كتاب : مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا واوضح لهم طرق الهداية وجعل اتباع الرسول عليها دليلا واتخذهم عبيدا له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلا وكتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه لما رضوا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا والحمد لله الذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنن المرسلين كفيلا واختص هذه الامة بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امره ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلا يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الاذى ويبصرون بنور الله أهل العمى ويحيون بكتابه الموتى فهم احسن الناس هديا وأقومهم قيلا فكم من قتيل لابليس قد احيوه ومن ضال جاهل لا يعلم طريق رشده قد هدوه ومن مبتدع في دين الله بشهب الحق قد رموه جهادا في الله وابتغاء مرضاته وبيانا4 لحججه على العالمين وبيناته وطلبا للزلفى لديه ونيل رضوانه وجناته فحاربوا في الله من خرج عن دينه القويم وصراطه المستقيم الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلعوا اعنة الفتنة وخالفوا الكتاب واختلفوا في الكتاب واتفقوا على مفارقة الكتاب ونبذوه وراء ظهورهم وارتضوا غيره منه بديلا احمده وهو المحمود على كل ما قدره وقضاه واستعينه استعانة من يعلم انه لا رب له غيره ولا إله له سواه واستهديه سبل الذين انعم عليهم ممن اختاره لقبول الحق وارتضاه واشكره والشكر كفيل بالمزيد من عطاياه واستغفره من الذنوب التي تحول بين القلب وهداه وأعوذ بالله من شر نفسي وسيئات عملي استعاذة عبد فار إلى ربه بذنوبه وخطاياه واعتصم به من الاهواء المردية والبدع المضلة فما خاب من اصبح به معتصما وبحماه نزيلا واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة اشهد بها مع الشاهدين واتحملها عن الجاحدين وأدخرها عند الله عدة ليوم الدين واشهد ان الحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور واشهد ان محمدا عبده المصطفى ونبيه المرتضى ورسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ارسله رحمة للعالمين وحجة للسالكين وحجة على العباد اجمعين ارسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق واوضح السبل وافترض على العباد طاعته وتعظيمه وتوفيره وتبجيله والقيام بحقوقة وسد إليه جميع الطرق

فلم يفتح لاحد الا من طريقه فشرح له صدره ورفع له ذكره وعلم به من الجهالة وبصر به من العمى وارشد به من الغي وفتح به اعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فلم يزل صلى الله عليه و سلم قائما بأمر الله لا يرده عنه راد داعيا إلى الله لا يصده عنه صاد إلى ان اشرقت برسالته الارض بعد ظلماتها وتالفت القلوب بعد شتاتها وسارت دعوته سير الشمس في الاقطار وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار فلما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين استأثر به ونقله إلى الرفيق الاعلى من كرامته والمحل الارفع الاسنى من أعلى جناته ففارق الامة وقد تركها على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها الا من كان من الهالكين فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة دائمة بدوام السموات والارضين مقيمة عليهم أبدا لا تروم انتقالا عنهم ولا تحويلا
أما بعد فإن الله سبحانه لما اهبط آدم أبا البشر من الجنة لما له في ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن معرفتها والالسن عن صفتها فكان إهباطه منها عين كماله ليعود اليها على احسن احواله فأراد سبحانه ان يذيقه وولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصا بها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم اليها في الدار الآخرة فإن الضد يظهر حسنه الضد ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها وأيضا فإنه سبحانه اراد أمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم وليست الجنة دار تكليف فاهبطهم إلى الارض وعرضهم بذلك لافضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الامر والنهي وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يتخذ منهم انبياء ورسلا وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه فخلى بينهم وبين اعدائه وامتحنهم بهم فلما آثروه وبذلوا نفوسهم واموالهم في مرضاته ومحابه نالوا من محبته روضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك اصلا فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة والحب فيه والبغض فيه وموالاة اوليائه ومعاداة اعدائه عنده من افضل الدرجات ولم يكن ينال هذا الا على الوجه الذي قدره وقضاه من إهباطه إلى الارض وجعل معيشته ومعيشة اولاده فيها وأيضا فإنه سبحانه له الاسماء الحسنى فمن اسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث الصبور ولا بد من ظهور آثار هذه الاسماء فاقتضت حكمته سبحانه ان ينزل آدم وذريته دارا يظهر عليهم فيها اثر اسمائه النى فيغفر فيها لمن يشاء ويرحم من يشاء ويخفض من يشاء ويرفع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وينتقم ممن يشاء ويعطى ويمنع ويبسط إلى غير ذلك من ظهور اثر اسمائه وصفاته وأيضا فإنه سبحانه الملك الحق المبين والملك هو الذي يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويهين ويكرم ويعز ويذل فاقتضى ملكه سبحانه ان انزل آدم وذريته دارا تجرى عليهم فيها احكام الملك ثم ينقلهم الى

دار يتم عليهم فيها ذلك وأيضا فإنه سبحانه أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب والايمان بالغيب هو الايمان النافع وأما الايمان بالشهادة فكل احد يؤمن يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إلا ايمانها في الدنيا فلو خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الايمان بالغيب واللذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه بل كان الحاصل لهم في دار النعيم لذة وكرامة غير هذه وأيضا فإن الله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض والارض فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والكريم واللئيم فعلم سبحانه ان في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه ثم ميزهم سبحانه بدارين فجعل الطيبين اهل جواره ومساكنته في داره وجعل الخبيث اهل دار الشقاء دار الخبثاء قال الله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم اولئك هم الخاسرون فلما علم سبحانه ان في ذريته من ليس بأهل لمجاورته انزلهم دارا استخرج منها اولئك والحقهم بالدار التي هم لها اهل حكمة بالغة ومشيئة نافذة ذلك تقدير العزيز العليم وأيضا فإنه سبحانه لما قال للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك اجابهم بقوله إني اعلم ما لا تعلمون ثم اظهر سبحانه علمه لعباده ولملائكته بما جعله في الارض من خواص خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه ومن يتقرب إليه ويبذل نفسه في محبته ومرضاته مع مجاهدة شهوته وهواه فيترك محبوباته تقربا الي ويترك شهواته ابتغاء مرضاتي ويبذل دمه ونفسه في محبتي وأخصه بعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء الليل وأطراف النهار ويعبدني مع معارضات الهوى والشهوة والنفس والعدو إذ تعبدوني انتم من غير معارض يعارضكم ولا شهوة تعتريكم ولا عدو أسلطه عليكم بل عبادتكم لي بمنزلة النفس لاحدهم وأيضا فإني اريد ان اظهر ما خفى عليكم من شأن عدوي ومحاربته لي وتكبره عن أمري وسعيه في خلاف مرضاتي وهذا وهذا كانا كامنين مستترين في ابي البشر وأبي الجن فأنزلهم دارا اظهر فيها ما كان الله سبحانه منفردا بعلمه لا يعلمه سواه وظهرت حكمته وتم امره وبدا للملائكة من علمه ما لم يكونوا يعلمون وأيضا فإنه سبحانه لما كان يحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الشاكرين وكانت محبته اعلى انواع الكرامات اقتضت حكمته ان أسكن آدم وبنيه دارا يأتون فيها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته فكان إنزالهم إلى الارض من اعظم النعم عليهم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يتخذ من آدم ذرية يواليهم ويودهم ويحبهم ويحبونه فمحبتهم له هي غاية كمالهم ونهاية شرة

ولم يمكن تحقيق هذه المرتبة السنية الا بموافقة رضاه وأتباع امره وترك إرادات النفس وشهواتها التي يكرهها محبوبهم فأنزلهم دارا امرهم فيها ونهاهم فقاموا بأمره ونهيه فنالوا درجة محبتهم له فأنالهم درجة حبه إياهم وهذا من تمام حكمته وكمال رحمته وهو البر الرحيم وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه اطوارا وأصنافا وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته افضل درجاتهم اعنى العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا وقد ثبت ان الله سبحانه ارسل جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم يخيره بين ان يكون ملكا نبيا او عبدا نبيا فنظر إلى جبريل كالمستشير له فاشار إليه ان تواضع فقال بل ان اكون عبدا نبيا فذكره سبحانه باسم عبوديته في أشرف مقاماته في مقام الاسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال في مقام الاسراء سبحان الذي اسرى بعبده ليلا ولم يقل برسوله ولا نبيه إشارة إلى انه قام هذا المقام الاعظم بكمال عبوديته لربه وقال في مقام الدعوة وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال في مقام التحدي وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وفي الصحيحين في حديث الشفاعة وتراجع الانبياء فيها وقول المسيح صلى الله عليه و سلم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدل ذلك على انه نال ذلك المقام الاعظم بكمال عبوديته لله وكمال مغفرة الله له وإذا كانت العبودية عند الله بهذه المنزلة اقتضت حكمته ان اسكن آدم وذريته دارا ينالون فيها هذه الدرجة بكمال طاعتهم لله وتقربهم إليه بمحابه وترك مألوفاتهم من اجله فكان ذلك من تمام نعمته عليهم وإحسانه اليهم وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يعرف عباده الذين انعم عليهم تمام نعمته عليهم وقدرها ليكونوا اعظم محبةوأكثر شكرا واعظم التذاذا بما اعطاهم من النعيم فأراهم سبحانه فعله بأعدائه وما اعد لهم من العذاب وانواع الالام واشهدهم تخليصهم من ذلك وتخصيصهم بأعلى انواع النعيم ليزداد سرورهم وتكمل غبطتهم ويعظم فرحهم وتتم لذتهم وكان ذلك من إتمام الانعام عليهم ومحبتهم ولم يكن بد في ذلك من إنزالهم إلى الارض وامتحانهم واختبارهم وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلا وخذلان من شاء منهم حكمة منه وعدلا وهو العليم الحكيم ولا ريب ان المؤمن إذا رأى عدوه ومحبوبه الذي هو أحب الاشياء إليه في أنواع العذاب والالام وهو يتقلب في انواع النعيم واللذة ازداد بذلك سرورا وعظمت لذته وكملت نعمته وأيضا فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته وهي الغاية منهم قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ومعلوم ان كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل في دار النعيم والبقاء إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف

وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والفتنة وداعي العقل والعلم فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مراده ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه فاقتضت حكمته ورحمته ان أذاق أباهم وبيل مخالفته وعرفه ما يجنى عواقب إجابة الشهوة والهوى ليكون اعظم حذرا فيها واشد هروبا وهذا كحال رجل سائر على طريق قد كمنت الاعداء في جنباته وخلفه وأمامه وهو لا يشعر فإذا اصيب منها مرة بمصيبة استعد في سيره وأخذ اهبة عدوه وأعد له ما يدفعه ولولا انه ذاق ألم اغارة عدوه عليه وتبييته له لما سمحت نفسه بالاستعداد والحذر واخذ العدة فمن تمام نعمة الله على آدم وذريته ان اراهم ما فعل العدو بهم فاستعدوا له واخذوا اهبته فإن قيل كان من الممكن ان لا يسلط عليهم العدو قيل قد تقدم انه سبحانه خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مستلزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم به ولو شاء لخلقهم كالملائكة الذين هم عقول بلا شهوات فلم يكن لعدوهم طريق اليهم ولكن لو خلقوا هكذا لكانوا خلقا آخر غير بني آدم فإن بنى آدم قد ركبوا على العقل والشهوة وأيضا فإنه لما كانت محبة الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا سعادة بدونها اصلا وكانت المحبة الصادقة إنما تتحقق بغيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفوس واحتمال اعظم المشاق في طاعته ومرضاته فبهذا تتحقق المحبة ويعلم ثبوتها في القلب اقتضت حكمته سبحانه اخراجهم إلى هذه الدار المحفوفة بالشهوات ومحاب النفوس التي بإيثار الحق عليها والاعراض عنها يتحقق حبهم له وإيثارهم إياه على غيره ولذلك يتحمل المشاق الشديدة وركوب الاخطار واحتمال الملامة والصبر على دواعي الغي والضلال ومجاهدتها يقوى سلطان المحبة وتثبت شجرتها في القلب وتطعم ثمرتها على الجوارح فإن المحبة الثابتة اللازمة على كثرة الموانع والعوارض والصوارف هي المحبة الحقيقية النافعة واما المحبة المشروطة بالعافية والنعيم واللذة وحصول مراد المحب من محبوبه فليست محبة صادقة ولا ثبات لها عند المعارضات والموانع فإن المعلق على الشرط عدم عند عدمه ومن ودك لأمر ولي عند انقضائه وفرق بين من يعبد الله على السراء والرخاء والعافية فقط وبين من يعبده على السراء والضراء والشدة والرخاء والعافية والبلاء وأيضا فإن الله سبحانه له الحمد المطلق الكامل الذي لا نهاية بعده وكان ظهور الاسباب التي يحمد عليها من مقتضى كونه محمودا وهي من لوازم حمده تعالى وهي نوعان فضل وعدل إذ هو سبحانه المحمود على هذا وعلى هذا فلا بد من ظهور أسباب العدل واقتضائها لمسمياتها ليترتب عليها كمال الحمد الذي هو أهله فكما انه سبحانه محمود على إحسانه وبره وفضله وثوابه فهو محمود على عدله وانتقامه وعقابه إذ يصدر ذلك كله عن عزته وحكمته ولهذا نبه سبحانه على هذا كثيرا كما في سورة الشعراء حيث يذكر في آخر كل قصة من قصص الرسل وأممهم إن في ذلك لاية

وما كان اكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم فأخبر سبحانه ان ذلك صادر عن عزته المتضمنة كمال قدرته وحكمته المتضمنة كمال علمه ووضعه الاشياء مواضعها اللائقة بها ما وضع نعمته ونجاته لرسله ولاتباعهم ونقمته وإهلاكه لاعدائهم الا في محلها اللائق بها لكمال عزته وحكمته ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن قضائه بين اهل السعادة والشقاوة ومصير كل منهم إلى ديارهم التي لا يليق بهم غيرها ولا تقتضى حكمته سواها وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته وحمده ان فاوت بين عباده اعظم تفاوت وابينه ليشكره منهم من ظهرت عليه نعمته وفضله ويعرف انه قد حبى بالانعام وخص دون غيره بالاكرام ولو تساووا جميعهم في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة قدرها ولم يبذل شكرها إذ لا يرى احدا إلا في مثل حاله ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها استخرجا له من العبد ان يرى غيره في ضد حاله الذي هو عليها من لاكمال والفلاح وفي الاثر المشهور ان الله سبحانه لما أرى آدم ذريته وتفاوت مراتبهم قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني احب ان اشكر فاقتضت محبته سبحانه لان يشكر خلق الاسباب التي يكن شكر الشاكرين عندها اعظم وأكمل وهذا هو عين الحكمة الصادرة عن صفة الحمد وأيضا فإنه سبحانه لا شيء احب إليه من العبد من تذلله بين يديه وخضوعه وافتقاره وإنكساره وتضرعه إليه ومعلوم ان هذا المطلوب من العبد إنما يتم بأسبابه التي تتوقف عليها وحصول هذه الاسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة يمتنع إذ هو مستلزم للجمع بين الضدين وأيضا فإنه سبحانه له الخلق والامر والامر هو شرعه وأمره ودينه الذي بعث به رسله وانزل به كتبه وليست الجنة دار تكليف تجرى عليهم فيها أحكام التكليف ولوازمها وإنما هي دار نعيم ولذة واقتضت حكمته سبحانه استخراج آدم وذريته إلى دار تجرى عليهم فيها احكام دينه وأمره ليظهر فيهم مقتضى الامر ولوازمه فإن الله سبحانه كما ان افعاله وخلقه من لوازم كمال اسمائه الحسنى وصفاته العلى فكذلك امره وشرعه وما يترتب عليه من الثواب والعقاب وقد ارشد سبحانه إلى هذا المعنى في غير موضع من كتابه فقال تعالى ايحسب الانسان ان يترك سدى أي مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب وهذا يدل على ان هذا مناف لكمال حكمته وان ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك ولهذا اخرج الكلام مخرج الانكار على من زعم ذلك وهو يدل على ان حسنه مستقر في الفطر والعقول وقبح تركه سدا معطلا ايضا مستقر في الفطر فكيف ينسب إلى الرب ما قبحه مستقر في فطركم وعقولكم وقال تعالى أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله الا هو رب العرش الكريم نزه نفسه سبحانه عن هذا الحسبان الباطل المضاد لموجب اسمائه وصفاته وانه لا يليق بجلاله نسبته إليه ونظائر هذا في القرآن كثيرة وأيضا فإنه سبحانه يحب من عباده

امورا يتوقف حصولها منهم على حصول الاسباب المقتضية لها ولا تحصل الا في دار الابتلاء والامتحان فإنه سبحانه يحب الصابرين ويحب الشاكرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ولا ريب ان حصول هذه المحبوبات بدون اسبابها ممتنع كامتناع حصول الملزوم بدون لازمه والله سبحانه أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في ارض دوية مهلكة إذا وجدها كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل من فيارض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال ارجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه فالله اشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث وذكر سر هذا الفرح بتوبة العبد والمقصود ان هذا الفرح المذكور إنما يكون بعد التوبة من الذنب فالتوبة والذنب لا زمان لهذا الفرح ولا يوجد الملزوم بدون لازمه وإذا كان هذا الفرح المذكور إنما يحصل بالتوبة المستلزمة للذنب فحصوله في دار النعيم التي لا ذنب فيها ولا مخالفة ممتنع ولما كان هذا الفرح احب إلى الرب سبحانه من عدمه اقتضت محبته له خلق الاسباب المفضية إليه ليترتب عليها المسبب الذي هو محبوب له وأيضا فإن الله سبحانه جعل الجنة دار جزاء وثواب وقسم منازلها بين اهلها على قدر اعمالهم وعلى هذا خلقها سبحانه لما له في ذلك من الحكمة التي اقتضتها اسماؤه وصفاته فان الجنة درجات بعضها فوق بعض وبين الدرجتين كما بين السماء والارض كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ان الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والارض وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها وإنما تعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الاعمال كما قال غير واحد من السلف ينجون من النار بعفو الله ومغفرته ويدخلون الجنة بفضله ونعمته ومغفرته ويتقاسمون المنازل بأعمالهم وعلى هذا حمل غير واحد ما جاء من إثبات دخول الجنة بالاعمال كقوله تعالى وتلك الجنة التي اورثتموها بما كنتم تعملون وقوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون قالوا وأما نفي دخلوها بالاعمال كما في قوله صلى الله عليه و سلم لن يدخل الجنة احد بعمله قالوا ولا انت يا رسول الله قال ولا انا فالمراد به نفي اصل الدخول واحسن من هذا ان يقال الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نفى معها الدخول فالمقتضية هي باء السببية الدالة على ان الاعمال سبب للدخول مقتضية له كاقتضاء سائر الاسباب لمسبباتها والباء التي نفى بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم اشتريت هذا بهذا فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم ان دخول الجنة ليس في مقابلة عمل احد وانه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة فليس عمل العبد وان تناهى

موجبا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضا لها فإن اعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي انعم بها عليه في دار الدنيا ولا تعادلها بل لو حاسبه لوقعت اعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله كما في السنن من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ان الله لو عذب أهل سمواته وأهل ارضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من اعمالهم والمقصود ان حكمته سبحانه اقتضت خلق الجنة درجات بعضها فوق بعض وعمارتها بآدم وذريته وإنزالهم فيها بحسب اعمالهم ولازم هذا إنزالهم إلى دار العمل والمجاهدة وأيضا فإنه سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الارض كما اخبر سبحانه في كتابه بقوله اني جاعل في الارض خليفة وقوله وهو الذي جعلكم خلائف الارض وقال ويستخلفكم في الارض فأراد سبحانه ان ينقله وذريته من هذا الاستخلاف إلى توريثه جنة الخلد وعلم سبحانه بسابق علمه انه لضعفه وقصور نظره قد يختار العاجل الخسيس على الاجل النفيس فإن النفس مولعة بحب العاجلة وإيثارها على الآخرة وهذا من لوازم كونه خلق من عجل وكونه خلق عجولا فعلم سبحانه ما في طبيعته من الضعف والخور فاقتضت حكمته ان ادخله الجنة ليعرف النعيم الذي اعد له عيانا فيكون إليه اشوق وعليه احرص وله اشد طلبا فإن محبة الشيء وطلبه والشوق إليه من لوازم تصوره فمن باشر طيب شيء ولذته وتذوق به لم يكد يصبر عنه وهذا لان النفس ذواقة تواقة فإذا ذاقت تاقت ولهذا إذا ذاق العبد طعم حلاوة الايمان وخالطت بشاشته قلبه رسخ فيه حبه ولم يؤثر عليه شيئا ابدا وفي الصحيح من حديث ابي هريرة رضى الله عنه المرفوع ان الله عز و جل يسأل الملائكة فيقول ما يسألني عبادي فيقولون يسألونك الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا يا رب فيقول كيف لو رأوها فيقولون لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا فاقتضت حكمته ان اراها أباهم وأسكنه إياها ثم قص على بنيه قصته فصاروا كأنهم مشاهدون لها حاضرون مع ابيهم فاستجاب من خلق لها وخلقت له وسارع اليها فلم يثنه عنها العاجلة بل يعد نفسه كانه فيها ثم سباه العدو فيراها وطنه الاول فهو دائم الحنين إلى وطنه ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه كما قيل :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الاول كم منزل في الارض يألفه الفتى ... وحنينه ابدا لاول منزل ولي من ابيات تلم بهذا المعنى :
وحى على جنات عدن فإنها ... منازلك الاولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى اوطاننا ونسلم
فسر هذه الوجوه انه سبحانه وتعالى سبق في حكمه وحكمته ان الغايات المطلوبة لا تنال الا باسبابها التي جعلها الله اسبابا مفضية اليها ومن تلك الغايات اعلى انواع النعيم وافضلها وأجلها فلا تنال الا باسباب نصبها مفضية اليها وإذا كانت الغايات التي هي دون ذلك لاتنال لا باسبابها مع ضعفها وانقطاعها كتحصيل المأكول والمشروب والملبوس والولد والمال والجاه في الدنيا فكيف يتوهم حصول اعلى الغايات واشرف المقامات بلا سبب يفضى إليه ولم يكن تحصيل تلك الاسباب الا في دار المجاهدة والحرث فكان اسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الاسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتمام انعامه عليهم وسرها ايضا انه سبحانه جعل الرسالة والنبوة والخلة والتكليم والولاية والعبودية من اشرف مقامات خلقه ونهايات كمالهم فأنزلهم دارا اخرج منهم الانبياء وبعث فيها الرسل واتخذ منهم من اتخذ خليلا وكلم موسى تكليما واتخذ منهم اولياء وشهداء وعبيدا وخاصة يحبهم ويحبونه وكان إنزالهم إلى الارض من تمام الانعام والاحسان وأيضا انه اظهر لخلقه من آثار اسمائه وجريان احكامها عليهم ما اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وسرها ايضا انه تعرف إلى خلقه بافعاله واسمائه وصفاته وما احدثه في اوليائه واعدائه من كرامته وانعامه على الاولياء واهانته واشقائه للاعداء ومن اجابته دعواتهم وقضائه حوائجهم وتفريج كرباتهم وكشف بلائهم وتصريفهم تحت أقداره كيف يشاء وتقليبهم في أنواع الخير والشر فكان في ذلك اعظم دليل لهم على انه ربهم ومليكهم وانه الله الذي لا إله الا هو وأنه العليم الحكيم السميع البصير وأنه الاله الحق وكل ما سواه باطل فتظاهرت ادلة ربوبيته وتوحيده في الارض وتنوعت وقامت من كل جانب فعرفه الموفقون من عباده وأقروا بتوحيده إيمانا واذعانا وجحده المخذولون على خليقته واشركوا به ظلما وكفرانا فهلك من هلك عن بينة وحيي من حى بينة والله سميع عليم ومن تأمل آياته المشهودة والمسموعة في الارض ورأى آثارها علم تمام حكمته في اسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم فالله سبحانه إنما خلق الجنة لآدم وذريته وجعل الملائكة فيها خدما لهم ولكن اقتضت حكمته ان خلق لهم دارا يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم وأنهم لاينالونها الا بالزاد كما قال تعالى في هذه الدار وتحمل اثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه الا بشق الانفس إن ربكم لرؤوف رحيم فهذا شأن الانتقال في الدنيا من بلد إلى بلد فكيف الانتقال من الدنيا إلى دار القرار وقال تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فباع المغبونون

منازلهم منها بأبخس الحظ وأنقص الثمن وباع الموفقون نفوسهم واموالهم من الله وجعلوها ثمنا للجنة فربحت تجارتهم ونالوا الفوز العظيم قال الله تعالى ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة فهو سبحانه ما اخرج آدم منها الا وهو يريد ان يعيده اليها اكمل اعادة كما قيل على لسان القدر يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها فإني انا الغني عنها وعن كل شيء وانا الجواد الكريم وانا لا اتمتع فيها فإني اطعم ولا اطعم وانا الغني الحميد ولكن انزل إلى دار البذر فإذا بذرت فاستوى الزرع على سوقه وصار حصيدا فحينئذ فتعال فاستوفه احوج ما انت إليه الحبة بعشر امثالها إلى سبعمائة ضعف إلى اضعاف كثيرة فإني اعلم بمصلحتك منك وانا العلي الحكيم فإن قيل ما ذكرتموه من هذه الوجوه وأمثالها إنما يتم إذا قيل إن الجنة التي اسكنها آدم وأهبط منها جنة الخلد التي اعدت للمتقين والمؤمنين يوم القيامة وحينئذ يظهر سر اهباطه واخراجه منها ولكن قد قالت طائفة منهم ابو مسلم ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهما انها انما كانت جنة في الارض في موضع عال منها لا انها جنة المأوى التي اعدها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة وذكر منذر بن سعيد هذا القول في تفسيره عن جماعة فقال وأما قوله لادم اسكن انت وزوجك الجنة فقالت طائفة اسكن الله تعالى آدم صلى الله عليه و سلم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة وقال آخرون هي جنة غيرها جعلها الله له واسكنه اياها ليست جنة الخلد قال وهذا قول تكثر الدلائل الشاهدة له والموجبة للقول به لان الجنة التي تدخل بعد القيامة هي من حيز الآخرة وفي اليوم الاخر تدخل ولم يأت بعد وقد وصفها الله تعالى لنا في كتابه بصفاتها ومحال ان يصف الله شيئا بصفة ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي التي وصفها به والقول بهذا دافع لما اخبر الله به قالوا وجدنا الله تبارك وتعالى وصف الجنة التي اعدت للمتقين بعد قيام القيامة بدار المقامة ولم يقم آدم فيها ووصفها بأنها جنة الخلد ولم يخلد آدم فيها ووصفها بأنها دار جزاء ولم يقل انها دار ابتلاء وقد ابتلى آدم فيها بالمعصية والفتنة ووصفها بأنها ليس فيها حزن وان الداخلين اليها يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقد حزن فيها آدم ووجدناه سماها دار السلام ولم يسلم فيها آدم من الافات التي تكون في الدنيا وسماها دار القرار ولم يستقر فيها آدم وقال فيمن يدخلها وما هم منها بمخرجين وقد اخرج منها آدم بمعصيته وقال لايمسهم فيها نصب وقد ند آدم فيها هاربا فارا عند اصابته المعصية وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه الذي نفاه الله عنها وأخبر انه لا يسمع فيها لغو ولا تأثيم وقد اثم فيها آدم واسمع فيها ما هو اكبر من اللغو وهو انه امر فيها بمعصية ربه وأخبر انه لا يسمع فيها لغو ولا كذب وقد اسمعه فيها ابليس الكذب وغره وقاسمه عليه ايضا بعد ان اسمعه

اياه
وقد شرب آدم من شرابها الذي سماه في كتابه شرابا طهورا أي مطهرا من جميع الافات المذمومة وآدم لم يطهر من تلك الافات وسماها الله تعالى مقعد صدق وقد كذب ابليس فيها آدم ومقعد الصدق لا كذب فيه وعليون لم يكن فيه استحالة قط ولا تبديل ولا يكون باجماع المصلين والجنة في اعلى عليين والله تعالى انما قال اني جاعل في الارض خليفة ولم يقل اني جاعله في جنة الماوى فقالت الملائكة اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء والملائكة اتقى لله من ان تقول مالا تعلم وهم القائلون لاعلم لنا الا ما علمتنا وفي هذا دلالة على ان الله قد كان اعلمهم ان بني آدم سيفسدون في الارض والا فكيف كانوا يقولون مالا يعلمون والله تعالى يقول وقوله الحق لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون والملائة لا تقول ولا تعمل الا بما تؤمر به لا غير قال الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون والله تعالى أخبرنا ان ابليس قال لادم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن كان قد اسكن الله جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه نصيحته ويكذبه في قول فيقول وكيف تدلني على شيء انا فيه قد اعطيته واخترته بل كيف لم يحث التراب في وجهه ويسبه لان ابليس لئن كان يكون بهذا الكلام مغويا له انما كان يكون زاريا عليه لانه إنما وعده على معصية ربه بما كان فيه لا زائدا عليه ومثل هذا لا يخاطب به الا المجانين الذين لا يعقلون لان العوض الذي وعده به بمعصية ربه قد كان احرزه وهو الخلد والملك الذي لا يبلى ولم يخبر الله آدم إذ اسكنه الجنة انه فيها من الخالدين ولو كان فيها من الخالدين لما ركن إلى قول ابليس ولا قبل نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غره بما اطمعه فيه من الخلد فقبل منه ولو اخبر الله آدم انه في دار الخلد ثم شك في خبر ربه لسماه كافرا ولما سماه عاصيا لان من شك في خبر الله فهو كافر ومن فعل غير ما امره الله به وهو معتقد للتصديق بخبر ربه فهو عاص وإنما سمى الله آدم عاصيا ولم يسمه كافرا قالوا فإن كان آدم اسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يدخلها الا طاهر مقدس فكيف توصل اليها إبليس الرجس النجس الملعون المذموم المدحور حتى فتن فيها آدم وابليس فاسق قد فسق عن امر ربه وليست جنة الخلد دار الفاسقين ولا يدخلها فاسق البتة إنما هي دار المتقين وابليس غير تقي فبعد ان قيل له اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها انفسح له ان يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط والابعاد له بالعتو والاستكبار هذا مضاد لقوله تعالى اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فإن كانت مخاطبته آدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليس تكبرا فليس تعقل العرب التي انزل القرآن بلسانها ما التكبر ولعل من ضعفت رويته وقصر بحثه ان يقول

ان ابليس لم يصل اليها ولكن وسوسته وصلت فهذا قول يشبه قائله ويشاكل معتقده وقول الله تعالى حكم بيننا وبينه وقوله تعالى وقاسمهما يرد ما قال لان المقاسمة ليست وسوسة ولكنها مخاطبة ومشافهة ولا تكون الا من اثنين شاهدين غير غائبين ولا احدهما ومما يدل على ان وسوسته كانت مخاطبة قول الله تعالى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأخبر انه قال له ودل ذلك على انه انما وسوس إليه مخاطبة لا انه اوقع ذلك في نفسه بلا مقاولة فمن ادعى على الظاهر تاويلا ولم يقم عليه دليلا لم يجب قبول قوله وعلى ان الوسوسة قد تكون كلاما مسموعا او صوتا قال رؤية
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق ... وقال الاعشى :
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح كشرق زجل
قالوا وفي قول ابليس لهما ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة دليل على مشاهدته لهما وللشجرة ولما كان آدم خارجا من الجنة وغير ساكن فيها قال الله الم انهكما عن تلكما ما الشجرة ولم يقل عن هذه الشجرة كما قال له ابليس لان آدم لم يكن حينئذ في الجنة ولا مشاهدا للشجرة مع قوله عز و جل إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فقد اخبر سبحانه خبرا محكما غير مشتبه انه لا يصعد إليه الا كلم طيب وعمل صالح وهذا مما قدمنا ذكره انه لا يلج المقدس المطهر الا مقدس مطهر طيب ومعاذ الله ان تكون وسوسة ابليس مقدسة او طاهرة او خيرا بل هي شر كلها وظلمة وخبث ورجس تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وكما ان اعمال الكافرين لا تلج القدس الطاهر ولا تصل إليه لانها خبيثة غير طيبة كذلك لا تصل ولم تصل وسوسة ابليس ولا ولجت القدس قال تعالى كلا ان كتاب الفجار لفي سجين وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم ان آدم نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها باجماع من المسلمين لان النوم وفاة وقد نطق به القرآن والوفاة تقلب حال ودار السلام مسلمة من تقلب الاحوال والنائم ميت او كالميت قالوا وقد روى عنه صلى الله عليه و سلم انه قال لام حارثة لما قالت له يا رسول الله ان حارثة قتل معك فإن كان صار إلى الجنة صبرت واحتسبت وان كان صار إلى ما سوى ذلك رأيت ما افعل فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم او جنة واحدة هي انما هي جنان كثيرة فاخبر صلى الله عليه و سلم ان لله جنات كثيرة فلعل آدم اسكنه الله جنة من جنانه ليست هي جنة الخلد قالوا وقد جاء في بعض الاخبار ان جنة آدم كانت بأرض الهند قالوا وهذا وأن كان لا يصححه رواة الاخبار ونقلة الاثار فالذي تقبله الالباب ويشهد له ظاهر الكتاب ان جنة آدم ليست جنة الخلد

ولا دار البقاء وكيف يجوز ان يكون الله اسكن آدم جنة الخلد ليكون فيها من الخالدين وهو قائل للملائكة اني جاعل في الارض خليفة وكيف اخبر الملائكة انه يريد ان يجعل في الارض خليفة ثم يسكنه دار الخلود ودار الخلود لا يدخلها الا من يخلد فيها كما سميت بدار الخلود فقد سماها الله بالاسماء التي تقدم ذكرنا لها تسمية مطلقة لا خصوص فيها فإذا قيل للجنة دار الخلد لم يجزان ينقص مسمى هذا الاسم بحال فهذا بعض ما احتج به القائلون بهذا المذهب وعلى هذا فاسكان آدم وذريته في هذه الجنة لا ينافي كونهم في دار الابتلاء والامتحان وحينئذ كانت تلك الوجوه والفوائد التي ذكرتموها ممكنة الحصول في الجنة فالجواب ان يقال هذا فيه قولان للناس ونحن نذكر القولين واحتجاج الفريقين ونبين ثبوت الوجوه التي ذكرناها وأمثالها على كلا القولين ونذكر أولا قول من قال انها جنة الخلد التي وعدها الله المتقين وما احتجوا به ومانقضوا به حجج من قال انها غيرها ثم نتبعها مقالة الاخرين وما احتجوا به وما أجابوا به عن حجج منازعيهم من غير انتصاب لنصرة احد القولين وابطال الاخر إذ ليس غرضنا ذلك وإنما الغرض ذكر بعض الحكم والمصالح المقتضية لاخراج آدم من الجنة واسكانه في الارض في دار الابتلاء والامتحان وكان الغرض بذلك الرد على من زعم ان حكمة الله سبحانه تأبى ادخال آدم الجنة وتعريضه للذنب الذي اخرج منها به وانه أي فائدة في ذلك والرد على ان من ابطل ان يكون له في ذلك حكمة وإنما هو صادر عن محض المشيئة التي لا حكمه الحكمة وراءها ولما كان المقصود حاصلا على كل تقدير سواء كانت جنة الخلد او غيرها بينا الكلام على التقديرين ورأينا ان الرد على هؤلاء بدبوس السلاق لا يحصل غرضا ولا يزيل مرضا فسلكنا هذا السبيل ليكون قولهم مردودا على كل قول من اقوال الامة وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة الا بالله فنقول اما ما ذكرتموه من كون الجنة التي اهبط منها آدم ليست جنة الخلد وإنماهي جنة غيرها فهذا مما قد اختلف فيه الناس والاشهر عند الخاصة والعامة الذي لا يخطر بقلوبهم سواه انها جنة الخلد التي اعدت للمتقين وقد نص غير واحد من السلف على ذلك واحتج من نصر هذا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابي مالك الاشجعي عن ابي حازم عن ابي هريرة وابو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
يجمع الله عز و جل الناس حتى يزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل اخرجكم من الجنة الا خطيئة ابيكم آدم وذكر الحديث قالوا فهذا يدل على ان الجنة التي اخرج منها آدم هي بعينها التي يطلب منه

ان يستفتحها لهم قالوا ويدل عليه ان الله سبحانه قال يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة إلى قوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين عقيب قوله اهبطوا فدل على انهم لم يكونوا اولا في الارض وأيضا فإنه سبحانه وصف الجنة التي اسكنها آدم بصفات لا تكون في الجنة الدنيوية فقال تعالى إن لك الا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لاتظمأ فيها ولا تضحى وهذا لا يكون في الدنيا اصلا ولو كان الرجل في اطيب منازلها فلا بد ان يعرض له الجوع والظمأ والتعرى والضحى للشمس وأيضا فإنها لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب ابليس في قوله هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن آدم كان يعلم ان الدنيا منقضية فانية وان ملكها يبلى وأيضا فإن قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في ان الجنة التي اخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم فهذا اهباط آدم وحواء وابليس من الجنة ولهذا اتى فيه بضمير الجمع وقيل انه خطاب لهم وللحية وهذا يحتاج إلى نقل ثابت إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم وإبليس وقيل خطاب لآدم وحواء وأتى فيه بلفظ الجمع كقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين وقيل لادم وحواء وذريتهما وهذه الاقوال ضعيفة غير الاول لانها بين قول لا دليل عليه وبين ما يدل ظاهر الخطاب على خلافه فثبت ان ابليس داخل في هذا الخطاب وانه من المهبطين من الجنة ثم قال تعالى قلنا اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذا الاهباط الثاني لا بد ان يكون غير الاول وهو اهباطه من السماء إلى الارض وحينئذ فتكون الجنة التي اهبطوا منها الاول فوق السماء وهي جنة الخلد وقد ذهبت طائفة منهم الزمخشري الىان قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لادم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتاباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما ياتينكم مني هدى وقال ويدل على ذلك قوله فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون وما هو الا حكم يعم الناس كلهم ومعنى بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادى والتباغض وتضليل بعضهم لبعض وهذا الذي اختاره اضعف الاقوال في الاية فإن العداوة التي ذكرها الله انما هي بين آدم وابليس وذرياتهما كما قال تعالى ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وأما

آدم وزوجه فإن الله سبحانه اخبر في كتابه انه خلقها منه ليسكن اليها وقال سبحانه ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة فهو سبحانه جعل المودة بين الرجل وزوجه وجعل العداوة بين آدم وابليس وذرياتهما ويدل عليه ايضا عود الضمير اليهم بلفظ الجمع وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وابليس في قولهم فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما فهؤلاء ثلاثة آدم وحواء وإبليس فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام ولايعود على جميع المذكور مع انه وجه الكلام فإن قيل فما تصنعون بقوله في سورة طه : قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو وهذا خطاب لادم وحواء وقد اخبر بعداوة بعضهم بعضا قيل اما ان يكون الضمير في قوله اهبطا راجعا إلى آدم وزوجه او يكون راجعا إلى آدم وابليس ولم يذكر الزوجة لانها تبع له وعلى الثاني فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالاهباط وهما آدم وابليس وعلى الاول تكون الاية قد اشتملت على أمرين احدهما امره لادم وزوجه بالهبوط والثاني جعله العداوة بين آدم وزوجه وابليس ولا بد ان يكون ابليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك وقال لذريته ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها العداوة على ضمير الجمع دون التثنية وأما ذكر الاهباط فتارة ياتي بلفظ ضمير الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة يأتي بلفظ الافراد لابليس وحده كقوله تعالى في سورة الاعراف قال ما منعك ان لا تسجد اذ امرتك قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فهذا الاهباط لابليس وحده والضمير في قوله منها قيل انه عائد إلى الجنة وقيل عائد إلى السماء وحيث اتى بصيغة الجمع كان لادم وزوجه وابليس اذ مدار القصة عليهم وحيث اتى بلفظ التثنية فاما ان يكون لادم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الاكل من الشجرة واقدما على المعصية واما ان يكون لادم وابليس اذ هما ابوا الثقلين فذكر حالهما وما آل إليه امرهما ليكون عظة وعبرة لاولادهما والقولان محكيان في ذلك وحيث اتى بلفظ الافراد فهو لابليس وحده وأيضا فالذي يوضح ان الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لادم وابليس ان الله سبحانه لما ذكر المعصية افرد بها آدم دون زوجه فقال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتابه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا وهذا يدل على ان المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا وهذا لان المقصود اخبار الله تعالى لعباده المكلفين من الجن والانس بما جرى على ابويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر لئلا يقتدوا بهما في ذلك فذكر ابو الثقلين ابلغ في حصول هذا المعنى من ذكر ابوي الانس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة انها اكلت مع آدم وأخبر انه اهبطه

وأخرجه من الجنة بتلك الاكلة فعلم ان هذا اقتضاه حكم الزوجية وانها صارت إلى ما صار إليه آدم فكان تجريد العناية إلى ذكر الابوين الذين هما اصل الذرية اولى من تجريدها إلى ذكر ابي الانس وامهم والله اعلم وبالجملة فقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله اهبطا قالوا وأما قولكم انه كيف وسوس له بعد اهباطه منها ومحال ان يصعد اليها بعد قوله تعالى اهبط فجوابه من وجوه احدهما انه اخرج منها ومنع من دخولها على وجه السكنى والكرامة واتخاذها دارا فمن اين لكم انه منع من دخولها على وجه الابتلاء والامتحان لادم وزوجه ويكون هذا دخولا عارضا كما يدخل شرط دار من امروا بابتلائه ومحنته وان لم يكونوا اهلا لسكنى تلك الدار الثاني انه كان يدنو من السماء فيكلمهما ولا يدخل عليهما دارهما الثالث انه لعله قام على الباب فناداهما وقاسمهما ولم يلج الجنة الرابع انه قد روى انه اراد الدخول عليهما فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به عليهما ولا يشعر الخزنة بذلك قالوا ومما يدل على انها جنة الخلد بعينها انها جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله اسكن انت وزوجك الجنة ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها الا جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة وان كان في اصل الوضع عبارة عن البستان ذي الثمار والفواكه وهذا كالمدينة الطيبة والنجم للثريا ونظائرها فحيث ورد اللفظ معرفا بالالف واللام انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما ان اريد به جنة غيرها فانها تجيء منكرة كقوله جنتين من اعناب او مقيدة بالاضافة كقوله ولولا اذ دخلت جنتك او مقيدة من السياق بما يدل على انها جنة في الارض كقوله انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة اذ اقسموا ليصرمنها مصبحين الايات فهذا السياق والتقييد يدل على انها بستان في الارض قالوا وأيضا فإنه قد اتفق اهل السنة والجماعة على ان الجنة والنار مخلوقتان وقد تواترت الاحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إن احدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من اهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن اهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة وفي الصحيحين من حديث ابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة مالي لا يدخلني الا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار مالي لا يدخلني الا الجبارون والمتكبرون فقال للجنة انت رحمتي ارحم بك من أشاء وقال للنار انت عذابي اعذب بك من أشاء الحديث وفي السنن عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما خلق الله الجنة والنار ارسل جبريل إلى الجنة فقال اذهب فانظر اليها والى ما اعددت لاهلها قال

فذهب فنظر اليها وإلى ما اعد الله لاهلها الحديث وفي الصحيحين في حديث الاسراء ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا ورقها مثل آذان الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا اربعة انهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت ما هذا يا جبريل قال اما النهران الظاهران فالنيل والفرات وأما الباطنان فنهران في الجنة وفيه ايضا ثم ادخلت الجنة فإذا جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك وفي صحيح البخاري عن انس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
بينما انا أسير في الجنة إذا انا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قال قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي اعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك اذفر وفي صحيح مسلم في حديث صلاة الكسوف ان النبي صلى الله عليه و سلم جعل يتقدم ويتأخر في الصلاة ثم اقبل على اصحابه فقال انه عرضت لي الجنة والنار فقربت مني الجنة حتى لو تناولت منها قطفا لاخذته فلو اخذته لاكلتم منه ما بقيت الدنيا وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود في قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون ارواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا فقالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا الحديث وفي الصحيح من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما اصيب اخوانكم باحد جعل الله ارواحهم في اجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتاوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ عنا اخواننا انا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلوا عند الحرب فقال الله أنا ابلغهم عنكم فانزل الله عز و جل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الاية وفي الموطأ من حديث كعب بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال انما نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه وفي البخاري ان إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما توفي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان له مرضعا في الجنة وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اطلعت في الجنة فرأيت اكثر اهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت اكثر اهلها النساء والاثار في هذا الباب اكثر من ان تذكرا واما القول بان الجنة والنار لم تخلقا بعد فهو قول اهل البدع من ضلال المعتزلة ومن قال بقولهم وهم الذين يقولون ان الجنة التي اهبط منها آدم إنما كانت جنة بشرقي الارض وهذه الاحاديث وأمثالها ترد قولهم
قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها منتفية في الجنة التي اسكنها آدم من اللغو والكذب والنصب والعرى وغير ذلك فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا احد من اهل الاسلام ولكن هذا إنما هو إذا دخلها المؤمنون

يوم القيامة كما يدل عليه سياق الكلام وهذا لا ينفى ان يكون فيها بين آدم وإبليس ما حكاه الله عز و جل من الامتحان والابتلاء ثم يصير الامر عند دخول المؤمنين اليها إلى ما أخبر الله عز و جل به فلا تنافي بين الامرين قالوا وأما قولكم ان الجنة دار جزاء وثواب وليست دارتكليف وقد كلف الله سبحانه آدم فيها بالنهي عن الشجرة فجوابه من وجهين احدهما انه إنما يمتنع ان تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف وأما امتناع وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل عليه الثاني ان التكليف فيها لم يكن بالاعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها وإنما كان حجرا عليه في شجرة من جملة أشجارها وهذا لا يمتنع وقوعه في جنة الخلد كما ان كل احد محجور عليه ان يقرب أهل غيره فيها فإن اردتم بان الجنة ليست دار كيف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الاوقات فلا دليل لكم عليه وإن اردتم ان غالب التكاليف التي تكون في الدنيامنتفية فيها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم قالوا وهذا كما انه موجب الادلة وقول سلف الامة فلا يعرف بقولكم قائل من ائمة العلم ولا يعرج عليه ولا يلتفت إليه قال الاولون الجواب عما ذكرتم من وجهين مجمل ومفصل اما المجمل فإنكم لم تأتوا على قولكم بدليل يتعين المصير إليه لا من قرآن ولا من سنة ولا أثر ثابت عن احد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا التابعين لا مسندا ولا مقطوعا ونحن نوجدكم من قال بقولنا هذا احد ائمة الاسلام سفيان بن عيينة قال في قوله عز و جل ان لك ان لا تجوع فيها ولا تعرى قال يعني في الارض وهذا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال في معارفه بعد ان ذكر خلق الله لادم وزوجه ان الله سبحانه اخرجه من مشرق جنة عدن إلى الارض التي منها اخذ وهذا ابى قد حكى الحسن عنه ان آدم لما احتضر اشتهى قطفا من قطف الجنة فانطلق بنوه ليطلبوه له فلقيتهم الملائكة فقالوا اين تريدون يا بني آدم قالوا إن ابانا اشتهى قطفا من قطف الجنة فقالوا لهم ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل وبنوه خلف الملائكة ودفنوه وقالوا هذه سنتكم في موتاكم وهذا ابو صالح قد نقل عن ابن عباس في قوله اهبطوا منها قال هو كما يقال هبط فلان في ارض كذا وكذا وهذا وهب بن منبه يذكر آن آدم خلق في الارض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس وانه كان بعدن وان سيحون وجيحون والفرات انقسمت من النهر الذي كان في وسط الجنة وهو الذي كان يسقيها وهذا منذر بن سعيد البلوطي اختاره في تفسيره ونصره بما حكيناه عنه وحكاه في غير التفسير عن ابي حنيفة فيما خالفه فيه فلم قال بقوله في هذه المسألة وهذا أبو مسلم الاصبهاني صاحب التفسير وغيره احد الفضلاء المشهورين قال بهذا وانتصر له واحتج عليه بما هو معروف

