كتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

وهذا القدر هو الذي فات الزنادقة وقطاع الطريق من المنتسبين إلى طريقة القوم فإنهم لما علموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة وأرواحها لا صورها وأشباحها ورسومها قالوا : نجمع هممنا على مقاصدها وحقائقها ولا حاجة لنا إلى رسومها وظواهرها بل الاشتغال برسومها اشتغال عن الغاية بالوسيلة وعن المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره وغرهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها فرأوا نفوسهم أشرف من نفوس أولئك وهممهم أعلى وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر فتركب من تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل وجملة الأمر أن هؤلاء عطلوا سره ومقصوده وحقيقته وهؤلاء عطلوا رسمه وصورته فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته من غير رسمه وظاهره فلم يصلوا إلا إلى الكفر والزندقة وجحدوا ما علم بالضرورة مجيء الرسل به فهؤلاء كفار زنادقة منافقون وأولئك مقصرون غير كاملين والقائمون بهذا وهذا هم الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح وأن تعطيل عبودية القلب بمنزلة تعطيل عبودية الجوراح وأن كمال العبودية قيام كل من الملك وجنوده بعبوديته : فهؤلاء خواص أهل الإيمان وأهل العلم والعرفان

فصل قوله ومن الحظوظ إلى التجريد يريد الفرار من حظوظ النفوس على اختلاف
مراتبها فإنه لا يعرفها إلا المعتنون بمعرفة الله ومراده وحقه على عبده ومعرفة نفوسهم وأعمالهم وآفاتهما

ورب مطالب عالية لقوم من العباد هي حظوظ لقوم آخرين يستغفرون الله منها ويفرون إليه منها يرونها حائلة بينهم وبين مطلوبهم وبالجملة فالحظ : ما سوى مراد الله الدينى منك كائنا ما كان وهو ما يبرح حظ محرم إلى مكروه إلى مباح إلى مستحب غيره أحب إلى الله منه ولا يتميز هذا إلا في مقام الرسوخ في العلم بالله وأمره وبالنفس وصفاتها وأحوالها فهناك تتبين له الحظوظ من الحقوق ويفر من الحظ إلى التجريد وأكثر الناس لا يصلح لهم هذا لأنهم إنما يعبدون الله على الحظوظ وعلى مرادهم منه وأما تجريد عبادته على مراده من عبده : فتلك منزلة لم يعطها أحد سوى نبي وصديق من البشر والزهد زهدك فيها ليس زهدك في ما قد أبيح لنا في محكم السور والصدق صدقك في تجريدها وكذا الإخلاص تخليصها إن كنت ذا بصر كذا توكل أرباب البصائر في تجريد أعمالهم من ذلك الكدر كذاك توبتهم منها فهم أبدا في توبة أو يصيروا داخل الحفر وبالجملة فصاحب هذا التجريد : لا يقنع من الله بأمر يسكن إليه دون الله ولا يفرح بما حصل له دون الله ولا يأسى على ما فاته سوى الله ولا يستغني برتبة شريفة وإن عظمت عنده أو عند الناس فلا يستغني إلا بالله ولا يفتقر إلا إلى الله ولا يفرح إلا بموافقته لمرضاة الله ولا يحزن إلا على ما فاته من الله ولا يخاف إلا من سقوطه من عين الله واحتجاب الله عنه فكله بالله وكله لله وكله مع الله وسيره دائما إلى الله قد رفع له علمه فشمر إليه وتجرد له مطلوبه فعمل عليه تناديه الحظوظ : إلي وهو يقول : إنما أريد من إذا حصل لي حصل لي كل شيء وإذا فاتني فاتني كل شيء فهو مع الله مجرد عن خلقه ومع خلقه مجرد عن نفسه ومع الأمر مجرد عن حظه أعني الحظ المزاحم للأمر وأما الحظ المعين على الأمر : فإنه لا يحطه تناوله عن مرتبته ولا يسقطه من عين ربه

وهذا أيضا موضع غلط فيه من غلط من الشيوخ فظنوا أن إرادة الحظ نقص فى الإرادة والتحقيق فيه : أن الحظ نوعان حظ يزاحم الأمر وحظ يؤازر الأمر فينفذه فالأول هو المذموم والثاني ممدوح وتناوله من تمام العبودية فهذا لون وهذا لون

فصل قال : وفرار خاصة الخاصة : مما دون الحق إلى الحق ثم من
شهود الفرار إلى الحق ثم الفرار من شهود الفرار هذا على قاعدته في جعل الفناء عن الشهود غاية السالكين فيفر أولا من الخلق إلى الحق ويشهد بهذا الفرار انفراد مشهوده الذي فر إليه لكن بقيت عليه بقية وهي شهود فراره فيعدله إحساسا بالخلق فيفر ثانيا من شهود فراره فتنقطع النسب كلها بينه وبين الخلق بهذا الفرار الثاني فلا يبقى فيه بقية إلا ملاحظة فراره من شهود فراره فيفر من شهود الفرار فتنقطع حينئذ النسب كلها وقد تقدم الكلام على هذا وأنه ليس أعلى المقامات والرتب ولا هو غاية الكمال وأن فوقه ما هو أعلى منه مقاما وأشرف منزلا وهو أن يشهد فراره وأنه بالله من الله إلى الله فيشهد أنه فر به منه إليه ويعطي كل مشهد حقه من العبودية وهذا حال الكمل والله المستعان
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين : منزلة الرياضة هي تمرين
النفس على الصدق والإخلاص قال صاحب المنازل : هي تمرين النفس على قبول الصدق وهذا يراد به أمران : تمرينها على قبول الصدق إذا عرضه عليها في أقواله وأفعاله وإرادته فإذا عرض عليها الصدق قبلته وانقادت له وأذعنت له

والثاني : قبول الحق ممن عرضه عليه قال الله تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون الزمر : 33 فلا يكفي صدقك بل لا بد من صدقك وتصديقك للصادقين فكثير من الناس يصدق ولكن يمنعه من التصديق كبر أو حسد أو غير ذلك قال : وهي على ثلاث درجات : رياضة العامة وهي تهذيب الأخلاق بالعلم وتصفية الأعمال بالإخلاص وتوفير الحقوق في المعاملة أما تهذيب الأخلاق بالعلم : فالمراد به إصلاحها وتصفيتها بموجب العلم فلا يتحرك بحركة ظاهرة أو باطنة إلا بمقتضى العلم فتكون حركات ظاهرة وباطنة موزونة بميزان الشرع وأما تصفية الأعمال بالإخلاص : فهو تجريدها عن أن يشوبها باعث لغير الله وهي عبارة عن توحيد المراد وتجريد الباعث إليه وأما توفير الحقوق في المعاملة : فهو أن تعطي ما أمرت به من حق الله وحقوق العباد كاملا موفرا قد نصحت فيه صاحب الحق غاية النصح وأرضيته كل الرضى ففزت بحمده لك وشكره ولما كانت هذه الثلاثة شاقة على النفس جدا : كان تكلفها رياضة فإذا اعتادها صارت خلقا قال : ورياضة الخاصة : حسم التفرق وقطع الالتفات إلى المقام الذي جاوزه وإبقاء العلم يجري مجراه يريد بحسم التفرق : قطع ما يفرق قلبك عن الله بالجمعية عليه والإقبال بكليتك إليه حاضرا معه بقلبك كله لا تلتفت إلى غيره وأما قطع الالتفات إلى المقام الذي جاوزه : فهو أن لا يشتغل باستحسان علوم ذلك المقام ولذته واستحسانه بل يلهى عنه معرضا مقبلا على الله طالبا للزيادة خائفا أن يكون ذلك المقام له حجابا يقف عنده عن السير فهمته حفظه ليس له

قوة ولا همة أن ينهض إلى ما فوقه ومن لم تكن همته التقدم فهو فى تأخر ولا يشعر فإنه لا وقوف في الطبيعة ولا في السير بل إما إلى قدام وإما إلى وراء فالسالك الصادق لا ينظر إلى ورائه ولا يسمع النداء إلا من أمامه لا من ورائه وأما إبقاء العلم يجرى مجراه : فالذهاب مع داعي العلم أين ذهب به والجري معه في تياره أين جرى وحقيقة ذلك : الاستسلام للعلم وأن لا تعارضه بجمعية ولا ذوق ولا حال بل امض معه حيث ذهب فالواجب تسليط العلم على الحال وتحكيمه عليه وأن لا يعارض به وهذا صعب جدا إلا على الصادقين من أرباب العزائم فلذلك كان من أنواع الرياضة ومتى تمرنت النفس عليه وتعودته صار خلقا وكثير من السالكين إذا لاحت له بارقة أو غلبه حال أو ذوق : خلى العلم وراء ظهره ونبذه وراءه ظهريا وحكم عليه الحال هذا حال أكثر السالكين وهي حال أهل الانحراف الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولهذا عظمت وصية أهل الاستقامة من الشيوخ بالعلم والتمسك به

فصل قال : ورياضة خاصة الخاصة : تجريد الشهود والصعود إلى الجمع ورفض
المعارضات وقطع المعاوضات أما تجريد الشهود فنوعان أحدهما : تجريده عن الالتفات إلى غيره والثاني : تجريده عن رؤيته وشهوده وأما الصعود إلى الجمع : فيعني به الصعود عن معاني التفرقة إلى الجمع الذاتي وهذا يحتمل أمرين

أحدهما : أن يصعد عن تفرقة الأفعال إلى وحدة مصدرها والثاني : أن يصعد عن علائق الأسماء والصفات إلى الذات فإن شهود الذات بدون علائق الأسماء والصفات عندهم هو حضرة الجمع وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام لا بد من تحقيقه فنقول : التفرقة تفرقتان : تفرقة في المفعولات وتفرقة في معاني الأسماء والصفات والجمع جمعان : جمع في الحكم الكوني وجمع ذاتي فالجمع في الحكم الكوني : اجتماع المفعولات كلها في القضاء والقدر والحكم والجمع الذاتي : اجتماع الأسماء والصفات في الذات فالذات واحدة جامعة للأسماء والصفات والقدر : جامع لجميع المقضيات والمقدروات والشهود مترتب على هذا وهذا فشهود اجتماع الكائنات في قضائه وقدره وإن كان حقا فهو لا يعطى إيمانا فضلا عن أن يكون أعلى مقامات الإحسان والفناء في هذا الشهود : غايته فناء في توحيد الربوبية الذي لا ينفع وحده ولا بد منه وشهود اجتماع الأسماء والصفات في وحدة الذات : شهود صحيح وهو شهود مطابق للحق في نفسه وأما الصعود عن شهود تفرقة الأسماء والصفات وعلائقها إلى وحدة الذات المجردة : فغايته أن يكون صاحبه معذورا لضيق قلبه وأما أن يكون محمودا في شهوده ذاتا مجردة عن كل اسم وصفة وعن علائقها فكلا ولما وأي إيمان يعطي ذلك وأي معرفة وإنما هو سلب ونفي في الشهود كالسلب والنفي في العلم والاعتقاد فنسبته إلى الشهود كنسبة نفي الجهمية وسلبهم

إلى الأخبار لكن الفرق بينهما : أن ذلك السلب في العلم والاعتقاد مخالف للحق الثابت في نفس الأمر وكذب على الله ونفي لما يستحقه من صفات كماله ونعوت جلاله ومعاني أسمائه الحسنى وأما هذا السلب : ففي الشعور به للصعود منه إلى الجمع الذاتي مع الإيمان به والاعتراف بثبوته فهذا لون وذاك لون والكمال شهود الأمر على ما هو عليه ويشهد الذات موصوفة بصفات الجلال منعوتة بنعوت الكمال وكلما كثر شهوده لمعاني الأسماء والصفات كان أكمل نعم قد يعذر في الفناء في الذات المجردة لقوة الوارد وضعف المحل عن شهود معاني الأسماء والصفات فتأمل هذا الموضوع وأعطه حقه ولا يصدنك عن تحقيق ذلك ما يحيل عليه أرباب الفناء من الكشف والذوق فإنا لا ننكره بل نقر به ولكن الشأن في مرتبته وبالله التوفيق وأما رفض المعارضات : فيحتمل أمرين أحدهما : ما يعارض شهوده الجمعي من التفرقات وهو مراده والثانى : ما يعارض إرادته من الإرادات وما يعارض مراد الله من المرادات وهذا أكمل من الأول وأعلى منه وأما قطع المعاوضات : فهو تجريد المعاملة عن إرادة المعاوضة بل يجردها لذاته وأنه أهل أن يعبد ولو لم يحصل لعابده عوض منه فإنه يستحق أن يعبد لذاته لا لعلة ولا لعوض ولا لمطلوب وهذا أيضا موضع لابد من تجريده

فيقال : ملاحظة المعاوضة ضرورية للعامل وإنما الشأن في ملاحظة الأعواض وتباينها فالمحب الصادق الذي قد تجرد عن ملاحظة عوض قد لاحظ أعظم الأعواض وشمر إليها وهي قربه من الله ووصوله إليه واشتغاله به عما سواه والتنعم بحبه ولذة الشوق إلى لقائه فهذه أعواض لا بد للخاصة منها وهي من أجل مقاصدهم وأغراضهم ولا تقدح فى مقاماتهم وتجريد عبودياتهم بل أكملهم عبودية أشدهم التفاتا إلى هذه الأعواض نعم طلب الأعواض المنفصلة المخلوقة من الجاه والمال والرياسة والملك أو طلب الحور العين والقصور والولدان ونحو ذلك بالنسبة إلى تلك الأعواض التي تطلبها الخاصة معلولة وهذا لا شك فيه إذا تجرد طلبهم لها أما إذا كان مطلوبهم الأعظم الذاتي : هو قربه والوصول إليه والتنعم بحبه والشوق إلى لقائه وانضاف إلى هذا طلبهم لثوابه المخلوق المنفصل : فلا علة في هذه العبودية بوجه ما ولا نقص وقد قال النبي حولها ندندن يعنى الجنة وقال : إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ومعلوم أن هذا مسكن خاصة الخاصة وسادات العارفين فسؤالهم إياه ليس علة في عبوديتهم ولا قدحا فيها

وقد استوفينا ذكر هذا الموضع فى كتاب سفر الهجرتين عند الكلام على علل المقامات ويحتمل أن يريد الشيخ بقطع المعاوضات : أن تشهد أن الله ما أعطاك شيئا معاوضة بل إنما أعطاكتفضلا وإحسانا لا لعوض يرجوه منك كما يكون عطاء العبد للعبد وإنما نتكلم فيما من العبد مما يؤمر بالتجرد عنه كتجرده عن التفرقة والمعاوضةفهذا أليق المعنيين بكلامه والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السماع
وهو اسم مصدر كالنبات وقد أمر الله به في كتابه وأثنى على أهله وأخبر أن البشرى لهم فقال تعالى واتقوا الله واسمعوا المائده : 108 وقال واسمعوا وأطيعوا التغابن : 16 وقال ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم النساء : 46 وقال فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب الزمر : 1718 وقال : وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا الأعراف : 204 وقال : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق وجعل الإسماع منه والسماع منهم دليلا على علم الخير فيهم وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم فقال : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون الأنفال : 23 وأخبر عن أعدائه : أنهم هجروا السماع ونهوا عنه فقال : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فصلت : 26 فالسماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلمه وكم في القرآن من قوله : أفلا يسمعون وقال : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها الآية الحج : 46

فالسماع أصل العقل وأساس الإيمان الذي انبنى عليه وهو رائده وجليسه ووزيره ولكن الشأن كل الشأن في المسموع وفيه وقع خبط الناس واختلافهم وغلط منهم من غلط وحقيقة السماع تنبيه القلب على معاني المسموع وتحريكه عنها : طلبا وهربا وحبا وبغضا فهو حاد يحدو بكل أحد إلى وطنه ومألفه وأصحاب السماع منهم : من يسمع بطبعه ونفسه وهواه فهذا حظه من مسموعه : ما وافق طبعه ومنهم : من يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله فهذا يفتح له من المسموع بحسب استعداده وقوته ومادته ومنهم : من يسمع بالله لا يسمع بغيره كما في الحديث الإلهي الصحيح : فبي يسمع وبي يبصر وهذا أعلى سماعا وأصح من كل أحد والكلام في السماع مدحا وذما يحتاج فيه إلى معرفة صورة المسموع وحقيقته وسببه والباعث عليه وثمرته وغايته فبهذه الفصول الثلاثة يتحرر أمر السماع ويتميز النافع منه والضار والحق والباطل والممدوح والمذموم فأما المسموع فعلى ثلاثة أضرب أحدها : مسموع يحبه الله ويرضاه وأمر به عباده وأثنى على أهله ورضي عنهم به الثاني : مسموع يبغضه ويكرهه ونهى عنه ومدح المعرضين عنه الثالث : مسموع مباح مأذون فيه لا يحبه ولا يبغضه ولا مدح صاحبه ولا ذمه فحكمه حكم سائر المباحات : من المناظر والمشام والمطعومات والملبوسات المباحة فمن حرم هذا النوع الثالث فقد قال على الله ما لا يعلم وحرم ما أحل الله ومن جعله دينا وقربة يتقرب به إلى الله فقد كذب على الله وشرع دينا لم يأذن به الله وضاهأ بذلك المشركين

فصل فأما النوع الأول : فهو السماع الذي مدحه الله في كتابه وأمر به
وأثنى على أصحابه وذم المعرضين عنه ولعنهم وجعلهم أضل من الأنعام سبيلا وهم القائلون فى النار : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير الملك : 10 وهو سماع آياته المتلوة التي أنزلها على رسوله فهذا السماع أساس الإيمان الذى يقوم عليه بناؤه وهو على ثلاثة أنواع سماع إدراك : بحاسة الأذن وسماع فهم وعقل وسماع منهم إجابة وقبول والثلاثة في القرآن فأما سماع الإدراك : ففي قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن قولهم : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به الجن : 12 وقولهم : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى الآية الأحقاف : 30 فهذا سماع إدراك اتصل به الإيمان والإجابة وأما سماع الفهم : فهو المنفي عن أهل الإعراض والغفلة بقوله تعالى : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الروم : 52 وقوله : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور فاطر : 22 فالتخصيص ههنا لإسماع الفهم والعقل وإلا فالسمع العام الذي قامت به الحجة : لا تخصيص فيه ومنه قوله تعالى : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون الأنفال : 23 أى لو علم الله في هؤلاء الكفار قبولاوانقيادا

لأفهمهم وإلا فهم قد سمعوا سمع الإدراك ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموا لأن في قلبهم من داعي التولي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه وأما سماع القبول والإجابة : ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين : أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا النور : 51 فإن هذا سماع قبول وإجابة مثمر للطاعة والتحقيق : أنه متضمن للأنواع الثلاثة وأنهم أخبروا بأنهم أدركوا المسوع وفهموه واستجابوا له ومن سمع القبول : وفيكم سماعون لهم التوبه : 47 أى قابلون منهم مستجيبون لهم هذا أصح القولين في الآية وأما قول من قال : عيون لهم وجواسيس فضعيف فإنه سبحانه أخبر عن حكمته في تثبيطهم عن الخروج : بأن خروجهم يوجب الخبال والفساد والسعي بين العسكر بالفتنة وفي العسكر من يقبل منهم ويستجيب لهم فكان في إقعادهم عنهم لطفا بهم ورحمة حتى لا يقعوا في عنت القبول منهم أما اشتمال العسكر على جواسيس وعيون لهم : فلا تعلق له بحكمة التثبيط والإقعاد ومعلوم أن جواسيسهم وعيونهم منهم وهو سبحانه قد أخبر أنه أقعدهم لئلا يسعوا بالفساد في العسكر ولئلا يبغوهم الفتنة وهذه الفتنة إنما تندفع بإقعادهم وإقعاد جواسيسهم وعيونهم وأيضا فإن الجواسيس إنما تسمى عيونا هذا المعروف في الاستعمال لا تسمى سماعين وأيضا فإن هذا نظير قوله تعالى في إخوانهم اليهود : سماعون للكذب أكالون للسحت المائده : 42 أي قابلون له والمقصود : أن سماع خاصة الخاصة المقربين : هو سماع القرآن بالاعتبارات

الثلاثة : إدراكا وفهما وتدبرا وإجابة وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم وأمر به أولياءه : فهو هذا السماع وهو سماع الآيات لا سماع الأبيات وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء وسماع المراشد لا سماع القصائد وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنين والمطربين فهذا السماع حاد يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات ومناد ينادي للإيمان ودليل يسير بالركب في طريق الجنان وداع يدعو القلوب بالمساء والصباح من قبل فالق الإصباح حي على الفلاح حي على الفلاح فلم يعدم من اختار هذا السماع إرشادا لحجة وتبصرة لعبرة وتذكرة لمعرفة وفكرة في آية ودلالة على رشد وردا على ضلالة وإرشادا من غي وبصيرة من عمى وأمرا بمصلحة ونهيا عن مضرة ومفسدة وهداية إلى نور وإخراجا من ظلمة وزجرا عن هوى وحثا على تقى وجلاء لبصيرة وحياة لقلب وغذاء ودواء وشفاء وعصمة ونجاة وكشف شبهة وإيضاح برهان وتحقيق حق وإبطال باطل ونحن نرضى بحكم أهل الذوق في سماع الأبيات والقصائد ونناشدهم بالذي أنزل القرآن هدى وشفاء ونورا وحياة : هل وجدوا ذلك أو شيئا منه فى الدف والمزمار ونغمة الشادن ومطربات الألحان والغناء المشتمل على تهييج الحب المطلق الذي يشترك فيه محب الرحمن ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب العلم والعرفان ومحب الأموال والأثمان ومحب النسوان والمردان ومحب الصلبان فهو يثير من قلب كل مشتاق ومحب لشيء ساكنه ويزعج قاطنه فيثور وجده ويبدو شوقه فيتحرك على حسب ما في قلبه من الحب والشوق

والوجد بذلك المحبوب كائنا ما كان ولهذا تجد لهؤلاء كلهم ذوقا فى السماع وحالا ووجدا وبكاء ويالله العجب أي إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات لعل أكثرها قيلت فيما هو محرم من يبغضه الله ورسوله ويعاقب عليه : من غزل وتشبيب بمن لا يحل له من ذكر أو أنثى فإن غالب التغزل والتشبيب : إنما هو في الصور المحرمة ومن أندر النادر تغزل الشاعر وتشبيبه فى امرأته وأمته وأم ولده مع أن هذا واقع لكنه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب : أن يتقرب إلى الله ويزداد إيمانا وقربا منه وكرامة عليه بالتذاذه بما هو بغيض إليه مقيت عنده يمقت قائله والراضي به وتترقى به الحال حتى يزعم أن ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع وسنة نبيه يالله ! إن هذا القلب مخسوف به ممكور به منكوس لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ومطالعة أسراره فبلاه بقرآن الشيطان كما فى معجم الطبراني وغيره مرفوعا وموقوفا : إن الشيطان قال : يارب اجعل لي قرآنا قال : قرآنك الشعر قال : اجعل لي كتابا قال : كتابك الوشم قال : اجعل لي مؤذنا قال : مؤذنك المزمار قال : اجعل لى بيتا قال : بيتك الحمام قال : اجعل لي مصائد قال : مصائدك النساء قال : اجعل لي طعاما قال : طعامك ما لم يذكر عليه اسمي والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل القسم الثاني من السماع ما يبغضه الله ويكرهه ويمدح المعرض عنه
وهو سماع كل ما يضر العبد في قلبه ودينه كسماع الباطل كله إلا إذا تضمن رده وإبطاله والاعتبار به وقصد أن يعلم به حسن ضده فإن الضد يظهر حسنه الضد كما قيل :

وإذا سمعت إلى حديثك زادني حبا له : سمعي حديث سواكا وكسماع اللغو الذي مدح التاركين لسماعه والمعرضين عنه بقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه القصص : 55 وقوله : وإذا مروا باللغو مروا كراما الفرقان : 72 قال محمد بن الحنفية : هو الغناء وقال الحسن أو غيره : أكرموا نفوسهم عن سماعه قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وهذا كلام عارف بأثر الغناء وثمرته فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر ولو عرف حقيقة النفاق وغايته لأبصره في قلبه فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه وتبرمهم به وصياحهم بالقارىء إذا طول عليهم وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرأه فلا تتحرك ولا تطرب ولا تهيج منها بواعث الطلب فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله كيف تخشع منهم الأصوات وتهدأ الحركات وتسكن القلوب وتطمئن ويقع البكاء والوجد والحركة الظاهرة والباطنة والسماحة بالأثمان والثياب وطيب السهر وتمني طول الليل فإن لم يكن هذا نفاقا فهو آخية النفاق وأساسه تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاهي وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا والله ما رقصوا من أجل الله دف ومزمار ونغمة شاهد فمتى شهدت عبادة بملاهي ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي وعليهم خف الغنا لما رأوا إطلاقه في اللهو دون مناهي يا فرقة ما ضر دين محمد وجنى عليه ومله إلا هى سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى زجرا وتخويفا بفعل مناهي ورأوه أعظم قاطع للنفس عن شهواتها يا ويحها المتناهي وأتى السماع موافقا أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه

أين المساعد للهوى من قاطع أسبابه عند الجهول الساهي إن لم يكن خمر الجسوم فإنه خمر العقول مماثل ومضاهي فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النشوان عند تلاهي وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي فاحكم بأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله وكيف يكون السماع الذي يسمعه العبد بطبعه وهواه أنفع له من الذي يسمعه بالله ولله وعن الله فإن زعموا أنهم يسمعون هذا السماع الغنائي الشعري كذلك فهذا غاية اللبس على القوم فإنه إنما يسمع بالله ولله وعن الله ما يحبه الله ويرضاه ولهذا قلنا : إنه لا يتحرر الكلام في هذه المسألة إلا بعد معرفة صورة المسموع وحقيقته ومرتبته فقد جعل الله لكل شيء قدرا ولن يجعل الله من شربه ونصيبه وذوقه ووجده من سماع الآيات البينات كمن نصيبه وشربه وذوقه ووجده من سماع الغناء والأبيات ومن أعجب العجائب : استدلال من استدل على أن هذا السماع من طريق لقوم وأنه مباح : بكونه مستلذا طبعا تلذه النفوس وتستروح إليه وأن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء وبأن الصوت الطيب نعمة من الله على صاحبه وزيادة فى خلقه وبأن الله ذم الصوت الفظيع فقال : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير لقمان : 19 وبأن الله وصف نعيم أهل الجنة فقال فيه : فهم في روضة يحبرون الروم : 15 وأن ذلك هو السماع الطيب فكيف يكون حراما وهو في الجنة وبأن الله تعالى ما أذن لشيء كأذنه أي كاستماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن وبأن أبا موسى الأشعري استمع النبي إلى صوته وأثنى عليه بحسن الصوت وقال : لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود فقال له أبو موسى : لو علمت أنك استمعت لحبرته لك تحبيرا أي زينته لك وحسنته وبقوله : زينوا القرآن بأصواتكم

وبقوله : ليس منا من لم يتغن بالقرآن والصحيح : أنه من التغني بمعنى تحسين الصوت وبذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله فقال : يحسنه بصوته ما استطاع وبأن النبي أقر عائشة على غناء القينتين يوم العيد وقال لأبي بكر : دعهما فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام وبأنه أذن في العرس في الغناء وسماه لهوا وقد سمع رسول الله الحداء وأذن فيه وكان يسمع أنسا والصحابة وهم يرتجزون بين يديه في حفر الخندق : نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ودخل مكة والمرتجز يرتجز بين يديه بشعر عبد الله بن رواحة وحدا به الحادي في منصرفه من خيبر فجعل يقول : والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الذين قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا ونحن إن صيح بنا أتينا وبالصياح عولوا علينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فدعا لقائله وسمع قصيدة كعب بن زهير وأجازه ببردة واستنشد الأسود بن سريع قصائد حمد بها ربه واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية وأنشده الأعشى شيئا من شعره فسمعه وصدق لبيدا في قوله ألا كل شيءما خلا الله باطل ودعا لحسان أن يؤيده الله بروح القدس مادام ينافح عنه وكان يعجبه شعره وقال له : اهجهم وروح القدس معك

وأنشدته عائشة قول أبي كبير الهذلي : ومبرأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل وقالت : أنت أحق بهذا البيت فسر بقولها وبأن ابن عمر رضي الله عنهما رخص فيه وعبد الله بن جعفر وأهل المدينة وبأن كذا وكذا وليا لله حضروه وسمعوه فمن حرمه فقد قدح في هؤلاء السادة القدوة الأعلام وبأن الإجماع منعقد على إباحة أصوات الطيور المطربة الشجية فلذة سماع صوت الآدمي أولى بالإباحة أو مساوية وبأن السماع يحدو روح السامع وقلبه إلى نحو محبوبه فإن كان محبوبه حراما كان السماع معينا له على الحرام وإن كان مباحا كان السماع في حقه مباحا وإن كانت محبته رحمانية كان السماع في حقه قربة وطاعة لأنه يحرك المحبة الرحمانية ويقويها ويهيجها وبأن التذاذ الأذن بالصوت الطيب كالتذاذ العين بالمنظر الحسن والشم بالروائح الطيبة والفم بالطعوم الطيبة فإن كان هذا حراما كانت جميع هذه اللذات والإدراكات محرمة فالجواب : أن هذه حيدة عن المقصود وروغان عن محل النزاع وتعلق بما

لا متعلق به فإن جهة كون الشىء مستلذا للحاسة ملائما لها لا يدل على إباحته ولا تحريمه ولا كراهته ولا استحبابه فإن هذه اللذة تكون فيما فيه الأحكام الخمسة : تكون فى الحرام والواجب والمكروه والمستحب والمباح فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة وأن لذته لا ينكرها من له طبع سليم : وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد وهل خلت غالب المحرمات من اللذات وهل أصوات المعازف التي صح عن النبى تحريمها وأن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها وقال جمهورهم : بتحريم جملتها إلا لذيذة تلذ السمع وهل في التذاذ الجمل والطفل بالصوت الطيب دليل على حكمه : من إباحة أو تحريم وأعجب من هذا : الاستدلال على الإباحة بأن الله خلق الصوت الطيب وهو زيادة نعمة منه لصاحبه فيقال : والصورة الحسنة الجميلة أليست زيادة في النعمة والله خالقها ومعطي حسنها أفيدل ذلك على إباحة التمتع بها والالتذاذ على الإطلاق بهاوهل هذا إلا مذهب أهل الإباحة الجارين مع رسوم الطبيعة وهل في ذم الله لصوت الحمار ما يدل على إباحة الأصوات المطربات بالنغمات الموزونات والألحان اللذيذات من الصور المستحسنات بأنواع القصائد المنغمات بالدفوف والشبابات وأعجب من هذا : الاستدلال بسماع أهل الجنة وما أجدر صاحبه أن يستدل على إباحة الخمر بأن في الجنة خمرا و على حل لباس الحرير بأن لباس أهلها حرير وعلى حل أواني الذهب والفضة والتحلي بهما للرجال : بكون ذلك ثابتا وجود النعيم به في الجنة

فإن قال : قد قام الدليل على تحريم هذا ولم يقم على تحريم السماع قيل : هذا استدلال آخر غير الاستدلال بإباحته لأهل الجنة فعلم أن استدلالكم بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل لا يرضى به محصل وأما قولكم لم يقم دليل على تحريم السماع فيقال لك : أي السماعات تعني وأي المسموعات تريد فالسماعات والمسموعات : منها المحرم والمكروه والمباح والواجب والمستحب فعين نوعا يقع الكلام فيه نفيا وإثباتا فإن قلت : سماع القصائد قيل لك : أي القصائد تعني ما مدح به الله ورسوله ودينه وكتابه وهجي به أعداؤه فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويتدارسونها وهي التي سمعها رسول الله وأصحابه وأثاب عليها وحرض حسانا عليها وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني فقالوا : تلك قصائد وسماعنا قصائد فنعم إذن والسنة كلام والبدعة كلام والتسبيح كلاموالغيبة كلام والدعاء كلام والقذف كلام ولكن هل سمع رسول الله وأصحابه سماعكم هذا الشيطاني المشتمل على أكثر من مفسدة مذكورة في غير هذا الموضع وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعضها ونظير هذا : ما غرهم من استحسانه الصوت الحسن بالقرآن وأذنه له وإذنه فيه ومحبة الله له فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد وذكر القد والنهد والخصر ووصف العيون وفعلها والشعر الأسود ومحاسن الشباب وتوريد الخدود وذكر الوصل والصد والتجني

والهجران والعتاب والاستعطاف والاشتياق والقلق والفراق وما جرى هذا المجرى مما هو أفسد للقلب من شرب الخمر بما لا نسبة بينهما وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لايستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين سليبا حريبا وأسيرا قتيلا وهل تقاس سكرة الشراب بسكرة الأرواح بالسماع وهل يظن بحكيم أن يحرم سكرا لمفسدة فيه معلومة ويبيح سكرا مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب حاشا أحكم الحاكمين فإن نازعوا في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح : خرجوا عن الذوق والحس وظهرت مكابرة القوم فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته ويبيح له مافيه أعظم السقم والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب وسقمها بسكر السماع وكلامنا مع واجد لا فاقد فهو المقصود بالخطاب وأعجب من هذا : استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنيتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم فأين هذا من هذا والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك : مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولا إستماعهما أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى فيا سبحان الله ! كيف ضلت العقول والأفهام وأعجب من هذا كله : الاستدلال على إباحته بما سمعه رسول الله

من الحداء المشتمل على الحق والتوحيد ! وهل حرم أحد مطلق الشعر وقوله واستماعه فكم في هذا التعلق ببيوت العنكبوت وأعجب من هذا : الاستدلال على إباحته بإباحة أصوات الطيور اللذيذة وهل هذا إلا من جنس قياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا البقره : 275 وأين أصوات الطيور إلى نغمات الغيد الحسان والأوتار والعيدان وأصوات أشباه النساء من المردان والغناء بما يحدو الأرواح والقلوب إلى مواصلة كل محبوبة ومحبوب وأين الفتنة بهذا إلى الفتنة بصوت القمرى والبلبل والهزار ونحوها بل نقول : لو كانا سواء لكان اتخاذ هذا السماع قربة وطاعة تستنزل به المعارف والأذواق والمواجيد وتحرك به الأحوال بمنزلة التقرب إلى الله بأصوات الطيور ومعاذ الله أن يكونا سواء والذي يفصل النزاع في حكم هذه المسألة : ثلاث قواعد من أهم قواعد الإيمان والسلوك فمن لم يبن عليها فبناؤه على شفا جرف هار القاعدة الأولى : أن الذوق والحال والوجد : هل هو حاكم أو محكوم عليه فيحكم عليه بحاكم آخر أو ويتحاكم إليه فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة حيث جعلوه حاكما فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع وفيما هو صحيح وفاسد وجعلوه محكا للحق والباطل فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص وحكموا فيها الأذواق

والأحوال والمواجيد فعظم الأمر وتفاقم الفساد والشر وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم وانعكس السير وكان إلى الله فصيروه إلى النفوس فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله وهؤلاء يعبدون نفوسهم ومن العجب : أنهم دخلوا في أنواع الرياضات والمجاهدات والزهد ليتجردوا عن شهوات النفوس وحظوظها فانتقلوا من شهوات إلى شهوات أكبر منها ومن حظوظ إلى حظوظ أحط منها وكان حالهم شهوات نفوسهم فى الشهوات التي انتقلوا عنها أكمل وحال أربابها خير من حال هؤلاء لأنهم لم يعارضوا بها العلم ولا قدموها على النصوص ولا جعلوها دينا وقربة ولا ازدروا من أجلها العلم وأهله والشهوات التي انتقلوا إليها جعلوها أعلى ما يشمرون إليها فهي قبلة قلوبهم فهم حولها عاكفون واقفون مع حظوظهم من الله فانون بها عن مراد الله منهم الناس يعبدون الله وهم يعبدون أنفسهم عائبون على أهل الحظوظ والشهوات ومزدرون لهم وهم أعظم الناس حظوظا وإنما زهدوا في حظ إلى حظ أعلى منه وإنما تركوا شهوة لشهوة أحطفليتدبر اللبيب هذا الموضع في نفسه وفي غيره فكل ما خالف مراد الله الديني من العبد فهو حظه وشهوته مالا كان أو رياسة أو صورة أو حالا أو ذوقا أو وجدا ثم من قدمه على مراد الله فهو أسوأ حالا ممن عرف أنه نقص ومحنة وأن مراد الله أولى بالتقديم منه فهو يتوب منه كل وقت إلى الله ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله فإن الأذواق مختلفة فى أنفسها كثيرة الألوان متباينة أعظم التباين فكل طائفة لهم أذواق وأحوال ومواجيد بحسب معتقداتهم وسلوكهم فالقائلون بوحدة الوجود لهم ذوق وحال ووجد في معتقدهم بحسبه والنصارى لهم ذوق في النصرانية بحسب رياضتهم وعقائدهم وكل من اعتقد شيئا أو سلك

سلوكا حقا كان أو باطلا فإنه إذا ارتاض وتجرد : لزمه وتمكن من قلبه وبقي له فيه حال وذوق ووجد فنذوق من توزن الحقائق إذن ويعرف الحق من الباطل وهذا سيد أهل الأذواق والمواجيد والكشوف والأحوال من هذه الأمة المحدث المكاشف عمر رضى الله عنه لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطباته فى شيء من أمور الدين حتى ينشد عنه الرجال والنساء والأعراب فإذا أخبروه عن رسول الله بشيء لم يلتفت إلى ذوقه ولا إلى وجده وخطابه بل يقول : لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره ويقول : أيها الناس رجل أخطأ وامرأة أصابت فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمة رضي الله عنه ليس كفعل من غش نفسه والدين والأمة القاعدة الثانية : أنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال أو حال من الأحوال أو ذوق من الأذواق هل هو صحيح أو فاسد وحق أو باطل وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين وهي وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه وتعرض عليه وتوزن به فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول وما أبطله ورده فهو الباطل المردود ومن لم يبن على هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله : فليس على شىء من الدين وإن وإن وإنما معه خدع وغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنه فوفاه حسابه والله سريع الحساب النور : 39 القاعدة الثالثة : إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء : هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي

ولا سيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله موصلا إليه عن قرب وهو رقية له ورائد وبريد فهذا لا يشك في تحريمه أولو البصائر فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات ثم يبيح ما هو أعظم منه سوقا للنفوس إلى الحرام بكثير فإن الغناء كما قال ابن مسعود رضي الله عنه هو : رقية الزنا وقد شاهد الناس : أنه ما عاناه صبي إلا وفسد ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب إلا وإلا ولا شيخ إلا وإلا والعيان من ذلك يغني عن البرهان ولا سيما إذا جمع هيئة تحدو النفوس أعظم حدو إلى المعصية والفجور بأن يكون على الوجه الذي ينبغي لأهله من المكان والإمكان والعشراء والإخوان وآلات المعازف : من اليراع والدف والأوتار والعيدان وكان القوال شادنا شجي الصوت لطيف الشمائل من المردان أو النسوان وكان القول في العشق والوصال والصد والهجران ودارت كؤوس الهوى بينهم فلست ترى فيهم صاحيا فكل على قدر مشروبه وكل أجاب الهوى الداعيا فمالوا سكارى ولا سكر من تناول أم الهوى خاليا وجار على القوم ساقيهم ولم يؤثروا غيره ساقيا فمزق منهم قلوبا غدت لباسا عليه يرى ضافيا فلم يستفيقوا إلى أن أتى إليهم منادي اللقا داعيا أجيبوا فكل امرىء منكم على حاله ربه لاقيا هنالك تعلم من حمأة شربت مع القوم أم صافيا وبالله لا بد قبل اللقا سنعلم ذا إن تك واعيا لا بد تصحو فإما هنا وإما هناك فكن راضيا

فصل وإذا لم يكن بد من المحاكمة إلى الذوق فهلم نحاكمك إلى ذوق لا
ننكره نحن ولا أنت غير هذه الأذواق التي ذكرناها فالقلب يعرض له حالتان : حالة حزن وأسف على مفقود وحالة فرح ورضى بموجود وله بمقتضى هاتين الحالتين عبوديتان وله بمقتضى الحالة الأولى : عبودية الرضاء وهي للسابقين والصبر وهي لأصحاب اليمين وله بمقتضى الحالة الثانية : عبودية الشكر والشاكرون فيها أيضا نوعان : سابقون وأصحاب يمين فاقتطعته النفس والشيطان عن هاتين العبوديتين بصوتين أحمقين فاجرين هما للشيطان لا للرحمن : صوت الندب والنياحة عند الحزن وفوات المحبوب وصوت اللهو والمزمار والغناء عند الفرح وحصول المطلوب فعوضه الشيطان بهذين الصوتين عن تينك العبوديتين وقد أشار النبي إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنس رضي الله عنه : إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت ويل عند مصيبة وصوت مزمار عند نعمة ووافق ذلك راحة من النفس وشهوة ولذة وسرت فيها تلك الرقائق حتى تعبد بها من قل نصيبه من النور النبوي وقل مشربه من العين المحمدية وانضاف ذلك إلى صدق وطلب وإرادة مضادة لشهوات أهل الغي وأهل البطالة ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم وكثافة حجبهم وغلظة طباعهم وثقل أرواحهم وصادف ذلك تحريكا لسواكنهم وانقيادا للواعج الحب وإزعاجا للنفوس إلى أوطانها الأولى ومعاهدها التي سبيت منها والنفوس

الطالبة المرتاضة السائرة لا بد لها من محرك يحركها وحاد يحدوها وليس لها من حادي القرآن عوض عن حادي السماع فتركب من هذه الأمور : إيثار منهم للسماع ومحبة صادقة له تزول الجبال عن أماكنها ولا تفارق قلوبهم إذ هو مثير عزماتهم ومحرك سواكنهم ومزعج بواطنهم فدواء صاحب مثل هذا الحال : أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيبة مع الإمعان في تفهم معانيه وتدبر خطابه قليلا قليلا إلى أن فيخلع قلبه محبة سماع الأبيات ويلبس محبة سماع الآيات ويصير ذوقه وشربه وحاله ووجده فيه فحينئذ يعلم هو من نفسه : أنه لم يكن على شىء ويتمثل حينئذ بقول القائل : وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما فوقها لي مطلب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب ومنافاة النوح للصبر والغناء للشكر : أمر معلوم بالضرورة من الدين لا يمتري فيه إلا أبعد الناس من العلم والإيمان فإن الشكر إنما هو الاشتغال بطاعة الله

لا بالصوت الأحمق الفاجر الذي هو للشيطان وكذلك النوح ضد الصبر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النائحة وقد ضربها حتى بدا شعرها وقال : لا حرمة لها إنها تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتفتن الحي وتؤذي الميت وتبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها ومعلوم عند الخاصة والعامة : أن فتنة سماع الغناء والمعازف أعظم من فتنة النوح بكثير والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب : أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر والله المستعان ولا تستطل كلامنا في هذه المنزلة فإن لها عند القوم شأنا عظيما وأما قولهم من أنكر على أهله فقد أنكر على كذا وكذا ولي لله فحجة عامية نعم إذا أنكر أولياء الله على أولياء الله كان ماذا فقد أنكر عليهم من أولياء الله من هو أكثر منهم عددا وأعظم عند الله وعند المؤمنين منهم قدرا وأقرب بالقرون المفضلة عهدا وليس من شرط ولي الله العصمة وقد تقاتل أولياء الله في صفين بالسيوف ولما سار بعضهم إلى بعض كان يقال : سار أهل الجنة إلى أهل الجنة وكون ولي الله يرتكب المحظور والمكروه متأولا أو

