كتاب : الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف : علي بن أحمد بن حزم الأندلسي
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم
قال الفقيه الإمام أبو محمد علي بن أحمد رحمة الله عليه ورضوانه الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وخص من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له ويسره لفهمه وسدده لاختياره وسهل عليه سبيله وخذل منهم من شاء فطبع على قلبه ووعر عليه طريق الحق ووفق قوما في سبيل ما ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى كما قال عز و جل { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } و { وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون } دون أن يجبر مريد حق على إرادته أو يقسر قاصد باطل على قصده أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه أو ندبه إليه لكن كما قال عز و جل { وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم } وكما قال تعالى { ثم دنا فتدلى } وقال تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } لله وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم { فلمآ رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } ويقول يوسف { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وبعد فإن الله عز و جل ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة فمنها عدل يزين لها الإنصاف ويحبب إليها موافقة الحق
قال تعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد قال تعالى { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد } وقال تعالى { كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهرا جليا
ومنها جهل يطمس عليها الطرق ويساوي عندها بين السبل فتبقى النفس في حيرة تتردد وفي ريب تتلدد ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو إحجاما أو إلفا وسوء اختيار قال تعالى { أمن هو قانت آنآء الليل ساجدا وقآئما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب } وقال تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون }
ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز و جل وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل فيها تكون معرفة الحق من الباطل
قال تعالى { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار }
ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم وعلى اعتقاد ذلك علما وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }
قال أبو محمد علي أراد بذلك العقل وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر وغير متذكر ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له قال تعالى شاهدا لما قلنا { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } وقال بعض السلف الصالح ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من أطاع الله عز و جل
قال أبو محمد علي هذه كلمة جامعة كافية لأن طاعة الله عز و جل هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم لا إله إلا هو فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز و جل به أو حض عليه ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها من علو صوت أو عرض جاه أو نمو مال أو نيل لذة من طاعة أو معصية فليس ذلك عقلا بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار وقائد إلى الهلاك في دار الخلود
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ضعيف العقل فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده الضعيف في
منفعته المشوب بالآلام والمكاره الفاني بسرعة على الكثير في عدده العظيم في منفعته الخالص من الكدر والمضار الخالد أبدا حمق شديد وعدم للعقل البتة
ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ونواوير وأزهار وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ومال عريض إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة وفي أثنائها أهوال ومتالف ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال فيسكنها مائة عام فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه وفاسد العقل جدا ظاهر الحمق رديء الاختيار مذموما مدحورا ملوما
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه
فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا
اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه متحيرا في مصيره فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين
وكل ما قلنا فلم نقله جزافا بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهدا بصحته وميزه العقل عالما بحقيقته والحمد لله رب العالمين
وإن الله عز و جل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة فمؤمن وكافر فريق في الجنة وفريق في السعير
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار وعبده المنتخب من جميع ولد آدم محمدا صلى الله عليه و سلم الهاشمي المكي إلى جميع خلقه من الجن والإنس فنسخ بملته جميع الملل وختم به الرسل وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز و جل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت غرور وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس خطأ إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله صلى الله عليه و سلم وإحياء سنن الحق وإماتة طوالع الجور
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل وأصوات مستحسنة متقضية بهبوب الرياح ومشام مستطرفة منحلة بعيد ساعات ومذاوق مستعذبة مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة وملابس معجبة متبدلة في أيسر زمان تبدلا موحشا باطلا
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير له من حمر النعم
وأخبر عليه السلام أن من سن سنة خير في الإسلام كان له مثل أجر كل من عمل بها لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة فمن أوكدها وأحسنها مغبة بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز و جل على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه والعبارات الواردة فيه فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس
فإثم من قلدهم إثمين إثم التقليد وإثم الخطأ
ونقصت أجور من اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان
فقد عرضه لخير كثير وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه ورجونا بذلك الأجر من الله عز و جل فكان ذلك الكتاب أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل وكتبنا أيضا كتابنا المرسوم بالفصل فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب
ولم ندع بتوفيق الله عز و جل لنا للشك في شيء من ذلك مساغا والحمد لله كثيرا
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز و جل منا فيما كلفناه من العبادات والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز و جل لنا موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى مستقصى محذوف الفضول محكم الفصول راجين أن ينفعنا الله عز و جل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه فيضرب لنا في ذلك بقسط ويتفضل علينا منه بحظ فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء لا إله إلا هو
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إنه لما صح أن العالم مخلوق وأن له خالقا لم يزل عز و جل وصح أنه ابتعث رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم إلى جميع الناس ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه عز و جل وليكب من عصاه في النار الحامية وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع يوصل إلى الفوز وينجي من الهلاك وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله صلى الله عليه و سلم بتبليغه إلينا وسماه قرآنا وفي الكلام الذي أنطق به رسوله صلى الله عليه و سلم وسماه وحيا غير قرآن وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه عليه السلام لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود
ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل { وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز و جل فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز و جل والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
قال أبو محمد فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله عز و جل لا يشذ عنها شيء من ذلك فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله عليه السلام وطاعة أولي الأمر ومن هم أولو الأمر وبيان التنازع الواقع منا وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام وهذا هو جماع الديانة كلها
ووجدناه قد قال تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله
فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز و جل ثم على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز و جل ونهيه وإباحته لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد غيره
وهو عليه السلام لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى ثم على ألسنة أولي الأمر منا فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد جيل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله تعالى وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا لكن عن النبي عليه السلام هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل وليس من
الدين إذ ما لم يكن من عند الله تعالى فليس من دين الله أصلا وما لم يبينه رسول الله صلى الله عليه و سلم فليس من الدين أصلا وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فليس من الدين أصلا
فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب بأن ترك ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية أو عامدا لها أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين إما ترك وإما زيادة ولخصنا الحق تلخيصا لا يشكل على نصح نفسه
وقصد الله عز و جل بنيته وما توفيقنا إلا بالله عز و جل
وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه ورجاء ثواب الله عز و جل في ذلك وبالله تعالى نتأيد
باب ترتيب الأبواب وهو الباب الثاني إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب وذكر الغرض فيه وهو الذي تم قبل هذا الابتداء
الباب الثاني هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب
الباب الثالث في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه
الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس
الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر
الباب السادس هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة
أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز و جل
الباب السابع في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا
الباب الثامن في معنى البيان
الباب التاسع في تأخير البيان
الباب العاشر في القول بموجب القرآن
الباب الحادي عشر في الأخبار التي هي السنن
وفي بعض فصول هذا الباب سبب الاختلاف الواقع بين الأئمةالباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور
أو الندب أو التراخي
الباب الثالث عشر في حملها على العموم أو الخصوص
الباب الرابع عشر في أقل الجمع الوارد فيها
الباب الخامس عشر في الاستثناء منها
الباب السادس عشر في الكتابة بالضمير
الباب السابع عشر في الكتابة بالإشارة
الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه
الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الأمر به أو النهي عنه الباب الموفي عشرين في النسخ
الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والمحكم والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام
الباب الثاني والعشرون في الإجماع
الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته وهو باب من الدليل الإجماعي
الباب الرابع والعشرون في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع الدليل الإجماعي
الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف والنهي عنه
الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ
الباب السابع والعشرون في الشذوذ ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها
الباب الثامن والعشرون في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم
الباب التاسع والعشرون في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس
الباب الموفي ثلاثين في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر
ووقت لزوم الشرائع للإنسانالباب الحادي والثلاثون في صفة طلب الفقه وصفة المفتي وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه
الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود والعمد المقصود بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق
الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه و سلم أتلزمنا أم لا
الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع
الباب الخامس والثلاثون في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي
الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد
الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب
الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس
الباب التاسع والثلاثون في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات
الباب الموفي أربعين في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز و جل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله عز و جل وإن خالفناه
في إثبات حجج العقول
قال أبو محمد قال قوم لا يعلم شيء إلا بالإلهام وقال آخرون لايعلم شيء إلا بقول الإمام وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاما معدوم المكان متلف العين ضالة من الضوال
وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالخبر
وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالتقليد واحتجوا في إبطال حجة العقل بأن قالوا قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه ولا يشك في أنه حق
ثم يلوح له غير ذلك فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها
قال أبو محمد هذا تمويه فاسد ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده ويناضل عنه لأننا لم نقل إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه ولا قلنا إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق
ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول
لكن قلنا إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب
وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا على مذهب فاسد وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الإيضاح
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلاليه فاسدا إما الأول وإما الثاني وقد يكونان معا فاسدين فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد
أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح
لا بد من أحد هذه الوجوه ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة
لأن الشيء لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد
وقد يكون أقساما
كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر فمال بهوى أو تهور بشهوة أو أحجم لفرط جبنه أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها
وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدة فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب فيكل فيها الذهن الكليل ويدخل مع طول الأمر وكثرة العمل ودقته السآمة فيتولد فيها الشك والخبال والسهو كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشيء وقف على اليقين بلا شك
هذا شيء يوجد حسا كما ترى وقد يدخل أيضا على الحواس فيرى المرء بعينه شخصا فربما ظنه زيدا وكابر عليه حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق وقد يعرض ذلك الشيء يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده ثم يجده بعد ذلك فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة فكذلك يعرض في الاستدلال وليس شيء من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس ولولاه لم نعلم أصلا كما أن حواس المجنون المطبق والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب وأنه مبطل وقاح أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه فهذا معذور وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة
ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الإذعان بالحق وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت إنما هو خطأ صريح فمن هنا دخلت عليهم الشبهة وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا فهو حجة العقل وما كان
منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل بل العقل يبطلها فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين
وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل ترجمته
( باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة )
وقد سألوا أيضا فقالوا بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل أبحجة عقل أم بغير ذلك فإن قلتم عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم وإن قلتم بغير ذلك فهاتوهقال أبو محمد وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها والجواب على ذلك وبالله تعالى التوفيق أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر وأن الشيء لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان فلا وقت للاستدلال فيه ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك إلا أنه فعل الله عز و جل في النفوس فقط
ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل
ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا
وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل وكتابنا الموسوم بالتقريب وتقصينا هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء
قال أبو محمد ويقال لمن قال بإلهام ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه
والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما يدركه غيرهم بأوله عقله لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم
إلهاما أو إدراكا فصح بلا شك أنهم كذبة
وأن الذي بهم وسواس
وأيضا فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل ولو أعطي كل امرىء بدعواه المعراة لما ثبت حق ولا بطل باطل ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم ولا صحت ديانة أحد أبدا لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول ألهمت أن دم فلان حلال وأن ماله مباح لي أخذه وأن زوجه مباح لي وطؤها وهذا لا ينفك منه وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا فلا بد من حاكم يميز الحق منها من الباطل وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله
وقد بينا ذلك في كتاب التقريب
وقال أبو محمد ويقال لمن قال بالإمام بأي شيء عرفت صحة قول الإمام أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام أم بقوله مجردا
فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به ولا سبيل له إليه وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاما وإن قالوا بالإلهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل ولا سبيل إلى وجه خامس أصلا
قال أبو محمد ويقال لمن قال بالتقليد ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت بل كفر من قلدته أنت أو جهله
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد وقد أفردنا في إبطال التقليد بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق
قال أبو محمد علي ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر أخبرنا الخبر كله حق أم كله باطل أم منه حق وباطل فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم وإن قال حق كله عورض بأخبار مبطلة لمذهبه فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد وذلك ما لا سبيل إليه وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة فلم يبق إلا أن من الخبر
حقا وباطلا فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل
قال أبو محمد علي ثم يقال لجميعهم بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه وصحة التوحيد والنبوة ودينك الذي أنت عليه أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل وبأي شيء عرفت فضل من قلدت أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه ولا مقلدا له برهة من دهرك وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد أن لم تكن بلغتك وهل لك من عقل أم لا عقل لك فإن قال عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق
فإن قال لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك مذهبه الفاسد ضرورة
قال أبو محمد واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى { فلذلك فدع وستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل آمنت بمآ أنزل لله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم لله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم لله يجمع بيننا وإليه لمصير ولذين يحآجون في لله من بعد ما ستجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد }
قال أبو محمد وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم وهو قوله تعالى فيمن يحاج بعد ظهور الحق وهذه صفة المعاند للحق الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها وهذا مذموم عند كل ذي عقل
ومنها قوله تعالى { وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون }
قال أبو محمد وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك
ومنها قوله تعالى { ويعلم لذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } ومنها قوله تعالى { فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن تبعن وقل للذين أوتوا لكتاب ولأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد هتدوا وإن تولوا فإنما عليك لبلاغ ولله بصير بلعباد }
قال أبو محمد قال تعالى { يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا } فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم ووجه الجدال المأمور به المحمود لأنا قد وجدناه تعالى قد قال { ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى لله وعمل صالحا وقال إنني من لمسلمين } ووجدناه تعالى قد قال { دع إلى سبيل ربك بلحكمة ولموعظة لحسنة وجادلهم بلتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بلمهتدين } فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال كلها من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة
وقال تعالى { قل فأتوا بكتاب من عند لله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين }
ولم يأمر الله عز و جل رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الأمر الأصوب وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول
خصمه ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز و جل فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه
وقال تعالى { قالوا تخذ لله ولدا سبحانه هو لغني له ما في لسماوات وما في لأرض إن عندكم من سلطان بهذآ أتقولون على لله ما لا تعلمون قل إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون }
قال أبو محمد ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز و جل وأنه مفتر على الله تعالى وكاذب عليه عز و جل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الإنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله
وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز و جل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة قبل اعتقاد مدلولاتها حتى وفقنا ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون
وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه
وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا ولعلها ثابتة في نقلها فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين
وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى { ولا تجادلوا أهل لكتاب إلا بلتي هي أحسن إلا لذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بلذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } فأمر عز و جل
كما ترى بإيجاب المناظرة في رفق وبالإنصاف في الجدال وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك فيعارض حينئذ بما ينبغي
وقال تعالى { يمعشر لجن ولإنس إن ستطعتم أن تنفذوا من أقطار لسماوات ولأرض فنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى { وذر الذين تخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم لحياة لدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون لله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك لذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون }
فذكر عز و جل تقدير إبراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله وأن ذلك لدليل على خلقها وبرهان على حدوثها فقال عز و جل { وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم }
وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة فمرة للملك ومرة لقومه والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون
قال الله عز و جل { إن أولى لناس بإبراهيم للذين تبعوه وهذا لنبي ولذين آمنوا ولله ولي لمؤمنين } فنحن المتبعون لإبراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة فنحن أولى الناس به وسائر الناس مأمورون بذلك
قال الله تعالى { قل صدق لله فتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين } ومن ملته المناظرة كما ذكرنا فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله عز و جل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما
قال الله عز و جل وقد أثنى على أصحاب الكهف { نحن نقص عليك نبأهم بلحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } فأثنى الله عز و جل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينة وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولا بلا دليل فهو مفتر على الله عز و جل الكذب
وقال تعالى { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من لمجرمين منتقمون } فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى ومن كلام نبيه صلى الله عليه و سلم فأعرض عنه وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى { لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون } وقال تعالى { بل تبع لذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل لله وما لهم من ناصرين } فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار وقال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين } أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم
فقال تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين } فصح بكل ما ذكرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها
وقال تعالى { ومن أظلم ممن فترى على لله كذبا أو كذب بلحق لما جآءه أليس في جهنم مثوى للكافرين }
قال أبو محمد في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة وألا يأتي ما قامت عليه الحجة فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطىء ويصيب
وقال تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فأوجب تعالى أن من كان صادقا في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل أو جاهل
وقال تعالى { هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون } فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم ومنع منها بغير علم
وقال تعالى { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بلغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا }
قال أبو محمد فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة ولم يوجب قبول شيء إلا ببرهان وجب علينا تطلب الحجاج المذموم على ما قدمناه فوجدناه قد قال { وما نرسل لمرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل لذين كفروا بلباطل ليدحضوا به لحق وتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } فذم تعالى كما ترى الجدال بغير حجة والجدال في الباطل وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق
وقال تعالى { لذين يجادلون في آيات لله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند لله وعند لذين آمنوا كذلك يطبع لله على كل قلب متكبر جبار }
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم والجدال المحمود الواجب فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه وفي هذا بيان أن الحق في واحد وأنه لا شيء إلا ما قامت عليه حجة العقل وهؤلاء المذمومون هم الذين قال الله تعالى فيهم { ألم تر إلى لذين يجادلون في آيات لله أنى يصرفون } وقوله تعالى { ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } وقوله تعالى { ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق } وبقوله تعالى { ما يجادل في آيات لله إلا لذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في لبلاد كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم
وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } فبين تعالى كما ترى أن الجدال المحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم
قال أبو محمد ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال { يقوم لكم لملك ليوم ظاهرين في لأرض فمن ينصرنا من بأس لله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل لرشاد } { وقال لذي آمن يقوم تبعون أهدكم سبيل لرشاد } فبأي شيء يعرف المحق منهما من المبطل هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها
فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارىء قد نصصناه في اتباع البرهان وتكذيب قول من لا حجة في يديه وهو الذي لا يسع مسلما خلافه
لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره فيقال له أترى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان شاكا إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر وأمره بطلب البرهان وإقامة الحجة على كل من خالفه ولا قول من قال أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه أو كلاما هذا معناه
قال أبو محمد وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الأرض فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليدا بلا برهان وألا يقبلا برهان الإسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة
قال الله عز و جل { قالوا يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من لليل ولا يلتفت منكم أحد إلا مرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم لصبح أليس لصبح بقريب فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من لظالمين ببعيد وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا لمكيال ولميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويقوم أوفوا لمكيال ولميزان بلقسط ولا تبخسوا لناس أشيآءهم ولا تعثوا في لأرض مفسدين بقية لله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ قالوا يشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت لحليم لرشيد قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا لإصلاح ما ستطعت وما توفيقي إلا بلله عليه توكلت وإليه أنيب ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد وستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز }
قال أبو محمد فإذا قد حض الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز و جل بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه فهو صاد عن سبيل الله تعالى ظالم ملعون بلا تأويل إلا على عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم
وقال تعالى { ما كان لأهل لمدينة ومن حولهم من لأعراب أن يتخلفوا عن رسول لله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل لله ولا يطأون موطئا يغيظ لكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن لله لا يضيع أجر لمحسنين }
ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين
وأول ما أمر الله عز و جل نبيه محمدا صلى الله عليه و سلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى { قل فلله لحجة لبالغة فلو شآء لهداكم أجمعين }
وقال تعالى { بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون }
ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا وليس كذلك البرهان بل هو لنا أبدا ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبدا
ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقا كثيرا فأزهقته منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم ولعن قتلتهم وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط
قال أبو محمد وقد علمنا عز و جل الحجة على الدهرية في قوله تعالى { لله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض لأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار }
وقوله تعالى { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا } وعلمنا الحجة على الثنوية بقوله تعالى { لو كان فيهمآ آلهة إلا لله لفسدتا فسبحان لله رب لعرش عما يصفون } وعلى النصارى وعلى جميع الملل وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار البرهان بغاية الإيجاز والاختصار
وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم حدثنا ابن الأعرابي أنبأنا أبو داود حدثنا أبو موسى بن إسماعيل ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم
قال أبو محمد وهذا حديث في غاية الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله
قال أبو محمد وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة
فحج آدم موسى
قال أبو محمد فموسى صلى الله عليه و سلم وضع الملامة في غير موضعها فصار محجوجا وذلك لأنه لام آدم صلى الله عليه و سلم على أمر لم يفعله وهو خروج الناس من الجنة وإنما هو فعل الله عز و جل ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعا للملامة موضعها ولكان آدم محجوجا وليس أحد ملوما إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله ولا مما فعله غيره
والكافر إنما يلام على الفعل لا على دخول النار والقاتل إنما يلام على فعله لا على موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه
فعلمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة وبين لنا صلى الله عليه و سلم أن المحاجة جائزة وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجا وظهر بذلك قول الله عز و جل { كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم لكتاب ولحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }
والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن مواضعه ويطلب فيه ما ليس فيه وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شيء وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر
قال أبو محمد وقد تحاج المهاجرون والأنصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق
فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم
وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال
ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة لأنه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل لأن حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها
وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف أو معاند سخيف
والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره
وإزهاق الباطل وتبينه
فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد
وهو من أهل الباطل حقا
والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه عليه السلام أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أو كما قال صلى الله عليه و سلم
فإذا قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الإلهام والتقليد وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه ولا يتميز حقه من كذبه وواجبه من غير واجبه إلا بدليل من غيره فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات وتمييز المحال منها
وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة
وهما طرفان أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل والثاني قصر فخرج عن حكم العقل ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه ولا فرق
ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معا إحداهما التي تبطل حجج العقل جملة
والثانية التي تستدرك بعقولها على خالقها
عز و جل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم فثقفوها هم ورتبوها رتبا أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها وأنه لا تجري أفعاله عز و جل إلا تحت قوانينها
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز و جل إفكا عظيما وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول
وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم وأن الخالق واحد لم يزل وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته والعمل بما صححه العقل من ذلك كله وسائر ما هو في العالم موجود مما عدا الشرائع وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا أو يكون التيس حراما أو حلالا أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه أو أن يتزوج أربعا ولا يتزوج خمسا أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء المقتول
أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا وكذلك سائر رتب العالم كلها
فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى ولو فعله لكان فرضا علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد
ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق
الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات
أعن توقيف أم عن اصطلاح قال أبو محمد أكثر الناس في هذا والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز و جل بحجة سمع وبرهان ضروريفأما السمع فقول الله عز و جل { وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين }
وأما الضروري بالبرهان فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم وتدربت عقولهم وتمت علومهم ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره
إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته
ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ويعاني به الأمراض ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك
وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله لأنه عمل المصطلحين وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه فهذا من الممتنع المحال ضرورة
قال علي وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام والكلام حروف مؤلفة والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه لأن الفعل حركة تعدها المدد فصح أن لهذا التأليف أولا والإنسان لا يوجد دونه
وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة فصح أن للمحدث محدثا بخلافة وصح أن ما علم من ذلك مما
هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه
ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى
قال علي وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها
أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها
وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم
لا بد من ذلك
فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام
ولم يبق إلا أن يقول قائل إن الكلام فعل الطبيعة
قال علي وهذا يبطل ببرهان ضروري
وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى
وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط وهو أن قال إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها
قال علي وهذا محال ممتنع لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه
وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم
فبطل ما قالوا وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء
ومن كابر في هذا فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل لا بد له من أحد هذين الوجهين
فصح أنه توقيف من أمر الله عز و جل وتعليم منه تعالى
إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولا إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها وأبينها عبارة وأقلها إشكالا وأشدها اختصارا وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز و جل { وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين } فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا
وقد قال قوم هي السريانية وقال قوم هي اليونانية وقال قوم هي العبرانية
وقال قوم هي العربية
والله أعلم
إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي وإذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتها
ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة
وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق
فنجدهم يقولون في العنب العينب وفي السوط أسطوط
وفي ثلاثة دنانير ثلثدا
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة
وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا أراد أن يقول محمدا
ومثل هذا كثير
فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم
وأنها لغة واحدة في الأصل
وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده
والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم
فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم إن اليونانية أبسط اللغات
ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها
ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم
وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل
ضرورة
ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة
فكيف تفلت أكثرها والله تعالى اعلم
ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا ولا ندري لعل قائلا يقول لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلا وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن
ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة إذ توزعها بنوه بعد ذلك وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ولكن هذا هو الأغلب عندنا نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه وعما هو آكد عليه من أمور معاده ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة
ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعا بل نقول إنه ممكن بعيد جدا فإن قالوا لعل ملكا كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم قلنا لهم هذا ضد وضع اللغات الكثيرة بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ثم نقول وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئا وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخف وأمكن من إحداث لغة مستأنفة وعلم ذلك عند الله عز و جل
وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات
وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة وقد قال تعالى { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم }
وقال تعالى { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون }
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك وقد غلط في ذلك جالينوس فقال إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع
قال علي وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق
وقد قال قوم العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى
قال علي وهذا لا معنى له لأن الله عز و جل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه
وقال تعالى { إني إذا لفي ضلال مبين } وقال تعالى { وإنه لفي زبر الأولين } فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه
وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا
وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات القائمة بيننا الآن وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات وإما أن تكون لهم لغات شتى لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به
وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم واحتج بقول الله عز و جل { دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } فقلت له فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا { وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون } ولأنهم قالوا { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين }
ولأنهم قالوا { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فقال لي نعم فقلت له فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية فإن قلت هذا كذبت ربك وكذبك ربك في قوله { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم } فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ليبين لنا عز و جل فقط وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ولا حسن في بعضها دون بعض وهي تلك بأعيانها في كل لغة فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة وبالله تعالى التوفيق
وقد أدى هذا الوسواس العامي اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز و جل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل
الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر
قال أبو محمد هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه وشبك بين المعاني وأوقع الأسماء على غير مسمياتها ومزج بين الحق والباطل فكثر لذلك الشغب والالتباس وعظمت المضرة وخفيت الحقائق ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها فنقول وبالله تعالى نتأيد الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه كقولك الجسم هو كل طويل عريض عميق فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسما فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسموالرسم هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبىء عن طبيعته كقولك الإنسان هو الضحاك فإنك ميزت الإنسان بهذا اللفظ تمييزا صحيحا مما سواه إلا أنك لم تخبر بطبيعته لأنك لو توهمت الضحك مرتفعا عن الإنسان لم تبطل بذلك عنه الإنسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها
قال أبو محمد علي ولما كان هذان المعنيان متغايرين كل واحد منهما غير صاحبه وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الإشكال ولكنا ظالمين لهم جدا وغير ناصحين لهم وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم ليبينه للناس ولا يكتمونه ومن لبس الحقائق فقد كتمها
والعلم هو تيقن الشيء على ما هو عليه إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك وإما أول بالحس أو ببديهة العقل وإما حادث عن أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس إما من قرب وإما
من بعد وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه فوافق فيه الحق وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا الناس كلهم إلى الإيمان بالله تعالى وبما جاء به والنطق بذلك ولم يشترط عليه السلام عليهم ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال بل قنع بهذا من العالم والجاهل والحر والعبد والمسبي والمستعرب واجتمعت الأمة على ذلك بعده عليه إلى اليوم
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه ولم يشترط عليهم استدلالا في ذلك فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك ولحرم عليه اعتقاده لأن الله تعالى يقول { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقال تعالى { إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به ومنهي عن القول بما لا يعلم وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به وعن قفو ما لا نعلم كان مدعيا بلا دليل ومبطلا في قوله لأنه يقول { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } إلا في الإيمان فاقف فيه ما لا علم لك به وهذا كذب على الله تعالى مجرد
فإن قال قائل فإن الله يقول { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } قلنا نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل ولا برهان لصاحب الباطل وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم سواء علمه المعتقد له أو جهله وإنما يكف البرهان أهل الباطل لإدحاض باطلهم ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا لأنه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا فإن كان محقا مثله فهو معنت له والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في الحق قال تعالى { يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون } وقال تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } فلا يجوز تكليف المحق برهانا
إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة لأن من فعل ذلك يكون معارضا للحق ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز قال تعالى ذاما لقوم { كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب }
وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة فقالوا الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث وهذا كلام موجب الكفر لأنهم يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث لأن كل محدود متناه ومركب وكل مركب فمخلوق لأنه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه فقد جعلوا ربهم محدثا تعالى الله عن ذلك
وقالوا حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل
قال علي وهذا حد فاسد لأن النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل ولا تسمى عالمة وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان
وقالت طائفة منهم حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله
قال علي وكلا الحدين فاسد ونحن نسألهم أهذه الصفة التي ذكرتم أهي والموصوف بها شيء واحد أم هي والموصوف بها شيئان متغايران فإن قالوا شيء واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط وأيضا فإن كون الصفة والموصوف شيئا واحدا غير موجود في العالم لأن الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتى والموصوف باق بحسبه ولا شك في أن الفاني غير الباقي والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ولكن اتباعا منا للنص الوارد في أن له علما فقط إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضا ونحن لم نسم الباري تعالى عالما وإنما قلنا إنه عليم كما قال تعالى
فإن قالوا فأي فرق بين عالم وعليم
قيل لهم وأي فرق بين الجبار والمتجبر فسموا ربكم متجبرا وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين وأن له مكرا ولا نسميه ماكرا وكذلك نسميه حكيما ولا نسميه عاقلا ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ
وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست مشتقة أصلا وبالله
التوفيق
فإن قالوا إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم
والاعتقاد هو استقرار حكم بشيء ما في النفس
إما عن برهان أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا ولا بد وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو باطلا وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبخت وإما باطلا بسوء الجد
والبرهان كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشيء
والدليل قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت وقد يسمى المرء الدال دليلا أيضا
والحجة هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا
والدال هو المعرف بحقيقة الشيء وقد يكون إنسانا معلما وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم وقد يسمى الدليل دالا على المجاز ويسمى الدال دليلا أيضا كذلك في اللغة العربية
والاستدلال طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم
والدلالة فعل الدال وقد تضاف إلى الدليل على المجاز
والإقناع قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله
والشغب تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة
والتقليد هو اعتقاد الشيء لأن فلانا قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليدا بل هو طاعة حق لله تعالى
والإلهام علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد وهو
لا يكون إلا إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضا كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل
والنبوة اختصاص الله عز و جل رجلا أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها إما بواسطة ملك أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات وقد انقطعت بعد محمد صلى الله عليه و سلم
والرسالة أن يأمر الله تعالى نبيا بإنذار قوم وقبول عهده وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا
والبيان كون الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه
والإبانة والتبيين فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الأفهام مبينا كما تقول بين لي الموت أن الناس لا يخلدون والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا والمبين هو الدال نفسه
والصدق هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه
والحق هو كون الشيء صحيح الوجود ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقا
فليعلم أن هذا شغب فاسد لأن وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحا بل هو معدوم فرضا الله تعالى بهما باطل وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه وإلا وقع الإشكال وتحير الناظر
وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه لأن الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلا إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص ولا يحل فيها التصريف فظهر فساد هذا الفرق بيقين وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فإن الله تعالى قال { حقيق على أن لا أقول على لله إلا لحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل } ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا
فظهر فساد هذا الفرق
والباطل ما ليس حقا
والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه
والأصل هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل
والفرع كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما أنتج منه أيضا
والمعلوم قسمان معلوم بالأصل المذكور ومعلوم بالمقدمات الراجعة إلى الأصل كما بينا
وكل ما نقل بتواتر على النبي صلى الله عليه و سلم أو أجمع عليه نقل جميع علماء الأمة عنه عليه السلام أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه عليه السلام فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة
والنص هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه
وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصا
والتأويل نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل
والعموم حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة وكل عموم ظاهر وليس كل ظاهر عموما إذ قد يكون الظاهر خبرا عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد
والخصوص محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفا ولا فرق
والألفاظ إما دالة على واحد وإما على أكثر من واحد فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدرا
والمجمل لفظ يقتضي تفسيرا فيؤخذ من لفظ آخر
والمفسر لفظ يفهم منه معنى المجمل المذكور
والأمر إلزام الآمر المأمور عملا ما فإن كان الخالق تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم فالطاعة لهما فرض وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له
والنهي إلزام الناهي المنهي ترك عمل ما والقول فيه كالقول في الأمر فلا فرق وطاعة الأئمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز و جل بذلك
والفرض ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو الواحب واللازم والحتم
والحرام وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور والذي لا يجوز والممنوع
والطاعة تنفيذ الأمر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه وقد يسمى كل بر طاعة
والمعصية ضد ذلك
والندب أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو الائتساء والمستحسن والمستحب وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر
والكراهة نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثوابا وليس في فعله أجر ولا إثم وذلك نحو ترك كل تطوع ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم والحلق في غير علة أو حج أو عمرة والأكل متكئا
والإباحة تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شيء منهما ولا عقاب كمن جلس متربعا أو رافعا إحدى ركبتيه أو كمن صبغ ثوبه أخضر أو لازوديا وسائر الأمور كذلك وهو الحلال
والقياس عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشيء ما بحكم لم يأت به نص لشبهه شيء آخر ورد فيه ذلك الحكم وهو باطل كله
والعلة طبيعة في الشيء يقتضي صفة تصحيحها ولا توجد الصفة دونها
ككون النار علة للإحراق والإحراق هو معلولها والعلة أيضا المرض ولا علة في شيء من الدين أصلا والقول بها في الدين بدعة وباطل
والسبب أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلا آخر من أجله ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سببا لعقوبة المذنب
والغرض نتيجة يقصدها الفاعل بفعله كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله
وقد يكون الغرض اختيارا كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه
والأمارة علامة بين المصطلحين على شيء ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه
والنية قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها
والشرط تعليق حكم ما بوجوب آخر ورفعه برفعه وهو باطل ما لم يأت به نص وذلك نحو قول القائل إن خدمتني شهرا أعطيتك درهما
والتفسير والشرح هما التبيين
والنسخ ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الأول
والاستثناء ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الأول ما بقي بعد المستثنى منه وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء لأن النسخ كان فيه اللفظ الأول مرادا كله طول مدته وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الأول مرادا كله قط
والجدل والجدال إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلا وقد يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما ولا سبيل أن يكونا معا محقين في ألفاظهما ومعانيهما
والاجتهاد بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق فمصيب موقف أو محروم والرأي ما تخيلته النفس صوابا دون برهان ولا يجوز الحكم به أصلا
والاستحسان هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأ أو صوابا
والصواب إصابة الحق
والخطأ العدول عنه بغير قصد إلى ذلك
والعناد العدول عنه بالقصد إلى ذلك
والاحتياط طلب السلامة
والورع تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفا أن يكون ذلك فيه
والجهل مغيب حقيقة العلم عن النفس
والطبيعة صفات موجودة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه
ودليل الخطاب هو ضد القياس وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه
والشريعة هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله والحكم منها للناسخ وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب والشارب من النهر قال تعالى { شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب } وقال امرؤ القيس ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي واللغة ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ولكل أمة لغتهم
قال الله عز و جل { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم } } ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات
واللفظ هو كل ما حرك به اللسان
قال تعالى { إذ يتلقى لمتلقيان عن ليمين وعن لشمال قعيد } وحده على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود وهذا أيضا هو الكلام نفسه
والخلاف هو التنازع في أي شيء كان وهو أن يأخذ الإنسان في مسالك من القول أو العقل ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة إذ لا يحل خلاف ما أثبته الله تعالى فيها وقال تعالى { وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين } وقال تعالى { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } وهو التفريق أيضا قال تعالى { ولا تكونوا كلذين تفرقوا وختلفوا من بعد ما جآءهم لبينات وأولئك لهم عذاب عظيم }
والإجماع هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعدا وهو الاتفاق وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه وأما الإجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم صلى الله عليه و سلم وليس الاجماع في الدين شيئا غير هذا وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم ولو واحد منهم في الكلام فيه
والسنة هي الشريعة نفسها وهي في أصل اللغة وجه الشيء وظاهره قال الشاعر تريك سنة وجه غير مقرفة ما ساء ليس بها خال ولا ندب وأقسام السنة في الشريعة فرض أو ندب أو إباحة أو كراهة أو تحريم كل ذلك قد سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل
والبدعة كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه صلى الله عليه و سلم وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويغدر بما قصد إليه من الخير ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص
ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به
والكتابة لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية
والإشارة تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار إليه أو تنبيه عليه
والمجاز هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الأماكن ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة
وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر أو جماع متيقن أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقيا لأن التسمية لله عز و جل فإذا سمى تعالى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى قال عز و جل { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى }
والتشبيه هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته وهذا لا يوجب في الدين حكما أصلا وهو أصل القياس وهو باطل لأن كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ومخالف أيضا بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه وهو أيضا التمثيل
والمتشابه لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإضافة إلى من جهل دون من علم وهو في القرآن وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه وأمرنا بالإيمان به جملة وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السورة كقوله تعالى { ولضحى ولليل إذا سجى } والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم
والمفصل هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك
والاستنباط إخراج الشيء المعيب من شيء آخر كان فيه وهو في الدين إن كان منصوصا على جملة معناه فهو حق وإن كان غير منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به
والحكم هو إمضاء قضية في شيء ما وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختيار
والإيمان أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معا لا بأحدهما دون الثاني وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم والنطق بذلك باللسان ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات واجبها وندبها واجتناب محرمها ومكروهها برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد وأن يكون مسيلمة نبيا وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الإيمان مطلقا دون إضافة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان مطلقا إلا بالإضافة فصح أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه
والكفر أصله في اللغة التغطية قال عز و جل { علموا أنما لحياة لدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في لأموال ولأولاد كمثل غيث أعجب لكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي لآخرة عذاب شديد ومغفرة من لله ورضوان وما لحياة لدنيآ إلا متاع لغرور } قال لبيد بن أبي ربيعة ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لأنه يغطي على كل شيء وهو في الدين صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معا أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان على
ما بينا في غير هذا الكتاب برهان ذلك أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة وأهل الإيمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة
والشرك هو في اللغة أن يجمع شيئا إلى شيء فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره
والإلزام هو أن نحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب
والعقل هو استعمال الطاعات والفضائل وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلا وهو في اللغة المنع تقول عقلت البعير أعقله عقلا
وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم والحق هو في قول الله تعالى { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن لله ويجعل لرجس على لذين لا يعقلون } يريد الذين يعصونه وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك
والفور هو استعمال الشيء بلا مهلة ولكن على أثر ورود الأمر به
والتراخي تأخير إنفاذ الواجب وحكم أوامر الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده
والاحتياط هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون غير جائز وإن لم يصح تحريمه عنده أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط وليس الاحتياط واجبا في الدين ولكنه حسن ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحدا لكن يندب إليه لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به
والورع هو الاحتياط نفسه
فصل في معاني حروف تتكرر في النصوص
واو العطف لاشتراك الثاني مع الأول إما في حكمه وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط وإن كان اسما مفردا فهو مشترك في حكم الأول وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الأول قبل الثاني ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معا أو أن يكون أحدهما قبل الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك جاءني زيد وعمرو فجائز أن يأتيا معا وجائز أن يأتي زيد قبل عمرو وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثروالفاء تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة كقولك جاءني زيد فعمرو فزيد جاء قبل عمرو ولا بد وأتى عمرو أثره بلا مهلة
وثم توجب أن الثاني بعد الأول بمهلة
وواو القسم ليست واو عطف لأنها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف
وأو للشك وللتخيير مثل قولك خذ هذا أو هذا فإنما ملكت أخذ أحدهما وفي الشك قولك جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجيء أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه
ومعنى الباء الاتصال مثل قولك مررت بزيد تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضا ولا استيفاء
ومن معناها ابتداء أو تبعيض
وإلى معناها الانتهاء أو مع وهذا يكثر جدا ولهذا قلنا إنه لا بد للفقيه أن يكون نحويا لغويا وإلا فهو ناقص ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الأسماء وبعده عن فهم الأخبار
الباب السادس
هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة قال أبو محمد قال قوم الأشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظروقال آخرون بل هي على الإباحة وقال آخرون بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط
وقال آخرون بل هي على الإباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس ليس لها حكم في العقل أصلا لا بحظر ولا بإباحة وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة
قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال الأشياء كلها ملك لله عز و جل ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه
قال أبو محمد وهذا تمويه ساقط لأنه لم يحرم الإقدام على مالك غيرنا بنفس العقل وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه ولو كان تحريم الإقدام على ملك المالك مركبا في ضرورة العقل لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع فإن الكل أقل من الجزء وأن القصير أطول مما هو أطول منه لأن كل شيء رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف ما قد رتبه تعالى ممتنعا ومحالا ورتب الاخبار به كذبا وإفكا وأخبرنا تعالى أن قوله الحق ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب
ومن أجاز ذلك خرج عن الإسلام
وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرها فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد
ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان لله على كل شيء قديرا } وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاسا وغلبة وعلى كل وجه
فإن قالوا كفرهم أباح أموالهم قيل لهم نحن نوجدكم الذمي كافرا لا يحل أخذ شيء من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله وكلاهما كفره واحد فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الإقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام محرم في العقل
فإن قال قائل منهم تلك الأموال هي ملك الله عز و جل قيل له إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياسا على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلا فتبطله
ويقال له أيضا وأنفسنا ملك لله عز و جل وفي منعها الأقوات والتناسل إبطال للنوع الإنساني وفي ذلك إبطال ملك لله عز و جل كثير وإتلاف مملوكات له كثيرة وهذا فسخ لأصلك فيكون الإتلاف على قولك حاظرا مبيحا في حالة واحدة وهذا لا يعقل
ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلا على قدرة الله عز و جل اطرد علتك وقل وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة الله عز و جل في مداخلة الأعضاء بعضها في بعض وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة وأدل دليلا على قدرة الله عز و جل وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد له من السيلان وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلا على القدرة فأبح قتل النفس على هذا وقل إنه حسن في العقول بل واجب ومن قرأ كتب التشريح للأطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة فليقل إن قتل الأنفس مباح في العقل
واحتج المبيحون أيضا بأن قالوا لا بد من فعل أو ترك أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع
قال أبو محمد وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر وأما نحن فلسنا نقول إن في العقل إباحة شيء ولا حظره وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط
وبالجملة فكل شيء يعارض به القائلون بالإباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة واحتج بعض القائلين بالإباحة بقوله تعالى { من هتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا لأننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولا فيعارضون بهذا وليست هذه الآية من مسألتنا في الإباحة والحظر في ورد ولا صدر لأن الأشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لأحد أن يقول إن الله تعالى يعذب من خالف أمره وليس في كون المرء عاصيا أو كافرا ما يوجب أنه يعذب ولا بد وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم فقط ولولا ذلك ما علمناه
برهان ذلك أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاما وستين وسبعين وثمانين وبين تماديه هكذا أبدا وقتا بعد وقت ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الأول وبين جوازه في الوقت الثاني وليست هنا حال حدثت لهم إلا أن الله تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به وقال بعض القائلين بالإباحة محال أن يخلق الله تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا
قال علي هذه مكابرة العيان وليست هذه هي حجة مسلم لأن الله عز و جل وقد فعل ما أنكروا وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان وشرب الخمور في البساتين وأخذ كل شيء استحسنته النفوس والراحة وترك التعرض لسيوف أهل الشرك والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة ثم حرم علينا ذلك كله
فإن قال قائل فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة قلنا له وبالله تعالى التوفيق لقد كان تعالى قادرا أن يجمع الأمرين لنا معا ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه
وبيان ذلك أنه قد نعم قوما في الدنيا والآخرة كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك
وسلط على أيوب وهو
نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لأحد به دون ذنب سلف منه ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام وسلط محمدا صلى الله عليه و سلم على جميع أعدائه وعصمه منهم ومنحه النصر عليهم وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضا فمن محسن منعم ومن محسن مشقي وقد نعم أيضا عز و جل ملوكا من الكفار في الدنيا وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار وهم أطغى خلق الله وأكفره وأشد تسلطا على الفواحش
وحرم آخرين من الكفار فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمساءلة من باب إلى باب مع العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة والأمراض المؤلمة ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا ومنحوس فيها فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئا من ذلك في عقله إلا ناقص العقل ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك
ونسأل من جعل العقل مرتبا في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له ما تقول في راهب في صومعة مريد لله عز و جل بقلبه كله موحد لله تعالى لا يدع خيرا إلا فعله ولا شرا إلا اجتنبه إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا يسمع قط ذكر محمد صلى الله عليه و سلم من جميع أهل ناحيته إلا متبعا بالكذب وبأقبح الصفات ومات على ذلك وهو شاك في نبوته صلى الله عليه و سلم أو مكذب لها أليس مصيره إلى النار خالدا مخلدا أبدا بلا نهاية فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الأمة
ثم نقول ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئا من الفواحش إلا ارتكبه من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام وفعل كل بلية ثم إنه أيقن بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وآمن وبرىء من كل دين إلا دين الإسلام وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك أليس من أهل الجنة بلا خلاف من أحد من الأمة فإن شك في ذلك فقد كفر
ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمدا صلى الله عليه و سلم وسائر الأنبياء بهذه الفضائل وقد كان عليه السلام بين أظهر الناس أربعين سنة لم يحبه تعالى بهذه الفضيلة فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يحبى بها إذ حبي بها هل هي إلا
أفعال الله تعالى واختياره وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة أو تحسين أو تقبيح وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنه آمين
وقال بعض المتكلفين من القائلين بالإباحة كل من اضطره الله إلى شيء فقد أباحه له
قال أبو محمد علي وهذا قول امرىء لم يتدرب في العلم وقد أخطأ في هذه القضية لأن الضرورة فعل الله تعالى والجائع مضطر إلى الجوع والمريض مضطر إلى المرض وقد قال تعالى في أهل النار { وإذ قال إبراهيم رب جعل هذا بلدا آمنا ورزق أهله من لثمرات من آمن منهم بلله وليوم لآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب لنار وبئس لمصير } أفيسوغ لذي عقل أن يقول إن الله تعالى أباح للجائع الجوع وللمريض المرض ولأهل جهنم الكون في جهنم وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني
فإن قال قائل فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للأمر المنسوخ قبل أن ينسخ ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسنا
قيل له هذا شغب فاسد ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت بل هو قولنا نفسه وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شيء أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شيء أو إباحته فواجب في العقول الانقياد لذلك والانقياد لمنع ما أبيح أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الأمر المتقدم فلم يحدث في العقول شيء لم يكن ولا غير النسخ شيئا مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة وقد قال بعض القائلين بالحظر إن معنى قوله عز و جل { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } إنما معنى هذا ليعتبر به
قال أبو محمد وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان
ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم إن معنى
الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود معنى الزكاة طهارة الأنفس ومعنى الحج القصد إلى الإمام ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة وأدى إلى إبطال جميع التفاهم ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه وهذا هو إبطال الحقائق وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا إن معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نبي بعدي أي من العرب فقط وساغ للمعتزلة أن تقول وخلق كل شيء أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات وساغ للحشوية أي تقول بل خلق كل شيء حاشا الروح والإيمان والكلام المسموع من القراء وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شيء من الخير فقط وهذا كلام ومذهب يفسد الدين ويبطل حقيقة العقل
وقد علمنا ضرورة أن الألفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة وهذا غاية الإفساد وبالله تعالى التوفيق
قال علي ثم نبطل كلا المذهبين معا بحول الله وقوته
قال الله تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون } وقال تعالى { قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون }
قال علي ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شيء من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال فبطل بذلك قول من قال إن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة وصح أن من قال شيئا من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز و جل وأما إذا ورد الشرع بأي شيء ورد من إباحة الكل أو حظر الكل أو حظر البعض أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك وقال تعالى { ألم تر أن لله يعلم ما في لسماوات وما في لأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم لقيامة إن لله بكل شيء عليم } والسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملا دون ورود شرع فبطل قول من قال إن العقول تعرف وقتا من الدهر من شرع وإذ قد بطل هذا القول فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة
فصار قولهم محالا ممتنعا مع كونه حراما أيضا لو كان ممكنا وقال تعالى { إنآ أرسلناك بلحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } فبطل هذا أن تكون أمة وقتا من الدهر لم يتقدم فيهم نذير وقد كان آدم عليه السلام رسولا في الأرض وقال تعالى له إذ أنزله إلى الأرض { فأزلهما لشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا هبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في لأرض مستقر ومتاع إلى حين } فأباح تعالى الأشياء بقوله إنها متاع لنا ثم حظر ما شاء وكل ذلك بشرع وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتا من الدهر دون شرع بل قد قال تعالى { وقلنا ياآدم سكن أنت وزوجك لجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين } فلم يخل قط وقت من الزمان عن أمر أو نهي
قال علي ويقال لهم أيضا لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا قبل أن نحتلم فإن الأمور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الأمرين في العقول سواء
وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم
وليس بين الأمرين إلا نومة لطيفة فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شيء أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز و جل ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف
قال علي ويقال لمن قال لكل شيء مباح في العقل إلا الفكر أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكارا
كفرا من قائله فإن قال لا
كفر وإن قال نعم
قيل له صدقت وقد أباح الله تعالى الإعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الأذى
وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط لأن بعضهم قال لم يبح الله تعالى قط الكفر لأن الكفر الذي هو العقد ولا خلاف بين من يعتد به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية كفر صحيح فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون بأن امرأ لو قال بلسانه أنا كافر بالإسلام مقر بالتثليث إن هذا كفر وإنه مرتد وهذا بعينه الذي أبيح عند
الإكراه فقد جاءت إباحة الكفر نصا وحسن ذلك في عقولهم وبطل قولهم والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسنا مباحا وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال إن كفر المنعم محظور بالعقل
ما تقول في كافر ربى إنسانا وأحسن إليه ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا فإن قالوا لا
خالفوا الإجماع وإن قالوا نعم
نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل فإن قالوا إن قتله شكر له كابر وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه وهذا ضد ما ميزه العقل وبالله تعالى التوفيق
فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة
قال علي بن أحمد اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها فقالت طائفة كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي وقالت طائفة إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور وكذلك النهي ولا فرق وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهيقال علي وبهذا نقول لقول الله عز و جل { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } صلى الله عليه و سلم { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } ولإخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار
حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقي أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن المثنى ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا ويقول الأحمق رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا
ويقول الذي مات في الفترة رب ما أتاني لك من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله تعالى إليهم ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما
وبه إلى قتادة عن الحسن البصري عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره ومن لم يدخلها دخل النار
فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه فصح يقينا أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها
واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فسماه عليه السلام مخطئا ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به
قال أبو محمد وهذا الخبر لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا وبه نقول لأنه قد يكون مخطئا من لا يوافق الحق وإن لم يكن مأمورا بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه فهو مخطىء بلا شك وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز و جل وأدخل في الدين ما ليس منه وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق وهو غير حق وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه
فإن قال قائل لو كان ما قلتم لكان الدين لازما لبعض الناس لا لكلهم قلنا وبالله التوفيق ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإنس إذا بلغهم نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ
فإن قالوا فكيف حال من لم يبلغه الأمر أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قلتم هو مأمور بما أمره الله تعالى به وإن لم يبلغه فهو قولنا وإن قلتم هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغبا بشيعا
قلنا وبالله التوفيق لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول هو غير مأمور
في ذلك بشيء أصلا حتى يبلغه وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ فإن قالوا فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامدا فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به قلنا لهم هذا السؤال لازم لكم ولنا
فأما نحن فنقول وبالله التوفيق إنه ليس في ذلك مطيعا ولا عاصيا لكنه مستسهل لمخافة الحق هام بترك الحق إلا أنه لم يفعل ذلك بعد
هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقا ولا واقع باطلا
قال علي أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ وليس أحد من هؤلاء موجودا بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن النسخ بطل بعد موته عليه السلام واستقرت الشرائع
وقسم ثان علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص وقسم ثالث بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ أو تأولوا فيهما تأويلا قاصدين إلى الحق
فإما من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ولا يسقط اليقين إلا بيقين
برهان هذا أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة وبأقصى جزيرة العرب فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة وتحريم بعض ما لم يكن حراما كالحق وإمساك المشركات وغير ذلك
فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه
وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك فلا شك أيضا في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ بل كان فرضا عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا والحمد لله يقينا لا مجال للشك فيه
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب إذ لم يبلغهما نهي النبي عليه السلام عن إقرارهم فيها فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك بل فعلا ما أمرا به ولو قال قائل إن هذا
إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما وبالله تعالى التوفيق
فإن قيل فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا لذين ظلموا منهم فلا تخشوهم وخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } قلنا لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه
قال علي ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامدا قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة وهذا باطل وأما لو أن إنسانا اليوم خفيت عليه دلائل القبلة فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة وهو بذلك فاسق لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالما أنه أمر به فيها فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك
قال أبو محمد وأما من كان بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص فإنه أيضا مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك بل افترض عليه خلافا لذلك طاعة أمره تعالى جملة والمنسوخ من أمره فلا شك فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق
ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمرا يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان قال عز و جل { لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم } فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالا والتباسا ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقينا
وأما من بلغه الناسخ والخاص ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة مأجور بقصده الخير ومعذور بجهله ونسيانه فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح وبالله تعالى التوفيق
فإن احتج محتج بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء وفيه قول موسى عليه السلام كم فرض الله على أمتك قال خمسين صلاة أو نحوها فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة قلنا إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا وبرهان ذلك أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها
هذا ما لا خلاف فيه
فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ وبعد انتهاء الشرع إليه وبعد دخول الوقت وبهذا تتألف الأخبار كلها وبالله تعالى التوفيق
برهان ذلك أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصيا لله تعالى فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه فهذا هو مبلغ فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه لأنه لم يتجانف لإثم والأعمال بالنيات فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير وإلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه و سلم فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل بخلاف الرسول صلى الله عليه و سلم إما بعلمه فقط فهو فاسق وإما بنيته فهو كافر وبالله تعالى التوفيق
الباب السابع
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا قال علي قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا أنه لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين أحدهما ما أوجبته بديهة العقل وأوائل الحس والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحسوقد بينا كل ذلك في غير هذا المكان فأغنى عن ترداده وقد بينا أيضا أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد وصحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وصدقه في كل ما قال وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه وبالعذاب الشديد من عصاه وتيقنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له وتيقنا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى والشاهد لنبيه صلى الله عليه و سلم بها على صحة ما أتى به عنه تعالى فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئا كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلا
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا بم عرفتم أن القرآن حق فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس ثم يقال لنا بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات فكنا نقول بالقرآن فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق ولكنا قلنا إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد وذلك أن قوما من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم وإفساد مذاهبهم وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ويزيل شكوكهم كما قال
تعالى { وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة قليلا ما تشكرون } وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله وقال تعالى { ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه لنجدين }
وذم تعالى من لم يستعمل دلائلها فقال حاكيا عن قوم معذبين ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق قال الله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون } إلى قوله { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون } وقال تعالى حاكيا عن مثلهم { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب لسعير } فصدقهم الله عز و جل في قولهم ذلك فقال تعالى { فعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب لسعير } وقال تعالى { ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات لله وحاق به ما كانوا به يستهزئون } فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل
قال أبو محمد أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم وتدبير متاجرهم وصناعاتهم وحفظ أموالهم وطلب الجاه والرياسة كلا والذي عذبهم
وأخزاهم وذمهم بل كانوا أعلم بذلك كله وأشد اهتبالا به وأشغل نفوسا فيه وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفوا وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم المقبلين على طلب معرفة الحقائق والوقوف على العلم والعمل الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز و جل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان
كما ثنا عبدالله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبدالوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وكلاهما عن أسود بن عامر قال ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني هشام عن أبيه عن عائشة وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنتم أعلم بأمر دنياكم في حديث قوله عليه السلام في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصا ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر واللمس والذوق الشم والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان لا يجدي ولا يغني بل يثقل ويندم وبالله تعالى التوفيق
قال علي ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ولما أمرنا نبيه صلى الله عليه و سلم مما نقله عنه الثقات أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه عليه السلام فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه فكان ذلك كأنه وجه رابع إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله عليه السلام كل مسكر خمر وكل خمر حرام فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصا جليا ضروريا
لأن المسكر هو الخمر والخمر هي المسكر والخمر حرام فالمسكر الذي هو هي حرام
ومثل قوله تعالى { يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما } وقد تيقنا بالفعل الذي به
علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل ووجدنا ذلك منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل قد حل دمه فقلنا قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا
فهذا منصوص على معناه
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلا إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة وهي كلها راجعة إلى النص والنص معلوم وجوبه ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه
وقد ادعى قوم أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره فأتوا بأمر عظيم وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا لا سبيل في العقل إلى تغييره
قال علي والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكما بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل
وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط
فقال هؤلاء إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته
قال علي ولا دليل على ما ذكروا بل قد كان ممكنا أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبدا ليس لأنه ممتنع منه عز و جل لو شاءه ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون وأنه
لا يرضى لنا الكفر ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد صلى الله عليه و سلم وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن وعمران هذا القفر ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن
فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز و جل
قال علي وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز و جل ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز و جل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل
ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاما ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضا وحرم عليهم الكفر حتما ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شي بيضة ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئا
بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ولا فرق
هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين
وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ولا حاض إن كان امرأة ولا بلغ خمسة عشر عاما من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاما مع الاحتلام أو حاض إن كان امرأة في هذه السن ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام
وبرهان ذلك أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا ولا نقتلهم إن قتلوا ولا نحدهم إن زنوا ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم
فإن ادعى مدع أن البهائم متعبدة واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب وقد بينا ذلك في كتاب الفصل
وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ثم بينا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها وأنها أربعة وهي نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه عليه السلام نقل الثقات أو التواتر وإجماع جميع علماء الأمة أو دليل منها لا يحتمل إلا وجها واحدا فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره
فنقول وبالله تعالى التوفيق أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا إما مستفهما أو مناظرا فإذا أجابه سأله ما دليلك على كذا فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل فإن عارض المسؤول السائل بدليل مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية فيحتج عليه الآخر بآية أخرى هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك
فسنفرد لذلك بابا موعبا في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتبا مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل
قال علي وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز و جل فسنفرد في المسائل النظرية
وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديوانا موعبا نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة وبالله تعالى التوفيق
ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها
قال علي وكل من قال بقبول خبر الواحد ثم صح عنده خبر عن النبي صلى الله عليه و سلم متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة
فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد إما مخطىء وإما مصيب وكذلك إن تركه لنص قرآن وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر أو نص قرآن إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا وخالف ترتيب أخذه في المسائل فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وترك ظاهر قول الله تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } ثم إنه ترك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تحرم الرضعة والرضعتان وأخذ بظاهر قوله عز و جل { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق
لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر فهو فاسق متلاعب بدينه
وإن ترك نصا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضا وإن ترك نصا لقول صاحب فمن دونه فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علما عن النبي
صلى الله عليه و سلم وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك فتمادى ولم يتب فهو فاسق فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم أن يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام أو يحل شيئا كان حراما إلى حين موته عليه السلام أو يوجب حدا لم يكن واجبا إلى حين موته عليه السلام أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد وفي حل الخمر وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي صلى الله عليه و سلم مباحة فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل
وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا
وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإجمال من كتابنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال علي وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله تعالى التوفيق
قال علي والوجه الذي ذكرنا آنفا وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي وبين حديث وحديث وبين حديث وآي فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ولا أننا علمناه يقينا ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه و سلم في قوله الحلال بين والحرام بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز و جل في قوله { هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب } وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز و جل
إلا أننا قاطعون باتون على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى { لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم } ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم هل بلغت
قالوا اللهم نعم قال اللهم اشهد
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض وكل آية وردت كذلك لا معارض لها
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما
فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن
لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز و جل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز و جل
وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي صلى الله عليه و سلم فنحن قاطعون أيضا على أننا فيه محقون عند الله عز و جل
وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة
وإن استدل المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز و جل بل نقول هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسندا من طريق يصح فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى
فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص لكن بتقليد أو قياس فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى وأننا محقون عنده تعالى ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه أو قياس أو استحسان فهو باطل بيقين عند الله عز و جل وبالله تعالى التوفيق
فصل في هل على النافي دليل أو لا
قال علي بن أحمد اختلف الناس في هذا على قسمين فطائفة قالت الدليل على من أوجب شيئا أو ثبت حكما أو قضيةوليس على النافي دليل
وقالت طائفة الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معا
قال علي والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئا بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم فقال تعالى { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } فقد حرم الله تعالى
بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز و جل شيئا لا يعلم صحته وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل
فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرما عليه
وقال تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين } فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب وقال تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فأوجب تعالى على كل مدع المصدق أن يأتي ببرهان وإلا فقوله ساقط ووجدنا كل ناف مدعيا للصدق في نفيه ما نفى ووجدنا كل مثبت مدعيا للصدق في إثباته ما أثبت فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة
قال علي وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله صلى الله عليه و سلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئا في المناظرة في غير الأحكام
قال علي فإذا اختلف المختلفان فأثبت أحدهما شيئا ونفاه الآخر فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفا بحكم كلام الله عز و جل فأيهما أقام البرهان صح قوله ولا يجوز أن يقيماه معا لأن الحق لا يكون في ضدين ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلا صحيحا في حال واحدة من وجه واحد فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل وهذا ممكن فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي لكن يترك في حد الإمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه لكان الشيء موجبا حقا ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلا منفيا
فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقا وممكن أن يكون باطلا إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل وهكذا نص قوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث أهل الكتاب لا نصدق ولا نكذب ولكن نقول الله أعلم
قال علي وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس
ولا معنى للتطول فيها والشغب لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدا واضحة فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته وإن كان هذا قولا صحيحا ولكنا نقول لهم هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله وسهولة المأخذ في ذلك وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد في 3 باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجا بما لم يحتجوا به لأنفسهم وبينا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه وبالله تعالى التوفيق
قال علي كل أمر ثبت بيقين إما بحس وإما ببديهة عقل وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلادا فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ورؤوسهم على أسافلهم
أو ادعى أن في الناس قوما لهم حاسة سادسة غير حواسنا أو ادعى أن فلانا الذي عهدناه حيا مات فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه أو أن فلانا طلق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق أو أن فلانا الذي عهدنا فسقه قد تعدل أو أن فلانا الذي عهدناه غير وال قد ولي الحكم في بلد كذا أو أن فلانا الذي عهدناه واليا قد عزل وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا أو حرم عليكم أمر كذا أو أحل لكم أمرا عهدناه حراما أو أسقط عنكم أمرا عهدناه لازما فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل ولا تكلف مبطل هذا القول دليلا على بطلان قول خصمه إذا قام الدليل على صحة قوله ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإلزام والتحريم
والإحلال والإسقاط فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف ومستخفون بمن خالفنا
وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه
وأما بطلان قول من ادعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام لله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } وقال تعالى { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون } وقال تعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا }
قال علي فبين الله تعالى بيانا جليا لا إشكال فيه أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ولا أن نترك ما أوحي إلينا وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى فوجدنا الله عز و جل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه صلى الله عليه و سلم لأنه إنما ينطق عنه عز و جل وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم عليه السلام وأن هذه حدود الله تعالى
فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها وأن يعدى بنا عنها فقد حرف كلام الله تعالى وظلم وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه وإلا فنحن باقون على تلك الحدود غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن إن ادعى مدع على آخر أنه قتل وأنكر
ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء أن يكلف المانع من ذلك الدليل وهذا خروج عن الإسلام مع ما فيه من مخالفة العقول
وكذلك القول فيمن قال بصحة الإلهام قول الرافضة في الإمام ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ولا الإقرار به وهو كله على الدفع والرد والإبطال بلا دليل يكلفه مبطله وإنما البرهان على من حقق شيئا من ذلك أو أوجبه
وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئا فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك لأنه فعل ما يلزمه من ذلك وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط فإن أتى به صحت دعواه وإلا فواجب تركها وردها وإن كانت ممكنة غير ممتنعة وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق
الباب الثامن في البيان ومعناه
قال علي قد بينا في باب تفسير الألفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره ونحن نقول إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان لأن بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفيتها وكميتها دون أن يخرج من لفظها شيء يقتضيه في اللغة كقوله تعالى وآتوا الزكاة فبين رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هية هذه الزكاة المأمور بإيتائها دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئا وكذلك فسر عليه السلام من صفات النكاح والحج وغير ذلك وقد يكون باستثناء مثل ما روى عن نهيه عليه السلام عن بيع الرطب بالتمر ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق فكان هذا مخرجا بحكم العاريا من جملة النهى المتقدم وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل إلا وخلا وحاشا وما لم وما أشبه ذلك وقد يكون حكما وأردا بلفظ الأمر أو بلفظ الخبر مستثنى من جملة أخرى وهذا يسمى التخصيص كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب بالزواج فكان هذا تخصيصا من الجملة المذكورةوأما النسخ فهو رفع الحكم أو بعضه جملة والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لها على عمومها وقتا من الدهر كالذي ذكرنا من تحريم المشركات فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج وكذلك القول في العرايا وأما النسخ فإننا مكلفون بالجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى
فأما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص فقد يكون بالقرآن للقرآن وبالحديث للقرآن وبالإجماع للقرآن وقد يكون بالقرآن للحديث وبالحديث للحديث وبالإجماع المنقول للحديث
وقولنا الحديث إنه انما نعنى به الأمر والفعل والإقرار والإشارة فكل ذلك يكون بينانا للقرآن ويكون القرآن بيانا له وإنما فرقنا آنفا بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لأنه قد تيقنا وجوب طاعة الله عز و جل ورسوله عليه السلام علينا فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شيء مما امر به أو أن نقول في شيء مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا ببيان جلي لا شك فيه وإذا وجدنا لحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لأحد أن يقول إنه لزم ثم سقط فيكون قد قفا ما ليس له به علم وقال بشك لا بيقين وذلك حرام ولا يجوز بأن نقول بأن الحكم كذا لزمنا إلا بيقين ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص لأننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد اقررنا أنه لزم ثم سقط وهذا لا يحل قوله إلا بيقين وبالله تعالى التوفيق
ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فاستثنى تعالى الأزواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج ثم خص تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والربيبة الزانية والحريمة بالقرابة والشركة بالقرآن وخص الحريمة بالرضاع بالسنة والذكور والبهائم والأمة المشركة بالإجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل إلا وجها واحد بالحظر من جملة المباح بملك اليمين
فإن قال قائل لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنة لأن الله تعالى يقول وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس في الآية التي ذكرت أنه عليه الصلاة و السلام لا يبين إلا بوحي لا يتلى بل فيها بيان جلى ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس والبيان هو بالكلام فإذا تلاه النبي صلى الله عليه و سلم فقد بينه ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه إما متلوا أو غير متلو كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز و جل وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى والوحي كله متلوه وغير متلوه فهو
من عند الله عز و جل وقد قال عز و جل يبين الله لكم ان تضلوا وقال تعالى مخبرا عن القرآن تبيانا لكل شيء
فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوة بيانا لأخرى ولا معنى لأنكار هذا وقد وجد فقد ذكر تعالى الطلاق مجملا ثم فسره في سورة الطلاق وبينه
ومما اجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية ثنى أبو حيان ثنى يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول خطبنا رسول الله صلى الله عيله وسلم بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا يا أيها الناس فأنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله عز و جل واستمسكوا به ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتى أذكركم الله في أهل بيتي
قال علي وفسر زيد بن أرقم أنهم بنو هاشم
قال علي والتقليد باطل فوجب طلب من هم أهل بيته عليه السلام في الكتاب والسنة فوجدنا الله تعالى قال يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تظهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا
قال علي فرفعت هذه الآية الشك وبينت أن أهل بيته عليه السلام هن نساؤه فقط وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذو القربى بنص القرآن والسنة فهم في قسمه الخمس وتحريم الصدقة
وقد اجمل عليه السلام قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم
فإن قال قائل ما بين هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة أني أمرت أن أقاتل المشركين حين يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بما أرسلت به
قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن ثم أخبر به عليه السلام أصحابه بلفظ فكان بيانا مرددا تفسيرا مؤكدا فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور
قال علي وقد يرد البيان بالإشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه عليه السلام بيده أن ضع النصف
الباب التاسع في تأخير البيان
قال علي واختلفوا في نوع من أنواع البيان فقالت طائفة إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر وقال آخرون لا يردان إلا معا وقال آخرون جائز ورود المجمل قبل المفسر والمفسر قبل المجمل وورودهما معا كل ذلك جائزقال علي وبهذا نقول إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ولا يجوز أن يؤخره النبي صلى الله عليه و سلم بعد وروده عليه طرفة عين ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك لكن لأن النص قد ورد بذلك وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به وإنما منعنا من تأخير النبي صلى الله عليه و سلم البيان عن ساعة وروده عليه السلام لقول الله تعالى { يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين } فلو أخر عليه السلام البيان عن ساعة وروده عليه لكان عليه السلام في تلك المدة وإن قلت مستحقا لاسم أنه لم يبلغ ولو أنه لم يبلغ لكان عاصيا ولا ينسب هذا إلى النبي صلى الله عليه و سلم إلا جاهل ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة
قال علي وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها أقيموا الصلاة فقط فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر
قال علي وأما قولنا بتأخير الله عز و جل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل
به فهو منصوص في قوله تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وقد أنزل الله عز و جل آيات كثيرة فيها قصة موسى وقصة عيسى عليهما السلام وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام بعضها قبل بعض وبعضها بمكة وبعضها بالمدينة وبعضها أكمل من بعض فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد فتكون أتم للوعظ وأشفى للخبر ثم يؤكدها كذلك إن شاء
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز و جل في القرآن إلا مرة واحدة أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت
وأيضا فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلا ما الفرق بين عشرين مرة وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول وسألناه أيضا عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام
فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى قيل له ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم
ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيرا كإلياس واليسع وذي الكفل وغيرهم ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية وأبلغ في الوعظ ممن ذكر
قال علي وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ضعيف في عقله كائد للشريعة ولا شك في ذلك ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت وبالله تعالى التوفيق
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك أيقطع كل سارق لفلس من ذهب وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك أيجلد المحصن ولا يرجمه ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل فإن قلتم ينفذ ما سمع على جملته كنتم قد أمرتموه بالباطل وإن قلتم لا يفعل أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن
فالجواب أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة وأن يقول سمعت وأطعت ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى { وآتوا لزكاة } فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك وأما إن كان النص مفهوما بينا فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه أو تخصيصه ولا بد إذا من قال لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له لا تطع ربك ولا تعمل بما أمرك
فلعل ههنا نصا ناسخا لهذا النص أو نصا مخصصا له وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ولا السنن أبدا
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن وضبط جميع السنن وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة
قال علي ونسألهم في رد هذا السؤال عليهم فنقول ما الذي يلزم من سمع أمرا ما والرسول عليه السلام حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه أيعتقد في ذلك الأمر التأييد فيكون معتقدا للباطل
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع فجوابهم ها هنا جوابنا آنفا فيما سألونا عنه وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أن ه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ
قال علي وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل وبالله تعالى التوفيق
قال علي ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى { فإذا قرأناه فتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم لقيامة عما كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب لسفينة وجعلناهآ آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه عبدوا لله وتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون لله أوثانا وتخلقون إفكا إن لذين تعبدون من دون لله لا يملكون لكم رزقا فبتغوا عند لله لرزق وعبدوه وشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين أولم يروا كيف يبديء لله لخلق ثم يعيده إن ذلك على لله يسير قل سيروا في لأرض فنظروا كيف بدأ لخلق ثم لله ينشىء لنشأة لآخرة إن لله على كل شيء قدير يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون ومآ أنتم بمعجزين في لأرض ولا في لسمآء وما لكم من دون لله من ولي ولا نصير ولذين كفروا بآيات لله ولقآئه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا قتلوه أو حرقوه فأنجاه لله من لنار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما تخذتم من دون لله أوثانا مودة بينكم في لحياة لدنيا ثم يوم لقيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم لنار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو لعزيز لحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته لنبوة ولكتاب وآتيناه أجره في لدنيا وإنه في لآخرة لمن لصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون لفاحشة ما سبقكم بها من أحد من لعالمين أئنكم لتأتون لرجال وتقطعون لسبيل وتأتون في ناديكم لمنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ئتنا بعذاب لله إن كنت من لصادقين قال رب نصرني على لقوم لمفسدين ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بلبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه لقرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا مرأته كانت من لغابرين } فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطا خارج عن العذاب لقولهم { } ج ولوط ليس ظالما قيل لهم وبالله تعالى التوفيق
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله فظن أن الأهل هم القرابة حتى بين له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه
فإن قال قائل فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه قيل له وبالله تعالى التوفيق المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ولا نبتغي تأويله وأن يقول كل من عند ربنا وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى { } فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت وقت وجوب العمل به فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتا لنا وقد أخبرنا
تعالى فقال { } فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق
قال علي يختلف في الوضوح فيكون بعضه جليا وبعضه خفيا فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا أن يؤتي الله رجلا فهما في دينه وكما تعذر على عمر رضي الله عنه وهو الغاية في العلم بنص النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك فيه فهم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم وانتهره عليه السلام وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بيانا في أن ذلك من الفجر وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها وعلم أن المراد الفجر
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو فزاده الله بيانا باستثناء أولي الضرر وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج وأن لا حرج على مريض ولا أعمى وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها
قال علي فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق
والتأكيد نوع من أنواع البيان قال الله عز و جل { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } وقال تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون خلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل لمفسدين } بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشرا فإن قال قائل إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن نعني النوع الإنسان جملة وبالله تعالى التوفيق وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } بآبدة فقال معنى قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملا
قال علي وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل وهذا حرام لاسيما على الله عز و جل وأيضا فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملا فيترك أن يصفه بذلك ويقتصر على أن يقول { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } ) ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملة فبان كذب هذا القائل وصح أن قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } 1 2 كقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث الزكاة فابن لبون ذكر وكقوله عليه الصلاة و السلام في حديث الفرائض فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط
قال علي ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله تعالى يعرض في الخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعها فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها وتلا ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس من وقته وقد يزيد عليه السلام بيانا بعد تقدم البيان قبله فيكون تأكيدا وإخبارا لمن يبلغه الخبر الأول كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه عليه السلام ذلك بالعمل وقد بينها أيضا بكلامه عليه السلام لغير ذلك السائل
وكما أخر الله تعالى عن النبي صلى الله عليه و سلم بيان المناسك قبل أن يأتي وقت وجوب عملها فلما أتى وقت وجوبها بينها له عليه السلام فبينها عليه السلام بفعله غير مؤخر لها ومن ادعى أنه عليه السلام كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها فقد افترى وكذب نبيه صلى الله عليه و سلم إذ يقول إن حقا على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز و جل واصفا لنبيه صلى الله عليه و سلم { لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم } وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علما بفهمه فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام
فإن قال قائل فأنت تصف الآن محمدا صلى الله عليه و سلم بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيرا وهذا خلاف قولك إن الله عز و جل لم يرد هذا بكل الناس فقد وصفت محمدا صلى الله عليه و سلم بأفضل مما وصفت به الله عز و جل وبأنه أرأف بنا من الله تعالى
قال علي فنقول وبالله التوفيق هذه شغبية ضعيفة وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما إذا كانا واقعين تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد وليس صفتنا لله تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ورحمة محمد صلى الله عليه و سلم بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي وأكمل وأتم وأدوم وليس الله تعالى واقعا معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد صلى الله عليه و سلم معنا تحتها وإن كان أفضل من كل من دونه ولا يثنى على الله عز و جل بما يثني به على خلقه ألا ترى أننا نصف الله عز و جل مثنين عليه بأنه جبار متكبر وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد واستنقاص عظيم ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد أنه يفعل ما يريد وأنه ذو مكر لا يؤمن
وكل هذا لو وصفنا به مخلوقا لكان ذما ونقصا
ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به الله عز و جل فمن أراد أن يقيس رحمة الله تعالى لخلقه برحمة نبيه صلى الله عليه و سلم لهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى وقد علمنا يقينا أن الله عز و جل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبدا وعلمنا يقينا أن محمدا صلى الله عليه و سلم كان من أبعد آماله أن يؤمن أبو طالب وقد كفانا الله تعالى ذلك بقوله { إنك لا تهدي من أحببت ولكن لله يهدي من يشآء وهو أعلم بلمهتدين }
فأما من آمن بالله فالله أرأف به من نفسه بنفسه ومن محمد صلى الله عليه و سلم ومن أبيه وأمه اللذين ولداه
لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه الله تعالى في الجنة ولا سمح له أبواه بذلك ولأنه تعالى غفر له ما لو فعله عاصيا لأبيه ما غفر له ذلك فإن الرجل يزني بأمة الله تعالى فيغفر له بالتوبة وبموازنة حسناته لسيئاته ولو زنى بأمة أبيه لقطعه
وأما من لم يؤمن فما أراد الله به خيرا قط ولو أراد به خيرا لأماته سقطا فمن قال إن الله تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ومن قال إن الله تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهله ونقول اللهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون
فإن شغب مشغب فقال إنك الآن تصف محمدا صلى الله عليه و سلم بأنه أراد غير ما أراد الله عز و جل وبالله تعالى التوفيق وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلها
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز و جل من أن محمدا صلى الله عليه و سلم أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى أن يهديهم وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه عليه السلام عيب على نبيه عليه السلام لأنه إنما يمدح النبي فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز و جل لم يردهما لنفسه قط ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ولو أراد أن يغنيه لكان قادرا عز و جل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز و جل في كل وقت بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز و جل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل الإلحاد أن الواجب علينا التشبه بالله عز و جل وهذا كفر عندنا لأن الله تعالى لا يشبهه شيء فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد
وهذا بين وبالله تعالى التوفيق
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته وإنما سأله ناسيا والنسيان مرفوع وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسيا لأن الله تعالى قد كان بين له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافرا قد سبق عليه القول في جملة من كفر
واحتجوا أيضا بأمر بقرة بني إسرائيل وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك
قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم لكنهم لما زادوا سؤالا زيدوا شرعا ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم إذ يقول إن من أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته
وفي قوله عليه السلام إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم
ويبين صحة قولنا هذا قوله عز و جل { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } } فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها فإذا سألنا عنها لزمتنا ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك وكل ذلك قد سبق في علمه عز و جل
وأما تأخر نزول { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم } في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي صلى الله عليه و سلم في تلاوة { علموا أن لله شديد لعقاب وأن لله غفور رحيم } فقال نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى فهم في جهنم معنا فإن ابن الزبعرى كان مغفلا عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالوا { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن أكثرهم بهم مؤمنون } فليس قول القائل أنا أعبد
الملائكة ولا قول النصارى نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية وإنما يعبد المرء من ينقاد له ومن يتبع أمره وأما من يعصي ويخالف فليس عابدا له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز و جل وبأن يقولوا إننا لا نعبد شيئا من دون الله عز و جل بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب وقد بين عليه السلام معنى قول ربه تعالى { تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } فقال قائل يا رسول الله ما كنا نعبدهم فأخبرهم عليه السلام أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا وتحليل ما أحلوا فقد اتخذوهم أربابا ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام لعلمنا أنه كله من عند الله عز و جل وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا
قال الله عز و جل { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى }
فإن قال قائل فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز و جل قيل له نعم لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد
فإن قال قائل فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول صلى الله عليه و سلم لقد عبدناه
قيل له وبالله تعالى التوفيق إن طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز و جل وحده لا شريك له وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى دون بني عبد شمس وبني نوفل نزل متأخرا عن الآية دعوى لا تصح أصلا
فإن قال قائل فإن عثمان رضي الله عنه وجبير بن مطعم جهلا هذا قيل له
نعم وما في هذا علينا من الحجة ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن
وقد كان في قسمة رسول الله صلى الله عليه و سلم لبني المطلب دونهما ما يكفي لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يمنع ذا حق حقه ولا يعطي أحدا غير حقه فكان في هذا كفاية لأنه لو كان لبني عبد شمس وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي صلى الله عليه و سلم حقا ليس لهم ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ولا يجوز عند ذي فهم ولب أن يعتقد الشيء حراما حلالا في وقت واحد على شخص واحد فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله فيفعل ولا يفعل وهذا محال ظاهر الامتناع ومن بلغ ههنا كفانا نفسه وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولا في استثنائها من التمر بالرطب وبالله تعالى التوفيق
الباب العاشر في الأخذ بموجب القرآن
قال علي ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإقرار به والعمل بما فيه وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه لأننا وجدنا فيه { وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأخبار التالي لهذا الباب كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها وبناء السنن عليها وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأوامر والنواهي كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر والوجوب والفور ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص ما يقتضيه ذلك الباب من أخذ آي القرآن على عمومها ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيققال علي ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن وأنه هو المتلو عندنا نفسه وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام وليس كلامنا مع هؤلاء وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق
ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الإجماع من هذا الكتاب بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الأحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق
الباب الحادي عشر
في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمةقال علي لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجدناه عز و جل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه و سلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز و جل إلى رسوله صلى الله عليه و سلم على قسمين أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو المبين عن الله عز و جل مراده منا
قال الله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن أخرها وهي قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذا أصل وهو القرآن
ثم قال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال تعالى
{ يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حكمه وصح لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع قال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
قال علي والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أمكنه هذا الشغب في الله عز و جل إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى فبطل هذا الظن وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن وإلى كلام نبيه صلى الله عليه و سلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيل بعد جيل
قال علي وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلا ولا دليل عليه وإنما فيه الأمر بالرد فقط ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم موجودة عندنا منقول كل ذلك إلينا فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر
قال علي والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض
وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما لما قدمناه آنفا في صدر هذا الباب قال تعالى { يأيها لذين آمنوا أطيعوا لله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإقرار بالطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه وهذه صفة المقلدين فإنهم يقولون طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم واجبة فإذا أتاهم أمر من أوامره يقروه بصحته لم يصعب عليهم
التولي عنه وهم يسمعون نعوذ بالله من ذلك
وقال تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى { قل إنمآ أنذركم بلوحي ولا يسمع لصم لدعآء إذا ما ينذرون } فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه صلى الله عليه و سلم كله وحي والوحي بلا خوف ذكر والذكر محفوظ بنص القرآن
فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه و سلم كله محفوظ بحفظ الله عز و جل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله
فلله الحجة علينا أبدا وقال تعالى { وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام نبيه صلى الله عليه و سلم على ما قدمنا آنفا فلم يسمع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما فهو كافر شك عندنا في ذلك
وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر ولم نحتج في هذا بإسحاق وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه و سلم { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
قال علي هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ووصيته عز و جل الواردة عليه فليفتش الإنسان نفسه فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم في كل خبر يصححه مما قد بلغه أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان أو قياسه واستحسانه وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون
رسول الله صلى الله عليه و سلم متى صاحت فمن دونه فليعلم أن الله تعالى قد أقسم وقوله الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر ولا سبيل إلى قسم ثالث
وليعلم أن كل من قلد من صاحب أو تابع أو مالكا أو أبو حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون منه في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الأشهاد اللهم إنك تعلم أنا لا نحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك الذي صليت عليه وسلمت في كل شيء مما شجر بيننا وفي كل ما تنازعنا فيه واختلفنا في حكمه وأننا لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى به نبيك ولو أسخطنا بذلك جميع من في الأرض وخالفناهم وصرنا دونهم حزبا وعليهم حربا وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ عاصون لكل من خالف ذلك موقنون أنه على خطأ عندك وأنا على صواب لديك
اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه وأسألك اللهم بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعا ونحن مستمسكون بها إلى دار الجزاء آمين
بمنك يا أرحم الراحمين
قال علي وإذ قد بين الله لنا أن كلام نبيه إنما هو كله وحي من عنده وأن القرآن وحي من عنده وأيضا فقد قال فيه عز و جل { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث الصحيح متفقان هما شيء واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده ويحرمه من شاء لا إله إلا هو كما يؤتي الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البلدة وبعد الفهم والكسل من شاء نسأل الله من هبته ما يقرب منه ويزلف لديه آمين
وصح بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض وإن أمدنا الله بانفساخ مدة وأيدنا بعون من قبله فسنجمع في كل ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب والتأليف في كل ما ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضا مختلف الحكم ونبين بحول الله وقوته أن كل ذلك شيء واحد لا اختلاف فيه وأن يختر منا قبل ذلك فحسبنا ما اطلع عليه من نيتنا في ذلك لا إله إلا هو وقال تعالى
{ ألم تر إلى لذين أوتوا نصيبا من لكتاب يدعون إلى كتاب لله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } وقال تعالى { وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول رأيت لمنافقين يصدون عنك صدودا }
قال علي بن أحمد فليتق الله الذي إليه المعاد امرؤ على نفسه ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول فصده عنهما ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان فليعلم أن الله عز و جل قد سماه منافقا
نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة
فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الأجل وانقطاع المهل قال تعالى { وإذا حضر لقسمة أولوا لقربى وليتامى ولمساكين فرزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا } وقال تعالى { ومآ أنزلنا عليك لكتاب إلا لتبين لهم لذي ختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فصح أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه و سلم وقال عز و جل { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }
قال علي هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه و سلم وأنه من خير نفسه في التزام أو ترك أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد عصى الله بنص هذه الآية فقد ضل ضلالا مبينا وأن المقيم على أمر سماه الله ضلالا لمخذول وقال تعالى { ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما } وقال تعالى { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب } وقال تعالى { في بيوت أذن لله أن ترفع ويذكر فيها سمه يسبح له فيها بلغدو ولآصال }
قال علي ومن جاءه خبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقر أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أو لقول فلان وفلان فقد خالف أمر الله وأمر رسوله واستحق الفتنة والعذاب الأليم
قال علي أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم فتنة ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة والإقلاع والطاعة لما أتاه من نبيه صلى الله عليه و سلم ورفض قبول قول من دونه كائنا من كان وبالله تعالى التوفيق
وقال تعالى { ويقولون آمنا بلله وبلرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ومآ أولئك بلمؤمنين وإذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم لحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم رتابوا أم يخافون أن يحيف لله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون ومن يطع لله ورسوله ويخش لله ويتقه فأولئك هم لفآئزون وأقسموا بلله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن لله خبير بما تعملون قل أطيعوا لله وأطيعوا لرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين } قال علي هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون نحن المؤمنون بالله وبالرسول ونحن طائعون لهما ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول صلى الله عليه و سلم يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك فمن قائل ليس عليه العمل ومن قائل هذا خصوص ومن قائل هذا متروك
ومن قائل أبى هذا فلان ومن قائل القياس غير هذا حتى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئا يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفا حرفا فيا ويلهم ما بالهم أفي قلوبهم مرض وريب أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله صلى الله عليه و سلم ألا إنهم هم الظالمون كما سماهم الله رب العالمين فبعدا للقوم الظالمين
ثم بين تعالى أن قول المؤمنين إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه و سلم ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وهذا جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى وقوله الحق أنهم مؤمنون وأنهم مفلحون وأنهم هم الفائزون اللهم فثبتنا فيهم ولا تخالف بنا عنهم واكتبنا في عدادهم واحشرنا في سوادهم آمين رب العالمين
ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا وبما يميزونه من أنفسهم بظاهر أحوالهم وباطنها من أنهم يقولون نسمع لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم ويقسمون على ذلك فقال لهم تعالى لا تقسموا ولكن أطيعوا أن حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم وقول كل قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله صلى الله عليه و سلم غير ما حمله ربه وهو التبليغ والتبيين وقد فعل صلى الله عليه و سلم ذلك وأخبرنا تعالى أن علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم والعمل بذلك لا لما أمرنا به من دونه وبالله تعالى التوفيق
قال علي لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكد ولم يدع لأحد متعلقا وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن وما توفيقنا إلا بالله عز و جل ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل
فصل فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى
قال أبو محمد جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه و سلم وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه و سلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف
ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق
ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة
قال علي وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن
وقالت طائفة لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين
وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين
قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط
ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى أن يكون شيء منها صح عنده
بالعدد الذي شرط كل واحد من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله
وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر م 8 ن دينه أو دنياه فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة ولا نحاشي شيئا لأنه وإن سمع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك
وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا
قال علي ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله تعالى التوفيق لكل من حد في عدد نقلة خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا نحصيهم وإن كان في ذاته محصي ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل
فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة
وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال وفي بعض الأخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمائة ألف وغير ذلك ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم فصارف ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن
إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك العدد وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فإن نظروا هذا بما يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما أصبح إجماع أو نص أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد
قال أبو محمد وهذا قول من غمره الجهل لأنه ليس هذا موجدا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه و سلم في العالم وهذا كفر
وأيضا فيلزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ألا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة وهم يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو شر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب
قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا
ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به ولا رهبة منه ولم يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها
شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين نحو ذلك
والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط
وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا
وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا
والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل
وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض
قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ
وقد بينا ذلك في كتاب الفضل
قال علي فهذا قسم
قال علي القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي
وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس والبرهان على صحة وجوب قبوله قول الله عز و جل { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارةالنافر منها
بأمره النافر بالنفقة وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا الأمر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم
والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه وإنما حد من حد في قوله تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين } ( النور 2 ) أنهم أربعة لدليل ادعاه وكان بذلك ناقضا لمعهود اللغة ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع إلا على أربعة
وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف من معنى الطائفة فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي
وبرهان آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رسولا إلى كل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب وقد اعترض بعض من يخالفنا في ذلك بأن قال إن الرفاق والتجار وردوا بأمر النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقتصر بذلك على الرسول وحده
قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف ونحن لا نشك أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتصر بالرسل المذكورين على الإخبار بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار بل أمرهم بتعليم من أسلم شرائع الإسلام ومسائل العبادات والأحكام ليس من شيء من ذلك منقولا على ألسنة الرفاق والسفار وبعثه هؤلاء الرسل مشهورة بلا خوف منقولة نقل الكواف
فقد ألزم النبي صلى الله عليه و سلم كل ملك
ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم
قال علي وكذلك بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذا إلى الجند وجهات من اليمن
وأبا موسى إلى جهة أخرى وهي زبيد وغيرها وأبا بكر على الموسم مقيما للناس حجهم وأبا عبيدة إلى نجران وعليا قاضيا إلى اليمن وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلما لهم شرائع الإسلام وكذلك بعث أميرا إلى كل جهة أسلمت بعدت منه أو قربت كأقصى اليمن والبحرين وسائر الجهات والأحياء والقبائل التي أسلمت بعث إلى كل طائفة رجلا معلما لهم دينهم ومعلما لهم القرآن ومفتيا لهم في أحكام دينهم وقاضيا فيما وقع بينهم وناقلا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به على نبيهم صلى الله عليه و سلم
وبعثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين ولا في أن بعثهم إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين
وما أفتوهم به في الشريعة ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولا ولكان عليه السلام قائلا للمسلمين بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام
وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرىء واحد أو محدث واحد أو مفت واحد فنقول لمن خالفنا ماذا تقولون أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرىء أن يؤمن بما أقرأه وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك ولا يصدق بأنه كلام الله عز و جل فإن قالوا يلزمه الإقرار بأنه كلام الله تعالى
قلنا صدقتم فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر السنن وكلاهما من عند الله تعالى وكلاهما فرض قبوله وإن قالوا عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف أتوا بعظيمة في الدين
ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة فلا بد لهم من حد يقفون عنده من العدد فيكون قولهم سخريا وباطلا ودعوى بلا برهان أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم قبول القرآن والدين إلا به وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة والمنع من اعتمادهما ونعوذ بالله من هذا وهكذا القول في وجوب طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآنا أو سنة وبلغ ذلك إلى غيره ولأنها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة لكن يبلغ ويبلغ من بلغه هو وهكذا أبدا لئلا يقول جاهل هذا خصوص لأولئك الرسل
وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }
قال أبو محمد لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلا أو فاسقا ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كان فاسقا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله فلم يبق إلا العدل
فكان هو المأمور بقبول نذارته
قال أبو محمد وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للإشكال والشك جملة
وقد بينا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام المعروف بالتقريب قال علي وقد توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } فقط
قال أبو محمد وقد أغفل من تأول علينا ذلك ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على المنع من قبوله بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقى خبر العدل موقوفا على دليله ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وبالله تعالى التوفيق
قال علي وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء كما قدمنا ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازما لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة
وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر أو إلى أمة من أمم الكفر ويدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين ولا فرق
وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلما ومفتيا ومقرئا
نعم أنت رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم وعقد الإيمان حق
عندنا
ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي صلى الله عليه و سلم وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه السلام فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك لأن الكذب جائز عليك ومتوهم منك حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر
بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين
وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن والسنن وشرائع الدين وأنه عليه السلام لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم دينا لم يأت هو به عن الله تعالى فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرآن أو سنة ففرض قبوله والإقرار به والتصديق به واعتقاده والتدين به وأن كل ما صح عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي صلى الله عليه و سلم أو من فتيا لم تسند إليه صلى الله عليه و سلم فلا يحل قبول شيء من ذلك لأنه لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد الواحد من الصحابة والتابعين وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم لكن فضلهم معف على كل خطأ كان منهم وراجح به وموجب تعظيمهم وحبهم وبالله تعالى التوفيق
وبرهان آخر وهو أنه قد صح يقينا وعلم ضرورة أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم ولا من أحد من التابعين الذين كانوا في عصرهم على أن كل أحد منهم كان إذا نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها وإنما كانوا يسألونه عما أوجبه النبي صلى الله عليه و سلم عن الله تعالى في الدين في هذه القصة ولم يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى وهكذا كل من بعدهم جيلا فجيلا لا نحاشي أحدا ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين فإنه لم يقل له قط لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله
فإن قيل فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل قلنا ليس كذلك لأنه لم يصح الإجماع قط لا قديما ولا حديثا على قبول المرسل بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره يسألون من أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي صلى الله عليه و سلم
وإنما سقط ذلك عمن ليس في قوته فهم الإسناد ومعرفته فقط وقد قال الزهري لأهل الشام ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمة فصاروا حينئذ إلى قوله وغير الزهري أيضا كثير
فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه و سلم وأيضا فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه و سلم يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم
وبرهان آخر وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن منهم ولا خلاف بين كل ذي علم بشيء من أخبار الدنيا مؤمنهم وكافرهم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان بالمدينة وأصحابه رضي الله عنهم مشاغيل في المعاش وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز وأنه عليه السلام كان يفتي بالفتيا ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره عليه السلام بنقل من حضره وهم واحد واثنان وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم بالتواطؤ عند خصومنا فإذ جميع الشرائع إلا الأقل منها راجعة إلى هذه الصفة من النقل وقد صح الإجماع من الصدر الأول كلهم نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد لأنها كلها راجعة إليه وإلى ما كان في معناه وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق
وبالضرورة نعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة هذا ما لا شك فيه لكنه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته ويرى أن الحجة بمن يحضره قائما على من غاب هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم وبالله تعالى التوفيق
قال علي وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول الله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }
قال أبو محمد وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة لأنا لم نقف ما ليس لنا به علم بل ما قد صح لنا به العلم وقام البرهان على وجوب قبوله وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به فسقط اعتراضهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين
وقال بعضهم أنتم لا تقبلون الواحد في فلس فكيف تقبلونه في إثبات الشرائع قال أبو محمد هذا السؤال لا يلزمنا لأننا لا نقيس شريعة على شريعة ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في القرآن والسنن فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في العبادات والشرائع وقبول القرآن فقلنا به وصح الخبر بقبول المرأة الواحدة في أوضاع فقلنا به وصح الخبر بقبول الواحد مع اليمين فيما عدا الحدود فقلنا به وصح الخبر والنص بقبول الرجلين أو الرجل والمرأتين فيما عدا الزنى فقلنا به وصح النص بقبول أربعة في الزنى فقلنا به ولم نعارض شريعة بشريعة ولا تعقبنا على ربنا عز و جل ونحن وهم نقبل في إباحة الدم الحرام من المسلم الفاضل والفرج الحرام من المسلمة الفاضلة والبشرة المحرمة في جلد ثمانين في القذف وفي قطع اليد والرجل رجلين ولا نقبلهما فيما يوجب إلا خمسين جلدة من زنى الأمة لا على مؤمنة ولا على كافر فأين هم عن هذا الاعتراض الفاسد لو عقلوا وهم يقعوا تحت إنكار ربهم تعالى عليهم إذ يقول { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }
وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من أهل القول بقبول السنن من طرق الآحاد إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد ومثل ذلك بعضهم بالآثار المروية في الأذان والإقامة وقال إن الأذان والإقامة كانا بالمدينة بحضرة الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم خمس مرات كل يوم فهذا مما تعظم به البلوى فمحال أن يعرف حكمه الواحد ويجهله الجماعة ومثل ذلك بعضهم أيضا بخبر الوضوء من مس الذكر
قال أبو محمد وهذا كلام فاسد متناقض أول ذلك أن الدين كله تعظم به البلوى ويلزم للناس معرفته وليس هذا ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في كل يوم ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم ويقال له في الأذان الذي ذكر لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم وبين أذان المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم وليست نسبة الرضا بتبديل الأذان إلى
علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه
وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط ولم يعرفه المالكيون ولا الشافعيون ولا البلوى أيضا بذلك أعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة ومن إيجاب التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون ولا يعرف ذلك الحنفيون ومثل هذا كثير جدا فإن قالوا أوجبنا ذلك بالقرآن
قيل لهم قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه فما رأوا فيه ما ذكرتم مع عظيم البلوى به وقد بينا في كتابنا هذا أن مغيب السنة عمن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما الحجة في السنة
وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به البلوى به ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في كل يوم وليلة وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس والأمر في قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم لها من مجوس هجر عاما بعد عام وأبي بكر بعده عاما بعد عام أشهر من الشمس ولم تكن فضلة قليلة بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ وخفي على عمر وابن عمر أيضا الوضوء من المذي وهو مما تعظم البلوى به وهذا كثير جدا ويكفي من هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل مطرح قال عز و جل { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } ولا يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة وبالله تعالى التوفيق
وقال أيضا بعض الحنفيين ما كان من الأخبار زائدا على ما في القرآن أو ناسخا له أو مخالفا له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى يأتي به التواتر
قال أبو محمد وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به ونقول لهم أيجوز الأخذ بشيء من أخبار الآحاد في شيء
من الشريعة أم لا فإن قالوا لا كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفا وكانوا خارجين عن مذهبهم أيضا وإن قالوا نعم وهو قولهم
قلنا لهم من أين جوزتم أن يخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم به وأن يشرع به في دين الله عز و جل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزيتموه فيه ثم منعتم من قوله حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له فلا سبيل إلى فرق أصلا وأما قولهم مخالف الأصول فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل لأن خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين حاشا لله من هذا
ثم نقول اعلموا أن كل خبر روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم رواية صحيحة مسندة فإنه ولا بد زائد حكم على ما في القرآن أو أتي بما في نص القرآن لا بد من أحد الوجهين فيه
والزائد حكما على ما في القرآن ينقسم قسمين إما جاء بما لم يذكر في القرآن كغسل الرجلين في الوضوء وكرجم المحصن ونحو ما أخذوا به من إباحة صوم رمضان للمسافر ومن إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة ومن الوضوء بالنبيذ ومن القلس والقيء والرعاف وكتخصيص ظاهر القرآن كعدد ما لا يقطع السارق في أقل منه وما لا يحرم من الرضاع أقل منه فهذا أيضا زائد حكم على ما في القرآن ومثله ما بين مجمل القرآن كصفة الصلاة وصفة الزكاة وسائر ما جاءت به السنن فهو زائد حكم على ما في القرآن
فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما في القرآن كما ذكرنا حيث اشتهيتم ومنعتم منه حيث اشتهيتم وهذا ضلال لا خفاء به وكل ما وجب العمل به في الشريعة فهو واجب أبدا في كل حال وفي كل موضع إلا أن يأتي نص قرآني أو سنة بالمنع من بعض ذلك فيوقف عنده وأما بالآراء المضلة والأهواء السخيفة فلا على أنهم آخذ الناس بخلاف القرآن برأي فاسد أو قياس سخيف أو خبر ساقط كالوضوء من القهقهة وسائر تلك الأخبار الفاسدة وتأملوا ما نقول لكم قد أجمعوا معنا على قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من نسخ للقرآن أو زيادة عليه واتفقوا معنا على أن خبر الواحد الثقة عن مثله مسندا حجة في الدين ثم تناقضوا كما ذكرنا بلا برهان ونعوذ بالله من الخذلان وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود رضي الله عنهم وجوب القول بخبر
الواحد وهذا حجة على من قلد أحدهم في وجوب القول بخبر الواحد وإن خالف من قلده من بعض من ذكرنا خطأ وتناقضا لا يعزى منه بشر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبالله تعالى التوفيق
ومن البرهان في قبول خبر الواحد خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له رجل { وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين } فصدقه وخرج فارا وتصديقه المرأة في قولها { فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين } فمضى معها وصدقها وبالله تعالى التوفيق
فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم
قال أبو محمد قال أبو سليمان والحسين عن أبي علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوجب العلم والعمل معا وبهذا نقول وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد عن مالك بن أنسوقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج إن خبر الواحد لا يوجب العلم ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه واتفقوا كلهم في هذا وسوى بعضهم بين المسند والمرسل
وقال بعضهم المرسل لا يوجب علما ولا عملا وقد يمكن أن يكون حقا وجعلت المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به قالوا ما جاز أن يكون كذبا أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز و جل ولا أن يضاف إلى الله تعالى ولا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يسع أحدا أن يدين به وقال سائر من ذكرنا إنه يوجب العمل واحتج كل من ذكرنا بأن هذه صفة كل خبر واحد في جواز الكذب وتعمده
وإمكان السهو فيه وإن لم يتعمد الكذب
وقال أبو بكر بن كيسان الأصم البصري لو أن مائة خبر مجموعة قد ثبت أنها كلها صحاح إلا واحدا منها لا يعرف بعينه أيها هو قال فإن الواجب التوقف عن جميعها فكيف وكل خبر منها لا يقطع على أنه حق متيقن ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط
قال أبو محمد أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا إلا أن يأتي برهان حسي ضروري أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برأ بعض الأخبار من ذلك فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم وقد وافقنا المعتزلة وكل من يخالفنا في هذا المكان على أن خبر النبي صلى الله عليه و سلم في الشريعة لا يجوز فيه الكذب ولا الوهم لقيام الدليل على ذلك
وقال أصحاب القياس إن إجماع الأمة على القياس معصوم من الخطأ بخلاف إجماع سائر الملل لقيام دليل ادعوه في ذلك وكما أجمعتم معنا على القطع ببراءة عائشة رضي الله عنها وخروج ما قذفت به عن الإمكان لقيام البرهان بذلك عند جميعكم وعندنا وقد ادعى الروافد منكم هذا في خبر الإمام فإن وجدنا نحن برهانا على أن خبر الواحد المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أحكام الشريعة لا يجوز عليه الكذب ولا الوهم فقد صح قولنا وقولهم في أن خبر النبي صلى الله عليه و سلم في الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم وإن لم نجد برهانا على ذلك فهو قولهم وقد صح البرهان بذلك ولله الحمد على ما نذكره إن شاء الله تعالى
وأما قول ابن كيسان فباطل لأنه دعوى بلا دليل بل الواجب حينئذ البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب وإلا فالعمل واجب لأن الأصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شيء من ذلك فيترك لقول الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ولقوله تعالى { تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون } ولقوله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }
وقد علمنا أن في القرآن آيات منسوخة بلا شك لقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } وقد اختلف العلماء فيها فطائفة قالت في آية إنها منسوخة وطائفة قالت ليست منسوخة بل هي محكمة
فما قال مسلم قط لا ابن كيسان ولا غيره إن الواجب التوقف عن العمل بشيء من القرآن من أجل ذلك وخوفا أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل به بل الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك العمل بها
وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقينا ولا فرق بين ترك الحق يقينا وبين العمل بالباطل يقينا وكلاهما لا يحل فقد تعجل ابن كيسان لنفسه الذي فر عنه وأشد منه لأنه ترك الحق يقينا خوف أن يقع في خطأ لعله لا يقع فيه وهذا كما ترى
قال علي وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أحكام الشريعة يوجب العلم ولا يجوز فيه البتة الكذب ولا الوهم فنقول وبالله تعالى التوفيق قال الله عز و جل عن نبيه صلى الله عليه و سلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة و السلام أن يقول { قل ما كنت بدعا من لرسل ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين } وقال تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }
فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم كله في الدين وحي من عند الله عز و جل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل فوجب أن الذي أتانا به محمد صلى الله عليه و سلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون }
فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ولكان قول الله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم
فإن قال قائل إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده فهو الذي ضمن تعالى حفظه لسائر الوحي الذي ليس قرآنا
قلنا له وبالله تعالى التوفيق هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فصح أن لا برهان له على دعواه فليس بصادق فيها والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه و سلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن وأيضا فإن الله تعالى يقول { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس
وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه لكن بيان رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها فما أخطأ فيه المخطىء أو تعمد فيه الكذب الكاذب ومعاذ الله من هذا وأيضا نقول لمن قال إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى النبي صلى الله عليه و سلم لا يوجب العلم وإنما يجوز فيه الكذب والوهم وأنه غير مضمون الحفظ أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة فجهلت حتى لا يعملها علم يقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطا لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا أم لا يمكن عندكم شيء من هذين الوجهين
فإن قالوا لا يمكنان أبدا بل قد أمنا ذلك صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الديانة فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو وأنه يوجب العلم ونقطع بصحته ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله صلى الله عليه و سلم قط اختلاطا لا يتميز فيه الباطل من الحق أبدا
وإن قالوا بل كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن الدين دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا لا يميزه أحد أبدا وأنهم لا يدرون أبدا ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث والذي لا يغني من الحق شيئا وهذا انسلاخ من الإسلام وهدم للدين وتشكيك في الشرائع
ثم نقول لهم أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم فهل أمركم الله تعالى بالعمل بما رواه الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو لم يأمركم بالعمل به ولا بد من أحدهما
فإن قالوا لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة وسيأتي جوابهم على هذا القول إن شاء الله تعالى وإن قالوا بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك قلنا لهم فقد قلتم إن الله تعالى أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكذابون وأخطأ فيه الواهمون وأمركم بأن تنسبوا إليه تعالى وإلى نبيه صلى الله عليه و سلم ما لم يأتكم به قط وما لم يقله الله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه و سلم
وهذا قطع بأنه عز و جل أمر بالكذب عليه وافترض العمل بالباطل وبما ليس من الدين وبما شرع الكذابون مما لم يأذن به الله تعالى وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول به مسلم
ثم نسألهم عما قالوا إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يوجد عند أحد هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا ولا بد من أحدهما فإن قالوا بل هو باق علينا
قلنا لهم كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا ولا يبلغنا أبدا
وهذا هو تحميل الإصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله تعالى منه
وإن قالوا بل سقط عنا العمل به قلنا لهم فقد أجزتم نسخ شرائع من شرائع الإسلام مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي محكمة ثابتة لازمة فأخبرونا من الذي نسخها
وأبطلها وقد مات صلى الله عليه و سلم وهي لازمة لنا غير منسوخة وهذا خلاف الإسلام والخروج منه جملة
فإن قالوا لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو لازم لنا ولم ينسخ
قلنا لهم فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة في ألا يختلط بها باطل لم يأمر الله تعالى به قط اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله تعالى به من الباطل الذي لم يأمر به تعالى قط وهذا لا مخلص لهم منه ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق وأجاز اختلاطها بالباطل وبين من منع من اختلاط الحق في الشريعة بالباطل وأجاز سقوط شريعة حق وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معا
وأيضا قال الله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقد قال تعالى { يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين } نسألهم هل بين رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أنزل الله إليه أو لم يبين وهل بلغ ما أنزل الله إليه أو لم يبلغ ولا بد من أحدهما فمن قولهم إنه عليه السلام قد بلغ ما أنزل الله إليه وبينه للناس وأقام به الحجة على من بلغه فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان أهما باقيان عندنا وإلى يوم القيامة أم هما غير باقيين فإن قالوا بل هما باقيان وإلى يوم القيامة رجعوا إلى قولنا وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله تعالى في الدين مبين مما لم ينزله مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة وهذا هو نص قولنا في أن خبر الواحد العدل عن مثله مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حق مقطوع على مبينه موجب للعلم والعمل
وإن قالوا بل هما غير باقين دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا من الدين قد بطل وإن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع وأن تبيين رسول الله صلى الله عليه و سلم لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا يوجد معه أبدا وهذا هو قول الروافض بل شر منه لأن الروافض ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العالم وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم ونعوذ بالله من كلا القولين
وأيضا فإن الله تعالى قال { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } وقال تعالى { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى } وقال تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا } وقال تعالى ذاما لقوم قالوا { وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } وقال تعالى { سيقول لذين أشركوا لو شآء لله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب لذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا لظن وإن أنتم إلا تخرصون }
وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن نقول أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا وقال عليه السلام كذا وفعل عليه السلام كذا وحرم القول في دينه بالظن وحرم تعالى أن نقول عليه إلا بعلم
فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب أو الوهم لكنا قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم ولكان تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه والذي هو الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا والذي هو غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى وهذا هو الكذب والإفك والباطل الذي لا يحل القول به والذي حرم الله تعالى علينا أن نقول به وبالتخرص المحرم فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه موجب للعلم والعمل معا وبالله تعالى التوفيق
وصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب العلم قائلا بأن الله تعالى تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين وهذا عظيم جدا
وأيضا فإن الله تعالى يقول
{ حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وقال تعالى { ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين } وقال تعالى { إن الدين عند لله لإسلام وما ختلف لذين أوتوا لكتاب إلا من بعد ما جآءهم لعلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات لله فإن لله سريع لحساب } وقال تعالى { كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم }
قال أبو محمد فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله تعالى به نبيه عليه السلام من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ وإنه يجوز فيه التبديل وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا أخبرونا عن إكمال الله دينا ورضاه الإسلام لنا دينا ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط أم لا للصحابة ولا لنا ولا بد من أحد هذه الوجوه
فإن قالوا لا للصحابة ولا لنا كان قائل هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم وأن قالوا بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة والنعمة بذلك علينا تامة وأن دين الإسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه لأنه هو الدين عنده عز و جل متميز عن غيره الذي لا يقبله الله تعالى من أحد وأننا ولله الحمد قد هدانا الله تعالى له وأننا على يقين من أنه الحق وما عداه هو الباطل وهذا برهان ضروري قاطع على أنه كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبدا ما لم يكن منه
وإن قالوا بل كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم وليس ذلك لنا ولا علينا كانوا
قد قالوا الباطل وخصصوا خطاب الله تعالى بدعوى كاذبة إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرنا عموم لكل مسلم في الأبد ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا وأنه تعالى رضي لنا منه ما لم ينبته علينا وألزمنا ما لا ندري أين نجده أو ألزمنا ما لم ينزله وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستخفون ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيه صلى الله عليه و سلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام بل هو إبطال الإسلام جهارا ولو كان هذا وقد أمنا ولله الحمد أن يكون لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذي أخبرنا الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب وقالوا هو من عند الله
قال أبو محمد حاشا لله من هذا بل قد وثقنا بأن الله تعالى صدق في قوله { كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } وأنه تعالى قد هدانا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله عليه السلام فقد هدانا الله تعالى له وأنه الحق المقطوع عليه والعلم المتيقن الذي لا يمكن امتزاجه بالباطل أبدا
قال علي وقال بعضهم إذا انقطعت به الأسباب خبر الواحد يوجب علما ظاهرا
قال أبو محمد وهذا كلام لا يعقل وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه معا
وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا لا ظاهرا ولا باطنا بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى ونقول لهم إذا جاز عندكم أن يكون كثير من دين الإسلام قد اختلط بالباطل فما يؤمنكم إذ ليس محفوظا من أنه لعل كثيرا من الشرائع قد بطلت لأنها لم ينقلها أحد أصلا فإن منعوا من ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها لأن ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الأمان من كل ذلك
فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعا في أن كل ما علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها فإنها سنة الله تعالى وقد قال عز و جل { سنة لله في لذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة لله تبديلا } { ستكبارا في لأرض ومكر لسيىء ولا يحيق لمكر لسيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلأولين فلن تجد لسنة لله تبديلا ولن تجد لسنة لله تحويلا } هذا نص كلامه تعالى
وقد قال تعالى { لهم لبشرى في لحياة لدنيا وفي لآخرة لا تبديل لكلمات لله ذلك هو لفوز لعظيم } فلو جاء
أن يكون ما نقله الثفات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقبول بأنه سنة الله تعالى وبيان نبيه عليه السلام يمكن في شيء منه التحويل أو التبديل لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لهما تبديل ولا تحويل كذبا ولكانت كلماته كذبا وهذا ما لا يجيزه مسلم أصلا فصح يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله تعالى من الدين لرسوله صلى الله عليه و سلم
وسنها رسوله عليه السلام لأمته فإنها لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبدا وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما هو عند الله تعالى وقولنا ولله الحمد
وأيضا فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم معصوم من الله تعالى في البلاغ في الشريعة وعلى تكفير من قال ليس معصوما في تبليغه الشريعة إلينا
فنقول لهم اخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم في تبليغه الشريعة التي بعث بها أهي له عليه السلام في إخباره الصحابة بذلك فقط أم هي باقية لما أتى به عليه السلام في بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة فإن قالوا بل هي له عليه السلام مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين إلى من بعدهم
قلنا لهم إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته عليه السلام وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده عليه السلام وبين ما منعتم من ذلك في حياته منه عليه السلام فإن قالوا لأنه كان يكون عليه السلام غير مبلغ ما أمر به ولا معصوم والله تعالى يقول { يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين } قيل لهم نعم وهذا التبليغ المعترض عليه والذي هو فيه عليه السلام معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة رضي الله عنهم ولا فرق والدين لازم لنا كما هو لازم لهم سواء بسواء فالعصمة واجبة في التبليغ للديانة باقية مضمونة ولا بد إلى يوم القيامة كما كانت قائمة عن الصحابة رضي الله عنهم سواء بسواء
ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم باطل كذب
ثم نقول لهم وكذلك قال تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } { ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين }
{ لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم } فإن ادعوا إجماعا قلنا لهم من الكرامية من يقول إنه عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة فإن قالوا ليس هؤلاء ممن يعد في الإجماع قلنا صدقتم ولا يعد في الإجماع من قال إن الدين غير محفوظ وإن كثيرا من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم فيه اختلاطا لا يتميز معه الرشد من الغي ولا الحق من الباطل ولا دين الله تعالى من دين إبليس أبدا
فإن قالوا بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي صلى الله عليه و سلم به من الدين باقية إلى يوم القيامة صاروا إلى الحق الذي هو قولنا ولله تعالى الحمد
فإن قالوا فإنه صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب للعلم إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين وخرق لصفات كل ذلك وللعادة فيه
قلنا لهم لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان بأنه فعل الله تعالى والعجب من إنكاركم هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي صلى الله عليه و سلم من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة وهذا هو الذي أنكرتم بعينه بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل حتى أتيتم بالباطل المحض إذ جوزتم على جميع الأمم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس وحاشا لله أن تجمع الأمة على الباطل والقياس عين الباطل فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان لا سيما إن كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق
فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها
فإن قالوا فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التي قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم معصومون في نقلها وإن كل واحد منهم معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه
قلنا لهم نعم هكذا نقول وبهذا نقطع ونبت
وكل عدل روى خبرا عن
رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدين أو فعله عليه السلام فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب مقطوع بذلك عند الله تعالى ومن جواز الوهم فيه عليه إلا ببيان وارد ولا بد من الله تعالى ببيان ما وهم فيه كما فعل تعالى بنبيه عليه السلام إذ سلم من ركعتين ومن ثلاث واهما لقيام البراهين التي قدمنا من حفظ جميع الشريعة وبيانها مما ليس منها وقد علمنا ضرورة أن كل من صدق في خبر ما فإنه معصوم في ذلك الخبر من الكذب والوهم بلا شك فأي نكرة في هذا
فإن قالوا تعبدنا الله تعالى بحسن الظن به وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يقول أنا عند ظن عبدي بي قلنا ليس هذا من الحكم في الدين بالظن في شيء بل كله باب واحد لأنه تعالى حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ونحن لا نعلم أيغفر لنا أم يعذبنا فوجب علينا الوقوف في ذلك والرجاء والخوف وحرم علينا أن نقول عليه في الدين والتحريم والإباحة والإيجاب ما لا نعلم وبين لنا كل ما ألزمنا من ذلك فوجب القطع بكل ذلك كما وجب القطع بتخليد الكفار في النار أو تخليد المؤمنين في الجنة ولا فرق ولم يجز القول بالظن في شيء من ذلك كله
فإن قالوا أنتم تقولون إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعدا وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة والفروج المحرمة والأبشار المحرمة والأموال المحرمة وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد وما حلف عليه الحالف وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق
قلنا لهم وبالله التوفيق بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس
أحدهما أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبينه من الغي ومما ليس منه
ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا
بل قدر تعالى بأن كثيرا من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا
وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ يقول إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام للمتلاعنين الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب أو كما قال عليه السلام في كل ذلك