في كتابه وهذا ابو محمد عبد الحق بن عطية ذكر القولين في تفسيره في قصة آدم في البقرة وهذا ابو محمد بن حزم ذكر القولين في كتاب الملل والنحل له فقال وكان المنذر بن سعيد القاضي يذهب إلى ان الجنة والنار مخلوقتان الا انه كان يقول انها ليست هي التي كان فيها آدم وامراته وممن حكى القولين ايضا ابو عيسى الرماني في تفسيره واختار انها جنة الخلد ثم قال والمذهب الذي اخترناه قول الحسن وعمرو بن واصل وأكثر اصحابنا وهو قول ابي علي وشيخنا ابي بكر وعليه اهل التفسير وممن ذكر القولين ابو القاسم الراغب في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي اسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانا جعله الله له امتحانا ولم يكن جنة المأوى ثم قال ومن قال لم يكن جنة المأوى لانه لا تكليف في الجنة وآدم كان مكلفا قال وقد قيل في جوابه انها لا تكون دار التكليف في الآخرة ولا يمتنع ان تكون في وقت دار تكليف دون وقت كما ان الانسان يكون في وقت مكلفا دون وقت وممن ذكر الخلاف في المسألة ابو عبد الله بن الخطيب الرازي في تفسيره فذكر هذين القولين وقولا ثالثا وهو التوقف قال لامكان الجميع وعدم الوصول إلى القطع كما سيأتي حكاية كلامه ومن المفسرين من لم يذكر غير هذا القول وهو انها لم تكن جنة الخلد إنما كانت حيث شاء الله من الارض وقالوا كانت تطلع فيها الشمس والقمر وكان ابليس فيها ثم اخرج قال ولو كانت جنة الخلد لما اخرج منها وممن ذكر القولين ايضا أبو الحسن الماوردي فقال في تفسيره واختلف في الجنة التي اسكناها على قولين احدهما انها جنة الخلد الثاني انها جنة اعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها الله دار جزاء ومن قال بهذا اختلفوا فيه على قولين احدهما انها في السماء لانه اهبطهما منها وهذا قول الحسن الثاني انها في الارض لانه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد ان أمر ابليس بالسجود لادم والله اعلم بصواب ذلك هذا كلامه وقال ابن الخطيب في تفسيره اختلفوا في ان الجنة المذكورة في هذه الاية هل كانت في الارض او في السماء وبتقدير انها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد او جنة اخرى فقال ابو القاسم البلخي وابو مسلم الاصبهاني هذه الجنة في الارض وحملا الاهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى اهبطوا مصرا القول الثاني وهو قول الجبائي ان تلك كانت في السماء السابعة قال والدليل عليه قوله اهبطوا ثم ان الاهباط الاول كان من السماء السابعة إلى السماء الاولى والاهباط الثاني كان من السماء إلى الارض والقول الثالث وهو قول جمهور اصحابنا ان هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليههو ان الالف واللام في لفظ الجنة لا يفيد العموم لان سكنى آدم جميع الجنان محال فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللفظ اليها قال والقول الرابع ان الكل ممكن والادلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع

قالوا ونحن لا نقلد هؤلاء ولا نعتمد على ما حكى عنهم والحجة الصحيحة حكم بين المتنازعين قالوا وقد ذكرنا على هذا القول ما فيه كفاية واما الجواب المفصل فنحن نتكلم على ما ذكرتم من الحجج لينكشف وجه الصواب فنقول وبالله التوفيق اما استدلالكم بحديث ابي هريرة وحذيفة حين يقول الناس لادم استفتح لنا الجنة فيقول وهل اخرجكم منها الا خطيئة ابيكم فهذا الحديث لا يدل على ان الجنة التي طلبوا منه ان يستفتحها لهم هي التي أخرج منها بعينها فإن الجنة اسم جنس فكل بستان يسمى جنة كما قال تعالى انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين وقال تعالى وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا او تكون لك جنة من نخيل وعنب وقال تعالى ومثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من انفسهم كمثل جنة بربوة وقال تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل إلى قوله ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله فإن الجنة اسم جنس فهم لما طلبوا من آدم ان يستفتح لهم جنة الخلد اخبرهم بأنه لا يحسن منه ان يقدم على ذلك وقد اخرج نفسه وذريته من الجنة التي اسكنه الله اياها بذنبه وخطيئته هذا الذي دل عليه الحديث وأما كون الجنة التي اخرج منها هي بعينها التي طلبوا منه ان يستفتحها لهم فلا يدل الحديث عليه بشيء من وجوه الدلالات الثلاث ولو دل عليه لوجب المصير إلى مدلول الحديث وامتنع القول بمخالفته وهل مدارنا الا على فهم مقتضى كلام الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه قالوا وأما استدلالكم بالهبوط وأنه نزول من علو إلى سفل فجوابه من وجهين احدهما ان الهبوط قد استنقل في النقلة من ارض إلى ارض كما يقال هبط فلان بلد كذا وكذا وقال تعالى اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وهذا كثير في نظم العرب ونثرها قال :
إن تهبطين بلاد قو ... م يرتعون من الطلاح وقد روى ابو صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال هو كما يقال هبط فلان ارض كذا وكذا الثاني انا لا ننازعكم في ان الهبوط حقيقة ما ذكرتموه ولكن من اين يلزم ان تكون الجنة التي منها الهبوط فوق السموات فإذا كانت في أعلى الارض اما يصح ان يقال هبط منها كما يهبط الحجر من اعلى الجبل إلى اسفله ونحوه وأما قوله تعالى ولكم في الارض مستقرومتاع إلى حين فهذا يدل على ان الارض التي اهبطوا اليها لهم فيها مستقر ومتاع إلى حين ولا يدل على انهم لم يكونوا في جنة عالية اعلى من الارض التي اهبطوا اليها تخالف الارض

في صفاتها واشجارها ونعيمها وطيبها فالله سبحانه فاوت بين بقاع الارض اعظم تفاوت وهذا مشهود بالحس فمن اين لكم ان تلك لم تكن جنة تميزت عن سائر بقاع الارض بما لا يكون الا فيها ثم اهبطوا منها إلى الارض التي هي محل التعب والنصب والابتلاء والامتحان وهذا بعينه هوالجواب عن استدلالكم بقوله تعالى إن لك الا تجوع فيهاولاتعرى ألى آخر ما ذكرتموه مع ان هذا حكم معلق بشرط والشرط لم يحصل فإنه سبحانه إنما قال ذلك عقيب قوله ولا تقربا هذه الشجرة وقوله ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى هو صيغة وعد مرتبطة بما قبلها والمعنى ان اجتنبت الشجرة التي نهيتك عنها ولم تقربها كان لك هذا الوعد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فلما اكل من الشجرة زال استحقاقه لهذا الوعد قال واما قولكم انه لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب ابليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى إلى آخره فدعوى لا دليل عليها لانه لا دليل لكم على ان الله سبحانه كان قد اعلم آدم حين خلقه ان الدنيا منقضية فانية وان ملكها يبلى ويزول وعلى تقدير ان يكون آدم حينئذ قد أعلم ذلك فقول ابليس هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى لا يدل على انه اراد بالخلد مالا يتناهى فإن الخلد في لغة العرب هو اللبث الطويل كقولهم قيد مخلد وحبس مخلد وقد قال تعالى لثمود تبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وكذلك قوله وملك لا يبلى يراد به الملك الطويل الثابت وأيضا فلا وجه للاعتذار عن قول ابليس مع تحقق كذبه ومقاسمته آدم وحواء على الكذب والله سبحانه قد أخبر انه قاسمهما ودلاهما بغرور وهذا يدل على انهما اغترا بقوله فغرهما بان اطمعهما في خلد الابد والملك الذي لا يبلى وبالجملة فالاستدلال بهذا على كون الجنة التي سكنها آدم هي جنة الخلد التي وعدها المتقون غير بين ثم نقول لو كانت الجنة هي جنة الخلد التي لا يزول ملكها لكانت جميع اشجارها شجر الخلد فلم يكن لتلك الشجرة اختصاص من بين سائر الشجر بكونها شجرة الخلد وكان آدم يسخر من ابليس إذ قد علم ان الجنة دار الخلد فإن قلتم لعل آدم لم يعلم حينئذ ذلك فغره الخبيث وخدعه بان هذه الشجرة وحدها هي شجرة الخلد قلنا فاقنعوا منا بهذا الجواب بعينه عن قولكم لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب ابليس في ذلك لان قوله كان خداعا وغرورا محضا على كل تقدير فانقلب دليلكم حجة عليكم وبالله التوفيق قالوا وأما قولكم ان قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في ان جنة آدم كانت فوق السماء فنحن نطالبكم بهذا الظهور ولا سبيل لكم إلى اثباته قولكم انه كرر فيه ذكر الهبوط مرتين ولا بد ان يفيد الثاني غير ما أفاد الاول فيكون الهبوط الاول من الجنة والثاني من السماء فهذا فيه خلاف بين اهل التفسير فقالت طائفة هذا القول الذي ذكرتموه وقالت طائفة

منهم النقاش وغيره ان الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء والهبوط الاول إلى الارض وهو آخر الهبوطين في الوقوع وان كان اولهما في الذكر وقالت طائفة اتى به على جهة التغليظ والتأكيد كما تقول للرجل اخرج اخرج وهذه الاقوال ضعيفة فأما القول الاول فيظهر ضعفه من وجوه احدها انه مجرد دعوى لا دليل عليها من اللفظ ولا من خبر يجب المصير إليه وما كان هذا سبيله لا يحمل القرآن عليه الثاني ان الله سبحانه قد اهبط ابليس لما امتنع من السجود لادم اهباطا كونيا قدريا لا سبيل له إلى التخلف عنه فقال تعالى اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين وقال في موضع آخر فاخرج منها فانك رجيم وان عليك اللعنة إلى يوم الدين وفي موضع آخر اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم اجمعين وسواء كان الضمير في قوله منها راجعا إلى السماء او إلى الجنة فهذا صريح في اهباطه وطرده ولعنه وادحاره والمدحور المبعد وعلى هذا فلو كانت الجنة فوق السموات لكان قد صعد اليها بعد اهباط الله له وهذا وان كان ممكنا فهو في غاية البعد عن حكمة الله ولا يقتضيه خبره فلا ينبغي ان يصار إليه وأما الوجوه الاربعة التي ذكرتموها من صعوده للوسوسة فهي مع امر الله تعالى بالهبوط مطلقا وطرده ولعنه ودحوره لا دليل عليها لا من اللفظ ولا من الخبر الذي يجب المصير إليه وما هي الا احتمالات مجردة وتقديرات لا دليل عليها الثالث ان سياق قصة اهباط الله تعالى لابليس ظاهرة في أنه اهباط إلى الارض من وجوه احدها انه سبحانه نبه على حكمة اهباطه بما قام به من التكبر المقتضى غاية ذله وطرده ومعاملته بنقيض قصده وهو اهباطه من فوق السموات إلى قرار الارض ولا تقتضى الحكمة ان يكون فوق السماء مع كبره ومنافاة حاله لحال الملائكة الاكرمين الثاني انه قال فاخرج منها فإنك رجيم وان عليك لعنتي إلى يوم الدين وكونه رجيما ملعونا ينفى ان يكون في السماء بين المقربين المطهرين الثالث انه قال اخرج منها مذؤما مدحورا وملكوت السموات لا يعلوه المذموم المدحور ابدا وأما القول الثاني فهو القول الاول بعينه مع زيادة ما لا يدل عليه السياق بحال من تقديم ما هو مؤخر في الواقع وتأخير ما هو مقدم فيه فيرد بما رد به القول الذي قبله وأما القول الثالث وهو أنه للتأكيد فإن أريد التأكيد اللفظي المجرد فهذا لا يقع في القرآن وان اريد به انه مستلزم للتغليظ والتأكيد مع ما يشتمل عليه من الفائدة فصحيح فالصواب ان يقال اعيد الاهباط مرة ثانية لانه علق عليه حكما غير المعلق على الاهباط الاول فإنه علق على الاول عداوة بعضهم بعضا فقال اهبطوا بعضكم لبعض عدو وهذه جملة حالية وهي اسمية بالضمير وحده عند الاكثرين والمعنى اهبطوا متعادين وعلق على الهبوط الثاني حكمين آخرين احدهما هبوطهم جميعا والثاني

قوله فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون فكأنه قيل اهبطوا بهذا الشرط مأخوذا عليكم هذا العهد وهو انه مهما جاءكم مني هدى فمن اتبعه منكم فلا خوف عليه ولا حزن يلحقه ففي الاهباط الاول إيذان بالعقوبة ومقابلتهم على الجريمة وفي الاهباط الثاني روح التسلية والاستبشاربحسن عاقبة هذا الهبوط لمن تبع هداي ومصيره إلى الامن والسرور المضاد للخوف والحزن فكسرهم بالاهباط الاول وجبر من اتبع هداه بالاهباط الثاني على عادته سبحانه ولطفه بعباده وأهل طاعته كما كسر آدم بالاخراج من الجنة وجبره بالكلمات التي تلقاها منه فتاب عليه وهداه ومن تدبر حكمته سبحانه ولطفه وبره بعباده وأهل طاعته في كسره لهم ثم جبره بعد الانكسار كما يكسر العبد بالذنب ويذله به ثم يجبره بتوبته عليه ومغفرته له وكما يكسره بأنواع المصائب والمحن ثم يجبره بالعافية والنعمة انفتح له باب عظيم من أبواب معرفته ومحبته وعلم انه ارحم بعباده من الوالدة بولدها وان ذلك الكسر هو نفس رحمته به وبره ولطفه وهو أعلم بمصلحة عبده منه ولكن العبد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكاد يشعر بذلك ولا ينال رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنو منه والزلفى لديه الاعلى جسر من الذلة والمسكنة وعلى هذا قام امر المحبة فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب الا بذلك كما قيل
تذلل لمن تهوى لتحظى بقربه ... فكم عزة قد نالها العبد بالذل
إذا كان من تهوى عزيز او لم تكن ... ذليلا له فاقرا السلام على الوصل وقال آخر :
اخضع وذل لمن تحب فليس في ... شرع الهوى انف يشال ويقعد وقال آخر :
وما فرحت بالوصل نفس عزيزة ... وما العز إلا ذلها وانكسارها قالوا وإذا علم ان إبليس اهبط من دار العز عقب امتناعه وإبائه من السجود لادم ثبت ان وسوسته له ولزوجه كانت في غير المحل الذي اهبط منه والله اعلم قالوا واما قولكم ان الجنة إنما جاءت معرفة باللام وهي تنصرف إلى الجنة التي لا يعهد بنو آدم سواها فلا ريب انها جاءت كذلك ولكن العهد وقع في خطاب الله تعالى آدم لسكناها بقوله اسكن انت وزوجك الجنة فهي كانت معهودة عند آدم ثم اخبرنا سبحانه عنهامعرفا لها بلام التعريف فانصرف العرف بها الىتلك الجنة المعهودة في الذهن وهي التي سكنها آدم ثم اخرج منها فمن اين في هذا ما يدل على محلها وموضعها بنفي او إثبات وأما مجيء جنة الخلد معرفة باللام فلانها الجنة

التي اخبرت بها الرسل لاممهم ووعدها الرحمن عباده بالغيب فحيث ذكرت انصرف الذهن اليها دون غيرها لانها قد صارت معلومة في القلوب مستقرة فيها ولا ينصرف الذهن إلى غيرها ولا يتوجه الخطاب إلى سواها وقد جاءت الجنة في القرآن معرفة باللام والمراد بها بستان في بقعة من الارض كقوله تعالى إنا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين فهذا لا ينصرف الذهن فيها إلى جنة الخلد ولا إلى جنة آدم بحال قالوا وما قولكم انه قد اتفق اهل السنة والجماعة علىان الجنة والنار مخلوقتان وإنه لم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع والضلال واستدلالكم على وجود الجنة الان فحق لاننازعكم فيه وعندنا من الادلة على وجودها اضعاف ما ذكرتم ولكن أي تلازم بين ان تكون جنة الخلد مخلوقة وبين ان تكون هي جنة آدم بعينها فكانكم تزعمون ان كل من قال ان جنة آدم هي جنة في الارض فلا بد له ان يقول ان الجنة والنار لم يخلقا بعد وهذا غلط منكم منشؤه من توهمكم ان كل من قال بأن الجنة لم تخلق بعد فإنه يقول ان جنة آدم هي في الارض كذلك بالعكس ان كل من قال ان جنة آدم في الارض فيقول ان الجنة لم تخلق فأما الاول فلا ريب فيه وأما الثاني فوهم لا تلازم بينهما لافي المذهب ولا في الدليل فأنتم نصبتم دليلكم مع طائفة نحن وانتم متفقون على انكار قولهم ورده وابطاله ولكن لا يلزم من هذا بطلان هذا القول الثالث وهذا واضح قالوا وأما قولكم ان جميع ما نفاه الله سبحانه عن الجنة من اللغو والعذاب وسائر الافات التي وجد بعضها من ابليس عدو الله فهذا إنما يكون بعد القيامة إذا دخلها المؤمنون كما يدل عليه السياق فجوابه من وجهين احدهما ان ظاهر الخبر يقتضي نفيه مطلقا لقوله تعالى لا لغو فيها ولا تأثيم ولقوله تعالى لا تسمع فيها لاغية فهذا نفي عام لا يجوز تخصيصه الا بمخصص بين والله سبحانه قد حكم بانها دار الخلد حكما مطلقا فلا يدخلها الا خالد فيها فتخصيصكم هذه التسمية بما بعد القيامة خلاف الظاهر الثاني ان ما ذكرتم إنما يصار إليه إذا قام الدليل السالم عن المعارض المقاوم انها جنة الخلد بعينها وحينئذ يتعين المصير إلى ما ذكرتم فأما إذا لم يقم دليل سالم على ذلك ولم تجمع الامة عليه فلا يسوغ مخالفة ما دلت عليه النصوص البينة بغير موجب والله اعلم قالوا ومما يدل على انها ليست جنة الخلد التي وعدها المتقون ان الله سبحانه لما خلق آدم اعلمه ان لعمره اجلا ينتهي إليه وأنه لم يخلقه للبقاء ويدل على هذا ما رواه الترمذي في جامعه قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا الحارث بن عبد الرحمن ابن ابي زياب عن سعيد بن ابي سعيد المقبري عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله يا رب فقال له ربه يرحمك الله يا آدم إذهب إلى اولئك الملائكة إلى ملاء منهم جلوس فقل السلام

عليكم قالوا وعليك السلام ثم رجع إلى ربه فقال ان هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر ايتهما شئت فقال اخترت يمين ربي كلتا يدي ربي يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته قال أي رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه فإذا رجل اضوؤهم او من اضوئهم قال يا رب من هذا قال هذا ابنك داود وقد كتبت له عمرا اربعين سنة قال يا رب زد في عمره قال ذاك الذي كتبت له قال أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذاك قال ثم اسكن الجنة ما شاء الله ثم اهبط منها وكان آدم يعد لنفسه فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت اليس قد كتبت لي الف سنة قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة فجحد فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته قال فمن يومئذ امر بالكتاب والشهود هذا حديث حسن غريب م هذا الوجه وروى من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قالوا فهذا صريح في أن آدم لم يكن مخلوقا في دار الخلد التي لا يموت من دخلها وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله لها ولأهلها اجلا معلوما وفيها اسكن فإن قيل فإذا كان آدم قد علم ان له عمرا ينتهي إليه وأنه ليس من الخالدين فكيف لم يكذب ابليس ويعلم بطلان قوله حيث قال له هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى بل جوز ذلك واكل من الشجرة طمعا في الخلد فالجواب ما تقدم من الوجهين اما ان يكون المراد بالخلد المكث الطويل إلى أبد الابد او يكون عدوه ابليس لماقاسمه وزوجه وغيرهما واطمعهما بدوامهما في الجنة نسى ما قدر له من عمره قالوا والمعول عليه في ذلك قوله تعالى للملائكة إني جاعل في الارض خليفة وهذا الخليفة هو آدم باتفاق الناس ولما عجبت الملائكة من ذلك وقالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك عرفهم سبحانه ان هذا الخليفة الذي هوجاعله في الارض ليس حاله كما توهمتم من الفساد بل اعلمه من علمي مالا تعلمونه فأظهر من فضله وشرفه بأن علمه الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فلم يعرفوها و قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم وهذا يدل على ان هذا الخليفة الذي سبق به اخبار الرب تعالى لملائكته وأظهر تعالى فضله وشرفه وأعلمه بما لم تعلمه الملائكة وهو خليفة مجعول في الارض لا فوق السماء فإن قيل قوله تعالى اني جاعل في الارض خليفة إنما هو بمعنى سأجعله في الارض فهي مآله ومصيره وهذا لا ينافي ان يكون في جنة الخلد فوق السماء اولا ثم يصير إلى الارض للخلافة التي جعلها الله له واسم الفاعل هنا بمعنى الاستقبال ولهذا انتصب عنه المفعول فالجواب ان الله سبحانه اعلم ملائكته بانه يخلقه لخلافة الارض لا لسكنى جنة الخلود وخبره الصدق وقوله الحق وقد علمت الملائكة

أنه هو آدم فلو كان قد اسكنه دار الخلود فوق السماء لم يظهر للملائكة وقوع المخبر ولم يحتاجوا إلى ان يبين لهم فضله وشرفه وعلمه المتضمن رد قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فإنهم إنما سألوا هذا السؤال في حق الخليفة المجعول في الارض فاما من هو في دار الخلد فوق السماء فلم تتوهم الملائكة منه سفك الدماء والفساد في الارض ولا كان اظهار فضله وشرفه وعلمه وهو فوق السماء رادا لقولهم وجوابا لسؤالهم بل الذي يحصل به جوابهم وضد ما توهموه إظهار تلك الفضائل والعلوم منه وهو في محل خلافته التي خلق لها وتوهمت الملائكة انه لا يحصل منه هناك الا ضدها من الفساد وسفك الدماء وهذا واضح لمن تأمله وأما اسم الفاعل وهو فاعل وإن كان بمعنى الاستقبال فلأن هذا إخبار عما سيفعله الرب تعالى في المستقبل من جعله الخليفة في الارض وقد صدق وعده ووقع ما أخبر به وهذا ظاهر في أنه من أول الامر جعله خليفة في الارض وأما جعله في السماء اولا ثم جعله خليفة في الارض ثانيا وإن كان مما لا ينافي الاستخلاف المذكور فهو ممالا يقتضيه اللفظ بوجه بل يقتضى ظاهره خلافه فلا يصار إليه إلا بدليل يوجب المصير إليه وحوله ندندن قالوا وأيضا فمن المعلوم الذي لا يخالف فيه مسلم ان الله سبحانه خلق آدم من تراب وهو تراب هذه الارض بلا ريب كما روى الترمذي في جامعه من حديث عوف عن قسامة بن زهير عن ابي موسى الاشعري رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض فجاء منهم الاحمر والابيض والاسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقد رواه الامام احمد في مسنده من طرق عدة وقد أخبر سبحانه انه خلقه من تراب وأخبر انه خلقه من سلالة من طين واخبر انه خلقه من صلصال من حمأ مسنون والصلصال قيل فيه هو الطين اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا طبخ فهو فخار وقيل فيه هو المتغير الرائحة من قولهم صل إذا انتن والحمأ الطين الاسود المتغير والمسنون قيل المصبوب من سننت الماء إذا صببته وقيل المنتن المسن من قولهم سننت الحجر على الحجر إذا حككته فإذا سال بينهما شيء فهو سنين ولا يكون إلا منتنا وهذه كلها اطوار التراب الذي هو مبدؤه الاول كما اخبر عن خلق الذرية من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وهذه احوال النطفة التي هي مبدأ الذرية ولم يخبر سبحانه انه رفعه من الارض إلى فوق السموات لا قبل التخليق ولا بعده وإنما اخبر عن اسجاد الملائكة له وعن إدخاله الجنة وما جرى له مع إبليس بعد خلقه فأخبر سبحانه بالأمور الثلاثة في نسق واحد مرتبطا بعضها ببعض قالوا فأين الدليل الدال على إصعاد مادته واصعاده بعدخلقه إلى فوق السموات هذا مما لا دليل لكم عليه اصلا ولا هو لازم من لوازم ما أخبر الله به قالوا ومن المعلوم ان ما فوق

السموات ليس بمكان للطين الارضي المتغير الرائحة الذي قد انتن من تغيره وإنما محله هذا الارض التي هي محل المتغيرات والفاسدات وأما ما كان فوق الأملاك فلا يلحقه تغير ولا نتن ولافساد ولا استحاله قالوا وهذا امر لا يرتاب فيه العقلاء قالوا وقد قال تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فأخبر سبحانه ان هذا العطاء في جنة الخلد غير مقطوع وما اعطيه آدم فقد انقطع فلم تكن تلك جنة الخلد قالوا وأيضا فلا نزاع في ان الله تعالى خلق آدم في الارض كما تقدم ولم يذكر في قصته انه نقله إلى السماء ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان هذا اولى بالذكر لانه من اعظم انواع النعم عليه واكبر اسباب تفضيله وتشريفه وابلغ في بيان آيات قدرته وربوبيته وحكمته وابلغ في بيان المقصود من عاقبة المعصية وهو الاهباط من السماء التي نقل اليها كما ذكر ذلك في حق ابليس فحيث لم يجيء في القرآن ولا في السنة حرف واحد أنه نقله إلى السماء ورفعه اليها بعد خلقه في الارض علم ان الجنة التي ادخلها لم تكن هي جنة الخلد التي فوق السموات قالوا وأيضا فإنه سبحانه قد اخبر في كتابه انه لم يخلق عباده عبثا ولا سدى وأنكر على من زعم ذلك فدل على ان هذا مناف لحكمته ولو كانتا جنة آدم هي جنة الخلد لكانوا قد خلقوا في دار لا يؤمرون فيها ولا ينهون وهذا باطل بقوله أيحسب الانسان ان يترك سدى قال الشافعي وغيره معطلا لا يؤمر ولا ينهى وقال أفحسبتم انا خلقناكم عبثا فهو تعالى لم يخلقهم عبثا ولا تركهم سدى وجنة الخلد لا تكليف فيها قالوا وأيضا فإنه خلقها جزاء للعاملين بقوله تعالى نعم اجر العالمين وجزاء للمتقين بقوله ولنعم دار المتقين ودار الثواب بقوله ثوابا من عند الله فلم يكن ليسكنها إلا من خلقها لهم من العاملين ومن المتقين ومن تبعهم من ذرياتهم وغيرهم من الحور والولدان وبالجملة فحكمته تعالى اقتضت انها لا تنال الا بعد الابتلاء والامتحان والصبر والجهاد وأنواع الطاعات وإذا كان هذا مقتضى حكمته فإنه سبحانه لا يفعل الا ما هومطابق لها قالوا فإذا جمع ما أخبر الله عز و جل به من انه خلقه من الارض وجعله خليفة في الارض وأن ابليس وسوس له في مكانه الذي اسكنه فيه بعد ان اهبط ابليس من السماء وأنه أخبر ملائكته انه جاعل في الارض خليفة وأن دار الجنة لا لغو فيها ولا تاثيم وان من دخلها لا يخرج منها ابدا وان من دخلها ينعم لا يبؤس وانه لا يخاف ولا يحزن وان الله سبحانه حرمها على الكافرين وعدو الله ابليس اكفر الكافرين فمحال ان يدخلها اصلا لا دخول عبور ولا دخول قرار وانها دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان إلى غير ذلك مما ذكرناه من منافاة اوصاف جنة الخلد للجنة التي اسكنها آدم إذا جمع ذلك بعضه إلى بعض ونظر فيه بعين الانصاف والتجرد عن نصرة المقالات تبين الصواب من ذلك والله المستعان

قال الاخرون بل الجنة التي اسكنها آدم عند سلف الامة وأئمتها وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال انها كانت جنة في الارض بأرض الهند أو بأرض جدة او غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة او من اخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفسلفة والمعتزلة والكتاب يرد هذا القول وسلف الامة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول قال تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين فقد أخبر سبحانه أنه أمرهم بالهبوط وان بعضهم لبعض عدو ثم قال ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين وهذا بين انهم لم يكونوا في الارض وإنما اهبطوا إلى الارض فإنهم لو كانوا في الارض وانتقلوا منها إلى ارض اخرى كما انتقل قوم موسى من ارض إلى ارض كان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الارض قبل الهبوط كما هو بعده وهذا باطل قالوا وقد قال تعالى في سورة الاعراف لما قال إبليس أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين يبين اختصاص الجنة التي في السماء بهذا الحكم بخلاف جنة الارض فإن ابليس كان غير ممنوع من التكبر فيها والضمير في قوله منها عائد إلى معلوم وان كان غير مذكور في اللفظ لان العلم به أغنى عن ذكره قالوا وهذا بخلاف قوله اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم فإنه لم يذكر هنا ما اهبطوا منه وإنما ذكر ما اهبطوا إليه بخلاف اهباط ابليس فإنه ذكر مبدأ هبوطه وهو الجنة والهبوط يكون من علوالى سفل وبنو اسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على مصر الذي يهبطون إليه ومن هبط من جبل إلى واد قيل له اهبط قالوا وأيضا فبنو اسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال نزل فيها لان من عادته ان يركب في مسيره فإذا وصل نزل عن دوابه ويقال نزل العدو بأرض كذا ونزل القفل ونحوه ولفظ النزول كلفظ الهبوط فلا يستعمل نزل وهبط الا إذا كان من علو إلى سفل وقال تعالى عقب قوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون فهذا دليل على انهم لم يكونوا قبل ذلك في مكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون والقرآن صريح في انهم انما صاروا إليه بعدالاهباط قالوا ولو لم يكن في هذه الا قصة آدم وموسى لكانت كافية فإن موسى صلى الله عليه و سلم إنما لام آدم عليه السلام لما حصل له ولذريته من الخروج من الجنة من النكد والمشقة فلو كانت بستانا في الارض لكان غيره من بساتين الارض يعوض

عنه وموسى اعظم قدرا من ان يلومه على ان اخرج نفسه وذريته من بستان في الارض قالوا وكذلك قول آدم يوم القيامة لما يرغب إليه الناس ان يستفتح لهم باب الجنة فيقول وهل اخرجكم منها الا خطيئة ابيكم فإن ظهور هذا في كونها جنة الخلد وانه اعتذر لهم بانه لا يحسن منه ان يستفتحها وقد اخرج منها بخطيئته من اظهر الادلة قال الاولون اما قولكم ان من قال انها جنة في الارض فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة او من اخوانهم فقد اوجدناكم من قال بهذا وليس من احد من هؤلاء ومشاركة أهل الباطل للمحق في المسئلة لا يدل على بطلانها ولا تكون اضافتها لهم موجبة لبطلانها ما لم يختص بها فإن اردتم أنه لم يقل بذلك إلا هؤلاء فليس كذلك وإن اردتم ان هؤلاء من جملة القائمين بهذا لم يفدكم شيئا قالوا وأما قولكم وسلف الامة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول فنحن نطالبكم بنقل صحيح عن واحد من الصحابة ومن بعدهم من ائمة السلف فضلا عن اتفاقهم قالوا ولا يوجد عن صاحب ولا تابع ولا تابع تابع خبر يصح موصولا ولا شاذا ولا مشهورا ان النبي صلى الله عليه و سلم قال ان الله تعالى اسكن آدم جنة الخلد التي هي دار المتقين يوم المعاد قالوا وهذا القاضي منذر بن سعيد قد حكى عن غير واحد من السلف انها ليست جنة الخلد فقال ونحن نوجدكم ان ابا حنيفة فقيه العراق ومن قال بقوله قد قالوا ان جنة آدم التي خلقها الله ليست جنة الخلد وليسوا عند أحد من العالمين من الشاذين بل من رؤساء المخالفين وهذه الدواوين مشحونة من علومهم وقد ذكرنا قول ابن عيينة وقد ذكر ابن مزين في تفسيره قال سألت ابن نافع عن الجنة أمخلوقة فقال السكوت عن هذا افضل قالوا فلو كان عند ابن نافع ان الحنة التي اسكنها آدم هي جنة الخلد لم يشك انها مخلوقة ولم يتوقف في ذلك وقال ابن قتيبة في كتابه غريب القرآن في قوله تعالى وقلنا اهبطوا منها قال ابن عباس رضى الله عنهما في رواية ابي صالح هو كما يقال هبط فلان ارض كذا وكذا ولم يذكر في كتابه غيره فأين اجماع سلف الامة وأئمتها قالوا واما احتجاجكم بقوله تعالى ولكم في الارض مستقر عقيب قوله اهبطوا فهذا لا يدل على انهم كانوا في جنة الخلد فان احد الاقوال في المسئلة انها كانت جنة في السماء غير جنة الخلد كما حكاه الماوردي في تفسره وقد تقدم وأيضا فإن قوله ولكم في الارض مستقر يدل على ان لهم مستقرا إلى حين في الارض المنقطعة عن الجنة ولا بد فإن الجنة ايضا لها ارض قال تعالى عن اهل الجنة وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده واورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم اجر العاملين فدل على ان قوله ولكم في الارض مستقر المراد به الارض الخالية من

تلك الجنة لا كل ما يسمى ارضا وكان مستقرهم الاول في ارض الجنة ثم صار في ارض الابتلاء والامتحان ثم يصير مستقر المؤمنين يوم الجزاء ارض الجنة ايضا فلا تدل الاية على ان جنة آدم هي جنة الخلد قالوا وهذا هو الجواب بعينه عن استدلالكم بقوله تعالى قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون فان المراد به الارض التي اهبطوا اليها وجعلت مسكنا لهم بدل الجنة وهذا تفسير المستقر المذكور في البقرة مع تضمنه ذكر الاخراج منها قالوا وأما قوله تعالى لابليس اهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها وقولكم ان هذا انما هو في الجنة التي في السماء والا فجنة الارض لم يمنع ابليس من التكبر فيها فهو دليل لنا في المسئلة فإن جنة الخلد لا سبيل لابليس إلى دخولها والتكبر فيها اصلا وقد اخبر تعالى انه وسوس لادم وزوجه وكذبهما وغرهما وخانهما وتكبر عليهما وحسدهما وهما حينئذ في الجنة فدل على انها لم تكن جنة الخلد ومحال ان يصعد اليها بعد اهباطه واخراجه منها قالوا والضمير في قوله اهبطوا منها إما ان يكون عائدا إلى السماء كما هو احد القولين وعلىهذا فيكون سبحانه قد اهبطه من السماء عقب امتناعه من السجود وأخبر انه ليس له ان يتكبر ثم تكبر وكذب وخان في الجنة فدل على انها ليست في السماء او يكون عائدا إلى الجنة على القول الاخر ولا يلزم من هذا القول ان تكون الجنة التي كاد فيها آدم وغره قاسمه كاذبا في تلك التي اهبط منها بل القرآن يدل على انها غيرها كما ذكرناه فعلى التقديرين لا تدل الاية على ان الجنة التي جرى لادم مع ابليس ما جرى فيها هي جنة الخلد قالوا وأما قولكم ان بني اسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على الارض التي يهبطون وهم كانوا يسيرون ويرحلون فلذلك قيل لهم اهبطوا فهذا حق لا ننازعكم فيه وهو بعينه جواب لنا فإن الهبوط يدل على ان تلك الجنة كانت اعلا من الارض التي اهبطوا اليها واما كونها جنة الخلد فلا قالوا والفرق بين قوله اهبطوامصرا وقوله اهبطوا منها فإن الاول لنهاية الهبوط وغايته وهبطوا منها متضمن لمبدئه وأوله لا تأثير له فيما نحن فيه فإن هبط من كذا إلى كذا يتضمن معنى الانتقال من مكان عال إلى مكان سافل فأي تأثير لابتداء الغاية ونهايتها في تعيين محل الهبوط بأنه جنة الخلد قالوا وأما قصة موسى ولومه لآدم على إخراجهمن الجنة فلا يدل على أنها جنة الخلد وقولكم لا يظن بموسى أنه يلوم آدم على إخراجه نفسه وذريته من بستان في الارض تشنيع لا يفيد شيئا افترى كان ذلك بستانا مثل آحاد هذه البساتين المقطوعة المهوعة التي هي عرضة الافات والتعب والنصب والظمأ والحرث والسقي والتلقيح وسائر وجوه النصب الذي يلحق هذه البساتين ولا ريب ان موسى عليه الصلاة و السلام أعلم واجل من ان يلوم آدم على

خروجه وإخراج بنيه من بستان هذا شأنه ولكن من قال بهذا وإنما كانت جنة لا يلحقها آفة ولا تنقطع ثمارها ولا تغور انهارها ولا يجوع ساكنها ولا يظمأ ولا يضحى للشمس ولا يعرى ولا يمسه فيها التعب والنصب والشقاء ومثل هذه الجنة يحسن لوم الانسان على التسبب في خروجه منها قالوا واما اعتذار آدم عليه الصلاة و السلام يوم القيامة لأهل الموقف بأن خطيئته هي التي اخرجته من الجنة فلا يحسن ان يستفتحها لهم فهذا لا يستلزم ان تكون هي بعينها التي اخرج منها بل إذا كانت غيرها كان أبلغ في الاعتذار فإنه إذا كان الخروج من غير جنة الخلد حصل بسبب الخطيئة فكيف يليق استفتاح جنة الخلد والشفاعة فيها ثم خرج من غيرها بخطيئة فهذا موقف نظر الفريقين ونهاية أقدام الطائفتين فمن كان له فضل علم في هذه المسئلة فليجد به فهذا وقت الحاجة إليه ومن علم منتهى خطوته ومقدار بضاعته فليكل الامر إلى عالمه ولا يرضى لنفسه بالتنقيص والازراء عليه وليكن من اهل التلول الذين هم نظارة الحرب إذا لم يكن من أهل الكر والفر والطعن والضرب فقد تلاقت الفحول وتطاعنت الاقران وضاق بهم المجال في حلبة هذا الميدان
إذا تلاقى الفحول في لجب ... فكيف حال الغصيص في الوسط
هذه معاقد حجج الطائفتين مجتازة ببابك واليك تساق وهذه بضائع تجار العلماء ينادي عليها في سوق الكساد لا في سوق النفاق فمن لم يكن له به شيء من اسباب البيان والتبصرة فلا يعدم من قد استفرغ وسعه وبذل جهده منه التصويب والمعذرة ولا يرضى لنفسه بشر الخطتين وابخس الحظين جهل الحق وأسبابه ومعاداة اهله وطلابه وإذا عظم المطلوب وأعوزك الرفيق الناصح العليم فارحل بهمتك من بين الاموات وعليك بمعلم إبراهيم فقد ذكرنا في هذه المسئلة من النقول والادلة والنكت البديعة ما لعله لا يوجد في شيء من كتب المصنفين ولا يعرف قدره الا من كان من الفضلاء المنصفين ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه التوكل واليه الاستناد فإنه لا يخيب من توكل عليه ولا يضيع من لاذ به وفوض امره إليه وهو حسبنا ونعم الوكيل
فصل ولما اهبطه سبحانه من الجنة وعرضه وذريته لانواع المحن والبلاءاعطاهم افضل مما منعهم وهوعهده الذي عهد إليه وإلى بنيه وأخبر انه من تمسك به منهم صار إلى رضوانه ودار كرامته قال تعالى عقب اخراجه منها قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى

فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي الاية الاخرى قال اهبطا منها جميعا فاما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا نحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى فلما كسره سبحانه باهباطه من الجنة جبره وذريته بهذا العهد الذي عهده اليهم فقال تعالى فاما يأتينكم مني هدى وهذه هي ان الشرطية المؤكدة بما الدالة على استغراق الزمان والمعنى أي وقت وأي حين اتاكم من يهدى وجعل جواب هذا الشرط جملة شرطية وهي قوله فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى كما تقول إن زرتني فمن بشرني بقدومك فهو حر وجواب الشرط يكون جملة تامة أما خبرا محضا كقولك ان زرتني اكرمتك او خبرا مقرونا بالشرط كهذا اومؤكدا بالقسم او بأن واللام كقوله تعالى وإن اطعتموهم انكم لمشركون واما طلبا كقول النبي صلى الله عليه و سلم اذا سالت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وقوله وإذا لقيتموهم فاصبروا وقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وأكثر ما يأتي هذا النوع مع إذا التي تفيد تحقيق وقوع الشرط لسر وهو افادته تحقيقالطلب عند تحقيق الشرط فمتى تحقق الشرط فالطلب متحقق فأتى بإذا الدالة على تحقيق الشرط فعلم تحقيق الطلب عندها وقد يأتي مع ان قليلا كقوله تعالى وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم واما جملة انشائية كقوله لعبده الكافر ان اسلمت فانت حر ولامرأته ان فعلت كذا فانت طالق فهذا انشاء للعتق والطلاق عند وجود الشرط على رأي او انشاء له حال التعليق ويتأخر نفوذه إلى حين وجود الشرط على رأي آخر وعلى التقديرين فجواب الشرط جملة انشائية والمقصود ان جواب الشرط في الاية المذكورة جملة شرطية وهي قوله فمن اتبع هداي فلاخوف عليهم ولا هم يحزنون وهذا الشرط يقتضى ارتباط الجملة الاولى بالثانية ارتباط العلة بالمعلول والسبب بالمسبب فيكون الشرط الذي هو ملزوم علة ومقتضيا للجزاء الذي هو لازم فإن كان بينهما تلازم من الطرفين كان وجود كل منهما بدون دخول الاخر ممتنعا كدخول الجنة بالاسلام وارتفاع الخوف والحزن والضلال والشقاء مع متابعة الهوى وهذه هي عامة شروط القرآن والسنة فإنها اسباب وعلل والحكم ينتفى بانتفاء علته وإن كان التلازم بينهما من احد الطرفين كان الشرط ملزوما خاصا والجزاء لازما عاما فمتى تحقق الشرط الملزوم الخاص تحقق الجزاء اللازم العام ولا يلزم العكس كما يقال ان كان هذا انسانا فهو حيوان وإن كان البيع صحيحا فالملك ثابت وهذا غالب ما يأتي في قياس الدلالة حيث يكون الشرط دليلا على الجزاء فيلزم من وجوده وجود الجزاء لان الجزاء لازمه ووجود الملزوم يستلزم وجود اللازم ولا يلزم من عدمه عدم الجزاء وان

وقع هذا الشرط بين علة ومعلول فإن كان الحكم معللا بعلل صح ذلك وجاز ان يكون الجزاء اعم من الشرط كقولك إن كان هذا مرتدا فهو حلال الدم فإن حل الدم اعم من حله بالردة إلا ان يقال ان حكم العلة المعينة ينتفى بانتفائها وإن ثبت الحكم بعلة اخرى فهو حكم آخر واما حكم العلة المعينة فمحال ان ينفى مع زوالها وحينئذ فيعود التلازم من الطرفين ويلزم من وجود كل واحد من الشرط والجزاء وجود الاخر ومن عدمه عدمه وتمام تحقيق هذا في مسئلة تعليل الحكم الواحد بعلتين وللناس فيه نزاع مشهور وفصل الخطاب فيها ان الحكم الواحد ان كان واحدا بالنوع كحل الدم وثبوت الملك ونقض الطهارة جاز تعليله بالعلل المختلفة وإن كان واحدا بالعين كحل الدم بالردة وثبوت الملك بالبيع اوالميراث ونحو ذلك لم يجز تعليله بعلتين مختلفتين وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذه المسألة والله اعلم ومن تأمل ادلة الطائفتين وجد كل ما احتج به من رأى تعليل الحكم بعلل مختلفة إنما يدل على تعليل الواحد بالنوع بها وكل من نفى تعليل الحكم بعلتين إنما يتم دليله على نفي تعليل الواحد بالعين بهما فالقولان عند التحقيق يرجعان إلى شيء واحد والمقصود ان الله سبحانه جعل اتباع هداه وعهده الذي عهده إلى آدم سببا ومقتضيا لعدم الخوف والحزن والضلال والشقاء وهذا الجزاء ثابت بثبوت الشرط منتف بانتفائه كما تقدم بيانه ونفى الخوف والحزن عن متبع الهدى نفي لجميع انواع الشرور فإن المكروه الذي ينزل بالعبد متى علم بحصوله فهو خائف منه ان يقع به وإذا وقع به فهو حزين على ما أصابه منه فهو دائما في خوف وحزن وكل خائف حزين فكل حزين خائف وكل من الخوف والحزن يكون على فعل المحبوب وحصول المكروه فالاقسام اربعة خوف من فوت المحبوب وحصول المكروه وهذا جماع الشر كله فنفى الله سبحانه ذلك عن متبع هداه الذي أنزله على السنة رسله وأتى في نفي الخوف بالاسم الدال على نفي الثبوت واللزوم فإن أهل الجنة لا بد لهم من الخوف في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة حيث يقول آدم وغيره من الانبياء نفسي نفسي فأخبر سبحانه انهم وإن خافوا فلا خوف عليهم أي لا يلحقهم الخوف الذي خافوا منه وأتى في نفي الحزن بالفعل المضارع الدال على نفي التجدد والحدوث أي لا يلحقهم حزن ولا يحدث لهم إذا لم يذكروا ما سلف منهم بل هم في سرور دائم لا يعرض لهم حزن على ما فات وأما الخوف فلما كان تعلقه بالمستقبل دون الماضي نفي لحوقه لهم جملة أي الذي خافوا منه لا ينالهم ولا يلم بهم والله اعلم فالحزين إنما يحزن في المستقبل على ما مضى والخائف إنما يخاف في الحال مما يستقبل فلا خوف عليهم أي لا يلحقهم ما خافوا منه ولا يعرض لهم حزن على ما فات وقال في الاية الاخرى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فنفى عن متبع هداه امرين الضلال والشقاء قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما

تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ان لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ فأما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى والاية نفت مسمى الضلال والشقاء عن متبع الهدى مطلقا فاقتضت الاية انه لا يضل في الدنيا ولا يشقى ولا يضل في الآخرة ولا يشقى فيها فإن المراتب اربعة هدى وشقاوة في الدنيا وهدى وشقاوة في الآخرة لكن ذكر ابن عباس رضى الله عنهما في كل دار اظهر مرتبتيها فذكر الضلال في الدنيا إذ هو اظهر لنا وأقرب من ذكر الضلال في الآخرة وأيضا فضلال الدنيا اضل ضلال في الآخرة وشقاء الآخرة مستلزم للضلال فيها فنبه بكل مرتبة على الأخرى فنبه بنفي ضلال الدنيا على نفي ضلال الآخرة فإن العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه قال الله تعالى في الاية الأخرى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وقال في الاية الاخرى ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى وأضل سبيلا فأخبر ان من كان في هذه الدار ضالا فهو في الآخرة اضل واما نفي شقاء الدنيا فقد يقال انه لما انتفى عنه الضلال فيها وحصل له الهدى والهدى فيه من برد اليقين وطمأنينة القلب وذاق طعم الايمان فوجد حلاوته وفرحة القلب به وسروره والتنعيم به ومصير القلب حيا بالايمان مستنيرا به قويا به قد نال به غذاؤه ورواءه وشفاءه وحياته ونوره وقوته ولذته ونعيمه ما هو من اجل انواع النعيم واطيب الطيبات واعظم اللذات قال الله تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فهذا خبر اصدق الصادقين ومخبره عند اهله عين اليقين بل هو حق اليقين ولا بد لكل من عمل صالحا ان يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله ولكن يغلط الجفاة الاجلاف في مسمى الحياة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح او لذة الرياسة والمال وقهر الاعداء والتفنن بأنواع الشهوات ولا ريب ان هذه لذة مشتركة بين البهائم بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الانسان فمن لم تكن عنده لذة الا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والانعام فذلك ممن ينادي عليه من مكان بعيد ولكن اين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الابناء والنساء والاوطان والاموال والاخوان والمساكن ورضى بتركها كلها والخروج منها رأسا وعرض نفسه لانواع المكاره والمشاق وهو متحل بهذا منشرح الصدر به يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته واخيه لا تأخذه في ذلك لومة لائم حتى ان احدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول فزت ورب الكعبة ويستطيل الاخر حياته حتى يلقى قوته من يده ويقول انها لحياة طويلة ان صبرت حتى أكلها ثم يتقدم إلى الموت فرحا

مسرورا ويقول الاخر مع فقره لو علم الملوك وابناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف ويقول الاخر انه ليمر بالقلب اوقات يرقص فيها طربا وقال بعض العارفين انه لتمر بي اوقات اقول فيها إن كان اهل الجنة في مثل هذا انهم لفي عيش طيب ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه و سلم لما نهاهم عن الوصال فقالوا انك تواصل فقال اني لست كهيئتكم إني اظل عند ربي يطعمني ويسقيني علم ان هذا طعام الارواح وشرابها وما يفيض عليها من أنواع البهجة واللذة والسرور والنعيم الذي رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذروة العليا منه وغيره إذا تعلق بغباره رأى ملك الدنيا ونعيمها بالنسبة إليه هباء منثورا بل باطلا وغرورا وغلط من قال انه كان يأكل ويشرب طعاما وشرابا يغتذى به بدنه لوجوه احدها انه قال اظل عند ربي يطعمني ويسقيني ولو كان اكلا وشربا لم يكن وصالا ولا صوما الثاني ان النبي صلى الله عليه و سلم اخبرهم انهم ليسوا كهيئته في الوصال فإنهم إذا واصلوا تضرروا بذلك واماهو صلى الله عليه و سلم فإنه إذا واصل لا يتضرر بالوصال فلو كان يأكل ويشرب لكان الجواب وأنا ايضا لا اواصل بل آكل وأشرب كما تأكلون وتشربون فلما قررهم على قولهم انك تواصل ولم ينكره عليهم دل على انه كان مواصلا وانه لم يكن يأكل اكلا وشربا يفطر الصائم الثالث انه لو كان اكلا وشربا يفطر الصائم لم يصح الجواب بالفارق بينهم وبينه فإنه حينئذ يكون صلى الله عليه و سلم هو وهم مشتركون في عدم الوصال فكيف يصح الجواب بقوله لست كهيئتكم وهذا امر يعلمه غالب الناس ان القلب متى حصل له ما يفرحه ويسره من نيل مطلوبه ووصال حبيبه او ما يغمه ويسؤوه ويحزنه شغل عن الطعام والشراب حتى ان كثيرا من العشاق تمر به الايام لا يأكل شيئا ولا تطلب نفسه اكلا وقد افصح القائل في هذا المعنى
لها احاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ... ومن حديثك في اعقابها حادى إذ اشتكت من كلال السير او عدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
والمقصود ان الهدى مستلزم لسعادة الدنيا وطيب الحياة والنعيم العاجل وهو أمر يشهد به الحس والوجد واما سعادة الآخرة فغيب يعلم بالايمان فذكرها ابن عباس رضى الله عنهما لكونها اهم وهي الغاية المطلوبة وضلال الدنيا اظهر وبالنجاة منه ينجو من كل شر وهو اضل ضلال الآخرة وشقائها فلذلك ذكره وحده والله اعلم

فصل وهذان الضلالان اعني الضلال والشقاء يذكرهما سبحانه كثيرا في
كلامه ويخبر انهما حظ اعدائه ويذكر ضدهما وهما الهدى والفلاح كثيرا ويخبر انهما حظ اوليائه اما الاول فكقوله تعالى ان المجرمين في ضلال وسعر فالضلال الضلال والسعر هو الشقاء والعذاب وقال تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين وأما الثاني فكقوله تعالى في أول البقرة وقد ذكر المؤمنين وصفاتهم اولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون وكذلك في أول لقمان وقال في الانعام الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون ولما كانت سورة ام القرآن اعظم سورة في القرآن وافرضها قراءة على الامة واجمعها لكل ما يحتاج إليه العبد واعمها نفعا ذكر فيها الامرين فأمرنا ان نقول اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم فذكر الهداية والنعمة وهما الهدى والفلاح ثم قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فذكر المغضوب عليهم وهم اهل الشقاء والضالين وهم اهل الضلال وكل من الطائفتين له الضلال والشقاء لكن ذكر الوصفين معا لتكن الدلالة على كل منهما بصريح لفظه وأيضا فإنه ذكر ماهو اظهر الوصفين في كل طائفة فإن الغضب على اليهود أظهر لعنادهم الحق بعدمعرفته والضلال في النصارى اظهر لغلبة الجهل فيهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون
فصل وقوله تعالى فاما ياتينكم مني هدى هو خطاب لمن اهبطه من الجنةبقوله اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ثم قال فاما يأتينكم مني هدى وكلا الخطابين لابوي الثقلين وهو دليل على ان الجن مامورون منهيون داخلون تحت شرائع الانبياء وهذا مما لا خلاف فيه بين الامة وان نبينا بعث اليهم كما بعث إلى الانس كما لا خلاف بينها ان مسيئهم مستحق للعقاب وانما اختلف علماء الاسلام في المسلم منهم هل يدخل الجنة فالجمهور على ان محسنهم في الجنة كما ان مسيئهم في النار وقيل بل ثوابهم سلامتهم من الجحيم واما الجنة فلا يدخلها احد من اولاد إبليس وإنماهي لبني آدم وصالحي ذريته خاصة وحكى هذا القول عن ابي حنيفة رحمه الله تعالى واحتج الاولون بوجوه احدها هذه الاية فانه سبحانه اخبر ان من اتبع هداه فلا يخاف ولا يحزن ولا يضل ولا يشقى وهذا مستلزم

لكمال النعيم ولا يقال ان الاية إنما تدل على نفي العذاب فقط ولا خلاف ان مؤمنيهم لا يعاقبون لانا نقول لولم تدل الاية الا على امر عدمي فقط لم يكن مدحا لمؤمني الانس ولما كان فيها الا مجرد امرعدمي وهو عدم الخوف والحزن ومعلوم ان سياق الاية ومقصودها إنما اريد به ان من اتبع هدى الله الذي انزله حصل له غاية النعيم واندفععنه غاية الشقاء وعبر عن هذا المعنى المطلوب بنفي الامور المذكورة لاقتضاء الحال لذلك فإنه لما اهبط آدم من الجنة حصل له من الخوف والحزن والشقاء ما حصل فاخبره سبحانه انه معطيه وذريته عهدا من اتبعه منهم انتفى عنه الخوف والحزن والضلال والشقاء ومعلوم انه لا ينتفى ذلك كله إلا بدخول دار النعيم ولكن المقام بذكر التصريح بنفي غاية المكروهات اولى الثاني قوله تعالى وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إناسمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم فأخبرنا سبحانه عن نذيرهم اخبارا بقوله ان من اجاب داعيه غفر له وأجاره من العذاب ولو كانت المغفرة لهم إنما ينالون بها مجرد النجاة من العذاب كان ذلك حاصلا بقوله ويجركم من عذاب اليم بل تمام المغفرة دخول الجنة والنجاة من النار فكل من غفر الله له فلا بد من دخوله الجنة الثالث قوله تعالى في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فهذا يدل على ان مؤمني الجن والانس يدخلون الجنة وأنه لم يسبق من احد منهم طمث لاحد من الحور فدل على ان مؤمنيهم يتأنى منهم طمث الحور العين بعد الدخول كما يتأتى من الانس ولو كانوا ممن لا يدخل الجنة لما حسن الاخبار عنهم بذلك الرابع قوله تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ان لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرةرزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون والجن منهم مؤمن ومنهم كافر كما قال صالحوهم وانا منا المسلمون ومنا القاسطون فكما دخل كافرهم في الاية الثانية وجب ان يدخل مؤمنهم في الاولى الخامس قوله عن صالحيهم فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا والرشد هو الهدى والفلاح وهو الذي يهدى إليه القرآن ومن لم يدخل الجنة لم ينل غاية الرشد بل لم يحصل له من الرشد الا مجردالعلم السادس قوله تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ومؤمنهم ممن آمن بالله ورسله فيدخل في المبشرين ويستحق البشارة السابع قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم عم

سبحانه بالدعوة وخص بالهداية المفضية اليها فمن هداه اليها فهو من دعاه اليها فمن اهتدى من الجن فهو من المدعوين اليها الثامن قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال اولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا اجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ان ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والانس الم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على انفسهم انهم كانوا كافرين ذلك ان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم واهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وهذا عام في الجن والانس فاخبرهم تعالى ان لكلهم درجات من عمله فاقتضى ان يكون لمحسنهم درجات من عمله كما لمحسن الانس التاسع قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ان لا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وقولوه تعالى أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك اصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ووجه التمسك بالاية من جوه ثلاثة احدها عموم الاسم الموصول فيها الثاني ترتيبه الجزاء المذكورعلى المسألة ليدل على أنه مستحق بها وهو قول ربنا الله مع الاستقامة والحكم يعم بعموم علته فإذا كان دخول الجنة مرتبا على الاقرار بالله وربوبيته مع الاستقامة على امره فمن اتى ذلك استحق الجزاء الثالث انه قال فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك اصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوايعملون فدل على ان كل من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة وقد تقدم في اول الايات قوله تعالى فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وانه متناول للفريقين ودلت هذه الاية على ان من لا خوف عليه ولا حزن فهو من اهل الجنة العاشر انه إذا دخل مسيئهم النار بعدل الله فدخول محسنهم الجنة بفضله ورحمته اولى فإن رحمته سبقت غضبه والفضل اغلب من العدل ولهذا لا يدخل النار الا من عمل اعمال اهل النار واما الجنة فيدخلها من لم يعمل خيرا قط بل ينشيء لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه ويرفع فيها درجات العبد من غير سعي منه بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين وصلاتهم وصدقتهم وأعمال البر التي يهدونها إليه بخلاف اهل النار فإنه لا يعذب فيها بغير عمل اصلا وقد ثبت بنص القرآن واجماع الامة ان مسيء الجن في النار بعدل الله وبما كانوا يكسبون فمحسنهم في الجنة بفضل الله بما كانوا يعملون لكن قيل انهم يكونون في ربض الجنة يراهم اهل الجنة ولا يرونهم كما كانوا في الدنيا يرون بني آدم من حيث لا يرونهم ومثل هذا لايعلم الا بتوقيف تنقطع الحجة عنده فإن ثبتت حجة يجب اتباعها وإلا فهو مما يحكى ليعلم وصحته موقوفة على الدليل. والله أعلم.

فصل ومتابعة هدى الله التي رتب عليها هذه الامور هي تصديق خبره من
غير اعتراض شبهة تقدح في تصديقه وامتثال امره من غير اعتراض شهوة تمنع امتثاله وعلى هذين الاصلين مدار الايمان وهما تصديق الخبر وطاعة الامر ويتبعهما امران آخران وهما نفي شبهات الباطل الواردة عليه المانعة من كمال التصديق وان لا يخمش بها وجه تصديقه ودفع شهوات الغي الواردة عليه المانعة من كمال الامتثال فهنا اربعة امور احدها تصديق الخبر الثاني بذل الاجتهاد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والانس في معارضته الثالث طاعة الامر والرابع مجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة وهذان الامران اعني الشبهات والشهوات اصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده كما ان الاصلين الاولين وهما تصديق الخبر وطاعة الامر اصل سعادته وفلاحه في معاشه ومعاده وذلك ان العبد له قوتان قوة الادراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام وقوة الارادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل فالشبهة تؤثر فسادا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها والشهوة تؤثر فسادا في القوة الارادية العملية ما لم يداوها باخراجها قال الله تعالى في حق نبيه يذكر مامن به عليه من نزاهته وطهارته مما يلحق غيره من ذلك والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فما ضل دليل على كمال علمه ومعرفته وانه على الحق المبين وما غوى دليل على كمال رشده وأنه أبر العالمين فهو الكامل في علمه وفي عمله وقد وصف صلى الله عليه و سلم بذلك خلفاءه من بعده وأمر باتباعهم على سنتهم فقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي رواه الترمذي وغيره فالراشد ضد الغاوي والمهدي ضد الضال وقد قال تعالى كالذين من قبلكم كانوا اشد منكم قوة وأكثر اموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا اولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرةوأولئك هم الخاسرون فذكر تعالى الاصلين وهما دار الاولين والاخرين احدهما الاستمتاع بالخلاف وهو النصيب من الدنيا والاستمتاع به متضمن لنيل الشهوات المانعة من متابعة الامر بخلاف المؤمن فإنه وان نال من الدنيا وشهواتها فإنه لا يستمتع بنصيبه كله ولا يذهب طيباته في حياته الدنيا بل ينال منها ما ينال منها ليتقوى به على التزود لمعاده والثاني الخوض بالشبهات الباطلة وهو قوله وخضتم كالذي خاضوا وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق للآخرة لاتزال ساعية في نيل شهواتها فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والاجل ومن تمام حكمة الله تعالى انه يبتلى هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها فلا تتفرغ للخوض بالباطل الا قليلا ولو تفرغت هذه النفوس الباطولية

لكانت ائمة تدعوا الى النار وهذا حال من تفرغ منها كما هومشاهد بالعيان وسواء كان المعنى وخضتم كالحزب الذي خاضوا او كالفريق الذي خاضوا فإن الذي يكون للواحد والجمع ونظيره قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين لكن لا يجرى على جمع تصحيح فلا يجيء المسلمون الذي جاؤوا وإنا يجيء غالبا في اسم الجمع كالحزب والفريق او حيث لا يذكر الموصوف وان كان جمعا كقول الشاعر
وإن الذي جاءت تقبح دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
او حيث يراد الجنس دون الواحد والعدد كقوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به ثم قال اولئك هم المتقون ونظيره الاية التي نحن منها وهي قوله وخضتم كالذي خاضوا او كان المعنى علىالقول الاخر وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا فيكون صفة لمصدر محذوف كقولك اضرب كالذي ضرب واحسن كالذي احسن ونظائره وعلى هذا فيكون العائد منصوبا محذوفا وحذفه في مثل ذلك قياس مطرد على القولين فقد ذمه سبحانه على الخوض بالباطل واتباع الشهوات واخبر ان من كانت هذه حالته فقد حبط عمله في الدنيا والاخرة وهو من الخاسرين ونظير هذا قول اهل النار لاهل الجنة وقد سألوهم كيف دخلوها قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين فذكروا الاصلين الخوض بالباطل وما يتبعه من التكذيب بيوم الدين وايثار الشهوات وما يستلزمه من ترك الصلوات واطعام ذوي الحاجات فهذان الاصلان هماما هما والله ولي التوفيق
فصل والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله هو القلب الذي قد سلممن هذا وهذا فهو القلب الذي قد سلم لربه وسلم لامره ولم تبق فيه منازعة لامره ولا معارضة لخبره فهو سليم مما سوى الله وأمره لا يريد الا الله ولا يفعل إلا ما أمره الله فالله وحده غايته وامره وشرعه وسيلته وطريقته لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة تعلم انه لا قرار لها فيه ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك وسليم من البدع وسليم من الغي وسليم من الباطل وكل الاقوال التي قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها وحقيقته انه القلب الذي قد سلم لعبودية ربه حياء وخوفا وطمعا ورجاء ففنى بحبه عن حب ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وسلم لامره

ولرسوله تصديقا وطاعة كما تقدم واستسلم لقضائه وقدره فلم يتهمه ولم ينازعه ولم يتسخط لاقداره فاسلم لربه انقيادا وخضوعا وذلا وعبودية وسلم جميع احواله واقواله واعماله واذواقه ومواجيده ظاهرا وباطنا من مشاكة رسوله وعرض ما جاء من سواها عليها فما وافقها قبله وما خالفها رده وما لم يتبين له فيه موافقة ولا مخالفة وقف امره وأرجأه إلى ان يتبين له وسالم أولياءه وحزبه المفلحين الذابين عن دينه وسنة نبيه القائمين بها وعادى اعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه الخارجين عنهما الداعين إلى خلافهما
فصل وهذه المتابعة هي التلاوة التي اثنى الله على اهلها في قولهتعالى ان الذين يتلون كتاب الله وفي قوله إن الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به والمعنى يتبعون كتاب الله حق اتباعه وقال تعالى اتل ما اوحى اليك من الكتاب واقم الصلاة وقال إنما امرت ان اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت ان اكون من المسلمين وان اتلوا القرآن فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة وهي تلاوة اللفظ والمعنى فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع يقال اتل اثر فلان وتلوت اثره وقفوته وقصصته بمعنى تبعت خلفه ومنه قوله تعالى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها أي تبعها في الطلوع بعد غيبتها ويقال جاء القوم يتلو بعضهم بعضا أي يتبع وسمى تالي الكلام تاليا لانه يتبع بعض الحروف بعضا لا يخرجها جملة واحدة بل يتبع بعضها بعضا مرتبة كلما انقضى حرف او كلمة اتبعه بحرف آخر وكلمة اخرى وهذه التلاوة وسيلة وطريقة والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائماما به حيث ما قادك انقدت معه فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى اشرف من مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم اهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والاخرة فإنهم اهل تلاوة ومتابعة حقا
فصل ثم قال تعالى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشرهيوم القيامة اعمى لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده اخبر عن حال من اعرض عنه ولم يتبعه فقال ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا أي عن الذكر الذي انزلته فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول وليس المعنى ومن اعرض

عن ان يذكرني بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره واحسن من هذا الوجه ان يقال الذكر هنا مضاف إضافة الاسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها والمعنى ومن اعرض عن كتابي ولم يتبعه فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى وهذا ذكر مبارك انزلناه وقال تعالى ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم وقال تعالى وما هو الا ذكر للعالمين وقال تعالى إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز وقال تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن وعلى هذا فاضافته كاضافة الاسماء الجوامد التي لا يقصد بها اضافة العامل الىمعموله ونظيره في اضافة اسم الفاعل غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الاضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم وكذلك جرت اوصافا على اعرف المعارف وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير
فصل وقوله تعالى فإن له معيشة ضنكا فسرها غير واحد من السلف بعذابالقبر وجعلوا هذه الاية احد الادلة الدالة على عذاب القبر ولهذا قال ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى أي تترك في العذاب كماتركت العمل بآياتنا فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوارونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون اشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة اليوم تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق فهذه الاذاقة هي في البرزخ واولها حين الوفاة فإنه معطوف علىقوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه كنظائره وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه في قوله تعالى يثبت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال نزلت في عذاب القبر والاحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر والمقصود ان الله سبحانه اخبر ان من اعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى فإن له معيشة ضنكا وتكفل لمن حفظ

عهده ان يحييه حياة طيبة ويجزيه اجره في الآخرة فقال تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فاخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علماوعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة باحسن الجزاء وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالاخرة وقال سبحانه ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون فأخبر سبحانه ان من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب اعراضه وعشوه عن ذكره الذي انزله على رسوله فكان عقوبة هذا الاعراض ان قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب انه مهتد حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وافلاسه قال يا ليت بيني وبينك بعدالمشرقين فبئس القرين وكل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب انه على هدى كما قال تعالى ويحسبون انهم مهتدون قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ولو ظن انه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في اهل النار وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين او تقول لو ان الله هداني لكنت من المتقين او تقول حين ترى العذاب لو ان لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا كثير في القرآن
فصل وقوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني اعمىوقد كنت بصيرا اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة او من عمى البصر والذين قالوا هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا وقوله لقدكنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين وقوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية

في الآخرة كقوله تعالى وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون افسحر هذا ام انتم لا تبصرون وقوله رأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها والذين رجحوا انه منعمى البصر قالوا السياق لا يدل الا عليه لقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا في عمى عن الحق فكيف يقول وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمى البصر وانه جوزي من جنس عمله فإنه لما اعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا فجازاه على عمى بصيرته عمى في الآخرة وعلى تركه ذكره تركه في العذاب وقال تعالى ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم اولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الاية ايضا انهم عمي وبكم وصم عن الهدى كما قيل في قوله ونحشره يوم القيامة اعمى قالوا لانهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون ومن نصرانه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه ولهذا قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يرون شيئا يسرهم وقال آخرون هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك ثم انهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذامروى عن الحسن وقال آخرون هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبو الاسماع والابصار والنطق حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى اخسئوا فيها ولاتكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون ولا يسمع منهم الا الزفير والشهيق وهذا منقول عن مقاتل والذين قالوا المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم انهم لا حجة لهم ولم يريدوا ان لهم حجة هم عمى عنها بل هم عمىعن الهدى كما كانوا في الدنيا فان العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الاخر وانه عمى البصر فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ويقر بما كان يجحده في الدنيا فليس هو اعمى عن الحق يومئذ وفصل الخطاب ان الحشر هو الضم والجمع ويراد به تارة الحشر الىموقف القيامةكقوله النبي صلى الله عليه و سلم انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا وكقوله تعالى وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة

وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار قال تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وقال تعالى احشروا الذين ظلموا أزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم فهذا الحشر هو بعدحشرهم الى الموقف وهو حشرهم وضمهم إلى النار لانه قد اخبر عنهم انهم قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ثم قال تعالى احشروا الذين ظلموا وازواجهم وهذا الحشر الثاني وعلى هذا فهم ما بين الحشر الاول من القبور الى الموقف والحشر الثاني من الموقف إلى النار فعند الحشر الاول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته فالقرآن يصدق بعضه بعضا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
فصل والمقصود ان الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراجآدم وذريته من الجنة اعاضهم افضل منها وهو ما اعطاهم من عهده الذي جعله سببا موصلا لهم إليه وطريقا واضحا بين الدلالة عليه من تمسك به فاز واهتدى ومن اعرض عنه شقى وغوى ولما كان هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه ابدا إلا من باب العلم والارادة فالارادة باب الوصول إليه والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه وكمال كل انسان إنما يتم بهذين النوعين همة ترقيه وعلم يبصره ويهديه فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين او من احداهما اما ان لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها او يكون عالما بها ولا تنهض همته اليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسا وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدودا منكوسا قد أسام نفسه مع الانعام راعيا مع الهمل واستطاب لقيعات الراحة والبطالة واستلان فراش العجز والكسل لا كمن رفع له علم فشمر إليه وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه قد ابت غلبات شوقه الا لهجرة إلى الله ورسوله ومقتت نفسه الرفقاء الا ابن سبيل يرافقه في سبيله ولما كان كمال الارادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابع لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها ان تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت ولا سبيل له إلى هذا المطلب الاسني والحظ الاوفى الا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيا وأقامه على هذا الطريق هاديا وجعله واسطة بينه وبين الانام وداعيا لهم بإذنه إلى دار السلام وأبى سبحانه ان يفتح لاحد منهم الاعلى يديه او يقبل من احد منهم سعيا الا ان يكون مبتدأ منه ومنتهيا إليه

فالطرق كلها الا طريقة صلى الله عليه و سلم مسدودة والقلوب باسرها الا قلوب اتباعه المنقادة إليه عن الله محبوسة مصدودة فحق على من كان في سعادة نفسه ساعيا وكان قلبه حيا عن الله واعيا ان يجعل على هذين الاصلين مدار اقواله واعماله وان يصيرهما اخبيته التي اليها مفزعة في حياته وطاء له فلا جرم كان وضع هذا الكتاب مؤسسا على هاتين القاعدتين ومقصوده التعريف بشرف هذين الاصلين وسميته مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية اهل العلم والارادة إذ كان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها على حين انقطاعي إليه عند بيته والقائي نفسي ببابه مسكينا ذليلا وتعرض لنفحاته في بيته وحوله بكرة واصيلا فما خاب من انزل به حوائجه وعلق به آماله واصبح ببابه مقيما وبحماه نزيلا ولما كان العلم امام الارادة ومقدما عليها ومفصلا لها ومرشدا لها قدمنا الكلام عليه على الكلام على المحبة ثم نتبعه ان شاء الله بعد الفراغ منه كتابا في الكلام على المحبة واقسامها واحكامها وفوائدها وثمراتها واسبابها وموانعها وما يقويها وما يضعفها والاستدلال بسائر طرق الادلة من النقل والعقل والفطرة والقياس والاعتبار والذوق والوجد على تعلقها بالاله الحق الذي لا إله غيره بل لا ينبغي ان تكون إلا له ومن اجله والرد على من انكر ذلك وتبيين فساد قوله عقلا ونقلا وفطرة وقياسا وذوقا ووجدا فهذا مضمون هذه التحفة وهذه عرائس معانيها الان تجلى عليك وخود ابكارها البديعة الجمال ترفل في حللها وهي تزف اليك فاما شمس منازلها بسعد الاسعد وأما خود تزف إلى ضرير مقعد فاختر لنفسك احدى الخطتين وانزلها فيما شئت من المنزلتين ولا بد لكل نعمة من حاسد ولكل حق من جاحد ومعاند هذا وإنما اودع من المعاني والنفائس رهن عند متأمله ومطالعه له غنمه وعلى مؤلفه غرمه وله ثمرته ومنفعته ولصاحبه كله ومشقته مع تعرضه لطعن الطاعنين والاعتراض المناقشين وهذه بضاعته المزجاة وعقله المدود يعرض على عقول العالمين وإلقائه نفسه وعرضه بين مخالب الحاسدين وانياب البغاة المعتدين فلك ايها القارئ صفوه ولمؤلفه كدره وهو الذي تجشم غراسه وتعبه ولك ثمره وها هو قد استهدف لسهام الراشقين واستعذر إلى الله من الزلل والخطأ ثم إلى عباده المؤمنين اللهم فعياذا بك ممن قصر في العلم والدين باعه وطالت في الجهل وآذى عبادك ذراعه فهو لجهله يرى الاحسان اساءة والسنة بدعة والعرف نكرا ولظلمه يجزى بالحسنة سيئة كاملة وبالسيئة الواحدة عشرا قد اتخذ بطر الحق وغمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل ويرضاه ولا يعرف من المعروف ولا ينكر من المنكر الا ما وافق إرادته او حالف هواه يستطيل على اولياء الرسول وحزبه باصغريه ويجالس اهل الغي والجهالة ويزاحمهم بركبتيه قد ارتوى من ماء آجن ونضلع واستشرف إلى مراتب

ورثة الانبياء وتطلع يركض في ميدان جهله مع الجاهلين ويبرز عليهم في الجهالة فيظن انه من السابقين وهو عند الله ورسوله والمؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزل وإذا انزل الورثة منازلهم منها فمنزلته منها اقصى وابعد منزل
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء ابعد منزل
وعياذا بك ممن جعل الملامة بضاعته والعذل نصيحته فهو دائما يبدى في الملامة ويعيد ويكرر على العذل فلا يفيد ولا يستفيد بل عياذا بك من عدو في صورة ناصح وولى في مسلاخ بعيد كاشح يجعل عداوته واذاه حذرا وإشفاقا وتنفيره وتخذيله اسعافا وإرفاقا وإذا كانت العين لا تكاد إلا على هؤلاء تفتح والميزان بهم يخف ولا يرجح فما احرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قلبه جزا من الالتفات ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره إلى الاحياء بين الاموات وما احسن ما قال القائل :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... واجسامهم قبل القبور قبور
وارواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور اللهم فلك الحمد واليك المشتكى وانت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك وانت حسبنا ونعم الوكيل فلنشرع الان في المقصود بحول الله وقوته فنقول الاصل الاول في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه
قال الله تعال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائمابالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم استشهد سبحانه باولى العلم على اجل مشهود عليه وهوتوحيده فقال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط وهذا يدل على فضل العلم واهله من وجوه احدها استشهادهم دون غيرهم من البشر والثاني اقتران شهادتهم بشهادته والثالث اقترانها بشهادة ملائكته والرابع ان في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فان الله لا يستشهد من خلقه الا العدول ومنه الاثر المعروف عن النبي صلى الله عليه و سلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وقال محمد بن احمد بن يعقوب بن شيبة رأيت رجلا قدم رجلا إلى اسماعيل بن إسحاق القاضي

فادعى عليه دعوى فسأل المدعى عليه فانكر فقال للمدعى الك بينة قال نعم فلان وفلان قال اما فلان فمن شهودي واما فلان فليس من شهودي قال فيعرفه القاضي قال نعم قال بماذا قال اعرفه بكتب الحديث قال فكيف تعرفه في كتبه الحديث قال ما علمت الا خيرا قال فان النبي صلى الله عليه و سلم قال يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله فمن عدله رسول الله صلى الله عليه و سلم اولى ممن عدلته انت فقال قم فهاته فقد قبلت شهادته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث في موضعه الخامس انه وصفهم بكونهم اولى العلم وهذا يدل على اختصاصهم به وانهم اهله واصحابه ليس بمستعار لهم السادس انه سبحانه استشهد بنفسه وهو اجل شاهد ثم بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلا وشرفا السابع انه استشهد بهم على اجل مشهود به واعظمه واكبره وهو شهادة ان لا إله إلا الله والعظيم القدر انما يستشهد على الامر العظيم اكابر الخلق وساداتهم الثامن انه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين فهم بمنزلة آدلته وآياته وبراهنيه الدالة على توحيده التاسع انه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة لصادرة منه ومن ملائكته ومنهم ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على السنتهم وانطقهم بهذه الشهادة فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة وإنطاقا وتعليما وهم الشاهدون بها له إقرارا واعترافا وتصديقا وإيمانا العاشر انه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة فإذا ادوها فقد ادوا الحق المشهود به فثبت الحق المشهود به فوجب على الخلق الاقرار به وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكل من ناله الهدى بشهادتهم واقر بهذا الحق بسبب شهادتهم فلهم من الاجر مثل اجره وهذا فضل عظيم لا يدرى قدره الا الله وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم فلهم من الاجر مثل اجره ايضا فهذه عشرة اوجه في هذه الاية الحادي عشر في تفضيل العلم وأهله انه سبحانه نفي التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين اصحاب الجنة واصحاب النار فقال تعالى قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون كما قال تعالى لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم الوجه الثاني عشر انه سبحانه جعل اهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون فقال افمن يعلم انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمى فما ثم الا عالم او اعمى وقد وصف سبحانه اهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع من كتابه الوجه الثالث عشر انه سبحانه اخبر عن اولى العلم بانهم يرون ان ما انزل إليه من ربه حقا وجعل هذا ثناء عليهم واستشهادا بهم فقال تعالى ويرى الذين اوتو العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق الوجه الرابع عشر انه سبحانه امر بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل ذلك كالشهادة منهم فقال وما ارسلنا قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فاسئلوا اهل الذكر إن

كنتم لا تعلمون واهل الذكر هم اهل العلم بما انزل على الانبياء الوجه الخامس عشر انه سبحانه شهد لاهل العلم شهادة في ضمنها الاستشهاد بهم على صحة ما انزل الله على رسوله فقال تعالى افغير الله ابتغى حكما وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين الوجه السادس عشر انه سبحانه سلى نبيه بايمان اهل العلم به وامره ان لا يعبأ بالجاهلين شيئا فقال تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به اولا تؤمنوا إن الذين اوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وهذا شرف عظيم لهل العلم وتحته ان اهله العالمون قد عرفوه وآمنوا به وصدقوا فسواء آمن به غيرهم اولا الوجه السابع عشر انه سبحانه مدح اهل العلم واثنى عليهم وشرفهم بان جعل كتابه آيات بينات في صدورهم وهذه خاصة ومنقبة لهم دون غيرهم فقال تعالى وكذلك انزلنا اليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وسواء كان المعنى ان القرآن مستقر في صدور الذين اوتوا العلم ثابت فيها محفوظ وهو في نفسه آيات بينات فيكون اخبر عنه بخبرين احدهما انه آيات بينات الثاني انه محفوظ مستقر ثابت في صدور الذين اوتوا العلم او كان المعنى أنه آيات بينات في صدورهم أي كونه آيات بينات معلوم لهم ثابت في صدورهم والقولان متلازمان ليسا بمختلفين وعلى التقديرين فهو مدح لهم وثناء عليهم في ضمنه الاستشهاد بهم فتأمله الوجه الثامن عشر أنه سبحانه أمر نبيه أن يسأله مزيد العلم فقال تعالى فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى اليك وحيه وقل رب زدني علما وكفى بهذا شرفا للعلم ان امر نبيه ان يسأله المزيد منه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه اخبر عن رفعة درجات اهل العلم والايمان خاصة فقال تعالى يا ايها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بماتعملون خبير وقد أخبر سبحانه في كتابه برفع الدرجات في اربعة مواضع احدها هذا والثاني قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم والثالث قوله تعالى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات اولئك لهم الدرجات العلى والرابع قوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا

عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة فهذه اربعة مواضع في ثلاثة منها الرفعة بالدرجات لاهل الايمان الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والرابع الرفعة بالجهاد فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم والجهاد اللذين بهما قوام الدين الوجه العشرون انه سبحانه استشهد بأهل العلم والايمان يوم القيامة على بطلان قول الكفار فقال تعالى ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين اوتو العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون الوجه الحادي والعشرون انه سبحانه اخبر انهم اهل خشيته بل خصهم من بين الناس بذلك فقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور وهذا حصر لخشيته في أولى العلم وقال تعالى جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه وقد اخبر ان اهل خشيته هم العلماء فدل على ان هذا الجزاء المذكور للعلماء بمجموع النصين وقال ابن مسعود رضى الله عنه كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا الوجه الثاني والعشرون انه سبحانه اخبر عن امثاله التي يضربها لعباده يدلهم على صحة ما أخبر به ان اهل العلم هم المنتفعون بها المختصون بعلمها فقال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وفي القرآن بضعة واربعون مثلا وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول لست من العالمين الوجه الثالث والعشرون انه سبحانه ذكر مناظرة إبراهيم لابيه وقومه وغلبته لهم بالحجة وأخبر عن تفضيله بذلك ورفعه درجته بعلم الحجة فقال تعالى عقيب مناظرته لابيه وقومه في سورة الانعام وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم قال زيد بن أسلم رضى الله عنه نرفع درجات من نشاء بعلم الحجة الوجه الرابع والعشرون انه سبحانه أخبر انه خلق الخلق ووضع بيته الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد ليعلم عباده أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فقال تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما فدل على ان علم العباد بربهم وصفاته وعبادته وحده هو الغاية المطلوبة من الخلق والامر الوجه الخامس والعشرون ان الله سبحانه امر اهل العلم بالفرح بما آتاهم وأخبر انه خير مما يجمع الناس فقال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وفسر فضل الله بالايمان ورحمته بالقرآن والايمان والقرآن هما العلم النافع والعمل الصالح والهدى ودين الحق وهما افضل علم وافضل عمل الوجه السادس والعشرون انه سبحانه شهد لمن آتاه العلم بانه قد آتاه خيرا كثيرا فقال تعالى يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا قال

ابن قتيبة والجمهور الحكمة إصابة الحق والعمل به وهي العلم النافع والعمل الصالح الوجه السابع والعشرون انه سبحانه عدد نعمه وفضله على رسوله وجعل من اجلها ان آتاه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم فقال تعالى وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما الوجه الثامن والعشرون انه سبحانه ذكر عباده المؤمنين بهذه النعمة وأمرهم بشكرها وأن يذكروه على إسدائها اليهم فقال تعالى كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون الوجه التاسع والعشرون انه سبحانه لما اخبر ملائكته بأنه يريد ان يجعل في الارض خليفة قالوا له اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم مالا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لاعلم لنا الا ما علتمنا كلمتناانك انت العليم الحكيم إلى آخر قصة آدم وأمر الملائكة بالسجود لآدم فأبى ابليس فلعنه وأخرجه من السماء وبيان فضل العلم من هذه القصة من وجوه احدها انه سبحانه رد على الملائكة لما سألوه كيف يجعل في الارض من هم اطوع له منه فقال اني اعلم مالا تعلمون فأجاب سؤالهم بأنه يعلم من بواطن الامور وحقائقها مالا يعلمونه وهو العليم الحكيم فظهر من هذا الخليفة من خيار خلقه ورسله وأنبيائه وصالحي عباده والشهداء والصديقين والعلماء وطبقات اهل العلم والايمان من هو خير من الملائكة وظهر من ابليس من هو شر العالمين فأخرج سبحانه هذا وهذا والملائكة لم يكن لها علم لا بهذا ولا بهذا ولا بما في خلق آدم واسكانه الارض من الحكم الباهرة الثاني انه سبحانه لما اراد اظهار تفضيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عليهم بالعلم فعلمه الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين جاء في التفسير انهم قالوا لن يخلق ربنا خلقا هو اكرم عليه منا فظنوا انهم خير وافضل من الخليفة الذي يجعله الله في الارض فلما امتحنهم بعلم ما علمه لهذا الخليفة اقروا بالعجز وجهل ما لم يعلموه فقالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم فحينئذ اظهر لهم فضل آدم بما خصه به من العلم فقال يا آدم انبئهم باسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم أقروا له بالفضل الثالث انه سبحانه لما ان عرفهم فضل آدم بالعلم وعجزهم عن معرفة ما علمه قال لهم الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فعرفهم سبحانه نفسه بالعلم وانه احاط علما بظاهرهم وباطنهم وبغيب السموات والارض فتعرف اليهم بصفة العلم وعرفهم فضل نبيه وكليمه بالعلم وعجزهم عما آتاه آدم من العلم وكفى بهذا شرفا للعلم الرابع انه سبحانه جعل في آدم

من صفات الكمال ما كان به افضل من غيره من المخلوقات وأراد سبحانه ان يظهر لملائكته فضله وشرفه فأظهر لهم احسن ما فيه وهو علمه فدل على ان العلم اشرف ما في الانسان وان فضله وشرفه إنما هو بالعلم ونظير هذا ما فعله بنبيه يوسف عليه السلام لما أراد اظهار فضله وشرفه على اهل زمانه كلهم اظهر للملك واهل مصر من علمه بتأويل رؤياه ما عجز عنه علماء التعبير فحينئذ قدمه ومكنه وسلم إليه خزائن الارض وكان قبل ذلك قد حبسه على ما رآه من حسن وجهه وجمال صورته ولما ظهر له حسن صورة علمه وجمال معرفته اطلقه من الحبس ومكنه في الارض فدل على ان صورة العلم عند بني آدم ابهى واحسن من الصورة الحسية ولو كانت اجمل صورة وهذا وجه مستقل في تفضيل العلم مضاف إلى ما تقدم فتم به ثلاثون وجها الوجه الحادي والثلاثون انه سبحانه ذم اهل الجهل في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى ولكن اكثرهم يجهلون وقال ولكن اكثرهم لا يعلمون وقال تعالى ام تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام بل هم اضل سبيلا فلم يقتصر سبحانه على تشبيه الجهال بالانعام حتى جعلهم اضل سبيلا منهم وقال ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون اخبر ان الجهال شر الدواب عنده على اختلاف اصنافها من الحمير والسباع والكلاب والحشرات وسائر الدواب فالجهال شر منهم وليس علي دين الرسل اضر من الجهال بل اعداؤهم على الحقيقة وقال تعالى لنبيه وقد اعاذه فلاتكونن من الجاهلين وقال كليمه موسى عليه الصلاة و السلام اعوذ بالله ان اكون من الجاهلين وقال لأول رسله نوح عليه السلام إني أعظك أن تكون من الجاهلين فهذه حال الجاهلين عنده والاول حال اهل العلم عنده واخبر سبحانه عن عقوبته لاعدائه انه منعهم علم كتابه ومعرفته وفقهه فقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وأمر نبيه بالاعراض عنهم فقال وأعرض عن الجاهلين واثنى على عباده بالاعراض عنهم ومتاركتهم كما في قوله وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا اعمالنا ولكم اعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وقال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وكل هذا يدل على قبح الجهل عنده وبغضه للجهل وأهله وهو كذلك عند الناس فإن كل احد يتبرا منه وإن كان فيهالوجه الثاني والثلاثون ان العلم حياة ونور والجهل موت وظلمة والشر كله سببه عدم الحياة والنور والخير كله سببه النور والحياة فإن النور يكشف عن حقائق الاشياء ويبين مراتبها والحياة هي المصححة لصفات الكمال الموجبة لتسديد الاقوال والاعمال فكلما تصرف من الحياة فهو خير كله كالحياء الذي سببه كمال حياة القلب وتصوره حقيقة القبح ونفرته منه وضده الوقاحة

والفحش وسببه موت القلب وعدم نفرته من القبيح وكالحياء الذي هو المطر الذي به حياة كل شيء قال تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كان ميتا بالجهل قلبه فأحياه بالعلم وجعل له من الايمان نورا يمشى به في الناس وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم اهل الكتاب ان لا يقدرون على شيء من فضل الله وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقال تعالى والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي إلى صراط مستقيم فأخبر انه روح تحصل به الحياة ونور يحصل به الاضاءة والاشراف فجمع بين الاصلين الحياة والنور وقال تعالى قد جاءكم من الله نوروكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم وقال تعالى فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي انزلنا والله بما تعمل ون خبير وقال تعالى يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا اليكم نورا مبينا وقال تعالى قد انزل الله اليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور وقال تعالى الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم فضرب سبحانه مثلا لنوره الذي قذفه في قلب المؤمن كما قال ابي بن كعب رضى الله عنه مثل نوره في قلب عبده المؤمن وهو نور القرآن والايمان الذي اعطاه إياه كما قال في آخر الآية نور على نور يعنى نور الايمان على نور القرآن كما قال بعض السلف يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وان لم يسمع فيها بالاثر فإذا سمع فيها بالاثر كان نورا على نور وقد جمع الله سبحانه بين ذكر هذين النورين وهما الكتاب والايمان في غير موضع من كتابه كقوله ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وقوله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضل الله الايمان ورحمته القرآن وقوله تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقد تقدمت هذه الايات وقال في آية النور نور على نور

وهو نور الايمان على نور القرآن وفي حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم ان الله ضرب مثلا صراطا مستقيما وعلى كتفي الصراط داران لهما ابواب مفتحة على الابواب ستور وداع يدعو على الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والابواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع احد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه رواه الترمذي وهذا لفظه والامام احمد ولفظه والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن فذكر الاصلين وهما داعي القرآن وداعي الايمان وقال حذيفة حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ان الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من الايمان ثم علموا من القرآن وفي الصحيحين من حديث ابي موسى الاشعري رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الاترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرولا ريح لها فجعل الناس اربعة اقسام اهل الايمان والقرآن وهم خيار الناس الثاني اهل الايمان الذين لا يقرءون القرآن وهم دونهم فهؤلاء هم السعداء والاشقياء قسمان احدهما من اوتى قرآنا بلا إيمان فهو منافق والثاني من لا اوتى قرآنا ولا إيمانا والمقصود ان القرآن والايمان هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده وأنهما اصل كل خير في الدنيا والاخرة وعلمهما اجل العلوم وافضلها بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبه الا علمهما والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم الوجه الثالث والثلاثون ان الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم اكلها وأباح صيد الكلب المعلم وهذا ايضا من شرف العلم انه لا يباح إلا صيد الكلب العالم واما الكلب الجاهل فلا يحل اكل صيده فدل على شرف العلم وفضله قال الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم قل احل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما امسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ان الله سريع الحساب ولولا مزية العلم والتعليم وشرفهما كان صيد الكلب المعلم والجاهل سواء الوجه الرابع والثلاثون ان الله سبحانه اخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوارة بيده وكلمه منه إليه انه رحل إلى رجل عالم يتعلم منه ويزداد علما إلى علمه فقال وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى ابلغ مجمع البحرين او امضى حقبا حرصا منه على لقاء هذا العالم وعلى التعلم منه فلما لقيه سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه وقال له هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا فبدأه بعد السلام بالاستئذان على متابعته وانه لا يتبعه إلا باذنه وقال على ان تعلمن مما علمت