لا يمنع ذلك من الإنكار عليه ولا يخرجه عن أصل ولاية الله وهيهات هيهات أن يكون أحد من أولياء الله المتقدمين حضر هذا السماع المحدث المبتدع المشتمل على هذه الهيئة التي تفتن القلوب أعظم من فتنة المشروب وحاشا أولياء الله من ذلك وإنما السماع الذي اختلف فيه مشايخ القوم : اجتماعهم في مكان خال من الاغيار يذكرون الله ويتلون شيئا من القرآن ثم يقوم بينهم قوال ينشدهم شيئا من الأشعار المزهدة في الدنيا المرغبة في لقاء الله ومحبته وخوفه ورجائه والدار الآخرة وينبههم على بعض أحوالهم من يقظة أو غفلة أو بعد أو انقطاع أو تأسف على فائت أو تدارك لفارط أو وفاء بعهد أو تصديق بوعد أو ذكر قلق وشوق أو خوف فرقة أو صد وما جرى هذا المجرى فهذا السماع الذي اختلف فيه القوم لا سماع المكاء والتصدية والمعازف والخمريات وعشق الصور من المردان والنسوان وذكر محاسنها ووصالها وهجرانها فهذا لو سئل عنه من سئل من أولي العقول لقضى بتحريمه وعلم أن الشرع لا يأتي بإباحته وأنه ليس على الناس أضر منه ولا أفسد لعقولهم وقلوبهم وأديانهم وأموالهم وأولادهم وحريمهم منه والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل : السماع على ثلاث درجات : سماع العامة وهو
ثلاثة أشياء : إجابة زجر الوعيد رغبة وإجابة دعوة الوعد جهدا وبلوغ مشاهدة المنة استبصارا

الوعيد : يكون على ترك المأمور وفعل المحظور وإجابة داعيه : هو العمل بالطاعة وقوله : رغبة يعني امتثالا لكون الله تعالى أمر ونهى وأوعد وحقيقة الرجاء : الخوف والرجاء فيفعل ما أمر به على نور الإيمان راجيا للثواب ويترك ما نهى عنه على نور الإيمان خائفا من العقاب وفي الرغبة فائدة أخرى وهي أن فعله يكون فعل راغب مختار لا فعل كاره كأنما يساق إلى الموت وهو ينظر وأما إجابة الوعد جهدا : فهو امتثال الأمر طلبا للوصول إلى الموعود به باذلا جهده في ذلك مستفرغا فيه قواه وأما بلوغ مشاهدة المنة استبصارا : فهو تنبه السامع في سماعه إلى أن جميع ما وصله من خير فمن منة الله عليه وبفضله عليه من غير استحقاق منه ولا بذل عوض استوجب به ذلك كما قال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل : لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين الحجرات : 17 وكذلك يشهد أن ما زوي عنه من الدنيا أو ما لحقه منها من ضرر وأذى فهو منة أيضا من الله عليه من وجوه كثيرة ويستخرجها الفكر الصحيح كما قال بعض السلف : يا ابن آدم لا تدري أي النعمتين عليك أفضل : نعمته فيما أعطاك أو نعمته فيما زوى عنك وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لا أبالي على أي حال أصبحت أو أمسيت إن كان الغنى إن فيه للشكر وإن كان الفقر إن فيه للصبر وقال بعض السلف : نعمته فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما بسط لي منها إني رأيته أعطاها قوما فاغتروا إذا عم بالسراء أعقب شكرها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وما منهما إلا له فيه نعمة تضيق بها الأوهام والبر والبحر فإن قلت : فهل يشهد منته فيما لحقه من المعصية والذنب

قلت : نعم إذا اقترن بها التوبة النصوح والحسنات الماحية كانت من أعظم المنن عليه كما تقدم تقريره

فصل قال : وسماع الخاصة : ثلاثة أشياء شهود المقصود في كل رمز والوقوف
على الغاية في كل حين والخلاص من التلذذ بالتفرق والمقصود في كل رمز هو فإن المسموع كله يعرف به وبصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ووعده ووعيده وأمره ونهيه وعدله وفضله وهذا الشهود ينال بالسماع بالله ولله وفي الله ومن الله أما السماع به : فأن لا يسمع وفيه بقية من نفسه فإن كانت فيه بقية قطعها كمال تعلقه بالمسموع فيكون سماعه بقيوميته مجردا من التفاته إلى نفسه وأما السماع له : فأن يجرد النفس في السماع من كل إرادة تزاحم مراد الله منه وتجمع قوى سمعه على تحصيل مراد الله من المسموع وأما السماع فيه : فشأن آخر وهو تجريد ما لا يليق نسبته إلى الحق من وصف أو سمة أو نعت أو فعل مما هو لائق بكماله فيثبت له ما يليق بكماله من المسموع وينزهه عما لا يليق به وهذا الموضع لم يتخلص فيه إلا الراسخون في العلم والمعرفة بالله وأضل الله عنه أهل التحريف والتعطيل والتشبيه والتمثيل وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم البقره : 213 وأما السماع منه : فإنما يتصور بواسطة فهو سماع مقيد وأما المطلق : فلا مطمع فيه في عالم الفناء إلا لمن اختصه الله برسالاته وبكلامه ولكن السماع لكلامه كالسماع منه فإنه كلامه الذي تكلم به حقا فمن سمعه فليقدر نفسه كأنه يسمعه من الله هذا هو السماع من الله لا سماع أرباب الخيال ودعوى المحال القائل

أحدهم : ناداني في سري وخاطبني وقال لي يا ليت شعري من المنادي لك ومن المخاطب يا مخدوع يا مغرور فما يدريك : أنداء شيطاني أم رحماني وما البرهان على أن المخاطب لك هو الرحمن نعم نحن لا ننكر النداء والخطاب والحديث وإنما الشأن في المنادي المخاطب المحدث فههنا تسكب العبرات وبالجملة فمن قرىء عليه القرآن فليقدر نفسه كأنما يسمعه من الله يخاطبه به فإذا حصل له مع ذلك السماع به وله وفيه ازدحمت معانى المسموع ولطائفه وعجائبه على قلبه وازدلفت إليه بأيهما يبدأ فما شئت من علم وحكم وتعرف وبصيرة وهداية وغيرة وأما الوقوف على الغاية في كل حين : فهو التطلب والسفر إلى الغاية المقصودة بالمسموع الذى جعل وسيلة إليها وهو الحق سبحانه فإنه غاية كل طلب أن إلى ربك المنتهى النجم : 42 وليس وراء الله مرمى ولا دونه مستقر ولا تقر العين بغيره ألبتة وكل مطلوب سواه فظل زائل وخيال مفارق مائل وإن تمتع به صاحبه فمتاع الغرور وأما الخلاص من التلذذ بالتفرق : فالتفرق في معاني المسموع وتنقل القلب في منازلها يوجب له لذة كما هو المألوف في الانتقال فليتخلص من لذة تفرقه التي هي حظه إلى الجمعية على المسموع به وله ومنه ولم يقل الشيخ من التفرق فإن المسموع إنما يدرك معناه ويفهم بالتفرق لتنوعه ولكن ليتخلص من لذته لا منه لئلا يكون مع حظه وهذا من لطف أحوال السامعين المخلصين

فصل قال : وسماع خاصة الخاصة : سماع ينفي العلل عن الكشف ويصل الأبد
إلى الأزل ويرد النهايات إلى الأول

فالكشف : هو مكافحة القلب لحقيقة المسموع وعلله أمران أحدهما : الشبه التي تنتفي بهذه المكافحة فلا تبقى معها شبهة فهذا هو عين اليقين والثاني : نفي الوسائط بين السامع والمسموع فيغيب بمسموعه عنها ويفنى عن شهودها ويفنى عن شهود فنائه عنها بحيث يشهده هو المسمع لا الواسطة وهو الهادي فمنه الإسماع ومنه الهداية ومنه الابتداء وإليه الانتهاء وأما وصله الأبد إلى الأزل : فهذا إن أخذ على ظاهره : فهو محال لأن الأبد والأزل متقابلان تقابل التناقض فإيصال أحدهما إلى الآخر عين المحال وإنما مراده : أن ما يكون في الأبد موجودا مشهودا فقد كان في الأزل معلوما مقدرا فعاد حكم الأبد إلى الأزل علما وحقيقة وصار الأزلي أبديا كما كان الأبدى أزليا في العلم والحكم وإيضاح ذلك : أن الأبد ظهر فيه ما كان كامنا في الأزل خافيا فانتهى الأمر كله إلى علمه وحكمه وحكمته وذلك أزلي وهذا رد النهايات إلى الأول فتصير الخاتمة هي عين السابقة والله تعالى هو الأول والآخر وكل ما كان ويكون آخرا فمردود إلى سابق علمه وحكمه فرجع الأبد إلى الأزل والنهايات إلى الأول والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحزن وليست من المنازل
المطلوبة ولا المأمور بنزولها وإن كان لا بد للسالك من نزولها ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه أو منفيا فالمنهي عنه : كقوله تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا آل عمران : 139 وقوله : ولا تحزن عليهم النحل : 127 فى غير موضع وقوله : لا تحزن إن الله معنا التوبه : 40 والمنفي كقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون البقره : 38

وسر ذلك : أن الحزن موقف غير مسير ولا مصلحة فيه للقلب وأحب شيء إلى الشيطان : أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره ويوقفه عن سلوكه قال الله تعالى : إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا المجادله : 10 ونهى النبي الثلاثة أن يتناجى اثنان منهم دون الثالث لأن ذلك يحزنه فالحزن ليس بمطلوب ولا مقصود ولا فيه فائدة وقد استعاذ منه النبي فقال اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن فهو قرين الهم والفرق بينهما : أن المكروه الذي يرد على القلب إن كان لما سيتقبل : أورثه الهم وإن كان لما مضى : أورثه الحزن وكلاهما مضعف للقلب عن السير مقتر للعزم ولكن نزول منزلته ضروري بحسب الواقع ولهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن فاطر : 34 فهذا يدل على أنهم كان يصيبهم في الدنيا الحزن كما يصيبهم سائر المصائب التي تجري عليهم بغير اختيارهم وأما قوله تعالى : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت : لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا : أن لا يجدوا ما ينفقون التوبه : 92 فلم يمدحوا على نفس الحزن وإنما مدحوا على ما دل عليه الحزن من قوة إيمانهم حيث تخلفوا عن رسول الله لعجزهم عن النفقة ففيه تعريض بالمنافقين الذين لم يحزنوا على تخلفهم بل غبطوا نفوسهم به وأما قوله في الحديث الصحيح : ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا حزن إلا كفر الله به من خطاياه فهذا يدل على أنه مصيبة من الله يصيب بها العبد يكفر بها من سيئاته لا يدل على أنه مقام ينبغي طلبه واستيطانه وأما حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي : إنه كان

متواصل الأحزان فحديث لا يثبت وفي إسناده من لا يعرف وكيف يكون متواصل الأحزان وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها ونهاه عن الحزن على الكفار وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فمن أين يأتيه الحزن بل كان دائم البشر ضحوك السن كما في صفته : الضحوك القتال صلوات الله وسلامه عليه وأما الخبر المروي : إن الله يحب كل قلب حزين فلا يعرف إسناده ولا من رواه ولا تعلم صحته وعلى تقدير صحته : فالحزن مصيبة من المصائب التي يبتلي الله بها عبده فإذا ابتلى به العبد فصبر عليه أحب صبره على بلائه وأما الأثر الآخر إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا فأثر إسرائيلي قيل : إنه فى التوراة وله معنى صحيح فإن المؤمن حزين على ذنوبه والفاجر لاه لاعب مترنم فرح وأما قوله تعالى عن نبيه إسرائيل : وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم يوسف : 84 فهو إخبار عن حاله بمصابه بفقد ولده وحبيبه وأنه ابتلاه بذلك كما ابتلاه بالتفريق بينه وبينه وأجمع أرباب السلوك : على أن حزن الدنيا غير محمود إلا أبا عثمان الحيري فإنه قال : الحزن بكل وجه فضيلة وزيادة للمؤمن ما لم يكن بسبب معصية قال : لأنه إن لم يوجب تخصيصا فإنه يوجب تمحيصا فيقال : لا ريب أنه محنة وبلاء من الله بمنزلة المرض والهم والغم وأما أنه من منازل الطريق : فلا والله سبحانه أعلم

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله : الحزن : توجع لفائت وتأسف على ممتنع
يريد : أن ما يفوت الإنسان قد يكون مقدورا له وقد لا يكون فإن كان مقدورا توجع لفوته وإن كان غير مقدور تأسف لامتناعه قال : وله ثلاث درجات الأولى : حزن العامة وهو حزن على التفريط في الخدمة وعلى التورط في الجفاء وعلى ضياع الأيام التفريط في الخدمة عندهم : فوق التفريط في العمل وتضييعه بل هذا الحزن يكون مع القيام والعمل فإن الخدمة عندهم من باب الأخلاق والآداب لا من باب الأفعال وهي حق العبودية وأدبها وواجبها وصاحب هذا الحزن بالأولى : أن يحزن لتضييع العمل وأما التورط في الجفاء : فهو أيضا أخصى من المعصية بارتكاب المحظور لأنه قد يكون لفقد أنس سابق مع الله فإذا توارى عنه تورط في الجفوة فإن الشيخ ذكر الحزن في قسم الأبواب وهو عنده من قسم البدايات وأما تضييع الأيام : فنوعان أيضا تضييعها بخلوها عن الطاعات وتضييعها بخلوها عن مواجيد الإيمان وذوق حلاوته والأنس بالله وحسن الصحبة معه فكل واحد من الثلاثة نوعان لأهل البداية وللسالكين المتوسطين وكلامه يعم النوعين وإن كان بالثاني أخص قال : الدرجة الثانية : حزن أهل الإرادة وهو حزن على تعلق القلب بالتفرقة وعلى اشتغال النفس عن الشهود وعلى التسلي عن الحزن تعلق القلب بالتفرقة : هو عدم الجمعية في الحضور مع الله وتشتيت الخواطر في أودية المرادات

وأما اشتغال النفس عن الشهود : فهو نوعان اشتغالها عن الذكر الذي يوجب الشهود ويثمره بغيره والثاني : اشتغالها عن الشهود لضعف الذكر أو لضعف القلب عن الشهود أو لمانع آخر ولكن إذا قهر الشهود النفس لم تتمكن من التشاغل عنه إلا بقاهر يقهرها عنه وأما التسلي عن الحزن : فيعني أن وجود الحزن في القلب دليل على الإرادة والطلب ففقده والتسلي عنه نقص فيحزن على فقد الحزن كما يبكي على فقد البكاء ويخاف من عدم الخوف وهذا فيه نظر وإنما يحمد الحزن على فقد الحزن أما إذا اشتغل عن الحزن بفرح محمود وهو الفرح بفضل الله ورحمته فلا معنى للحزن على فوات الحزن قال : صاحب المنازل وليست الخاصة من مقام الحزن في شيء لأن الحزن فقد والخاصة أهل وجدان وهذا إن أراد به : أنه لا ينبغي لهم تعمد الحزن : فصحيح وإن أراد به : لا يعرض لهم حزن : فليس كذلك والحزن من لوازم الطبيعة ولكن ليس هو بمقام قال : الدرجة الثالثة من الحزن : التحزن للمعارضات دون الخواطر ومعارضات القصود واعتراضات الأحكام هذه ثلاثة أمور بحسب الشهود والإرادة الأول : حزن المعارضات فإن القلب يعترضه وارد الرجاء مثلا فلم ينشب أن يعارضه وارد الخوف وبالعكس ويعترضه وارد البسط فلم ينشب أن يعترضه وارد القبض ويرد عليه وارد الأنس فيعترضه وارد الهيبة فيوجب له اختلاف هذه المعارضات عليه حزنا لا محالة

وليست هذه المعارضات من قبيل الخواطر بل هي من قبيل الواردات الإلهية فلذلك قال : دون الخواطر فإن معارضات الخواطر غير هذا وعند القوم : هذا من آثار الأسماء والصفات واتصال أشعة أنوارها بالقلب وهو المسمى عندهم بالتجلي وأما معارضات القصود : فهى أصعب ما على القوم وفيه يظهر اضطرارهم إلى العلم فوق كل ضرورة فإن الصادق يتحرى في سلوكه كله أحب الطرق إلى الله فإنه سالك به وإليه فيعترضه طريقان لا يدري أيهما أرضى لله وأحب إليه فمنهم : من يحكم العلم بجهده استدلالا فإن عجز فتقليدا فإن عجز عنهما سكن ينتظر ما يحكم له به القدر ويخلى باطنه من المقاصد جملة ومنهم : من يلقي الكل على شيخه إن كان له شيخ ومنهم : من يلجأ إلى الاستخارة والدعاء ثم ينتظر ما يجري به القدر وأصحاب العزائم يبذلون وسعهم في طلب الأرضى علما ومعرفة فإن أعجزهم قنعوا بالظن الغالب فإن تساوى عندهم الأمران قدموا أرجحهما مصلحة ولترجيح المصالح رتب متفاوتة فتارة تترجح بعموم النفع وتارة تترجح بزيادة الإيمان وتارة تترجح بمخالفة النفس وتارة تترجح باستجلاب مصلحة أخرى لا تحصل من غيرها وتارة تترجح بأمنها من الخوف من مفسدة لا تؤمن في غيرها فهذه خمس جهات من الترجيح قل أن يعدم واحدة منها فإن أعوزه ذلك كله تخلى عن الخواطر جملة وانتظر ما يحركه به محرك القدر وافتقر إلى ربه افتقار مستنزل ما يرضيه ويحبه فإذا جاءته الحركة استخار الله وافتقر إليه افتقارا ثانيا خشية أن تكون تلك الحركه نفسية أو شيطانية لعدم العصمة في حقه واستمرار المحنة بعدوه ما دام في عالم الابتلاء والامتحان ثم أقدم على الفعل

فهذا نهاية ما في مقدور الصادقين ولأهل الجهاد في هذا من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة ولهذا قال الأوزاعي وابن المبارك : إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر يعني أهل الجهاد فإن الله تعالى يقول : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلناوإن الله لمع المحسنين العنكبوت : 69 وأما اعتراضات الأحكام : فيجوز أن يريد بالأحكام الأحكام الكونية وهو أظهر وأن يريد بها الأحكام الدينية فإن أرباب الأحوال يقع منهم اعترضات على الأحكام الجارية عليهم بخلاف ما يريدونه فيحزنون عند إدراكهم لتلك الاعتراضات على ما صدر منهم من سوء الأدب وتلك الاعتراضات هي إرادتهم خلاف ما جرى لهم به القدر فيحزنون على عدم الموافقة وإرادة خلاف ما أريد بهم وإن كان المراد به : الأحكام الدينية : فإنهم تعرض لهم أحوال لا يمكنهم الجمع بينها وبين أحكام الأمر كما تقدم فلا يجدون بدا من القيام بأحكام الأمر ولا بد أن يعرض لهم اعتراض خفي أو جلي بحسب انقطاعهم عن الحال بالأمر فيحزنون لوجود هذه المعارضة فإذا قاموا بأحكام الأمر ورأوا أن المصلحة في حقهم ذلك وحمدوا عاقبته : حزنوا على تسرعهم على المعارضة فالتسليم لداعي العلم واجب ومعارضة الحال من قبيل الإرادات والعلل فيحزن على نفيهما فيه والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخوف وهى من أجل منازل
الطريق وأنفعها للقلب وهي فرض على كل أحد قال الله تعالى فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى فإياى فارهبون آل عمران : 175 وقال فلا تخشوا الناس واخشون المائده : 44 ومدح

أهله فى كتابه وأثنى عليهم فقال إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون الى قوله أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون المؤمنون : 5761 وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله قول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة المؤمنون : 60 أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال : لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه قال الحسن : عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم إن المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا و الوجل و الخوف و الخشية و الرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة قال أبو القاسم الجنيد : الخوف توقع العقوبة على مجارى الانفاس وقيل : الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف وقيل : الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام وهذا سبب الخوف لا أنه نفسه وقيل : الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره و الخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله قال الله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء فاطر : 28 فهي خوف مقرون بمعرفة وقال النبي : إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك : له حالتان إحداهما : حركة للهرب منه وهي حالة الخوف والثانية : سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه وهي الخشية ومنه : انخشى الشيء والمضاعف والمعتل أخوان كتقضي البازي وتقضض وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه

وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع وأما الوجل فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته وأما الهيبة : فخوف مقارن للتعظيم والإجلال وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة والإجلال : تعظيم مقرون بالحب فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية كما قال النبي : إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية وفى رواية خوفا وقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى فصاحب الخوف : يلتجىء إلى الهرب والإمساك وصاحب الخشية : يلتجىء إلى الاعتصام بالعلم ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق فالأول يلتجىء إلى الحمية والهرب والطبيب يلتجىء إلى معرفته بالأدوية والأدواء قال أبو حفص : الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه وقال : الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز و جل فإنك إذ خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إلى ربه قال أبو سليمان : ما فارق الخوف قلبا إلا خرب وقال إبراهيم بن سفيان : إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها وقال ذو النون : الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق وقال حاتم الأصم : لا تغتر بمكان صالح فلا مكان أصلح من

الجنة ولقى فيها آدم ما لقى ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول العبادة لقى ما لقى ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام بن باعورا لقى ما لقى وكان يعرف الاسم الأعظم ولا تغتر بلقاء الصالحين ورؤيتهم فلا شخص أصلح من النبي ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون والخوف ليس مقصودا لذاته بل هو مقصود لغيره قصد الوسائل ولهذا يزول بزوال المخوف فإن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والخوف يتعلق بالأفعال والمحبة تتعلق بالذات والصفات ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ولا يلحقهم فيها خوف ولهذا كانت منزلة المحبة ومقامها أعلى وأرفع من منزلة الخوف ومقامه والخوف المحمود الصادق : ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز و جل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط قال أبو عثمان : صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الخوف المحمود : ما حجزك عن محارم الله وقال صاحب المنازل : الخوف : هو الانخلاع من طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر يعني الخروج عن سكون الأمن باستحضار ما أخبر الله به من الوعد والوعيد قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الخوف من العقوبة وهو

الخوف الذي يصح به الإيمان وهو خوف العامة وهو يتولد من تصديق الوعيد وذكر الجناية ومراقبة العاقبة الخوف مسبوق بالشعور والعلم فمحال خوف الإنسان مما لا شعور له به وله متعلقان أحدهما : نفس المكروه المحذور وقوعه والثاني : السبب والطريق المفضي إليه فعلى قدر شعوره بإفضاء السبب إلى المخوف وبقدر المخوف : يكون خوفه وما نقص من شعوره بأحد هذين نقص من خوفه بحسبه فمن لم يعتقد أن سبب كذا يفضي إلى محذور كذا : لم يخف من ذلك السبب ومن اعتقد أنه يفضي إلى مكروه ما ولم يعرف قدره : لم يخف منه ذلك الخوف فإذا عرف قدر المخوف وتيقن إفضاء السبب إليه : حصل له الخوف هذا معنى تولده من تصديق الوعيد وذكر الجناية ومراقبة العاقبة وفي مراقبة العاقبة : زيادة استحضار المخوف وجعله نصب عينه بحيث لا ينساه فإنه وإن كان عالما به لكن نسيانه وعدم مراقبته يحول بين القلب وبين الخوف فلذلك كان الخوف علامة صحة الإيمان وترحله من القلب علامة ترحل الإيمان منه والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : خوف المكر في جريان الأنفاس المستغرقة في
اليقظة المشوبة بالحلاوة يريد : أن من حصلت له اليقظة بلا غفلة واستغرقت أنفاسه فيها : استحلى ذلك فإنه لا أحلى من الحضور في اليقظة فإنه ينبغي أن يخاف المكر وأن يسلب هذا الحضور واليقظة والحلاوة فكم من مغبوط بحاله انعكس عليه الحال ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال فأصبح يقلب كفيه ويضرب باليمين على الشمال بينما بدر أحواله مستنيرا في ليالى التمام إذ أصابه الكسوف فدخل

في الظلام فبدل بالأنس وحشة وبالحضور غيبة وبالإقبال إعراضا وبالتقريب إبعادا وبالجمع تفرقة كما قيل : أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر قال : الدرجة الثالثة درجة الخاصة وليس في مقام أهل الخصوص وحشة الخوف إلا هيبة الجلال وهي أقصى درجة يشار إليها في غاية الخوف يعني أن وحشة الخوف إنما تكون مع الانقطاع والإساءة وأهل الخصوص أهل وصول إلى الله وقرب منه فليس خوفهم خوف وحشة كخوف المسيئين المنقطعين لأن الله عز و جل معهم بصفة الإقبال عليهم والمحبة لهم وهذا بخلاف هيبة الجلال فإنها متعلقة بذاته وصفاته وكلما كان عبده به أعرف وإليه أقرب كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم وهي أعلى من درجة خوف العامة قال : وهي هيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة وتصون المسامر أحيان المسامرة وتفصم المعاين بصدمة العزة يعنى أن أكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة وهو وقت تملق العبد لربه وتضرعه بين يديه واستعطافه والثناء عليه بآلائه وأسمائه وأوصافه أو مناجاته بكلامه هذا هو مراد القوم بالمناجاة وهذه المناجاة : توجب كشف الغطاء بين القلب وبين الرب ورفع الحجاب المانع من مكافحة القلب لأنوار أسمائه وصفاته وتجليها عليه فتعارضه الهيبة في خلال هذه الأوقات فيفيض من عنان مناجاته بحسب قوة واردها

وأما صون المسامر أحيان المسامرة : فالمسامرة عندهم : أخص من المناجاة وهي مخاطبة القلب للرب خطاب المحب لمحبوبه فإن لم يقارنها هيبة جلاله أخذت به في الانبساط والإدلال فتجيء الهيبة صائنة للمسامر في مسامرته عن انخلاعه من أدب العبودية وأما فصمها المعاين بصدمة العزة : فإن الفصم هو القطع أي تكاد تقتله وتمحقه بصدمة عزة الربوبية بمعانيها الثلاثة وهي عزة الامتناع وعزة القوة والشدة وعزة السلطان والقهر فإذا صدمت المعاين كادت تفصمه وتمحق أثره إذ لا يقوم لعزة الربوبية شىء والله أعلم
فصل القلب في سيره إلى الله عز و جل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف
والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناج الخوف هذه طريقة أبي سليمان وغيره قال : ينبغى للقلب أن تكون الغالب عليه الخوف فإن غلب عليه الرجاء فسد وقال غيره : أكمل الأحوال : اعتدال الرجاء والخوف وغلبة الحب فالمحبة هى المركب والرجاء حاد والخوف سائق والله الموصل بمنه وكرمه

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإشفاق
قال الله تعالى : الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون الأنبياء : 49

وقال تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم الأنبياء : 2527 الإشفاق رقة الخوف وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه فنسبته إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة فإنها ألطف الرحمة وأرقها ولهذا قال صاحب المنازل : والإشفاق : دوام الحزن مقرونا بالترحم وهو على ثلاث درجات الأولى : إشفاق على النفس أن تجمح إلى العناد أي تسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان ومعاندة العبودية وإشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع أي يخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله تعالى فيها : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا الفرقان : 23 وهي الأعمال التى كانت لغير الله وعلى غير أمره وسنة رسوله ويخاف أيضا أن يضيع عمله في المستقبل إما بتركه وإما بمعاصى تفرقه وتحبطه فيذهب ضائعا ويكون حال صاحبه كالحال التي قال الله تعالى عن أصحابها أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصحابة رضي الله عنهم فيمن ترون هذه الآية نزلت فقالوا : الله أعلم فغضب عمر وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال : يا ابن أخي قل ولا تحقرن نفسك قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل قال عمر : أي عمل قال ابن عباس لعمل قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله فبعث الله إليه الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق جميع أعماله قال : وإشفاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها هذا قد يوهم نوع تناقض فإنه كيف يشفق مع معرفة العذر وليس بمتناقض

فإن الإشفاق كما تقدم خوف مقرون برحمة فيشفق عليهم من جهة مخالفة الأمر والنهي مع نوع رحمة بملاحظة جريان القدر عليهم قال الدرجة الثانية : إشفاق على الوقت : أن يشوبه تفرق أى يحذر على وقته : أن يخالطه ما يفرقه عن الحضور مع الله عز و جل قال : وعلى القلب : أن يزاحمه عارض والعارض المزاحم : إما فترة وإما شبهة وإما شهوة كل سبب يعوق السالك قال وعلى اليقين : أن يداخله سبب هو الطمأنينة إلى من بيده الأسباب كلها فمتى داخل يقينه ركون إلى سبب وتعلق به واطمأن إليه : قدح ذلك في يقينه وليس المراد : قطع الأسباب عن أن تكون أسبابا والإعراض عنها فإن هذا زندقة وكفر ومحال فإن الرسول سبب في حصول الهداية والإيمان والأعمال الصالحة سبب لحصول النجاة ودخول الجنة والكفر سبب لدخول النار والأسباب المشاهدة أسباب لمسبباتها ولكن الذي يريد أن يحذر منه : إضافة يقينه إلى سبب غير الله ولا يتعلق بالأسباب بل يفنى بالمسبب عنها والشيخ ممن يبالغ في إنكار الأسباب ولا يرى وراء الفناء في توحيد الربوبية غاية وكلامه في الدرجة الثالثة في معظم الأبواب : يرجع إلى هذين الأصلين وقد عرفت ما فيهما وأن الصواب خلافهما وهو إثبات الأسباب والقوى وأن الفناء في توحيد الربوبية ليس هو غاية الطريق بل فوقه ما هو أجل منه وأعلى وأشرف

ومن هاتين القاعدتين عرض في كتابه من الأمور التي أنكرت عليه ما عرض قال : الدرجة الثالثة : إشفاق يصون سعيه عن العجب ويكف صاحبه عن مخاصمة الخلق ويحمل المريد على حفظ الجد الأول : يتعلق بالعمل والثاني : بالخلق والثالث : بالإرادة وكل منها له ما يفسده فالعجب : يفسد العمل كما يفسده الرياء فيشفق على سعيه من هذا المفسد شفقة تصونه عنه والمخاصمة للخلق : مفسدة للخلق فيشفق على خلقه من هذا المفسد شفقة تصونه عنه والإرادة : يفسدها عدم الجد وهو الهزل واللعب فيشفق على إرادته مما يفسدها فإذا صح له عمله وخلقه وإرادته : استقام سلوكه وقلبه وحاله والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخشوع
قال الله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق الحديد : 16 قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن وقال تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون المؤمنون : 12 والخشوع في أصل اللغة : الانخفاض والذل والسكون قال تعالى : وخشعت الأصوات للرحمن طه : 108 أي سكنت وذلت وخضعت ومنه وصف الأرض بالخشوع وهو يبسها وانخفاضها وعدم ارتفاعها بالري والنبات قال تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليهما الماء اهتزت وربت فصلت : 39

و الخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل والجمعية عليه وقيل الخشوع الانقياد للحق وهذا من موجبات الخشوع فمن علاماته : أن العبد إذا خولف ورد عليه بالحق استقبل ذلك بالقبول والانقياد وقيل الخشوع خمود نيران الشهوة وسكون دخان الصدور وإشراق نور التعظيم في القلب وقال الجنيد الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب وثمرته على الجوارح وهي تظهره رأى النبىرجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هدا لخشعت جوارحه وقال النبىالتقوى ههنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات وقال بعض العارفين : حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال : يا فلان الخشوع ههنا وأشار إلى صدره لا ههنا وأشار إلى منكبيه وكان بعض الصحابة رضى الله عنهم وهو حذيفة يقول إياكم وخشوع النفاق فقيل له : وما خشوع النفاق قال : أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته فى الصلاة فقال يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأت عائشة رضى الله عنها شبابا يمشون ويتماوتون في مشيتهم فقالت لأصحابها : من هؤلاء فقالوا : نساك فقالت : كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع وإذا قال : أسمع وإذا ضرب : أوجع وإذا أطعم : أشبع وكان هو الناسك حقا وقال الفضيل بن عياض : كان يكره أن يرى الرجل من الخشوع أكثر مما فى قلبه وقال حذيفة رضي الله عنه أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ورب مصل لا خير فيه ويوشك

أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا وقال سهل : من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان

فصل قال صاحب المنازل : الخشوع : خمود النفس وهمود الطباع لمتعاظم أو
مفزع يعنى : انقباض النفس والطبع وهو خمود قوى النفس عن الانبساط لمن له في القلوب عظمة ومهابة أو لما يفزع منه القلب والحق : أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : التذلل للأمر : والاستسلام للحكم والاتضاع لنظر الحقالتذلل للأمر والاستسلام للحكم والاتضاع لنظر الحق التذلل للأمر : تلقيه بذلة القبول والانقياد والامتثال ومواطأة الظاهر الباطن مع إظهار الضعف والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل والإعانة عليه حال الفعل وقبوله بعد الفعل وأما الاستسلام للحكم : فيجوز أن يريد به : الحكم الديني الشرعي فيكون معناه : عدم معارضته برأي أو شهوة ويجوز أن يريد به : الاستسلام للحكم القدري وهو عدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض والحق : أن الخشوع هو الاستسلام للحكمين وهو الانقياد بالمسكنة والذل لأمر الله وقضائه وأما الاتضاع لنظر الحق : فهو اتضاع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان الرحمن : 46 وقوله : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى النازعات : 40 وهو مقام الرب على عبده بالاطلاع والقدرة والربوبية

فخوفه من هذا المقام : يوجب له خشوع القلب لا محالة وكلما كان أشد استحضارا له كان أشد خشوعا وإنما يفارق القلب إذا غفل عن اطلاع الله عليه ونظره إليه والتأويل الثاني : أنه مقام العبد بين يدي ربه عند لقائه فعلى الأول : يكون من باب إضافة المصدر إلى الفاعل وعلى الثاني : وهو أليق بالآية يكون من باب إضافة المصدر إلى المخوف والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : ترقب آفات النفس والعمل ورؤية فضل كل ذي فضل
عليك وتنسم نسيم الفناء يريد : انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما من فإنه يجعل القلب خاشعا لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما : من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق وقلة اليقين وتشتت النية وعدم تجرد الباعث من الهوى نفساني وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك وغير ذلك من عيوب النفس ومفسدات الأعمال وأما رؤية فضل كل ذي فضل عليك : فهو أن تراعي حقوق الناس فتؤديها ولا ترى أن ما فعلوه من حقوقك عليهم فلا تعاوضهم عليها فإن هذا من رعونات النفس وحماقاتها ولا تطالبهم بحقوق نفسك وتعترف بفضل ذي الفضل منهم وتنسى فضل نفسك وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : العارف لا يرى له على أحد حقا ولا يشهد له على غيره فضلا ولذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب وأما تنسم نسيم الفناء : فلما كان الفناء عنده غاية جعل هذه الدرجة كالنسيم

لرقته وعبر عنها بالنسيم للطف موقعه من الروح وشدة تشبثها به ولا ريب أن الخشوع سبب موصل إلى الفناء فاضله ومفضوله

فصل قال الدرجة الثالثة : حفظ الحرمة عند المكاشفة وتصفية الوقت من
مراءاة الخلق وتجريد رؤية الفضل أما حفظ الحرمة عند المكاشفة : فهو ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال الذي تقتضيه المكاشفة فإن المكاشفة توجب بسطا ويخاف منه شطح إن لم يصحبه خشوع يحفظ الحرمة وأما تصفية الوقت من مراءاة الخلق : فلا يريد به أنه يصفي وقته عن الرياء فإن أصحاب هذه الدرجة أجل قدرا وأعلى من ذلك وإنما المراد : أنه يخفي أحواله عن الخلق جهده كخشوعه وذله وانكساره لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها ورؤيتهم لها فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله وكم قد اقتطع في هذه المفازة من سالك والمعصوم من عصمه الله فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل وأنه لا شيء وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره وكان يقول كثيرا : ما لي شيء ولا مني شيء ولا في شيء وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت : أنا المكدى وابن المكدى وهكذا كان أبي وجدي وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول : والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت وما أسلمت بعد إسلاما جيدا وبعث إلي في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه :

أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين فى مجموع حالاتى أنا الظلوم لنفسى وهي ظالمتي والخير إن يأتنا من عنده ياتى لا أستطيع لنفسى جلب منفعة ولا عن النفس لى دفع المضرات وليس لي دونه مولى يدبرني ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتى إلا بإذن من الرحمن خالقنا إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات ولست أملك شيئا دونه أبدا ولا شريك أنا فى بعض ذرات ولا ظهير له كي يستعين به كما يكون لأرباب الولايات والفقر لى وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي وهذه الحال حال الخلق أجمهم وكلهم عنده عبد له آتى فمن بغى مطلبا من غير خالقه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي والحمد لله ملء الكون أجمعه ما كان منه وما من بعد قد ياتى وأما تجريد رؤية الفضل : فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله فهو المان به بلا سبب منك ولا شفيع لك تقدم إليه بالشفاعة ولا وسيلة سبقت منك توسلت بها إلى إحسانه والتجريد : هو تخليص شهود الفضل لوليه حتى لا ينسبه إلى غيره وإلا فهو في نفسه مجرد عن النسبة إلى سواه وإنما الشأن في تجريده في الشهود ليطابق الشهود الحق في نفس الأمر والله أعلم

فصل فإن قيل : مما تقولون في صلاة من عدم الخشوع في صلاته :
هل يعتد بها أم لا قيل : أما الاعتداد بها في الثواب : فلا يعتد له فيها إلا بما عقل فيه منها وخشع فيه لربه قال ابن عباس رضى الله عنهما : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها

وفى المسند مرفوعا : إن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها أو ثلثها أو ربعها حتى بلغ عشرها وقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح ولو اعتد له بها ثوابا لكان من المفلحين وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا وسقوط القضاء : فإن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعا وكانت السنن والأذكار عقيبها جوابر ومكملات لنقصها وإن غلب عليه عدم الخشوع فيها وعدم تعقلها فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها فأوجبها أبو عبدالله بن حامد من أصحاب أحمد وأبو حامد الغزالي فى إحيائه لا في وسيطه و بسيطه واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عليها ولم يضمن له فيها الفلاح فلم تبرأ ذمته منها ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائى قالوا : ولأن الخشوع والعقل : روح الصلاة ومقصودها ولبها فكيف يعتد بصلاة فقدت روحها ولبها وبقيت صورتها وظاهرها قالوا : ولو ترك العبد واجبا من واجباتها عمدا لأبطلها تركه وغايته أن يكون بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة فكيف إذا عدمت روحها ولبها ومقصودها وصارت بمنزلة العبد الميت إذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد يعتقه تقربا إلى الله تعالى في كفارة واجبة فكيف يعتد بالعبد الميت وقال بعض السلف : الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد والرجل أو مريضة أو دميمة أو قبيحة حتى يهدى إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة فكيف بالصلاة التي يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى والله

طيب لا يقبل إلا طيبا وليس من العمل الطيب : صلاة لا روح فيها كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه قالوا : وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع : تعطيل لملك الأعضاء عن عبوديته وعزل له عنها فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها وقد عزل ملكها وتعطل قالوا : والأعضاء تابعة للقلب تصلح بصلاحه وتفسد بفساده فإذا لم يكن قائما بعبوديته فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها وإذا فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه وعن أمره يصدرون وبه يأتمرون قالوا : وفي الترمذى وغيره مرفوعا إلى النبي : إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل وهذا إما خاص بدعاء العبادة وإما عام له ولدعاء المسألة وإما خاص بدعاء المسألة الذي هو أبعد فهو تنبيه على أنه لا يقبل دعاء العبادة الذي هو خاص حقه من قلب غافل قالوا : ولأن عبودية من غلبت عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد والغافل لا قصد له فلا عبودية له قالوا : وقد قال الله تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الماعون : 45 وليس السهو عنها تركها وإلا لم يكونوا مصلين وإنما هو السهو عن واجبها : إما عن الوقت كما قال ابن مسعود وغيره وإما عن الحضور والخشوع والصواب : أنه يعم النوعين فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة ووصفهم بالسهو عنها فهو السهو عن وقتها الواجب أو عن إخلاصها وحضورها الواجب ولذلك وصفهم بالرياء ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء

قالوا : ولو قدرنا أنه السهو عن واجب فقط فهو تنبيه على التوعد بالويل على سهو الإخلاص والحضور بطريق الأولى لوجوه أحدها : أن الوقت يسقط في حال العذر وينتقل إلى بدله والإخلاص والحضور لا يسقط بحال ولا بدل له الثاني : أن واجب الوقت يسقط لتكميل مصلحة الحضور فيجوز الجمع بين الصلاتين للشغل المانع من فعل إحداهما في وقتها بلا قلب ولا حضور كالمسافر والمريض وذي الشغل الذي يحتاج معه إلى الجمع كما نص عليه أحمد وغيره فبالجملة : مصلحة الإخلاص والحضور وجمعية القلب على الله في الصلاة : أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها فكيف يظن به أنه يبطلها بترك تكبيرة واحدة أو اعتدال في ركن أو ترك حرف أو شدة من القرآن أو ترك تسبيحه أو قول : سمع الله لمن حمده أو قول ربنا ولك الحمد أو ذكر رسول الله بالصلاة عليه ثم يصححها مع فوات بها ومقصودها الأعظم وروحها وسرها فهذا ما احتجت به هذه الطائفة وهي حجج كما تراها قوة وظهورا قال أصحاب القول الآخر : قد ثبت عن النبي في الصحيح أنه قال : إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وبين نفسه فيذكره ما لم يكن يذكر يقول : اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس قالوا : فأمره النبيفي هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان

فيها حتى لم يدركم صلى : بأن يسجد سجدتي السهو ولم يأمره بإعادتها ولو كانت باطلة كما زعمتم لأمره بإعادتها قالوا : وهذا هو السر في سجدتي السهو ترغيما للشيطان في وسوسته للعبد وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة ولهذا سماها النبي المرغمتين وأمر من سها بهما ولم يفصل في سهوه الذي صدر عنه موجب السجود بين القليل والكثير والغالب والمغلوب وقال : لكل سهو سجدتان ولم يستثن من ذلك السهو الغالب مع أنه الغالب قالوا : ولأن شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة وأما حقائق الإيمان الباطنة : فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب فلله تعالى حكمان : حكم فى الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح وحكم فى الأخرة على الظواهر والبواطن ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقبل علانية المنافقين ويكل أسرارهم إلى الله تعالى فيناكحون ويرثون ويورثون ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر بل إلى الله والله يتولاه في الدار الآخرة قالوا : فنحن في حكم شرائع الإسلام نحكم بصحة صلاة المنافق والمرائى مع أنه لا يسقط عنه العقاب ولا يحصل له الثواب في الآخرة فصلاة المسلم الغافل المبتلى بالوسواس وغفلة القلب عن كمال حضوره أولى بالصحة نعم : لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلا ولا آجلا فإن للصلاة مزيد ثواب عاجل في القلب من قوة إيمانه واستنارته وانشراحه وانفساحه ووجود حلاوة العبادة والفرح والسرور واللذة التي تحصل لمن اجتمع همه وقلبه على الله وحضر قلبه بين يديه كما يحصل لمن قربه السلطان منه وخصه بمناجاته والإقبال عليه والله أعلى وأجل وكذلك ما يحصل هذا من الدرجات العلى في الآخرة ومرافقة المقربين

كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كلامنا في هذا كله فإن أردتم وجوب الإعادة : لتحصل هذه الثمرات والفوائد : فذاك إليه إن شاء أن يحصلها وإن شاء أن يفوتها على نفسه وإن أردتم بوجوبها أنا نلزمه بها ونعاقبه على تركها ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة فلا وهذا القول الثاني أرجح القولين والله أعلم

2

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخبات قال الله تعالى
: وبشر المخبتين ثم كشف عن معناهم فقال الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمين الصلاة ومما رزقناهم ينفقون الحج : 35 وقال : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
الخبت في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا : هم المتواضعون وقال مجاهد : المخبت المطمئن إلى الله عز و جل قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض وقال الأخفش : الخاشعون وقال إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا
وهذه الأقوال تدور على معنيين : التواضع والسكون إلى الله عز و جل ولذلك عدي بإلى تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله تعالى
قال صاحب المنازل : هو من أول مقامات الطمأنينة يعني بمقامات الطمأنينة كالسكينة واليقين والثقة بالله ونحوها فالإخبات : مقدمتها ومبدؤها قال : وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد

لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع غفلة وإعراض والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة فى أول مناهله فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر فإذا ورد ذلك الماء : زال عنه التردد وخاطر الرجوع كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره وجد في السير
قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة ويستهوي الطلب السلوة
المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده ورجوع عن مراده وسلوة عنه
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة فتستغرق عصمته شهوته
والعصمة هي الحماية والحفظ و الشهوة الميل إلى مطالب النفس و الاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به
يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة : فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ونزوله أول منازلها وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم إلى الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير وذلك علامة السكينة
وتستدرك إرادته غفلته و الإرادة عند القوم : هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله و المريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السفر إلى الله والدار الآخرة فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها واستدرك بها فارطها

وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته وغلبتها له بحيث تهوي السلوة وتسقط كالذي يهوى في بئر وهذا علامة المحبة الصادقة : أن تقهر فيه وارد السلوة وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا
فالحاصل : أن عصمته وحمايته : تقهر شهوته وإرادته تقهر غفلته ومحبته تقهر سلوته
قال : الدرجة الثانية : أن لا ينقض إرادته سبب ولا يوحش قلبه عارض ولا يقطع عليه الطريق فتنة
هذه ثلاثة أمور أخرى تعرض لصادق الإرادة : سبب يعرض له ينقض عزمه وإرادته ووحشة تعرض له في طريق طلبه ولا سيما عند تفرده وفتنة تخرج عليه تقصد قطع الطريق عليه
فإذا تمكن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات لأن إرادته إذا قويت وجد به السير : لم ينقضها سبب من أسباب التخلف و النقض هو الرجوع عن إرادته والعدول عن جهة سفره
ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب والجواذب له عمن هو متوجه إليه
و العارض هو المخالف كالشيء الذي يعترضك في طريقك فيجيء في عرضها ومن أقوى هذه العوارض : عارض وحشة التفرد فلا يلتفت إليه كما قال بعض الصادقين : انفرادك في طريق طلبك : دليل على صدق الطلب وقال آخر : لا تستوحش فى طريقك من قلة السالكين ولا تغتر بكثرة الهالكين
وأما الفتنة التى تقطع عليه الطريق : فهي الواردات التي ترد على القلوب تمنعها من مطالعة الحق وقصده فإذا تمكن من منزل الإخبات وصحة الإرادة والطلب : لم يطمع فيه عارض الفتنة

وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرق على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات وتجلت عليه معانيها وكافح قلبه حقيقة اليقين بها
وقد قيل : من أخذ العلم من عين العلم ثبت ومن أخذه من جريانه أخذته أمواج الشبه ومالت به العبارات واختلفت عليه الأقوال
قال : الدرجة الثالثة : أن يستوي عنده المدح والذم وتدوم لائمته لنفسه ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته
أعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها : ارتفعت همته وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم فلا يفرح بمدح الناس ولا يحزن لذمهم وهذا وصف من خرج عن حظ نفسه وتأهل للفناء في عبودية ربه وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه والوقوف عند مدح الناس وذمهم : علامة انقطاع القلب وخلوه من الله وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه
وأما قوله : وأن تدوم لأئمته لنفسه فهو أن صاحب هذا المنزل لا يرضى عن نفسه وهو مبغض لها متمن لمفارقتها
والمراد بالنفس عند القوم : ما كان معلولا من أوصاف العبد مذموما من أخلاقه وأفعاله سواء كان ذلك كسبياأو خلقيا فهو شديد اللائمة لها وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى : ولا أقسم بالنفس اللوامة قال سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء ولا على الضراء
وقال قتادة : اللوامة : هى الفاجرة
وقال مجاهد : تندم على ما فات وتقول : لو فعلت ولو لم أفعل
وقال الفراء : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهى تلوم نفسها : إن كانت عملت خيرا قالت : هلا زدت وإن عملت شرا قالت : ليتني لم أفعل

وقال الحسن : هى النفس المؤمنة إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمة كذا ما أردت بأكلة كذا ما أردت بكذا ما أردت بكذا وإن الفاجر يمضي قدما قدما ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها
وقال مقاتل : هى النفس الكافرة تلوم نفسها فى الآخرة على ما فرطت فى أمر الله فى الدنيا
والقصد : أن من بذل نفسه لله بصدق كره بقاءه معها لأنه يريد أن يتقبلها من بذلت له ولأنه قد قربها له قربانا ومن قرب قربانا فتقبل منه ليس كمن رد عليه قربانه فبقاء نفسه معه دليل على أنه لم يتقبل قربانه
وأيضا فإنه من قواعد القوم المجمع عليها بينهم التي اتفقت كلمة أولهم وآخرهم ومحقهم ومبطلهم عليها : أن النفس حجاب بين العبد وبين الله وأنه لا يصل إلى الله حتى يقطع هذا الحجاب كما قال أبو يزيد : رأيت رب العزة فى المنام فقلت : يا رب كيف الطريق إليك فقال : خل نفسك وتعال
فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز و جل وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل فلا بد أن ينتهى إليه ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنه ليسير على من يسره الله عليه
وفي ذلك الجبل أودية وشعوب وعقبات ووهود وشوك وعوسج وعليق وشبرق ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين ولا سيما أهل الليل المدلجين فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات وإلا

تعلقت بهم تلك الموانع وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته وضعف عزيمة السائر ونيته فيتولد من ذلك : الانقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله
وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه فإذا قطعه وبلغ قلته : انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا وحينئذ يسهل السير وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها ويرى طريقاواسعاآمنا يفضي به إلى المنازل والمناهل وعليه الأعلام وفيه الإقامات وفيه أعدت لركب الرحمن
فبين العبد وبين السعادة والفلاح : قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

فصل وقوله : ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته
يعني أنه وإن كان أعلى ممن هو دونه من الناقصين عن درجته إلا أنه لاشتغاله بالله وامتلاء قلبه من محبته ومعرفته والإقبال عليه : يشتغل به عن ملاحظة حال غيره وعن شهود النسبة بين حاله وأحوال الناس ويرى اشتغاله بذلك والتفاته إليه نزولا عن مقامه وانحطاطا عن درجته ورجوعا على عقبيه فإن هجم عليه ذلك بغير استدعاء واختيار فليداوه بشهود المنة وخوف المكر وعدم علمه بالعاقبة التي يوافي عليها والله المستعان
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الزهد

قال الله تعالى ما عندكم ينفد وما عند الله باق وقال تعالى اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاماوفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وقال تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض وقال تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماتذروه الرياح إلى قوله وخير أملا وقال تعالى : قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى وقال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وقال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا وقال : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله والآخرة عند ربك للمتقين
والقرآن مملوء من التزهيد فى الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها

وسرعة فنائها والترغيب فى الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها فإذا أراد الله بعبد خيرا أقام فى قلبه شاهدا يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار
وقد أكثر الناس من الكلام في الزهد وكل أشار إلى ذوقه ونطق عن جاله وشاهده فإن غالب عبارات القوم عن أذواقهم وأحوالهم والكلام بلسان العلم : أوسع من الكلام بلسان الذوق وأقرب إلى الحجة والبرهان
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الزهد ترك مالا ينفع في
الآخرة والورع : ترك ما تخاف ضرره في الآخرة
وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها
وقال سفيان الثورى : الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء
وقال الجنيد : سمعت سريا يقول : إن الله عز و جل سلب الدنيا عن أوليائه وحماها عن أصفيائه وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لم يرضها لهم وقال : الزهد في قوله تعالى : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود ولا يأسف منها على مفقود

وقال يحيى بن معاذ : الزهد يورث السخاء بالملك والحب يورث السخاء بالروح
وقال ابن الجلاء : الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال فتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها
وقال ابن خفيف : الزهد وجود الراحة في الخروج من الملك
وقال أيضا : الزهد سلو القلب عن الأسباب ونفض الأيدي من الأملاك
وقيل : هو عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف
وقال الجنيد : الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد
وقال الإمام أحمد الزهد في الدنيا قصر الأمل وعنه رواية أخرى : أنه عدم فرحه بإقبالها ولا حزنه على إدبارها فإنه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدا فقال : نعم على شريطة أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت
وقال عبد الله بن المبارك : هو الثقة بالله مع حب الفقر وهذا قول شقيق ويوسف بن أسباط
وقال عبدالواحد بن زيد الزهد : الزهد في الدينار والدرهم
وقال أبو سليمان الداراني : ترك ما يشغل عن الله وهو قول الشبلي
وسأل رويم الجنيد عن الزهد فقال : استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب وقال مرة : هو خلو اليد عن الملك والقلب عن التتبع وقال يحيى بن معاذ : لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال : عمل بلا علاقة وقول بلا طمع وعز بلا رياسة وقال أيضا : الزاهد يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك المسك والعنبر وقيل : حقيقته هو الزهد في النفس وهذا قول ذي النون المصري
وقيل : الزهد الإيثار عند الاستغاء والفتوة الإيثار عند الحاجة قال الله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة

وقال رجل ليحيى بن معاذ : متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزاهدين وأقعد معهم فقال : إذا صرت من رياضتك لنفسك إلى حد لو قطع الله الرزق عنك ثلاثة أيام لم تضعف نفسك فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل : الزهد على ثلاثة أوجه الأول : ترك الحرام وهو زهد العوام والثاني : ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث : ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين
وهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم من كلام المشايخ مع زيادة تفصيله وتبيين درجاته وهو من أجمع الكلام وهو يدل على أنه رضي الله عنه من هذا العلم بالمحل الأعلى وقد شهد الشافعي رحمه الله بإمامته في ثمانية أشياء أحدها الزهد
والذي أجمع عليه العارفون : أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة وعلى هذا صنف المتقدمون كتب الزهد كالزهد لعبد الله ابن المبارك وللإمام أحمد ولوكيع ولهناد بن السري ولغيرهم ومتعلقه ستة أشياء : لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها وهي المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل ما دون الله
وليس المراد رفضها من الملك فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما وكان نبينامن أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة وكان علي بن أبي طالب

وعبدالرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحا لهن وأغناهم وكان عبدالله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد وكان له رأس مال يقول : لولا هو لتمندل بنا هؤلاء
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه وقد روي مرفوعا

فصل وقد اختلف الناس فى الزهد هل هو ممكن في هذه الأزمنة أم
لا فقال أبو حفص الزهد لا يكون إلا في الحلال ولا حلال في الدنيا فلا زهد
وخالفه الناس في هذا وقالوا : بل الحلال موجود فيها وفيها الحرام كثيرا وعلى تقدير : أن لا يكون فيها الحلال فهذا أدعى إلى الزهد فيها وتناول ما يتناوله المضطر منها كتناوله للميتة والدم ولحم الخنزير
وقال يوسف بن أسباط : لو بلغني أن رجلا بلغ في الزهد منزلة أبي ذر وأبي الدرداء وسلمان والمقداد وأشباههم من الصحابة رضي الله عنهم ما قلت له

زاهد لأن الزهد لايكون إلا في الحلال المحض والحلال المحض لا يوجد في زماننا هذا وأما الحرام : فإن ارتكبته عذبك الله عز و جل
ثم اختلف هؤلاء في متعلق الزهد فقالت طائفة : الزهد إنما هو في الحلال لأن ترك الحرام فريضة وقالت فرقة : بل الزهد لايكون إلا في الحرام وأما الحلال : فنعمة من الله تعالى على عبده والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده فشكره على نعمه والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقا إلى جنته : أفضل من الزهد فيها والتخلي عنها ومجانبة أسبابها
والتحقيق : أنها إن شغلته عن الله فالزهد فيها أفضل وإن لم تشغله عن الله بل كان شاكرا لله فيها فحاله أفضل والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها والطمأنينة إليها والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل : الزهد : هو إسقاط الرغبة عن الشيءبالكلية

يريد بالشيء المزهود فيه : ما سوى الله والإسقاط عنه : إزالته عن القلب وإسقاط تعلق الرغبة به
وقوله : بالكلية أي بحيث لا يلتفت إليه ولا يتشوق إليه
قال : وهو للعامة : قربة وللمريد : ضرورة وللخاصة : خشية
يعني أن العامة تتقرب به إلى الله و القربة ما يتقرب به المتقرب إلى محبوبه
وهو ضرورة للمريد لأنه لا يحصل له التخلي بما هو بصدده إلا بإسقاط الرغبة فيما سوى مطلوبه فهو مضطر إلى الزهد كضرورته إلى الطعام والشراب إذ التعلق بسوى مطلوبه لا يعدم منه حجابا أو وقفة أو نكسة على حسب بعد ذلك الشيء من مطلوبه وقوة تعلقه به وضعفه
وإنما كان خشية للخاصة : لأنهم يخافون على ما حصل لهم من القرب والأنس بالله وقرة عيونهم به : أن يتكدر عليهم صفوه بالتفاتهم إلى ما سوى الله فزهدهم خشية وخوف قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الزهد في الشبهة بعد ترك الحرام بالحذر من المعتبة والأنفة من المنقصة وكراهة مشاركة الفساق
أما الزهد في الشبهة : فهو ترك ما يشتبه على العبد : هل هو حلال أو حرام كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي : الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات اتقى الحرام ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب
فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام وقد جعل الله عز و جل بين كل

متباينين برزخا كما جعل الموت وما بعده برزخا بين الدنيا والآخرة وجعل المعاصي برزخا بين الإيمان والكفر وجعل الأعراف برزخا بين الجنة والنار وكذلك جعل بين كل مشعرين من مشاعر المناسك برزخا حاجزا بينهما ليس من هذا ولا هذا فمحسر برزخ بين منى ومزدلفة ليس من واحد منهما فلا يبيت به الحاج ليلة جمع ولا ليالي منى وبطن عرنة برزخ بين عرفة وبين الحرم فليس من الحرم ولا من عرفة وكذلك ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس برزخ بين الليل والنهار ليس من الليل لتصرمه بطلوع الفجر ولا من النهار لأنه من طلوع الشمس وإن دخل في اسم اليوم شرعا
وكذلك منازل السير : بين كل منزلتين برزخ يعرفه السائر في تلك المنازل وكثير من الأحوال والواردات تكون برازخ فيظنها صاحبها غاية وهذا لم يتخلص منه إلا فقهاء الطريق والعلماء هم الأدلة فيها
وقوله : بعد ترك الحرام أي ترك الشبهة لا يكون إلا بعد ترك الحرام
وقوله : بالحذر من المعتبة يعني أن يكون سبب تركه للشبهة : الحذر من توجه عتب الله عليه
وقوله : والأنفة من المنقصة أي يأنف لنفسه من نقصه عند ربه وسقوطه من عينه عينيه لاأنفته من نقصه عند الناس وسقوطه من عيونهم وإن كان ذلك ليس مذموما بل هو محمود أيضا ولكن المذموم : أن تكون أنفته كلها من الناس ولا يأنف من الله
وقوله وكراهة مشاركة الفساق يعنى أن الفساق يزدحمون على مواضع الرغبة في الدنيا ولتلك المواقف بهم كظيظ من الزحام فالزاهد يأنف من مشاركتهم في تلك المواقف ويرفع نفسه عنها لخسة شركائه فيها كما قيل لبعضهم : ما الذي زهدك في الدنيا قال : قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها
إذا لم أترك الماء اتقاء تركت لكثرة الشركاء فيه

إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه
قال : الدرجة الثانية : الزهد في الفضول وهو ما زاد على المسكة والبلاغ من القوت باغتنام التفرغ إلى عمارة الوقت وحسم الجأش والتحلي بحلية الأنبياء والصديقين
الفضول ما يفضل عن قدر الحاجة و المسكة ما يمسك النفس من القوت والشراب واللباس والمسكن والمنكح إذا احتاج إليه و البلاغ هو البلغة من ذلك الذي يتبلغ به المسافر في منازل السفر فيزهد فيما وراء ذلك اغتناما لتفرغه لعمارة وقته
ولما كان الزهد لأهل الدرجة الأولى : خوفا من المعتبة وحذرا من المنقصة : كان الزهد لأهل هذه الدرجة أعلى وأرفع وهو اغتنام الفراغ لعمارة أوقاتهم مع الله لأنه إذا اشتغل بفضول الدنيا فاته نصيبه من انتهاز فرصة الوقت فالوقت سيف إن لم تقطعه وإلا قطعك
وعمارة الوقت : الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت وإن كان له فيها أتم لذة فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات

فالمحب الصادق ربما كان سيره القلبي في حال أكله وشربه وجماع أهله وراحته أقوى من سيره البدني في بعض الأحيان
وقد حكي عن بعضهم : أنه كان يرد عليه وهو على بطن امرأته حال لا يعهدها في غيرها
ولهذا سبب صحيح وهو اجتماع قوى النفس وعدم التفاتها حينئذ إلى شيء مع ما يحصل لها من السرور والفرح والسرور يذكر بالسرور واللذة تذكر باللذة فتنهض الروح من تلك الفرحة واللذة إلى ما لا نسبة بينها وبينها بتلك الجمعية والقوة والنشاط وقطع أسباب الالتفات فيورثه ذلك حالا عجيبة
ولا تعجل بالإنكار وانظر إلى قلبك عند هجوم أعظم محبوب له عليه في هذه الحال كيف تراه فهكذا حال غيرك ولا ريب أن النفس إذا نالت حظا صالحا من الدنيا قويت به وسرت واستجمعت قواها وجمعيتها وزال تشتتها

اللهم اغفر فقد طغى القلم وزاد الكلم فعياذا بك اللهم من مقتك
وأما حسم الجأش فهو قطع اضطراب القلب المتعلق بأسباب الدنيا رغبة ورهبة وحبا وبغضا وسعيا فلا يصح الزهد للعبد حتى يقطع هذا الاضطراب من قلبه بأن لا يلتفت إليها ولا يتعلق بها في حالتي مباشرته لها وتركه فإن الزهد زهد القلب لا زهدالترك من اليد وسائر الأعضاء فهو تخلي القلب عنها لا خلو اليد منها
وأما التحلى بحلية الأنبياء والصديقين فإنهم أهل الزهد في الدنيا حقا إذ هم مشمرون إلى علم قد رفع لهم غيرها فهم زاهدون وإن كانوا لها مباشرين

فصل قال : الدرجة الثالثة : الزهد في الزهد وهو بثلاثة أشياء :
استحقار ما زهدت فيه واستواء الحالات فيه عندك والذهاب عن شهود الاكتساب ناظرا إلى وادي الحقائق
وقد فسر الشيخ مراده بالزهد في الزهد بثلاثة أشياء
أحدها : احتقاره ما زهد فيه فإن من امتلأ قلبه بمحبة الله وتعظيمه لا يرى أن ما تركه لأجله من الدنيا يستحق أن يجعل قربانا لأن الدنيا بحذافيرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة فالعارف لا يرى زهده فيها كبير أمر يعتد به ويحتفل له فيستحي من صح له الزهد أن يجعل لما تركه لله قدرا يلاحظ زهده فيه بل يفنى عن زهده فيه كما فنى عنه ويستحي من ذكره بلسانه وشهوده بقلبه
وأما استواء الحالات فيه عنده : فهو أن يرى ترك ما زهد فيه وأخذه : متساويين عنده إذ ليس له عنده قدر وهذا من دقائق فقه الزهد فيكون زاهدا في حال أخذه كما هو زاهد في حال تركه إذ همته أعلى عن ملاحظته أخذا وتركا لصغره في عينه
وأما الذهاب عن شهود الاكتساب فمعناه : أن من استصغر الدنيا

بقلبه واستوت الحالات في أخذها وتركها عنده : لم ير أنه اكتسب بتركها عند الله درجة ألبتة لأنها أصغر في عينه من أن يرى أنه اكتسب بتركها الدرجات
وفيه معنى آخر : وهو أن يشاهد تفرد الله عز و جل بالعطاء والمنع فلا يرى أنه ترك شيئا ولا أخذ شيئا بل الله وحده هو المعطي المانع فما أخذه فهو مجري لعطاء الله إياه كمجرى الماء في النهر وما تركه لله فالله سبحانه وتعالى هو الذي منعه منه فيذهب بمشاهدة الفعال وحده عن شهود كسبه وتركه فإذا نظر إلى الأشياء بعين الجمع وسلك في وادي الحقيقة غاب عن شهود اكتسابه وهو معنى قوله : ناظرا إلى وادي الحقائق وهذا أليق المعنين بكلامه فهذا زهد الخاصة قال الشاعر
إذا زهدتني في الهوى خشية الردى ... جلت لي عن وجه يزهد في الزهد

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الورع
قال الله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم المؤمنون : 51 وقال تعالى : وثيابك فطهر المدثعر : 4 قال قتادة ومجاهد : نفسك فطهر من الذنب فكنى عن النفس بالثوب وهذا قول إبراهيم النخعي والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير قال ابن عباس : لا تلبسها على معصية ولا غدر ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :
وإنى بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء : طاهر الثياب وتقول للغادر والفاجر : دنس الثياب وقال أبي بن كعب : لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم ولكن البسها وأنت بر طاهر
وقال الضحاك : عملك فأصلح قال السدي : يقال للرجل إذا كان صالحا :

إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب وقال سعيد بن جبير : وقلبك وبيتك فطهر وقال الحسن والقرظي : وخلقك فحسن
وقال ابن سيرين وابن زيد : أمر بتطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز الصلاة معها لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم
وقال طاووس : وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها
والقول الأول : أصح الأقوال
ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز و جل بإزالتها والبعد عنها والمقصود : أن الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله ويؤثر كل منهما في الآخر ولهذا نهى عن لباس الحرير والذهب وجلود السباع لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع وتأثير القلب والنفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها وبهجتها وكسفتها حتى إن ثوب البر ليعرف من ثوب الفاجر وليسا عليهما وقد جمع النبيالورع كله في كلمة واحدة فقال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه فهذا يعم الترك لما لا يعني : من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع قال إبراهيم بن أدهم : الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات وفى الترمذي مرفوعا إلى النبي : يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس

قال الشبلي : الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله وقال إسحاق بن خلف : الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة والزهد في الرياسة : أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة وقال أبو سليمان الداراني : الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضى وقال يحيى بن معاذ : الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل وقال : الورع على وجهين ورع فى الظاهر وورع فى الباطن فورع الظاهر : أن لا يتحرك إلا لله وورع الباطن : هو أن لا يدخل قلبك سواه وقال : من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء وقيل : الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات وقيل : من دق في الدنيا ورعه أو نظره جل في القيامة خطره وقال يونس بن عبيد : الورع الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة عين وقال سفيان الثوري : ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك فاتركه وقال سهل : الحلال هو الذي لا يعصي الله فيه والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه وسأل الحسن غلاما فقال له : ما ملاك الدين قال : الورع قال : فما آفتة قال : الطمع فعجب الحسن منه
وقال الحسن : مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة
وقال أبو هريرة : جلساء الله غدا أهل الورع والزهد
وقال بعض السلف : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس
وقال بعض الصحابة : كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام

فصل قال صاحب المنازل الورع : توق مستقصى على حذر وتحرج على
تعظيم
يعني أن يتوقى الحرام والشبه وما يخاف أن يضره أقصى ما يمكنه من التوقي لأن التوقي والحذر متقاربان إلا أن التوقي فعل الجوارح و الحذر فعل القلب فقد يتوقى العبد الشيء لا على وجه الحذر والخوف ولكن لأمور أخرى : من إظهار نزاهة وعزة وتصوف أو اعتراض آخر كتوقي الذين لا يؤمنون بمعاد ولا جنة ولا نار ما يتوقونه من الفواحش والدناءة تصونا عنها ورغبة بنفوسهم عن مواقعتها وطلبا للمحمدة ونحو ذلك
وقوله : أو تحرج على تعظيم يعني أن الباعث على الورع عن المحارم والشبه إما حذر حلول الوعيد وإما تعظيم الرب جل جلاله وإجلالا له أن يتعرض لما نهى عنه
فالورع عن المعصية : إما تخوف أو تعظيم واكتفى بذكر التعظيم عن ذكر الحب الباعث على ترك معصية المحبوب لأنه لا يكون إلا مع تعظيمه وإلا فلو خلا القلب من تعظيمه لم تستلزم محبته ترك مخالفته كمحبة الإنسان ولده وعبده وأمته فإذا قارنه التعظيم أوجب ترك المخالفة
قال : وهو آخر مقام الزهد للعامة وأول مقام الزهد للمريد يعني أن هذا التوقي والتحرج بوصف الحذر والتعظيم : هو نهاية لزهد العامة وبداية لزهد المريد وإنما كان كذلك لأن الورع كما تقدم هو أول الزهد وركنه وزهد المريد : فوق زهد العامة ونهاية العامة : هى بداية المريد فنهاية مقام هذا هي بداية مقام هذا فإذا انتهى ورع العامة صار زهدا وهو أول ورع المريد
قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : تجنب القبائح لصون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان

هذه ثلاث فوائد من فوائد تجنب القبائح
إحداها : صون النفس وهو حفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز و جل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده : صانها وحماها وزكاها وعلاها ووضعها في أعلى المحال وزاحم بها أهل العزائم والكمالات ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده أنقاها في الرذائل وأطلق شناقها وحل زمامها وأرخاه ودساها ولم يصنها عن قبيح فأقل ما في تجنب القبائح : صون النفس
وأما توفير الحسنات فمن وجهين
أحدهما : توفير زمانه على اكتساب الحسنات فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعدا لتحصيلها
والثاني : توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها بموازنة السيئات وحبوطها كما تقدم في منزلة التوبة : أن السيئات قد تحبط الحسنات وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها فلا بد أن تضعفها قطعا فتجنبها يوفر ديوان الحسنات وذلك بمنزلة من له مال حاصل فإذا استدان عليه فإما أن يستغرقه الدين أو يكثره أو ينقصه فهكذا الحسنات والسيئات سواء
وأما صيانة الإيمان فلأن الإيمان عند جميع أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وقد حكاه الشافعي وغيره عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم وإضعاف المعاصي للإيمان أمر معلوم بالذوق والوجود فإن العبد كما جاء في الحديث إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب واستغفر صقل قلبه وإن عاد فأذنب نكت فيه نكتة أخرى حتى تعلو قلبه وذلك الران الذي قال الله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كالوا يكسبون المطففين : 14 فالقبائح تسود القلب وتطفىء نوره والإيمان هو نور فى القلب والقبائح تذهب به أو تقلله قطعا فالحسنات تزيد نور القلب والسيئات تطفىء نور القلب وقد

أخبر الله عز و جل أن كسب القلوب سبب للران الذي يعلوها وأخبر أنه أركس المنافقين بما كسبوا فقال : والله أركسهم بما كسبوا النساء : 88 وأخبر أن نقض الميثاق الذي أخذه على عباده سبب لتقسية القلب فقال فيما نقضهم ميثقاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به المائده : 13 فجعل ذنب النقض موجبا لهذه الآثار : من تقسية القلب واللعنة وتحريف الكلم ونسيان العلم
فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة سواء بسواء ولذلك قال السلف : المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت
فإيمان صاحب القبائح كقوة المريض على حسب قوة مرضه وضعفه
وهذه الأمور الثلاثة وهي صون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان هي أرفع من باعث العامة على الورع لأن صاحبها أرفع همة لأنه عامل على تزكية نفسه وصونها وتأهيلها للوصول إلى ربها فهو يصونها عما يشينها عنده ويحجبها عنه ويصون حسناته عما يسقطها ويضعها لأنه يسير بها إلى ربه ويطلب بها رضاه ويصون إيمانه بربه : من حبه له وتوحيده ومعرفته به ومراقبته إياه عما يطفىء نوره ويذهب بهجته ويوهن قوته
قال الشيخ
وهذه الثلاث الصفات : هي في الدرجة الأولى من ورع المريدين
يعني أن للمريدين درجتين أخريين من الورع فوق هذه ثم ذكرهما فقال :
الدرجة الثانية : حفظ الحدود عند ما لا بأس به إبقاء على الصيانة والتقوى وصعودا عن الدناءة وتخلصاعن اقتحام الحدود
يقول : إن من صعد عن الدرجة الأولى إلى هذه الدرجة من الورع يترك كثيرا مما لا بأس به من المباح إبقاء على صيانته وخوفا عليها أن يتكدر

صفوها ويطفأ نورها فإن كثيرا من المباح يكدر صفو الصيانة ويذهب بهجتها ويطفىء نورها ويخلق حسنها وبهجتها
وقال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح : هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة أو نحو هذا من الكلام
فالعارف يترك كثيرامن المباح إبقاء على صيانته ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام فإن بينهما برزخا كما تقدم فتركه لصاحب هذه الدرجة كالمتعين الذي لا بد منه لمنافاته لدرجته والفرق بين صاحب الدرجة الأولى وصاحب هذه : أن ذلك يسعى في تحصيل الصيانة وهذا يسعى في حفظ صفوها أن يتكدر ونورها أن يطفأ ويذهب وهو معنى قوله : إبقاء على الصيانة
وأما الصعود عن الدناءة : فهو الرفع عن طرقاتها وأفعالها
وأما التخلص عن اقتحام الحدود فالحدود : هي النهايات وهي مقاطع الحلال والحرام فحيث ينقطع وينتهي فذلك حده فمن اقتحمه وقع في المعصية وقد نهى الله تعالى عن تعدي حدوده وعن قربانها فقال : تلك حدود الله فلا تقربوها البقره
وقال : تلك حدود الله فلا تعتدوها البقره : 229 فإن الحدود يراد بها أواخر الحلال وحيث نهى عن القربان فالحدود هناك : أوائل الحرام يقول سبحانه : لا تتعدوا ما أبحت لكم ولا تقربوا ما حرمت عليكم فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه وهو اقتحام الحدود قال : الدرجة الثالثة : التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت والتعلق بالتفرق وعارض يعارض حال الجمع الفرق بين شتات الوقت والتعلق بالتفرق : كالفرق بين السبب والمسبب

والنفي والإثبات فإنه يتشتت وقته فلا يجد بدا من التعلق بما سوى مطلوبه الحق إذ لا تعطيل في النفس ولا في الإرادة فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه ومن لم يكن عمله لله فلا بد أن يعمل لغيره وقد تقدم هذا
فالمخلص يصونه الله بعبادته وحده وإرادة وجهه وخشيته وحده ورجائه وحده والطلب منه والذل منه والافتقار إليه وحده
وإنما كان هذا أعلى من الدرجة الثانية : لأن أربابها اشتغلوا بحفظ الصيانة من الكدر وملاحظتها وذلك عند أهل الدرجة الثالثة : تفرق عن الحق واشتغال عن مراقبته بحال نفوسهم فأدب أهل هذه أدب حضور وأدب أولئك أدب غيبة
وأما الورع عن كل حال يعارض حال الجمع فمعناه : أن يستغرق العبد شهود فنائه في التوحيد وجمعيته على الله تعالى فيه عن كل حال يعارض هذا الفناء والجمعية وهذا عند الشيخ لما كان هو الغاية التي ليس بعدها مطلب : جعل كل حال يعارضها ويقطع عنها ناقصا بالنسبة إليها فالرغبة عنه غير ورع صاحبها وقد عرفت ما فيه وأن فوق هذا مقام أرفع منه وأعلى وهو الورع عن كل حظ يزاحم مراده منك ولو كان الحظ فناءا وجميعة أو كائنا ما كان وبينا أن الفناء و الجمعية حظ العبد وأن حق الرب وراء ذلك وهو البقاء بمراده فرقا وجمعا به وله وعلى هذا فالورع الخاص : الورع عن كل حال يعارض حال القيام بالأمر والبقاء به فرقا وجمعا والله المستعان

فصل الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل وقوة الإيمان باللقاء
تثمر الزهد والمعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء والقناعة تثمر الرضاء والذكر يثمر حياة القلب والإيمان بالقدر يثمر التوكل ودوام تأمل الأسماء والصفات يثمر المعرفة والورع يثمر الزهد أيضا والتوبة تثمر المحبة أيضا ودوام الذكر يثمرها والرضا يثمر الشكر والعزيمة والصبر يثمران جميع الأحوال والمقامات والإخلاص والصدق كل منهما يثمر الآخر ويقتضيه والمعرفة تثمر الخلق والفكر يثمر العزيمة والمراقبة تثمر عمارة الوقت وحفظ الأيام والحياء والخشية والإنابة وإماتة النفس وإذلالها وكسرها : يوجب حياة القلب وعزه وجبره ومعرفة النفس ومقتها يوجب الحياء من الله عز و جل واستكثار ما منه واستقلال ما منك من الطاعات ومحو أثر الدعوى من القلب واللسان وصحة البصيرة تثمر اليقين وحسن التأمل لما ترى تسمع من الآيات المشهودة والمتلوة يثمر صحة البصيرة وملاك ذلك كله : أمران أحدهما : أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته تنزلها على داء قلبك فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى آمنة لا يلحق سالكها خوف ولا عطب ولا جوع ولا عطش ولا فيها آفة من آفات سائر الطريق ألبتة وعليها من الله حارس وحافظ يكلأ السالكين فيها ويحميهم ويدفع عنهم ولا يعرف قدر هذه الطريق إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وآفاتها وقطاعها والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التبتل
قال الله تعالى : واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا المزمل : 8 و التبتل الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل : بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز
قال صاحب المنازل :
التبتل : الانقطاع إلى الله بالكلية وقوله عز و جل : له دعوة الحق الرعد : 14 أي التجريد المحض
ومراده بالتجريد المحض : التبتل عن ملاحظة الأعواض بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا للأجرة فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا والآبق قد خرج من شرف العبودية ولم يحصل له إطلاق الحرية فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده وغاية شرف النفس : دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا كما قيل :
شرف النفوس دخولها في رقهم ... والعبد يحوي الفخر بالتمليك
والذي حسن استشهاده بقوله : له دعوة الحق في هذا الموضع : إرادة هذا المعنى وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها

ثوابا فإنه يستحقها لذاته فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويستجار به ويلجأ إليه ويصمد إليه فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده
ومن قام بقلبه هذا معرفة وذوقا وحالا صح له مقام التبتل والتجريد المحض وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق ومرادهم : هذا المعنى
فقال علي رضى الله عنه دعوة الحق : التوحيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما شهادة أن لا إله إلا الله وقيل : الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله وحده ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها
قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : تجريد الانقطاع عن الحظوظ واللحوظ إلى العالم خوفا أو رجاء أو مبالاة بحال
قلت التبتل يجمع أمرين : اتصالا وانفصالا لا يصح إلا بهما فالانفصال : انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفا منه أو رغبة فيه أو مبالاة به أو فكرا فيه بحيث يشغل قلبه عن الله
والاتصال : لا يصح إلا بعد هذا الانفصال وهو اتصال القلب بالله وإقباله عليه وإقامة وجهه له حبا وخوفا ورجاء وإنابة وتوكلا
ثم ذكر الشيخ ما يعين على هذا التجريد وبأي شيء يحصل فقال :
بحسم الرجاء بالرضى وقطع الخوف بالتسليم ورفض المبالاة بشهود الحقيقة يقول : إن الذى يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك : هو الرضى بحكم الله

عز و جل وقسمه لك فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع
والذي يحسم مادة الخوف : هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضا فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله بوجه وفي التسليم أيضا فائدة لطيفة وهي أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده وأحرزها في حرزه وجعلها تحت كنفه حيث لا تنالها يد عدو عاد ولا بغي باغ عات
والذي يحسم مادة المبالاة بالناس : شهود الحقيقة وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود
قال : الدرجة الثانية : تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى وتنسم روح الأنس وشيم برق الكشف
الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن الأولى انقطاع عن الخلق وهذه انقطاع عن النفس وجعله بثلاثة أشياء
أولها : مجانبة الهوى ومخالفته ونهي نفسه عنه لأن اتباعه يصد عن التبتل
وثانيها : وهو بعد مخالفة الهوى تنسم روح الأنس بالله والروح للروح كالروح للبدن فهو روحها وراحتها وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه فحينئذ تنسم روح الأنس بالله ووجد رائحته إذ النفس لا بد لها من

التعلق فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله وهبت عليها نسماته فريحتها وأحيتها
وثالثها : شيم برق الكشف وهو مطالعته واستشرافه والنظر إليه ليعلم به مواقع الغيث ومساقط الرحمة
وليس مراده بالكشف ههنا : الكشف الجزئي السفلي المشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالكشف عن مخبآت الناس ومستورهموإنما هو الكشف عن ثلاثة أشياء هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر
أحدها : الكشف عن منازل السير
والثاني : الكشف عن عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها
والثالث : الكشف عن معاني الأسماء والصفات وحقائق التوحيد والمعرفة وهذه الأبواب الثلاثة : هي مجامع علوم القوم وعليها يحومون وحولها يدندنون وإليها يشمرون فمنهم من جل كلامه ومعظمه : في السير وصفة المنازل ومنهم من جل كلامه : في الآفات والقواطع ومنهم من جل كلامه : في التوحيد والمعرفة وحقائق الأسماء والصفات
والصادق الذكي يأخذ من كل منهم ما عنده من الحق فيستعين به على مطلبه ولايرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر ويهدره به فالكمال المطلق لله رب العالمين وما من العباد إلا له مقام معلوم
قال : الدرجة الثالثة : تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة والاستغراق في قصد الوصول والنظر إلى أوائل الجمع
لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق والثانية انقطاعا عن النفس جعل الثالثة طلبا للسبق وجعله بتصحيح الاستقامة وهي الإعراض عما سوى الحق ولزوم الإقبال عليه والاشتغال بمحابه ثم بالاستغراق في قصد الوصول

وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإراداته أوقاته وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له
وأما النظر إلى أوائل الجمع : فالجمع هو قيام الخلق كلهم بالحق وحده وقيامه عليهم بالربوبية والتدبير
والنظر إلى أوائل ذلك : هو الالتفات إلى مقدماته وبداياته وهي العقبة التي ينحدر منها على وادي الفناء
وقد قيل : إنها وقفة تعترض القاطع لأودية التفرقة قبل وصوله إلى الجمع ومنها يشرف عليه
وهذه الوقفة تعترض كل طالب مجد في طلبه فمنها يرجع على عقبه أو يصل إلى مطلبه كما قيل :
لابد للعاشق من وقفة ... ما بين سلوان وبين غرام
وعندها ينقل أقدامه ... إما إلى خلف وإما أمام
والذي يظهر لي من كلامه : أن أوائل الجمع : مباديه ولوائحه وبوارقه
وبعد هذا درجة رابعة وهي الانقطاع عن مراده من ربه والفناء عنه إلى مراد ربه منه والفناء به فلا يريد منه بل يريد ما يريده منقطعا به عن كل
إرادة فينظر في أوائل الجمع في مراده الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه
وأكثر أرباب السلوك عندهم إياك نعبد فرق وإياك نستعين جمع
ثم منهم من يرى : أن ترك الجمع زندقة وكفر فهو يعرض عن الجمع إلى الفرق
ومنهم من يرى : أن مقام التفرقة ناقص مرغوب عنه ويرى سوء حال أهله وتشتتهم فيرغب عنه عاملا على الجمع يتوجه معه حيث توجهت ركائبه والمستقيمون منهم يقولون : لابد للعبد السالك من جمع وفرق وقيام العبودية بهما فمن لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له لا معرفة له ولا حال

ف إياك نعبد فرق و إياك نستعين جمع
والحق : أن كلا من مشهدي إياك نعبد وإياك نستعين متضمن للفرق والجمع وكمال العبودية بالقيام بهما في كل مشهد
ففرق إياك نعبد تنوع ما يعبد به وكثرة تعلقاته وضروبه
وجمعه : توحيد المعبود بذلك كله وإرادة وجهه وحده والفناء عن كل حظ ومراد يزاحم حقه ومراده
فتضمن هذا المشهد فرقا في جمع وكثرة في وحدة فصاحبه يتنقل في منازل العبودية من عبادة إلى عبادة ومعبوده واحد لا إله إلا هو
وأما فرق إياك نستعين فشهود ما يستعين به عليه ومرتبته ومنزلته ومحله من النفع والضر وبدايته وعاقبته واتصاله بل وانفصاله وما يترتب عليه من هذا الاتصال والانفصال
ويشهد مع ذلك فقر المستعين وحاجته ونقصه وضرورته إلى كمالاته التى يستعين ربه في تحصيلها وآفاته التي يستعين ربه في دفعها ويشهد حقيقة الاستعانة وكفاية المستعان به وهذا كله فرق يثمر عبودية هذا المشهد
وأما جمعه : فشهود تفرده سبحانه بالأفعال وصدور الكائنات بأسرها عن مشيئته وتصريفها بإرادته وحكمته
فغيبته بهذا المشهد عما قبله من الفرق : نقص في العبودية كما أن تفرقه في الذي قبله دون ملاحظته : نقص أيضا والكمال إعطاء الفرق والجمع حقهما في هذا المشهد والمشهد الأول
فتبين تضمن إياك نعبد وإياك نستعين للجمع والفرق وبالله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرجاء
قال الله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجعون رحمته ويخافون عذابه الإسراء : 57 فابتغاء الوسيلة إليه : طلب القرب منه بالعبودية والمحبة فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التى عليها بناؤه : الحب والخوف والرجاء قال تعالى : من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت العنكبوت : 5 وقال : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا الكهف : 110 وقال تعالى : أولئك الذين يرجون رحمة الله والله غفور رحيم البقره : 218
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول قبل موته بثلاث : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه وفي الصحيح عنه : يقول الله عز و جل : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء
الرجاء حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير وقيل : هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه وقيل : هو الثقه بجود الرب تعالى والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد و الرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل فالأول : كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها والثاني : كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل

قال شاه الكرماني : علامة صحة الرجاء : حسن الطاعة
والرجاء ثلاثة أنواع : نوعان محمودان ونوع غرور مذموم
فالأولان : رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه ورجل أذنب ذنوباثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه
والثالث : رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب
وللسالك نظران : نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف إلى سعة فضل ربه وكرمه وبره ونظر يفتح عليه باب الرجاء
ولهذا قيل في حد الرجاء هو النظر إلى سعة رحمة الله
وقال أبو علي الروذباري الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت
وسئل أحمد بن عاصم : ما علامة الرجاء في العبد فقال : أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر راجيا لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة وتمام عفوه عنه في الآخرة
واختلفوا أي الرجائين أكمل : رجاء المحسن ثواب إحسانه أو رجاء المسىء التائب مفغرة ربه وعفوه
فطائفة رجحت رجاء المحسن لقوة أسباب الرجاء معه وطائفة رجحت رجاء المذنب لأن رجاءه مجرد عن علة رؤية العمل مقرون بذلة رؤية الذنب قال يحيى بن معاذ : يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أصفيها وأحرزها وأنا

بالآفات معروف وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف
وقال أيضا : إلهى أحلى العطايا في قلبي رجاؤك وأعذب الكلام على لساني ثناؤك وأحب الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك

فصل قال صاحب المنازل : الرجاء : أضعف منازل المريدين لأنه
معارضة من وجه واعتراض من وجه وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة وفائدة واحدة نطق بها التنزيل والسنة وتلك الفائدة : هي كونه يبرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس
شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه
أما قوله : الرجاء أضعف منازل المريدين فيعني بالنسبة إلى ما فوقه من المنازل كمنزلة المعرفة والمحبة والإخلاص والصدق والتوكل لا أن مراده ضعف حال هذه المنزلة في نفسها وأنها منزلة ناقصة وأما قوله : لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه فلأنه تعلق بمراد العبد من ربه من الإحسان والثواب والإفضال وقد يكون مراده تعالى من عبده : استيفاء حقه ومعاملته بحكم عدله له لما له في ذلك من الحكمة فإذا أراد العبد منه معاملته بحكم الفضل دخل في نوع معارضة وكأن الراجي تعلق قلبه بما يعارض تصرف المالك فى ملكه وذلك ينافي حكم استسلامه وانقياده وانطراحه بين يدى ربه مستسلما لما يحكم به فيه فرجاؤه معارض لحكمه وإرادته ووقوف مع مراده من سيده وذلك يعارض مراد سيده

منه والمحب الصادق من فني بمراد محبوبه عن مراده منه ولو كان فيه تعذيبه
وأما وجه الاعتراض : فهو أن القلب إذا تعلق بالرجاء ولم يظفر بمرجوه : اعترض حيث لم يحصل له مرجوه ولم يظفر به وإن ظفر به : اعترض حيث فاته غيره ذلك المرجو لأن كل أحد يرجو فضل الله ويحدث نفسه به
وفيه وجه آخر من الاعتراض : وهو أن يعترض على ربه تعالى بما يرجو منه لأن الراجي متمن لما يرجو مؤثر له وذلك اعتراض على القدر مناف لكمال الاستسلام والرضى بما سبق به القضاء فإذا تيقن له أنه سبق القضاء بشيء فإنه لابد أن يناله فعلق قلبه برجاء شيء من الفضل فقد اعترض على القضاء ولم يعرف للاستسلام للحكم حقه وذلك وقوع في الرعونة في مذهب السائرين على درب الفناء الناظرين إلى عين الجمع إذ الرعونة هي الوقوف مع حظ النفس والرجاء هو الوقوف مع الحظ لأنه يتعلق بالحظوظ
وأصحاب هذه الطريقة أول طريقهم : الخروج عن نفوسهم فضلا عن حظوظها لأنهم عاملون على أن يكونوا بالله لا بنفوسهم فغاية المحب : أن يرضى بأحكام محبوبه عليه ساءته أم سرته حتى يبلغ بأحدهم هذا الحال إلى أن ينشد :
أحبك لا أحبك للثواب ... ولكني أحبك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
ولو كان نفس تلذذه بالعذاب مقصوده من العذاب : لكان أيضا واقفا مع حظه ولكن أراد أن رضاه بمراد محبوبه منه ولو كان عذابه لم يدع فيه للرجاء موضعا ولا للخوف بل يقول : أنا أحب ما تريده بي لو أنه عذابي وقد كشف بعض المغرورين عن هذا بقوله :

وتعذيبي مع الهجران عندي ... أحب إلي من طيب الوصال
لأني في الوصال عبيد حظي ... وفي الهجران عبد للموالي
فأخبر أن التعذيب بالهجران أحب إليه من طيب الوصال لكون الوصال فيه ما تشتهيه النفس وأما التعذيب : فليس للنفس فيه مقصود
ثم أخبر أنه لم يأت في القرآن والسنة إلا لفائدة واحدة وهي تبريده لحرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى الإياس
وهذا وجه كلامه وحمله على أحسن المحامل فيقال : هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس إحداهما : حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم مطلقا وهذا عدوان وإسراف فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها

والطائفة الثانية : حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانها فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها واستظهروا بها في سلوكهم
وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون
والطائفة الثالثة وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد
وهذه الشطحات ونحوها هي التي حذر منها سادات القوم وذموا عاقبتها وتبرؤا منها حتى ذكر أبو القاسم القشيرى فى رسالته : أن أبا سليمان الداراني رؤى بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك فقال : غفر لي وما كان شيء أضر علي من إشارات القوم
وقال أبو القاسم : سمعت أبا سعيد الشحام يقول : رأيت أبا سهل الصعلوكي في المنام فقلت له : أيها الشيخ فقال : دع التشييخ فقلت : وتلك الأحوال فقال : لم تغن عنا شيئا فقلت : ما فعل الله بك قال : غفر لي بمسائل كانت تسأل عنها العجائز
وذكر عن الجريري : أنه رأى الجنيد في المنام بعد موته فقال : كيف حالك يا أبا القاسم فقال : طاحت تلك الإشارات وفنيت تلك العبارات وما نفعنا إلا تسبيحات كنا نقولها بالغدوات
وقال أبو سليمان الداراني : تعرض علي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل : الكتاب والسنة وقال الجنيد : مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب

الحديث لا يقتدي به في طريقنا
هذا إلى غير ذلك من الأقوال التي وردت عنهم رضي الله عنهم
فأما قوله : الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا الأحزاب : 21
وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي فيما يروي عن ربه عز و جل : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : يقول الله عز و جل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة رواه مسلم
وقد أخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله تعالى : أنهم كانوا راجين له خائفين منه فقال تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا الإسراء : 5957

يقول تعالى : هؤلاء الذين تدعونهم من دوني : هم عبادي يتقربون إلي بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تدعونهم من دوني فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم : من الحب والخوف والرجاء
قوله : لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه يقال : وهو عبودية وتعلق بالله من حيث اسمه المحسن البر فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله : هو الذي أوجب للعبد الرجاء من حيث يدري ومن حيث لا يدري فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات ولى من أبيات :
لولا التعلق بالرجاء تقطعت ... نفس المحب تحسرا وتمزقا
وكذاك لولا برده بحرارة ال ... كباد ذابت بالحجاب تحرقا
أيكون قط حليف حب لا يرى ... برجائه لحبيبه متعلقا
أم كلما قويت محبته له ... قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا
لولا الرجا يحدو المطي لما سرت ... بحمولها لديارهم ترجو اللقا
وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء وكل محب راج خائف بالضرورة فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه وكذلك خوفه فإنه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإبعاده واحتجابه عنه فخوفه أشد خوف ورجاؤه ذاتي للمحبة فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه وبره وإقباله عليه ونظره إليه بعين الرضى وتأهيله في محبته وغير ذلك مما

لا حياة للمحب ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه فرجاؤه أعظم رجاء وأجله وأتمه
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه لكن خوف المحب لا يصحبه وحشه بخلاف خوف المسىء ورجاء المحب لا يصحبه علة بخلاف رجاء الأجير وأين رجاء المحب من رجاء الأجير وبينهما كما بين حاليهما
وبالجملة : فالرجاء ضرورى للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو اصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها فكيف يكون الرجاء من أضعف منازله وهذا حاله وأما حديث المعارضة والاعتراض فباطل فإن الراجي ليس معارضا ولا معترضا بل راغبا راهبا مؤملا لفضل ربه محسن الظن به متعلق الأمل ببره وجوده عابدا له بأسمائه المحسن البر المعطي الحليم الغفور الجواد الوهاب الرزاق والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يرجوه ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به و الرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه بل هو من أقوى الأسباب ولو تضمن معارضة واعتراضا لكان ذلك في الدعاء والمسألة أولى فكان دعاء العبد ربه وسؤاله أن يهديه ويوفقه ويسدده ويعينه على طاعته ويجنبه معصيته ويغفر ذنوبه ويدخله الجنة وينجيه من النار معارضة واعتراضا لأن الداعي راج وطالب ما يرجوه فهو أولى حينئذ بالمعارضة والاعتراض

والذي أوجب للشيخ هذا القدر : الاسترسال في القدر والفناء في شهود الحقيقة الكونية فإنه من الراسخين فيه الذين لا تأخذهم فيه لومة لائم وهو شديد فى إنكار الأسباب وهذا موضع زلت فيه أقدام أئمة أعلام
ولولا أن حق الحق أوجب من حق الخلق لكان في الإمساك فسحة ومتسع وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك في ملكه فإنه إنما يرجو تصرفه في ملكه أيضا بما هو أولى وأحب الأمرين إليه فإن الفضل أحب إليه من العدل والعفو أحب إليه من الانتقام والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء والترك أحب إليه من الاستيفاء ورحمته غلبت غضبه
فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له المرضي له فلم يوجب رجاؤه خروجه عن تصرفه في ملكه بل اقتضى عبوديته وحصول أحب التصرفين إليه وهو سبحانه وتعالى لا ينتفع باستيفاء حقه وعقوبة عبده حتى يكون رجاؤه مبطلا لذلك وإنما العبد استدعى العقوبة وأخذ الحق منه لشركه بالله وكفره به واجتهاده في غضبه ولغضبه موجبات وآثار ومقتضيات والعبد مؤثر لها ساع في تحصيلها عامل عليها بإيثاره إياها وسعيه في أسبابها فهو المهلك لنفسه وربه يحذره ويبصره ويناديه : هلم إلي أحمك وأصنك وأنجك مما تحذر وأؤمنك من كل ما تخاف وهو يأبى إلا شرودا عليه ونفارا عنه ومصالحة لعدوه ومظاهرة له على ربه متطلب لمرضاة خلقه بمساخطه رضى المخلوق آثر عنده من رضى خالقه وحقه آكد عنده من حقه وخوفه ورجاؤه وحبه في قلبه أعظم من خوفه من الله ورجائه وحبه فلم يدع لفضل ربه وكرامته وثوابه إليه طريقا بل سد دونه طرق مجاريها بجهده وأعطى بيده لعدوه فصالحه وسمع له وأطاع وانقاد إلى مرضاته فجاء من الظلم بأقبحه وأشده
فهو الذي عارض مراده به منه بمراده وهواه وشهوته واعترض لمحابه ومراضيه بالدفع ولم يأذن لها في الدخول عليه فأضاع حظه وبخس حقه وظلم نفسه

وعادى حبيبه ووالى عدوه وأسخط من حياته في رضاه وأرضى من حياته في سخطه وجاد بنفسه لعدوه وبخل بها عن حبيبه ووليه
والرب تبارك وتعالى ليس له ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته ولا يتشفى بعقابه ولا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة ولا ينقص مغفرته ولو غفر لأهل الأرض كلهم لما نقص مثقال ذرة من ملكه كيف والرحمة أوسع من العقوبة وأسبق من الغضب وأغلب له وهو قد كتب على نفسه الرحمة فرجاء العبد له لا ينقص شيئا من حكمته ولا ينقص ذرة من ملكه ولا يخرجه عن كمال تصرفه ولا يوجب خلاف كمال ولا تعطيل أوصافه وأسمائه ولولا أن العبد هو الذي سد على نفسه طرق الخيرات وأغلق دونها أبواب الرحمة بسوء اختياره لنفسه : لكان ربه له فوق رجائه وفوق أمله
وأما استسلام العبد لربه واستسلامه بانطراحه بين يديه ورضاه بمواقع حكمه فيه : فما ذاك إلا رجاء منه أن يرحمه ويقيله عثرته ويعفو عنه ويقبل حسناته مع عيوب أعماله وآفاتها ويتجاوز عن سيئاته فقوة رجائه أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد والانطراح بالباب ولا يتصور هذا بدون الرجاء ألبتة فالرجاء حياة الطلب والإرادة روحها
وأما رضاه بمراده منه وإن عذبه : فهذا هو الرعونة كل الرعونة فإن مراده سبحانه نوعان : مراد يحبه ويرضاه ويمدح فاعله ويواليه فموافقته في هذا المراد : هي عين محبته وإرادة خلافه رعونة ومعارضة واعتراض ومراد يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ويعاديه فموافقته في هذا المراد : عين مشاقته ومعاداته ومخالفته والتعرض لمقته وسخطه
فهذا الموضع موضع فرقان فالموافقة كل الموافقة معارضة هذا المراد واعتراضه بالدفع والرد بالمراد الآخر
فالعبودية الحق : معارضة مراده بمراده ومزاحمة أحكامه بأحكامه

فاستسلامه لهذا المراد المكروه المسخوط وما يوجبه ويقتضيه : عين الرعونة والخروج عن العبودية وهو عين الدعوى الكاذبة إذ لو كان مصدر ذلك الاستسلام والموافقة وترك الاعتراض والمعارضة لكان ذلك مخصوصا بمحابه ومراضيه وأوامره التي الاستسلام لها والموافقة فيها وترك معارضتها والاعتراض عليها هو عين المحبة والموالاة
وأما الفناء بمراد ربه : فقد تقدم أن المحمود من هو ذلك : الفناء بمراده الديني الأمري لا الكوني القدري فإن الكون كله مراده القدري خيره وشره
وأما تعلق الرجاء بمراده دون مراد سيده : فهو إنما علقه بمراده المحبوب له هاربا من مراده المسخوط المكروه له وعلى تقدير أن يكون محبوبا له إذا كان انتقاما فالعفو والفضل أحب إليه منه فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه
وأما كون الرجاء اعتراضا على ما سبق به الحكم : فليس كذلك بل تعلقا بما سبق به الحكم فإنه إنما يرجو فضلا وإحسانا ورحمة سبق بها القضاء والقدر وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها فليس الرجاء اعتراضا على القدر ولا معارضة للقدر بل طلبا لما سبق به القدر
وأما اعتراضه إذا لم يحصل له مرجوه : فهذا نقص في العبودية وجهل بحق الربوبية فإن الراجي والداعي يرجو ويدعو فضلا لا يستحقه ولا يستوجبه بمعاوضة فإن أعطيه فمحض المنة والصدقة عليه وإن منعه فلم يمنع حقا هو له فاعتراضه رعونة وجهالة ولا يلزم من فوات المرجو أو عدم حصول المدعو به في حق العبد الصادق : معارضة ولا اعتراض
وقد سأل رسول الله ربه تبارك وتعالى ثلاث خصال لأمته فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة فرضي بما أعطاه ولم يعترض فيما منعه بل رضي وسلم

وأما كون الرجاء وقوفا مع الحظ وأصحاب هذه الطريقة قد خرجوا عن نفوسهم فكيف حظوظهم
فيا لله العجب أي رعونة فيمن يجعل رجاء العبد ربه وطمعه في بره وإحسانه وفضله وسؤاله ذلك بقلبه ولسانه فإن الرجاء هو استشراف القلب لنيل ما يرجوه فإذا كان العبد دائما مستشرفا بقلبه سائلا بلسانه طالبا لفضل ربه فأي رعونة ههنا وهل الرعونة كل الرعونة إلا خلاف ذلك
ومن العجب : دعواهم خروجهم عن نفوسهم وهم أعظم الناس عبادة لنفوسهم وليس الخارج عن نفسه إلا من جعلها حبسا على مراد الله الديني الأمري النبوي وبذلها لله في إقامة دينه وتنفيذه بين أهل العناد والمعارضة والبغي فانغمس فيهم يمزقون أديمه ويرمونه بالعظائم ويخيفونه بأنواع المخاوف ويتطلبون دمه بجهدهم لا تأخذه في جهادهم في الله لومة لائم يصدع بالحق عند من يخافه ويرجوه قد زهد في مدحهم وثنائهم وتعظيمهم وتشييخهم له وتقبيل يده وقضاء حوائجه يصيح فيهم بالنصائح جهارا ويعلن لهم بها ويسر لهم إسرارا قد تجرد عن الأوضاع والقيود والرسوم وتعلق بمراضي الحي القيوم مقامه ساعة في جهاد أعداء الله ورباطه ليلة على ثغر الإيمان آثر عنده وأحب إليه من فناء ومشاهدات وأحوال هي أعظم عيش النفس وأعلى قوتها وأوفر حظها ويزعم أنه قد خرج عن نفسه فكيف حظها ولعله قد خرج عن مراد ربه من عبوديته إلى عين مراده وهو حظه ولو فتش نفسه لرأى ذلك فيها عيانا
وهل الرعونة كل الرعونة إلا دعواه : أنه يحب ربه لعذابه لا لثوابه وأنه إذا أحبه وأطاعه للثواب كان ذلك حظا وإيثارا لمراد النفس بخلاف ما إذا أحبه وأطاعه ليعذبه فإنه لاحظ للنفس في ذلك

فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج وماذا يلعب الشيطان بالنفوس وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة لمحتاجة إلى سؤال المعافاة
فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين وسؤالهم ربهم على أحوال هؤلاء الغالطين الذين مرجت بهم نفوسهم ثم قايس بينهما وانظر التفاوت
فأين هذا من دعاء النبي : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقوله لعمه العباس رضي الله عنه : يا عباس ! يا عم رسول الله سل الله العافية وقوله للصديق الأكبر رضي الله عنه وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم وقوله لصديقة النساء وقد سألته دعاء تدعو به إن وافقت ليلة القدر فقال : قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني وقوله في دعائه الذي كان لا يدعه : وإن دعا بدعاء أردفه به : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وقد أثنى الله تعالى على خاصته وهم أولو الألباب بأنهم سألوه : أن يقيهم عذاب النار فقالوا : ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار آل عمران : 191 وقال لأم حبيبة لو سألت الله أن يجيرك من عذاب النار لكان خيرا لك وكان يستعيذ كثيرامن عذاب النار ومن عذاب القبر وأمر المسلمين : أن يستعيذوا في تشهدهم من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال حتى قيل : إن هذا الدعاء واجب في الصلاة لا تصح إلا به وهذا أعظم من أن نستقصيه ودخل رسول الله على مريض يعوده فرآه مثل الفرخ

فقال : ما كنت تدعو به فقال : كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا فقال : سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا سألت الله العفو والعافية
وفي المسند عنه قال : ما سئل الله شيئا أحب إليه من سؤال العفو والعافية وقال لبعض أصحابه : ما تقول إذا صليت فقال : أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال رسول الله : إنا حولها ندندن
فأين هذا من حال من قال : لا أحبك لثوابك لأنه عين حظي وإنما أحبك لعقابك لأنه لاحظ لي فيه والرجاء عين الحظ ونحن قد خرجنا عن نفوسنا فما لنا وللرجاء
فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم : إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله كالسكران ونحوه ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده
ولكن الذي ينكر كون هذا من الأحوال الصحيحة والمقامات العلية التي يتعاطاها العبد ويشمر إليها فهذا الذي لا تلبس عليه الثياب ولا تصبر عليه نفوس العلماء وحاشا سادات القوم وأئمتهم من هذه الرعونات بل هم أبعد الناس منها نعم قد يعرض لأحدهم حال يحدث نفسه فيه بأنه لو عذبه لكان راضيا بعذابه كرضى صاحب الثواب بثوابه ويعزم على ذلك بقلبه ولكن هذا عزم وأمنية وعند الحقيقة لا يكون لذلك أثر ألبتة ولو امتحنه بأدنى محنة لصاح واستغاث وسأل العافية كما جرى للقائل وهو سمنون

وليس لي من هواك بد فكيفما شئت فامتحني فامتحنه بعسر البول فطاحت هذه الدعوى عنه واضمحل حالها وجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول : ادعوا لعمكم الكذاب
فالعزم على الرضى لون وحقيقته لون آخر
وأما قوله : وإنما نطق به التنزيل لفائدة وهي كونه يبرد حرارة الخوف فيقال : بل لفوائد كثيرة أخر مشاهدة
منها : إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من إحسانه وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين
ومنها : أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه ويسألوه من فضله لأنه الملك الحق الجواد أجود من سئل وأوسع من أعطى وأحب ما إلى الجواد : أن يرجى ويؤمل ويسأل وفي الحديث : من لم يسأل الله يغضب عليه والسائل راج وطالب فمن لم يرج الله يغضب عليه
فهذه فائدة أخرى من فوائد الرجاء وهي التخلص به من غضب الله
ومنها : أن الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله ويطيب له المسير ويحثه عليه ويبعثه على ملازمته فلولا الرجاء لما سار أحد فإن الخوف وحده لا يحرك العبد وإنما يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء
ومنها : أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة ويلقيه في دهليزها فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله تعالى وشكرا له ورضى به وعنه
ومنها : أنه يبعثه على أعلى المقامات وهو مقام الشكر الذي هو خلاصة العبودية فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره
ومنها : أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعلق بها فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى متعبدبها وداع بها قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف : 180 فلا ينبغي أن يعطل دعاؤه بأسمائه الحسنى التي

هي أعظم ما يدعو بها الداعي فالقدح في مقام الرجاء تعطيل لعبودية هذه الأسماء وتعطيل للدعاء بها
ومنها : أن المحبة لا تنفك عن الرجاء كما تقدم فكل واحد منهما يمد الآخر ويقويه
ومنها : أن الخوف مستلزم للرجاء والرجاء مستلزم للخوف فكل راج خائف وكل خائف راج ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف قال الله تعالى : مالكم لاترجون لله وقارا نوح : 13 قال كثير من المفسرين : المعنى مالكم لا تخافون لله عظمة قالوا : والرجاء بمعنى الخوف 2
والتحقيق : أنه ملازم له فكل راج خائف من فوات مرجوه والخوف بلا رجاء يأس وقنوط وقال تعالى : قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله الجاثيه : 14 قالوا في تفسيرها : لا يخافون وقائع الله بهم كوقائعه بمن قبلهم من الأمم
ومنها : أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه فأعطاه ما رجاه : كان ذلك ألطف موقعا وأحلى عند العبد وأبلغ من حصول ما لم يرجه وهذا أحد الأسباب والحكم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم
ومنها : أن الله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته : من الذل والانكسار والتوكل والاستعانة والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضى والإنابة وغيرها ولهذا قدر عليه الذنب وابتلاه به لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة التي هي من أحب عبوديات عبده إليه فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف
ومنها : أن في الرجاء من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله ما يوجب تعلق القلب بذكره ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته وتنقل القلب في رياضها الأنيقة وأخذه بنصيبه من كل اسم وصفة كما تقدم بيانه فإذا فني عن

ذلك وعاب عنه فاته حظه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصفات
إلى فوائد أخرى كثيرة يطالعها من أحسن تأمله وتفكره في استخراجها وبالله التوفيق
والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ويعلي درجته ويجزيه أفضل جزائه ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل كيف وقد نفعه الله بكلامه وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناما
وهذا غاية جهد المقل في هذا الموضع فمن كان عنده فضل علم فليجد به أو فليعذر ولا يبادر إلى الإنكار فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان وهو يقول له : أحطت بما لم تحط به النمل : 22 وليس شيخ الإسلام أعلم من نبي الله ولا المعترض

فصل قال صاحب المنازل الرجاء على ثلاث درجات الدرجة الأولى :
رجاء يبعث العامل على الاجتهاد ويولد التلذذ بالخدمة ويوقظ الطباع للسماحة بترك المناهي
أي ينشطه لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه فإن من عرف قدر مطلوبه هان عليه ما يبذل فيه
وأما توليده للتلذذ بالخدمة : فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره ويقاسي مشاق السفر لأجلها فكلما صورها لقلبه هانت عليه تلك المشاق والتذ بها وكذلك المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه كلما تأمل ثمرة رضاه عنه وقبوله سعيه وقربه منه : تلذذ بتلك المساعي وكلما قوى علم العبد بإفضاء ذلك السبب إلىعليه بأجهل من هدهد وبالله المستعان وهو أعلم
فصل قال صاحب المنازل قدس الله روحه : الرجاء على ثلاث درجات الدرجة
الأولى : رجاء يبعث العامل على الاجتهاد ويولد التلذذ بالخدمة ويوقظ الطباع للسماحة بترك المناهي أي ينشطه لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه فإن من عرف قدر مطلوبه هان عليه ما يبذل فيه وأما توليده للتلذذ بالخدمة : فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره ويقاسي مشاق السفر لأجلها فكلما صورها لقلبه هانت عليه تلك المشاق والتذ بها وكذلك المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه كلما تأمل ثمرة رضاه عنه وقبوله سعيه وقربه منه : تلذذ بتلك المساعي وكلما قوى علم العبد بإفضاء ذلك السبب إلى

المسبب المطلوب وقوي علمه بقدر المسبب وقرب السبب منه : ازداد التذاذا بتعاطيه
وأما إيقاظ الطباع للسماحة بترك المناهي : فإن الطباع لها معلوم ورسوم تتقاضاها من العبد ولا تسمح له بتركها إلا بعوض هو أحب إليها من معلومها ورسومها وأجل عندها منه وأنفع لها فإذا قوي تعلق الرجاء بهذا العوض الأفضل الأشرف : سمحت الطباع بترك تلك الرسوم وذلك المعلوم فإن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليها منه أو حذرا من مخوف هو أعظم مفسدة لها من حصول مصلحتها بذلك المحبوب وفي الحقيقة ففرارها من ذلك المخوف إيثار لضده المحبوب لها فما تركت محبوبا إلا لما هو أحب إليها منه فإن من قدم إليه طعام لذيذ يضره ويوجب له السقم فإنما يتركه محبة للعافية التي هي أحب إليه من ذلك الطعام
قال : الدرجة الثانية : رجاء أرباب الرياضات : أن يبلغوا موقفا تصفو فيه همهم برفض الملذوذات ولزوم شروط العلم واستقصاء حدود الحمية
أرباب الرياضات : هم المجاهدون لأنفسهم بترك مألوفاتها والاستبدال بها مألوفات هي خير منها وأكمل فرجاؤهم أن يبلغوا مقصودهم بصفاء الوقت والهمة من تعلقها بالملذوذات وتجريد الهم عن الالتفات إليها وبلزوم شروط العلم وهو الوقوف عند حدود الأحكام الدينية فإن رجاءهم متعلق بحصول ذلك لهم واستقصاء حدود الحمية
و الحمية العصمة والامتناع من تناول ما يخشى ضرره آجلا أو عاجلا وله حدود متى خرج العبد عنها انتقض عليه مطلوبه والوقوف على حدودها بلزوم شروط العلم
والاستقصاء في تلك الحدود بأمرين : بذل الجهد في معرفتها علما وأخذ النفس بالوقوف عندها طلبا وقصدا

قال : الدرجة الثالثة : رجاء أرباب القلوب وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق المبغض المنغص للعيش المزهد في الخلق هذا الرجاء أفضل أنواع الرجاء وأعلاها قال الله تعالى : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا الكهف : 110 وقال تعالى : من كان يرجون لقاء الله فإن أجل الله لآت العنكبوت :
وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته وإليه شخصت أبصار المشتاقين ولذلك سلاهم الله تعالى بإتيان أجل لقائه وضرب لهم أجلا يسكن نفوسهم ويطمئنها
و الاشتياق هو سفر القلب في طلب محبوبه واختلف المحبون : هل يبقى عند لقاء المحبوب أم يزول على قولين
فقالت طائفة : يزول لأنه إنما يكون مع الغيبة وهو سفر القلب إلى المحبوب فإذا انتهى السفر واجتمع بمحبوبه وضع عصا الاشتياق عن عاتقه وصار الاشتياق أنسا به ولذة بقربه وقالت طائفة : بل يزيد ولا يزول باللقاء قالوا : لأن الحب يقوى بمشاهدة جمال المحبوب أضعاف ما كان حال غيبته وإنما يواري سلطانه فناؤه ودهشته بمعاينة محبوبه حتى إذا توارى عنه ظهر سلطان شوقه إليه ولهذا قيل :
وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة وتوابعها في كتابنا الكبير في المحبة وفي كتاب سفر الهجرتين وسنعود إليها إذا انتهينا إلى منزلتها إن شاء الله تعالى
وقوله : المنغص للعيش فلا ريب أن عيش المشتاق منغص حتى يلقى محبوبه فهناك تقر عينه ويزول عن عيشه تنغيصه وكذلك يزهد في الخلق غاية التزهيد لأن صاحبه طالب للأنس بالله والقرب منه فهو أزهد شيء في الخلق

إلا من أعانه على هذا المطلوب منهم وأوصله إليه فهو أحب خلق الله إليه ولا يأنس من الخلق بغيره ولا يسكن إلى سواه فعليك بطلب هذا الرفيق جهدك فإن لم تظفر به فاتخذ الله صاحبا ودع الناس كلهم جانبا
مت بداء الهوى وإلا فخاطر ... واطرق الحي والعيون نواظر
لا تخف وحشة الطريق إذا جئ ... ت وكن في خفارة الحب سائر
واصبر النفس ساعة عن سواهم ... فإذا لم تجب لصبر فصابر
وصم اليوم واجعل الفطر يوما ... فيه تلقى الحبيب بالبشر شاكر
وافطم النفس عن سواه فكل ال ... عيش بعد الفطام نحوك صائر
وتأمل سريرة القلب واستح ... ي من الله يوم تبلى السرائر
واجعل الهم واحدا يكفك الل ... ه هموما شتى فربك قادر
وانتظر يوم دعوة الخلق إلى الل ... ه ربهم من بطون المقابر
واستمع ما الذي به أنت تدعي ... به من صفات تلوح وسط المحاضر
وسمات تبدو على أوجه الخل ... ق عيانا تجلى على كل ناظر
يا أخا اللب إنما السير عزم ... ثم صبر مؤيد بالبصائر
يالها من ثلاثة من ينلها ... يرق يوم المزيد فوق المنابر
فاجتهد في الذي يقال لك ال ... بشرى بذا يوم ضرب البشائر
عمل خالص بميزان وحي ... مع سر هناك في القلب حاضر

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرغبة قال الله عز
وجل : يدعوننا رغبا ورهبا الأنبياء : 90 والفرق بين الرغبة و الرجاء أن الرجاء طمع والرغبة طلب فهي ثمرة الرجاء فإنه إذا رجا الشيء طلبه والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه ومن خاف شيئا هرب منه

والمقصود : أن الراجي طالب والخائف هارب قال صاحب المنازل : الرغبة : هي من الرجاء بالحقيقة لأن الرجاء طمع يحتاج إلى تحقيق والرغبة سلوك على التحقيق أي الرغبة تتولد من الرجاء لكنه طمع وهي سلوك وطلب وقوله : الرجاء طمع يحتاج إلى تحقيق أي طمع في مغيب عنه مشكوك في حصوله وإن كان متحققا في نفسه كرجاء العبد دخول الجنة فإن الجنة متحققة لا شك فيها وإنما الشك في دخوله إليها وهل يوافي ربه بعمل يمنعه منها أم لا بخلاف الرغبة فإنها لا تكون إلا بعد تحقق ما يرغب فيه فالإيمان في الرغبة أقوى منه في الرجاء فلذلك قال والرغبة سلوك على التحقيق هذا معنى كلامه وفيه نظر
فإن الرغبة أيضا طلب مغيب هو على شك من حصوله فإن المؤمن يرغب في الجنة وليس بجازم بدخولها فالفرق الصحيح : أن الرجاء طمع و الرغبة طلب فإذا قوي الطمع صار طلبا
قال : والرغبة على ثلاث درجات الدرجة الأولى : رغبة أهل الخبر تتولد من العلم فتبعث على الاجتهاد المنوط بالشهود وتصون السالك عن وهن الفترة وتمنع صاحبها من الرجوع إلى غثاثة الرخص
أراد بالخبر ههنا الإيمان الصادر عن الأخبار ولهذا جعل تولدها من العلم ولكن هذا الإيمان متصل بمنزلة الإحسان منه يشرف عليه ويصل إليه ولهذا قال : المنوط بالشهود أي المقترن بالشهود وذلك الشهود : هو مشهد مقام الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه ولا مشهد للعبد في الدنيا أعلى من هذا وعند كثير من الصوفية أن فوقه مشهدا أعلى منه وهو شهود الحق مع

غيبته عن كل ما سواه وهو مقام الفناء وقد عرفت ما فيه
ولو كان فوق مقام الإحسان مقام آخر لذكره النبي لجبريل ولسأله جبريل عنه فإنه جمع مقامات الدين كلها في الإسلام والإيمان والإحسان نعم الفناء المحمود : هو تحقيق مقام الإحسان وهو أن يفنى بحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وعبادته والتبتل إليه عن غيره وليس فوق ذلك مقام يطلب إلا ما هو من عوارض الطريق
قوله : وتصون السالك عن وهن الفترة أي تحفظه عن وهن فتوره وكسله الذى سببه عدم الرغبة أو قلتها وقوله : وتمنع صاحبها من الرجوع إلى غثاثه الرخص أهل العزائم بناء أمرهم على الجد والصدق فالسكون منهم إلى الرخص رجوع وبطالة
وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل ليس على إطلاقه فإن الله عز و جل يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه وفي المسند مرفوعا إلى النبي : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته فجعل الأخذ بالرخص قبالة إتيان المعاصي وجعل حظ هذا : المحبة وحظ هذا : الكراهية و ما عرض للنبي أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما والرخصة أيسر من العزيمة وهكذا كان حاله في فطره وسفره وجمعه بين الصلاتين والاقتصار من الرباعية على ركعتين وغير ذلك فنقول :
الرخصة نوعان أحدهما : الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصا كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة وإن قيل لها : عزيمة باعتبار الأمر والوجوب فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة وكفطر المريض والمسافر وقصر الصلاة في السفر وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعدا وفطر الحامل والمرضع خوفا على ولديهما ونكاح الأمة خوفا من العنت ونحو ذلك فليس في

تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته ولا يرد إلى غثاثة ولا ينقص طلبه وإرادته ألبتة فإن منها ما هو واجب كأكل الميتة عند الضرورة ومنها ما هو راجح المصلحة كفطر الصائم المريض وقصر المسافر وفطره ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره ففيه مصلحتان قاصرة ومتعدية كفطر الحامل والمرضع
ففعل هذه الرخص أرجح وأفضل من تركها النوع الثاني : رخص التأويلات واختلاف المذاهب فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة ويوهن الطلب ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص
فإن من ترخص بقول أهل مكة في الصرف وأهل العراق في الأشربة وأهل المدينة في الأطعمة وأصحاب الحيل في المعاملات وقول ابن عباس في المتعة وإباحة لحوم الحمر الأهلية وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء وجوز أن يكون زوج قحبة وقول من أباح آلات اللهو والمعازف : من اليراع والطنبور والعود والطبل والمزمار وقول من أباح الغناء وقول من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء وقول من جوز للصائم أكل البرد وقال : ليس بطعام ولا شراب وقول من جوز الأكل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم وقول من صحح الصلاة بمدهامتان بالفارسية وركع كلحظة الطرف ثم هوى من غير اعتدال وفصل بين السجدتين بارتفاع كحد السيف ولم يصل على النبي وخرج من الصلاة بحبقة وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن ونكاح بنته المخلوقة من مائه الخارجة من صلبه حقيقة إذا كان ذلك الحمل من زني وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء فهذا الذي تنقص بترخصه رغبته ويوهن طلبه ويلقيه في غثاثة الرخص فهذا لون والأول لون
قال : الدرجة الثانية : رغبة أرباب الحال وهي رغبة لا تبقي من المجهود مبذولا ولا تدع للهمة ذبولا ولا تترك غير القصد مأمولا
يعني أن الرغبة الحاصلة لأرباب الحال : فوق رغبة أصحاب الخبر لأن صاحب

الحال كالمضطر إلى رغبته وإرادته فهو كالفراش الذي إذا رأى النور ألقى نفسه فيه ولا يبالي ما أصابه فرغبته لا تدع من مجهوده مقدورا له إلا بذله ولا تدع لهمته وعزيمته فترة ولا خمودا وعزيمته في مزيد بعدد الأنفاس ولا تترك في قلبه نصيبا لغير مقصوده وذلك لغلبة سلطان الحال
وصاحب هذه الحال لا يقاومه إلا حال مثل حاله أو أقوى منه ومتى لم يصادفه حال تعارضه فله من النفوذ والتأثير بحسب حاله
قال : الدرجة الثالثة : رغبة أهل الشهود وهي تشرف يصحبه تقية تحمله عليها همة نقية لا تبقي معه من التفرق بقية
يشير الشيخ بذلك إلى حالة الفناء التي يحمله عليها همة نقية من أدناس الالتفات إلى ما سوى الحق بحيث لا يبقى معه بقية من تفرقة بل قد اجتمع شاهده كله وانحصر في مشهوده وأراد بالشهود ههنا شهود الحقيقة
وقوله : تشرف أي استشرف الغيبة في الفناء
ويحتمل أن يريد به تشرفا عن التفاته إلى ما سوي مشهوده
و التقية التي تصحب هذا التشرف : يحتمل أن يريد بها التقية من إظهار الناس على حاله وإطلاعهم عليها صيانة لها وغيرة عليها
ويحتمل أن يريد بها الحذر من التفاته في شهوده إلى ما سوى حضرة مشهوده فهي تتقي ذلك الالتفات وتحذره كل الحذر
ثم ذكر الحامل له على هذه الرغبة وهي اللطيفة المدركة المريدة التي قد تطهرت قبل وصولها إلى هذه الغاية وهي الهمة النقية ولو لم يحصل لها كمال الطهارة لبقيت عليها بقية منها تمنعها من وصولها إلى هذه الدرجة والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرعاية وهي مراعاة
العلم وحفظه بالعمل ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص وحفظه من المفسدات ومراعاة الحال بالموافقة وحفظه بقطع التفريق فالرعاية صيانة وحفظ ومراتب العلم والعمل ثلاثة رواية وهي مجرد النقل وحمل المرويو دراية وهي فهمه وتعقل معناه ورعاية وهي العمل بموجب ما عمله ومقتضاه
فالنقلة همتهم الرواية والعلماء همتهم الدراية والعارفون همتهم الرعاية وقد ذم الله من لم يرع ما اختاره وابتدعه من الرهبانية حق رعايته فقال تعالى وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتباها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها الحديد :
رهبانية منصوب بابتدعوها على الاشتغال إما بنفس الفعل المذكور على قول الكوفيين وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور على قول البصريين أي وابتدعوا رهبانية وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه فالوقف التام عند قوله : ورحمة ثم يبتدىء ورهبانية ابتدعوها أي لم نشرعها لهم بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ولم نكتبها عليهم
وفي نصب قوله : إلا ابتغاء رضوان الله ثلاثة أوجه
أحدها : أنه مفعول له أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وهذا فاسد فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه كيف وقد أخبر : أنهم هم ابتدعوها فهي مبتدعة غير مكتوبة وأيضا فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه فيتحد السبب والغاية نحو : قمت إكراما فالقائم هو المكرم وفعل الفاعل المعلل ههنا هو الكتابة و ابتغاء رضوان الله فعلهم لا فعل الله فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله لاختلاف الفاعل

وقيل : بدل من مفعول كتبناها أي ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله
وهو فاسد أيضا إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية فتكون بدل الشيء من الشيء ولا بعضها فتكون بدل بعض من كل ولا أحدهما مشتمل على الآخر فتكون بدل اشتمال وليس بدل غلط
فالصواب : أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع أي لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله ودل على هذا قوله : ابتدعوها ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية وأنه هو طلب رضوان الله ثم ذمهم بترك رعايتها إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة بإتمامها وجعلوا التزامها بالشروع كالتزامها بالنذر كما قال : أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو إجماع أو كالإجماع في أحد النسكين
قالوا : والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول فكما يجب عليه رعاية ما التزمه بالنذر وفاء يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة
والقصد : أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله ورضيها لعباده وأذن بها وحث عليها

فصل قال صاحب المنازل : الرعاية : صون بالعناية وهي على ثلاث درجات
الدرجة الأولى : رعاية الأعمال والثانية : رعاية الأحوال والثالثة : رعاية الأوقات فأما رعاية الأعمال : فتوفيرها بتحقيرها والقيام بها من غير نظر إليها وإجراؤها على مجرى العلم لا على التزين بها أما قوله صون بالعناية أي حفظ بالاعتناء والقيام بحق الشيء الذي يرعاه ومنه راعي الغنم وقوله أما رعاية الأعمال : فتوفيرها بتحقيرها فالتوفير : سلامة من طرفي التفريط بالنقص والإفراط بالزيادة على الوجه المشروع في حدودها وصفاتها وشروطها وأوقاتها وأما تحقيرها : فاستصغارها في عينه واستقلالها وأن ما يليق بعظمة الله وجلاله وحقوق عبوديته أمر آخر وأنه لم يوفه حقه وأنه لا يرضى لربه بعمله ولا بشيء منه
وقد قيل : علامة رضي الله عنك : إعراضك عن نفسك وعلامة قبول عملك : احتقاره واستقلاله وصغره في قلبك حتى إن العارف ليستغفر الله عقيب طاعته وقد كان رسول الله إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا وأمر الله عباده بالاستغفار عقيب الحج ومدحهم على الاستغفار عقيب قيام الليل وشرع النبي عقيب الطهور التوبة والاستغفار
فمن شهد واجب ربه ومقدار عمله وعيب نفسه : لم يجد بدا من استغفار ربه منه واحتقاره إياه واستصغاره وأما القيام بها فهو توفيتها حقها وجعلها قائمة كالشهادة القائمة والصلاة القائمة والشجرة القائمة على ساقها التي ليست بساقطة

وقوله : من غير نظر إليها أي من غير أن يلتفت إليها ويعددها ويذكرها مخافة العجب والمنة بها فيسقط من عين الله ويحبط عمله
وقوله : وإجراؤها على مجرى العلم هو أن يكون العمل على مقتضى العلم المأخوذ من مشكاة النبوة إخلاصا لله وإرادة لوجهه وطلبا لمرضاته لا على وجه التزين بها عند الناس
قال : وأما رعاية الأحوال : فهو أن يعد الاجتهاد مراءاة واليقين تشبعا والحال دعوى أي يتهم نفسه في اجتهاده : أنه راءى الناس فلا يطغى به ولا يسكن إليه ولا يعتد به
وأما عده اليقين تشبعا فالتشبع : افتخار الإنسان بما لا يملكه ومنه قول النبي : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وعد اليقين تشبعا : يحتمل وجهين أحدهما أن ما حصل له من اليقين لم يكن به ولا منه ولا استحقه بعوض وإنما هو فضل الله وعطاؤه ووديعته عنده ومجرد منته عليه فهو خلعة خلعها سيده عليه والعبد وخلعته ملكه وله فما للعبد في اليقين مدخل وإنما هو متشبع بما هو ملك لله وفضله ومنته على عبده
والوجه الثاني : أن يتهم يقينه وأنه لم يحصل له اليقين على الوجه الذي ينبغي بل ما حصل له منه هو كالعارية لا الملك المستقر فهو متشبع بزعم نفسه بأن اليقين ملكه وله وليس كذلك وهذا لا يختص باليقين بل بسائر الأحوال فالصادق يعد صدقه تشبعا وكذا المخلص يعد إخلاصه وكذا العالم لاتهامه لصدقه وإخلاصه وعلمه وأنه لم ترسخ قدمه في ذلك ولم يحصل له فيه ملكة فهو كالمتشبع به ولما كان اليقين روح الأعمال وعمودها وذروة سنامها : خصه بالذكر تنبيها على ما دونه

