كتاب : أسباب رفع العقوبة عن العبد
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية
حققه وعلق عليه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد :
لقد خلق الله تعالى الإنسان ، وهو أعلم بخلقه وطبيعته ، ومن طبيعته الوقوع في المعاصي ، وارتكاب الذنوب ، كما قال صلى الله عليه وسلم " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "(1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ » (2).
ومنْ ثمَّ ، فلا يخلو الإنسان من الوقوع في الذنوب ، ففتح الله تعالى له باب التوبة منها ، فقال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى
وقال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر .
وهذه الرسالة التي بين يدينا ، هي من الرسائل النادرة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ألا وهي الأسباب الموجبة لرفع العقوبة ، وقد بين أنها عشرة أسباب و ذكر أمثلة عليها ، وهذه الرسالة - على صغر حجمها - من أروع ما كتب في هذا الباب ، وهي غزيرة الفوائد .
وهذه هي اللأسباب العشرة :
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ …
" السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ :
" السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ :
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ :…
( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ :…
( السَّبَبُ السَّادِسُ ) : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
( السَّبَبُ السَّابِعُ ) : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا:…
( السَّبَبُ الثَّامِنُ ) : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ :…
( السَّبَبُ التَّاسِعُ ) : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا .…
( السَّبَبُ الْعَاشِرُ ) : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ .…
===============
أما عملي في هذه الرسالة فهو كما يلي :
*وضع نص الرسالة من مجموع الفتاوى مشكلة ، ومن أحدث نسخة
*تصحيح الأخطاء المطبعية وهي قليلة جدا
*تخريج الآيات القرآنية كلها وتشكيلها بالرسم العادي ، وشرح غالب الآيات من كتب التفسير المعتمدة
*تخريج الأحاديث كلها وتشكيلها ، والحكم عليها إذا لم تكن في الصحيحين ، بما يناسبها باختصار ، وهناك مشكلة في كثير من الأحاديث حيث يرويها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من حفظه ، وليس بالنص فتكون بالمعنى وليست باللفظ ، فنقلت النص بحرفيته من مصدره ، وقمت بشرحها من مصادرها الرئيسة .
*ذكر الأدلة من القرآن والسنة لأشياء أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، دون أن يذكر دليلها صراحة ، فذكرت هذه الأدلة بالهامش
شرح ما يحتاج لشرح من كلامه ،سواء من كتبه الأخرى أو من كتب غيره
*فهرسة الموضوع بشكل دقيق
*ذكر أهم المصادر في آخر هذه الرسالة
قال تعالى :{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (54) سورة الزمر .
وأرجو من الله تعالى أن ينفع بها محققها ، وناقلها وقارئها والدال عليها في الدارين آمين
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
9 رجب 1428 هـ الموافق ل 23/7/2007 م
**************************
أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية(3)
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ :
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ (4)
__________
(1) -المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم(7725 ) والترمذي برقم( 2536 ) وهو صحيح لغيره
(2) - صحيح مسلم برقم(7141 )
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 487) فما بعدها ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 151و152)
(4) - 1 - التّوبة في اللّغة العود والرّجوع ، يقال : تاب إذا رجع عن ذنبه وأقلع عنه.
وإذا أسند فعلها إلى العبد يراد به رجوعه من الزّلّة إلى النّدم ، يقال : تاب إلى اللّه توبة ومتابا : أناب ورجع عن المعصية ، وإذا أسند فعلها إلى اللّه تعالى يستعمل مع صلة ' على يراد به رجوع لطفه ونعمته على العبد والمغفرة له ، يقال : تاب اللّه عليه : غفر له وأنقذه من المعاصي.
قال اللّه تعالى : «ثمَّ تَابَ عَلَيهمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ» .
وفي الاصطلاح التّوبة هي : النّدم والإقلاع عن المعصية من حيث هي معصية لا ، لأنّ فيها ضررا لبدنه وماله ، والعزم على عدم العود إليها إذا قدر.
وعرّفها بعضهم بأنّها الرّجوع عن الطّريق المعوجّ إلى الطّريق المستقيم.
وعرّفها الغزاليّ بأنّها : العلم بعظمة الذّنوب ، والنّدم والعزم على التّرك في الحال والاستقبال والتّلافي للماضي ، وهذه التّعريفات وإن اختلفت لفظا هي متّحدة معنى.
وقد تطلق التّوبة على النّدم وحده إذ لا يخلو عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم « النّدم توبة » والنّدم توجّع القلب وتحزّنه لما فعل وتمنّي كونه لم يفعل.
قال ابن قيّم الجوزيّة : التّوبة في كلام اللّه ورسوله كما تتضمّن الإقلاع عن الذّنب في الحال والنّدم عليه في الماضي والعزم على عدم العود في المستقبل ، تتضمّن أيضا العزم على فعل المأمور والتزامه ، فحقيقة التّوبة : الرّجوع إلى اللّه بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره ، ولهذا علّق سبحانه وتعالى الفلاح المطلق على التّوبة حيث قال :
«وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّهَا المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الاعتذار»
2 - الاعتذار في اللّغة مصدر اعتذر أصله من العذر ، وأصل العذر إزالة الشّيء عن جهته يقال : اعتذر عن فعله أي أظهر عذره ، واعتذر إليّ أي طلب قبول معذرته ، واعتذر إلى فلان فعذره أي : أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة أو في الظّاهر.
وفي الاصطلاح : الاعتذار إظهار ندم على ذنب تقرّ بأنّ لك في إتيانه عذراً ، والتّوبة هي النّدم على ذنب تقرّ بأنّه لا عذر لك في إتيانه فكلّ توبة ندم ولا عكس.
وقد يكون المعتذر محقّا فيما فعله ، بخلاف التّائب من الذّنب.
«ب - الاستغفار»
3 - الاستغفار في اللّغة طلب المغفرة ، وأصل الغفر التّغطية والسّتر ، يقال : غفر اللّه ذنوبه أي سترها.
وفي الاصطلاح طلب المغفرة بالدّعاء والتّوبة أو غيرهما من الطّاعة.
قال ابن القيّم : الاستغفار إذا ذكر مفردا يراد به التّوبة مع طلب المغفرة من اللّه ، وهو محو الذّنب وإزالة أثره ووقاية شرّه ، والسّتر لازم لهذا المعنى ، كما في قوله تعالى : «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كَانَ غَفَّارَاً» ، فالاستغفار بهذا المعنى يتضمّن التّوبة.
أمّا عند اقتران إحدى اللّفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى ، والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله ، كما في قوله تعالى :
«وَأَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه» .
«أركان وشروط التّوبة»
4 - ذكر أكثر الفقهاء والمفسّرين أنّ للتّوبة أربعة شروط : الإقلاع عن المعصية حالاً ، والنّدم على فعلها في الماضي ، والعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا.
وإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ آدميّ ، فيشترط فيها ردّ المظالم إلى أهلها أو تحصيل البراءة منهم.
وصرّحوا كذلك بأنّ النّدم على المعصية يشترط فيه أن يكون للّه ، ولقبحها شرعاً.
وهذا معنى قولهم : النّدامة على المعصية لكونها معصية ' ، لأنّ النّدامة على المعصية لإضرارها ببدنه ، وإخلالها بعرضه أو ماله ، أو نحو ذلك لا تكون توبة ، فلو ندم على شرب الخمر والزّنا للصّداع ، وخفّة العقل ، وزوال المال ، وخدش العرض لا يكون تائبا.
والنّدم لخوف النّار أو طمع الجنّة يعتبر توبة.
واعتبر بعض الفقهاء هذه الشّروط أو أكثرها من أركان التّوبة فقالوا : التّوبة النّدم مع الإقلاع والعزم على عدم العود ، وردّ المظالم ، وقال بعضهم : النّدم ركن من التّوبة ، وهو يستلزم الإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العودة ، وأمّا ردّ المظالم لأهلها فواجب مستقلّ ليس شرطا في صحّة التّوبة.
ويؤيّد هذا الرّأي ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « النّدم توبة » .
وعلى جميع الاعتبارات لا بدّ من التّنبيه على أنّ الإقلاع عن الذّنب لا يتمّ إلا بردّ الحقوق إلى أهلها ، أو باستحلالهم منها في حالة القدرة ، وهذا كما يلزم في حقوق العباد يلزم كذلك في حقوق اللّه تعالى ، كدفع الزّكوات ، والكفّارات إلى مستحقّيها.
وردّ الحقوق يكون حسب إمكانه ، فإن كان المسروق أو المغصوب موجودا ردّه بعينه ، وإلا يردّ المثل إن كانا مثليّين والقيمة إن كانا قيميّين ، وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه ، وتصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده.
فإن كان عليه فيها حقّ ، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى وشرب الخمر فتوبته بالنّدم والعزم على عدم العود ، وسيأتي تفصيله في آثار التّوبة.
«إعلان التّوبة»
5 - قال ابن قدامة : التّوبة على ضربين باطنة وحكميّة ، فأمّا الباطنة : فهي ما بينه وبين ربّه تعالى ، فإن كانت المعصية لا توجب حقّا عليه في الحكم كقبلة أجنبيّة أو الخلوة بها ، وشرب مسكر ، أو كذب ، فالتّوبة منه النّدم والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « النّدم توبة » وقيل : التّوبة النّصوح تجمع أربعة أشياء ، النّدم بالقلب ، والاستغفار باللّسان ، وإضمار أن لا يعود ، ومجانبة خلطاء السّوء ، وإن كانت توجب عليه حقّا للّه تعالى أو لآدميّ كمنع الزّكاة والغصب ، فالتّوبة منه بما ذكرنا ، وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدّي الزّكاة ويردّ المغصوب أو مثله إن كان مثليّا ، وإلّا قيمته.
وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه ، فإن كان عليه فيها حقّ في البدن ، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص وحدّ القذف اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى ، وشرب الخمر فتوبته أيضا بالنّدم ، والعزم على ترك العود ولا يشترط الإقرار به ، فإن كان ذلك لم يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه ، والتّوبة فيما بينه وبين اللّه تعالى ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه تعالى ، فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه » « فإنّ الغامديّة حين أقرّت بالزّنى لم ينكر عليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك » ، وإن كانت معصية مشهورة فذكر القاضي أنّ الأولى الإقرار به ليقام عليه الحدّ ، لأنّه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحدّ عليه ، والصّحيح أنّ ترك الإقرار أولى ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرّض للمقرّ عنده بالرّجوع عن الإقرار فعرّض لماعز » ، وللمقرّ عنده بالسّرقة بالرّجوع مع اشتهاره عنه بإقراره ، وكره الإقرار حتّى إنّه قيل لمّا قطع السّارق كأنّما أسف وجهه رماداً ، ولم يرد الأمر بالإقرار ولا الحثّ عليه في كتاب ولا سنّة ،ولا يصحّ له قياس.
إنّما ورد الشّرع بالسّتر والاستتار والتّعريض للمقرّ بالرّجوع عن الإقرار.
« وقال لهزال وكان هو الّذي أمر ماعزاً بالإقرار يا هزال لو سترته بثوبك كان خيراً لك » .
وقال أصحاب الشّافعيّ : توبة هذا إقراره ليقام عليه الحدّ وليس بصحيح لما ذكرنا ، ولأنّ التّوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجبّ ما قبلها ، كما ورد في الأخبار مع ما دلّت عليه الآيات في مغفرة الذّنوب بالاستغفار وترك الإصرار.
وأمّا البدعة فالتّوبة منها بالاعتراف بها ، والرّجوع عنها ، واعتقاد ضدّ ما كان يعتقد منها.
«عدم العودة»
6 - لا يشترط في التّوبة عدم العود إلى الذّنب الّذي تاب منه عند أكثر الفقهاء ، وإنّما تتوقّف التّوبة على الإقلاع عن الذّنب والنّدم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن عاوده مع عزمه حال التّوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ، ولم تبطل توبته المتقدّمة ، ولا يعود إليه إثم الذّنب الّذي ارتفع بالتّوبة ، وصار كأن لم يكن وذلك بنصّ الحديث : « التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له » .
وقال بعضهم يعود إليه إثم الذّنب الأوّل ، لأنّ التّوبة من الذّنب بمنزلة الإسلام من الكفر ، والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه ، فإذا ارتدّ عاد إليه الإثم الأوّل مع الرّدّة.
والحقّ أنّ عدم معاودة الذّنب واستمرار التّوبة شرط في كمال التّوبة ونفعها الكامل لا في صحّة ما مضى منها.
هذا واشترط الشّافعيّة في ثبوت بعض أحكام التّوبة إصلاح العمل ، فلا تكفي التّوبة حتّى تمضي عليه مدّة تظهر فيها آثار التّوبة ويتبيّن فيها صلاحه على تفصيل يأتي في آثار التّوبة.
«التّوبة من بعض الذّنوب»
7 - تصحّ التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند جمهور الفقهاء ، فالتّوبة تتبعّض كالمعصية وتتفاضل في كمّيّتها كما تتفاضل في كيفيّتها ، فكلّ ذنب له توبة تخصّه ، ولا تتوقّف التّوبة من ذنب على التّوبة من بقيّة الذّنوب ، كما لا يتعلّق أحد الذّنبين بالآخر ، وكما يصحّ إيمان الكافر مع إدامته شرب الخمر والزّنى تصحّ التّوبة عن ذنب مع الإصرار على آخر.
ونقل ابن القيّم قولا بعدم قبول التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، وهو رواية عن أحمد ثمّ قال : والّذي عندي في هذه المسألة أنّ التّوبة لا تصحّ من ذنب مع الإصرار على غيره من نوعه ، وأمّا التّوبة من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلّق له به ولا هو من نوعه فتصحّ ، كما إذا تاب من الرّبا ، ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإنّ توبته من الرّبا صحيحة ، وأمّا إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النّسيئة أو بالعكس ، أو تاب من تناول الحشيشة وأصرّ على شرب الخمر أو بالعكس فهذا لا تصحّ توبته ، كمن يتوب عن زنى بامرأة وهو مصرّ على الزّنى بغيرها.
«أقسام التّوبة»
8 - صرّح بعض فقهاء الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّوبة نوعان :
توبة في الباطن ، وتوبة في الظّاهر.
فأمّا التّوبة في الباطن : فهي ما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ ، فينظر في المعصية فإن لم تتعلّق بها مظلمة لآدميّ ، ولا حدّ للّه تعالى ، كالاستمتاع بالأجنبيّة فيما دون الفرج ، فالتّوبة منها أن يقلع عنها ويندم على فعل ما فعل ، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها.
والدّليل على ، ذلك قوله تعالى : «وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنْفُسَهمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلا اللَّهُ وَلمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا» الآية.
وإن تعلّق بها حقّ آدميّ ، فالتّوبة منها أن يقلع عنها ، ويندم على ما فعل ، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها ، وأن يبرأ من حقّ الآدميّ ، إمّا بأن يؤدّيه أو يسأله حتّى يبرئه منه ، وإن لم يقدر على صاحب الحقّ نوى أنّه إن قدر أوفاه حقّه.
وإن تعلّق بالمعصية حدّ للّه ، كحدّ الزّنى والشّرب ، فإن لم يظهر ذلك ، فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام : « من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه » .
وأمّا التّوبة في الظّاهر - وهي الّتي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشّهادة ، فإن كانت المعصية فعلا كالزّنى والسّرقة لم يحكم بصحّة التّوبة عند الشّافعيّة حتّى يصلح عمله ، وقدّروها بسنة أو ستّة أشهر ، أو حتّى ظهور علامات الصّلاح على اختلاف أقوالهم خلافا لجمهور الفقهاء فإنّهم لم يشترطوا إصلاح العمل بعد التّوبة ، وإن كانت المعصية قذفا أو شهادة زور فلا بدّ من إكذاب نفسه كما سيأتي.
«التّوبة النّصوح»
9 - أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين بالتّوبة النّصوح ليكفّر عنهم سيّئاتهم فقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ» .
واختلفت عبارات العلماء فيها ، وأشهرها ما روي عن عمر وابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ، وروي مرفوعا أنّ التّوبة النّصوح هي الّتي لا عودة بعدها كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع.
وقيل : هي النّدم بالقلب ، والاستغفار باللّسان ، والإقلاع عن الذّنب ، والاطمئنان على أنّه لا يعود.
«حكم التّوبة»
10 - التّوبة من المعصية واجبة شرعا على الفور باتّفاق الفقهاء ، لأنّها من أصول الإسلام المهمّة وقواعد الدّين ، وأوّل منازل السّالكين ، قال اللّه تعالى : «وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّها المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
«وقت التّوبة»
11 - إذا أخّر المذنب التّوبة إلى آخر حياته ، فإن ظلّ آملا في الحياة غير يائس بحيث لا يعلم قطعا أنّ الموت يدركه لا محالة فتوبته مقبولة عند جمهور الفقهاء ، وإن كان قريباً من الموت لقوله تعالى : «وَهو الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ» ولقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » .
وإن قطع الأمل من الحياة وكان في حالة اليأس - مشاهدة دلائل الموت - فاختلفوا فيه : قال المالكيّة - وهو قول بعض الحنفيّة : ووجه عند الحنابلة ، ورأي عند الشّافعيّة ، ونسب إلى مذهب الأشاعرة : إنّه لا تقبل توبة اليائس الّذي يشاهد دلائل الموت ، بدليل قوله تعالى : «وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحَدَهم المَوتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ» الآية.
قالوا : إنّ الآية في حقّ المسلمين الّذين يرتكبون الذّنوب ويؤخّرون التّوبة إلى وقت الغرغرة ، بدليل قوله تعالى بعده : «وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» لأنّه تعالى جمع بين من أخّر التّوبة إلى حضور الموت من الفسقة وبين من يموت وهو كافر ، فلا تقبل توبة اليائس كما لا يقبل إيمانه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يقبل التّوبة ما لم يغرغر » وهذا يدلّ على أنّه يشترط لصحّة التّوبة صدورها قبل الغرغرة ، وهي حالة اليأس وبلوغ الرّوح الحلقوم.
وعند بعض الحنفيّة - وهو وجه آخر عند الحنابلة - وعزاه بعضهم إلى مذهب الماتريديّة أنّ المؤمن العاصي تقبل توبته ولو في حالة الغرغرة ، بخلاف إيمان اليائس فإنّه لا يقبل ، ووجه الفرق أنّ الكافر غير عارف باللّه تعالى ، ويبدأ إيمانا وعرفانا ، والفاسق عارف وحاله حال البقاء ، والبقاء أسهل من الابتداء ولإطلاق قوله تعالى : «وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ» .
ولا خلاف بين الفقهاء في عدم قبول توبة الكافر بإسلامه في حالة اليأس بدليل قوله تعالى حكاية عن حال فرعون : «حَتَّى إذَا أَدْرَكَه الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنَّه لا إلهَ إلا الَّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ الآنَ وَقَدْ عَصَيتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِن المُفْسِدينَ» .
«من تقبل توبتهم ومن لا تقبل»
12 - تقدّم أنّ اللّه سبحانه وتعالى يقبل التّوبة من الكافر والمسلم العاصي بفضله وإحسانه كما وعد في كتابه المجيد حيث قال : «وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ» لكن هناك بعض الحالات اختلف الفقهاء في قبول التّوبة فيها نظرا للأدلّة الشّرعيّة الخاصّة بها ومن هذه الحالات :
«أ - توبة الزّنديق»
13 - الزّنديق هو الّذي لا يتمسّك بشريعة ولا يتديّن بدين.
وجمهور الفقهاء - المالكيّة والحنابلة وهو ظاهر المذهب عند الحنفيّة ورأي عند الشّافعيّة- على أنّه لا تقبل توبة الزّنديق لقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا» الآية.