رشدا فلم يجيء ممتحنا ولا متعلما وإنما جاء متعلما مستزيدا علما إلى علمه وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم فإن نبي الله وكليمه سافر ورحل حتى لقى النصب من سفره في تعلم ثلاث مسائل من رجل عالم ولما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه وطلب منه متابعته وتعليمه وفي قصتهما عبر وآيات وحكم ليس هذا موضع ذكرها الوجه الخامس والثلاثون قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ندب تعالى المؤمنين إلى التفقه في الدين وهو تعلمه وانذار قومهم إذا رجعوا اليهم وهو التعليم وقد اختلف في الاية فقيل المعنى ان المؤمنين لم يكونوا لينفروا كلهم للتفقه والتعلم بل ينبغي ان ينفر من كل فرقة منهم طائفة تتفقه تلك الطائفة ثم ترجع تعلم القاعدين فيكون النفير على هذا نفير تعلم والطائفة تقال على الواحد فما زاد قالوا فهو دليل على قبول خبر الواحد وعلى هذا نفير تعلم والطائفة تقال على الواحد فما زاد قالوا فهو دليل على قبول خير الواحد وعلى هذا حملها الشافعي وجماعة وقالت طائفة اخرى المعنى وما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد كلهم بل ينبغي ان تنفر طائفة للجهاد وفرقة تقعد تتفقه في الدين فإذا جاءت الطائفة التي نفرت فقهتها القاعدة وعلمتها ما انزل من الدين والحلال والحرام وعلى هذا فيكون قوله ليتفقهوا ولينذروا للفرقة التي نفرت منها طائفة وهذا قول الاكثرين وعلى هذا فالنفير نفير جهاد على اصله فإنه حيث استعمل إنما يفهم منه الجهاد قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وأنفسكم وقال النبي صلى الله عليه و سلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وهذا هو المعروف من هذه اللفظة وعلى القولين فهو ترغيب في التفقه في الدين وتعلمه وتعليمه فإن ذلك يعدل الجهاد بل ربما يكون افضل منه كما سيأتي تقريره في الوجه الثامن والمائة ان شاء الله تعالى الوجه السادس والثلاثون قوله تعالى والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر قال الشافعي رضى الله عنه لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم وبيان ذلك ان المراتب اربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله احداها معرفة الحق الثانية عمله به الثالثة تعليمه من لا يحسنه الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه فذكر تعالى المراتب الاربعة في هذه السورة واقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر ان كل احد في خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة اخرى وتواصوا بالحق وصى به بعضهم بعضا تعليما وارشادا فهذه مرتبة ثالثة وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة وهذانهاية الكمال فإن الكمال ان يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره وكماله باصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالايمان

وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه اياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل فهذه السورة على اختصارها هي من اجمع سور القرآن للخير بحذافيره والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه شافيا من كل داء هاديا إلى كل خير الوجه السابع والثلاثون انه سبحانه ذكر فضله ومنته على انبيائه ورسله واوليائه وعباده بما آتاهم من العلم فذكر نعمته على خاتم انبيائه ورسله بقوله وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وقد تقدمت هذه الاية وقال في يوسف ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وكذلك تجزى المحسنين وقال في كليمه موسى ولما بلغ اشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ولما كان الذي آتاه موسى من ذلك أمرا عظيما خصه به على غيره ولا يثبت له إلا الأقوياء أولو العزم هيأه له بعد أن بلغ أشده واستوى يعني تم كلمت قوته وقال في حق المسيح يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلىوالدتك إذ ايدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وقال في حقه ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل فجعل تعليمه مما بشر به امه واقر عينها به وقال في حق داود وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال في حق الخضر صاحب موسى وفتاه فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما فذكر من نعمه عليه تعليمه وما آتاه من رحمته وقال تعالى يذكر نعمته على داود وسليمان وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فذكر النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالحكم والعلم وخص بفهم القضية احدهما وقد ذكرت الحكمين الداوودي والسليماني ووجههما ومن صار من الائمةالى هذا ومن صار إلى هذا وترجيح الحكم السليماني من عدة وجوه وموافقته للقياس وقواعد الشرع في كتاب الاجتهاد والتقليد وقال تعالى قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا انتم ولا آباؤكم قل الله يعني الذي انزله جعل سبحانه تعليمهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم دليلا على صحة النبوة والرسالة إذ لا ينال هذا العلم إلا من جهة الرسل فكيف يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا من فضل العلم وشرفه وأنه دليل على صحة النبوة والرسالة والله الموفق للرشاد وقال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال تعالى هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم يعني وبعث في آخرين منهم لما يلحقوا بهم وقد اختلف في هذا اللحاق المنفي فقيل هو اللحاق في الزمان أي يتأخر زمانهم عنهم وقيل هو اللحاق في الفضل والسبق وعلى التقديرين فامتن عليهم سبحانه بان علمهم بعد الجهل وهداهم بعد الضلالة ويالها من منة عظيمة فاتت المنن وجلت ان يقدر العباد لها على ثمن الوجه الثامن والثلاثون ان اول سورة انزلها الله في كتابه سورة القلم فذكر فيها ما من به على الانسان من تعليمه ما لم يعلم فذكر فيها فضله بتعليمه وتفضيله الإنسان بما علمه اياه وذلك يدل على شرف التعليم والعلم فقال تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فافتتح السورة بالامر بالقراءة الناشئة عن العلم وذكر خلقه خصوصا وعموما فقال الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم وخص الانسان من بين المخلوقات لما اودعه من عجائبه وآياته الدالة على ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وكمال رحمته وانه لا إله غيره ولا رب سواه وذكر هنا مبدا خلقه من علق لكون العلقة مبدأ الاطوار التي انتقلت اليها النطفة فهي مبدأ تعلق التخليق ثم اعاد الأمر بالقراءة مخبرا عن نفسه بأنه الاكرم وهو الافعل من الكرم وهو كثرة الخير ولا احد أولى بذلك منه سبحانه فإن الخير كله بيديه والخير كله منه والنعم كلها هو موليها والكمال كله والمجد كله له فهو الاكرم حقا ثم ذكر تعليمه عموما وخصوصا فقال الذي علم بالقلم فهذا يدخل فيه تعليم الملائكة والناس ثم ذكر تعليم الانسان خصوصا فقال علم الإنسان ما لم يعلم فاشتملت هذه الكلمات على انه معطى الموجودات كلها بجميع اقسامها فان الوجود له مراتب اربعة احداها مرتبتها الخارجية المدلول عليها بقوله خلق المرتبة الثانية الذهنية المدلول عليها بقوله علم الانسان ما لم يعلم المرتبة الثالثة والرابعة اللفظية والخطية فالخطية مصرح بها في قوله الذي علم بالقلم واللفظية من لوازم التعليم بالقلم فإن الكتابة فرع النطق والنطق فرع التصور فاشتملت هذه الكلمات على مراتب الوجود كلها وانه سبحانه هو معطيها بخلقه وتعليمه فهو الخالق المعلم وكل شيء في الخارج فبخلقه وجد وكل علم في الذهن فبتعليمه حصل وكل لفظ في اللسان او خط في البنان فباقداره وخلقه وتعليمه وهذا من آيات قدرته وبراهين حكمته لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والمقصود انه سبحانه تعرف إلى عباده بما علمهم إياه بحكمته من الخط واللفظ والمعنى فكان العلم احد الادلة الدالة عليه بل من اعظمها وأظهرها وكفى بهذا شرفا وفضلا له الوجه التاسع والثلاثون انه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانا قال ابن عباس رضى الله عنه كل سلطان في القرآن فهو حجة وهذا كقوله تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الارض ان عندكم من سلطان بهذا اتقولون على الله

مالا تعلمون يعني ما عندكم من حجة بما قلتم ان هو الا قول على الله بلا علم وقال تعالى ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانا بل هي من تلقاء انفسكم وآبائكم وقال تعالى ام لكم سلطان مبين فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين يعني حجة واضحة فائتوا بها إن كنتم صادقين في دعواكم إلا موضعا واحدا اختلف فيه وهو قوله ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية فقيل المراد به القدرة والملك أي ذهب عني مالي وملكي فلا مال لي ولا سلطان وقيل هو على بابه أي انقطعت حجتي وبطلت فلا حجة لي والمقصود ان الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا لانها توجب تسلط صاحبها واقتداره فله بها سلطان على الجاهلين بل سلطان العلم اعظم من سلطان اليد ولهذا ينقاد الناس للحجة مالا ينقادون لليد فان الحجة تنقاد لها القلوب واما اليد فإنما ينقاد لها البدن فالحجة تأسر القلب وتقوده وتذل المخالف وان اظهر العناد والمكابرة فقلبه خاضع لها ذليل مقهور تحت سلطانها بل سلطان الجاه ان لم يكن معه علم يساس به فهو بمنزلة سلطان السباع والاسود ونحوها قدرة بلا علم ولا رحمة بخلاف سلطان الحجة فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة ومن لم يكن له اقتدار في علمه فهو اما لضعف حجته وسلطانه واما لقهر سلطان اليد والسيف له والا فالحجة ناصرة نفسها ظاهرة على الباطل قاهرة له الوجه الاربعون ان الله تعالى وصف اهل النار بالجهل واخبر انه سد عيهم طرق العلم فقال تعالى حكاية عنهم وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير فأخبروا انهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون والسمع والعقل هما اصل العلم وبهما ينال وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون فاخبر سبحانه انهم لم يحصل لهم علم من جهة من جهات العلم الثلاث وهي العقل والسمع والبصر كما قال في موضع آخر صم بكم عمي فهم لا يعقلون وقال تعالى افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى وجعلنالهم سمعا وابصارا وافئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن فقد وصف اهل الشقاء كما ترى بعدم العلم وشبههم بالانعام تارة وتارة بالحمار الذي يحمل الاسفار وتارة جعلهم اضل من الانعام وتارة جعلهم شر الدواب عنده وتارة جعلهم امواتا غير احياء وتارة اخبر انهم في ظلمات الجهل والضلال وتارة اخبر ان على قلوبهم اكنة وفي آذانهم وقرا وعلى ابصارهم غشاوة وهذا كله يدل على قبح الجهل وذم اهله وبغضه لهم كما انه يحب

اهل العلم ويمدحهم ويثنى عليهم كما تقدم والله المستعان الوجه الحادي والاربعون ما في الصحيحين من حديث معاوية رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وهذا يدل على ان من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيرا كما ان من اراد به خير افقهه في دينه ومن فقهه في دينه فقد اراد به خيرا إذا اريد بالفقه العلم المستلزم للعمل واما ان اريد به مجرد العلم فلا يدل على ان من فقه في الدين فقد اريد به خيرا فإن الفقه حينئذ يكون شرطا لارادة الخير وعلى الاول يكون موجبا والله اعلم الوجه الثاني والاربعون ما في الصحيحين ايضا من حديث ابي موسى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث اصاب ارضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها اجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا واصاب طائفة منها اخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك راسا ولم يقبل هدى الله الذي ارسلت به شبه صلى الله عليه و سلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والنافع والاغذية والادوية وسائر مصالح العباد فإنها بالعلم والمطر وشبه القلوب بالاراضي التي قع عليها المطر لانها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر انواع النبات النافع كما ان القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته ثم قسم الناس إلى ثلاثة اقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط احكامه واستخراج حكمه وفوائده احدها اهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه واستنبطوا وجوه الاحكام والحكم والفوائد منه فهؤلاء بمنزلة الارض التي قبلت الماء وهذا بمنزلة الحفظ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط فإنه بمنزلة انبات الكلأ والعشب بالماء فهذا مثل الحفاظ الفقهاء اهل الرواية والدراية القسم الثاني اهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه فهم بمنزلة من يقرا القرآن ويحفظه ويراعي حروفه واعرابه ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله كما قال على ابن ابي طالب رضى الله عنه إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله اعظم تفاوت فرب شخص يفهم من النص حكما او حكمين ويفهم منه الآخر مائة او مائتين فهؤلاء بمنزلة الارض التي امسكت الماء للناس فانتفعوا به هذا يشرب منه وهذا يسقى وهذا يزرع فهؤلاء القسمان هم السعداء والاولون ارفع درجة واعلى قدرا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم القسم الثالث الذين لا نصيب لهم منه لا حفظا ولا فهما ولا رواية ولا دراية بل هم بمنزلة

الارض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء وهؤلاء هم الاشقياء والقسمان الاولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قبله ووصل إليه فهذا يعلم الفاظ القرآن ويحفظها وهذا يعلم معانيه واحكامه وعلومه والقسم الثالث لا علم ولا تعليم فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله راسا ولم يقبلوه وهؤلاء شر من الانعام وهم وقود النار فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه وشقاء من ليس من اهله وذكر اقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم وتقسم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد وفيه دلالة على ان حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر بل اعظم وانهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الارض التي فقدت الغيث قال الامام احمد الناس محتاجون إلى العلم اكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لان الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة او مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الانفاس وقد قال تعالى انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي انزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم ثم شبه القلوب بالاودية فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا وقلب صغيرا إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء قليلا فقال فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا هذا مثل ضربة الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته فإنه يستخرج منها زبد الشبهات البالطة فيطفو على وجه القلب كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فقوق الماء وأخبر سبحانه انه راب يطفو ويعلو على الماء لايستقر في ارض الوادي كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطفت فلا تستقر فيه بل تجفى وترمى فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء وما يعقل عن الله امثاله إلا العالمون ثم ضرب سبحانه لذلك مثلا آخر فقال ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله يعني أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها فإنه يقذف ويلقى به ويستقر الجوهر الخالص وحده وضرب سبحانه مثلا بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة ومثلا بالنار لما فيها من الاضاءة والاشراف والاحراق فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الارض بالماء وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما يلقى فيها وتميز جيدها من زبدها كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبر والعلم قال الله تعالى وتلك

الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون الوجه الثالث والاربعون ما في الصحيحين ايضا من حديث سهل بن سعد رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعلي رضى الله عنه لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة اهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيرا له من حمر النعم وهي خيارها واشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس الوجه الرابع والاربعون ما روى مسلم في صحيحيه من حديث ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل اجور من تبعه لا ينقص ذلك من اجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا اخبر صلى الله عليه و سلم ان المتسبب إلى الهدى بدعوته له مثل اجر من اهتدى به والمتسبب إلى الضلالة بدعوته عليه مثل إثم من ضل به لان هذا بذل قدرته في هداية الناس وهذا بذل قدرته في ضلالتهم فنزل كل واحد منهما بمنزلة الفاعل التام وهذه قاعدة الشريعة كما هو مذكور في غير هذا الموضع قال تعالى ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون وقال تعالى وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم وهذا يدل على ان من دعا الامة إلى غير سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فهوعدوه حقا لانه قطع وصول اجر من اهتدى بسنته إليه وهذا من اعظم معاداته نعوذ بالله من الخذلان الوجه الخامس والاربعون ما خرجا في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها فاخبر صلى الله عليه و سلم انه لا ينبغي لاحد ان يحسد احدا يعني حسد غبطة ويتمنىمثل حاله من غير ان يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في واحدةمن هاتين الخصلتين وهي الاحسان إلى الناس بعلمه او بماله وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمنى مثل حاله لقلة منفعة الناس به الوجه السادس والاربعون قال الترمذي حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا سلمة بن رجاء حدثنا الوليد بن حميد حدثنا القاسم عن ابي امامة الباهلي قال ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان احدهما عالم والآخر عابد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فصل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان الله وملائكته واهل السموات والارض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير قال الترمذي هذا حديث حسن غريب سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث الخزاعي قال سمعت الفضيل بن عياض يقول عالم عامل معلم يدعى كبيرا في ملكوت السموات وهذا مروى عن الصحابة قال ابن عباس علماء هذه الامة رجلان فرجل اعطاه الله علما

فبذله للناس ولم يأخذ عليه صفدا ولم يشتر به ثمنا اولئك يصلى عليهم طير السماء وحيتان البحر ودواب الارض والكرام الكاتبون ورجل آتاه الله علما فضن به عن عباده واخذ به صفدا واشترى به ثمنا فذلك ياتي يوم القيامة يلجم بلجام من نار ذكره ابن عبد البر مرفوعا وفي رفعه نظر وقوله ان الله وملائكته واهل السموات والارض يصلون على معلم الناس الخير لما كان تعليمه للناس الخير سببا لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله بان جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته واهل الارض ما يكون سببا لنجاته وسعادته وفلاحه وأيضا فإن معلم الناس الخير لما كان مظهرا لدين الرب واحكامه ومعرفا لهم بأسمائه وصفاته جعل الله من صلاته وصلاة أهل سمواته وأرضه عليه ما يكون تنويها به وتشريفا له وإظهارا للثناء عليه بين اهل السماءوالارض الوجه السابع والاربعون ما رواه ابو داود والترمذي من حديث ابي الدرداء رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع اجنحتها رضا لطالب العلم وان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الارض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ان العلماء ورثة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن اخذه اخذ بحظ وافر وقد رواه الوليد بن مسلم عن خالد بن يزيد عن عثمان ابن ايمن عن ابي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من غدا لعلم يتعلمه فتح الله له به طريقا إلى الجنة وفرشت له الملائكة اكنافها وصلت عليه ملائكة السماء وحيتان البحر وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب والعلماء ورثة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن اخذ بالعلم اخذ بحظ وافر وموت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة نسد ونجم طمس وموت قبيلة ايسر من موت عالم وهذا حديث حسن والطريق التي يسلكها إلى الجنة جزاء على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصلة إلى رضا ربه ووضع الملائكة اجنحتها له تواضعا له وتوقيرا وإكراما لما يحمله من ميراث النبوة ويطلبه وهو يدل على المحبة والتعظيم فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضع اجنحتها له لأنه طالب لما به حياة العالم ونجاته ففيه شبه من الملائكةوبينه وبينهم تناسب فان الملائكة انصح خلق الله وانفعهم لبني آدم وعلى ايديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى ومن نفعهم لبني آدم ونصحهم انهم يستغفرون لمسيئهم ويثنون على مؤمنيهم ويعينونهم على اعدائهم من الشياطين ويحرصون على مصالح العبد اضعاف حرصه على مصلحة نفسه بل يريدون له من خير الدنيا والاخرة ما لا يريده العبد ولا يخطر بباله كما قال بعض التابعين وجدنا الملائكة انصح خلق الله لعباده ووجدنا الشياطين اغش الخلق للعباد وقال تعالى الذين يحملون

العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وادخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم إنك انت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم فأي نصح للعباد مثل هذا الا نصح الانبياء فإذا طلب العبد العلم فقد سعى في اعظم ما ينصح به عباد الله فلذلك تحبه الملائكة وتعظمه حتى تضع اجنحتها له رضا ومحبة وتعظيما وقال ابو حاتم الرازي سمعت ابن ابي اويس يقول سمعت مالك بن انس يقول معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم تضع اجنحتها يعني تبسطها بالدعاء لطالب العلم بدلا من الايدي وقال احمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة له حدثنا زكريا بن عبد الرحمن البصري قال سمعت احمد بن شعيب يقول كنا عند بعض المحدثين بالبصرة فحدثنا بحديث النبي صلى الله عليه و سلم ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم وفي المجلس معنا رجل من المعتزلة فجعل يستهزئ بالحديث فقال والله لاطرقن غدا نعلي بمسامير فأطأ بها أجنحة الملائكة ففعل ومشى في النعلين فجفت رجلاه جميعا ووقعت فيهما الاكلة وقال الطبراني سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي قال كنا نمشي في بعض ازقة البصرة إلى باب بعض المحدثين فاسرعنا المشي وكان معنا رجل ماجن منهم في دينه فقال ارفعوا ارجلكم عن اجنحة الملائكة لاتكسروها كالمستهزيء فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط وفي السنن والمسانيد من حديث صفوان ابن عسال بعسال قال قلت يا رسول الله إني جئت أطلب العلم قال مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم لتحف به الملائكة وتظله بأجنحتها فيركب بعضهم بعضا حتى تبلغ السماء الدنيامن حبهم لما يطلب وذكر حديث المسح على الخفين قال ابوعبد الله الحاكم اسناده صحيح وقال ابن عبد البر هو حديث صحيح حسن ثابت محفوظ مرفوع ومثله لا يقال بالرأي ففي هذا الحديث حف الملائكة له بأجنحتها إلى السماء وفي الاول وضعها اجنحتها له فالوضع تواضع وتوقير وتبجيل والحف بالاجنحة حفظ وحماية وصيانة فتضمن الحديثان تعظيم الملائكة له وحبها اياه وحياطته وحفظه فلو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظ الجزيل لكفى به شرفا وفضلا وقوله صلى الله عليه و سلم ان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الارض حتى الحيتان في الماء فإنه لما كان العالم سببا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع المهلكات وكان سعيه مفصورا على هذا وكانت نجاة العباد على يديه جوزي من جنس عمله وجعل من في السموات والأرض ساعيا في نجاته من اسباب الهلكات باستغفارهم له وإذا كانت الملائكة تستغفر للؤمنين فكيف لا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم وقد قيل ان من في السموات ومن في الارض المستغفرين

للعالم عام في الحيوانات ناطقها وبهيمها طيرها وغيره ويؤكد هذا قوله حتى الحيتان في الماء وحتى النملة في جحرها فقيل سبب هذا الاستغفار ان العالم يعلم الخلق مراعاة هذه الحيوانات ويعرفهم ما يحل منها وما يحرم ويعرفهم كيفية تناولها واستخدامها وركوبها والانتفاع بها وكيفية ذبحها على احسن الوجوه وارفقها بالحيوان والعالم اشفق الناس على الحيوان واقومهم ببيان ما خلق له وبالجملة فالرحمة والاحسان التي خلق بهما ولهما الحيوان وكتب لهما حظهما منه إنما يعرف بالعلم فالعالم معرف لذلك فاستحق ان تستغفر له البهائم والله أعلم وقوله وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب تشبيه مطابق لحال القمر والكواكب فان القمر يضيء الافاق ويمتد نوره في اقطار العالم وهذه حال العالم وأما الكوكب فنوره لا يجاوز نفسه او ما قرب منه وهذه حال العابد الذي يضيء نور عبادته عليه دون غيره وان جاوز نور عبادته غيره فإنما يجاوزه غير بعيد كما يجاوز ضوء الكوكب له مجاوزة يسيرة ومن هذا الاثر المروي إذا كان يوم القيامة يقول الله للعابد ادخل الجنة فإنما كانت منفعتك لنفسك ويقال للعالم اشفع تشفع فإنما كانت منفعتك للناس وروى ابن جريج عن عطاءعن ابن عباس رضى الله عنهما إذا كان يوم القيامة يؤتى بالعابد والفقيه فيقال للعابد ادخل الجنة ويقال للفقيه اشفع تشفع وفي التشبيه المذكور لطيفه اخرى وهو ان الجهل كالليل في ظلمته وجنسه والعلماء والعباد بمنزلة القمر والكواكب الطالعة في تلك الظلمة وفضل نور العالم فيها علىنور العابد كفضل نور القمر على الكواكب وأيضا فالدين قوامه وزينته واضاءته بعلمائه وعباده فإذا ذهب علماؤه وعباده ذهب الدين كما ان السماء اضاءتها وزينتها بقمرها وكواكبها فإذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها اتاها ماتوعد وفضل علماء الدين على العباد كفضل ما بين القمر والكواكب فإن قيل كيف وقع تشبيه العالم بالقمر دون الشمس وهي اعظم نورا قيل فيه فائدتان احداهما ان نور القمر لما كان مستفادا من غيره كان تشبيه العالم الذي نوره مستفاد من شمس الرسالة بالقمر اولى من تشبيهه بالشمس الثانية ان الشمس لا يختلف حالها في نورها ولا يلحقها محاق ولا تفاوت في الاضاءة واما القمر فإنه يقل نوره ويكثر ويمتليء وينقص كما ان العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلته فيفضل كل منهم في علمه بحسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه كما يكون القمر كذلك فعالم كالبدر ليلة تمه وآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وما بعدها إلى آخر مراتبه وهم درجات عند الله فإن قيل تشبيه العلماء بالنجوم أمر معلوم كقوله صلى الله عليه و سلم اصحابي كالنجوم ولهذا هي في تعبير الرؤيا عبارة عن العلماء فكيف وقع تشبيههم هنا بالقمر قيل اما تشبيه العلماء بالنجوم فإن النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكذلك العلماء والنجوم زينة للسماء

فكذلك العلماء زينة للآرض وهي رجوم للشياطين حائلة بينهم وبين استراق السمع لئلا يلبسوا بما يسترقونه من الوحي الوارد إلى الرسل من الله على ايدي ملائكته وكذلك العلماء رجوم لشياطين الانس والجن الذي يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فالعلماء رجوم لهذا الصنف من الشياطين ولولاهم لطمست معالم الدين بتلبيس المضلين ولكن الله سبحانه اقامهم حراسا وحفظه لدينه ورجوما لاعدائه واعداء رسله فهذا وجه تشبيههم بالنجوم وأما تشبههم بالقمر فذلك كان في مقام تفضيلهم على اهل العبادة المجردة وموازنة ما بينهما من الفضل والمعنى انهم يفضلون العباد الذين ليسوا بعلماء كما يفضل القمر سائر الكواكب فكل من التشبهين لائق بموضعه والحمد لله وقوله ان العلماء ورثة الانبياء هذا من اعظم المناقب لاهل العلم فإن الانبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته اذهم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما ارسلوا به الا العلماء كانوا احق الناس بميراثهم وفي هذا تنبيه على انهم اقرب الناس اليهم فإن الميراث إنا يكون لاقرب الناس إلى الموروث وهذا كما انه ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة والله يختص برحمته من يشاء وفيه ايضا ارشاد وامر للأمة بطاعهم واحترامهم وتعزيزهم وتوفيرهم وإجلالهم فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة وخلفاؤهم فيهم وفيه تنبيه على ان محبتهم من الدين وبغضهم مناف للدين كما هو ثابت لموروثهم وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم قال على كرم الله وجهه ورضى عنه محبة العلماء دين يدان به وقال صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه عز و جل من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وورثة الانبياء سادات اولياء لله عز و جل وفيه تنبيه للعلماء على سلوك هدى الانبياء وطريقتهم في التبليغ من الصبر والاحتمال ومقابلة إساءة الناس اليهم بالاحسان والرفق بهم واستجلابهم إلى الله باحسن الطرق وبذل ما يمكن من النصيحة لهم فإنه بذلك يحصل له نصيبهم من هذا الميراث العظيم قدره الجليل خطره وفيه ايضا تنبيه لاهل العلم علىتربية الامة كما يربى الوالد ولده فيبربونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره وتحميلهم منه ما يطيقون كما يفعل الاب بولده الطفل في ايصال الغذاء إليه فإن ارواح البشر بالنسبة إلى الانبياء والرسل كالاطفال بالنسبة إلى آبائهم بل دون هذه النسبة بكثير ولهذا كل روح لم تربها الرسل لم تفلح ولم تصلح لصالحه كما قيل
ومن لا يربيه الرسول ويسقه ... لبانا له قد در من ثدي قدسه فذاك لقيط ماله نسبة الولا ... ولا يتعدى طور ابناء جنسه
وقوله ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم هذا من كمال الانبياء وعظم

نصحهم للأمم وتمام نعمة الله عليهم وعلى اممهم ان ازاح جميع العلل وحسم جميع المواد التي توهم بعض النفوس ان الانبياء من وجنس الملوك الذين يريدون الدنيا وملكها فحماهم الله سبحانه وتعالى من ذلك اتم الحماية ثم لما كان الغالب على الناس ان احدهم يريد الدنيا لولده من بعده ويسعى ويتعب ويحرم نفسه لولده سد هذه الذريعة عن انبيائه ورسله وقطع هذا الوهم الذي عساه ان يخالط كثيرا من النفوس التي تقول فلعله ان لم يطلب الدنيا لنفسه فهو يحصلها لولده فقال صلى الله عليه و سلم نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركنا هو صدقة فلم تورث الانبياء دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم واما قوله تعالى وورث سليمان داود فهو ميراث العلم والنبوة لا غير وهذا باتفاق اهل العلم من المفسرين وغيرهم وهذا لان داود عليه السلام كان له اولاد كثيرة سوى سليمان فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمان مختصا به وأيضا فإن كلام الله يصان عن الاخبار بمثل هذا فإنه بمنزلة ان يقال مات فلان وورثه ابنه ومن المعلوم ان كل احد يرثه ابنه وليس في الاخبار بمثل هذا فائدة وأيضا فإن ما قبل الاية وما بعدها يبين ان المراد بهذه الوراثة وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال قال تعالى ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داوود وإنما سيق هذا لبيان فضل سليمان وما خصه الله به من كرامته وميراثه ما كان لابيه من اعلى المواهب وهو العلم والنبوة ان هذا لهو الفضل المبين وكذلك قول زكريا عليه الصلاة و السلام وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بني كريم انه يخاف عصبته ان يرثوه ماله فيسأل الله العظيم ولدا يمنعهم ميراثه ويكون احق به منهم وقد نزه الله انبياءه ورسله عن هذا وأمثاله فبعدا لمن حرف كتاب الله ورد على رسوله كلامه ونسب الانبياء إلى ما هم برآء منزهون عنه والحمد لله على توفيقه وهدايته ويذكر عن ابي هريرة رضى الله عنه انه مر بالسوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم فقال انتم ههنا فيما انتم فيه وميراث رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم في مسجده فقاموا سراعا إلى المسجد فلم يجدوا فيه الا القرآن والذكر ومجالس العلم فقالوا اين ما قلت يا أبا هريرة فقال هذا ميراث محمد صلى الله عليه و سلم يقسم بين ورثته وليس بمواريثكم ودنياكم او كما قال وقوله فمن اخذه اخذ بحظ وافر اعظم الحظوظ واجداها مانفع العبد ودام نفعه له وليس هذا الا حظه من العلم والدين فهو الحظ الدائم النافع الذي إذا انقطعت الحظوظ لاربابها فهو موصول له ابد الابدين وذلك لانه موصول بالحي الذي لا يموت فلذلك لاينقطع ولا يفوت وسائر الحظوظ تعدم وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها كما قال تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءمنثورا فإن الغاية لما كانت منقطعة زائلة تبعتها اعمالهم فانقطعت

عنهم احوج ما يكون العامل إلى عمله وهذه هي المصيبة التي لا تجبر عياذا بالله واستعانة به وافتقارا وتوكلا عليه ولا حول ولا قوة الا بالله وقوله موت العالم مصيبة لاتجبر وثلمة لا تسد ونجم طمس وموت قبيلة ايسر من موت عالم لما كان صلاح الوجود بالعلماء ولولاهم كان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا كان موت العالم مصيبة لا يجبرها الا خلف غيره له وأيضا فإن العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك فموتهم فساد لنظام العالم ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم خالفا عن سالف يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده وتأمل إذا كان في الوجود رجل قد فاق العالم في الغنى والكرم وحاجتهم إلى ما عنده شديدة وهو محسن اليهم بكل ممكن ثم مات وانقطعت عنهم تلك المادة فموت العالم اعظم مصيبة من موت مثل هذا بكثير ومثل هذا يموت بموته أمم وخلائق كما قيل :
تعلم ما الرزية فقد مال ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ... يموت بموته بشر كثير وقال آخر
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما والوجه الثامن والاربعون ما روى الترمذي من حديث الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيه اشد على الشيطان من الف عابد قال الترمذي غريب لانعرفه الا من هذا الوجه من حديث الوليد بن مسلم قلت قد رواه ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي اليقطيني حدثنا عمر بن سعيد بن سنان حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الخطيب والاول هو المحفوظ عن روح مجاهد عن ابن عباس وما أرى الوهم وقع في هذا الحديث إلا من ابي جعفر لان عمر بن سنان عنده عن هشام بن عمار عن الوليد عن روح عن الزهري عن سعيد حديث في السماء بيت يقال له البيت المعمور حيال الكعبة وحديث ابن عباس كانا في كتاب ابن سنان عن هشام يتلو احدهما الاخر فكتب ابو جعفر اسناد حديث ابي هريرة رضى الله عنه ثم عارضه لسهو اوزاغ نظره فنزل إلى متن حديث ابن عباس فركب متن هذا على اسناد هذا وكل واحد منهما ثقة مأمون برئ من تعمد الغلط وقد رواه ابو احمد بن عدي عن محمد بن سعيد بن مهران حدثنا شيبان ابو الربيع السمان عن ابي الزناد عن الاعرج عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لكل شيء دعامة ودعامة الاسلام الفقه في الدين والفقيه اشد على الشيطان من ألف

عابد ولهذا الحديث علة وهو انه روى من كلام ابي هريرة وهو اشبه رواه همام بن يحيى حدثنا يزيد بن عياض حدثنا صفوان بن سليم عن سليمان عن يسار عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما عبد الله بشيء افضل من فقه في الدين قال وقال ابو هريرة لان افقه ساعة احب الي من ان احيي ليلة اصليها حتى اصبح والفقيه اشد على الشيطان من ألف عابد ولكل شيء دعامة ودعامة الدين الفقه وقد روى باسناد فيه من لا يحتج به من حديث عاصم بن ابي النجودعن زر بن حبيش عن عمر بن الخطاب يرفعه ان الفقيه اشد على الشيطان من الف ورع وألف مجتهد والف متعبد وقال المزني روى عن ابن عباس انه قال ان الشياطين قالوا لابليس يا سيدنا مالنا نراك تفرح بموت العالم مالا تفرح بموت العابد والعالم لا نصيب منه والعابد نصيب منه قال انطلقوا فانطلقوا إلى عابد فاتوه في عبادته فقالوا إنا نريد ان نسألك فانصرف فقال ابليس هل يقدر ربك ان يجعل الدنيا في جوف بيضة فقال لا أدري فقال اترونه كفر في ساعة ثم جاؤوا إلى عالم في حلقته يضحك اصحابه ويحدثهم فقالوا إنا نريد ان نسألك فقال سل فقال هل يقدر ربك ان يجعل الدنيا في جوف بيضة قال نعم قالوا كيف قال يقول كن فيكون فقال أترون ذلك لا يعدو نفسه وهذا يفسد على عالما كثيرا وقد رويت هذه الحكاية على وجه آخر وإنهم سألوا العابد فقالوا هل يقدر ربك أن يخلق مثل نفسه فقال لاادري فقال اترونه لم تنفعه عبادته مع جهله وسألوا عن ذلك فقال هذه المسألة محال لأنه لو كان مثله لم يكن مخلوقا فكونه مخلوقا وهو مثل نفسه مستحيل فإذا كان مخلوقا لم يكن مثله بل كان عبدا من عبيده وخلقا من خلقه فقال أترون ذلك اترون هذا يهدم في ساعة ما ابنيه في سنين اوكما قال وروى عن عبد الله بن عمرو فضل العالم على العابد سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس سبعين عاما وذلك ان الشيطان يضع البدعة فيبصرها العالم وينهى عنها والعابد مقبل على عبادة ربه لا يتوجه لها ولا يعرفها وهذا معناه صحيح فإن العالم يفسد على الشيطان ما يسعى فيه ويهدم ما يبنيه فكل ما أراد إحياء بدعة وإماتة سنة حال العالم بينه وبين ذلك فلا شيء اشد عليه من بقاء العالم بين ظهراني الامة ولا شيء احب إليه من زواله من بين اظهرهم ليتمكن من إفساد الدين وإغواء الامة وأما العابد فغايته ان يجاهده ليسلم منه في خاصة نفسه وهيهات له ذلك الوجه التاسع والاربعون ما روى الترمذي من حديث ابي هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم قال الترمذي هذا حديث حسن ولما كانت الدنيا حقيرة عند الله لاتساوي لديه جناح بعوضة كانت وما فيها في غاية البعد منه وهذا هو حقيقة اللعنة وهو سبحانه إنما خلقها مزرعة للآخرة ومعبرا اليها يتزود منها عبادة إليه فلم يكن يقرب منها إلا ما كان متضمنا

لاقامة ذكره ومفضيا إلى محابه وهوالعلم الذي به يعرف الله ويعبد ويذكر ويثنى عليه ويمجد ولهذا خلقها وخلق اهلها كما قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون وقال الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما فتضمنت هاتان الايتان انه سبحانه إنما خلق السموات والارض وما بينهما ليعرف باسمائه وصفاته وليعبد فهذا المطلوب وما كان طريقا إليه من العلم والتعلم فهو المستثنى من اللعنة واللعنة واقعة على ما عداه إذ هو بعيد عن الله وعن محابه وعن دينه وهذا هو متعلق العقاب في الآخرة فإنه كما كان متعلق اللعنة التي تضمن الذم والبغض فهو متعلق العقاب والله سبحانه إنما يحب من عباده ذكره وعبادته ومعرفته ومحبته ولوازم ذلك وما افضى إليه وما عداه فهو مبغوض له مذموم عنده الوجه الخمسون ما رواه الترمذي من حديث ابي جعفر الرازي عن الربيع بن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع قال الترمذي هذا حديث حسن غريب رواه بعضهم فلم يرفعه وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله لان به قوام الاسلام كما ان قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد ولهذا كان الجهاد نوعين جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير والثاني الجهاد بالحجة والبيان وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الائمة وهو افضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة اعدائه قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلاتطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين وهو جهاد المنافقين ايضا فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوامعهم في الظاهر وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومعلوم ان جهاد المنافقين بالحجة والقرآن والمقصود ان سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله ولهذا قال معاذ رضى الله عنه عليكم بطلب العلم فإن تعلمه لله خشية ومدارسته عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد ولهذا قرن سبحانه بين الكتاب المنزل والحديد الناصر كما قال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب واميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين كما قيل :
فما هو إلا الوحي اوحدمرهف ... تميل ظباه اخدعا كل ما يل ... فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل ... ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيل الله فسر الصحابة رضى الله عنهم

قوله اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم بالامراء والعلماء فإنهم المجاهدون في سبيل الله هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بالسنتم بألسنتهم فطلب العلم وتعليمه من اعظم سبيل الله عز و جل قال كعب الاحبار طالب العلم كالغادي الرايح في سبيل الله عز و جل وجاء عن بعض الصحابة رضى الله عنهم إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد وقال سفيان بن عيينة من طلب العلم فقد بايع الله عز و جل وقال ابو الدرداء من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في عقله ورأيه الوجه الحادي والخمسون ما رواه الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا ابو اسامة عن الاعمش عن ابي صالح عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة قال الترمذي هذا حديث حسن قال بعضهم ولم يقل في هذا الحديث صحيح لانه يقال دلس الاعمش في هذا الحديث لانه رواه بعضهم فقال حدثت عن ابي صالح والحديث رواه مسلم في صحيحه من اوجه عن الاعمش عن ابي صالح قال الحاكم في المستدرك هو صحيح على شرط البخاري ومسلم رواه عن الاعمش جماعة منهم زايدة وأبو معاوية وابن نمير وقد تقدم حديث ابي الدرداء في ذلك والحديث محفوظ وله اصل وقد تظاهر الشرع والقدر على ان الجزاء من جنس العمل فكما سلك طريقا يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك سلك الله به طريقا يحصل له ذلك وقد روى من حديث عائشة رواه ابن عدي من حديث محمد بن عبد الملك الانصاري عن الزهري عن عروة عنها مرفوعا ولفظه اوحى الله إلى انه من سلك مسلكا يطلب العلم سهلت له طريقا إلى الجنة الوجه الثاني الخمسون ان النبي صلى الله عليه و سلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه ففي الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال نضر الله امرا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو افقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم اخلاص العمل لله ومناصحة ائمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم وروى هذا الاصل عن النبي صلى الله عليه و سلم ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وجبير بن مطعم وانس بن مالك وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير قال الترمذي حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح وحديث زيد بن ثابت حديث حسن وأخرج الحاكم في صحيحه حديث جبير بن مطعم والنعمان بن بشير وقال في حديث جبير على شرط البخاري ومسلم ولو لم يكن في فضل العلم الا هذا وحده لكفى به شرفا فإن النبي صلى الله عليه و سلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه وهذه هي مراتب العلم اولها وثانيها سماعه وعقله فإذا سمعه وعاه بقلبه أي عقله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه

وكذلك عقله هو بمنزلة عقل البعير والدابة ونحوها حتى لا تشرد وتذهب ولهذا كان الوعي والعقل قدرا زائدا على مجرد إدراك المعلوم المرتبة الثالثة تعامده وحفظه حتى لاينساه فيذهب المرتبة الرابعة تبليغه وبثه في الامة ليحصل به ثمرته ومقصوده وهو بثه في الامة فهو بمنزلة الكنز المدفون في الارض الذي لا ينفق منه وهو معرض لذهابه فإن العلم ما لم ينفق منه ويعلم فإنه يوشك ان يذهب فإذا انفق منه نما وزكا على الانفاق فمن قام بهذه المراتب الاربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن فإن النضرة هي البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الايمان وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارة على الوجه ولهذا يجمع له سبحانه بين البهجة والسرور والنضرة كما في قوله تعالى فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا فالنضرة في وجوههم والسرور في قلوبهم فالنعيم وطيب القلب يظهر نضارة في الوجه كما قال تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم والمقصود ان هذه النضرة في وجه من سمع سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ووعاها وحفظها وبلغها فهي اثر تلك الحلاوة والبهجة والسرور الذي في قلبه وباطنه وقوله صلى الله عليه و سلم رب حامل فقه إلى من هو افقه منه تنبيه على فائدة التبليغ وان المبلغ قد يكون افهم من المبلغ فيحصل له في تلك المقالة ما لم يحصل للمبلغ او يكون المعنى ان المبلغ قد يكون افقه من المبلغ فإذا سمع تلك المقالة حملها على احسن وجوهها واستنبط فقهها وعلم المراد منها وقوله صلى الله عليه و سلم ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إلى آخره اي لايحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة فإنها تنفى الغل والغش وهو فساد القلب وسخايمه فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة لانه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل والغش كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فلما اخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء فانصرف عنه السوء والفحشاء ولهذا لما علم ابليس انه لا سبيل له على اهل الاخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والاهلاك فقال فبعزتك لاغوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فالاخلاص هو سبيل الخلاص والإسلام هو مركب السلامة والايمان خاتم الامان وقوله ومناصحة ائمة المسلمين هذا ايضا مناف للغل والغش فإن النصيحة لا تجامع الغل إذ هي ضده فمن نصح الائمة والامة فقد برئ من الغل وقوله ولزوم جماعتهم هذا ايضا مما يطهر القلب من الغل والغش فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها ويسوؤه ما يسؤوهم ويسره ما يسرهم وهذا بخلاف من انجاز عنهم واشتغل بالطعن

عليهم والعيب والذم لهم كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم فإن قلوبهم ممتلئة نحلا وغشا ولهذا تجد الرافضة ابعد الناس من الاخلاص اغشهم للائمة والامة واشدهم بعدا عن جماعة المسلمين فهؤلاء اشد الناس غلا وغشا بشهادة الرسول والامة عليهم وشهادتهم على انفسهم بذلك فانهم لايكونون قط الا اعوانا وظهرا على اهل الاسلام فاي عدو قام للمسلمين كانوا اعوان ذلك العدو وبطانته وهذا امر قد شاهدته الامة منهم ومن لم يشاهد فقد سمع منه ما يصم الاذان ويشجي القلوب وقوله فإن دعوتهم تحيط من ورائهم هذا من احسن الكلام وأوجزه وافخمه معنى شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم المانع من دخول عدوهم عليهم فتلك الدعوة التي هي دعوة الاسلام وهم داخلونها لما كانت سورا وسياجا عليهم اخبر ان من لزم جماعة المسلمين احاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الاسلام كما احاطت بهم فالدعوة تجمع شمل الامة وتلم شعثها وتحيط بها فمن دخل في جماعتها احاطت به وشملته الوجه الثالث والخمسون ان النبي صلى الله عليه و سلم امر بتبليغ العلم عنه ففي الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وقال ليبلغ الشاهد منكم الغائب روى ذلك ابو بكرة ووابصة بن معبد وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس واسماء بنت يزيد بن السكن وحجير وابو قريع وسرى بنت نبهان ومعاوية بن حيدة القشيري وعم ابي حرة وغيرهم فأمر صلى الله عليه و سلم بالتبلغ عنه لما في ذلك من حصول الهدى بالتبلغ وله صلى الله عليه و سلم اجر من بلغ عنه واجر من قبل ذلك البلاغ وكلما كثر التبلغ عنه تضاعف له الثواب فله من الاجر بعدد كل مبلغ وكل مهتد بذلك البلاغ سوى ماله من اجر عمله المختص به فكل من هدى واهتدى بتبليغه فله اجره لانه هو الداعي إليه ولو لم يكن في تبليغ العلم عنه الا حصول ما يحبه صلى الله عليه و سلم لكفى به فضلا وعلامة المحب الصادق ان يسعى في حصول محبوب محبوبه ويبذل جهده وطاقته فيها ومعلوم انه لا شيء احب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من ايصاله الهدى إلى جميع الامة فالمبلغ عنه ساع في حصول محابه فهو اقرب الناس منه واحبهم إليه وهو نائبه وخليفته في امته وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم واهله الوجه الرابع والخمسون ان النبي صلى الله عليه و سلم قدم بالفضائل العلمية في أعلا الولايات الدينية واشرفها وقدم بالعلم بالافضل على غيره فروى مسلم في صحيحه من حديث ابي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه و سلم يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فاقدمهم إسلاما او سنا وذكر الحديث فقدم في الامامة تفضيله العلم علىتقدم الاسلام والهجرة ولما كان

العلم بالقرآن افضل من العلم بالسنة لشرف معلومه على معلوم السنة قدم العلم به ثم قدم العلم بالسنة على تقدم الهجرة وفيه من زيادة العمل ماهو متميز به لكن إنما راعى التقديم بالعلم ثم بالعمل وراعى التقديم بالعلم بالافضل على غيره وهذا يدل على شرف العلم وفضله وإن اهله هم اهل التقدم إلى المراتب الدينية الوجه الخامس والخمسون ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها وتعلم معانيه وتعليمها وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود واللفظ وسيلة إليه فنعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما كما بين الغايات والوسائل الوجه السادس والخمسون ما رواه الترمذي وغيره في نسخة عمرو ابن الحارث عن دراج عن ابي الهيثم عن ابي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وهذه نسخةمعروفة رواها الناس وساق احمد في المسند أكثرها او كثيرا منها ولهذا الحديث شواهد فجعل النبي صلى الله عليه و سلم النهمة في العلم وعدم الشبع منه من لوازم الايمان واوصاف المؤمنين واخبر ان هذا لا يزال دأب المؤمن حتى دخوله الجنة ولهذا كان أئمة الاسلام إذا قيل لاحدهم إلى متى تطلب العلم فيقول إلى الممات قال نعيم ابن حماد سمعت عبد الله بن المبارك رضى الله عنه يقول وقد عابه قوم في كثرة طلبه للحديث فقالوا له إلى متى تسمع قال إلى الممات وقال الحسين بن منصور الخصاص قلت لاحمد بن حنبل رضى الله عنه إلى متى يكتب الرجل الحديث قال إلى الموت وقال عبد الله بن محمد البغوي سمعت احمد بن حنبل رضى الله عنه يقول إنما اطلب العلم إلى ان ادخل القبر وقال محمد بن إسماعيل الصائغ كنت اصوغ مع ابي ببغداد فمر بنا احمد بن حنبل وهو يعدو ونعلاه في يديه فأخذ ابي بمجامع ثوبه فقال يا ابا عبد الله الا تستحي إلى متى تعدو مع هؤلاء قال إلى الموت وقال عبد الله بن بشر الطالقاني ارجو ان يأتيني أمر ابي والمحبرة بين يدي ولم يفارقني العلم والمحبرة وقال حميد بن محمد بن يزيد البصري جاء ابن بسطام الحافظ يسألني عن الحديث فقلت له ما اشد حرصك على الحديث فقال او ما احب ان اكون في قطار آل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل لبعض العلماء متى يحسن بالمرء ان يتعلم قال ما حسنت به الحياة وسئل الحسن عن الرجل له ثمانون سنة ايحسن ان يطلب العلم قال إن كان يحسن به ان يعيش الوجه السابع والخمسون ما رواه الترمذي ايضا من حديث إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن ابي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها قال الترمذي هذا

