كتاب : أدب المفتي والمستفتي
المؤلف : عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوي
فتاوى ومسائل ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه ومعه أدب
المفتي والمستفتيالمجلدالأول
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا أتمم لنا نورنا وأغفر لنا إنك على كل شيء قدير
قال العبد الفقير عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح غفر الله له ولهم
الحمد لله الذي كرم هذه الأمة بالشريعة السمحة الطاهرة وأيدها بالحجج الباهرة القاهرة ووطدها بالقواعد المتظاهرة المتناثرة ونورها بالأوضاع المتناسبة المتازرة
أحمده على نعمه الباطنة والظاهرة وأصلي على رسوله محمد وسائر النبيين والصالحين وأسلم صلاة وتسليما متواصلي الصلات في الدنيا والآخرة آمين
هذا ولما عظم شأن الفتوى في الدين وتسنم المفتون منه سنام
السناء وكانوا قرات الأعين لا تسلم بهم على كثرتهم أعين الإستواء فنعق بهم في أعصارنا ناعق الفناء وتفانت بتفانيهم أندية ذاك العلاء على أن الأرض لا تخلو من قائم بالحجة إلى أوان الإنتهاء رأيت أن أستخير الله تعالى وأستعينه وأستهديه وأستوفقه وأتبرأ من الحول والقوة إلا به في تأليف كتاب في الفتوى لائق بالوقت أفصح فيه إن شاء الله تعالى عن شروط المفتي وأوصافه وأحكامه وعن صفة المستفتي وأحكامه وعن كيفية الفتوى والاستفتاء وآدابها جامعا فيه شمل نفائس ألتقطها من خبايا الروايا وخفايا الزوايا ومهمات تقر بها أعين أعيان الفقهاء ويرفع من قدرها من كثرت مطالعاته من الفهماء وتبادر إلى تحصيلها كل من أرتفع عن حضيض الضعفاء مقدما في أوله بيان شرف مرتبة الفتوى وخطرها والتنبيه على آفاتها وعظيم غررها ليعلم المقصر عن شأوها المتجاسر عليها أنه على النار يسجر وليعرف متعاطيها المضيع شرطها أنه لنفسه يضيع ويخسر وليتقاصر عنها القاصرون الذين إذا انتزعوا على منصب تدريس واختلسوا ذروا من تقديم وترييس جانبوا جانب المحترس ووثبوا على الفتيا وثبة المفترس اللهم فعافنا واعف عنا وأحلنا منها بالمحل المغبوط ولا تحلنا منها بالمحل المغموط واجعل نعانيه منها على وفق هداك وسببا واصلا بيننا وبين رضاك إنك الله لا إله إلا أنت حسبنا ونعم الوكيل
بيان شرف مرتبة الفتوى وخطرها وغررها
روينا ما رواه أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الله ابن ماجه القزويني في كتبهم المعتمدة في السنن من حديث أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أن العلماء ورثة الأنبياء )
فأثبت للعلماء خصيصة فاقوا بها سائر الأمة وما هم بصدده من أمر الفتوى يوضح تحققهم بذاك للمستوضح ولذلك قيل في الفتيا إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى
وقد أخبرنا الشيخ الإمام أبو بكر منصور بن عبد المنعم الفراوي قراءة عليه بنيسابور قال أخبرنا أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي قال أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال بن الفرات ببيروت حدثنا أحمد بن أبي الحراوي حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر قال
( إن العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم )
وفيما يرويه عن سهل بن عبد الله التستري وكان رضي الله عنه أحد الصالحين المعروفين بالمعارف والكرامات أنه قال من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء عليهم السلام فلينظر الى مجالس العلماء يجيء الرجل فيقول يا فلان إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا فيقول طلقت امرأته
وهذا مقام الأنبياء فاعرفوا لهم ذلك ولما ذكرناه هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السالفين والخالفين وكان أحدهم لا يمنعه شهرته بالإمامة واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدافع بالجواب أو يقول لا أدري أو يؤخر الجواب إلى حين يدري
فروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال ادركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول
وفي رواية ما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا
وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون
وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه
وروينا عن أبي حصين الأسدي أنه قال إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر
وروي عن الحسن والشعبي مثله
وأخبرنا الشيخ الأصيل أبو القاسم منصور بن أبي المعالي بنيسابور قال أخبرنا أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي قال حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الصفار يقول سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول سمعت الشافعي يقول سمعت مالك بن أنس يقول سمعت محمد بن عجلان يقول ( إذا أغفل العالم لا أدري أصيب مقاتله )
هذا إسناد جليل عزيز جدا لاجتماع أئمة المذاهب الثلاثة فيه بعضهم عن بعض وروى مالك مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر الأندلسي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أنه جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم لا أحسنه فجعل الرجل يقول إني وقفت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم والله لأن يقطع لساني أحب الي من أن أتكلم بما لا علم لي به
وروى أبو عمر عن سفيان ابن عيينة وسحنون بن سعيد قالا أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما
وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي قال جاء رجل إلى مالك بن أنس
يسأله عن شيء أياما ما يجيبه فقال يا أبا عبد الله إني أريد الخروج وقد طال التردد إليك قال فأطرق طويلا ثم رفع رأسه فقال ما شاء الله يا هذا إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه
وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه سئل في مسألة فسكت فقيل له ألا تجيب رحمك الله فقال حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب
وروينا عن أبي بكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول لا أدري وذلك من أعرف الأقاويل فيه
وبلغنا عن الهيثم بن جميل قال شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري
وعن مالك أيضا أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصة في الآخرة ثم يجيب فيها
وعنه أنه سئل في مسألة فقال لا أدري فقيل له إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال ليس في العلم شيء خفيف أما سمعت قوله جل ثناؤه إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا
فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة
وقال إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد
والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنهما أنه كان لا يكاد يفتي فتية ولا يقول شيئا إلا قال اللهم سلمني وسلم مني
وجاء عن أبي سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون إمام المالكية وصاحب المدونة التي هي عند المالكيين ككتاب الأم عند الشافعيين أنه قال أشقى الناس من باع آخرته بدنياه وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره
قال ففكرت فيمن باع آخرته بدنيا غيره فوجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقه فيقول له لا شيء عليك فيذهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقه وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا
وعن سحنون أن رجلا أتاه فسأله عن مسألة فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام مسألتي أصلحك الله اليوم ثلاثة أيام فقال له وما أصنع لك يا خليلي مسألتك معضلة وفيها أقاويل وأنا متحير في ذلك فقال له وأنت أصلحك الله لكل معضلة فقال له سحنون هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار ما أكثر ما لا أعرف إن صبرت رجوت أن تنقلب
بمسألتك وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامض تجاب في ساعة فقال له إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك فقال له فاصبر عافاك الله ثم أجابه بعد ذلك
وقد كان فيهم رضي الله عنهم من يتباطأ بالجواب عما هو فيه غير مستريب ويتوقف في الأمر السهل الذي هو عنه مجيب
بلغنا عمن سمع سحنون بن سعيد يروي على من يعجل الفتوى ويذكر النهي عن ذلك عن المتقدمين من معلميه وقال إني لأسأل عن المسألة فأعرفها وأعرف في أي كتاب هي وفي أي ورقة وفي أي صفحة وعلى كم بنيت من السطور فما يمنعني من الجواب فيها إلا كراهة الجرأة بعدي على الفتوى
وبلغنا عن الخليل بن أحمد أنه كان يقول إن الرجل ليسأل عن المسألة ويعجل في الجواب فيصيب فأذمه ويسأل عن مسألة فيتثبت في الجواب فيخطئ فأحمده
وروي عن سحنون بن سعيد أنه قيل له إنك لتسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها فتترجح فيها وتتوقف فقال إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال رضي الله عنه
ولما ذكره تلفت إلى نحو ما بلغنا عن القاضي أبي الحسن علي بن محمد ابن حبيب الماوردي أحد المصنفين الشافعيين قال صنفت في البيوع
كتابا جمعت له ما استطعت من كتب الناس وأجهدت فيه نفسي وكددت فيه خاطري حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أعجب به وتصورت أنني أشد الناس اطلاعا بعلمه حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لشيء منها جوابا فأطرقت مفكرا وبحالي وحالهما معتبرا فقالا أما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة قلت لا فقالا إيها لك وانصرفا ثم أتيا من قد يتقدمه في العلم كثير من أصحابي فسألاه فأجابهما مسرعا بما أقنعهما فآنصرفا عنه راضيين بجوابه مادحين لعلمه فبقيت مرتبكا وإني لعلى ما كنت عليه في تلك المسائل إلى وقتي فكان ذلك لي زاجر نصيحة ونذير عظة
وقال القاضي أبو القاسم الصيمري أحد الأئمة الشافعيين ثم أبو بكر الخطيب الحافظ الفقيه الشافعي الإمام في علم الحديث قل من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه وآضطرب في أمره وإذا كان كارها لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتاويه أغلب
قال ذلك الصيمري أولا ثم تلقاه عنه الخطيب فقال له في بعض تصانيفه وروى بإسناده عن بشر بن الحارث أنه قال من أحب أن يسأل فليس بأهل أن يسأل
وذكر أبو عبد الله المالكي فيما جمعه من مناقب شيخه أبي الحسن القابسي الإمام المالكي أنه كان ليس شيء أشد عليه من الفتوى وأنه
قال له عشية من العشايا ما آبتلي أحد بما إبتليت به أفتيت اليوم في عشر مسائل قلت قول الله تبارك وتعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم شامل بمعناه لمن زاغ في فتواه فقال في الحرام هذا حلال أو في الحلال هذا حرام أو نحو ذلك
وفيما رواه أبو عمر بن عبد البر الحافظ بإسناده عن مالك قال أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي فقال له ما
يبكيك وارتاع لبكائه فقال له أمصيبة دخلت عليك فقال لا ولكني أستفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم قال ربيعة وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق
رحم الله ربيعة كيف لو أدرك زماننا وما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل
القول في شروط المفتي وصفاته وأحكامه وآدابه
أما شروطه وصفاته فهو أن يكون مكلفا مسلما ثقة مأمونا منزها من أسباب الفسق ومسقطات المروءة لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للإعتماد وإن كان من أهل الإجتهاد ويكون فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر صحيح التصرف والإستنباط متيقظا ثم ينقسم وراء هذا إلى قسمين مستقل وغير مستقل
القسم الاول المفتي المستقل وشرطه أن يكون مع ما ذكرناه قيما بمعرفة أدلة
الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وقد فصلت في كتب الفقه وغيرها فتيسرت والحمد لله عالما بما يشترطفي الأدلة ووجوه دلالاتها ويكفيه اقتباس الأحكام منها وذلك يستفاد من علم أصول الفقه عارفا من علم القرآن وعلم الحديث وعلم الناسخ والمنسوخ وعلمي النحو واللغة وأختلاف العلماء وإنفاقهم بالقدر الذي
يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ذا دربة وآرتياض في استعمال ذلك عالما بالفقه ضابطا لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به
فرض الكفاية وأن يكون مجتهدا مستقلا
والمجتهد المستقل هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد
وفصل الإمام أبو المعالي الجويني صفات المفتي ثم قال القول الوجيز في ذلك إن المفتي هو المتمكن من درك أحكام الوقائع على سبر من غير معاناة تعلم
وهذا الذي قاله معتبر في المفتي ولا يصلح حدا للمفتي والله أعلم
تنبيهات
الأول ما اشترطناه فيه من كونه حافظا لمسائل الفقه لم يعد من شروطه
في كثير من الكتب المشهورة نظرا إلى أنه ليس شرطا لمنصب الاجتهاد فإن الفقه من ثمراته فيكون متأخرا عنه وشرط الشيء لا يتأخر عنه واشترطه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وصاحبه أبو منصور البغدادي وغيرهما
واشتراط ذلك في صفة المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في صفة المجتهد المستقل على تجرده كأن حال المفتي يقتضي اشتراط كونه على صفة يسهل عليه معها إدراك أحكام الوقائع على القرب من غير تعب كثير وهذا لا يحصل لأحد من الخلق إلا بحفظ إلا بحفظ أبواب الفقه ومسائله ثم لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفي أن يكون حافظا للمعظم متمكنا من إدراك الباقي على القرب
الثاني هل يشترط فيه أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية
حكى أبو إسحاق وأبو منصور فيه اختلافا للأصحاب والأصح أشتراطه لأن من المسائل الواقعة نوعا لا يعرف جوابه إلا من جمع بين الفقه والحساب
الثالث إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في المفتي المطلق في جميع أبواب الشرع أما المفتي في باب خاص من العلم نحو علم المناسك أو علم الفرائض أو غيرهما فلا يشترط فيه جميع ذلك ومن الجائز أن ينال الإنسان منصب الفتوى والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض فمن عرف القياس وطرقه وليس عالما بالحديث فله أن يفتي في مسائل قياسية يعلم أنه لا تعلق لها بالحديث ومن عرف أصول علم المواريث واحكامها جاز أن يفتي فيها وإن لم يكن عالما بأحاديث النكاح ولا عارفا بما يجوز له الفتوى في غير ذلك من أبواب الفقه قطع بجوازه الغزالي وابن برهان وغيرهما
ومنهم من منع من ذلك مطلقا وأجازه أبو نصر بن الصباغ غير أنه خصصه بباب المواريث قال لأن الفرائض لا تبنى على غيرها من الأحكام فأما ما عداها من الأحكام فبعضه مرتبط ببعض والأصح أن ذلك لا يختص بباب المواريث والله أعلم
القسم الثاني
المفتي الذي ليس بمستقلمنذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق والمجتهد المستقل وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة وللمفتي المنتسب أحوال أربع
الأولى أن لا يكون مقلدا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل وإنما ينسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله
وقد بلغنا عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني رحمه الله أنه ادعى هذه الصفة لأئمة أصحابنا فحكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم
ثم قال الصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي رحمه الله لا على جهة التقليد له ولكن لما وجدوا طريقه في الاجتهاد والفتاوى أسد الطرق وأولاها ولم يكن لهم يد من الاجتهاد سلكوا طريقه في الاجتهاد وطلبوا معرفة الأحكام بالطريق الذي طلبها الشافعي به
قلت وهذا الرأي حكاه عن أصحابنا واقع على وفق ما رسمه لهم الشافعي ثم المزني في أول مختصره وفي غيره وذكر الشيخ أبو علي السنجي شبيها بذلك فقال
اتبعنا قول الشافعي دون قول غيره من الأئمة لما وجدنا قوله أصح الأقوال وأعدلها لا أنا قلدناه في قوله
قلت دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا من كل وجه لا يستقيم إلا أن يكونوا قد أحاطوا بعلوم الإجتهاد المطلق وفازوا برتبة المجتهدين المستقلين وذلك لا يلائم المعلوم من أحوالهم أو أحوال أكثرهم
وقد ذكر بعض الأصوليين منا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل وحكى اختلافا بين أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة في أبي يوسف وأبي محمد المزني وابن سريج خاصة هل كانوا من المجتهدين المستقلين أو من المجتهدين في المذاهب ولا ينكر دعوى ذلك فيهم في فن من الفقه دون فن
بناء على ما قدمناه في جواز تجريد منصب المجتهد المستقل ويبعد جريان
ذلك الخلاف في حق هؤلاء المتبحرين الذين عم نظرهم الأبواب كلها فإنه لا يخفى على أحدهم إذا أكمل في باب مالا يتعلق منه بغيره من الأبواب التي لم يكمل فيها لعموم نظره وجولانه في الأبواب كلها إذا عرفت هذا ففتوى المستفتين في هذه الحالة في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل بها ويعتد بها في الإجماع والخلاف والله أعلم
الحالة الثانية أن يكون في مذهب إمامه مجتهدا مفيدا فيستقل بتقرير مذاهبه بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ومن شأنه أن يكون عالما بالفقه خبيرا بأصول الفقه عارفا بأدلة الأحكام تفصيلا بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني تام الارتياض في التخريج والإستنباط قيما بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده ولا يعرى عن شوب من التقليد له لإخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المستقل مثل أن يخل بعلم الحديث أو بعلم اللغة العربية وكثيرا ما وقع الإخلال بهذين العلمين في أهل الاجتهاد المقيد ويتخذ أصول نصوص إمامه أصولا يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع وربما مريه الحكم وقد ذكره إمامه بدليله فيكتفي بذلك ولا يبحث هل لذلك الدليل من معارض ولا يستوفي النظر في شروطه كما يفعله المستقل وهذه صفة أصحاب الوجوه والطرق في المذهب وعلى هذه الصفة كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم ومن كان هذا شأنه فالعامل بفتياه مقلد لإمامة لاله معوله على صحة إضافة ما يقوله إلى إمامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع والله أعلم
تنبيهات
الأول الذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأن من كانت هذه حالته ففرض الكفاية لا يتأد به ووجهه أن ما فيه من التقليد نقص وخلل في المقصود
وأقول يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى لأنه قد قام في فتواه مقام إمام
مطلق فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيا قائما بالفرض فيها والتفريع على الصحيح في أن تقليد الميت جائز
الثاني قد يؤخذ من المجتهد المقيد الاستقلال بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة أو في باب خاص كما تقدم في النوع الذي قبله والله أعلم
الثالث يجوز له أن يفتي فيما لا يجده من أحكام الوقائع منصوصا عليه لإمامه بما يخرجها على مذهبه
هذا هو الصحيح الذي عليه العمل وإليه مفزع المفتين من مدد مديدة
فالمجتهد في مذهب الشافعي مثلا المحيط بقواعد مذهبه المتدرب في مقاييسه وسبل متفرقاته وتنزل كما قدمنا ذكره في الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه منزلة المجتهد المستقل في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه وهذا أقدر على هذا من ذاك على ذاك فإن هذا يجد في مذهب إمامه من القواعد الممهدة والضوابط المهذبة ما لا يجده المستقل في أصول الشرع ونصوصه ثم إن المستفتي فيما يفتيه به من تخريجه هذا مقلد لإمامه لا له
قطع بهذا الشيخ أبو المعالي ابن الجويني في كتابه الغياثي
وأنا أقول ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أن ما يخرجه أصحابنا رحمهم الله على مذهب الشافعي
رحمه الله هل يجوز أن ينسب إليه واختار الشيخ أبو إسحاق أنه لا يجوز أن ينسب إليه والله أعلم
الرابع تخريجه تارة يكون من نص معين لإمامه في مسألة معينة وتارة لا
يجد لإمامه نصا معينا يخرج منه فيخرج على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحج به إمامه وعلى شرطه فيفتي بموجبه
ثم إن وقع النوع الأول من التخريج في صورة فيها نص لإمامه مخرجا خلاف نصه فيها من نص آخر في صورة أخرى سمي قولا مخرجا
وإذا وقع النوع الثاني في صورة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك سمي ذلك وجها
ويقال فيها وجهان
وشرط التخريج المذكور عند اختلاف النصين أن لا يجد بين المسألتين فارقا ولإمامه في مثل ذلك أي علة جامعة وهو من قبيل إلحاق الأمة بالعبد في قوله صلى الله عليه و سلم من أعتق شركا له في عبد قوم عليه ومهما أمكنه الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج فلزمه تقرير النظير على ظاهرهما معتمدا على الفارق وكثير ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق والله أعلم
الحالة الثالثة أن لا يبلغ رتبة أئمة المذاهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها وبنصرته يصور ويجرد ويمهد ويقرر ويوازن ويرجح لكنه قصر عن درجة أولئك
إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم
وإما لكونه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياضهم وإما لكونه غير متبحر في علم أصول الفقه
على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظ من الفقه ويعرفه من أدلته عن أطراف من قواعد أصول الفقه
وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة من الهجرة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف بها معظم آشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا بأرباب الحالة الثانية في تخريج الوجوه وتمهيد الطرق في المذهب وأما في فتاواهم فقد كانوا يتبسطون فيها كتبسط أولئك أو قريبا منه ويقيسون غير المنقول والمسطور على المنقول والمسطور في المذهب غير مختصرين في ذلك على القياس الجلي وقياس لا فارق الذي هو نحو قياس الأمة على العبد في إعتاق الشريك وقياس المرأة على الرجل في رجوع البائع إلى غير ماله عند تعذر الثمن وفيهم من جمعت فتاواه وأفردت بالتدوين ولا يبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه ولا يقوى كقوتها والله أعلم
الحالة الرابعة أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم وأما ما لا يجده منقولا في مذهبه فإن وجد في المنقول ما هذا في معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به
وكذلك ما يعلم إندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب
وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتيا منه ومثل هذا يقع نادرا في مثل الفقيه المذكور إذا يبعد كما ذكر الإمام أبو المعالي الجويني أن يقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب ولا هي في معنى شيء في المنصوص عليه فيه من غير فرق ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابط المذهب المحررة فيه ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس لأن تصوير المسائل على وجهها ثم نقل أحكامها بعد أستتمام تصويرها جلياتها وخفياتها لا يقوم به إلا فقيه النفس ذو حظ من الفقه قلت وينبغي أن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة وفي الحالة التي قبلها بأن يكون المعظم على ذهنه لدربنه متمكنا من الوقوف على الباقي بالمطالعة أو ما يلتحق بها على القرب كما اكتفينا في اقسام الاجتهاد الثلاثة الأول بأن يكون المعظم على ذهنه ويتمكن من إدراك الباقي بالاجتهاد على القرب وهذه أصناف المفتين وشروطهم وهي خمسة وما من صنف منها إلا ويشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس وذلك فيما عدا الصنف الأخير الذي هو أخسها بعدما يشترط في هذا القبيل
فمن انتصب في منصب الفتيا وتصدى لها وليس على صفة واحد من هذه الأصناف الخمسة فقد باء بأمر عظيم ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم
ومن أراد التصدي للفتيا ظانا كونه من أهلها فليتهم نفسه وليتق الله ربه تبارك الله وتعالى ولا يجد عن الأخذ بالوثيقة لنفسه والنظر لها
ولقد قطع الإمام أبو المعالي وغيره بأن الاصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى بمجرد ذلك ولو وقعت له في نفسه واقعة لزمه أن يستفتي غيره فيها ويلتحق به المتصرف النظار البحاث في الفقه من أئمة الخلاف وفحول المناظرين وهذا لأنه ليس أهلا لإدراك حكم الواقعة استقلالا لمقصور آلته ولا
من مذهب إمام متقدم لعدم حفظه له وعدم إطلاعه عليه على الوجه المعتبر والله أعلم
تنبيهات الأول قطع به الإمام العلامة أبو عبد الله الحليمي إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي أبو المحاسن الروياني صاحب بحر المذهب وغيرهما بأنه لا يجوز للمقلد أن يفتي بما هو مقلد فيه وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في شرحه لرسالة الشافعي عن شيخه أبي بكر القفال المروزي أنه يجوز لمن حفظ مذهب صاحب مذهب ونصوصه أن يفتي به وإن لم يكن عارفا بغوامضه وحقائقه وخالفه الشيخ أبو محمد وقال لا
يجوز أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن متبحرا فيه عالما بغوامضه وحقائقه كما لا يجوز للعامي الذي جمع فتاوي المفتين أن يفتي بها وإذا كان متبحرا بها جاز أن يفتي بها
قلت قول من قال لا يجوز أن يفتي بذلك معناه أنه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى غيره ويحكيه عن إمامه الذي قلده فعلى هذا من عددناه في أصناف المفتيين من المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتيين ولكنهم قاموا مقام المفتين وأدوا عنهم فعدوا معهم وسبيلهم في ذلك أن يقول مثلا مذهب الشافعي كذا وكذا أو مقتضى مذهبه كذا وكذا وما أشبه ذلك
ومن ترك إضافة ذلك إلى إمامه إن كان ذلك منه اكتفاء بالمعلوم عن الحال عن التصريح بالمقال فلا بأس
وذكر الماوردي في كتابه الحاوي في القاضي إذا عرف حكم حادثة بني على دليلها ثلاثة أوجه
أحدها أنه يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده فيه لأنه قد وصل إلى العلم به مثل وصول العالم إليه
والثاني يجوز ذلك إن كان دليلها من الكتاب والسنة
والثالث هو أصحها أنه لا يجوز ذلك مطلقا
قلت وليس فيما ذكره حكاية خلاف في جواز فتيا المقلد وتقليده لأن فيما ذكره من توجيه وجه الجواز تشبيها بأن العامي لا يبقى مقلدا في حكم تلك الحادثة والله أعلم
الثاني إن قلت من تفقه وقرأ كتابا من كتب المذهب أو أكثر هو مع ذلك قاصر لم يتصف بصفة أحد من أصناف المفتين الذين سبق ذكرهم فإذا لم يجد العامي في بلده غيره فرجوعه إليه أولى من أن يبقى في واقعته مرتكبا في
حيرته قلت وإن كان في غير بلده مفت يجد السبيل إلى استفتائه فعليه التوصل إلى إستفتائه بحسب إمكانه على أن بعض أصحابنا ذكر أنه إذا شغرت البلد عن المفتين فلا يحل المقام فيها وإن تعذر ذلك عليه ذكر مسألته للقاضي المذكور فإن وجد مسألته بعينها مسطورة في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يقبل خبره نقل له حكمها بنصه وكان العامي في ذلك مقلدا لصاحب المذهب وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم والدليل يعضده ثم لا يعد هذا القاصر بأمثال ذلك من المفتين ولا من الأصناف المذكورة المستعار لهم سمة المفتين وأن لم يجد مسألته بعينها ونصها مسطورة فلا سبيل له إلى القول فيها قياسا على ما عنده من السطور وإن آعتقده من قبيل قياس لا فارق الذي هو نحو قياس الأمة على العبد في سر آية العتق لأن القاضي معرض لأن يعتقد ما ليس من هذا القبيل داخلا في هذا القبيل وإنما استتب إلحاق الأمة بالعبد في سر آية العتق في حق من عرف مصادر الشرع وموارده في أحكام العتق بحيث استبان له أنه لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى والله أعلم
الثالث إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا ولا أحدا ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا في غيره فماذا يصنع قلت هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية والسبيل في ذلك كالسبيل في ما قبل ورود الشرائع والصحيح في كل ذلك القول بإنتفاء التكليف عن العبد وإنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك فلا يؤخذ إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها وهذا مع تقرره بالدليل المعنوي الأصولي يشهد له حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتي لا يدري ما
صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله تعالى في ليلة لا يبقى في الأرض منه اية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون آدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها فقال صلة ابن ذفر لحذيفة فما تغني عنهم لا رله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة فردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال يا صلة تنجيهم من النار تنجيهم من النار تنجيهم من النار
رواه أبو عبد الله بن ماجه في سننه والحاكم أبو عبد الله الحافط في صحيحه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه والله أعلم
القول في أحكام المفتين
وفيه مسائل
الأولى لا يشترط في المفتي الحرية والذكورة كما في الراوي وينبغي أن يكون كالراوي أيضا في أنه لا يؤثر فيه القرابة والعداوة وجلب النفع ودفع الضرر لأن المفتي في حكم من يخبر عن الشرع بما لاختصاص له بشخص وكان في ذلك كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف القاضي
ووجدت عن القاضي الماوردي فيما جاوب به القاضي أبا الطيب
الطبري عن رده عليه في فتواه بالمنع من التلقيب بملك الملوك ما معناه
أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا معينا صار خصما معاندا ترد فتواه على من عاداه كما ترد شهادته ولا بأس بأن يكون المفتي أعمى أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتبا والله أعلم
الثانية لا تصح فتيا الفاسق وإن كان مجتهدا مستقلا غير أنه لو وقعت له في نفسه واقعة عمل فيه بإجتهاد نفسه ولم يستفت غيره وأما المستور وهو من كان ظاهره العدالة ولم تعرف عدالته الباطنة ففي وجه لا يجوز فتياه كالشهادة والأظهر أنها تجوز لأن العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير الحكام ففي أشراطها في المفتين جرح على المستفتين والله أعلم
الثالثة من كان من أهل الفتيا قاضيا فهو فيها كغيره وبلغنا عن أبي بكر بن المنذر أنه يكره للقضاة أن تفتي في مسائل الأحكام دون ما لا مجرى لأحكام القضاء فيه كمسائل الطهارة والعبادات وقال قال شريح أنا أقضي ولا أفتي
ووجدت في بعض تعاليق الشيخ أبي حامد الإسفرائيني أن له أن يفتي في العبادات وما لا يتعلق به الحكم وأما فتياه من الأحكام فلأصحابنا فيه جوابان أحدهما أنه ليس له أن يفتي فيها لأن لكلام الناس عليه مجالا ولأحد الخصمين عليه مقالا والثاني له ذلك لأنه أهل لذلك والله أعلم
الرابعة إذا استفتي المفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب وإن كان في الناحية غيره فإن حضر هو وغيره واستفتيا معا فالجواب عليهما على الكفاية وإن لم يحضر غيره فعند الحليمي يتعين عليه بسؤاله جوابه وليس له أن يحيله على غيره والأظهر أنه لا يتعين عليه بذلك
وقد سبقت روايتنا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل أحدهما عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول وإذا سئل العامي عن مسألة لم تقع لم تجب مجاوبته والله أعلم
الخامسة إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه نظرت فإن أعلم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول بعد لم يجز له العمل به وكذلك لو نكح بفتواه أو استمر على نكاح ثم رجع لزمه مفارقتها كما لو تغير إجتهاد من قلده في القبلة في أثناء صلاته فإنه يتحول وإن كان المستفتي قد عمل به قبل رجوعه فإن كان مخالفا الدليل قاطع لزم المستفتي نقض عمله ذلك وإن كان في محل الإجتهاد لم يلزمه نقصه
قلت وإذا كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين فإذا رجع لكونه بإن له قطعا أنه خالف في فتواه بعض نص مذهب إمامه فإنه يجب نقضه وإن كان
ذلك في كل الإجتهاد لأن نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل على ما سبق تأصيله وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه فحال المستفتي في عمله به على ما كان ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل وكذا بعد العمل حيث يجب النقض
ولقد أحسن الحسن بن أبي زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة فيما بلغنا عنه أنه استفتي في مسألة فأخطأ فيها ولم يعرف الذي أفتاه فاكترى مناديا فنادى أن الحسن بن أبي زياد استفتي يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسن بن أبي زياد بشيء فليرجع إليه فلبث أياما لا يفتي حتى وجد صاحب الفتوى فأعلمه أنه أخطأ وإن الصواب كذا وكذا والله أعلم
السادسة إذا عمل المستفتي بفتوى المفتي في إتلاف ثم بان خطأه وإنه خالف فيها القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني أنه يضمن إن كان أهلا للفتوى ولا يضمن إن لم يكن أهلا لأن المستفتي قصر والله أعلم
السابعة لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتي وذلك قد يكون بأن لا يثبت ويسرع بالفتوى قبل إستيفاء حقها من النظر والفكر وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة وذلك جهل ولإن يبطىء ولا يخطىء أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل فإن تقدمت معرفته بما سئل عنه على السؤال فبادر عند السؤال بالجواب فلا بأس عليه وعلى مثله يحمل ما ورد عن الأئمة الماضيين من هذا القبيل
وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره ومن فعل ذلك هان عليه دينه ونسأل الله العافية والعفو وأما إذا صح قصده فأحتسب في تطلب حيلة لا شبهة فيها ولا يجر إلى مفسدة ليخلص بها المستفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسن جميل يشهد له قول الله تبارك وتعالى لأيوب صلى الله عليه و سلم وعلى نبينا لما حلف ليضربن امرأته مائة وخذ بيدك ضغثا فأضرب به ولا تحنث
وورد عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التسديد فيحسنه كل أحد وهذا خارج على الشرط الذي
ذكرناه فلا يفرحن به من يفتي بالحيل الجادة إلى المفاسد أو بما فيه شبهة بأن يكون في النفس من القول به شيء أو نحو ذلك وذلك لمن يفتي بالحيلة الشرعية في سد باب الطلاق ويعلمها وأمثال ذلك والله أعلم