والزّنديق لا يظهر منه بالتّوبة خلاف ما كان عليه ، لأنّه كان يظهر الإسلام مسرّاً بالكفر ، ولأنّ التّوبة عند الخوف عين الزّندقة.
لكن المالكيّة صرّحوا بقبول التّوبة من الزّنديق إذا أظهرها قبل الاطّلاع عليه.
وفي رواية عند الحنفيّة وهي رواية عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ الزّنديق تجري عليه أحكام المرتدّ فتقبل توبته بشروطها ، لقوله تعالى : «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ» .
وألحق الشّافعيّة بالزّنادقة الباطنيّة بمختلف فرقهم ، كما ألحق بهم الحنابلة الحلوليّة والإباحيّة وسائر الطّوائف المارقين من الدّين.
«ب - توبة من تكرّرت ردّته»
14 - صرّح الحنابلة - وهو رواية عند الحنفيّة ونسب إلى مالك بأنّه لا تقبل توبة من تكرّرت ردّته ، لقوله تعالى : «إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَمْ يَكُن اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهمْ وَلا لِيَهْدِيهمْ سَبِيلاً» .
ولقوله سبحانه : «إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَنْ تُقْبَلَ تَوبَتُهمْ» والازدياد يقتضي كفرا جديدا لا بدّ من تقدّم إيمان عليه.
ولما روي أنّ ابن مسعود رضي الله عنه أتي برجل فقال له : إنّه أتي بك مرّة فزعمت أنّك تبت وأراك قد عدت فقتله.
ولأنّ تكرار الرّدّة منه يدلّ على فساد عقيدته وقلّة مبالاته بالدّين فيقتل.
وقال الشّافعيّة وهو المشهور في مذهب الحنفيّة والمالكيّة : إنّه تقبل توبة المرتدّ ولو تكرّرت ردّته ، لإطلاق قوله تعالى : «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَد سَلَفَ» ولقوله عليه الصلاة والسلام : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه ، فإذا قالوا لا إله إلّا اللّه عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على اللّه » .
لكنّهم صرّحوا بأنّ المرتدّ المتكرّرة منه الرّدّة إذا تاب ثانيا عزّر بالضّرب أو بالحبس ولا يقتل ، قال ابن عابدين : إذا ارتدّ ثانيا ثمّ تاب ضربه الإمام وخلّى سبيله ، وإن ارتدّ ثالثا ثمّ تاب ضربه ضربا وجيعا وحبسه حتّى تظهر عليه آثار التّوبة ويرى أنّه مخلص ثمّ خلّى سبيله ، فإن عاد فعل به هكذا أبدا ما دام حتّى يرجع إلى الإسلام.
وقد جاء مثل هذا عن المالكيّة والشّافعيّة.
«ج - توبة السّاحر»
15 - السّحر علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانيّة يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفيّة.
وعرّفه ابن خلدون بأنّه علم بكيفيّة استعدادات تقتدر النّفوس البشريّة بها على التّأثيرات في عالم العناصر بغير معيّن.
واتّفق الفقهاء على أنّ تعليمه وتعلّمه حرام لقوله تعالى : «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» فذمّهم على تعليمه ، « ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّه من السّبع الموبقات » .
قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم.
وقد صرّح الحنفيّة بأنّه لا تقبل توبة السّاحر فيجب قتله ولا يستتاب ، وذلك لسعيه بالفساد ولا يلزم من عدم كفره مطلقا عدم قتله ، لأنّ قتله بسبب سعيه بالفساد ، فإذا ثبت ضرره ولو بغير مكفّر يقتل دفعا لشرّه كالخنّاق وقطّاع الطّريق.
وهذا مذهب الحنابلة.
وحدّ السّاحر عند الحنابلة القتل ويكفر بتعلّمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته.
وفي رواية أخرى عن أحمد ما يدلّ على أنّه لا يكفر.
وقال المالكيّة : إذا حكم بكفره فإن كان مجاهرا به يقتل إلا أن يتوب فتقبل توبته ، وإن كان يخفيه فهو كالزّنديق لا تقبل توبته.
16 - والدّليل على عدم قبول توبة السّاحر حديث جندب بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « حدّ السّاحر ضربة بالسّيف » فسمّاه حدّاً والحدّ بعد ثبوت سببه لا يسقط بالتّوبة.
ولما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « إنّ السّاحرة سألت أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم - وهم متوافرون - هل لها من توبة ؟ فما أفتاها أحد » ، ولأنّه لا طريق لنا إلى إخلاصه في توبته لأنّه يضمر السّحر ولا يجهر به ، فيكون إظهار الإسلام والتّوبة خوفا من القتل مع بقائه على تلك المفسدة.
وقال الشّافعيّة : إن علّم أو تعلّم السّحر واعتقد تحريمه لم يكفر ، وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه كفر ، لأنّه كذّب اللّه تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتدّ.
فالظّاهر من كلامهم أنّه تقبل توبة السّاحر كما تقبل توبة المرتدّ.
وهذا ما قرّره الحنابلة في الرّواية الثّانية عندهم حيث قالوا : إنّ السّاحر إن تاب قبلت توبته ، لأنّه ليس بأعظم من الشّرك ، والمشرك يستتاب ومعرفة السّحر لا تمنع قبول توبته ، فإنّ اللّه تعالى قبل توبة سحرة فرعون.
وفي الجملة ، فالخلاف في قبول توبة هذه الطّوائف ، إنّما هو في الظّاهر من أحكام الدّنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقّهم ، وأمّا قبول اللّه لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرا أو باطنا فلا خلاف فيه ، فإنّ اللّه تعالى لم يسدّ باب التّوبة عن أحد من خلقه وقد قال في المنافقين : «إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهمْ لِلَّهِ فَأولئكَ مَعَ المُؤمنينَ وَسَوفَ يُؤتِي اللَّهُ المُؤمِنينَ أَجْرَاً عَظِيمَاً» .
وتفصيل ما يتّصل بالسّحر ينظر في مصطلح : « سحر » .
«آثار التّوبة»
«أوّلاً : في حقوق العباد»
17 - التّوبة بمعنى النّدم على ما مضى والعزم على عدم العود لمثله لا تكفي لإسقاط حقّ من حقوق العباد.
فمن سرق مال أحد أو غصبه أو أساء إليه بطريقة أخرى لا يتخلّص من المسائلة بمجرّد النّدم والإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العود ، بل لا بدّ من ردّ المظالم ، وهذا الأصل متّفق عليه بين الفقهاء.
قال النّوويّ : إن كانت المعصية قد تعلّق بها حقّ ماليّ كمنع الزّكاة والغصب والجنايات ، في أموال النّاس وجب مع ذلك تبرئة الذّمّة عنه بأن يؤدّي الزّكاة ، ويردّ أموال النّاس إن بقيت ، ويغرم بدلها إن لم تبق ، أو يستحلّ المستحقّ فيبرّئه ، ويجب أن يعلم المستحقّ إن لم يعلم بالحقّ وأن يوصّله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه هناك.
فإن مات سلّمه إلى وارثه ، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره رفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته ، فإن تعذّر تصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده.
وإن كان معسرا نوى الضّمان إذا قدر.
فإن مات قبل القدرة فالمرجوّ من فضل اللّه تعالى المغفرة ، وإن كان حقّا للعباد ليس بماليّ كالقصاص وحقّ القذف فيأتي المستحقّ ويمكّنه من الاستيفاء ، فإن شاء اقتصّ وإن شاء عفا.
ومثله ما ذكره فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة مع تفصيل في بعض الفروع حسب نوعيّة المعصية وتناسب التّوبة معها كما هو مبيّن في مواضعها.
«ثانياً : في حقوق اللّه تعالى»
18 - حقوق اللّه الماليّة كالزّكوات والكفّارات والنّذور لا تسقط بالتّوبة ، بل يجب مع التّوبة تبرئة الذّمّة بأدائها كما تقدّم.
أمّا حقوق اللّه تعالى غير الماليّة كالحدود مثلا فقد اتّفق الفقهاء على أنّ جريمة قطع الطّريق « الحرابة » تسقط بتوبة القاطع قبل أن يقدر عليه ، لقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيهمْ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
فدلّت هذه الآية على أنّ قاطع الطّريق إذا تاب قبل أن يظفر به سقط عنه الحدّ ، والمراد بما قبل القدرة في الآية أن لا تمتدّ إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع.
وتوبته بردّ المال إلى صاحبه إذا كان قد أخذ المال لا غير ، مع العزم على أن لا يعود لمثله في المستقبل.
فيسقط عنه القطع أصلا ، ويسقط عنه القتل حدّاً ، وكذلك إن أخذ المال وقتل حتّى لم يكن للإمام أن يقتله حدّا ، ولكن يدفعه إلى أولياء المقتول يقتلونه قصاصا إذا تحقّقت شروطه.
وإن لم يأخذ المال ولم يقتل فتوبته النّدم على ما فعل والعزم على التّرك في المستقبل.
ولا يسقط عن المحارب حدّ الزّنى والشّرب والسّرقة إذا ارتكبها حال الحرابة ثمّ تاب قبل القدرة عليه عند المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر ، وهو احتمال عند الحنابلة ، ومفهوم إطلاق الحنفيّة في هذه الحدود.
والمذهب عند الحنابلة وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة أنّها تسقط عن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه لعموم الآية.
أمّا حدّ القذف وما عليه من حقوق الآدميّين من الأموال والجراح فلا تسقط عن المحارب كغير المحارب إلا أن يعفى له عنها.
19 - أمّا في غير المحاربة فإنّ الحدود المختصّة باللّه تعالى كحدّ الزّنى والسّرقة وشرب الخمر فلا تسقط بالتّوبة عند الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة ، لقوله تعالى : «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» وقوله سبحانه : «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهمَا»
وهذا عامّ في التّائبين وغيرهم ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامديّة ، وقطع الّذي أقرّ بالسّرقة ، وقد جاءوا تائبين يطلبون التّطهير بإقامة الحدّ ، وقد سمّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة فقال في حقّ المرأة : لقد تابت توبة لو قسّمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم » .
والرّأي الثّاني وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة ورأي لبعض المالكيّة أنّه إن تاب من عليه حدّ من غير المحاربين يسقط عنه الحدّ لقوله تعالى :
«وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإنْ تَابَا وَأصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» .
وذكر حدّ السّارق ثمّ قال : «فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيهِ» .
على أنّ بعض الفقهاء فرّقوا بين التّوبة من هذه الجرائم قبل الرّفع للإمام وبعده فيقولون بإسقاط التّوبة لها قبل الرّفع لا بعده.
كما فصّل في مصطلحاتها ، وقد تقدّم أنّ عقوبة الرّدّة تسقط بالتّوبة قبل الرّفع وبعده.
« ر : ردّة » .
«ثالثاً : في التّعزيرات»
20 - يسقط التّعزير بالتّوبة عند عامّة الفقهاء إذا لم يكن فيه حقّ من حقوق العباد ، كترك الصّلاة والصّوم مثلاً ، لأنّ المقصود من التّعزير التّأديب والإصلاح ، وقد ثبت بالتّوبة ، بخلاف حقوق العباد كالضّرب والشّتم ، لأنّها مبنيّة على المشاحّة كما مرّ.
وللتّفصيل انظر مصطلح : « تعزير » .
«رابعاً : في قبول الشّهادة»
21 - يشترط في قبول الشّهادة العدالة ، فمن ارتكب كبيرة أو أصرّ على صغيرة سقطت عدالته ولا تقبل شهادته إذا لم يتب ، وهذا باتّفاق الفقهاء.
وإذا تاب عن المعصية وقيل بقبول توبته تقبل شهادته عند جمهور الفقهاء ، سواء أكانت المعصية من الحدود أم من التّعزيرات ، وسواء أكانت بعد استيفاء الحدود أم قبله.
واختلفوا في قبول شهادة المحدود في القذف بعد التّوبة :
فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه إذا تاب المحدود في قذف تقبل شهادته ، وتوبته بتكذيب نفسه فيما قذف به ، واستدلّوا بأنّ اللّه سبحانه وتعالى قال : «فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وَأولئكَ هم الفَاسِقُون إلا الَّذِينَ تَابُوا» ، فاستثنى التّائبين بقوله : «إلا الَّذِينَ تَابُوا» والاستثناء من النّفي إثبات ، فيكون تقديره «إلا الَّذينَ تَابُوا» فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين ، لأنّ الجمل المعطوفة بعضها على بعض بالواو ، والواو للجمع فتجعل الجمل كلّها كالجملة الواحدة ، فيعود الاستثناء إلى جميعها.
ولأنّ القاذف لو تاب قبل إقامة الحدّ عليه تقبل شهادته عند الجميع ، ولا جائز أن تكون إقامة الحدّ عليه هي الموجبة لردّ الشّهادة ، لأنّه فعل الغير وهو مطهّر أيضا.
ولأنّه لو أسلم تقبل شهادته فهذا أولى.
ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقول لأبي بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة : تب أقبل شهادتك.
ولم ينكر ذلك عليه منكر ، فكان إجماعا.
وقال سعيد بن المسيّب شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال ، أبو بكرة ، ونافع بن الحارث ، وشبل بن معبد ، ونكل زياد ، فجلد عمر الثّلاثة وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم ، فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته.
وقال الحنفيّة : لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب ، لقوله تعالى : «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبَدَاً وَأولئكَ هُم الفَاسِقُون» ، ووجهه أنّ اللّه تعالى ردّ شهادته على التّأبيد نصّا ، فمن قال هو مؤقّت إلى وجود التّوبة يكون ردّا لما اقتضاه النّصّ فيكون مردودا.
والقياس على الكفر وغيره من الجرائم لا يجوز ، لأنّ القياس المخالف للنّصّ لا يصحّ.
ولأنّ ردّ الشّهادة معطوف على الجملة المتقدّمة إلى «فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً» وهي حدّ فكذا هذا ، فصار من تمام الحدّ ، ولهذا أمر الأئمّة به ، والحدّ لا يرتفع بالتّوبة.
وقوله تعالى : «وَأُولَئِكَ هُم الفَاسِقُون» ليس بحدّ ، لأنّ الحدّ يقع بفعل الأئمّة- أي الحكّام - ، والفسق وصف قائم بالذّات ، فيكون منقطعا عن الأوّل ، فينصرف الاستثناء بقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا» إلى ما يليه ضرورة ، لا إلى الجميع.
فالمحدود في القذف إذا تاب لا يسمّى فاسقا لكنّه لا تقبل شهادته وذلك من تمام الحدّ.
توثيق
التّعريف
1 - التّوثيق لغة : مصدر وثّق الشّيء إذا أحكمه وثبّته ، وثلاثيّه وثق.
يقال وثق الشّيء وثاقة : قوّى وثبت وصار محكما.
والوثيقة ما يحكم به الأمر ، والوثيقة : الصّكّ بالدّين أو البراءة منه ، والمستند ، وما جرى هذا المجرى والجمع وثائق.
والموثّق من يوثّق العقود.
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى.
الألفاظ ذات الصّلة
«التّزكية والتّعديل»
«التّزكية»
2 - التّزكية : المدح والثّناء ، يقال : زكّى فلان بيّنته أي مدحها ، وتزكية الرّجل نسبته إلى الزّكاء وهو الصّلاح ، وفي الاصطلاح : الإخبار بعدالة الشّاهد.
والتّعديل مثله وهو نسبة الشّاهد إلى العدالة.
فالتّزكية والتّعديل توثيق للأشخاص ليؤخذ بأقوالهم ، وعلى هذا فالتّوثيق أعمّ لأنّه يشمل التّزكية وغيرها من الرّهن والكفالة وغيرهما.
«البيّنة»
3 - البيّنة من بان الشّيء إذا ظهر ، وأبنته : أظهرته ، والبيّنة اسم لكلّ ما يبيّن الحقّ ويظهره ، وسمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الشّهود بيّنة لوقوع البيان بقولهم وارتفاع الإشكال بشهادتهم وعلى ذلك فالتّوثيق أعمّ من البيّنة لأنّه يتناول البيّنة والرّهن والكفالة.
«التّسجيل»
4 - هو الإثبات في السّجلّ وهو كتاب القاضي ونحوه.
وفي الدّرر : المحضر : ما كتب فيه ما جرى بين الخصمين من إقرار أو إنكار والحكم ببيّنة أو نكول على وجه يرفع الاشتباه ، والصّكّ : ما كتب فيه البيع والرّهن والإقرار وغيرها.
والحجّة والوثيقة يتناولان الثّلاثة.
وقال ابن بطّال : المحاضر : ما يكتب فيها قصّة المتحاكمين عند حضورهما مجلس الحكم وما جرى بينهما وما أظهر كلّ واحد منهما من حجّة من غير تنفيذ ولا حكم مقطوع به ، والسّجلّات : الكتب الّتي تجمع المحاضر وتزيد عليها بتنفيذ الحكم وإمضائه.
وعلى ذلك فالتّسجيل هو إثبات الأحكام الّتي يصدرها القاضي وتختلف مراتبها في القوّة والضّعف.
فهو من أنواع التّوثيق.
«حكمة مشروعيّة التّوثيق»
مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 22)ومجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 683) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 317) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 322) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 325) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 670) ومجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 291)ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 51) ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 55) ومجموع الفتاوى - (ج 16 / ص 20) ومجموع الفتاوى - (ج 34 / ص 171) وفتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 43) وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 55) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 153) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 201) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 222) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 1 / ص 87) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 311)وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 328) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 16 / ص 60) وفتاوى السبكي - (ج 4 / ص 441)وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 248) والفتاوى الثلاثية - (ج 1 / ص 39) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 21 / ص 1) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 5 / ص 25) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 14 / ص 19) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 43 / ص 11) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 64 / ص 23) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 124 / ص 4)ولقاءات الباب المفتوح - (ج 124 / ص 6)ولقاءات الباب المفتوح - (ج 153 / ص 3)وفتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 178) وفتاوى يسألونك - (ج 2 / ص 179) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 116) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 143) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 220) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 409) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 5 / ص 383) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 5 / ص 393) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 319) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 322)ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 327) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 328) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 332) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 407) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 9 / ص 282) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 219) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 11 / ص 226) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 14 / ص 16) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 95) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 103) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 225) ونور على الدرب - (ج 1 / ص 97) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 260) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 925) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1212) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1311) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1401) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1430) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1531) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1689) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4950) وغيرها

أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية(3)
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(1)
__________
(1) - ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } روايات منها : ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : لما اجتمعنا على الهجرة . تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى : غدير بنى غفار - وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم . فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر : فكتبتها بيدى ، ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر فى قوله - تعالى - : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم .
والإِسراف : تجاوز الحد فى كل شئ ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق ، كما فى قوله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } والمراد بالإِسراف هنا : الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين . وعدى الفعل " أسرفوا " بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم .
والقُنُوط : اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب . يقال : فلان قانط من الحصول على هذا الشئ ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم باتكابهم للمعاصى ، قل لهم : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم .
وجملة { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } تعليلية . أى : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها . لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ الغفور الرحيم } أى : هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ما توا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه
أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام ، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله .
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم ، لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى : واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا : أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف لى المعاصى . . ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة . . ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب . . } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده ، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك .
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس . . وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم . . } .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة ، منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها : إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، فى قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنه : إعادة الظاهر بلفظه فى قوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ } ومنها : إبراز الجملة من قوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة .
وقال عبد الله بن مسعود وغيره : هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى . الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3669)
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيء له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم } . .
وليس بينه وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان -في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 240)

(53) سورة الزمر ، وَقَالَ تَعَالَى : {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(1) (104) سورة التوبة . وَقَالَ تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(2)
__________
(1) - أى : ألم يعلم هؤلاء التائبون من ذنوبهم ، أن الله - تعالى - وحده ، هو الذى يقبل التوبة الصادقة من عباده المخلصين ، وأنه - سبحانه - هو الذى " يأخذ الصدقات " .
أى : يتقبلها من أصحابها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله : فالتعبير بالأخذ للترغيب فى بذل الصدقات ، ودفعها للفقراء . والاستفهام للتقرير والتحضيض على تجديد التوبة وبذل الصدقة .
وقوله : { وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } تذييل قصد به تقرير ما قبله وتأكيده .
أى : وأن الله وحده هو الذى يقل توبة المرة بعد الأخرى ، وأنه هو الواسع الرحمة بهم ، الكثير المغفرة لهم :
قال ابن كثير : قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها ، وأخبر - تعالى - أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله يتقبلها بيمينه ، فيربيها لصاحبها حتى تصير الثمرة مثل أحد ، كل جاء بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد " وتصديق ذلك فى كتاب الله قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } . وقوله : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } وعن عبد الله بن مسعود قال : إن الصدقة تقع فى يد الله - تعالى - قبل أن تقع فى يد السائل ، ثم قرأ هذه الآية . { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات . . . } .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2039)
(2) - هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية.
{ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات، ويعود التائب عنده كريما، كأنه ما عمل سوءا قط، ويحبه ويوفقه لما يقر به إليه.
ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله، ختم هذه الآية بقوله: { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فالله تعالى، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير، فانقسموا -بحسب الاستجابة له- إلى قسمين: مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له، شكر الله لهم، وهو الغفور الشكور.
وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم.
وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فـ { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدنيا والآخرة، ثم ذكر أن من لطفه بعباده، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة، تضر بأديانهم فقال: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ }
أي: لغفلوا [ ص 759 ] عن طاعة الله، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم، ولو كان معصية وظلما.
{ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول: "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أمرضته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني خبير بصير "{ وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ } أي: المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد، { مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا } وانقطع عنهم مدة ظنوا أنه لا يأتيهم، وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمالا فينزل الله الغيث { وَيَنْشُرُ } به { رَحْمَتَهُ } من إخراج الأقوات للآدميين وبهائمهم، فيقع عندهم موقعا عظيما، ويستبشرون بذلك ويفرحون. { وَهُوَ الْوَلِيُّ } الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم. { الْحَمِيدُ } في ولايته وتدبيره، الحميد على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الإفضال.تفسير السعدي - (ج 1 / ص 758)

(25) سورة الشورى ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ
" السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ(1)
__________
(1) - 1 - الاستغفار في اللّغة : طلب المغفرة بالمقال والفعال.
وعند الفقهاء : سؤال المغفرة كذلك ، والمغفرة في الأصل : السّتر ، ويراد بها التّجاوز عن الذّنب وعدم المؤاخذة به ، وأضاف بعضهم : إمّا بترك التّوبيخ والعقاب رأساً ، أو بعد التّقرير به فيما بين العبد وربّه.
ويأتي الاستغفار بمعنى الإسلام.
قال اللّه تعالى : «وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون» أي يسلمون قاله مجاهدٌ وعكرمة.
كذلك يأتي الاستغفار بمعنى الدّعاء والتّوبة ، وستأتي صلته بهذه الألفاظ.
الألفاظ ذات الصّلة
«أ- التّوبة»
2 - الاستغفار والتّوبة يشتركان في أنّ كلاًّ منهما رجوعٌ إلى اللّه سبحانه ، كذلك يشتركان في طلب إزالة ما لا ينبغي ، إلاّ أنّ الاستغفار طلبٌ من اللّه لإزالته.
والتّوبة سعيٌ من الإنسان في إزالته.
وعند الإطلاق يدخل كلٌّ منهما في مسمّى الآخر ، وعند اقترانهما يكون الاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله ، ففي التّوبة أمران لا بدّ منهما : مفارقة شيءٍ ، والرّجوع إلى غيره ، فخصّت التّوبة بالرّجوع والاستغفار بالمفارقة ، وعند إفراد أحدهما يتناول كلٌّ منهما الآخر.
وعند المعصية يكون الاستغفار المقرون بالتّوبة عبارةٌ عن طلب المغفرة باللّسان ، والتّوبة عبارةٌ عن الإقلاع عن الذّنب بالقلب والجوارح.
«ب- الدّعاء»
3 - كلّ دعاءٍ فيه سؤال الغفران فهو استغفارٌ.
إلاّ أنّ بين الاستغفار والدّعاء عموماً وخصوصاً من وجهٍ ، يجتمعان في طلب المغفرة ، وينفرد الاستغفار إن كان بالفعل لا بالقول ، كما ينفرد الدّعاء إن كان بطلب غير المغفرة.
«الحكم التّكليفيّ للاستغفار»
4 - الأصل في الاستغفار أنّه مندوبٌ إليه ، لقول اللّه سبحانه.
«واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ» يحمل على النّدب ، لأنّه قد يكون من غير معصيةٍ ، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى الوجوب كاستغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكالاستغفار من المعصية.
وقد يخرج إلى الكراهة كالاستغفار للميّت خلف الجنازة ، صرّح بذلك المالكيّة.
وقد يخرج إلى الحرمة ، كالاستغفار للكفّار.
«الاستغفار المطلوب»
5 - الاستغفار المطلوب هو الّذي يحلّ عقدة الإصرار ، ويثبت معناه في الجنان ، لا التّلفّظ باللّسان ، فإن كان باللّسان - وهو مصرٌّ على المعصية - فإنّه ذنبٌ يحتاج إلى استغفارٍ.
كما روي : « التّائب من الذّنب ، كمن لا ذنب له ، والمستغفر من الذّنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربّه » ويطلب للمستغفر بلسانه أن يكون ملاحظاً لهذه المعاني بجنانه ، ليفوز بنتائج الاستغفار ، فإن لم يتيسّر له ذلك فيستغفر بلسانه ، ويجاهد نفسه على ما هنالك ، فالميسور لا يسقط بالمعسور.
فإن انتفى الإصرار ، وكان الاستغفار باللّسان مع غفلة القلب ، ففيه رأيان :
الأوّل : وصفه بأنّه توبة الكذّابين ، وهو قول المالكيّة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة جعلوه معصيةً لاحقةً بالكبائر ، وقال الآخرون : بأنّه لا جدوى منه فقط.
الثّاني : اعتباره حسنةً وهو قول الحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ الاستغفار عن غفلةٍ خيرٌ من الصّمت وإن احتاج إلى استغفارٍ ، لأنّ اللّسان إذا ألف ذكراً يوشك أن يألفه القلب فيوافقه عليه ، وترك العمل للخوف منه من مكايد الشّيطان.
«صيغ الاستغفار»
6 - ورد الاستغفار بصيغٍ متعدّدةٍ ، والمختار منها ما رواه البخاريّ عن شدّاد بن أوسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سيّد الاستغفار أن تقول : اللّهمّ أنت ربّي لا إله إلاّ أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شرّ ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت » .
7 - ومن أفضل أنواع الاستغفار أن يقول العبد : « أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه » .
وهذا على سبيل المثال وليس الحصر كما أنّ بعض الأوقات وبعض العبادات تختصّ بصيغٍ مأثورةٍ تكون أفضل من غيرها وينبغي التّقيّد بألفاظها ، وموطن بيانها غالباً كتب السّنّة والأذكار والآداب ، في أبواب الدّعاء والاستغفار والتّوبة.
وإذا كانت صيغ الاستغفار السّابقة مطلوبةً فإنّ بعض صيغه منهيٌّ عنها ، ففي الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقولنّ أحدكم : اللّهمّ اغفر لي إن شئت ، اللّهمّ ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإنّ اللّه لا مستكره له »
«استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم»
8 - استغفار النّبيّ عليه الصلاة والسلام واجبٌ عليه ، لقوله تعالى : «فاعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات» ، وقد ذكر الفقهاء والمفسّرون وجوهاً عديدةً في استغفاره صلى الله عليه وسلم منها : أنّه يراد به ما كان من سهوٍ أو غفلةٍ ، أو أنّه لم يكن عن ذنبٍ ، وإنّما كان لتعليم أمّته ، ورأي السّبكيّ : أنّ استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً ، وهو : تشريفه من غير أن يكون ذنبٌ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
وقد ثبت « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر في اليوم الواحد سبعين مرّةً ، ومائة مرّةٍ » ، بل كان أصحابه يعدّون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم :
« ربّ اغفر لي وتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الغفور مائة مرّةٍ » .
«الاستغفار في الطّهارة»
«أوّلاً- الاستغفار عقب الخروج من الخلاء»
9 - يندب الاستغفار بعد قضاء الحاجة ، وعند الخروج من الخلاء.
روى التّرمذيّ أنّه « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك » .
ووجه سؤال المغفرة هنا كما قال ابن العربيّ - هو العجز عن شكر النّعمة في تيسير الغذاء ، وإيصال منفعته ، وإخراج فضلته.
«ثانياً-الاستغفار بعد الوضوء»
10 - يسنّ الاستغفار ضمن الذّكر الوارد عند إتمام الوضوء روى أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من توضّأ فقال : سبحانك اللّهمّ ، وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك ، وأتوب إليك ، كتب في رقٍّ ، ثمّ جعل في طابعٍ ، فلم يكسر إلى يوم القيامة » وقد وردت صيغٌ أخرى تتضمّن الاستغفار عقب الانتهاء من الوضوء وأثناءه يذكرها الفقهاء في سنن الوضوء.
«الاستغفار عند دخول المسجد والخروج منه»
11 - يستحبّ عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، الاستغفار عند دخول المسجد وعند الخروج منه.
لما ورد عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالت : « كان رسول اللّه إذا دخل المسجد صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ، وافتح لي أبواب فضلك » والوارد في كتب الحنفيّة أنّ المصلّي يقول عند دخول المسجد : « اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك » وعند خروجه : « اللّهمّ إنّي أسألك من فضلك » .
«الاستغفار في الصّلاة»
«أوّلاً- الاستغفار في افتتاح الصّلاة»
12 - جاء الاستغفار في بعض الرّوايات الّتي وردت في دعاء الافتتاح في الصّلاة ،
وأخذ بذلك الشّافعيّة مطلقاً ، والحنفيّة والحنابلة في صلاة اللّيل ، منها ما رواه أبو بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه عن النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت التّوّاب الرّحيم » .
ويكره الافتتاح في المكتوبة عند المالكيّة ومحلّ الاستغفار في دعاء الافتتاح يذكره الفقهاء في سنن الصّلاة ، أو في كيفيّة الصّلاة.
«ثانياً-الاستغفار في الرّكوع والسّجود والجلوس بين السّجدتين»
13 يسنّ الدّعاء بالمغفرة في الرّكوع عند الشّافعيّة ، والحنابلة.
روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللّهمّ وبحمدك اللّهمّ اغفر لي يتأوّل القرآن » ، أي يحقّق قوله تعالى : «فسبّح بحمد ربّك واستغفره» « متّفقٌ عليه.
إلاّ أنّ الشّافعيّة يجعلون ذلك للمنفرد ، ولإمام قومٍ محصورين رضوا بالتّطويل.
ولا يأتي بغير التّسبيح في الرّكوع عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، غير أنّ الحنفيّة يجيزون الاستغفار عند الرّفع من الرّكوع.
14 - وفي السّجود يندب الدّعاء بالمغفرة كذلك عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، لحديث عائشة السّابق.
15 - وفي الجلوس بين السّجدتين يسنّ الاستغفار عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو قولٌ عن أحمد ، والأصل في هذا ما روى حذيفة » أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السّجدتين : ربّ اغفر لي ، ربّ اغفر لي «.
وإنّما لم يجب الاستغفار ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه المسيء صلاته.
والمشهور عند الحنابلة أنّه واجبٌ ، وهو قول إسحاق وداود ، وأقلّه مرّةً واحدةً ، وأقلّ الكمال ثلاثٌ ، والكمال للمنفرد ما لا يخرجه إلى السّهو ، وبالنّسبة للإمام : ما لا يشقّ على المصلّين.
الاستغفار في القنوت
16 - جاء الاستغفار في ألفاظ القنوت ، قنوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقنوت عمر ، وألفاظه كبقيّة الألفاظ الواردة ، ولم نقف على أمرٍ يخصّه ، إلاّ ما ذكره المالكيّة والحنفيّة بأنّ الدّعاء بالمغفرة يقوم مقام القنوت عند العجز عنه.
الاستغفار بعد التّشهّد الأخير
17 - يندب الاستغفار بعد التّشهّد الأخير ، ورد في السّنّة » اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، وإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم « متّفقٌ عليه.
كذلك ورد » اللّهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به منّي أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلاّ أنت «
الاستغفار عقب الصّلاة
18 - يسنّ الاستغفار عقب الصّلاة ثلاثاً ، لما روي عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال :» من قال أستغفر اللّه العظيم الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، ثلاث مرّاتٍ ، غفر اللّه ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر «
ووردت رواياتٌ أخرى يذكرها الفقهاء في الذّكر الوارد عقب الصّلاة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : » من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر اللّه عزّ وجلّ ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزّحف «
الاستغفار في الاستسقاء
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحصل الاستسقاء بالاستغفار وحده.
غير أنّ أبا حنيفة يقصره على ذلك ، مستدلاًّ بقول اللّه سبحانه {فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السّماء عليكم مدراراً} لأنّ الآية دلّت على أنّ الاستغفار وسيلةٌ للسّقيا.
بدليل {يرسل السّماء عليكم مدراراً} ولم تزد الآية الكريمة على الاستغفار ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه خرج إلى الاستسقاء ولم يصلّ بجماعةٍ ، بل صعد المنبر ، واستغفر اللّه ، وما زاد عليه ، فقالوا : ما استسقيت يا أمير المؤمنين ، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السّماء الّتي بها يستنزل الغيث.
20 - وبقيّة الفقهاء والقائلون بندب صلاة الاستسقاء والخطبتين ، أو الخطبة الواحدة ، يسنّ عندهم الإكثار من الاستغفار في الخطبة ، وتبدّل تكبيرات الافتتاح الّتي في خطبتي العيدين بالاستغفار في خطبتي الاستسقاء عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، وصيغته كما أوردها النّوويّ في مجموعه ' أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه '.
ويكبّر كخطبتي العيدين عند الحنابلة ، ونفى الحنفيّة التّكبير ولم يتعرّضوا للاستغفار في الخطبة.
الاستغفار للأموات
21 - الاستغفار عبادةٌ قوليّةٌ يصحّ فعلها للميّت.
وقد ثبت في السّنّة الاستغفار للأموات ، ففي صلاة الجنازة ورد الدّعاء للميّت بالمغفرة ، لكن لا يستغفر لصبيٍّ ونحوه.
وتفصيل أحكامه يذكرها الفقهاء في صلاة الجنازة.
وعقب الدّفن يندب أن يقف جماعةٌ يستغفرون للميّت ، لأنّه حينئذٍ في سؤال منكرٍ ونكيرٍ ، روى أبو داود بإسناده عن عثمان قال : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرّجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التّثبّت فإنّه الآن يسأل « وصرّح بذلك جمهور الفقهاء.
22 - ومن آداب زيارة القبور عند الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ، الدّعاء بالمغفرة لأهلها عقب التّسليم عليهم ، واستحسن ذلك الحنابلة.
23 - وهذا كلّه يخصّ المؤمن ، أمّا الكافر الميّت فيحرم الاستغفار له بنصّ القرآن والإجماع.
الاستغفار عن الغيبة
24 - اختلف العلماء في حقّ الّذي اغتاب ، هل يلزمه استحلال من اغتيب ، مع الاستغفار له ، أم يكفيه الاستغفار ؟.
الأوّل : إذا لم يعلم من اغتيب فيكفي الاستغفار ، وهو مذهب الشّافعيّة ، والحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة ، ولأنّ إعلامه ربّما يجرّ فتنةً ، وفي إعلامه إدخال غمٍّ عليه.
لما روى الخلاّل بإسناده عن أنسٍ مرفوعاً » كفّارة من اغتيب أن يستغفر له «.
فإن علم فلا بدّ من استحلاله مع الاستغفار له.
الثّاني : يكفي الاستغفار سواءٌ علم الّذي اغتيب أم لم يعلم ، ولا يجب استحلاله ، وهو قول الطّحاويّ من الحنفيّة.
والمالكيّة على أنّه لا بدّ من استحلال المغتاب إن كان موجوداً ، فإن لم يجده ، أو أحداً من ورثته استغفر له.
وفي استحلال الورثة خلافٌ بين الفقهاء يذكر في التّوبة.
الاستغفار للمؤمنين
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ التّعميم في الدّعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات ، لخبر » ما من دعاءٍ أحبّ إلى اللّه تعالى من أن يقول العبد : اللّهمّ اغفر لأمّة محمّدٍ مغفرةً عامّةً « وفي روايةٍ أنّه » قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلاةٍ ، وقمنا معه ، فقال أعرابيٌّ وهو في الصّلاة : اللّهمّ ارحمني ومحمّداً ، ولا ترحم معنا أحداً ، فلمّا سلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأعرابيّ : لقد حجّرت واسعاً «.
ولا بأس أن يخصّ الإنسان نفسه بالدّعاء ، لحديث أبي بكرة ، وأمّ سلمة ، وسعد بن أبي وقّاصٍ : » اللّهمّ إنّي أعوذ بك ، وأسألك
« إلخ وهذا يخصّ نفسه الكريمة ، ذلك ما لم يكن في القنوت ، وخلفه من يؤمّن ، لخبر ثوبان » لا يؤمّ رجلٌ قوماً فيخصّ نفسه بدعوةٍ دونهم ، فإن فعل فقد خانهم «
الاستغفار للكافر
26 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستغفار للكافر محظورٌ ، بل بالغ بعضهم فقال : إنّ الاستغفار للكافر يقتضي كفر من فعله ، لأنّ فيه تكذيباً للنّصوص الواردة الّتي تدلّ على أنّ اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به ، وأنّ من مات على كفره فهو من أهل النّار.
27 - وأمّا من استغفر للكافر الحيّ رجاء أن يؤمن فيغفر له ، فقد صرّح الحنفيّة بإجازة ذلك ، وجوّز الحنابلة الدّعاء بالهداية ، ولا يستبعد ذلك من غيرهم ، كذلك استظهر بعضهم جواز الدّعاء لأطفال الكفّار بالمغفرة ، لأنّ هذا من أحكام الآخرة.
تكفير الذّنوب بالاستغفار
28 - الاستغفار إن كان بمعنى التّوبة فإنّه يرجى أن يكفّر به الذّنوب إن توافرت فيه شروط التّوبة ، يقول اللّه سبحانه : {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً} ويقول صلى الله عليه وسلم رسول اللّه : » من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ ، فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فرّ من الزّحف « وقد قيل : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار فالمراد بالاستغفار هنا التّوبة.
29 - فإن كان الاستغفار على وجه الافتقار والانكسار دون تحقّق التّوبة ،
فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فالشّافعيّة قالوا : إنّه يكفّر الصّغائر دون الكبائر ، وقال المالكيّة والحنابلة : إنّه تغفر به الذّنوب ، ولم يفرّقوا بين صغيرةٍ وكبيرةٍ ، وهو ما صرّحت به بعض كتب الحنفيّة.
لقوله صلى الله عليه وسلم : » الاستغفار ممحاةٌ للذّنوب «.
الاستغفار عند النّوم
30 - يستحبّ الاستغفار عند النّوم مع بعض الأدعية الأخرى ، ليكون الاستغفار خاتمة عمله إذا رفعت روحه ، روى التّرمذيّ عن أبي سعيدٍ : » من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ثلاث مرّاتٍ غفر اللّه له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر «.
الدّعاء بالمغفرة للمشمّت
31 - يسنّ للعاطس أن يدعو بالمغفرة لمن شمّته بقوله : ' يرحمك اللّه ' فيقول له العاطس : ' يغفر اللّه لنا ولكم ' أو يقول له : ' يهديكم اللّه ويصلح بالكم ' أو يقول : ' يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم ' ، لما في الموطّأ عن نافعٍ أنّ ابن عمر كان إذا عطس فقيل له : يرحمك اللّه ، قال : يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم.
اختتام الأعمال بالاستغفار
32 - المتتبّع للقرآن الكريم والأذكار النّبويّة يجد اختتام كثيرٍ من الأعمال بالاستغفار ،
فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بالاستغفار بقوله تعالى : {فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً}.
33 - وفي اختتام الصّلاة ، وتمام الوضوء يندب الاستغفار كما تقدّم.
34 - والاستغفار في نهاية المجلس كفّارةٌ لما يقع في المجلس من لغطٍ ، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك «.
35 - ومن آكد أوقات الاستغفار : السّحر - آخر اللّيل - لقوله تعالى : {وبالأسحار هم يستغفرون} وللخبر الصّحيح : » ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلةٍ إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الأخير ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ".-الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1079)
وانظر : مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 120)ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 89) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 696) ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 41) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 137 / ص 10) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 6 / ص 300) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 1 / ص 289) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 455) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 660) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 932) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4932) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4935) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 10018) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 415) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 1925) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 8203) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3317) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3360) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 449) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1809) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4171) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4928) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 8015) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3837) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3843) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 22 / ص 104) ورياض الصالحين - (ج 1 / ص 202) وأسباب المغفرة - (ج 1 / ص 3) وأسباب المغفرة - (ج 1 / ص 3) وإحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 318) والأذكار للنووي - (ج 1 / ص 402) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 168) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 3 / ص 403) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 485) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1530) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2509) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3861) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4611) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4824)