والحاصل : أنه يتهم نفسه في حصول اليقين فإذا حصل فليس حصوله به ولا منه ولا له فيه شيء فهو يذم نفسه في عدم حصوله ولا يحمدها عند حصوله وأما عد الحال دعوى : أي دعوى كاذبة اتهاما لنفسه وتطهيرا لها من رعونة الدعوى وتخليصا للقلب من نصيب الشيطان فإن الدعوى من نصيب الشيطان وكذلك القلب الساكن إلى الدعوى مأوى الشيطان أعاذنا الله من الدعوى ومن الشيطان

فصل قال : وأما رعاية الأوقات : فأن يقف مع كل خطوة ثم أن
يغيب عن حضوره بالصفاء من رسمه ثم أن يذهب عن شهود صفوه
أي يقف مع حركة ظاهره وباطنه بمقدار تصحيحها نية وقصدا وإخلاصا ومتابعة فلا يخطو هجما وهمجا بل يقف قبل خطوة حتى يصحح الخطوة ثم ينقل قدم عزمه فإذا صحت له ونقل قدمه انفصل عنها وقد صحت الغيبة عن شهودها ورؤيتها فيغيب عن شهود تقدمه بنفسه فإن رسمه هو نفسه فإذا غاب عن شهود نفسه وتقدمه بها في كل خطوة فذلك عين الصفاء من رسمه الذي هو نفسه فعند ذلك يشاهد فضل ربه
ولما كانت النفس محل الأكدار سمي انفصاله عنها : صفاء وهذه الأمور تستدعي لطف إدراك واستعدادا من العبد وذلك عين المنة عليه وأما ذهابه عن شهود صفوه : أي لا يستحضره في قلبه ويشهد ذلك الصفو المطلوب ويقف عنده فإن ذلك من بقايا النفس وأحكامها وهو نوع كدر فإذا تخلص من الكدر لا ينبغي له الالتفات والرجوع إليه فيصفو من الرسم ويغيب عن الصفو بمشاهدة المطلب الأعلى والمقصد الأسنى

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المراقبة
قال الله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه البقره : 235 وقال تعالى وكان الله على كل شيء رقيبا الأحزاب : 52 وقال تعالى : وهو معكم أينما كنتم الحديد : 4 وقال تعالى : ألم يعلم بأن الله يرى العلق : 14 وقال تعالى : فإنك بأعيننا الطور : 48 وقال تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور غافر : 19 إلى غير ذلك من الآيات
وفي حديث جبريل عليه السلام : أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الإحسان فقال له : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين : هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات فكيف بحال المريدين فكيف بحال العارفين
قال الجريري : من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة : لم يصل إلى الكشف والمشاهدة وقيل : من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه
وقيل لبعضهم : متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة فقال : إذا علم أن عليه رقيبا وقال الجنيد : من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير
وقال ذو النون : علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله

وقيل : الرجاء يحرك إلى الطاعة والخوف يبعد عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق
وقيل : المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة
وقال الجريري : أمرنا هذا مبني على فصلين : أن تلزم نفسك المراقبة لله وأن يكون العلم على ظاهرك قائما
وقال إبراهيم الخواص : المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز و جل وقيل : أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريق : المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم
وقال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري : إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك
وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر : سبب لحفظها في حركات الظواهر فمن راقب الله في سره : حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته و المراقبة هي التعبد باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها : حصلت له المراقبة والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل : المراقبة : دوام ملاحظة المقصود وهي على ثلاث
درجات الدرجة الأولى : مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام بين تعظيم مذهل ومداناة حاملة وسرور باعث فقوله : دوام ملاحظة المقصود أي دوام حضور القلب معه وقوله بين تعظيم مذهل فهو امتلاء القلب من عظمة الله عز و جل

بحيث يذهله ذلك عن تعظيم غيره وعن الالتفات إليه فلا ينسى هذا التعظيم عند حضور قلبه مع الله بل يستصحبه دائما فإن الحضور مع الله يوجب أنسا ومحبة إن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجا عن حدود العبودية ورعونة فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب : فهو سببا للبعد عنه والسقوط من عينه فقد تضمن كلامه خمسة أمور : سير إلى الله واستدامة هذا السير وحضور القلب معه وتعظيمه والذهول بعظمته عن غيره
وأما قوله : ومداناة حاملة يريد دنوا وقربا حاملا على هذه الأمور الخمسة وهذا الدنو يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه وعن غيره فإنه كلما ازداد قربا من الحق ازداد له تعظيما وذهولا عن سواه وبعدا عن الخلق
وأما السرور الباعث فهو الفرحة والتعظيم واللذة التي يجدها في تلك المداناة فإن سرور القلب مع الله وفرحه به وقرة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة وليس له نظير يقاس به وهو حال من أحوال أهل الجنة حتى قال بعض العارفين : إنه لتمر بي أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز و جل وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته ومن لم يجد هذا السرور ولا شيئا منه فليتهم إيمانه وأعماله فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نورا يجد به حلاوة الإيمان
وقد ذكر النبي ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته فذكر الذوق والوجد وعلقه بالإيمان فقال : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وقال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه فإن الرب تعالى شكور يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول والقصد : أن السرور بالله وقربه وقرة العين به تبعث على الازدياد من طاعته وتحث على الجد في السير إليه
قال : الدرجة الثانية مراقبة نظر الحق إليك برفض المعارضة بالإعراض عن الاعتراض ونقض رعونة التعرض
هذه مراقبة لمراقبة الله لك فهي مراقبة لصفة خاصة معينة وهي توجب صيانة الباطن والظاهر فصيانة الظاهر : بحفظ الحركات الظاهرة وصيانة الباطن : بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة التي منها رفض معارضة أمره وخبره فيتجرد الباطن من كل شهوة وإرادة تعارض أمره ومن كل إرادة تعارض إرادته ومن كل شبهة تعارض خبره ومن كل محبة تزاحم محبته وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به وهذا هو حقيقة تجريد الأبرار المقربين العارفين وكل تجريد سوى هذا فناقص وهذا تجريد أرباب العزائم

ثم بين الشيخ سبب المعارضة وبماذا يرفضها العبد فقال بالإعراض عن الاعتراض فإن المعارضة تتولد من الاعتراض و الاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس والمعصوم من عصمه الله منها
النوع الأول : الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة التي يسميها أربابها قواطع عقلية وهي في الحقيقة خيالات جهلية ومحالات ذهنية اعتراضوا بها على أسمائه وصفاته عز و جل وحكموا بها عليه ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله وأثبتوا ما نفاه ووالوا بها أعداءه ووعادوا بها أولياءه وحرفوا بها الكلم عن مواضعه ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
والعاصم من هذا الاعتراض : التسليم المحض للوحي فإذا سلم القلب له : رأى صحة ما جاء به وأنه الحق بصريح العقل والفطرة فاجتمع له السمع والعقل والفطرة وهذا أكمل الإيمان ليس كمن الحرب قائم بين سمعه وعقله وفطرته
النوع الثاني : الاعتراض على شرعه وأمره وأهل هذا الاعتراض : ثلاثة أنواع أحدها : المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى وتحريم ما أباحه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما أسقطه وإبطال ما صححه وتصحيح ما أبطله واعتبار ما ألغاه وإلغاء ما اعتبره وتقييد ما أطلقه وإطلاق ما قيده
وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها والتحذير منها وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض وحذروا منهم ونفروا عنهم
النوع الثاني : الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله

وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة
والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ وكل ما هم فيه فحظ ولكن حظهم حظ متضمن مخالفة مراد الله والإعراض عن دينه واعتقاد أنه قربة إلى الله فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها المستغفرين منها المقرين بنقصهم وعيبهم وأنها منافية للدين
وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا وقدموها على شرع الله ودينه واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله فتولد من معقول أولئك وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة وأذواق هؤلاء خراب العالم وفساد الوجود وهدم قواعد الدين وتفاقم الأمر وكاد لولا أن الله ضمن أنه لايزال يقوم به من يحفظه ويبين معالمه ويحميه من كيد من يكد
النوع الثالث : الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله وحكموا بها بين عباده وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده
فقال الأولون : إذا تعارض العقل والنقل : قدمنا العقل
وقال الآخرون : إذا تعارض الأثر والقياس : قدمنا القياس وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد : إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع : قدمنا الذوق والوجد والكشف
وقال أصحاب السياسة : إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة
فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه
فهؤلاء يقولون : لكم النقل ولنا العقل والآخرون يقولون : أنتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار وأولئك يقولون : أنتم أرباب الظاهر ونحن أهل الحقائق والآخرون يقولون : لكم الشرع ولنا السياسة

فيا لها من بلية عمت فأعمت ورزية رمت فأصمت وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون وأهوية عصفت فصمت منها الآذان وعميت منها العيون عطلت لها والله معالم الأحكام كما نفيت لها صفات ذي الجلال والإكرام واستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف وتأويل والدين وقفا على كل إفساد وتبديل
النوع الرابع : الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره وهذا اعتراض الجهال
وهو ما بين جلي وخفي وهو أنواع لا تحصى
وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله لرأى ذلك في قلبه عيانا فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد والرضى كل الرضاء
وأما نقض رعونة التعرض فيشير به إلى معنى آخر لا تتم المراقبة عنده إلا بنقضه وهو إحساس العبد بنفسه وخواطره وأفكاره حال المراقبة والحضور مع الله فإن ذلك تعرض منه لحجاب الحق له عن كمال الشهود لأن بقاء العبد مع مداركه وحواسه ومشاعره وأفكاره وخواطره عند الحضور والمشاهدة : هو تعرض للحجاب فينبغي أن تتخلص مراقبة نظر الحق إليك من هذه الآفات وذلك يحصل بالاستغراق في الذكر فتذهل به عن نفسك وعما منك لتكون بذلك متهيئا مستعدا للفناء عن وجودك وعن وجود كل ما سوى المذكور سبحانه
وهذا التهيؤ والاستعداد : لا يكون إلا بنقض تلك الرعونة والذكر يوجب الغيبة عن الحس فمن كان ذاكرا لنظر الحق إليه من إقباله عليه ثم أحس بشىء من حديث نفسه وخواطره وأفكاره : فقد تعرض واستدعى عوالم نفسه واحتجاب المذكور عنه لأن حضرة الحق تعالى لا يكون فيها غيره

وهذه الدرجة لا يقدر عليها العبد إلا بملكة قوية من الذكر وجمع القلب فيه بكليته على الله عز و جل

فصل قال : الدرجة الثالثة : مراقبة الأزل بمطالعة عين السبق
استقبالا لعلم التوحيد ومراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة
قوله : مراقبة الأزل أي شهود معنى الأزل وهو القدم الذي لا أول له بمطالعة عين السبق أي بشهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء فمتى طالع العبد عين هذا السبق شهد معنى الأزل وعرف حقيقته فبدا له حينئذ علم التوحيد فاستقبله كما يستقبل أعلام البلد وأعلام الجيش ورفع له فشمر إليه وهو شهود انفراد الحق بأزليته وحده وأنه كان ولم يكن شيء غيره ألبتة وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه فإذا عدمت الكائنات من شهوده كما كانت معدومة في الأزل فطالع عين السبق وفني بشهود من لم يزل عن شهود من لم يكن فقد استقبل علم التوحيد
وأما مراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد فقد تقدم أن ما يظهر فى الأبد : هو عين ما كان معلوما في الأزل وأنه إنما تجددت أحايينه وهي أوقات ظهوره فقد ظهرت إشارات الأزل وهي ما يشير إليه العقل بالأزلية من المقدرات العلمية على أحايين الأبد هذا معناه الصحيح عندي
والقوم يريدون به معنى آخر : وهو اتصال الأبد بالأزل في الشهود وذلك بأن يطوى بساط الكائنات عن شهوده طيا كليا ويشهد استمرار وجود الحق سبحانه وحده مجردا عن كل ما سواه فيصل بهذا الشهود الأزل بالأبد ويصيران شيئا واحدا وهو دوام وجوده سبحانه بقطع النظر عن كل حادث

والشهود الأول أكمل وأتم وهو متعلق بأسمائه وصفاته وتقدم علمه بالأشياء ووقوعها في الأبد مطابقة لعلمه الأزلي فهذا الشهود يعطي إيمانا ومعرفة وإثباتا للعلم والقدرة والفعل والقضاء والقدر
وأما الشهود الثاني : فلا يعطي صاحبه معرفة ولا إيمانا ولا إثباتا لاسم ولا صفة ولا عبودية نافعة وهو أمر مشترك يشهده كل من أقر بالصانع من مسلم وكافر فإذا استغرق في شهود أزليته وتفرده بالقدم وغاب عن الكائنات : اتصل في شهوده الأزل بالأبد فأي كبير أمر في هذا وأي إيمان ويقين يحصل به ونحن لا ننكر ذوقه ولا نقدح في وجوده وإنما نقدح في مرتبته وتفضيله على ما قبله من المراقبة بحيث يكون لخاصة الخاصة وما قبله لمن هم دونهم فهذا عين الوهم والله الموفق
فإذا اتصل في شهود الشاهد : الأزل الذي لا بداية له بالأزمنة التي يعقل لها بداية وهي أزمنة الحوادث ثم اتصل ذلك بما لا نهاية له بحيث صارت الأزمنة الثلاثة واحدا لا ماضي فيه ولا حاضر ولا مستقبل وذلك لا يكون إلا إذا شهد فناء الحوادث فناء مطلقا وعدمها عدما كليا وذلك تقدير وهمي مخالف للواقع وهو تجريد خيالي يوقع صاحبه في بحر طامس لا ساحل له وليل دامس لا فجر له
فأين هذا من مشهد تنوع الأسماء والصفات وتعلقها بأنواع الكائنات وارتباطها بجميع الحادثات وإعطاء كل اسم منها وصفة حقها من الشهود والعبودية والنظر إلى سريان آثارها في الخلق والأمر والعالم العلوي والسفلي والظاهر والباطن ودار الدنيا ودار الآخرة وقيامه بالفرق والجمع في ذلك علما ومعرفة وحالا ! والله المستعان
قوله : ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة يشير إلى فناء شهود المراقب عن نفسه وما منها وأنه يفني بمن يراقبه عن

نفسه وما منها فإذا كان باقيا بشهود مراقبته : فهو في ورطتها لم يتخلص منها لأن شهود المراقبة لا يكون إلا مع بقائه والمقصود : إنما هو الفناء والتخلص من نفسه ومن صفاتها وما منها
وقد عرفت أن فوق هذا درجة أعلى منه وأرفع وأشرف وهي مراقبة مواقع رضى الرب ومساخطه في كل حركة والفناء عما يسخطه بما يحب والتفرق له وبه وفيه ناظرا إلى عين جمع العبودية فانيا عن مراده من ربه مهما ولو علا بمراد ربه منه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة تعظيم حرمات الله عز و جل
قال الله عز و جل : ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه الحج : 30 قال جماعة من المفسرين حرمات الله ههنا مغاضبه وما نهى عنه و تعظيمها ترك ملابستها قال الليث : حرمات الله : ما لا يحل انتهاكها وقال قوم : الحرمات : هي الأمر والنهي وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقال قوم : الحرمات ههنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا
والصواب : أن الحرمات تعم هذا كله وهي جمع حرمة وهي ما يجب احترامه وحفظه : من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن فتعظيمها : توفيتها حقها وحفظها من الإضاعة

قال صاحب المنازل :
الحرمة : هي التحرج عن المخالفات والمجاسرات
التحرج الخروج من حرج المخالفة وبناء تفعل يكون للدخول في الشيء كتمنى إذا دخل في الأمنية وتولج في الأمر : دخل فيه ونحوه وللخروج منه كتحرج وتحوب وتأثم إذا أراد الخروج من الحرج والحوب : هو الإثم

أراد أن الحرمة هي الخروج من حرج المخالفة وجسارة الإقدام عليها ولما كان المخالف قسمين جاسرا وهائبا قال عن المخالفات والمجاسرات :
قال : هي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : تعظيم الأمر والنهي لا خوفا من العقوبة فتكون خصومة للنفس ولا طلبا للمثوبة فيكون مستشرفا للأجرة ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس هذا الموضع يكثر في كلام القوم والناس بين معظم له ولأصحابه معتقد أن هذا أرفع درجات العبودية : أن لا يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه فإن هذا واقف مع غرضه وحظ نفسه وأن المحبة تأبى ذلك فإن المحب لا حظ له مع محبوبه فوقوفه مع حظه علة في محبته وأن طمعه في الثواب : تطلع إلى أنه يستحق بعمله على الله تعالى أجرة ففي هذا آفتان : تطلعه إلى الأجرة وإحسان ظنه بعمله إذ تطلعه إلى استحقاقه الأجر وخوفه من العقاب : خصومة للنفس فإنه لا يزال يخاصمها إذا خالفت ويقول : أما تخافين النار وعذابها وما أعد الله لأهلها فلا تزال الخصومة بذلك بينه وبين نفسه
ومن وجه آخر أيضا : وهو أنه كالمخاصم عن نفسه الدافع عنها خصمه الذي يريد هلاكه وهو عين الاهتمام بالنفس والالتفات إلى حظوظها مخاصمة عنها واستدعاء لما تلتذ به
ولا يخلصه من هذه المخاصمة وذلك الاستشراف : إلا تجريد القيام بالأمر والنهي من كل علة بل يقوم به تعظيما للآمر الناهي وأنه أهل أن يعبد وتعظم حرماته فهو يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته كما في الأثر الإسرائيلي لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد
ومنه قول القائل :

هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستح ... ق على ذي الورى الشكر للمنعم
فالنفوس العلية الزكية تعبده لأنه أهل أن يعبد ويجل ويحب ويعظم فهو لذاته مستحق للعبادة قالوا : ولا يكون العبد كأجير السوء إن أعطى أجره عمل وإن لم يعط لم يعمل فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة
قالوا : والعمال شاخصون إلى منزلتين : منزلة الآخرة ومنزلة القرب من المطاع قال تعالى في حق نبيه داود وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ص : 25 فالزلفى منزلة القرب وحسن المآب : حسن الثواب والجزاء وقال تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة يونس : 26 ف الحسنى الجزاء و الزيادة منزلة القرب ولهذا فسرت بالنظر إلى وجه الله عز و جل وهذان هما اللذان وعدهما فرعون للسحرة إن غلبوا موسى فقالوا له : إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال : نعم وإنكم إذا لمن المقربين الأعراف : 11311 وقال تعالى : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر التوبه : 72
قالوا : والعارفون عملهم على المنزلة والدرجة والعمال عملهم على الثواب والأجرة وشتان ما بينهما

فصل وطائفة ثانية تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم وتحتج
بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين ودعائهم وسؤالهم والثناء عليهم بخوفهم من النار ورجائهم للجنة كما قال تعالى في حق خواص عباده الذين عبدهم المشركون : إنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه كما تقدم وقال عن أنبيائه ورسله : وزكريا إذ نادى ربه إلى أن قال إنهم كانوا يسارعون في

الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين الأنبياء : 8990 أي رغبا فيما عندنا ورهبا من عذابنا والضمير في قوله : إنهم عائد على الأنبياء المذكورين في هذه السورة عند عامة المفسرين
والرغب والرهب رجاء الرحمة والخوف من النار عندهم أجمعين
وذكر سبحانه عباده الذين هم خواص خلقه وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم وجعل منها : استعاذتهم به من النار فقال تعالى : والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقراومقاما الفرقان : 6566 وأخبر عنهم : أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار فقال تعالى : الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار آل عمران : 16 فجعلوا أعظم وسائلهم إليه : وسيلة الإيمان وأن ينجيهم من النار
وأخبر تعالى عن سادات العارفين أولي الألباب أنهم كانوا يسألونه جنته ويتعوذون به من ناره فقال تعالى : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الآيات إلى آخرها ولا خلاف أن الموعود به على ألسنة رسله : هي الجنة التى سألوها
وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه و سلم والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحينواجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم الشعراء : 8289 فسأل الله الجنة واستعاذ به من النار وهو الخزي يوم البعث
وأخبرنا سبحانه عن الجنة : أنها كانت وعدا عليه مسئولا أي يسأله إياها عباده وأولياؤه

وأمر النبي أمته : أن يسألوا له في وقت الإجابة عقيب الأذان أعلى منزلة في الجنة وأخبر : أن من سألها له حلت عليه شفاعته
وقال له سليم الأنصاري أما إني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال : أنا ومعاذ حولها ندندن
وفي الصحيح في حديث الملائكة السيارة الفضل عن كتاب الناس إن الله تعالى يسألهم عن عباده وهو أعلم تبارك وتعالى فيقولون : أتيناك من عند عباد لك يهللونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك فيقول عز و جل : وهل رأوني فيقولون : لا يا رب ما رأوك فيقول عز و جل : كيف لو رأوني فيقولون : لو رأوك لكانوا لك أشد تمجيدا قالوا : : يارب ويسألونك جنتك فيقول : هل رأوها فيقولون : لا وعزتك ما رأوها فيقول : فكيف لو رأوها فيقولون : لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا قالوا : ويستعيذون بك من النار فيقول عز و جل : وهل رأوها فيقولون : لا وعزتك ما رأوها فيقول : فكيف لو رأوها فيقولون : لو رأوها لكانوا أشد منها هربا فيقول : إني أشهدكم أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأعذتهم مما استعاذوا منه
والقرآن والسنة مملوءان من الثناء على عباده وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها والاستعاذة من النار والخوف منها
قالوا وقد قال النبي لأصحابه : استعيذوا بالله من النار وقال لمن سأله مرافقته في الجنة : أعني على نفسك بكثرة السجود قالوا : والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهم فلا ينسونهما ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار : هو محض الإيمان
قالوا : وقد حض النبي عليها أصحابه وأمته فوصفها وجلاها لهم ليخطبوها وقال : ألا مشمر للجنة فإنها ورب الكعبة نور

يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء وفاكهة نضيجة وقصر مشيد ونهر مطرد الحديث فقال الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله نحن المشمرون لها فقال : قولوا : إن شاء الله
ولو ذهبنا نذكر ما في السنة من قوله : من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنة تحريضا على عمله لها وأن تكون هي الباعثة على العمل : لطال ذلك جدا وذلك في جميع الأعمال
قالوا : فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولا ورسول الله يحرض عليه ويقول : من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية و : من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة و : من كسا مسلما على عرى كساه الله من حلل الجنة و : عائد المريض في خرفة الجنة والحديث مملوء من ذلك أفتراه يحرض المؤمنين على مطلب معلول ناقص ويدع المطلب العالي البريء من شوائب العلل لا يحرضهم عليه
قالوا : وأيضا فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته ويستعيذوا به من ناره فإنه يحب أن يسأل ومن لم يسأله يغضب عليه وأعظم ما سئل الجنة وأعظم ما استعيذ به من النار
فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب مرضي له وطلبها عبودية للرب والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها
قالوا : وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ورجاء هذه والهرب من هذه : فترت عزائمه وضعفت همته ووهى باعثه وكلما كان أشد طلبا للجنة وعملا لها : كان الباعث له أقوى والهمة أشد والسعي أتم وهذا أمر معلوم بالذوق
قالوا : ولو لم يكن هذا مطلوبا للشارع لما وصف الجنة للعباد وزينها لهم وعرضها عليهم وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها وما عداه أخبرهم به مجملا كل هذا تشويقا لهم إليها وحثا لهم على السعى لها سعيها

قالوا : وقد قال الله عز و جل : والله يدعو إلى دار السلام وهذا حث على إجابة هذه الدعوة والمبادرة إليها والمسارعة في الإجابة
والتحقيق أن يقال : الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور العين والأنهار والقصور وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ومن أعظم نعيم الجنة : التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا فأيسر يسير من رضوانه : أكبر من الجنان وما فيها من ذلك كما قال تعالى : ورضوان من الله أكبر التوبه : 72 وأتى به منكرا في سياق الإثبات أي أي شيء كان من رضاه عن عبده : فهو أكبر من الجنة
قليل منك يقنعني ... ولكن قليلك لا يقال له قليل
وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية : فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه وفي حديث آخر : أنه سبحانه إذا تجلى لهم ورأوا وجهه عيانا : نسوا ما هم فيه من النعيم وذهلوا عنه ولم يلتفوا إليه ولا ريب أن الأمر هكذا وهو أجل مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة فإن المرء مع من أحب ولا تخصيص في هذا الحكم بل هو ثابت شاهدا وغائبا
فأي نعيم وأي لذة وأي قرة عين وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها
وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب الذي لا شيء أجل منه ولا أكمل ولا أجمل قرة عين ألبتة
وهذا والله هو العلم الذي شمر إليه المحبون واللواء الذي أمه العارفون وهو روح مسمى الجنة وحياتها وبه طابت الجنة وعليه قامت

فكيف يقال : لا يعبد الله طلبا لجنته ولا خوفا من ناره
وكذلك النار أعاذنا الله منها فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته وغضبه وسخطه والبعد عنه : أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم بل التهاب هذه النار في قلوبهم : هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم ومنها سرت إليها
فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين : هو الجنة ومهربهم : من النار
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل
ومقصد القوم : أن العبد يعبد ربه بحق العبودية والعبد إذا طلب من سيده أجرة على خدمته له كان أحمق ساقطا من عين سيده إن لم يستوجب عقوبته إذ عبوديته تقتضي خدمته له وإنما يخدم بالأجرة من لا عبودية للمخدوم عليه إما أن يكون حرا في نفسه أو عبدا لغيره وأما من الخلق عبيده حقا وملكه على الحقيقة ليس فيهم حر ولا عبد لغيره : فخدمتهم له بحق العبودية فاقتضاؤهم للأجرة خروج عن محض العبودية
وهذا لا ينكر على الإطلاق ولا يقبل على الإطلاق وهو موضع تفصيل وتمييز
وقد تقدم في أول الكتاب : ذكر طرق الخلق في هذا الموضع وبينا طريق أهل الاستقامة فالناس في هذا المقام أربعة أقسام أحدهم : من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه فهؤلاء أعداؤه حقا وهم أهل العذاب الدائم وعدم إرادتهم لثوابه : إما لعدم تصديقهم به وإما لإيثار العاجل عليه ولو كان فيه سخطه

والقسم الثاني : من يريده ويريد ثوابه وهؤلاء خواص خلقه قال الله تعالى : وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراعظيما الأحزاب : 29 فهذا خطابه لخير نساء العالمين أزواج نبيه وقال الله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا الإسراء : 19 فأخبر أن السعي المشكور : سعي من أراد الآخرة وأصرح منها : قوله لخواص أوليائه وهم أصحاب نبيه ورضى عنهم في يوم أحد منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما
وقد غلط من قال : فأين من يريد الله فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله
والقسم الثالث : من يريد من الله ولا يريد الله فهذا ناقص غاية النقص وهو حال الجاهل بربه الذي سمع : أن ثم جنة ونارا فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق لا يخطر بباله سواه ألبتة بل هذا حال أكثر المتكلمين المنكرين رؤية الله تعالى والتلذذ بالنظر إلى وجهه في الآخرة وسماع كلامه وحبه والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله وهم عبيد الأجرة المحضة فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس
ومنهم من يصرح بأن إرادة الله محال
قالوا : لأن الإرادة إنما تتعلق بالحادث فالقديم لا يراد فهؤلاء منكرون لإرادة الله غاية الإنكار وأعلى الإرادة عندهم : إرادة الأكل والشرب والنكاح واللباس في الجنة وتوابع ذلك فهؤلاء في شق وأولئك الذين قالوا : لم نعبده طلبا لجنته ولا هربا من ناره في شق وهما طرفا نقيض بينهما أعظم من بعد المشرقين وهؤلاء من أكثف الناس حجابا وأغلظهم طباعا وأقساهم قلوبا وأبعدهم عن روح المحبة والتأله ونعيم الأرواح والقلوب وهم يكفرون أصحاب

المحبة والشوق إلى الله والتلذذ بحبه والتصديق بلذة النظر إلى وجهه وسماع كلامه منه بلا واسطة
وأولئك لا يعدونهم من البشر إلا بالصورة ومرتبتهم عندهم قريبة من مرتبة الجماد والحيوان البهيم وهم عندهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها ومعرفة معبودهم وسر عبوديته
وحال الطائفتين عجب لمن اطلع عليه
والقسم الرابع وهو محال : أن يريد الله ولا يريد منه فهذا هو الذي يزعم هؤلاء : أنه مطلوبهم وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام وهو أن يكون الله مراده ولا يريد منه شيئا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال : قبل لي : ما تريد فقلت : أريد أن لا أريد
وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع : عقلا وفطرة وحسا وشرعا فإن الإرادة من لوازم الحي وإنما يعرض له التجرد عنها بالغيبة عن عقله وحسه كالسكر والإغماء والنوم فنحن لا ننكر التجريد عن إرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم إرادتها إرادته أفليس صاحب هذا المقام مريدا لقربه ورضاه ودوام مراقبته والحضور معه وأي إرادة فوق هذه
نعم قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلا فلم يخرج عن الإرادة وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة ومن مراد إلى مراد وأما خلوه عن صفة الإرادة بالكلية مع حضور عقله وحسه : فمحال
وإن حاكمنا في ذلك محاكم إلى ذوق مصطلم مأخوذ عن نفسه فإن عن

عوالمها : لم ننكر ذلك لكن هذه حال عارضة غير دائمة ولا هي غاية مطلوبة للسالكين ولا مقدورة للبشر ولا مأمور بها ولا هي أعلا المقامات فيؤمر باكتساب أسبابها فهذا فصل الخطاب في هذا الموضع والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قوله : ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة هذا فيه
تفصيل أيضا وهو أن المشاهدة في العمل لغير الله نوعان
مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضا من الآفات والحجب
ومشاهدة لا تبعث عليه ولا تعين الباعث بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها فهذه لا تدخله في التزين بالمراءاة ولا سيما عند المصلحة الراجحة في هذه المشاهدة : إما حفظا ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص أو قصدا منك للاقتداء وتعريف الجاهل فهذا رياء محمود والله عند نية القلب وقصده
فالرياء المذموم : أن يكون الباعث : قصد التعظيم والمدح والرغبة فيما عند من ترائيه أو الرهبة منه وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك : فليس في هذه المشاهد رياء بل قد يتصدق العبد رياء مثلا وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر
مثال ذلك : رجل مضرور سأل قوما ما هو محتاج إليه فعلم رجل منهم : أنه إن أعطاه سرا حيث لا يراه أحد : لم يقتد به أحد ولم يحصل له سوى تلك العطية وأنه إن أعطاه جهرا : اقتدي به واتبع وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر : إرادة سعة العطاء عليه

من الحاضرين فهذه مراءاة محمودة حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أوجور أولئك المعطين
قوله : فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس
يعني أن الخائف يشتغل بحفظ نفسه من العذاب ففيه عبادة لنفسه إذ هو متوجه إليها وطالب المثوبة متوجه إلى طلب حظ نفسه وذلك شعبة من عبوديتها والمشاهد للناس في عبادته : فيه شعبة من عبودية نفسه إذ هو طالب لتعظيمهم وثنائهم ومدحهم فهذه شعب من شعب عبودية النفس والأصل الذي هذه الشعب فروعه : هي النفس فإذا ماتت بالمجاهدة والإقبال على الله والاشتغال به ودوام المراقبة له : ماتت هذه الشعب
فلا جرم أن بناء أمر هذه الطائفة على ترك عبادة النفس وقد علمت أن الخوف وطلب الثواب : ليس من عبادة النفس في شيء
نعم التزين بالمراءاة عين عبادة النفس والكلام في أمر أرفع من هذا فإن حال المرائي أخس ونفسه أسقط وهمته أدنى من أن يدخل في شأن الصادقين ويذكر مع الصالحين والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال صاحب المنازل :
الدرجة الثانية : إجراء الخبر على ظاهره وهو أن تبقى أعلام توحيد العامة الخبرية على ظواهرها ولا يتحمل البحث عنها تعسفا ولا يتكلف لها تأويلا ولا يتجاوز ظواهرها تمثيلا ولا يدعي عليها إدراكا أو توهما
يشير الشيخ رحمه الله وقدس روحه بذلك إلى أن حفظ حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أذهان العامة ولا يعني بالعامة الجهال بل عامة الأمة كما قال مالك رحمه الله وقد سئل عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى طه : 5 كيف استوى

فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال : الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
ففرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة وبين الكيف الذي لا يعقله البشر وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف عام في جميع مسائل الصفات
فمن سأل عن قوله : إنني معكما أسمع وأرى طه : 46 كيف يسمع ويرى أجيب بهذا الجواب بعينه فقيل له : السمع والبصر معلوم والكيف غير معقول
وكذلك من سأل عن العلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرضى والرحمة والضحك وغير ذلك فمعانيها كلها مفهومة وأما كيفيتها : فغير معقولة إذ تعقل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها فإذا كان ذلك غير معقول للبشر فكيف يعقل لهم كيفية الصفات
والعصمة النافعة في هذا الباب : أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل تثبت له الأسماء والصفات وتنفى عنه مشابهة المخلوقات فيكون إثباتك منزها عن التشبيه ونفيك منزها عن التعطيل فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل ومن شبهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثل ومن قال : استواء ليس كمثله شيء فهو الموحد المنزه
وهكذا الكلام في السمع والبصر والحياة والإرادة والقدرة واليد والوجه والرضى والغضب والنزول والضحك وسائر ما وصف الله به نفسه
والمنحرفون في هذا الباب قد أشار الشيخ إليهم بقوله : لا يتحمل البحث عنها تعسفا أي لا يتكلف التعسف عن البحث عن كيفياتها و التعسف سلوك غير الطريق يقال : ركب فلان التعاسيف في سيره إذا كان يسير يمينا وشمالا جائرا عن الطريق

ولا يتكلف لها تأويلا أراد بالتأويل ههنا : التأويل الاصطلاحي وهو صرف اللفظ عن ظاهره عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح
وقد حكى غير واحد من العلماء : إجماع السلف على تركه وممن حكاه البغوى وأبو المعالي الجويني في رسالته النظامية بخلاف ما سلكه في شامله و إرشاده وممن حكاه : سعد بن علي الزنجاني
وقبل هؤلاء خلائق من العلماء لا يحصيهم إلا الله
ولا يتجاوز ظاهرها تمثيلا أي لا يمثلها بصفات المخلوقين وفي قوله : لا يتجاوز ظاهرها إشارة لطيفة وهي أن ظواهرها لا تقتضي التمثيل كما تظنه المعطلة النفاة وأن التمثيل تجاوز لظواهرها إلى ما لا تقتضيه كما أن تأويلها تكلف وحمل لها على ما لا تقتضيه فهي لا تقتضي ظواهرها تمثيلا ولا تحتمل تأويلا بل إجراء على ظواهرها بلا تأويل ولا تمثيل فهذه طريقة السالكين بها سواء السبيل
وأما قوله : ولا يدعى عليها إدراكا أي لا يدعى عليها استدراكا ولا فهما ولا معنى غير فهم العامة كما يدعيه أرباب الكلام الباطل المذموم بإجماع السلف
وقوله : ولا توهما أي لا يعدل عن ظواهرها إلى التوهم
و التوهم نوعان : توهم كيفية لا تدل عليه ظواهرها أو توهم معنى غير ما تقتضيه ظواهرها وكلاهما توهم باطل وهما توهم تشبيه وتمثيل أو تحريف وتعطيل
وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنة ومقداره في العلم وأنه بريء مما رماه به أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب والمعتزلة بأنهم نوابت حشوية وذلك ميراث من أعداء رسول الله في رميه ورمي أصحابه رضي الله عنهم بأنهم صبأة قد ابتدعوا دينا محدثا وميراث لأهل

الحديث والسنة من نبيهم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة وقدس الله روح الشافعي حيث يقول وقد نسب إلى الرفض :
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان : أني رافضي
وB شيخنا أبي العباس بن تيمية حيث يقول
إن كان نصباحب صحب محمد ... فليشهد الثقلان : أني ناصبي
وعفا الله عن الثالث حيث يقول :
فإن كان تجسيما ثبوت صفاته ... وتنزيهها عن كل تأويل مفترى
فإني بحمد الله ربي مجسم ... هلموا شهودا واملأوا كل محضر

فصل قال : الدرجة الثالثة : صيانة الانبساط : أن تشوبه جرأة وصيانة
السرور : أن يداخله أمن وصيانة الشهود : أن يعارضه سبب
لما كانت هذه الدرجة عنده مختصة بأهل المشاهدة والغالب عليهم الانبساط والسرور فإن صاحبها متعلق باسمه الباسط حذره من شائبة الجرأة وهي ما يخرجه عن أدب العبودية ويدخله في الشطح كشطح من قال سبحاني ونحو ذلك من الشطحات المعروفة المخرجة عن أدب العبودية التي نهاية صاحبها : أن يعذر بزوال عقله وغلبة سكر الحال عليه فلا بد من مقارنة التعظيم والإجلال لبسط المشاهدة وإلا وقع في الجرأة ولا بد فالمراقبة تصونه عن ذلك
قوله : وصيانة السرور : أن يداخله أمن

يعني أن صاحب الانبساط والمشاهدة يداخله سرور لا يشبهه سرور ألبتة فينبغي له أن لا يأمن في هذا الحال المكر بل يصون سروره وفرحه عن خطفات المكر بخوف العاقبة المطوي عنه علم غيبها ولا يغتر وأما صيانة الشهود : أن يعارضه سبب فيريد أن صاحب الشهود : قد يكون ضعيفا في شهود حقيقة التوحيد فيتوهم أنه قد حصل له ما حصل بسبب الاجتهاد التام والعبادة الخالصة فينسب حصول ما حصل له من الشهود إلى سبب منه وذلك نقص في توحيده ومعرفته لأن الشهود لا يكون إلا موهبة ليس هو كسبيا ولو كان كسبيا فشهود سببه نقص في التوحيد وغيبة عن شهود الحقيقة
ويحتمل أن يريد بالسبب المعارض للشهود : ورود خاطر على الشاهد يكدر عليه صفو شهوده فيصونه عن ورود سبب يعارضه : إما معارض إرادة أو معارض شبهة وقد يعم كلامه الأمرين والله سبحانه أعلم فصلومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخلاص
قال الله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين البينة : 5 وقال : وقال إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وقال : قل الله لنبيه أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه الزمر : 23 وقال : له قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين الأنعام : 16216 وقال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا عملا : الملك : 2 قال الفضيل بن عياض : هو أخلصه وأصوبه قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا : لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص : أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله تعالى : فمن كان يرجو لقاء ربه

فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا الكهف : 110 وقال تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن النساء : 125 فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله والإحسان فيه : متابعة رسوله وسنته وقال تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من علم فجعلناه هباء منثورا الفرقان : 23 وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أريد بها غير وجه الله قال النبي لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى : إلا ازددت به خيرا ودرجة ورفعة وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم أي لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غله وتنقيه منه وتخرجه عنه فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل وكذلك يغل على الغش وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه : بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة
و سئل رسول الله عن الرجل : يقاتل رياء ويقاتل شجاعة ويقاتل حمية : أي ذلك في سبيل الله فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
وأخبر عن أول ثلاثة تسعر بهم النار : قارىء القرآن والمجاهد والمتصدق بماله الذين فعلوا ذلك ليقال : فلان قارىء فلان شجاع فلان متصدق ولم تكن أعمالهم خالصة لله
وفي الحديث الصحيح الإلهى يقول الله تعالى : أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء

وفي أثر آخر : يقول له يوم القيامة : اذهب فخذ أجرك ممن عملت له لا أجر لك عندنا
وفي الصحيح عنه إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وقال تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم الحج : 37
وفي أثر مروري إلهي : الإخلاص : سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي
وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص و الصدق والقصد واحد فقيل : هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة وقيل : تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين وقيل : التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك و الصدق التنقي من مطالعة النفس فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ولا يتمان إلا بالصبر
وقيل : من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص فنقصان كل مخلص في إخلاصه : بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصا وقيل : الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن والرياء : أن يكون ظاهره خيرا من باطنه والصدق في الإخلاص : أن يكون باطنه أعمر من ظاهره وقيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله
ومن كلام الفضيل ترك العمل من أجل الناس : رياء والعمل من أجل الناس : شرك والإخلاص : أن يعافيك الله منهما

قال الجنيد : الإخلاص سر بين الله وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله وقيل لسهل : أي شيء أشد على النفس فقال : الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب
وقال بعضهم : الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله ولا مجازيا سواه وقال مكحول : ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وقال يوسف بن الحسين : أعز شيء في الدنيا : الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر
وقال أبو سليمان الداراني : إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء

فصل قال صاحب المنازل الإخلاص : تصفية العمل من كل شوب
أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس : إما طلب التزين في قلوب الخلق وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم أو طلب تعظيمهم أو طلب أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم وقضائهم حوائجه أو طلب محبتهم له أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عقد متفرقاتها : هو إرادة ما سوى الله بعمله كائنا ما كان قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : إخراج رؤية العمل عن العمل والخلاص من طلب العوض على العمل والنزول عن الرضى بالعمل يعرض للعامل في عمله ثلاث آفات : رؤيته وملاحظته وطلب العوض عليه ورضاه به وسكونه إليه
ففي هذه الدرجة يتخلص من هذه البلية فالذي يخلصه من رؤية عمله : مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له وأنه بالله لا بنفسه وأنه إنما أوجب

عمله مشيئة الله لا مشيئته هو كما قال تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين التكوير : 29
فهننا ينفعه شهود الجبر وأنه آلة محضة وأن فعله كحركات الأشجار وهبوب الرياح وأن المحرك له غيره والفاعل فيه سواه وأنه ميت والميت لا يفعل شيئا وأنه لو خلي ونفسه لم يكن من فعله الصالح شيء ألبتة فإن النفس جاهلة ظالمة طبعها الكسل وإيثار الشهوات والبطالة وهي منبع كل شر ومأوى كل سوء وما كان هكذا لم يصدر منه خير ولا هو من شأنه
فالخير الذي صدر منها : إنما هو من الله وبه لا من العبد ولا به كما قال تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء النور : 21 وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف : 43 وقال تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا الإسراء : 74 وقال تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم الآية
فكل خير في العبد فهو مجرد فضل الله ومنته وإحسانه ونعمته وهو المحمود عليه فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة كرؤيته لصفاته الخلقية : من سمعه وبصره وإدراكه وقوته بل من صحته وسلامة أعضائه ونحو ذلك فالكل مجرد عطاء الله ونعمته وفضله
فالذي يخلص العبد من هذه الآفة : معرفة ربه ومعرفة نفسه والذي يخلصه من طلب العوض على العمل : علمه بأنه عبد محض والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه وإنعام عليه لا معاوضة إذ الأجرة إنما يستحقها الحر أو عبد الغير فأما عبد نفسه فلا
والذي يخلصه من رضاه بعمله وسكونه إليه : أمران :

