كتاب : هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

افترى عرفوا قوته بالقبض عليه وشد يديه بالحبال وربطه على خشبة الصليب ودق المسامير في يديه ورجليه ووضع تاج الشوك على رأسه وهو يستغيث ولا يغاث وما كان المسيح يدخل بيت المقدس الا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب احواله ولو صح مجيء هذه الالفاظ صحة لا تدفع وصحت ترجمتها كما ذكروه لكان معناها ان معرفة الله والايمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد دفعه حصل فيه من الايمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك
وجماع الامر ان النبوات المتقدمة والكتب الالهية لم تنطق بحرف واحد يقتضي ان يكون ابن البشر الها تاما اله حق من اله حق وانه غير مصنوع ولا مربوب بل بم يخصه الا بما خص به اخوه واولى الناس به محمد بن عبد الله في قوله انه عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه وكتب الانبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة لما اخبر به محمد صلى الله عليه و سلم وذلك كله يصدق بعضه بعضا وجميع ما تستدل به المثلثة عباد الصليب على الهية المسيح من الفاظ وكلمات في الكتب فانها مشتركة بين المسيح وغيره كتسميته ابا وكلمة وروح حق والها وكذلك ما اطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه او في مكانه

وباء حلولهم اصاب بعض مبتدعه الصوفية وعباد الجهمية
وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين الى الاسلام واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الايمان به ومعرفته ونوره وهداه فطنوا ان ذلك نفس ذات الرب وقد قال تعالى المثل الاعلى وقال وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم وهو ما في قلوب ملائكته وانبيائه وعباده المؤمنين من الايمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه وهو نظير قوله فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وقوله وهو الله في السموات وفي الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون وقوله وهو الذي في السماء أله وفي الارض أله وهو الحكيم العليم فأولياء الله يعرفونه ويحبونه ويجلونه ويقال هو في قلوبهم والمراد محبته ومعرفته والمثل الاعلى في قلوبهم لانفس ذاته وهذا امر يعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم يقول الانسان لغيره انت في قلبي ولا زلت في عيني كما قال القائل ... ومن عجب اني أحن اليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي ... وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين اضلعي ...
وقال آخر ... خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب

وقال آخر ... ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره ...
وقال اخر ... إن قلت غبت فقلبي لا يصدقني ... إذ أنت فيه لم تغب ... أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب ... فقد تحيرت بين الصدق والكذب ...
وقال الآخر ... أحن اليه وهو في القلب ساكن ... فيا عجبا لمن يحن لقلبه ...
ومن غلظ طبعه وكشف فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من الفاظ الكتب ان ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية وتتحد بها وتمتزج بها تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا
وان قلتم اوجبنا له الالهية من قول شعيا من اعجب الاعاجيب ان رب الملائكة سيولد من البشر قيل لكم هذا مع انه يحتاج الى صحة هذا الكلام عن شعيا وانه لم يحرف بالنقل من ترجمة الى ترجمة وانه كلام منقطع عما قبله وبعده ببينة فهو دليل على انه مخلوق مصنوع وانه ابن البشر مولود منه لا من الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد
وان قلتم جعلناه الها من قول متى في انجيله ان ابن الانسان يرسل ملائكته ويجمعون كل الملوك فيلقونهم في اتون النار قيل هذا كالذي قبله سواء ولم يرد ان المسيح هو رب الارباب ولا انه خالق الملائكة وحاش لله ان يطلق عليه انه رب الملائكة بل هذا من اقبح الكذب والافتراء بل رب الملائكة اوصى الملائكة بحفظ المسيح وتأييده ونصره بشهادة لوقا النبي القائل عندهم ان الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك ثم بشهادة لوقا ان الله ارسل له ملكا من السماء ليقويه هذا الذي نطقت به الكتب فحرف الكذابون على الله وعلى مسيحه ذلك ونسبوا الى الانبياء انهم قالوا هو رب الملائكة واذا شهد الانجيل واتفاق الانبياء والرسل ان الله يوصي ملائكته بالمسيح ليحفظوه علم ان الملائكة والمسيح عبيد الله منفذون لامره ليسوا اربابا ولا آلهة وقال المسيح لتلامذته من قبلكم فقد قبلني ومن قبلني فقد قبل من ارسلني وقال المسيح لتلامذته ايضا من انكرني قدام الناس انكرته قدام ملائكه الله وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة اغمد سيفك ولا تظن اني استطيع ان ادعو الله الاب فيقيم لي اكثر من اثني عشر من الملائكة فهل يقول هذا من هو رب الملائكة والههم وخالقهم
وان اوجبتم له الالهية بما نقلتموه عن شعيا تخرج عصا من بيت نبي وينبت

منها نور ويحل فيه روح القدس روح الله روح الكلمة والفهم روح الحيل والقوة روح العلم وخوف الله وبه يؤمنون وعليه يتوكلون ويكون لهم التاج والكرامة الى دهر الداهرين قيل لكم هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن شعيا وصحة الترجمة له باللسان العربي وانه لم يحرفه المترجم هو حجة على المثلثة عباد الصليب لا لهم فانه لا يدل على أن المسيح خالق السموات والارض بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن وان المسيح أيد بروح القدس فانه قال ويحل فيه روح القدس روح الله روح الكلمة والفهم روح الحيل والقوة روح العلم وخوف الله ولم يقل تحل فيه حياة الله فضلا عن أن يحل الله فيه ويتحد به ويتخذ حجابا من ناسوته وهذه روح تكون مع الانبياء والصديقين وعندهم في التوراة ان الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلت فيهم روح الحكمة وروح الفهم والعلم هي ما يحصل به الهدى والنصر والتأييد وقوله هي روح الله لا تدل على انها صفة فضلا عن ان يكون هو الله وجبريل يسمى روح الله والمسيح اسمه روح الله
والمضاف اذا كان ذاتا قائمة بنفسها فهو اضافة مملوك الى مالك كبيت الله وناقة الله وروح الله ليس المراد به بيت يسكنه ولا ناقة يركبها ولا روح قائمة به وقد قال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه وقال تعالى وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا فهذه الروح أيد بها عباده المؤمنين واما قوله وبه يؤمنون وعليه يتوكلون فهو عائد الى الله لا الى العصا التي تبت من بيت النبوة وقد جمع الله سبحانه بين هذين الاصلين في قوله قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وقال موسى لقومه يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وهو كثير في القرآن وقد اخبر انه أيده بروح العلم وخوف الله فجمع بين العلم والخشية وهما الاصلان اللذان جمع القرآن بينهما في قوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وفي قول النبي صلى الله عليه و سلم انا اعلمكم بالله واشدكم له خشية وهذا شأن العبد المحض واما الاله الحق ورب العالمين فلا يلحقه خوف ولا خشية ولا يعبد غيره والمسيح كان قائما بأوراد العبادات لله أتم القيام
وان أوجبتم له الالهية بقول شعيا ان غلاما ولد لنا واننا اعطيناه كذا وكذا ورياسته على عاتقيه وبين منكبيه ويدعي اسمه ملكا عظيما عجيبا الها قويا مسلطا رئيسا قوي السلامة في كل الدهور وسلطانه كامل ليس له فناء قيل لكم ليس في هذه البشارة ما يدل على ان المراد بها المسيح بوجه من الوجوه ولو كان المراد بها

المسيح لم يدل على مطلوبهم اما المقام الاول فدلالتها على محمد بن عبد الله اظهر من دلالتها على المسيح فانه هو الذي رياسته على عاتقيه وبين منكبيه من جهتين من جهة ان خاتم النبوة علا نغض كتفيه وهو من اعلام النبوة التي اخبرت به الانبياء وعلامة ختم ديوانهم ولذلك كان في ظهوره ومن جهة انه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه اذا ضرب به على عاتقه ويدل عليه قوله رئيس مسلط قوي السلامة وهذه صفة محمد صلى الله عليه و سلم المؤيد المنصور رئيس السلامة فان دينه الاسلام ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه والمسيح لم يسلط على اعدائه كما سلط محمد صلى الله عليه و سلم بل كان اعداؤه مسلطين عليه قاهرين له حتى عملوا به ما عملوا عند المثلثة عباد الصليب فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه وهي مطابقة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم من كل وجه وهو الذي سلطانه كامل ليس له فناء الى آخر الدهور فان قيل انكم لا تدعون محمد الها بل هو عندكم عبد محض قيل نعم والله انه لكذلك عبد محض لله والعبودية اجل مراتبه واسم الاله من جهة التراجم جاء والمراد به السيد المطاع لا الاله المعبود الخالق الرازق
وان اوجبتم له الالهية من قول شعيا فيما زعمتم ها هي العذراء تحبل وتلد ابنا يدعى اسمه عمانويل وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية الهنا معنا فقد شهد له النبي انه اله قيل لكم بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره لا يدل على ان العذراء ولدت رب العالمين وخالق السموات والارضين فانه قال تلد ابنا وهذا دليل على انه ابن من جملة البنين ليس هو رب العالمين وقوله ويدعى اسمه عمانويل فانما يدل على انه يسمى بهذا الاسم كما يسمى الناس ابناءهم بأنواع من الصفات والاسماء والافعال والجمل المركبة من اسمين او اسم وفعل وكثير من اهل الكتاب يسمون اولادهم عمانويل ومن علمائكم من يقول المراد بالعذراء ههنا غير مريم ويذكر في ذلك قصة ويدل على هذا ان المسيح لا يعرف اسمه عمانويل وان كان ذلك اسمه فكونه يسمى الهنا معنا او بالله حسبي او الله وحده ونحو ذلك وقد حرف بعض المثلثة عباد الصليب هذه الكلمة وقال معناها الله معنا ورد عليهم بعض من انصف من علمائهم وحكم رشده على هواه وهداه الله للحق وبصره من عماه وقال اهذا هو القائل انا الرب ولا اله غيري وانا احيي واميت واخلق وارزق ام هو القائل لله انك انت الاله الحق وحدك الذي ارسلت اليسوع المسيح قال والاول باطل قطعا والثاني هو الذي شهد به الانجيل ويجب

تصديق الانجيل وتكذيب من زعم ان المسيح اله معبود قال وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم فان عمانويل اسم تسمى به النصارى واليهود اولادهما قال وهذا موجود في عصرنا هذا ومعنى هذه التسمية بينهم شريف القدر قال وكذلك السريان يسمون اولادهم عمانويل والمسلمون وغيرهم يقولون للرجل الله معك فاذا سمى الرجل بقوله الله معك كان هذا تبركا بمعنى هذا الاسم
وان اوجبتم له الالهية بقول حنقوق فيما حكيتموه عن ان الله في الارض يترائى ويختلط مع الناس ويمشي معهم ويقول ارميا ايضا بعد هذا الله يظهر في الارض وينقلب مع البشر قيل لكم هذا بعد احتياجه الى ثبوت نبوة هذين الشخصين اولا والى ثبوت هذا النقل عنهما والى مطابقة الترجمة من غير تحريف وهذه ثلاث مقامات يعز عليكم اثباتها لا يدل على ان المسيح هو خالق السموات والارض وانه اله حق ليس بمخلوق ولا مصنوع ففي التوراة ما هو من هذا الجنس وابلغ ولم يدل ذلك على ان موسى اله ولا انه خارج عن جملة العبيد وقوله يترائى مثل تجلى وظهر واستعلن ونحو ذلك من الفاظ التوراة وغيرها من الكتب الالهية وقد ذكر في التوراة ان الله تجلى وترائى لابراهيم وغيره من الانبياء ولم يدل ذلك على الالهية لاحد منه ولم يزل في عرف الناس ومخاطبتهم ان يقولوا فلان معنا وهو بين اظهرنا ولم يمت اذا كان عمله وسنته وسيرته بينهم ووصاياه يعمل بها بينهم وكذلك يقول القائل لمن مات والده ما مات من خلف مثلك وانا والدك واذا رأوا تلميذا لعالم تعلم علمه قالوا هذا فلان باسم استاذه كما كان يقال عن عكرمة هذا ابن عباس وعن ابي حامد هذا الشافعي واذا بعث الملك نائبا يقوم مقامه في بلد يقول الناس جاء الملك وحكم الملك ورسم الملك وفي الحديث الصحيح الالهي يقول الله عز و جل يوم القيامة عبدي مرضت فلم تعدني فيقول يا رب كيف اعودك وانت رب العالمين قال اما ان عبدي فلانا مرض فلم تعده اما لو عدته لوجدتني عنده عبدي جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف اطعمك وانت رب العالمين قال اما علمت ان عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه اما لو اطعمته لوجدت ذلك عندي عبدي استسقيتك فلم تسقني فيقول رب كيف اسقيك وانت رب العالمين فيقول اما ان عبدي فلانا عطش فاستسقاك فلم تسقه اما لو سقيته لوجدت ذلك عندي وابلغ من هذا قوله تعالى ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم ومن هذا قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله فلو استحل المسلمون ما استحللتم لكان استدلالهم بذلك على ان محمدا اله من جنس استدلالكم لا فرق بينهما