الثامنة ليس له أن يفتي في كل حالة تغير خلقه وتفسد قلبه وتمنعه من التثبت والتأمل كحالة الغضب أو الجوع أو العطش أو الحزن أو الفرح الغالب أو النعاس أو الملالة أو المرض أو الحر المزعج أو البرد المؤلم أو مدافعة الأخبثين وهو أعلم بنفسه فمهما أحسن آشتغال قلبه وخروجه عن حد الاعتدال أمسك عن الفتيا فإن أفتى من شيء من هذه الأحوال وهو يرى أن ذلك لم يمنعه من إدراك الصواب صحت فتياه وإن خاطر بها
ومن أعجب ذلك ما وجدته بخط بعض أصحاب القاضي الإمام حسين بن محمد المروزي عنه أنه سمع الإمام أبا عاصم
العبادي يذكر أنه كان عند الأستاذ أبي ظاهر وهو الإمام الزيادي شيخ خراسان حين آختصر فسأل عن الضمان وكان في النزع فقال إن قبض
الثمن فيصح وإن لم يقبض فلا يصح قال لأنه بعد قبض الثمن يكون ضمان ما وجب والله أعلم
التاسعة الأولى بالمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ويجوز له أن يرتزق على ذلك من بيت المال إلا إذا تعين عليه وله كفاية فظاهر المذهب أنه لا يجوز وإذا كان له رزق فلا يجوز له أخذ أجره أصلا وإن لم يكن له رزق من بيت المال فليس له أخذ أجره من أعيان من يفتيه كالحاكم على الأصح
واحتال له الشيخ أبو حاتم القزويني في حيلة فقال لو قال للمستفتي إنما يلزمني أن أفتيك قولا وأما بذل الخط فلا فإذا استأجره أن يكتب له ذلك كان جائزا
وذكر أبو القاسم الصيمري أنه لو آجتمع أهل البلد على أن جعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتياهم جاز ذلك وأما الهدية فقد أطلق السمعاني
الكبير أبو المظفر أنه يجوز له قبول الهدية بخلاف الحاكم فإنه يلزم حكمه
قلت ينبغي أن يقال يحرم عليه قبولها إذا كانت رشوة على أن يفتيه بما يريده كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض والله أعلم
العاشرة لا يجوز له أن يفتي في الأيمان والأقادير ونحو ذلك مما يتعلق
بالألفاظ إلا صح إذا كان من أهل بلد اللافظ بها أو متنزلا منزلتهم في الخبرة بمراداتهم من ألفاظهم وتعارفهم فيها لأنه إذا لم يكن كذلك كثر خطأه عليهم في ذلك كما شهدت به التجربة والله أعلم
الحادية عشرة لا يجوز لمن كانت فتياه نقلا لمذهب إمامه إذا اعتمد في نقله على الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته وجاز ذلك كما جاز اعتماد الراوي على كتابه وإعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي ويحصل له الثقة بما يجده من نسخه غير موثوق بصحتها بأن يجده في نسخ عدة من أمثالها وقد يحصل له الثقة بما يجده في الثقة بما يجده في النسخة غير الموثوق بها بأن يراه كلاما منتظما وهو خبير فطن لا يخفى عليه في الغالب مواقع الإسقاط والتغيير وإذا لم يجده إلا في موضع لم يثق بصحته نظر فإن وجده موافقا لأصول المذهب وهو أهل التخريج مثله على المذهب لو لم يجده منقولا فله أن يفتي به فإن أراد أن يحكيه عن إمامه فلا يقل قال الشافعي مثلا كذا وكذا وليقل وجدت عن الشافعي كذا وكذا أو بلغني عنه كذا وكذا أو ما أشبه هذا من العبارات أو إذا لم يكن أهلا لتخريج مثله فلا يجوز له ذلك فيه وليس له أن يذكره بلفظ جازم مطلق فإن سبيل مثله النقل المحض ولم يحصل له فيه ما يجوز له مثل ذلك ويجوز له أن يذكره في غير مقام الفتوى مفصحا بحاله فيه فيقول وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني أو من كتاب فلان ما لا أعرف صحتها أو وجدت عن فلان كذا وكذا أو بلغني عنه كذا وكذا وما ضاهى ذلك من العبارات والله أعلم
الثانية عشرة إذا أفتى في حادثة ثم وقعت مرة أخرى فإذا كان ذاكرا الفتيا الأولى ومستندها أما بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقلا أو بالنسبة إلى مذهبة إن كان منتسبا إلى مذهب ذي مذهب أفتى بذلك وإن تذكرها ولم يتذكر مستندها ولم يطرأ ما يوجب رجوعه عنها فقد قيل له أن يفتي بذلك والأصح أنه لا يفتي حتى يجدد النظر
وبلغنا عن أبي الحسين بن القطان أحد أئمة المذهب أنه كان لا يفتي في شيء من المسائل حتى يلحظ الدليل وهكذا ينبغي لمن هو دونه ومن لم يكن فتواه حكاية عن غيره لم يكن له بد من آستحضار الدليل فيها والله أعلم
الثالثة عشرة روينا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعوا ما قلته وهذا وما هو في معناه مشهور عنه
فعمل بذلك كثير من أئمة أصحابنا فكان من ظفر منهم بمسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عمل بالحديث وأفتى به قائلا مذهب الشافعي ما وافق الحديث ولم يتفق ذلك إلا نادرا
ومنه ما نقل عن الشافعي رضي الله عنه فيه قول على وفق الحديث وممن حكى عنه منهم أنه أفتى بالحديث في مثل ذلك أبو يعقوب البويطي وأبو القاسم الداركي وهو الذي قطع به أبو الحسن الكيا
الطبري في كتابه في أصول الفقه وليس هذا بالهين فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي عمدا على علم منه بصحته لمانع آطلع عليه وخفي على غيره كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممن
صحب الشافعي روي عنه أنه روى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال إذا صح عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث وقلت قولا فأنا راجع عن قولي بذلك قال أبو الوليد وقد صح حديث ( أفطر الحاجم والمحجوم )فأنا أقول قال الشافعي أفطر الحاجم والمحجوم فرد على أبي الوليد ذلك من حيث أن الشافعي تركه مع صحته لكونه منسوخا عنده وقد دل رضي الله عنه على ذلك وبينه
وروينا عن ابن خزيمة الإمام البارع في الحديث والفقه إنه قيل له هل تعرف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه قال لا
وعند هذا أقول من وجد من الشافعيين حديثا يخالف مذهبه نظر فإن كملت آلات الإجتهاد فيه إما مطلقا وإما من ذلك الباب أوفى تلك المسألة على ما سبق بيانه كان له الإستقلال بالعمل بذلك الحديث وإن لم تكمل إليه ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه
جوابا شافيا فلينظر هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل فإن وجد فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث عذرا في ترك مذهب إمامه في ذلك والعلم عند الله تبارك وتعالى
الرابعة عشرة هل للمفتي المنتسب الى مذهب الشافعي مثلا أن يفتي تارة بمذهب آخر فيه تفصيل وهو أنه إذا كان ذا اجتهاد فأداة اجتهاده إلى مذهب إمام آخر فاتبع اجتهاده وإن كان اجتهاده مقيدا مشوبا بشيء من التقليد نقل ذلك الشوب من التقليد إلى ذلك الإمام الذي أداه اجتهاده إلى مذهبه ثم إذا أفتى بين ذلك في فتياه وكان الإمام أبو بكر القفال المروزي يقول لو اجتهدت فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول مذهب الشافعي كذا وكذا ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة لأنه جاء ليستفتي على مذهب الشافعي فلا بد من أن أعرفه بأني أفتي بغيره
وحدثني أحد المفتين بخراسان أيام مقامي بها عن بعض مشايخه أن الإمام أحمد الخوافي قال للغزالي في مسألة أفتى فيها أخطأت في الفتوى
فقال له الغزالي من أين والمسألة ليست مسطورة فقال له بلى في المذهب الكبير فقال له الغزالي ليست فيه ولم تكن في الموضع الذي يليق بها فأخرجها له الخوافي من موضع قد أجراها فيه المصنف استشهادا فقال له الغزالي عند ذلك لا أقبل هذا واجتهادي ما قلت فقال له الخوافي في هذا شيء آخر إنما تسأل عن مذهب الشافعي أو عن اجتهادك فلا يجوز أن تفتي على اجتهادك أو كما قال والمذهب الكبير هو نهاية المطلب تأليف الشيخ أبي المعالي ابن الجويني وكان الخوافي مع الغزالي من أكابر اصحابه وإما إذا لم يكن ذلك بنا على اجتهاد فإن ترك مذهبه إلى مذهب هو أسهل عليه وأوسع فالصحيح آمتناعه وإن تركه لكون الآخر أحوط المذهبين والظاهر جوازه ثم عليه بيان ذلك في فتواه على ما تقدم والله أعلم
الخامسة عشرة ليس للمنتسب إلى مذهب الشافعي في المسألة ذات القولين أو الوجهين أن يتخير فيعمل أو يفتي بأيهما شاء بل عليه في القولين إن علم المتأخر منها كما في الجديد مع القديم أن يتبع المتأخر فإنه ناسخ للمتقدم وإن ذكرها الشافعي جميعا ولم يتقدم أحدهما لكن منهج أحدهما كان الاعتماد على الذي رجحه وإن جمع بينهما في حالة واحدة من غير ترجيح منه لأحدهما وقد قيل أنه لم يوجد منه ذلك إلا في ستة عشر أو
سبعة عشر موضعا أو نقل عنه قولان ولم يعلم حالهما فيما ذكرناه فعليه البحث عن الأرجح الأصح منهما متعرفا ذلك من أصول مذهبه غير متجاوز في الترجيح قواعد مذهبه إلى غيرها هذا إن كان ذا إجتهاد في مذهبه أهلا للتخريج عليه فإن لم يكن أهلا لذلك فلينقله عن بعض أهل التخريج من أئمة المذهب وإن لم يجد شيئا من ذلك فليتوقف
قال القاضي الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله في مسألة فعل المحلوق عليه على نسيان ذات القولين قال شيخنا أبو القاسم الصيمري ما أفتيت في يمين الناس بشيء قط وحكى عن شيخه أبي الفياض أنه لم
يفت فيها بشيء قط وحكى ابو الفياض عن شيخه أبي حامد المروزي أنه لم يفت فيها بشيء قط قال المروزي فاقتديت بهذا السلف ولم أفت فيها بشيء لأن استعمال التوقي أحوط من فرطات الإقدام وأما الوجهان فلا بد من ترجيح أحدهما وتعرف الصحيح منهما عند العمل والفتوى بمثل الطريق المذكور ولا غيره فيها بالتقدم والتأخر وسواء وقعا معا في حالة واحدة من إمام من أئمة المذهب أو من إمامين واحد بعد واحد لأنهما إنتسبا إلى المذهب إنتسابا واحدا وتقدم أحدهما لا تجعله بمنزلة تقدم أحد القولين من صاحب المذهب وليس ذلك أيضا من قبيل إختلاف المعنيين على المستفتي بل كل ذلك إختلاف راجع إلى شخص واحد وهو صاحب المذهب ليلتحق باختلاف
الروايتين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في أنه يتعين العمل بأصحهما عنه
وإذا كان أحد الرأيين منصوصا عنه والآخر مخرجا فالظاهر الذي نص عليه منهما يقدم كما يقدم ما رجحه من القولين المنصوصين على الآخر لأنه أقوى نسبة إليه منه إلا إذا كان القول المخرج مخرجا من نص آخر لتعذر الفارق فاعلم ذلك
وأعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتاه أو علمه موافقا لقول أو وجه في المسألة ويعمل بما يشاء من الأقوال أو الوجوه معد غير نظر في الترجيح ولا يقيد به فقد جهل وخرق الإجماع وسبيله سبيل الذي حكى عنه أبو الوليد الباجي المالكي من فقهاء المالكية أنه كان يقول إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه وحكي عن من يثق به أنه وقعت له واقعة وأفتى فيها وهو غائب جماعة من فقهائهم من أهل الصلاح بما يضره فلما عاد سألهم فقالوا ما علمنا أنها لك وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه قال وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الاجماع أنه لا يجوز
قلت وقد قال إمامهم مالك رضي الله عنه في اختلاف أصحاب
رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنهم مخطىء ومصيب فعليك بالاجتهاد وقال ليس كما قال ناس فيه توسعة
قلت لا توسعة فيه بمعنى أنه يتخير بين أقوالهم من غير توقف على ظهور الراجح وفيه توسعة بمعنى ان إختلافهم يدل على أن الإجتهاد مجالا فيما بين أقوالهم وإن ذلك ليس مما يقطع فيه بقول واحد متعين لا مجال للاجتهاد في خلافة والله أعلم
فرعان
أحدهما إذا وجد من ليس أهلا للترجيح والترجيح بالدليل اختلافا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين فينبغي أن يفرع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بأدائهم فيعمل بقول الأكثر والأعلم والأورع وإذا اختص واحد منهم بصفة منها والاخر بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منها بالإصابة فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم واعتبرنا ذلك في هذا كما اعتبرنا في الترجيح عند تعارض الأخبار صفات رواتها وكذلك إذا وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد من أئمته بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما وقائليهما فما رواه المزني أو الربيعالمرادي مقدم عند أصحابنا على ما حكاه الإمام أبو سليمان
الخطابي عنهم على ما رواه حرملة أبو الربيع الجيزي وأشباههما
ممن لم يكن قوي الأخذ عن الشافعي ويرجح ما وافق بهما أكثر أئمة المذاهب المتبوعة أو أكثر العلماء ومما استفدته من الغرائب بخراسان عن الشيخ حسين بن مسعود صاحب التهذيب عن شيخه القاضي حسين بن محمد قال إذا اختلف قول الشافعي في مسألة وأحد القولين يوافق مذهب أبي حنيفة فأيهما أولى بالفتوى قال الشيخ أبو حامد ما يخالف قول أبي حنيفة أولى لأنه لولا أن الشافعي عرف فيه معنى خفيا بالكان لا يخالف أبا حنيفة وقال الشيخ القفال ما يوافق قول أبي حنيفة أولى قال وكان القاضي يذهب إلى الترجيح بالمعنى ويقول كل قول كان معناه راجح فذاك أولى وأفتى به
قلت وقول القاضي المروزي المذكور أظهر من قول أبي حامد الاسفرائيني وكلاهما محمول على ما إذا لم يعارض ذلك من جهة القول الآخر ترجيح آخر مثله أو أقوى منه وهذه الأنواع من الترجيح معتبرة أيضا بالنسبة إلى أئمة المذهب غير أن ما يرجحه الدليل عندهم مقدم على ذلك والله أعلم
الثاني كل مسألة فيها قولان قديم وجديد فالجديد أصح وعليه الفتوى إلا في نحو عشرين مسئلة أو أكثر يفتي فيها على القديم على خلاف في ذلك من أئمة الأصحاب في أكثرها ذلك مفرق في مصنفاتهم وقد قال
الإمام أبو المعالي ابن الجويني في نهايته قال الائمة كل قولين أحدهما جديد فهو الأصح من القديم إلا من ثلاث مسائل وذكر منها مسئلة التثويب في أذان الصبح ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير ولم ينص على الثالثة غير أنه لما ذكر القول بعد استحباب قراءة السورة بعد الركعتين الأوليين وهو القول القديم ثم ذكر ان عليه العمل وفي هذه المسألة إشعار بأن عليه الفتوى فاصاروا إلى ذلك في ذلك مع أن القديم لم يبق قولا للشافعي لرجوعه عنه ويكون إختيارهم إذن القديم فيها من قبيل ما ذكرناه من اختيار أحدهم مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده اليه كما سبق وبل أولى لكون القديم قد كان قولا له منصوصا ويلتحق بذلك ما إذا اختار أحدهم القول المخرج على القول المنصوص أو اختار من القولين اللذين رجح الشافعي أحدهما غير ما رجحه وبل أولى من القول القديم ثم حكم من لم يكن أهلا للترجيح من المتبعين لمذهب الشافعي رضي الله عنه أن لا يتبعوا شيئا من اختياراتهم هذه المذكورة لأنهم مقلدون للشافعي دون من خالفه والله أعلم
المسألة السادسة عشرة إذا اقتصر في جوابه على حكاية الخلاف بأن قال فيها قولان أو وجهان أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح فحاصل أمره أنه لم يفت بشيء وأذكر أني حضرت بالموصل الشيخ الصدر المصنف أبا السعادات ابن الأثير الجزري رحمه الله فذكر بعض الحاضرين عنده
عن بعض المدرسين أنه أفتى في مسألة فقال فيها قولان وأخذ يزري عليه فقال الشيخ ابن الأثير كان الشيخ أبو القاسم ابن البرزي وهو علامة زمانه في المذهب إذا كان في المسألة خلاف واستفتي عنها يذكر الخلاف في الفتيا ويقال له في ذلك فيقول لا أتقلده العهدة مختارا لأحد الرائيين مقتصرا عليه وهذا جيد عن عرض الفتوى وإذا لم يذكر شيئا أصلا فلم يتقلده العهدة أيضا ولكنه لم يأت بالمطلوب حيث لم يخلص السائل من عمايته وهذا في ذلك كذلك ولا اقتداء بأبي بكر محمد بن داود الأصبهاني الظاهري في فتياه التي أخبرني بها أو أحمد عبد الوهاب ابن علي شيخ
الشيوخ ببغداد قال أنبأنا الحافظ أبو بكر بن أحمد على الخطيب قال حدثني القاضي أبو الطيب ظاهر بن عبد الله الطبري حدثني أبو العباس الخضري وأخبرني أيضا الشيخ أبو العباس حمد بن الحسن المقرىء ببغداد قال أنبأنا ابو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام قال أنبأنا الشيخ الإمام ابو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروز آبادي قال سمعت شيخنا القاضي أبا الطيب الطبري قال سمعت أبا العباس الخضري قال كنت جالسا عند أبي بكر بن داود فجاءته امرأة فقالت له ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها فقال ابو بكر اختلف في ذلك أهل العلم فقال قائلون تؤمر بالصبر والاحتساب ويبعث على التطلب والاكتساب وقال قائلون يؤمر بالإنفاق وإلا تحمل على الإطلاق فلم تفهم المرأة قوله فأعادت وقالت رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها فقال لها يا هذه أجبتك عن مسألتك وأرشدتك إلى طلبتك ولست بسلطان فأمضي ولا قاض فأقضي ولا زوج فأرضي آنصرفي قال فأنصرفت المرأة ولم تفهم جوابه
قلت التصحيف شين فآعلم أن أبا العباس الخضري هذا هو بخاء معجمة مضمومة وبضاد معجمة مفتوحة وقوله تؤمر بالصبر في أوله التاء التي للمؤنث وقوله يبعث على التطلب في أوله الياء التي تبنى للمذكر وقولها لا هو ممسكها إلى ليس ينفق عليها
ولقد وقع آبن داود بعيدا عن مناهج المفتين في تعقيده هذا وتسجيعه وتحييره من استرشده
وهكذا إذا قال المفتي في موضع الخلاف يرجع إلى رأي الحاكم فقد عدل عن نهج الفتوى ولم يفت أيضا بشيء وهو كما إذا استفتى فلم يجب وقال آستفتوا غيري
وحضرت بالموصل شيخها المفتي أبا حامد محمد بن يونس وقد
آستفتي من مسئلة فكتب في جوابها إن فيها خلافا فقال بعض من حضر كيف يعمل المستفتي فقال يختار له القاضي أحد المذهبين
ثم قال هذا يبنى على أن العامي إذا آختلف عليه آجتهاد اثنين فماذا يعمل وفيه خلاف مشهور وهذا غير مستقيم أما قوله أولا يختار له الحاكم فهو فاسد لما ذكرناه ولأن الحاكم إذا لم يكن أهلا للفتوى وذلك هو الغالب في زمان من ذكرنا عنه ما ذكرناه فقد رده إلى رأي من لا رأي له وأحاله على عاجز حاجته في ذلك إلى فتياه كحاجة من استفتاه
وأما قوله ثانيا يبنى ذلك على الخلاف فيما إذا اختلف عليه إجتهاد مفتيين فتواهما فهل يتخير بين فتواهما أو يأخذ بالأخف أو بالأغلظ فهذا فيه إحواج للمستفتي إلى أن يستفتى مرة أخرى ويسأل عن هذا أيضا لأنه لا يدري أن حكمه التخير أو الأخذ بالأخف أو الأغلظ فلم يأت إذن بما يكشف عمايته بل زاده عماية وحيرة على أن الصحيح في ذلك على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى إنه يجب عليه الأخذ بقول الأوثق منهما وإذا قال فيه خلاف ولم يعين القائلين لم يتهيأ له فيه وهذه حالته البحث عن الأوثق من القائلين والله أعلم
القول في كيفية الفتوى وآدابها
وفيه مسائل
الأولى يجب على المفتي حيث يجب عليه الجواب أن يبينه بيانا مزيحا للإشكال ثم له أن يجيب شفاها باللسان وإذا لم يعلم لسان المستفتي أجزأت ترجمة الواحد لأن طريقه الخير وله أن يجيب بالكتابة معا في الفتوى في الرقاع وفيها من الخطر وكان القاضي أبو حامد المروزوري الإمام فيما بلغنا عنه كثير الهرب من الفتوى في الرقاع
قال أبو القاسم الصيمري وليس من الأدب للمفتي أن يكون السؤال بخطه فإما بإملائه وتهذيبه فواسع
وبلغنا عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله أنه كان قد يكتب إلى المستفتي السؤال على ورق من عنده ثم يكتب الجواب والله أعلم
الثانية إذا كانت المسألة فيها تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ ثم له أن يستفصل السائل إن حضر ويقيد السؤال في رقعة الاستفتاء ثم يجيب عنه وهذا أولى وكثيرا ما نتحراه نحن ونفعله وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل ولكن تقول هذا إذا كان كذا وكذا وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم وهذا قد كرهه أبو الحسين القابسي من أئمة المالكية وقال هذا ذريعة إلى تعليم الناس الفجور ونحن نكرهه أيضا لما ذكره من أنه يفتح للخصوم باب التمحل والاحتيال الباطل ولأن ازدحام الأقسام بأحكامها على فهم العامي يكاد يضيعه وإذا لم يجد المفتي من
يستفسره في ذلك كان مدفوعا إلى التفصيل فليتثبت وليجتهد في إستيفاء الأقسام وأحكامها وتحريرها والله أعلم
الثالثة إذا كان المستفتي بعيد الفهم فينبغي للمفتي أن يكون رفيقا به صبورا عليه حسن التأني في التفهم منه والتفهيم له حسن الإقبال عليه لا سيما إذا كان ضعيف الحال محتسبا أجر ذلك فإنه جزيل
أخبرت عن أبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه النيسابوري قال أخبرنا الأستاذ أبو القاسم القشيري قال سمعت أبا سعيد الشحام يقول رأيت الشيخ الإمام أبا الطيب سهلا الصعلوكي في المنام فقلت أيها الشيخ فقال دع التشييخ فقلت وتلك الأحوال التي شاهدتها فقال لم تغن عنا فقلت ما فعل الله بك فقال غفر لي بمسائل كان يسأل عنها العجز العجز بضم العين والجيم العجائز والله أعلم
الرابعة ليتأمل رقعة الأستفتاء تأملا شافيا كلمة بعد كلمة ولتكن عنايته بتأمل آخرها أكثر فإنه في آخرها يكون السؤال وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخر الرقعة ويغفل عنها القارىء لها وهذا من أهم أن يراعيه فإذا مر فيها بمشتبه سأل عنها المستفتي ونقطه وشكله مصلحة لنفسه ونيابة عمن يفتي بعده وكذا إن رأى لحنا فاحشا أو خطأ يحيل معنى أصلحه قطع بذلك أبو القاسم الصيمري من أئمة أصحابنا في كتابه في أدب المفتي والمستفتي
وقال الخطيب أبو بكر أحمد بن علي الحافظ رأيت القاضي أبا الطيب الطبري يفعل هذا في الرقاع التي ترفع إليه للإستفتاء
قلت ووجهه إلحاقه بقبيل المأذون فيه بلسان الحال فإن الرقعة إنما قدمها صاحبها إليه ليكتب فيها ما يرى وهذا منه وكذلك إذا رأى بياضا في أثناء بعض السطور أو في آخرها خط عليه وشغله على نحو ما يفعله الشاهد في كتب الوثائق ونحوها لأنه ربما قصد المفتي فيكتب من ذلك البياض بعد
فتواه ما يفسدها كما بلي القاضي أبو حامد المروزي بمثل ذلك إذ قصد مساءته بعض الناس فكتب ما تقول في رجل مات وخلف ابنه وأختا لأم ثم ترك بياضا في آخر السطر موضع كلمة ثم كتب في أول السطر الذي يليه وترك ابن عم فأفتى للبنت النصف والباقي لآبن العم فلما أخذ خطه بذلك ألحق في موضع البياض وأب وشنع عليه بذلك وكان ذلك سبب فتنة ثارت بين طائفتين من رؤساء البصرة والله أعلم
الخامسة يستحب له أن يقرأ ما في الرقعة على من بحضرته من هو أهل لذلك ويشاورهم في الجواب ويباحثهم فيه وإن كانوا دونه وتلامذته لما في ذلك من البركة والإقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وبالسلف الصالح رضي الله عنهم اللهم إلا أن يكون في الرقعة ما لعل السائل يؤثر ستره أو في إشاعته مفسدة لبعض الناس فينفرد هو بقراءتها وجوابها والله أعلم
السادسة ينبغي أن يكتب الجواب بخط واضح وسط ليس بالدقيق الخافي ولا بالغليظ الجافي وكذا يتوسط في سطوره بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارته واضحة صحيحة بحيث يفهمها العامة ولا تزدريها الخاصة
واستحب بعضهم أن لا يتفاوت أقلامه ولا يختلف خطه خوفا من التزوير عليه وكيلا يشتبه خطه
قال الصيمري وقل ما وجد التزوير على المفتي وذلك أن الله تعالى حفظ الدين
وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه خوفا من أن يكون أخل بشيء منه
السابعة إذا كان هو المبتدىء بالإفتاء فيها العاده جارية قديما وحديثا بأن يكتب فتواه في الناحية اليسرى من الورقة لأن ذلك أمكن له ولو كتب في غيرها فلا عتب عليه إلا أن يرتفع إلى أعلاها ترفعا ولا سيما فوق البسملة
وفيما وجدناه عن أبي القاسم الصيمري أن كثيرا من الفقهاء يبدأ في فتواه
بأن يقول الجواب وحذف ذلك آخرون قال ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل وحذف فيما سوى ذلك لكان وجها ولكن لا يدع أن يختم جوابه بأن يقول وبالله التوفيق أو والله الموفق أو والله أعلم
قال وكان بعض السلف إذا أفتى يقول إن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني
قال وهذا معنى كره في هذا الزمان لأن فيه إضعاف نفس السائل وإدخال قلبه الشك في الجواب
قال وليس يقبح منه أن يقول الجواب عندنا أو الذي عندنا أو يقول أو الذي نراه كذا وكذا لأنه من حملة أصحابه وأرباب مقالته والله أعلم
الثامنة روي عن مكحول ومالك رضي الله عنهما أنهما كانا لا
يفتيان حتى يقولا لا حول ولا قوة إلا بالله
ونحن نستحب للمفتي مع غيره فليقل إذا أراد الإفتاء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ففهمناها سليمان الآية رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سبحانك اللهم وحنانيك اللهم لا تنسني ولا تنسني الحمد لله أفضل الحمد اللهم صل على محمد وعلى آله وسائر النبيين وسلم اللهم وفقني واهدني وسددني واجمع لي بين الصواب والثواب وأعذني من الخطأ والحرمان آمين
وإن لم يأت بذلك عند كل فتوى فليأت به عند أول فتيا يفتيها في يومه لما يفتيه في سائر يومه مضيفا إليه قراءة الفاتحة وآية الكرسي وما تيسر فإن من ثابر على ذلك كان حقيقا بأن يكون موفقا في فتاويه والله أعلم
التاسعة بلغنا عن القاضي أبي الحسن الماوردي صاحب كتاب الحاوي قال إن المفتي عليه أن يختصر جوابه فيكتفي فيه بأنه يجوز أو لا يجوز أو حق أو باطل ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج ليفرق
بين الفتوى والتصنيف قال ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير ولصار المفتي مدرسا ولكل مقام مقال
وذكر شيخنا أبو القاسم الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد المروزي أنه كان يختصر في فتواه عامة ما يمكنه واستفتي في مسألة قيل في آخرها أيجوز ذلك أم لا فكانت لا وبالله التوفيق
قلت الاقتصار على لا أو نعم لا يليق بغير العامة وإنما يحسن بالمفتي الإختصار الذي لا يخل بالبيان المشترط عليه دون ما يخل به فلا يدع إطاله لا يحصل البيان بدونها فإذا كانت فتياه فيما يوجب القود أو الرجم مثلا فليذكر الشروط التي يتوقف عليها القود والرجم وإذا استفتي فيمن قال قولا يكفر به بأن قال الصلاة لعب أو الحج عبث أو نحو ذلك فلا يبادر بأن يقول هذا حلال الدم أو يقتل بل يقول إذا ثبت عليه ذلك بالبينة أو الإقرار إستتابه السلطان فإن تاب قبلت توبته وإن أصر ولم يتب قتل وفعل به كذا وكذا وبالغ في تغليظ أمره
وإن كان الكلام الذي قاله يحتمل أمورا لا يكفر ببعضها فلا يطلق جوابه وله أن يقول ليسأل عما إراد بقوله فإن أراد كذا فالجواب كذا وإن أراد كذا فالحكم فيه كذا وقد سبق الكلام فيما شأنه التفصيل
وإذا استفتي فيما يوجب التعزير فليذكر قدر ما يعزره به السلطان فيقول يضرب ما بين كذا إلى كذا ولا يزاد على كذا خوفا من أن يضرب بفتواه إذا أطلق القول ما لا يجوز ضربه ذكر ذلك الصيمري
قلت وإذا قال عليه التعزير بشرطه أو القصاص بشرطه فليس باطلاق وتقييده بشرطه يبعث من لا يعرف الشرط من ولاه الأمر على السؤال عن شرطه والبيان أولى والله أعلم
العاشرة إذا سئل عن مسألة ميراث فالعادة غير جارية بأن يشترط في
جوابه في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها من الموانع بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق السائل ذكر الأخوة والاخوان والأعمام وبنيهم فلا بد أن يشترط في الجواب فيقول من أب وأم أو من أب أو من أم وإذا سئل عن مسألة فيها عول كالمنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان فلا يقل للزوجة الثمن ولا للزوجة التسع لأن أحدا من السلف لم يقله بل إما أن يقول ثمن عائل وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهما من كذا وكذا وإذا كان في المذكورين في السؤال من لا يرث أفصح بسقوطه فقال وسقط فلان وإن كان سقوطه في صورة دون صورة قال سقط فلان في هذه المسألة أو نحو ذلك وإذا سئل عن إخوة وأخوات أو بنين وبنات فلا ينبغي إلا أن يقول يقتسمون التركة على كذا وكذا سهما لكل ذكر كذا سهما ولكل أنثى كذا سهما ولا يقل للذكر مثل حظ الأثنيين فإن ذلك يشكل على العامي
وهذا رأي الإمام أبي القاسم الصيمري ونحن نجد في تعمد العدول عنه حزازة في النفس لكونه لفظ القرآن العظيم وأنه قل ما يخفى معناه على أحد وسبيله أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التحرز والتحفظ وليقل فيها لفلان كذا وكذا من ذلك كذا بميراثه من فلان وكذا بميراثه من فلان وحسن أن يقول في قسمة المواريث تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا والله أعلم
الحادية عشرة ليس للمفتي أن يبني ما يكتبه في جوابه على ما يعلم من صورة الواقعة المستفتى عنها إذا لم يكن في الرقعة تعرض له وكذا إذا أراد السائل شفاها ما ليس في الرقعة تعرض له ولا له به تعلق فليس للمفتي أن يكتب جوابه من الرقعة ولا بأس بأن يضيفه إلى السؤال بخطه وإن لم يكن من الأدب كون السؤال جميعه بخط المفتي على ما سبق ولا بأس أيضا لو كتب بعد جوابه عما في الرقعة زاد السائل لفظه من كذا وكذا أو الجواب عنه كذا وكذا وإذا كان المكتوب في الرقعة على خلاف الصورة الواقعة وعلم المفتي
بذلك فليفت على ما وجده في الرقعة وليقل هذا إن كان الأمر على ما ذكر وإن كان كيت وكيت ويذكر ما علمه من الصورة فالحكم كذا وكذا
قلت وإذا زاد المفتي على جواب المذكور في السؤال ما له به تعلق ويحتاج إلى التنبيه عليه فذلك حسن والله أعلم
الثانية عشرة لا ينبغي إذا ضاق موضع الفتوى عنها أن يكتب الجواب في رقعة أخرى خوفا من الحيلة عليه ولهذا ينبغي أن يكون جوابه موصولا بآخر سطر من الرقعة ولا يدع بينهما فرجة خوفا من أن يثبت السائل فيها غرضا له ضارا وكذا إذا كان في موضع الجواب ورقة ملزقة كتب على موضع الإلزاق وشغله بشيء وإذا أجاب على ظهر الرقعة فينبغي أن يكون الجواب في أعلاها لا في ذيلها اللهم إلا أن يبتدىء الجواب في أسفلها متصلا بالإستفتاء فيضيق عليه الموضع فيمتد وراءها مما يلي أسفلها ليتصل جوابه واختار بعضهم أن لا يكتب على ظهرها ولا يكتب على حاشيتها بطولها والمختار أن حاشيتها أولى بذلك من ظهرها والأمر من ذلك قريب والله أعلم
الثالثة عشرة إذا رأى المفتي رقعة الإستفتاء قد سبق بالجواب فيها من ليس أهلا للفتوى فعن الإمام أبي القاسم الصيمري رضي الله عنه أنه لا يفتي معه لأن فيه تقرير منه لمنكر بل يضرب على ذلك بإذن صاحب الرقعة ولو لم يستاذنه في هذا القدر جاز لكن ليس له إحتباس الرقعة إلا بإذن صاحبها وله انتهار السائل وزجره وتعريف قبح ما أتاه وإنه قد كان واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى وطلب من يستحق ذلك وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فإن لم يعرفه فبوسعه أن يمتنع من الفتوى معه خوفا مما قلناه قال وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها والأولى في هذه المواضع أن يشار على صاحبها بإبدالها فإن أبى ذلك أجابه شفاها
قلت وإذا خاف فتنة من الضرب على فتيا العادم للأهلية ولم يكن خطأ عدل إلى الامتناع من الفتيا معه وإن غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه أو
تلبيس أو غير ذلك بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا معه ضارا بالمستفتيين فليفت معه فإن ذلك أهون الضررين وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله والله أعلم
الرابعة عشرة إذا ظهر له أن الجواب على خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتبه في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب
حدثني الشيخ أبو المظفر عبد الرحيم بن الحافظ أبي سعيد عبد الكريم السمعاني بمدينة مرو عن والده قال سمعت أبا السعادات المبارك بن الحسين الشاهد بواسط يقول دخلت على قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني وكان معي رقعة فيها مسألة فسألته الجواب عنها فأخذ الرقعة وشرع يكتب الجواب وكنت أدعو له فقال المفتي إذا وافق جوابه غرض المستفتى يدعو له وإذا لم يوافق سكت ثم قال غرم شيخنا أبو الحسن بن القدوري لرجل ورقة أفتى يوما في مسألة استفتي عنها فأتفق الجواب على خلاف غرض المستفتي فقال له يا شيخ اتلفت ورقتي قال فأخرج شيخنا ورقة من عنده وقال هاك عوضها والله أعلم
الخامسة عشرة إذا وجد في رقعة الاستفتاء فتيا غيره وهي خطأ قطعا وإما خطأ مطلقا لمخالفتها الدليل القاطع وإما خطأ على مذهب من يفتي ذلك الغير على مذهبه قطعا فلا يجوز له الإمتناع من الإفتاء فهو كالتنبيه على خطاياها إذا لم يكفه ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره أو الإبدال وتقطيع الرقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ ثم إذا كان المخطىء أهلا للفتوى فحسن أن يعاد إليه بإذن صاحبها وأما إذا وجد فيها فتيا ممن هو أهل للفتوى وهو على خلاف ما يراه هو غير أنه لا يقطع بخطاياها فليقتصر على أن يكتب جواب نفسه ولا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا إعتراض عليه
وبلغنا أن الملك الملقب بجلال الدولة من ملوك الديلم المتسلطين على
الخلفاء لما زيد في ألقابه شاهان شاه الأعظم ملك الملوك وخطب له بذلك ببغداد على المنبر جرى في ذلك إستفتاء فقهاء بغداد في جواز ذلك وذلك في سنة تسع وعشرين وأربع مائة فأفتى غير واحد من أئمة العصر بجواز ذلك منهم القاضي الإمام أبو الطيب الطبري وأبو القاسم الكرخي وابن البيضاوي والقاضي أبو عبد الله الصيمري الحنفي وأبو محمد التميمي الحنبلي ولم يفت معهم القاضي أبو الحسن الماوردي فكتب إليه كاتب الخليفة يخصه بالإستفتاء في ذلك فأفتى بأن ذلك لا يجوز ولقد أصاب في تحريمه ذلك وأخطاوا في تجويزه فلما وقفوا على جوابه تصدوا لنقضه وأطال القاضيان أبو الطيب الطبري وأبو عبد الله الصيمري في التشنيع عليه فأجاب الماوردي عن كلاهما بجواب طويل يذكر فيه أنهما أخطا من وجوه منها أنه لا يسوغ لمفت إذا أفتى أن يتعرض لجواب غيره برد ولا بخطبة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة فقد يفتي بعض أصحاب الشافعي بما يخالفهم فيه أصحاب أبي حنيفة فلا يتعرض أحد منهم لرد على صاحبه والله أعلم
السادسة عشرة إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلا ولم يحضر صاحب الواقعة فعن القاضي أبي القاسم الصيمري الشافعي رحمه الله أن له أن يكتب يزاد في الشرح لنجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب عنه وقال بعضهم لا يكتب شيئا أصلا قال ورأيت بعضهم كتب في مثل هذا يحضر السائل لنخاطبه شفاها وإذا اشتملت الرقعة على مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كلها ولم يزد الجواب عن بعضها أو احتاج في بعضها إلى مطالعة رأيه أو كتبه سكت عن ذلك البعض وأجاب عن البعض الآخر
وعن الصيمري أنه يقول في جوابه فأما باقي المسائل قلنا فيه نظر أو يقول مطالعة أو يقول زيادة تأمل
قلت وإذا فهم من السؤال صورة وهو يحتمل غيرها فلينهر عليها في
أول جوابه فيقول إن كان قد قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا أو ما أشبه هذا ثم يذكر حكم ذلك والله أعلم
السابعة عشرة ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا مثل أن يسئل عن عدة الآية وحسن أن يكتب في فتواه قال الله تبارك وتعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر أو يسأل هل يطهر جلد الميتة بالدباغ فيكتب نعم يطهر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