:
كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى عَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا - فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ - وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ - فَاغْفِرْ لِى فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى . ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ - أَوْ أَصَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ . فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا - قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ - أَوْ أَذْنَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِى . فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى - ثَلاَثًا - فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(7507 ) ومسلم برقم(7162 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 21 / ص 89)
قَالَ اِبْن بَطَّال فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْمُصِرّ عَلَى الْمَعْصِيَة فِي مَشِيئَة اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ مُغَلِّبًا الْحَسَنَة الَّتِي جَاءَ بِهَا وَهِيَ اِعْتِقَاده أَنَّ لَهُ رَبًّا خَالِقًا يُعَذِّبهُ وَيَغْفِر لَهُ وَاسْتِغْفَاره إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَلَا حَسَنَة أَعْظَم مِنْ التَّوْحِيد ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ اِسْتِغْفَاره رَبّه تَوْبَة مِنْهُ قُلْنَا لَيْسَ الِاسْتِغْفَار أَكْثَر مِنْ طَلَب الْمَغْفِرَة ، وَقَدْ يَطْلُبهَا الْمُصِرّ وَالتَّائِب وَلَا دَلِيل فِي الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ تَائِب مِمَّا سَأَلَ الْغُفْرَان عَنْهُ ؛ لِأَنَّ حَدّ التَّوْبَة الرُّجُوع عَنْ الذَّنْب وَالْعَزْم أَنْ لَا يَعُود إِلَيْهِ وَالْإِقْلَاع عَنْهُ وَالِاسْتِغْفَار بِمُجَرَّدِهِ لَا يُفْهَم مِنْهُ ذَلِكَ اِنْتَهَى ، وَقَالَ غَيْره : شُرُوط التَّوْبَة ثَلَاثَة : الْإِقْلَاع وَالنَّدَم وَالْعَزْم عَلَى أَنْ لَا يَعُود ، وَالتَّعْبِير بِالرُّجُوعِ عَنْ الذَّنْب لَا يُفِيد مَعْنَى النَّدَم بَلْ هُوَ إِلَى مَعْنَى الْإِقْلَاع أَقْرَب وَقَالَ بَعْضهمْ : يَكْفِي فِي التَّوْبَة تَحَقُّق النَّدَم عَلَى وُقُوعه مِنْهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِم الْإِقْلَاع عَنْهُ وَالْعَزْم عَلَى عَدَم الْعَوْد فَهُمَا نَاشِئَانِ عَنْ النَّدَم لَا أَصْلَانِ مَعَهُ وَمِنْ ثُمَّ جَاءَ الْحَدِيث : " النَّدَم تَوْبَة " وَهُوَ حَدِيث حَسَن مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم وَأَخْرَجَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث أَنَس وَصَحَّحَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْث فِي ذَلِكَ فِي بَاب التَّوْبَة مِنْ أَوَائِل " كِتَاب الدَّعَوَات " مُسْتَوْفًى ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهِم : يَدُلّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى عَظِيم فَائِدَة الِاسْتِغْفَار وَعَلَى عَظِيم فَضْل اللَّه وَسَعَة رَحْمَته وَحِلْمه وَكَرَمِهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَار هُوَ الَّذِي ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْب مُقَارِنًا لِلِّسَانِ لِيَنْحَلّ بِهِ عَقْد الْإِصْرَار وَيَحْصُل مَعَهُ النَّدَم فَهُوَ تَرْجَمَة لِلتَّوْبَةِ ، وَيَشْهَد لَهُ حَدِيث : خِيَاركُمْ كُلّ مُفْتَن تَوَّاب ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَتَكَرَّر مِنْهُ الذَّنْب وَالتَّوْبَة فَكُلَّمَا وَقَعَ فِي الذَّنْب عَادَ إِلَى التَّوْبَة لَا مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّه بِلِسَانِهِ وَقَلْبه مُصِرّ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَة ، فَهَذَا الَّذِي اِسْتِغْفَاره يَحْتَاج إِلَى الِاسْتِغْفَار . قُلْت : وَيَشْهَد لَهُ مَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس مَرْفُوعًا " التَّائِب مِنْ الذَّنْب كَمَنْ لَا ذَنْب لَهُ ، وَالْمُسْتَغْفِر مِنْ الذَّنْب وَهُوَ مُقِيم عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ " وَالرَّاجِح أَنَّ قَوْله " وَالْمُسْتَغْفِر " إِلَى آخِره مَوْقُوف وَأَوَّله عِنْد اِبْن مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود وَسَنَده حَسَن ، وَحَدِيث " خِيَاركُمْ كُلّ مُفْتَن تَوَّاب " ذَكَرَهُ فِي مُسْنَد الْفِرْدَوْس عَنْ عَلِيّ قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَفَائِدَة هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْعَوْد إِلَى الذَّنْب وَإِنْ كَانَ أَقْبَح مِنْ اِبْتِدَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ اِنْضَافَ إِلَى مُلَابَسَة الذَّنْب نَقْض التَّوْبَة ؛ لَكِنَّ الْعَوْد إِلَى التَّوْبَة أَحْسَن مِنْ اِبْتِدَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ اِنْضَافَ إِلَيْهَا مُلَازَمَة الطَّلَب مِنْ الْكَرِيم وَالْإِلْحَاح فِي سُؤَاله وَالِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ لَا غَافِر لِلذَّنْبِ سِوَاهُ ، قَالَ النَّوَوِيّ فِي الْحَدِيث : إِنَّ الذُّنُوب وَلَوْ تَكَرَّرَتْ مِائَة مَرَّة بَلْ أَلْفًا وَأَكْثَر وَتَابَ فِي كُلّ مَرَّة قُبِلَتْ تَوْبَته أَوْ تَابَ عَنْ الْجَمِيع تَوْبَة وَاحِدَة صَحَّتْ تَوْبَته ، وَقَوْله : " اِعْمَلْ مَا شِئْت " مَعْنَاهُ مَا دُمْت تُذْنِب فَتَتُوب غَفَرْت لَك ، وَذَكَرَ فِي " كِتَاب الْأَذْكَار " عَنْ الرَّبِيع بْن خَيْثَمٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَقُلْ : أَسْتَغْفِر اللَّه وَأَتُوب إِلَيْهِ فَيَكُون ذَنْبًا وَكَذِبًا إِنْ لَمْ تَفْعَل بَلْ قُلْ : اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ ، قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا حَسَن ، وَأَمَّا كَرَاهِيَة أَسْتَغْفِر اللَّه وَتَسْمِيَته كَذِبًا فَلَا يُوَافَق عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَسْتَغْفِر اللَّه أَطْلُب مَغْفِرَته وَلَيْسَ هَذَا كَذِبًا ، قَالَ وَيَكْفِي فِي رَدّه حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِلَفْظِ : مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِر اللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم وَأَتُوب إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبه وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْف ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم . قُلْت : هَذَا فِي لَفْظ أَسْتَغْفِر اللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم ، وَأَمَّا أَتُوب إِلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي عَنَى الرَّبِيع رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ كَذِب وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا قَالَهُ وَلَمْ يَفْعَل التَّوْبَة كَمَا قَالَ ، وَفِي الِاسْتِدْلَال لِلرَّدِّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ اِبْن مَسْعُود نَظَر لِجَوَازِ أَنْ يَكُون الْمُرَاد مِنْهُ مَا إِذَا قَالَهَا وَفَعَلَ شُرُوط التَّوْبَة ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الرَّبِيع قَصَدَ مَجْمُوع اللَّفْظَيْنِ لَا خُصُوص أَسْتَغْفِر اللَّه فَيَصِحّ كَلَامه كُلّه وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَأَيْت فِي الْحَلَبِيَّات لِلسُّبْكِيّ الْكَبِير : الِاسْتِغْفَار طَلَب الْمَغْفِرَة إِمَّا بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ أَوْ بِهِمَا ، فَالْأَوَّل فِيهِ نَفْع ؛ لِأَنَّهُ خَيْر مِنْ السُّكُوت ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْتَاد قَوْل الْخَيْر ، وَالثَّانِي نَافِع جِدًّا ، وَالثَّالِث أَبْلَغ مِنْهُمَا لَكِنَّهُمَا لَا يُمَحِّصَانِ الذَّنْب حَتَّى تُوجَد التَّوْبَة ، فَإِنَّ الْعَاصِي الْمُصِرّ يَطْلُب الْمَغْفِرَة وَلَا يَسْتَلْزِم ذَلِكَ وُجُود التَّوْبَة مِنْهُ ، إِلَى أَنْ قَالَ : وَاَلَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِغْفَار هُوَ غَيْر مَعْنَى التَّوْبَة هُوَ بِحَسَب وَضْع اللَّفْظ ؛ لَكِنَّهُ غَلَبَ عِنْد كَثِير مِنْ النَّاس أَنَّ لَفْظ أَسْتَغْفِرُ اللَّه مَعْنَاهُ التَّوْبَة فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَقَدَهُ فَهُوَ يُرِيد التَّوِيَة لَا مَحَالَة ، ثُمَّ قَالَ : وَذَكَرَ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ التَّوْبَة لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَأَنْ اِسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) وَالْمَشْهُور أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ .

.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ »(1).
وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاسْتِغْفَارُ هُوَ مَعَ التَّوْبَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ « مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِى الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً »(2).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(7141 )
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 3 / ص 51)
هذه الأحاديث في باب الرجاء ذكرها المؤلف - رحمه الله - وهي كثيرة جدا منها: أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الوالدة بولدها، ودليل ذلك قصة هذه المرأة التي كانت في السبي فرأت صبيا فأخذته وألصقته على صدرها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار .
قالوا: لا قال: فالله أرحم بعباده من هذه بولدها وهذا من تمام رحمته سبحانه وتعالى .
وآيات ذلك كثيرة منها: هذه النعم التي تترى علينا، وأعظمها نعمة الإسلام، فإن الله تعالى أضل عن الإسلام أمما، وهدى عباده المؤمنين لذلك وهي أكبر النعم .
ومنها أن الله أرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل .
وكذلك ذكر المؤلف الأحاديث التي فيها أن رحمة الله سبقت غضبه، ولهذا يعرض الله عز وجل على المذنبين أن يستغفروا ربهم، حتى يغفر لهم ولو شاء لأهلكهم ولم يرغبهم في التوبة .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ولهذا قال في الحديث الذي رواه مسلم، قال: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم .
وهذا ترغيب في أن الإنسان إذا أذنب، فليستغفر الله، فإنه إذا استغفر الله عز وجل بنية صادقة وقلب موقن، فإنه الله تعالى يغفر له، { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الأصنام: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقول عيسى: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، رفع صلى الله عليه وسلم يديه وبكى، وقال: يا رب أمتي أمتي فقال الله سبحانه وتعالى لجبريل: اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك .
وقد أرضاه الله عز وجل في أمته، بأن جعل لهذه الأمة أجرها مضاعفا، كما جاء في الحديث الصحيح: أن مثل هذه الأمة مع من سبقها كمثل رجل استأجر أجراء من أول النهار إلى الظهر فأعطاهم على دينار دينار، واستأجر أجراء من الظهر إلى العصر وأعطاهم على دينار دينار واستأجر أجراء من العصر إلى الغروب وأعطاهم على دينارين دينارين، فاحتج الأولون وقالوا: كيف تعطينا على دينار دينار ونحن أكثر منهم عملا وتعطي هؤلاء على دينارين دينارين فقال لهم الذي استأجرهم هل ظلمتكم شيئا ؟ قالوا: لا .
إذا لا لوم عليه في ذلك ففضل الله على هذه الأمة كثير .
وقد أرضاه الله في أمته ولله الحمد من عدة وجوه منها كثرة الأجر، وأنهم الآخرون السابقون يوم القيامة، وأنها فضلت بفضائل كثيرة مثل قوله عليه الصلاة والسلام: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي .
فهذه الخصائص له ولأمته عليه الصلاة والسلام .
فالحاصل أن هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - كلها أحاديث رجاء، تحمل الإنسان على أن يعمل العمل الصالح يرجو بذلك ثواب الله ومغفرته
(2) - سنن أبى داود برقم(1516 ) وفيه ضعف
عون المعبود - (ج 3 / ص 439)
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( مَا أَصَرَّ ) : مَا نَافِيَة ، أَيْ مَا دَامَ عَلَى الْمَعْصِيَة
( مَنْ اِسْتَغْفَرَ ) : أَيْ مِنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ
( وَإِنْ عَادَ ) : أَيْ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى ذَلِكَ الذَّنْب أَوْ غَيْره
( فِي الْيَوْم ) : أَوْ اللَّيْلَة
( سَبْعِينَ مَرَّة ): ظَاهِرُهُ التَّكْثِيرُ وَالتَّكْرِيرُ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء : الْمُصِرُّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْفِرْ وَلَمْ يَنْدَمْ عَلَى الذَّنْبِ وَالْإِصْرَار عَلَى الذَّنْب إِكْثَارُهُ . وَقَالَ اِبْن الْمَلَك : الْإِصْرَار الثَّبَات وَالدَّوَام عَلَى الْمَعْصِيَة ، يَعْنِي مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَة ثُمَّ اِسْتَغْفَرَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنه مُصِرًّا . ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاة

وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ(1)
__________
(1) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا ؛ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ؟ فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةٍ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ ؛ وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ .
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّبُوبَ جَمِيعًا } فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ ، وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ ، وَخَتَمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةٍ ؛ وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ ؛ وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ .
فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ ؛ وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَفْرُ السِّتْرُ ، وَيَقُولُ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السِّتْرِ ، وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللَّهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ السَّتَّارُ وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَعْنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ فَمَنْ غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا مُجَرَّدُ سِتْرِهِ فَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَمَنْ عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ غُفْرَانُ الذَّنْبِ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالذَّنْبِ .
وَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِزِيَادَةِ أَجْرِهِ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا فَإِنَّ مَنْ يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ ؛ وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا ، وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ .
فَإِنَّهُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ أَوْ الْمُقْتَضَى لِعَجْزِهِ عَنْهُ ، أَوْ تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ دِينِيِّ ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ وَيَكْرَهُ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ وَيَدَعُهُ لِلَّهِ تَعَالَى : لَا لِرَغْبَةِ مَخْلُوقٍ وَلَا لِرَهْبَةِ مَخْلُوقٍ ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ ؛ وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ ، كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ ، فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخَلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ، قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ .
وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا .
وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا ، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا ، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا .
وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي التَّوْبَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ .
وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ، وَهَذَا يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَلَا يَقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا ؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إذًا نَكْثُرُ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ } فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ ، فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلَّ دُعَاءٍ .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ ، فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ ، وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ : الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ ، لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ . الفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 407) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 316) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 375)

، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ (1)،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ (2)
__________
(1) - وفي فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 121)
4 ـ قوله: (( يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبُك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ))، لو كثرت ذنوب العبد حتى بلغت عَنان السماء، أي: بلغت السماء أو ما دون ذلك كالسحاب أو ما يبلغه بصر الناظر إلى فوق، ثم حصل من العبد الاستغفار مع التوبة من جميع الذنوب، فإنَّ الله تعالى يغفر تلك الذنوب ويتجاوز عنها، والتوبة تكون بالإقلاع من الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة في المستقبل على ألاَّ يعود إليه، ومع هذه الثلاثة، فإن كان الذنب في حقِّ الله عزَّ وجلَّ وفيه كفَّارة، أتى بالكفارة، وإن كان في حق للآدميِّين، أدَّى حقوقهم إليهم أو تحلَّلهم منها.
(2) - أخرجه الترمذى برقم( 2850 ) عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعَافِرِىِّ ثُمَّ الْحُبُلِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِى عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِى الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ فَقَالَ إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِى كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِى كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَىْءٌ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وهو صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 438)
قَوْلُهُ : ( إِنَّ اللَّه سَيُخَلِّصُ ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ يُمَيِّزُ وَيَخْتَارُ
( رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ مَاجَهْ : يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ
( فَيَنْشُرُ ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ فَيَفْتَحُ
( تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا ) بِكِسْرَتَيْنِ فَتَشْدِيدٍ أَيْ كِتَابًا كَبِيرًا
( كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ) أَيْ كُلُّ كِتَابٍ مِنْهَا طُولُهُ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ مَا يَمْتَدُّ إِلَيْهِ بَصَرُ الْإِنْسَانِ
( ثُمَّ يَقُولُ ) أَيْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
( أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا ) أَيْ الْمَكْتُوبَ
( أَظَلَمَك كَتَبَتِي ) بِفَتَحَاتٍ جَمْعُ كَاتِبٍ وَالْمُرَادُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ
( الْحَافِظُونَ ) أَيْ لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ
( فَيَقُولُ أَفَلَك عُذْرٌ ) أَيْ فِيمَا فَعَلْته مِنْ كَوْنِهِ سَهْوًا أَوْ خَطَأً أَوْ جَهْلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ
( فَيَقُولُ بَلَى ) أَيْ لَك عِنْدَنَا مَا يَقُومُ مَقَامَ عُذْرِك
( إِنَّ لَك عِنْدَنَا حَسَنَةً ) أَيْ وَاحِدَةً عَظِيمَةً مَقْبُولَةً . وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ مَاجَهْ : ثُمَّ يَقُولُ أَلَك عَنْ ذَلِكَ حَسَنَةٌ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَا . فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَك عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ
( فَيُخْرَجُ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُذَكَّرِ ، وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ مَاجَهْ فَتَخْرُجُ لَهُ
( بِطَاقَةٌ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْبِطَاقَةُ رُقْعَةٌ صَغِيرَةٌ يُثْبَتُ فِيهَا مِقْدَارُ مَا تَجْعَلُ فِيهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا فَوَزْنُهُ أَوْ عَدَدُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَتَاعًا فَثَمَنُهُ ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُشَدُّ بِطَاقَةٍ مِنْ الثَّوْبِ فَتَكُونُ الْبَاءُ حِينَئِذٍ زَائِدَةً وَهِيَ كَلِمَةٌ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ بِمِصْرَ .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْبِطَاقَةُ كَكِتَابَةِ الرُّقْعَةِ الصَّغِيرَةِ الْمَنُوطَةِ بِالثَّوْبِ الَّتِي فِيهَا رَقْمُ ثَمَنِهِ سُمِّيَتْ لِأَنَّهَا تُشَدُّ بِطَاقَةٍ مِنْ هُدْبِ الثَّوْبِ
( فِيهَا )أَيْ مَكْتُوبٌ فِي الْبِطَاقَةِ
( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ) قَالَ الْقَارِي : يُحْتَمَلُ أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ أَوَّلُ مَا نَطَقَ بِهَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ تِلْكَ الْمَرَّةِ مِمَّا وَقَعَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ الْحَضْرَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَادَّةِ الْخُصُوصِ مِنْ عُمُومِ الْأُمَّةِ
( اُحْضُرْ وَزْنَك ) أَيْ الْوَزْنَ الَّذِي لَك أَوْ وَزْنَ عَمَلِك أَوْ وَقْتَ وَزْنِك أَوْ آلَةَ وَزْنِك وَهُوَ الْمِيزَانُ لِيَظْهَرَ لَك اِنْتِفَاءُ الظُّلْمِ وَظُهُورُ الْعَدْلِ وَتَحَقُّقُ الْفَضْلِ
( فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ ) أَيْ الْوَاحِدَةُ
( مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ ) أَيْ الْكَثِيرَةِ وَمَا قَدْرُهَا بِجَنْبِهَا وَمُقَابَلَتِهَا
( فَقَالَ فَإِنَّك لَا تُظْلَمُ ) أَيْ لَا يَقَعُ عَلَيْك الظُّلْمُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اِعْتِبَارِ الْوَزْنِ كَيْ يَظْهَرَ أَنْ لَا ظُلْمَ عَلَيْك فَاحْضُرْ الْوَزْنَ . قِيلَ وَجْهُ مُطَابَقَةِ هَذَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ ؟ أَنَّ اِسْمَ الْإِشَارَةِ لِلتَّحْقِيرِ كَأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَعَ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ الْمُحَقَّرَةِ مُوَازَنَةٌ لِتِلْكَ السِّجِلَّاتِ ، فَرَدَّ بِقَوْلِهِ إِنَّك لَا تُظْلَمُ بِحَقِيرَةٍ ، أَيْ لَا تُحَقِّرُ هَذِهِ فَإِنَّهَا عَظِيمَةٌ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ إِذْ لَا يَثْقُلُ مَعَ اِسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ وَلَوْ ثَقُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَظُلِمْت
( قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ ) بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ فَرْدَةٍ مِنْ زَوْجَيْ الْمِيزَانِ ، فَفِي الْقَامُوسِ الْكِفَّةُ بِالْكَسْرِ مِنْ الْمِيزَانِ مَعْرُوفٌ وَيُفْتَحُ
( وَالْبِطَاقَةُ ) أَيْ وَتُوضَعُ
( فِي كِفَّةٍ ) أَيْ فِي أُخْرَى
( فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ ) أَيْ خَفَّتْ
( وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ ) أَيْ رَجَحَتْ وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ
( وَلَا يَثْقُلُ ) أَيْ وَلَا يَرْجَحُ وَلَا يَغْلِبُ
( مَعَ اِسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ ) وَالْمَعْنَى لَا يُقَاوِمُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَاصِي بَلْ يَتَرَجَّحُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْمَعَاصِي .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَعْمَالُ أَعْرَاضٌ لَا يُمْكِنُ وَزْنُهَا وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَجْسَامُ ، أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُوزَنُ السِّجِلُّ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ يُجَسِّمُ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ فَتُوزَنُ فَتَثْقُلُ الطَّاعَاتُ وَتَطِيشُ السَّيِّئَاتُ لِثِقَلِ الْعِبَادَةِ عَلَى النَّفْسِ وَخِفَّةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهَا وَلِذَا وَرَدَ : حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ .
وفي حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 8 / ص 151)
قَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ : لَيْسَتْ هَذِهِ شَهَادَة التَّوْحِيد لِأَنَّ مِنْ شَأْن الْمِيزَان أَنْ يُوضَع فِي كِفَّته شَيْء وَفِي الْأُخْرَى ضِدّه فَتُوضَع الْحَسَنَات فِي كِفَّة وَالسَّيِّئَات فِي كِفَّة فَهَذَا غَيْر مُسْتَحِيل لِأَنَّ الْعَبْد يَأْتِي بِهِمَا جَمِيعًا وَيَسْتَحِيل أَنْ يَأْتِي بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَان جَمِيعًا عَبْد وَاحِد يُوضَع الْإِيمَان فِي كِفَّة وَالْكُفْر فِي كِفَّة فَكَذَلِكَ اِسْتَحَالَ أَنْ تُوضَع شَهَادَة التَّوْحِيد فِي الْمِيزَان وَأَمَّا بَعْدَمَا آمَنَ الْعَبْد فَإِنَّ النُّطْق مِنْهُ بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه حَسَنَة تُوضَع فِي الْمِيزَان سَائِر الْحَسَنَات ا ه قُلْت شَهَادَة التَّوْحِيد وَالْإِيمَان حَسَنَة أَيْضًا فَإِنْ قَالَ لَيْسَ لَهُمَا مَا يُضَادّهُمَا شَخْصًا وَإِنْ كَانَ مَا يُضَادّهُمَا نَوْعًا وَهِيَ السَّيِّئَة الْمُقَابِلَة لِلْحَسَنَةِ فَيُرَاد أَنَّ النُّطْق بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه بَعْد الْإِيمَان لَيْسَ لَهُ مَا يُضَادّ شَخْصه أَيْضًا وَمَنْ لَمْ يَتْرُك الصَّلَاة قَطّ فَفِعْل الصَّلَاة مِنْهُ حَسَنَة لَا يُقَابِلهَا مِنْ السَّيِّئَات مَا يُضَادّهَا شَخْصًا فَلْيُتَأَمَّلْ