وان اوجبتم له الالهية بقوله في السفر الثالث من اسفار الملوك والآن يا رب اله اسرائيل يتحقق كلامك لداود لانه حق ان يكون انه سيسكن الله مع الناس على الارض اسمعوا ايتها الشعوب كلكم ولتنصت الارض وكل من فيها فيكون الرب عليها شاهدا ويخرج من موضعه وينزل ويطأ على مشارق الارض في شأن خطيئة بني يعقوب قيل لكم هذا السفر يحتاج اولا الى ان يثبت ان الذي تكلم به نبي وان هذا لفظه وان الترجمة مطابقة له وليس ذلك بمعلوم وبعد ذلك فالقول في هذا الكلام كالقول في نظائره مما ذكرتموه وما لم تذكروه وليس في هذا الكلام ما يدل على ان المسيح خالق السموات والارض وانه اله حق غير مصنوع ولا مخلوق فان قوله ان الله سيسكن مع الناس في الارض هو مثل كونه معهم واذا صار في الارض نوره وهداه ودينه ونبيه كانت هذه سكناه لا انه بذاته المقدسة نزل عن عرشه وسكن مع اهل الارض ولو قدر تقدير المحالات ان ذلك واقع لم يلزم ان يكون هو المسيح فقد سكن الرسل والانبياء قبله وبعده فما الموجب لان يكون المسيح هو الاله دون اخوانه من المرسلين اترى ذلك للقوة والسلطان الذي كان له وهو في الارض وقد قلتم انه قبض عليه وفعل به ما فعل من غاية الاهانة والاذلال والقهر فهذا ثمرة سكناه في الارض مع خلقه فان قلتم سكناه وفي الارض هو ظهوره في ناسوت المسيح قيل لكم اما الظهور الممكن المعقول وهو ظهور محبته ومعرفته ودينه كلامه فهذا لا فرق فيه بين ناسوت المسيح واما الظهور المستحيل الذي تأباه العقول والفطر والشرائع وجميع النبوات وهو ظهور ذات الرب في ناسوت مخلوق من مخلوقاته واتحاده به وامتزاجه واختلاطه فهذا محال عقلا وشرعا فلا يمكن ان تنطق به نبوة اصلا بل جميع النبوات من اولها الى آخرها متفقة على أصول

المثلثة خالفت اصول الانبياء في تقديس الله ووصفه بصفات الكمال
احدها ان الله سبحانه وتعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه ولا ند ولا ضد ولا زير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع الا من بعد اذنه الثاني انه لا والد له ولا ولد ولا كفؤ ولا نسيب بوجه من الوجوه ولا زوجة الثالث انه غني بذاته فلا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج الى شيء مما يحتاج اليه خلقه بوجه من الوجوه الرابع انه لا يتغير ولا تعرض له الآفات من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم والخوف والهم والحزن ونحو ذلك الخامس انه لا يماثل شيئا من مخلوقاته بل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في افعاله السادس انه لا يحل في شيء من مخلوقاته ولا يحل

في ذاته شيء منها بل هو بائن عن خلقه بذاته والخلق بائنون عنه السابع انه اعظم من كل شيء واكبر من كل شيء وفوق كل شيء وعال على كل شيء وليس فوقه شيء البتة الثامن انه قادر على كل شيء فلا يعجزه شيء يريده بل هو الفعال لما يريد التاسع انه عالم بكل شيء يعلم السر واخفى ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وما تسقط من ورقة الا بعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس ولا متحرك الا وهو يعلمه على حقيقته العاشر انه سميع بصير يسمع ضجيج الاصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء فقد احاط سمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المبصرات وعلمه بجميع المعلومات وقدرته بجميع المقدورات ونفذت مشيئته في جميع البريات وعمت رحمته جميع المخلوقات ووسع كرسيه الارض والسموات الحادي عشر انه الشاهد الذي لا يغيب ولا يسيتخلف احدا على تدبير ملكه ولا يحتاج الى من يرفع اليه حوائج عباده او يعاونه عليها او يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم الثاني عشر انه الابدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت الثالث عشر انه المتكلم الامر الناهي قائل الحق وهادي السبيل ومرسل الرسل ومنزل الكتب والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر ومجازى المحسن باحسانه والمسىء باساءته الرابع عشر انه الصادق في وعده وخبره فلا اصدق منه قيلا والا اصدق منه حديثا وهو لا يخلف الميعاد الخامس عشر انه تعالى صمد بجيمع الصمدية فيستحيل عليه ما يناقض صمديته السادس عشر انه قدوس سلام فهو المبرأ من كل عيب وأفة ونقص السابع عشر انه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه الثامن عشر انه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عباده منه ظلما فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل وهو من المحكم الذي لا يجوز ان تأتي شريعة بخلافه ولا يخبر نبي بخلافه اصلا فترك المثلثة عباد الصليب هذه كله وتمسكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الالفاظ واقوال من ضلوا من قبل واضلوا كثرا وضلوا عن سواء السبيل واصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين تخالف هذا كله اشد المخالفة وتباينه اعظم المباينة

لو لم يظهر محمد بن عبد الله لبطلت بنوة سائر الانبياء
بنو اسرائيل قبل موسى وبعده
فصل في انه لو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم لبطلت بنوة سائر

الانبياء فظهور نبوته تصديق لنبواتهم وشهادة لها بالصدق فارساله من ايات الانبياء قبله وقد اشار سبحانه الى هذا المعنى بعينه في قوله جاء بالحق وصدق المرسلين فان المرسلين بشروا به واخبروا بمجيئه فمجيئه هو نفس صدق خبرهم فكأن مجيئه تصديقا لهم اذ هو تأويل ما اخبروا به ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر ان تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم وايمانه بهم فانه صدقهم بقوله ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه وشهد بصدقهم بقوله ومثل هذا قول المسيح ومصدقا لما بين يديه من التوارة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد فان التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقا لها ثم بشر برسول يأتي من بعده فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له كما كان ظهوره تصديقا للتوراة فعادة الله في رسله ان السابق يبشر باللاحق واللاحق يصدق السابق فلو لم يظهر محمد بن عبد الله ولم يبعث لبطلت نبوة الانبياء قبله والله سبحانه لا يخلف وعده ولا يكذب خبره وقد كان بشر ابراهيم وهاجر بشارات بينات ولم نرها تمت ولا ظهرت الا بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح على ان مريم بشرت به مرة واحدة وبشرت هاجر باسماعيل مرتين وبشر به ابراهيم مرارا ثم ذكر الله سبحانه هاجر بعد وفاتها كالمخاطب لها على السنة الانبياء ففي التوراة ان الله تعالى قال لابراهيم قد اجبت دعائك في اسماعيل وباركت عليه وكبرته وعظمته هكذا في ترجمة بعض المترجمين واما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرا من احبار اليهود فانه يقول وسيلد اثني عشر امة من الامم وفيها لما هربت هاجر من سارة ترائي لها ملك الله وقال يا هاجر امة سارة من اين اقبلت والى اين تذهبين قالت هربت من سيدتي فقال لها الملك ارجعي الى سيدتك واخضعي لها فاني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة وها انت تحبلين وتلدين ابنا تسميه اسماعيل لان الله قد سمع بذلك خشوعك وهو يكون عين الناس ويكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة اليه بالخضوع ويكون مسكنه على تخوم جميع اخوته وفي موضع آخر قصة اسكانها وابنها اسماعيل في برية فاران وفيها فقال لها الملك يا هاجر ليفرح روعك فقد سمع الله تعالى صوت الصبي قومي فاحمليه وتمسكي به فان الله جاعله لامة عظيمة وان الله فتح عليها فاذا ببئر ماء فذهبت وملأت المزادة منه وسقت الصبي منه

وكان الله معها ومع الصبي حتى تربى وكان مسكنه في برية فاران فهذه أربع بشارات خالصة لام اسماعيل نزلت اثنتان منها على ابراهيم واثنتان على هاجر وفي التوراة ايضا بشارات اخر باسماعيل وولده وانهم امة عظيمة جدا وان نجوم السماء تحصى ولا يحصون وهذه البشارة انما تمت بظهور محمد بن عبد الله وامته
فان بني اسحق كاوا لم يزالوا مطرودين مشردين خولا للفراعنه والقبط حتى انقذهم الله بنبيه وكليمه موسى بن عمران واورثتهم ارض الشام فكانت كرسي مملكتهم ثم سلبهم ذلك وقطعهم في الارض امما مسلوبا عزهم وملكهم قد اخذتهم سيوف السودان وعلتهم اعلاج الحمران حتى اذا ظهر النبي صلى الله عليه و سلم تمت تلك النبوات وظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل وعلت بنو اسماعيل على من حولهم فهشموهم هشما وطحنوهم طحنا وانتشروا في آفاق الدنيا ومدت الامم ايديهم اليهم بالذل والخضوع وعلوهم علو الثريا فيما بين الهند والحبشة والسوس الاقصى وبلاد الترك والصقالبة والخزر وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى امواج البحرين وظهر ذكر ابراهيم على السنة الامم فليس صبي من بعد ظهور النبي صلى الله عليه و سلم ولا امرأة ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا انثى الا وهو يعرف ابراهيم وآل ابراهيم
واما النصرانية وان كانت قد ظهرت في امم كثيرة جليلة فانه لم يكن لهم في محل اسماعيل وامه هاجر سلطان ظاهر ولا عز قاهر البتة ولا صارت ايدى هذه الامة فوق ايدى الجميع ولا امتدت اليهم ايدي الامم بالخضوع وكذلك سائر ما تقدم من البشارات التي تفيد بمجموعها العلم القظعي بأن المراد بها محمد بن علد الله صلى الله عليه و سلم وامته فانه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى الله عليه و سلم لبطلت تلك النبوات ولهذا لما علم الكفار من اهل الكتاب انه لا يمكن الايمان بالانبياء المتقدمين الا بالايمان بالنبي الذي بشروا به قالوا نحن في انتظاره ولم يجيء بعد ولما علم بعض الغلاة في كفره وتطذيبه منهم ان هذا النبي في ولد اسماعيل انكروا ان يكون لابراهيم ولد اسمه اسماعيل وان هذا لم يخلقه الله ولا يكثر على امة البهت واخوان القرود وقتلة الانبياء مثل ذلك كما لم يكثر على المثلثة عباد الصليب الذين سبوا رب العالمين اعظم مسبة ان يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا صلى الله عليه و سلم ونحن نبين انهم لا يمكنهم ان يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة ولا آية ولا معجزة الا باقرارهم ان محمدا رسول الله والا فمع تكذيبه لا يمكن ان يثبت للمسيح شيء من ذلك البتة

لا يمكنهم ان يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة اذا كفروا بمحمد
اليهود اساتذه النصارى في قصة الصلب واخبار المسيح
فنقول اذا كفرتم معاشر المثلثة عباد الصليب بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه و سلم فمن اين لكم ان تثبتوا لعيسى فضيلة او معجزة ومن نقل اليكم عنه آية او معجزة فانكم انما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين اخبرتم عن منام رؤى فاسرعتم الى تصديقه وكان الاولى لمن كفر بالقرآن ان ينكر وجود عيسى في العالم لانه لا يقبل قول اليهود فيه ولا سيما وهم اعظم اعدائه الذين رموه وامه بالعظائم فأخبار المسيح والصليب انما شيوخكم فيها اليهود وهم فيما بينهم مختلفون في أمره اعظم اختلاف وانتم مختلفون معهم في أمره فاليهود تزعم انهم حين اخذوه حبسوه الا انه كان يعضده احد قواد الروم لانه كان يداخله في صناعة الطب عندهم وفي الاناجيل التي بأيديكم انه اخذ صبح يوم الجمعة وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره واليهود مجمعون انه لم يظهر له معجزة ولا بدت منه لهم آية غير انه طار يوما وقد هموا بأخذه فطار على اثره آخر منهم فعلاه في طيرانه فسقط الى الارض بزعمهم وفي الانجيل الذي بايديكم في غير موضع مايشهد انه لامعجزة له ولا اية فمن ذلك ان فيه منصوصا ان اليهود قالوا له يوما ماذا تفعل حتى تنتهي به الى امر الله تعالى فقال امر الله ان تؤمنوا بمن بعثه فقالوا له وما آيتك التي ترينا ونؤمن بك وانت تعلم ان آبائنا قد اكلوا المن والسلوى بالمفاوز قال ان كان اطعمكم موسى خبزا فانا اطعمكم خبزا سماويا يريد نعيم الآخرة فلو عرفوا له معجزة ما قالوا ذلك وفي الانجيل الذي بأيديكم ان اليهود قالت له ما آيتك التي نصدقك بها قال اهدموا البيت ابنيه لكم في ثلاثة ايام فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا ولو كان قد اظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ وفي الانجيل الذي بأيديكم ايضا انهم جاؤا يسألونه آية فقذفهم وقال ان القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية فلا تعطى ذلك وفيه ايضا اهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم ان كنت المسيح فأنزل نفسك فنؤمن بك يطلبون بذلك آية فلم يفعل فاذا كفرتم معاشر المثلثة عباد الصليب بالقرآن لم يتحقق لعيسى بن مريم