حديث غريب لانعرفه الا من هذا الوجه وإبراهيم ابن الفضل المديني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه وهذا ايضا شاهد لما تقدم وله شواهد والحكمة هي العلم فإذا فقده المؤمن فهو بمنزلة من فقد ضالة نفيسة من نفائسه فإذا وجدها قر قلبه وفرحت نفسه بوجدانها كذلك المؤمن إذا وجد ضالة قلبه وروحه التي هو دائما في طلبها ونشدانها والتفتيش عليها وهذا من احسن الامثلة فإن قلب المؤمن يطلب العلم حيث وجده اعظم من طلب صاحب الضالة لها الوجه الثامن والخمسون قال الترمذي حدثنا ابو كريب حدثنا خلف بن ايوب عن عوف عن ابن سيرين عن ابي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم خصلتان لا يجتمعان في منافق حسن سمت وفقه في الدين قال الترمذي هذا حديث غريب ولا يعرف هذا الحديث من حديث عوف الا من حديث هذا الشيخ خلف بن أيوب العامري ولم أر احدا يروى عنه غير ابي كريب محمد بن العلاء ولا أدري كيف هو وهذه شهادة بان من اجتمع فيه حسن السمت والفقه في الدين فهو مؤمن واحرى بهذا الحديث ان يكون حقا وإن كان اسناده فيه جهالة فان حسن السمت والفقه في الدين من اخص علامات الايمان ولن يجمعهما الله في منافق فان النفاق ينافيهما وينافيانه الوجه التاسع والخمسون قال الترمذي حدثنا مسلم ابن حاتم الانصاري حدثنا ابوحاتم البصري حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري عن ابيه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال قال انس بن مالك رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بني ان قدرت ان تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لاحد فافعل ثم قال يا بني وذلك من سنتي ومن احيا سنتي فقد احبني ومن احبني كان معي في الجنة وفي الحديث قصة طويلة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ومحمد بن عبد الله الانصاري صدوق وابوه ثقة وعلي بن زيد صدوق الا انه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره سمعت محمد بن بشارة يقول قال ابو الوليد قال شعبة حدثنا على بن زيد وكان رفاعا قال الترمذي ولا يعرف لسعيد من السميب عن انس رواية الا هذا الحديث بطوله وقد روى عباد المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن انس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب وذاكرت به محمد بن اسمعيل فلم يعرفه ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن انس هذا الحديث ولا غيره ومات انس سنة ثلاث وتسعين وسعيد بن المسيب سنة خمس وتسعين بعده بسنتين قلت ولهذا الحديث شواهد منها ما رواه الدارمي عبد الله حدثنا محمد بن عيينة عن مروان بن معاوية الفزاري عن كثير ابن عبد الله عن ابيه عن جده ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لبلال بن الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول الله قال اعلم يا بلال قال ما اعلم يا رسول الله قال انه من احيا سنة من سنني قد اميتت بعدي كان له من الاجر مثل من عمل بها من غير ان ينقص من اجورهم شيء ومن ابتدع

بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من اوزار الناس شيئا رواه الترمذي عنه وقال حديث حسن قال ومحمد بن عيينة مصيصي شامي وكثير ابن عبد الله هو ابن عمرو بن عوف المزني وفي حديثه ثلاثة اقوال لاهل الحديث منهم من يصححه ومنهم من يحسنه وهما للترمذي ومنهم من يضعفه ولا يراه حجة كالامام احمد وغيره ولكن هذا الاصل ثابت من وجوه كحديث من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل احور من اتبعه وهو صحيح من وجوه وحديث من دل على خير فله مثل اجر فاعله وهو حديث حسن رواه الترمذي وغيره فهذا الاصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه و سلم فالحديث الضعيف فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات فلا يضر ذكره الوجه الستون ان النبي صلى الله عليه و سلم اوصى بطلبه العلم خيرا وما ذاك الا لفضل مطلوبهم وشرفه قال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابو داود الحفري عن سفيان عن ابي هرون قال كنا نأتي ابا سعيد فيقول مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه و سلم ان النبي صلى الله عليه و سلم قال ان الناس لكم تبع وان رجالا يأتونكم من اقطار الارض يتفقهون في الدين فإذا اتوكم فاستوصوا بهم خيرا حدثنا قتيبة حدثنا روح بن قيس عن ابي هرون العبدي عن ابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون فإذا جاؤكم فاستوصوا بهم خيرا فكان ابو سعيد إذا رآنا قال مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الترمذي هذا حديث لانعرفه الا من حديث ابي هرون العبدي عن ابي سعيد قال ابو بكر العطار قال علي ابن المديني قال يحيى بن سعيد كان شعبة يضعف ابا هرون العبدي قال يحيى وما زال ابن عوف يروى عن ابي هرون حتى مات وأبو هرون اسمه عمارة بن جوين الوجه الحادي والستون ما رواه الترمذي من حديث ابي داود عن عبد الله بن سنحبرة عن سنحبرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من طلب العلم كان كفارة لما مضى هذا الاصل لم اجد فيه الا هذا الحديث وليس بشيء فان ابا داود هو نفيع الاعمى غير ثقة ولكن قد تقدم ان العالم يستغفر له من في السموات ومن في الارض وقد رويت آثار عديدة عن جماعة من الصحابة في هذا المعنى منها ما رواه الثوري عن عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عباس ان ملكا موكلا بطالب العلم حتى يرده من حيث ابداه مغفورا له ومنها ما رواه قطر بن خليفة عن ابي الطفيل عن علي ما انتعل عبد قط ولا تخفف ولا لبس ثوبا ليغدو في طلب العلم إلا غفرت ذنوبه حيث يخطو عند باب بيته وقد رواه ابن عدي مرفوعا وقال ليس يرويه عن قطر غير اسمعيل ابن يحيى التميمي قلت وقد رواه اسمعيل بن يحيى هذا عن الثوري حدثنا محمد بن ايوب الجوزجاني عن مجالد عن الشعبي عن الاسود عن عائشة مرفوعا من انتعل ليتعلم خيرا غفر له قبل ان

يخطو وقد رواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن قطر عن ابي الطفيل عن علي وهذه الاسانيد وان لم تكن بمفردها حجة فطلب العلم من افضل الحسنات والحسنات يذهبن السيئات فجدير ان يكون طلب العلم ابتغاء وجه الله يكفر ماضي من السيئات فقد دلت النصوص ان اتباع السيئة الحسنة تمحوها فكيف بما هو من افضل الحسنات واجل الطاعات فالعمدة على ذلك لاعلى حديث ابي داود والله اعلم وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبال تهامة فإذا سمع العلم خاف ورجع وتاب فانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلاتفارقوا مجالس العلماء الوجه الثاني والستون ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله تعالى ويسألونه فقال كلا المجلسين إلى خير اماهؤلاء فيدعون الله وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل هؤلاء افضل بالتعليم ارسلت ثم قعد معهم الوجه الثالث والستون ان الله تبارك وتعالى يباهي ملائكته بالقوم الذين يتذاكرون العلم ويذكرون الله ويحمدونه علىما من عليهم به منه قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار حدثنا ابو نعامة عن ابي عثمان عن ابي سعيد قال خرج معاوية إلى المسجد فقال م يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله عز و جل قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني لم استحلفكم تهمة لكم وما كان احد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه و سلم اقل حديثا عنه مني ان رسول الله ص عليه وآله وسلم خرج على حلقة من اصحابه قال ما يجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للاسلام ومن علينا بك قال الله ما اجلسكم إلا ذلك قالوا الله ما اجلسنا إلا ذلك قال أما إني لم استحلفكم تهمة لكم انه اتاني جبريل فأخبرني ان الله تعالى يباهي بكم الملائكة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه الا من هذا الوجه وابو نعامة السعدي اسمه عمرو بن عيسى وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدون الله بذكر اوصافه وآلائه ويثنون عليه بذلك ويذكرون حسن الإسلام ويعترفون لله بالفضل العظيم إذ هداهم له ومن عليهم برسوله وهذا اشرف علم على الاطلاق ولا يعني به الا الراسخون في العلم فإنه يتضمن معرفة الله وصفاته وافعاله ودينه ورسوله ومحبة ذلك وتعظيمه والفرح به وأحرى بأصحاب هذا العلم ان يباهي الله بهم الملائكة وقد بشر النبي صلى الله عليه و سلم الرجل الذي كان يحب سورة الاخلاص وقال احبها لانها صفة الرحمن عز و جل فقال حبك اياها ادخلك الجنة وفي لفظ آخر اخبروه ان الله يحبه فدل على ان من احب صفات الله احبه الله وأدخله الجنة والجهمية اشد الناس نفرة وتنفيرا عن صفاته ونعوت كماله يعاقبون ويذمون من

يذكرها ويقرؤها ويجمعها ويعتني بها ولهذا لهم المقت والذم عند الامة وعلى لسان كل عالم من علماء الاسلام والله تعالى اشد بغضا ومقتا لهم جزاء وفاقا الوجه الرابع والستون ان افضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة فالله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس وكيف لا يكون افضل الخلق عند الله من جعلهم وسائط بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وتعريف اسمائه وصفاته وأفعاله واحكامه ومراضيه ومساخطه وثوابه وعقابه وخصهم بوحيه واختصهم بتفضيله وارتضاهم لرسالته إلى عباده وجعلهم ازكى العالمين نفوسا واشرفهم اخلاقا واكملهم علوما واعمالا واحسنهم خلقة واعظمهم محبة وقبولا في قلوب الناس وبرأهم من كل وصم وعيب وكل خلق دنيء وجعل اشرف مراتب الناس بعدهم مرتبة خلافتهم ونيابتهم في اممهم فانهم يخلفونهم على منهاجهم وطريقهم من نصيحتهم للأمة وارشادهم الضال وتعليمهم الجاهل ونصرهم المظلوم واخذهم على يد الظالم وامرهم بالمعروف وفعله ونهيهم عن المنكر وتركه والدعوة إلى الله بالحكمة للمستجيبين والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين والجدال بالتي هي احسن للمعاندين المعارضين فهذه حال اتباع المرسلين وورثه النبيين قال تعالى قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسواء كان المعنى أنا ومن اتبعني على بصيرة وانا ادعو إلى الله او المعنى ادعو إلى الله على بصيرة والقولان متلازمان فإنه لا يكون من اتباعه حقا إلا من دعا إلى الله على بصيرة كما كان متبوعه يفعل صلى الله عليه و سلم فهؤلاء خلفاء الرسل حقا وورثتهم دون الناس وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به علما وعملا وهداية وارشادا وصبرا وجهادا وهؤلاء هم الصديقون وهم افضل اتباع الانبياء ورأسهم وإمامهم الصديق الاكبر ابو بكر رضى الله عنه قال الله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما فذكر مراتب السعداء وهي اربعة وبدأ باعلاهم مرتبة ثم الذين يلونهم إلى آخر المراتب وهؤلاء الاربعة هم اهل الجنة الذين هم اهلها جعلنا الله منهم بمنه وكرمه الوجه الخامس والستون ان الانسان إنما يميز على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان وإلا فغيره من الدواب والسباع أكثر أكلا منه واقوى بطشا وأكثر جماعا واولادا واطول اعمارا وإنما ميز على الدواب والحيوانات بعلمه وبيانه فإذا عدم العلم بقى معه القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب وهي الحيوانية المحضة فلا يبقى فيه فضل عليهم بل قد يبقى شرا منهم كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون فهؤلاء هم الجهال ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أي ليس عندهم محل قابل للخير ولو كان محلهم قابلا للخير لاسمعهم أي

لافهمهم والسمع ههنا سمع فهم والا فسمع الصوت حاصل لهم وبه قامت حجة الله عليهم قال تعالى ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وقال تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بمالا يسمع الا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون وسواء كان المعنى ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع من الدواب إلا اصواتا مجردة او كان المعنى ومثل الذين كفروا حين ينادون كمثل دواب الذي ينعق بها فلا تسمع الا صوت الدعاء والنداء فالقولان متلازمان بل هما واحد وإن كان التقدير الثاني اقرب إلى اللفظ وأبلغ في المعنى فعلى التقديرين لم يحصل لهم من الدعوة إلا الصوت الحاصل للأنعام فهؤلاء لم يحصل لهم حقيقة الانسانية التي يميز بها صاحبها عن سائر الحيوان والسمع يراد به ادراك الصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به القبول والاجابة والثلاثة في القرآن فمن الاول قوله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير وهذا اصرح ما يكون في إثبات صفة السمع ذكر الماضي والمضارع واسم الفاعل سمع ويسمع وهو سميع وله السمع كما قالت عائشة رضى الله عنها الحمد لله الذي وسع سمعه الاصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا في جانب البيت وأنه ليخفى على بعض كلامها فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها والثاني سمع الفهم كقوله ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أي لافهمهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون لما في قلوبهم من الكبر والاعراض عن قبول الحق ففيهم آفتان إحداهما انهم لا يفهمون الحق لجهلهم ولو فهموه لتولوا عنه وهم معرضون عنه لكبرهم وهذا غاية النقص والعيب والثالث سمع القبول والاجابة كقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي قابلون مستجيبون ومنه قوله سماعون للكذب أي قابلون له مستجيبون لاهله ومنه قول المصلى سمع الله لمن حمده أي اجاب الله حمد من حمده ودعاء من دعاه وقول النبي صلى الله عليه و سلم إذا قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم أي يجيبكم والمقصود ان الانسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيرا منه لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الانسان الجاهل الوجه السادس والستون إن العلم حاكم علىما سواه ولا يحكم عليه شيء فكل شيء اختلف في وجوده وعدمه وصحته وفساده ومنفعته ومضرته ورجحانه ونقصانه وكماله ونقصه ومدحه وذمه ومرتبته في الخير وجودته ورداءته وقربه وبعده وإفضائه إلىمطلوب كذا وعدم إفضائه وحصول المقصود به وعدم حصوله إلى سائر جهات المعلومات فإن العلم حاكم على ذلك كله فإذا حكم العلم انقطع النزاع ووجب الاتباع وهو الحاكم على الممالك والسياسات والاموال

والاقلام فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم وسيف بلا علم مخراق لاعب وقلم بلا علم حرمة حركةعابث والعلم مسلط حاكم على ذلك كله ولا يحكم شيء من ذلك على العلم وقد اختلف في تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء وعكسه وذكر لكل قول وجوه من التراجيح والادلة ونفس هذا النزاع دليل على تفضيل العلم ومرتبته فإن الحاكم في هذه المسئلة هو العلم فيه واليه وعنده يقع التحاكم والتخاصم والمفضل منهما من حكم له بالفضل فإن قيل فكيف يقبل حكمه لنفسه قيل وهذا ايضا دليل على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه فإن الحاكم إنما لم يسغ ان يحكم لنفسه لاجل مظنة التهمة والعلم تلحقه تهمة في حكمه لنفسه فإنه إذا حكم حكم بما تشهد العقول والنظر بصحته وتتلقاه بالقبول ويستحيل حكمه لتهمة فإنه إذا حكم بها انعزل عن مرتبته وانحط عن درجته فهو الشاهد المزكي العدل والحاكم الذي لا يجور ولا يعزل فإن قيل فماذا حكمه في هذه المسئلة التي ذكرتموها قيل هذه المسئلة كثر فيها الجدال واتسع المجال وأدلى كل منهما بحجته واستعلى بمرتبته والذي يفصل النزاع ويعيد المسالة إلىمواقع الاجماع الكلام في أنواع مراتب الكمال وذكر الافضل منهما والنظر في أي هذين الامرين اولى به واقرب إليه فهذه الاصول الثلاثة تبين الصواب ويقع بها فصل الخطاب فاما مراتب الكمال فاربع النبوة والصديقية والشهادة والولاية وقد ذكرها الله سبحانه في قوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما وذكر تعالى هؤلاء الاربع في سورة الحديد فذكر تعالى الايمان به وبرسوله ثم ندب المؤمنين إلى ان تخشع قلوبهم لكتابه ووحيه ثم ذكر مراتب الخلائق شقيهم وسعيدهم فقال إن المصدقين والمصدقات واقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم اجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداءعند ربهم لهم اجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب الجحيم وذكر المنافقين قبل ذلك فاستوعبت هذه الاية اقسام العباد شقيهم وسعيدهم والمقصود انه ذكر فيها المراتب الاربعة الرسالة والصديقية والشهادة والولاية فأعلا هذه المراتب النبوة والرسالة ويليها الصديقية فالصديقون هم أئمة اتباع الرسل ودرجتهم اعلا الدرجات بعد النبوة فإن جرى قلم العالم بالصديقية وسال مداده بها كان افضل من دم الشهيد الذي لم يحلقه في رتبة الصديقية وان سال دم الشهيد بالصديقية وقطر عليها كان افضل من مداد العالم الذي قصر عنها فافضلهما صديقهما فان استويا في الصديقية استويا في المرتبة والله اعلم والصديقية هي كمال الايمان بما جاء به الرسول علما وتصديقا وقياما فهي راجعة إلى نفس العلم فكل من كان اعلم بما جاء به الرسول واكمل تصديقا له كان اتم صديقية فالصديقية شجرة اصولها العلم وفروعها التصديق وثمرتها العمل فهذه كلمات

جامعة في مسئلة العالم والشهيد وايهما افضل الوجه السابع والستون ان النصوص النبوية قد تواترت بان افضل الاعمال إيمان بالله فهو رأس الامر والاعمال بعده على مراتبها ومنازلها والايمان له ركنان احدهما معرفة ما جاء به الرسول والعلم به والثاني تصديقه بالقول والعمل والتصديق بدون العلم والمعرفة محال فإنه فرع العلم بالشيء المصدق به فإذا العلم من الايمان بمنزلة الروح من الجسد ولاتقوم شجرة الايمان الا على ساق العلم والمعرفة فالعلم إذا اجل المطالب واسنى المواهب الوجه الثامن والستون ان صفات الكمال كلها ترجع إلى العلم والقدرة والارادة والارادة فرع العلم فإنهاتستلزم الشعور بالمراد فهي مفتقرة إلى العلم في ذاتها وحقيقتها والقدرة لا تؤثر إلا بواسطة الارادة والعلم لايفتقر في تعلقه بالمعلوم إلى واحدة منهما وأما القدرة وإلارادة فكل منها يفتقر في تعلقه بالمراد والمقدور إلى العلم وذلك يدل على فضيلته وشرف منزلته الوجه التاسع والستون ان العلم اعم الصفات تعلقا بمتعلقه واوسعها فإنه يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل والجائز والموجود والمعدوم فذات الرب سبحانه وصفاته واسماؤه معلومة له ويعلم العباد من ذلك ما علمهم العليم الخبير وأما القدرة والارادة فكل منهما خاص التعلق اما القدرة فإنما تتعلق بالممكن خاصة لابالمستحيل ولا بالواجب فهي اخص من العلم من هذا الوجه وأعم من الارادة فإن الارادة لاتتعلق الا ببعض الممكنات وهو ما أريد وجوده فالعلم اوسع وأعم وأشمل في ذاته ومتعلقه الوجه السبعون ان الله سبحانه اخبر عن اهل العلم بأنه جعلهم ائمة يهدون بأمره وياتم بهم من بعدهم فقال تعالى وجعلناهم ائمة يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا يآياتنا يوقنون وقال في موضع آخر والذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين إماما أي ائمة يقتدى بنا من بعدنا فأخبر سبحانه ان بالصبر واليقين تنال الامامة في الدين وهي ارفع مراتب الصديقين واليقين هو كمال العلم وغايته فبتكميل مرتبة العلم تحصل إمامة الدين وهي ولاية آلتها العلم يختص الله بها من يشاء من عباده الوجه الحادي والسبعون ان حاجة العباد إلى العلم ضرورية فوق حاجة الجسم إلى الغذاء لان الجسم يحتاج إلى الغذاء في اليوم مرة او مرتين وحاجة الانسان إلى العلم بعدد الانفاس لان كل نفس من انفاسه فهو محتاج فيه إلى ان يكون مصاحبا لايمان او حكمة فإن فارقه الايمان او حكمة في نفس من انفاسه فقد عطب وقرب هلاكه وليس إلى حصول ذلك سبيل إلا بالعلم فالحاجة إليه فوق الحاجة إلى الطعام والشراب وقد ذكر الامام احمد هذا المعنى بعينه فقال الناس احوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب لان الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة او مرتين والعلم يحتاج إليه كل وقت الوجه الثاني والسبعون إن صاحب العلم اقل تعبا وعملا وأكثر اجرا واعتبر هذا بالشاهد فإن الصناع والإجراء يعانون

الاعمال الشاقة بأنفسهم والاستاذ المعلم يجلس بأمرهم وينهاهم ويريهم كيفية العمل ويأخذ اضعاف ما يأخذونه وقد اشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا المعنى حيث قال افضل الاعمال إيمان بالله ثم الجهاد فالجهاد فيه بذل النفس وغاية المشقة والايمان علم القلب وعمله وتصديقه وهو افضل الاعمال مع ان مشقة الجهاد فوق مشقته باضعاف مضاعفة وهذا لان العلم يعرف مقادير الاعمال ومراتبها وفاضلها من مفضولها وراجحها من مرجوحها فصاحبه لا يختار لنفسه الا افضل الاعمال والعامل بلا علم يظن ان الفضيلة في كثرة المشقة فهو يتحمل المشاق وإن كان ما يعانيه مفضولا ورب عمل فاضل والمفضول اكثر مشقة منه واعتبر هذا بحال الصديق فإنه افضل الامة ومعلوم ان فيهم من هو اكثر عملا وحجا وصوما وصلاة وقراءة منه قال ابو بكر بن عياش ما سبقكم ابو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه وهذا موضوع المثل المشهور
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشى رويدا وتجي في الاول الوجه الثالث والسبعون ان العلم إمام العمل وقائد له والعمل تابع له ومؤتم به فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه كما قال بعض السلف من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح وألاعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له فالعمل الموافق للعلم هو المقبول والمخالف له هو المردود فالعلم هو الميزان وهو المحك قال تعالى هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا وهو العزيز الغفور قال الفضيل بن عياض هو اخلص العمل واصوبه قالوا يا ابا علي ما اخلصه واصوبه قال ان العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا فالخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة وقد قال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الاعمال سواه وهو ان يكون موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم مرادا به وجه الله ولا يتمكن العامل من الاتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده فلولا العلم لما كان عمله مقبولا فالعلم هو الدليل على الاخلاص وهو الدليل على المتابعة وقد قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين واحسن ما قيل في تفسير الاية إنه إنما يتقبل الله عمل من اتقاه في ذلك العمل وتقواه فيه ان يكون لوجهه علىموافقة امره وهذا إنما يحصل بالعلم وإذا كان هذا منزلة العلم وموقعه علم انه اشرف شيء واجله وافضله والله أعلم الوجه الرابع والسبعون ان العامل بلا علم كالسائر بلا دليل ومعلوم ان عطب مثل هذا اقرب من سلامته

وان قدر سلامته اتفاقا نادرا فهو غير محمود بل مذموم عند العقلاء وكان شيخ الاسلام ابن تيمية يقول من فارق الدليل ضل السبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول قال الحسن العامل على غير علم كالسالك على غير طريق والعامل على غير علم ما يفسد اكثر مما يصلح فاطلبوا اللم طلبا لا تضروا بالعبادة واطلبوا العبادة طلبا لا تضروا بالعلم فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حى خرجوا بأسيافهم على امة محمد صلى الله عليه و سلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا والفرق بين هذا وبين ما قبله ان العلم مرتبته في الوجه الاول مرتبة المطاع المتبوع المقتدى به المتبع حكمه المطاع امره ومرتبته فيه فيهذا الوجه مرتبة الدليل المرشد إلى المطلوب الموصل إلى الغاية الوجه الخامس والسبعون ان النبي صلى الله عليه و سلم ثبت في الصحيحين عنه انه كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم وفي بعض السنن انه كان يكبر تكبيرة الاحرام في صلاة الليل ثم يدعو بهذا الدعاء والهداية هي العلم بالحق مع قصده وإيثاره على غيره فالمهتدي هو العامل بالحق المريد له وهي اعظم نعمة لله على العبد ولهذا امرنا سبحانه ان نسأله هداية الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس فإن العبد محتاج إلى معرفة الحق الذي يرضى الله في كل حركة غاهرة وباطنة فإذا عرفها فهو محتاج إلىمن يلهمه قصد الحق فيجعل إرادته في قلبه ثم إلى من يقدره على فعله ومعلوم ان ما يجهله العبد اضعاف اضعاف ما يعلمه وإن كل ما يعلم انه حق لا تطاوعه نفسه على غرادته ولو اراده لعجز عن كثير منه فهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي وبالحال والمستقبل أما الماضي فهو محتاج إلى محاسبة نفسه عليه وهل وقع على السداد فيشكر الله عليه ويستديمه ام خرج فيه عن الحق فيتوب إلى الله تعالى منه ويتسغفره ويعزم على ان لا يعود وأما الهداية في الحال فهي مطلوبة منه فإنه ابن وقته فيحتاج ان يعلم حكم ما هو متلبس به من الافعال هل هو صواب ام خطأ وأما المستقبل فحاجته في الهداية اظهر ليكون سيره على الطريق وإذا كان هذا شأن الهداية علم ان العبد اشد شيء اضطرارا اليها وان ما يورده بعض الناس من السؤال الفاسد وهي انا إذا كنا مهتدين فأي حاجة بنا ان نسأل الله ان يهدينا وهل هذا الا تحصيل الحاصل افسد سؤال وابعده عن الصواب وهو دليل على ان صاحبه لم يحصل معنى الهداية ولا احاط علما بحقيقتها ومسماها فلذلك تكلف من تكلف الجواب عنه بان المعنى ثبتنا على الهداية وادمها لنا ومن احاط علما بحقية الهداية وحاجة العبد اليها علم ان الذي لم يحصل له منها اضعاف ما حصل له انه كل وقت محتاج إلىهدايةمتجددة لاسيما والله تعالىخالق افعال القلوب والجوارح فهو كل وقت محتاج ان يخلق الله له هداية

خاصة ثم ان لم يصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه ومعلوم ان وساوس العبد وخواطره وشهوات الغي في قلبه كل منها مانع وصول اثر الهداية إليه فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تاما فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بانفاسه وهي اعظم حاجة للعبد وذكر النبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء العظيم القدر من اوصاف الله وربوبيته ما يناسب المطلوب فان فطر السموات والارض توسل إلى الله بهذا الوصف في الهداية للفطرة التي ابتدأ الخلق عليها فذكر كونه فاطر السموات والارض والمطلوب تعليم الحق والتوفيق له فذكر علمه سبحانه بالغيب والشهادة وان من هو بكل شيء عليم جدير ان يطلب منه عبده ان يعلمه ويرشده ويهديه وهو بمنزلة التوسل إلى الغني بغناه وسعة كرمه ان يعطى عبده شيئا من ماله والتوسل إلى الغفور بسعة مغفرته ان يغفر لعبده ويعفوه ان يعفو عنه وبرحمته ان يرحمه ونظائر ذلك وذكر ربوبيته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل وهذا والله اعلم لان المطلوب هدى يحيا به القلب وهؤلاء الثلاثة الاملاك قد جعل الله تعالى على ايديهم اسباب حياة العباد اما جبريل فهو صاحب الوحي الذي يوحيه الله إلى الانبياء وهو سبب حياة الدنيا والاخرة واما ميكائيل فهو موكل بالقطر الذي به سبب حياة كل شيء واما إسرافيل فهو الذي ينفخ في الصور فيحيى الله الموتى بنفخته فإذا هم قيام لرب العالمين والهداية لها اربع مراتب وهي مذكورة في القرآن المرتبة الاولى الهداية العامة وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والادمي لمصالحه التي بها قام امره قال الله تعالى سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى فذكر امورا اربعة الخلق والتسوية والتقدير والهداية فسوى خلقه واتقنه وأحكمه ثم قدر له اسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه اليها والهداية تعليم فذكر انه الذي خلق وعلم كما ذكر نظير ذلك في أول سورة انزلها على رسوله وقد تقدم ذلك وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون انه قال لموسى فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهذه المرتبة اسبق مراتب الهداية وأعمها المرتبة الثانية هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده وهذه لا تستلزم الاهتداء التام قال تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى يعني بينا لهم ودللناهم وعرفناهم فآثروا الضلالة والعمى وقال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وهذه المرتبة اخص من الاولى وأعم من الثانية وهي هدى التوفيق والالهام قال الله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فعم بالدعوة خلقه وخص بالهداية من شاء منهم قال تعالى

إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء مع قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والامام وقال النبي صلى الله عليه و سلم في نشهد الحاجة من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وقال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لايهدي من يضل أي من يضله الله لايهتدي أبدا وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء واما الثانية فشرط لاموجب فلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة فإن تخلف الهدى عنها مستحيل المرتبة الرابعة الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة والنار قال تعالى احشرواالذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم واما قول اهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله فيحتمل ان يكونوا ارادوا الهداية إلى طريق الجنة وأن يكونوا ارادوا الهداية في الدنيا التي اوصلتهم إلى دار النعيم ولو قيل إن كلا الأمرين مراد لهم وانهم حمدوا الله على هدايته لهم في الدنيا وهدايتهم إلى طريق الجنة كان احسن وابلغ وقد ضرب الله تعالى لمن لم يحصل له العلم بالحق واتباعه مثلا مطابقا لحاله فقال تعالى قل اندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على اعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له اصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين الوجه السادس والسبعون ان فضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته وتارةمن شدة الحاجة إليه وعدم الاستغناء عن وتارةمن ظهور النقص والشر بفقده وتارة من حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده لكونه محبوبا ملائما فادراكه يعقب غاية اللذة وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه وشرف علته الغائية وافضاله إلى اجل المطالب وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهر من متعلقة فإذا كان في نفسه كمالا وشرفا بقطع النظر عن متعلقاته جمع جهات الشرف والفضل في نفسه ومتعلقاته ومعلوم ان هذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم فإنه أعم شيء نفعا واكثره وادومه والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء بل فوق الحاجة إلى التنفس إذ غاية مايتصور من فقدهما فقد حياة الجسم وأما فقد العلم ففيه فقد حياة القلب والروح فلا غنى للعبد عنه طرفة عين ولهذا إذا فقد من الشخص كان شرا من الحمير بل كان شرا من الدواب عند الله ولا شيء انقص منه حينئذ وأما حصول اللذة والبهجة بوجوده فلأنه كمال في نفسه وهو ملائم غاية الملاءمة للنفوس فان الجهل مرض ونقص وهو في غاية الايذاء والايلام للنفس ومن لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفقد حسه ونفسه وما لجرح ميت إيلام فحصوله للنفس إدراك منها لغاية محبوبها واتصال به وذلك غاية لذتها وفرحتها وهذا بحسب المعلوم في نفسه ومحبة النفس له ولذتها بقربه والعلوم والمعلومات

متفاوته في ذلك اعظم التفاوت وابينه فليس علم النفوس بفاطرها وباريها ومبدعها ومحبته والتقرب إليه كعلمها بالطبيعة واحوالها وعوارضه وصحتها وفسادها وحركاتها وهذا بتبين بالوجه السابع والسبعين وهو ان شرف العلم تابع لشرف معلومه لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه ولشدة الحاجة إلىمعرفته وعظم النفع بها ولا ريب ان اجل معلوم وأعظمه واكبره فهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين وقيوم السموات والارضين الملك الحق المبين الموصوف بالكمال كله المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تمثيل وتشبيه في كماله ولا ريب ان العلم به وباسمائه وصفاته وافعاله اجل العلوم وافضلها ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومة إلى سائر المعلومات وكما ان العلم به اجل العلوم واشرفها فهو اصلها كلها كما ان كل موجود فهو مستند في وجوده إلى الملك الحق المبين ومفتقر إليه في تحقق ذاته وأينيته وكل علم فهو تابع للعلم به مفتقر في تحقق ذاته إليه فالعلم به اصل كل علم كما انه سبحانه رب كل شيء ومليكه وموجده ولا ريب ان كمال العلم بالسبب التام وكونه سببا يستلزم العلم بمسببه كما ان العلم بالعلة التامة ومعرفة كونها علة يستلزم العلم بمعلوله وكل موجود سوى الله فهو مستند في وجوده إليه استناد المصنوع إلى صانعه والمفعول إلى فاعله فالعلم بذاته سبحانه وصفاته وافعاله يستلزم العلم بما سواه فهو في ذاته رب كل شيء ومليكه والعلم به اصل كل علم ومنشؤه فمن عرف الله عرف ما سواه ومن جهل ربه فهو لما سواه اجهل قال تعالى ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم انفسهم فتأمل هذه الاية تجد تحتها معنى شريفا عظيما وهو ان من نسى ربه انساه ذاته ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه بل نسى ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده فصار معطلا مهملا بمنزلة الانعام السائبة بل ربما كانت الانعام اخبر بمصالحها منه لبقائها هداها الذي اعطاها إياه خالقها وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها فنسى ربه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكوبه وتسعد به في معاشها ومعادها قال الله تعالى ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا فغفل عن ذكر ربه فانفرط عليه امره وقلبه فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه بل هو مشتت القلب مضيعه مفرط الامر حيران لايهتدي سبيلا والمقصود ان العلم بالله اصل كل علم وهو اصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به فالعلم به سعادة العبد والجهل به اصل شقاوته يزيده ايضاحا الوجه الثامن والسبعون انه لا شيء اطيب للعبد ولا الذ ولا اهنأ ولا انعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه ودوام ذكره والسعي في مرضاته وهذا هو الكمال الذي لاكمال للعبد بدونه وله خلق الخلق ولاجله نزل الوحي وارسلت الرسل وقامت السموات والارض ووجدت الجنة والنار ولاجله شرعت الشرائع

ووضع البيت الحرام ووجب حجه على الناس إقامة لذكره الذي هو من توابع محبته والرضا به وعنه ولاجل هذا امر بالجهاد وضرب اعناق من اباه وآثر غيره عليه وجعل له في الآخرة دار الهوان خالدا مخلدا وعلى هذا الامر العظيم اسست الملة ونصبت القبلة وهو قطب رحى الخلق والامر الذي مدارهما عليه ولاسبيل إلى الدخول إلى ذلك إلا من باب العلم فإن محبة الشيء فرع عن الشعور به واعرف الخلق بالله اشدهم حبا له فكل من عرف الله احبه ومن عرف الدنيا واهلها زهد فيهم فالعلم يفتح هذا الباب العظيم الذي هو سر الخلق والأمر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الوجه التاسع والسبعون ان اللذة بالمحبوب تضعف وتقوى بحسب قوة الحب وضعفه فكلما كان الحب اقوى كانت اللذة اعظم ولهذا تعظم لذة الظمآن بشرب الماء البارد بحسب شدة طلبه للماء وكذلك الجائع وكذلك من احب شيئا كانت لذته على قدر حبه إياه والحب تابع للعلم بالمحبوب ومعرفة جماله الظاهر والباطن فلذة النظر إلى الله بعد لقائه بحسب قوة حبه وإرادته وذلك بحسب العلم به وبصفات كماله فإذا العلم هو اقرب الطرق إلى اعظم اللذات وسيأتي تقرير هذا فيما بعد ان شاء الله تعالى الوجه الثمانون ان كل ما سوى الله يفتقر إلى العلم لاقوام له بدونه فإن الوجود وجودان وجود الخلق ووجود الامر والخلق والأمر مصدرهما علم الرب وحكمته فكل ماضمه الوجود من خلقه وامره صادر عن علمه وحكمته فما قامت السموات والارض وما بينهما الا بالعلم ولا بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا بالعلم ولاعبد الله وحده وحمد واثنى عليه ومجد إلا بالعلم ولاعرف الحلال من الحرام إلا بالعلم ولاعرف فضل الاسلام على غيره الا بالعلم واختلف هنا في مسئلة وهي ان العلم صفة فعلية او انفعالية فقالت طائفة هو صفة فعليه لانه شرط او جزء وسبب في وجود المفعول فإن الفعل الاختياري يستدعي حياة الفاعل وعلمه وقدرته وإرادته ولا يتصور وجوده بدون هذه الصفات وقالت طائفة هو انفعالي فإنه تابع للمعلوم متعلق به على ما هو عليه فإن العالم يدرك المعلوم على ما هو به فادراكه تابع له فكيف يكون متقدما عليه والصواب ان العلم قسمان علم فعلى وهو علم الفاعل المختار بما يريد ان يفعله فإنه موقوف على ارادته الموقوفة على تصوره المراد وعلمه به فهذا علم قبل الفعل متقدم عليه مؤثر فيه وعلم انفعالي وهو العلم التابع للمعلوم الذي لا تأثير له فيه كعلمنا بوجود الانبياء والامم والملوك وسائر الموجودات فإن هذا العلم لا يؤثر في المعلوم ولا هو شرط فيه فكل من الطائفتين نظرت جزئيا وحكمت كليا وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس وكلا القسمين من العلم صفة كمال وعدمه من اعظم النقص يوضحه الوجه الحادي والثمانون ان فضيلة الشيء تعرف بضده فالضد يظهر حسنه الضد وبضدها نتبين الاشياء ولا ريب ان الجهل اصل كل فساد وكل ضرر يلحق العبد في دنياه واخراه فهو نتيجة

الجهل والا فمع العلم التام بان هذا الطعام مثلا مسموم من اكله قطع امعاءه في وقت معين لا يقدم على اكله وان قدر انه قدم عليه لغلبة جوع او استعجال وفاة فهو لعلمه بموافقة اكله لمقصوده الذي هو احب إليه من العذاب بالجوع او بغيره وهنا اختلف في مسئلة عظيمة وهي ان العلم هل يستلزم الاهتداء ولا يتخلف عنه الهدى إلا لعدم العلم اونقصه والا فمع المعرفة الجازمة لا يتصور الضلال وانه لا يستلزم الهدى فقد يكون الرجل عالما وهو ضال على عمد هذا مما اختلف فيه المتكلمون وارباب السلوك وغيرهم فقالت فرقة من عرف الحق معرفة لا يشك فيها استحال ان لا يهتدي وحيث ضل فلنقصان علمه واحتجوا من النصوص بقوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما انزل من قبلك فشهد تعالى لكل راسخ في العلم بالايمان وبقوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وبقوله تعالى ويرى الذين اوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق وبقوله تعالى شهد الله انه لا إله الا هو والملائكة واولو العلم وبقوله تعالى افمن يعلم انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمى قسم الناس قسمين احدهما العلماء بان ما انزل إليه من ربه هوالحق والثاني العمى فدل على انه لا واسطة بينهما وبقوله تعالى في وصف الكفار صم بكم عمي فهم لا يعقلون وبقوله وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون وبقوله تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة وهذه مدارك العلم الثلاث قد فسدت عليهم وكذلك قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه واضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقوله واضله الله على علم قال سعيد بن جبير على علمه تعالى فيه قال الزجاج أي على ما سبق في علمه تعالى انه ضال قبل ان يخلقه وختم على سمعه أي طبع عليه فلم يسمع الهدى وعلى قلبه فلم يعقل الهدى وعلى بصره غشاوة فلا يبصر اسباب الهدى وهذا في القرآن كثير مما يبين فيه منافاة الضلال للعلم ومنه قوله تعالى ومنهم من يستمع اليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا اللذين اوتو العلم ماذا قال آنفا اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فلو كانوا علموا ما قال الرسل لم يسألوا اهل العلم ماذا قال ولما كان مطبوعا على قلوبهم وقال تعالى والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات وقال تعالى قل آمنوا به أولا تؤمنوا أن الذين اوتو العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا فهذه شهادة من الله تعالى لاولى العلم بالايمان به وبكلامه وقال تعالى عن اهل النار وقالوا لو كنا نسمع اونعقل ما كنا في اصحاب السعير فدل على ان اهل الضلال لاسمع لهم ولا عقل وقال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون اخبر تعالى أنه لا

يعقل امثاله الا العالمون والكفار لا يدخلون في مسمى العالمين فهم لا يعقلونها وقال تعالى بل اتبع الذين ظلموا اهواءهم بغير علم فمن يهدي من اضل الله وقال تعالى وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله او تأتينا آية وقال تعالى قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ولو كان الضلال بجامع العلم لكان الذين لا يعلمون احسن حالا من الذين يعلمون والنص بخلافه والقرآن مملوء بسلب العلم والمعرفة عن الكفار فتارة يصفهم بانهم لايعلمون وتارة بأنهم لا يعقلون وتارة بانهم لا يشعرون وتارة بانهم لا يفقهون وتارة بأنهم لا يسمعون والمراد بالسمع المنفي سمع الفهم وهو سمع القلب لا إدراك الصوت وتارة بأنهم لا يبصرون فدل ذلك كله على ان الكفر مستلزم للجهل مناف للعلم لا يجامعه ولهذا يصف سحبانه الكفار بانهم جاهلون كقوله تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقوله تعالى وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا اعمالنا ولكم اعمالكم سلام عليكم لانبتغي الجاهلين وقوله تعالى خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين وقال النبي صلى الله عليه و سلم لما بلغ قومه من اذاه ذلك المبلغ اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون وفي الصحيحين عنه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فدل على ان الفقه مستلزم لارادة الله الخير في العبد ولا يقال الحديث دل على ان من اراد الله به خيرا فقهه في الدين ولا يدل على ان كل من فقهه في الدين فقد اراد به خيرا وبينهما فرق ودليلكم انما يتم بالتقدير الثاني والحديث لا يقتضيه لانا نقول النبي صلى الله عليه و سلم جعل الفقه في الدين دليلا وعلامة على ارادة الله بصاحبه خيرا والدليل يستلزم المدلول ولا يتخلف عنه فإن المدلول لازمه ووجود الملزوم بدون لازمه محال وفي الترمذي وغيره عنه صلى الله عليه و سلم
خصلتان لا يجتمعان في منافق حسن سمت وفقه في الدين فجعل الفقه في الدين منافيا للنفاق بل لم يكن السلف يطلقون اسم الفقه الاعلى العلم الذي يصحبه العمل كما سئل سعد بن إبراهيم عن افقه اهل المدينة قال اتقاهم وسال فرقد السنجي الحسن البصري عن شيء فاجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك امك فريقد وهل رأيت بعينيك فقيها إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصيربدينه المداوم على عبادة ربه الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علمه الله تعالى اجرا وقال بعض السلف ان الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم مكر الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ماسواه وقال ابن مسعود رضى الله عنه كفى بخشية الله علما وبالاغترار بالله جهلا قالوا فهذا القرآن والسنة واطلاق السلف من الصحابة والتابعين يدل على ان العلم والمعرفة مستلزم للهداية وان عدم الهداية دليل على الجهل وعدم العلم قالوا ويدل عليه ان الانسان ما دام عقله معه لا يؤثر هلاك

نفسه على نجاتها وعذابها العظيم الدائم على نعيمها المقيم والحسن شاهد بذلك ولهذا وصف الله سبحانه اهل معصيته بالجهل في قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما قال سفيان الثوري كل من عمل ذنبا من خلق الله فهو جاهل كان جاهلا اوعالما ان كان عالما فمن اجهل منه وان كان لا يعلم فمثل ذلك وقوله ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما قال قبل الموت وقال ابن عباس رضى الله عنهما ذنب المؤمن جهل منه قال فتادة اجمع اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ان كل شيء عصى الله فيه فهو جهالة وقال السدى كل من عصى الله فهو جاهل قالوا ويدل على صحة هذا ان مع كمال العلم لاتصدر المعصية من العبد فإنه لو رأى صبيا يتطلع عليه من كوة لم تتحرك جوارحه لمواقعة الفاحشة فكيف يقع منه حال كمال العلم بنظر الله إليه ورؤيته له وعقابه على الذنب وتحريمه له وسوء عاقبته فلا بد من غفلة القلب على هذا العلم وغيبته عنه فحينئذ يكون وقومه في المعصية صادرا عن جهل وغفلة ونسيان مضاد للعلم والذنب محفوف بجهلين جهل بحقيقة الاسباب الصارفة عنه وجهل بحقيقة المفسدة المترتبة عليه وكل واحد من الجهلين تحته جهالات كثيرة فما عصى الله إلا بالجهل وما اطيع الا بالعلم فهذا بعض ما احتجت به هذه الطائفة وقالت الطائفة الاخرى العلم لا يستلزم الهداية وكثيرا ما يكون الضلال عن عمد وعلم لا يشك صاحبه فيه بل يؤثر الضلال والكفر وهو عالم بقبحه ومفسدته قالوا وهذا شيخ الضلال وداعي الكفر وإمام الفجرة إبليس عدو الله قد علم امر الله له بالسجود لادم ولم يشك فيه فخالفه وعاند الامر وباء بلعنة الله وعذابه الدائم مع علمه بذلك ومعرفته به واقسم له بعزته انه يغوى خلقه اجمعين الاعباده منهم المخلصين فكان غير شاك في الله وفي وحدانيته وفي البعث الآخر وفي الجنة والنار ومع ذلك اختار الخلود في النار واحتمال لعنة الله وغضبه وطرده من سمائه وجنته عن علم بذلك ومعرفة لم يحصل لكثير من الناس ولهذا قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون وهذا اعتراف منه بالبعث وقرار به وقد علم قسم ربه ليملأن جهنم منه ومن اتباعه فكان كفره كفر عناد محض لا كفر جهل وقال تعالى إخبارا عن قوم ثمود وأما ثمود فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى يعني بينا لهم وعرفناهم فعرفوا الحق وتيقنوه وآثروا العمى عليه فكان كفر هؤلاء عن جهل وقال تعالىحاكيا عن موسى إنه قال لفرعون لقد علمت ما انزل هؤلاء الا رب السموات والارض بصائر وإني لاظنك يا فرعون مثبورا أي هالكا على قراءة من فتح التاء وهي قراءة الجمهور وضمها الكسائي وحده وقراءة الجمهور احسن واوضح وافخم معنى وبها تقوم الدلالة ويتم الالزام بتحقق كفر فرعون وعناده ويشهد