أحدهما : مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره فيه وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان فقل عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب وإن قل وللنفس فيه حظ سئل النبي عن التفات الرجل في صلاته فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
فإذا كان هذا التفات طرفه أو لحظه فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية
وقال ابن مسعود لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته يرى أن حقا عليه : أن لا ينصرف إلا عن يمينه فجعل هذا القدر اليسير النزر حظا ونصيبا للشيطان من صلاة العبد فما الظن بما فوقه وأما حظ النفس من العمل : فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون
الثاني : علمه بما يستحقه الرب جل جلاله : من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقا وأن يرضى بها لربه فالعارف لا يرضى بشيء من عمله لربه ولا يرضى نفسه لله طرفة عين ويستحيي من مقابلة الله بعمله
فسوء ظنه بنفسه وعمله وبغضه لها وكراهته لأنفاسه وصعودها إلى الله : يحول بينه وبين الرضى بعمله والرضى عن نفسه
وكان بعض السلف يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ثم يقبض على لحيته ويهزها ويقول لنفسه : يا مأوى كل سوء وهل رضيتك لله طرفة عين
وقال بعضهم : آفة العبد رضاه عن نفسه ومن نظر إلى نفسه باستحسان

شيء منها فقد أهلكها ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور

فصل قال صاحب المنازل : الدرجة الثانية : الخجل من العمل مع
بذل المجهود وتوفير الجهد بالاحتماء من الشهود ورؤية العمل في نور التوفيق من عين الجود
هذه ثلاثة أمور خجلة من عمله وهو شدة حيائه من الله إذ لم ير ذلك العمل صالحا له مع بذل مجهوده فيه قال تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة : أنهم إلى ربهم راجعون المؤمنون : 60 قال النبي : هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه
وقال بعضهم : إني لأصلي ركعتين فأقوم عنهما بمنزلة السارق أو الزاني الذي يراه الناس حياء من الله عز و جل
فالمؤمن : جمع إحسانا في مخافة وسوء ظن بنفسه والمغرور : حسن الظن بنفسه مع إساءته الثاني : توفير الجهد باحتمائه من الشهود أي يأتي بجهد الطاقة في تصحيح العمل محتميا عن شهوده منك وبك الثالث : أن تحتمي بنور التوفيق الذي ينور الله به بصيرة العبد فترى في ضوء ذلك النور : أن عملك من عين جوده لا بك ولا منك فقد اشتملت هذه الدرجة على خمسة أشياء : عمل واجتهاد فيه وخجل وحياء من الله عز و جلوصيانة عن شهوده منك ورؤيته من عين جود الله سبحانه ومنه
قال : الدرجة الثالثة : إخلاص العمل بالخلاص من العمل تدعه يسير سير العلم وتسير أنت مشاهدا للحكم حرا من رق الرسم

قد فسر الشيخ مراده بإخلاص العمل من العمل بقوله : تدعه يسير سير العلم وتسير أنت مشاهدا للحكم
ومعنى كلامه : أنك تجعل عملك تابعا للعلم موافقا له مؤتما به تسير بسيره وتقف بوقوفه وتتحرك بحركته نازلا منازله مرتويا من موارده ناظرا إلى الحكم الديني الأمري متقيدا به فعلا وتركا وطلبا وهربا ناظرا إلى ترتب الثواب الثواب والعقاب عليه سببا وكسبا ومع ذلك فتسير أنت بقلبك مشاهدا للحكم الكوني القضائي الذي تنطوي فيه الأسباب والمسببات والحركات والسكنات ولا يبقى هناك غير محض المشيئة وتفرد الرب وحده بالأفعال ومصدرها عن إرادته ومشيئته فيكون قائما بالأمر والنهي : فعلا وتركا سائرا بسيره وبالقضاء والقدر : إيمانا وشهودا وحقيقة فهو ناظر إلى الحقيقة قائم بالشريعة
وهذان الأمران هما عبودية هاتين الآيتين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين التكوير : 2829 وقال تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماحكيما الإنسان : 2930
فترك العمل يسير سير العلم : مشهد لمن شاء منكم أن يستقيم وسير صاحبه مشاهدا للحكم : مشهد وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
وأما قوله : حرا من رق الرسم فالحرية التي يشيرون إليها : هي عدم الدخول تحت عبودية الخلق والنفس والدخول تحت رق عبودية الحق وحده ومرادهم بالرسم : ما سوى الله فكله رسوم فإن الرسوم هي الآثار ورسوم المنازل والديار : هي الآثار التي تبقى بعد سكانها والمخلوقات بأسرها في منزل الحقيقة ورسوم وآثار للقدرة أي فتخلص نفسك من عبودية كل ما سوى الله وتكون بقلبك مع القادر الحق وحده لا مع آثار قدرته التي هي رسوم فلا تشتغل بغيره لتشغلها بعبوديته ولا تطلب بعبوديتك له حالا ولا مقاما ولا مكاشفة ولا شيئا سواه

فهذه أربعة أمور : بذل الجهد وتحكيم العلم والنظر إلى الحقيقة والتخلص من الالتفات إلى غيره والله الموفق والمعين

فصل الإخلاص عدم انقسام المطلوب و الصدق عدم انقسام الطلب فحقيقة
الإخلاص : توحيد المطلوب وحقيقة الصدق : توحيد الطلب والإرادة ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة
فهذه الأركان الثلاثة : هي أركان السير وأصول الطريق التي من لم يبن عليها سلوكه وسيره فهو مقطوع وإن ظن أنه سائر فسيره إما إلى عكس جهة مقصوده وإما سير المقعد والمقيد وإما سير صاحب الدابة الجموح كلما مشت خطوة إلى قدام رجعت عشرة إلى خلف
فإن عدم الإخلاص والمتابعة : انعكس سيره إلى خلف وإن لم يبذل جهده ويوحد طلبه : سار سير المقيد وإن اجتمعت له الثلاثة : فذلك الذي لا يجاري في مضمار سيره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فصل2 ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التهذيب والتصفية
وهو سبك العبودية في كير الامتحان طلبا لإخراج ما فيها من الخبث والغش قال صاحب المنازل : التهذيب : محنة أرباب البدايات وهو شريعة من شرائع الرياضة
يريد : أنه صعب على المبتدي فهو له كالمحنة وطريقة للمرتاض الذي قد مرن نفسه حتى اعتادت قبوله وانقادت إليه

قال : وهو على ثلاث درجات الأولى : تهذيب الخدمة أن لا يخالجها جهالة ولا يشوبها عادة ولا يقف عندها همة
أي : تخليص العبودية وتصفيتها من هذه الأنواع الثلاثة وهي : مخالجة الجهالة وشوب العادة ووقوف همة الطالب عندها
النوع الأول : مخالطة الجهال فإن الجهالة متى خالطت العبودية أوردها العبد غير موردها ووضعها في غير موضعها وفعلها في غير مستحقها وفعل أفعالا يعتقد أنها صلاح وهي إفساد لخدمته وعبوديته بأن يتحرك في موضع السكون أو يسكن فى موضع التحرك أو يفرق في موضع جمع أو يجمع في موضع فرق أو يطير في موضع سفوف أو يسف في موضع طيران أو يقدم في موضع إحجام أو يحجم في موضع إقدام أو يتقدم في موضع وقوف أو يقف في موضع تقدم ونحو ذلك من الحركات التي هي في حق الخدمة : كحركات الثقيل البغيض في حقوق الناس
فالخدمة ما لم يصحبها علم ثان بآدابها وحقوقها غير العلم بها نفسها كانت في مظنة أن تبعد صاحبها وإن كان مراده بها التقرب ولا يلزم حبوط ثوابها وأجرها فهي إن لم تبعده عن الأجر والثواب أبعدته عن المنزلة والقربة ولا تنفصل مسائل هذه الجملة إلا بمعرفة خاصة بالله وأمره ومحبة تامة له ومعرفة بالنفس وما منها
النوع الثاني : شوب العادة وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها معينة عليها وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة كمن اعتاد الصوم مثلا وتمرن عليه فألفته النفس وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية وإنما هو تقاضي العادة

وعلامة هذا : أنه إذا عرض عليها طاعة دون ذلك وأيسر منه وأتم مصلحة : لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته كما حكى عن بعض الصالحين من الصوفية قال : حججت كذا وكذا حجة على التجريد فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي وذلك : أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء فثقل ذلك على نفسي فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع
النوع الثالث : وقوف همته عند الخدمة وذلك علامة ضعفها وقصورها فإن العبد المحض لا تقف همته عند خدمة بل همته أعلى من ذلك إذ هي طالبة لرضى مخدومه فهو دائما مستصغر خدمته له ليس واقفا عندها والقناعة تحمد من صاحبها إلا في هذا الموضع فإنها عين الحرمان فالمحب لا يقنع بشيء دون محبوبه فوقوف همة العبد مع خدمته وأجرتها : سقوط فيها وحرمان
قال : الدرجة الثانية : تهذيب الحال وهو أن لا يجنح الحال إلى علم ولا يخضع لرسم ولا يلتفت إلى حظ أما جنوح الحال إلى العلم فهو نوعان : ممدوح ومذموم
فالممدوح : التفاته إليه وإصغاؤه إلى ما يأمر به وتحكيمه عليه فمتى لم يجنح إليه هذا الجنوح كان حالا مذموما ناقصا مبعدا عن الله فإن كل حال لا يصحبه علم : يخاف عليه أن يكون من خدع الشيطان وهذا القدر هو الذي أفسد على أرباب الأحوال أحوالهم وعلى أهل الثغور ثغورهم وشردهم عن الله كل مشرد وطردهم عنه كل مطرد حيث لم يحكموا عليه العلم وأعرضوا عنه صفحا حتى قادهم إلى الانسلاخ من حقائق الإيمان وشرائع الإسلام
وهم الذين قال فيهم سيد الطائفة الجنيد بن محمد لما قيل له : أهل المعرفة يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد : إن هذا

كلام قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح وهو عندي عظيمة الذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها
وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول
وقال : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث : لا يقتدي به في طريقنا هذا لأن طريقنا وعلمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال : علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله والبلية التي عرضت لهؤلاء : أن أحكام العلم تتعلق بالعلم وتدعو إليه وأحكام الحال تتعلق بالكشف وصاحب الحال ترد عليه أمور ليست في طور العلم فإن أقام عليها ميزان العلم ومعياره تعارض عنده العلم والحال فلم يجد بدا من الحكم على أحدهما بالإبطال فمن حصلت له أحوال الكشف ثم جنح إلى أحكام العلم فقد رجع القهقرى وتأخر في سيره إلى وراء
فتأمل هذا الوارد وهذه الشبهة التي هي سم ناقع : تخرج صاحبها من المعرفة والدين كإخراج الشعرة من العجين
واعلم أن المعرفة الصحيحة : هي روح العلم والحال الصحيح : هو روح العمل المستقيم فكل حال لا يكون نتيجة العمل المستقيم مطابقا للعلم : فهو بمنزلة الروح الخبيثة الفاجرة ولا ينكر أن يكون لهذه الروح أحوال لكن الشأن في مرتبة تلك الأحوال ومنازلها فمتى عارض الحال حكم من أحكام العلم فذلك الحال إما فاسد وإما ناقص ولا يكون مستقيما أبدا
فالعلم الصحيح والعمل المستقيم : هما ميزان المعرفة الصحيحة والحال الصحيح وهما كالبدنين لروحيهما

فأحسن ما يحمل عليه قوله : أن لا يجنح الحال إلى العلم أن العلم يدعو إلى التفرقة دائما والحال يدعو إلى الجمعية والقلب بين هذين الداعيين فهو يجيب هذا مرة وهذا مرة فتهذيب الحال وتصفيته : أن يجيب داعي الحال لا داعي العلم ولا يلزم من هذا إعراضه عن العلم وعدم تحكيمه والتسليم له بل هو متعبد بالعلم محكم له مستسلم له غير مجيب لداعيه من التفرقة بل هو مجيب لداعي الحال والجمعية آخذ من العلم ما يصحح له حاله وجمعيته غير مستغرق فيه استغراق من هو مطرح همته وغاية مقصده لا مطلوب له سواه ولا مراد له إلا إياه فالعلم عنده آلة ووسيلة وطريق توصله إلى مقصده ومطلوبه فهو كالدليل بين يديه يدعوه إلى الطريق ويدله عليها فهو يجيب داعيه للدلالة ومعرفة الطريق وما في قلبه من ملاحظة مقصده ومطلبه من سيره وسفره وباعث همته على الخروج من أوطانه ومرباه ومن بين أصحابه وخلطائه الحامل له على الاغتراب والتفرد في طريق الطلب : هو المسير له والمحرك والباعث فلا يجنح عن داعيه إلى اشتغاله بجزئيات أحوال الدليل وما هو خارج عن دلالته على طريقه
فهذا مقصد شيخ الإسلام إن شاء الله تعالى لا الوجه الأول والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل وأما قوله : ولا يخضع لرسم أي لا يستولي على قلبه شيء
من الكائنات بحيث يخضع له قلبه فإن صاحب الحال : إنما يطلب الحي القيوم فلا ينبغي له أن يقف عند المعاهد والرسوم وأما قوله : ولا يلتفت إلى حظ أي إذا حصل له الحال التام : لم يشتغل بفرحه به وحظه منه واستلذاذه فإن ذلك حظ من حظوظ النفس وبقية من بقاياها

فصل قال صاحب المنازل :
الدرجة الثالثة : تهذيب القصد وهو تصفيته من ذل الإكراه وتحفظه من مرض الفتور ونصرته على منازعات العلم
هذه أيضا ثلاثة أشياء تهذب قصده تصفيه
أحدها : تصفيته من ذل الإكراه أي لا يسوق نفسه إلى الله كرها كالأجير المسخر المكلف بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعا ومحبة وإيثارا كجريان الماء في منحدره وهذه حال المحبين الصادقين فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضى ففيها قرة عيونهم وسرور قلوبهم ولذة أرواحهم كما قال النبي : وجعلت قرة عيني في الصلاة وكان يقول : يا بلال أرحنا بالصلاة
فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه : في طاعة محبوبه بخلاف المطيع كرها المتحمل للخدمة ثقلا
وفي قوله : ذل الإكراه لطيفة وهي أن المطيع كرها يرى أنه لولا ذل قهره وعقوبة سيده له لما أطاعه فهو يتحمل طاعته كالمكره الذي قد أذله مكرهه وقاهره بخلاف المحب الذي يعد طاعة محبوبه قوتا ونعيما ولذة وسرورا فهذا ليس الحامل له ذل الإكراه
والثاني : تحفظه من مرض الفتور أي توقيه من مرض فتور قصده وخمود نار طلبه فإن العزم هو روح القصد ونشاطه كالصحة له وفتوره مرض من أمراضه فتهذيب قصده وتصفيته بحميته من أسباب هذا المرض الذي هو فتوره وإنما يتحفظ منه بالحمية من أسبابه وهو أن يلهو عن الفضول من كل شيء ويحرص على ترك ما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو فيه زيادة إيمانه وحاله مع الله

ولا يصحب إلا من يعينه على ذلك فإن بلي بمن لا يعينه فليدرأه عنه ما استطاع ويدفعه دفع الصائل
الثالث : نصرة قصده على منازعات العلم ومعنى ذلك : نصرة خاطر العبودية المحضة والجمعية فيها والإقبال على الله فيها بكلية القلب على جواذب العلم والفكرة في دقائقه وتفاريع مسائله وفضلاته أو أن العلم يطلب من العبد العمل للرغبة والرهبة والثواب وخوف العقاب
فتهذيب القصد : تصفيته من ملاحظة ذلك وتجريده : أن يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا علة وأن لا يحب الله لما يعطيه ويحميه منه فتكون محبته لله محبة الوسائل ومحبته بالقصد الأول : لما يناله من الثواب المخلوق فهو المحبوب له بالذات بحيث إذا حصل له محبوبه تسلى به عن محبة من أعطاه إياه فإن من أحبك لأمر والاك عند حصوله وملك عند انقضائه والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لغرض من الأغراض فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض وإنما مراده : أن محبته تدوم لا تنقضي أبدا وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه
وهذا القدر هو الذي حام عليه القوم وداروا حوله وتكلموا فيه وشمروا إليه فمنهم من أحسن التعبير عنه ومنهم من أساء العبارة وقصده وصدقه يصلح فساد عبارته ومن الناس : من لم يفهم هذا كما ينبغي فلم يجد له ملجأ غير الإنكار والله يغفر لكل من قصده الحق واتباع مرضاته فإنه واسع المغفرة فصلومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الاستقامة
قال الله تعالى : إن الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة : أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون فصعلت : 30 وقال : إن الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم

ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون الأحقاف : 1314 وقال لرسوله : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير هود : 112
فبين أن الاستقامة ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود فى كل شىء
وقال تعالى : قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه فصعلت : 6 وقال تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه الجن : 16
سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئا يريد الاستقامة على محض التوحيد
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : استقاموا : أخلصوا العمل لله
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما : استقاموا أدوا الفرائض وقال الحسن : استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته
وقال مجاهد : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك قال : قل آمنت بالله ثم استقم

وفيه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال : استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن
والمطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها : فالتفريط والإضاعة كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل
فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال
وأخبر في حديث ثوبان : أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم : أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله
فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها : وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله قال بعض العارفين : كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول : أعظم الكرامة لزوم الاستقامة

فصل قال صاحب المنازل قدس الله روحه في قوله : فاستقيموا إليه
واستغفروه فصعلت : 6 إنه إشارة إلى عين التفريد
يريد : أنه أرشدهم إلى شهود تفريده وهو أن لا يروا غير فردانيته
وتفريده نوعان : تفريد في العلم والمعرفة والشهود وتفريد في الطلب والإرادة وهما نوعا التوحيد
وفي قوله : عين التفريد إشارة إلى حال الجمع وأحديته التي هي عنده فوق علمه ومعرفته لأن التفرقة قد تجامع علم الجمع وأما حاله : فلا تجامعه التفرقة والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال : الاستقامة : روح تحيا به الأحوال كما تربو للعامة عليها
الأعمال وهي برزخ بين وهاد التفرق وروابي الجمع
شبه الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد وكما أن حياة الأحوال بها فزيادة أعمال الزاهدين أيضا وربوها وزكاؤها بها فلا زكاء للعمل ولا صحة للحال بدونها
وأما كونها برزخا بين وهاد التفرق وروابي الجمع ف البرزخ هو الحاجز بين شيئين متغايرين و الوهاد الأمكنة المنخفضة من الأرض واستعارها للتفرق لأنها تحجب من يكون فيها عن مطالعة ما يراه من هو على الروابى كما أن صاحب التفرق محجوب عن مطالعة ما يراه صاحب الجمع ويشاهده
وأيضا فإن حاله أنزل من حاله فهو كصاحب الوهاد وحال صاحب الجمع أعلى فهو كصاحب الروابي وشبه حال صاحب الجمع بحال من على الروابي

لعلوه ولأن الروابي تكشف لمن عليها القريب والبعيد وصاحب الجمع تكشف له الحقائق المحجوبة عن صاحب التفرقة
إذا عرف هذا فمعنى كونها برزخا أن السالك يكون في أول سلوكه في أودية التفرقة سائرا إلى روابي الجمع فيستقيم في طريق سيره غاية الاستقامة ليصل باستقامته إلى روابي الجمع فاستقامته برزخ بين تلك التفرقة التي كان فيها وبين الجمع الذي يؤمه ويقصده وهذا بمنزلة تفرقة المقيم في البلد في أنواع التصرفات فإذا عزم على السفر وخرج وفارق البلد واستمر على السير : كان طريق سفره برزخا بين البلد الذي كان فيه والبلد الذي يقصده ويؤمه

فصل قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الاستقامة على
الاجتهاد في الاقتصاد لا عاديا رسم العلم ولا متجاوزا حد الإخلاص ولا مخالفا نهج السنة هذه درجة تتضمن ستة أمور : عملا واجتهادا فيه وهو بذل المجهود واقتصادا وهو السلوك بين طرفي الإفراط وهو الجور على النفوس والتفريط بالإضاعة ووقوفا مع ما يرسمه العلم لا وقوفا مع داعي الحال وإفراد المعبود بالإرادة وهو الإخلاص ووقوع الأعمال على الأمر وهو متابعة السنة
فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتهم وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة : إما خروجا كليا وإما خروجا جزئيا
والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرا وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة : أخرجه عن الاعتصام بها وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها : لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها قائلا له : إن هذا

خير وطاعة والزيادة والاجتهاد فيها أكمل فلا تفتر مع أهل الفتور ولا تنم مع أهل النوم فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها فيخرج عن حدها كما أن الأول خارج عن هذا الحد فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر
وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف
وقال بعض السلف : ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر : زيادة أو نقصان
وقال النبي لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : يا عبد الله بن عمرو إن لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنة أفلح ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل
فكل الخير في اجتهاد باقتصاد وإخلاص مقرون بالاتباع كما قال بعض الصحابة : اقتصاد في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم
وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة والفتور والتواني يخرجه عنها أيضا

فصل قال : الدرجة الثانية : استقامة الأحوال وهي شهود الحقيقة لا
كسبا ورفض الدعوى لا علما والبقاء مع نور اليقظة لا تحفظا

يعني أن استقامة الحال بهذه الثلاثة
أما شهود الحقيقة فالحقيقة حقيقتان : حقيقة كونية وحقيقة دينية يجمعهما حقيقة ثالثة وهي مصدرهما ومنشؤهما وغايتهما وأكثر أرباب السلوك من المتأخرين : إنما يريدون بالحقيقة الحقيقة الكونية وشهودها هو شهود تفرد الرب بالفعل وأن ما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله فهو كالحفير الذي هو محل لجريان الماء حسب
وعندهم أن شهود هذه الحقيقة والفناء : فيها غاية السالكين
ومنهم : من يشهد حقيقة الأزلية والدوام وفناء الحادثات وطيها في ضمن بساط الأزلية والأبدية وتلاشيها في ذلك فيشهدها معدومة ويشهد تفرد موجدها بالوجود الحق بالحق وأن وجود ما سواه رسوم وظلال
فالأول : شهد تفرده بالأفعال وهذا شهد تفرده بالوجود
وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر فإنه في مشهد الأمر والنهي والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يبغضه ويسخطه فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام فضلا عن مقام الإحسان إلا به
فالمعرض عنه صفحا لا نصيب له في الإسلام ألبتة وهو كالذي كان الجنيد يوصى به أصحابه فيقول : عليكم بالفرق الثاني وإنما سمى ثانيا لأن الفرق الأول : فرق بالطبع والنفس وهذا فرق بالأمر
والجمع أيضا جمعان : جمع في فرق وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد وجمع بلا فرق وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد
فالناس ثلاثة : صاحب فرق بلا جمع فهو مذموم ناقص مخذول وصاحب جمع بلا فرق وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد فصاحبه ملحد زنديق

وصاحب فرق وجمع يشهد الفرق في الجمع والكثرة في الوحدة فهو المستقيم الموحد الفارق وهذا صاحب الحقيقة الثالثة الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية فشهود هذه الحقيقة الجامعة : هو عين الاستقامة
وأما شهود الحقيقة الكونية أو الأزلية والفناء فيها : فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه وأزليته وأبديته فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه : فقد شهد الحقيقة وأما قوله لا كسبا أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة : أن شهودها لم يكن بالكسب لأن الكسب من أعمال النفس فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية فلابد من زوال ظلمة النفس ورؤية كسبها وإلا لم يشهد الحقيقة
وأما رفض الدعوى لا علما ف الدعوى نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنيتك فالاستقامة لا تصح إلا بتركها سواء كانت حقا أو باطلا فإن الدعوى الصادقة تطفىء نور المعرفة فكيف بالكاذبة
وأما قوله : لا علما أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى ومنافاتها للاستقامة فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها فيكون تاركا لها ظاهرا لا حقيقة أو تاركا لها لفظا قائما بها حالا لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها فيتركها تواضعا بل يتركها حالا وحقيقة كما يترك من أحب شيئا تضره محبته حبه حالا وحقيقة وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء كما قال الله عز و جل لخير خلقه على الاطلاق : ليس لك من الأمر شيء آل عمران : 128 ترك الدعوى شهودا وحقيقة وحالا
وأما البقاء مع نور اليقظة فهو الدوام في اليقظة وأن لا يطفىء نورها بظلمة الغفلة بل يستديم يقظته ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه حفظا من الله له لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه

فهذه ثلاثة أمور : يقظة واستدامة لها وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه بل بحفظ الله له وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب وإنما هو مجرد موهبة من الله فإنه قال في الأولى : الاستقامة على الاجتهاد وفي الثانية استقامة الأحوال لا كسبا ولا تحفظا
ومنازعته في ذلك متوجهة وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسبا بتعاطي الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام
نعم الذي ينفي في هذا المقام : شهود الكسب وأن هذا حصل له بكسبه فنفي الكسب شيءونفي شهوده شيء آخر
ولعل أن نشبع الكلام في هذا فيما يأتي إن شاء الله تعالى

فصل قال : الدرجة الثالثة : استقامة بترك رؤية الاستقامة وبالغيبة عن
تطلب الاستقامة بشهود إقامة وتقويمه الحق هذه الاستقامة معناها : الذهول بمشهوده عن شهوده فيغيب بالمشهود المقصود سبحانه عن رؤية استقامته في طلبه فإن رؤية الاستقامة تحجبه عن حقيقة الشهود
وأما الغيبة عن تطلب الاستقامة فهو غيبته عن طلبها بشهود إقامة الحق للعبد وتقويمه إياه فإنه إذا شهد أن الله هو المقيم له والمقوم وأن استقامته وقيامه بالله لا بنفسه ولا بطلبه : غاب بهذا الشهود عن استشعار طلبه لها
وهذا القدر من موجبات شهود معنى اسمه القيوم وهو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد وقام كل شيء به فكل ما سواه محتاج إليه بالذات وليست حاجته إليه معللة بحدوث كما يقول المتكلمون ولا بإمكان كما يقول الفلاسفة المشاءون بل حاجته إليه ذاتية وما بالذات لا يعلل

نعم الحدوث والإمكان دليلان على الحاجة فالتعليل بهما من باب التعريف لا من باب العلل المؤثرة والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التوكل
قال الله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين المائده : 23 وقال : وعلى الله فليتوكل المؤمنون إبراهيم : 11 وقال : ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق : 3 وقال عن أوليائه : ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير الممتحنة : 4 وقال لرسوله : قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا الملك : 29 وقال لرسوله : فتوكل على الله إنك على الحق المبين النمل : 79 وقال له : وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا النساء : 81 وقال له : وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده الفرقان : 58 وقال له : فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين آل عمران : 159 وقال عن أنبيائه ورسله : وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا إبراهيم : 12 وقال عن أصحاب نبيه الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل آل عمران : 173 وقال : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الأنفال : 2
والقرآن مملوء من ذلك
وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قالوا له : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل آل عمران : 173

وفي الصحيحين : أن رسول الله كان يقول : اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت : أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون
وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعا : لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا
وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله : من قال يعني إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له : هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي
التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة ومنزلته : أوسع المنازل وأجمعها ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي محابه وتنفيذ أوامره
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وحفظ حاله مع الله فارغا عن الناس
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد ونحو ذلك
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش فإن أصحاب

هذه المطالب لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم ويظفرهم بمطالبهم
فأفضل التوكل : التوكل في الواجب أعني واجب الحق وواجب الخلق وواجب النفس وأوسعه وأنفعه : التوكل في التأثير في الخارج فى مصلحة دينية أو في دفع مفسدة دينية وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض وهذا توكل ورثتهم ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم فمن متوكل على الله في حصول الملك ومن متوكل في حصول رغيف
ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله فإن كان محبوبا له مرضيا كانت له فيه العاقبة المحمودة وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعاته والله أعلم

فصل فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه قال الإمام أحمد :
التوكل عمل القلب ومعنى ذلك : أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح ولا هو من باب العلوم والإدراكات
ومن الناس : من يجعله من باب المعارف والعلوم فيقول : هو علم القلب بكفاية الرب للعبد
ومنهم : من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب فيقول : التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار
قال سهل : التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد

ومنهم : من يفسره بالرضى فيقول : هو الرضى بالمقدور قال بشر الحافي : يقول أحدهم : توكلت على الله يكذب على الله لو توكل على الله رضي بما يفعل الله
وسئل يحيى بن معاذ : متى يكون الرجل متوكلا فقال : إذا رضي بالله وكيلا ومنهم : من يفسره بالثقة بالله والطمأنينة إليه والسكون إليه
قال ابن عطاء : التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها
قال ذو النون : هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة وإنما يقوي العبدعلى التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه
وقال بعضهم : التوكل التعلق بالله في كل حال وقيل : التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو إلا إلى من إليه الكفايات
وقيل : نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك وقال ذو النون : خلع الأرباب وقطع الأسباب يريد قطعها من تعلق القلب بها لا من ملابسة الجوارح لها ومنهم : من جعله مركبا من أمرين أو أمور فقال أبو سعيد الخراز : التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب يريد : حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن وسكون إلى المسبب وركون إليه ولا يضطرب قلبه معه ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه
وقال أبو تراب النخشبي : هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر فجعله مركبا من خمسة أمور : القيام بحركات العبودية وتعلق القلب بتدبير

الرب وسكونه إلى قضائه وقدره وطمأنينته وكفايته له وشكره إذا أعطى وصبره إذا منع
قال أبو يعقوب النهرجوري : التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام : أما إليك فلا لأنه غائب عن نفسه بالله فلم ير مع الله غير الله
وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد
قال سهل بن عبدالله : من طعن في الحركة فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان
فالتوكل حال النبي والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته وهذا معنى قول أبي سعيد : هو اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب وقول سهل أبين وأرفع
وقيل : التوكل قطع علائق القلب بغير الله وسئل سهل عن التوكل فقال : قلب عاش مع الله بلا علاقة
وقيل : التوكل هجرالعلائق ومواصلة الحقائق وقيل : التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال
وهذا من موجباته وآثاره لأنه حقيقته
وقيل : هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك
وهذا صحيح من وجه باطل من وجه فترك الأسباب المأمور بها : قادح في التوكل وقد تولى الحق إيصال العبد بها وأما ترك الأسباب المباحة : فإن تركها لما هو أرجح منها مصلحة فممدوح وإلا فهو مذموم
وقيل : هو إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية

يريد : استرسالها مع الأمر وبراءتها من حولها وقوتها وشهود ذلك بها بل بالرب وحده
ومنهم : من قال : التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه ومنهم من قال : هو التفويض إليه في كل حال ومنهم : من جعل التوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية
قال أبو علي الدقاق : التوكل ثلاث درجات : التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه فالتوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين
التوكل صفة العوام والتسليم صفة الخواص والتفويض صفة خاصة الخاصة التوكل صفة الأنبياء والتسليم صفة إبراهيم الخليل والتفويض صفة نبينا محمد وعليهم أجمعين هذا كله كلام الدقاق ومعنى هذا التوكل : اعتماد على الوكيل وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه وإرادة وشائبة منازعة فإذا سلم إليه زال عنه ذلك ورضي بما يفعله وكيله وحال المفوض فوق هذا فإنه طالب مريد ممن فوض إليه ملتمس منه أن يتولى أموره فهو رضى واختيار وتسليم واعتماد فالتوكل يندرج في التسليم وهو والتسليم يندرجان في التفويض والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل وحقيقة الأمر : أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة
التوكل إلا بها وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر
فأول ذلك : معرفة بالرب وصفاته : من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء

الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل
قال شيخنا رضي الله عنه : ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين : بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه ولا هو فاعل باختياره ولا له إرادة ومشيئة ولا يقوم به صفة فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف : كان توكله أصح وأقوى والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل الدرجة الثانية : إثبات في الأسباب والمسببات فإن من نفاها
فتوكله مدخول وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي : أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل وأن نفيها تمام التوكل
فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببا ولا جعل دعاءه سببا لنيل شيء فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله : إن كان قد قدر حصل توكل أو لم يتوكل دعا أو لم يدع وإن لم يقدر لم يحصل توكل أيضا أو ترك التوكل
وصرح هؤلاء : أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدر له ومن غلاتهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطإ والنسيان عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول
ورأيت بعض متعمقي هؤلاء في كتاب له لا يجوز الدعاء بهذا وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء قال لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه لأن الداعي بين الخوف والرجاء والشك في وقوع ذلك شك في خبر الله فانظر إلى ما قاد إنكار

الأسباب من العظائم وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وبطلبه ولم يزل المسلمون من عهد نبيهم وإلى الآن يدعون به في مقامات الدعاء وهو من أفضل الدعوات
وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال : بقي قسم ثالث غير ما ذكرتم من القسمين لم تذكروه وهو الواقع وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب وقضى بحصوله إذا فعل العبد سببه فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبب وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل من يحبلها فإذا لم يجامع لم يخلق الولد
وقضى بحصول الشبع إذا أكل والري إذا شرب فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات : لم يدخلها أبدا وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته
وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض وإلقاء البذر فيها فما لم يأت بذلك لم يحصل إلا الخيبة فوزان ما قاله منكرو الأسباب : أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل ويقول : إن كان قضى لى وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها فلا بد أن يصل إلي تحركت أو سكنت وتزوجت أو تركت سافرت أو قعدت وإن لم يكن قد قضى لي لم يحصل لي أيضا فعلت أو تركت
فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء وهل البهائم إلا أفقه منه فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة

فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل : عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل الدرجة الثالثة : رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل فإنه لا
يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده بل حقيقة التوكل : توحيد القلب فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول وعلى قدر تجريد التوحيد : تكون صحة التوكل فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة ومن ههنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب وهذا حق لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها فيكون منقطعا منها متصلا بها والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل الدرجة الرابعة : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه
إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وعلامة هذا : أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق

عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به فرأى حصنا مفتوحا فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن فهو يشاهد عدوه خارج الحصن فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا معنى له
وكذلك من أعطاه ملك درهما فسرق منه فقال له الملك : عندي أضعافه فلا تهتم متى جئت إلي أعطيتك من خزائني أضعافه فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه وعلم أن خزائنه مليئة بذلك لم يحزنه فوته
وقد مثل ذلك بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره وليس في قلبه التفات إلى غيره كما قال بعض العارفين : المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه
فصل الدرجة الخامسة : حسن الظن بالله عز و جل فعلى قدر حسن ظنك
بربك ورجائك له يكون توكلك عليه ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله
والتحقيق : أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه والله أعلم

فصل الدرجة السادسة : استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه
وقطع منازعاته وبهذا فسره من قال : أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير

وهذا معنى قول بعضهم : التوكل إسقاط التدبير يعني الاستسلام لتدبير الرب لك وهذا في غير باب الأمر والنهي بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله
فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده وانقياده له وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل الدرجة السابعة : التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته وهو إلقاء
أموره كلها إلى الله وإنزالها به طلبا واختيارا لا كرها واضطرارا بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره : كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته وحسن ولايته له وتدبيره له فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه وراحته من حمل كلفها وثقل حملها مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها وعلمه بكمال علم من فوض إليه وقدرته وشفقته
فصل فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضى وهي
ثمرة التوكل ومن فسر التوكل : بها فإنما فسره بأجلع ثمراته وأعظم فوائده فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله
وكان شيخنا رضي الله عنه يقول : المقدور يكتنفه أمران : التوكل قبله والرضى بعده فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية أو معنى هذا
قلت : وهذا معنى قول النبي فى دعاء الاستخارة : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فهذا

توكل وتفويض ثم قال : فإنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلا أو آجلا وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلا أو آجلا فهذا هو حاجته التي سألها فلم يبق عليه إلا الرضى بما يقضيه له فقال : واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به
فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها : التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور والرضى بعده وهو ثمرة التوكل والتفويض علامة صحته فإن لم يرض بما قضى له فتفويضه معلول فاسد
فباستكمال هذه الدرجات الثمان يستكمل العبد مقام التوكل وتثبت قدمه فيه وهذا معنى قول بشر الحافي : يقول أحدهم : توكلت على الله يكذب على الله لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به
وقول يحيى بن معاذ وقد سئل : متى يكون الرجل متوكلا فقال : إذا رضي بالله وكيلا

فصل وكثيرا ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل بالمذموم الناقص
فيشتبه التفويض بالإضاعة فيضيع العبد حظه ظنا منه أن ذلك تفويض وتوكل وإنما هو تضييع لا تفويض فالتضييع في حق الله والتفويض في حقك
ومنه : اشتباه التوكل بالراحة وإلقاء حمل الكل فيظن صاحبه أنه متوكل وإنما هو عامل على عدم الراحة
وعلامة ذلك : أن المتوكل مجتهد في الأسباب المأمور بها غاية الاجتهاد مستريح من غيرها لتعبه بها والعامل على الراحة آخذ من الأمر مقدار ما تندفع به الضرورة وتسقط به عنه مطالبة الشرع فهذا لون وهذا لون

ومنه : اشتباه خلع الأسباب بتعطيلها فخلعها توحيد وتعطيلها إلحاد وزندقة فخلعها عدم اعتماد القلب عليها ووثوقه وركونه إليها مع قيامه بها وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح
ومنه : اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز والفرق بينهما : أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض والمغتر العاجز : قد فرط فيما أمر به وزعم أنه واثق بالله والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود
ومنه : اشتباه الطمأنينة إلى الله والسكون إليه بالطمأنينة إلى المعلوم وسكون القلب إليه ولا يميز بينهما إلا صاحب البصيرة كما يذكر عن أبي سليمان الداراني : أنه رأى رجلا بمكة لا يتناول شيئاإلا شربة من ماء زمزم فمضى عليه أيام فقال له أبو سليمان يوما : أرأيت لو غارت زمزم أي شيء كنت تشرب فقام وقبل رأسه وقال : جزاك الله خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه ومضى
وأكثر المتوكلين سكونهم وطمأنينتهم إلى المعلوم وهم يظنون أنه إلى الله وعلامة ذلك : أنه متى انقطع معلوم أحدهم حضره همه وبثه وخوفه فعلم أن طمأنينته وسكونه لم يكن إلى الله
ومنه : اشتباه الرضى عن الله بكل ما يفعل بعبده مما يحبه ويكرهه بالعزم على ذلك وحديث النفس به وذلك شيء والحقيقة شيء آخر كما يحكى عن أبي سليمان أنه قال : أرجو أن أكون أعطيت طرفا من الرضى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا عزم منه على الرضى وحديث نفس به ولو أدخله النار لم يكن من ذلك شيء وفرق بين العزم على الشىء وبين حقيقته

ومنه : اشتباه علم التوكل بحال المتوكل فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل فحال التوكل : أمر آخر من وراء العلم به وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها وحال المحب العاشق وراء ذلك وكمعرفة علم الخوف وحال الخائف وراء ذلك وهو شبيه بمعرفة المريض ماهية الصحة وحقيقتها وحاله بخلافها
فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق والعوارض بالمطالب والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

فصل التوكل من أعم المقامات تعلقا بالأسماء الحسنى فإن له تعلقا
خاصا بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات فله تعلق باسم الغفار والتواب والعفو والرؤوف والرحيم وتعلق باسم الفتاح والوهاب والرزاق والمعطي والمحسن وتعلق باسم المعز المذل الحافظ الرافع المانع من جهة توكله عليه في إذلال أعداء دينه وخفضهم ومنعهم أسباب النصر وتعلق بأسماء القدرة والإرادة وله تعلق عام بجميع الأسماء الحسنى ولهذا فسره من فسره من الأئمة بأنه المعرفة بالله وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد يصح له مقام التوكل وكلما كان بالله أعرف كان توكله عليه أقوى
فصل وكثير من المتوكلين يكون مغبونا في توكله وقد توكل حقيقة
التوكل وهو مغبون كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله ويمكنه نيلها بأيسر شيء وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدين والتأثير في العالم خبرا فهذا توكل العاجز القاصر الهمة كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء أو جوع يمكن زواله بنصف

رغيف أو نصف درهم ويدع صرفه إلى نصرة الدين وقمع المبتدعين وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل : التوكل : كلة الأمر إلى مالكه والتعويل
على وكالته وهو من أصعب منازل العامة عليهم وأوهى السبل عند الخاصة لأن الحق تعالى قد وكل الأمور كلها إلى نفسه وأيأس العالم من ملك شيء منها
قوله : كلة الأمر إلى مالكه أي تسليمه إلى من هو بيده والتعويل على وكالته أي الاعتماد على قيامه بالأمر والاستغناء بفعله عن فعلك وبإرادته عن إرادتك
و الوكالة يراد بها أمران أحدهما : التوكيل وهو الاستنابة والتفويض والثاني : التوكل وهو التعرف بطريق النيابة عن الموكل وهذا من الجانبين فإن الله تبارك وتعالى يوكل العبد ويقيمه في حفظ ما وكله فيه والعبد يوكل الرب ويعتمد عليه
فأما وكالة الرب عبده ففي قوله : تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين الأنعام : قال قتادة : وكلنا بها الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرناهم يعني قبل هذه الآية وقال أبو رجاء العطاردي : معناه إن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة وقال ابن عباس ومجاهد : هم الأنصار أهل المدينة
والصواب : أن المراد من قام بها إيمانا ودعوة وجهادا ونصرة فهولاء هم الذين وكلهم الله بها
فإن قلت : فهل يصح أن يقال : إن أحدا وكيل الله
قلت : لا فإن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة والله عز و جل

لا نائب له ولا يخلفه أحد بل هو الذي يخلف عبده كما قال النبي : اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه ورعايته والقيام به
وأما توكيل العبد ربه : فهو تفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف وإثباته لأهله ووليه ولهذا قيل في التوكل : إنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية وهذا معنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه نائبه في التصرف فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان له وخلعة منه عليه لا عن حاجة منه وافتقار إليه كموالاته وأما توكيل العبد ربه : فتسليم لربوبيته وقيام بعبوديته
وقوله وهو : من أصعب منازل العامة عليهم لأن العامة لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصة وهي التي تشهد التوكيل فهم في رق الأسباب فيصعب عليهم الخروج عنها وخلو القلب منها والاشتغال بملاحظة المسبب وحده
وأما كونه أو هي السبل عند الخاصة فليس على إطلاقه بل هو من أجل السبل عندهم وأفضلها وأعظمها قدرا وقد تقدم في صدر الباب : أمر الله رسوله بذلك وحضه عليه هو والمؤمنين ومن أسمائه المتوكل وتوكله أعظم توكل وقد قال الله له : فتوكل على الله إنك على الحق المبين النمل : 79 وفي ذكر أمره بالتوكل مع إخباره بأنه على الحق : دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين : أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله واعتقاده ونيته وأن يكون متوكلا على الله واثقا به فالدين كله في هذين المقامين وقال رسل الله وأنبياؤه وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا إبراهيم : 12 فالعبد آفته : إما من عدم الهداية وإما من عدم التوكل فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله

نعم التوكل على الله في معلوم الرزق المضمون والاشتغال به عن التوكل في نصرة الحق والدين : من أوهى منازل الخاصة أما التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه فيه وفي الخلق فهذا توكل الرسل والأنبياء عليهم السلام فكيف يكون من أوهى منازل الخاصة
قوله : لأن الحق قد وكل الأمور إلى نفسه وأيأس العالم من ملك شيء منها
جوابه : أن الذي تولى ذلك أسند إلى عباده كسبا وفعلا وإقدارا واختيارا وأمرا ونهيا استعبدهم به وامتحن به من يطيعه ممن يعصيه ومن يؤثره ممن يؤثر عليه وأمر بتوكلهم عليه فيما أسنده إليهم وأمرهم به وتعبدهم به وأخبر : أنه يحب المتوكلين عليه كما يحب الشاكرين وكما يحب المحسنين وكما يحب الصابرين وكما يحب التوابين
وأخبر : أن كفايته لهم مقرونة بتوكلهم عليه وأنه كاف من توكل عليه وحسبه وجعل لكل عمل من أعمال البر ومقام من مقاماته جزاء معلوما
وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته فقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا الطلاق : 4 ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين الآية النساء : 69 ثم قال في التوكل : ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق : 3
فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ولم يجعله لغيره وهذا يدل على أن التوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه بمناف لتوكل العبد عليه بل هذا تحقيق كون الأمور كلها موكولة إلى نفسه لأن العبد إذا علم ذلك وتحققه معرفة : صارت حاله التوكل قطعا على من هذا شأنه لعلمه بأن الأمور كلها موكولة إليه وأن العبد لا يملك شيئا منها فهو لا يجد بدا

من اعتماده عليه وتفويضه إليه وثقته به من الوجهين : من جهة فقره وعدم ملكه شيئا ألبتة ومن جهة كون الأمر كله بيده وإليه والتوكل ينشأ من هذين العلمين
فإن قيل : فإذا كان الأمر كله لله وليس للعبد من الأمر شيء فكيف يوكل المالك على ملكه وكيف يستنيبه فيما هو ملك له دون هذا الموكل فالخاصة لما تحققوا هذا نزلوا عن مقام التوكل وسلموه إلى العامة وبقي الخطاب بالتوكل لهم دون الخاصة
قيل : لما كان الأمر كله لله عز و جل وليس للعبد فيه شيء ألبتة كان توكله على الله تسليم الأمر إلى من هو له وعزل نفسه عن منازعات مالكه واعتماده عليه فيه وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه وهذا مقصود التوكل
وأما عزل العبد نفسه عن مقام التوكل : فهو عزل لها عن حقيقة العبودية
وأما توجه الخطاب به إلى العامة : فسبحان الله هل خاطب الله بالتوكل في كتابه إلا خواص خلقه وأقربهم إليه وأكرمهم عليه وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكلين والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه
وهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل فمن لا توكل له : لا إيمان له قال الله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين المائده : 23 وقال تعالى : وعلى الله فليتوكل المؤمنون وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناوعلى ربهم يتوكلون الأنفال : 2 وهذا يدل على انحصار المؤمنين فيمن كان بهذه الصفة
وأخبر تعالى عن رسله بأن التوكل ملجأهم ومعاذهم وأمر به رسوله في أربع مواضع من كتابه وقال : وقال موسى : يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مؤمنين فقالوا على الله توكلنا يونس : 8485 فكيف يكون من أو هي السبل وهذا شأنه والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال : وهو على ثلاث درجات كلها تسير مسير العامة الدرجة الأولى
: التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس بالسبب مخافة ونفع الخلق وترك الدعوى
يقول : إن صاحب هذه الدرجة يتوكل على الله ولا يترك الأسباب بل يتعطاها على نية شغل النفس بالسبب مخافة أن تفرغ فتشتغل بالهوى والحظوظ فإن لم يشغل نفسه بما ينفعها شغلته بما يضره لا سيما إذا كان الفراغ مع حدة الشباب وملك الجدة وميل النفس إلى الهوى وتوالي الغفلات كما قيل :
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
ويكون أيضا قيامه بالسبب على نية نفع النفس ونفع الناس بذلك فيحصل له نفع نفسه ونفع غيره
وأما تضمن ذلك لترك الدعوى : فإنه إذا اشتغل بالسبب تخلص من إشارة الخلق إليه الموجبة لحسن ظنه بنفسه الموجب لدعواه فالسبب ستر لحاله ومقامه وحجاب مسبل عليه
ومن وجه آخر وهو أن يشهد به فقره وذله وامتهانه امتهان العبيد والفعلة فيتخلص من رعونة دعوى النفس فإنه إذا امتهن نفسه بمعاطاة الأسباب : سلم من هذه الأمراض فيقال : إذا كانت الأسباب مأمورا بها ففيها فائدة أجل من هذه الثلاث وهي المقصودة بالقصد الأول وهذه مقصودة قصد الوسائل وهي القيام بالعبودية والأمر الذي خلق له العبد وأرسلت به الرسل وأنزلت لأجله الكتب وبه قامت السموات والأرض وله وجدت الجنة والنار
فالقيام بالأسباب المأمور بها : محض العبودية وحق الله على عبده الذي توجهت به نحوه المطالب وترتب عليه الثواب والعقاب والله سبحانه أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن
السبب اجتهادا لتصحيح التوكل وقمعا لشرف النفس وتفرغا إلى حفظ الواجبات قوله : مع إسقاط الطلب أي من الخلق لا من الحق فلا يطلب من أحد شيئا وهذا من أحسن الكلام وأنفعه للمريد فإن الطلب من الخلق فى الأصل محظور وغايته : أن يباح للضرورة كإباحة الميتة للمضطر ونص أحمد على أنه لا يجب وكذلك كان شيخنا يشير إلى أنه لا يجب الطلب والسؤال
وسمعته يقول في السؤال : هو ظلم في حق الربوبية وظلم في حق الخلق وظلم في حق النفس أما في حق الربوبية : فلما فيه من الذل لغير الله وإراقة ماء الوجه لغير خالقه والتعوض عن سؤاله بسؤال المخلوقين والتعرض لمقته إذا سأل وعنده ما يكفيه يومه
وأما في حق الناس : فبمنازعتهم ما في أيديهم بالسؤال واستخراجه منهم وأبغض ما إليهم : من يسألهم ما في أيديهم وأحب ما إليهم : من لا يسألهم فإن أموالهم محبوباتهم ومن سألك محبوبك فقد تعرض لمقتك وبغضك
وأما ظلم السائل نفسه : فحيث امتهنها وأقامها في مقام ذل السؤال ورضي لها بذل الطلب ممن هو مثله أو لعل السائل خير منه وأعلى قدرا وترك سؤال من ليس كمثله شىء وهو السميع البصير فقد أقام السائل نفسه مقام الذل وأهانها بذلك ورضي أن يكون شحاذا من شحاذ مثله فإن من تشحذه فهو أيضا شحاذ مثلك والله وحده هو الغني الحميد
فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير والرب تعالى كلما سألته كرمت عليه ورضي عنك وأحبك والمخلوق كلما سألته هنت عليه وأبغضك ومقتك وقلاك كما قيل :
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب

وقبيح بالعبد المريد : أن يتعرض لسؤال العبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله وكنا حديثي عهد ببيعة فقلنا قد بايعناك يا رسول الله ثم قال ألا تبايعون رسول الله فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك فقال أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا قال : ولقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا أن يناوله إياه
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم
وفيهما أيضا عنه أن رسول الله قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة : واليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا : هي المنفقة والسفلى : هي السائلة
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي قال : من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر
وفي الترمذي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في الأمر الذي لا بد منه قال الترمذي : حديث صحيح
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل
وفي السنن و المسند عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله : من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة فقلت : أنا فكان لا يسأل أحدا شيئا

وفي صحيح مسلم عن قبيصة رضي الله عنه عن النبي : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال : سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا
فالتوكل مع إسقاط هذا الطلب والسؤال هو محض العبودية
قوله : وغض العين عن التسبب اجتهادا في تصحيح التوكل معناه : أنه يعرض عن الاشتغال بالسبب لتصحيح التوكل بامتحان النفس لأن المتعاطي للسبب قد يظن أنه حصل التوكل ولم يحصله لثقته بمعلومه فإذا أعرض عن السبب صح له التوكل
وهذا الذي أشار إليه : مذهب قوم من العباد والسالكين وكثير منهم كان يدخل البادية بلا زاد ويرى حمل الزاد قدحا في التوكل ولهم في ذلك حكايات مشهورة وهؤلاء في خفارة صدقهم وإلا فدرجتهم ناقصة عن العارفين ومع هذا فلا يمكن بشرا ألبتة ترك الأسباب جملة
فهذا إبراهيم الخواص كان مجردا في التوكل يدقق فيه ويدخل البادية بغير زاد وكان لا تفارقه الإبرة والخيط والركوة والمقراض فقيل له : لم تحمل هذا وأنت تمنع من كل شيء فقال : مثل هذا لا ينقص من التوكل لأن لله علينا فرائض والفقير لا يكون عليه إلا ثوب واحد فربما تخرق ثوبه فإذا لم يكن

معه إبرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلاته وإذا لم يكن معه ركوة فسدت عليه طهارته وإذا رأيت الفقير بلا ركوة ولا إبرة ولا خيوط فاتهمه في صلاته
أفلا تراه لم يستقم له دينه إلا بالأسباب أو ليست حركة أقدامه ونقلها في الطريق والاستدلال على أعلامها إذا خفيت عليه من الأسباب
فالتجرد من الأسباب جملة ممتنع عقلا وشرعا وحسا
نعم قد تعرض للصادق أحيانا قوة ثقة بالله وحال مع الله تحمله على ترك كل سبب مفروض عليه كما تحمله على إلقاء نفسه في مواضع الهلكة ويكون ذلك الوقت بالله لا به فيأتيه مدد من الله على مقتضى حاله ولكن لا تدوم له هذه الحال وليست في مقتضى الطبيعة فإنها كانت هجمة هجمت عليه بلا استدعاء فحمل عليها فإذا استدعى مثلها وتكلفها لم يجب إلى ذلك وفي تلك الحال : إذا ترك السبب يكون معذورا لقوة الوارد وعجزه عن الاشتغال بالسبب فيكون في وارده عون له ويكون حاملا له فإذا أراد تعاطي تلك الحال بدون ذلك الوارد وقع في المحال
وكل تلك الحكايات الصحيحة التي تحكي عن القوم فهي جزئية حصلت لهم أحيانا ليست طريقا مأمورا بسلوكها ولا مقدورة وصارت فتنة لطائفتين
وطائفة ظنتها طريقا ومقاما فعملوا عليها فمنهم من انقطع ومنهم من رجع ولم يمكنه الاستمرار عليها بل انقلب على عقبيه وطائفة قدحوا في أربابها وجعلوهم مخالفين للشرع والعقل مدعين لأنفسهم حالا أكمل من حال رسول الله وأصحابه إذ لم يكن فيهم أحد قط يفعل ذلك ولا أخل بشيء من الأسباب وقد ظاهر بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عريانا كما يفعله من لا علم

عنده ولا معرفة واستأجر دليلا مشركا على دين قومه يدله على طريق الهجرة وقد هدى الله به العالمين وعصمه من الناس أجمعين وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد وجميع أصحابه وهم أولوالتوكل حقا وأكمل المتوكلين بعدهم : هو من اشتم رائحة توكلهم من مسيرة بعيدة أو لحق أثرا من غبارهم فحال النبي وحال أصحابه محك الأحوال وميزانها بها يعلم صحيحها من سقيمها فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم من بعدهم فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب وأن يعبد الله في جميع البلاد وأن يوحده جميع العباد وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد فملؤا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانا وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان وهبت رياح روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينا وإيمانا فكانت همم الصحابة رضى الله عنهم أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعى فيجعله نصب عينيه ويحمل عليه قوى توكله
قوله : وقمعا لشرف النفس يريد : أن المتسبب قد يكون متسببا بالولايات الشريفة في العبادة أو التجارات الرفيعة والأسباب التي له بها جاه وشرف في الناس فإذا تركها يكون تركها قمعا لشرف نفسه وإيثارا للتواضع
وقوله : وتفرغا لحفظ الواجبات أي يتفرغ بتركها لحفظ واجباتها التي تزاحمها تلك الأسباب والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى
الخلاص من علة التوكل وهي أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة

لا يشاركه فيها مشارك فيكل شركته إليه فإن من ضرورة العبودية : أن يعلم العبد : أن الحق سبحانه هو مالك الأشياء وحده
يريد أن صاحب هذه الدرجة متى قطع الأسباب والطلب وتعدى تينك الدرجتين فتوكله فوق توكل من قبله وهو إنما يكون بعد معرفته بحقيقة التوكل وأنه دون مقامه فتكون معرفته به وبحقيقته نازعة أي باعثة وداعية إلى تخلصه من علة التوكل أي لا يعرف علة التوكل حتى يعرف حقيقته فحينئذ يعرف التوكل المعرفة التي تدعوه إلى التخلص من علته
ثم بين المعرفة التي يعلم بها علة التوكل فقال : أن يعلم أن ملكة الحق للأشياء ملكة عزة أي ملكة امتناع وقوة وقهر تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك فهو العزيز في ملكه الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه كما هو المنفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك
فالمتوكل يرى أن له شيئا قد وكل الحق فيه وأنه سبحانه صار وكيله عليه وهذا مخالف لحقيقة الأمر إذ ليس لأحد من الأمر مع الله شيء فلهذا قال : لا يشاركه فيه مشارك فيكل شركته إليه فلسان الحال يقول لمن جعل الرب تعالى وكيله : فيماذا وكلت ربك أفيما هو له وحده أو لك وحدك أو بينكما فالثاني والثالث ممتنع بتفرده بالملك وحده والتوكيل في الأول ممتنع فكيف توكله فيما ليس لك منه شيء ألبتة
فيقال ههنا أمران : توكل وتوكيل فالتوكل : محض الاعتماد والثقة والسكون إلى من له الأمر كله وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون : من أقوى أسباب توكله وأعظم دواعيه
فإذا تحقق ذلك علما ومعرفة وباشر قلبه حالا : لم يجد بدا من اعتماد قلبه على الحق وحده وثقته به وسكونه إليه وحده وطمأنينته به وحده لعلمه أن

حاجاته وفاقاته وضروراته وجميع مصالحه كلها بيده وحده لا بيد غيره فأين يجد قلبه مناصامن التوكل بعد هذا
فعلة التوكل حينئذ : التفات قلبه إلى من ليس له شركة في ملك الحق ولا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض هذه علة توكله فهو يعمل على تخليص توكله من هذه العلة
نعم ومن علة أخرى وهي رؤية توكله فإنه التفات إلى عوالم نفسه
وعلة ثالثة : وهي صرفه قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه
فهذه العلل الثلاث : هي علل التوكيل
وأما التوكل : فليس المراد منه إلا مجرد التفويض وهو من أخص مقامات العارفين كمان كان النبي يقول : اللهم إني أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد غافر : 4445 فكان جزاء هذا التفويض قوله : فوقاه الله سيئات ما مكروا فإن كان التوكل معلولا بما ذكره فالتفويض أيضا كذلك وليس فليس
ولولا أن الحق لله ورسوله وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك وهو عرضة الوهم والخطأ : لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم ولا نجري معهم في مضمارهم ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ومنازل السائرين كالنجوم الدراري ومن كان عنده علم فليرشدنا إليه ومن رأى في كلامنا زيغا أو نقصا وخطأ فليهد إلينا الصواب نشكر له سعيه ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم والله أعلم وهو الموفق

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التفويض
قال صاحب المنازل : وهو ألطف إشارة وأوسع معنى من التوكل فإن التوكل بعد وقوع

السبب والتفويض قبل وقوعه وبعده وهو عين الاستسلام والتوكل شعبة منه
يعني أن المفوض يتبرأ من الحول والقوة ويفوض الأمر إلى صاحبه من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه بخلاف التوكل فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل
فالتفويض : براءة وخروج من الحول والقوة وتسليم الأمر كله إلى مالكه
فيقال : وكذلك التوكل أيضا وما قدحتم به فى التوكل يرد عليكم نظيره في التفويض سواء فإنك كيف تفوض شيئا لا تملكه ألبتة إلى مالكه وهل يصح أن يفوض واحد من آحاد الرعية الملك إلى ملك زمانه
فالعلة إذن في التفويض أعظم منها في التوكل بل لو قال قائل : التوكل فوق التفويض وأجل منه وأرفع لكان مصيبا ولهذا كان القرآن مملوءا به أمرا وإخبارا عن خاصة الله وأوليائه وصفوة المؤمنين بأن حالهم التوكل وأمر الله به رسوله في أربعة مواضع من كتابه وسماه المتوكل كما في صحيح البخارى عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قرأت في التوراة صفة النبي : محمد رسول الله سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق
وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل وبه انتصروا على قومهم وأخبر

النبي عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب : أنهم أهل مقام التوكل
ولم يجيء التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله : وأفوض أمري إلى الله غافر : 44 وقد أمر الله رسوله بأن يتخذه وكيلا فقال : رب المشرق والمغرب لا إلكه إله هو فاتخذه وكيلا المزمل : 9
وهذا يبطل قول من قال من جهلة القوم : إن توكيل الرب فيه جسارة على البارى لأن التوكل يقتضي إقامة الوكيل مقام الموكل وذلك عين الجسارة
قال : ولولا أن الله أباح ذلك وندب إليه : لما جاز للعبد تعاطيه
وهذا من أعظم الجهل فإن اتخاذه وكيلا هو محض العبودية وخالص التوحيد إذا قام به صاحبه حقيقة
ولله در سيد القوم وشيخ الطائفة سهل بن عبدالله التستري إذ يقول : العلم كله باب من التعبد والتعبد كله باب من الورع والورع كله باب من الزهد والزهد كله باب من التوكل
فالذي نذهب إليه : أن التوكل أوسع من التفويض وأعلى وأرفع
قوله : فإن التوكل بعد وقوع السبب والتفويض قبل وقوعه وبعده يعني بالسبب : الاكتساب فالمفوض قد فوض أمره إلى الله قبل اكتسابه وبعده والمتوكل قد قام بالسبب وتوكل فيه على الله فصار التفويض أوسع
فيقال : والتوكل قد يكون قبل السبب ومعه وبعده فيتوكل على الله أن يقيمه في سبب يوصله إلى مطلوبه فإذا قام به توكل على الله حال مباشرته فإذا أتمه توكل على الله في حصول ثمراته فيتوكل على الله قبله ومعه وبعده فعلى هذا : هو أوسع من التفويض على ما ذكر قوله : وهو عين الاستسلام أي التفويض عين الانقياد بالكلية إلى

الحق سبحانه ولا يبالي أكان ما يقضى له الخير أم خلافه والمتوكل يتوكل على الله في مصالحه
وهذا القدر هو الذي لحظه القوم في هضم مقام التوكل ورفع مقام التفويض عليه وجوابه من وجهين
أحدهما : أن المفوض لا يفوض أمره إلى الله إلا لإرادته أن يقضي له ما هو خير له في معاشه ومعاده وإن كان المقضي له خلاف ما يظنه خيرا فهو راض به لأنه يعلم أنه خير له وإن خفيت عليه جهة المصلحة فيه وهكذا حال المتوكل سواء بل هو أرفع من المفوض لأن معه من عمل القلب ما ليس مع المفوض فإن المتوكل مفوض وزيادة فلا يستقيم مقام التوكل إلا بالتفويض فإنه إذا فوض أمره إليه اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه
ونظير هذا : أن من فوض أمره إلى رجل وجعله إليه فإنه يجد من نفسه بعد تفويضه اعتمادا خاصا وسكونا وطمأنينة إلى المفوض إليه أكثر مما كان قبل التفويض وهذا هو حقيقة التوكل
الوجه الثاني : أن أهم مصالح المتوكل : حصول مراضي محبوبه ومحابه فهو يتوكل عليه في تحصيلها له فأي مصلحة أعظم من هذه
وأما التفويض : فهو تفويض حاجات العبد المعيشية وأسبابها إلى الله فإنه لا يفوض إليه محابه والمتوكل يتوكل في محابه
والوهم إنما دخل من حيث يظن الظان : أن التوكل مقصور على معلوم الرزق وقوة البدن وصحة الجسم ولا ريب أن هذا التوكل ناقص بالنسبة إلى التوكل في إقامة الدين والدعوة إلى الله

قال : وهو على ثلاث درجات الأول أن يعلم أن العبد لا يملك قبل عمله استطاعة فلا يأمن من مكر ولا ييأس من معونة ولا يعول على نية
أي يتحقق أن استطاعته بيد الله لا بيده فهو مالكها دونه فإنه إن لم يعطه الاستطاعة فهو عاجز فهو لا يتحرك إلا بالله لا بنفسه فكيف يأمن المكر وهو محرك لا محرك يحركه من حركته بيده فإن شاء ثبطه وأقعده مع القاعدين كما قال فيمن منعه هذا التوفيق : ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين التوبة : 46
فهذا مكر الله بالعبد : أن يقطع عنه مواد توفيقه ويخلي بينه وبين نفسه ولا يبعث دواعيه ولا يحركه إلى مراضيه ومحابه وليس هذا حقا على الله فيكون ظالما بمنعه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل هو مجرد فضله الذي يحمده على بذله لمن بذله وعلى منعه لمن منعه إياه فله الحمد على هذا وهذا
ومن فهم هذا فهم بابا عظيما من سر القدر وانجلت له إشكالات كثيرة فهو سبحانه لا يريد من نفسه فعلا يفعله بعبده يقع منه ما يحبه ويرضاه فيمنعه فعل نفسه به وهو توفيقه لأنه يكرهه ويقهره على فعل مساخطه بل يكله إلى نفسه وحوله وقوته ويتخلى عنه فهذا هو المكر
قوله : ولا ييأس من معونة يعني إذا كان المحرك له هو الرب جل جلاله وهو أقدر القادرين وهو الذي تفرد بخلقه ورزقه وهو أرحم الراحمين فكيف ييأس من معونته له
قوله : ولا يعول على نية أي لا يعتمد على نيته وعزمه ويثق بها فإن نيته وعزمه بيد الله تعالى لا بيده وهي إلى الله لا إليه فلتكن ثقته بمن هي في يده حقا لا بمن هي جارية عليه حكما

فصل قال : الدرجة الثانية : معاينة الاضطرار فلا يرى عملا منجيا
ولا ذنبا مهلكا ولا سببا حاملا
أي يعاين فقره وفاقته وضرورته التامة إلى الله بحيث إنه يرى في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة وفاقة تامة إلى الله فنجاته إنما هي بالله لا بعمله
وأما قوله : ولا ذنبا مهلكا فإن أراد به : أن هلاكه بالله لا بسبب ذنوبه : فباطل معاذ الله من ذلك وإن أراد به : أن فضل الله وسعته ومغفرته ورحمته ومشاهدة شدة ضرورته وفاقته إليه : يوجب له أن لا يرى ذنبا مهلكا فإن افتقاره وفاقته وضرورته تمنعه من الهلاك بذنوبه بل تمنعه من اقتحام الذنوب المهلكة إذ صاحب هذا المقام لا يصر على ذنوب تهلكه وهذا حاله فهذا حق وهو من مشاهد أهل المعرفة
وقوله : ولا سببا حاملا أي يشهد : أن الحامل له هو الحق تعالى لا الأسباب التي يقوم بها فإنه وإياها محمولان بالله وحده
فصل قال : الدرجة الثالثة : شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون
والقبض والبسط ومعرفته بتصريف التفرقة والجمع
هذه الدرجة تتعلق بشهود وصف الله تبارك وتعالى وشأنه والتي قبلها تتعلق بشهود حال العبد ووصفه أي يشهد حركات العالم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن فيشهد تعلق الحركة باسمه الباسط وتعلق السكون باسمه القابض فيشهد تفرده سبحانه بالبسط والقبض
وأما معرفته بتصريف التفرقة والجمع فأن يكون المشاهد عارفا بمواضع التفرقة والجمع والمراد بالتفرقة : نظر الاعتبار ونسبة الأفعال إلى الخلق

والمراد بالجمع : شهود الأفعال منسوبة إلى موجدها الحق تعالى وقد يريدون بالتفرقة والجمع : معنى وراء هذا الشهود وهو حال التفرقة والجمع فحال التفرقة : تفرق القلب في أودية الإرادات وشعابها وحال الجمع : جمعيته على مراد الحق وحده فالأول : علم التفرقة والجمع والثاني : حالهما والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الثقة بالله تعالى
قال صاحب المنازل : الثقة : سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم وصدر الباب بقوله تعالى لأم موسى : فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني القصص : 7 فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجرياته إلى حيث ينتهى أو يقف ومراده : أن الثقة خلاصة التوكل ولبه كما أن سواد العين : أشرف ما في العين وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض
وكذلك قوله : سويداء قلب التسليم فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه وهي المهجة التي تكون بها الحياة وهي في وسطه فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه ولو كان عينا لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها

وقد تقدم أن كثيرا من الناس يفسر التوكل بالثقة ويجعله حقيقتها ومنهم من يفسره بالتفويض ومنهم من يفسره بالتسليم فعلمت : أن مقام التوكل يجمع ذلك كله
فكأن الثقة عند الشيخ هي روح و التوكل كالبدن الحامل لها ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان والله أعلم

فصل قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : درجة الإياس وهو
إياس البعد عن مقاومات الأحكام ليقعد عن منازعة الأقسام ليتخلص من قحة الإقدام
يعني أن الواثق بالله لاعتقاده : أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمرا فلا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه فمن حكم الله له بحكم وقسم له بنصيب من الرزق أو الطاعة أو الحال أو العلم أو غيره : فلا بد من حصوله له ومن لم يقسم له ذلك : فلا سبيل له إليه ألبتة كما لا سبيل له إلى الطيران إلى السماء وحمل الجبال فبهذا القدر يقعد عن منازعة الأقسام فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته
والفرق بين قوله : مقاومة الأحكام و : منازعة الأقسام أن مقاومة الأحكام : أن تتعلق إرادته بعين ما في حكم الله وقضائه فإذا تعلقت إرادته بذلك جاذب الخلق الأقسام ونازعهم فيها
وقوله : يتخلص من قحة الإقدام أي يتخلص بالثقة بالله من هذه القحة والجرأة على إقدامه على ما لم يحكم له به ولا قسم له والله سبحانه أعلم
فصل قال : الدرجة الثانية : درجة الأمن وهو أمن العبد من فوت
المقدور وانتقاض المسطور فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين وإلا فبلطف الصبر

يقول : من حصل له الإياس المذكور حصل له الأمن وذلك أن من تحقق بمعرفة الله وأن ما قضاه الله فلا مرد له ألبتة : أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له وأمن أيضا من نقصان ما كتبه الله له وسطره في الكتاب المسطور فيظفر بروح الرضى أي براحته ولذته ونعيمه لأن صاحب الرضى في راحة ولذة وسرور كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال : إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى وجعل الهم والحزن في الشك والسخط
فإن لم يقدر العبد على روح الرضى ظفر بعين اليقين وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب بحيث لا يبقى بينه وبين العيان إلا كشف الحجاب المانع من مكافحة البصر
فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر وما فيه من حسن العاقبة كما في الأثر المعروف : إن استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر ما تكره النفس خيرا كثيرا

فصل قال : الدرجة الثالثة : معاينة أزلية الحق ليتخلص من محن
القصود وتكاليف الحمايات والتعريج على مدارج الوسائل
قوله : معاينة أزلية الحق أي متى شهد قلبه تفرد الرب سبحانه وتعالى بالأزلية غاب بها عن الطلب لتيقنه فراغ الرب تعالى من المقادير وسبق الأزل بها وثبوت حكمها هناك فيتخلص من المحن التي تعرض له دون القصود ويتخلص أيضا من تعريجه والتفاته وحبس مطيته على طرق الأسباب التي يتوسل بها إلى المطالب
وهذا ليس على إطلاقه فإن مدارج الوسائل قسمان : وسائل موصلة إلى عين الرضى فالتعريج على مدارجها معرفة وعملا وحالا وإيثارا هو محض

العبودية ولكن لا يجعل تعريجه كله على مدارجها بحيث ينسى بها الغاية التي هي وسائل إليها
وأما تخلصه من تكاليف الحمايات فهو تخلصه من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدرا فلا يتكلف طلبه وقد حمي عنه ووجه آخر : وهو أن يتخلص بمشاهدة سبق الأزلية من تكاليف احترازاته وشدة احتمائه من المكاره لعلمه بسبق الأزل بما كتب له منها فلا فائدة في تكلف الاحتماء نعم يحتمي مما نهى عنه وما لا ينفعه في طريقه ولا يعينه على الوصول

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التسليم
وهي نوعان : تسليم لحكمه الديني الأمري وتسليم لحكمه الكوني القدري
فأما الأول : فهو تسليم المؤمنين العارفين قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما النساء : 65 فهذه ثلاث مراتب : التحكيم وسعة الصدر بانتفاء الحرج والتسليم
وأما التسليم للحكم الكونى : فمزلة أقدام ومضلة أفهام حير الأنام وأوقع الخصام وهي مسألة الرضى بالقضاء وقد تقدم الكلام عليها بما فيه كفاية وبينا أن التسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها
وأما الأحكام التي أمر بدفعها : فلا يجوز له التسليم إليها بل العبودية : مدافعتها بأحكام أخر أحب إلى الله منها

فصل قال صاحب المنازل :
وفي التسليم والثقة والتفويض : ما في التوكل من العلل وهو من أعلى درجات سبل العامة يعني أن العلل التي في التوكل من معاني الدعوى ونسبته الشيء إلى نفسه أولا حيث زعم أنه وكل ربه فيه وتوكل عليه فيه وجعله وكيله القائم عنه بمصالحه التي كان يحصلها لنفسه بالأسباب والتصرفات وغير ذلك من العلل المتقدمة وقد عرفت ما في ذلك
وليس في التسليم إلا علة واحدة : وهي أن لا يكون تسليمه صادرا عن محض الرضى والاختيار بل يشوبه كره وانقباض فيسلم على نوع إغماض فهذه علة التسليم المؤثرة فاجتهد في الخلاص منها
وإنما كان للعامة عنده لأن الخاصة في شغل عنه باستغراقهم بالفناء في عين الجمع وجعل الفناء غاية الاستغراق في عين الجمع : هو الذى أوجب ما أوجب والله المستعان
قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : تسليم ما يزاحم العقول مما سبق على الأوهام من الغيب والإذعان لما يغالب القياس من سير الدول والقسم والإجابة لما يفزع المريد من ركوب الأحوال اعلم أن التسليم هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر أو شهوة تعارض الأمر أو إرادة تعارض الإخلاص أو اعتراض يعارض القدر والشرع وصاحب هذا التخلص : هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به فإن التسليم ضد المنازعة
والمنازعة : إما بشبهة فاسدة تعارض الإيمان بالخبر عما وصف الله به نفسه من

صفاته وأفعاله وما أخبر به عن اليوم الآخر وغير ذلك فالتسليم له : ترك منازعته بشبهات المتكلمين الباطلة
وإما بشهوة تعارض أمر الله عز و جل فالتسليم للأمر : بالتخلص منها أو إرادة تعارض مراد الله من عبده فتعارضه إرادة تتعلق بمراد العبد من الرب فالتسليم : بالتخلص منها أو اعتراض يعارض حكمته في خلقه وأمره بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع وخلاف ما قضى وقدر فالتسليم : التخلص من هذه المنازعات كلها
وبهذا يتبين أنه من أجل مقامات الإيمان وأعلى طرق الخاصة وأن التسليم هو محض الصديقية التي هي بعد درجة النبوة وأن أكمل الناس تسليما أكملهم صديقية فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ فأما قوله : تسليم ما يزاحم العقول مما سبق على الأوهام
فيعني : أن التسليم يقتضي ما ينهى عنه العقل ويزاحمه فإنه يقتضي التجريد عن الأسباب والعقل يأمر بها فصاحب التسليم يسلم إلى الله عز و جل ما هو غيب عن العبد فإن فعله سبحانه وتعالى لا يتوقف على هذه الأسباب التي ينهى العقل عن التجرد عنها فإذا سلم لله لم يلتفت إلى السبب في كل ما غاب عنه
فالأوهام يسبق عليها أن ما غاب عنها من الحكم لا يحصل إلا بالأسباب والتسليميقتضي التجرد عنها والعقل ينهى عن ذلك والوهم قد سبق عليه أن الغيب موقوف عليها فههنا أمور ستة : عقل ومزاحم له ووهم وسائق إليه وغيب وتسليم لهذا المزاحم فالعقل هو الباعث له على الأسباب الداعي له إليها التي إذا خرج الرجل عنها عد خروجه قدحا في عقله

والمزاحم له : التجرد عنها بكمال التسليم إلى من بيده أزمة الأمور : مواردها ومصادرها والوهم : اعتقاده توقف حصول السعادة والنجاة وحصول المقدور كائنا ما كان عليها وأنه لولاها لما حصل المقدور وهذا هو السائق إلى الوهم والغيب : هو الحكم الذي غاب عنه وهو فعل الله
والتسليم : تسليم هذا المزاحم إلى نفس الحكم مع أن في تنزيل عبارته على هذا المعنى وإفراغ هذا المعنى في قوالب ألفاظه نظرا وفيه وجه آخر : وهو أن يكون المراد : التسليم لما يبدو للعبد من معاني الغيب مما يزاحم معقوله في بادي الرأي لما يسبق إلى وهمه : أن الأمر بخلافه فيسبق على الأوهام من الغيب الذي أخبرت به شيء يزاحم معقولها فتقع المنازعة بين حكم العقل وحكم الوهم فإن كثيرا من الغيب قد يزاحم العقل بعض المزاحمة ويسبق إلى الوهم خلافه فالتسليم : تسليم هذا المزاحم إلى وليه ومن هو أخبر به والتجرد عما يسبق إلى الوهم مما يخالفه
وهذا أولى المعنيين بكلامه إن شاء الله
فالأول : تسليم منازعات الأسباب لتجريد التوحيد العملي القصدي الإرادي وهذا تجريد منازعات الأوهام المخالفة للخبر لتجريد التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي وهذا حقيقة التسليم قوله : والإذعان لما يغالب القياس من سير الدول والقسم
أي الانقياد لما يقاوي عقله وقياسه مما جرى به حكم الله في الدول قديما وحديثا : من طي دولة ونشر دولة وإعزاز هذه وإذلال هذه والقسم التي قسمها على خلقه مع شدة تفاوتها وتباين مقاديرها وكيفياتها وأجناسها فيذعن

لحكمة الله في كل ذلك ولا يعترض على ما وقع منها بشبهة وقياس
ويحتمل أن يكون مراده ب الدول و القسم الأحوال التي تتداول على السالك ويختلف سيرها و القسم التي نالته من الله : ما كان قياس سعيه واجتهاده أن يحصل له أكثر منها فيذعن لما غالب قياسه منها ويسلم للقاسم المعطي بحكمته وعدله فإن من عباده من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغناه لأفسده ذلك ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقره لأفسده ذلك ومنهم من لايصلحه إلا المرض ولو أصحه لأفسده ذلك ومنهم من لا يصلحه إلا الصحة ولو أمرضه لأفسده ذلك
وقوله : والإجابة لما يفزع المريد من ركوب الأحوال
يقول : إن صاحب هذه الدرجة من قوة التسليم يهجم على الأمور المفزعة ولا يلتفت إليها ولا يخاف معها من ركوب الأحوال واقتحام الأهوال لأن قوة تسليمه تحميه من خطرها فلا ينبغي له أن يخاف فإنه في حصن التسليم ومنعته وحمايته والله سبحانه وتعالى الموفق بحوله وقوته

فصل قال : الدرجة الثانية : تسليم العلم إلى الحال والقصد إلى
الكشف والرسم إلى الحقيقة
أما تسليم العلم إلى الحال فليس المراد منه : تحكيم الحال على العلم حاشا الشيخ من ذلك وإنما أراد : الانتقال من الوقوف عند صور العلم الظاهرة إلى معانيها وحقائقها الباطنة وثمراتها المقصودة منها مثل الانتقال من محض التقليد والخبر إلى العيان واليقين حتى كأنه يرى ويشاهد ما أخبر به الرسول

كما قال تعالى : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق سبأ : 6 وقال تعالى : أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى الرعد : 19 وينتقل من الحجاب إلى الكشف فينتقل من العلم إلى اليقين ومن اليقين إلى عين اليقين ومن علم الإيمان إلى ذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته فإن هذا قدر زائد على مجرد علمه ومن علم التوكل إلى حاله وأشباه ذلك
فيسلم العلم الصحيح إلى الحال الصحيح فإن سلطان الحال أقوى من سلطان العلم فإذا كان الحال مخالفا للعلم فهو ملك ظالم فليخرج عليه بسيف العلم وليحكمه فيه
وأما تسليم القصد إلى الكشف فليس معناه : أن يترك القصد عن معاينة الكشف فإنه متى ترك القصد خلع ربقة العبودية من عنقه ولكن يجعل قصده سائرا طالبا لكشفه يؤمه فإذا وصل إليه سلمه إليه وصار الحكم للكشف إذ القصد آلة ووسيلة إليه فإن كان كشفا صحيحا مطابقا للحق في نفسه : كشف له عن آفات القصد ومفسداته ومصححاته وعيوبه فأقبل على تصحيحه بنور الكشف لا أن صاحب القصد ترك القصد لأجل الكشف فهذا سير أهل الإلحاد الناكبين عن سبيل الحق والرشاد
وأما ترك الرسم إلى الحقيقة فإنه يشير به إلى الفناء فإن من جملة تسليم صاحب الفناء : تسليم ذاته ليفنى في شهود الحقيقة فإن ذات العبد هى رسم والرسم تفنيه الحقيقة كما يفني النور الظلمة لأن عند أصحاب الفناء : أن الحق سبحانه لا يراه سواه ولا يشاهده غيره لا بمعنى الاتحاد ولكن بمعنى : أنه لا يشاهده العبد حتى يفنى عن إنيته ورسمه وجميع عوالمه فيفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل هذا كإجماع من الطائفة بل هو إجماع منهم

قال : الدرجة الثالثة : تسليم ما دون الحق إلى الحق مع السلامة من رؤية التسليم بمعاينة تسليم الحق إياك إليه
هذه الدرجة تكملة الدرجة التي قبلها فإن التسليم في التي قبلها بداية لها وهي واسطة بين الدرجة الأولى والثالثة فالأولى : بداية والثانية : وسط والثالثة : نهاية
قوله : تسليم ما دون الحق إلى الحق يريد به : اضمحلال رسوم الخلق في شهود الحقيقة وكل ما دون الحق رسوم فإذا سلم رسمه الخاص إلى ربه : حصل له حقيقة الفناء وهذا التسليم نوعان
أحدهما : تسليم رسمه الخاص به
والثاني : تسليم رسوم الكائنات ورؤية تلاشيها واضمحلالها في عين الحقيقة وهذا علم ومعرفة والأول حال قوله : والسلامة من رؤية التسليم أي ينسلب أيضا من رسم رؤية التسليم فإن الرؤية أيضا رسم من جملة الرسوم فما دام مستصحبا لها : لم يسلم التسليم التام وقد بقيت عليه بقية من منازعات رسمه
ثم عرف كيفية هذا التسليم فقال : بمعاينة تسليم الحق إياك إليه أي ينكشف لك حين تسلم ما دون الحق إلى الحق أن الحق تعالى هو الذي سلم إلى نفسه ما دونه فالحق تعالى هو الذى سلمك إليه فهو المسلم وهو المسلم إليه وأنت آلة التسليم فمن شهد هذا المشهد : وجد ذاته مسلمة إلى الحق وما سلمها إلى الحق غير الحق فقد سلم العبد من دعوى التسليم والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصبر
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر

وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعا
الأول : الأمر به نحو قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة البقره : 153 وقوله : واستعينوا بالصبر والصلاة البقره : 45 وقوله : اصبروا وصابروا آل عمران : 20 وقوله : واصبر وما صبرك إلا بالله النحل : 127
الثاني : النهي عن ضده كقوله : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم الأحقاف : 35 وقوله : ولا تولوهم الأدبار الأنفال : 15 فإن تولية الأدبار : ترك للصبر والمصابرة وقوله : ولا تبطلوا أعمالكم 0 محمد : 33 فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها وقوله : فلا تهنوا ولا تحزنوا آل عمران : 139 فإن الوهن من عدم الصبر
الثالث : الثناء على أهله كقوله تعالى : الصابرين والصادقين الآية آل عمران : 17 وقوله : والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون البقره : 177 وهو كثير في القرآن
الرابع : إيجابه سبحانه محبته لهم كقوله : والله يحب الصابرين آل عمران : 146 الخامس : إيجاب معيته لهم وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ليست معية عامة وهي معية العلم والإحاطة كقوله : واصبروا إن الله مع الصابرين الأنفال : 46 وقوله : والله مع الصابرين البقره : 249 الأنفال : 69
السادس : إخباره بأن الصبر خير لأصحابه كقوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين النحل : 126 وقوله : وأن تصبروا خير لكم النساء : 25
السابع : إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله تعالى : ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون النحل : 96
الثامن : إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب كقوله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب الزمر : 10 التاسع : إطلاق البشرى لأهل الصبر كقوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين البقره : 155

العاشر : ضمان النصر والمدد لهم كقوله تعالى : بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين آل عمران : 125 ومنه قول النبي : واعلم أن النصر مع الصبر
الحادى عشر : الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور الشورى : 43
الثاني عشر : الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله تعالى : ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون القصص : 80 وقوله : وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم فصلت : 35 الثالث عشر : الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله تعالى لموسى : أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور إبراهيم : 5 وقوله في أهل سبأ : فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور سبأ : 19 وقوله في سورة الشورى : ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور الشورى : 3233
الرابع عشر : الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله تعالى : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار الرعد : 2324
الخامس عشر : أنه يورث صاحبه درجة الإمامة سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى : وجعلناهمأئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانو بآياتنا يوقنون السجده : 24
السادس عشر : اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه

باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خير عيش أدركناه بالصبر وأخبر النبي في الحديث الصحيح : أنه ضياء وقال : من يتصبر يصبره الله
وفي الحديث الصحيح : عجبا لأمر المؤمن ! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته : أن يدعو لها : إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت : إني أتكشف فادع الله : أن لا أتكشف فدعا لها
وأمر الأنصار رضي الله تعالى عنهم بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض
وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر وأمر بالصبر عند المصيبة وأخبر : أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى
وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره والجزع والتسخط والتشكى يزيد في المصيبة ويذهب الأجر
وأخبر أن الصبر خير كله فقال : ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع : من الصبر

فصل و الصبر في اللغة : الحبس والكف ومنه : قتل فلان صبرا
إذا أمسك وحبس ومنه قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه الكهف : 28 أي احبس نفسك معهم