آية ولا فضيلة فان اخباركم عنه واخبار اليهود لا يلتفت اليها لاختلافكم في شأنه اشد الاختلاف وعدم تيقنكم لجميع امره وكذلك اجتمعت اليهود على انه لم يدع شيئا من الالهية التي نسبتم اليه انه ادعاها وكان وكان اقصى مرادهم ان يدعى فيكون ابلغ في تسلطهم عليه وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه وهو ان احبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره خافوا ان تصير عامتهم اليه اذ كان على سنن تقبله قلوب الذي لا غرض لهم فشنعوا عليه امورا كثيرة ونسبوا اليه دعوى الالهية تزهيدا للناس في امره

اخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق بها
ثم ان اليهود عندهم من الاختلاف في امره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من اخباره فمنهم من يقول انه كان رجلا منهم ويعرفون اباه وامه وينسبونه لزانية وحاشاه وحاشا امه الصديقة الطاهرة البتول التي لم يقرعها فحل قط قاتلهم الله انى يؤفكون ويسمون اباه الزاني البنديرا الرومي وامه مريم الماشطة ويزعمون ان زوجها يوسف بن يهودا وجد البنديرا عندا على فراشها وشعر بذلك فهجرها وانكر ابنها ومن اليهود من رغب عن هذا القو وقال انما ابوه يوسف بن يهودا الذ كان زوجا لمريم ويذكرون ان السبب في استفاضة اسم الزنا عليه انه بينا هو يوما مع معلمه بهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا فجاءت امرأة من اهله وجعلت تبالغ في كرامتهم فقال بهشوع ما احسن هذه المرأة يريد افعالها فقال عيسى بزعمهم لولا عور في عينها فصاح بهشوع وقال له يا ممزار ترجمته يا زنيم اتزني بالنظر وغضب غضبا شديدا وعاد الى بيت المقدس وحرم اسمه ولعنه في اربعمائة قرن فحينئذ لحق ببعض قواد الروم وداخله بصناعة الطب فقوى بذلك على اليهود وهم يومئذ في ذمة قيصر بتاريوش وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويعرض عن بعضها الى ان كان من امره ما كان وطوائف من اليهود يقولون غير هذا انه كان يلاعب الصبيان بالكرة فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشايخ فقوي عيسى وتخطى رقابهم واخذها فقالوا له ما نظنك الا زنيما ومن اختلاف اليهود في امره انهم يسمون اباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف بن يهودا النجار وبعضهم يقول انما هو يوسف الحداد والنصارى تزعم انها كانت ذات بعل وان وزوحها يوسف بن يعقوب وبعضهم يقول يوسف بن آل وهم

يختلفون ايضا في آبائه وعددهم الى ابراهيم فمن مقل ومن مكثر فهذا ما عند اليهود وهم شيوخكم في نقل الصلب وامره والا فمن المعلوم انه لم يحضره احد من النصارى وانما حضره اليهود وقالوا قتلناه وصلبناه وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم فان صدقتموهم في الصلب فصدقوهم في سائر ما ذكروه وان كذبتم فيما نقلوه عنه فما الموجب لتصديقهم في الصلب وتكذيبهم اصدق الصادقين الذي قامت البراهين القطعية على صدقه انهم ما قتلوه وما صلبوه بل صانه الله وحماه وحفظه وكان اكرم على الله واوجه عنده من ان يبتليه بما تقولون انتم واليهود

النصارى اشد الامم افتراقا في دينهم
ما اتفقت عليه فرقهم المشهورة
واما خبر ما عندكم انتم فلا نعلم امة اشد اختلافا في معبودها ونبيها ودينها منكم فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وامه واباه عن دينهم لاجابك كل منهم بغير جواب الآخر ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن احد عشر مذهبا مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث وعبادة الصليب وان المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح ولا نبي ولا رسول وانه اله في الحقيقة وانه هو خالق السموات والارض والملائكة والنبيين وانه هو الذي ارسل الرسل واظهر على ايديهم المعجزات والآيات وان للعالم الها هو اب والد لم يزل وان ابنه نزل من السماء وتجسم من روح القدس ومن مريم وصار هو وابنها الناسوتي الها واحدا ومسيحا واحدا وخالقا واحدا ورازقا واحدا وحبلت به مريم وولدته واخذ وصلب والم ومات ودفن وقام بعد ثلاثة ايام وصعد الى السماء وجلس عن يمين ابيه قالوا والذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله فالقديم الازلي خالق السموات والارض هو الذي حبلت به مريم واقام هناك تسعة اشهر وهو الذي ولد ورضع وفطم واكل وشرب وتغوط واخذ وصلب وشد بالحبال وسمرت يداه
اختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح
ثم اختلفوا فقالت اليعقوبية اتباع يعقوب البردعي ولقب بذلك لان لباسه كان من خرق برادع الدواب يرقع بعضها ببعض ويلبسها ان المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين احداهما طبيعة الناسوت والاخرى طبيعة

اللاهوت وان هاتين الطبيعتين تركبتا فصار انسانا واحدا وجوهر واحدا وشخصا واحدا فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح وهو اله كله وانسان كله وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين وقالوا ان مريم ولدت الله وان الله سبحانه قبض عليه وصلب وسمر ومات ودفن ثم عاش بعد ذلك
فصل وقالت الملكية وهم الروم نسبة الى دين الملك لا الى رجل يدعى ملكانيا هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك ان الابن الازلي الذي هو الكلمة تجسدت من مريم تجسدا كاملا كسائر اجساد الناس وركبت في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر انفس الناس وانه صار انسانا بالجسد والنفس الذين هما من جوهر الناس الها بجوهر اللاهوت كمثل ابيه لم يزل وهو انسان بجوهر الناس مثل ابراهيم وموسى وداود وهو شخص واحد لم يزد عدده وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه ابن مريم وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة فله بلاهوته مشيئة مثل الاب وله بناسوته مشيئة كمشيئة ابراهيم وداود وقالوا ان مريم ولدت المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت وقالوا ان الذي مات هو الذي ولدته مريم وهو الذي وقع عليه الصلب والتسمير والصفع والربط بالحبال واللاهوت لم يمت ولم يألم ولم يدفن قالوا وهو اله تام بجوهر لاهوته وانسان تام بجوهر ناسوته وله المشيئتان مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من ان مريم ولدت الاله الا انهم بزعمهم نزهوا الاله عن الموت واذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية مع تنازعهم وتناقضهم فيه فاليعقوبية اطرد لكفرهم لفظا ومعنى
واما النسطورية فذهبوا الى القول بان المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة وان طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما ارادة واحدة واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزج بشيء والناسوت يقبل الزيادة والنقصان فكان المسيح بذلك الها وانسانا فهو الاله بجوهر اللاهوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان وهو انسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان وقالوا ان مريم ولدت المسيح بناسوته وان اللاهوت لم يفارقه قط وكل هذه الفرق استنكفت ان يكون المسيح عبد الله وهو لم يستنكف من ذلك ورغبت به عن عبودية الله وهو لم يرغب عنها بل

أعلى منازل العبودية عبودية الله ومحمد وابراهيم خير منه واعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية فالله رضه ان يكون له عبدا فلم ترض المثلثة بذلك
وقالت الاريوسية منهم وهم اتباع اريوس ان المسيح عبد الله كسائر الانبياء والرسل وهو مربوب مخلوق مصنوع وكان النجاشي على هذا المذهب واذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتلة وفعلوا به ما يفعل بمن سب المسيح وشتمه اعظم سب والكل من تلك الفرق الثلاث عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها بل يقولون ان الله تخطى مريم كما يتخطى الرجل المرأة واحبلها فولدت له ابنا ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم فهم يقولون الذي تدندنون حوله نحن نعتقده بغير حاجة منا الى معرفة الاقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين وذلك للتهويل والتطويل وهم يصرحون بان مريم والدة الآله والله ابوه وهو الابن فهذا الزوج والزوجة والولد وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ان دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن ان يتخذ ولدا ان كل من في السموات والارض الا آتي الرحمن عبدا لقد احصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيمة فردا

محمد برأ المسيح وامه من افتراء اعادئهما وانزله المنزلة العالية
ونزه الله عن افتراء المثلثة عليه
فهذه اقوال اعداء المسيح من اليهود والغالين فيه من النصارى المثلثة عباد الصليب فبعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم وبما ازال الشبهة في امره وكشف الغمة وبرأ المسيح وامه من افتراء اليهود وبهتهم وكذبهم عليهما ونزه رب العالمين وخالق المسيح وامه مما افتراه عليه المثلثة عباد الصليب الذين سبوه اعظم السب فانزل المسيح اخاه بالمنزلة التي انزله الله بها وهي اشرف منازله فآمن به وصدقه وشهد له بأنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته القاها الى مريم العذراء البتول الطاهرة الصديقة سيدة نساء العالمين في زمانها وقرر معجزات المسيح وآياته واخبر عن ربه تعالى بتخليد من كفر بالمسيح في النار وان ربه تعالى اكرم عبده ورسوله ونزهه وصاه ان ينال اخوان القردة منه ما زعمته النصارى انهم نالوه منه بل رفعه اليه مؤيدا منصورا لم يشكه اعداؤه بشوكة ولا نالته ايديهم باذى فرفعه اليه واسكنه سماءه وسيعيده الى الارض ينتقم به من مسيح الضلال واتباعه ثم يكسر به الصليب ويقتل به الخنزير ويعلي به الاسلام وينصر به ملة اخيه واولى الناس به محمد عليهما افضل الصلاة والسلام فاذا وضع هذا القول في المسيح في كفة وقول عباد الصليب

المثلثة في كفة تبين لكل من له ادنى مسكة من عقل ما بينهما من التفاوت وان تفاوتهما كتفاوت ما بينه وبين قول المغضوب عليهم فيه وبالله التوفيق
فلولا محمد صلى الله عليه و سلم لما عرفنا ان المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله وعبده وكلمته وروحه موجود اصلا فان هذا المسيح الذي اثبته اليهود من شرار خلق الله ليس بمسيح الهدى والمسيح الذي اثبته النصارى من ابطل الباطل لا يمكن وجوده في عقل ولا فطرة ويستحيل ان يدخل في الوجود اعظم استحالة ولو صح وجوده لبطلت ادلة العقول ولم يبق لاحد ثقة بمعقول اصلا فان استحالة وجوده فوق استحالة جميع المحالات ولو صح ما يقول لبطل العالم واضمحلت السموات والارض وعدمت الملائكة والعرش والكرسي ولم يكن بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ولا يستعجب من اطباق امة الضلال الذين شهد الله انهم اضل من الانعام على ذلك فكل باطل في الوجود ينسب الى امة من الامم فانها مطبقة عليه وقد تقدم ذكر اطباق الامم العظيمة التي لا يحصيحا الا الله على الكفر والضلال بعد معاينة الآيات البينات فلعباد الصليب اسوة باخوانهم من اهل الشرك والضلال

النصارى تلقوا أصول دينهم عن اصحاب المجامع
10 - مجامع لعلماء النصارى يكفر فيها ببعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا
قصة المسيح قبل بعثه وبعده الى ان رفع وما لاقى اتباعه من اليهود
والقياصرة
فصل في ذكر استنادهم في دينهم الى اصحاب المجامع الذين كفر بعضهم بعضا وتلقيهم اصول دينهم عنهم ونحن نذكر الآن الامر كيف ابتدأ وتوسط وانتهى حتى كأنك تراه عيانا
كان الله سبحانه قد بشر بالمسيح على السنة انبيائه من لدن موسى الى زمن داود ومن بعده من الانبياء وكثر الانبياء تبشيرا به داود وكانت اليهود تنتظره وتصدق به قبل مبعثه فلما بعث كفروا به بغيا وحسدا وشردوه في البلاد وطردوه وحبسوه وهموا بقتله مرارا الى ان اجمعوا على القبض عليه وعلى قتله فصانه الله وانقذه من ايديهم ولم يهنه بأيديهم وشبه لهم بأنهم صلبوه ولم يصلبوه كما قال تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه

وكان الله عزيزا حكيما وقد اختلف في معنى قوله ولكن شبه لهم فقيل المعنى ولكن شبه للذين صلبوه بأن القى شبهه على غيره فصلبوا الشبه وقيل المعنى ولكن شبه النصارى أي حصلت لهم الشبهة في امره وليس لهم علم بانه ما قتل وما صلب ولكن لما قال اعداؤه انهم قتلوه وصلبوه واتفق رفعه من الارض وقعت الشبهة في امرو وصدقهم النسارى في صلبه لتتم الشناعة عليهم وكيف ما كان فالمسيح صولات الله وسلامه عليه لم يقتل ولم يصلب يقينا لا شك فيه
ثم تفرق الحواريون في البلاد بعد رفعه على دينه ومنهاجه بدعون الامم الى توحيد الله ودينه والايمان بعبده ورسوله ومسيحه فدخل كثير من الناس في دينه ما بين ظاهر مشهور ومختف مستور واعداء الله اليهود في غاية الشدة والاذى لاصحابه واتباعه ولقي تلاميذ المسيح واتباعه من اليهود ومن الروم شدة شديدة من قتل وعذاب وتشريد وحبس وغير ذلك وكان اليهود في زمن المسيح في ذمة الروم وكانوا ملوكا عليهم وكتب نائب الملك ببيت المقدس الى الملك يعلمه بأمر المسيح وتلاميذه وما يفعل من العجائب الكثيرة من ابراء الاكمه والابرص واحياء الموتى فهم ان يؤمن به ويتبع دينه فلم يتابعه اصحابه ثم هلك وولى بعده ملك آخر فكان شديدا على تلامذة المسيح
ثم مات وولى بعده آخر وفي زمنه كتب مرقس انجيله بالعبرانية وفي زمانه صار الى الاسكندرية فدعا الى الايمان بالمسيح وهو اول شخص جعل بتركا على الاسكندرية وصير معه اثنى عشر قسيسا على عدة نقباء بني اسرائيل في زمن موسى وامرهم اذا مات البترك ان يختاروا من الاثني عشر واحدا يجعلونه مكانه ويضع الاثنى عشر ايديهم على رأسه ويبركونه ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا يصيرونه تمام العدة ولم يزل أمر القوم كذلك الى زمن قسطنطين ثم انقطع هذا الرسم واصطلحوا على ان ينصبوا البترك من أي بلد كان من اولئك القسيسين او من غيرهم ثم سموه بابا ومعناه ابو ألاباء وخرج مرقس الى برقة يدعو الناس الى دين المسيح ثم لك آخر فأهاج على اتباع المسيح الشر والبلاء واخذهم بأنواع العذاب وفي عصره كتب بطرس رئيس الحواريين انجيل مرقس عنه بالرومية ونسبه الى مرقس
وفي عصره كتب لوقا انجيله بالرومية لرجل شريف من عظماء الروم وكتب له الابركسيس الذي فيه اخبار التلاميذ وفي زمنه صلب بطرس وزعموا ان

بطرس قال له ان اردت ان تصلبني فاصلبني منكسا لئلا اكون مثل سيدي المسيح فانه صلب قائما وضرب عنق بولس بالسيف واقام بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة واقام مرقس بالاسكندرية وبرقة سبع سنين يدعو الناس الى الايمان بالمسيح ثم قتل بالاسكندرية واحرق جسده بالنار ثم استمرت القياصرة ملوك الروم على هذه السيرة الى ان ملك مصر قيصر يسمى طيطس فخرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد ان حاصرها واصاب اهلها جوع عظيم وقتل من كان بها من ذكر وانثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون باطفالهن الصخور وخرب المدينة واضرم فيها النار واحصى القتلى على بده فبلغوا ثلاثة آلاف الف ثم ملك ملوك آخرون فكان منهم واحد شديد على اليهود جدا فبلغوه ان النصارى يقولون ان المسيح ملكهم وان ملكه يدوم الى آخر الدهر فاشتد غضبه وامر بقتل النصارى وان لا يبقى في ملكه نصراني وكان يوحنا صاحب الانجيل هناك فهرب ثم امر الملك باكرامهم وترك الاعتراض عليهم ثم ملك بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل بترك انطاكية برومية وقتل اسقف بيت المقدس وصلبه وله يؤمئذ مائة وعشرون سنة وامر باستعباد النصارى فاشتد عليهم البلاء الى ان رحمتهم الروم وقال له وزراؤه ان لهم دينا وشريعة وانه لا يحل استعبادهم فكف عنهم وفي عصره كتب يوحنا انجيله بالرومية وفي ذلك العصر رجع اليهود الى بيت المقدس فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على ان يملكوا منهم ملكا فبلغ الخبر قيصر فوجه اليهم جيشا فقتل منهم من لا يحصى ثم ملك بعده آخر واخذ الناس بعبادة الاصنام وقتل من النصارى خلقا كثيرا ثم ملك بعده ابنه وفي زمانه قتل اليهود ببيت المقدس قتلا ذريعا وخرب بيت المقدس وهرب اليهود الى مصر والى الشام والجبال والاغوار وتقطعوا في الارض وامر الملك ان لا يسكن بالمدينة يهودي وان يقتل اليهود ويستأصلوا وان يكن المدينة اليونانيون وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين والنصارى ذمة تحت ايديهم فرأوهم يأتون الى مزبله هناك فيصلون فيها فمنعوهم من ذلك وبنوا على المزبلة هيكلا باسم الزهرة فلم يمكن النصارى بعد ذلك قربان ذلك الموضع ثم هلك هذا الملك وقام بعده آخر فنصب يهودا اسقفا على بيت المقدس قال ابن البطريق فمن يعقوب اسقف بيت المقدس الاول الى يهودا اسقفه هذا كانت الاساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين ثم ولى بعده آخر واثار على النصارى بلاء شديدا وحربا طويلا ووقع في ايامه قحط شديد كاد الناس ان يهلكوا فسألوا النصارى

ان يبتهلوا الى الههم فدعوا وابتهلوا الى الله فمطروا وارتفع عنهم القحط والوباء قال ابن البطريق وفي زمانه كتب بترك الاسكندرية الى اسقف بيت المقدس وبترك انطاكية وبترك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم وكيف يستخرج من فصح اليهود فوضعوا فيها كتبا على ما هي اليوم قال وذلك ان النصارى كانوا بعد صعود المسيح اذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون اربعين يوما ويفطرون كما فعل المسيح لانه لما اعتمد بالاردن خرج الى البرية فأقام بها اربعين يوما وكان النصارى اذا افصح اليهود عيدوا هم الفصح فوضع هؤلاء البتاركة حسابا للفصح ليكون فطرهم يوم الفصح وكان المسيح يعيد مع اليهود في عيدهم واستمر على ذلك اصحابه الى ان ابتدعوا تغيير الصوم فلم يصوموا عقيب الغطاس بل نقلوا الصوم الى وقت لا يكون عيدهم مع اليهود ثم مات ذلك الملك وقام بعده آخر وفي زمنه كان جالينوس وفي زمنه ظهرت الفرس وغلبت على بابل وآمد وفارس وتملك ازدشير ابن بابك في اصطخر وهو اول ملك ملك على فارس في المدة الثانية ثم مات قيصر وقام بعده آخر ثم آخر وكان شديدا على النصارى عذبهم عذابا عظيما وقتل خلقا كثيرا منهم وقتل كل عالم فيهم ثم قتل من كان بمصر والاسكندرية من النصارى وهدم الكنائس وبنى بالاسكدرية هيكلا وسماه هيكل الآلهة ثم قام بعده قيصر آخر ثم آخر وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة وكانت امه تحب النصارى ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل منهم خلقا كثيرا واخذ الناس بعادة الاصنام وقتل من الاساقفة خلقا كثيرا وقتل بترك انطاكية فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي ثم هلك وقام بعده آخر ثم آخر
وفي ايام هذا ظهر ماني الكذاب وزعم انه نبي وكان كثير الحيل والمخاريق فأخذه بهرام ملك الفرس فشقه نصفين واخذ من اتباعه مائتي رجل فغرس رؤسهم في الطين منكسين حتى ماتوا ثم قام من بعده فيلبس فآمن بالمسيح فوثب عليه بعض قواده فقتله ثم قام بعده دانقيوس ويسمى دقيانوس فلقى النصارى منه بلاء غظيما وقتل منهم ما لا يحصى وقتل بترك رومية وبنى هيكلا عظيما وجعل فيه الاصنام وامر ان يسجد لها ويذبح لها ومن لم يفعل قتل فقتل خلقا كثيرا من النصارى وصلبوا على الهيكل واتخذ من اولاد عظماء المدينة سبعة غلمان فجعلهم خاصته وقدمهم على جيمع من عنده وكانوا لا يسجدون للاصنام فأعلم الملك بخبرهم

فحبسهم ثم اطلقهم وخرج الى مخرج له فاخذ الفتية كل مالهم فتصدقوا به ثم خرجوا الى جبل فيه كهف كبير فاختفوا فيه وصب الله عليهم النعاس فناموا كالاموات وامر الملك ان يبنى عليهم باب الكهف ليموتوا فاخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس فكتب فيها اسماءهم وقصتهم مع دقيانوس وصيرها في صندوف من نحاس ودفنه داخل الكهف وسده ثم مات الملك

بولس اول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح
ثم قام بعده قيصر آخر وفي زمنه جعل في انطاكية بتركا يمسى بولس الشمشاطي وهو اول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت وكانت النصارى قبله كلمتهم واحدة انه عبد رسول مخلوق مصنوع مربوب لا يختلف فيه اثنان منهم فقال بولس هذا وهو اول من افسد دين النصارى ان سيدنا المسيح خلق من اللاهوت انسانا كواحد منا في جوهره وان ابتداء الابن من مريم وانه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الانسى صحبته النعمة الالهية فحلت فيه بالمحبة والمشيئة ولذلك سمى ابن الله وقال ان الله جوهر واحد واقنوم واحد
المجمع الاول
قال سعيد بن البطريق وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر اسقفا في مدينة انطاكية ونظروا في مقالة بولس فاوجبوا عليه اللعن فلعنوه ولعنوا من يقول بقوله وانصرفوا
ثم قام قيصر آخر فكانت النصارى في زمنه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم ولم بترك الاسكندرية يظهر خوفا ان يقتل فقام بارون بتركا فلم يزل يدارى الورم حتى بنى بالاسكندرية كنيسة ثم قام قياصرة اخر منهم اثنان تملكا على الروم احدى وعشرين سنة فأثاروا على النصارى بلاء عظيما وعذابا اليما وشدة تجل عن الوصف من القتل والعذاب واستباحة الحريم والاموال وقتل الوف مؤلفة من النصارى وعذبوا مارجرجس اصناف العذاب ثم قتلوه وفي زمنهما ضربت عنق بطرس بتلك الاسكندرية وكان له تلميذان وكان في زمنه اريوس يقول ان الاب وحده الله الفرد الصمد والابن مخلوق مصنوع وقد كان الاب اذ لم يكن الابن فقال بطرس لتلميذيه ان المسيح لعن اريوس فاحذرا ان تقبلا قوله فأني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب فقلت يا سيدي من شق ثوبك فقال لي اريوس فاحذروا ان تقبلوه او يدخل معكم الكنيسة وبعد قتل بطرس بخمس سنين صير احد تلميذيه بتركا على الاسكندرية فاقام ستة اشهر ومات ولما جرى على اريوس ما جرى اظهر انه قد رجع عن مقالته فقبله هذا البترك وادخله الكنيسة وجعله

قسيسا ثم قام قيصر آخر فجعل يتطلب النصارى ويقتلهم حتى صب الله عليه النقمة فهلك شر هلكة
ثم قام بعده قيصران احدهما ملك الشام وارض الروم وبعض الشرق والاخر رومية وما جاورها وكانا كالسباع الضارية على النصارى فعلا بهم من القتل والسبي والجلاء ما لم يفعله بهم ملك قبله وملك معهما قسطنطين ابو قسطنطين وكان دينا يبغض الاصنام محبا للنصارى فخرج الى ناحية الجزيرة والرها فنزل في قرية من قرى الرها فرأى امرأة جميلة يقال لها هيلانة وكانت قد تنصرت على يدي اسقف الرها وتعلمت قراءة الكتب فخطبها قسطنطين من ابيها فزوجه اياها فحبلت منه وولدت قسطنطين فتربى بالرها وتعلم حكمة اليونان وكان جميل الوجه قليل الشر محبا للحكمة وكان عليانوس ملك الروم جينئذ رجلا فاجرا شديد البأس مبغضا للنصارى جدا كثير القتل فيهم محبا للنساء لم يترك للنصارى بنتا جميلة الا افسدها وكذلك اصحابه وكان النصارى في جهد جهيد معه فبلغه خبر قسطنطين وانه غلام هاد قليل الشر كثير العلم واخبره المنجمون والكهنة انه سيملك ملكا عظيما فيهم بقتله فهرب قسطنطين من الرها ووصل الى ابيه فسلم اليه الملك ثم مات ابوه وصب الله على عليانوس انواعا من البلاء حتى تعجب الناس مما ناله ورحمه اعداؤه مما حل به فرجع الى نفسه وقال لعل هذا بسبب ظلم النصارى فكتب الى جميع عماله ان يطلقوا النصارى من الحبوس وان يكرموهم ويسألوهم ان يدعوا له في صلواتهم فوهب الله له العافية ورجع الى افضل ما كان عليه من الصحة والقوة فلما صح وقوي رجع الى شر مما كان عليه وكتب الى عماله ان يقتلوا النصارى ولا يدعوا في مملكته نصرانيا ولا يسكوا له مدينة ولا قرية فكان القتلى يحملون على العجل ويرمى بهم في البحر والصحارى واما قيصر الاخر الذي كان معه فكان شديدا على النصارى واستعبد من كان برومية من النصارى ونهب اموالهم وقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم

اول من ابتدع شارة الصليب قسطنطين
فلما سمع أهل رومية بقسطنطين وانه مبغض للشر محب للخير وان اهل مملكته معه في هدوء وسلامة كتب رؤساءهم اليه يسئلونه ان يخلصهم من عبودية ملكهم فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا وبقي متحيرا لا يدري كيف يصنع قال سعيد بن البطريق فظهر له على ما يزعم النصارى نصف النهار في السماء صليب من كوكب مكتوبا

حوله بهذا تغلب فقال لاصحابه رأيتم ما رأيت قالوا نعم فآمن حينئذ بالنصرانية فتجهز لمحاربة قيصر المذكور وصنع صليبا كبيرا من ذهب وصيره على رأس البند وخرج بأصحابه فأعطى النصر على قيصر فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وهرب الملك ومن بقي من اصحابه فخرج اهل رومية الى قسطنطين بالاكليل الذهب وبكل انواع اللهو واللعب فتلقوه وفرحوا به فرحا عظيما فلما دخل المدينة اكرم النصارى وردهم الى بلادهم بعد النفي والتشريد واقام اهل رومية سبعة ايام يعيدون للملك وللصليب فلما سمع عليانوس جمع جموعه وتجهز للقتال مع قسطنطين فلما وقعت العين في العين انهزموا واخذتهم السيوف وافلت عليانوس فلم يزل من قرية الى قرية حتى وصل الى بلده فجمع السحرة والكهنة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم فضرب اعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين وامر ببناء الكنائس واقام في كل بلد من بيت المال الخراج فيما تعمل به ابنية الكنائس وقام بدين النصرانية حتى ضرب بجرانه في زمانه فلما تم له خمس عشر سنة من ملكه حاج النصارى في امر المسيح واضطربوا فأمر بالمجمع في مدينة نيقية وهي التي رتبت فيها الامانة بعد هذا المجمع كما سيأتي فأراد اريوس أن يدخل معهم فمنعه بترك الاسكندرية وقال على ان بطرسا قال لهم ان الله لعن اريوس فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة وكان على مدينة اسيوط من عمل مصر اسقف يقول بقول اريوس فلعنه ايضا وكان بالاسكندرية هيكل عظيم على اسم زحل وكان فيه صنم من نحاس يسمى ميكائيل وكان اهل مصر والاسكندرية في اثني عشر يوما من شهر هتور وهو تشرين الثاني يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما ويذبحون له الذبائح الكثيرة فلما ظهرت النصرانية بالاسكندرية اراد بتركها ان يكسر الصنم ويبطل الذبائح له فامتنع عليه اهلها فاحتال عليهم بحيلة وقال لو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله لكان الولى فان هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فأجابوه الى ذلك فكسر الصنم وجعل منه صليبا وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل فلما منع بترك الاسكندرية اريوس من دخول الكنيسة ولعنه خرج اريوس مستعديا عليه ومعه اسقفان فاستغاثوا الى قسطنطين وقال اريوس انه تعدى على واخرجني من الكنيسة ظلما وسئل الملك ان يشخص بترك الاسكندرية يناظره قدام الملك فوجه قسطنطين برسول الى الاسكندرية فأشخص البترك وجمع بينه وبين اريوس ليناظره فقال قسطنطين لاريوس اشرح مقالتك قال اريوس اقول ان الاب كان اذا لم يكن الابن ثم انه احدث الابن فكان كلمة له الا انه محدث مخلوق ثم فوض الامر الى ذلك الابن المسمى كلمة فكان هو خالق السموات

والارض وما بينهما كما قال في انجيله ان يقول وهب لي سلطانا علىالسماء والارض فكان هو الخالق لهما بما اعطى من ذلك ثم ان الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا واحدا فالمسيح الآن معنيان كلمة وحسد الا انهما جميعا مخلوقان فأجابه عند ذلك بترك الاسكندرية وقال تخبرنا الآن ايما اوجب علينا عندك عبادة من خلقنا او عبادة من لم يخلقنا قال اريوس بل عبادة من خلقنا فقال له البترك فان كان خالقنا الابن كما وصفت وكان الابن مخلوقا فعادة الابن المخلوق اوجب من عبادة الاب الذي ليس بخالق بل تصير عبادة الاب الذي خلق الابن كفرا وعبادة الابن المخلوق ايمانا وذلك من اقبح الاقاويل فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البترك وشنع عندهم مقالة اريوس ودارت بينهما ايضا مسائل كثيرة فأمر قسطنطين البترك ان يكفر اريوس وكل ما قال بمقالته فقال له بل يوجه الملك بشخص للبتاركة والاساقفة حتى يكون لنا مجمع ونصنع في قضية ويكفر اريوس ويشرح الدين ويوضحه للناس

المجمع الثاني
وفيه وضعوا الامانة
فبعث قسطنطين الملك الى جميع البلدان فجمع البتاركة والاساقفة فاجتمع في مدينة نيقية بعد سنة وشهرين الفان وثمانية واربعون اسقفا فكانوا مختلفي الآراء مختلفي الاديان فمنهم من يقول المسيح ومريم الهان من دون الله وهم المريمانية ومنهم من يقول المسيح من الاب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار فلم ينقص الاولى لايقاد الثانية منها ومنهم من كان يقول لم تحبل مريم لتسعة اشهر وانما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب لان كلمة الله دخلت من اذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهذه مقالة الباد واشياعه ومنهم من كان يقول ان المسيح انسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره وان ابتداء الابن من مريم وانه اصطفى ليكون مخلصا للجواهر الا نسة صحبته النعمة الالهية فحلت منه بالمحبة والمشيئة فلذلك سمى ابن الله ويقولون ان الله جوهر واحد واقنوم واحدج ويسمونه بثلاثة اسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهذه مقالة بولس واشياعه ومنهم من كان يقول ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما هذه مقالة ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا قال ابن البطريق ولما سمع قسطنطين الملك مقالتهم عجب من ذلك واخلى لهم دارا وتقدم لهم بالاكرام والضيافة وامرهم

ان يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا على دين واحد ورأى واحد وناظروا بقية الاساقفة المختلفين ففلجوا عليهم في المناظرة وكان باقي الاساقفة المختلفين ففلجوا عليهم في المناظرة وكان باقي الاساقفة مختلفى الآراء والاديان فصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر اسقفا مجلسا عظيما وجلس في وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفع ذلك اليهم وقال لهم قد سلطتكم اليوم على المملكة فاصنعوا ما بدا لكم وما ينبغي لكم ان تضيعوا ما فيه قوام الدين وصلاح الامة فباركوا على الملك وقلدوه سيفه وقالوا له اظهر دين النصرانية وذب عنه ووضعوا له اربعين كتابا فيها السنن والشرائع وفيها ما يصلح ان يعمل به الاساقفة وما يصلح للملك ان يعمل بما فيها وكان رئيس القوم والمجمع والمقدم فيه بترك الاسنكدرية وبترك انطاكية واسقف بيت المقدس ووجه بترك رومية من عنده رجلين فاتفق الكل على لعن اريوس واصحابه ولعنوه وكل من قال بمقالته ووضعوا الامانة وقالوا ان الابن مولود من الاب قبل كون الخلائق وان الابن من طبيعة الاب غير مخلوق واتفقوا على ان يكون فصح النصارى يوم الاحد ليكون بعد فصح اليهود وان لا يكون فصح اليهود مع فصحهم في يوم واحد ومنعوا ان يكون للاسقف زوجة وذلك ان الاساقفة منذ وقت الحواريين الى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء لانهم كانوا اذا صيروا واحدا اسقفا وكانت له زوجة ثبتت معه ولم تتنح عنه ما خلا البتاركة فانهم لم يكن لهم نساء ولا كانوا ايضا يصيرون احدا له زوجة بتركا قال وانصرفوا مكرمين محظوظين وذلك في سبعة عشر سنة من ملك قسطنطين الملك ومكث بعد ذلك ثلاث سنين احداها كسر الاصنام وقتل من يعبدها والثانية امر ان لا يثبت في الديوان الا اولاد النصارى ويكونون هم الامراء والقواد والثالثة ان يقيم للناس جمعه الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملا ولا يكون فيها حرب وتقدم قسطنطين الى اسقف بيت المقدس ان يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس ويبدأ ببناء القيامة فقالت هيلانة امه اني نذرت ان اسير الى بيت المقدس واطلب المواضع المقدسة وابنيها فدفع اليها الملك اموالا جزيلة وسارت مع اسقف بيت المقدس فبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب وكنيسة قسطنطين ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعا عظيما ببيت المقدس وكان معهم رجل دسه بترك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بترك الاسكندرية وكان هذا الرجل لما رجع الى الملك اظهر انه مخالف لاريوس وكان يرى رأيه ويقول بمقالته فقام الرجل وقال ان اريوس لم يقل ان المسيح خلق الانسان ولكن قال به خلقت الاشياء لانه كلمة الله التي بها

خلقت السموات والارض وانما خلق الله الاشياء بكلمته ولم تخلق الاشياء كلمته كما قال المسيح في الانجيل كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء وقال به كانت الحياة والحياة نور البشر وقال العالم به يكون فأخبر ان الاشياء به تكونت قال ابن البطريق فهذه كانت مقالة اريوس ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا تعدوا عليه وحرفوه ظلما وعدوانا فرد عليه بترك الاسكندرية وقال اما اريوس فلم تكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا ولا ظلموه لانه انما قال الابن خالق الاشياء دون الاب واذا كانت الاشياء انما خلقت بالابن دون ان يكون الاب لها خالقا فقد اعطى انه ما خلق منها شيئا وفي ذلك تكذيب قوله الاب يخلق وانا اخلق وقال ان انا لم اعمل عمل ابي فلا تصدقوني وقال كما ان الاب يحيي من يشاء ويميته كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته قالوا فدل على انه يحيي ويخلق وفي هذا تكذيب لمن زعم انه ليس بخالق وانما خلقت الاشياء به دون ان يكون خالقا واما قولك ان الاشياء كونت به فانا لما قلنا لا شك ان المسيح حي فعال وكان قد دل بقوله اني افعل الخلق والحياة كان قولك به كونت الاشياء انما هو راجع في المعنى الى انه كونها وكانت به مكونة ولو لم يكن ذلك لتناقض القولان قال واما قول من قال من اصحاب اريوس ان الاب يريد الشيء فيكونه الابن والارادة للاب والتكوين للابن فان ذلك يفسد ايضا اذا كان الابن عنده مخلوقا فقد صار حظ المخلوق في الخق اوفى من حظ الخالق فيه وذلك ان هذا اراد وفعل وذلك اراد ولم يفعل فهذا اوفر حظا في فعله من ذلك ولابد لهذا ان يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه ويكون حكمه كحكمه في الخير والاختيار فان كان مجبورا فلا شيء له في الفعل وان كان مختارا فجائز ان يطاع وجائز ان يعصى وجائز ان يثاب وجائز ان يعاقب وهذا اشنع في القول ورد عليه ايضا وقال ان كان الخالق انما خلق خلقه بمخلوق والمخلوق غير الخالق بلا شك فقد زعمتم ان الخالق يفعل بغيره والفاعل بغيره محتاج الى متمم ليفعل به اذ كان لا يتم له الفعل الا به والمحتاج الى غيره منقوص والخالق متعال عن هذا كله قال فلما دحض بترك الاسكندرية حجج اولئك المخالفين وظهر لمن حضر بطلان قولهم وتحيروا وخجلوا فوثبوا على بترك الاسكندرية فضربوه حتى كان يموت فخلصه من ايديهم ابن اخت قسطنطين وهرب بترك الاسكندرية وصار الى بيت المقدس من غير حضور احد من الاساقفة ثم اصلح دهن

الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون وسار الى الملك فأعلمه الخبر فصره الى الاسكندرية قال ابن البطريق وامر الملك ان لا يسكن يهودي ببيت المقدس ولا يجوز بها ومن لم يتنصر قتل فظهر دين النصرانية وتنصر من اليهود خلق فقيل للملك ان اليهود يتنصرون من خوف القتل وهم على دينهم فقال كيف لنا ان نعلم ذلك منهم فقال بولس البترك ان الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير فأمر ان تذبح الخنازير ويطبخ لحومها ويطعم منها فمن لن يأكل منه علم انه مقيم على دين اليهودية فقال الملك اذا كان الخنزير في التوراة حراما فكيف يحل لنا ان نأكله ونطعمه الناس فقال له بولس ان سيدنا المسيح قد ابطل كل ما في التوراة وجاء بنواميس اخر وبتوراة جديدة وهو الانجيل وفي انجيله ان كل ما يدخل البطن فليس بحرام ولا نجس وانما ينجس الانسان ما يخرج من فيه وقال يونس ان بطرس رئيس الحواريين بينما هو يصلي في ست ساعات من النهار وقع عليه سبات فنظر الى السماء قد تفتحت واذا زاد قد نزل من السماء حتى بلغ الارض وفيه كل ذي اربع قوائم على الارض من السباع والدواب وغير ذلك من طير السماء وسمع صوتا يقول له يا بطرس قم فاذبح ولك فقال بطرس يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط ولا دنسا قط فجاء صوت ثان كل ما طهره الله فليس بنجس وفي نسخة اخرى ما طهره الله فلا تنجسه انت ثم جاءه الصوت بهذا ثلاث مرات ثم ان الزاد ارتفع الى السماء فتعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه فأمر الملك ان تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغارا وتصير على ابواب الكنائس في كل مملكته يوم احد الفصح وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنازير فمن لم يأكل منه يقتل فقتل لاجل ذلك خلق كثير ثم هلك قسطنطين وثام بعده اكبر اولاده واسمه قسطنطين وفي ايامه اجتمع اصحاب اريوس ومن قال بمقالته اليه فحسنوا لهم دينهم ومقالتهم وقالوا ان الثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحق في قولهم ان الابن متفق مع الاب في الجوهر فأمر ان لا يقال هذا فأنه خطأ فعزم الملك على فعله فكتب اليه اسقف بيت المقدس ان لا يقبل قول اصحاب اريوس فانهم حائدون عن الحق وكفار وقد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا ولعنوا كل من يقول بمقالتهم فقبل قوله قال ابن البطريق وفي ذلك الوقت اعلنت مقالة اريوس على قسطنطينية وانطاطية والاسكندرية وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين هذا صار على انطاكية بترك اريوسي ثم بعده آخر مثله قال واما

أهل مصر والاسكندرية وكان اكثرهم اريوسيين ومانيين فغلبوا على كنائس مصر فاخذوها ووثبوا على بترك الاسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى ثم ذكر جماعة من البتاركة والاساقفة من طوائف النصارى وما جرى لهم مع بعضهم بعضا وما تعصبت به كل طائقة لبتركها حتى قتل بعضهم بعضا واختلف النصارى اشد الاختلاف وكثرت مقالاتهم واجتمعوا عدة مجامع كل مجمع يلعن فيه بعضهم بعضا ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين

المجمع الثالث
فكان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الاول بنيقية فاجتمع الوزراء والقواد الى الملك وقالوا ان مقالة الناس قد فسدت وغلبت عليهم مقالة اريوس ومقدونيس فاكتب الى جميع الاساقفة والبتاركة ان يجتمعوا ويوضحوا دين النصرانية فكتب الملك الى سائر بلاده فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون اسقفا فنظروا وبحثوا في مقالة اريوس فوجدوها ان روح القدس مخلوق ومصنوع ليس باله فقال بترك الاسكندرية ليس روح القدس عندنا غير روح الله وليس روح الله غير حياته فاذا قلنا ان روح الله مخلوق فقد قلنا ان حياته مخلوقة واذا قلنا ان حياته مخلوقة فقد جعلناه غير حي وذلك كفر به فلعنوا جميعهم من يقول بهذه المقالة ولعنوا جماعة من اساقفتهم وبتاركتهم كانوا يقولون بمقالات اخر لم يرتضوها وبينوا ان روح القدس خالق غير مخلوق اله حق من اله حق من طبيعة الاب والابن ونؤمن بروح القدس الرب المحيي الذي من الاب منبثق الذي مع الاب والابن وهو مسجود وممجد وكان في تلك الامانة وبروح القدس فقط وبينوا ان الابن والاب وروح القدس ثلاثة اقانيم وثلاث وجوه وثلاث خواص وانها وحدة في تثليث وتثليث في وحدة وبينوا ان جسد المسيح بنفس ناطقة عقلية فأنفض هذا الجمع وقد لعنوا فيه كثيرا من اساقفتهم واشياعهم
المجمع الرابع
ثم بعد احدى وخمسين سنة من هذا المجمع كان لهم مجمع رابع على نسطورس وكا رأيه ان مريم ليست بوالدة الاله على الحقيقة ولذلك كان اثنان احدهما الاله هو موجود من الاب والاخر انسان وهو الموجود من مريم وان هذا الانسان الذي نقول انه المسيح متوحد مع الابن الاله ويقال له اله وابن الاله ليس

على الحقيقة ولكن موهبة واتفاق الأسمين على طريق الكرامة فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد فجرت بينهم مراسلات واتفقوا على تخطيئته واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسيس وأرسلوا إليه للمناظرة فامتنع ثلاثا مرات فاجمعوا على لعنة فلعنوه ونفوه وبينوا أن مريم ولدت إلها وأن المسيح إله حق من إله حق وهو إنسان وله طبيعتان فلما لعنوا نسطورس تعصب له بترك انطاكية فجمع الأساقفة فلم يزل الملك حتى الذين قدموا معه وناظرهم وقطعهم فتقاتلوا وتلاعنوا وجرى بينهم شر فتفاقم أمرهم ثم أصلح بينهم فكتب أولئك صحيفة أن مريم القديسة ولدت إلها وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة ومع الناس في الناسوت وأقروا بطبيعتين وبوجه واحد وأقنوم واحد وأنفذوا لعن نسطورس فلما لعنوه ونفى سار إلى مصر وأقام في أخميم سبع سنين ومات ودفن بها وماتت إلى أن أحياها إبن صرما مطران نصيبين وبثها في بلاد المشرق فأكثر نصارى المشرق والعراق ونسطورية فانفض ذلك المجمع الرابع أيضا وقد أطبقوا على لعن نسطوري وأشياعه ومن قال بمقالته

المجمع الخامس
ثم كان لهم بعد هذا المجمع مجمع خامس وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له أوطيسوس يقول إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا بالطبيعة وأن المسيح قبل التجسد من طبيعتين وبعد التجسد طبيعة واحدة وهو أول من أحدث هذه المقالة وهي مقالة اليعقوبية فرحل إليه بعض الأساقفة فناظره وقطعه ودحض حجته ثم صار إلى قسطنطينية فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعة فأرسل بترك القسطنطينية إليه فاسحتضره وجمع جمعا عظيما وناظره فقال أوطيسوس إن قلنا أن المسيح طبيعتين فقد قلنا بقول نسطورس ولكنا نقول إن المسح طبيعة واحدة وأقنوم واحد لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد فلما قبل التجسد زال عنه عنه وصار طبيعه واحده واقنوما واحدا فقال له بترك القسطنطينيه إن كان المسيح طبيعه واحده فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة وإن كان القديم هو المحدث فالذي لم يزل هو الذي لم يكن ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد فأني أن يرجع عن مقالته فلعنوه فاستعدي إلى الملك وزعم انهم ظلموه وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة فاستحضر الملك البتاركة والاساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس فثبت بترك الأسكندرية

مقالة أوطيسوس وقطع بتارك القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة الطهنة فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس ففسدت الأمانة وصارت مقالة أوطيسوس خاصة بمصر والأسكندرية وهو مذهب اليعقوبية فافترق هذا المجمع الخامس وكل فريق يلعن الآخر ويحرمه ويبرأ من مقالته

المجمع السادس
فصل ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس في مدينة حلقدون فأنه لما مات الملك ولي بعده مرقيون فاجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الانصاف وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية فأمر الملك باستحضار سائر البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى مدينة حلقدون فاجتمع فيها ستمائة وثلاثون قطع جميع البتاركة فأفسد الجميع مقالتها ولعنوها وأثبتوا أن المسيح اله وانسان في المكان مع الله باللاهوت وفي المكان معنا بالناسوت يعرف بطبيعتين تام باللاهوت وتام بالناسوت ومسيح واحد وثبتوا أقوال الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا وقبلوا قولهم لأن الأبن مع الله في المكان نور من نور إله حق من إله حق ولعنوا أريوس وقالوا ان روح القدس إله وأن الأب والإبن وروح القدس واحد بطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة وثبتوا قول المجمع الثالث في مدينة أفسيس أعني المائتي أسقف على نسطورس وقالوا أن مريم العذراء ولدت إلها ربنا اليسوع المسيح الذي هو مع الله بالطبيعة ومع الناسوت بالطبيعة وشهدوا أن للمسيح طبيعتين وأقنوما واحدا ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية ولعنوا المجمع الثاني الذي كان بإفسيس ثم المجمع الثالث ألمائي أسقف بمدينة أفسيس أول مرة ولعنوا نسطورس وبين نسطورس إلى مجمع حلقدون أحد وعشرون سنة فانفض هذا المجمع وقد لعنوا من مقدميهم وأساقفتهم من ذكرانا وكفرهم وتبرؤا منهم ومن قال مقالاتهم
المجمع السابع
ثم كان لهم بعد هذا المجمع مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك وذلك أن سورس القسطنطيني كان على رأى أوطيسوس فجاء إلى الملك فقال إن المجمع الحلقدوني الستمائة وثلاثين قد أخطأوا في لعن أوطسيوس وبترك افسكندرية والدين الصحيح ما قالاه فلا يقبل دين من سواهما ولكن أكتب إلى جميع عمالك أن يلعنوا الستمائة وثلاثين ويأخذوا الناس بطبيعة واحدة وأقنوم واحد فأجابه

الملك إلى ذلك فلما بلغ ذلك إيليا بترك بيت المقدس جمع الرهبان ولعنوا انسطاس الملك وسورس ومن يقول بمقالتهما فبلغ ذلك انسطاس ونفاه إلى إيلة وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس لأن يوحنا كان قد ضمن له أن يلعن المجمع الحلقدوني الستمائة وثلاثين فلما قدم إلى بيت المقدس احتمع الرهبان وقالوا إياك أن تقبل من سورس ولكن قاتل عن المجمع الحلقدوني ونحن معك فضمن لهم ذلك وخالف أمر الملك فبلغ ذلك الملك فأرسل قائدا وأمره أن ياخذ يوحنا بطرح المجمع الحلقدوني فأن يفعل ينفيه عن الكرسي فقدم القائد وطرح يوحنا في الحبس فصار إليه الرهبان في الحبس وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك فإذا حضر فليقر بلعنة من لعنة الرهبان ففعل ذلك واجتمع الرهبان وكانوا عشرة ألآف راهب ومعهم مدرس وسابا ورؤساء الديرات فلعنوا أوطسيوس وسورس ومن لا يقبل المجمع الحلقدوني وفزع رسول الملك من الرهبان وبلغ ذلك الملك فهم بنفي يوحنا فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى أنسطاس الملك لا يقبلون مقالة سورس ولا أحد من المخالفين ولو اهريقت دماؤهم وسألوه ان يكف أذاه عنهم وكتب بترك رمية إلى الملك يقبح فعله ويلعنه فانفض هذا المجمع أيضا وقد تلاعنت فيه هذه الجموع على ما وصفنا وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب بمقالة سورس وكان يسمى البرادعي وإليه تنسب اليعاقبة فأفسد امانة النصارى ثم مات أنسطاس وولي قسطنطين فرد كل من نفاه أنسطاس الملك
إلى موضعه واحتمع الرهبان وأظهروا كتاب الملك وعيدوا عيدا حسنا بزعمهم وأثبتوا المجمع الحلقدوني بالستمائة وثلاثين ثم ولي ملك اخر وكانت اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية وقتلوا بتر كا لهم يقال له بولس كان ملكيا فارسل القائد ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية فدخل الكنيسة في ثياب البترك وتقدم وقدس فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه فانصرف ثم أظهر لهم من بعد ثلاثة أيام أنه قد أتاه كتاب الملك وضرب الجرس ليجتمع الناس يوم الأحد في الكنيسة فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماع كتاب الملك وقد جعل بينه وبين جنده علامة إذا رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لن تأمنوا أن يرسل إليكم الملك من يسفك دمائكم فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه أن يقتل فأظهر العلامة فوضعوا السيف على كل من في الكنيسة فقتل داخلها وخارجها أمم لا تحصى كثرة حتى خاض الجند في الدماء وهرب منهم خلق كثير وظهرت مقالة الملكية