لها قوله تعالى إخبارا عنه وعن قومه فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عقابة المفسدين فاخبر سبحانه ان تكذيبهم وكفرهم كان عن يقين وهو اقوى العلم ظلما منهم وعلوا لا جهلا وقال تعالى لرسوله قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون يعني انهم قد عرفوا صدقك وانك غير كاذب فيما تقول ولكن عاندوا وجحدوا بالمعرفة قاله ابن عباس رضى الله عنهما والمفسرون قال قتادة يعلمون انك رسول ولكن يجحدون قال تعالى وجحدوا بها واستقينتها انفسهم ظلماوعلوا وقال تعالى يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون يعني تكفرون بالقرآن وبمن جاء به وانتم تشهدون بصحته وبانه الحق فكفركم كفر عناد وجحود عن علم وشهود لاعن جهل وخفاء وقال تعالى عن السحرة من اليهود ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق أي علموا من اخذ السحر وقبله لا نصيب له في الآخرة ومع هذا العلم والمعرفة فهم يشترونه ويقبلونه ويتلعمونه وقال تعالى الذين آتياناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم ذكر هذه المعرفة عن اهل الكتاب في القبلة كما في سورة البقرة وفي التوحيد كقوله في الانعام ائنكم لتشهدون انالله آلهة اخرى قل لا اشهد قل إنما هو إله واحد وانني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وفي الكتاب انه منزل من عند الله لقوله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق وقال تعالى كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين قال ابن عباس رضى الله عنهما هم قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد ان كانوا قبل مبعثه مؤمنين به وشهدوا له بالنبوة وإنما كفروا بغيا وحسدا قال الزجاج اعلم الله عز و جل انه لاجهة لهدايتهم لانهم قد استحقوا ان يضلوا بكفرهم لانهم كفروا بعد البينات ومعنى كيف يهديهم أي انه لا يهديهم لان القوم عرفوا الحق وشهدوا به وتيقنوه وكفروا عمدا فمن اين تأتيهم الهداية فإن الذي ترتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى انه ضال بل يظن انه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه ثم اختار الكفر والضلال عليه فكيف يهدي الله مثل هذا وقال تعالى عن اليهود فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ثم قال بئسما اشتروا به انفسهم ان يكفروا بما انزل الله بغيا ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده قال ابن عباس رضى الله عنهما لم يكن كفرهم شكا ولا اشتباها ولكن بغيا منهم حيث صارت النبوة في ولد اسماعيل ثم قال بعد ذلك ولما جاءهم رسول

من عند الله مصدق لمامعهم نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون فلما شبههم في فعلهم هذا بمن لا يعلم دل على انهم بنذوه عن علم كفعل من لا يعلم تقول إذا خاطبت من عصاك عمدا كانك لم تعلم ما فعلت او كانك لم تعلم بنهي إياك ومنه على احد القولين قوله تعالى فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون قال السدى يعنى محمدا صلى الله عليه و سلم واختاره الزجاج فقال يعرفون أن امر محمد صلى الله عليه و سلم حق ثم ينكرون ذلك وأول الاية يشهد لهذا القول وقال تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعهالشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب قالوا فهل بعد هذه الاية بيان فإن هذا آتاه الله آياته فانسلخ منها وآثر الضلال والغي وقصته معروفة حتى قيل إنه كان اوتى الاسم الاعظم ومع هذا فلم ينفعه علمه وكان من الغاوين فلو استلزم العلم والمعرفة الهداية لاستلزمه في حق هذا وقال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وهذا يدل على ان قولهم يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إما بهت منهم وجحود وإما نفي لايات الاقتراح والعنت ولا يجب الاتيان بها وقد وصف سبحانه ثمود بانها كفرت عن علم وبصيرة بالحق ولهذا قال وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها يعني بينة مضيئة وهذا كقوله تعالى وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وحقيقة اللفظ انها تجعل من رآها مبصرا فهي توجب له البصر فتبصره أي تجعله ذا بصر فهي موضحة مبينة يقال بصر به إذا رآه كقوله تعالى فبصرت به عن جنب وقوله بصرت بما لم يبصروا به واما ابصره فله معنيان احدهما جعله باصرا بالشيء أي ذا بصر به كاية النهار وآية ثمود والثاني بمعنى رآه كقولك ابصرت زيدا وفي حديث ابي شريح العدوى احدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وابصرته عيناي حين تكلم به ومنه قوله تعالى فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوق يبصرون قيل المعنى ابصرهم وما يقضى عليهم من الاسر والقتل والعذاب في الآخرة فسوف يبصرونك وما يقضى لك من النصر والتأييد وحسن العاقبة والمراد تقريب المبصر من المخاطب حتى كانه نصب عينيه ورأىناظريه والمقصود ان الاية اوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلال والكفر عن علم ويقين ولهذا والله اعلم ذكر قصتهم من بين قصص سائر الامم في سورة والشمس وضحاها لانه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية والى الفاجرة الضالة الغاوية وذكر فيها الاصلين القدر والشرع فقال فالهمها فجورها

وتقواها فهذا قدره وقضاؤه ثم قال قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها فهذا امره ودينه وثمود هداهم فاستحبوا العمى على الهدى فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة منمن آثر الفجور على التقوى والتدسية على التزكية والله اعلم بما أراد قالوا ويكفى في هذا اخباره تعالى عن الكفار انهم يقولون بعد ما عاينوا العذاب ووردوا القيامة وراوا ما اخبرت به الرسل يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لمانهوا عنه وإنهم لكاذبون فأبي علم ابين من علم من ورد القيامة ورأى ما فيها وذاق عذاب الآخرة ثم ورد إلى الدنيا لاختار الضلال على الهدى ولم ينفعه ما قد عاينه ورآه وقال تعالى ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ماكانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله ولكن اكثرهم يجهلون فهل بعد نزول الملائكة عيانا وتكليم الموتى لهم وشهادتهم للرسول بالصدق وحشر كل شيء في الدنيا عليهم من بيان وإيضاح للحق وهدى ومع هذا فلا يؤمنون ولا ينقادون للحق ولا يصدقون الرسول ومن نظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع قومه ومع اليهود علم انهم كانوا جازمين بصدقه صلى الله عليه و سلم لا يشكون انه صادق في قوله انه رسول الله ولكن اختاروا الضلال والكفر علىالايمان قال المسور بن مخرمة رضى الله عنه لابي جهل وكان خاله أي خال هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل ان يقول مقالته التي قالها قال ابو جهل لعنه الله تعالى يا ابن اخي والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الامين ما جربنا عليه كذبا قط فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب على الله قال يا خال فلم لا تتبعونه قال يا ابن اخي تنازعنا نحن بنو هاشم الشرف فاطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا فلم تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي فمتى ندرك هذه وهذا امية بن ابي الصلت كان ينتظره يوما بيوم وعلمه عنده قبل مبعثه وقصته مع ابي سفيان لما سافرا معا معروفة واخباره برسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لما تيقنه وعرف صدقه قال لا اومن بنبي من غير ثقيف ابدا وهذا هرقل تيقن انه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يشك فيه وآثر الضلال والكفر استبقاء لملكه ولما سأله اليهود عن التسع آيات البيانات فاخبرهم بها قبلوا يده وقالوا نشهد انك نبي قال فما يمنعكم ان تتبعوني قالوا إن داود عليه السلام دعا ان لا يزال في ذريته نبي وإنا نخشى أن اتبعناك ان تقتلنا يهود فهؤلاء قد تحققوا نبوته وشهدوا له بها ومع هذا فآثروا الكفر والضلال ولم يصيروا مسلمين بهذه الشهادة فقيل لا يصير الكافر مسلما بمجرد شهادة ان محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يشهد لله بالوحدانية وقيل يصير بذلك مسلما وقيل إن كان كفره بتكذيب الرسول كاليهود صار مسلما بذلك وإن كان كفره بالشرك مع ذلك لم يصر مسلما إلا بالشهادة بالتوحيد

كالنصارى والمشركين وهذه الاقوال الثلاثة في مذهب الامام احمد وغيره وعلى هذا فانما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الاسلام لان مجرد الاقرار والاخبار بصحة رسالته لا يوجب الاسلام إلا ان يلزم طاعته ومتابعته وإلا فلو قال انا اعلم انه نبي ولكن لا اتبعه ولا ادين بدينه كان من اكفر الكفار كحال هؤلاء المذكورين وغيرهم وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين وائمة السنة ان الايمان لا يكفي في قول اللسان بمجرده ولا معرفة القلب مع ذلك بل لا بد فيه من عمل القلب وهو حبه لله ورسوله وانقياده لدينه والتزامه طاعته ومتابعة رسوله وهذا خلاف من زعم ان الايمان هو مجرد معرفة القلب واقراره وفيما تقدم كفاية في إبطال هذه المقالة ومن قال ان الايمان هو مجرد اعتقاد صدق الرسول فيما جاء به وإن لم يلتزم متابعته وعاداه وابغضه وقاتله لزمه ان يكون هؤلاء كلهم مؤمنين وهذا إلزام لامحيد عنه ولهذا اضطرب هؤلاء في الجواب عن ذلك لما ورد عليهم وأجابوا بما يستحي العاقل من قوله كقول بعضهم إن إبليس كان مستهزئا ولم يكن يقر بوجود الله ولا بأن الله ربه وخالقه ولم يكن يعرف ذلك وكذلك فرعون وقومه لم يكونوا يعرفون صحة نبوة موسى ولا يعتقدون وجود الصانع وهذه فضائح نعوذ بالله من الوقوع في أمثالها ونصرة المقالات وتقليد اربابها تحمل على أكثر من هذا ونعوذ بالله من الخذلان قالوا وقد بين القرآن ان الكفر اقسام احدها كفر صادر عن جهل وضلال وتقليد الاسلاف وهو كفر أكثر الاتباع والعوام الثاني كفر جحود وعناد وقصد مخالفة الحق ككفر من تقدم ذكره وغالب ما يقع هذا النوع فيمن له رياسة علمية في قومه من الكفار او رياسة سلطانية او من له ماكل واموال في قومه فيخاف هذا على رياسته وهذا على ماله ومأكله فيؤثر الكفر على الايمان عمدا الثالث كفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول ولا يحبه ولا يبغضه ولا يواليه ولا يعاديه بل هو معرض عن متابعته ومعاداته وهذان القسمان أكثر المتكلمين ينكرونهما ولا يثبتون من الكفر إلا الاول ويجعلون الثاني والثالث كفرا لدلالاته على الاول لا لأنه في ذاته كفر فليس عندهم الكفر إلا مجرد الجهل ومن تأمل القرآن والسنةوسير الانبياء في أممهم ودعوتهم لهم وما جرى لهم معهم جزم بخطأ اهل الكلام فيما قالوه وعلم ان عامة كفر الامم عن تيقن وعلم ومعرفة بصدق انبيائهم وصحة دعواهم وما جاؤا به وهذا القرآن مملوء من الاخبار عن المشركين عباد الاصنام انهم كانوا يقرون بالله وانه هو وحده ربهم وخالقهم وأن الارض وما فيها له وحده وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم وانه بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر وانزل المطر واخرج النبات والقرآن منادعليهم بذلك محتج بما أقروا به من ذلك على صحة ما دعتهم إليه رسله

فكيف يقال ان القوم لم يكونوا مقرين قط بان لهم ربا وخالقا وهذا بهتان عظيم فالكفر امر وراء مجرد الجهل بل الكفر الاغلظ هو ما انكره هؤلاء وزعموا انه ليس بكفر قالوا والقلب عليه واجبان لا يصيره مؤمنا الا بهما جميعا واجب المعرفة والعلم وواجب الحب والانقياد والاستسلام فكما لا يكون مؤمنا إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد لا يكون مؤمنا إذا لم يأت بواجب الحب والانقياد والاستسلام بل إذا ترك هذا الواجب مع علمه ومعرفته به كان اعظم كفرا وابعد عن الايمان من الكافر جهلا فإن الجاهل إذا عرف وعلم فهو قريب إلى الانقياد والاتباع وأما المعاند فلا دواء فيه قال تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين قالوا فحب الله ورسوله بل كون الله ورسوله احب إلى العبد من سواهما لا يكون العبد مسلما الا به ولا ريب ان الحب امر وراء العلم فما كل من عرف الرسول احبه كما تقدم قالوا وهذا لحاسد يحمله بغض المحسود علىمعاداته والسعي في اذاه بكل ممكن مع علمه بفضله وعلمه وانه لا شيء فيه يوجب عداوته إلا محاسنه وفضائله ولهذا قيل الحاسد عدو للنعم والمكارم فالحاسد لم يحمله علىمعاداة المحسود جهله بفضله وكماله وإنما حمله على ذلك إفساد قصده وإرادته كما هي حال الرسل وورثتهم مع الرؤساء الذين سلبهم الرسل ووارثوهم رئاستهم الباطلة فعادوهم وصدوا النفوس عن متابعتهم ظنا ان الرياسة تبقى لهم وينفردون بها وسنة الله في هؤلاء ان يسلبهم رياسة الدنيا والاخرة ويصغرهم في عيون الخلق مقابلة لهم بنقيض قصدهم وما ربك بظلام للعبيد فهذا موارد احتجاج الفريقين وموقف اقدام الطائفتين فاجلس ايها المنصف منهما مجلس الحكومة وتوخ بعلمك وعدلك فصل هذه الخصومة فقد ادلى كل منهما بحجج لا تعارض ولاتمانع وجاء ببينات لا ترد ولا تدافع فهل عندك شيء غير هذا يحصل به فصل الخطاب وينكشف به لطالب الحق وجه الصواب فيرضى الطائفتين ويزول به الاختلاف من البين وإلا فخل المطي وحاديها واعط النفوس باريها
دع الهوى لأناس يعرفون به ... قد كابدوا الحب حتى لان اصعبه
ومن عرف قدره وعرف لذي الفضل فضله فقد قرع باب التوفيق والله الفتاح العليم فنقول وبالله التوفيق
كلا الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم ولا عدلت عن سنن الحق وإنما الاختلاف والتباين بينهما من عدم التوارد على محل واحد ومن اطلاق الفاظ مجملة بتفصيل معانيها يزول الاختلاف ويظهر ان كل طائفة موافقة الاخرى على نفس قولها وبيان هذا ان المقتضى قسمان

مقتض لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه لقصوره في نفسه بل يستلزمه استلزام العلة التامة لمعلولها ومقتض غير تام يتخلف عنه مقتضاه لقصوره في نفسه عن التمام او لفوات شرط اقتضائه او قيام مانع منع تأثيره فان اريد بكون العلم مقتضيا للاهتداء والاقتضاء التام الذي لا يتخلف عنه اثره بل يلزمه الاهتداء بالفعل فالصواب قول الطائفة الثانية وإنه لا يلزم من العلم حصول الاهتداء المطلوب وإن اريد بكونه موجبا انه صالح للاهتداء مقتض له وقد يتخلف عنه مقتضاه لقصوره او فوات شرط او قيام مانع فالصواب قول الطائفة الاولى وتفصيل هذه الجملة ان العلم بكون الشيء سببا لمصلحة العبد ولذاته وسروره قد يتخلف عنه عمله بمقتضاه لاسباب عديدة السبب الاول ضعف معرفته بذلك السبب الثاني عدم الاهلية وقد تكون معرفته به تامة لكن يكون مشروطا بزكاة المحل وقبوله للتزكية فإذا كان المحل غير زكي ولا قابل للتزكية كان كالأرض الصلدة التي لا تخالطها الماء فإنه يمتنع النبات منها لعدم اهليتها وقبولها فإذا كان القلب قاسيا حجريا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تنبت الارض الصلبة ولو اصابها كل مطر وبذر فيها كل بذر كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم وقال تعالى ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ماكانوا ليؤمنوا إلا ان يشاء الله وقال تعالى قل انظروا ماذا في السموات والارض وما تغنى الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون وهذا في القرآن كثير فإذا كان القلب قاسيا غليظا جافيا لا يعمل فيه العلم شيئاوكذلك إذا كان مريضا مهينا مائيا لا صلابة فيه ولا قوة ولا عزيمة لم يؤثر فيه العلم السبب الثالث قيام مانع وهو إما حسد أو كبر وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر وهو داء الاولين والاخرين الا من عصم الله وبه تخلف الايمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم وهو الذيمنع عبد الله بن ابي من الايمان وبه تخلف الايمان عن ابي جهل وسائر المشركين فانهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وان الحق معه لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر وبه تخلف الايمان عن امية واضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم السبب الرابع مانع الرياسة والملك وان لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق لكن لا يمكنه ان يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته كحال هرقل واضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه واقروا بها باطنا واحبوا الدخول في دينه لكن خافوا على ملكهم وهذا داء ارباب الملك والولاية والرياسة وقل من نجا منه الا من عصم الله وهو داء فرعون وقومه ولهذا قالوا انؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون انفوا ان يؤمنوا ويتبعوا

موسى وهرون وينقادوا لهما وبنو إسرائيل عبيد لهم ولهذا قيل ان فرعون لما اراد متابعة موسى وتصديقه شاور هامان وزيره فقال بينا انت اله تعبد تصير عبدا تعبد غيرك فأبى العبودية واختار الرياسة والالهية المحال السبب الخامس مانع الشهوة والمال وهو الذي منع كثيرا من اهل الكتاب من الايمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير اليهم من قومهم وقد كانت كفار قريش يصدون الرجل عن الايمان بحسب شهوته فيدخلون عليه منها فكانوا يقولون لمن يحب الزنا ان محمدا يحرم الزنا ويحرم الخمر وبه صدوا الاعشى الشاعر عن الاسلام وقد فاوضت غير واحد من اهل الكتاب في الاسلام وصحته فكان آخر ما كلمني به احدهم انا لا أترك الخمر واشربها امنا فإذا اسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها وقال آخر منهم بعد ان عرف ما قلت له لي اقارب ارباب اموال وإني ان اسلمت لم يصل الي منها شيء وانا اؤمل ان ارثهم او كما قال ولا ريب ان هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار فتتفق قوة داعي الشهوة والمال وضعف داعي الايمان فيجيب داعي الشهوة والمال ويقول لا أرغب بنفسي عن آبائي وسلفي السبب السادس محبة الاهل والاقارب والعشيرة يرى انه اذا اتبع الحق وخالفهم ابعدوه وطردوه عنهم واخرجوه من بين اظهرهم وهذا سبب بقاء خلف كثير على الكفر بين قومهم واهاليهم وعشائرهم السبب السابع محبة الدار والوطن وان لم يكن له بها عشيرة ولا اقارب لكن يرى ان في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى فيضن بوطنه السبب الثامن تخيل ان في الاسلام ومتابعة الرسول إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده وذما لهم وهذا هو الذي منع ابا طالب وامثاله عن الاسلام استعظموا آباءهم واجدادهم ان يشهدوا عليهم بالكفر والضلال وان يختاروا خلاف ما اختار اولئك لانفسهم ورأوا انهم ان اسلموا سفهوا احلام اولئك وضللوا عقولهم ورموهم باقبح القبائح وهو الكفر والشرك ولهذا قال اعداء الله لابي طالب عند الموت ترغب عن ملة عبد المطلب فكان آخر ما كلمهم به هو على ملة عبد المطلب فلم يدعه اعداء الله الا من هذا الباب لعلمهم بتعظيمه اباه عبد المطلب وانه انما حاز الفخر والشرف به فكيف يأتي امرا يلزم منه غاية تنقيصه وذمه ولهذا قال لولا ان تكون مسبة على بني عبد المطلب لا قررت بها عينك او كما قال وهذا شعره يصرح فيه بأنه قد علم وتحقق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه كقوله :
ولقد علمت بان دين محمد ... من خير اديان البرية دينا لولا الملامة او حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا

وفي قصيدته اللامية
فو الله لولا ان تكون مسبة ... تجر على اشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حاله ... من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا ان ابتنالا مكذب ... لدينا ولايعني بقول إلا باطل ...
والمسبة التي زعم انها تجر على اشياخه شهادته عليهم بالكفر والضلال وتسفيه الاحلام وتضليل العقول فهذا هو الذي منعه من الاسلام بعدتيقنه السبب التاسع متابعة من يعاديه من الناس للرسول وسبقه إلى الدخول في دينه وتخصصه وقربه منه وهذا القدر منع كثيرا من اتباع الهدى يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب ارضا يمشي عليها ويقصد مخالفته ومناقضته فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق واهله وان كان لا عداوة بينه وبينهم وهذا كما جرى لليهود مع الانصار فانهم كانوا اعدائهم وكانوا يتواعدونهم بخروج النبي صلى الله عليه و سلم وانهم يتبعونه ويقاتلونهم معه فلما بدرهم إليه الانصار واسلموا حملهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم السبب العاشر مانع الالف والعادة والمنشأ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة ولهذا قيل هي طبيعة ثانية فيربى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا فيتربى قلبه ونفسه عليها كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد ولا يعقل نفسه الا عليها ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وان يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال وهذا السبب وإن كان اضعف الاسباب معنى فهو اغلبها على الامم وأرباب المقالات والنحل ليس مع اكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى ان يشذ الاعادة ومربي تربى عليه طفلا لا يعرف غيرها ولا يحسن به فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية فصلوات الله وسلامه على انبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وافضلهم محمد صلى الله عليه و سلم كيف غيروا عوائد الامم الباطلة ونقلوهم إلى الايمان حتى استحدثوا به طبيعة ثانية خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة ولا يعلم مشقة هذا على النفوس الا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق فجزى الله المرسلين افضل ما جزى به احدا من العالمين إذا عرف ان المقتضى نوعان فالهدى المقتضى وحده لا يوجب الاهتداء والهدى التام يوجب الإهتداء فالاول هدى البيان الدلالة والتعليم ولهذا يقال هدى فما اهتدى والثاني هدى البيان والدلالة مع إعطاء التوفيق وخلق الارادة فهذا الهدى الذي يسلتزم الاهتداء ولا يتخلف عنه موجبه فمتى وجد السبب وانتفت الموانع لزم وجود حكمه وههنا دقيقة بها ينفصل النزاع وهي انه هل ينعطف من قيام المانع وعدم الشرط

على المقتضى امر يضعفه في نفسه ويسلبه اقتصاءه وقوته او الاقتضاء بحاله وإما غلب المانع فكان التاثير له ومثال ذلك في مسئلتنا انه بوجود هذه الموانع المذكورة او بعضها هل يضعف العلم حتى لا يصير مؤثرا البتة او العلم بحاله ولكن المانع بقوته غلب فكان الحكم له هذا سر المسألة وفقهها فأما الاول فلا شك فيه ولكن الشان في القسم الثاني وهو بقاء العلم بحاله والتحقيق ان الموانع تحجبه وتعميه وربما قلبت حقيقته من القلب والقرآن قد دل على هذا قال تعالى وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله اليكم فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين فعاقبهم سبحانه بازاغة قلوبهم عن الحق لما زاغوا عنه ابتداء ونظيره قوله تعالى ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولهذا قيل من عرض عليه حق فرده فلم يقبله عوقب بفساد قلبه وعقله ورأيه ومن هنا قيل لا رأي لصاحب هوى فان هواه يحمله على رد الحق فيفسد الله عليه رأيه وعقله قال تعالى فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف اخبر سبحانه ان كفرهم بالحق بعد ان علموه كان سببا لطبع الله على قلوبهم بل طبع الله عليها بكفرهم حتى صارت غلفا والغلف جمع اغلف وهو القلب الذي قد غشيه غلاف كالسيف الذي في غلافه وكل شيء في غلافه فهو اغلف وجمعه غلف يقال سيف اغلف وقوس غلفاء ورجل اغلف واقلف اذا لم يختن والمعنى قلوبنا عليها غشاوة وغطاء فلا تفقه ما تقول يا محمد صلى الله عليه و سلم ولم تع شيئا من قال ان المعنى انها غلف للعلم والحكمة أي اوعية لها فلا يحتاج إلى قولك ولا تقبله استغناء بما عندهم لوجوه احدها ان غلف جمع اغلف كقلف واقلف وحمر واحمر وجرد واجرد وغلب واغلب ونظائره والاغلف من القلوب هو الداخل في الغلاف هذا هو المعروف من اللغة الثاني انه ليس من الاستعمال السائغ المشهور ان يقال قلب فلان غلاف لكذا وهذا لا يكاد يوجد في شيء من نثر كلامهم ولانظمه ولا نظير له في القرآن فيحمل عليه ولا هو من التشبيه البديع المستحسن فلا يجوز حمل الاية عليه الثالث ان نظير قول هؤلاء قول الاخرين من الكفار قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه والاكنة هناه هي الغلف التي قلوب هؤلاء فيها والاكنة كالاوعية والاغطية التي تغطى المتاع ومنه الكناية لغلاف السهام الرابع ان سياق الاية لا يحسن مع المعنى الذي ذكروه ولا يحسن مقابلته بقوله بل طبع الله عليها بكفرهم وإنما يحسن مع هذا المعنى ان يسلب عنهم العلم والحكمة التي ادعوها كما قيل لهم لما ادعوا ذلك وما اوتيتم من العلم إلا قليلا وأما هنا فلما ادعوا ان قلوبهم في اغطية واغشية لاتفقه قوله قوبلوا بان عرفهم ان كفرهم ونقضهم ميثاقهم وقتلهم الانبياء كان سببا

لان طبع على قلوبهم ولا ريب ان القلب اذا طبع عليه اظلمت صورة العلم فيه وانطمست وربما ذهب اثرها حتى يصير السبب الذي يهتدي به المهتدون سببا لضلال هذا كما قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل ويفسدون في الارض اولئك هم الخاسرون فاخبر تعالى ان القرآن سبب لضلال هذا الصنف من الناس وهوهداه الذي هدى به رسوله وعباده المؤمنين ولهذا اخبر سبحانه إنه إنما يهتدي به من اتبع رضوان الله قال تعالى وإذا ما انزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه ايمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ولا شيء اعظم فسادا لمحل العلم من صيرورته بحيث يضل بما يهتدي به فنسبته إلى الهدى والعلم نسبة الفم الذي قد استحكمت فيه المرارة إلى الماء العذب كما قيل :
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا واذا فسد القلب فسد إدراكه وإذا فسد الفم فسد إدراكه وكذلك اذا فسدت العين واهل المعرفة من الصيارفة يقولون ان من خاف في نقده نسى النقد وسلبه فاشتبه عليه الخالص بالزغل ومن كلام بعض السلف يهتف العلم بالعمل فان اجابه حل والا ارتحل وقال بعض السلف كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به فترك العمل بالعلم من اقوى الاسباب في ذهابه ونسيانه وأيضا فإن العلم يراد للعمل فإنه يمنزلة الدليل للسائر فإذا لم يسر خلف الدليل لم ينتفع بدلالته فنزل منزلة من لم يعلم شيئا لان من علم ولم يعمل بمنزلة الجاهل الذي لا يعلم كما ان من ملك ذهبا وفضة وجاع وعرى ولم يشتر منها ما يأكل ويلبس فهو بمنزلة الفقير العادم كما قيل :
ومن ترك الانفاق عند احتياجه ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر والعرب تسمى الفحش والبذاء جهلا اما لكونه ثمرة الجهل فيسمى باسم سببه وموجبه وأما لان الجهل يقال في جانب العلم والعمل قال الشاعر :
الا لا يجهلن احد علينا ... فنجهل فوق جهل الحاهلينا ... ومن هذا قول موسى لقومه وقد قالوا اتتخذنا هزوا قال اعوذ بالله ان اكون من الجاهلين فجعل الاستهزاء بالمؤمنين جهلا ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف انه قال وإلا تصرف عني كيدهن اصب اليهن وأكن من الجاهلين ومن هذا قوله تعالى خذ العفو وأمر

بالعرف واعرض عن الجاهلين ليس المراد أعراضه عمن لا علم عنده فلا يعلمه ولا يرشده وإنما المراد اعراضه عن جهل من جهل عليه فلا يقابله ولا يعاتبه قال مقاتل وعروة والضحاك وغيرهم صن نفسك عن مقابلتهم على سفههم وهذا كثير في كلامهم ومنه الحديث إذا كان صوم احدكم فلا يصخب ولا يجهل ومن هذاتسمية المعصية جهلا قال قتادة اجمع اصحاب محمد ان كل من عصى الله فهو جاهل وليس المراد انه جاهل بالتحريم إذ لو كان جاهلال لم يكن عاصيا فلا يترتب الحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة على جاهل بالتحريم بل نفس الذنب يسمى جهلا وإن علم مرتكبه بتحريمه إما انه لا يصدر الا عن ضعف العلم ونقصانه وذلك جهل فسمى باسم سببه وإما تنزيلا لفاعله منزلة الجاهل به الثاني انهم لما ردوا الحق ورغبوا عنه عوقبوا بالطبع والرين وسلب العقل والفهم كما قال تعالى عن المنافقين ذلك بانهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون الثالث ان العلم الذي ينتفع به ويستلزم النجاة والفلاح لم يكن حاصلا لهم فسلب عنهم حقيقته والشيء قد ينتفى لنفي ثمرته والمراد منه قال تعالى في ساكن النار فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيا نفى الحياة لانتفاء فائدتها والمراد منها ويقولون لا مال إلا ما انفق ولا علم إلا ما نفع ولهذا نفى عنه سبحانه عن الكفار الاسماع والابصار والعقول لما لم ينتفعوا بها وقال تعالى وجعلنا لهم سمعا وابصارا وأفئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وقال تعالى ولقد ذرانا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولما لم يحصل لهم الهدى المطلوب بهذه الحواس كانوا يمنزلة فاقديها قال تعالى صم بكم عمى فهم لا يعقلون فالقلب يوصف بالبصر والعمى والسمع والصمم والنطق والبكم بل هذه له اصلا وللعين والاذن واللسان تبعا فإذا عدمها القلب فصاحبه اعمى مفتوح العين اصم ولا آفة باذنه ابكم وإن كان فصيح اللسان قال تعالى فإنها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فلا تنافي بين قيام الحجة بالعلم وبين سلبه ونفيه بالطبع والختم والقفل على قلوب من لا يعمل بموجب الحجة وينقاد لها قال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالاخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا فأخبر سبحانه انه منعهم فقه كلامه وهو الادراك الذي ينتفع به من فقهه ولم يكن ذلك مانعا لهم من الادراك الذي تقوم به الحجة عليهم فانهم لو لم يفهموه جملة ما ولوا على أدبارهم نفورا عند ذكر توحيد الله فلما ولوا عند ذكر التوحيد دل على انهم كانوا يفهمون الخطاب وان الذي غشى قلوبهم كالذي غشى آذانهم ومعلوم انهم لم يعدموا لاسمع جملة ويصيروا كالاصم ولذلك

ينفى سبحانه عنهم السمع تارة ويثبته اخرى قال الله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ومعلوم انهم قد سمعوا القرآن وأمر الرسول باسماعهم إياه وقال تعالى وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير فهذا السمع المنفي عنهم سمع الفهم والفقه والمعنى ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم سمعا ينتفعون به وهو فقهه المعنى وعقله والا فقد سمعوه سمعا تقوم به عليهم الحجة ولكن لما سمعوه مع شدة بغضه وكراهته ونفرتهم عنه لم يفهموه ولم يعقلوه والرجل إذا اشتدت كراهته للكلام ونفرته عنه لم يفهم ما يراد به فينزل منزلة من لم يسمعه قال تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون نفى عنه استطاعة السمع مع صحة حواسهم وسلامتها وإنما لفرط بغضهم ونفرتهم عنه وعن كلامه صاروا بمنزلة من لا يستطيع ان يسمعه ولا يراه وهذا استعمال معروف للخاصة والعامة يقولون لا اطيق انظر إلى فلان ولا استطيع ان اسمع كلامه من بغضه ونفرته عنه وبعض الجبرية يحتج بهذه الاية وشبهها على مذهبهم ولا دلالة فيها إذ ليس المراد سلبهم السمع والبصر الذي تقوم به الحجة قطعا وإنما المراد سلب السمع الذي يترتب عليه فائدته وثمرته والقدر حق ولكن الواجب تنزيل القرآن منازله ووضع الايات مواضعها واتباع الحق حيث كان ومثل هذا إذا لم يحصل له فهم الخطاب لا يعذر بذلك لان الافة منه وهو بمنزلة من سد اذنيه عند الخطاب فلم يسمعه فلا يكون ذلك عذرا له ومن هذا قولهم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يعنون انهم في ترك القبول منه ومحبة الاسماع لما جاء به وإيثار الاعراض عنه وشدة النفار عنه بمنزلة من لا يعقله ولا يسمعه ولا يبصر المخاطب لهم به فهذا هو الذي يقولون لا خلود في النار ولو كنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير ولهذا جعل ذلك مقدورا لهم وذنبا اكتسبوه فقال تعالى فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير والله تعالى ينفي تارة عن هؤلاء العقل والسمع والبصر فانها مدارك العلم واسباب حصوله وتارة ينفى عنهم السمع والعقل وتارة ينفى عنهم السمع والبصر وتارة ينفى عنهم العقل والبصر وتارة ينفى عنهم وحده فنفى الثلاثة نفي لمدارك العلم بطريق المطابقة ونفى بعضها نفي له بالمطابقة والاخر باللزوم فان القلب إذا فسد فسد السمع والبصر بل اصل فسادهما من فساده وإذا فسد السمع والبصر فسد القلب فإذا اعرض عن سمع الحق وابغض قائله بحيث لا يحب رؤيته امتنع وصول الهدى إلى القلب ففسد وإذا فسد السمع والعقل تبعهما فساد البصر فكل مدرك من هذه يصح بصحة الاخر ويفسد بفساده فلهذا يجيء في القرآن نفي ذلك صريحا ولزوما وبهذا التفصيل يعلم اتفاق الادلةمن الجانين وفي استدلال الطائفة الثانية بقوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم ونظائرها نظر فان الله تعالى حيث قال الذين آتيناهم الكتاب لم يكونوا إلا ممدوحين مؤمنين وإذا اراد ذمهم والأخبار عنهم بالعناد وايثار الضلال اتى بلفظ

الذين اوتوا الكتاب مبنيا للمفعول فالاول كقوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين اولئك يؤتون اجرهم مرتين بما صبروا الايات وكقوله تعالى افغير الله ابتغى حكما وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين فهذا في سياق مدحهم والاستشهاد بهم ليس في سياق ذمهم والاخبار بعنادهم وجحودهم كما استشهدهم في قوله تعالى قل كفى بالله شهيدا ببني وبينكم ومن عنده علم الكتاب وفي قوله فاسلألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون واختلف في الضمير في يتلونه حق تلاوته فقيل هو ضمير الكتاب الذي اوتوه قال ابن مسعود يحلون حلاله ويحرمون حرامه ويقرؤنه كما انزل ولا يحرفونه عن مواضعه قالوا وانزلت في مؤمني اهل الكتاب وقيل هذا وصف للمسلمين والضمير في يتلونه للكتاب الذي هو القرآن وهذا بعيد إذا عرف ان القرآن يأباه ولا يرد على ما ذكرنا قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون بل هذا حجة لنا ايضا لما ذكرنا فإنه أخبر في الاول عن معرفتهم برسوله صلى الله عليه و سلم ودينه وقبلته كما يعرفون ابناءهم استشهادا بهم على من كفر وثناء عليهم ولهذا ذكر المفسرون انهم عبد الله بن سلام واصحابه وخص في آخر الاية بالذم طائفة منهم فدل على ان الاولين غير مذمومين وكونهم دخلوا في جملة الاولين بلفظ المضمر لا يوجب ان يقال آتيناهم الكتاب عند الاطلاق فانهم دخلوا في هذا اللفظ ضمنا وتبعا فلا يلزم تناوله لهم قصدا واختيارا وقال تعالى في سورة الانعام قل ائنكم لتشهدون ان مع الله آلهة اخرى قل لا اشهد قل إنما هو اله واحدة وإنني برئ مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم قيل الرسول وصدقه وقيل المذكور هو التوحيد والقولان متلازما اذ ذلك في معرض الاستشهاد والاحتجاج على المشركين لافي معرض ذم الذين آتاهم الكتاب فإن السورة مكية والحجاج كان فيها مع اهل الشرك والسياق يدل على الاحتجاج لاذم المذكورين من اهل الكتاب واما الثاني فكقوله وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعلمون ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية ماتبعوا قبلتك فهذا شهادته سبحانه للذين اوتوا الكتاب والاول شهادته للذين آتاهم الكتاب بأنهم يؤمنون وقال تعالى يا ايها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل ان نطمس وجوها فنردها على ادبارها وقال تعالى وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم وهذا خطاب لمن لم يسلم منهم وإلا فلم يؤمر صلى الله عليه و سلم

ان يقول هذا لمن اسلم منهم وصدق به ولهذا لا يذكر سبحانه الذين اوتوا نصيبا من الكتاب الا بالذم ايضا كقوله الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الاية وقال تعالى الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون ان تضلوا السبيل وقال الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون فالاقسام اربعة الذين آتيناهم الكتاب وهذا لا يذكره سبحانه إلا في معرض المدح والذين اوتوا نصيبا من الكتاب لا يكون قط الا في معرض الذم والذين اوتوا الكتاب اعم منه فانه قد يتناولهما ولكن لا يفرد به الممدوحون قط ويا أهل الكتاب يعم الجنس كله ويتناول الممدوح منه والمذموم كقوله من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الاخر الآية وقال في الذم لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين وهذا الفصل ينتفع به جدا في أكبر مسائل اصول الاسلام وهي مسئلة الايمان واختلاف اهل القبلة فيه وقد ذكرنا فيه نكتا حسانا يتضح بها الحق في المسألة والله اعلم الوجه الثاني والثمانون ان الله سبحانه فاوت بين النوع الانساني اعظم تفاوت يكون بين المخلوقين فلا يعرف اثنان من نوع واحد بينهما من التفاوت ما بين خير البشر وشرهم والله سبحانه خلق الملائكة عقولا بلا شهوات وخلق الحيوانات ذوات شهوات بلا عقول وخلق الانسان مركبا من عقل وشهوة فمن غلب عقله شهوته كان خيرا من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله كان شرا من الحيوانات وفاوت سبحانه بينهم في العلم فجعل عالمهم معلم الملائكة كما قال تعالى يا آدم انبئهم باسمائهم وتلك مرتبة لا مرتبة فوقها وجعل جاهلهم بحيث لا يرضى الشيطان به ولا يصلح له كما قال الشيطان لجاهلهم الذي اطاعه في الكفر إني بريء منك وقال لجهلتهم الذين عصوا رسوله إني بريء منكم فلله ما أشد هذا التفاوت بين شخصين احدهما تسجد له الملائكة ويعلمها مما الله علمه والاخر لا يرضى الشيطان به وليا وهذا التفاوت العظيم إنما حصل بالعلم وثمرته ولو لم يكن في العلم الا القرب من رب العالمين والالتحاق بعالم الملائكة وصحبة الملأ الاعلى لكفى به فضلا وشرفا فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به ومشروط بحصوله الوجه الثالث والثمانون ان اشرف ما في الانسان محل العلم منه وهو قلبه وسمعه وبصره ولما كان القلب هو محل العلم والسمع رسوله الذي ياتيه به والعين طليعته كان ملكا على سائر الاعضاء يأمرها فتاتمر لامره ويصرفها فتنقاد له طائعة بما خص به من العلم دونها فلذلك كان ملكها والمطاع فيها وهكذا العالم في الناس كالقلب في الاعضاء ولما كان صلاح الاعضاء بصلاح ملكها ومطاعها وفسادها بفساده كانت هذه حال الناس مع علمائهم

وملوكهم كما قال بعض السلف صنفان إذا صلحا صلح سائر الناس واذا فسدا فسد سائر الناس العلماء والامراء قال عبد الله بن المبارك :
وهل افسد الدين الا الملو ... ك واحبار سوء ورهبانها ولما كان للسمع والبصر من الادراك ما ليس لغيرهما من الاعضاء كانا في أشرف جزء من الانسان وهو وجهه وكانا من افضل ما في الانسان من الاجزاء والاعضاء والمنافع واختلف في الافضل منهما فقالت طائفة منهم ابو المعالي وغيره السمع افضل قالوا لان به تنال سعادة الدنيا والاخرة فانها انما تحصل بمتابعة الرسل وقبول رسالاتهم وبالسمع عرف ذلك فان من لا سمع له لا يعلم ما جاؤا به وأيضا فان السمع يدرك به اجل شيء وافضله وهو كلام الله تعالى الذي فضله على الكلام كفضل الله على خلقه وأيضا فان العلوم انما تنال بالتفاهم والتخاطب ولا يحصل ذلك الا بالسمع وأيضا فان مدركه اعم من مدرك البصر فانه يدرك الكليات والجزئيات والشاهد والغائب والموجود والمعدوم والبصر لا يدرك الا بعض المشاهدات والسمع يسمع كل علم فاين احدهما من الاخر ولو فرضنا شخصين احدهما يسمع كلام الرسول ولا يرى شخصه والاخر بصير يراه ولا يسمع كلامه لصممه هل كانا سواء وأيضا ففاقد البصر انما يفقد ادراك بعض الامور الجزئية المشاهدة ويمكنه معرفتها بالصفة ولو تقريبا واما فاقد السمع فالذي فاته من العلم لا يمكن حصوله بحاسة البصر ولو قريبا وأيضا فان ذم الله تعالى للكفار بعدم السمع في القرآن اكثر من ذمه لهم بعدم البصر بل انما يذمهم بعدم البصر تبعا لعدم العقل والسمع وأيضا فان الذي يورده السمع على القلب من العلوم لا يلحقه فيه كلال ولا سآمة ولا تعب مع كثرته وعظمه والذي يورده البصر عليه يلحقه فيه الكلال والضعف والنقص وربما خشى صاحبه على ذهابه مع قلته ونزارته بالنسبة إلى السمع وقالت طائفة منهم ابن قتيبة بل البصر افضل فان اعلا النعيم وافضله واعظمه لذة هو النظر إلى الله في الدار الآخرة وهذا انما ينال بالبصر وهذه وحدها كافية في تفضيله قالوا وهو مقدمة القلب وطليعته ورائده فمنزلته منه اقرب من منزلة السمع ولهذا كثيرا ما يقرن بينهما في الذكر بقوله فاعتبروا يا أولي الابصار فالاعتبار بالقلب والبصر بالعين وقال تعالى ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة ولم يقل واسماعهم وقال تعالى فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى قلوب يومئذ واجفة ابصارها خاشعة وقال تعالى يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور وقال في حق رسوله ما كذب الفؤاد ما رأى ثم قال ما زاغ البصر وما طغى هذا يدل على شدة الوصلة والارتباط بين القلب والبصر ولهذا يقرأ الانسان ما في قلب

الاخر من عينه وهذا كثير في كلام الناس نظمه ونثره وهو اكثر من ان نذكره هنا ولما كان القلب اشرف الاعضاء كان اشدها ارتباطا به واشرف من غيره قالوا ولهذا يأتمنه القلب مالا يأتمن السمع عليه بل إذا ارتاب من جهة عرض ما يأتيه به على البصر ليزكيه ام يرده فالبصر حاكم عليه مؤتمن عليه قالوا ومن هذا الحديث الذي رواه احمد في مسنده مرفوعا ليس المخبر كالمعاين قالوا ولهذا اخبر الله سبحانه موسى ان قومه افتتنوا من بعده وعبدوا العجل فلم يلحقه في ذلك ما لحقه عند رؤية ذلك ومعاينته من القاء الالواح وكسرها لفوت المعاينة على الخبر قالوا وهذا إبراهيم خليل الله يسأل ربه ان يريه كيف يحيى الموتى وقد علم ذلك بخبر الله له ولكن طلب افضل المنازل وهي طمأنينة القلب قالوا ولليقين ثلاث مراتب اولها للسمع وثانيها للعين وهي المسماة بعين اليقين وهي افضل من المرتبة الاولى واكمل قالوا وأيضا فالبصر يؤدى إلى القلب ويؤدي عنه فان العين مرآة القلب يظهر فيها ما يحبه من المحبة والبغض والموالاة والمعاداة والسرور والحزن وغيرها وأما الاذن فلا تؤدى عن القلب شيئا البتة وإنما مرتبتها الايصال إليه حسب فالعين اشد تعلقا به والصواب ان كلا منهما له خاصية فضل بها الاخر فالمدرك بالسمع اعم واشمل والمدرك بالبصر اتم واكمل فالسمع له العموم والشمول والبصر له الظهور والتمام وكمال الادراك واما نعيم اهل الجنة فشيئآن احدهما النظر إلى الله والثاني سماع خطابه وكلامه كما رواه عبد الله بن احمد في المسند وغيره كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن اذا سمعوه من الرحمن عز و جل ومعلوم ان سلامه عليهم وخطابه لهم ومحاضرته اياهم كما في الترمذي وغيره لا يشبهها شيء قط ولا يكون اطيب عندهم منها ولهذا يذكر سبحانه في وعيد اعدائه انه لايكلمهم كما يذكر احتجابه عنهم ولا يرونه فكلامه اعلا نعيم اهل الجنة والله اعلم الوجه الرابع والثمانون ان الله سبحانه في القرآن يعدد على عباده من نعمه عليهم ان اعطاهم آلات العلم فيذكر الفؤاد والسمع والابصار ومرة يذكر اللسان الذي يترجم به عن القلب فقال تعالى في سورة النعم وهي سورة النحل التي ذكر فيها اصول النعم وفروعها ومتمماتها ومكملاتها فعددنعمه فيها على عباده وتعرف بها اليهم واقتضاهم شكرها واخبر انه يتمها عليهم ليعرفوها ويذكروها ويشكروها فاولها في اصول النعم وآخرها في مكملاتها قال تعالى والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون فذكر سبحانه نعمته عليهم بان اخرجهم لا علم لهم ثم اعطاهم الاسماع والابصار والافئدة التي نالوا بها من العلم مانالوه وانه فعل بهم ذلك