( أيما إهاب دبغ فقد طهر )
وأما الأقيسة وشبهها فلا ينبغي له ذكر شيء منها وفيما وجدناه عن الصيمري قال لم تجر العادة على أن يذكر في فتواه طريق الإجتهاد ولا وجه القياس والإستدلال اللهم إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاض فيومىء فيها طريق الإجتهاد ويلوح بالنكثة التي عليها بني الجواب أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلظ فيها عنده فيلوح بالنكثة التي أوجب خلافه ليقم عذره في مخالفته قلت وكذلك لو كان فيما يفتي به غموض فحسن أن يلوح بحجته وهذا التفصيل أولى مما سبق قريبا ذكره عن القاضي الماوردي من إطلاقه القول بالمنع من تعرضه للإحتجاج وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول هذا اجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافا أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو فقد أثم وفسق أو على ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما اشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال والله أعلم
الثامنة عشرة يجب على المفتي عند اجتماع الرقاع بحضرته أن يقدم الأسبق فالاسبق كما يفعله القاضي عند اجتماع الخصوم وذلك فيما يجب عليه الإفتاء وعند التساوي أو الجهل بالسابق يقدم بالقرعة والصحيح أنه يجوز له تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله وفي تأخيره تخلفه عن رفقته على من سبقهما إلا إذا أكثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم من تقديمهم ضرر كثير فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعه ثم لا يقدم من يقدمه إلا فتيا واحدة والله أعلم
التاسعة عشرة ليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو مع خصمه ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويسكت عما هو عليه وليس له أن يبتدىء في مسائل الدعاوى والبينات يذكر وجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال بأي شيء تندفع دعوى كذا أو كذا وبينة كذا أو كذا لم يجبه كي لا يتوصل بذلك إلى إبطال حق وله أن يسأل عن حاله فيما ادعي عليه فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع والله أعلم
العشرون ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلا ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل ويقولوا فيها وفيما ورد من الآيات والاخبار المتشابهات أن الثابت فيها في نفس الأمر كل ما هو لائق فيها بجلال الله وكماله وتقديسه المطلقين وذلك هو معتقدنا فيها وليس علينا تفصيله وتعيينه وليس البحث عنه من شأننا بل نكل علم تفصيله إلى الله تبارك وتعالى ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا فهذا ونحوه عن أئمة الفتوى هو الصواب في ذلك وهو سبيل سلف الأمة وأئمة المذاهب المعتبرة وأكابر الفقهاء والصالحين وهو أصوب وأسلم للعامة وأشباههم ممن يدغل قلبه بالخوض في ذلك ومن كان منهم إعتقد إعتقادا باطلا تفصيلا
ففي إلزامه بهذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزيره ضبيع بن عسل الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة وبأنها أسلم لمن سلمت له وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها وذكر شيخه الشيخ أبو المعالي في كتابه الغياثي أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع العامة من الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك واستفتى الغزالي في كلام الله تبارك وتعالى وكان من جوابه وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين وإنما هو من المضلين ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يعرفون السباحة إلى خوض البحر ومن يدعو الزمن المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب وقال في رسالة له الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الإعصار إلا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما أنزله الله تعالى وأخبر به رسوله صلى الله عليه و سلم من غير بحث وتفتيش والإشتغال بالفتوى ففيه شغل شاغل وفي كتاب أدب المفتي والمستفتي للصيمري أبي القاسم أن مما أجمع عليه أهل الفتوى أن من كان منسوبا بالفتوى في الفقه لم ينبغ أن يضع حظه بفتوى في مسئلة من الكلام كالقضاء والقدر والرؤية وخلق القرآن وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة
وحكى أبو عمر بن عبد البر الفقيه الحافظ الأندلسي الامتناع من
الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى وقال إنما خالف ذلك أهل البدع قلت فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلا وذلك بأن يكون جوابها مختصرا مفهوما فيما ليس له أطراف يتجاذبها المتنازعون والسؤال عنه صادر من مسترشد خاص منقاد أو من عامة قليلة التنازع والمماراة والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا وعلى هذا أو نحوه يخرج ما جاء عن بعض السلف من بعض الفتوى في بعض المسائل الكلامية وذلك منهم قليل نادر والله أعلم
القول في صفة المستفتي وأحكامه وآدابه
أما صفته فكل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مستفت ومقلد لمن يفتيه وحد التقليد في اختيارنا وتحريرنا قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه تعلم حكمها وفي أحكامه وآدابه مسائل
الأولى إختلفوا في أنه هل يجب عليه البحث والاجتهاد عن أعيان المفتين وليس هذا الخلاف على الإطلاق فإنه يجب عليه قطعا البحث الذي يعرف به صلاحية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن قد تقدمت معرفته بذلك ولا
يجوز له استفتاء كل من اعتزى إلى العلم أو انتصب في منصب التدريس أو غيره من مناصب أهل العلم بمجرد ذلك ويجوز له استفتاء من تواتر بين الناس واستفاض فيهم كونه أهلا للفتوى
وعند بعض أصحابنا المتأخرين إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لا يشهد له بذلك والتواتر لأن التواتر لا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس
ويجوز له أيضا استفتاء من أخبر المشهور المذكور عن أهليته ولا ينبغي أن يكتفي في هذه الازمان بمجرد تصديه للفتوى واشتهاره بمباشرتها لا بأهليته لها
وقد أطلق الشيخ أبو إسحق الشيرازي وغيره أن يقبل فيه خبر العدل الواحد وينبغي أن يشترط فيه أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملبس من غيره ولا يعتمد في ذلك على خبر احاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك إذا عرفت هذا فإذا اجتمع إثنان أو أكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعيانهم والبحث عن الأعلم الأودع الأوثق ليقلده دون غيره فهذا فيه وجهان
أحدهما وهو في طريقة العراق منسوب إلى أكثر أصحابنا وهو الصحيح فيها أنه لا يجب ذلك وله استفتاء من شاء منهم لأن الجميع أهل وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامي
والثاني يجب عليه ذلك وهو قول ابن سريج وإختيار القفال المروزي والصحيح عند صاحبه القاضي حسين لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال فلم يسقط عنه
والأول أصح وهو الظاهر من حال الأولين ولكن متى اطلع على الأوثق منهما فالأظهر أنه يلزمه تقليده دون الآخر كما وجب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايين فعلى هذا يلزمه تقليد الاورع من العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلد الأعلم على الأصح والله أعلم
الثانية في جواز تقليد الميت وجهان
أحدهما لا يجوز لأن أهليته زالت لموته فهو كما لو فسق
والصحيح الذي عليه العمل الجواز لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها ولهذا يعتد بها بعدهم في الإجماع والخلاف وموت الشاهد قبل الحكم لا يمنع من الحكم بشهادته بخلاف الفسق والقول بالأول يجر ضبطا في الأعصار المتأخرة
الثالثة هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء لينظر إن كان منتسبا إلى مذهب معين بنينا ذلك على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن للعامي هل له مذهب أولا
أحدهما أنه لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن يعرف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء شافعي أو حنفي أو غيرهما
والثاني وهو الأصح عند القفال المروزي أن له مذهبا لأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق ورجحه على غيره فعليه الوفاء بموجب إعتقاده ذلك فإن كان شافعيا لم يكن له أن يستفتي حنفيا ولا يخالف إمامه فقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه وإن لم يكن قد انتسب إلى مذهب معين فنبني ذلك فيه على وجهين حكاهما ابن برهان في أن العامي هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه
أحدهما ألا يلزمه ذلك كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة أن يخص العامي عالما معينا بتقليده
قلت فعلى هذا هل له أن يستفتي على أي مذهب شاء أو يلزمه أن يبحث حتى يعلم علم مثله أسد المذاهب وأصحها أصلا فيستفتي أهله فيه وجهان مذكوران كالوجهين اللذين سبقا في إلزامه بالبحث عن الأعلم والأوثق من المفتين
والثاني يلزمه ذلك وبه قطع الكيا أبو الحسن وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأرباب سائر العلوم ووجهه أنه لو جاز له اتباع اي مذهب شاء لأفضى إلى أن يتلفظ رخص المذاهب متبعا هواه ومتخيرا بين التحريم والتجويز في ذلك الخلاف رتبة التكليف بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث حينئذ قد مهدت وعرفت فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين وهذا أولى بإيجاب الاجتهاد فيه على العامي مما سبق ذكره في الاستفتاء ونحن نمهد له طريقا يسلكه في اجتهاده سهلا فنقول
أولا ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي والميل إلى ما وجد عليه أباه وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة وغيرهم من الأولين وإن كانوا أعلم وأعلى درجة من بعدهم لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه وليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين لمذاهب الصحابة والتابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالك وأبي حنيفة وغيرهما ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلاء الأئمة ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم فسبرها وحبرها وانتقدها واختار أرجحها ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التأصيل فتفرغ للاختيار والترجيح والتنقيح والتكميل مع كمال آليته وبراعته في العلوم وترجحه
في ذلك على من سبقه ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد وهذا مع ما فيه الإنصاف والسلامة من القدح في أحد الأئمة جلي واضح إذا تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب الشافعي والتمذهب والله أعلم
الرابعة إذا اختلف عليه فتوى مفتيين فللأصحاب فيه أوجه
أحدها أنه يأخذ بأغلظها فيأخذ بالحظر دون الإباحة لأن أحوط ولأن الحق ثقيل
الثاني يأخذ بأخفها لأنه صلى الله عليه و سلم بعث بالحنيفية السمحة السهلة
والثالث يجتهد في الأوثق فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق شرحه واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي على مثله في القبلة
والرابع يسأل مفتيا آخر فيعمل بفتوى من يوافقه
والخامس يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء وهو الصحيح عند الشيخ أبي إسحق الشيرازي واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه والمختار أن عليه أن يجتهد ويبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض وقد وقع وليس كما سبق ذكره من الترجيح المختلف فيه عند الاستفتاء وعند هذا البحث عن الأوثق من المفتيين فيعمل بفتياه
فإن لم يترجح أحدهما عنده استفتى آخر وعمل بفتوى من وافقه الآخر
فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في الحظر والإباحة وقبل العمل اختار جانب الحظر وترك غيره فإنه أحوط
وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما وإن ابنا التخيير في غيره لأنه ضرورة في صورة نادرة ثم إنا نخاطب بما ذكرناه المفتيين
وأما العامي الذي وقع له ذلك فحكمه أن يسأل عن ذلك المفتيين أو مفتيا
آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به في ذلك
فهذا جامع لمحاسن الوجوه المذكورة ومنصب في قالب التحقيق والله أعلم
الخامسة قال أبو المظفر السمعاني إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه ويجوز أن يقال أنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل يلزمه إذا وقع في نفسه صحته وحقيقته قال وهذا أولى الأوجه
قلت لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه إذا أفتاه هو مختلف فيه خيره بين أن يقبل منه أو من غيره ثم اختار هو أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتيين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده ولا يجب تخييره والذي تقتضيه القواعد أن يفصل فيقول إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر لزمه الأخذ بفتياه ولا يتوقف ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل ولا بغيره ولا يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته في نفس الامر فإن فرصة التقليد كما عرف وإن وجد مفتيا آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به بناء على الأصح تعيينه كما سبق وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه لمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ولا يعلم أتفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتفاق وحكم به عليه حاكم لزمه حنئذ والله أعلم
السادسة إذا استفتي فأفتى ثم حدثت له تلك الحادثة مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال
فيه وجهان
أحدهما يلزمه لجواز تغيير رأي المفتي
والثاني لا يلزمه وهو الأصح لأنه قد عرف الحكم والأصل استمرار المفتي عليه وخصص صاحب الشامل الخلاف فيما إذا قلد حيا وقع فيما
إذا كان ذلك خبرا عن ميت بأنه لا يلزمه ولا يختص ذلك كما قاله فإن المفتي على مذهب الميت قد تغير جوابه على مذهبه والله أعلم
السابعة له أن يستفتي بنفسه وله أن يقلد ثقة يقبل خبره ليستفتي له ويجوز له الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلك الجواب بخطه والله أعلم
الثامنة ينبغي للمستفتي أن يحفظ الأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وسؤاله ونحو ذلك ولا يوميء بيده في وجهه ولا يقول له ما تحفظ في كذا وكذا أو ما مذهب إمامك الشافعي في كذا وكذا ولا يقول إذا أجابه هكذا قلت أنا وكذا وقع لي ولا يقل له أفتاني فلان أو أفتاني غيرك كذا وكذا ولا يقول إذا استفتي في رقعة إن كان جوابك موافقا لما أجاب فيه فاكتبه وإلا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائم أو مستوفزا أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب ويبدأ بالأسن الأعلم من المفتيين وبالأولى فالأولى على ما سبق بيانه
وقال الصيمري إذا أراد جمع الجوابات في رقعة قدم الأسن والأعلم وإن أراد إفراد الجوابات في رقاع فلا يبالي بأيهم بدأ والله أعلم
التاسعة ينبغي أن تكون رقعة الإستفتاء واسعة ليتمكن المستفتي من استيفاء الجواب فإنه إذا ضاق البياض آختصر فأضر بذلك بالسائل ولا يدع الدعاء لمن يفتي إما خاصا إن خص واحدا باستفتائه وإما عاما إن استفتى الفقهاء مطلقا وكان بعضهم يختار أن يدفع الرقعة إلى المفتي منشورة ولا يحوجه إلى نشرها ويأخذها من يده إذا أفتى ولا يحوجه إلى طيها وينبغي أن يكون كاتب الاستفتاء ممن يحسن السؤال ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف كنحو ما حكي أن مستفتيا استفتى ببغداد في رقعة عمن قال أنت طالق إن ثم أمسك عن ذكر الشرط لأمر لحقه فقال ما تقول السادة الفقهاء في رجل قال لإمرأته أنت طالق إن ثم وقف عند إن يعني ثم
أمسك ووقف عند إن فتصحف ذلك على الفقهاء لكون السؤال عريا عن الضبط واعتقدوه تعليقا للطلاق على تمام وقف رجل اسمه عبدان فقالوا إن ثم وقف عبدان طلقت وإن لم يتم الوقف فلا طلاق حتى حملت إلى أبي الحسن الكرخي الحنفي وقيل إلى أبي مجالد الضرير فتنبه لحقيقة الأمر فيها فأجاب على ذلك فاستحسن منه
قال الصيمري ويحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وقد كان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده والله أعلم
العاشرة لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه به ولا يقول له لم وكيف فإن أحب أن تسكن نفسه لسماع الحجة في ذلك سأل عنها في مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة عن الحجة وذكر السمعاني أنه لا يمنع من أن يطالب المفتي بالدليل لإجل احتياطه لنفسه وأنه يلزمه أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به ولا يلزمه ذلك إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه العامي والله أعلم
انتهى
نجز كتاب الفتوى تصنيف الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين المعروف بابن الصلاح تغمده الله برحمته وأسكنه فردوس جنته وافق الفراغ من نسخه بعون الله تعالى في يوم الثلاثاء وقت آذان العصر في عشرين شهر رجب أحد الأشهر الحرم عام إحدى وسبعين وسبعمائة على يد العبد الفقير الراجي عفو ربه القدير المعترف بالذنب والتقصير محمد بن القفال متخير لي القسم الشافعي مذهبا عاملهما الله سبحانه وتعالى بلطفه الخفي وغفر لهما ولطف بهما وأحسن عافيتهما في الدنيا والأخرة
بسم الله الرحمن الرحيم وقل رب زدني علما
بيان صحة الفتاوي التي صدرت من الشيخ ابن الصلاح
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسائر النبيين والكل وسائر الصالحين اللهم الهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا ومن شر الأشرار وكيد الفجار وارزقنا طهارة الأسرار وموافقة الأبرار وأعذنا من أن نقول بغير علم أو نسعى في جهل أو مأثم
هذا بيان صحة الفتاوي التي صدرت من الشيخ الإمام الحافظ ناصر الشريعة بقية السلف تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن الصلاح رضي الله عنه وانتصب للشناعة عليه فيها الشخص المعروف بأذية المؤمنين المتصدي للطعن في الأعيان والقضاة والمفتين اعتنى بهما من تلامذته وأصحابه من طلب الفائدة ورجا الأجر والمثوبة لما رأى المشنع عليه قد أفرط في ظلمه وطغى وأسرف في الشناعة عليه وبغى ووسم صوابه بسمة الخطأ وجعل يقول هذا يضل الناس وأنا متعين لبيان ضلاله وكشف حاله فكان لكل وصمة بالعلم والدين وأهلها شذت في هذا البلد الجليل حيث تمكن فيه مثل هذا الرجل من أن يتسلط وينتصب في منصب الأخذ والاعتراض على المفتين ويسكت عنه حتى تمادى في عدوانه الفاحش ويصول بالباطل على حق دلائله ظاهرة وكتب الأئمة والمساطير موضحة له وحاصرة
الشخص الذي افتظ من البغي عليه حاضر ناهض بالحجة كاشف للشبهة تتيسر مراجعته واستيضاح الأمر من جهته واستتابته ثم شواهد حاله قبل ذلك كافية في أن لا يحتمل من التشنيع عليه ما فعله من حقه بمجرد الدعوى من غير مراجعة المدعى عليه ومساءلته عما عنده
فهذا قول وجيز كاف إن شاء الله تعالى في إيضاح بطلان ما زعم المشنع قاطع العذر من آغتر به موجه عليه تعزيزات كثيرة على قدر شناعته وإفحاشه في الزمان المتطاول ولا سبيل له وما شاء الله تعالى كان إلى الجواب وإسقاط التعزير عنه في شيء من ذلك فإنه بعد أن نبين إن شاء الله تعالى بالبيان الواضح أن ما زعم أنه خطأ ليس بخطأ لا في نفس الأمر ولا في المذهب الذي يفتي عليه من نسبه إلى الخطأ فغايته أن يذكر في بعض ذلك ما يكون نصرة وتوجيها للحكم الآخر بحيث لا يخرج عن أن يكون الطرفان من قبيل الوجهين والمذهبين اللذين يسوغ فيهما الاختلاف ويتجاذب فيهما المختلفون من غير أن يجوز فيه التشنيع من بعض على بعض والتخطئة والإيذاء وذلك واضح للناظر في ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل مما عظم فيه تشنيعه وجاهر بالقبيح والإزراء استفتاء مضمونه أن شخصين تنازعا في قوله صلى الله عليه و سلم لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
الشخص الذي افتظ من البغي عليه حاضر ناهض بالحجة كاشف للشبهة تتيسر مراجعته واستيضاح الأمر من جهته واستتابته ثم شواهد حاله قبل ذلك كافية في أن لا يحتمل من التشنيع عليه ما فعله من حقه بمجرد الدعوى من غير مراجعة المدعى عليه ومساءلته عما عنده
فهذا قول وجيز كاف إن شاء الله تعالى في إيضاح بطلان ما زعم المشنع قاطع العذر من آغتر به موجه عليه تعزيزات كثيرة على قدر شناعته وإفحاشه في الزمان المتطاول ولا سبيل له وما شاء الله تعالى كان إلى الجواب وإسقاط التعزير عنه في شيء من ذلك فإنه بعد أن نبين إن شاء الله تعالى بالبيان الواضح أن ما زعم أنه خطأ ليس بخطأ لا في نفس الأمر ولا في المذهب الذي يفتي عليه من نسبه إلى الخطأ فغايته أن يذكر في بعض ذلك ما يكون نصرة وتوجيها للحكم الآخر بحيث لا يخرج عن أن يكون الطرفان من قبيل الوجهين والمذهبين اللذين يسوغ فيهما الاختلاف ويتجاذب فيهما المختلفون من غير أن يجوز فيه التشنيع من بعض على بعض والتخطئة والإيذاء وذلك واضح للناظر في ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل مما عظم فيه تشنيعه وجاهر بالقبيح والإزراء استفتاء مضمونه أن شخصين تنازعا في قوله صلى الله عليه و سلم لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
فقال أحدهما إنما أراد به في الدنيا
وقال الآخر إنما أراد به في الآخرة فمن المصيب منهما ومن المخطىء فكتب هو أخطأ من زعم أن ذلك في الدنيا وكتب شيخنا لم يصب واحد منهما بل ذلك في الدنيا والآخرة معا فإنه عبارة عن الرضا به والقبول وذلك ثابت في الدنيا والآخرة والله أعلم
فعاد هو وكتب في الورقة ولم يكن قد بقي في وجهها بياض فكتب على ظهرها من أطلق ما قيده رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو مخطىء جاهل بالسنة إذا صح عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله
من ريح المسك يوم القيامة بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وإذا اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم ضلوا وأضلوا والله أعلم
وصال بلسانه عليه فأفحش ونادى عليه بأنه قد ارتكب فاحشة من فواحش الجهل والخطأ ولم يدر المسكين أنه قد تناول بما قاله من الفحش أئمة العلماء الشارحين للحديث وأن ذلك منه زيغ عن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه عدم فهم الذي احتج من قوله يوم القيامة الوارد في بعض روايات الحديث إما أن ذلك منه زيغ عن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا المسند الصحيح المؤلف على التقاسيم والأنواع للإمام أبي حاتم بن حبان البستي أحد أئمة الحديث فيه باب في كون ذلك يوم القيامة وباب في كونه أيضا في الدنيا وروي من هذا الباب بإسناده الثابت من بعض طرق هذا الحديث أنه صلى الله عليه و سلم قال لخلوف فم الصائم حين يخلف أطيب عند الله من ريح المسك
وروى أيضا الإمام الحسن بن سفيان النسوي صاحب المسند وغيره في إسناده وتكلم في توثيق رجاله عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا وقال وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك
وروى هذا الحديث الفقيه الحافظ أبو بكر السمعاني رحمه الله في أماليه وأملى فيه مجلسا كبيرا وقال هذا حديث حسن
فكل واحد من الحديثين مصرح بأنه وقت وجود الخلوف في دار الدنيا بتحقيق الوصف بكونه أطيب عند الله من ريح المسك وأما بيان أنه تناول بما كتبه وقاله من الرد والتشنيع على من تقدم من العلماء الشارحين للحديث لأن الذي رده من قول شيخنا هو الذي قال العلماء شرقا وغربا على اختلاف مذاهبهم
هذا كتاب الإعلام من شرح صحيح البخاري تأليف الإمام أبي سليمان الخطابي الشافعي قد قال فيه طيبه عند الله ورضاه به وثناؤه عليه
وقال أبو عمر بن عبد البر إمام المغرب في التمهيد في شرح الموطأ وهو من أكبر الكتب المؤلفة في شرح الحديث أراد صلى الله عليه و سلم بذلك أنه أزكى عند الله تعالى وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك
وفي شرح السنة للإمام الحسين البغوي صاحب التهذيب أن معناه الثناء على الصائم والرضى بفعله
وهكذا قال الإمام القدوري إمام أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه قال في كتابه في الخلاف معناه أنه عند الله أفضل من الرائحة الطيبة
ومثل ذلك ذكر البوني من متقدمي أئمة المالكية في شرحه للموطأ
وكذا ذكر الإمام أبو عثمان الصابوني والإمام أبو بكر السمعاني والإمام أبو حفص بن الصفار الشافعيون في أماليهم
وهكذا شرحه القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه عارضة الأحوذي في شرح الترمذي وغير هؤلاء ممن يمل تعدادهم
فهؤلاء أئمة المسلمين شرقا وغربا لم يذكر أحد منهم سوى ما ذكره شيخنا ولا أورد أحد منهم وجها مثل ما قاله هذا المشنع فضلا عن أن يقولوا ما سواه خطأ كما زعمه مع أن كتبهم مبسوطة جامعة للوجوه المشهورة والغريبة ومع أن الرواية التي فيها زيادة قوله صلى الله عليه و سلم يوم القيامة معروفة موجودة في الصحيح الذي بعض تصانيفهم المذكورة شرح له فلم يحملوه على أن ذلك مخصوص بالآخرة يوجد فيها محسوسا نحو ما ورد في دم الشهداء كما زعم هذا المتعسف بل قطعوا القول بأن ذلك عبارة عن الرضى والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة غير مخصوص الوجود بواحدة منهما
وقد أخبر من يوثق بخبره أنه لما أخبر بقول العلماء في ذلك قال أخطأوا كلهم
وأما بيان أنه لم يفهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم يوم القيامة فنقول لو لم نحط بما ذكره من الحديث وأقاويل العلماء لم يكن لنا أن نصير إلى ما صار إليه من القول بانتفاء ذلك في الدنيا أخذا مما ذكره فإنه من باب التمسك بالمفهوم والاستدلال بالتخصيص والقيد على النفي عما عداه وشرط ذلك عند كل من يقول به أن لا يظهر لتخصيص الوصف المذكور فائدة وسبب غير انتفاء ذلك عما عداه ولهذا لم يجعلوا قوله تبارك وتعالى ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم دليلا على انتفاء التحريم في الربيبة التي لا تكون في الحجر لما ظهر للتخصيص سبب
آخر وهو كونه الغالب الأكثر وأمثال ذلك في الكتاب والسنة لا يحصى وهذا الذي نحن فيه من هذا الجنس فإن لتخصيص ذلك بيوم القيامة سببا ظاهرا غير انتفائه عن غير يوم القيامة وهو كون القيامة يوم الجزاء واليوم الذي يوفى فيه جزاء الخلوف الجزاء الأوفى وتظهر فيه فضيلته في الميزان على فضيلة المسك الذي يستعمله العبد دفعا للرائحة الكريهة طلبا بذلك رضى الرب تبارك وتعالى حيث يكون دافع الرائحة الكريهة وجلب الرائحة الطيبة مأمورا به كما في المساجد والصلوات والعبادات فأعلم صلى الله عليه و سلم أن ثقل الخلوف في الميزان يوم القيامة أكثر من ثقل المسك إذا استعمله العبد طلبا لمرضاة الرب تعالى فخص يوم القيامة بالذكر في بعض الروايات من أجل ذلك وأطلق ولم يخص في أكثر الروايات نظرا إلى أصل فضيلته على المسك عند الله وقبوله ورضاه به الذي هو مطلق ثابت في الدارين
ونظير قوله تبارك وتعالى أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير فقيد بيوم القيامة كونه خبيرا بهم مع أنه سبحانه وتعالى خبير بهم مطلقا لكن خص يوم القيامة بالذكر لأنه يوم المجازاة على أعمالهم التي هو بها سبحانه خبير عليم وهذا واضح لا غبار عليه ثم إني أقول لو كان ممن يعرف مراتب الأدلة لم يعمل هذا كله بسبب دليل المفهوم الذي هو سلم شرطة له لكان مما لا يقوى على ما يعترف به وآثار ذلك تظهر في علم أصول الفقه وقد أبطل دلالته الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه وبعض أصحابنا وغيرهم
وعند هذا نقول كما أنه لم يسلم من شتيمته الفاحشة العلماء الشارحون للحديث على ما تقدم بيانه فكذلك لم يسلم منها من وجه آخر الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه فإنه قد قال من أطلق ما قيده رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو مخطىء جاهل بالسنة إلى آخر قوله وأبو حنيفة لما كان نافيا دلالة المفهوم أطلق ما قيده رسول الله صلى الله عليه و سلم في مواضع كثيرة منها قال صلى الله عليه و سلم من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها
للبائع وقال أبو حنيفة رضي الله عنه هي للبائع بعد أن تؤبر وقبل أن تؤبر فقد أطلق ما قيده رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أنه لا يرى أن ذلك متوقف على وجود منطوق نص آخر يوجب الإطلاق على ظهور سبب آخر للتقييد غير اختصاص الحكم وما نحن فيه قد بينا فيه وجود نص آخر يوجب الإطلاق وظهور سبب آخر للتقييد والإجماع منعقد والحالة هذه على وجوب إطلاق ما قيد فإذا ما أتي به فهو إلى أولئك الأئمة أسبق وأسرع فنسأل الله العافية والعفو
مسألة أخرى كتب فيها أيضا تحت جواب شيخنا قوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وصورة سؤالها إذا كان لجماعة ملك مشاع وفي يد كل واحد منهم قدر حصته من غير قسمة جرت بينهم فغصب من واحد منهم بعض ما في يده فهل يكون الغصب عليه بانفراده أو يكون على الجميع بقدر حصصهم
فكتب هو إذا خص واحدا بالغصب فلا يكون ذلك غصبا من غيره والله أعلم
وكتب شيخنا إذا غصب من أحدهم قطعة معينة مما في يده فالغصب واقع على الجميع ضرورة الاشاعة في تلك القطعة المغصوبة فتكون والحالة هذه ذاهبة من الجميع والله أعلم
فوقعت الرقعة مرة ثانية في يده فكتب تحت جواب شيخنا بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ثم شنع وبعض أصحابنا يسمع وكان من حقه لما وقف على جواب شيخنا أن يتنبه ويصلح جواب نفسه ولكن أبى إلا التمادي في الباطل فنقول لم يترك شيخنا موافقته في جوابه لعدم الإحاطة بأنه إذا خص واحدا
بالغصب اختص به فإن هذا ظاهر لا يخفى وإنما عدل عنه لأنه جواب فاسد من حيث أنه ليس جوابا للواقعة المسؤول عنها وقد صرح بهذا المستفتي السائل ولم يصرح به فلفظ الاستفتاء كاف في إدراك ذلك
فإن المفهوم منه أن قطعة معينة أخذت من يد أحدهم غصبا فتكون لا محالة مغصوبة من الجميع ولهذا لما عرض ذلك في رقعة أخرى على المشايخ كتبوا الغصب واقع على الجميع ولم يحتاجوا إلى أن يعلقوا كلامهم بصيغة الشرط وإنما احتاج شيخنا إلى التعليق بصيغة الشرط فقال إذا غصب من أحدهم قطعة معينة فالغصب واقع على الجميع لأن جواب ذلك كان في الرقعة التي كتب فيها شيخنا فأوضح بذلك صورة الواقعة المسؤول عنها ولو أن هذا الرجل فصل وأورد في ضمن التفصيل ما ذكره من صورة التخصيص لكان جوابه صحيحا أما الاقتصار على صورة نادرة ليست بالسابقة إلى الفهم من لفظ الاستفتاء كما فعل فخطأ والجواب بخلاف الاقتصار على صورة هي السابقة إلى الفهم فإن ذلك سائغ معتاد بين أهل الفتوى والله أعلم
مسألة أخرى استفتي شيخنا في الذين يصلون صلاة الجمعة خارج باب الجامع الشرقي تحت الساعات قدام الباب الذي يلي مشهد أبي بكر رضي الله عنه فأفتاهم بمذهب الشافعي رضي الله عنه وهو معروف عند أهله بأن صلاتهم باطلة فوقف ذلك الرجل هناك وخطأ شيخنا وشنع وأعلن وتقلدهم من ذمته صحة صلاتهم وقال يبسط لي في هذا المكان حتى أصلي الجمعة فيه وأظن أنه فعل ذلك واعتقد أنه قد وقع دون غيره على ما هو المذهب من ذلك بإدراكه الفائق وأخذ يحتج بمسألة خروج المعتكف إلى المنارة المتصلة بالمسجد التي بابها فيه للأذان فيها وقال قولوا له يطالع هذا من كتاب الاعتكاف من مجموع المحاملي رحمه الله فنقول هذه المسألة لها ولنظائرها وأصولها وفروعها باب معروف خلاه وذهب يتعرف حكمها من باب آخر بعيد مباين والمسألة في بابها منصوصة مسطورة مشهورة في كتب الأئمة العراقيين والخراسانيين منها الشامل والحاوي وكتاب
العدة للطبري في شرح الإبانة ومن غيرها وهي من الوسيط مسطورة في بعض صورها بل هي منصوصة للشافعي صاحب المذهب رضي الله عنه مفروضة في بعض صورها والفقيه يدركها من ذلك في جميع صورها لما يعلمه من شمول عليها فنكتفي بنقل نص المسألة من كتاب الشامل كيلا تطول قال فيه إذا كان باب المسجد مفتوحا فوقف مأموم بحذاء الباب فصلاته صحيحة وكذلك إن صلى قوم عن يمينه أو شماله أو ورائه فإن وقف بين يدي هذا الصف صف آخر لا يشاهدون من في المسجد لهم تصح صلاتهم على المذهب المشهور هذا كلامه ولم يذكر دليله لوضوحه والدليل معروف وهو أن من وقف خارجا قدام الباب فلا اتصال بينه وبين من في المسجد لأنه بينه وبينهم حائلا موضوعا للفصل وهو جدار المسجد المانع من الاستطراق والمشاهدة على ما تقرر من أصل مذهب الشافعي رضي الله عنه من أن جدار المسجد حائل قاطع للاتصال وأصله ما سلمه من خالفه وهو ما إذا وليه شارع بعد هذا فلو صحت صلاة هؤلاء لكان ذلك بطريق التبعية لمن حصل له الاتصال وهو من وقف بحذاء الباب وتبعيتهم لهم قد انتفت لتقدمهم عليهم كما انقطعت تبعية المأموم بتقدمه على الإمام بخلاف الصف الواقف خارج الباب والصف الممتد على الباب المتصل بمن هو في المسجد وقول صاحب الشامل على المذهب المشهور ليس إشارة إلى وجه غريب موافق لما قاله هذا المعترض وإنما هو إشارة إلى الوجه المحكي عن أبي إسحاق المروزي من أن جدار المسجد ليس بحائل مانع من الصحبة من غير فرق بين الجهة التي فيها الباب والجهة التي لا باب فيها وهو بعيد في المذهب قال صاحب الشامل ولا يصح عن أبي إسحاق أما الذي ذهب إليه المعترض من إلحاق هذا بالمعتكف في خروجه من المسجد للأذان إلى المنارة المتصلة به التي بابها إلى المسجد فليس وجها في المذهب أصلا ومن كان فقيها قد أخذ عن المشايخ لا يخفى عليه تباعد البابين لأن ذلك من الأشياء التي جاز للمعتكتف فيها الخروج من المسجد إلى ما ليس له حكم لحاجات وأسباب متعددة أحصاها بعض المصنفين سبعة عشر وجعل هذا أحدهما والسبب فيه نشأ من كونه خرج من المسجد للأذان الذي هو شعار المسجد إلى المنارة المبنية لإقامة شعار
المسجد فجعل هذا من جملة ما استفتي من أنواع الخروج وليس ذلك إثباتا لحكم المسجد للمنارة فإنه لا يجوز الاعتكاف فيها وفي حريم المسجد قطعا به ولا يثبت لذلك أيضا حكم المسجد من تحريم المكث على الجنب والحائض وهذا مبين في نهاية المطلب وغيرها كلام المحاملي عند من أخذ هذه المسألة من مظانها وفهمها تنزل على وفاق ما ذكره غيره فكلام الأئمة يفسر بعضه بعضا