المجمع الثامن
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن بعد المجمع الحلقدوني الذي لعن فيه اليعقوبية بمائة سنة وثلاث سنين وذلك أن أسقف منبح وهي بلدة شرقي حلب بالقرب منها وهي مخسوفة الآن كان يقول بالتناسخ وأن ليس قيامة وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة واسقف آخر يقولون إن جسد المسيح خيال غير حقيقة فحشرهم الملك إلى قسطنطينية فقال لهم بتركها إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خبالا وكل جسد يعاين لاحد الناس أو فعل أو قول فهو كذلك وقال لأسقف منبخ إن المسيح قد قام من الموت وأعلمنا أنه يقوم كذلك الناس من الموت يوم الدينونة وقال في إنجيله لن تأتي الساعة حتى إن كل من في القبور إذا سمعوا قول ابن الله يجيبوا فكيف تقولون ليس قيامة فأوجب عليهم الخزي واللعن وأمر الملك أن يكون لهم مجمع بلعنون فيه واستحضر بتاركة البلاد فاجتمع في هذا المجمع مائة وأربعة وستون أسقف افلعنوا أسقف منبج وأسقف المصيصة وثبتوا على قول أسقف الرها أن جسد المسيح حقيقة لا خيال وإنه إله تام وأنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين واقنوم واحد وثبتوا المجامع الأربعة التي قبلهم بعد المجمع الحلقدوني وإن الدنيا زائلة وإن القيامة كائنة وأن المسيح يأتي بمجد عظيم فيدين الأحياء والأموات كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر
المجمع التاسع
فصل ثم كان لهم مجمع تاسع في أيام معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه وذلك أنه كان برومية راهب قديس يقال له مقسلمس وله تلميذان فجاء إلى قسطا الوالي فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه ونزع لسانه وفعل بأحد التلميذين مثله وضرب آخر بالسياط ونفاه فبلغ ذلك ملك قسطنطينية فأرسل إليه يوجه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الحجة ومن الذي كان ابتدأها لكيما يطرح جميع الأباء القديسين كل من استحق اللعنة فبعقث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاث شماسمة فلما وصلوا إلى قسطنطينية جمع الملك مائة وثمانية وستين أسقفا فصاروا ثلاثمائة وثمانية وأسقطوا الشمامسة في البرطحة وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية ولم يكن لبيت المقدس والإسكندرية بترك فلعنوا من تقدم من القديسين الذين خالفوهم وسموهم واحدا واحدا وهم جماعة ولعنو أصحاب المشيئة الواحدة ولما لعنوا هؤلاء جلسوا فلخصوا الأمانة المستقيمة بزعمهم

فقالوا نؤمن بأن الواحد من الللاهوت الإبن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم المستوي مع الأب الاله في الجوهر الذي هو ربنا اليسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين في أقنوم واحد ووجه واحد يعرف تاما بلا هوته تاما بناسوته وشهدت كما شهد مجمع الحلقدونية على ما سبق أن الإله الإبن في آخر الأيام أتحدا مع العذاراء السيدة مريم القديسة جسدا انسانا بنفسين وذلك برحمة الله تعالى محب البشر ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته وما يشبه الإله أن يعمل في طبيعته الذي هو الإبن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة إلى أن صارت في الحقيقة لحما كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن تنتقل عن محلها الأزلي وليست يمتغيرة لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين إلهي وأنسي الذي بهما يكون القول الحق وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين غير متضادتين ولا متضارعتين ولكن مع المشيئة الأنسية الألهية القادرة على كل شيء هذه شهادتهم وأمانة المجمع السادس من المجمع الحلقدوني وثبتوا ما ثبته الخمس مجامع التي كانت قبلهم ولعنوا من لعنوه وبين المجمع الخامس إلى هذا المجمع مائة سنة

المجمع العاشر
فصل ثم كان لهم مجمع عاشر لما مات الملك وولي بعده إبنه واجتمع فريق المجمع السادس وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا فثبتوا قول المجمع السادس ولعنوا من لعنهم وخالفهم وثبتوا قول المجامع الخمسة ولعنوا من لعنوا وانصرفوا فانقرضت هذه المجامع والحشود وهم علماء النصارى وقدماؤهم وناقلوا الدين إلى المتأخرين وإليهم يستند من بعدهم وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاء أربعة عشر ألفا من الأساقفة والبتاركة والرهبان كلهم يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا فدينهم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض وكل منهم لاعن ملعون
لو عرض دين النصرانية على قوم لم يعرفوا لهم إلها لا متنعوا من قبوله
فإذا كانت هذه حال التقدمين مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخيارهم فيهم والدولة دولتهم والكلمة لهم وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا واحتفالهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لاعن وملعون لا يثبت لهم قدم ولا يتحصل لهم قول في معرفة معبودهم بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه

وباح باللعن والبراءة ممن اتبع سمواه فما الظن بحثالة الماضين وفاية الغابرين وزبالة الحائرين وذرية الضالين وقد طال عليهم الامد وبعد العهد وصار دينهم ما يتلقونه عن الرهبان وقوم اذا كشفت عنهم وجدتهم اشبه شيء بالانعام وان كانوا في صور الانام بل هم كما قال تعالى ومن اصدق من الله قيلا إن هم الا كالانعام بل هم أضل سبيلا وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ومن أمة الضلال بشهادة الله ورسوله عليهم وامة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم بعضا وقد لعنهم الله سبحانه على لسان رسوله في قوله صلى الله عليه و سلم لعن الله اليهود والنصارى انخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه هذا والكتاب واحد والرب واحد والنبي واحد والدعوى واحدة وكلهم يتمسك بالمسيح وانجيله وتلاميذه ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين فمنهم من يقول انه اله ومنهم من يقول ابن الله ومنهم من يقول ثالث ثلاثة ومنهم من يقول انه عبد ومنهم من يقول انه اقنوم وطبيعة ومنهم من يقول اقنومان وطبيعتان الى غير ذلك من المقالات التي حكوها عن اسلافهم وكل منهم يكفر صاحبه فلو ان قوما لم يعرفوا لهم الها ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا لتوقفوا عنه وامتنعوا من قبوله فوازن بين هذا وبين ما جاء به خاتم الانبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه تعمل علما يضارع المحسوسات او يزيد عليها ان الدين عند الله الاسلام

يستحيل الايما بنبي من الانبياء مع جحد نبوة محمد
معجزات محمد اعظم وادل
فصل في انه لا يمكن الايمان بنبي من الانبياء اصلا مع جحود نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم وانه من جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الانبياء اشد جحدا وهذا يتبين بوجوه
احدها ان الانبياء المتقدمين بشروا بنبوته وامروا اممهم بالايمان به فمن جحد نبوته فقد كذب الانبياء قبله فيما اخبروا به وخالفهم فيما امروا واوصوا به من الايمان به والتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم واذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعا وبيان الملازمة ما تقدم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القطع على انه صلى الله عليه و سلم قد ذكر في الكتب الالهية على السن الانبياء واذا ثبت الملازمة فانتفاء اللازم موجب لانتفاء ملزومه

الوجه الثاني ان دعوة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عله هي دعوة جميع المرسلين قبله من اولهم الى آخرهم فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة اخوانه كلهم فان جميع الرسل جاؤوا بما جاء به فاذا كذبه المكذب فقد زعم ان ما جاء به باطل وفي ذلك تكذيب كل رسول ارسله الله وكل كتاب انزله الله ولا يمكن ان يعتقد ان ما جاء به صدق وانه كاذب مفتر على الله وهذا في غاية الوضوح وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحق فصدقهم الخصم وقال هؤلاء كلهم شهود عدول صادقون ثم شهد آخر على شهادتهم سواء فقال الخصم هذه الشهادة باطلة وكذب لا اصل لها وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعا ولا ينجيه من تكذيبهم اعترافه بصحة شهادتهم صلى الله عليه و سلم لبطلت نبوات الانبياء قبله فكذلك ان لم يصدق لم يمكن تصديق نبي من الانبياء قبله
الوجه الثالث ان الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه اضغاف اضعاف آيات من قبله من الرسل فليس لنبي من الانبياء آية توجب الايمان به الا ولمحمد صلى الله عليه و سلم مثلها او ما هو في الدلالة مثلها وان لم يكن من جنسها فايات نبوته اعظم واكبر وابهر وادل والعلم بنقلها قطعي لقرب العهد وكثرة النقلة واختلاف امصارهم واعصارهم واستحالة تواطئهم على الكذب فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره وبلده بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك والمكابر فيه في غاية الوقاحة والبهت كالمكابرة في وجود ما يشاهده الناس ولم يشاهده هو من البلاد والاقاليم والجبال والانهار فان جاز القدح في ذلك كله فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما اجوز واجوز وان امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد صلى اله عليه وسلم وآيات نبوته اشد ولذلك لما علم بعض علماء اهل الكتاب ان الايمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد ابدا كفر بالجميع وقال ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال تعالى وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا ما انزل الله على بشر من شيء قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا انتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون قال سعيد بن جبير جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم انشدك بالذي انزل التوارة على موسى اما تجد في التوراة ان الله يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا

فغضب عدو الله وقال والله ما انزل الله على بشر من شيء فقال له اصحابه الذين معه ويحك ولا موسى فقال والله ما انزل الله على بشر من شيء فأنزل الله عز و جل وما قدروا الله حق قدره الآية وهذا قول عكرمة قال محمد بن كعب جاء ناس من اليهود الى النبي صلى الله عليه و سلم وهو محتب فقالوا يا ابا القاسم الا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى الواحا بحملها من عند الله عز و جل فأنزل الله عز و جل يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك الآية وجاء رجل من اليهود فقال ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على احد شيئا ما انزل الله على بشر من شيء فحل رسول الله صلى الله عليه و سلم حبوته وجعل يقول ولا على احد وذهب جماعة منهم مجاهد الى أن الآية نزلت في مشركي قريش فهم الذين جحدوا اصل الرسالة وكذبوا بالرسل واما اهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى وهذا اختيار ابن جرير قال وهو أولى الاقاويل باصواب لان ذلك في سياق الخبر عنهم فهو اشبه من ان يكون خبرا عن اليهود ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عن من اخبر الله عنه من هذه الاية من انكاره ان يكون الله انزل على بشر شيئا من الكتب وليس ذلك مما تدين به اليهود بل المعروف من دين اليهود الاقرار بصحف ابراهيم وموسى وزبور داود والخبر من اول السورة الى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الاوثان وقوله وما قدروا الله حق قدره موصول به غير مفصول عنه قلت ويقوى قوله ان السورة مكية فهي خبر عن زنادقة العرب المنكرين لاصل النبوة ولكن بقي ان يقال فيكف يحسن الرد عليهم بما لا يقرون به من انزال الكتاب الذي جاء به موسى وكيف يقال لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ولا سيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب وهل ذلك صالح لغير اليهود فانهم كانوا يخفون من الكتاب مالا يوفق اهوائهم واغراضهم ويبدون منه ما سواه فاحتج عليهم بما يقرون به من كتاب موسى ثم وبخهم بانهم خانوا الله ورسوله فيه فأخفوا بعضه واظهروا بعضه وهذا استطراد من ذكر جحدهم النبوة بالكلية وذلك اخفاء لها وكتمان الى جحد ما اقروا به كتابهم باخفائه وتمانه فتلك سجية لهم معروفة لا تنكر اذ من اخفى بعض كتابه الذي يقر بأنه من عند الله كيف لا يجحد اصل النبوة ثم احتج عليهم بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ولولا الوحي الذي انزله على أنبيائه ورسله لم يصلوا اليه ثم امر رسوله ان

يجيب عن هذا السؤال وهو قوله من انزل الكتاب الذي جاء به موسى فقال قل الله أي الله الذي انزله أي ان كفروا به وجحدوه فصدق به انت واقربه ثم ذرهم في خوضهم يلعبون جواب هذا السؤال ان يقال ان الله سبحانه احتج عليهم بما يقر به اهل الكتابين وهم اولوا العلم دون الامم التي لا كتاب لها أي ان جحدتم اصل النبوة وان يكون الله انزل على بشر شيئا فهذا كتاب موسى تقر به اهل الكتاب وهم اعلم منكم فاسألوهم عنه ونظائر هذا في القرآن كثيرة يستشهد سبحانه بأهل الكتاب على منكري النبوات والتوحيد والمعنى انكم ان انكرتم ان يكون الله انزل على بشر شيئا فمن انزل كتاب موسى فان لم تعلموا ذلك فاسألوا اهل الكتاب واما قوله تعالى يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا فمن قرأها بالياء فهو اخبار عن اليهود بلفظ الغيبة ومن قرأها بلفظ التاء للخطاب فهو خطاب لهذا الجنس الذي فعلوا ذلك أي تجعلونه يا من انزل عليه كذلك وهذا من اعلام نبوته ان يخبر اهل الكتاب بما اعتمدواه في كتابهم وانهم جعلوه قراطيس وابدوا بعضه واخفوا كثيرا منه وهذا لا يعلم من غير جهتهم الا بوحي من الله ولا يلزم ان يكون قوله تجعلونه قراطيس خطابا لمن حكى عنهم انهم قالوا ما انزل الله على بشر من شيء بل هذا استطراد من الشيء الى نظيره وشبهه ولازمه وله نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الى آخر الآية فاستطرد من الشخص الملوق من الطين وهو آدم الى النوع المخلوق من النطفة وهم اولاده واوقع الضمير على الجميع بلفظ واحد ومثله قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صلحا جعلا له شركاء فيما تاهما فتعالى الله عما يشركون الى آخر الايات ويشبه هذا قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الازواج كلها الى آخر الآيات وعلى التقديرين فهؤلاء لم يتم لهم انكار نبوة النبي صلى الله عليه و سلم ومكابرتهم الا بهذا الجحد والتكذيب العام ورأوا انهم ان أقروا ببعض النبوات وجحدوا نبوته ظهر تناقضهم وتفريقهم بين المتماثلين وانهم لا يمكنهم الايمان بنبي وجحد نبوة من نبوته اظهر وآياتها اكثر واعظم ممن اقروا به واخبر سبحانه ان من جحد ان يكون قد ارسل رسله وانزل كتبه لم يقدره حق قدره وانه