ليشكروه وقال تعالى وجعلنا لهم سمعا وابصارا وافئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء وقال تعالى الم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فذكر هنا العينين التي يبصر بهما فيعلم المشاهدات وذكر هداية النجدين وهما طريقا الخير والشر وفي ذلك حديث مرفوع ومرسل وهو قول اكثر المفسرين وتدل عليه الاية الاخرى انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا والهداية تكون بالقلب والسمع فقد دخل السمع في ذلك لزوما وذكر اللسان والشفتين اللتين هما آلة التعليم فذكر الات العلم والتعليم وجعلها من آياته الدالة عليه وعلى قدرته ووحدانيته ونعمه التي تعرف بها إلى عباده ولما كانت هذه الاعضاء الثلاثة التي هي اشرف الاعضاء وملوكها والمنصرفة فيها والحاكمة عليها خصها سبحانه وتعالى بالذكر في السؤال عنها فقال إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا فسعادة الانسان بصحة هذه الاعضاء الثلاثة وشقاوته بفسادها قال ابن عباس يسأل الله العباد فيما استعملوا هذه الثلاثة السمع والبصر والفؤاد والله تعالى اعطى العبد السمع ليسمع به اوامر ربه ونواهيه وعهوده والقلب ليعقلها ويفقهها والبصر ليرى آياته فيستدل بها على وحدانيته وربوبيته فالمقصود باعطائه هذه الالات العلم وثمرته ومقتضاه الوجه الخامس والثامنون ان انواع السعادة التي تؤثرها النفوس ثلاثة سعادة خارجية عن ذات الانسان بل هي مستعارة له من غيره يزول باسترداد العارية وهي سعادة المال والحياة فبينا المرء بها سعيدا ملحوظا بالعناية مرموقا بالابصار إذا اصبح في اليوم الواحد اذل من وتد بقاع يشج رأسه بالفهرواجي فالسعادة والفرح بهذه كفرح الاقرع بحمة ابن عمه والجمال بها كجمال المرء بثيابه وبزينته فاذا جاوز بصرك كسوته فليس وراء عبادان قرية ويحكى عن بعض العلماء انه ركب مع تجار في مركب فانكسرت بهم السفينة فاصبحوا بعدعز الغنى في ذل الفقر ووصل العالم إلى البلد فاكرم وقصد بانواع التحف والكرامات فلما ارادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا له هل لك إلى قومك كتاب او حاجة فقال نعم تقولون لهم اذا اتخدتم مالا لا يغرق اذا انكسرت السفينة فاتخذوا العلم تجارة واجتمع رجل ذو هيئة حسنة ولباس جميل ورواء برجل عالم فجس المخاضة فلم ير شيئا فقالوا كيف رايته فقال رأيت دارا حسنة مزخرفة ولكن ليس بها ساكن السعادة الثانية سعادة في جسمه وبدنه كصحته واعتدال مزاجه وتناسب اعضائه وحسن تركيبه وصفاء لونه وقوة اعضائه فهذه الصق به من الاولى ولكن هي في الحقيقة خارجة عن ذاته وحقيقته فان الإنسان انسان بروحه وقلبه لا بجسمه وبدنه كما قيل :

يا خادم الجسم كم يشقى بخدمته ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان فنسبة هذه إلى روحه وقلبه كنسبة ثيابه ولباسه إلى بدنه فان البدن ايضا عارية للروح وآلة لها ومركب من مراكبها فسعادتها بصحته وجماله وحسنة سعادة خارجة عن ذاتها وحقيقتها السعادة الثالثة هي السعادة الحقيقية وهي سعادة نفسانية روحية قلبية وهي سعادة العلم النافع ثمرته فانها هي الباقية على تقلب الاحوال والمصاحبة للعبد في جميع اسفاره وفي دوره الثلاثة اعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار وبها يترقى معارج الفضل ودرجات الكمال اما الاولى فانها تصحبه في البقعة التي فيها ماله وجاهه والثانية تعرضه للزوال والتبدل بنكس الخلق والرد إلى الضعف فلا سعادة في الحقيقة الا في هذه الثالثة التي كلما طال الامد ازدادات قوة وعلوا وإذا عدم المال والجاه فهي مال العبد وجاهه وتظهر قوتها وأثرها بعد مفارقة الروح البدن اذا انقطعت السعادتان الاوليتان وهذه السعادة لا يعرف قدرها ويبعث على طلبها الا العلم بها فعادت السعادة كلها إلى العلم وما تقضيه والله يوفق من يشاء لا مانع لما اعطى ولا معطى لما منع وانما رغب اكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها وعورة طريقها ومرارة مباديها وتعب تحصيلها وانها لاتنال الا على جد من التعب فانها لاتحصل الا بالجد المحض بخلاف الاوليين فانهما حظ قد يحوزه غير طالبه وبخت قد يحوزه غير جالبه من ميراث او هبة او غير ذلك واما سعادة العلم فلا يورثك اياها الا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية وقد احسن القائل في ذلك :
فقل لمرجي معالي الامور ... بغير اجتهاد رجوت المحالا
وقال الآخر
لولا المشقة ساد للناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
ومن طمحت همته إلى الامور العالية فواجب عليه ان يشد على محبة اطرق الدينية وهي السعادة وان كانت في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي وانها متى اكرهت النفس عليها وسيقت طائعة وكارهة اليها وصبرت على لاوائها وشدتها افضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك فحينئذ حال صاحبها كما قيل :
وكنت ارى ان قدتناهى بي الهوى ... إلى غاية ما بعدها لي مذهب

فلما تلاقينا وعاينت حسنها ... تيقنت اني انما كنت العب ...
فالمكارم منوطة بالمكارة والسعادة لا يعبر اليها الا على جسر المشقة فلا تقطعمسافتها الا في سفينة الجد والاجتهاد قال مسلم في صحيحه قال يحيى بن ابي كثير لاينال العلم براحة الجسم وقد قيل من طلب الراحة ترك الراحة
فيا وصل الحبيب اما إليه ... بغير مشقة ابدا طريق
ولولا جهل الاكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف ولكن حفت بحجاب من المكاره وحجبوا عنها بحجاب من الجهل ليختص الله لها من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم الوجه السادس والثمانون ان الله تعالى خلق الموجودات وجعل لكل شيء منها كمالا يختص به هو غاية شرفه فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه واستعمل فيها فكان استعماله فيها كمال امثاله فاذا عدم تلك ايضا نقل إلى ما دونها ولا تعطل وهكذا ابدا حتى اذا عدم كل فضيلة صار كالشوك وكالحطب الذي لا يصلح الا للوقود فالفرس اذا كانت فيه فروسيته التامة اعد لمراكب الملوك واكرم أكرام مثله فإذا نزل عنها قليلا اعد لمن دون الملك فإن ازداد تقصيره فيها اعد لاحاد الاجناد فان تقاصر عنها جملة استعمل استعمال الحمار اما حول المدار واما لنقل الزبل ونحوه فان عدم ذلك استعمل استعمال الاغنام للذبح والاعدام كما يقال في المثل ان فرسين التقيا احدهما تحت ملك والاخر تحت الروايا فقال فرس الملك اما انت صاحبي وكنت انا وانت في مكان واحد فما الذي نزل بك إلى هذه المرتبة فقال ما ذاك الا انك هملجت قليلا ونعكست انا وهكذا السيف اذا نباعما هيء له ولم يصلح له ضرب منه فاس او منشار ونحوه وهكذا الدور العظام الحسان اذا خرجت وتهدمت اتخذت حظائر للغنم او الابل وغيرها وهكذا الادمي اذا كان صالحا لاصطفاء الله له برسالته ونبوته اتخذه رسولا ونبيا كما قال تعالى الله اعلم حيث يجعل رسالته فاذا كان جوهره قاصرا عن هذه الدرجة صالحا لخلافة النبوة وميراثها رشحه لذلك وبلغه اياه فإذا كان قاصرا عن ذلك قابلا لدرجة الولاية رشح لها وان كان ممن يصلح للعمل والعبادة دون المعرفة والعلم جعل من اهله حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين فان نقص عن هذه الدرجة ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير اصلا استعمل حطبا ووقودا للنار وفي اثر اسرائيلي ان موسى سأل ربه عن شان من يعذبهم من خلقه فقال يا موسى ازرع زرعا فزرعه فاوحى إليه ان احصده ثم اوحى إليه ان أنسفه وذره ففعل وخلص الحب وحده والعيدان والعصف وحده فاوحى إليه اني لاجعل في النار من العباد من لا خير فيه بمنزلة العيدان والشوك التي لا يصلح الا للنار وهكذا الانسان يترقى في درجات الكمال درجة بعد

درجة حتى يبلغ نهاية ما يناله امثاله منها فكم بين حاله في اول كونه نطفة وبين حاله والرب يسلم عليه في داره وينظر إلى وجهه بكرة وعشيا والنبي صلى الله عليه و سلم في اول امره لما جاءه الملك فقال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ وفي آخره امره بقول الله له اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي وبقوله له خاصة وانزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وحكى ان جماعة من النصارى تحدثوا فيما بينهم فقال قائل منهم ما أقل عقول المسلمين يزعمون ان نبيهم كان راعي الغنم فكيف يصلح راعي الغنم للنبوة فقال له آخر من بينهم اما هم فوالله اعقل منا فان الله بحكمته يسترعي النبي الحيوان البهيم فاذا احسن رعايته والقيام عليه نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق حكمة من الله وتدريجا لعبده ولكن نحن جئنا إلى مولود خرج من امرأة يأكل ويشرب ويبول ويبكي فقلنا هذا الهنا الذي خلق السموات والارض فامسك القوم عنه فكيف يحسن بذي همة قد ازاح الله عنه علله وعرفه السعادة والشقاوة ان يرضى بان يكون حيوانا وقد أمكنه ان يصير انسانا وبان يكون إنسانا وقد امكنه ان يكون ملكا وبأن يكون ملكا وقد امكنه ان يكون ملكا في مقعد صدق عند مليك مقتدر فتقوم الملائكة في خدمته وتدخل عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار وهذا الكمال إنما ينال بالعلم ورعايته والقيام بموجبه فعاد الامر إلى العلم وثمرته والله تعالى الموفق واعظم النقص واشد الحسرة نقص القادر علىالتمام وحسرته على تقويته كما قال بعض السلف اذا كثرت طرق الخير كان الخارج منها اشد حسرة وصدق القائل :
ولم ار في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام فثبت انه لا شيء اقبح بالانسان من ان يكون غافلا عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والاعمال الصالحة فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع الذين يكدرون الماء ويغلون الاسعار ان عاش عاش غير حميد وان مات مات غير فقيد فقدهم راحة للبلاد والعباد ولا تبكي عليهم السماء ولا تستوحش لهم الغبراء الوجه السابع والثمانون ان القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه اذا استحكما فيه كان هلاكه وموته وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات هذان اصل داء الخلق الا من عافاه الله وقد ذكر الله تعالى هذين المرضين في كتابه اما مرض الشبهات وهو اصعبهما واقتلهما للقلب ففي قوله في حق المنافقين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقوله وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا وقال تعالى ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم فهذه ثلاثة مواضع المراد بمرض القلب فيها مرض الجهل والشبهة واما مرض

الشهوة ففي قوله يانساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض أي لا تلن في الكلام فيطمع الذي في قلبه فجور وزناء قالوا والمرأة ينبغي لها اذا خاطبت الاجانب ان تغلظ كلامها وتقويه ولا تلينه وتكسره فان ذلك ابعد من الريبة والطمع فيها وللقلب امراض اخر من الرياء والكبر والعجب والحسد والفخر والخيلاء وحب الرياسة والعلو في الارض وهذا مرض مركب من مرض الشبهة والشهوة فإنه لا بد فيه من تخيل فاسد وارادة باطلة كالعجب والفخر والخيلاء والكبر المركب من تخيل عظمته وفضله وإرادة تعظيم الخلق له ومحمدتهم فلا يخرج مرضه عن شهوة او شبهة او مركب منهما وهذه الامراض كلها متولدة عن الجهل ودواؤها العلم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث صاحب الشجة الذي افتوه بالغسل فمات قتلوه قتلهم الله الا سألوا اذ لم يعلموا انما شفاء العي السؤال فجعل العي وهو عي القلب عن العلم واللسان عن النطق به مرضا وشفاؤه سؤال العلماء فأمراض القلوب اصعب من امراض الابدان لان غاية مرض البدن ان يفضي بصاحبه إلى الموت وأما مرض القلب فيفضي بصاحبه إلى الشقاء الابدي ولا شفاء لهذا المرض الا بالعلم ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاء لامراض الصدور وقال تعالى يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم منه وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ولهذا السبب نسبة العلماء إلى القلوب كنسبة الاطباء إلى الابدان وما يقال للعلماء اطباء القلوب فهو لقدر ما جامع بينهما والا فالامر اعظم فان كثيرا من الامم يستغنون عن الاطباء ولا يوجد الاطباء الا في اليسير من البلاد وقد يعيش الرجل عمره او برهة منه لا يحتاج إلى طبيب واما العلماء بالله وامره فهم حياة الموجود وروحه ولا يستغنى عنهم طرفة عين فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفس في الهواء بل اعظم وبالجملة فالعلم للقلب مثل الماء للسمك اذا فقده مات فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين اليها وكنسبة سمع الاذن وكنسبة كلام اللسان إليه فإذا عدمه كان كالعين العمياء والاذن الصماء واللسان الاخرس ولهذا يصف سبحانه اهل الجهل بالعمى والصم والبكم وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها قال تعالى ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا والمراد عمى القلب في الدنيا وقال تعالى ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم لانهم هكذا كانوا في الدنيا والعبد يبعث على ما مات عليه واختلف في هذا العمى في الآخرة فقيل هوعمى البصيرة بدليل اخباره تعالى عن رؤية الكفار ما في القيامة ورؤية الملائكة ورؤية النار وقيل هو عمي البصر ورجح هذا بان الاطلاق ينصرف إليه وبقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا وهذا عمي العين فان الكافر لم يكن بصيرا بحجته واجاب هؤلاء عن رؤية الكفار

في القيامة بأن الله يخرجهم من قبورهم إلى موقف القيامة بصراء ويحشرون من الموقف إلى النار عميا قاله الفراء وغيره الوجه الثامن والثمانون ان الله سبحانه بحكمته سلط على العبد عدوا عالما بطرق هلاكه واسباب الشر الذي يلقيه فيه متفننا فيها خبيرا بها حريصا عليها لايفتر يقظة ولا مناما ولا بد له من واحدة من ست ينالها منه احدها وهي غاية مراده منه ان يحول بينه وبين العلم والايمان فيلقيه في الكفر فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح فان فاتته هذه وهدى للاسلام حرص على تلو الكفر وهي البدعة وهي احب إليه من المعصية فان المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لان صاحبها يرى انه على هدى وفي بعض الاثار يقول ابليس اهلكت بني آدم بالذنوب واهلكوني بالاستغفار وبلا اله الا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الاهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لانهم يحسبون انهم يحسنون صنعا فاذا ظفر منه بهذه صيره من رعاته وامرائه فان اعجزته شغله بالعمل المفضول عما هو افضل منه ليرتج عليه الذي بينهما وهي الخامسة فان اعجزه ذلك صار إلى السادسة وهي تسليط حزبه عليه يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه ويشغل قلبه عن العلم والارادة وسائر اعماله فكيف يمكن ان يحترز منه من لا علم له بهذه الامور ولا بعدوه ولا بما يحصنه منه فانه لا ينجو من عدوه الا من عرفه وعرف طريقه التي يأتيه منها وجيشه الذي يستعين به عليه وعرفت داخله ومخارجه وكيفية محاربته وبأي شيء يحاربه وبماذا يداوى جراحته وبأي شيء يستمد القوة لقتاله ودفعه وهذا كله لا يحصل الا بالعلم فالجاهل في غفلة وعمى عن هذا الامر العظيم والخطب الجسيم ولهذا جاء ذكر العدو وشأنه وجنوده ومكايده في القرآن كثيرا جدا لحاجة النفوس الىمعرفة عدوها وطرق محاربته ومجاهدته فلولا ان العلم يكشف عن هذا لما نجا من نجا منه فالعلم هو الذي تحصل به النجاة الوجه التاسع والثمانون ان اعظم الاسباب التي يحرم بها العبد خير الدنيا والاخرة ولذة النعيم في الدارين ويدخل عليه عدو منها هو الغفلة المضادة للعلم والكسل المضاد للارادة والعزيمة هذان اصل بلاء العبد وحرمانه منازل السعداء وهما من عدم العلم اما الغفلة فمضادة للعلم منافية له وقد ذم سبحانه اهلها ونهى عن الكون منهم وعن طاعتهم والقبول منهم قال تعالى ولاتكن من الغافلين وقال تعالى ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل واولئك هم الغافلون وقال النبي صلى الله عليه و سلم في وصيته لنساء المؤمنين لا تغفلن فتنسين الرحمة وسئل بعض العلماء عن عشق الصور فقال قلوب غفلت عن ذكر الله فابتلاها الله بعبودية غيره فالقلب الغافل مأوى

الشيطان فانه وسواس خناس قد التقم قلب الغافل يقرأ عليه انواع الوساوس والخيالات الباطلة فاذا تذكر وذكر الله انجمع وانضم وخنس وتضاءل لذكر الله فهو دائما بين الوسوسة والخنس وقال عروة بن رويم ان المسيح صلى الله عليه و سلم سأل ربه ان يريه موضع الشيطان من ابن آدم فجلى له فاذا رأسه راس الحية واضع راسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا لم يذكر وضع رأسه على ثمرة قلبه فمناه وحدثه وقد روى في هذا المعنى حديث مرفوع فهو دائما يترقب غفلة العبد فيبذر في قلبه بذر الاماني والشهوات والخيالات الباطلة فيثمر كل حنظل وكل شوك وكل بلاء ولا يزال يمده بسقيه حتى يغطى القلب ويعميه واما الكسل فيتولد عنه الاضاعة والتفريط والحرمان واشد الندامة وهو مناف لاراده والعزيمة التي هي ثمرة العلم فان من علم ان كماله ونعيمه في شيء طلبه بجهده وعزم عليه بقلبه كله فإن كل احد يسعى في تكميل نفسه ولذته ولكن اكثرهم اخطأ الطريق لعدم علمه بما ينبغي ان يطلبه فالارادة مسبوقة بالعلم والتصور فتخلفها في الغالب إنما يكون لتخلف العلم والادراك وإلا فمع العلم التام بان سعادة العبد في هذا المطلب ونجاته وفوزه كيف يلحقه كسل في النهوض إليه ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه و سلم من الكسل ففي الصحيح عنه انه كان يقول اللهم اني اعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فاستعاذ من ثمانية اشياء كل شيئين منها قرينان والفرق بينهما ان المكروه الوارد على القلب اما ان يكون على ما مضى او لما يستقبل فالاول هو الحزن والثاني الهم وان شئت قلت الحزن على المكروه الذي فات ولا يتوقع دفعه والهم على المكروه المنتظر الذي يتوقع دفعه وتأمله والعجز والكسل قرينان فان تخلف مصلحة العبد وكماله ولذته وسروره عنه اما ان يكون مصدره عدم القدرة فهو العجز او يكون قارا عليه لكن تخلف لعدم إرادته فهو الكسل وصاحبه يلام عيه مالا يلام على العجز وقد يكون العجز ثمرة الكسل فيلام عليه ايضا فكثيرا ما يكسل المرء عن الشيء الذي هو قادر عليه وتضعف عنه ارادته فيفضي به إلى العجز عنه وهذا هو العجز الذي يلوم الله عليه في قول النبي صلى الله عليه و سلم ان الله يلوم على العجز وإلا فالعجز الذي لم تخلق له قدرة على دفعه ولا يدخل معجوزه تحت القدرة لا يلام عليه قال بعض الحكماء في وصيته إياك والكسل والضجر فان الكسل لا ينهض لمكرمة والضجر إذا نهض اليها لا يصبر عليها والضجر متولدعن الكسل والعجز فلم يفرده في الحديث بلفظ ثم ذكر الجبن والبخل فان الاحسان المتوقع من العبد اما بماله واما ببدنه فالبخيل مانع لنفع ماله والجبان مانع لنفع بدنه المشهور عند الناس ان البخل مستلزم الجبن من غير عكس لان من بخل بماله فهو بنفسه ابخل والشجاعة تستلزم الكرم من غير عكس لان من جاد بنفسه فهو بماله اسمح واجود وهذا الذي

قالوه ليس بلازم اكثره فان الشجاعة والكرم واضدادها اخلاق وغرائز قد تجمع في الرجل وقد يعطى بعضها دون بعض وقد شاهد الناس من اهل الاقدام والشجاعة والبأس من هو ابخل الناس وهذا كثيرا ما يوجد في امة الترك يكون اشجع من ليث وابخل من كلب فالرجل قد يسمح بنفسه ويضن بماله ولهذا يقاتل عليه حتى يقتل فيبدأ بنفسه دونه فمن الناس من يسمح بنفسه وماله ومنهم من يبخل بنفسه ومنهم من يسمح بماله ويبخل بنفسه وعكسه والاقسام الاربعة موجودة في الناس ثم ذكر ضلع الدين وغلبة الرجال فان القهر الذي ينال العبد نوعان احدهما قهر بحق وهو ضلع الدين والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال فصلوات الله وسلامه على من اوتي جوامع الكلم واقتبست كنوز العلم والحكمة من الفاظة والمقصود ان الغفلة والكسل اللذين هما اصل الحرمان سببهما عدم العلم فعاد النقص كله إلى عدم العلم والعزيمة والكمال كله إلى العلم والعزيمة والناس في هذا على اربعة اضرب الضرب الاول من رزق علما واعين على ذلك بقوة العزيمة على العمل وهذا الضرب خلاصة الخلق وهم الموصوفون في القرآن بقوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله اولى الايدي والابصار وبقوله افمن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فبالحياة تنال العزيمة وبالنور ينال العلم وأئمة هذا الضرب هم اولو العزم من الرسل الضرب الثاني من حرم هذا وهذا وهم الموصوفون بقوله إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون وبقوله ام تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام بل هم اضلوا سبيلا وبقوله انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء وقوله وما انت بمسمع من في القبور وهذا الصنف شر البرية يضيقون الديار ويغلون الاسعار وعند انفسهم انهم يعلمون ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت ويعبدون ولكن يعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق ويتفكرون ويبيتون ولكن مالا يرضى من القول يبيتون ويدعون ولكن مع الله الها آخر يدعون ويذكرون ولكن إذا ذكروا لا يذكرون ويصلون ولكنهم من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون ويكتبون ولكن يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت ايديهم وويل لهم مما يسكبون ويقولون إنما نحن مصلحون ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون فهذا الضرب ناس بالصورة وشياطين بالحقيقة وجلهم إذا فكرت فهم حمير او كلاب او ذئاب وصدق البحتري في قوله :

لم يبق من جل هذا الناس باقية ... ينالها الوهم الا هذه الصور وقال الاخر
لا تخدعنك اللحاء والصور ... تسعة اعشار من ترى بقر في شجر السدر منهم مثل ... لها رواء وما لها ثمر واحسن من هذا كله قوله تعالى وإذا رأيتهم تعجبك اجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة عالمهم كما قيل فيه :
زوامل للأسفار لا علم عندهم ... يجيدها الا كعلم الاباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... باوساقه او راح ما في الغرائر واحسن من هذا وابلغ واوجز وافصح قوله تعالى كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين الضرب الثالث من فتح له باب العلم وأغلق عنه باب العزم والعمل فهذا في رتبة الجاهل او شر منه وفي الحديث المرفوع اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ثبته ابو نعيم وغيره فهذا جهله كان خيرا له واخف لعذابه من كمله فما زاده العلم إلا وبالا وعذابا وهذا لا مطمع في صلاحه فإن التائه عن الطريق يرجى له العود اليها إذا ابصرها فإذا عرفها وحاد عنها عمدا فمتى ترجى هدايته قال تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين الضرب الرابع من رزق حظا من العزيمة والارادة ولكن قل نصيبه من العلم والمعرفة فهذا اذا وفق له الاقتداء بداع من دعاة الله ورسوله كان من الذين قال الله فيهم ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما رزقنا الله من فضله ولا احرمنا بسوء اعمالنا انه غفور رحيم الوجه التسعون ان كل صفة مدح الله بها العبد في القرآن فهي ثمرة العلم ونتيجته وكل ذم ذمه فهو ثمرة الجهل ونتيجته فمدحه بالايمان وهو راس العلم ولبه ومدحه بالعمل الصالح الذي هو ثمرة العلم النافع ومدحه بالشكر والصبر والمسارعة في الخيرات والحب له والخوف منه والرجاء والانابة والحلم والوقار واللب والعقل والعفة والكرم والايثار على النفس والنصيحة لعباده والرحمة بهم والرأفة وخفض الجناح والعفو عن مسيئهم والصفح عن جانبهم وبذل الاحسان لكافتهم ودفع السيئة بالحسنة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في مواطن الصبر والرضا بالقضاء واللين للأولياء والشدة على الاعداء والصدق في الوعد والوفاء بالعهد والاعراض

عن الجاهلين والقبول من الناصحين واليقين والتوكل والطمأنينة والسكينة والتواصل والتعاطف والعدل في الاقوال والافعال والاخلاق والقوة في امره والبصيرة في دينه والقيام بأداء حقه واستخراجه من المانعين له والدعوة إليه وإلى مرضاته وجنته والتحذير عن سبل اهل الضلال وتبيين طرق الغي وحال سالكيها والتواصي بالحق والتواصي بالصبر والحض على طعام المسكين وبر الوالدين وصلة الارحام وبذل السلام لكافة المؤمنين إلى سائر الاخلاق المحمودة والافعال المرضية التي اقسم الله سبحانه على عظمها فقال تعالى ن والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لاجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم قالت عائشة رضى الله عنها وقد سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت كان خلقه القرآن فاكتفى بذلك السائل وقال فهمت ان اقوم ولا أسال عن شيء بعدها فهذه الاخلاق ونحوها هي ثمرة شجرة العلم واما شجرة الجهل فتثمر كل ثمرة قبيحة من الكفر والفساد والشرك والظلم والبغي والعدوان والجزع والهلع والكنود والعجلة والطيش والحدة والفحش والبذاء والشح والبخل ولهذا قيل في حد البخل جهل مقرون بسوء الظن ومن ثمرته الغش للخلق والكبر عليهم والفخر والخيلاء والعجب والرياء والسمعة والنفاق والكذب واخلاف الوعد والغلظة على الناس والانتقام ومقابلة الحسنة بالسيئة والامر بالمنكر والنهي عن المعروف وترك القبول من الناصحين وحب غير الله ورجائه والتوكل عليه وإيثار رضاه على رضا الله وتقديم امره على امر الله والتماوت عند حق الله والوثوق بما عند حق نفسه والغضب لها والانتصار لها فإذا انتهكت حقوق نفسه لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم بأكثر من حقه وإذا انتهكت محارم الله لم ينبض له عرق غضبا لله فلا قوة في امره ولا بصيرة في دينه ومن ثمرتها الدعوة إلى سبيل الشيطان وإلى سلوك طرق البغي واتباع الهوى وايثار الشهوات على الطاعات وقيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ووأد البنات وعقوق الامهات وقطيعة الارحام وإساءة الجوار وركوب مركب الخزي والعار وبالحملة فالخير بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم والشر بمجموعه شوك يجتنى من شجرة الجهل فلو ظهرت صورة العلم للأبصار لزاد حسنها على صورة الشمس والقمر ولو ظهرت صورة الجهل لكان منظرها اقبح منظر بل كل خير في العالم فهو من آثار العلم الذي جاءت به الرسل ومسبب عنه وكذلك كل خير يكون إلى قيام الساعة وبعدها في القيامة وكل شر وفساد حصل في العالم ويحصل إلى قيام الساعة وبعدها في القيامة فسببه مخالفة ما جاءت به الرسل في العلم والعمل ولو لم يكن للعلم اب ومرب وسائس ووزير الا العقل الذي به عمارة الدارين وهو الذي ارشد إلى طاعة الرسل وسلم

القلب والجوارح ونفسه اليهم وانقاد لحكمه وعزل نفسه وسلم الامر إلى اهله لكفى به شرفا وفضلا وقد مدح الله سبحانه العقل وأهله في كتابه في مواضع كثيرة منه وذم من لا عقل له وأخبر انهم اهل النار الذين لا سمع لهم ولا عقل فهو آلة كل علم وميزانه الذي به يعرف صحيحه من سقيمه وراجحه من مرجوحه والمرآة التي يعرف بها الحسن من القبيح وقد قيل العقل ملك والبدن روحه وحواسه وحركاته كلها رعية له فإذا ضعف عن القيام عليها وتعهدها وصل الخلل اليها كلها ولهذا قيل من لم يكن عقله اغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه وروى انه لما هبط آدم من الجنة اتاه جبريل فقال ان الله احضرك العقل والدين والحياء لتختار واحدا منها فقال اخذت العقل فقال الدين والحياء امرنا ان لا نفارق العقل حيث كان فانحاز إليه والعقل عقلان عقل غريزة وهو اب العلم ومربيه ومتمره وعقل مكتسب مستفاد وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء واستقام له امره واقبلت عليه جيوش السعادة من كل جانب وإذا فقد احدهما فالحيوان البهيم احسن حالا منه واذا انفرد انتقص الرجل بنقصان احدهما ومن الناس من يرجح صاحب العقل الغريزي ومنهم من يرجح صاحب العقل المكتسب والتحقيق ان صاحب العقل الغريزي الذي لا علم ولا تجربة عنده آفته التي يؤتى منه الاحجام وترك انتهاز الفرصة لان عقله يعقله عن انتهاز الفرصة لعدم علمه بها وصاحب العقل المكتسب يؤتى من الاقدام فان علمه بالفرص وطرقها يلقيه على المبادرة اليها وعقله الغريزي لا يطيق رده عنه فهو غالبا يؤتى من إقدامه والاول من احجامه فإذا رزق العقل الغريزي عقلا ايمانيا مستفادا من مشكاة النبوة لا عقلا معيشيا نفاقيا يظن اربابه انهم على شيء الا انهم هم الكاذبون فانهم يرون العقل ان يرضوا الناس على طبقاتهم ويسالموهم ويستجلبوا مودتهم ومحبتهم وهذا مع انه لا سبيل إليه فهو ايثار للراحة والدعة ومؤنة الاذى في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه وهو وان كان اسلم عاجلة فهو الهلك في الاجلة فإنه ما ذاق طعم الايمان من لم يوال في الله ويعاد فيه فالعقل كل العقل ما اوصل إلى رضا الله ورسوله والله الموفق المعين وفي حديث مرفوع ذكره ابن عبدالبر وغيره اوحى الله إلى نبي من انبياء بني اسرائيل قل لفلان العابد اما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة واما انقطاعك الي فقد اكتسبت به العز فما عملت فيما لي عليك قال وما لك على قال هل واليت في وليا او عاديت في عدوا وذكر ايضا انه اوحى الله إلى جبريل ان اخسف بقرية كذا وكذا قال يا رب ان فيهم فلانا العابد قال به فابدأ انه لم يتمعر وجهه في يوما قط الوجه الحادي والتسعون حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم اذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة قال

حلق الذكر فإن لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر فاذا اتوا عليهم صفوا بهم قال عطاء مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام كيف يشترى ويبيع ويصوم ويصلي ويتصدق وينكح ويطلق ويحج ذكره الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه وقد تقدم بيانه الوجه الثاني والتسعون ما رواه الخطيب ايضا عن ابن عمر يرفعه مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة وفي رفعه نظر الوجه الثالث والتسعون ما رواه ايضا من حديث عبدالرحمن بن عوف يرفعه يسير الفقه خير من كثير من العبادة ولا يثبت رفعه الوجه الرابع والتسعون ما رواه ايضا من حديث انس يرفعه فقيه افضل عند الله من ألف عابد وهو في الترمذي من حديث روح ابن جناح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وفي ثبوتهما مرفوعين نظر والظاهر ان هذا من كلام الصحابة فمن دونهم الوجه الخامس والتسعون ما رواه ايضا عن ابن عمر يرفعه افضل العبادة الفقه الوجه السادس والتسعون ما رواه ايضا من حديث نافع عن ابن عمر يرفعه ما عبد الله بشيء افضل من فقه في دين الوجه السابع والتسعون ما رواه عن علي انه قال العالم اعظم اجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله الوجه الثامن والتسعون ما رواه المخلص عن صاعد حدثنا القاسم بن الفضل بن بزيع حدثنا حجاج بن نصير حدثنا هلال بن عبدالرحمن الجعفي عن عطاء بن أبي ميمونة عن ابي هريرة وأبي ذرأنهما قالا باب من العلم يتعلمه احب الينا من الف ركعة تطوعا وباب من العلم نعلمه عمل به او لم يعمل احب الينا من مائة ركعة تطوعا وقالا سمعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا جاء الموت طالب العالم وهو على هذه الحال مات شهيدا ورواه ابن ابي داود عن شاذان عن حجاج به قلت وشاهده ما مر من حديث الترمذي عن انس يرفعه من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع الوجه التاسع والتسعون ما رواه الخطيب ايضا عن ابي هريرة قال لان اعلم بابا من العلم في أمر او نهي احب الي من سبعين غزوة في سبيل الله وهذا ان صح فمعناه احب الي من سبعين غزوة بلا علم لان العمل بلا علم فساده اكثر من صلاحه او يريد علما يتعلمه ويعلمه فيكون له اجر من عمل به إلى يوم القيامة وهذا لا يحصل في الغزو المجرد الوجه المائة ما رواه الخطيب ايضا عن ابي الدرداء انه قال مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة الوجه الحادي والمائة ما رواه عن الحسن قال لان العلم بابا من العلم فاعلمه مسلما احب الي من ان يكون لي الدنيا في سبيل الله الوجه الثاني والمائة قال مكحول ما عبد الله بأفضل من الفقه الوجه الثالث والمائة قال سعيد بن المسيب ليست عبادة الله بالصوم والصلاة ولكن بالفقه في دينه وهذا الكلام يراد به امران احدهما انها ليست بالصوم والصلاة الخاليين عن العلم ولكن بالفقه الذي يعلم به كيف الصوم والصلاة والثاني انها ليست الصوم والصلاة

فقط بل الفقه في دينه من اعظم عباداته الوجه الرابع والمائة قال اسحاق بن عبد الله بن ابي فروة اقرب الناس من درجة النبوة العلماء واهل الجهاد والعلماء دلوا الناس على ما جاءت به الرسل وقد تقدم الكلام في تفضيل العالم على الشهيد وعكسه الوجه الخامس والمائة قال سفيان بن عيينة ارفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الرسل والعلماء الوجه السادس والمائة قال محمد بن شهاب الزهري ما عبدالله بمثل الفقه وهذا الكلام ونحوه يراد به انه ما يعبد الله بمثل ان يتعبد بالفقه في الدين فيكون نفس التفقه عبادة كما قال معاذ بن جبل عليكم بالعلم فان طلبه لله عبادة وسيأتي ان شاء الله ذكر كلامه بتمامه وقد يراد به انه ما عبد الله بعبادة افضل من عبادة يصحبها الفقه في الدين لعلم الفقيه في دينه بمراتب العبادات ومفسداتها وواجبا وسننها وما يكملها وما ينقصها وكلا المعنيين صحيح الوجه السابع والمائة قال سهل بن عبدالله التستري من أراد النظر إلى مجالس الانبياء فلينظر إلى مجالس العلماء وهذا لان العلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم فمجالسهم مجالس خلافة النبوة الوجه الثامن والمائة ان كثيرا من الائمة صرحوا بأن افضل الاعمال بعد الفرائض طلب العلم فقال الشافعي ليس شيء بعد الفرائض افضل من طلب العلم وهذا الذي ذكر اصحابه عنه انه مذهبه وكذلك قال سفيان الثوري وحكاه الحنفية عن ابي حنيفة واما الامام احمد فحكى عنه ثلاث روايات احداهن انه العلم فإنه قيل له أي شيء احب اليك اجلس بالليل انسخ او اصلي تطوعا قال نسخك تعلم به امور دينك فهو احب الي وذكر الخلال عنه في كتاب العلم نصوصا كثيرة في تفضيل العلم ومن كلامه فيه الناس إلى العلم احوج منهم إلى الطعام والشراب وقد تقدم الرواية الثانية ان افضل الاعمال بعدالفرائض صلاة التطوع واحتج لهذه الرواية بقوله صلى الله عليه و سلم واعلموا ان خير اعمالكم الصلاة وبقوله في حديث ابي ذر وقد سأله عن الصلاة فقال خيرموضوع وبأنه اوصى من سأله موافقته في الجنة بكثرة السجود وهو الصلاة وكذلك قوله في الحديث الاخر عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة وبالاحاديث الدالة على تفضيل الصلاة والرواية الثالثة انه الجهاد فإنه قال لا اعدل بالجهاد شيئا من ذا يطيقه ولا ريب ان اكثر الاحاديث في الصلاة والجهاد وأما مالك فقال ابن القاسم سمعت مالكا يقول ان اقواما ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم فخرجوا على امة محمد صلى الله عليه و سلم بأسيافهم ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك قال مالك وكتب ابو موسى الاشعري إلى عمر بن الخطاب انه قرا القرآن عندنا عددكذا وكذا فكتب إليه عمر ان افرض لهم من بيت المال فلما كان في العام

الثاني كتب إليه انه قد قرا القرآن عندنا عدد كثير لأكثر من ذلك فكتب إليه عمر ان امحهم من الديوان فاني اخاف من ان يسرع الناس في القرآن ان يتفقهوا في الدين فيتأولوه على غير تأويله وقال ابن وهب كنت بين يدي مالك بن انس فوضعت الواحي وقمت إلى الصلاة فقال ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي تركته قال شيخنا وهذه الامور الثلاثة التي فضل كل واحد من الائمة بعضها وهي الصلاة والعلم والجهاد هي التي قال فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه لولا ثلاث في الدنيا لما احببت البقاء فيها لولا ان احمل او اجهز جيشا في سبيل الله ولولا مكابدة هذا الليل ولولا مجالسة اقوام ينتقون اطايب الكلام كما ينتقى اطايب التمر لما احببت البقاء فالاول الجهاد والثاني قيام الليل والثالث مذاكرة العلم فاجتمعت في الصحابة بكمالهم وتفرقت فيمن بعدهم الوجه التاسع والمائة ما ذكره ابو نعيم وغيره عن بعض اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال فضل العلم خير من نفل العمل وخير دينكم الورع وقد روى هذا مرفوعا من حديث عائشة رضى الله عنها وفي رفعه نظر وهذا الكلام هو فصل الخطاب في هذه المسئلة فإنه إذا كان كل من العلم والعمل فرضا فلا بد منهما كالصوم والصلاة فإذا كانا فضلين وهما النفلان المتطوع بهما ففضل العلم ونفله خير من فضل العبادة ونفلها لان العلم يعم نفعه صاحبه والناس معه والعبادة يختص نفعها بصاحبها ولان العلم تبقى فائدته وعلمه بعد موته والعبادة تنقطع عنه ولما مر من الوجوه السابقة الوجه العاشر بعدالمائة ما رواه الخطيب وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يحسنه صدقة وبذله لاهله قربة به يعرف الله ويعبد وبه يؤحد وبه يعرف الحلال من الحرام وتوصل الارحام وهو الانيس في الوحده والصاحب في الخلوة والدليل على السراء والمعين على الضراء والوزير عند الاخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة يرفع الله به اقواما فيجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدى بهم ادلة في الخير تقتص آثارهم وترمق افعالهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتهم تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهو امه وسباع البر وانعامه والسماء ونجومها والعلم حياة القلوب من العمى ونور للأبصار من الظلم وقوة للآبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الابرار والدرجات العلى التفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام وهو إمام للعمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الاشقياء هذا الاثر معروف عن معاذ وروراه ابو نعيم في المعجم من حديث معاذ مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ولا يثبت وحسبه ان يصل إلى معاذ الوجه الحادي

عشر بعدالمائة ما رواه يونس بن عبدالاعلى عن ابن ابي فديك حدثني عمرو بن كثير عن ابي العلاء عن الحسن عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الاسلام فبينه وبين الانبياء في الجنة درجة النبوة وقد روى من حديث علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم وهذا وإن كان لا يثبت اسناده فلا يبعد معناه من الصحة فإن افضل الدرجات النبوة وبعدها الصديقية وبعدها الشهادة وبعدها الصلاح وهذه الدرجات الاربع التي ذكرها الله تعالى في كتابه في قوله ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا فمن طلب العلم ليحيى به الاسلام فهو من الصديقين ودرجته بعد درجة النبوة الوجه الثاني عشر بعدالمائة قال الحسن في قوله تعالى ربنا آتنا في الدنيا حسنة هي العلم والعبادة وفي الآخرة حسنة هي الجنة وهذا من احسن التفسير فإن اجل حسنات الدنيا العلم النافع والعمل الصالح الوجه الثالث عشر بعدالمائة قال ابن مسعودعليكم بالعلم قبل ان يرفع ورفعه هلاك العلماء فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء ان يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم وإن احدا لم يولد عالما وإنما العلم بالتعلم الوجه الرابع عشر بعد المائة قال ابن عباس وابو هريرة وبعدهما احمد بن حنبل تذاكر العلم بعض ليلة احب الينا من احيائها الوجه الخامس عشر بعدالمائة قال عمر رضى الله عنه ايها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداء يحبه فمن طلب باب من العلم رداه الله بردائه فإن اذنب ذنبا استعتبه لئلا يسلبه رداءه ذلك حتى يموت به قلت ومعنى استعتاب الله عبدة ان يطلب منه ان يعتبه أي يزيل عتبه عليه بالتوبة والاستغفار والانابة فإذا اناب إليه رفع عنه عتبة فيكون قد اعتب ربه أي ازال عتبه عليه والرب تعالى قد استعتبه أي طلب منه ان يعتبه ومن هذا قول ابن مسعود وقد وقعت زلزلة بالكوفة ان ربكم يستعتبكم فاعتبوه وهذا هو الاستعتاب الذين تقاه سبحانه في الآخرة في قوله فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون أي لا نطلب منهم إزالة عتبنا عليهم فإن إزالته إنما تكون بالتوبة وهي لا تنفع في الآخرة وهذا غير استعتاب العبد ربه كما في قوله تعالى فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وان يستعتبوا فماهم من المعتبين فهذا معناه ان يطلبوا إزالة عتبنا عليهم والعفو فماهم من المعتبين أي ماهم ممن يزال العتب عليهم وهذا الاستعتاب ينفع في الدنيا دون الآخرة الوجه السادس عشر بعدالمائة قال عمر رضى الله عنه موت الف عابد اهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه ووجه قول عمر ان هذا العالم يهدم على إبليس كل ما يبنيه بعلمه وإرشاده واما العابد فنفعه مقصور على نفسه الوجه السابع عشر بعدالمائة قول بعض السلف إذا اتى على يوم

لا ازداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم وقد رفع هذا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ورفعه إليه باطل وحسبه ان يصل إلى واحد من الصحابة او التابعين وفي مثله قال القائل إذا مربي يوم ولم استفد هدى ولم اكتسب علما فما ذلك من عمري الوجه الثامن عشر بعدالمائة قال بعض السلف الايمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم وقد رفع هذا ايضا ورفعه باطل الوجه التاسع عشر بعدالمائة إنه في بعض الاثار بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة وقد رفع هذا ايضا وفي رفعه نظر الوجه العشرون بعدالمائة ما رواه حرب في مسائله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم يجمع الله تعالى العلماء يوم القيامة ثم يقول يا معشر العلماء إني لم اضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم اضع علمى فيكم لاعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم وهذا وإن كان غريبا فله شواهد حسان الوجه الحادي والعشرون بعدالمائة قول ابن المبارك وقد سئل من الناس قال العلماء قيل فمن الملوك قال الزهاد قيل فمن السفلة قال الذي يأكل بدينه الوجه الثاني العشرون بعدالمائة ان من ادرك العلم لم يضره ما فاته بعد ادراكه اذ هو افضل الحظوظ والعطايا ومن فاته العلم لم ينفعه ما حصل له من الحظوظ بل يكون وبالاعليه وسببا لهلاكه وفي هذا قال بعض السلف أي شيء ادرك من فاته العلم واي شيء فاته من ادرك العلم الوجه الثالث والعشرون بعدالمائة قال بعض العارفين اليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت قالوا بلى قالوا فكذلك القلب إذا منع عنه العلم والحكمة ثلاثة ايام يموت وصدق فان العلم طعام القلب وشرابه ودواؤه وحياته موقوفة على ذلك فإذا فقد القلب العلم فهو موت لو كان لا يشعر بموته كما ان السكران الذي قد زال عقله والخائف الذي قد انتهى خوفه إلى غايته والمحب والمفكر قد يبطل احساسهم بألم الجراحات في تلك الحال فإذا صحوا وعادوا إلى حال الاعتدال ادركوا آلامها هكذا العبد إذا حط عنه الموت احمال الدنيا وشواغلها اختص بهلاكه وخسرانه
فحتام لا تصحوا وقد قرب المدى ... وحتام لا ينجاب عن قلبك السكر بل سوف تصحو حين ينكشف الغطا ... وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر فإذا كشف الغطاء وبرح الخفاء وبليت السرائر وبدت الضمائر وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور فحينئذ يكون الجهل ظلمة على الجاهلين والعلم حسرة على الباطلين الوجه الرابع والعشرون بعدالمائة قال ابو الدرداء من رأى ان الغدو إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله وشاهد هذا قول معاذ وقد تقدم الوجه الخامس والعشرون بعدالمائة قول ابي الدرداء ايضا لان اتعلم مسئلة احب الي من قيام ليلة الوجه السادس والعشرون

بعدالمائة قوله ايضا العالم والمتعلم شريكان في الاجر وسائر الناس همج لا خير فيهم الوجه السابع والعشرون بعدالمائة ما رواه ابو حاتم بن حبان في صحيحه من حديث ابي هريرة انه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا او ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ومن دخله لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له الوجه الثامن والعشرون بعدالمائة ما رواه ايضا في صحيحه من حديث الثلاثة الذين انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جالس في حلقه فأعرض احدهم واستحى الاخر فجلس خلفهم وجلس الثالث في فرجة في الحلقة فقال النبي صلى الله عليه و سلم اما احدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الاخر فاستيحا فاستحيا الله منه وأما الاخر فاعرض فاعرض الله عنه فلولم يكن لطالب العلم الا ان الله يؤويه إليه ولا يعرض عنه لكفى به فضلا الوجه التاسع والعشرون بعد المائة ما رواه كميل بن زياد النخعي قال اخذ علي بن ابي طالب رضى الله عنه بيدي فاخرجني ناحية الجبانة فلما اصحر جعل يتنفس ثم قال يا كميل بن زياد القلوب اوعية فخيرها اوعاها احفظ عني ما اقول لك الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئؤوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق العلم خير من المال العلم يحرسك وانت تحرس المال العلم يكزكوا على الانفاق وفي رواية على العمل والمال تنقصه النفقة العلم حاكم والمال محكوم عليه ومحبة العلم دين يدان بها العلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد وفاته وصنيعة المال تزول بزواله مات خزان الاموال وهم احياء والعلماء باقون ما بقي الدهر اعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة هاه هاه إن ههنا علما واشار بيده إلى صدره لو اصبت له حملة بل اصبته لقنا غير مأمون عليه يستعمل آلة الدين للدنيا يستظهر حجج الله على كتابه وبنعمه على عباده او منقادا لاهل الحق لا بصير له في احبائه ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لاذاو لا ذاك او منهوما للذات سلس القياد للشهوات او مغرى بجمع الاموال والادخار ليسا من دعاة الدين اقرب شبها بهم الانعام السائمة لذلك يموت العلم بموت حامليه اللهم بك لن تخلو الارض من قائم لله بحجته لكيلا تبطل حجج الله وبنياته اولئك الاقلون عددا الاعظمون عند الله قيلا بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب اشابههم هجم بهم العلم على حقيقة الامر فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وانسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان ارواحها معلقة بالملأ الاعلى اولئك خلفاء الله في ارضه ودعاته إلى دينه هاه هاه شوقا إلى رؤيتهم واستغفر الله لي ولك اذا شئت فقم ذكره ابو نعيم في الحلية وغيره قال ابو بكر الخطيب هذا حديث حسن من احسن الاحاديث معنى واشرفها لفظا وتقسيم امير