وإذا تأمل الفقيه كلام المحاملي أدرك منه ذلك فقد أتى فيما إذا كانت المنارة منقطعة عن المسجد بما يفهم الفقيه من أنه لم يزد على أن جعل الخارج إلى المنارة في حكم من لم يخرج من المسجد في بقاء اعتكافه كما قال غيره والله أعلم ثم إن هذا المعترض لم يعرف أيضا مسألة الاعتكاف على وجهها فإنه لو عرفها على وجهها لمنعته أحكامها من تخريجه الباطل في الصلاة إذ من أحكامها المقررة المسطورة أن المعتكف لو خرج إلى المنارة لغير الأذان بطل اعتكافه مطلقا وأن المؤذن المعتكف لو خرج إلى حجرة مهيأة للسكنى متصلة بالمسجد بابها فيه بطل اعتكافه بخلاف المئذنة وأنه لا يبطل اعتكافه أيضا بالخروج للأذان إلى المنارة الخارجة من المسجد المنقطعة عنه على ظاهر النص وما عليه عامة الأصحاب ولا حاجة بنا في التعريف لخطأه وتعديه وقصوره إلى هذا البيان والتحقيق فقد علم طلبة العلم وغيرهم أن حكم المسألة إذا كان مسطورا في كتب المذهب فخالفه إنسان لا اجتهاد له من أجل ذلك المذهب كان معدودا من المخطئين وإن أخذ بوجه ما قاله ويخرجه لم يلتفت إليه وقيل له لست من المجتهدين ولا من الأئمة الذين لهم أن يخرجوا من نصوص المذهب وأصوله أقوالا مخرجة تضاف إلى المنقول وهذا صواب منهم له دليل مقرر فإن أضاف صاحب هذا الخطأ إلى خطئه تخطيئه من أصاب ووافق المنصوص المقرر كما فعل هذا المعترض فكذلك عندهم يستحق أن يعرف قدره بالفعل ولا يرضى له بمجرد القول وأسأل الله التوفيق والعصمة
أعجوبة أخرى كنا في درس شيخنا يوما فدخل الفارسي الذي يستعين به في الشناعة وتصدر بصولة وأخرج فتيا قد بعث بها معه معتقدا أنه يظهر بها خطأ
أستاذنا على درس الأشهاد وهو سؤال عن قاض من قضاة أعمال الرستاق يقضي بعلمه فيما جرى الخلاف في جواز قضاء القاضي فيه بعلمه وقد أفتى شيخنا بأنه لا يقضي بعلمه اختيارا منه في أمثال ذلك القاضي للقول الذي هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما وقال في فتواه فإن قضى في ذلك بعلمه لم ينفذ حكمه فأخذ المذكور عليه هذا وزعم أنه غلط فإنه إذا قضى بعلمه فقد قضى بمختلف فيه فلا ينقض حكمه فقضى شيخنا العجب منه وبين لرسوله ولمن حضر أنه سوء فهم منه فإنه اعتقد أنه لما قال ينقذ حكمه قد قال بنقض حكمه وبين الأمرين فرق بين ففي هذا مسائل ثلاث إحداها إذا حكم الحاكم بما يراه في موضع الخلاف السائغ فليس لحاكم يخالف في رأيه أن ينقض حكمه أي لا يتعرض عليه فيما حكم به فيرده ويبطله الثانية هل ينفذ حكمه المذكور أي ما صار ذلك المختلف باتصال الحكم به نافذا ثابتا في نفس الأمر فهذا فيه الخلاف المعروف من طريقة خراسان في أن حكم الحاكم في مجال الاجتهاد هل يحيل الباطن والأليق بأصل الشافعي رضي الله عنه أم لا
الثالثة هل ينفذ حكمه أي على الحاكم المخالف تنفيذ حكمه وإمضاؤه والعمل به فيه خلاف قيل قولان وهذا الخلاف يترتب على الخلاف في التي قبلها فإذا لا ينقض حكمه قطعا من غير خلاف وفي نفاذه وتنفيذه خلاف ووراء هذا كلام يتعلق بذلك في الفرق بين أن يكون أصل الخلاف في المحكوم به كالنكاح بلا ولي وغيره إذا حكم فيه حاكم ولا حاجة إلى التطويل بذلك وإذا وقف على هذا من عنده فهم ودين دنى لشيخنا حيث صار عرضة لاستدراك مثل هذا الرجل عليه ونسأل الله السلامة آمين
مسألة أخرى صورة سؤالها رجل وصى اعتراف أنه أخذ من مال الموصي شيئا ذكر قدره وقال خبأته لأجل الورثة ثم ذكر أنه ضمه إلى المال وقسمه بينهم فقال له الورثة إلا أنك لما قسمت المال علينا لم تقسم القدر الذي اعترفت انك خبأته فقال بلى قسمته في جملة ما قسمت ووقع النزاع بينهم فهل يصدق الوصي في ذلك بغير بينة أم لا فأفتى شيخنا بأنه لا يصدق في ذلك بغير بينة فاستدركه عليه المذكور وعمل في ذلك حديثا وتشنيعا فجدد بعض الصوفية الإستفتاء
وأتى به شيخنا وسأله أن يذكر فيه جوابه بدليله على وجه يبطل خيال من اعترض فكتب له جوابه كذلك وضمنه ما يبطل عمدة المشنع وأنا أحكيه على جهته ففيه كفاية قال الجواب والله الموفق للصواب أنه لا يصدق في ذلك بغير بينة فإن قوله قسمته بينكم ادعاء منه لدفعه إليهم ولا يقبل قوله في ذلك إلا بينة وهذا مستمر على ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه ومنصوصه في أن الوصي لا يقبل قوله في دفع المال إلي الوارث إلا ببينة ومندرج تحت القاعدة المحفوظة المقررة في أن من ادعى الرد على غير من ائتمنه فلا يصدق من غير بينة ثم إنه يكفي الوصي فيما يقيمه من البينة أن يقيم بينة على قسمته مالا هو بقدر ذلك المال المخبوء على صفته ولا يقبل عليه عند ذلك قول الورثة إن ذلك مال لنا آخر ما لم يقيموا حجة توجب ما ادعوه فإن قال المعترض دعواهم على خلاف ظاهر الحال فإن القسمة التي جرت كانت لإيصالهم إلى كمال حقهم فعدم نزاعهم حالة القسمة ورضاهم بها دليل على اندراج القدر المخبوء في جملة المقسوم بينهم فلا يقبل دعواهم على خلاف ذلك وأصله ما إذا كان لإنسان على إنسان عشرة أقفزة من صبرة فحضر ليقبض منه حقه ثم ادعى بعد القبض والتفرق أنه لم يقبض كمال حقه فإنه لا يقبل قوله
قلت هذا إنما يتجه لو كانت القسمة المذكورة هي القسمة المنشأة لتوزيع مالهم عليهم وليس في السؤال ما يظهر منه ذلك عند من يميز مواقع الألفاظ ولو قدرنا أن الأمر كذلك لكان أيضا القول قول الورثة مع إيمانهم وأما المسألة المستدل بها فممنوعة فالقول فيها أيضا قول القابض على قول لأن الأصل عدم القبض وهذا القول هو الصحيح عند بعض أئمتنا وإن قلنا بالقول الآخر هناك فلا يجيء ذلك القول فيما نحن فيه فإن دعوى القابض هناك وقعت على خلاف الظاهر من حيث أنه يعرف مقدار حقه وحضر ليقبض كمال حقه فالظاهر أنه لا يغادر منه شيئا وهذا غير موجود في الورثة المذكورين الذين لا يدرون كم بقي من أموالهم بعدما سبق من المتولي عليهم من الانفاقات والتصرفات وإن أمكن ذلك فليس بالظاهر من حالهم فإن قال أليس إذا ادعى أحد الشريكين بعد القسمة بقاشى من حقه بسبب الغلط فإنه لا يقبل منه فلا يجاب قائل هذا بأكثر من أن تشرح له تلك
المسألة بتفاصيلها وعللها حتى يعرف ان ذلك في واد وهذا في واد والله أعلم ومن ذلك
مسألة الجمعة وهي أول مسألة جسر فيها على التشنيع وذلك من أيام المشايخ الذين مضوا رحمهم الله وصورتها شخص تكرر منه ترك الجمعة من غير عذر يجوز تركها فهل يجب قتله
فأجاب شيخنا رضي الله عنه على أصله بأنه يجب قتله ويستتاب فشنع ذلك عليه وأشاع عنه أنه أخطأ فيها وزعم أن الصواب فيها التفصيل والفرق بين أن يصلي بدلها الظهر أو لا يصليها فإن صلى الظهر لم يقبل وأقدم على من غير أن يكون عنده فيها نقل ومستند سوى مجرد خيالاته التي قد عدها من كلماته واستغنى بها عن نفسه عن الاطلاع على مساطير المذهب الذي يفتي عليه واذا سئل فعنه يسأل لا عن اجتهاد نفسه وأما شيخنا فإنه لم يخرج في ذلك عن عاداته في فتاويه من الجمع بين النقل والدليل أما النقل فعن الإمام أبي بكر الشاشي وذلك ها هنا موجود في فتاويه وليس الاقتصار على الشاشي لكونه لم يقل ذلك غيره بل لأن المسألة غريبة ما تعرضوا لها في كتبهم وحكى لنا الشيخ أن هذه المسألة لم تجدها في تصانيف المذهب وأنه كان وجدها في مدة مديدة بمدينة الموصل في فتاوي الشاشي فعلقها لغرابتها في جملة ما انتخبه من فتاويه
وأما الدليل فإن الشاشي لم يذكر دليلها فلما ابتلى شيخنا بتشنيع هذا الشخص صنف المسألة وأوضح دليلها وقرره بالاعتراض والجواب ونقل فيها أولا قطع الشاشي بذلك من غير تشبيب بخلاف وفتواه بأنه يقتل وإن صلاها ظهرا ثم دل على صحة ذلك من حيث المعنى والخبر لا الخبر الذي جاء من مطلق الصلاة المكتوبة بل خبر ورد رواه الشافعي في ترك الجمعة على الخصوص وضمن كلامه مع اختصار بليغ غرائب وفوائد يفرح بها من خدم العلم وأهله وذلك حاضر عندنا ميسر لمن أراد الوقوف عليه فلا أطول هذه الرسالة بإيراده غير أني أشير إلى مسرع الدليل الفقهي على وجه يكتفي به من له فهم وهو أن بفعله الظهر ليس تائبا من ترك
الجمعة ولا مواديا لها ولا قاضيا فلا يسقط بذلك ما يوجبه الترك من قتله كما في باقي الصلوات المكتوبة إذا فعل مثل ذلك فيها وهذا واضح على قولنا كل واحد من الجمعة والظهر أصل بنفسه ليس أحدهما بدلا عن الآخر فيكون كمن ترك الظهر وصلى بدلها العصر وهذا القول هو الصحيح والظهر وإن كانت تصلى عند فوات الجمعة بأمر آخر على ما قرر في موضعه وقد قرر شيخنا رحمه الله ذلك فيما صنفه على كل قول وعلى كل تقدير وبعض هذا يكفي في إبطال دعوى ذلك عليه الخطأ والشذوذ وإنه قال مالا يصح نقلا ودليلا والله المستعان وعليه التكلان
مسألة أخرى استفتا من السواد فيه السؤال عن الحرف والصوت والاستواء وعن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وما كان الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون والتابعون وينسلى فيه مما وقع بينهم من الشر بخوضهم وتنازعهم في ذلك حتى تناظرت الأعراب والحمقى وذو الألباب وكفر بعضهم بعضا وترك من أجل ذلك القارئ وصلي خلف الأمي ويسأل فيه أئمة المسلمين أن يجتهدوا في كشف هذه الظلمة وتعطيل هذه الفتن وإظهار السنن
فأجاب أستاذنا بأليق جواب بحال من صدر منه السؤال وأفظع شيئ للفتن جرى فيه على طريقة أهل الورع والصالحين وسلك مسلكا يشترك في قبوله أهل المذاهب الأربعة ويقبله أهل القلوب الذين زين الله في قلوبهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فقال لقد حرموا هؤلاء التوفيق وأخطأوا الطريق إنما يجب عليهم أولا أن يعتقدوا أن الله تبارك وتعالى كل صفة كمال وأنه مقدس عن كل صفة نقص منزه عن كل تشبيه وتمثيل وليقولوا عن اعتقاد جازم آمنا بالله وبما قال الله على المعنى الذي أراده وآمنا بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على الوجه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا جامع جمل الإيمان إذا أتوا به فقد وفوا بما كلفوا به من ذلك وليس من الدين الكلام في الحرف والصوت والاستواء وما شابه ذلك من كل تعرض لشيء من كيفيته صفات الله تبارك وتعالى بل ذلك من مصائب الدين وآفات اليقين وهو زيغ عظيم عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة الخلفاء الراشدين وسائر
أئمة المتقين من الصحابة والتابعين لهم باحسان من السالفين والخالفين رضي الله عنهم أجمعين وسبيل من أراد سلوك سبيلهم في هذه الأمور وفي سائر الآيات المشتبهات والأخبار المشتبهة أن يقول هذه لها معنى يليق بجلال الله وكماله وتقديسه المطلق الله العالم به وليس البحث عنه من شأني ثم يلازم السكوت في ذلك ولا يسأل عن معنى ذلك ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة وإنه إذا شرع فيه فقد خاطر بدينه ولعله يكفر فيه أو يشارف الكفر فيه وهو لا يدري ويحفظ أيضا قلبه عن الكفر فيه والبحث عنه ويدفع خواطر ذلك بما يدفع به الوسواس من الاستعاذة وغيرها ثم لا يتصرف في ألفاظ تلك الآيات والأخبار ولا يزيد فيها ولا ينقض ولا يفرق منها مجتمعا ولا يجمع منها متفرقا بل ينطق بها كما جاءت واكلا علمها إلى من أحاط بها وبكل شيء علما هذا سبيل السلامة ومنهج الإستقامة وعلى ولي الأمر وفقه الله تعالى أن يمنع هؤلاء القوم وأشباههم عن الحيد عن هذا السبيل ويعزر كل متكلم منهم في شيء من هذا القبيل من أي فريق كان وعلى أي مذهب كان تعزيزا رادعا وتأديبا بالغا متأسيا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما عامل به صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن المتشابهات ضربه على ذلك ونفاه ونفعه الله بذلك ونسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل فهذا جواب في نفسه برهانه ولما وقف عليه ذلك الرجل ثار فبدع وشنع وافترى وأفحش وزعم أنه لا بد من الخوض والتفصيل ونسب شيخنا إلى الحشو وسبحان الله كيف يكون حشوا وهو سبيل سلف الأمة وسادتها ومذهب الأئمة أرباب المذاهب فقهاء الملة لا سيما الشافعي وشيخي أصحابه المزني وابن شريح فأخبارهم وكتبهم ناطقة بمبالغتهم في ذلك وتسديد الإمام الشافعي على من حاد عن هذا معروف مشهور وما للبيهقي فيه من تأويل وتخصيص فهو غلفة منه وذهول وفي كلام الشافعي في مواضع عدة ما يوضح بطلان تأويله ولم يزل على ذلك اختيار كبار فقهاء المسلمين وجميع صالحيهم والمتكلمون من أصحابنا لا يقدحون في هذه الطريقة وإن كان الخوض شغلهم وفيهم فهم يرون جواز الخوض من غير قدح في هذا بل يرونه أولى لمن سلم له وأسلم للعامة ولأكثر الناس وهذا الإمام الغزالي
رحمه الله قد صنف في تقرير مثل هذا الجواب الذي أجاب شيخنا كتابا هو آخر تصانيفه سماه إلجام العوام عن علم الكلام بين فيه بالأدلة الساطعة كل ما في جواب شيخنا وذكر أنه لا خلاف بين السلف في أن ذلك هو الجواب على كل العوام ولولا أن هذا الكتاب موجود مشهور لنقلت منه بسط ما أشار إليه شيخنا في جوابه من الدليل على صحته لكنا عرضنا من بيان بطلان ما قاله هذا المعترض لا يتوقف على التطويل بل ينقل ذلك إلى ها هنا إرشاد من أراده إلى موضعه وأشار إمام الحرمين على نظام الملك فيما صنفه له بإلزام العامة بسلوك السبيل واستفتى الإمام الغزالي مثل هذا الاستفتاء فأجاب بجواب موجود منقول قرر فيه مثل ما أجاب شيخنا بكلام من جملته وأما الكلام في أن كلامه حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة لأن السلف لم يخوضوا في هذا ولم يزيدوا علي قولهم القرآن كلام الله غير مخلوق فالسكوت عما يسكت عنه السلف تقصير والخوض فيما لم يخوضوا فيه فضول قال وكل من يدعوا العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين وإنما هو من المضلين ومثاله من يدعوا الصبيان الذين لا يعرفوا السباحة إلى خوض البحر ومن يدعوا الزمن المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب وقال في رسالته إلى الزاهد الفقيه أحمد بن سلامه الدممي رحمهما الله في كلام أجراه في هذا المعنى الصواب للخلق كلهم الآن الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما أنزله الله تعالى وأخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير بحث وتفتيش والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل هذا كلامه بعينه ثم إن في سؤال أصحاب الاستفتاء المذكور مزيد اقتضاء لذلك إذا فيه سؤالهم عما كان عليه الخلفاء الراشدون والتابعون وما أجابه به شيخنا هو الذي يطابق هذا لأن الخوض والتفصيل الكلامي وفي الاستفتاء أيضا الشك به مما وقع بينهم من الشر والتكفير بسبب تنازعهم في ذلك وسألوا أن يجتهد لهم في تعطيل هذه الفتن فهل يليق بهذا المراد ويقرب من حصول هذا المرتاد ما أجابهم به شيخنا أو التفصيل الذي إذا ورد على هؤلاء من قبل فقهائهم ورد ضده على أولئك الآخرين من قبل فقهائهم فتمسك
كل فريق منهم بقول فقهائهم ولا يتعدونه على ما تقدمت تجربته في حق أصحاب هذه الفتيا خصوصا وفي حق غيرهم من العامة عموما فيتنازعون ويتجادلون مع عامتهم وجهالهم فيزداد الضال منهم ضلالا ويشارف المهتدي منهم بخوضه بلا ألة زيغا وغواية ويتفاقم ما سيل إطغاؤه من ثائرة الفتن التي أثار ما بينهم التنازع ولا يبرح من ساحتهم ما شكوه من التباغض والتقاطع وأما شنع به هذا الرجل على شيخنا من أنه في جوابه في طعن على من خاض من العلماء في ذلك ومن صنف فيه فهذا التشنيع يلحق للإمام الغزالي لا له فإنه سوى في كتابه إلجام العوام وفي غيره بين طوائف العوام وطوائف العلماء في المنع من الخوض ولم يكون ذلك إلا لكبار الصالحين والأولياء العارفين بالله تعالى وأما جواب شيخنا فهو مخصوص بالعوام وأصحاب الواقعة وهم أقوام فلاحون وقد بين هذا الخصوص بقوله أولا لقد حرم هؤلاء ثم بقوله ثانيا يمنع هؤلاء القوم وأشباههم عن الحيد عن هذا السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل وهو أعلم
فصل ومن عجائب هذا الرجل أنه بعث إلى شيخنا فتوتين له زعم أنه أخطأ فيهما وقد حكى في الورقة صورة الإستفتاء والفتوى ثم أملى تحت ذلك الأخذ عليه فوجده شيخنا من الفضائح ومما لا ينبغي أن يجاب عنه بغير السكوت والإعراض لكن تجاوز وأملى جوابا بليغا موجزا آرسله إليه وإن أورده ها هنا بمعناه ومقاصده بعبارة واضحة لا يتمشى له معها ما تعاطاه في ذلك مما سأحكيه بعد الجواب إن شاء الله تعالى الكريم وهذه حكاية صورة ذلك في رقعة استفتاء ما يقول السادة الفقهاء في رجل تزوج بإمرأة بكر عاقلة بالغة وله معه دون السنة ولم يطأها وإن أهلها طلبوا أن يطلقوها منه لذلك والرجل لم يشته أن يطلقها فهل يصح لأهلها أن يطلقوها منه بغير اختياره بناء على كرنه عنينا أم لا
الجواب إنه ليس ذلك لأهلها استقلالا وإنما ذلك إليها إذا ثبت كونه عنينا بإقراره أو يمينها بعد نكوله وألفين أن يكون في عضوه مرض دائم قد أسقط قوته وانتشاره ثم لا يثبت لها الفسخ بعد ثبوت التعنين حتى يضرب له الحاكم أجل سنة فإذا مضت السنة ولم يطأها فلها الفسخ بحكم الحاكم والله أعلم
الأخذ من شرط دوام المرض من العلماء ومن شرط سقوط القوة والإنتشار مع أنه قد يعن عن امرأة دون أخرى وهل لا فصل إذا مضت السنة ولم يطأ بين أن يكون امتناعه من الوطئ العائق غير العجز من سفر أو مرض لا يتأتى معه الوقاع أو حبس أو غير ذلك من الأعذار وبين أن يكون لعجزه عن الوطئ هذا ما أملاه في رقعته على جهته فنقول أما قوله من شرط دوام المرض من العلماء فانظروا إلى ما ابتلي به شيخنا منه أنكر أن يكون أحد من العلماء شرط ذلك وكل علمائنا مع غيرهم شرطوا ذلك في ذلك وجميع المختصرات في المذهب فضلا عن المبسوطات ناطقة بذلك فإن كلهم قد اشترط في مرض التعنين حصول اليأس من زواله ولم يضربوا أجل سنة بعد إقراره بالعجز والتعنين إلا لتبين اليأس والاستثبات فيه وهذه تصانيف الناس الوسيط فما فوقه وما دونه ينادي كلها بذلك وإذا كان ميئوسا من زواله فهذا هو المعنى بكونه مرضا دائما في كلام الناس وعرفهم لهذا وصف في الوسيط وغيره مرض الإستحاضة وغيره من الأمراض التي يوئس من زوالها بكونها أمراضا دائمة وهكذا إلا فيما أنكره من اشتراطهم سقوط قوة العضو وانتشاره بل إنكاره لهذا أنكروا طم أزلا عنين عند الناس أجمعين إلا من سقطت قوة عضوه وانتشاره بالنسبة إلى من أعن عنها وهذا أمر محسوس في العنين ومن لم يوجد ذلك فيه فليس عنينا بلا خلاف بينهم ولا إشكال وفي الوسيط معين العنة سقوط القوة الناشرة للألة والأمر أوضح من أن يحتاج إلى الاحتجاج بالوسيط فإنه من الشائع الذائع بين المتعلمين فضلا عن العلماء فمن قال التعنين مثبتا كعلمائنا ومن وافقهم لم يثبت ذلك إلا إذا كان بهذه المثابة ومن خالف وقال العنة لا تثبت الخيار فلا يعني بالعنة أيضا إلا ذلك وإلا لم يتوارد النزاع على محل واحد فصار ذلك إذا قول الجميع وأما شبهته واحتجاجه بأنه قد يعن عن امرأة دون أخرى فنقول إنما شرحنا وشرح العلماء العنة حيث وجدت وفي حق من تعلقت به لا حيث لم يوجد تعلقها فإن كان ما شرحناها به متحققا بالنسبة إلى المرأة التي أعن عنها كما شهد به الحسن واقتضاه البيان الواضح الذي قدمناه فتقول أصحابنا قد لا يعن عن امرأة أخرى لا يدعوا من له أقل فهم إلى إنكار هذا المحسوس المقطوع
بوجوده بالإضافة إلى من أعن عنها بل ينتظر فإن استقام له كون العنة أمرا إضافيا يوجد بالنسبة إلى امرأة وينتفي بالنسبة إلى أخرى كما علم مثله في الأمور الإضافية اعترف بذلك وقاله وإن لم يستقم له ذلك فينكر احتمال انتفاء ذلك بالنسبة إلى امرأة أخرى ونقول إذا عن عن امرأة أعن فقد أعن عن غيرها لا أن تكابر المحسوس وينكر وجود المرض الميؤس منه المسقط لقوة الانتشار في حق المرأة التي علم تعنينه عنها ولهذا كان المعهود في مباحث الفقهاء والمتفقهة إذا انتهوا إلى هذا الباب أن يورد أحدهم ما شرحنا به العنة من سقوط القوة والانتشار وحصول اليأس من زواله على قول المصنف أو المدرس قد لا يعن عن امرأة أخرى ويجعله إشكالا عليه ولا يجسر أحد منهم يغفل منهم على أن يعكس هذا كما فعله هذا الرجل فيجعل كونه لا يعن عن امرأة أخرى أصلا وتورده على ما لا ريب فيه في معنى العنة من سقوط القوة وحصول اليأس من عودها وبعدها فبيان أنه لا تنافي بين الأمرين سهل على الفقيه وذلك أن العنة عجز نسبي إضافي إذ يقوي ميله إلى امرأة بعينها بحيث يثور من فرط اشتهائه لها ما يكون ناشرا لعضوه جالبا لحرارة تقطع معارضة غالبه لما حل فيه من المعارض المسقط لقوة انتشاره الذي ليس ينقل عنه بالنسبة إلى غير تلك المرأة فمن لا تميل إليها ذلك الميل ولا يعظمه تأثير شهوته لها وهذا بين غير خاف وأما ما أخذه على قول شيخنا إذا مضت السنة ولم يطأ فلها الفسخ حيث أطلق ولم يفصل بين أن يكون امتناع وطئه لعجز التعنين أو لعائق آخر من سفر أو غيره فالشيخ الإمام من أخذه هذا أخذ على أئمة الناس قديما وحديثا في الفتوى وغير الفتوى إذا هكذا أفتى إمام الهدى الذي جعل العلماء فتياه أصلا في هذا الباب وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه قال فيما روى الشافعي بإسناده عنه يؤجل العنين سنة فإن جامع ولا فرق بينهما وهكذا قال صاحب المذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وتكرر ذلك في مواضع من كلامه من جملها قوله فإن أصابها مرة فهي امرأته وإن لم يصبها خيرها السلطان وهكذا قال من لا نحصيه من علماء الناس منهم إمام الحرمين قاله في غير موضع وكذا قال والده الشيخ أبو محمد الجويني وهكذا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي لم يزد في مهذبه مع بيانه على أن
قال وإن لم يجامعها حتى انقضاء الأجل وطالبت بالفرقة ففرق الحاكم بينهما فهذا الذي أوردته كاف من حيث الإجمال ثم أتبرع بتفصيل السبب الذي لأجله ترك شيخنا ومن قبله من العلماء التفصيل الذي ألزم به هذا الرجل وكما ذكر ذلك منه على ذهابه عن كلام العلماء فكذلك دل على ذهابه عن إدراك مواضع الألفاظ وذلك أنه ليس في الكلام المذكور إطلاق حتي يقال هلا فصلت وقيدت بل فيه ما يقيده بما وقع فيه الكلام من مانع التعنين فإنه جرى فيه ذكر امتناع الوطئ عقيب ذكر مانع التعنين فيسبق إلى فهم الخاصي والعامي أن امتناعه كان من أجله لا لمانع آخر لم يجز ذكره فيكون ترتيب الفسخ على ذلك صحيحا إلا أنه إذا قال القائل عثر فلان عن زوجته ولت يطأها حتي فارقها وهي بكر بعد فإن الخاص والعام يفهمون منه حواله عدم وطئه ما ذكر من التعنين دون غيره من الموانع والحمد الله وحده
المسألة الثانية نقلا لما كان في رقعته على وجهه استفتاء ما تقول الفقهاء في رجل عنده قماش يكريه لجنائز الأموات وغيره مثل ثياب بيض وخضر وأقبية وشرابيش أطلس حمر وخضر وثياب مذهبة فهل يجوز له إكراؤها بطريق الحلال أم لا
الجواب لا يجوز له ذلك في الأطلس والحرير وكل ما المقصود منه الزينة ولا بأس به فيما المقصود به سترة الميت وصيانته والله أعلم
الأخذ هذا الإطلاق لا يصح لأن النساء يجوز أن يكفن في الحرير وإن كان الأولى أن لا يفعل وإذا كان تكفينهن فيه غير محرم فلم لا يجوز إجارته وإذا كان تكفينهن في الحرير لا يحرم مع أن الكفن يصير إلي الثوي والعفن فلم لا يجوز سترهن بما لا يكون عاقبته إلى ذلك وأما قوله وكل ما المقصود منه الزينة فمن ذهب من العلماء إلى تحريم التكفين فيه كالرفيع من الكتان والقطن والصوف والمرتفعات الموشية بغير الحرير هذا أخذه الذي أملاه على جهته وشنع مع ذلك وأشاع عن شيخنا أنه ارتكب بذلك إحدى عظيمات الخطأ وهذا من المنكرات
الشائعة التي سعى أستاذنا في إبطالها وتقليلها فأبى الشيخ المذكور إلا السعي في إبقائها أو تكثيرها فإن هذا الذي اعتاده أهل هذه البلدة من تزيين الجنائز وإجارة ثياب الزينة لذلك من البدع السخيفة والمنكرات الفاحشة التي يبادر إلى إنكارها قلوب المؤمنين وذلك أن لمورد الموت الهادم للذات الفاضح للدنيا حتى لم يدع لها قدرا من القول ما يكبر عن الوصف والمجهز متردد بين أمرين عظيمين يسار به لا يدري إلى روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار فهل يليق بهذه الحالة سوى الخضوع والانكسار وهل تكون الزينة فيها والتزي فيها بذي أهل السرور والفرح إلا من أعظم الحمق وأبلغ السرف والسخف فنقول ما أفتى به شيخنا في ذلك هو الصواب والحق الذي تشهد به أصول الشريعة ثم أصل مذهبه الذي يفتي عليه أما قول هذا الرجل إن هذا الإطلاق لا يصح لأن ذلك جائز في النساء بدليل جواز تكفينهن في الحرير فيجوز إجارته لذلك فقد أخطأ فيه واحتج بغير مسلم له لأن تكفينهن في الحرير حرام أيضا على وجه لنا صحيح مذكور في زوائد المهذب تأليف صاحب البيان قال لأنه لا زينة بعد الموت ومن قال تكفينهن في الحرير غير حرام فتخريج هذا الرجل ما نحن فيه من تزيين جنائزهن من ذلك تخريج باطل لأن تكفينهن فيه من قبيل لبسهن له وتزيين جنائزهن به من قبيل تنجيد بيوتهن وتزيينها بتعليق الديباج وقد حكى الشيخ أبو محمد الجويني في التبصرة من غير خلاف أن ذلك غير مباح وأنه يستوي فيه الرجال والنساء قال لأن ذلك يقصد به المراياة والمكاثرة أو نقول هو من قبيل افتراشهن للحرير هو حرام على ما قطع به الشيخ أبو محمد الجويني وصاحب التهذيب وغيرهما وهو الوجه الصحيح فيه لأنهن استثنين في لبس الحرير على الرجال لما فيه من تحسينهن لأزواجهن وتزينهن في أعينهم مما لا يحصل لهن فيه ذلك من ذلك فهن والرجال فيه سواء وموجب تحريمه يجمع الفريقين وهذا كما أنهن استثنين في جواز التحلي بالذهب والفضة سوى بينهن وبين الرجال في تحريمه وهذا واضح ثم نقول من جواز افتراشهن للحرير في حال الحياة فلا يلزم من تجويزه ذلك تجويز تزيين جنائزهن به ليكون هذا واقعا في حالة الموت الهادم للذات المنافية للتصنع والتزيين وذلك واقع في حال
الحياة وفي مظنة الزينة والنظر إلى المظنة معهود فإن قلت فكيف جوز تكفينهن في الحرير بعض أصحابنا وهو في حالة الموت قلنا لا جرم كان ضعيفا بما قدمنا ذكره ومع ذلك فلا يتخرج منه وجه في جواز تزيين جنائزهن بالحرير فضلا عن أن يقطع من أجله بخطأ من أفتى بالمنع من تزيين جنائزهن به وشنع عليه كما فعله هذا المؤذي وهذا لأن قول القائل يجوز تكفينهن فيه لا يعطى أكثر من أنه يجوز استعماله لما يقصد بالتكفين من سره الميت وإكرامه بذلك ليس فيه أنه يجوز ذلك مقصودا به الزينة والتجمل وكلامنا فيما نحن فيه إنما هو في التزيين بذلك وهكذا ما نقله من فتوى شيخنا إنما هو في المنع من التزيين وما المقصود منه الزينة والإجارة لذلك فإنما يصح استدلاله بفضل الكفران لو قال أحد بجواز تكفينهن في الحرير مقصودا به الزينة وهذا لم يوجد عن أحد من أصحابنا ولا عن أحد من العلماء قاطبة فقد بطل إذا تخريجه من الكفن على كل وجه وأما تعميم شيخنا المنع في تزيين الجنائز بغير الحرير حيث قال وكلما المقصود منه الزينة فمن أصول ذلك وشواهده تزيين القبر فما أشبه تزيين النعش بتزيين القبر وقد صح نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن تجصيص القبور وعلله الإمام الشافعي رضي الله عنه بأن ذلك يشبه الزينة والخيلاء وليس الموت موضع واحد منهما وقال في موضع آخر نهى فيه عن بعض ما يراد به تزيين الميت الميت لا يزين ونظير فتوى شيخنا يبقى الجواز في ذلك على العموم في غير الحرير من فتاوي أئمة مذهبنا فتوى قاضي القضاة ببغداد أبي بكر الشامي وهو أحد الأئمة في طبقة الشيخ أبي أسحاق فإنه سئل عن تستير جدر المسجد بالحرير
فأجاب لا يجوز أن تعلق على حيطان ستور من حرير ولا من غيره ولا يصح وقفها عليه وهي باقية على ملك الوقف ثم اعتذر عن تستير الكعبة زادها الله شرفا فإنما لا يخفى أفتي بذلك في دار العلم والعلماء وما فاتهم إلا جهبذنا هذا حتى ينتقد عليه ويكون ذلك الإمام بذلك منه أولى من شيخنا فإن نفي الجواز فيما ذكره شيخنا أوضح بدرجات وفيما أوردته إيضاح لبعضها قال في أخذه على هذا أما
قوله وكلما المقصود منه الزينة فمن ذهب من العلماء الى تحريم التكفين في الرفيع من الكتان والقطن فانظروا هذا المنتقد ما كان أغناه عن الانتقاد إنما قال شيخنا لا يجوز التزيين والإجارة له فجعله قائلا أنه يحرم وأخذ يتكلم على التحريم ومعلوم من أصول الفقه وبين فقهاء هذه الأقطار أنه لا يلزم في نفي الجواز حصول التحريم وإن انتفاء الجواز قد يكون بالكراهة فالمكروه عندهم غير جائز ولا يقال إنه حرام وإنما الجواز تسوية الشرع بين الفعل والترك ومن أراد ذلك من المستصفي فهو فيه
مسألة إذا فسخ الوجوب هل يبقى الجواز وخلاف أهل بخار ألا يذكر في هذا المقام الذي هذا الرجل فيه مخطىء أحد فإن قال فالمفتي لا يقول في المكروه لا يجوز فإنه قلنا لو سلمنا لك أن النهي عن تزيين الجنائز على فحشه وسخفه نهي كراهة يحن بالمفتي أن يقول فيه لا يجوز فإنه من حيث الحقيقة حق على ما قدمناه وهو أبلغ في أن لا يفعله السائل ولهذا كان الشارع صلى الله عليه و سلم ثم الفقهاء الشيخ أبو إسحاق ومن لا يحصى منهم يطلقون لفظ النهي في المنهى عنه على سبيل الكراهة والتنزية مع أن ظاهر النهي التحريم وقد سبقت حكايتنا قول قاضي القضاة الشامي من تستير جدر المسجد بغير الحرير وقول إنه لا يجوز فلهذا اسوة بذلك سواء كان ذلك على وجه التحريم أو على وجه الكراهة هذا مضى ثم إنه يعجز فيه فقراء إلى التكفين الذي لا ذكر له في الفتوى وأخذ مسلما أنه إذا قال لا يجوز التزيين فقد قال لا يجوز التكفين وهذا سوء فهم لما تقدم بيانه من أن قول القائل يجوز التكفين فيه ليس فيه أكثر من تجويز استعماله لما يراد بالكفن من سترة الميت وصيانته وكرامته وليس فيه أنه يجوز استعماله في ذلك مقصودا به التزيين وهذا قد سبق وبعد هذا فالتكفين في الرفيع الغالي من القطن والكتان وأشباههما قد نهى علماؤنا عنه محتجين به بالحديث المشهور لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا إلى لا تكفنوا في الغالي ونسأل الله رضاه وحسبنا الله ونعم الوكيل
فهذا والحمد لله جواب عن أخذه في المسألتين واضح وضوحا يلجمه عما تعاطاه فيما كان اختصره شيخنا عن هذا أو أملاه في جواب رقعته وذلك أنه كان قد جامله في الخطاب ولم يبح بما في أخذه من الفضائح ولا وصفه بما يستحقه من
الصفات المذمومة وأشار في بعضه إلى موضوع الحجة بعبارة مختصرة بليغة ظنا من أن ذلك يكفيه ويكفه فيستحي ويرعوي من غير حاجة إلى ما بان أنه أولى به من الكشف فجازاه على هذا بأن جمع له في الجامع لفيفا وتصدر بينهم وأخذ يجيب عن الجواب ويطعن ويعترض وما بينه وبين من يعترض عليه إلا خطوات فهلا شافهه بذلك أو كتبه إليه كما كتب أصل الأخذ فكانت اعتراضاته على ذلك من جنس كان الشيخ أبو إسحاق رحمه الله ينشد فيه سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب ومن جنس ما حكاه لنا شيخنا عن بعض مشايخ الكرامية وهم مشبهة خراسان أنه اعترض واحد على النحويين في قولهم المبتدأ مرفوع وقال هذا باطل بقوله تبارك وتعالى والشمس وضحاها فإنه ابتدأ بالشمس وهي مكسورة وأنا أقتصر على حكاية غير ما اعترض به مع أنها عين عمياء كان شيخنا في معرض حكايته عن العلماء ووصفهم لمرض التعنين بالدوام قد حكى عن الشيخ أبي إسحاق ذلك وانه وصفه بكونه خلقه فاعترض على هذا وأخذ في الأوصاف الخلقية تنقسم إلى ما تدوم وإلى مالا يدوم
يا هذا قد حكي لك ذلك عن الشيخ أبي إسحاق وحكي طرق كلامه فكيف صبرت على الاعتراض قبل أن تنظر في كلامه الميسر لمن أراده وتنصر هل للأمر على ما حكاه وهذا كلام الشيخ في مهذبه قال فإذا اختلفت المرأة أي على التعنين واعترف الزوج أجله الحاكم سنة لأن العجز عن الوطىء قد يكون بالتعنين وقد يكون العارض من حرارة أو برودة أو رطوبة أو يبوسة فإذا مضت عليه الفصول الأربعة واختلفت عليه الأهوية ولم يزل علم أنه خلقة فانظروا كيف يتهيأ أن يكون كلمة الخلقة ها هنا من قبيل ما يقبل التقسيم الذي أورده هذا الرجل وهل يمكن أن يكون المراد بها إلا معناها العرفي الذي شأنه الدوام أو اللزوم فإنهم يقولون فيما كان من الاوصاف لازما لبنية الإنسان لا ينفك عنها هذا خلقة وخلقي وجبلة وطبع وطبعي أما معنى الخلقة في أصل الوضع الذي يقبل ما أورده الانقسام فأي معنى له ها هنا واعترض على استشهاد شيخنا بقول القائل عن فلان عن زوجته فلم يطأها وقال إنما فهم ذلك من حرف الفاء لا من كونه مذكورا عقيبه وهذا خبط منه فإنه لو لم
يكن بحرف الفاء لكان الفهم حاصلا فإنه لو قال عن فلان عن زوجته ولم يطأها حتى فارقها بكرا لفهم العام والخاص حواله ذلك على ما تقدم من ذكر التعنين وإن لم يكن بحرف الفاء وكذا ليس حرف الفاء موجودا في شواهد ذلك مما حكيناه منها عن من سميناه من الأئمة وما لم نحك ولعله اشتبه عليه هذا بباب زنا ماعز فرجم والبابان مفترقان فإن ذلك وقع النظر فيه في أصل سببه ما تقدم للمذكور عقيبه وما نحن فيه إنما هو نظر في تعيين السبب بعد معرفة سببية ما ذكر وسببية غيره ثم إني أقول لا يخفى من حيث الإجمال على أحد من الفهماء الفقهاء أن ما تعاطاه من الأخذ الثاني على الجواب عن الأول من جملة العجائب لأن ذلك الجواب كلام فقيه قد ساقه مقررا مدلولا عليه في قضية فقهية مما سبيله الظنون وليس من سبيل القطعيات وما هذا شأنه فلن يورد عليه أبدا ما يكون قاطعا لا جواب له بل لا يزال الفقيه يجيب عن ما يورد في مثل ذلك مقاما مقاما مثل ما هو معهود في مباحث الفقهاء ترى المستدل يستدل فيورد المعترض عليه ما إذا سمعه القاصر يقول هذا قاطع مفحم لا جواب عنه حتى إذا شرع المستدل في جوابه يضمحل شيئا فشيئا فمتى عهد في مثل ذلك مثل ما فعله هذا الرجل ونسأل الله الكريم إعزاز العلم وأهله وإذلال الجهل وأهله آمين
فصل وأملى هذا الموصوف على الشيخ صدر الدين بن البكري رفع الله قدره أخذه على فتيا شيخنا في مسائل سبق بعضها وبقي منها رجل كان له طاحونة فأحرقها رجل فجابر أجل الوالي إلى بيت أخت الذي أحرق فاستنزلها من البيت حتى يريهم بيت أخيها ثم إنها طرحت بعد أيام وماتت فالضمان يلزم صاحب الطاحونة أم الراجل فذكر أن جواب شيخنا فيها لا يلزمهما شيء إذا إذا لم يكن قد وجد من واحد منهما ما أوجب الطرح والموت من إفزاع أو غيره وان وجد ذلك وجب الضمان على من وجد ذلك منه ثم قال الأخذ أن الدية إنما تجب في هذا على العاقلة وله زمان يبالغ في الشناعة بهذا ويزعم أنه خطأ فاحش في حكم المسألة وقد تكرر من شيخنا الفتوى في هذه المسألة فإن كان لفظ فتياه في بعضها الذي أنكره غير منكر بل هو معروف عند أهل العلم موجود في كلام الأئمة
والدليل على صحته ظاهر وكل واحد من هذين الأمرين كاف في حال المشنع
أما دليل صحته فإن الدية في ذلك وفي سائر هذا الباب يجيب على الرأي الصحي على الجاني ثم يتحملها عنه عاقلته وهذا معروف مقرر في كتب المذهب فحصر المعترض وقوله إنما يجيب على العاقلة نافيا لوجوبها على الجانب خطأ في في مقام الأخذ ظاهر ومن قال تجب على من وجدت منه الجناية ولم ينف وجوبها على عاقلته فقد أصاب والمذكور من فتوى شيخنا هو هكذا ليس فيه تعرض لتحمل العاقلة بنفي ولا إثبات