بِأَنَّ قَوْلَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ ؛ لَمَّا قَالَهَا بِنَوْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ(1)
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 436)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ فِي مَنْ عَزَمَ عَلَى " فِعْلِ مُحَرَّمٍ " كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَزْمًا جَازِمًا - فَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ : إمَّا بِمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ . هَلْ يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ : يَأْثَمُ فَمَا جَوَابُ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ بِقَوْلِهِ : { إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ } وَبِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ } وَاحْتَجَّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَزْمُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَالْعَزْمُ وَالْهَمُّ وَاحِدٌ . قَالَهُ ابْنُ سيده . ( الثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ التَّجَاوُزَ مُمْتَدًّا إلَى أَنْ يُوجَدَ كَلَامٌ أَوْ عَمَلٌ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ التَّجَاوُزِ وَيَزْعُمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذْ الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِدُخُولِ الْمَقْتُولِ فِي النَّارِ مُوَاجَهَتُهُ أَخَاهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَا مُجَرَّدُ قَصْدٍ وَأَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي قَالَ : { لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَفَعَلْت وَفَعَلْت أَنَّهُمَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَفِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ } وَهَذَا قَدْ تَكَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهَا مُطَوَّلًا مَكْشُوفًا مُسْتَوْفًى .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَحْتَاجُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهَا إلَى حُسْنِ التَّصَوُّرِ لَهَا فَإِنَّ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَعَ عَامَّتُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا عَدَمُ تَحْقِيقِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَصِفَاتِهَا الَّتِي هِيَ مَوْرِدُ الْكَلَامِ . وَ ( الثَّانِي عَدَمُ إعْطَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَقَّهَا ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ اضْطِرَابُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَجِدَ النَّاظِرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ إجماعات مُتَنَاقِضَةً فِي الظَّاهِرِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَنَحْوُهَا لَهُ مِنْ الْمَرَاتِبِ مَا بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ مَا لَا يَضْبُطُهُ الْعِبَادُ : كَالشَّكِّ ثُمَّ الظَّنِّ ثُمَّ الْعِلْمِ ثُمَّ الْيَقِينِ وَمَرَاتِبِهِ ؛ وَكَذَلِكَ الْهَمُّ وَالْإِرَادَةُ وَالْعَزْمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ - وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ - أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ وَنَحْوَهُمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بَلْ وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِغَيْرِ الْحَيِّ : كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرْوَاحِ . فَنَقُولُ أَوَّلًا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ هِيَ الَّتِي يَجِبُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً فَإِنَّهُ مَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَجَبَ وُجُودُ الْفِعْلِ لِكَمَالِ وُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَمَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً وَهُوَ إرَادَاتُ الْخَلْقِ لِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَادَاتُ مُتَفَاوِتَةً فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا ؛ لَكِنْ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ الْمُرَادُ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ فَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً جَزْمًا تَامًّا . وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " إنَّمَا كَثُرَ فِيهَا النِّزَاعُ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا إرَادَةً جَازِمَةً لِلْفِعْلِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَهَذَا لَا يَكُونُ . وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَزْمِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مِنْهُ شَيْئًا فِي الْحَالِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَكْفِي فِي وُجُودِ الْفِعْلِ بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِهِ مِنْ حُدُوثِ تَمَامِ الْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ هِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ . وَ " الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ " إذَا فَعَلَ مَعَهَا الْإِنْسَانُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ : لَهُ ثَوَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ وَعِقَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ الَّذِي فَعَلَ جَمِيعَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ حَتَّى يُثَابَ وَيُعَاقَبَ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِثْلَ الْمُشْتَرِكِينَ والمتعاونين عَلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ وَمِنْهَا مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ كَالدَّاعِي إلَى هُدًى أَوْ إلَى ضَلَالَةٍ وَالسَّانِّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ } . فَالدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَإِلَى الضَّلَالَةِ هُوَ طَالِبٌ مُرِيدٌ كَامِلُ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ لِمَا دَعَا إلَيْهِ ؛ لَكِنَّ قُدْرَتَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْأَمْرِ وَقُدْرَةَ الْفَاعِلِ بِالِاتِّبَاعِ وَالْقَبُولِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاشِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ فَقَالَ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَحْدُثُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِمْ الْمُنْفَرِدَةِ : وَهُوَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَمَا يَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ بِهِمْ مِنْ الْغَيْظِ وَمَا يَنَالُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ . وَقَالَ : { كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَفِعْلٍ آخَرَ مُنْفَصِلٍ عَنْهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ نَفْسَ أَعْمَالِهِمْ الْمُبَاشِرَةِ الَّتِي بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ : وَهِيَ الْإِنْفَاقُ وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ فَلِهَذَا قَالَ فِيهَا : { إلَّا كُتِبَ لَهُمْ } فَإِنَّ هَذِهِ نَفْسَهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَإِرَادَتُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَازِمَةٌ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ الَّذِي هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَمَا حَدَثَ مَعَ هَذِهِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُعِينُ فِيهَا قُدْرَتَهُمْ بَعْضُ الْإِعَانَةِ هِيَ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ . وَكَذَلِكَ " الدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ " لَمَّا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً كَامِلَةً فِي هُدَى الْأَتْبَاعِ وَضَلَالِهِمْ وَأَتَى مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ فَلَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلُ جَزَاءِ كُلِّ مَنْ اتَّبَعَهُ : لِلْهَادِي مِثْلَ أُجُورِ الْمُهْتَدِينَ وَلِلْمُضِلِّ مِثْلَ أَوْزَارِ الضَّالِّينَ وَكَذَلِكَ السَّانُّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا رُسِمَ لِلتَّحَرِّي فَإِنَّ السَّانَّ كَامِلُ الْإِرَادَةِ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ وَفِعْلُهُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ؛ } لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ " فَالْكِفْلُ النَّصِيبُ مِثْلَ نَصِيبِ الْقَاتِلِ كَمَا فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ كَمَا اسْتَبَاحَ جِنْسَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ فَصَارَ شَرِيكًا فِي قَتْلِ كُلِّ نَفْسٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } . وَيُشْبِهُ هَذَا أَنَّهُ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا مُعَيَّنًا كَانَ كَتَكْذِيبِ جِنْسِ الرُّسُلِ كَمَا قِيلَ فِيهِ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ لَا يَحْمِلُونَ مِنْ خَطَايَا الْأَتْبَاعِ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ وَهِيَ أَوْزَارُ الْأَتْبَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ إرَادَتَهُمْ كَانَتْ جَازِمَةً بِذَلِكَ وَفَعَلُوا مَقْدُورَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ جَزَاءُ كُلِّ عَامِلٍ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَفِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْهُ . وَهُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ : فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا كَانَ إمَامَهُمْ الْمَتْبُوعَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَهُمْ الْأَتْبَاعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ : إنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ وَالْأَكَرَةِ كَلَفْظِ الطَّاءِ بِالتُّرْكِيِّ فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُقْلَبُ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا تَوَلَّى عَنْ أَتْبَاعِ الرَّسُولِ كَانَ عَلَيْهِ [ مِثْلُ ] آثَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِرُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } { لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . فَقَوْلُهُ : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } هِيَ الْأَوْزَارُ الْحَاصِلَةُ لِضَلَالِ الْأَتْبَاعِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ الْمُمْتَثِلِ فَالْقُدْرَتَانِ مُشْتَرِكَتَانِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الضَّلَالِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى هَذَا بَعْضُهُ وَعَلَى هَذَا بَعْضُهُ إلَّا أَنَّ كُلَّ بَعْضٍ مِنْ هَذَيْنِ الْبَعْضَيْنِ هُوَ مِثْلُ وِزْرِ عَامِلٍ كَامِلٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ دَعَا إلَى الضَّلَالَةِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَتْبَاعَ دَعَوْا عَلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالِ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لِكُلِّ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ وَالْأَتْبَاعِ تَضْعِيفًا مِنْ الْعَذَابِ . وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ الْأَتْبَاعُ التَّضْعِيفَ . وَلِهَذَا وَقَعَ عَظِيمُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ لِأَئِمَّةِ الْهُدَى وَعَظِيمُ الذَّمِّ وَاللَّعْنَةِ لِأَئِمَّةِ الضَّلَالِ حَتَّى رُوِيَ فِي أَثَرٍ - لَا يَحْضُرُنِي إسْنَادُهُ - إنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بإبليس ثُمَّ يَصْعَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ وَمَا مِنْ نَعِيمٍ فِي الْجَنَّةِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ } فَإِنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْمُطْلَقُ فِي الْهُدَى لِأَوَّلِ بَنِي آدَمَ وَآخِرِهِمْ . كَمَا قَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ } وَهُوَ شَفِيعُ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْحِسَابِ بَيْنَهُمْ ؛ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا أَخَذَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَيُصَدِّقَ بِمَنْ بَعْدَهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } الْآيَةَ . فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إذَا اشْتَمَلَ الْكَلَامُ عَلَى قَسَمٍ وَشَرْطٍ ؛ وَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى مَا الشَّرْطِيَّةِ لِيُبَيِّنَ الْعُمُومَ وَيَكُونَ الْمَعْنَى : مَهْمَا آتِيكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ فَعَلَيْكُمْ إذَا جَاءَكُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُصَدِّقُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ . كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَأَعْلَنَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مَا بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ ؛ كَمَا فِي { حَدِيثِ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كُنْت نَبِيًّا ؟ - وَفِي رِوَايَةٍ - مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا ؟ فَقَالَ : وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } رَوَاهُ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ : إنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ . وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ } الْحَدِيثَ . فَكَتَبَ اللَّهُ وَقَدَّرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ أَمْرَ إمَامِ الذُّرِّيَّةِ كَمَا كَتَبَ وَقَدَّرَ حَالَ الْمَوْلُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ . فَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ فِي الشَّرَائِعِ الْمُفَصَّلَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ لَمْ يَأْتِ إلَّا بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ ؛ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مُطْلَقٌ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ وَأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ إيمَانِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ ضَلَالٍ وغواية فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لإبليس مِنْهُ نَصِيبٌ ؛ فَهَذَا يُحَقِّقُ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا - إمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ . وَإِمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ التَّابِعِينَ - قَالَ : { بُعِثْت دَاعِيًا وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ وَبُعِثَ إبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَمُغْوِيًا وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ } . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ } فَأَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِحًا بِالْأُمَّةِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مُضَافًا إلَى أَجْرِهِ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِأَنَّ لَهُمَا مُعَاوَنَةً مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي إيمَانِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ فِي ذَلِكَ سَابِقًا لِعُمَرِ وَأَقْوَى إرَادَةً مِنْهُ ؛ فَإِنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُعَاوِنَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إيمَانِ الْأُمَّةِ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا ؛ فِي مَحْيَاهُ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ . وَلِهَذَا { سَأَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ : أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ . فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُمْ . فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ : كَذَبْت يَا عَدُوَّ اللَّهِ إنَّ الَّذِي ذَكَرْت لَأَحْيَاءٌ وَقَدْ بَقِيَ لَك مَا يَسُوءُك } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . فَأَبُو سُفْيَانَ - رَأْسُ الْكُفْرِ حِينَئِذٍ - لَمْ يَسْأَلْ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا وُضِعَتْ جِنَازَةُ عُمَرَ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَبّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلِهِ مِنْ هَذَا الْمُسَجَّى وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْشُرَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك ؛ فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمَا إنْ كَانَ لَهُمَا مِثْلُ أَعْمَالِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ ؛ لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ كُلِّهِ بِخِلَافِ مَنْ أَعَانَ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وَوُجِدَتْ مِنْهُ إرَادَةٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ . وَ " أَيْضًا " فَالْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا وَدَاعِيًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَاَللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَاجِزِ ؛ وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَبَيْنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ ؛ بَلْ يُقَالُ : دَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ إيَّاهُ . وَلَفْظُ الْآيَةِ صَرِيحٌ . اسْتَثْنَى أُولُو الضَّرَرِ مِنْ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا هُوَ مِنْ النَّفْيِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أُولِي الضَّرَرِ قَدْ يُسَاوُونَ الْقَاعِدِينَ وَإِنْ لَمْ يُسَاوُوهُمْ فِي الْجَمِيعِ وَيُوَافِقُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ . قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَاعِدَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِي لَمْ يَحْبِسْهُ إلَّا الْعُذْرُ هُوَ مِثْلُ مَنْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي مَعَهُ فِي الْغَزْوَةِ يُثَابُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَوَابَ غَازٍ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسْهُمْ إلَّا الْعُذْرُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ عَمَلًا ثُمَّ لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا لِمَرَضِ أَوْ سَفَرٍ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ لِوُجُودِ الْعَجْزِ وَالْمَشَقَّةِ لَا لِضَعْفِ النِّيَّةِ وَفُتُورِهَا فَكَانَ لَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِضَعْفِ الْقُدْرَةِ مَا لِلْعَامِلِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا مَعَ مَشَقَّةٍ كَذَلِكَ بَعْضُ الْمَرَضِ إلَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ الْقُدْرَةَ الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُكْنَةُ خَالِيَةً عَنْ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ أَوْ مُكَافِئَةٍ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَوْلُهُ : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ } فَإِنَّ الْغَزْوَ يَحْتَاجُ إلَى جِهَادٍ بِالنَّفْسِ وَجِهَادٍ بِالْمَالِ فَإِذَا بَذَلَ هَذَا بَدَنَهُ وَهَذَا مَالَهُ مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُجَاهِدًا بِإِرَادَتِهِ الْجَازِمَةِ وَمَبْلَغِ قُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لِلْغَازِي مِنْ خَلِيفَةٍ فِي الْأَهْلِ فَإِذَا خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَهُوَ أَيْضًا غَازٍ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إمْسَاكٍ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَشَاءِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ الصَّوْمُ وَإِلَّا فَالصَّائِمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَشَاءَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّوْمِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أُجُورِ بَعْضٍ شَيْئًا } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفِّرًا طَيِّبَةٌ بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } أَخْرَجَاهُ . وَذَلِكَ أَنَّ إعْطَاءَ الْخَازِنِ الْأَمِينِ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ مُوَفِّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الْمُوَافِقَةِ لِإِرَادَةِ الْآمِرِ وَقَدْ فَعَلَ مَقْدُورَهُ وَهُوَ الِامْتِثَالُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَصَدِّقِينَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ ماجه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ فُلَانٍ لَعَمِلْت بِعَمَلِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُطَوَّلًا وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذَا التَّسَاوِي مَعَ " الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ " هُوَ فِي حِكَايَةِ حَالِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ إرَادَةً جَازِمَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ ؛ فَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ تَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ قَالَ : " لَوْ أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ لَفَعَلْت مِثْلَ مَا يَفْعَلُ " إلَّا إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ عَزْمٍ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ لَانْفَسَخَتْ عَزِيمَتُهُ كَعَامَّةِ الْخَلْقِ يُعَاهِدُونَ وَيَنْقُضُونَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ عَزْمًا جَازِمًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ [ وَعَدِمَ ] الصوارف عَنْ الْفِعْلِ تَبْقَى تِلْكَ الْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ للصوارف كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَكَمَا قَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَحَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ فِي النِّيَّاتِ مِثْلُ حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ فِي الْكَلِمَاتِ . وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْشُرُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدَى الْبَصَرِ وَيُقَالُ لَهُ هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ هَلْ ظَلَمْتُك ؟ فَيَقُولُ : لَا يَا رَبِّ . فَيُقَالُ لَهُ : لَا ظُلْمَ عَلَيْك الْيَوْمَ فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةِ فِيهَا التَّوْحِيدُ ؛ فَتُوضَعُ فِي كِفَّةٍ وَالسِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ } فَهَذَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ ؛ إذْ الْكَلِمَاتُ وَالْعِبَادَاتُ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا . وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي حَدِيثِ : الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ كَلْبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا ؛ فَهَذَا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَالرَّحْمَةِ إذْ ذَاكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ . يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سُخْطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 244)
وَقَالَ : فَصْلٌ الصِّدْقُ أَسَاسُ الْحَسَنَاتِ وَجِمَاعُهَا وَالْكَذِبُ أَسَاسُ السَّيِّئَاتِ وَنِظَامُهَا وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ فَالْوَصْفُ الْمُقَوِّمُ لَهُ الْفَاصِلُ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ هُوَ الْمَنْطِقُ وَالْمَنْطِقُ قِسْمَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْخَبَرُ صِحَّتُهُ بِالصِّدْقِ وَفَسَادُهُ بِالْكَذِبِ فَالْكَاذِبُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ وَالْكَلَامُ الْخَبَرِيُّ هُوَ الْمُمَيِّزُ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الْإِنْشَائِيِّ فَإِنَّهُ مَظْهَرُ الْعِلْمِ وَالْإِنْشَاءُ مَظْهَرُ الْعَمَلِ وَالْعِلْمُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَمَلِ وَمُوجِبٌ لَهُ فَالْكَاذِبُ لَمْ يَكْفِهِ أَنَّهُ سُلِبَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ حَتَّى قَلَبَهَا إلَى ضِدِّهَا وَلِهَذَا قِيلَ : لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبِ وَلَا رَاحَةَ لِحَسُودِ وَلَا إخَاءَ لِمَلُوكِ وَلَا سُؤْدُدَ لِبَخِيلِ فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ مَصْدَرُ الْمَرْءِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانِيَّةَ مَصْدَرُ الْإِنْسَانِ . الثَّانِي : أَنَّ الصِّفَةَ الْمُمَيِّزَةَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّئِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . الثَّالِثُ : أَنَّ الصِّفَةَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَعَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } . الرَّابِعُ : أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ أَصْلُ الْبِرِّ وَالْكَذِبَ أَصْلُ الْفُجُورِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } . الْخَامِسُ : أَنَّ الصَّادِقَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْكَاذِبَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } . السَّادِسُ : أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَبَيْنَ الْمُتَشَبَّهِ بِهِمْ مِنْ الْمُرَائِينَ وَالْمُسْمِعِينَ وَالْمُبْلِسِينَ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ . السَّابِعُ : أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ فِي الْكِتَابِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَلِهَذَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ مَرَّتَيْنِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ : أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ . } الثَّامِنُ : أَنَّهُ رُكْنُ الشَّهَادَةِ الْخَاصَّةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ الْعَامَّةُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَالشَّهَادَةُ خَاصَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي مُيِّزَتْ بِهَا فِي قَوْلِهِ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وَرُكْنُ الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ شَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَرُكْنُ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي بِهَا يَقُومُ الْإِسْلَامُ ؛ بَلْ هِيَ رُكْنُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَرُكْنُ الْفُتْيَا الَّتِي هِيَ إخْبَارُ الْمُفْتِي بِحُكْمِ اللَّهِ . وَرُكْنُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَخْبَارَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَامِلَيْنِ لِلْآخَرِ بِمَا فِي سِلْعَتِهِ وَرُكْنُ الرُّؤْيَا الَّتِي قِيلَ فِيهَا : أَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ كَلَامًا وَاَلَّتِي يُؤْتَمَنُ فِيهَا الرَّجُلُ عَلَى مَا رَأَى . التَّاسِعُ : أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هُوَ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } وَوَصَفَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . الْعَاشِرُ : أَنَّ الْمَشَايِخَ الْعَارِفِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ إلَى اللَّهِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا } .

، وَكَمَا غَفَرَ لِلْبَغِيِّ بِسَقْيِ الْكَلْبِ(1) لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا إذْ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ ،وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
" السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ :
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3321 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « غُفِرَ لاِمْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِىٍّ يَلْهَثُ ، قَالَ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا ، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا ، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ » .
وفي صحيح البخارى برقم(2466 ) وصحيح مسلم برقم(5997 ) واللفظ له عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِى يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا ». = أدلع : أخرج -الموق : الخف
وفي شرح ابن بطال - (ج 12 / ص 20)
سقى الماء من أعظم القربات إلى الله - تعالى و قد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقى الماء، وإذا غفرت ذنوب الذى سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلا مؤمنًا موحداُ أو أحياه بذلك.
وقد استدل بهذا الحديث من أجاز صدقة التطوع على المشركين، لعموم قوله عليه السلام: « فى كل كبد رطبة أجر » وفيه أن المجازاة على الخير والشر قد تكون يوم القيامة من جنس الأعمال، كما قال عليه السلام: « من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم » . وقال صاحب الأفعال: لهث الكلب، ولهث بفتح الهاء وكسرها: أدلع لسانه عطشًا، ولهث الإنسان أيضًا اشتد عطشه.
وفي صحيح مسلم برقم(5996 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ مِنِّى. فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِىَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا فَقَالَ « فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ».
شرح ابن بطال - (ج 17 / ص 266)
قال المؤلف: فى هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغى لكل مؤمن عاقل أن يرغب فى الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها فى أبناء جنسه وفى كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو يهيمة لاتقدر على النطق وتبيين مابها من الضر، وكذلك ينبغى أن يرحم كل بهيمة وإن كانت فى غير ملكه، ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له بتكلفة النزول فيالبئر وإخراجه الماء فى خفه وسقيه إياه، وكذلك كل مافى معنى السقى من الإطعام، الا ترى قوله عليه السلام: « ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة » .
مما يدخل فى معنى سقى البهائم وإطعامها التخفيف عنها فى أحمالها وتكليفها ماتطيق حمله، فذلك من رحمتها والإحسان اليها، ومن ذلك ترك التعدى فى ضربها وأذاها وتسخيرها فى الليل وفى غير أوقات السخرة، وقد نهينا فى العبيد أن نكلفهم الخدمة فى الليل فإن لهم الليل ولواليهم النهار، والواب وجميع البهائم داخلون فى هذا المعنى.
وفى قوله عليه السلام: « مامن مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة » دليل على أن ماذهب من مال المسلم بغير علمه أنه يؤجر عليه.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 417)
مَعْنَاهُ فِي الْإِحْسَان إِلَى كُلّ حَيَوَان حَيّ بِسَقْيِهِ وَنَحْوه أَجْر ، وَسُمِّيَ الْحَيّ ذَا كَبِد رَطْبَة ، لِأَنَّ الْمَيِّت يَجِفّ جِسْمه وَكَبِده . فَفِي الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الْإِحْسَان إِلَى الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم ، وَهُوَ مَا لَا يُؤْمَر بِقَتْلِهِ . فَأَمَّا الْمَأْمُور بِقَتْلِهِ فَيَمْتَثِل أَمْر الشَّرْع فِي قَتْله ، وَالْمَأْمُور بِقَتْلِهِ كَالْكَافِرِ الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ وَالْكَلْب الْعَقُور وَالْفَوَاسِق الْخَمْس الْمَذْكُورَات فِي الْحَدِيث وَمَا فِي مَعْنَاهُنَّ . وَأَمَّا الْمُحْتَرَم فَيَحْصُل الثَّوَاب بِسَقْيِهِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ أَيْضًا بِإِطْعَامِهِ وَغَيْره سَوَاء كَانَ مَمْلُوكًا أَوْ مُبَاحًا ، وَسَوَاء كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَم .

كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (1)(114) سورة هود .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ » (2)
__________
(1) - وفي صحيح البخارى برقم(526 ) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) . فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِى هَذَا قَالَ « لِجَمِيعِ أُمَّتِى كُلِّهِمْ » .
وفي صحيح مسلم برقم(7180 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ - قَالَ - فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً قَالَ « بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً ».= عالج : داعب
وفي سنن الترمذى برقم(3401 ) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً لَقِىَ امْرَأَةً وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْرِفَةٌ فَلَيْسَ يَأْتِى الرَّجُلُ شَيْئًا إِلَى امْرَأَتِهِ إِلاَّ قَدْ أَتَى هُوَ إِلَيْهَا إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا. قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّىَ. قَالَ مُعَاذٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِىَ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً قَالَ « بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً » وهو صحيح لغيره.
وفي مسند أحمد برقم(2244) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ فَقَالَ امْرَأَةٌ جَاءَتْ تُبَايِعُهُ فَأَدْخَلْتُهَا الدَّوْلَجَ فَأَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ الْجِمَاعِ. فَقَالَ وَيْحَكَ لَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ أَجَلْ. قَالَ فَائْتِ أَبَا بَكْرٍ فَاسْأَلْهُ. قَالَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ « فَلَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِىَ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً فَضَرَبَ عُمَرُ صَدْرَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ لاَ وَلاَ نُعْمَةَ عَيْنٍ بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « صَدَقَ عُمَرُ » وهو حديث حسن. =الدولج : المخدع
وفي مسند أحمد برقم(24428) عَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ الْفَارِسِىِّ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَأَخَذَ مِنْهَا غُصْناً يَابِساً فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عُثْمَانَ أَلاَ تَسْأَلُنِى لِمَ أَفْعَلُ هَذَا قُلْتُ وَلِمَ تَفْعَلُهُ فَقَالَ هَكَذَا فَعَلَ بِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مَعَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْناً يَابِساً فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ فَقَالَ « يَا سَلْمَانُ أَلاَ تَسْأَلُنِى لِمَ أَفْعَلُ هَذَا ». قُلْتُ وَلِمَ تَفْعَلُهُ قَالَ « إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ هَذَا الْوَرَقُ - وَقَالَ - (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) » وهو حسن.
(2) - صحيح مسلم برقم( 573 و574)
مَعْنَاهُ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا تُغْفَرُ إِلَّا الْكَبَائِرَ فَإِنَّهَا لَا تُغْفَرُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ لَا يُغْفَرُ شَيْءٌ مِنْ الصَّغَائِرِ ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَفْرِ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتَ كَبِيرَةٌ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ الْكَبَائِرَ إِنَّمَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلُهُ ، وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ إِنَّ الْكَبِيرَةَ لَا يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَكَذَا الْحَجُّ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ لَا غَيْرُهَا ، نَقَلَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا حَكَى فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا غَيْرُ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا جَهْلٌ وَمُوَافَقَةٌ لِلْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ اِنْتَهَى ، قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ طَاهِرٍ فِي مَجْمَعِ الْبِحَارِ ص 221 ح 2 مَا لَفْظُهُ فِي تَعْلِيقِي : لِلتِّرْمِذِيِّ لَا بُدَّ فِي حُقُوقِ النَّاسِ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَوْ صَغِيرَةً وَفِي الْكَبَائِرِ مِنْ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ وَرَدَ وَعْدُ الْمَغْفِرَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَرَمَضَانَ فَإِذَا تَكَرَّرَ يُغْفَرُ بِأَوَّلِهَا الصَّغَائِرُ وَبِالْبَوَاقِي يُخَفَّفُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً يُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ اِنْتَهَى .تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 247)
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 8)
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر يعني أن الصلوات الخمس تكفر الخطايا من بين صلاة الفجر إلى الظهر ومن الظهر إلى العصر ومن العصر إلى المغرب ومن المغرب إلى العشاء ومن العشاء إلى الفجر فإذا عمل الإنسان سيئة وأتقن هذه الصلوات الخمس فإنها تمحو الخطايا لكن قال إذا اجتنبت الكبائر يعني إذا اجتنبت كبائر الذنوب .
وكبائر الذنوب هي: كل ذنب رتب عليه الشارع عقوبة خاصة فكل ذنب لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله فهو من كبائر الذنوب كل شيء فيه حد في الدنيا كالزنا أو وعيد في الآخرة كأكل الربا أو فيه نفي إيمان مثل لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه أو فيه براءة منه مثل من غشنا فليس منا أو ما أشبه ذلك فهو من كبائر الذنوب .
واختلف العلماء - رحمهم الله - في قوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتنبت الكبائر هل معنى الحديث أن الصغائر تكفر إذا اجتنبت الكبائر، أنها لا تكفر إلا بشرطين وهما الصلوات الخمس واجتناب الكبائر أو أن معنى الحديث أنها كفارة لما بينهن إلا الكبائر فلا تكفرها وعلى هذا فيكون لتكفير السيئات الصغائر شرط واحد هو إقامة هذه الصلوات الخمس أو الجمعة إلى الجمعة أو رمضان إلى رمضان وهذا هو المتبادر والله أعلم أن المعنى أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها إلا الكبائر فلا تكفرها وكذلك الجمعة إلى الجمعة وكذلك رمضان إلى رمضان وذلك لأن الكبائر لا بد لها من توبة خاصة فإذا لم يتب توبة خاصة فإن الأعمال الصالحة لا تكفرها بل لابد من توبة خاصة .

.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (1).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (2).
__________
(1) -صحيح البخارى برقم(38 ) وصحيح مسلم برقم(1817 )
حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 3 / ص 414)
هَذَا وَأَمْثَاله بَيَان لِفَضْلِ هَذِهِ الْعِبَادَات بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَى الْإِنْسَان ذُنُوب يُغْفَر لَهُ بِهَذِهِ الْعِبَادَات أَيْ إِنْ كَانَتْ فَلَا يَرِد أَنَّ الْأَسْبَاب الْمُؤَدِّيَة إِلَى عُمُوم الْمَغْفِرَة كَثِيرَة فَعِنْد اِجْتِمَاعهَا أَيّ شَيْء يَبْقَى لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا حَتَّى يُغْفَر بِهِ إِذْ الْمَقْصُود بَيَان فَضِيلَة هَذِهِ الْعِبَادَات بِأَنَّ لَهَا عِنْد اللَّه هَذَا الْقَدْر مِنْ الْفَضْل فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِنْسَان ذَنْب يَظْهَر هَذَا الْفَضْل فِي رَفَعَ الدَّرَجَات كَمَا فِي حَقّ الْأَنْبِيَاء الْمَعْصُومِينَ مِنْ الذُّنُوب
وفي شرح ابن بطال - (ج 7 / ص 176)
قال ابن المنذر: معنى قوله: « إيمانًا » يعنى: تصديقًا أن الله فرض عليه الصوم، واحتسابًا لثواب الله عليه، وقد تقدم هذا المعنى.
وقوله: « غفر له ما تقدم من ذنبه » قول عام يُرجى لمن فعل ما ذكره فى الحديث أن يغفر له جميع الذنوب: صغيرها وكبيرها؛ لأنه لم يستثن ذنبًا دون ذنب،
(2) - صحيح البخارى برقم(1901 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 139)
قَوْلُهُ : ( وَمَنْ صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )
زَاد أَحْمَد مِنْ طَرِيقِ حَمَّاد بْن سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ " وَمَا تَأَخَّرَ " وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد أَيْضًا عَنْ يَزِيد بْن هَارُون عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِدُونِهَا أَيْضًا ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ سُفْيَان عَنْهُ ، وَتَابَعَهُ حَامِد بْن يَحْيَى عَنْ سُفْيَان ، أَخْرَجَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ فِي " التَّمْهِيدِ " وَاسْتَنْكَرَهُ ، وَلَيْسَ بِمُنْكَر ، فَقَدْ تَابَعَهُ قُتَيْبَة كَمَا تَرَى ، وَهِشَام بْن عَمَّار وَهُوَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عَشَر مِنْ فَوَائِدِهِ ، وَالْحُسَيْن بْن الْحَسَن الْمَرْوَزِيّ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الصِّيَام لَهُ ، وَيُوسُف بْن يَعْقُوب النَّجَاحِي أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْر الْمُقْرِي فِي فَوَائِدِهِ كُلّهمْ عَنْ سُفْيَان ، وَالْمَشْهُور عَنْ الزُّهْرِيِّ بِدُونِهَا . وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد مِنْ وَجْهَيْنِ وَإِسْنَاده حَسَن . وَقَدْ اِسْتَوْعَبْت الْكَلَامَ عَلَى طُرُقِهِ فِي كِتَابِ " الْخِصَال الْمُكَفِّرَةِ ، لِلذُّنُوبِ الْمُقَدَّمَةِ وَالْمُؤَخَّرَةِ " وَهَذَا مُحَصَّلُهُ . وَقَوْلُهُ " مِنْ ذَنْبِهِ " اِسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيع الذُّنُوبِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَاب الْوُضُوء وَفِيَّ أَوَائِل كِتَاب الْمَوَاقِيت . قَالَ الْكَرْمَانِيّ : وَكَلِمَة " مِنْ " إِمَّا مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " غُفِرَ " أَيْ غُفِرَ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ ، أَوْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَفْعُولٌ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَيَكُونُ مَرْفُوع الْمَحَلّ .
وفي شرح ابن بطال - (ج 7 / ص 22)
قوله: « إيمانًا » ، يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: « احتسابًا » ، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال عليه السلام: « الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى » ، وهذا يرد قول زفر، فإنه زعم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نية، وقوله مردود بهذه الآثار، وإذا صح أنه لا عمل إلا بنية، صح أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنية من الليل، كما ذهب إليه الجمهور.
وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعى، وإسحاق، وقالوا: يجزئه التبييت قبل الزوال، ولا سلف لهم فى ذلك، والنية إنما ينبغى أن تكون متقدمة قبل العمل، وحقيقة التبييت فى اللغة يقتضى زمن الليل، وروى هذا عن ابن عمر، وحفصة، وعائشة، ولا مخالف لهم، وقد تقدم ما للعلماء فى قوله عليه السلام: « الأعمال بالنيات » ، فى آخر كتاب الإيمان، فى باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة.