المؤمنين للناس في اوله تقسيم في غاية الصحة ونهاية السداد لان الانسان لا يخلو من احد الاقسام التي ذكرها مع كمال العقل وإزاحة العلل اما ان يكون عالما او متعلما او مغفلا للعلم وطلبه اليس بعالم ولا طالب له فالعالم الرباني هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد وقد دخل في الوصف له بانه رباني وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لاهله ويمنع وصفه بما خالفها ومعنى الرباني في اللغة الرفيع الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه وعلى ذلك حملوا قوله تعالى لولا ينهاهم الربانيون وقوله كونوا ربانيين قال ابن عباس حكماء فقهاء وقال ابو رزين فقهاء علماء وقال ابو عمر الزاهد سالت ثعلبا عن هذا الحرف وهو الرباني فقال سألت ابن الاعرابي فقال إذا كان الرجل عالما عاملا معلما قيل له هذا رباني فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له رباني
قال ابن الانباري عن النحويين ان الربانيين منسوبون إلى الرب وان الالف والنون زيدتا للمبالغة في النسب كما تقول لحياني وجبهاني إذا كان عظيم اللحية والجبهة واما المتعلم على سبيل النجاة فهو الطالب بتعلمه والقاصد به نجاته من التفريط في تضييع الفروض الواجبة عليه والرغبة بنفسه عن احمالها واطراحها والانفة من مجانسة البهائم ثم قال وقد نفى بعض المتقدمين عن الناس من لم يكن من اهل العلم واما القسم الثالث فهم المهملون لانفسهم الراضون بالمنزلة الدنية والحال الخسيسة التي هي في الحضيض الاسقط والهبوط الاسفل التي لا منزلة بعدها في الجهل ولا دونها في السقوط وما احسن ما شبههم بالهمج الرعاع وبه يشبه دناة الناس واراذلهم والرعاع المتبدد المتفرق وللناعق الصائح وهو في هذا الموضع الراعي يقال نعق الراعي بالغنم ينعق اذا صاح بها ومنه قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بمالا يسمع الا دعاءا ونداءا صم بكم عمي فهم لا يعقلون ونحن نشير إلى بعض ما في هذا الحديث من الفوائد فقوله رضى الله عنه القلوب اوعية يشبه القلب بالوعاء والاناء والوادي لانه وعاء للخير والشر وفي بعض الاثار ان لله في ارضه آنية وهي القلوب فخيرها ارقها واصلبها واصفاها فهي اواني مملوءة من الخير واواني مملوة من الشر كما قال بعض السلف قلوب الابرار تغلى بالبر وقلوب الفجار تغلى بالفجور وفي مثل هذا قيل في المثل وكل إناء بالذي فيه ينضح وقال تعالى انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها شبه العلم بالماء النازل من السماء والقلوب في سعتها وضيقها بالاودية فقلب كبير واسع يسع علما كثيرا كواد كبير واسع يسع ماءا كثيرا وقلب صغير ضيق يسع علما قليلا كواد صغير ضيق يسع ماءا قليلا ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لا تسموا العنب الكرم فإن الكرم قلب المؤمن فانهم كانوايسمون شجر العنب الكرم لكثرة منافعه وخيره والكرم كثيرة الخير والمنافع فأخبرهم ان قلب

المؤمن اولى بهذه التسمية لكثرة ما فيه من الخير والمنافع وقوله فخيرها اوعاها يراد به اسرعها وعيا واثبتها وعيا ويراد به ايضا احسنها وعيا فيكون حسن الوعي الذي هو إيعاء لما يقال له في قلبه هو سرعته وكثرته وثباته والوعاء من مادة الوعي فإنه آلة ما يوعى فيه كالغطاء والفراش والبساط ونحوها ويوصف بذلك القلب والاذن كقوله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية قال قتادة اذن سمعت وعقلت عن الله ما سمعت وقال الفراء لتحفظها كل اذن فتكون عظة لمن يأتي بعد فالوعي توصف به الاذن كما يوصف به القلب يقال قلب واع وأذن واعية لما بين الاذن والقلب من الارتباط فالعلم يدخل من الاذن إلى القلب فهي بابه والرسول الموصل إليه العلم كما ان اللسان رسوله المؤدى عنه ومن عرف ارتباط الجوارح بالقلب علم ان الاذن احقها ان توصف بالوعي وانها إذا وعت وعي القلب وفي حديث جابر في المثل الذي ضربته الملائكة للنبي صلى الله عليه و سلم ولأمته وقول الملك له اسمع سمعت اذنك وعقل قلبك فلما كان القلب وعاءا والاذن مدخل ذلك الوعاء وبابه كان حصول العلم موقوفا على حسن الاستماع وعقل القلب والعقل هو ضبط ما وصل إلى القلب وإمساكه حتى لايتفلت منه ومنه عقل البعير والدابة والعقال لما يعقل به وعقل الانسان يسمى عقلا لانه يعقله عن اتباع الغي والهلاك ولهذا يسمى حجرا لانه يمنع صاحبه كما يمنع الحجر ما حواه فعقل الشيء اخص من علمه ومعرفته لان صاحبه يعقل ما علمه فلا يدعه يذهب كما تعقل الدابة التي يخاف شرودها وللادراك مراتب بعضها اقوى من بعض فاولها الشعور ثم الفهم ثم المعرفة ثم العلم ثم العقل ومرادنا بالعقل المصدر لا القوة الغريزية التي ركبها الله في الانسان فخير القلوب ما كان واعيا للخير ضابطا له وليس كالقلب القاسي الذي لايقبله فهذا قلب حجري ولا كالمائع الاخرق الذي يقبل ولكن لا يحفظ ولا يضبط فتفهيم الاول كالرسم في الحجر وتفهيم الثاني كالرسم على الماء بل خير القلوب ما كان لينا صلبا يقبل بلينه ما ينطبع فيه ويحفظ صورته بصلابته فهذا تفهيمه كالرسم في الشمع وشبهه وقوله الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة همج رعاع هذا تقسيم خاص للناس وهو الواقع فإن العبد إما ان يكون قد حصل كماله من العلم والعمل اولا فالاول العالم الرباني والثاني اما ان تكون نفسه متحركة في طلب ذلك الكمال ساعية في إدراكه اولا والثاني هو المتعلم على سبيل النجاة الثالث وهو الهمج الرعاج فالاول هو الواصل والثاني هو الطالب والثالث هو المحروم والعالم الرباني قال ابن عباس رضى الله عنهما هو المعلم اخذه من التربية أي يربى الناس بالعلم ويربيهم به كما يربى الطفل ابوه وقال سعيد بن جبير هو الفقيه العليم الحكيم قال سيبويه زادوا الفا ونونا في الرباني إذا ارادوا تخصيصا بعلم الرب تبارك وتعالى كما قالوا أشعر اني ولحياني ومعني قول سيبويه رحمه الله ان هذا العالم لما نسب إلى علم الرب تعالى الذي بعث به رسوله

وتخصص به نسب إليه دون سائر من علم علما قال الواحدي فالرباني على قوله منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بعلم الرب أي يعلم الشريعة وصفات الرب تبارك وتعالى وقال المبرد الرباني الذي يرب العلم ويرب الناس به أي يعلمهم ويصلحهم وعلى قوله فالرباني من رب يرب ربا أي يربيه فهو منسوب إلى التربية ويربى علمه ليكمل ويتم بقيامه عليه وتعاهده إياه كما يربى صاحب المال ماله يربي الناس به كما يربى الاطفال اولياؤهم وليس هذا من قوله وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فالربيون هنا الجماعات باجماع المفسرين قيل إنه من الربة بكسر الراء وهي الجماعة قال الجوهري الربي واحد الربيين وهم الالوف من الناس قال تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما اصابهم ولا يوصف العالم بكونه ربانيا حتى يكون عاملا بعمله معلما له فهذا قسم والقسم الثاني متعلم على سبيل نجاة أي قاصدا بعلمه النجاة وهو المخلص في تعلمه المتعلم ما ينفعه العامل بما علمه فلا يكون المتعلم على سبيل نجاة الا بهذه الامور الثلاثة فإنه إن تعلم ما يضره ولاينفعه لم يكن على سبيل نجاة وإن تعلم ما ينتفع به لا للنجاة فكذلك وإن تعلمه ولم يعمل به لم يحصل له النجاة ولهذا وصفه بكونه على السبيل اي على الطريق التي تنجيه وليس حرف على وما عمل فيه متعلقا بمتعلم إلا على وجه التضمين أي مفتش متطلع على سبيل نجاته فهذا في الدرجة الثانية وليس ممن تعلمه ليمارى به السفهاء او يجارى به العلماء او يصرف وجوه الناس إليه فإن هذا من اهل النار كما جاء في الحديث وثبته ابو نعيم ايضا قوله صلى الله عليه و سلم من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه الا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد رائحة الجنة قال وثبت ايضا قوله صلى الله عليه و سلم اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فهؤلاء ليس فيهم من هو على سبيل نجاة بل على سبيل الهلكة نعوذ بالله من الخذلان القسم الثالث المحروم المعرض فلا عالم ولا متعلم بل همج رعاع والهمج من الناس حمقاؤهم وجهلتهم واصله من الهمج جمع همجة وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والدواب واعينها فشبه همج الناس به والهمج ايضا مصدر قال الراجز :
قد هلكت جارتنا من الهمج ... وان تجع تأكل عتودا او ثلج والهمج هنا مصدر ومعناه سوء التدبير في أمر المعيشة وقولهم همج هامج مثل ليل لايل والرعاع من النساء الحمقى الذين لايعتد بهم وقوله اتباع كل ناعق أي من صاح بهم ودعاهم تبعوه سواء دعاهم إلى هدى او إلى ضلال فانهم لا علم لهم بالذي يدعون إليه احق هو ام باطل فهم مستجيبون لدعوته وهؤلاء من اضر الخلق على الاديان فإنهم الاكثرون عددا الاقلون

عند الله قدرا وهم حطب كل فتنة بهم توقد ويشب ضرامها فإنها يهتز لها اولو الدين ويتولاها الهمج الرعاع وسمى داعيهم ناعقا تشبيها لهم بالانعام التي ينعق بها الراعي فتذهب معه اين ذهب قال تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع الا دعاءا ونداءا صم بكم عمي فهم لا يعقلون وهذا الذي وصفهم به امير المؤمنين هو من عدم علمهم وظلمة قلوبهم فليس لهم نور ولا بصيره يفرقون بها بين الحق والباطل بل الكل عندهم سواء وقوله رضى الله عنه يميلون مع كل ريح وفي رواية مع كل صائح شبه عقولهم الضعيفة بالغصن الضعيف وشبه الاهوية والاراء بالرياح والغصن يميل مع الري حيث مالت وعقول هؤلاء تميل مع كل هوى وكل داع ولو كانت عقولا كاملة كانت كالشجرةالكبيرة التي لاتتلاعب بها الرياح وهذا بخلاف المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه و سلم للمؤمنين بالخامة من الزرع تفيئه الريح مرة وتقيمه اخرى والمنافق كشجرة الارز التي لا تقطع حتى تستحصد فإن هذا المثل ضرب للمؤمن وما يلقاه من عواصف البلاء والاوجاع والاوجال وغيرها فلا يزال بين عافية وبلاء ومحنة ومنحة وصحة وسقم وأمن وخوف وغير ذلك فيقع مرة ويقوم اخرى ويميل تارة ويعتدل اخرى فيكفر عنه بالبلاء ويمحص به ويخلص من كدره والكافر كله خبث ولا يصلح الا للوقود فليس في إصابته في الدنيا بانواع البلاء من الحكمة والرحمة ما في اصابة المؤمن فهذه حال المؤمن في الابتلاء واما مع الاهواء ودعاة الفتن والضلال والبدع فكما قيل :
تزول الجبال الراسيات وقلبه ... على العهد لا يلوى ولا يتغير وقوله رضى الله عنه لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق بين السبب الذي جعلهم بتلك المثابة وهو انه لم يحصل لهم من العلم نور يفرقون به بين الحق والباطل كما قال تعالى يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به وقال تعالى او من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقوله تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور الاية وقوله ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فإذا عدم القلب هذا النور صار بمنزلة الحيران الذي لا يدري اين يذهب فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يؤم كل صوت يسمعه ولم يسكن قلوبهم من العلم ما تمتنع به من دعاة الباطل فإن الحق متى استقر في القلب قوى به وامتنع مما يضره ويهلكه ولهذا سمى الله الحجة العلمية سلطانا وتقدم قدم ذلك فالعبد يؤتى من ظلمة بصيرته ومن ضعف قلبه فاذا

استقر فيه العلم النافع استنارت بصيرته وقوى قلبه وهذان الاصلان هما قطب السعادة اعني العلم والقوة وقد وصف بهما سبحانه المعلم الاول جبريل صلوات الله وسلامه عليه فقال إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى وقال تعالى في سورة التكوير إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين فوصفه بالعلم والقوة وفيه معنى احسن من هذا وهو الاشبه بمراد على رضى الله عنه وهو ان هؤلاء ليسوا من اهل البصائر الذين استضاؤا بنور العلم ولا لجئوا إلى عالم مستبصر فقلدوه ولا متبعين لمستبصر فإن الرجل اما ان يكون بصيرا او اعمى متمسكا ببصير يقوده او اعمى يسير بلا قائد وقوله رضى الله عنه العلم خير من المال العلم يحرسك وانت تحرس المال يعني ان العلم يحفظ صاحبه ويحميه من مواردالهلكة ومواقع العطب فإن الانسان لا يلقى نفسه في هلكة إذا كان عقله معه ولا يعرضها لمتلف إلا إذا كان جاهلا بذلك لا علم له به فهو كمن يأكل طعاما مسموما فالعالم بالسم وضرره يحرسه علمه ويمتنع به من اكله والجاهل به يقتله جهله فهذا مثل حراسة العلم للعالم وكذا الطبيب الحاذق يمتنع بعلمه عن كثير ما يجلب له الامراض والاسقام وكذا العالم بمخاوف طريق سلوكه ومعاطبها يأخذ حذره منها فيحرسه علمه من الهلاك وهكذا العالم بالله وبامره وبعدوه ومكائده ومداخله على العبد يحرسه علمه من وساوس الشيطان وخطراته والقاء الشك والريب والكفر في قلبه فهو بعلمه يمتنع من قبول ذلك فعلمه يحرسه من الشيطان فكلما جاء ليأخذه صاح به حرس العلم والايمان فيرجع خاسئا خائبا واعظم ما يحرسه من هذا العدو المبين العلم والايمان فهذا السبب الذي من العبد والله من وراء حفظه وحراسته وكلاءته فمتى وكله إلى نفسه طرفة عين تخطفه عدوه قال بعض العارفين اجمع العارفون على ان التوفيق ان لا يكلك الله إلى نفسك واجمعوا على ان الخذلان ان يخلى بينك وبين نفسك وقوله العلم يزكوا على الانفاق والمال تنقصه النفقة العالم كلما بذل علمه للناس وانفق منه تفجرت بنابيعه فازداد كثرة وقوة وظهورا فيكتسب بتعليمه حفظ ما علمه ويحصل له به علم ما لم يكن عنده وربما تكون المسئلة في نفسه غير مكشوفة ولا خارجة من حيز الاشكال فإذا تكلم بها وعلمها اتضحت له واضاءت وانفتح له منها علوم اخر وأيضا فإن الجزاء من جنس العمل فكما علم الخلق من جهالتهم جزاه الله بان كلمة من جهالته كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال في حديث طويل وان الله قال لي انفق انفق عليك وهذا يتناول نفقة العلم اما بلفظه وإما بتنبيهه وإشارته وفحواه ولزكاء العلم ونحوه طريقان احدهما تعليمه والثاني العمل به فإن العمل به ايضا ينميه ويكثره ويفتح لصاحبه ابوابه وخباياه وقوله والمال تنقصه النفقة لا ينافي قول النبي صلى الله عليه و سلم ما نقصت صدقة من مال فإن المال إذا تصدقت منه وانفقت ذهب ذلك القدر

وخلفه غيره وأما العلم فكالقبس من النار لو اقتبس منها العالم لم يذهب منها شيء بل يزيد العلم بالاقتباس منه فهو كالعين التي كلما اخذ منها قوى ينبوعها وجاش معينها وفضل العلم على المال يعلم من وجوه احدها ان العلم ميراث الانبياء والمال ميراث الملوك والاغنياء والثاني ان العلم يحرس صاحبه وصاحب المال يحرس ماله والثالث ان المال تذهبه النفقات والعلم يزكوا على النفقة الرابع ان صاحب المال إذا مات فارقه ماله والعلم يدخل معه قبره الخامس ان العلم حاكم على المال والمال لا يحكم على العلم السادس ان المال يحصل للمؤمن والكافر والبر والفاجر والعلم النافع لا يحصل الا للمؤمن ز السابع ان العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم وصاحب المال إنما يحتاج إليه اهل العدم والفاقة الثامن ان النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله وذلك من كمالها وشرفها والمال يزكيها ولا يكمله ولا يزيدها صفة كمال بل النفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عليه فحرصها على العلم عين كمالها وحرصها على المال عين نقصها التاسع ان المال يدعوها إلى الطغيان والفخر والخيلاء والعلم يدعوها إلى التوضع والقيام بالعبودية فالمال يدعوها إلى صفات الملوك والعلم يدعوها إلى صفات العبيد العاشر ان العلم جاذب موصل لها إلى سعادتها التي خلقت لها والمال حجاب بينها وبينها الحادي عشر ان غني العلم اجل من غني المال فإن غني المال غنى بامر خارجي عن حقيقة الانسان لو ذهب في ليلة اصبح فقيرا معدما وغني العلم لا يخشى عليه الفقر بل هو في زايدة ابدا فهو الغني العالي حقيقة كما قيل
غنيت بلا مال عن الناس كلهم ... وان الغني العالي عن الشيء لا به الثاني عشر ان المال يستعبد محبه وصاحبه فيجعله عبدا له كما قال النبي صلى الله عليه و سلم تعس عبد الدينار والدرهم الحديث والعلم يستعبده لربه وخالقه فهو لا يدعوه إلا إلى عبودية الله وحده الثالث عشر ان احب العلم وطلبه اصل كل طاعة وحب الدنيا والمال وطلبه اصل كل سيئة الرابع عشر ان قيمة الغني ماله وقيمة العالم علمه فهذا متقوم بماله فإذا عدم ماله عدمت قيمته وبقي بلا قيمة والعالم لاتزول قيمته بل هي فيضاعف وزيادة دائما الخامس عشر ان جوهر المال من جنس جوهر البدن وجوهر العلم من جنس جوهر الروح كما قال يونس بن حبيب علمك من روحك ومالك من بدنك والفرق بين الامرين كالفرق بين الروح والبدن السادس عشر ان العالم لو عرض عليه بحظه من العلم الدنيا بما فيها لم يرضها عوضا من علمه والغني العاقل إذا رأى شرف العلم وفضله وابتهاجه بالعلم وكماله به يود لو ان له علمه بغناه اجمع السابع عشر انه ما اطاع الله احد قط الا بالعلم وعامة من يعصيه إنما يعصيه بالمال الثامن عشر ان العالم يدعو الناس إلى الله بعلمه وحاله وجامع المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله وماله التاسع عشر ان غنى المال قد يكون سبب هلاك صاحبه كثيرا فإنه معشوق النفوس فإذا رأت من يستأثر بمعشوقها عليها سعت في هلاكه كما هو الواقع وأما غنى

العلم فسبب حياة الرجل وحياة غيره به والناس إذا راوا من يستأثر عليهم به ويطلبه احبوه وخدموه واكرموه العشرون إن اللذة الحاصلة من غنى إما لذة وهمية وإما لذة بهيمية فإن صاحبه التذ بنفس جمعه وتحصيله فتلك لذة وهمية خيالية وان التذ بانفاقه في شهواته فهي لذة بهيمية واما لذة العلم فلذة عقلية روحانية وهي تشبه لذة الملائكة وبهجتها وفرق ما بين اللذتين الحادي والعشرون ان عقلاء الامم مطبقون على ذم الشره في جمع المال الحريص عليه وتنقصه والازراء به ومطبقون على تعظيم الشره في جمع العلم وتحصيله ومدحه ومحبته ورؤيته بعين الكمال الثاني والعشرون انهم مطبقون على تعظيم الزاهد في المال المعرض عن جمعه الذي لا يلتفت إليه ولا يجعل قلبه عبدا له ومطبقون على ذم الزاهد في العلم الذي لا يلتفت إليه ولا يحرص عليه الثالث والعشرون ان المال يمدح صاحبه بتخليه منه وإخراجه والعلم إنما يمدح يتخليه به واتصافه به الرابع والعشرون ان غنى المال مقرون بالخوف والحزن فهو حزين قبل حصوله خائف بعد حصوله وكلما كان اكثر كان الخوف اقوى وغني العلم مقرون بالامن والفرح والسرور الخامس والعشرون ان الغنى بماله لا بد ان يفارقه غناه ويتعذب ويتألم بمفارقته والغنى بالعلم لا يزول ولا يتعذب صاحبه لا يتألم فلذة الغنى بالماللذة زائلة منقطعة يعقبها الالم ولذة الغنى بالعلم لذة باقية مستمرة لا يلحقها الم السادس والعشرون ان استلذاذ النفس وكمالها بالغني استكمال بعارية مؤداة فتجملها بالمال تجمل بثوب مستعار لا بد ان يرجع إلى مالكه يوما ما واما تجملها بالعلم وكمالها به فتجمل بصفة ثابتة لها راسخة فيها لا تفارقها السابع والعشرون ان الغني بالمال هو عين فقر النفس والغنى بالعلم هو عين فقر النفس والغنى بالعلم هو غناها بالحقيقي فغناها بعلمها هو الغني غناها بمالها هو الفقر الثامن والعشرون ان من قدم وأكرم لماله إذا زال ماله زال تقديمه وإكرامه ومن قدم وأكرم لعلمه لا يزداد الا تقديما وإكراما التاسع والعشرون ان تقديم الرجل لماله هو عين ذمه فانه نداء عليه بنقصه وانه لولا ماله لكان مستحقا للتأخر والاهانة واما تقديمه وإكرامه لعلمه فإنه عين كماله إذ هو تقديم له بنفسه وبصفته القائمة به لا بأمر خارج عن ذاته الوجه الثلاثون ان طالب الكمال بغنى المال كالجامع بين الضدين فهو طالب مالا سبيل له إليه وبيان ذلك ان القدرة صفة كمال وصفة الكمال محبوبة بالذات والاستغناء عن الغير ايضا صفة كمال محبوبة بالذات فإذا مال الرجل بطبعه إلى السخاوة والجود وفعل المكرمات فهذا كمال مطلوب للعقلاء محبوب للنفوس وإذا التفت إلى ان ذلك يقتضى خروج المال من يده وذلك يوجب نقصه واحتياجه إلى الغير وزوال قدرته نفرت نفسه عن السخاء والكرم والجود واصطناع المعروف وظن ان كماله في إمساك المال وهذه البلية امر ثابت لعامة الخلق لا ينكفون عنها فلأجل ميل الطبع إلى حصول المدح والثناء والتعظيم بحب الجود والسخاء

والمكارم ولأجل فوت القدرة الحاصلة بسبب اخراجه والحاجة المنافية لكمال الغنى يحب ابقاء ماله ويكره السخاء والكرم والجود فيبقى قلبه واقفا بين هذين الداعيين يتجاذبانه ويعتور ان عليه فيبقى القلب في مقام المعارضة بينهما فمن الناس من يترجح عنده جانب البذل والجود والكرم فيؤثره على الجانب الاخر ومنهم من يترجح عنده جانب الامساك وبقاء القدرة والغني فيؤثره فهذان نظران للعقلاء ومنهم من يبلغ به الجهل والحماقة إلى حيث يريد الجمع بين الوجهين فيعد الناس بالجود والسخاء والمكارم طمعا منه في فوزه بالمدح والثناء على ذلك وعند حضور الوقت لا يفي بما قال فيستحق الذم ويبذل بلسانه ويمسك بقلبه ويده فيقع في أنواع القبائح والفضائح وإذا تأملت احوال اهل الدنيا من الاغنياء رأيتهم تحت اسر هذه البلية وهم غالبا يبكون ويشكون وأما غنى العلم فلا يعرض له شيء من ذلك بل كلما بذله ازداد ببذلة فرحا سرورا وابتهاجا وإن فاتته لذة اهل الغنى وتمتعهم باموالهم فهم ايضا قد فاتتهم لذة اهل العلم وتمتعهم بعلومهم وابتهاجهم بها فمع صاحب العلم من اسباب اللذة ما هو اعظم واقوى وادوم من لذة الغنى وتعبه في تحصيله وجمعه وضبطه اقل من تعب جامع المال فجمعه والمه دون المه كما قال تعالى للمؤمنين تسلية لهم بما ينالهم من الالم والتعب في طاعته ومرضاته ولا تهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما الحادي والثلاثون ان اللذة الحاصلة من المال والغنى إنما هي حال تجدده فقط واما حال دوامه فإما ان تذهب تلك اللذة وإما ان تنقص ويدل عليه ان الطبع يبقى طالبا لغنى آخر حريصا عليه فهو يحاول تحصيل الزيادة دائما فهو في فقر مستمر غير منقض ولو ملك خزائن الارض ففقره وطلبه وحرصه باق عليه فإنه احد المنهومين اللذين لا يشبعان فهو لا يفارقه الم الحرص والطلب وهذا بخلاف غنى العلم والإيمان فان لذته في حال بقائه مثلها في حال تجدده بل ازيد وصاحبها وان كان لا يزال طالبا للمزيد حريصا عليه فطلبه وحرصه مستصحب للذة الحاصل ولذة المرجو المطلوب ولذة الطلب وابتهاجه فرجه به الثاني والثلاثون ان غني المال يستدعي الانعام على الناس والاحسان اليهم فصاحبه اما ان يسد على نفسه هذا الباب واما ان يفتحه عليه فان سده على نفسه اشتهر عند الناس بالبعد من الخير والنفع فأبغضوه وذموه واحتقروه وكل من كان بغيضا عند الناس حقيرا لديهم كان وصول الافات والمضرات إليه اسرع من النار في الحطب اليابس ومن السيل في منحدره وإذا عرف من الخلق انهم يمقتونه ويبغضونه ولا يقيمون له وزنا تألم قلبه غاية التألم واحضر الهموم والغموم والاحزان وان فتح باب الاحسان والعطاء فإنه لايمكنه ايصال الخير والاحسان إلى كل احد فلا بد من إيصاله إلى البعض وإمساكه عن البعض وهذا

يفتح عليه باب العداوة والمذمة من المحروم والمرحوم اما المحروم فيقول كيف جاد على غيري وبخل علي واما المرحوم فإنه يلتذ ويفرح بما حصل له من الخير والنفع فيبقى طامعا مستشرفا لنظيره على الدوام وهذا قد يتعذر غالبا فيفضى ذلك إلى العداوة الشديدة والمذمة ولهذا قيل اتق شر من احسنت إليه وهذه الافات لا تعرض في غنى العلم فإن صاحبه يمكنه بذله للعالم كلهم واشتراكهم فيه والقدر المبذول منه باق لاخذه لا يزول بل يتجربه فهو كالغني إذا اعطى الفقير رأس مال يتجربه حتى يصير غنيا مثله الوجه الثالث والثلاثون ان جمع المال مقرون بثلاثة انواع من الافات والمحن نوع قبله ونوع عند حصوله ونوع بعدمفارقته فأما النوع الاول فهو المشاق والانكاد والالام التي لا يحصل الا بها واما النوع الثاني فمشقة حفظه وحرساته حراسته وتعلق القلب به فلا يصبح الا مهموما ولا يمسي الا مغموما فهو بمنزلة عاشق مفرط المحبة قد ظفر بمعشوقتهوالعيون من كل جانب ترمقه والالسن والقلوب ترشقه فأي عيش ولذة لمن هذه حاله وقد علم ان اعداءه وحساده لا يفترون عن سعيهم في التفريق بينه وبين معشوقه وإن لم يظفروا هم به دونه ولكن مقصودهم ان يزيلوا اختصاصه به دونهم فإن فازوا به والا استووا في الحرمان فزال الاختصاص المؤلم للنفوس ولو قدروا على مثل ذلك مع العالم لفعلوه ولكنهم لما علموا انه لا سبيل إلى سلب علمه عمدوا إلى جحده وانكاره ليزيلوا من القلوب محبته وتقديمه والثناء عليه فإن بهر علمه وامتنع عن مكابرة الجحود والانكار رموه بالعظائم ونسبوه إلى كل قبيح ليزيلوا من القلوب محبته ويسكنوا موضعها النفرة عنه وبغضه وهذا شغل السحرة بعينه فهؤلاء سحرة بالسنتهم فإن عجزوا له عن شيء من القبائح الظاهرة رموه بالتلبيس والتدليس والدوكرة والرياء وحب الترفع وطلب الجاه وهذا القدر من معاداة اهل الجهل والظلم للعلماء مثل الحر والبرد لا بد منه فلا ينبغي لمن له مسكة عقل ان يتأذى به إذ لا سبيل له إلى دفعه بحال فليوطن نفسه عليه كما يوطنها على برد الشتاء وحر الصيف والنوع الثالث من آفات الغنى ما يحصل للعبد بعد مفارقته من تعلق قلبه به وكونه قد حيل بينه وبينه والمطالبة بحقوقه والمحاسبة على مقبوضه ومصروفه من اين اكتسبه وفيما ذا انفقه وغنى العلم والايمان مع سلامته من هذه الافات فهو كفيل بكل لذة وفرحة وسرور ولكن لا ينال الا على جسر من التعب والصبر والمشقة الرابع والثلاثون ان لذة الغني بالمال مقرونة بخلطة الناس ولو لم يكن الا خدمه وازواجه وسراريه واتابعه إذ لو انفرد الغني بماله وحده من غير ان يتعلق بخادم او زوجه او احد من الناس لم يكمل انتفاعه بماله ولا التذاذه به وإذا كان كمال لذته بغناه موقوفا على اتصاله بالغير فذلك منشأ الافات والالام ولو لم يكن الا اختلاف الناس وطبائعهم وارادتهم فقبيح هذا حسن ذاك ومصلحة ذاك مفسدة

هذا ومنفعة هذا مضرة ذاك وبالعكس فهو مبتلى بهم فلا بد من وقوع النفرة والتباغض والتعادي بينهم وبينه فان ارضاءهم كلهم محال وهو جمع بين الضدين وارضاء بعضهم واسخاط غيره سبب الشر والمعاداة وكلما طالت المخالطة ازدادت اسباب الشر والعداوة وقويت وبهذا السبب كان الشر الحاصل من الاقارب والعشراء اضعاف الشر الحاصل من الاجانب والبعداء وهذه المخالطة انما حصلت من جانب الغني بالمال اما إذا لم يكن فيه فضيلة لهم فانهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته فيستريح من اذى الخلطة والعشرة وهذه الافات معدودة في الغنى بالعلم الخامس والثلاثون ان المال لا يراد لذاته وعينه فإنه لا يحصل بذاته شيء من المنافع اصلا فإنه لا يشبع ولا يروى ولا يدفء ولا يمتع وإنما يراد لهذه الاشياء فإنه لما كان طريقا اليها اريد ارادة الوسائل ومعلوم ان الغايات اشرف من الوسائل فهذه الغايات اذا اشرف منه وهي مع شرفها بالنسبة إليه ناقصة دنيئة وقد ذهب كثير من العقلاء إلى انها لا حقيقة لها وانما هي دمع الالم فقط فإن لبس الثياب مثلا إنما فائدته دفع التألم بالحر والبرد والريح وليس فيها لذة زائدة على ذلك وكذلك الاكل إنما فائدته دفع الم الجوع ولهذا لو لم يجد الم الجوع لم يستطب الاكل وكذلك الشرب مع العطش والراحة مع التعب ومعلوم ان في مزاولة ذلك وتحصيله الما وضررا ولكن ضرره وألمه اقل من ضرر ما يدفع به وألمه فيحتمل الانسان اخف الضررين دفعا لاعظمهما وحكى عن بعض العقلاء انه قيل له وقد تناول قدحا كريها من الدواء كيف حالك معه قال اصبحت في دار بليات ادافع آفات بآفات وفي الحقيقة فلذات الدنيا من المآكل والمشارب واللبس والمسكن والمنكح من هذا الجنس واللذة التي يباشرها الحس ويتحرك لها الجسد وهي الغاية المطلوبة له من لذة المنكح والمأكل شهوتي البطن والفرج ليس لهما ثالث البتة الا ما كان وسيلة اليهما وطريقا إلى تحصيلهما وهذه اللذة منغصة من وجوه عديدة منها ان تصور زوالها وانقضائها وفنائها يوجب تنغصها ومنها انها ممزوجة بالافات ومعجونة بالالام محتاطة بالمخاوف وفي الغالب لاتفي الامها بطيبها كما قيل :
قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالقباحة لاتفي
ومنها ان الاراذل من الناس وسقطهم يشاركون فيها كبراءهم وعقلاءهم بل يزيدون عليهم فيها اعظم زيادة وافحشها فنسبتهم فيها إلى الافاضل كنسبة الحيوانات البهيمةاليهم فمشاركة الاراذل وأهل الخسة والدناءة فيها زيادتهم على العقلاء فيها مما يوجب النفرة والاعراض عنها وكثير من الناس حصل له الزهد في المحبوب والمعشوق منها بهذه الطريق هذا كثير في أشعار الناس ونثرهم كما قيل

سأترك حبها من غير بغض ... ولكن لكثرة الشركاء فيه إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتيه وتجتنب الاسود ورودماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه
وقيل لزاهد ما الذي زهدك في الدنيا فقال خسة شركائها وقلة وفائها وكثرة جفائها وقيل لاخر في ذلك فقال ما مددت يدي إلى شيء منها إلا وجدت غيري قد سبقني إليه فاتركه له ومنها ان الالتذاذ بموقعها إنما هو بقدر الحاجة اليها والتألم بمطالبة النفس لتناولها وكلما كانت شهوة الظفر بالشيء اقوى كانت اللذة الحاصلة بوجوده اكمل فلما لم تحصل تلك الشهوة لم تحصل تلك اللذة فمقدار اللذة الحاصلة في الحال مساو لمقدار الحاجة والالم والمضرة في الماضي وحينئذ يتقابل اللذة الحاصلة والالم المتقدم فيتساقطان فتصير اللذة كانها لم توجد ويصير بمنزلة من شق بطن رجل ثم خاطه وداواه بالمراهم او بمنزلة من ضربه عشرة اسواط واعطاه عشرة دراهم ولا تخرج لذات الدنيا غالبا عن ذلك ومثل هذا لا يعد لذة ولا سعادة ولا كمالا بل هو بمنزلة قضاء الحاجة من البول والغائط فإن الانسان يتضرر بثقله فإذا قضى حاجته استراح منه فاما ان يعد ذلك سعادة وبهجة ولذة مطلوبة فلا ومنها ان هاتين اللذتين اللتين هما اثر اللذات عند الناس ولا سبيل إلى نيلهما الا بما يقترن بهما قبلهما وبعدهما من مباشرة القاذورات والتالم الحاصل عقبيهما مثل لذة الاكل فإن العاقل لو نظر إلى طعامه حال مخالطته ريقه وعجنه به لنفرت نفسه منه ولو سقت تلك اللقمة من فيه لنفر طبعه من اعادتها إليه ثم ان لذته به إنما تحصل في مجرى نحو الاربع الاصابع فإذا فصل عن ذلك المجرى زال تلذذه به فإذا استقر في معدته وخالطه الشراب وما في المعدة من الاجزاء الفضلية فإنه حينئذ يصير في غاية الخسة فإن زاد على مقدار الحاجة اورث الادواء المختلفة علىتنوعها ولولا ان بقاءه موقوف على تناوله لكان تركه والحالة هذه اليق به كما قال بعضهم :
لولا قضاءه جرى نزهت انملتي ... عن ان تلم بمأكول ومشروب وأما لذة الوقاع قدرها ابين من ان نذكر آفاته ويدل عليه ان اعضاء هذه اللذة هي عورة الانسان التي يستحيا من رؤيتها وذكرها وسترها امر فطر الله عليه عباده ولا تتم لذة المواقعة الا بالاطلاع عليها وإبرازها والتلطخ بالرطوبات المستقذرة المتولدة منها ثم إن تمامها إنما يحصل بانفصال النطفة وهي اللذة المقصودة من الوقاع وزمنها يشبه الان الذي لا ينقسم فصعوبة تلك المزاولة والمحاولة والمطاولة والمراوضة والتعب لاجل لذة لحظة كمد الطرف فأين مقايسة بين هذه اللذة وبين التعب في طريق تحصيلها وهذا يدل على ان هذه

اللذة ليست من جنس الخيرات والسعادات والكمال الذي خلق له العبد ولا كمال له بدونه بل ثم امروراء ذلك كله قد هيء له العبد وهو لا يفعلن له لغفلته عنه وإعراضه عن التفتيش على طريقه حتى يصل إليه يسوم نفسه مع الانعام السائمة :
قد هيؤك لأمر لو فطنت له ... فاربأ نفسك ان ترعى مع الهمل
وموقع هذه اللذات من النفس كموقع لذة البراز من رجل احتبس في موضع لا يمكنه القيام إلى الخلاء وصارمضطرا إليه فإنه يجد مشقة شديدة وبلاء عظيما فإذا تمكن منالذهاب إلى الخلاء وقدر على دفع ذلك الخبيث المؤذي وجد لذة عظيمة عند دفعه وإرساله ولا لذة هناك الا راحته من حمل ما يؤذيه حمله فعلم ان هذه اللذات إما ان تكون دفع آلام وإما ان تكون لذات ضعيفة خسيسة مقترنة بآفات ترى مضرتها عليه وهذا كما يعقب لذة الوقاع من ضعف القلب وخفقان الفؤاد وضعف القوى البدنية والقلبية وضعف الارواح واستيلاء العفونة على كل البدن واسرع الضعف والخور إليه واستيلاء الاخلاط عليه لضعف القوة عن دفعها وقهرها ومما يدل على ان هذه اللذات ليست خيرات وسعادات وكمالا ان العقلاء من جميع الامم مطبقون على ذم من كانت هي نهمته وشغله ومصرف همته وإرادته والإزراء به وتحقير شأنه والحاقه بالبهائم ولايقيمون له وزنا ولو كانت خيرات وكمالا لكان من صرف اليها همته اكمل الناس ومما يدل على ذلك ان القلب الذي قد وجه قصده وإرادته إلى هذه اللذات لا يزال مستغرقا في الهموم والغموم والاحزان وما يناله من اللذات في جنب هذه الالام كقطرة في مجركما قيل سروره وزن حبة وحزنه قنطار فإن القلب يجرى مجرى مرآة منصوبة على جدار وذلك الجدار ممر لانواع المشتهيات والملذوذات والمكروهات وكلما مر به شيء من ذلك ظهر فيه أثره فإن كان محبوبا مشتهيا مال طبعه إليه فإن لم يقدر على تحصيله تألم وتعذب بفقده وإن قدر على تحصيله تالم في طريق الحصول بالتعب والمشقة ومنازعة الغير له ويتألم حال حصوله خوفا من فراقه وبعد فراقه خوفا على ذهابه وإن كان مكروها له ولم يقدر على دفعه تألم بوجوده وإن قدر على دفعه اشتغل بدفعه ففاتته مصلحة راجحة الحصول فيتالم لفواتها فعلم ان هذا القلب ابدا مستغرق في بحار الهموم والغموم والاحزان وإن نفسه تضحك عليه وترضيه بوزن ذرة من لذته فيغيب بها عن شهوده القناطير من المه وعذابه فإذا حيل بينه وبين تلك اللذة ولم يبق له اليها سبيل تجرد ذلك الالم واحاط به واستولى عليه من كل جهاته فقل ما شئت في حال عبد قد غيب عنه سعده وحظوظه وافراحه واحضر شقوته وهمومه وغمومه واحزانه وبين العبد وبين هذه الحال ان ينكشف الغطاء ويرفع الستر وينجلى الغبار ويحصل

ما في الصدور فإذا كانت هذه غاية اللذات الحيوانية التي هي غاية جمع الاموال وطلبها فما الظن بقدر الوسيلة وأما غنى العلم والايمان فدائم اللذة متصل الفرحة مقتض لانواع المسرة والبهجة لايزول فيحزن ولا يفارق فيؤلم بل اصحابه كما قال الله تعالى فيهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون السادس والثلاثون ان غنى المال يبغض الموت ولقاء الله فإنه لحبه لماله يكره مفارقته ويحب بقاءه ليتمتع به كما شهد به الواقع وأما العلم فإنه يحبب للعبد لقاء ربه ويزهده في هذه الحياة النكدة الفانية السابع والثلاثون ان الاغنياء يموت ذكرهم بموتهم والعلماء يموتون ويبقى ذكرهم كما قال امير المؤمنين في هذا الحديث مات خزان الاموال وهم احياء والعلماء باقون ما بقي الدهر فخزان الاموال احياء كاموات والعلماء بعدموتهم اموات كأيحاء الثامن والثلاثون ان نسبة العلم إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن فالروح ميتة حياتها بالعلم كما ان الجسد ميت حياته بالروح فالغني بالمال غايته ان يزيد في حياة البدن واما العلم فهو حياة القلوب والارواح كما تقدم تقريره التاسع والثلاثون ان القلب ملك البدن والعلم زينته وعدته وماله وبه قوام ملكه والملك لا بد له من عدد وعدة ومال وزينة فالعلم هو مركبه وعدته وجماله واما المال فغايته ان يكون زينة وجمالا للبدن إذا انفقه في ذلك فإذا خزنه ولم ينفقه لم يكن زينة ولا جمالا بل نقصا ووبالا ومن المعلوم ان زينة الملك به وما به قوام ملكه اجل وافضل من زينة رعيته وجمالهم فقوام القلب بالعلم كما ان قوام الجسم بالغذاء الوجه الاربعون ان القدر المقصود من المال هو ما يكفي العبد ويقيمه ويدفع ضرورته حتى يتمكن من قضاء جهازه ومن التزوج لسفره إلى ربه عزوجل فإذا زادعلى ذلك شغله وقطعه عن السفر وعن قضاء جهازه وتعبية زاده فكان ضرره عليه أكثر من مصلحته وكلما ازاداد غناه به ازداد تثبطا وتخلفا عن التجهز لما امامه وأما العلم النافع فكلما ازداد منه ازداد في تعبية الزاد وقضاء الجهاز واعداد عدة المسير والله الموفق وبه الاستعانة ولا حول ولا قوة الا به فعدة هذا السفر هو العلم والعمل وعدة الاقامة جمع الاموال والادخار ومن اراد شيئا هيأ له عدته قال تعالى ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين قوله محبة العلم او العالم دين يدان بها لان العلم ميراث الانبياء والعلماء ورثتهم فمحبة العلم واهله محبة لميراث الانبياء وورثتهم وبغض العلم وأهله بغض لميراث الانبياء وورثتهم فمحبة العلم من علامات السعادة وبغض العلم من علامات الشقاوة وهذا كله إنما هو في علم الرسل الذي جاؤا به وورثوه للامة لا في كل ما يسمى علما وأيضا فإن محبة العلم تحمل على تعلمه واتباعه وذلك هو الدين وبغضه ينهى عن تعلمه واتباعه

وذلك هو الشقاء والضلال وأيضا فإن الله سبحانه عليم يحب كل عليم وإنما يضع علمه عند من يحبه فمن احب العلم واهله فقد احب ما احب الله وذلك مما يدان به قوله العلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد مماته يكسبه ذاك أي يجعله كسبا له ويورثه إياه ويقال كسبه ذلك عزا وطاعة واكسبه لغتان ومنه حديث خديجة رضى الله عنها إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم روى بفتح التاء وضمها ومعناه تكسب المال والغنى هذا هو اصواب وقالت ائفة من رواه بضمها فذلك من اكسبه مالا وعزا ومن رواه بفتحها فمعناه تكسب انت المال المعدوم بمعرفتك وحذقك بالتجارة ومعاذ الله من هذا الفهم وخديجة اجل قدرا من تكلمها بهذا في هذا المقام العظيم ان تقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم ابشر فوالله لا يخزيك الله إنك تكسب الدرهم والدينار وتحسن التجارة ومثل هذه التحريفات انما تذكر لئلا يغتربها في تفسير كلام الله ورسولهوالمقصود ان قوله العلم يكسب العالم الطاعة في حياته أي يجعله مطاعا لان الحاجة إلى العلم عامة لكل احد للملوك فمن دونهم فكل احد محتاج إلى طاعة العالم فإنه يامر بطاعة الله ورسوله فيجب على الخلق طاعته قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم وفسر اولى الامر بالعلماء قال ابن عباس هم الفقهاء والعلماء اهل الدين الذين يعلمون الناس دينهم اوجب الله تعالى طاعتهم وهذا قول مجاهد والحسن والضحاك احدى الروايتين عن الامام احمد وفسروا بالامراء وهو قول ابن زيد احدى الروايتين عن ابن عباس وأحمد والاية تتناولها جميعا فطاعة ولاة الامر واجبة إذا امروا بطاعة الله ورسوله وطاعة العلماء كذلك فالعالم بما جاء به الرسول العامل به اطوع في اهل الارض من كل احد فإذا مات احيا الله ذكره ونشر له في العالمين احسن الثناء فالعالم بعد وفاته ميت وهو حي بين الناس والجاهل في حياته حي وهو ميت بين الناس كما قيل
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... واجسامهم قبل القبور قبور وارواحهم فيوحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور وقال الاخر
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس اموات وقال آخر
وما دام ذكر العبد بالفضل باقيا ... فذلك حى وهو في الترب هالك

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5