ومثل هذا يحسن إذا اجتمع في الحادثة فعل شخصين أو أكثر وقع النظر والسؤال عن تعيين من يكون فعله منهم هو الموجب للضمان فلا بأس أن يقال في جوابه يجب الضمان على الشخص الفلاني منهم ويقتصر على هذا من غير تعرض لتحمل العاقلة فإن ذلك واف بما سئل عنه من بيان ما تعلق الضمان بفعله وليس عليه أن يبين أن الضمان يستوفى من صاحب الفعل الذي تعلق الضمان به أو يستوفى من عاقلته بتحمله عنه أو ولي ينوب عنه فإن ذلك من تفاصيله التي لم يتوجه نحوها السؤال وما يجري ذكره لا في موضعه لسبب من الأسباب فإن المتكلم يمر به مرا ولا يعرج عن تفصيله واستقصائه فإن الغرض حينئذ غير ذلك فهو واضح لا غبار عليه
ولنا أن الذي أنكره مستعمل موجود في كلام الأئمة فيقتصر فيه على حكاية كلام الشيخ أبي إسحاق رضي الله عنه في المهذب فإنه كاف في إظهار قلة خبرة الرجل وفيه غنية عن التطويل بحكاية كلام غيره
قال رضي الله عنه في مهذبه وإن حفر بئرا في الطريق ووضع آخر حجرا فتعثر رجل بالحجر ووقع في البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر وقال أيضا إن وضع رجل حجرا في الطريق ووضع آخر حديدة بقربه فتعثر رجل بالحجر ووقع على الحديدة فمات وجب الضمان على واضع الحجر فهذا كلام هذا الإمام أضاف وجوب الضمان إلى من وجدت منه الجناية وسكت عن العاقلة مع إنه واجب
عليها بطريق التحمل مثل ما قاله أستاذنا سواء وزاد الشيخ أبو إسحاق على ذلك فأطلق مثل ذلك في صور لم يجتمع فيها فعل شخصين حتى يجيء فيها ما ذكرناه من المعنى المحسن للسكون عن ذكر العاقلة فقال وإن حفر بئرا في طريق الناس أو وضع حجرا أو طرح فيه ماء أو قشر بطيخ فيهلك به إنسان وجب الضمان عليه لأنه تعدى به فضمن من هلك به فعلى هذا ما شنع به هذا الشخص لا حق بهذا الإمام وزيادة والكل جائز مطعن فيه لما تقدم بيانه وشرحه ولله الحمد
وقد كلم بعض أصحابنا هذا الرجل في شناعته في ذلك وأفهمه ما تقدم ذكره من وجوب الضمان أولا على الجاني فلم يرتدع ولم يخجل وقال فهذا يوهم العامي أن الضمان لا يؤخذ من العاقلة وأين يقع هذا من تقرير ما ادعاه على شيخنا من الخطأ في حكم المسألة ثم أنه قد علم أن الفتوى في هذه الواقعة وأمثالها التي يقع فيها التداعي والتنازع بين خصمين لا يرجع إمضاؤها والعمل بها إلى العوام وإنما ذلك إلى القضاء يحمل إليهم ويسألون العمل بها وهم لا يخفى عليهم تحمل العاقلة عن الجاني المذكور ولا يخشى عليهم التوهم الذي ذكره وحسب المتكلم من مفت أو غيره أن يكون كلامه في نفسه صحيحا وما عليه من توهمات أهل النقص والقصور وما خلا كلام أحد من المفتين والمصنفين وسائر المتكلمين المتقدمين والمتأخرين عن مثل ما زعمه هذا الزاعم من غير أن يلحقهم به عتب وطعن ثم إني أقول هذا من العجائب بينما هو ينسب شيخنا إلى أنه أخطأ في حكم المسألة خطأ فاحشا إذ أرجع أمره إلى استدراك لفظي من جنس المؤاخذات اللفظية التي كان المبتدئون يردونها قبل سنة الستمائة على فتاوي المستدلين في مجالس المناظرات ويستخف بها أهل التحقيق فقدر هذا الرجل قدرها حتى بلغ بها إلى أن جعلها عمدة في تخطئة المفتين وتضليلهم والله حسيبه ومنها قال سئل عن كفلا كفلوا بدين على الروس وكفل كل واحد مما على الآخرين فأدى أحدهم ما عليه وما على الآخرين فهل يرجع عليهم فزعم هذا الرجل أن شيخنا أجاب بأنه يرجع عليهم وخطأه من حيث لم يقيد إذا كان الضمان بإذن المضمون عنه وقد علم الله تعالى أن شيخنا بدأ من الفتوى على الصورة التي زعم وأما تمسكه بخطئه وأنه ليس فيه ذكر القيد
المذكور فلذلك سبب نحن وغيرنا نعرفه جعله الله تعالى فتنة لذلك المسكين وذلك أن أصحاب الواقعة استفتوا شيخنا ولم يكن في رقعة الإستفتاء قيد الإذن وطلب شيخنا منهم الوقوف على وثيقة الكفالة لينظروا ذلك منها فأحضروا الوثيقة فوجد فيها الإذن فقال أصلحوا الاستفتاء وقال زيدوا فيه ذكر الإذن وقال لصاحبه الفقيه الإمام السيد الجليل كمال الدين إسحاق افعل ذلك وكتب شيخنا له الرجوع والحالة هذه إشارة منه إلى حالة الإذن التي قال له اذكرها فبينها الفقيه كمال الدين إسحاق عن ذكر ذلك وزيادته في صدر الاستفتاء ونحن كنا حاضرين ما جرى على الصورة التي حكيتها ونعلم أيضا أن أصحاب الواقعة وفيهم شاب من بني القواس ويعلم ذلك من كان حاضرا من الفقهاء وهم حاضرون يشهدون بجريان الأمر على ذلك ثم ظاهر الحال شاهد بذلك أيضا فإن هذا الأمر من الواضحات وهو مسطور في التنبيه فضلا عن غيره ويعرفه المبتدئون فضلا عن مثل شيخنا وما هو معروف به من التأني والتثبت في غفلة صدرت منه عن عجلة ونسأل الله التوفيق والعصمة
ومنها امرأة ماتت وخلفت ورثة بعضهم فقراء وأوصت أن تخرج عنها حجة وخلفت خمس مائة درهم فهل تحج عنها أو يصرف إلى الفقراء من ورثتها فزعم أنه في جواب شيخنا إن كانت حجة فرض فهي مقدمة من رأس المال وقال الأخذ أنها غير مقدمة من رأس المال بل يجب التفصيل أنه إن كانت الحجة من الميقات أو من دويرة أهله هذا كلامه الذي أملاه على الشيخ صدر الدين وفقه الله تعالى وكتب بخطه وهو كلام رجل يتصرف في الأحكام من عنده هذه المسألة مسطورة فيما لا نحصيه من كتب الفقه على الوجه الذي ذكر أستاذنا قالوا إذا وصى بحجة الإسلام وأطلق حسب من رأس المال على المذهب أو على الأصح ونحو هذا من العبادات ولم يلتزموا التفصيل الذي يزعم هذا الرجل أنه لازم وما زال الفقهاء يتناطقون بذلك كذلك في هذه المسألة وفيما حكمه في ذلك حكمها من المسائل
وسبب ذلك أن الكلام في ذلك يقع في نفس حكم الحج فيذكر الحكم
مضافا إلى مسمى الحج وأما التعرض لكونه من الميقات أو من بلده فأمر زائد يفردونه بمسألة أخرى على أنا نقول قول القائل إذا كان حجة الإسلام أو حجة الفرض فهي من رأس المال حتى يتوجه ما ذكره المعترض لأن الحج وغيره إذا ذكر مطلقا فهو محمول في كيفيته على القدر الواجب منه دون ما هو نافلة فيه فإذا قيل يجب عليك الحج والصلاة أو غيرهما فلا يفهم منه سوى ما ذكرناه وإذا كان ذلك كذلك فقولنا حجة الإسلام مقدمة من رأس المال محمول على ما هو من الميقات فهو إذا المفهوم وهو المراد ونسأل الله تعالى بلوغ المراد وليختم عند هذا المنتهى خوفا من محذور التطويل والإملال وقد كان في مسألتين أو مسائل منه غنية
ونسأل الله سبحانه أن لا يحرمنا ثواب الذب عن العلم وأهله وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال الشيخ تقي الدين بن الصلاح لم سمى الغزالي بذلك فقال حدثني من أثق به عن الشيخ أي الجرم الماكشي الأديب قال حدثني أبو الثناء محمود القرصي قال حدثنا تاج الاسلام ابن خميس قال قال لي الغزالي رحمه الله الناس يقولون الغزالي ولست الغزالي وإنما أنا منسوب إلى قرية يقال لها غزالة وهي قرية من قرى طوس والحمد لله الكريم وحده
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله عز و جل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها
رواه أبو داود في سننه ثم ذكر بإسناده عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره أنه كان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز وفي الثانية الإمام الشافعي رضي الله عنهما قال وعن غير أحمد وكان على رأس المائة الثالثة أبو الحسن الأشعري وقال بعضهم بل هو أبو العباس أحمد بن عمر بن شريح الفقيه وكان على رأس المائة الرابعة ابن الباقلاني القاضي أبو بكر وقيل أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي وكان على رأس المائة الخامسة أمير المؤمنين المسترشد بالله قال الحافظ بن عساكر رحمه الله وعندي أن الذي كان على رأس الخمس مائة
الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الفقيه لأنه كان عالما فقيها فاضلا أصوليا كاملا مصنفا عاقلا انتشر ذكره بالعلم في الآفاق وبرز على من عاصره بخراسان والشام والعراق
قال رحمه الله وقول من قال على رأس الثلاث مائة أبو الحسن الأشعري أصوب لأن قيامه بنصرة السنة إلى تجديد الدين أقرب فهو الذي انتدب للرد على المعتزلة وسائر أصناف المبتدعة المضللة وحالته في ذلك مشتهرة وكتبه في الرد عليهم مشهورة مشتهرة وقول من قال العاصي بن الباقلاني على رأس الأربع مائة أولى من الثاني لأنه أشهر من أبي الطيب الصعلوكي مكانا وأعلى في رتب العلم شأنا وذكره أكبر من أن ينكر وقدره أظهر من أن يستر وتصانيفه أشهر من أن تشهر وتآليفه أكثر من أن تذكر فأما عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس فكانت وفاته رضي الله عنه لأربع بقين من رجب سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة ونصف وقيل توفي يوم الجمعة لخمس بقين من رجب وقبره بدير سمعان وكانت ولايته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام وأما الشافعي فكانت وفاته في آخر رجب سنة أربع ومائتين وأما الحسن الأشعري فكانت وفاته ببغداد سنة أربع وعشرين وثلاث مائة وقيل سنة عشرين وثلاثة مائة وقيل سنة ثلاثين وقيل سنة نيف وثلاثين وثلثمائة قال وهذا القول الأخير لا أراه صحيحا والأصح سنة أربع وعشرين وأما وفاة ابن الباقلاني فكانت يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربع مائة وأما وفاة أبي حامد الغزالي فكانت يوم الاثنين الرابع عشر من جمادي الآخرة سنة خمس وخمس مائة وذكر الحافظ بن عساكر رحمه الله ذلك بأسانيده رضي الله عنهم أجمعين نقل من نسخة صورته كذا نقل من نسخة ذكر كاتبها أنه نقلها من نسخة كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري
قال الشيخ الإمام مطلقا ذو الفنون والتحقيق فيها تقي الدين أبو عمر وعثمان عبد الرحمن النصري المعروف بابن الصلاح رحمه الله في إسناد طريقته في
النفقة أما طريقة الخراسانين فإني تفقهت على أبي رحمه الله وتفقه هوشيا على شيخ المذهب في زمانه أبي القسمة بن البرزي الجزري بجزيرة ابن عمر وتفقه ابن البرزي على الإمام أبي الحسن الكيا الطبري وتفقه الكيا على إمام الحرمين أبي المعالي وتفقه أبو المعالي على والده الشيخ أبي محمد الجويني وتفقه أبو محمد على الإمام أبي بكر القفال المروزي وتفقه القفال على أبي زيد المروزي وتفقه أبو زيد على أبي إسحاق المروزي وتفقه أبو اسحاق على أبي العباس بن سريج وتفقه ابن سريج على أبي القسم الأنماطي وتفقه الأنماطي علي أبي إبراهيم المزني وتفقه المزني على الإمام الشافعي رضي الله عنهم
وأما طريقة العراقيين فإني تفقهت على والدي كما سبق وتفقه هو على الشيخ المعمراني سعد بن أبي عصرون الموصلي وتفقه أبو سعد على القاضي أبي علي الغارقي وتفقه القاضي أبو علي على الشيخ أبي اسحاق الشيرازي وعلى أبي نصر بن الصباغ صاحب الشامل وتفقها على القاضي الإمام أبي الطيب الطبري وتفقه أبو الطيب على أبي الحسن الماسرخسي وتفقه الماسرخسي على أبي اسحاق المروزي وقد تقدم ذكر إسناده بالتفقه والله أعلم
صورة استفتاء جاء إلى الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ تقي الدين أبي عمرو عثمان المعروف بابن الصلاح مصنف هذا الكتاب رحمه الله ما تقول السادة الفقهاء في رجل قيل له هل محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم الآن رسول أم لا فقال كان مرسلا ونحن الآن في حكم الرسالة المتقدمة وليس هو في زماننا هذا مرسلا فهذا صواب أم خطأ أفتونا مأجورين مشكورين
أجاب رضي الله عنه هو صلى الله عليه و سلم رسول الله الآن ومن حيث أرسل وهو جزاء ولا يتوقف وصفه بذلك على قيام ما به اتصف من الابتداء بهذه الصفة كما في أحوال كثيرة كانت له صلى الله عليه و سلم لم يكن له ذلك فيها ثم كان موصوفا بهذه الصفة
والأنبياء أحياء بعد انقلابهم إلى الآخرة من الدنيا فليحذر المرء من أن يطلق لسانه في نفي ذلك عنه الآن صلى الله عليه و سلم فإنه من عظيم الخطأ وقد كانت الكرامية شنعت
بخراسان على الأشعري بمثل هذا فبين أبو محمد الجويني والقشيري وغيرهما براءته من ذلك ثم أشغل المرء قلبه ولسانه بمثل هذا من الفضول المجانب للفضل والورع والله أعلم
وكتب ابن الصلاح ثم
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد نبي الرحمة وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا مباركا طيبا دائما إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل
بلغ مقابلة بحسب الطاقة والإمكان والله أعلم
فتاوي ومسائل
ابن الصلاح
في التفسير والحديث والأصول والفقه
ومعه
أدب المفتي والمستفتي
حققه وخرج حديثه وعلق عليه
الدكتور عبد المعطي امين قلعجي
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي وكفى
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام الأكملان أبدا على سيد المرسلين وسائر النبيين وآلهم وصحبهم أجمعين اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا ومن شر الأشرار وكيد الفجار وارزقنا طهارة الأسرار وموافقة الأبرار وأعذنا من عذاب النار برحمتك يا عزيز يا غفار
هذه الفتاوي التي صدرت من شيخنا سيدنا الإمام العالم العامل مفتي الشام شيخ الإسلام تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان ابن موسى بن أبي نصر البصري الشهرزوري المعروف بابن الصلاح أثابه الله الجنة وغفر له ولهم وللمسلمين أجمعين آمين اعتنى بجمعها وترتيبها على حسب الإمكان من تلامذته وأصحابه من طلب
الفائدة ورجاء الأجر والمثوبة الشيخ كمال الدين إسحق بن أحمد بن عثمان عفا الله عنه وعن والده وعن جميع المسلمين آمين وأسأل الله عز و جل أن ينفع بها إنه قريب مجيب وعلى ذلك قدير وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب
رتبتها على أربعة أقسام
قسم في شرح آيات من كتاب الله تعالى
وقسم في شرح أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يتعلق بها من الرقائق
وقسم ثالث يطلق بالعقائد والأصول
وقسم رابع في الفقه على ترتيبه
القسم الأول
في شرح آيات من كتاب الله تعالى1 - مسألة في قوله تبارك وتعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت إلى آخر الآية
قال المستفتي يريد تفسيرها على الوجه الصحيح بحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصحاح أو بما أجمع أهل الحق على صحته وقوله تبارك وتعالى قالوا أضغاث أحلام وما معنى أضغاث أحلام ومن أين يفهم المنام الصالح من المنام الفاسد
وهل يجب على الزوج أن يعلم زوجته فرائض الصلاة وجميع الواجبات التي عليها أم لا وإذا وهب من إنسان شيئا أو تصدق به عليه فهل له أن يشتريه منه أم لا أجاب رضي الله عنه أما قوله تبارك وتعالى الله يتوفى الأنفس
الآية فتفسيره الله يقبض الأنفس حين انقضاء أجلها بموت أجسادها والتي يقبضها أيضا عند نومها فيمسك التي قضى عليها الموت بموت أجسادها فلا يردها إلى أجسادها ويرسل الأخرى التي لم تقبض بموت أجسادها حتى تعود إلى أجسادها إلى أن يأتي أجلها المسمى لموتها إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون لدلالات المتفكرين على عظيم قدرة الله سبحانه وعلى أمر البعث فإن الاستيقاظ بعد النوم شبيه به ودليل عليه
نقل أن في التوراة يا ابن آدم كلما تنام تموت وكلما تستيقظ تبعث فهذا واضح والذي يشكل في ذلك أن النفس المتوفاة في المنام أهي الروح المتوفاة عند الموت أم هي غيرها فإن كانت هي الروح فتوفيها في النوم يكون بمفارقتها الجسد أم لا وقد أعوز الحديث الصحيح والنص الصريح والإجماع أيضا لوقوع الخلاف فيه بين العلماء فمنهم من يرى أن للانسان نفسا تتوفى عند منامه غير النفس التي هي الروح والروح لا تفارق الجسد عند النوم وتلك النفس المتوفاة في النوم هي التي يكون بها التمييز والفهم وأما الروح فيها تكون الحياة ولا تقبض إلا عند الموت ويروى معنى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما
ومنهم من ذهب إلى أن النفس التي تتوفى عند النوم هي الروح نفسها واختلف هؤلاء في توفيها فمنهم من يذهب إلى أن معنى وفاة الروح بالنوم قبضها عن التصرفات مع بقائها في الجسد وهذا موافق للأول من وجه ومخالف من وجه وهو قول بعض أهل النظر ومن المعتزلة ومنهم من ذهب الى أن الروح تتوفى عند النوم بقبضها من الجسد ومفارقتها له وهذا الذي نجيب به وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنة
وقد أخبرنا الشيخ أبو الحسن بن أبي الفرج النيسابوري بها قال أنا جدي أبو محمد العباس بن محمد الطوسي عن القاضي أبي سعيد الفرخزاذي عن الإمام أبي اسحق أحمد بن محمد الثعلبي رحمه الله تعالى قال قال المفسرون أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها
ولفظ هذا الإمام في هذا الشأن يعطي أن قول أكثر أهل العلم بهذا الفن وعند هذا فيكون الفرق بين القبضتين والوفاتين أن الروح في حالة النوم تفارق الجسد على أنها تعود إليه فلا تخرج خروجا ينقطع به العلاقة بينها وبين الجسد بل يبقى أثرها الذي هو حياة الجسد باقيا فيه فأما في حالة
الموت فالروح تخرج من الجسد مفارقة له بالكلية فلا تخلف فيه شيئا من أثرها فلذلك تذهب الحياة معها عند الموت دون النوم ثم إن إدراك كيفية ذلك والوقوف على حقيقته متعذر فانه من أمر الروح وقد استأثر بعلمه الجليل تبارك وتعالى فقال سبحانه قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
وأما قوله تبارك وتعالى قالوا أضغاث أحلام فإن الأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة التي تقبض بالكف من الحشيش ونحوه والأحلام جمع حلم وهي للرؤيا مطلقا وقد تختص بالرؤيا التي تكون من الشيطان ولما روى في حديث الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فمعنى الآية أنهم قالوا للملك إن الذي رأيته أحلام مختلطة ولا يصح تأويلها
وقد أفرد بعض أهل التعبير اصطلاحا لأضغاث أحلام فذكر أن من شأنها أنها لا تدل على الأمور المستقبلة وإنما تدل على الأمور الحاضرة والماضية ونجد معها أن يكون الرأي خائفا من شيء أو راجيا لشيء وفي معنى
الخوف والرجاء والحزن على شيء والسرور بشيء فاذا أنام من اتصف بذلك لذلك رأى في نومه ذلك الشيء بعينه أن يكون خاليا من شيء هو محتاج إليه كالجائع والعطشان يرى في نومه كأنه يأكل ويشرب أو يكون ممتلئا من شيء فيرى كأنه يتجنبه كالممتلىء من الطعام يرى كأنه يقذف وذكر أن هذه الأمور الأربعة مهما سلم الرأي منها فرؤياه لا تكون من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها وهذا الذي ذكره ضابط حسن لو سلم في طرفيه لكن الحصر شديد وما ذكره فعنده من المنامات الفاسدة شاركته في الاندراج في قبيل الأضغاث
وأما سؤاله من أين يفهم المنام الصالح من المنام الفاسد فإن للرؤيا الفاسدة أمارت يستدل بها عليها وما تقدم حكايته في شرح أضغاث الأحلام طرف منها
فمنها أن يرى ما لا يكون كالمحالات وغيرها مما يعلم أنه لا يوجد بأن الله سبحانه وتعالى على صفة مستحيلة عليه أو يرى نبيا يعمل عمل الفراعنة أو يرى قولا لا يحل التفوه به ومن هذا القبيل ما جاء في الحديث الصحيح من أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم إني رأيت رأسي قطع وأنا أتبعه الحديث المعروف وهذه هي الرؤيا الشيطانية التي ورد الحديث بأنها تحزين من الشيطان أو تلعب منه بالانسان ومن هذا النوع
الاحتلام فإنه من الشيطان ولهذا لا تحتلم الأنبياء عليهم السلام
ومن أمارات الرؤيا الفاسدة أن يكون ما رآه في النوم قد رآه في اليقظة وأدركه حسه بعهد قريب قبل نومه وصورته باقية في خياله فيراه بعينها في نومه
ومنها أن يكون ما رآه مناسبا لما هو عليه من تغيير المزاج بأن تغلب عليه الحرارة من الصفراء فيرى في نومه النيران والشمس المحرقة أو يغلب عليه البرودة فيرى الثلوج أو يغلب عليه الرطوبة فيرى الأمطار والمياه أو يغلب عليه اليبوسة والسوادء فيرى الأشياء المظلمة والأهوال فالرؤيا السوداوية فجميع هذه الآنواع فاسدة لا تعبير لها فاذا سلم الانسان في رؤياه من هذه الأمور وغلب على الظن سلامة رؤياه من الفساد ووقعت العناية بتعبيرها واذا انضم الى ذلك كونه من أهل الصدق والصلاح قوي الظن بكونها صادقة صالحة وفي الحديث الثابت عنه صلى الله عليه و سلم أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا
ومن أمارات صدقها من حيث الزمان كونها في الأسحار لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أصدق الرؤيا بالأسحار
وكونها عند اقتراب الزمان لقوله صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب
واقتراب الزمان قيل هو اعتداله وقت استواء الليل والنهار ويزعم المعبرون أن أصدق الرؤيا ما كان أيام الربيع وقيل اقتراب الزمان قرب قيام الساعة ومن أمارات صلاحها أن يكون تبشير بالثواب على الطاعة أو تحذير من المعصية ثم إن القطع على الرؤيا بكونها صالحة لا سبيل إليه إنما هو غلبة الظن ونظير ذلك من حال اليقظة الخواطر ومعلوم أن إدراك ما هو حق منها فما هو باطل وعر الطريق أن ظن الأظنان والله أعلم
وأما تعليم الزوجة ما يجب عليها تعلمه من الفرائض فهو واجب عليه وعلى غيره ممن يتمكن من تعليمها فرضا على الكفاية فإذا لم يقم به غيره ولم يقم هو به أثم وأثموا ويتعين عليه الوجوب في تعليمها الواجبات التي يحتاج تعليمها إلى سماع صوتها كالفاتحة وغيرها إذا لم يوجد لها محرم ولا امرأة يتمكن من تعليمها فذلك يخصه الوجود منه ذهابا إلى أن غير المحرم والمرأة لا يجوز لها تعليمها والوجهان فيما إذا أصدقها تعليم سورة ثم طلقها قبل التعليم
وكذلك يتعين عليه فرض تعليمها إذا لم يعلم بحاجتها إلى التعليم غيره والله أعلم
وأما ابتياعه شيئا وهبه أو تصدق به من المهتب والمتصدق عليه فيصح ذلك ولكن يكره في الصدقة ذلك للحديث الصحيح في كتاب مسلم وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمل على فرس في سبيل الله
ثم وجده عند صاحبه وقد أضاعه فاستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يشتريه منه فقال صلى الله عليه و سلم لا تشتريه وإن أعطيته بدرهم فإن مثل العائد في صدقته كمثل الكلب يعود في قيئه
ورواه سفيان بن عيينة وقال لا تشتريه ولا شيئا من نتاجه
وقد نهى الشافعي رضي الله عنه على كراهة ذلك
وأما الهبة فالأمر فيها أهون ومع ذلك فأصل الكراهة في استفادة الموهوب بالشراء ثابت أيضا فيما يظهر لي بأن حديث عمر المذكور دل على كون المشتري عائدا والعود مكروه في الهبة
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه والله أعلم
2 - مسألة قول الله عز و جل إتقوا الله حق تقاته ما هي الخصال التي إذا فعلها الانسان كان متقيا لله عز و جل حق تقاته وهل نسخت هذه الآية بقول الله عز و جل فاتقوا الله ما استطعتم أم لا
أجاب رضي الله عنه لم تنسخها بل فسرتها وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى غير إذا تجنب الكبائر ولم يصر على صغيرة وإذا عمل صغيرة يعقبها بالإستغفار كان من جملة المتقين والله أعلم
3 - مسألة قوله عز و جل إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
إلى آخر الآية
ما الكبائر وما الصغائر وكم المتفق عليه من الكبائر وما الفرق بين الصغائر والكبائر وهل تحتاج الصغائر إلى توبة أم لا وهل تذهب الصغائر بالصلوات كما جاء في الحديث أم لا بد من ذلك من التوبة وإن احتاجت إلى التوبة فما الفرق بينهما وبين الكبائر وبماذا يعد المصر على الصغيرة مصرا بفعل الصغيرة مرة واحدة أم مرارا أم بالعزم والنيه فإن قلنا بالفعل مرارا فما عدد تلك المرات
أجاب رضي الله عنه قد اختلف الناس في الصغائر والكبائر في وجوه منهم من نفى الفرق من الأصل وجعل الذنوب كلها كبائر وهو مطرح
والذين أثبتوا الفرق وهم جماهير اضطربت أقوالهم في تحديد الكبائر وتعديدها
وقد قلت في ذلك قولا رجوت أنه صواب وهو أن الكبيرة ذنب كبير وعظم عظما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف بكونه عظيما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف يكون عظيما على الإطلاق فهذا فاصل لها عن الصغيرة التي وان كانت كبيرة بالإضافة الى ما دونها فليست كبيرة يطلق عليها الوصف بالكبر والعظم اطلاقا ثم إن لكبر الكبيرة وعظمها أمارات معروفة بها منها إيجاب الحد ومنها ألا يعاد عليها بالعذاب النار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن كما قي قوله لعن الله من غير منار الأرض في أشباه لذلك لا نحصيها وعند هذا يعلم أن عدد الكبائر غير محصور والله أعلم
والصغائر قد تمحى من غير توبة بالصلوات وغيرها كما جاء به الكتاب والسنة وذلك أن فاعل الصغيرة لو أتبعها حسنة أو حسنات وهو غافل عن التندم والعزم على عدم العود المشترطين في صحة التوبة لكان ذلك ماحيا لصغيرة ومكفرا لها كما ورد به النص وإن لم توجد منه التوبة لعدم ركنها لا لتلبسه بأضدادها والمصر على الصغيرة من تلبس من أضداد التوبة باستمرار العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه في حيز ما يطلق
عليه الوصف بصيرورته كبيرا وعظيما وليس لزمان ذلك وعدده حصر والله أعلم
4 - مسألة في قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقد ثبت أن أعمال الأبدان لا تنتقل وقد ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له
وقد اختلف في القرآن هل يصل إلى الميت أم لا كيف يكون الدعاء يصل إليه والقرآن أفضل
أجاب رضي الله عنه هذا قد اختلف فيه وأهل الخير وجدوا البركة في مواصلة الأموات بالقرآن وليس الاختلاف في هذه المسألة كالاختلاف في الأصول بل هي من مسائل الفروع وليس نص الآية المذكورة دالا على بطلان قول من قال أنه يصل فإن المراد أنه لا حق له ولا جزاء إلا فيما سعى فلا يدخل فيما يتبرع عليه الغير من قراءة أو دعاء فانه لا حق له في ذلك ولا مجازاة وإنما أعطاه إياه الغير تبرعا وكذلك الحديث لا يدل على بطلان قوله فإنه في عمله وهذا من عمل غيره
5 - مسألة قوله عز و جل الذاكرين الله كثيرا والذكرات ما هو الذكر
وما هو مقداره الذي يصير به المؤمن من الذاكرين الله كثيرا وهل قراءة القرآن أفضل من سائر الأذكار من التسبيح والتهليل والتكبير وما معنى الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات مع أنا نعلم ذلك بقوله عز و جل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فتخصيص الخير بقراءة القرآن بكل حرف عشر حسنات لا بد له من فائدة وما الحكمة في ذلك وأفضل أوقات الذكر ما هي
أجاب رضي الله عنه إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحا ومساء وفي الأوقات والأحوال المختلفة في ليل العبد ونهاره وهي مبينة في كتاب عمل اليوم والليلة كان من الذاكرين الله تبارك وتعالى كثيرا وقراءة القرآن أفضل من سائر الأذكار
وقوله له بكل حرف عشر حسنات فيه فائدة زائدة وهي الأعلام بأن الحسنة هنا ليست مخصوصة في أن يأتي بالكلمة محصورة بكمالها بل تحصل بحرف منها وأفضل أوقات الأذكار هي الأوقات الشريفة المعروفة إذا اقترنت بالأحوال الصافية
6 - مسألة قوله عز و جل فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين
هن يراؤن ويمنعون الماعون من الساهون والمراؤن والذين يمنعون الماعون وهل إذا فعل إحدى هذه الثلاث كان من أصحاب الويل أم إذا فعل الثلاث
أجاب رضي الله عنه الساهون الغافلون عن الصلاة التاركون لها والمراؤن هم من يعمل ما هو طاعة لغير الله أو لله ولغير الله والذين يمنعون الماعون اختلفوا فيه والأظهر أن الماعون مهمات آلات البيت من قدر ومغرفة وفاس ومجرفة وأشباههما هذا لما كانت الإعارة واجبة وهو ظاهر الآية ثم نسخ والأظهر أن استحقاق الويل مخصوص بمن جمع بين الثلاث والله أعلم
7 - مسألة قول الله تبارك وتعالى فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى لم أمر بالنظر
إلى الأثر ولم يأمر بالنظر إلى الرحمة وهل يجوز لأحد أن يفسر القرآن بما يخطر في نفس أو يغلب على ظنه من غير نقل عن أحد المفسرين ومن غير علم بالعربية واللغة
أجاب رضي الله عنه إنما كان ذلك كذلك لأن الآية واردة للأمر بالنظر إلى المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها والمطر الذي هذا شأنه وسائر صنوف الأنعام آثار للرحمة لأنفس الرحمة فإن الرحمة عند المحققين من صفات الذات نحو الارادة ولا سبيل إلى النظر اليها ومهما سمي المطر وغيره من وجوه الإنعام رحمة فعلى سبيل التجوز والأصل هو الأول
وأما تفسير القرآن ممن هو على الصفة المذكورة فمن كبائر الإثم ورووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار
وفي رواية من قال في القرآن بغير علمه فليتبوأ مقعده من النار خرجه أبو عيسى الترمذي في جامعه وخرج أيضا عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ
الحديث الأول من حسانها وهذا دونه والمفسر الموصوف قائل في القرآن قولا لا يستند إلى أصل وحجة تعتمد وهذا هو القول بالرأي المذموم قائله وقوله في الرواية الأخرى من قال في القرآن بغير علم كالمفسر لهذا ونسأل الله العصمة من ذلك ومن سائر ما يسخطه سبحانه وهو سبحانه أعلم
8 - مسألة في قوله الله عز و جل كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو
الجلال والإكرام هل يجوز الوقف على قوله سبحانه ويبقى والابتداء بما بعده وفي الوقف على فان وفيمن قال إنما الوقف على قوله عز و جل ويبقى دون قوله فان
أجاب رضي الله عنه الوقف على ويبقى مما يجب أن يعاف ويتقى لأنه مع أنه مخالف قول من تناهى إلينا قوله من مفسري القران العظيم ومقرئيه والعلماء فإنه يدفعه الدليل ويأباه لأنه ترك للظاهر الأسبق الى الفهم وقد تقرر أنه غير سائغ إلا مستند يقوي قوة يصير به خلاف الظاهر أرجح منه وليس الوقف على يبقى مستند يتنزل هذه المنزلة ولا قريبا منها وقصارى الصائر إليه أن يبين اتجاه معنى أو مجيئه على متقدم نقلا واحتماله معنى لا يسوغه مع أن الأظهر غيره ونقله غير متقدم لو ترك في يده لم ينفعه لأنه لا يجوز العدول عن قول الجماهير بمجرد قول فأرد وهذا وإن فيه إثبات تفسير الاية أو نحوه يبعث الشذوذ في القران كما في الأصل والجرأة عليه عظيمة وإنما يتوقاها المتقون والله أعلم
9 - مسألة ما قول أئمة الحديث والتفسير والعلماء بالأيام والسير
في البقرة المذكورة في القرآن العزيز في سورة البقرة هل هي أنثى أو ذكر وفي بغلة النبي صلى الله عليه و سلم المسماه بدلدل هل هي أنثى أو ذكر بينوا ذلك
أجاب رضي الله عنه كل منهما أنثى لا ذكر ولا تستفيد ذلك من هاء التأنيث فيهما فإنه يقال للذكر بقرة وبغلة أيضا حتى صار بعض أئمة الشافعيين إلى أنه لو أوصى ببقرة أو بغلة جاز إخراج الذكر والأنثى ومن خصص بالأنثى فلغة عرف الاستعمال فيها لا لأنها في اللغة مخصوصة بالأنثى وإنما استفدنا الأنوثة في المذكورتين من معارف غير ذلك أما البقرة ففي إناثها ما يوضح الأنوثة فيها وذلك في غير موضع مما ذكره الله تبارك وتعالى في صفاتها فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى عوان بين ذلك فان صفة الأنثى النصف وفي التفسير أنها الأنثى التي ولدت بطنا أو بطنين ومن ذلك قوله صفراء فاقع لونها فإنه إذا قيل للذكر بقرة قيل عند الوصف بقرة أصفر لا صفراء ولذلك لا يقال تسر بل يسر وفي ذلك غير هذا
وأما بغلة النبي صلى الله عليه و سلم المسماه بدلدل فمن الدليل على أنها كانت أنثى ما جاء في خبرها عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال كانت دلدل بغلة النبي صلى الله عليه و سلم أول بغلة رؤيت في الإسلام أهداها له المقوقس
قال الراوي وبقيت حتى كان زمن معاوية وروى محمد بن سعد بسند له أن اسم بغلة النبي صلى الله عليه و سلم الدلدل وكانت شهباء وكان بينبع حتي ماتت ثم قال ابن سعد وهو ثقة أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي وقبيصة بن عقبة قالا حدثنا سفيان الثوري عن جعفر عن أبيه قال كانت بغلة النبي صلى الله عليه و سلم تسمى الشهباء وهذا إسناد رجاله أثبت وبمثل هذا لا يوصف به الذكر وإن أجازوا فيه أن يقال بغلة فلم يخبروا في صفة وفيما يرجع إليه من الضمائر مثل هذا الذي تراه وبابه ولا التفات في ذلك إلى تأنيث اللفظ كما في قولنا طلحة وحمزة فلا يقال طلحة سرتني أو كانت ونحو ذلك ولا حمزة البيضاء بل الأبيض فقط والله أعلم
ثم إذا ضم ما أردته من أمر دلدل إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن الحارث صهر رسول الله صلى الله عليه و سلم أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين وهو أحد الصحابة الذين تفرد البخاري عن مسلم بإخراج حديثهم قال ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة
ظهر من ذلك أن بغلته صلى الله عليه و سلم المسماه بدلدل هي التي تسمى البيضاء وكانت تسمى الشهباء ذكره السهيلي صاحب الروض الأنف في شرح السيرة من أن المسماة بالبيضاء غير المسماة بدلدل غير مرض ومعتمد والله أعلم
10 - مسألة قوله سبحانه وتعالى ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم فعلم الله السابق وهو قوله
حتى نعلم المجاهدين منكم أو هو علم يأتي وسمعت شخصا يقول في هذه الآية حتى نعلم يتجدد له علم ثان والحق سبحانه وتعالى له علمان أو علم واحد بين لنا هذا على الوجه الصحيح الذي لا ريب فيه في الدين
أجاب رضي الله عنه الذي قاله الشخص خطأ ولا يتجدد لله سبحانه علم وإنما علمه يختلف متعلقة فتعلق قبل وجود مجاهدتهم بأنه يستوجد مجاهدتهم وبعد وجودها بأنها قد وجدت فإذا معنى الآية حتى نعلم مجاهدتكم موجودة فنجازيكم عليها والله أعلم
القسم الثاني
في شرح أحاديث وردت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
فمن ذلك
11 - مسألة في قوله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالعالم يوم القيامة فيقال إنما تعلمت العلم ليقال كذا وكذا وقد قيل الحديث
ما معناه أيحل على أنه كانت له حسنات غير العلم فأحبطت نيته في العلم حسناته وهذا خلاف قوله سبحانه وتعالى إن الحسنات يذهبن السيئات أو يحمل على أنه لم يكن له حسنة سوى العلم وكذا المجاهد وهذا خلاف الظاهر أم له معنى غير هذين
أجاب رضي الله عنه هذا في شخص كان بمثابة لو أخلص فيها في علمه لنجاه علمه من العذاب الذي وجد مقتضاه فلما لم يخلص نزل به موجب المقتضى لعذاب أو هذا فيمن ترجحت سيئاته لريائه بالعلم على حسناته فلم تدفع عنه حسناته عذاب ذنب الرياء فعذب والله أعلم
12 - مسألة قوله صلى الله عليه و سلم الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما
وإذا كانت الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها فما يكفر الجمعة ورمضان بين لنا
أجاب رضي الله عنه هي كفارات وإن لم تصادف شيئا تكفره بمعنى أنها أسباب للتكفير وقد ينتفي عن السبب مسببه لأمر من الأمور فلا يخرجه ذلك عن كونه سببا ثم جواب آخر وهو أن الصلوات الخمس كفارة للصغائر على ما نطق به الحديث والمرجو أن الكفارة الثانية إذا لم تصادف صغيرة تكفر بعض الكبائر والله أعلم
13 - مسألة في أن الخبر إذا ورد من جهة الله سبحانه وتعالى لا يتصور وجوده على خلاف المخبر به وهل هو كما أطلق أم ثم فرق بين وعد ووعيده وإذا لم يصح الإطلاق فما الفرق بينهما وهل يكفي في الفرق أن يقال إن إخلاف الوعيد لا يليق بجانب الله تعالى والعفو عن الوعيد لائق به أم لا
