لَا يُنَجّسُهُ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُعْرَفُ فِي السّلَفِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِمَقْلِهِ وَهُوَ غَمْسُهُ فِي الطّعَامِ وَمَعْلُومٌ أَنّهُ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ الطّعَامُ حَارّا . فَلَوْ كَانَ يُنَجّسُهُ لَكَانَ أَمْرًا بِإِفْسَادِ الطّعَامِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا أَمَرَ بِإِصْلَاحِهِ ثُمّ عُدّيَ هَذَا الْحُكْمُ إلَى كُلّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالنّحْلَةِ وَالزّنْبُورِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ إذْ الْحُكْمُ يَعُمّ بِعُمُومِ عِلّتِهِ وَيَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ فَلَمّا كَانَ سَبَبُ التّنْجِيسِ هُوَ الدّمَ الْمُحْتَقِنَ فِي الْحَيَوَانِ بِمَوْتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مَفْقُودًا فِيمَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ انْتَفَى الْحُكْمُ بِالتّنْجِيسِ لِانْتِفَاءِ عِلّتِهِ . ثُمّ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ عَظْمِ الْمَيْتَةِ إذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فِي الْحَيَوَانِ الْكَامِلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَعَدَمِ الصّلَابَةِ فَثُبُوتُهُ فِي الْعَظْمِ الّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَاحْتِقَانِ الدّمِ أَوْلَى وَهَذَا فِي غَايَةِ الْقُوّةِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى . وَأَوّلُ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنّهُ تَكَلّمَ بِهَذِهِ اللّفْظَةِ فَقَالَ مَا لَا نَفْسَ لَهُ [ ص 103 ] سَائِلَةٌ إبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ وَعَنْهُ تَلَقّاهَا الْفُقَهَاءُ - وَالنّفْسُ فِي اللّغَةِ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ الدّمِ وَمِنْهُ نَفَسَتْ الْمَرْأَةُ - بِفَتْحِ النّونِ - إذَا حَاضَتْ وَنُفِسَتْ - بِضَمّهَا - إذَا وَلَدَتْ .
[فَائِدَةُ غَمْسِ الذّبَابِ ]
وَأَمّا الْمَعْنَى الطّبّيّ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَعْنَى اُمْقُلُوهُ اغْمِسُوهُ لِيَخْرُجَ الشّفَاءُ مِنْهُ كَمَا خَرَجَ الدّاءُ يُقَالُ لِلرّجُلَيْنِ هُمَا يَتَمَاقَلَانِ إذَا تَغَاطّا فِي الْمَاءِ . وَاعْلَمْ أَنّ فِي الذّبَابِ عِنْدَهُمْ قُوّةً سَمّيّةً يَدُلّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ وَالْحَكّةُ الْعَارِضَةُ عَنْ لَسْعِهِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السّلَاحِ فَإِذَا سَقَطَ فِيمَا يُؤْذِيهِ اتّقَاهُ بِسِلَاحِهِ فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ السّمّيّةَ بِمَا أَوْدَعَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي جَنَاحِهِ الْآخَرِ مِنْ الشّفَاءِ فَيُغْمَسُ كُلّهُ فِي الْمَاءِ وَالطّعَامِ فَيُقَابِلُ الْمَادّةَ السّمّيّةَ الْمَادّةُ النّافِعَةُ فَيَزُولُ ضَرَرُهَا وَهَذَا طِبّ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ كِبَارُ الْأَطِبّاءِ وَأَئِمّتُهُمْ بَلْ هُوَ خَارِجٌ مِنْ مِشْكَاةِ النّبُوّةِ وَمَعَ هَذَا فَالطّبِيبُ الْعَالِمُ الْعَارِفُ الْمُوَفّقُ يَخْضَعُ لِهَذَا الْعِلَاجِ وَيُقِرّ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَنّهُ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنّهُ مُؤَيّدٌ بِوَحْيٍ إلَهِيّ خَارِجٍ عَنْ الْقُوَى الْبَشَرِيّةِ . وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَطِبّاءِ أَنّ لَسْعَ الزّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ إذَا دُلِكَ مَوْضِعُهُ بِالذّبَابِ نَفَعَ مِنْهُ نَفْعًا بَيّنًا وَسَكّنَهُ وَمَا ذَاكَ إلّا لِلْمَادّةِ الّتِي فِيهِ مِنْ الشّفَاءِ وَإِذَا دُلِكَ بِهِ الْوَرَمُ الّذِي يَخْرُجُ فِي شَعْرِ الْعَيْنِ الْمُسَمّى شَعْرَةً بَعْدَ قَطْعِ رُءُوسِ الذّبَابِ أَبْرَأَهُ