فالصبر : حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش
وهو ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله وصبر على امتحان الله
فالأولان : صبر على ما يتعلق بالكسب والثالث : صبر على ما لا كسب للعبد فيه
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها : أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية : فصبر اختيار ورضى ومحاربة للنفس ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة فإنه كان شابا وداعية الشباب إليها قوية وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص ومع ذلك توعدته إن لم يفعل : بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها : صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه

وكان يقول : الصبر على أداء الطاعات : أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل فإن مصلحة فعل الطاعة : أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة : أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية
وله رحمه الله فى ذلك مصنف قرره فيه بنحو من عشرين وجهاليس هذا موضع ذكرها
والمقصود : الكلام على الصبر وحقيقته ودرجاته ومرتبته والله الموفق

فصل وهو على ثلاثة أنواع : صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله
فالأول : أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى : واصبر وما صبرك إلا بالله النحل : 127 يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر
والثاني : الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض
والثالث : الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها
فهذا معنى كونه صابرا مع الله أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين
قال الجنيد : المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن وهجران الخلق في جنب الله شديد والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد
وسئل عن الصبر فقال : تجرع المرارة من غير تعبس

قال ذو النون المصري الصبر التباعد من المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة
وقيل : الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب وقيل : هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شكوى وقيل : تعويد النفس الهجوم على المكاره وقيل : المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية وقال عمرو بن عثمان : هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة وقال الخواص : هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة
وقال يحيى بن معاذ : صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين واعجبا ! كيف يصبرون وأنشد :
الصبر يجمل في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يجمل
وقيل : الصبر هو الاستعانة بالله وقيل : هو ترك الشكوى وقيل :
الصبر مثل اسمه مر مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
وقيل : الصبر أن ترضى بتلف نفسك في رضى من تحبه كما قيل :
سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة ... وحسبي أن ترضي ويتلفني صبري وقيل : مراتب الصابرين خمسة : صابر ومصطبر ومتصبر وصبور وصبار فالصابر : أعمها والمصطبر : المكتسب الصبر المليء به والمتصبر : المتكلف حامل نفسه عليه والصبور : العظيم الصبر الذي صبره أشد من صبر غيره والصبار : الكثير الصبر فهذا فى القدر والكم والذي قبله في الوصف والكيف وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو

وقف رجل على الشبلي فقال : أي صبر أشد على الصابرين فقال : الصبر في الله قال السائل : لا فقال : الصبر لله فقال : لا فقال : الصبر مع الله فقال : لا قال الشبلي : فإيش هو قال : الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف
وقال الجريري : الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة وحال المحبة مع سكون الخاطر فيهما والتصبر : هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال أثقال المحنة
قال أبو علي الدقاق : فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته فإن الله مع الصابرين
وقيل في قوله تعالى : اصبروا وصابروا ورابطوا آل عمران : 200 إنه انتقال من الأدنى إلى الأعلى ف الصبر دون المصابرة و المصابرة دون المرابطة و المرابطة مفاعلة من الربط وهو الشد وسمى المرابط مرابطا : لأن المرابطين يربطون خيولهم ينتظرون الفزع ثم قيل لكل منتظر قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها : مرابط ومنه قول النبي : ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط وقال رباط يوم فى سبيل الله : خير من الدنيا وما فيها
وقيل : اصبروا بنفوسكم على طاعة الله وصابروا بقلوبكم على البلوي في الله ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله
وقيل : اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله
وقيل : اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء
فالصبر مع نفسك و المصابرة بينك وبين عدوك و المرابطة الثبات وإعداد العدة وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك

الرباط أيضا لزوم ثغر القلب لئلا يهجم عليه الشيطان فيملكه أو يخربه أو يشعثه
وقيل : تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيدا وإن أحياك أحياك عزيزا وقيل : الصبر لله غناء وبالله تعالى بقاء وفي الله بلاء ومع الله وفاء وعن الله جفاء والصبر على الطلب عنوان الظفر وفي المحن عنوان الفرج
وقيل : حال العبد مع الله رباطه وما دون الله أعداؤه وفي كتاب الأدب للبخارى سئل رسول الله عن الإيمان فقال : الصبر والسماحة ذكره عن موسى بن اسماعيل قال : حدثنا سويد قال : حدثنا عبدالله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده فذكره
وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها فإن النفس يراد منها شيئان : بذل ما أمرت به وإعطاؤه فالحامل عليه : السماحة وترك ما نهيت عنه والبعد منه فالحامل عليه : الصبر
وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل فسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه و الصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه و الهجر الجميل هو الذي لا أذى معه وفي أثر اسرائيلي أوحى الله إلى نبي من أنبيائه : أنزلت بعبدى بلائي فدعاني فما طلته بالإجابة فشكاني فقلت : عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك
وقال ابن عيينة في قوله تعالى : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا السجدة : 24 قال : أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء
وقيل : صبر العابدين أحسنه : أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه : أن يكون مرفوضا كما قيل :

تبين يوم البين أن اعتزامه ... على الصبر : من إحدى الظنون الكواذب
والشكوى إلى الله عز و جل لا تنافي الصبر فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل والنبي إذا وعد لا يخلف ثم قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله يوسف : 86 وكذلك أيوب أخبر الله عنه : أنه وجده صابرا مع قوله : مسني الضر وأنت أرحم الراحمين الأنبياء : 83
وإنما ينافي الصبر شكوى الله لا الشكوى إلى الله كما رأى بعضهم رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال : يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ثم أنشد :
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

فصل قال صاحب المنازل : الصبر : حبس النفس على المكروه وعقل اللسان
عن الشكوى وهو من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة وأنكرها في طريق التوحيد
وإنما كان صعبا على العامة : لأن العامي مبتدىء في الطريق وما له دربة في السلوك ولا تهذيب المرتاض بقطع المنازل فإذا أصابته المحن أدركه الجزع وصعب عليه احتمال البلاء وعز عليه وجدان الصبر لأنه ليس من أهل الرياضة فيكون مستوطنا للصبر ولا من أهل المحبة فيلتذ بالبلاء في رضى محبوبه
وأما كونه وحشة في طريق المحبة : فلأنها تقتضي التذاذ المحب بامتحان محبوبه له والصبر يقتضي كراهيته لذلك وحبس نفسه عليه كرها فهو وحشة في طريق المحبة
وفي الوحشة نكتة لطيفة لأن الالتذاذ بالمحنة في المحبة هو من موجبات

أنس القلب بالمحبوب فإذا أحس بالألم بحيث يحتاج إلى الصبر انتقل من الأنس إلى الوحشية ولولا الوحشة لما أحس بالألم المستدعي للصبر
وإنما كان أنكرها في طريق التوحيد : لأن فيه قوة الدعوى لأن الصابر يدعي بحاله قوة الثبات وذلك ادعاء منه لنفسه قوة عظيمة وهذا مصادمة لتجريد التوحيد إذ ليس لأحد قوة ألبتة بل لله القوة جميعا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فهذا سبب كون الصبر منكرا في طريق التوحيد بل من أنكر المنكر كما قال لأن التوحيد يرد الأشياء إلى الله والصبر يرد الأشياء إلى النفس وإثبات النفس في التوحيد منكر
هذا حاصل كلامه محررا مقررا وهو من منكر كلامه بل الصبر من آكد المنازل في طريق المحبة وألزمها للمحبين وهم أحوج إلى منزلته من كل منزلة وهو من أعرف المنازل في طريق التوحيد وأبينها وحاجة المحب إليه ضرورية
فإن قيل : كيف تكون حاجة المحب إليه ضرورية مع منافاته لكمال المحبة فإنه لا يكون إلا مع منازعات النفس لمراد المحبوب
قيل : هذه هي النكتة التي لأجلها كان من آكد المنازل في طريق المحبة وأعلقها بها وبه يعلم صحيح المحبة من معلولها وصادقها من كاذبها فإن بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب يعلم صحة محبته
ومن ههنا كانت محبة أكثر الناس كاذبة لأنهم كلهم ادعوا محبة الله تعالى فحين امتحنهم بالمكاره انخلعوا عن حقيقة المحبة ولم يثبت معه إلا الصابرون فلولا تحمل المشاق وتجشم المكاره بالصبر : لما ثبتت صحة محبتهم وقد تبين بذلك أن أعظمهم محبة أشدهم صبرا
ولهذا وصف الله تعالى بالصبر خاصة أوليائه وأحبابه فقال عن حبيبه أيوب :

إنا وجدناه صابرا ص : 44 ثم أثنى عليه فقال : نعم العبد إنه أواب ص : 44
وأمر أحب الخلق إليه بالصبر لحكمه وأخبر أن صبره به وأثنى على الصابرين أحسن الثناء وضمن لهم أعظم الجزاء وجعل أجر غيرهم محسوبا وأجرهم بغير حساب وقرن الصبر بمقامات الإسلام والإيمان والإحسان كما تقدم فجعله قرين اليقين والتوكل والإيمان والأعمال والتقوى وأخبر أن آياته إنما ينتفع بها أولو الصبر وأخبر أن الصبر خير لأهله وأن الملائكة تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما تقدم ذلك
وليس في استكراه النفوس لألم ما تصبر عليه وإحساسها به ما يقدح في محبتها ولا توحيدها فإن إحساسها بالألم ونفرتها منه أمر طبعي لها كاقتضائها للغذاء من الطعام والشراب وتألمها بفقده فلوازم النفس لا سبيل إلى إعدامها أو تعطيلها بالكلية وإلا لم تكن نفسا إنسانية ولارتفعت المحنة وكانت عالما آخر
و الصبر و المحبة لا يتناقضان بل يتواخيان ويتصاحبان والمحب صبور بل علة الصبر فى الحقيقة : المناقضة للمحبة المزاحمة للتوحيد أن يكون الباعث عليه غير إرادة رضى المحبوب بل إرادة غيره أو مزاحمته بإرادة غيره أو المراد منه لا مراده هذه هي وحشة الصبر ونكارته
وأما من رأى صبره بالله وصبره لله وصبر مع الله مشاهدا أن صبره به تعالى لا بنفسه فهذا لا تلحق محبته وحشة ولا توحيده نكارة
ثم لو استقام له هذا لكان في نوع واحد من أنواع الصبر وهو الصبر على المكاره فأما الصبر على الطاعات وهو حبس النفس عليها وعن المخالفات وهو منع النفس منها طوعا واختيارا والتذاذا فأي وحشة في هذا وأي نكارة فيه
فإن قيل : إذا كان يفعل ذلك طوعا ومحبة ورضى وإيثارا : لم يكن الحامل

له على ذلك الصبر فيكون صبره في هذا الحال ملزوم الوحشة والنكارة لمنافاتها لحال المحب
قيل : لا منافاة في ذلك بوجه فإن صبره حينئذ قد اندرج في رضاه وانطوى فيه وصار الحكم للرضى لا أن الصبر عدم بل لقوة وارد الرضى والحب وإيثار مراد المحبوب صار المشهد والمنزل للرضى بحكم الحال والصبر جزء منه ومنطو فيه ونحن لا ننكر هذا القدر فإن كان هو المراد فحبذا الوفاق وليس المقصود القيل والقال ومنازعات الجدال وإن كان غيره : فقد عرف ما فيه والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الصبر عن المعصية
بمطالعة الوعيد : إبقاء على الإيمان وحذرا من الحرام وأحسن منها : الصبر عن المعصية حياء
ذكر للصبر عن المعصية سببين وفائدتين
أما السببان : فالخوف من لحوق الوعيد المترتب عليها والثاني : الحياء من الرب تبارك وتعالى أن يستعان على معاصيه بنعمه وأن يبارز بالعظائم وأما الفائدتان : فالابقاء على الإيمان والحذر من الحرام فأما مطالعة الوعيد والخوف منه : فيبعث عليه قوة الإيمان بالخبر والتصديق بمضمونه وأما الحياء : فيبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات وأحسن من ذلك : أن يكون الباعث عليه وازع الحب فيترك معصيته محبة له كحال الصهيبيين وأما الفائدتان : فالإبقاء على الإيمان : يبعث على ترك المعصية لأنها لا بد أن

تنقصه أو تذهب به أو تذهب رونقه وبهجته أو تطفىء نوره أو تضعف قوته أو تنقص ثمرته هذا أمر ضروري بين المعصية وبين الإيمان يعلم بالوجود والخبر والعقل كما صح عنه : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن فإياكم إياكم والتوبة معروضة بعد وأما الحذر عن الحرام : فهو الصبر عن كثير من المباح حذرا من أن يسوقه إلى الحرام ولما كان الحياء من شيم الأشراف وأهل الكرم والنفوس الزكية : كان صاحبه أحسن حالا من أهل الخوف ولأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته وحضور القلب معه ولأن فيه من تعظيمه وإجلاله ما ليس في وازع الخوف
فمن وازعه الخوف : قلبه حاضر مع العقوبة ومن وازعه الحياء : قلبه حاضر مع الله والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها والمستحي مراع جانب ربه وملاحظ عظمته وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان غير أن الحياء أقرب إلى مقام الإحسان وألصق به إذ أنزل نفسه منزلة من كأنه يرى الله فنبعت ينابيع الحياء من عين قلبه وتفجرت عيونها
قال : الدرجة الثانية : الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دواما وبرعايتها إخلاصا وبتحسينها علما هذا يدل على أن عنده : أن فعل الطاعة آكد من ترك المعصية فيكون الصبر عليها فوق الصبر عن ترك المعصية في الدرجة وهذا هو الصواب كما تقدم فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة

والنهي مقصود للأمر فالمنهي عنه لما كان يضعف المأموز به وينقصه : نهي عنه حماية وصيانة لجانب الأمر فجانب الأمر أقوى وآكد وهو بمنزلة الصحة والحياة والنهي بمنزلة الحمية التي تراد لحفظ الصحة وأسباب الحياة
وذكر الشيخ : أن الصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء : دوام الطاعة والإخلاص فيها ووقوعها في مقتضى العلم وهو تحسينها علما فإن الطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة فإن العبد إن لم يحافظ عليها دواما عطلها وإن حافظ عليها دواما عرض لها آفتان :
إحداهما : ترك الإخلاص فيها بأن يكون الباعث عليها غير وجه الله وإرادته والتقرب إليه فحفظها من هذه الآفة : برعاية الإخلاص الثانية : ألا تكون مطابقة للعلم بحيث لا تكون على اتباع السنة فحفظها من هذه الآفة : بتجريد المتابعة كما أن حفظها من تلك الآفة بتجريد القصد والإرادة فلذلك قال : بالمحافظة عليها دواما ورعايتها إخلاصا وتحسينها علما

فصل قال : الدرجة الثالثة : الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء
وانتظار روح الفرج وتهوين البلية بعد أيادي المنن وبذكر سوالف النعم
هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء
إحداها : ملاحظة حسن الجزاء وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل وإنما خاصة العقل : تلمح العواقب ومطالعة الغايات
وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن من رافق الراحة

فارق الراحة وحصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة فإن قدر التعب تكون الراحة
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
والقصد : أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك والثاني : انتظار روح الفرج يعني راحته ونسيمه ولذته فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة ولا سيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته : ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجل وبه وبغيره يفهم معنى اسمه اللطيف
والثالث : تهوين البلية بأمرين أحدهما : أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده فإذا عجز عن عدها وأيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر
الثاني : تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن : يتعلق بالحال وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج : يتعلق بالمستقبل وأحدهما في الدنيا والثاني يوم الجزاء
ويحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها فضحكت فقال لها بعض من معها : أتضحكين وقد انقطعت إصبعك فقالت : أخاطبك على قدر عقلك حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها إشارة إلى أن عقله لا يحتمل ما فوق هذا المقام من ملاحظة المبتلي ومشاهدة حسن اختياره لها في ذلك البلاء

وتلذذها بالشكر له والرضى عنه ومقابلة ما جاء من قبله بالحمد والشكر كما قيل :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... فقد سرني أني خطرت ببالكا

فصل قال : وأضعف الصبر : الصبر لله وهو صبر العامة وفوقه :
الصبر بالله وهو صبر المريدين وفوقه : الصبر على الله وهو صبر السالكين
معنى كلامه : أن صبر العامة لله أي رجاء ثوابه وخوف عقابه وصبر المريدين : بالله أي بقوة الله ومعونته فهم لا يرون لأنفسهم صبرا ولا قوة لهم عليه بل حالهم التحقق ب لا حول ولا قوة إلا بالله علما ومعرفة وحالا
وفوقهما : الصبر على الله أي على أحكامه إذ صاحبه يشهد المتصرف فيه فهو يصبر على أحكامه الجارية عليه جالبة عليه ما جلبت من محبوب ومكروه فهذه درجة صبر السالكين وهؤلاء الثلاثة عنده من العوام إذ هو في مقام الصبر وقد ذكر : أنه للعامة وأنه من أضعف منازلهم
هذا تقرير كلامه
والصواب : أن الصبر لله فوق الصبر بالله وأعلى درجة منه وأجل فإن الصبر لله متعلق بإلهيته والصبر به : متعلق بربوبيته وما تعلق بإلهيته أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته
ولأن الصبر له : عبادة والصبر به استعانة والعبادة غاية والاستعانة وسيلة والغاية مرادة لنفسها والوسيلة مرادة لغيرها ولأن الصبر به مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر فكل من شهد الحقيقة الكونية صبر به وأما الصبر له : فمنزلة الرسل والأنبياء والصديقين وأصحاب مشهد إياك نعبد وإياك نستعين

ولأن الصبر له : صبر فيما هو حق له محبوب له مرضى له والصبر به : قد يكون في ذلك وقد يكون فيما هو مسخوط له وقد يكون في مكروه أو مباح فأين هذا من هذا
وأما تسمية الصبر على أحكامه صبرا عليه فلا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى فهذا هو الصبر على أقداره وقد جعله الشيخ في الدرجة الثالثة وقد عرفت بما تقدم : أن الصبر على طاعته والصبر عن معصيته : أكمل من الصبر على أقداره كما ذكرنا في صبر يوسف عليه السلام فإن الصبر فيها صبر اختيار وإيثار ومحبة والصبر على أحكامه الكونية : صبر ضرورة وبينهما من البون ما قد عرفت
وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم قومهم : أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف
فعلمت بهذا أن الصبر لله أكمل من الصبر بالله والصبر على طاعته والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن قلت : الصبر بالله أقوى من الصبر لله فإن ما كان بالله كان بحوله وقوته وما كان به لم يقاومه شيء ولم يقم له شيء وهو صبر أرباب الأحوال والتأثير والصبر لله صبر أهل العبادة والزهد ولهذا هم مع إخلاصهم وزهدهم وصبرهم لله أضعف من الصابرين به فلهذا قال : وأضعف الصبر : الصبر لله
قيل : المراتب أربعة إحداها : مرتبة الكمال وهي مرتبة أولي العزائم وهي الصبر لله وبالله

فيكون في صبره مبتغيا وجه الله صابرا به متبرئا من حوله وقوته فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها
الثانية : أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا فهو أخس المراتب وأردأ الخلق وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان
الثالثة : مرتبة من فيه صبر بالله وهو مستعين متوكل على حوله وقوته متبرىء من حوله هو وقوته ولكن صبره ليس لله إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له وربما كانت عاقبته شر العواقب
وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله ولهم من الكشف والتأثير بحسب قوة أحوالهم وهم من جنس الملوك الظلمة فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر والمؤمن والكافر
الرابع : من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه فهذا له عاقبة حميدة ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه لضعف نصيبه من إياك نعبد وإياك نستعين فنصيبه من الله : أقوى من نصيبه بالله فهذا حال المؤمن الضعيف
وصابر بالله لا لله : حال الفاجر القوي وصابر لله وبالله : حال المؤمن القوي والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف
فصابر لله وبالله عزيز حميد ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول ومن هو بالله لا لله قادر مذموم ومن هو لله لا بالله عاجز محمود
فبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذا الباب ويتبين فيه الخطأ من الصواب والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرضى
وقد أجمع العلماء على أنه مستحب مؤكد استحبابه واختلفوا في وجوبه على قولين
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكيهما على قولين لأصحاب أحمد وكان يذهب إلى القول باستحبابه قال : ولم يجىء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم
قال : وأما ما يروي من الأثر : من لم يصير على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي فهذا أثر إسرائيلي ليس يصح عن النبي
قلت : ولا سيما عند من يرى أنه من جملة الأحوال التي ليست بمكتسبة بل هو موهبة محضة فكيف يؤمر به وليس مقدورا عليه
وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك على ثلاث طرق فالخراسانيون قالوا : الرضى من جملة المقامات وهو نهاية التوكل فعلى هذا : يمكن أن يتوصل إليه العبد باكتسابه والعراقيون قالوا : هو من جملة الأحوال وليس كسبيا للعبد بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال والفرق بين المقامات والأحوال : أن المقامات عندهم من المكاسب والأحوال مجرد المواهب
وحكمت فرقة ثالثة بين الطائفتين منهم القشيري صاحب الرسالة وغيره فقالوا : يمكن الجمع بينهما بأن يقال : بداية الرضى مكتسبة للعبد وهي من جملة المقامات ونهايته من جملة الأحوال وليست مكتسبة فأوله مقام ونهايته حال

واحتج من جعله من جملة المقامات : بأن الله مدح أهله وأثنى عليهم وندبهم إليه فدل ذلك على أنه مقدور لهم وقال النبي : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا
وقال : من قال حين يسمع النداء : رضيت بالله ربا وبالإسلام ديناوبمحمد رسولا غفرت له ذنوبه وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي وقد تضمنا الرضى بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضى برسوله والانقياد له والرضى بدينه والتسليم له ومن اجتمعت له هذه الأربعة : فهو الصديق حقا وهي سهلة بالدعوى واللسان وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها من ذلك : تبين أن الرضى كان لسانه به ناطقا فهو على لسانه لا على حاله
فالرضى بإلهيته يتضمن الرضى بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتبتل إليه وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه فعل الراضي بمحبوبه كل الرضى وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له والرضى بربوبيته : يتضمن الرضى بتدبيره لعبده ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به
فالأول : يتضمن رضاه بما يؤمر به والثاني : يتضمن رضاه بما يقدر عليه وأما الرضى بنبيه رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ولا يحاكم إلا إليه ولا يحكم عليه غيره ولا يرضى بحكم غيره ألبتة لا فى شىء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته ولا في

شيء من أحكام ظاهره وباطنه لا يرضى في ذلك بحكم غيره ولا يرضى إلا بحكمه فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم وأحسن أحواله : أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور
وأما الرضى بدينه : فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى : رضي كل الرضى ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليما ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده وشيخه وطائفته
وههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد فإنه والله عين العزة والصحبة مع الله ورسوله وروح الأنس به والرضى به ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا
بل الصادق كلما وجد مس الاغتراب وذاق حلاوته وتنسم روحه قال : اللهم زدني اغترابا ووحشة من العالم وأنسا بك وكلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب وهذا التفرد : رأى الوحشة عين الأنس بالناس والذل عين العز بهم والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزبالة أذهانهم والانقطاع عين التقيد برسومهم وأوضاعهم فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق ولم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يجدي عليه إلا الحرمان وغايته : مودة بينهم في الحياة الدنيا فإذا انقطعت الأسباب وحقت الحقائق وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وبليت السرائر ولم يجد من دون مولاه الحق من قوة ولا ناصر : تبين له حينئذ مواقع الربح والخسران وما الذي يخف أو يرجح به الميزان والله المستعان وعليه التكلان
والتحقيق في المسألة : أن الرضى كسبي باعتبار سببه موهبي باعتبار حقيقته فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه فإذا تمكن في أسبابه وغرس شجرته : اجتنى منها ثمرة الرضى فإن الرضى آخر التوكل فمن رسخ قدمه في التوكل

والتسليم والتفويض : حصل له الرضى ولا بد ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خلقه رحمة بهم وتخفيفا عنهم لكن ندبهم إليه وأثنى على أهله وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها فمن رضي عن ربه رضي الله عنه بل رضي العبد عن الله من نتائج رضى الله عنه فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده : رضي قبله أوجب له أن يرضى عنه ورضى بعده هو ثمرة رضاه عنه ولذلك كان الرضى باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العارفين وحياة المحبين ونعيم العابدين وقرة عيون المشتاقين
ومن أعظم أسباب حصول الرضى : أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه فإنه يوصله إلى مقام الرضى ولابد قيل ليحيى بن معاذ : متى يبلغ العبد إلى مقام الرضى فقال إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه فيقول : إن أعطيتني قبلت وإن منعتني رضيت وإن تركتني عبدت وإن دعوتني أجبت وقال الجنيد : الرضى هو صحة العلم الواصل إلى القلب فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضى
وليس الرضى والمحبة كالرجاء والخوف فإن الرضى والمحبة حالان من أحوال أهل الجنة لا يفارقان المتلبس بهما في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة بخلاف الخوف والرجاء فإنهما يفارقان أهل الجنة بحصول ما كانوا يرجونه وأمنهم مما كانوا يخافونه وإن كان رجاؤهم لما ينالون من كرامته دائما

لكنه ليس رجاء مشوبا بشك بل هو رجاء واثق بوعد صادق من حبيب قادر فهذا لون ورجاؤهم في الدنيا لون
وقال ابن عطاء : الرضى سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل فيرضى به قلت : وهذا رضى بما منه وأما الرضى به : فأعلى من هذا وأفضل ففرق بين من هو راض بمحبوبه وبين من هو راض بما يناله من محبوبه من حظوظ نفسه والله أعلم

فصل وليس من شرط الرضى ألا يحس بالألم والمكاره بل ألا يعترض على
الحكم ولا يتسخطه ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا : هذا ممتنع على الطبيعة وإنما هو الصبر وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية وهما ضدان
والصواب : أنه لا تناقض بينهما وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى كرضى المريض بشرب الدواء الكريه ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمإ ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها
وطريق الرضى طريق مختصرة قريبة جدا موصلة إلى أجل غاية ولكن فيها مشقة ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها وإنما عقبتها همة عالية ونفس زكية وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله
ويسهل ذلك على العبد : علمه بضعفه وعجزه ورحمته به وشفقته عليه وبره به فإذا شهد هذا وهذا ولم يطرح نفسه بين يديه ويرضى به وعنه وتنجذب دواعي حبه ورضاه كلها إليه : فنفسه نفس مطرودة عن الله بعيدة عنه ليست

مؤهلة لقربه وموالاته أو نفس ممتحنة مبتلاة بأصناف البلايا والمحن
فطريق الرضى والمحبة : تسير العبد وهو مستلق على فراشه فيصبح أمام الركب بمراحل وثمرة الرضى : الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى
ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فى المنام وكأني ذكرت له شيئامن أعمال القلب وأخذت في تعظيمه ومنفعته لا أذكره الآن فقال : أما أنا فطريقتي الفرح بالله والسرور به أو نحو هذا من العبارة
وهكذا كانت حاله في الحياة يبدو ذلك على ظاهره وينادي به عليه حاله لكن قد قال الواسطي : استعمل الرضى جهدك ولا تدع الرضى يستعملك فتكون محجوبا بلذته ورؤيته عن حقيقة ما تطالع
وهذا الذي أشار إليه الواسطى هو عقبة عظيمة عند القوم ومقطع لهم فإن مساكنة الأحوال والسكون إليها والوقوف عندها : استلذاذا ومحبة : حجاب بينهم وبين ربهم بحظوظهم عن مطالعة حقوق محبوبهم ومعبودهم وهي عقبة لا يجوزها إلا أولو العزائم وكان الواسطي كثير التحذير من هذه العقبة شديد التنبيه عليها ومن كلامه : إياكم واستحلاء الطاعات فإنها سموم قاتلة
فهذا معنى قوله : استعمل الرضى جهدك ولا تدع الرضى يستعملك أي لا يكون عملك لأجل حصول حلاوة الرضى بحيث تكون هي الباعثة لك عليه بل اجعله آلة لك وسببا موصلا إلى قصدك ومطلوبك فتكون مستعملا له لا أنه مستعمل لك
وهذا لا يختص بالرضى بل هو عام في جميع الأحوال والمقامات القلبية التي يسكن إليها القلب حتى إنه أيضا لا يكون عاملا على المحبة لأجل المحبة

وما فيها من اللذة والسرور والنعيم به بل يستعمل المحبة في مرضاة المحبوب لا يقف عندها فهذا من علل المحبة
وقال ذو النون : ثلاثة من أعلام الرضى : ترك الاختيار قبل القضاء وفقدان المرارة بعد القضاء وهيجان الحب في حشو البلاء وقيل للحسين بن علي رضي الله عنهما : إن أبا ذر رضي الله عنه يقول : الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلي من الصحة فقال : رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول : من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له
وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي : الرضى أفضل من الزهد في الدنيا لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته
وسئل أبو عثمان عن قول النبي : أسألك الرضى بعد القضاء فقال : لأن الرضى قبل القضا عزم على الرضى والرضى بعد القضا هو الرضى وقيل : الرضى ارتفاع الجزع في أي حكم كان وقيل : رفع الاختيار وقيل : استقبال الأحكام بالفرح
وقيل سكون القلب تحت مجاري الأحكام وقيل : نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد وهو ترك السخط وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى رضي الله عنهما : أما بعد فإن الخير كله في الرضى فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر وقال أبو علي الدقاق : الإنسان خزف وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحق تعالى
وقال أبو عثمان الحيري : منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته وما نقلني إلى غيره فسخطته والرضى ثلاثة أقسام : رضى العوام بما قسمه الله وأعطاه ورضى الخواص بما قدره وقضاه ورضى خواص الخواص به بدلا من كل ما سواه

فصل قال صاحب المنازل :
قال الله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي الفجر : 2730 لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا وشرط القاصد الدخول في الرضى و الرضى اسم للوقوف الصادق حيثما وقف العبد لا يلتمس متقدما ولا متأخرا ولا يستزيد مزيدا ولا يستبدل حالا وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص وأشقها على العامة
أما قوله : لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا فلأنه قيد رجوعها إليه سبحانه بحال وهو وصف الرضى فلا سبيل إلى الرجوع إليه مع سلب ذلك الوصف عنها وهذا نظير قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون : سلام عليكم ادخلو الجنة بما كنتم تعملون النحل : 32 فإنما أوجب لهم هذا السلام من الملائكة والبشارة بقيد وهو وفاتهم طيبين فلم تبق الآية لغير الطيب سبيلا إلى هذه البشارة
والحاصل : أن الدخول في الرضى شرط في رجوع النفس إلى ربها فلا ترجع إليه إلا إذا كانت راضية قلت : هذا تعلق بإشارة الآية لا بالمراد منها فإن المراد منها : رضاها بما حصل لها من كرامته وبما نالته عند الرجوع إليه فحصل لها رضاها والرضى عنها وهذا يقال لها عند خروجها من دار الدنيا وقدومها على الله
قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما : إذا توفى العبد المؤمن أرسل الله إليه ملكين وأرسل إليه بتحفة من الجنة فيقال : اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان ورب عنك راض وفي وقت هذه المقالة ثلاثة أقوال للسلف

أحدها : أنه عند الموت وهو الأشهر قال الحسن : إذا أراد قبضها اطمأنت إلى ربها ورضيت عن الله فيرضى الله عنها
وقال آخرون : إنما يقال لها ذلك عند البعث هذا قول عكرمة وعطاء والضحاك وجماعة وقال آخرون : الكلمة الأولى وهي ارجعي إلى ربك راضية مرضية تقال لها عند الموت والكلمة الثانية وهي فادخلي في عبادي وادخلي جنتي تقال لها يوم القيامة قال أبو صالح ارجعي إلى ربك راضية مرضية هذا عند خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
والصواب : أن هذا القول يقال لها عند الخروج من الدنيا ويوم القيامة فإن أول بعثها عند مفارقتها الدنيا وحينئذ فهي في الرفيق الأعلى إن كانت مطمئنة إلى الله وفي جنته كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فإذا كان يوم القيامة قيل لها ذلك وحينئذ فيكون تمام الرجوع إلى الله ودخول الجنة
فأول ذلك عند الموت وتمامه ونهايته : يوم القيامة فلا اختلاف في الحقيقة ولكن الشيخ أخذ من إشارة الآية : أن رجوعها إلى الله من الخلق في هذا العالم إنما يحصل برضاها ولكن لو استدل بالآية في مقام الطمأنينة لكان أولى فإن هذا الرجوع الذي حصل لها فيه رضاها والرضى عنها : إنما نالته بالطمأنينة وهو حظ الكسب من هذه الآية وموضع التنبيه على موقع الطمأنينة وما يحصل لصاحبها فلنرجع إلى شرح كلامه
قوله : الرضى هو الوقوف الصادق يريد به الوقوف مع مراد الرب تبارك وتعالى الديني حقيقة من غير تردد في ذلك ولا معارضة وهذا مطلوب القوم السابقين وهو الوقوف الصادق مع محاب الرب تعالى من غير أن يشوب ذلك تردد ولا يزاحمه مراد

قوله : حيثما وقف العبد يصح أن يكون العبد فاعلا أي حيث ما وقف بإذن ربه لا يلتمس تقدما ولا تأخرا ويصح أن يكون مفعولا وهو أظهر أي حيثما وقف الله العبد فإن وقف يستعمل لازما ومتعديا أي حيثما وقفه ربه لا يطلب تقدما ولا تأخرا وهذا إنما يكون فيما يقفه فيه من مراده الكوني الذي لا يتعلق بالأمر والنهي وأما إذا وقفه في مراد ديني فكماله بطلب التقدم فيه دائما فإنه إن لم تكن همته التقدم إلى الله في كل لحظة : رجع من حيث لا يدري فلا وقوف في الطريق ألبتة ولكن إذا وقف في مقام من الغنى والفقر والراحة والتعب والعافية والسقم والاستيطان ومفارقة الأوطان يقف حيث وقفه لا يطلب غير تلك الحالة التي أقامه الله فيها وهذا لتصحيح رضاه باختيار الله له والفناء به عن اختياره لنفسه
وكذلك قوله : لا يستزيد مزيدا ولا يستبدل حالا وهذا المعنى الذي ذكره الشيخ فرد من أفراد الرضى وهو الرضى بالأقسام والأحكام الكونية التي لم يؤمر بمدافعتها
وقوله : وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص يعني أن سلوك أهل الخصوص : هو بالخروج عن النفس والخروج عن الإرادة : هو مبدأ الخروج عن النفس فإذا الرضى بهذا الاعتبار من أوائل مسالك الخاصة وهذا على أصله في كون الفناء غاية مطلوبة فوق الرضى والصواب : أن الرضى أجل منه وأعلى وهو غاية لا بداية نعم فوقه مقام الشكر فهو منزلة بينه وبين منزلة الصبر وقوله : وأشقها على العامة وذلك لمشقة الخروج عن الحظوظ على العامة و الرضى أول ما فيه : الخروج عن الحظوظ والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : رضى العامة وهو
الرضى بالله ربا وتسخط عبادة ما دونه وهذا قطب رحى الإسلام وهو يطهر من الشرك الأكبر
الرضى بالله ربا : أن لا يتخذ ربا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه قال الله تعالى : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء الأنعام : 164 قال ابن عباس رضى الله عنهما : سيدا وإلها يعني فكيف أطلب ربا غيره وهو رب كل شيء وقال في أول السورة : قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض الأنعام : 14 يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة وقال في وسطها : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا الأنعام : 114 أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا
وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها هي نفس الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتق منها فكثير من الناس يرضى بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصرا بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلى الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك بل التوحيد : أن لا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء
وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته فموالاة أوليائه لون واتخاذ الولي من دونه لون ومن

لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه
وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه ربا ولا إلها ولا غيره حكما
وتفسير الرضى بالله ربا : أن يسخط عبادة ما دونه هذا هو الرضى بالله إلها وهو من تمام الرضى بالله ربا فمن أعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا لأن الرضى بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية
وقوله : وهو قطب رحى الإسلام يعنى أن مدار رحى الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة ربه وحده وأن يسخط عبادة غيره وقد تقدم أن العبادة هي الحب مع الذل فكل من ذللت له وأطعته وأحببته دون الله فأنت عابد له
وقوله : وهو يطهر من الشرك الأكبر يعني أن الشرك نوعان : أكبر وأصغر فهذا الرضى يطهر صاحبه من الأكبر وأما الأصغر : فيطهر منه نزوله منزلة إياك نعبد وإياك نستعين
فصل قال : وهو يصح بثلاثة شروط : أن يكون الله عز و جل أحب
الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة
يعني أن هذا النوع من الرضى إنما يصح بثلاثة أشياء أيضا أحدها : أن يكون الله عز و جل أحب شيء إلى العبد وهذه تعرف بثلاثة أشياء أيضا أحدها : أن تسبق محبته إلى القلب كل محبة فتتقدم محبته المحاب كلها الثاني : أن تقهر محبته كل محبة فتكون محبته إلى القلب سابقة قاهرة

ومحبة غيره متخلفة مقهورة مغلوبة منطوية في محبته الثالث : أن تكون محبة غيره تابعة لمحبته فيكون هو المحبوب بالذات والقصد الأول وغيره محبوبا تبعا لحبه كما يطاع تبعا لطاعته فهو في الحقيقة المطاع المحبوب
وهذه الثلاثة في كونه أولى الأشياء بالتعظيم والطاعة أيضا
فالحاصل : أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه : فهو متكبر عليه ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه : فهو مشرك ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : الرضى عن الله وبهذا نطقت آيات
التنزيل وهو الرضى عنه في كل ما قضى وقدر وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص الشيخ جعل هذه الدرجة أعلى من الدرجة التي قبلها ووجه قوله : أنه لا يدخل في الإسلام إلا بالدرجة الأولى فإذا استقر قدمه عليها دخل في مقام الإسلام
وأما هذه الدرجة : فمن معاملات القلوب وهي لأهل الخصوص وهي الرضى عنه في أحكامه وأقضيته وإنما كان من أول مسالك أهل الخصوص لأنه مقدمة للخروج عن النفس والذي هو طريق أهل الخصوص فمقدمته بداية سلوكهم لأنه يتضمن خروج العبد عن حظوظه ووقوفه مع مراد الله عز و جل لا مع مراد نفسه
هذا تقرير كلامه وفي جعله هذه الدرجة أعلى من التي قبلها نظر لا يخفى وهو نظير جعله الصبر بالله أعلى من الصبر لله والذى ينبغي : أن تكون الدرجة الأولى أعلى شأنا وأرفع قدرا فإنها مختصة

وهذه الدرجة مشتركة فإن الرضى بالقضاء يصح من المؤمن والكافر وغايته التسليم لقضاء الله وقدره فأين هذا من الرضى به ربا وإلها ومعبودا
وأيضا فالرضى به ربا فرض بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة فمن لم يرض به ربا لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال وأما الرضى بقضائه : فأكثر الناس على أنه مستحب وليس بواجب وقيل : بل هو واجب وهما قولان في مذهب أحمد
فالفرق بين الدرجتين فرق ما بين الفرض والندب وفي الحديث الإلهي الصحيح : يقول الله عز و جل : ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل وأيضا : فإن الرضى به ربا يتضمن الرضى عنه ويستلزمه فإن الرضى بربوبيته : هو رضى العبد بما يأمره به وينهاه عنه ويقسمه له ويقدره عليه ويعطيه إياه ويمنعه منه فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربا من جميع الوجوه وإن كان راضيا به ربا من بعضها فالرضى به ربا من كل وجه : يستلزم الرضى عنه ويتضمنه بلا ريب
وأيضا : فالرضى به ربا متعلق بذاته وصفاته وأسمائه وربوبيته العامة والخاصة فهو الرضى به خالقا ومدبرا وآمرا وناهيا وملكا ومعطيا ومانعا وحكما ووكيلا ووليا وناصرا ومعينا وكافيا وحسيبا ورقيبا ومبتليا ومعافيا وقابضا وباسطا إلى غير ذلك من صفات ربوبيته
وأما الرضى عنه : فهو رضى العبد بما يفعله به ويعطيه إياه ولهذا إنما يجىء إلا في الثواب والجزاء كقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية الفجر : 2728 فهذا برضاها عنه لما حصل لها من كرامته كقوله تعالى : خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه البينة : 8

والرضى به : أصل الرضى عنه والرضى عنه : ثمرة الرضى به وسر المسألة : أن الرضى به متعلق بأسمائه وصفاته والرضى عنه : متعلق بثوابه وجزائه
وأيضا : فإن النبي علق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربا ولم يعلقه بمن رضي عنه كما قال : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فجعل الرضى به قرين الرضى بدينه ونبيه وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا بها وعليها
وأيضا : فالرضى به ربا يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاءه ومحبته والصبر له وبه والشكر على نعمه يتضمن رؤية كل ما منه نعمة وإحسانا وإن ساء عبده فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضى بمحمد رسولا يتضمن شهادة أن محمدا رسول الله والرضى بالإسلام دينا : يتضمن التزام عبوديته وطاعته وطاعة رسوله فجمعت هذه الثلاثة الدين كله
وأيضا : فالرضى به ربا يتضمن اتخاذه معبودا دون ما سواه واتخاذه وليا ومعبودا وإبطال عبادة كل ما سواه وقد قال تعالى لرسوله : أفغير الله أبتغي حكما الأنعام : 114 وقال : أغير الله اتخذ وليا الأنعام : 14 وقال : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء الأنعام : 164 فهذا هو عين الرضى به ربا
وأيضا : فإنه جعل حقيقة الرضى به ربا : أن يسخط عبادة ما دونه فمتى سخط العبد عبادة ما سوى الله من الآلهة الباطلة حبا وخوفا ورجاء وتعظيما وإجلالا فقد تحقق بالرضى به ربا الذي هو قطب رحى الإسلام
وإنما كان قطب رحى الدين : لأن جميع العقائد والأعمال والأحوال : إنما تنبني على توحيد الله عز و جل في العبادة وسخط عبادة ما سواه فمن لم يكن

له هذا القطب لم يكن له رحى تدور عليه ومن حصل له هذا القطب ثبتت له الرحى ودارت على ذلك القطب فيخرج حينئذ من دائرة الشرك إلى دائرة الإسلام فتدور رحى إسلامه وإيمانه على قطبها الثابت اللازم
وأيضا : فإنه جعل حصول هذه الدرجة من الرضى موقوفا على كون المرضى به ربا سبحانه أحب إلى العبد من كل شيء وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة ومعلوم أن هذا يجمع قواعد العبودية وينتظم فروعها وشعبها
ولما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب : كان ذلك الميل حاملا على طاعته وتعظيمه وكلما كان الميل أقوى : كانت الطاعة أتم والتعظيم أوفر وهذا الميل يلازم الإيمان بل هو روح الإيمان ولبه فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة
وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان كما في الصحيح عنه أنه قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كمان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار
فعلق ذوق الإيمان بالرضى بالله ربا وعلق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتم إلا به وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله
ولما كان هذا الحب التام والإخلاص الذي هو ثمرته أعلى من مجرد الرضى بربوبيته سبحانه : كانت ثمرته أعلى وهي وجد حلاوة الإيمان وثمرة الرضى : ذوق طعم الإيمان فهذا وجد حلاوة وذلك ذوق طعم والله المستعان
وإنما ترتب هذا وهذا على الرضى به وحده ربا والبراءة من عبودية ما سواه وميل القلب بكليته إليه وانجذاب قوى المحب كلها إليه ورضاه عن ربه تابع

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7