أجاب رضي الله عنه نعم هو على أصح إطلاقه فلا يقع أصلا شيء من أخباره على خلاف مخبره ومن ذلك الوعد وأما الوعيد فالعفو متطرق إليه وليس ذلك خلفا في خبره فيه فإن الوعيد مقيد من حيث المعنى بحالة عدم العفو فإذا قال لأعذبن الظالم مثلا فتقديره إن لم أعف عنه أو إلى أن أسامحه أو أتكرم عليه ونحو هذا وهذا القيد عرف من عادة العرب في إيعاداتها ومن أخبار الشارع عن ذلك على الجملة والعموم في مثل قوله صلى الله عليه و سلم فيما رويناه عن وعد الله على من عمل ثوابا فهو
منجز له ومن وعده على عمل عقابا فهو بالخيار إن شاء عذبه وإن شاء غفر له والله أعلم
14 - مسألة روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بنصف يوم فهل هذا يطلق على الفقير الذي قد جمع بين العلم والعمل أم الفقير الذي قد منع الدنيا ولا حظ له فيها فيكون دخوله الجنة جبرا لقلبه يوم القيامة حيث يتمنى شيئا لا يقدر عليه وإن أطلق ذلك على الفقير الذي قد جمع بين العلم والعمل فذلك هو الغني الأكبر وما هو الفقير والغني الذي ورد فيهم بين لنا
أجاب رضي الله عنه يدخل في هذا الفقير الذي لا يملك شيئا والمسكين الذي يملك شيئا ولكن لا يملك تمام كفايته إذا كانوا مؤمنين غير مرتكبين شيئا من الكبائر ولا مصرين على شيء من الصغائر ويشترط في ذلك أن يكونا صابرين على الفقر والمسكنة راضين بهما والله أعلم
15 - مسألة قوله صلى الله عليه و سلم خير القرون قرني الذي أنا فيه ثم
الذي يلونهم الحديث ما الفرق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه و سلم على تقدير صحته أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره وما معنى قوله صلى الله عليه و سلم للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه الفرحة عند افطاره ما هي كونه يفرح بالأكل والشرب وفرحة كونه حصلت له عبادة هذا اليوم
أجاب رضي الله عنه أما الحديثان الأولان فلا تناقض بينهما لأن آخر الأمة في الحديث الثاني المضطرب عبارة عن المهدي وعيسى بن مريم صلى الله عليه و سلم ومن معهما وأما فرحة الصائم عند إفطاره فجائز حملها على الأمرين فرحة النفس بما تتناول ولا محذور فيها وفرحة بتمام العبادة الفاضلة له والله أعلم
16 - مسألة قوله صلى الله عليه و سلم إنها من الطوافين عليكم على ماذا يحمل وهو أنا نغفل عن الصبيان الصغار من الأولاد الذين لا يمكنهم التحرر منهم كما لا يمكن في الطوافات للعلة ولو تيقنت النجاسة منهم في محل العفو عنها في مثله منها وهل يجوز استنقاذ كتب المسلمين من بلاد الفرنج والقراءة فيها بناء على أنه متى جاز بها دفعها اليه بلا شيء ولا عوض
أجاب رضي الله عنه الطوافون الخدم والطوافات الخدامات وأفواه الأطفال التي يغلب نجاستها الظاهر أنها كأفواه السناير في العفو والله أعلم واستنقاذ الكتب المذكورة حسن ثم لا يجوز القراءة فيها والانتفاع بها في الحال والظاهر أنه اذا قرفها سنة كما في تعريف اللقطة جاز له تملكها كما يتملك اللقطة
17 - مسألة روى أبو عبد الله البخاري وأبو الحسن مسلم رحمهما الله تعالى في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الصادق المصدوق أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله الملك وذكر باقي الحديث
وفي الحديث الذي انفرد مسلم بإخراجه من حديث أبي شريحة حذيفة بن أسيد الغفاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وذكر باقي الحديث
ففي الحديث الأول إشعار بأن الله تعالى يرسل الملك بعد مائة وعشرين ليلة وفي الحديث الثاني تصريح بأن الملك يبعث بعد أربعين ليلة فكيف الجمع بين هذين الحديثين
أجاب رضي الله عنه حديث حذيفة بن أسيد هذا لم يخرجه البخاري في كتابه ولعل ذلك لكونه لم يجده يلتئم مع حديث ابن مسعود رضي الله عنهما ووجد حديث ابن مسعود أقوى وأصح فارتاب بحديث حذيفة الذي مداره على أبي الطفيل عامر بن وائلة عنه فأعرض عنه وأما مسلم فإنه خرج الحديثين معا في كتابه فأحوجنا إلى تطلب وجه يلتئمان به ولا يتنافران وقد وجدناه ولله الحمد الأتم فأقول الملك يرسل غير مرة إلى الرحم يرسل مرة عقيب الأربعين الأولى بدلالة حديث حذيفة بن أسيد بألفاظه في رواياته المتعددة فيكتب رزقه وأجله وعمله وحاله في السعادة والشقاء وغير ذلك ويرسل مرة أخرى عقيب الأربعين الثانية فينفخ فيه الروح بدلالة حيث ابن مسعود وغيره ثم أنه يشكل وراء هذا من حديث حذيفة في قوله في بعض رواياته عند ذكر إرسال الملك عقيب الأربعين الأولى فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب ذكر أو أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب إلى آخره
ومن المعلوم أن هذا التصوير لا يكون في الأربعين الثانية فإنه يكون فيها علقة وإنما يكون هذا التصوير قريبا من نفخ الروح وهكذا روينا ذلك مصرحا به في بعض روايات حديث حذيفة خارج الصحيح وسبيل الجواب عن هذا الإشكال أن يحمل قوله فصورها على معنى فصورها قولا كتابا لا فعلا أي فذكر تصويرها وكتب ذلك والدليل على صحة هذا أن جعلها
ذكرا أو أنثى يكون مع التصاوير المذكورة وقد قال في جعله ذكرا أو أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك الى آخره
ويشكل أيضا من حديث ابن مسعود أن البخاري رواه بهذا اللفظ وهو أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما أو أربعين ليلة ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث الله إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح فقوله ثم يبعث إليه الملك بحرف ثم تقتضي تأخير كتب الملك الأمور الأربعة إلى ما بعد الأربعين الثالثة وحديث حذيفة بن أسيد قاضي بتقديم كتب الملك لذلك عقيب الأربعين الأولى وسبيل الخروج عن إشكال ذلك أن يجعل قوله ثم يبعث الله إليه الملك فيؤذن فيكتب معطوفا على قوله يجمع في بطن أمه أربعين يوما ومتعلقا بهذا إلا بالذي يليه قبله وهو قوله ثم يكون مضغة مثله ويكون قوله ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله إعتراضا وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والاعتراض بأمثال ذلك في كلام الله تبارك وتعالى وكلام العرب غير قليل
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون فقوله وعشيا ليس متعلقا بالذي يليه قبله وهو قوله وله الحمد في السموات والأرض ومعطوفا عليه بل متعلقا بما سبق من قوله وحين تصبحون وقوله وله الحمد في السموات والأرض اعتراضا بينهما
إذا عرفت هذا فقوله ثم ينفخ فيه الروح متصل بقوله ثم يكون مضغة مثله لأنه في نية التأخير لما ذكرناه فافهم ذلك واعرفه فإنه مشكل عويص جدا لا أحد نعلمه تقدم بحله وقد أوضحته ايضاحا ينشرح له صدر الفاهم الآهل والله سبحانه المحمود حقا
وقد كان الحافظ عياض بن موسى القاضي من المغاربة قد تعرض لذلك مقتصرا على رواية مسلم لحديث ابن مسعود وذلك فيها بحرف الواو لا بحرف ثم ولفظها ثم يرسل الملك فينفخ فيه الورح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه إلى آخره وأجاب بأن الواو لا تقتضي ترتيبا وهذا الذي أتى به سهل إلايتاء مثله في رواية البخاري التي هدانا الله الكريم لشرح معناها وله الحمد كله والله أعلم
18 - مسألة قوله صلى الله عليه و سلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له هل خرج في الصحيح أم لا وهل يصير في عقيب التوبة كمن لا
ذنب له ليحكم القاضي برشده في تزويج ابنته أو موليته أم لا بد من إصلاح العمل بعد التوبة إلى مدة معلومة وكيف حكم الله في ذلك
أجاب رضي الله عنه لم يخرج في الصحاح ولم نجد له إسنادا يثبت بمثله الحديث والتائب يلحق عند بعض أصحابنا بالمستور من غير توقف على إصلاح العمل في المدة المعلومة ولا بأس بالعمل بهذا والمستور يلي التزويج ولا يخرج على الخلاف في الفاسق
19 - مسألة رجلان تشاجرا في قوله صلى الله عليه و سلم ينزل ربكم في كل ليلة إلى سماء الدنيا الحديث بتمامه فقال أحدهما ينزل وكذا في جميع الصفات وجميع الآيات والأخبار لا تتأول وكل واحد يدعي الصحة في قوله
أجاب رضي الله عنه الذي عليه الصالحون من السلف والخلف رضي الله عنه الاقتصار في ذلك وأمثاله على الإيمان الجملي بها والإعراض عن الخوض في معانيها مع اعتقاد التقديس المطلق وانه ليس معناها ما يفهم من مثلها في حق المخلوق والله أعلم
20 - مسألة في معنى قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وهو قوله كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فهل المراد بالفطرة المذكورة هي فطرة الإسلام والفطرة التي هي الخلق والإبداع والاختراع أجاب رضي الله عنه معناه والله أعلم أنه يولد غير متلبس بحقيقة الكفر فإنه بالاعتقاد ولا وجود قطعا فأبواه يهودانه قبل البلوغ من حيث الأحكام تبقى وبعد البلوغ بتقليده لهما في حقيقة الكفر مباشرة منه وملابسه منه للكفر وأما ما ورد من أن الشقي من شقي في بطن أمه فالمراد به أن يكتب الملك عليه ذلك إخبارا عما يوجد منه إذا باشر الكفر وفي قوله والله أعلم بما كانوا عاملين اشعارا بأنه قد يكتب عليه الشقاء ويحكم به عليه بناء على ما يعلمه الله تعالى منه من أنه لو أحياه الى
حين يستقل بالإيمان والكفر لاختار الكفر وكفر كما جاءت الرواية بذلك مصرحا به في بعض الأحاديث فيخرج من ذلك أنا لا نستلزم الحكم بأن من مات من أطفال المشركين فهو في الجنة وكذا في أشباههم من المجانين والله أعلم
21 - مسألة في معنى قراءة النبي صلى الله عليه و سلم على أبي لم يكن الذين كفروا بأمر الله تعالى ما المراد بذلك وما وجه تخصيص هذه الصورة بالذكر وما الحكم في ذلك
أجاب رضي الله عنه في ذلك فوائد منها كونه يسن بذلك عرض القرآن على ما يحفظه ويعرف كما هو المعروف من قراءة القارىء على المقرىء ومنها أن أبيا كان موثوقا به في الأخذ والأداء عنه صلى الله عليه و سلم ففعل ذلك ليؤدي عنه وفيه حض له على القصد وفي قراءة القرآن عليه فكان رضي الله عنه بعده صلى الله عليه و سلم رأسا وإماما
وأما تخصيص هذه السورة فمن المعنى فيها أنها مع وجازتها جامعة
لأصول وقواعد ومهام عظيمة وكان الوقت يقتضي ترك التطويل والله أعلم
22 - مسألة قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر فهل يكون هذا السوق قبل موت الخلق أو بعد خروجهم من الأجداث
أجاب رضي الله عنه بل قبل موت الخلق وقوله لا تقوم الساعة شاهد بذلك والله أعلم
23 - مسألة فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لعن الله من أكرم غنيا لغناه وأهان فقيرا لفقره
وعنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لعن الله من أكرم بالغنى وأهان بالفقر هل يدخل تحت هذا اللعن شيخ يزار يجيئه الفقير والغني وأبناء الدولة ومن هو من ذوي الولايات والتسلط يتكلف لأبناء الدنيا ويحضر للفقير ما يتيسر أم لا
أولا فان هذين الحديثين لا نعرفهما من جهة تصح تقوم بها
الحجة وقد أخرج أبو شجاع شيروية الهمداني صاحب الفردوس فيه من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال قال لعن الله فقيرا تواضع لغني من أجل ماله من فعل ذلك منهم فقد ذهب ثلثا دينه لكن ليس مما يقع عليه الاعتماد فان صاحب كتاب الفردوس جمع فيه بين الصحيح والسقيم وبلغ به الإنحلال إلى أن أخرج أشياء من الموضوع ويداني هذا الحديث في معناه ما يروى من أنه من تضعضع لغني ذهب نصف دينه
وأخبرت عن أبي الفتوح الشاذ ياخي وغيره قالوا أنبأنا الأستاذ أبو القاسم القشيري قال سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه
الله تعالى يقول في الخبر من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فان اعتقد فضله بقلبه كما تواضع له بلسانه ونفسه ذهب دينه كله هذا كلام ثم أنا نعلم أن هذه الأحاديث وإن لم تثبت من حيث الرواية فما تقتضيه من ذم إكرام الغني لغناه وإهانة الفقير ثابت صحيح وذلك إن لم ينته بفاعله إلى فظاعة اللعن وذهاب ثلثي الدين فهو منكر قبيح على الجملة فإن فيه تعظيم الدنيا التي هي مجمع الآفات وأم الخبائث ويستلزم ذلك من ضعف قوى التقوى أمرا عظيما لكنها لا تتناول من أكرم الغني مطلقا بل من أكرم الغني من أجل غناه أي كان الباعث له على إكرامه ما عنده من الدنيا واستعظام ما اتصف به من الغنى فلا يدخل في ذلك من أكرم الغني لمعنى آخر لا يذمه الشرع ويأباه بأن يقصد به حفظ قلب الغني لعلمه بأنه إن لم يفعل تأذى أو ترغيبه في إكرام الأضياف أو يريد به دفع شره وصيانة نفسه وإياه عن محذور غيبته أو توطيئته لما يريد أن يأمره به من الخير فهذا وما أشبهه من المقاصد الصحيحة إذا اقترن بفعل ذلك فهو حسن غير مذموم والفاعل له بنية التقرب مأجور غير مأزور وتكلف هذا المذكور لأبناء الدنيا إذا كان لشيء من هذه المقاصد المستقيمة فليس في إكرام الغني لغناه في شيء أصلا وكذلك اقتصاره في حق الفقير على إحضار ما تيسر إذا كان ذلك يكفي الفقير ويرضيه من غير أن يقترن به استحقار منه للفقير وفقره ليس من إهانة الفقير لفقره بسبيل وقد أخرج أبو داود صاحب السنن فيه عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة رضي الله عنها مر بها سائل فأعطته كسرة ومر عليها رجل عليه ثياب واهية فأقعدته فأكل فقيل لها في ذلك
فقالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننزل الناس منازلهم فهذا الحديث أصل في هذا الذي نحن بصدده فليصحح الممتحن بذلك مقاصده فيما يأتي منه ومن غيره ويذر ففي صحتها صحة أعماله وفي فسادها فسادها والله المسؤول توفيقنا وإياه لما يحبه ويرضاه ومن نحبه والمسلمين أجمعين وصلى الله على محمد وآله أجمعين
24 - مسألة روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا من أهل الصفة توفي فوجد معه ديناران فقال النبي صلى الله عليه و سلم كبتان فما السر في ذلك وما المعنى فيه مع أن الدينارين لا حق فيهما لله تعالى
أجاب رضي الله عنه من الأسباب في ذلك أنه رحمه الله أظهر الفقر وقعد مع الفقراء أهل الصفة الذين لا يملكون دينارا ولا درهما ولم يخرج ديناريه على نفسه ولا رفقائه والله أعلم
25 - مسألة سأل سائل المولى العالم الحافظ تقي الدين أبا عمرو عثمان المعرف بابن الصلاح أثابه الله الجنة وقال ذكرت في كتابك الذي صنفته في علوم الحديث فوائد جمة إلا أن في أوله أو قالوا في حديث أنه غير صحيح فليس ذلك قطعا بأنه كذب في نفس الأمر إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور والله أعلم
وقد رأينا قد ذكر عن الأئمة أنهم قالوا في الحديث حديث إسناده صحيح ومتنه غير صحيح أو إسناده غير صحيح ومتنه صحيح أو صحيح أو إسناده ضعيف ومتنه ضعيف وأيضا لهم كتب الموضوعات ويقولون من فلان الله أعلم من وضعه فهذا يدل على أنه في نفس الأمر غير صحيح فان رأى أن يذكر في شرح هذا ما يشفي به غلة الطالب فعل ذلك
أجاب رضي الله عنه الذي يرد من هذا على ذلك قولهم اسناده صحيح ومتنه غير صحيح وجوابه أن في كلامي احتراز عنه وذلك في قولي أنه يصح إسناده على الشرط المذكور ومتى كان المتن غير صحيح فمحال أن يكون له إسناد صحيح على الشرط المذكور لأنه من الشرط المذكور فلا يكون شاذا أو لا معللا والذي أوردتموه لا بد أن يكون في إسناده شذوذ أو علة تعلله ولأجل ذلك لا يصح به المتن فإن أطلق عليه أنه إسناد صحيح فلا بالتفسير الذي ذكرته بل بمعنى أن رجال إسناده عدول ثقات هذا فحسب وما بعد هذا لا يمس ما ذكرته إلا قولهم في بعض الأحاديث أنه موضوع
والجواب أنه ليس في الكلام الذي ذكرته إنكار لذلك وإنما فيه أنه لا يستفاد ولا يفهم من قولهم هذا الحديث غير صحيح أكثر من أنه لم يصح له إسناد على الشرط المذكور وهذا كذلك لأن هذا الكلام لا يظهر من معناه أنه كذب في نفس الأمر ومهما أردنا أن نذكر أنه كذب في نفس الأمر احتجنا إلى
زيادة لفظ مثل أن يقول هو موضوع أو كذب أو نحو ذلك والله أعلم
قولي لم يصح اسناده عام أي لم يصح له أسناد والله أعلم
26 - مسألة في رجل يقرأ الحديث على المحدث ويقول في كل حديث وبالاسناد حدثنا فلان عن فلان ولا يقول قال حدثنا فهل يصح هذا السماع أم لا
أجاب رضي الله عنه هذا خطأ من فاعله وأما بطلان السماع به ففيه احتمال والأظهر أنه لايبطل من حيث أن حذف القول اختصارا مع كونه مقدرا في كثير من كتاب الله تعالى وغيره والله أعلم
27 - مسألة روي أنه صلى الله عليه و سلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على صاع أو صاعين من شعير وأنه صلى الله عليه و سلم مات وله حصون وأرض فهل هذه الأحاديث صحاح أنه صلى الله عليه و سلم مات وهو فقير بينوا لنا أدلة موته على الفقر والكلمات التي علمها النبي صلى الله عليه و سلم للفقراء ففضلوا على الأغنياء بتلك الكلمات وغيرها من الأحاديث الصحيحة والذي ذهب من العلماء الى أن الفقير الصابر أعلى من الغني الشاكر من هو من العلماء
أجاب رضي الله عنه روى البخاري في صحيحه عن عائشة
رضي الله عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ودرعة مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير وكان له مما أفاء الله تبارك وتعالى أراض بخيبر وفدك وغيرهما وكانت معدة لنوائبه ولم تورث منه لقوله صلى الله عليه و سلم إنا لا نورث ما تركنا صدقة وكل هذا صحيح ولا تناقض فيه
والفقر صفته اللازمة عند موته وقبل ذلك صلى الله عليه و سلم ولا يقدح فيه ما كان في ملكه من إعداده إياه لمصالح المسلمين وإخراجه ما يحصل عند حصوله
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام حديث ثابت وحديث
أبي هريرة رضي الله عنه أيضا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن فقراء المهاجرين أتوه فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال وما ذاك قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون من بعدكم ولا يكون أحد أفضل من منكم الا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بل قال تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا سمع أخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء هذا لفظ الحديث في صحيح مسلم
وأخبرني بعض الأشياخ بخراسان قال أخبرنا أبو الفتوح عبد الوهاب بن شاه الصوفي قال أخبرنا الأستاذ أبو القاسم القشيري
قال سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول تكلم الناس في الفقر والغنى أيهما أفضل وعندي أن الأفضل أن يعطى الرجل كفايته ثم يصان فيه والله أعلم
28 - مسألة صوم رجب كله هل على صائمه إثم أم له أجر وفي حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم يرويه ابن دحية الذي كان بمصر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن جهنم لتسعر من الحول إلى الحول لصوام رجب هل صح ذلك أم لا
أجاب رضي الله عنه لا إثم عليه في ذلك ولم يؤثمه بذلك أحد من علماء الأمة فيما نعلمه بلى قال بعض حفاظ الحديث لم يثبت في فضل صوم رجب حديث أي فضل خاص وهذا لا يوجب زهدا في صومه فيما ورد من النصوص في فضل الصوم مطلقا والحديث الوارد في كتاب السنن لأبي داود وغيره في صوم الأشهر الحرم كاف في الترغيب في صومه وأما الحديث في تسعير جهنم لصوامه فغير صحيح ولا تحل روايته والله أعلم
29 - مسألة إذا أخبر النبي صلى الله عليه و سلم عن أقوام أنهم من أهل الجنة وهم مؤمنون مصدقون بخبره صلى الله عليه و سلم فهل يأمنوا المكر لما أخبرهم به من أنهم من أهل الجنة وسمعنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا آمن مكره ورجلي الواحدة في الجنة والأخرى برا فهل هذا عن عمر رضي الله عنه صحيح أم لا
أجاب رضي الله عنه هذا القول عن عمر رضي الله عنه لسنا نصححه بل أصل كونه لم يأمن مكر الله تعالى وأنه كان شديد الخوف مما بين يديه ثابت عنه وذلك له وجوه أحدها أنه كان يرى جواز النسخ في مثل ذلك وأنه روى عنه أنه كان يدعو اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامح ذلك واكتبني سعيدا أو ما معناه هذا والثاني أنه وأمثاله أن آمنوا من كونهم من أهل الجنة فلا يأمنوا أهوالا تصيبهم قبل دخول الجنة الثالث وإن كانوا لا يجوزون النسخ في مثل ذلك فقد يجوزون أن يكون ذلك مشروطا بشرط فلا يوجد منهم وخفي عليهم ذلك الشرط عافانا الله تعالى
30 - مسألة أول من يدخل الجنة قالوا الأنبياء صلوات الله عليهم فيدخل كل نبي مع أمته أو الأنبياء كلهم يدخلون الجنة قبل أممهم
أجاب رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه و سلم يدخل الجنة قبل الجميع والظاهر أن كل الأنبياء يدخلون قبل الأمم كلها
31 - مسألة عيسى بن مريم صلى الله عليه و سلم وعلى نبينا والنبيين وآلهم
وسلم رأى رجلا يسرق فقال أسرقت قال كلا والذي لا إله إلا هو قال آمنت بالله وكذبت عيني وحديث آخر أن بعض الناس أذنب ذنبا فسئل عنه فقال والله الذي لا إله إلا هو ما فعلته أو كما قال فقال صلى الله عليه و سلم غفر الله لك ذنبك بصدقك في قولك لا إله إلا الله
أجاب رضي الله عنه كأنه صلى الله عليه و سلم لما وجد السارق ربه تعالى غمرته الهيبة والعظمة حتى أنسته ما استيقنه حاله الابصار وبقي في صورة من يرى الشيء من بعد ولا يتحققه فإذا نوزع فيه كذب رؤيته
وأما الحديث الآخر ففيه إشارة إلى أن حسنة الصدق في التوحيد كفرت المعصية والله أعلم
32 - مسألة الخبر الذي لا يتطرق إليه النسخ والخبر الذي يدخله الأمر فيتطرق إليه النسخ ما هو وما من فرق بين الخبرين
أجاب رضي الله عنه من أمثلة الخبر الذي لا يدخله النسخ قوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ومن أمثلة الخبر المشتمل على قوله صلى الله عليه و سلم توضئوا مما مست النار
ومن أمثلة ما لا يدخله النسخ من الخبر في أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي والفرق أن ما فيه الأمر تكليف فلا ممتنع إسقاطه بالنسخ بخلاف الخبر المحض فإن النسخ فيه الحلف وكون ذلك وقع كذبا والله أعلم
33 - مسألة في الفقير الصابر والغني الشاكر أيهما أعلا بينوا ذلك ليحصل معرفتها والذي لا يجب عليه التكسب ببيان دليله وما هو عليه
أجاب رضي الله عنه هذا باب واسع ومما يحتج به من فضل الفقير الصابر وإياه لخيار حديث دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام ومما يحتج به من فضل الغني الشاكر قوله صلى الله عليه و سلم فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء في حديث الذكر الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم الفقراء فلما بلغ ذلك الأغنياء شاركوهم فيه ومن قال لا يجب عليه التكسب فدليله أنه الآن غير واجد وليس عليه واجب من ذلك فلا يجب عليه التحصيل لتجب عليه النفقة كما لا يجب عليه تحصيل المال لتجب عليه الزكاة والله أعلم
34 - مسألة هل ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على كل قدم نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولي من أولياء الله تعالى وسمعنا أن القطب على قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمعنا أن في الأرض سبعة أوتاد وابدال ونجباء ونقباء كلما مات رجل أقام الله عز و جل عوضه رجلا ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن وفي علم الظاهر إلى قيام الساعة الأمر على ما ذكر أم لا
أجاب رضي الله عنه لا يثبت هذا الحديث وأما الأبدال فأقوى ما رويناه فيهم قول علي رضي الله عنه أنه بالشام يكون الأبدال وأيضا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء المسلمين وصلحائهم وأما الأوتاد والنخباء والنقباء فقد ذكرهم بعض مشايخ الطريقة ولا يثبت ذلك ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة وهم العلماء
35 - مسألة هل ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم في علماء الباطن الذين أقامهم الله تعالى لتربية أرباب الأحوال والمقامات الشريفة ويوصلوا المريد إلى الله سبحانه وتعالى بقوتهم التي أعطاهم الله وبدعوتهم المجابة كالجنيد وأمثاله من أئمة الطريق المكاشفين الذين لهم
الكشف المصون الموافق للشريعة المطهرة هل يجب عليهم أن يشهروا أنفسهم بذلك ويتصدوا بالقعود للخلق كما يجب على علماء الشريعة التصدي والقعود للخلق لفوائد المسلمين أجمعين منهم أم لا والخضر عليه السلام هل ورد أنه حي إلى الوقت المعلوم وهل هو نبي أو ولي أم لا
أجاب رضي الله عنه لا يجب عليهم ذلك ولا يحتمل حالهم وحال الخلق ذلك وفي الشريعة كفاية فيما يرجع إلى إرشاد الخلق
وأما الخضر عليه السلام فهو من الأحياء عند جماهير الخاصة من العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك وإنما شذ بإنكار ذلك بعض
أهل الحديث وهو صلى الله عليه و سلم وعلى نبينا والنبيين وآلهم وسلم نبي واختلفوا في كونه مرسلا والله أعلم
36 - مسألة في الأبوة هل يجوز أن يطلق في الكتاب العزيز والحديث الصحيح على الأب من غير صلب وايش الفرق بين آدم أبي البشر وبين ابراهيم الخليل صلى الله على نبينا وعليه وعلى النبيين والكل وسلم أب فآدم أبو البشر وإبراهيم أبو الإيمان أو لمعنى آخر ونرى مشايخ الطريق يسموهم آباء المريدين فيجب بيان هذا من الكتاب العزيز والحديث الصحيح وأيهما أعلا الأب أو الأخ أو الصاحب نرى الصحابة رضي الله عنهم كان إخوة الرسول صلى الله عليه و سلم من حيث الإسلام والإيمان ونراهم خصوا باسم الصاحب بين لنا هذا
أجاب رضي الله عنه قال الله تبارك وتعالى قالوا نعبد إلهك وإله آباءك إبراهيم وإسماعيل وإسماعيل من أعمامه لا من آبائه
وقال سبحانه وتعالى ورفع أبويه على العرش وأمه كان قد تقدم وفاتها قالوا والمراد خالته ففي هذه استعمال الأبوين من غير ولادة حقيقية وهو مجاز صحيح في اللسان العربي
واجراء ذلك النبي صلى الله عليه و سلم والعالم والشيخ والمراد سائغ من حيث اللغة والمعنى وأما من حيث الشرع فقد قال الله سبحانه وتعالى ما
كان محمد أبا أحد من رجالكم وفي الحديث الثابت عنه صلى الله عليه و سلم إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فذهب لهذا بعض علمائنا إلى أنه لا يقال فيه صلى الله عليه و سلم أنه أب المؤمنين وإن كان يقال في أزواجه أمهات المؤمنين وحجته ما ذكرت فعلى هذا يقال هو مثل الأب أو كالأب أو بمنزلة أبينا ولا يقال هو أبونا أو والدنا ومن علمائنا من جوز وأطلق هذا أيضا وفي ذلك للمحقق مجال بحث يطول والأحوط التورع والتحرز عن ذلك
وأما الأخ والصاحب وكل واحد منهما أخص من الآخر وأعم فأخ ليس بصاحب وصاحب ليس بأخ فاذا قابلت بينهما فالأخوة أعلا وأما في حق الصحابة رضي الله عنهم فإنما اختير لهم لفظ الصحبة لأنها خصيصة لهم وإخوة الإسلام شاملة لهم ولغيرهم أيضا فلفظ الصحابة يشعر بالأمرين أخوة الدين والصحبة لأنه لا يطلق ذلك في العرف على الكافر وإن صاحبه صلى الله عليه و سلم مدة والله أعلم
37 - مسألة شخص قال من سب الصحابة رضي الله عنهم لا يغفر له وإن تاب واحتج بالحديث الذي روي سب صحابتي ذنب لا يغفر وقال قال لي الشيخ عندي لا يتوب الله عليه فقيل له إن تاب تاب الله عليه فقال لا يتوب الله عليه فهل يتوب الله عليه أم لا
أجاب رضي الله عنه أخطأ هذا القائل في قوله وفي احتجاجه خطأ فاحش أما خطؤه في قوله فإنه نفى مغفرة الله تعالى لهذا المذنب من غير توبة ومع التوبة وهو مخطىء مبتدع فأخطأ وابتدع في الموضعين أما اذا لم يتب فلأن السبب ذنب دون الشرك وكل ذنب دون الشرك فيجوز أن يغفر الله تعالى لفاعله وإن لم يتب أما منه سبحانه وتعالى ابتداء أو بشفاعة الشافعين أو بأن يرزق حظا من الحسنات اللاتي يذهبن السيآت شهد بذلك دليل النصوص وغيرها ومن قال في شيء من الذنوب التي هي دون الشرك إن الله تعالى لا يغفر لفاعله فقد تأول على الله تعالى بذلك وتعرض لعقابه وأما إذا تاب فلأنه ليس شيء من الذنوب لا توبة منه وليس هذا بأعظم من الشرك ثم لا يقال الشرك لا توبة منه فإن إسلام الكافر حاصلة التوبة من الشرك
وأجمعت الأمة على أن الله لم يجعل فيما خلق ذنبا لا توبة منه أصلا ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة على ذلك غير أنه ينبغي أن يعلم أن التوبة من ذنب السب لا يكفي فيها توبة الساب فيما بينه وبين الله تعالى فإن سب الصحابة رضي الله عنهم ظلم لهم والتوبة من مظالم العباد طريقها إلى
البراءة اليهم بإجلالهم أو غيره وذلك متعذر فيمن مات ومع ذلك فطريق الخلاص غير متعذر على التائب من سب الصحابة من وجوه
أحدها الاستغفار لهم والدعاء لم بالرحمة والرضوان ولا سيما في أعقاب الصلوات
الثاني أن يكثر من الأعمال الصالحة حتى تقع بعض حسناته عوضا عن هذه المظلمة ويفضل له ما يسعد به إن شاء الله تعالى
الثالث أن يلجأ الى الله سبحانه وتعالى في أن يضمن عنه تبعاته ويرضى عنه من فضله من ظلمه بالسب وغيره فهو سبحانه وتعالى جدير بإجابة دعائه
وهذه الوجوه لها أصول منها حديث حذيفة أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذرب لسانه على أهله فقال أين أنت عن الاستغفار أخرجه النسائي وغيره
وحديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيح في الشخص الذي قتل مائة نفس ثم تاب وعاجله الموت بين القريتين فليتب هذا التائب نفسا فإن الرحمة واسعة فقد جعل الاستغفار والتوبة من هذين الحديثين مخلصا من مظالم العباد وهو خارج على أحد الوجوه المذكورة
وأما خطأ هذا الرجل في حجته ففي موضعين أيضا أحدهما أن الحديث الذي ذكره من أحاديث العوام التي لا أصل لها يعرف والثاني أنه احتج بالشيخ عندي وهذا من العجائب عند أهل المعرفة فإنه لا يخفى على مسلم إنه لا حجة في دين الله عز و جل إلا فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى معرفة ما جاء عنه صلى الله عليه و سلم إلا بنقل الثقات من أهل العلم والأخذ عنهم فمن لم يكن من أهل ذلك كان جاهلا وإن كان زاهدا فان الزهد لا يجعله نبيا يوحى اليه والقلوب لا يتعرف منها أحكام الدين وشرائع الإسلام ومن انتسب إلى العلم الذي زعم أنه يطلعه على الصواب ويمنعه من الخطأ سألناه عن شيء من أحكام القرآن المعلومة والسنن الصحيحة وأظهرنا بهذا إخلاله فانه لو كان كما زعم لم يجهل ذلك وإذا جعل ذلك فهو لغيره أجهل فليتق الله ربه هذا القائل ولا يقلد دينه من لا علم له وليستغفر الله مما جرى منه غفر الله لنا وله ولجميع المسلمين
38 - مسألة رجل اغتاب رجلا مسلما وجاء إليه وقال اغتبتك وقلت عنك كذا وكذا اجعلني في حل فما فعل بجعله في حل هل هو مخطىء بكونه لم يجعله في حل وهذا الذي اغتابه بقي عليه تبعة أم لا
وهل يجوز للانسان أن يسبح بسبحة خيطها حرير والخيط تخين وهل يجوز الدروزة للفقراء على أوجه الإنكسار أم لا
أجاب رضي الله عنه ليس عليه أن يجعله في حل ولكن حرم
نفسه فائدة العفو ومثوبة إسعاف السائل والتبعة باقية على المغتاب وينبغي أن يكثر من أن يقول اللهم اغفر لي ولمن اغتبته ولمن ظلمته وقد روي في حديث لا أعلمه يقوي إسناده كفارة الغيبة إن تستغفر لمن أغتبته وإن لم يثبت فله أصل
ولا يحرم ما ذكره في السبحة المذكورة والأولى إبداله بخيط آخر والدروزة جائزة إن سلمت من التذلل في السؤال أو من الإلحاح في السؤال ومن أن المسؤل وكان المسؤل له فمن يحل له السؤال لعجزه عن الكسب ولا مال له فإذا كان سؤاله سليما عن الخلل ومن يسأل له أهل يحل له المسألة فذلك حسن والله أعلم
39 - مسألة فيمن اغتاب هل الاستغفار كفارة للغيبة والحديث عنه صلى الله عليه و سلم كفارة الغيبة أن تستغفر لمن أغتبته مع أن الحديث غير ثابت وان كان إسناده قويا له أصل في الكتاب العزيز وفي الحديث الصحيح أم لا وهل يجوز إذا كانوا جماعة قد اجتمعوا على الخير وبينهم أخ من الأخوان وطريقه طريق دبره يجتمع ببعض الأخوان ويقول قد وجهني اليك فلان ويقول حدثني بما عندك ومراده بهذا أنه يبصر ما عنده وما يكون ذلك وجهه إلا كذب من عنده ويجيء إلى المشايخ يمتحنهم ويدخل عليهم بالكذب ويقول أنت شيخي ويقول للآخر أنت شيخي ويخرج من عندهم ويغتابهم ويؤذيهم بلسانه فهل يجوز أن يحذر الناس المشايخ والأخوان من هذا الرجل
أجاب رضي الله عنه الاستغفار لمن اغتبته كفارة ذلك والحديث وإن لم يعرف إسناد يثبته فمعناه يثبت بالكتاب والسنة المعتمدة أما الكتاب فقوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وإن كان هذا نزل في الصلوات فهو عام فالعام لا يختص بالسبب وقد بين ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لمعاذ رضي الله عنه أتبع السيئة الحسنة تمحها وأما السنة فمنها هذا ومنها حديث حذيفة أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذرب لسانه على أهله فقال أين أنت من الاستغفار وذرب اللسان على الغير أخو الغيبة فإن كلام جنايات اللسان على الغير
وأما التحذير من الرجل الموصوف فحسن بشرط أن يكون المقصود نصيحة المحذور وما هو من الأغراض الدينية الصحيحة من غير أن يشوبه غير ذلك مثل أن يقصد التفكه بغرضه أو التشفي منه ونحو هذا والله أعلم
40 - مسألة هل يجوز للانسان أن يقرأ القرآن ويهديه لوالديه ولأقاربه خاصة ولأموات المسلمين عامة وهل تجوز القراءة من القرب والبعد على القبر خاصة وهل يجوز للشخص أن يسمع كلام المظلوم عند الظالم وهو أن يقول لصديقه أو لأخيه يا أخي ظلمني وأخذ من عرضي وشتمني ذلك الفاعل الصانع وتكلم في حقه بما لا يحل فهل يجوز له سماعه أم لا
أجاب رضي الله عنه أما قراءة القرآن ففيه خلاف بين الفقهاء والذي عليه عمل أكثر الناس تجويز ذلك وينبغي أن يقول إذا أراد ذلك اللهم أوصل ثواب ما قرأته لفلان ولمن يريد فيجعله دعاء ولا يختلف في ذلك القريب والبعيد وأما سماع كلام المظلوم في ظالمه فهو قرع على كلام المظلوم فما جاز للمظلوم أن يقوله فجائز لغيره سماعه وما لا فلا يجوز الإصغاء إليه ثم الذي هو جائز للمظلوم ما تدعوه حاجته اليه على وجه الشكاية أو على وجه الايضاح لكونه قد ظلمه أو على وجه آخر من الاحتجاج لنفسه عليه مثل قول أحد المتخاصمين عند رسول الله صلى الله عليه و سلم لما جعل اليمين على خصمه يا رسول الله إنه فاجر لا يتورع عن شيء والله أعلم
41 - مسألة قول لا إله إلا الله في رفع الوسوسة نافع هل على ذلك دليل
أجاب رضي الله عنه قول لا إله إلا الله له أثر في تنوير القلب ولذلك اختاره جماعة من المشايخ لأهل الخلوة وقد علم أن الشيطان الوسواس الخناس إذا ذكر العبد الله سبحانه وتعالى يخنس أي يتأخر ويبعد ولا إله إلا الله في أول درجات الذكر فإنه التوحيد الناصع الباهر والله أعلم
42 - مسألة رجل يمدح فتفرح نفسه ويذم فتتألم
نفسه ورجل إذا مدح بما فيه يكره ذلك فهل هذا الفرح من النفس مقبول في الشرع أو مذموم والتقبل له والذي يكره المدح في نفسه لا يحب ان يمدح فهل هذا موافق للشرع أم لا
أجاب رضي الله عنه هذا كله يختلف باختلاف مستنده في السرور والكراهة فإذا سر بالمدح لما دل عليه من إنعام الله تعالى عليه بالستر والقبول مع عدم الاعجاب وغيره من الأخلاق المذمومة فلا بأس وكذلك إذا تأذى بالذم كما يتأذى بغيره من أنواع البلاء مع سلامته من السخط ونحوه فلا بأس وإذا كره المدح تخوفا من الفتنة والعجب ونحو ذلك فلا بأس والله أعلم