والفرق الثاني أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ليس حكما بالظن كما زعموا بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز و جل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على غيبه برهان ذلك أن حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي فلم يحكم للمدعى عليه باليمين أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما
فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز و جل مجرح الشهادة ظالم سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين إذا لم يعلم باطن أمرهم
ونحن مأمورون يقينا بأمر الله عز و جل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل وأن نبيح هذه البشرة المحرمة وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من ذلك
وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فساق عصاة له تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم
وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تتبعوا خطوات لشيطان ومن يتبع خطوات لشيطان فإنه يأمر بلفحشآء ولمنكر ولولا فضل لله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن لله يزكي من يشآء ولله سميع عليم }
فهذا فرق في غاية البيان
وفرق ثالث وهو أن نقول إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأمرنا الله تعالى بكذا لأنه تعالى يقول { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب } ففرض علينا أن نقول نهانا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم عن كذا
وأمرنا بكذا ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول شهد هذا بحق ولا حلف هذا الجانب على حق ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقينا ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد لكن الله تعالى قال لنا احكموا بشهادة العدول وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة وهذا فرق لا خفاء به فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلا ولله الحمد بل بعلم قاطع ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم محكي عنه أنه قال وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى لأنه أمرنا بالحكم به ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى ولا أنه حق مقطوع به فإن قالوا إنما قال تعالى { يأيها لذين آمنوا جتنبوا كثيرا من لظن إن بعض لظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وتقوا لله إن لله تواب رحيم } ولم يقل كل الظن إثم
قلنا قد بين الله تعالى الإثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك
قال علي فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد للدلائل التي ذكرنا وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم وذلك أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الأخبار التي رواها الآحاد أهي كلها حق إذا كانت من رواية الثقات خاصة أم كلها باطل أم فيها حق وباطل فإن قالوا فيها حق وباطل وهو قولهم
قلنا لهم هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه صلى الله عليه و سلم ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي صلى الله عليه و سلم أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لأحد من الناس وهل الشرائع الإسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير محفوظة ولا كلها لازم لنا بل قد سقط منها بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم كثير وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به أو لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين لأن كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منها أبدا
فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه و سلم بما ليس في
الدين وقالوا لم تقم لله تعالى علينا حجة فيما أمرنا به
دخل عليهم في القول بفساد الشريعة وذهاب الإسلام وبطلان ضمان الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفا بحرف سواء بسواء ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم سواء بسواء أنهم يعملون بما ليس من الدين وأن النبي صلى الله عليه و سلم قد بطل بيانه وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء وفي هذا ما فيه
فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع وبالموهوم فيه ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الإسلام لم ينقل إلينا إذ قد بطل ضمان حفظ الله تعالى فيها وأيضا فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر بل أصحاب الإسناد أصح دعوى في ذلك لشهادة كثرة الرواة وتغير الأسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر وبالله تعالى التوفيق
فإن لجأ لاجىء إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات فإنه كذب موضوع ليس منه شيء قاله قط رسول الله صلى الله عليه و سلم وقلنا وبالله تعالى التوفيق هذه مجاهرة ظاهرة ومدافعة لما نعلم بالضرورة خلافه وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولجميع فضلاء التابعين ولكل إنسان من العلماء جيلا بعد جيل لأن كل ما ذكرنا رووا الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم بلا شك من أحد واحتج بها بعضهم على بعض وعملوا بها وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح للإجماع المتيقن وباطل لا تختلف النفوس فيه أصلا لأنا بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها بل كلهم وضعوا كل ما رووا
وأيضا ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي هذا القطع بأن كل صاحب من الصحابة روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه هو الواضع والمخترع للكذب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه ولا يشك أحد على وجه الأرض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي صلى الله عليه و سلم أهله وجيرانه وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم أولهم عن آخرهم وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ مع أنها دعوى بلا برهان وما كان كذلك فهو باطل بيقين في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها
إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كذبا كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها وهذا باطل بيقين كما بينا وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم لا نحاشي أحدا قد اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا انسلاخ عن الإسلام أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لأحد أبدا وهذا تكذيب لله تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل وبإكماله الدين لنا وبأنه لا يقبل منا إلا دين الإسلام لا شيئا سواه
وفيه أيضا فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به وأنه لا سبيل لأحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى به في دينه مما لم يأمره به أبدا وأن حقيقة الإسلام وشرائعه قد بطلت بيقين وهذا انسلاخ عن الإسلام
أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى موجبة كلها للعلم لإخبار الله تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا به ولإخباره تعالى بأنه قد بين الرشد من الغي وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وفي فعله وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين
قال علي فإذا قد صح هذا القول بيقين وبطل كل ما سواه فلنتكلم بعون الله تعالى على تقسيمه فنقول وبالله تعالى نتأيد إننا قد أمنا ولله الحمد أن تكون شريعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم أو ندب إليها أو فعلها عليه السلام فتضيع ولم تبلغ إلى أحد من أمته إما بتواتر أو بنقل الثقة عن الثقة حتى تبلغ إليه صلى الله عليه و سلم وأمنا أيضا قطعا أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول وأمنا أيضا قطعا أن تكون شريعة يخطىء فيها راويها الثقة ولا يأتي بيان جلي واضح بصحة خطئه فيه وأمنا أيضا قطعا أو يطلق الله عز و جل من قد وجبت الحجة علينا بنقله على وضع حديث فيه شرع يسنده إلى من تجب الحجة بنقله حتى يبلغ به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلا أو لم يروه قط إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرحة فإنه خبر باطل بلا شك موضوع لم يقله رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لو جاز أن يكون حقا لكان ذلك شرعا صحيحا غير لازم لنا لعدم قيام الحجة علينا فيها
قال علي وهذا الحكم الذي قدمنا إنما هو فيما نقله من اتفق على عدالته كالصحابة وثقات التابعين ثم كشعبة وسفيان وسفيان ومالك وغيرهم من الأئمة في عصرهم وبعدهم إلينا وإلى يوم القيامة وفي كل من ثبتت جرحته كالحسن بن عمارة وجابر الجعفي وسائر المجرحين الثابتة جرحتهم وأما من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون فإن ثبتت عندنا عدالته قطعنا على صحة خبره وإن ثبتت عندنا جرحته قطعنا على بطلان خبره وإن لم يثبت عندنا شيء من ذلك وقفنا في ذلك وقطعنا ولا بد حتما على أن غيرنا لا بد أن يثبت عنده أحد الأمرين فيه وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا وجهلنا إن جهلنا حجة على وجوب ضياع دين الله تعالى بل الحق ثابت معروف عند طائفة وإن جهلته أخرى والباطل كذلك أيضا كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضا والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ
قال علي وكذلك نقطع ونبت في كل خبرين صحيحين متعارضين وكل آيتين متعارضتين وكل آية وخبر صحيح متعارضين وكل اثنين متعارضين لم يأت نص بين بالتناسخ منهما فإن الحكم الزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ وأن الموافق لمعهود الأصل المتقدم وهو المنسوخ قطعا يقينا للبراهين التي قدمنا من أن الدين محفوظ فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ أو أن يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه ويكون المراد به الخصوص لكان الدين غير محفوظ ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في الشريعة ولكنا متعبدين بالظن الكاذب المحرم بل بالعمل بما لم يأمر الله تعالى قط به وهذا باطل مقطوع على بطلانه
قال علي فإن وجد لنا يوما غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه وهي وهلة نستغفر الله عز و جل منها وإنا لنرجو ألا يوجد لنا ذلك بمن الله تعالى ولطفه
صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار قال أبو محمد واستدركنا برهانا في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعا وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام إذ جاءه { وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين } { فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين } إلى قوله تعالى { قال إني أريد أن أنكحك إحدى بنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين } إلى آخر القصة فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له وخرج عن وطنه بقوله وصوب الله تعالى ذلك من فعله وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها وصدق أباها في قوله إنها ابنته واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده وصوب الله ذلك كله فصح يقينا ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقينا
والحمد لله رب العالمين
قال علي وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين فإذا كان الراوي عدلا حافظا لما تفقه فيه أو ضابطا له بكتابه وجب قبول نذارته فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل وأغافل هو أم حافظ أو ضابط ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته أو تثبت عندنا جرحته أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو عامر الأشعري ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب
الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ
( فذلك مثل ) من فقه في دين الله بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن العلاء ثنا حماد بن أسامة عن يزيد فذكره بإسناده ولفظه إلا أنه قال مكان طيبة نقية ومكان غيث الغيث الكثير ومكان ورعوا وزرعوا ومكان فقه تفقه ومكان قيعان قيعة واتفقا في كل ما عدا ذلك
قال علي وليس اختلاف الروايات عيبا في الحديث إذا كان المعنى واحدا لأن النبي صلى الله عليه و سلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحدا
قال علي فقد جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث مراتب أهل العلم دون أن يشذ منها شيء فالأرض الطيبة النقية هي مثل الفقيه الضابط لما روى الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص المتنبه على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما الأجادب الممسكة للماء التي يستقي منها الناس فهي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته حتى أدته إلى غيرها غير مغير ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما روت ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن والسنن التي روت لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا إذ يقول فرب مبلغ أوعى من سامع وكما روي عنه عليه السلام أنه قال فرب حامل فقه ليس بفقيه
قال أبو محمد فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء وفي هذا كفاية بيان وبالله تعالى التوفيق
قال علي فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الأرض الطيبة فإن حرم ذلك فمن الأجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان لكن من استقى من الأجادب ورعى من الطيبة فقد نجا وبالله التوفيق
قال علي فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم فقد وجب الأخذ به ولزمت طاعته والقطع به سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه أو رواه كذاب من الناس وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق وسواء كان ناقله عبدا أو امرأة أو لم يكن وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم قائلون بخبر الواحد ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الأحاديث الصحاح بأن يقولوا هذا مما لم يروه إلا فلان ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق
قال أبو محمد وهذا جهل شديد وسقوط مفرط لأنهم قد اتفقوا معنا على وجوب قبول خبر الواحد والأخذ به ثم هم دأبا يتعللون في ترك السنة بأنه خبر واحد والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثا انفرد بها عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يروها أحد من الناس سواه ليس أحد من الأئمة إلا وله أخبار انفرد بها ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شيء منها بذلك فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد معه وبين من ردوا خبره لأنه لم يروه أحد معه وهل في الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا
وأيضا فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد من أثبت شيئا من ذلك أثبت خبر الواحد ومن نفى خبر الواحد نفى كل ذلك لأن العلة عندهم في كل ذلك واحدة وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على صحة مغيبة لديهم فهو خبر واحد وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل بالتواتر فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون أو يشعرون ويتعمدون وهذه أسوأ وأقبح ونعوذ بالله من الخذلان
قال علي وأما المدلس فينقسم إلى قسمين أحدهما حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما أسنده وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سندا وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون
بعض فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئا لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا من ذلك
وسواء قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه إيرادا غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته
وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة وعمرو بن دينار وسليمان الأعمش وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى
وقسم آخر قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمدا وضم القوي إلى القوي تلبيسا على من يحدث وغرورا لم يأخذ عنه ونصرا لما يريد تأييده من الأقوال مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك علة ومرضا في الحديث فهذا رجل مجرح وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل كل ذلك مردود غير مقبول لأنه ساقط العدالة غاش لأهل الإسلام باستجازته ما ذكرناه ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي وغيرهما
قال علي ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لأنه لم يتفقه في دين الله عز و جل ولا حفظ ما سمع وقد قال عليه السلام نضر الله امرأ سمع منا حديثا حفظه حتى بلغه غيره فإنما أمر عليه السلام بقبول تبليغ الحافظ والتلقين هو أن يقول له القائل حدثك فلان بكذا ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه فيقول نعم فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرورة إما أن يكون فاسقا يحدث بما لم يسمع أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهل العقل المدخول الذهن ومثل هذا لا يلتفت له لأنه ليس من ذوي الألباب ومن هذا النوع كان سماك بن حرب أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الإمام الرئيس ابن الحجاج
قال علي ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام
قال أبو محمد وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة فالعدل ينقسم إلى قسمين فقيه وغير فقيه فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك وإلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل
قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة
قال علي وهذا خطأ شديد وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم إنهم أبرك الناس لذلك وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأول عدالة ويتركون ما روى الأعدل ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فأول ذلك أن الله عز و جل لم يفرق بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل من ذلك ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز و جل أو من رسوله عليه السلام أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد قفا ما ليس له به علم وفاعل ذلك عاص لله عز و جل لأنه قد نهاه تعالى عن ذلك وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط وبقبول شهادة العدول فقط فمن زاد حكما فقد أتى بما لا يجوز له وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه وغلب ما لم يأمره الله عز و جل بتغليبه
قال علي وأيضا فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول وقد رجع أبو بكر إلى خبر المغيرة
في ذلك ورجع عمر إلى خبر مخبر أخبره عن أملاص المرأة ولم يكن ذلك عند عمر وذلك المخبر بينه وبين عمر في العدالة درج وأيضا فإن كل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأيضا فلو شهد أبو بكر وحده ما قبل قبولا لا يوجب الحكم بشهادته ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلا فلا معنى للأعدل
وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة إذ لو انفردت من صفة العدالة التي ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيرا
فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء ولا فرق فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ولا ترجيح شهادة على أخرى بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس وطيب النفس باطل لا معنى له وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم وإنما هو حق فسواء طابت النفس عليه أو كرهته فهو حرام عليها وهذا من باب اتباع الهوى وقد حرم الله تعالى ذلك قال عز و جل { وأما من خاف مقام ربه ونهى لنفس عن لهوى } وقال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين }
فمن حكم في دين الله عز و جل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو إجماع فلا أحد أضل منه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان إلا من جهل ولم تقم عليه حجة فالخطأ لا ينكر وهو معذور مأجور ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتمادى على هواه فهو فاسق عاص لله عز و جل
قال علي ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى الأمة إلا أربعة عدول لا أقل وإنما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام ووجدنا كما قد وافقتمونا
على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين وكذلك في القذف والقطع فأين طيب النفس ههنا
فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب
قال علي والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء ولا فرق ولم يخص تعالى عدلا من عدل ولا رجلا من امرأة ولا حرا من عبد
قال علي وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه ثم قال إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة النفس فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي لموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من لطير فصرهن إليك ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ثم دعهن يأتينك سعيا وعلم أن لله عزيز حكيم } الآية قيل لهم أفترون يقين الخليل عليه السلام كان مدخولا قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم ولو لم يره الله تعالى ذلك كما لم ير موسى ما سأل ما تخالج إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى وكذلك نحن إن وجدنا الحديث مرويا من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي قدمنا وبينا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في الملل والنحل
قال علي ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر والتجريح يغلب التعديل لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل وليس هذا تكذيبا للذي عدل بل هو تصديق لهما معا فإن قال قائل فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح قيل له كذلك نقول ونصدق كل واحد منهما فإذا صح خبرهما معا عليه فلا خلاف في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام وزكى وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة فإنه فاسق عند جميع الأمة بلا خلاف ولا يقع عليه اسم عدل ولو لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئا من الخير لما فسق مسلم أبدا لأن توحيده خير وفضل وإحسان وبر وفي صحة القول بأن فينا عدولا وفساقا بنص القرآن ورضا وغير رضا بيان ما قلنا ولو أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد كذبنا المجرح وذلك غير جائز وهكذا القول في الشهادة ولا فرق
قال علي ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا حتى يبين وجه تحريمه فإن قوما جرحوا آخرين بشرب الخمر وإنما كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه ولم يعلموه حراما ولو علموه مكروها فضلا عن حرام ما أقدموا عليه ورعا وفضلا منهم الأعمش وإبراهيم وغيرهما من الأئمة رضي الله عنهم وهذا ليس جرحة لأنهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه
ولا يكون الجرح في نقلة الأخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس لها الإقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت أنها كبيرة
الثاني الإقدام على ما يعتقد المرء حراما وإن كان مخطئا فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطىء
والثالث المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام وهذه الأوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الأخبار وفي الشهود وفي جميع الشهادات في الأحكام وهذه صفات الفاسق بالنص وبإجماع من المخالفين لنا وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر للحديث الصحيح في الذي 3 قبل امرأة فأخبره عليه السلام أن صلاته كفرت ذلك عنه ولقوله عز و جل { إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } فمن غفر الله له فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له
وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضا فهو عدل وليس هذا من باب ثبات الحد عليه في شيء لأن الملامة ساقطة عن التائب والحد عنه غير ساقط على حديث ماعز فإن النبي صلى الله عليه و سلم رجمه بعد توبته وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه وإنما قلنا إن المجاهرة بالصغائر جرحة للإجماع المتيقن على ذلك والنص الوارد من الأمر بإنكار المنكر والصغائر من المنكر لأن الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها فمن أعلن بها فهو من أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو فاسق لأن المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره
وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقا ولا يجب التغيير عليه ولا الإنكار عليه لأنه لم ير منه ما يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير ولو أن امرأ شهد
على آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة وكان ملوما ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير
والثاني أنه معفو عنه ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت شهادته عليه ولردت شهادة المستتر بها لأنها ليست مغفورة إلا بالتوبة أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة
قال علي والوجه الرابع ينفرد به نقلة الأخبار دون الشهود في الأحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيها فيما روى أي حافظا لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته وليس ذلك في الشهادة لأن الشرط في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن فلا يضر الشاهد أن يكون معروفا بالغفلة والغلط ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم بينة بأنه غلط في شهادة ما فتسقط تلك التي غلط فيها فقط ولا يضر ذلك شهادته في غيرها لا قبل الشهادة ولا بعدها بل هو مقبول أبدا ولا يحل لأحد أن يزيد شرطا لم يأت به الله تعالى فقد قال عليه السلام كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط
فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط فقد زاد شرطا ليس في كتاب الله عز و جل فهو مبطل فيه والتدليس الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم من غشنا فليس منا ولا غش في الإسلام أكبر من إسقاط الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح ولقوله عليه السلام الدين النصيحة وواجب ذلك لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ومن دلس التدليس الذي ذممنا فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله عليه السلام في تبليغه عنهما ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز العمل به
قال علي وأما من قدم على ما يعتقده حلالا مما لم يقم عليه في تحريمه حجة فهو معذور مأجور وإن كان مخطئا وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم وزيدييهم وأباضييهم