نسبة الى ما لا يليق به بل يتعالى ويتنزه عنه فان في ذلك انكار دينه والهيته وملكه وحكمته ورحمته والظن السيء به انه خلق خلقه عبثا باطلا وانه خلاهم سدا مهملا وهذا ينافي كماله المقدس وهو متعال عن كل ما ينافي كماله فمن انكر كلامه وتكليمه وارساله الرسل الى خلقه فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته كما ان عبد معه الها غيره لم يقدره حق قدره معطل جاحد لصفات كماله ونعوت جلاله وارسال رسله وانزال كتبه ولا عظمة حق عظمته

انكار النبوات معناه جحد الخالق والجهل بالحقائق
ما وقع للفلاسفة والمجوس والنصارى واليهود من ذلك
ولذلك كان جحد نبوة خاتم انبيائه ورسله وانزال كتبه وتكذيبه انكارا للرب تعالى في الحقيقة وجحودا له فلا يمكن الاقرار بربوبيته والهيته وملكه بل ولا بوجوده مع تكذيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم وقد اشرنا الى ذلك في المناظرة التي تقدمت فلا بجامع الكفر برسول الله صلى الله عليه و سلم الاقرار بالرب تعالى وصفاته اصلا كما لا يجامع الكفر بالمعاد واليوم الآخر الاقرار بوجود الصانع اصلا وقد ذكر سبحانه ذلك في موضعين من كتابه في سورة الرعد في قوله وان تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد اولئل الذين كفروا بربهم والثاني في سورة الكهف في قوله تعالى ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن ان تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا اشرك بربي احدا فالرسول صلوات الله وسلامه عليه انما جاء بتعريف الرب تعالى بأسمائه وصفاته وافعاله والتعريف بحقوقه على عباده فمن انكر رسالاته فقد انكر الرب الذي دعا اليه وحقوقه التي امر بها بل نقول لا يمكن الاعتراف بالحقائق على ما هي عليه مع تكذيب رسوله وهذا ظاهر جدا لمن تأمل مقالات اهل الارض واديانهم
فان الفلاسفة لم يمكنهم الاعتراف بالملائكة والجن والمبدأ والمعاد وتفاصيل صفات الرب تعالى وافعاله مع انكار النبوات بل والحقائق المشاهدة التي لا يمكن انكارها لم يثبتوها على ما هي عليه ولا اثبتوا حقيقة واحدة على ما هي عليه البتة وهذا ثمرة انكارهم النبوات فسلبهم الله ادراك الحقائق التي زعموا ان عقولهم كافية في ادراكها فلم يدركوا منها شيئا على ما هو عليه حتى ولا الماء ولا الهواء ولا الشمس ولا غيرها فيمن تأمل مذاهبهم فيها علم انهم لم يدركوها وان عرفوا من ذلك بعض ما خفي على غيرهم

واما المجوس فأضل واضل واما عباد الاصنام فلا عرفوا الخالق ولا عرفوا حقيقة المخلوقات ولا ميزوا بين الشياطين والملائكة وبين الارواح الطيبة والخبيثة وبين احسن الحسن واقبح القبيح ولا عرفوا كمال النفس وما تسعد به ونقصها وما تشقى به
واما النصارى فقد عرفت ما الذي ادركوه من معبودهم وما وصفوه به وما الذي قالوه في نبيهم وكيف لم يدركوا حقيقته البتة ووصفوا الله بما هو من اعظم العيوب والنقائص ووصفوا عبده ورسوله بما ليس له بوجه من الوجوه وما عرفوا الله ولا رسوله والمعاد الذي اقروا به لم يدركوا حقيقته ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل من حقيقته اذ لا أكل عندهم في الجنة ولا شرب ولا زوجة هناك ولا حور عين يلذ بهن الرجال كلذاتهم في الدنيا ولا عرفوا حقيقة انفسهم وما تسعد به وتشقى ومن لم يعرف ذلك فهو اجدر ان لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة فلا لانفسهم عرفوا ولا لفاطرهم وبارئها ولا لمن جعله اليه سببا في فلاحها وسعادتها ولا للموجودات وانها جميعها فقيرة مربوبة مصنوعة ناطقها وصامتها آدميها وجنيها وملكها فكل من في السموات عبده وملكه وهو مخلوق مصنوع مربوب فقير من كل وجه ومن لم يعرف هذا لم يعرف شيئا

غباوة اليهود ونقضهم للعهود وتحريفهم وحسدهم هو الغاية
اليهود قتلة الانبياء واكلة الربا والمنفردون بغاية الخبث والبهت
واما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل اسلافهم وغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته ايديهم من ذهب ومن عبادتهم ان جعلوه على صورة ابلد الحيوان واقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم فانظر الى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد كيف عبدوا مع الله الها آخر وقد شاهدوا من ادلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما يشاهده سواهم واذا قد عزموا على اتخاذ اله دون الله فاتخذوه ونبيهم حي بين اظهرهم لم ينتظروا موته واذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم بل من الجواهر الارضية واذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الارض عالية عليها كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون الا تحت الارض والصخور والاحجار عالة عليها واذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وادخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج

الى نيل الايدي له بضروب مختلفة وادخاله النار واحراقه واستخراج خبثه واذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الايدي بل على تمثال حيوان ارضي واذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال اشرف الحيوانات واقواها واشدها امتناعا من الضيم كالاسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال ابلد الحيوان واقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات وحقيق بمن سأل نبيه ان يجعل له الها فيعبد الها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات ان لا يعرف حقيقة الاله ولا اسماءه وصفاته ونعوته ودينه ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ولا قالوا له اذهب انت وربك فقاتلا ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على ابواب البرآء من قتله ونبيهم حي بين اظهرهم وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء فكأنهم جووزا ان يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس ولو عرفوا معبوجهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له يا ابانا انتبه من رقدتك كم تنام ولو عرفوه لما سارعوا الى محاربة انبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم ولما تحيلوا على تحليل محارمه واسقاط فرائضه بأنواع الحيل ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وانهم من الاغبياء ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة ان يأمر بالشيء في وقت لمصلحة ثم يزيل الامر به في وقت آخر لحصول المصلحة وتبدله بما هو خير منه وينهي عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الاوقات والاحوال في المصالح والمفاسد كما هو مشاهد في احكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته الا بتبديلها واختلافها بحسب الاحوال والاوقات والاماكن فلو اعتمد طبيب ان لا يغير الادوية والاغذية بحسب اختلاف الزمان والاماكن والاحوال لاهلك الحرث والنسل وعد من الجهال فيكف يحجر على طبيب القلوب والاديان ان تتبدل احكامه بحسب اختلاف المصالح وهل ذلك الا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وامره انهم امروا ان يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا ويقولوا حطة فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه ان يحط عنهم خطاياهم فدخلوا يزحفون على استاههم بدل السجود لله ويقولون هنطا سقمانا أي حنطة سمراء فذلك سجودهم وخشوعهم وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم

ومن جهلهم وغباوتهم ان الله سبحانه اراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا مزيد عليه ثم انزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد اليهم فيه عهده وامرهم ان يأخذوه بقوة فيعبدوه بما فيه كما خلصهم من عبودية فرعون والبط فأبوا ان يقبلوا ذلك وامتنعوا منه فنتق الجبل العظيم فوق رؤوسهم على قدرهم وقيل لهم ان لم تقبلوا اطبقته عليكم فقبلوه من تحت الجبل قال ابن عباس رفع الله الجبل فوق رؤوسهم وبعث نارا من قبل وجوههم واتاهم البحر من تحتهم ونودوا ان لم تقبلوا ارضختكم بهذا واحرقتكم بهذا واغرقتكم بهذا فقبلوه وقالوا سمعنا واطعنا ولولا الجبل ما اطعناك ولما امنوا بعد ذلك قالوا سمعنا وعصينا ومن جهلهم انهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن على بعضها البشر ثم قالوا بعد ذلك لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وكان الله سبحانه قد امر موسى ان يختار من خيارهم سبعين رجلا لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم الى الجبل فلما دنى موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل وقال للقوم ادنوا ودنى القوم حتى اذا دخلوا في الحجاب وقعوا سجدا فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى ويأمره وينهاه ويعهد اليه فلما انكشف الغمام قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ومن جهلهم ان هارون لما مات ودفنه موسى قالت بنو اسرائيل لموسى انت قتلته حسدته على خلقه ولينه ومحبة بني اسرائيل له قال فاختاروا سبعين رجلا فوقفوا على قبر هارون فقال موسى يا هارون اقتلت ام مت قال بل مت وما قتلني احد فحسبك من جهالة امة وجفائهم انهم اتهموا نبيهم ونسبوه الى قتل اخيه فقال موسى ما قتلته فلم يصدقوه حتى اسمعهم كلامه وبراءة اخيه مما رموه به ومن جهلهم ان الله سبحانه شبههم في جملهم التوراة وعدم الفقه فيها والعمل بها بالحمار يحمل اسفارا وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة منها ان الحمار من ابلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلادة و منها انه لو حمل غير الاسفار من طعام او علف او ماء لكان له به شغور بخلاف الاسفار ومنها انهم حملوها لا انهم حيث حملوها طوعا واختبارا بل كانوا كالمكلفين لما حملوه لم يرفعوا به رأسا ومنها انهم حيث حملوها تكليفا وقهرا لم يرضوابها ولم يحملوها رضا واختيارا وقد علموا انهم لا بد لهم منها وانهم ان حملوها اختيارا كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة ومنها انها مشتملة على مصالح معاشهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة فاعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم وفلاحهم الى ضده من غاية الجهل والغباوة وعدم الفطانة ومن جهلهم وقلة معرفتهم انهم طلبوا عوض المن والسلوى الذين هما اطيب الاطعمة وانفعها

واوقفهم للغذاء الصالح البقل والقثاء والثوم والعدس والبصل ومن رضي باستبدال هذه الاغذية عوضا عن المن والسلوى لم يكثر عليه ان يستبدل الكفر بالايمان والضلالة بالهدى والغضب بالرضى والعقوبة بالرحمة وهذه حال من لم يعرف ربه ولا كتابه ولا رسوله ولا نفسه
واما نقضهم ميثاقهم وتبديلهم احكام التوراة وتحريفهم الكلم عن مواضعه واكلهم الربا وقد نهوا غنه واكلهم الرشا واعتدائهم في السبت حتى مسخوا قردة وقتلهم الانبياء بغير حق وتكذيبهم عيسى بن مريم رسول الله ورميهم له ولامه بالعظائم وحرصهم على قتله وتفردهم دون الامم بالخبث والبهت وشدة تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها وقسوة قلوبهم وحسدهم وكثرة سخرهم فاليه النهاية وهذا واضعافه من الجهل وفساد العقل قليل على من كذب رسل الله وجاهر بمعاداته ومعادة ملائكته وانبيائه واهل ولايته فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله واي حقيقة ادرك من فاتته هذه الحقيقة واي علم او عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصلة اليه ومآله بعد الوصول اليه

اشراق الارض بالنبوة وظلمتها بفقدها
المعرض عنها يتقلب في ظلمات والمؤمن في أنوار
فأهل الارض كلهم في ظلمات الجهل والغي الا من اشرق عليه نور النبوة كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ان الله خلق خلقه في ظلمة والقى عليهم من نوره فمن اصابه من ذلك النور اهتدى ومن اخطأه ضل فلذلك اقول جف القلم على علم الله ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور فمن اجابهم خرج الى الفضاء والنور والضياء ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها فهذه جملتهاظلمات خلق فيها العبد فبعث الله رسله لاخراجه منها الى العلم والمعرفة والايمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البتة فمن اخطأه هذا النور اخطأه حظه وكماله وسعادته وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة وهو متخبظ في ظلمات طبعه وهواه وجهله وقلبه مظلم ووجهه مظلم لانه يبقى على الظلمة الاصلية ولا يناسبه من الاقوال والاعمال والارادات والعقائد الا ظلماتها فلو اشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة اشراق

الشمس على بصائر الخفاش ...
بصائر أغشاها النهار بضوئه ... ولائمها قطع من الليل مظلم ...
يكاد نور النبوة بعمى تلك البصائر ويخطفها لشدته وضعفها فتهرب الى الظلمات لموافقتها لها وملائمتها اياها والمؤمن عمله نور وقوله نور ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور فهو يتقلب في النور في جميع احواله قال الله تعالى الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم ثم ذكر حال الكفار واعمالهم وتقلبهم في الظلمات فقال والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور
والحمد لله اولا وآخر وباطنا وظاهرا وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين

أقسام الكتاب
1 2