43 - مسألة في تحميل المنن بأي شيء يزول مع كون الانسان فقيرا ما له شيء فإذا جاءه شيء من الناس كيف الطريف فيه أن يأخذه ولا يكون عليه منه من أعطاه وكم يجب على الفقير المعسر المتزوج في السنة من النفقة والكسوة
وعند موت المسلم المؤمن يرى ربه عند الموت وإذا رآه عرفه في الدار الآخرة بتلك الرؤية الأولة أو بطريق أخرى بين لنا هذا بدليل من الكتاب والسنة والاجماع
وهل يجوز أن يعطي الله تعالى لولي من أوليائه أن يعرف أنه من أهل الجنة بإلهام يلهمه الله تعالى إياه ويخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو بطريق آخر بين لنا الطريق وأوضح لنا دلالة لا شك فيها ولا ريب والإلهام الذي هو من الله سبحانه عرفنا ماهيته في الانسان كيف هو حتى يعرف
أجاب رضي الله عنه يتفقد حال المعطى فإذا وجده مطيعا لله تعالى فأخذه من الله تعالى لا منه فيه وعده مجرد سبب وحقق النظر إلى المسبب ذهبت المنة وطاحت ان شاء الله تعالى
وعلى المعسر من النفقة كل يوم مد من القمح ها هنا وهو ثلاثة أواق ونصف بهذا الرطل وعليه مؤنة الحجر والخبز وإن تراضيا على أخذ الخبز لا على وجه المفاوضة جاز ويجب لها من الأدم قدر ما يصلح هذا القدر من الطعام وذلك من إدام البلد ويجب لها آلة الشطيف من مشط ونحوه ويجب لها من الكسوة في السنة مرتين من غليظ القطن أو الكتان وذلك قميص وسراويل ومقنعة ويزداد في الشتاء جبة ويجب لها ما يجلس عليه وما ينام فيه من المنازل من جنس ذلك ولها مداس في رجلها ومنم أثاث البيت ونحو ذلك على قياسه والله أعلم
وأما رؤية المؤمن ربه تعالى بعد موته فمخالف لرؤيته له تبارك وتعالى في الآخرة فان تلك رؤية البصر من العين الجسدانية بخلاف هذه التي هي إدراك من الروح فحسب والعلم عند الله تعالى
ويجوز أن يعرف المؤمن كونه من أهل الجنة بخبر من الرسول صلى الله عليه و سلم كما في النفر الذي شهد لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجنة وهم العشرة وأهل بدر وعائشة وثابت بن قيس بن شماس وخديجة في سادة آخرين وأما بغير ذلك فكلا وإنما يرجو رجاء مصحوبا بخوف
وقد اختلفوا في أن الولي هل يجوز أن يعرف كونه وليا فمنهم من قال يجوز ذلك لكن قال ليس من شرط الولاية سلامة العاقبة فاذا لا يلزم على هذا من معرفته لكونه وليا معرفته لكونه من أهل الجنة
وأما الإلهام فهو خاطر حق من الحق تعالى فمن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض من خاطر آخر والله أعلم
44 - مسألة سأل سائل في كلام الصوفية في القرآن كالجنيد وغيره وكان السائل عن هذا ينكر ما سمع من ذلك وكان يجالس شيخا من المفتين فجرى ذلك في مجلسه بابتدأ الشيخ وقال كالمستحسن لكلام الصوفية وقال أيضا هم لا يريدون به تفسير القرآن وإنما هي معاني يجدونها عند التلاوة وقال أيضا يقولون يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قالوا هي النفس وكان الشيخ المفتي يشرح ذلك ويقول أمرنا بقتال من يلينا لأنهم أقرب شرا إلينا وأقرب شرا إلى الانسان نفسه وقال الشيخ أيضا يقولون إنا أرسلنا نوحا إلى قومه يقول نوح العقل والغرض أنهم يلقي الله عندهم في كلامه ما ينتفعون به وهذا قد صدر عن أكابرهم والجم الغفير وأنتم بذلك أعلم والسائل لهذا ليس بجاهل وليس غرضه إلا الاعتضاد بما يسمع من الشيخ تقي الدين رضي الله عنه واحد لا يجهل أن قوله تعالى قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ليس المراد به النفس وإن المراد ظاهر ومن قال غير ذاك فهو مخطىء
أجاب رضي الله عنه وجدت عن الإمام أبي الحسن
الواحدي المفسر رحمه الله أنه قال صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم أنه اذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكر تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسالك الباطنية وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فان النظير يذكر بالنظير فمن ذكر قتال النفس في الآية المذكورة فكأنه قال أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإيهام والإلتباس والله أعلم
45 - مسألة رجل طلب العلم وهاجر اليه من وطنه فسمع داعيا الى الزهد في الدنيا وله نفس جموح وخاف أن لا ينجو من آفات الدنيا مع النفس الأمارة بالسوء فما الحيلة في نجاته وبم يكون علاج النفس الجموح وماذا يقربه من الله الزهد أم العلم أو السياحة أو العزلة
أجاب رضي الله عنه سبيله والله الموفق الهادي أن يزهد في الدنيا ولكن زهد الراشدين العالمين لا زهد الجاهلين فيطلب العلم مخلصا لله تعالى متقربا به إليه ولا يترك التسبب الذي يغنيه عن الحاجة إلى الناس ولا يعتزل الناس بل يقيم بينهم صابرا عليهم مصححا نيته في ذلك فان هذه طريقة
الأنبياء عليهم السلام والخلفاء وأئمة المتقين ويجاهد نفسه بالعلم وآدابه وتسديده وتقويمه وليس الطريق إلى السلامة من الآفات الهرب من الناس ولا متابعة القوم الذين تظاهروا بالفقر والزهد غير ملتفتين إلى الشريعة وآدابها معرضين عن ذلك وعن ما شرحناه معتمدين على خواطرهم متمسكين برسوم لا أصل لها في الشريعة معتضدين بأحوال لم يأت بها كتاب ولا سنة زاعمين أنهم مع الحقيقة وليس عليهم الوقوف مع الشريعة فإن هذا سبيل المغرورين المفتونين وطريق المضلين الدجالين والسالك لسبيلهم قارع باب الإلحاد وهو والج فيه عن قريب شهد بما ذكرته أعلام العلوم والمعارف وبراهينها والله أعلم
46 - مسألة رجل قال إن الله لا يسمع دعاء ملحونا قيل وما الدعاء الملحون قال أن يدعو الانسان بالجزم ويقول بالرفع قال الآخر بل هو أن يقول الانسان يا رب قصر عمر فلان أو قتر رزق فلان أو خذه فهذا من جملة الدعاء الملحون
أجاب رضي الله عنه ليس ما ذكره الثاني من الدعاء الملحون نعم هو من الاعتداء في الدعاء الذي ورد النهي عنه اذا كان قصده بالدعاء على فلان غير صحيح فان كان صحيحا بأن كان في قصر عمره صلاح للمسلمين لظلمه أو نحو ذلك فليس اعتداء ثم إن الدعاء الملحون ممن لا يستطيع غير الملحون لا يقدح في الدعاء ويعذر فيه والله أعلم
47 - مسألة قراءة القرآن بعد صلاة الصبح أفضل أو بعد صلاة المغرب أي الوقتين أفضل
أجاب رضي الله عنه في كل واحد من الوقتين فضل وفي ادراك الأفضل عسر ويظهر أنه بعد صلاة الصبح أفضل لما يرجى من أن يلحقه من بركة عاصمة له في نهاره الذي هو مظنة تصرفاته وتقلباته والله أعلم
48 - مسألة رجل له والد والوالد غير مفتقر إليه في القيام بأموره من إنفاق عليه أو مباشرة لخدمته بل لا يمكن ولده من ذلك فأحب الولد الانقطاع إلى الله تعالى والتفرغ لعبادته في قرية لعلمه أن مقامه في بلده لا يسلم فيه من المآثم لمخالطة الناس إلا بمشاق يضعف عزمه عن تجشمها ووالده يكره مفارقته ويتألم لها مع أن له أولادا يأنس بهم غير هذا الولد فهل يحل له مخالفة الوالد والانتقال الى القرية بنية طلب سلامة دينه والتفرغ للعبادة أم لا يحل مخالفته في ذلك
وسيتبع هذه المسألة ثلاث مسائل
أحداها لو كان دينه في المقام سالما لكنه في الانتقال أكثر توفرا على العبادة هل الأولى الانتقال أو المقام مع مخالفة الوالد
المسألة الثانية لو كان الانتقال لطلب الراحة والتنزه هل له مخالفته في ذلك أم لا هذا كله مع تعهده لوالديه بالزيارة
في المسائل المذكورة كلها والسؤال في ذلك عن تعريف المباح والأولى مفصلا
المسألة الثالثة تعرف حق العقوق ما هو
أجاب رضي الله عنه لا يحل له ذلك ومخالفة الوالد في ذلك مع تألمه بها محرمة وعليه الطواعية له في الإقامة والحالة هذه ثم ليجاهد نفسه في التصون مما يحرم دينه بسبب مخالطة الناس فلا يخالط من جانب الطريق المحمودة ولا يجالس من من شأنه الغيبة وليكن مع الناس بين المنقبض والمنبسط
بلغنا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة والانبساط مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض والمنبسط وليصحح نيته في مواتاه والده وطاعته فإنها من أكبر أسباب السعادة في الدارين وثبت في الحديث الصحيح أن بر الوالدين يقدم على الجهاد فكيف لا يقدم على ما ذكر هذا مع أن ما يرجوه في القرية يناله في البلدة بحضرة والده إن استمسك وإنما هذا خاطر فاسد من عمل الشيطان وتسويله وقد جاء أن أويسا القرني فوت صحبة النبي صلى الله عليه و سلم والمسير إليه من اليمن بسبب بره بأمه وحمد على ذلك وفي هذا جواب المسألة الثانية وإيضاح لكون المقام أولى
وكذلك المسألة الثالثة فلا يحل مخالفته مع تألمه بها بسبب التنزه أصلا وأما أن العقوق ما هو فإنا قائلون فيه العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة وربما قيل طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية ومخالفة أمرهما في كل ذلك عقوق وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات وليس قول من قال من علمائنا يجوز له السفر في طلب العلم وفي التجارة بغير اذنهما مخالف لما ذكرت فإن هذا كلام مطلق وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق والله أعلم
49 - مسألة رجل تصدق بصدقة التطوع على صلحاء الأمة وسبق إلى الأخذ الآخذ من الله لا من معطي الصدقة فأيهما أفضل يد المعطي أو يد الآخذ
أجاب رضي الله عنه المعطي عطاء بعده من الله خير من الآخذ أحذا يعده من الله وإن غفل عن المسبب ولحظ السبب في الجانبين فالمعطي أيضا أفضل وان وجد شهود جانب المسسبب في أحد الجانبين دون الآخر والأفضل هو الذي وجد فيه ذلك والله أعلم
القسم الثالث
يتعلق بالعقائد والأصول فمن ذلك50 - مسألة إمام الحرمين والإمام الغزالي والإمام أبو اسحق رضي الله عنهم هل بلغ أحد هؤلاء الأئمة المذكورين درجة الاجتهاد في المذهب على الإطلاق أم لا وما حقيقة الاجتهاد على الاطلاق وما حقيقة الإجتهاد في المذهب وهل بلغ أحد منهم رتبة الاجتهاد على الإطلاق
أجاب رضي الله عنه لم يكن لهم الاجتهاد المطلق وبلغوا الاجتهاد المقيد في مذهب الشافعي رضي الله عنه ودرجة الاجتهاد المطلق يحصل بتمكنه من تعرف الأحكام الشرعية من أدلتها استدلالا من غير تقليد والاجتهاد المقيد درجته تحصل بالتبحر في مذهب إمام من الأئمة بحيث يتمكن من إلحاق ما لم ينص عليه ذلك الإمام بما نص عليه معتبرا قواعد مذهبه وأصوله
51 - مسألة كتاب من كتب أصول الفقه ليس فيه شيء من علم
الكلام ولا المنطق ولا يتعلق بغير أصول الفقه فهل يحرم الاشتغال به أو يكره وهل يسوغ إنكار الاشتغال به وحالته ما ذكر سوى ذلك
أجاب رضي الله عنه لا يحرم ولا يكره إذا لم يكن فيه مع ذلك تقرير بدعة أو إمالة إلى فلسفة بأن يكون مصنفه من أهلها وكلامه في كتابه في أصول الفقه يؤنس بحسن كلامه حتى في الفلسفة كما وقع في كلام هذا النابغ في عصرنا أو نحو هذا أو شبهه فإذا سلم عن كل ذلك فالإشتغال به عند صحة القصد وكيف لا وهو باب التحقيق في الفقه وعماده والله أعلم
52 - مسألة ما الفرق بين القياس والاستدلال فإنه يتفرع على ما يتفرع عليه القياس فإن كان مدلول الاسمين واحدا فما وجه تنويع الاسمين وإن كانا شيئين فيحمل كل واحد من القياس والاستدلال بحد يحصره
أجاب رضي الله عنه الفرق بين القياس والاستدلال أن القياس يشتمل على أصل وفرع يجمع بينهما بجامع والاستدلال ليس كذلك من التلازم الذي هو مثل قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
53 - مسألة هل كان داود الظاهري صاحب المذهب رضي
الله عنه ممن يعتد به في انعقاد الإجماع في زمانه أم لا وهل كان بحيث إذا حدثت في زمانه فخالف فيها وحده يعد خارقا للإجماع وكذلك من لم ير نقض الوضوء بالنوم إلا إذا أخبر بخروج الحدث كسعيد بن المسيب وأبي موسى الأشعري هل ينعقد الإجماع بدونهم أم لا
أجاب رضي الله عنه أما الاعتداد بداود يC في الاجماع وفاقا وخلافا مهما وقع فيه الاختلاف بين الفقهاء والأصوليين منا ومن غيرنا فذكر الأستاذ الإمام أبو اسحق الاسفرائيني رحمه الله أن أهل الحق اختلفوا فذهب الجمهور منهم الى أن نفاة القياس لا يبلغون منزلة الاجتهاد ولا يجوز توليهم القضاء وهذا ينفي الاعتداد بداود في الاجماع ونقل صاحب الإسناد أبو منصور البغدادي عن أبي علي بن أبي هريرة وطائفة من متأخري الشافعيين أنه لا اعتبار بخلافه وسائر نفاة القياس في فروع الفقه لكن يعتبر خلافهم في الأصوليات
وقال الإمام أبو المعالي بن الجويني ما ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة فإنهم أولا باقون على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا وأيضا فان معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد والنصوص لا تفي بالعشر من أعشار الشريعة فهؤلاء ملتحقون بالعوام وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم وهذا منه نوع إفراط
وكان أبو بكر الرازي من أئمة المحققين يذهب في داود وأضرابه إلى نحو هذا المذهب ويغلو فذكر داود في مقدمة كتابه في أحكام القرآن ومال عليه فأفرط وقال فيما قال لو تكلم داود في مسألة حادثة في عصره وخالف فيها بعض أهل زمانه لم يكن خلافا عليهم
قال وكان ينفي حجج العقول ومشهور عنه أنه كان يقول بل على العقول وقال بعد كلام كثير ولأجل ذلك لم يعد خلافه أحد من الفقهاء خلافا ولم يذكروه في كتبهم فقد انعقد الاجماع على أطراحه وترك الاعتداد به هذا الرازي فيه وهو كما ترى لا يخلو عن نوع من الحنيفة الذي قد كان فيه وكان شديد الميل والعصبية على من يخالفه من
حيث أنه قد وصف داود في هذا الموضع من كتابه بما يأباه عنه الثابت المعروف من زهده وتحريه
والذي اختاره الأستاذ أبو منصور في هذا وذكر أنه الصحيح من المذهب أنه يعتبر خلافه في الفقه الذي استقر عليه الأمر آخرا فيما هو الأغلب الأعرف من صفوة الأئمة المتأخرين الذين أوردوا مذاهب داود في إثبات مصنفاتهم المشهورة في الفروع كالشيخ أبي حامد الإسفرائيني وصاحبه المحاملي وغيرهم رضي الله عنهم فانه لولا اعتدادهم بخلافه لما أوردوا مذاهبه في أمثال مصنفاتهم هذه لمنافاة موضوعها لذلك وبهذا أجبت مستخيرا الله تعالى مستعينا مما بناه داود من مذاهبه على أصله في نفي القياس الجلي وما اجتمع عليه القياسيون من أنواعه أو على غيره من أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها فاتفاق من عداه في مثله على خلافه إجماع منعقد وقوله في مثله معدود خارقا للاجماع وكذلك قوله في المتغوط في الماء الراكد وتلك المسائل الشنيعة فيه وكقوله في الربا فيما سوى الأشياء الستة فخلافه في هذا وأمثاله غير معتد به لكونه مبنيا على ما يقطع ببطلانه والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في انزالهما بمنزلة ما لا يعتد به وينقض الحكم به وهذا الذي اخترته يثبت بدليل القول بتحرير يجز منصب الاجتهاد وقد تقرر جواز ذلك وإن العالم قد يكون مجتهدا في نوع دون غيره والعلم عند الله
سبحانه وتعالى ثم لا فرق فيما ذكرناه بين زمانه وما بعده فإن المذاهب لا تموت بموت أصحابها وأما من لم ير نقض وضوء النائم إلا إذا أخبر بخروج حدث كأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما ان كان سعيد قال ذلك فإنه غير معروف عنه فالإجماع لا ينعقد مع خلافهما فإن أبا موسى أحد فقهاء الصحابة ومن المفتين في عصرهم وكان سعيد صدرا في العلم والفتيا وغيرهما في ذلك الصدر وترجح على أجلاء التابعين وكان السؤال عن انعقاد الاجماع في هذه المسألة خاصة على خلاف هذا القول فعدم انعقاده فيها في ذلك العصر لازم من هذا وأما فيما بعده فقد أجمع على خلافه فيمن قال إن الإجماع بعد عصر المختلفين على أحد قوليهم إجماع صحيح رافع للخلاف فقد تحقق عنده انعقاد الإجماع في المسألة على خلاف ذلك القول ومن قال أنه لا يرفع الخلاف فلا إجماع في هذه المسألة مطلقا وهذا المذهب هو الصحيح في ذلك والله أعلم
54 - مسألة في جماعة من المسلمين المنتسبين إلى أهل العلم والتصوف هل يجوز أن يشتغلوا بتصنيف ابن سينا وأن يطالعوا في
كتبه وهل يجوز لهم أن يعتقدوا أنه كان من العلماء أم لا
أجاب رضي الله عنه لا يجوز لهم ذلك ومن فعل ذلك فقد غرر بدينه وتعرض للفتنة العظمى ولم يكن من العلماء بل كان شيطانا من شياطين الإنس وكان حيران في كثير من أمره ينشد كثيرا ... إن كنت أدري فعلى بدنه ... من كثرة التخليط من أنه ...
55 - مسألة فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليما وتعلما وهل المنطق جملة وتفصيلا مما أباح الشارع تعليمه وتعلمه والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون ذكروا ذلك أو أباحوا الاشتغال به أو سوغوا الاشتغال به أم لا وهل يجوز أن يستعمل في إثبات الأحكام الشريعة الاصطلاحات المنطقية أم لا وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهرا به ما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروفا بتعليمها وإقرائها والتصنيف فيها وهو مدرس في مدرسة من مدارس العلم فهل يجب على سلطان تلك البلاد عزله وكفاية الناس شره
أجاب رضي الله عنه الفلسفة رأس السفه والانحلال
ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه أظلم قلبه عن نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم كلما ذكره ذاكر وكلما غفل عن ذكره غافل مع انتشار آياته المستبينة ومعجزاته المستنيرة حتى لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها فجمع منها ألف معجزة وعددناه مقصرا إذا فوق ذلك بأضعاف لا تحصى فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره صلى الله عليه و سلم بل لم تزل تتجدد بعده صلى الله عليه و سلم على تعاقب العصور وذلك أن كرامات الأولياء من أمته وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم براهين له صلى الله عليه و سلم قواطع ومعجزات له سواطع ولا يعدها عد ولا يحصرها حد أعاذنا الله من الزيغ عن ملته وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته
وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر من يقتدي به من أعلام
الأئمة وسادتها وأركان الأمة وقادتها قد برأ الله الجميع من مغرة ذلك وأدناسه وطهرهم من أوضاره
وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية والحمد الله فالافتقار إلى المنطق أصلا وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها بالطريق الأقوم والسبيل الأسلم الأطهر كل صحيح الذهن لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية ولقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به فالواجب على السلطان أعزه الله وأعز به الإسلام وأهله أن يدفع عن المسملين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم من المدارس ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الاسلام لتخمد نارهم وتنمحي آثارها وآثارهم يسر الله ذلك وعجله ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها ثم سجنه وألزامه
منزله ومن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم فإن حاله يكذبه والطريق في قلع الشر قلع أصوله وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملة والله تبارك وتعالى ولي التوفيق والعصمة وهو أعلم
56 - مسألة قول بعض المصنفين مستدلا على إثبات القياس بخوض الصحابة رضي الله عنهم في حوادث واختلافهم وذكر من جملتها مسألة الجد والأخوة قائلا أنهم قضوا فيها بقضايا مختلفة وصرحوا فيها بالتشبيه بالحوضين والخليجين وما وجه التشبيه وما ضبط اللفظين المشبه بهما وقول بعضهم بلغ رأس المال أعلى مراتب الأعيان فيبلغ المسلم فيه أعلى مراتب الديون ما المراتب المشار إليها في أصل القياس وفرعه
أجاب رضي الله عنه أما التشبيه بالخليجين فعن علي رضي الله عنه أتى به ردا لقول من أسقط الأخ بالجد فشبه ذلك بواد سال بمائة فانشعبت فيه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان فلو سدت احدى هاتين الشعبتين لرجع ماؤها على الشعبة الباقية من الشعبتين وعلى الشعبة التي هي أصلها فكذلك إذا مات أحد الأخوين أخذ ميراثه أخوه الباقي والجد الذي هو أصلها جميعا وشبه ذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه بشجرة خرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصنان ولو قطع أحد الغصنين لرجع ماؤه على الغصن الباقي من الغصنين وعلي الغصين الذي هو أصلها كذلك من خلفه الميت من إخوته مع الجد الذي هو أصلهم
فأما ما ذكره من التشبيه بالحوضين فموجود في المستصفى في أصول الفقه وذلك لا يعرف ولا أراه إلا تصحيفا من الخوطين والخوط بضم الخاء المنقوطة والطاء المهملة هو الغض الناعم فاعلم ذلك والله أعلم
وأما قول القائل بلغ رأس المال إلى آخره فهذا دليل يذكر في المنع من السلم الحال وأعلى مراتب الأعيان أن ينضم الى العينية القبض في مجلس العقد وأعلى مراتب الديون أن ينظم إلى الدينية وصف الأجل ثم أنه لا يتوقف صحة العبارة على تبيين الزيادة على مرتبتين فلسنا نتكلفه والله أعلم
57 - مسألة قال بعضهم عن الامام مالك رضي الله عنه أنه جمع بين السنة والحديث فما الفرق بين السنة والحديث
أجاب رضي الله عنه السنة ها هنا ضد البدعة وقد يكون الإنسان من أهل الحديث وهو مبتدع ومالك رضي الله عنه جمع بين السنتين فكان عالما بالسنة أي الحديث ومعتقدا للسنة أي كان مذهبه مذهب أهل الحق من غير بدعة والله أعلم
58 - مسألة في لفظ الإسلام هل هو مخصوص بهذه الأمة أم مطلق على كل من آمن بنبيه من أمة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم فإذا جاز إطلاقه على كل من آمن بنبيه من سائر الأمم فهل إطلاقه عليه شرعي أم لغوي من حيث أنه منقاد مطيع فإذا جاز اطلاقه على كل من آمن بنبيه في زمنه شرعا فما فائدة قوله عز و جل
ورضيت لكم الإسلام دينا إذا كل منهم يسمى مسلما وهل قول القائل في زمن موسى صلى الله عليه و سلم لا إله إلا الله موسى رسول الله كقول أحد هذه الأمة لا إله إلا الله محمد رسول الله في هذا الزمان ويكون لفظه شاملا لهما ويسمى كل واحد منهما مسلما
أجاب رضي الله عنه بل يطلق على الجميع وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعا فقد ورد ذلك بألفاظ راجعة إلى هذا في كتاب الله عز و جل منها قوله تعالى فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقوله تعالى ورضيت لكم الإسلام دينا لا ينفي أن يرضاه لغيرهم دينا وقول القائل في زمان موسى صلى الله عليه و سلم وعلى نبينا وسلم لا إله إلا الله موسى رسول الله إسلام كمثله الآن والله أعلم
59 - مسألة فيمن يعتقد أن في ملك الله سبحانه وتعالى ما يرضاه ولا يريده فهل هو مخطئ أو مصيب في هذا القول والاعتقاد أم لا
أجاب رضي الله عنه أصاب في قوله أنه يوجد مالايرضاه تبارك وتعالى مثل الكفر قال الله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر وضل
وابتدع في قوله أنه يوجد ما لا يريده بل ذلك محال ما شاء الله كان وما لا شاء لا يكون وفرق بين الرضا والإرادة ثم ما لكم والخوض في هذا البحر المغرق عليكم بالعمل ففيه شغل شاغل والله أعلم
60 - مسألة طائفة يعتقدون أن الحروف التي في المصحف قديمة والصوت الذي يظهر من الآدمي حالة القراءة قديم كيف يحل هذا ومذهب السلف بخلاف هذا ومذهب أرباب التأويل يخالف هذا والمراد أن يفرق الانسان بين الصفة القديمة والصفة المحدثة حتى لا يتطرق إلى النفس والعقل بسببه أن يفض إلى الضلال أعاذنا الله من ذلك
بينوا لنا هذا بالدليل العقلي والدليل الشرعي
أجاب رضي الله عنه الذي يدين به من يقتدي به من السالفين والخالفين واختاره عباد الله الصالحون أن لا يخاض في صفات الله تعالى بالتكييف ومن ذلك القرآن العزيز فلا يقال تكلم بكذا وكذا بل يقتصر فيه على ما اقتصر عليه السلف رضي الله عنهم
القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ويقولون في كل ما جاء من المتشابهات آمنا به مقتصرين علي الإيمان جملة من غير تفضيل وتكييف ويعتقدون على الجملة أن الله سبحانه وتعالى له في كل ذلك ما هو الكمال المطلق من كل وجه ويعرضون على الخوض خوفا من أن تزل قدم بعد ثبوتها فبهم فاقتدوا تسلموا وإلى هذه
الطريق رجع كثير من كبار المتكلمين المصنفين بعد أن امتعضوا مما نالهم من آفات الخوض فمهما ورد عليكم شيء من هذه المسائل فقد اعتقد فيها لله تعالى ما هو الكمال المطلق والتنزيه المطلق ولا أخوض فيما وراءه يجزيني الإيمان المرسل والتصديق المجمل والله أعلم
61 - مسألة رجل يعتقد أن يزيد بن معاوية رضي الله عنه أمر بقتل الحسين ابن علي رضي الله عنهما واختار ذلك ورضيه طوعا منه لا كرها ويورد في ذلك أحاديث مروية عن من قلده ذلك الأمر وهو مصر عليه ويسبه ويلعنه على ذلك والمسئول خطوط العلماء ليكون رادعا له أو حجة له
أجاب رضي الله عنه لم يصح عندنا أنه أمر بقتله رضي الله عنه والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله كرمه الله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك
وأما سبب يزيد ولعنه فليس من شأن المؤمنين فإن صح أنه قتله
أو أمر بقتله وقد ورد في الحديث المحفوظ أن لعن المسلم كقتله وقاتل الحسين رضي الله عنه لا يكفر بذلك وإنما ارتكب عظيما وإنما يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء صلى الله عليه و سلم والناس في يزيد ثلاث فرق فرقة
تحيه وتتوالاه وفرقة أخرى تسبه وتلعنه وفرقة متوسطة في ذلك لا تتوالاه ولا تلعنه وتسلك به سبيل سائر ملوك الإسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك وشبهه وهذه الفرقة هي الصيبة ومذهبها اللائق بمن يعرف سير الماضين ويعلم قواعد الشريعة الطاهرة جعلنا الله من خيار أهلها آمين
62 - مسألة المبتدع والفاسق والغضب والغل بين لنا هذا المجموع
أجاب رضي الله عنه كل مبتدع فاسق وليس كل فاسق مبتدع والمراد أن المبتدع الذي لا تخرجه بدعته عن الإسلام وهذا لأن البدعة فساد في العقيدة في أصل من أصول الدين والفسق قد يكون فسادا في العمل مع سلامة العقيدة
والغضب مفارق للغل ومما يفترقان فيه أن الغضب قد يكون يؤمر به كالغضب على العاصي لله تعالى من أجله والغل لا يؤمر به وأيضا فالغل فساد في القلب يتعلق بالعين مثل الحقد والحسد والبغض وإن لم يكن من ذلك الغير سبب عامل به صاحب الغل إثارة به عليه وأما الغضب فمن شرطه أن يكون عليه جناية يعدها غضب جناية موجبة لغضبه والله أعلم
القسم الرابع
في الفقه على ترتيبهفمن ذلك
63 - مسألة جوخ حكي أن الأفرنج يعلمون فيها شحم الخنزير وقد اشتهر ذلك لا عن تحقيق مشاهدة هل يحكم بنجاستها أو نجاسة ما يصيبه في حال رطوبتها في الطرقات وغيرها مع عموم الإبتلاء
أجاب رضي الله عنه إذا لم يتحقق في نفس ما بيده منه النجاسة لم يحكم عليه بحكم النجاسة وهذا التفات إلى أن ثياب من يتدين من المشركين باستعمال النجاسة لا يحكم بنجاستها والقول بذلك هو الصحيح والله أعلم
64 - مسألة بقل في أرض نجسة أخذه البقالون وغسلوه غسلا لا يعتمد عليه في التطهير هل يحكم بنجاسة ما يصيبه في حالة رطوبته من غير مشاهدة عين النجاسة على الموضع الذي أصابه أو لم يعلم هل غسل أم لا
أجاب رضي الله عنه إذا لم يتحقق نجاسة ما أصابه من البقل
أصلا بأن احتمل أنه مما ارتفع عن منبته النجس فإنا لا نحكم بنجاسة ما أصابه ذلك لتظاهر أصلين على ذلك والله أعلم
65 - مسألة في قناة متصلة بنهر وفيها أجباب عدة في دور جماعة فمات في أحد الجباب ميت وتغير بعض الجباب من الرائحة وشيل من الماء الميت بعد أربعة أيام فهل يجب نزف الجباب جميعها أو ينزف من البئر الذي تغير طعمه
أجاب رضي الله عنه الميت الآدمي لا ينجس قلت فان صحبه نجاسة أو كان الميت غير آدمي تنجست الجباب المتغيرة وأما بقية الجباب التي لم تتغير فإن كانت متصلة بالمتغيرة وهي دون القلتين تنجست بالملاقاة وإلا قدر لم تتصل بأن كان بينها وبين المتغيرة حائل أو كانت قلتين فطاهرة
66 - مسألة الأوراق التي تعمل وتبسط وهي رطبة على الحيطان المعمولة بالرماد النجس والكلس أي المتنجس وينسخ فيها ويصيب الثوب من المداد الذي يكتب به فيها مع عموم الابتلاء بذلك وتعذر الاحتراز منه هل يعفى عنه أو لا يعفى أو لا ينجس
أجاب رضي الله عنه لا يحكم بنجاسة ذلك والله أعلم
67 - مسألة قليل قمح بقي في سفل هري وعموم الابتلاء بالفار ويتغير الفار مما لا يخفى لا سيما في الأهراء خصوصا أسافلها فهل يحكم بنجاسة ذلك القمح بناء على ما ذكر أو بناء على الأصل فان حكم بنجاسته فهل يحكم بنجاسته الخبز الذي خبر في الفرن الذي خبر فيه خبز هذا القمح
أجاب رضي الله عنه قد أفتى بعض أئمتنا بأنه لا يجب على كل ما اشتبهت عليه الأكياس المديسة بالبعر المعلوم بولها فيها غسل ذلك وهذا مثل ذلك ونحن نختار ذلك مستخيرين الله تبارك وتعالى ثم هذا مخصوص بما لم يتغير من الحب معلوما فيه أنه قد ماش البول مع الرطوبة من أحد الجانبين أما ما تغير وعلم فيه ذلك فواجب تطهيره والله أعلم
68 - مسألة ما الفرق بين بول الصبي وبول الصبية في أنه ينضح من أحدهما ويغسل من الآخر
أجاب رضي الله عنه أوضح ما يذكر فيه كثرة البلوى بالصبي في حمله وذلك فيه أكثر من الصبية وأيضا فبول الصبية أعلق بالمحل من بول الصبي من حيث الطبيعتين على ما ذكره بعض الأطباء
69 - مسألة بول الصبي المولود وقيئه هل ينجس أم لا وهل يكون المولود إذا وضع على الأرض نجسا أم لا
أجاب رضي الله عنه نعم هو نجس ولا نحكم بنجاسة المولود عند ولادته على الصحيح الظاهر من أحوال السلف رضي الله عنهم
70 - مسألة ويجزىء في بول الغلام الذي لا يطعم النضح ما حد إطعامه وهل يقدر بسن أم بصفة مخصوصة من الصبي أم مطلق ما يحصل في بطنه ولو ابن يوم مثلا
أجاب رضي الله عنه أما الطعام المذكور في الصبي فالمراد به على الصحيح ما سوى اللبن من وجور وغيره لا بأس بما يحنك به من التمرة المستحبة في ذلك ومهما كان ذلك مقدار يظهر أثره في التغذية فهو مانع من الإكتفاء بالنضح والله أعلم
71 - مسألة صهريج فيه ماء والماء فيه قامة أو أكثر من ذلك وقعت فيه فأرة وتمعط شعرها في الماء فهل يجوز استعمال الماء أم لا وهل يكون الماء طاهرا أم نجسا ولا يمكن نزح الصهريج
أجاب رضي الله عنه لا يجوز استعمال شيء من مائه ويجب نزحه أجمع وتطهير حافاته التي وصل إليها الماء المنزوح والله أعلم
72 - مسألة سأل سائل عن كمية الأقوال القديمة التي يفتي بها وتبيينها
أجاب رضي الله عنه بأن الامام أبا المعالي بن الجويني رحمه الله كان يذكر عن أئمته أنهم قالوا كل قولين أحدهما جديد فهو أصح من القديم إلا في ثلاث مسائل وصرح الإمام في المذهب الكبير على مسألتين منها
احداهما مسألة التباعد والقديم فيها أنه لا يجب
والثانية مسألة التثويب والقديم فيها أنه يستحب
وأما الثالثة وهي مسألة قراءة السورة فيما سوى الركعتين الأولتين والقديم أنها لا تسن قال وعليه العمل وكنا نظن أن هذه هي الثالثة حتى وجدته قد قال في المختصر المنتخب من النهاية أن الثالثة تأتي في كتاب زكاة التجارة وذكر بعض من تأخر أن المسائل التي يفتى فيها على القديم دون الجديد أربع عشرة مسألة وما سواها فلا يجوز الفتيا فيها بالقول القديم فذكر المسائل الثلاث التي قدمناها على الإمام ومسألة الاستنجاء بالحجر فيما جاوز المخرج القديم أنه يجوز اذا لم ينتشر أكثر مما ينتشر في حق معظم الناس بأن لا تزيد على ما حول المخرج قريبا منه
ومسألة لمس المحارم قال قال ابن مسعود يعني صاحب التهذيب القديم أنه لا ينتقض وصححه الجويني ومسألة الماء الجاري والقديم أنه لا ينجس إلا بالتغير ومسألة تعجيل العشاء والقديم أنه أفضل ووقت المغرب والقديم أنه يمتد إلى مغيب الشفق والمنفرد إذا نوى الاقتداء في أثناء صلاته والقديم جوازه وأكل جلد الميتة المدبوغ والقديم أنه لا يؤكل وإذا ملك محرما من نسب أو رضاع ووطئها مع العلم بتحريمها والقديم أنه لا يلزمه الحد ومسألة قلم أظفار الميت والقديم انه يكره وشرط التحلل في الحج عند المرض ونحوه والقديم أنه يجوز الشرط ويتحلل به ومسألة نصاب الركاز والقديم أنه لا يعتبر والله أعلم
أن شيئا من هذا لا يعزى عن خلاف بين الأصحاب فيه ولا شيء من هذه المسائل اتفق الأصحاب على أنها مسألة خلاف بين الجديد والقديم والفتيا فيها على القديم ولا موافقة أيضا على أنه ليس غيرها يترك فيه الجديد ويفتي به على القديم فلم يسلم إذا كل واحد من هذين الحصرين عن الخلاف في طرفيه اثباتا ونفيا
اثباتا من أن الأمر فيما ذكر من المسائل على ما ذكر فيها
ونفيا في أنه ليس غيرها بالمثابة المذكورة أما في طرف النفي هذا فإن لهذه المسائل اغيارا ذهب فيها من يعتمد إلى الفتوى على القديم دون الجديد
منها استحباب الخط بين يدي المصلي رآه الشافعي رضي الله
عنه في القديم ورجع عنه في الجديد وضرب عليه بعد ما كتبه وإلى القول باستحبابه ذهب صاحب المهذب وغيره من غير ذكر خلاف
ومنها من مات وعليه صيام فعلى القديم يصوم عنه وليه وهو الصحيح للأحاديث الصحاح في كتاب مسلم وغيره أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه ولا تأويل له يفرح به
ومنها أنه إذا أبى أحد الشريكين من العمارة الحافظة للوجود فالجديد أنه لا يجبر والقديم أنه يجبر وهو صحيح عند صاحب الشامل وبه أفتى صاحبه الشاشي وبه نفتي
ومنها الصداق مضمون يد الزوج ضمان اليد على القديم قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني والشيخ أبو نصر بن الصباغ رضي الله عنهما هو الصحيح وأما انتفاء الموافقه على ذلك في طرف الاثبات فان فيها ما صح فيه عن الجديد قول موافق للقديم فلا يكون الإفتاء بما صار إليه القديم إفتاء بالقديم دون الجديد بل بهما معا
ومنها ما ذهب فيه بعض الأئمة إلى أن الصحيح هو الجديد لا القديم
ومنها ما قطع فيه بعض الأئمة بالقول الواحد ولم يجعل خلافا بين الجديد والقديم
ومنها ما يجعله بعض الأئمة مسألة وجهين لا مسألة قولين والله أعلم
73 - مسألة رجل اغتسل من الجنابة ثم أغفل لمعة من بدنه لم يصل الماء إليها ثم بعد أن جف الماء عن البدن علم فهل يبني هذا على الخلاف في وجوب التتابع في الوضوء فعلى القديم غسل ذلك الموضوع المتروك إن لم يمض زمان يجف في مثله الماء عن العضو ويستأنف إن مضى وعلى الجديد لا يجب التتابع مطلقا بل يبنى
أجاب رضي الله عنه هذا فيه طريقان منهم من قال إذا ترك التتابع لعذر كهذا المذكور لم يقدح قولا واحدا والجديد لا حد فيه للتفريق بل لا يضر مطلقا وإن طال الوقت والله أعلم
ومن كتاب الصلاة
74 - مسألة خطر لي أن من دخل عليه وقت الصلاة وتمكن من فعلها فأخر بناء على ما يسوغ له من التأخير نام واستمر به النوم حتى خرج الوقت فهل يقض
قلت لا ينبغي أن يخرج على الخلاف المعروف فيما لو أخر
ومات قبل الفعل على أحد الوجهين أنه لا يقض وإليه الميل في أصول الفقه لأن التأخير جائز وهو في حال التأخير معذور غير مقصر كما تقرر وعرف ولا كذلك الذي نام واستمر به النوم حتى فات الوقت لأنه بنومه متعرض للتفويت إذ ليس في يده الانتباه ولهذا جاء في الحديث في العشاء أنه نهى عن النوم قبلها والحديث بعدها وهذا النهي يشتمل النوم عن كل صلاة بعد وقتها فإن غلبة النوم كان كالموت والله أعلم
75 - مسألة تكبيرة الإحرام إذا وصل قوله مأموما أو إماما بقوله الله أكبر فذهبت الهمزة في الدرج هل يجزيه ذلك أم لا فان لم يجزيه فما العلة في عدم الإجزاء وما الفرق بين هذا وبين الهمزة من قولنا الرحمن الرحيم إذا سقطت الهمزة منها في الدرج مع كونه حرف من الفاتحة ركنا وقد أجزأ وإذا لم يكن بد من الإتيان بها فكيف يفعل عند الإحرام يقف على قوله مأموما أو إماما بالسكون ثم يبتدئ بقوله الله أكبر ويفصل بتسكينة أم كيف يصنع
أجاب رضي الله عنه يجزيه ذلك وليس تاركا حرفا مبطلا لأن ذلك إنما هو فيما إذا ترك حرفا ثابتا من واجب والهمزة هذه ليست حرفا ثابتا في حالة الدرج إذ ثبوتها مخصوص بغير حالة الدرج فليعلم ذلك ومع ذلك فوصل ذلك بالتكبير بدعة فالأولى الفصل وإنما المعتبر إقران النية واستدامتها إذا حصل باعانة التلفظ والله أعلم
76 - مسألة رجل حضر الصلاة في مسجد فأقيمت الصلاة وقام الناس اليها فأخذ يحدث رجلا آخر بجانبه ويمد معه الحديث في أمور دنيوية فلما علم أن الإمام أراد أن يركع أحرم وركع معه من غير قراءة الفاتحة فهل يجعل هذا كالمسبوق الذي دخل المسجد والإمام راكع فركع معه في حط الفاتحة عنه أم لا يعذر لأنه مسيء في تأخيره وحديثه في مكان الجد بالهزل
أجاب رضي الله عنه هو في الحكم كالمسبوق فيما يرجع الى صحة الصلاة من غير قراءة الفاتحة وهو محروم ومسيء والله أعلم
77 - مسألة هل يسوغ لقارئ أن يقرأ كل اية من أي عشر واحد بقراءة أخرى أم اللازم أو الأولى أن يتم العشر بالقراءة الأولى المبتدأ بها أول آية فيه
هذه أسئلة عن حالات اجترأ عليها قارئ مال للمزخرف الدنيوي ولأجله على كل خطز من خطأ آخر طارئ فلتجيبوا عنها
أجاب رضي الله عنه الأولى أن يتم العشر بما ابتدأ به من القراءة بل ينبغي أن لا يزال في القراءة التي ابتدأ بها ما بقي للكلام تعلق بما ابتدأ به وليس ذلك منوطا بالعشر وأشباهه ولا الجواز والمنع منوطين فيه بذلك ولولا قيد المرض المانع مع الزيادة لكان ها هنا زيادة فعاذرون والله أعلم
78 - مسألة هل يجوز لقارئ يقرأ كتاب الله بالقراءات الشاذة التي لم يصح نقلها من أئمة هذا الفن ولا سيما لمن ليس يعرف مصادر ألفاظ العرب ولا مبانيها ولا يقدر التصرف ولا تطلع معانيها ولئن جاز أقراءتها أولي أم السكوت عنها وهل تكره قراءتها في الصلاة أم لا
أجاب رضي الله عنه الأمر في ذلك أبلغ من ذلك وهو أنه لا يجوز القراءة من ذلك إلا بما تواتر نقله واستفاض وتلقته الأمة بالقبول كهذه السبع فإن الشرط في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر في الأصول فما لم يوجد فيه ذلك فممنوع منه منع كراهة وممنوع منه في الصلاة وخارج الصلاة وممنوع منه من عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك وعلى
كل من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك القيام بواجبه والله أعلم
79 - مسألة لو لم تجز القراءة بالشواذ وارتكب قارئ عليها وأصر هل يجب منعه عنها منع مرتكب خطيئة أو إثما
أجاب رضي الله عنه يجب منعه وتأثيمه بعد تعريفه ثم هو مستوجب تعزيره والله أعلم
80 - مسألة أنه لو لم يجز ذلك واجترأ عليه قارئ وأصر عليه ولم يمتنع فماذا يستوجبه
أجاب رضي الله عنه يمنع بالحبس والإهانة ونحو ذلك وعلى المتمكن من ذلك أن لا يهمله والله أعلم
81 - مسألة إذا استفتى عن أمر الشواذ اجمالا ولكن لزمنا الاستفتاء عنه تفصيلا اطمئنانا للقلب المستنير وردعا للمجترئ على كتاب الله عز و جل المصر وهو هذه أيجوز لقارئ أن يقرأ في كتاب الله تعالى مكان أتينا أعطينا وفتجسسوا فتخبروا وسولت زينب وأن يستبدل تاء القسم بواوه أو بائه وأن يقرأ مكان موسى موشى منقوطا على أصل العبرانية وأن يحرك الدال في قوله تعالى المص وكهيعص باحدى الحركات الثلاث أو بها جميعا منونا غير منون وإن يتعرض لقوله تعالى هيهات المبني على الفتح بقوله تعالى هيها هو مشبع
وغير مشبع وهيهات بالتاء تارة وبالهاء أخرى مما لا فيهما وهيهاها وهيأت بالهمزة مكان الهاء الثانية وهيهان على وزن فيعان وما يجري هذا المجرى ويوجد فيها رجلان على المبني للمفعول وأن يقرأ القرآن علي المعنى أعني يستبدل كل كلمة شاء بلفظ اخر يفيد معناها كما صرح في استبدال أتينا بأعطينا وبعض حروف القسم ببعضها
أجاب رضي الله عنه هذا كلام من خفي عليه معنى الشواذ فالشواذ عبارة عما لم ينقل نقلا موصلا برسول الله صلى الله عليه و سلم مستيقنا لا ريب فيه ونقله في القرآن مع ذلك شخص مذكور كهذه التي اشتمل عليها المحتسب لابن جني وغيره وأما القراءة بمجرد المعنى من غير تقييد بنقل من ذاكره عن من تقدمه فذلك إفراط في الزيغ زائد وكان وقع ابن شنبوذ وابن مقسم ووثب عليهما بمر الإنكار أهل العلم بالقرآن واستتيبا وكفى فليتق الله الجليل عظم جلاله ولا يستجرئ على كتابه فقد علم ما علم على المحرف له والله أعلم
82 - مسألة رجل يقول الشيطان يقرأ القرآن ويصلي هو وجنوده ويريد إغواء العلم والزاهد ويأخذه من الطريق التي يسلكها ليضله وإن كان يقدر على ذلك فكيف معرفة الخلاص منه
أجاب رضي الله عنه ظاهر المنقول ينفي قراءتهم القرآن وقوعا ويلزم من ذلك انتفاء الصلاة منهم إذ منها قراءة القرآن وقد ورد الملائكة لم يعطوا فضيلة قراءة القرآن وهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس فإذا قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها الإنس غير أن المؤمنين من الجن بلغنا أنهم يقروونه والله أعلم
83 - مسألة إمام جامع يصلي جماعة خلفه كثيرون وفيهم رجل واحد يضعف عن القيام خلفه في صلاة الصبح إذا قرأ بطوال المفصل هل الأولى للإمام أن يترك طوال المفصل لأجل هذا الواحد الضعيف ويقرأ بأواسط المفصل أم لا وفي جماعة يصلون خلف إمام وفيهم صبيان وفي الصف الأول خلو فهل يسن للصبيان أن يصلوا خلف الرجال أم يدخلون في ذلك الخلو
أجاب رضي الله عنه لا وليس للإمام أن يفوت على الأكثرين حظهم في إتمام الصلاة بتمام القراءة المشروعة المستحبة فيها من أجل واحد أو اثنين أو نحو ذلك وهذا إذا كثر حضور الذي يضعف عن ذلك أما إذا طرأ ذلك غير استمرار فلا بأس برعاية جانبه وهو قريب مما روى سيدنا صلى الله عليه و سلم أنه قال إني لأسمع بكاء الصبي فأخفف لمكان أمه وأما الصبيان فيصلون خلف الرجال ولا يدخلون في فرجة صفهم إلا
أن يكون صبي وحده فانه لا يقف وحده بل يقف مع الرجال والله أعلم
84 - مسألة إمام يصلي بالناس صلاة التسبيح المروية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليالي الجمع وغيرها فهل يثاب ويثابون على ذلك أم لا وهل هي من السنة أم من البدعة وهل صحت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من طريق أم لا وهل من أنكر على مصليها مصيب أم مخطئ وعلى تقدير تخصيصها بليلة الجمعة هل هي صحيحة في نفسها أم لا وعلى تقدير صحتها فهل يثاب ويثابون عليها
أجاب رضي الله عنه نعم يثاب ويثابون اذا أخلصوا وهي سنة غير بدعة وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وحديثها حديث حسن معتمد معمول بمثله لا سيما في العبادات والفضائل وقد أخرجه جماعة من أئمة الحديث في كتبهم المعتمدة أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الله بن ماجه والنسائي وغيرهم وأورده الحاكم أبو عبد الله الحافظ
في صحيحه المستدرك وله طرق يعضد بعضها بعضا وذكرها صاحب التتمة والمنكر لها غير مصيب ولا يختص بليلة الجمعة كما جاء في الحديث والله أعلم
85 - مسألة رجل ينوي في صلاة التراويح قضاء الفوائت التي عليه فهل يحصل له فضيلة قيام رمضان لقوله صلى الله عليه و سلم من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه أم لا وهل الأولى أن يصلي التراويح ثم يقضي في وقت آخر أولا
أجاب رضي الله عنه لا يحصل له فضيلة قيام رمضان وإنما يحصل له فضيلة أداء الفرائض والأولى أن يصلي التراويح ويقضي عقيبها ما أراد أن يجعله من القضاء بدل التراويح والله أعلم
86 - مسألة النية في التراويح والوتر هل ينوي بنيته التراويح أو
صلاة التراويح المسنونة وينوي سنة الوتر أو الوتر المسنون وهل ينوي الشفع والوتر أو ينوي في الجميع الوتر
أجاب رضي الله عنه لا بأس بأن ينوي صلاة التراويح المسنونة والوتر المسنون ولا بأس أيضا بأن ينوي سنة التراويح ولا يكون مراده مثل ما يراد بقولنا سنة الظهر فانه يوجب مغايرة وتعددا بل يكون مراده وصف التراويح بأنها سنة ثم لا اشكال فيه من حيث تضمن النية فإنها عبارة عن القصد بالقلب ولا يختلف حال القصد باختلاف حال الألفاظ صحة وفسادا وأما فيما يرجع إلى اللفظ ففيه أشكال وله مع ذلك مساغ من حيث اللغة قررته في مسألة عملتها في نية الوتر وعبارتها وهكذا إذا نوى سنة الوتر فهذا في ذلك ويزداد فيه قبل الركعة الأخيرة أنه إذا أراد الإضافة على معنى أن للوتر الحقيقي سنة وأنه لا امتناع في أن يكون للسنة سنة ويكون اضافة احدى السنتين الى الأخرى لتأكيد ما هو المضاف اليه فهذا اذا أراده الناوي فنيته غير فاسدة فإن غاية ما فيه أن لا يكون قطعها اكتفاء بما سبق في غيرها وينبغي أن يراد في ذلك التعرف بأن في قوله تعالى والشفع والوتر أكثر من عشرين قولا ليس منها هذين هما المراد بالشفع والوتر ولم أجد لأحد من أصحابنا هذه التسمية لهذين لكن قد وجدتها لغير أصحابنا هي في كتاب الخلاف في مذهب مالك رضي الله عنه وأظنها في مذهب أحمد رضي الله عنه
87 - مسألة سنة الوتر من أحب أن يصليها إحدى عشر ركعة وهو يقصد بها التنفل والتهجد فإن صلى منها في أول الليل ثلاث ركعات خوفا من النوم ثم انتبه فصلى باقيها وهي تمام إحدى عشر ركعة ثم في كل صلاة منها ينوي صلاة الوتر هل يجوز وهل إذا قام من النوم يصليها بنية الوتر أو بنية التهجد أو بالمجموع
أجاب رضي الله عنه لا بأس عليه بذلك والسنة أن لا ينام إلا على وتر فإذا نام على الوتر بالثلاث ثم انتبه فله أن يصلي ما بدا له ولا ينقض الوتر على مذهبنا ومذهب بعض الصحابة رضي الله عنهم وعند بعضهم ينقضه ويصلي عند انتباهه للتهجد ركعة واحدة تشفع له الثلاث الأولى حتى يخرج عن كونها وترا مرة أخرى أما بإحدي عشرة ركعة أو بأقل والمذهب الأول هو المختار ويكون ما يأتي به بعد الانتباه تهجدا غير الوتر لا ينوي به الوتر بل مطلق التطوع والصلاة الله أعلم
88 - مسألة في القول في فضيلة الصلاة بين العشاءين ما معنى العشاءين وإذا حضر العشاء والعشاء فابدؤا بالعشاء وما العشاء
أجاب رضي الله عنه يقال العشاء بالفتح خلاف الغذاء وهو ما يؤكل آخر النهار أو أول الليل وأما العشاء بالكسر فمخصوص في لسان الشرع من بين الصلوات بالصلاة المنوطة بغيبوبة الشفق وتسمية المغرب عشاء ليس إلا من حيث اللغة وقد آباه الشارع صلى الله عليه و سلم وهو حكم من أحكام
الفقه ذكره الشيخ أبو إسحق وغيره والدليل عليه ما رواه البخاري رضي الله عنه في صحيحه عن عبد لله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يغلبنكم الأعراب عن اسم صلاتكم المغرب قال وتقول الاعراب هي العشاء وروى بلفظ آخر أنص منه وعند هذا فقوله صلى الله عليه و سلم إذا حضر العشاء والعشاء خارج على وجهين
أحدهما إن المراد بالعشاء فيه صلاة العشاء دون المغرب إذ المأكول عندها أيضا عشاء على ما نقله أولا في عوائد العرب في أكله العشاء ما يقتضي حمل العشاء فيه على المغرب ولو كان فالحديث الصحيح الذي ذكرناه مانع من أن يكون مراد الشارع صلى الله عليه و سلم
الثاني أنه أن أريد به المغرب فذلك من لفظ بعض الرواة فإنه يغلب على المتقدمين منهم الرواية بالمعنى فأطلق اسم العشاء على المغرب جريا على تعارف العرب وغفلة عما رسمه الشارع وأما كلمة العشاءين الجائية في بعض الأحاديث مطلقة على المغرب والعشاء فلها أيضا وجهان نحو هذين الوجهين أحدهما أن هذه التثنية ليست لكون المغرب عشاء في تسمية الشرع وعرفه حتى يكون من قبيل تسمية الإسمين المتفقين لفظا بل هي من قبيل تنثنية المختلفين لفظا بتغليب أحدهما نحو قولهم في الأب والأم الأبوان وهذا قول الأصمعي رحمه الل الثاني أن يكون ذلك من رواية جيدة عن لفظ الشارع صلى الله عليه و سلم تعبيرا عن المعنى بما كانت العرب تتناطق به من تسمية المغرب والعشاء العشاءين وأما قولهم العشاء
الآخرة فهذه القوله وأن وجدت في كلام أبي داود السجستاني وغيره من الجلة فنزاع إلى اللغة التي محاها الشارع سيدنا صلى الله عليه و سلم على ما تقدم توضيحه علي أن الأصمعي رضي الله عنه قال ومن المحال قول العوام العشاء الآخرة إنما يقال صلاة العشاء لا غير وصلاة المغرب ولا يقال لهذه العشاء هذا نص ما نقل عنه وقد وجدته لغيره والحق أن هذا مصير إلى العرف الشرعي فقط ولا يتجاوز إلى نفي تسمية المغرب عشاء من حيث اللغة فانه لا سبيل إليه فالعشاء عند ابن السكيت وغيره من أهل اللغة من الغروب إلى صلاة العشاء وعند قوم من زوال الشمس إلي طلوع الفجر وقال الخليل العشاء عند العامة من غروب الشمس إلى أن يولي صدر الليل والله أعلم
ثم ليعلم أن صلاة العشاءين المذكورتين في الحديث الصحيح ليستا المسمين بالعشاءين فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إحدى صلاتي العشاء إما الظهر وأما العصر وقد قال الأزهري العشاء عند العرب ما بين أن تزول الشمس إلى أن تغرب والله سبحانه أعلم
89 - مسألة من أراد الاحرام بالوتر وفصله بتسليمتين فنوى بالركعتين الأوليين سنة الشفع وبالأخيرة سنة الوتر فهل يكون في ذلك مخطئا أم لا وهل الثلاث مجموعها وتر أم الركعة الأخيرة على انفرادها وهل لنا صلاة تسمى شفعا حتى تكون الركعتان الأوليان سنة لذلك الشفع أم
تكون الركعة الأخيرة هي صلاة الوتر والركعتان الأوليان قبلها سنة لها كسنن باقي الصلوات
أجاب رضي الله عنه لا يكون مخطئا في ذلك وهو منزل منزلة ما لو نوى الأوليين الشفع وبالأخري الوتر مجردين عن ضميمة السنة لأن المعني بالسنة مضافة إلى الشفع نفس الشفع وبها مضافة إلى الوتر نفس الوتر وهو سائغ كما ساغ قولنا صلاة الوتر وإن كانت الصلاة هنا نفس الوتر ولا يفسد هذا بأن يقال أن الشئ لا يضاف إلى نفسه والموصوف لا يضاف إلى صفته ولا الصفة إلي موصوفيها وعنه اعتقد النحويون في قولهم مسجد الجامع وصلاة الأولى محذوفا تقديرة مسجد الوقت الجامع وصلاة الساعة الأولى لأن له مساغا رحبا أما على مذهب الكوفيين فظاهر لتسويفهم إضافة الشيء إلى نفسه كما حكى عنهم في قوله تبارك وتعالى وحب الحصيد وغيره وأما على مذهب البصريين فلأن الذي نفوه من ذلك أن كل واحد من المضاف والمضاف إليه يدل على ما يدل عليه الآخر قبل الاضافة كزيد وكنيته فأما ما لم يكن كذلك فلاامتناع فيه بإجماع كقولنا نفس الشيء وكل القوم وما ضاهاهما وقد جاء عنهم سحق عمامة وخلق ثوب ومغربة خبز كما جاء عنهم مائة الدرهم وخاتم فضة ونحو ذلك وبعد هذا فلا خفاء في التحاق ما نحن بصدده بهذا القبيل فبهذا يتوجه ذلك لأن هناك شفعا آخر يصلح لأن تنسب إليه هاتان الركعتان والركعتان منسوبتان إليه وهذا من الواضح الجلي في قوله سنة الوتر إذ لا وتر آخر غير هذه الركعة منسوبة إليه إذا علم هذا فالناوي سنة الشفع وسنة الوتر أن قصد المعنى الأول
لا إشكال في صحة نيته وصلاته وإن قصد الثاني الذي نفيناه فصلاته صحيحة لأنه نواها بعينها وإن أخطأ في وصفها بما ليس من صفتها فليلغ الوصف ولا يوتر مجردا من مزيد السنة
والذي ظفرت به جيدا قديما وحديثا من أقاويل أئمة مذهب الفضل أوجه
أحدها أن ينوي بالركعتين الأوليين مقدمة الوتر وبالأخيرة الوتر قاله الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين أبو المعالي في كتابه كتاب المحيط بمذهب الشافعي رضي الله عنه
الثاني ان ينوي بما قبل الركعة سنة الوتر حكاه صاحب كتاب بحر المذهب القاضي أبو المحاسن الروياني وجدته بالموصل في كتابه حلية المؤمن وفي هذين الوجهين تخصيص للوتر بالركعة الأخيرة وإخراج لما قبلها من مسمى الوتر من إثبات يشبه بينهما وارتباط والثاني منهما يستبعد بأن الوتر على مذهب الفصل سنة ولا عهد لنا بسنة هي صلاة
الثالث أن ينوي بما قبل الركعة الأخيرة التهجد أو صلاة الليل حكاه ابن مسعود الفراء صاحب التهذيب فيه وهو يداني ما قاله الغزالي فانه قال ينوي به السنة وفي هذا الوجه قطع لذلك عن الوتر من غير إثبات تعلق وما اتفقت عليه هذه الوجوه من تخصيص الوتر بالركعة المفردة واقع على وفق قول الشافعي في رواية البويطي رضي الله عنهما الوتر ركعة واحدة
وهذا صاحب الحاوي يقول فيه لا يختلف مذهب الشافعي رضي الله عنه في أن الوتر ركعة واحدة تشهد بصحته الأحاديث الصحاح التي منها حديث مسلم في صحيحه يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة
ويشهد للوجه الثالث في أنه ينوي بما قبلها صلاة الليل أو نحو ذلك الحديث الثابت عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال صلاة الليل مثنى مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة
وفي ذلك وجه رابع وهو أنه ينوي الوتر في كلها في الركعة الأخيرة وما قبلها اختاره القاضي الروياني وقاله قبله القاضي أبو الطيب الطبري في منهاج النظر من تأليفه وهو على وفاق ما تنطق به تصانيف الشيخ أبي إسحق وغيره من قولهم أقل الوتر ركعة واحدة وأكثره احد عشرة ركعة وفي بعض كلام الشافعي رضي الله عنه إشارة إليه
وفي حديث خرجه أبو داود السجزي في السنن عن عائشة رضي الله عنها ما يدل عليه وما رواه مالك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يسلم بين الركعة والركعتين من الوتر شاهدة له ولا يمنع أن يكون صلاة واحدة يفصل بعضها عن بعض بسلامة فإن ذلك موجود من النوافل في التراويح ولا أن يكون من الوتر ما هو شفع فإنه بانضمام الشفع إلى الوتر يصير المجموع وترا نظرا إلى الجملة فيسوغ لذلك أن يقال أصلي ركعتين من الوتر لكونهما من جملة الوتر ويدل عليه ما رواه الشافعي
رضي الله عنه عن مالك رضي الله عنه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال صلاة الليل مثنى مثنى فاذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ماقد صلى
وكوضع الدلالة قوله توتر له ما قد صلى والمختار من هذه الوجوه هذا الوجه لأن فيه جمعا بين هذه الأحاديث كلها إذ الواحدة الأصل في الايتار وبها يصير ما قبلها وترا فمن أجل هذا اقتصر في الوصف بالوتر به عليها فيما احتججت به للوجه الأول
وعند هذا فقول مسلم بواحدة محذوف فيه مفعول أوتر والمراد أوتر بواحدة ما مضى كما صرح به الحديث الآخر ويلي هذا الوجه في القوة الوجهان الأولان وأبعدها الثالث ولا نزاع أصلا في أنه ينوي بالركعة الأخيرة الوتر لاستحقاقها حقيقته بما نصصناه الإفصاح بأجوبة الأسئلة كلها وجملتها أنه لا يكون في ذلك مخطئا والمجموع بأسره وتر ولا صلاة شفع هناك تكون الركعتان سنة لها إذ ليس ثم الا الفرض وركعتا سنته وبعد أن ثبت كون الركعتين المذكورتين من الوتر ولا سبيل إلى اعتقاد كونها سنة لأحد ذينك لأن الوتر صلاة تنفل اخر الليل حيث يكره تأخير العشاء وسنتها إليه أو تمنع لغير هذا من الأدلة وليستا أيضا سنة للوتر لما سبق من أنه لا سنة ذات سنة وقد تقدم إيضاح ذلك وتبيينه وأسأل الله ربي العصمة والمثوبة والله أعلم
90 - مسألة في قول الإمام في النهاية في الفجر الأول حتى
للمحق بماذا ينمحق بالفجر الثاني أم بغير ذلك وإن رأوا أن يذكروا ما عندهم في الفجر الأول والفجر الثاني والفرق بينهما ليهتدي بذلك مهتد أو يقتدي به مقتد وهل تجوز صلاة الفجر إذا أخذ الفجر الأول في الانتشار أو في الامتداد والانحطاط
أجاب رضي الله عنه ليس انمحاقه بالفجر الثاني فان بينهما فصلا وإنما ينمحق بسواد يعقبه والفجر الأول يبدو طويلا دقيقا صاعدا في الجو متعقبا سوادا واظلاما ولذلك سمي الخيط الأسود وذنب السرحان وهو الذنب وأما الفجر الثاني فهو يبدو منتشرا معترضا في الأفق مزدادا ضياء بعد ضياء ولا تجوز صلاة الفجر بناء على الفجر الأول وما ذكر في السؤال فمحال فإنه لا يأخذ في الانتشار بل في الانحطاط على ما تقدم من وصفه والله أعلم
91 - مسألة صبي حر وعبد اجتمعا أيهما أولى بالإمامة وقد قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه الحر أولى من العبد والبالغ أولى من الصبي
أجاب رضي الله عنه إذا استوى حظهما من الدين والفقه والقراءة وسائر الخصال المعتبرة في التقديم فالظاهر أنهما يتساويان فإنهما تساويا في عدم أهليتهما للتقديم في المناصب الشرعية وسلامة الصبي من المعاصي يقابلها أن البالغ أكثر تحرجا من مفسدات الصلاة لأن الحرج يلحقه ولا يلحق الصبي والله أعلم
كنت قد ذهبت في هذا إلى مثل ما هو الأظهر في أمثال هذه المسألة من المسائل المسطورة وهو كما لو اجتمع بصير وأعمى أو اجتمع عبد فقيه وحر
غير فقيه ففيها ثلاثة أوجه منها القول بترجيح كل واحد منهما والأظهر التسوية بينهما ثم أعيدت الفتيا فرأيت ترجيح القول بتقديم العبد من حيث إن فيه الخروج من خلاف له وقع وهو خلاف أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم على اختلاف بعضهم في جواز إمامة الصبي والله أعلم
92 - مسألة رجل أدرك الإمام في التشهد الأخير فهل له أن يأتي بدعاء الاستفتاح في موضع التشهد أم يتشهد مع الإمام وإذا سلم الإمام قام وأتى بدعاء الاستفتاح أو يسقط
أجاب رضي الله عنه لا يأتي بدعاء الاستفتاح أصلا لا في الحال ولا بعد قيامه والله أعلم
93 - مسألة الذي تفعله الأئمة في هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في قيام رمضان جملة واحدة بناء منهم على أنه صلى الله عليه و سلم قال أنزلت علي سورة الآنعام جملة واحدة معها سبعون ألف ملك إلى آخر الحديث فهل لهذا صحة أو لا وهل نقل عن أحد من الصحابة والتابعين والعلماء المعتبرين رضي الله عنهم أجمعين ذلك
أجاب رضي الله عنه فعلهم هذا بدعة ولا أصل صحيح لذلك فيما علمناه الابتداع انما هو في تخصيص الإنعام بذلك على الوجه
الذي يتعارفونه لا في مطلق قراءة سورة كاملة بالأنعام أو غيرها في ركعة واحدة والخبر المذكور في ذلك قد رويناه من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم وفي إسناده ضعف ولم نر له إسنادا صحيحا وقد روى ما يخالفه فروى أنها لم تزل جملة واحدة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل ثلاث آيات هي قوله تعالى قل تعالوا إلى آخر الآيات وقيل ست وقيل غير ذلك وسائرها نزل بمكة ولو ثبت الحديث فلا يثبت بمجرده استحباب قراءتها جملة واحدة كما يفعلونه وفي الحديث المذكور نفسه فيمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية أو قال بعدد كل حرف يوما وليلة فعلق هذا على ذلك بمطلق قراءتها من غير تقييد بأن تكون القراءة جملة واحدة وإثبات الأحكام بالأحاديث أو غيرها مفوض إلى العلماء الأئمة العارفين بوجوه الدلالات وشروط الأدلة ولم ينقل فيما علمناه عن أحد منهم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنه استحب ما يفعله هؤلاء وبالله التوفيق
94 - مسألة رجلان صلى أحدهما التراويح في جميع شهر رمضان بالفاتحة وسورة الإخلاص ثلاث مرات في كل ركعة والآخر صلى التراويح في جميع الشهر بجميع القرآن العظيم فأيهما أفضل صلاة
أجاب رضي الله عنه صلاة الثاني أفضل فإنها أشبه بالسنة وبفعل أئمة التراويح في عهد القدوة في التراويح عمر بن الخطاب رضي الله
عنه ومن بعده من أئمة السلف والخلف رضي الله عنه وقراءة سورة قل هو أحد في كل ركعة ثلاثا قد كرهها بعض السلف لمخالفتها المعهود عن من تقدم ولأنها في المصحف مرة فلتكن في التلاوة مرة والله أعلم
95 - مسألة رجل يقرأ القرآن ويلحن فيه لحنا فاحشا يغير معانيه تغييرا فاحشا ويطلب بقراءته الأجر وينهى عن ذلك فلا ينتهي عن ذلك يزعم أن ناهيه آثم فهل له الأجر في التلاوة وهل يأثم ناهيه وهل يجب على من يقدر على منعه أن يمنعه من ذلك أم لا
أجاب رضي الله عنه يأثم بذلك ولا يأثم ناهيه ويجب على القادر منعه من ذلك وطريقه أن يصحح منه القدر الذي يقدر على تصحيحه ويكرره والله أعلم
96 - مسألة الحروز التي تكتب وتعلق على الدواب وغيرها وفيها آيات من القرآن فهل يأثم من يكتب ويستعمل أم لا
أجاب رضي الله عنه ذلك مكروه وترك تعليق الحروز هو المختار والله أعلم
97 - مسألة هل يجوز كتابة الحروز للصغار وتعلق في أعناقهم وما يخلوا عن اسم الله تبارك وتعالى وآيات من القرآن والصغار ما يحترزون من دخول الخلاء وكذلك النسوان والرجال أيضا واحترازهم فيها قليل فهل يجوز لهم ذلك
أجاب رضي الله عنه يجوز ذلك ويجعل لها حجاب كثيف من شمع وجلد ثم يستوثق من النساء وأشباههن وبالتحذير من دخول الخلاء بها والله أعلم
كتاب الجمعة
98 - مسألة وجوابها كان في النفس شيء في رجل يجب عليه الجمعة من أهل قرية يجب على أهلها إقامة الجمعة خرج عند صلاة الجمعة من قريته إلي قرية أخرى لا يبلغ قريته النداء منها فأقام جمعته هل يجوز له ذلك فظهر أن ذلك جائز وتبرأ ذمته من الجمعة بذلك وكلام الشيخ في التنبيه يشعر به حيث يقول اذا
سافر سفرا لا يصلي فيه الجمعة لكن هل يتم به العدد في تلك القرية حتى لو غاب واحد من الأربعين وحضر هذا مع الباقين تنعقد جمعتهم ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو عبد الله الخياطي من أئمة طبرستان في كتابه المجرد أحدهما وهو قول أبي اسحق وهو الأصح والأشهر أنها لا تنعقد ويشترط أن يكون العدد من أهل القرية التي تقام فيها الجمعة والثاني وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وما وجهه ودليله
99 - مسألة فيما تكرر منه ترك الجمعة مرارا من غير عذر يجوز تركها فأفتى مفتي شافعي المذهب بأنه يجب قتله ويستتاب فأطلق ولم يقيد فهل ما أفتى به هكذا صحيح في مذهب الشافعي رضي الله عنه وما وجهه ودليله
أجاب رضي الله عنه نعم هو صحيح على مذهب الشافعي رضي الله عنه من حيث النقل على عزة وجوده في كتب المذهب والدليل يعضده أما النقل فقد ذكر ذلك الإمام أبو بكر الشاشي رضي الله عنه من غير أن يشبب فيه بخلاف وكان رحمه الله قد استفتى فأفتى بوجوب قتله وإن كان يصليها ظهرا وذلك في فتاويه موجود ها هنا وكما أنه لا يتوقف استحقاق قتله على امتناعه من فعل الظهر فكذلك أصل استحقاق قتله لا يتوقف على الإصرار وترك الإنابة والتوبة وهو هذا كترك سائر الصلوات المكتوبة يوجب القتل غير متوقف فيه أصل وجوب القتل على الامتناع من القضاء والتوبة بل يتوقف استيفاؤه على الاستتابة والإصرار نص على هذا غير واحد من العراقيين والخراسانيين وسبب توقف استيفائه على ذلك كونه حدا يسقط بالتوبة مع كون الحدود يتشوف إلى إسقاطها ومن نظائر ذلك القتل في الردة فإنه كذلك من غير اشتباه وقول إمام الحرمين رحمه الله
في أنه يستوجب القتل إذا امتنع من القضاء ليس مخالفا لهذا فإنما ناظر بذلك استقرار وجوب القتل لا أصل وجوبه يدل عليه أنه قال بعد قوله هذا قضاؤه كعود المرتد إلى الإسلام ثم إن هذا تكلم منه في سائر الصلوات دون الجمعة فإن سياق كلامه متقيد بما يقضي والجمعة لا تقضي على ما عرف وقد قال صاحب التتمة في سائر الصلوات ما هو أبلغ فإنه ذكر أنه لو قال تعمدت ترك الصلاة بلا حذر ولم يقل ولا أريد أن أفعلها في المستقبل أنه يقتل لأن جنايته قد تحققت بالتفويت وإذا بانت صحته في نقل المذهب فبيان صحته من حيث الدليل إن تارك الصلاة المستوجب للقتل بالأدلة المعروفة من الكتابة والسنة والمعقول لا يسقط قتله إلا بالقضاء فيما يقضي وبالإقلاع فيما لا يقضي لأن الموجب للقتل مستمر بدونها والتارك للجمعة الفاعل للظهر تارك لها بغير قضاء لأن فعل الظهر لا يقع قضاء للجمعة لانتفاء حقيقة القضاء فيه قطعا فلا يسقط قتله من غير إقلاع عملا بالموجب ولتقدير هذا مجال فسيح وهو أوضح أن قلنا ان كل واحد من الجمعة والظهر أصل برأسه وهو أحد آراء ثلاثة محفوظة في المذهب ولا يقال أن كل واحد منهما وظيفة هذا الوقت فيأتيهما أت فقد أدى وظيفة الوقت فوجب أن يسقط عنه القتل فليس هذا بشيء لوجهين
أحدهما أن الظهر لا يسوغ في حق من الكلام فيه حين تسوغ الجمعة لأنها لا تسوغ له إلا بعد فوات الجمعة بإقامتها فحيثما الجمعة وظيفة ليست الظهر وظيفة وكذا بالعكس غاية ما فيه أنه ما من وقت تسوغ فيه إحداهما في حالة إلا وتشرع فيه الأخرى في حالة أخرى فكل حين من الوقت المبدوء بالزوال وقت لهما على الجملة من هذا
الوجه لكن هذا لا يوجب أن يكون فعل إحداهما يسقط الموجب ترك الأخرى لأن وقت الصلاة الثانية من الظهر والعصر أو المغرب والعشاء بهذه المثابة بالنسبة إلى كل واحدة من الصلاتين ثم لا يسقط القتل عن تارك إحداهما بفعل الأخرى
الثاني أنهما إذا كانا على هذا القول من أصلين مختلفين فلا تأثير لكونهما في وقت متحد فيما الكلام فيه وإن قلنا بالرأي الثاني وأن الجمعة أصل والظهر بدل فكذلك أيضا لوجهين أحدهما أن ذلك لا ينفي كونه ترك الجمعة من غير قضاء لأن فعل البدل ليس بقضاء على ما مضى ولا سبيل إلى إلحاق البدل بالقضاء في ذلك لأن القضاء يؤدي حكمه المقضي أو معظمها والبدل ليس كذلك وإنما يودي مثل بعض حكمه الأصل لا مخيرا إذ الكلام في البدل الذي يقابل بأصل متعين فكذلك يوجب الأمرين التغاير والتفاوت لما وضوحه يغني عن التطويل بذكره لا كالبدل في خصال الكفارة المخيرة فانها إبدال لا متعين فيها للأصالة وعند هذا فمثل هذا التفاوت مانع من التسوية بينهما لما لا يخفى
الثاني أنه بدل مرتب والبدل المرتب تتحقق بدليته بمجرد ترتيبه في الشرعية على شرعية المبدل وإن تباعدا في المقصود كالصوم في الكفارة هو بدل من العتق مع كونهما في غاية التباين في حكمتيهما فان اكتفى مكتف بالاشتراك في الوصف العام فيلزمه أن يقول إذا ترك صلاة وأتى بصلاة أخرى من نوع آخر سقط عنه بها القتل ولا صائر اليه ولا يقال إن الصوم لم يحق بالصلاة في القتل لأنه أخف حالا لأنه قد سقط بعذر يتطرق إليه بدل فكذلك التي تسقط بعذر وتبدل الظهر لا يلحق
بسائر الصلوات المكتوبة التي لا تسقط ولا تبدل فهذا غير متجه لأن المعنى في الصوم أنه يتيسر الحمل عليه بطريق أسهل من القتل وهو الحبس والمنع من الطعام والشراب فإن الظاهر من حال العاقل المسلم الممنوع من ذلك أنه ينوي الصوم لأنه لا يمنعه منه إلا الرغبة في الطعام والشراب فاذا منعهما فهذا لا محالة ينوي الصوم كي لا يجمع على نفسه المحذورين من غير فائدة فلأجل هذا لا يقتل بترك الصوم وأما السقوط بالعذر والاكتفاء بالبدل فلا يدل هذا وأشباهه على نقصان الدرجة فان ذلك في الواجب كما قد يكون لانحطاط مرتبته فقد تكون الزيادة المشقة فيه وان كان متأكدا محتلا في أعلى الرتب وهذا هو الواقع في الجمعة لأنها لا محالة آكد من سائر الصلوات على ما تنطق به النصوص وتدل عليه الأحكام التي منها اختصاصها بالتبكير وجمع الجماعات لها وغير ذلك حتى حمل ذلك من أمرها بعض العلماء على ان جعلها الصلاة الوسطى
أما الرأي الثالث وهو القول بأن الظهر أصل والجمعة بدل ويعبر عنه بأنها ظهر مقصورة وهو قول ضعيف فالكلام مبتنيا عليه كالكلام على عكسه وهو القول الثاني وقد سبق ذلك مقررا وهذا لأن الظهر وإن جعلت أصلا على هذا القول فلا يجوز فعلها مع تيسر الجمعة التي هي البدل وإنما يجوز عند عدمها لا كسائر الأصول ولا كسائر ما يقصر فقد استتب هذا الافتاء على الآراء الثلاثة وهي كل الأقسام المحتملة في هذا
الموطن مع أنه يكفي في الانتهاض في تقريره البناء على أحدها وترجيحه
وفي المسألة نص خاص بها يدل على حكمها وهو الحديث المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقا في كتاب لا يمحى ولا يبدل
وذكر الشافعي أن في بعض رواياته من ترك الجمعة ثلاثا
فمن الوجه الذي قرر في النص الشامل للجمعة وغيرها من المكتوبات وهو قوله صلى الله عليه و سلم فمن تركها فقد كفر إن أراد أنه قد استوجب ما يستوجبه الكافر من القتل يتقرر في هذا النص إن المراد به أنه المنافق في استجابة القتل إذا باح بنفاقه والعلم عند الله سبحانه وتعالى ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا والله أعلم
100 - مسألة طائفة من الفقراء يسجدون بعضهم لبعض ويزعمون أن ذلك تواضع لله وتذلل للنفس ويستشهدون بقوله تعالى ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا فهل يجوز أو يحرم وهل يختلف
بما إذا كان يسجد مستقبل القبلة أم لا وهل الآية في ذلك منسوخة في مثل ذلك أم لا
أجاب رضي الله عنه لا يجوز ذلك وهو من عظائم الذنوب ويخشى أن يكون كفرا والسجود في الآية منسوخ أو يتأول والله أعلم
101 - مسألة رجل لازمته الوسوسة في نية الصلاة إذا أراد التكبير اجتهد في إحضار النية ثم لا يتمكن من التكبير إلا بعد أن يرى أنه لم يبق ما أحضره من النية أو شك في بقائها ويتسارع الشك إليه كرفع الطرف ويصير كالآيس من التمكن من ذلك ومضت له على هذا مدة مديدة ولا يزداد إلا شدة فهل له رخصة في التكبير بعد تمام النية وما يجده من الدهشة أم لا
أجاب رضي الله عنه له من الرخصة في هذا ما صار إليه الغزالي رحمه الله في حق العوام من أن موافاتهم حقيقة العقد والتكبير لا يكلفون بها فإنه شطط لم يعهد اشتراطه من الأولين بل الواجب في حقهم أصل القصد إلى الصلاة المعينة بأوصافها المذكورة المعتبر احضارها في النية بحيث لا يكون غافلا عن ذلك في حالة إرادته التكبير وبحيث يعد قصده في العرف مقترنا بالتكبير وإن لم يكن مقترنا على الحقيقة فهذا الموسوس منسلك في هذا القبيل فعليه الاجتزاء بذلك والإعراض عن الوسوسة أصلا فإنه إن شاء الله تعالى سيخزى بعد ذلك شيطانه وتزايله وسوسته وتصلح في النية حالته وإن لم
يفعل فإنما هو متحقق بما قاله إمام الحرمين إذ يقول الوسوسة مصدرها الجهل بمسالك الشريعة أو نقصان في غريزة العقل ونسأل الله العظيم لنا وله العافية
ثم إن اقتران النية على الحقيقة ليس بصعب المرام عند من أخلى قلبه من الأفكار الدنيوية وجانب الغفلة فإن الإنسان مهما عرف أن الله سبحانه وتعالى أوجب عليه صلاة الصبح مثلا فكبر امتثالا لأمره كفاه ذلك في ذلك فانه يشتمل على جميع ما ذكروه من كونها صبحا فرضا أداؤها لله تعالى وما وراء هذا فتشديد ونوع خارجيه ومن شدد شدد عليه وكما لا يحتاج من يقوم لمحترم تعظيما له في تحقيق قصده ذلك إلى أن يقول بلسانه أو في قلبه نويت إذ القيام لفلان تعظيما له بل يحصل ذلك بمجرد معرفته بأنه فلان ونهوض لتعظيمه فكذلك ما نحن بصدده فليست من هذا الموسوس بالله سبحانه وتعالى وليحفظ هذا مكتفيا به فإنه كان عندهم فإن تمادى به الشر وأبى إلا التشكك الموصوف فليستخر الله سبحانه وتعالى وليركن إلى المذكور أولا والله سبحانه المسئول للهداية والتسديد والله أعلم
ومن كتاب الجنائز
102 - مسألة رجل عنده قماش يكريه لجنائز الأموات وغيره مثل ثياب بيض وحمر وخضر وأقبية وشرابيش وثياب أطلس حمر وخضر وثياب مذهبة فهل يجوز له كراؤها بطريق الحل