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » (1).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْىُ » (2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(1819 )
وفي شرح سنن النسائي - (ج 4 / ص 101)2580 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( فَلَمْ يَرْفُث ) بِضَمِّ الْفَاء
( وَلَمْ يَفْسُق )بِضَمِّ السِّين الرَّفَث الْقَوْل الْفُحْش وَقِيلَ الْجِمَاع وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ الرَّفَث اِسْم لِكُلِّ مَا يُرِيدهُ الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة وَالْفِسْق اِرْتِكَاب شَيْء مِنْ الْمَعْصِيَة وَالظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد نَفْي الْمَعْصِيَة بِالْقَوْلِ وَالْجَوَارِح جَمِيعًا وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَ فَلَا رَفَث وَلَا فَسُوق وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم
( رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) أَيْ صَارَ أَوْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبه أَوْ فَرَغَ مِنْ الْحَجّ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى رَجَعَ إِلَى بَيْته بَعِيد وَقَوْله كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه خَبَر عَلَى الْأَوَّل أَوْ حَال عَلَى الْوُجُوه الْآخَر بِتَأْوِيلِ كَنَفْسِهِ يَوْم وَلَدَتْهُ أُمّه إِذْ لَا مَعْنَى لِتَشْبِيهِ الشَّخْص بِالْيَوْمِ وَقَوْله كَيَوْمِ يُحْتَمَل الْإِعْرَاب وَالْبِنَاء عَلَى الْفَتْح وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم .
حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ :
( مَنْ حَجّ هَذَا الْبَيْت فَلَمْ يَرْفُث )بِضَمِّ الْفَاء قَالَ عِيَاض : هَذَا مِنْ قَوْله تَعَالَى : فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق ، وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُرَاد فِي الْآيَة الْجِمَاع قَالَ الْحَافِظ اِبْن حَجَر : وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد بِهِ فِي الْحَدِيث مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَيْهِ نَحَا الْقُرْطُبِيّ قَالَ الْأَزْهَرِيّ : الرَّفَث اِسْم جَامِع لِكُلِّ مَا يُرِيدهُ الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَخُصّهُ بِمَا خُوطِبَ بِهِ النِّسَاء وَقَالَ غَيْره الرَّفَث الْجِمَاع وَيُطْلَق عَلَى التَّعْرِيض بِهِ وَعَلَى الْفُحْش فِي الْقَوْل
( وَلَمْ يَفْسُق ) أَيْ لَمْ يَأْتِ سَيِّئَة وَلَا مَعْصِيَة
( رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) قَالَ الْحَافِظ اِبْن حَجَر : أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب وَظَاهِره غُفْرَان الصَّغَائِر وَالْكَبَائِر وَالتَّبِعَات وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الشَّوَاهِد لِحَدِيثِ الْعَبَّاس بْن مِرْدَاس الْمُصَرِّح بِذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ : الْفَاء فِي قَوْله فَلَمْ يَرْفُث عَاطِفَة عَلَى الشَّرْط وَجَوَابه رَجَعَ أَيْ صَارَ وَالْجَارّ وَالْمَجْرُور خَبَر لَهُ وَيَجُوز أَنْ يَكُون حَالًا أَيْ صَارَ مُشَابِهًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَرَاءَة عَنْ الذُّنُوب فِي يَوْم وَلَدَتْهُ أُمّه
(2) - صحيح البخارى برقم(525 )
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 44)
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا مَعَهَا مُكَفِّرَةً لِلْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا لَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ مَثَلًا مُكَفِّرَةٌ لِلْفِتْنَةِ فِي الْأَهْلِ وَالصَّوْمَ فِي الْوَلَدِ إِلَخْ . وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مَعَ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ الِالْتِهَاءُ بِهِمْ أَوْ أَنْ يَأْتِيَ لِأَجْلِهِمْ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَوْ يُخِلَّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ . وَاسْتَشْكَلَ اِبْنُ أَبِي جَمْرَةَ وُقُوعَ التَّكْفِيرِ بِالْمَذْكُورَاتِ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ لَا تُسْقِطُ ذَلِكَ ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَالْإِخْلَالِ بِالْمُسْتَحَبِّ لَمْ يُنَاسَبْ إِطْلَاقَ التَّكْفِيرِ . وَالْجَوَابُ اِلْتِزَامُ الْأَوَّلِ وَإِنْ اِمْتَنَعَ مِنْ تَكْفِيرِ الْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ مَا كَانَ كَبِيرَةً فَهِيَ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا نِزَاعَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } الْآيَةَ وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ : الْفِتْنَةُ بِالْأَهْلِ تَقَعُ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِنَّ أَوْ عَلَيْهِنَّ فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِيثَارِ حَتَّى فِي أَوْلَادِهِنَّ ، وَمِنْ جِهَةِ التَّفْرِيطِ فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لَهُنَّ ، وَبِالْمَالِ يَقَعُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ أَوْ بِحَبْسِهِ عَنْ إِخْرَاجِ حَقِّ اللَّهِ ، وَالْفِتْنَةُ بِالْأَوْلَادِ تَقَعُ بِالْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ إِلَى الْوَلَدِ وَإِيثَارِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، وَالْفِتْنَةُ بِالْجَارِ تَقَعُ بِالْحَسَدِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْحُقُوقِ وَإِهْمَالِ التَّعَاهُدِ ثُمَّ قَالَ وَأَسْبَابُ الْفِتْنَةِ بِمَنْ ذُكِرَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الصَّلَاةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا بِالتَّكْفِيرِ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ قَدْرِهَا ، لَاتُّقِيَ أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ لَيْسَ فِيهَا صَلَاحِيَّةُ التَّكْفِيرِ ، ثُمَّ إِنَّ التَّكْفِيرَ الْمَذْكُورَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ بِنَفْسِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ بِالْمُوَازَنَةِ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 427)
وَالذَّنْبُ لِلْعَبْدِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ حَتْمٌ . فَالْكَيِّسُ هُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَأْتِي مِنْ الْحَسَنَاتِ بِمَا يَمْحُو السَّيِّئَاتِ . وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ " السَّيِّئَةَ " وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَحْوُهَا لَا فِعْلُ الْحَسَنَةِ فَصَارَ { كَقَوْلِهِ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ : صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَاتُ مِنْ جِنْسِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَحْوِ وَالذُّنُوبُ يَزُولُ مُوجِبُهَا بِأَشْيَاءَ : ( أَحَدُهَا ) التَّوْبَةُ . وَ ( الثَّانِي ) الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ لَهُ إجَابَةً لِدُعَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ الْكَمَالُ . ( الثَّالِثُ ) الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمُكَفِّرَةُ : أَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُقَدَّرَةُ " كَمَا يُكَفِّرُ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَالْمُظَاهِرُ وَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ أَوْ تَارِكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ أَوْ قَاتِلُ الصَّيْدِ بِالْكَفَّارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ " أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ " هَدْيٍ وَعِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ . وَأَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُطْلَقَةُ " كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِعُمَرِ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ؛ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمْعَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِر الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا : مَنْ قَالَ كَذَا وَعَمِلَ كَذَا غُفِرَ لَهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ لِمَنْ تَلَقَّاهَا مِنْ السُّنَنِ خُصُوصًا مَا صُنِّفَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ .

.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ حَتَّى يُعْتِقَ فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ »(1). وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِي الصِّحَاحِ (2).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الصَّلَاةُ نُورٌ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ، وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ » (3).

(( هل الحسنات تكفر الصغائر والكبائر ؟))
وَسُؤَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ(4)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(3870 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 288)
فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان فَضْل الْعِتْق وَأَنَّهُ مِنْ أَفْضَل الْأَعْمَال وَمِمَّا يَحْصُل بِهِ الْعِتْق مِنْ النَّار وَدُخُول الْجَنَّة .
وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب عِتْق كَامِل الْأَعْضَاء فَلَا يَكُون خَصِيًّا وَلَا فَاقِد غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء وَفِي الْخَصِيّ وَغَيْره أَيْضًا الْفَضْل الْعَظِيم لَكِنْ الْكَامِل أَوْلَى وَأَفْضَله أَعْلَاهُ ثَمَنًا وَأَنْفَسه كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل الْكِتَاب فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث " أَيّ الرِّقَاب أَفْضَل ؟ " . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمْ عَنْ سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد عَنْ أَبِي أُمَامَة وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَيّمَا اِمْرِئٍ مُسْلِم أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكه مِنْ النَّار يَجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ وَأَيّمَا اِمْرِئٍ مُسْلِم أَعْتَقَ اِمْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكه مِنْ النَّار يَجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ وَأَيّمَا اِمْرَأَة مُسْلِمَة أَعْتَقَتْ اِمْرَأَة مُسْلِمَة كَانَتْ فِكَاكهَا مِنْ النَّار يَجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهُ عُضْوًا مِنْهَا " . قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح قَالَ هُوَ وَغَيْره .
وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ عِتْق الْعَبْد أَفْضَل مِنْ عِتْق الْأَمَة : قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيّمَا أَفْضَل عِتْق الْإِنَاث أَمْ الذُّكُور ؟ فَقَالَ بَعْضهمْ : الْإِنَاث أَفْضَل لِأَنَّهَا إِذَا عَتَقَتْ كَانَ وَلَدهَا حُرًّا سَوَاء تَزَوَّجَهَا حُرّ أَوْ عَبْد . وَقَالَ آخَرُونَ : عِتْق الذُّكُور أَفْضَل لِهَذَا الْحَدِيث وَلِمَا فِي الذِّكْر مِنْ الْمَعَانِي الْعَامَّة الْمَنْفَعَة الَّتِي لَا تُوجَد فِي الْإِنَاث مِنْ الشَّهَادَة وَالْقَضَاء وَالْجِهَاد وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَخُصّ بِالرِّجَالِ إِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا عَادَة ، وَلِأَنَّ مِنْ الْإِمَاء مَنْ لَا تَرْغَب فِي الْعِتْق وَتَضِيع بِهِ بِخِلَافِ الْعَبِيد . وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح .
وَأَمَّا التَّقْيِيد بِالرَّقَبَةِ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَة فَيَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَضْل الْخَاصّ إِنَّمَا هُوَ فِي عِتْق الْمُؤْمِنَة . وَأَمَّا غَيْر الْمُؤْمِنَة فَفِيهِ أَيْضًا فَضْل بِلَا خِلَاف وَلَكِنْ دُون فَضْل الْمُؤْمِنَة ، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي عِتْق كَفَّارَة الْقَتْل كَوْنهَا مُؤْمِنَة ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَالِك : أَنَّ الْأَعْلَى ثَمَنًا أَفْضَل وَإِنْ كَانَ كَافِرًا . وَخَالَفَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ أَصْحَابه وَغَيْرهمْ قَالَ : وَهَذَا أَصَحّ .
(2) - قلت :
إن كان يعني بالصحاح الكتب الستة ، وهو الشائع عند الاطلاق، فهو كما قال رحمه الله ، وإن كان يعني بها الصحيحين ، فبعضها ليس في الصحيحين ،كما مر في تخريجها
(3) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ برقم(6335 ) وهو حسن لغيره
(4) - وفي فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 9 / ص 232)
قال ابن بزيزة: هنا إشكال صعب وهو أن الصغائر بنص القرآن مكفرة باجتناب الكبائر فما الذي يكفره الصلوات؟ وأجاب البلقيني بأن معنى {إن تجتنبوا} الموافاة على هذه الحال من الإيمان أو التكليف إلى الموت والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فالسؤال غير وارد وبفرض وروده فالتخلص منه أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الخمس فمن لم يفعلها لم يجتنب لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها وأحوال المكلف بالنسبة لما يصدر منه من صغيرة وكبيرة خمسة: أحدها أن لا يصدر منه شيء فهذا ترفع درجاته. الثانية يأتي بصغائر بلا إصرار فهذا يكفر عنه جزماً. الثالثة مثله لكن مع الإصرار فلا يكفر لأن الإصرار كبيرة. الرابعة يأتي بكبيرة واحدة وصغائر. الخامسة يأتي بكبائر وصغائر وفيه نظر يحتمل إذا لم يجتنب أن تكفر الصغائر فقط والأرجح لا تكفر أصلاً إذ مفهوم المخالفة إذا لم يتعين جهته لا يعمل به.
وفي جامع العلوم والحكم - (ج 19 / ص 40)
وأما الكبائر ، فلابدَّ لها من التوبة ؛ لأنَّ الله أمر العباد بالتوبة ، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمةُ على أنَّ التوبة فرض ، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة ، وأداء بقية أركان الإسلام ، لم يُحْتَجْ إلى التوبة ، وهذا باطلٌ بالإجماع .
وأيضا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض ، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل ، هذا ما ذكره ابن عبد البرِّ في كتابه " التمهيد " وحكى إجماع المسلمين على ذلك ، واستدلَّ عليه
بأحاديث :
منها : قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( الصَّلواتُ الخمسُ ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ )) وهو مخرَّج في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ .
وقد حكى ابنُ عطية في " تفسيره " في معنى هذا الحديث قولين : أحدُهما
- وحكاه عن جمهور أهل السُّنة - : أنَّ اجتنابَ الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر ، فإنْ لم تُجتنب ، لم تُكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية .
والثاني : أنَّها تُكفر الصغائر مطلقاً ، ولا تُكفر الكبائر وإنْ وجدت ، لكن بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، ورجَّحَ هذا القول ، وحكاه عن الحذاق.
وقوله : بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، مرادُه أنَّه إذا أصرَّ
عليها ، صارت كبيرةً ، فلم تكفرها الأعمالُ . والقولُ الأوَّلُ الذي حكاه غريب ، مع أنَّه قد حُكِيَ عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثلُه .
وفي " صحيح مسلم " عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مَا مِن امرئ مسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبة ، فيُحسِنُ وضوءها وخُشوعَها ورُكوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرةً ، وذلك الدهر كُلَّه )) .
وفي " مسند الإمام أحمد " عن سلمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا يتطهَّرُ الرجلُ -يعني: يوم الجمعة- فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فَيُنْصِتَ حتى يقضيَ الإمامُ صلاته ، إلا كان كفَّارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت الكبائر المقتلة )) .
وخرَّج النسائي ، وابنُ حبان ، والحاكمُ من حديث أبي سعيدٍ وأبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( والَّذي نفسي بيده ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس ،ويصومُ رمضان ، ويُخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبعَ ، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة ، ثم قيل له : ادخل بسلام )) . وخرَّج الإمامُ أحمد والنَّسائي من حديث أبي أيوب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضاً . وخرَّج الحاكم معناه من حديث عبيد بن عمير ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ويُروى من حديث ابن عمر مرفوعاً : (( يقولُ الله - عز وجل - : ابنَ آدمَ اذكُرني من أوَّلِ النهار ساعةً ومن آخرِ النهار ساعةً ، أَغْفِر لك ما بَينَ ذلك ، إلا الكبائر ، أو تتوب منها )).
وقال ابن مسعود: الصلواتُ الخمس كفَّاراتٌ لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
وقال سلمان : حافظوا على هذه الصلوات الخمس ، فإنَّهنَّ كفَّارات لهذه الجراح ما لم تُصب المقتلة.
قال ابنُ عمر لرجل : أتخاف النارَ أنْ تدخلها ، وتحبُّ الجنَّةَ أنْ تدخلها ؟ قال : نعم ، قال : برَّ أمَّك فوالله لَئِنْ ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطَّعام ، لتدخلن الجنَّة ما اجتنبت الموجبات . وقال قتادة : إنَّما وعد الله المغفرةَ لمن اجتنب الكبائر ، وذكر لنا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( اجتنبوا الكبائرَ وسدِّدوا وأبشروا )).
وذهب قومٌ من أهل الحديث وغيرهم إلى أنَّ هذه الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ ، ومنهم : ابن حزم الظاهري ، وإيَّاه عنى ابنُ عبد البرّ في كتاب " التمهيد " بالردِّ عليه وقال : قد كنتُ أرغبُ بنفسي عن الكلام في هذا الباب ، لولا قولُ ذلك القائل ، وخشيتُ أنْ يغترَّ به جاهلٌ ، فينهمِكَ في الموبقاتِ ، اتِّكالاً على أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندم والاستغفار والتوبة ، والله نسألُه العصمة والتوفيقَ.
قلتُ : وقد وقع مثلُ هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ، ووقع مثلُه في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر ، قال : يُرجى لمن قامها أنْ يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها . فإنْ كان مرادهم أنَّ مَنْ أتى بفرائض الإسلام وهو مُصرٌّ على الكبائر تغفر له الكبائرُ قطعاً ، فهذا باطلٌ قطعاً ، يُعْلَمُ بالضرورة من الدِّين بطلانه ، وقد سبق قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ أساءَ في الإسلام أُخِذَ بالأوَّلِ والآخر )) يعني : بعمله في الجاهلية والإسلام ، وهذا أظهرُ من أنْ يحتاجَ إلى بيانٍ ، وإنْ أرادَ هذا القائلُ أنَّ من ترك الإصرارَ على الكبائرِ ، وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندمٍ على ما سلف منه ، كُفِّرَت ذنوبه كلُّها بذلك ، واستدلَّ بظاهر قوله
: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً } . وقال : السيئات تشملُ الكبائرَ والصغائر ، فكما أنَّ الصغائرَ تُكفَّرُ باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نيَّةٍ ، فكذلك الكبائرُ ، وقد يستدلُّ لذلك
بأنَّ الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وبتكفير السَّيِّئات ، وهذا مذكورٌ في غير موضع من القرآن ، وقد صار هذا من المتَّقين ، فإنَّه فعل الفرائضَ ، واجتنبَ
الكبائرَ ، واجتنابُ الكبائر لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ وقصدٍ ، فهذا القولُ يمكن أنْ يُقال في الجملة .
والصَّحيح قول الجمهور : إنَّ الكبائر لا تُكفَّرُ بدون التوبة ؛ لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد ، وقد قال - عز وجل - : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم ، ومنهم من فسَّرها بالعزم على أنْ لا يعود ، وقد روي ذلك مرفوعاً من وجه فيه ضعفٌ، لكن لا يعلم مخالفٌ من الصحابة في هذا ، وكذلك التابعون ومَنْ بعدهم ، كعمر بن عبد العزيز ، والحسن وغيرهما وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب ، وتكفير السيئات للمتقين ، كقوله تعالى : { إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ، وقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ، وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } ، فإنَّه لم يُبين في هذه الآيات خصال التقوى ، ولا العمل الصالح ، ومن جملة ذلك : التوبة النصوح ، فمَنْ لم يتب ، فهو ظالم ، غيرُ متّقٍ .
وقد بين في سورة آل عمران خصالَ التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنَّة ، فذكر منها الاستغفار ، وعدم الإصرار ، فلم يضمن تكفيرَ السيئات ومغفرة الذنوب إلاَّ لمن كان على هذه الصفة ، و الله أعلم .
ومما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها ، أو العقوبة عليها حديثُ عُبَادةَ بنِ الصامت ، قال : كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( بايعوني على أنْ لا تُشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولاتزنوا )) ، وقرأ عليهم الآية (( فمن وفى منكم ، فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعُوقِبَ به ، فهو كفَّارَةٌ له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له )) خرَّجاه في " الصحيحين "
، وفي روايةٍ لمسلم : (( من أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته )) . وهذا يدلُّ على أنَّ الحدود كفارات . قال الشافعيُّ : لم أسمع في هذا البابِ - أنَّ الحد يكونُ كفَّارةً لأهله - شيئاً أحسنَ مِنْ حديث عُبادةَ ابن الصامت .
وقوله : (( فعوقب به )) يعمُّ العقوبات الشرعية ، وهي الحدود المقدَّرةُ أو غير المقدَّرة ، كالتعزيزات ، ويشمل العقوبات القدرية ، كالمصائب والأسقام والآلام ، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : (( لا يصيبُ المسلمَ نصبٌ ولا وَصَبٌ ولا هَمٌّ ولا حزن حتَّى الشَّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه )). ورُوي عن عليٍّ أنَّ الحدَّ كفَّارةٌ لمن أقيم عليه ، وذكر ابنُ جرير الطبري في هذه المسألة اختلافاً بين الناس ، ورجَّحَ أنَّ إقامة الحدِّ بمجرَّده كفارة ، ووهَّن القول بخلاف ذلك جداً.
قلت : وقد رُوي عن سعيد بن المسيب وصفوانَ بنِ سليم أنَّ إقامة الحدِّ ليس بكفَّارة ، ولابدَّ معه من التَّوبة ، ورجَّحه طائفة من المتأخِّرين ، منهم : البغويُّ ، وأبو عبد الله بن تيمية في " تفسيريهما " ، وهو قولُ ابنِ حزم الظاهري، والأوّل قولُ مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد .
وأما حديث أبي هريرة المرفوع : (( لا أدري : الحدودُ طهارةٌ لأهلها أم لا ؟ )) فقد خرَّجه الحاكم وغيره ، وأعلَّه البخاري ، وقال : لا يثبت ، وإنَّما هوَ من مراسيل الزهريِّ ، وهي ضعيفةٌ ، وغلط عبد الرزاق فوصله ، قالَ : وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحدود كفارة .
ومما يستدلُّ به من قال : الحدّ ليس بكفارة قولُه تعالى في المحاربين : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وظاهره أنَّه تجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة . ويُجابُ عنه بأنَّه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة ، ولا يلزم اجتماعهما ، وأما استثناء (( من تاب )) فإنَّما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة ، فإنَّ عقوبة الآخرة تسقط بالتوبةِ قبل القُدرة وبعدها .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ومن أصابَ شيئاً مِنْ ذلك ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له )) صريحٌ في أنَّ هذه الكبائر من لقي الله بها كانت جتحتَ مشيئتِهِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرها ولا تمحوها ، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على الفرائض ، لاسيما مَنْ بايعهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنُّصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة على أنَّ من تابَ إلى الله ، تاب الله عليه ، وغفر له ، فبقى مَنْ لم يتُبْ داخلاً تحت المشيئة .
وأيضاً ، فيدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفِّرُها الأعمالُ : إنَّ الله لم يجعلْ للكبائر في الدُّنيا كفَّارةً واجبةً ، وإنَّما جعلَ الكفارةَ للصغائر ككفَّارةِ وطءِ المُظاهِرِ ، ووطءِ المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمامُ أحمد وغيرُه ، وكفارة من ترك شيئاً من واجبات الحج ، أو ارتكاب بعضَ محظوراته ، وهي أربعةُ أجناس : هديٌ ، وعِتقٌ ، وصدقةٌ ، وصيامٌ ، ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمدِ عندَ جمهور العلماءِ ، ولا في اليمين الغموس أيضاً عند أكثرهم ، وإنَّما يؤمرُ القاتلُ بعتق رقبة استحباباً ، كما في حديث واثلة بن الأسقع : أنَّهم جاؤوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صاحبٍ لهم قد أوجب ، فقال : (( اعتِقُوا عنه رقبةً يعتقه الله بها مِن النار )) . ومعنى أوجب : عَمِلَ عملاً يجب له به النارُ ، ويقال : إنَّه كان قتل قتيلاً . وفي " صحيح مسلم "عن ابنِ عمر : أنَّه ضربَ عبداً له ، فأعتقه وقال : ليس لي فيه مِنَ الأجر مثل هذا - وأخذ عوداً من الأرض - إني سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( مَنْ لَطَمَ مملوكَه ، أو ضربه ، فإنَّ كفَّارتَه أنْ يَعتِقَهُ )) .
فإنْ قيل : فالمجامِعُ في رمضان يُؤمَرُ بالكفَّارةِ ، والفطرُ في رمضان مِنَ الكبائرِ ، قيل : ليست الكفارة للفطر ، ولهذا لا يجب عندَ الأكثرين على كلِّ مفطر في رمضان عمداً ، وإنَّما هي لِهَتْكِ حُرمةِ نهار رمضان بالجماع ، ولهذا لو كان مفطراً فطراً لا يجوزُ له في نهار رمضان ، ثمَّ جامع ، للزمته الكفارةُ عند الإمام أحمد لما ذكرنا .
وممَّا يدلُّ على أنَّ تكفيرَ الواجبات مختصٌّ بالصَّغائر ما خرَّجه البخاري عن حُذيفة ، قال : بَيْنا نحن جلوسٌ عند عمرَ ، إذ قال : أيُّكم يحفظُ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة ؟ قال : قلتُ : (( فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه يُكَفِّرُها الصلاةُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر )) قال : ليس عن هذا أسألك . وخرَّجه مسلم بمعناه ، وظاهر هذا السياق يقتضي رفعَه ، وفي رواية للبخاري أنَّ حذيفة قال : سمعتُه يقول : (( فتنة الرجل )) فذكره ، وهذا كالصريح في رفعه ، وفي روايةٍ لمسلم أنَّ هذا من كلام عمر .
وأما قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له : أصبتُ حدَّاً ، فأقمه عليَّ ، فتركه حتى صلى ، ثم قال له : (( إنَّ الله غفر لك حَدَّك )) ، فليس صريحاً في أنَّ المراد به شيءٌ مِنَ الكبائر ؛ لأنَّ حدود الله محارمه كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه } وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } ، وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } الآية إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
وفي حديث النواس بن سمعان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم الذي على جنبتيه سُوران ، قال : (( والسورانِ حُدودُ الله )) . وقد سبق ذكره بتمامه .
فكلُّ من أصاب شيئاً من محارم الله، فقد أصابَ حدودَه ، وركبها ، وتعدَّاها . وعلى تقدير أنْ يكونَ الحدُّ الذي أصابه كبيرةً ، فهذا الرجل جاء نادماً تائباً ، وأسلم نفسه إلى إقامةِ الحدِّ عليه ، والنَّدمُ توبة ، والتوبةُ تُكفِّرُ الكبائرَ بغير تردُّدٍ ، وقد رُوي ما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر تكفرُ ببعض الأعمال الصالحة ، فخرَّجَ الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديث ابن عمر : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، إني أصبتُ ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ قالَ : (( هل لك مِنْ أمٍّ ؟ )) قالَ : لا ، قالَ : (( فهل لك من خالةٍ ؟ )) قال : نعم ، قال : (( فبِرَّها )) ، وخرَّجه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم ، وقال : على شرط الشيخين ، لكن خرَّجه الترمذي من وجهٍ آخر مرسلاً ، وذكر أنَّ المرسلَ أصحُّ من الموصول ، وكذا قال عليُّ بنُ المديني والدارقطني
وروي عن عمرَ أنَّ رجلاً قال له : قتلتُ نفساً ، قال : أمُّك حية ؟ قال : لا ، قال : فأبوك ؟ قال : نعم ، قال : فبِرَّه وأحسن إليه ، ثم قال عمر : لو كانت أمُّه حيَّةً فبرَّها ، وأحسن إليها ، رجوتُ أنْ لا تطعَمه النارُ أبداً . وعن ابن عباس معناه أيضاً .
وكذلك المرأة التي عَمِلَت بالسحر بدُومَة الجندلِ ، وقدمت المدينةَ تسألُ عن
توبتها ، فوجدت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد توفي ، فقال لها أصحابُه : لو كان أبواك حَيَّيْنِ أو أحدهما كانا يكفيانك . خرَّجه الحاكم وقال : فيه إجماعُ الصحابة حِدْثَان وفاةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ برَّ الأبوين يكفيانها . وقال مكحول والإمام أحمد : بِرُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر . وروي عن بعض السَّلف في حمل الجنائز أنَّه يَحطُّ الكبائر ، وروي مرفوعاً من وجوهٍ لا تَصِحُّ .
وقد صحَّ من رواية أبي بُردة أنَّ أبا موسى لما حضرته الوفاةُ قال : يا بَنِيَّ ، اذكروا صاحبَ الرَّغيف : كان رجلٌ يتعبَّدُ في صومعةٍ أُراه سبعينَ سنة ، فشبَّه الشيطانُ في عينه امرأةً ، فكان معها سبعةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ ، ثم كُشِفَ عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً، ثمَّ ذكر أنَّه باتَ بين مساكين ، فتُصُدِّقَ عليهم برغيف رغيف ، فأعطوه رغيفاً ، ففقده صاحبُه الذي كان يُعطاه ، فلمَّا علم بذلك ، أعطاه الرغيفَ وأصبح ميتاً ، فوُزِنَتِ السَّبعونَ سنة بالسَّبع ليال ، فرجحت الليالي ، ووُزِنَ الرَّغيفُ بالسَّبع اللَّيال ، فرجح الرغيف .
وروى ابنُ المبارك بإسناده في كتاب " البر والصلة " عن ابن مسعود ،
قال : عبَدَ اللهَ رجلٌ سبعين سنةً ، ثم أصابَ فاحشةً ، فأحبطَ الله عملَه ، ثم
أصابته زَمَانةٌ وأُقْعِدَ ، فرأى رجلاً يتصدَّقُ على مساكين ، فجاء إليه ، فأخذ
منه رغيفاً ، فتصدَّقَ به على مسكينٍ ، فغفرَ الله له ، وردَّ عليه عملَ سبعين
سنة .
وهذه كلُّها لا دِلالةَ فيها على تكفير الكبائر بمجرَّد العمل ؛ لأنَّ كلَّ من ذكر فيها كان نادماً تائباً من ذنبه ، وإنَّما كان سؤاله عن عملٍ صالح يتقرَّب به إلى الله بعد التوبة حتّى يمحوَ به أثَرَ الذنب بالكلية ، فإنَّ الله شرط في قبول التوبة ومغفرةِ الذنوب بها العملَ الصالح ، كقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ، وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ، وقوله : { فَأَمَّا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } ، وفي هذامتعلَّقٌ لمن يقول : إنَّ التائب بعد التوبة في المشيئة ، وكان هذا حال كثير مِنَ
الخائفين مِنَ السَّلف . وقال بعضهم لرجلٍ : هل أذنبت ذنباً ؟ قال : نعم ، قال : فعلمتَ أنَّ الله كتبه عليك ؟ قال : نعم ، قال : فاعمل حتّى تعلمَ أنَّ الله قد محاه . ومنه قولُ ابن مسعود : إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه في أصل جبل يخاف أنْ يقع
عليه ، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبَه كذُبابٍ طار على أنفه ، فقال به هكذا . خرَّجه البخاري.
وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم ، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك ، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف ، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة .
قال الحسن: أدركتُ أقواماً لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أمِنَ لِعظم الذنب في نفسه. وقال ابنُ عون : لا تَثِقْ بكثرة العمل ، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا ، ولا تأمن ذنوبك ، فإنَّك لا تدري كُفِّرَتْ عنك أم لا ، إنَّ عملك مُغَيَّبٌ عنك كله .
والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة - أعني : مسألة تكفير الكبائر بالأعمال - أنَّه إنْ أُريدَ أنَّ الكبائر تُمحى بمجرَّد الإتيان بالفرائضِ ، وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تُكفَّرُ الصَّغائر باجتناب الكبائر ، فهذا باطلٌ .
وإنْ أريدَ أنَّه قد يُوازن يومَ القيامة بين الكبائر وبينَ بعض الأعمال ، فتُمحى
الكبيرة بما يُقابلها من العمل ، ويَسقُطُ العمل ، فلا يبقى له ثوابٌ ، فهذا قد يقع .
وقد تقدَّم عن ابنِ عمرَ أنَّه لمَّا أعتق مملوكَه الذي ضربه ، قال : ليس لي فيه مِنَ الأجر شيءٌ ، حيث كان كفارةً لذنبه ، ولم يكن ذنبُه مِنَ الكبائر ، فكيف بما كان من الأعمال مكفراً للكبائر ؟
وسبق أيضاً قولُ مَنْ قالَ مِنَ السَّلف : إنَّ السيئة تمحى ، ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل ، فإذا كانَ هذا في الصغائر ، فكيف بالكبائر ؟ فإنَّ بعضَ الكبائر قد يُحبِطُ بعضَ الأعمال المنافية لها ، كما يُبطل المنُّ والأذى الصدقةَ ، وتُبطلُ المعاملة بالرِّبا الجهادَ كما قالت عائشة . وقال حذيفةُ : قذفُ المحصنة يَهْدِمُ عملَ مئة سنة ، وروي عنه مرفوعاً خرَّجه البزار ، وكما يبطل ترك صلاة العصر العمل ، فلا يستنكر أنْ يبطل ثواب العمل الذي يكفر الكبائر .
وقد خرَّج البزار في "مسنده" والحاكم من حديث ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( يُؤتَي بحسناتِ العبد وسيِّئاتِه يَوْمَ القيامة، فَيُقص أو يُقضى بعضُها من بعض، فإنْ بقيت له حسنةٌ ، وُسِّعَ له بها في الجنة )) .
وخرَّج ابنُ أبي حاتم من حديث ابن لَهيعة ، قال : حدَّثني عطاءُ بنُ دينار ، عن سعيد بن جُبير في قولِ الله - عز وجل - : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ، قال : كان المسلمون يرون أنَّهم لا يُؤجرون على الشَّيءِ القليلِ إذا أعطوه ، فيجيءُ المسكينُ ، فيستقلُّون أنْ يُعطوه تمرةً وكِسرة وجَوزةً ونحو ذلك ، فيردُّونه ، ويقولون : ما هذا بشيء ، إنَّما نُؤجر على ما نُعطي ونحن نحبُّه ، وكان آخرون يرون أنَّهم لا يُلامون على الذَّنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنَّما وعد الله النار على الكبائر ، فرغَّبهم الله في القليل من الخير أنْ يعملوه ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكثُرَ ، وحذَّرهم اليسيرَ من الشرِّ ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكْثُرَ ، فنَزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ، يعني : وزن أصغر النمل { خَيْراً يَرَه } يعني : في كتابه ، ويَسُرُّهُ ذلك قال : يُكتب لكلِّ برٍّ وفاجر بكلِّ سيئةٍ سيئة واحدة ، وبكلِّ حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يومُ القيامة ، ضاعف الله حسناتِ المؤمن أيضاً بكلِّ واحدةٍ عشراً ، فيمحو عنه بكلِّ حسنةٍ عشرَ سيئات ، فمن زادت حسناتُه على سيئاتِه مِثقالَ ذرَّةٍ ، دخل الجنة .
وظاهرُ هذا أنَّه تقع المقاصةُ بين الحسناتِ والسيئات ، ثم تسقط الحسناتُ المقابلة للسيئات ، ويُنظر إلى ما يَفضُلُ منها بعدَ المقاصة ، وهذا يُوافق قولَ مَنْ قال بأنَّ من رَجَحَتْ حسناتُه على سيئاته بحسنة واحدةٍ أُثيب بتلك الحسنة خاصة ، وسَقَطَ باقي حسناته في مقابلة سيئاته ، خلافاً لمن قال : يُثاب بالجميع ، وتسقُط سيئاتُه كأنَّها لم تكن ، وهذا في الكبائر ، أمَّا الصغائر ، فإنَّه قد تُمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا أدُلُّكُم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفعُ به الدرجات : إسباغُ الوضوء على المكاره ، وكثرَةُ الخُطا إلى المساجد ، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصلاة )) فأثبت لهذه الأعمال تكفيرَ الخطايا ورَفْعَ الدَّرجات، وكذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ قَالَ : لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير مئة مرَّةٍ ، كتبَ الله له مئة حسنةٍ، ومُحيت عنه مئة سيئة ، وكانت له عَدْلَ عشر رقاب )) ، فهذا يدلُّ على أنَّ الذكر يمحو السيئات ، ويبقى ثوابُه لِعامله مضاعفاً .

، فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : " مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ "(1)
فَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ . كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)(2)
__________
(1) - أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده برقم(8949) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لَمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ » وهو صحيح
وهو في مسلم برقم(574 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ».
(2) - وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 926)
اجتناب الشئ معناه : المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت فى جانب وهو فى جانب آخر ولا تلاقى بينكما .
وكبائر الذنوب : ما عظم منها ، وعظمت العقوبة عليه . كالشرك ، وقتل النفس بغير حق ، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات .
والسيئات : جمع سيئة وهى الفعلة القبيحة ، وسميت بذلك؛ لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا .
والمراد بالسيئات هنا : صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر .
والمعنى : إن تتركوا - يا معشر المؤمنين - كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عن اقترافها ، { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أى نسترها عليكم ، ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم ، ورحمة بكم .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أى وندخلكم فى الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التى وعد الله بها عباده الصالحين . فهى مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه .
والمدخل - بضم الميم - كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإِدخال ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما .
ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه ، وعلى المفعولية عند الأخفش .
وقرأ نافع { مَّدْخَلاً } - بفتح الميم - على أنه اسم مكان للدخول ، ويجوز أن يكون مصدرا ميما . أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما
هذا ، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله - تعالى - لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب ، وصدقوا فى توبتهم إليه .
كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر؛ لأن هذه الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب المعبر عنها بقوله - تعالى - : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . ولأن الله - تعالى - يقول فى موضع آخر { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } قال الآلوسى ما ملخصه : واختلفوا فى حد الكبيرة على أقوال منها : أنها كل معصية أوجبت الحد . ومنها : أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته .
وقال الواحدى : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها . ولكن الله - تعالى - أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجنب الكبائر . ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى ، وليلة القدر . وساعة الإِجابة .
وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد . فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله - تعالى - من أول هذه السورة إلى هنا . وقيل هى سبع بدليل ما جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله - تعالى - والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل ما اليتيم ، وأكل الربا ، والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
فإن قيل : جاء فى روايات أخرى أن من الكبائر " اليمين الغموس " و " قول الزور " و " عقوق الوالدين "؟ قلنا فى الجواب : إن ذلك محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه - فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن .
والذى نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ، وأن الصغائر يغفرها الله لعاده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله ، وأن الكبائر هى ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا ، وتوعد مرتكبها بسوء المصير ، كالإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التى يؤدى ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتى ورد النهى عنها فى كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . وأن الصغائر ، هى الذنوب اليسيرة التى يتركبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة بها أو مداومة عليها ، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله إذ يقول : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } ولقد فتح الله - تعالى - لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من رحمته فقال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً }
وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 107)
ما أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف؛ وهذه التكاليف؛ لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسبُ هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله؛ وأن تخلص حقاً في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر- وهي واضحة ضخمة بارزة؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . وعدهم من { المتقين } .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1336)
فيه مسألتان :
الأُولى لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثامٍ هي كبائر ، وعَدَ على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودلّ هذا على أن في الذنوب كبائرَ وصغائرَ . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللّمسة والنظرة تُكفَّر باجتناب الكبائر قَطْعاً بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدّم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } ، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أُخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض . روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر " وروى أبو حاتم البُسْتيّ في صحيح مسنده عن " أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات ، ثم سكت فأكبّ كل رجل منا يبكي حزيناً ليَمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : «ما من عبد يؤدّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفّق» ثم تلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } " فقد تعاضد الكتاب وصحيحُ السنة بتكفير الصغائر قطعاً كالنظر وشِبهه . وبيّنت السنة أن المراد ب { تَجْتَنِبُواْ } ليس كلّ الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم . وأما الأُصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوّة الرّجاء والمشيئةُ ثابتةٌ . ودلّ على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفيرَ صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألاّ تِباعة فيه ، وذلك نقض لعُرَى الشريعة . ولا صغيرة عندنا . قال القُشيريّ عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعاً من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قلت : وأيضاً فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : لا تنظرْ إلى صِغر الذنب ولكن انظر من عصيت كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا النحو يخرّج كلام القاضي أبي بكر بن الطيّب والأُستاذ أبي إسحاق الأسفرايني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم؛ قالوا : وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقُبْلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا يُغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر؛ لقوله تعالى :{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] واحتجوا بقراءة من قرأ " إنْ تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ مَا تنْهَوْنَ عَنْهُ " على التوحيد؛ وكبير الإثم الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآيةُ التي قيّدت الحكم فتردّ إليها هذه المطلَقات كلها قولُه تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } . واحتجوا بما رواه مُسلم وغيرهُ عن أبي أُمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " «مَن اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة» فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال : «وإن كان قضيباً من أَرَاك» " فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كلّ ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية؛ وتصديقُه قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } . وقال طاوس : قيل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جُبير : قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربع : اليأس من رَوح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والشِّرك بالله؛ دل عليها القرآن . وروي عن ابن عمر : هي تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورَمْي المحصَنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفِرار من الزّحف ، والسحر ، والإلحاد في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القِمار والسرقة وشرب الخمر وسَبّ السَّلَف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه بأن يسُبّ رجلاً فيَسُبّ ذلك الرجلُ أبويه والسعي في الأرض فساداً ؛ إلى غير ذلك مما يكثر تَعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرّجها الأئمة ، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملةً وافرة . وقد اختلف الناس في تَعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ، والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صِحاح وحِسان لم يُقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يُغفر لنصّ الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله؛ لأن فيه تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] وهو يقول : لا يغفر له؛ فقد حَجَر واسعاً . هذا إذا كان معتقداً لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] . وبعده القنوط؛ قال الله تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } [ الحجر : 56 ] . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتّكل على رحمة الله من غير عمل؛ قال الله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] . وقال تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين } [ فصلت : 23 ] وبعده القتل؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدامَ الوجود ، واللِّواطُ فيه قطع النَّسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه ، والخَمرُ فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة والأذان فيه تركُ إظهار شعائر الإسلام ، وشهادةُ الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بيّن الضرر؛ فكلّ ذنب عظّم الشرْع التوعُّدَ عليه بالعقاب وشدّده ، أو عظّم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .
الثانية قوله تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين «مُدخلا» بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخَلا ، ودّل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السّجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة؛ فقلت له : كيف؟ قال : يقول الله عز وجل { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين . وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنّة تُغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدّم . وقد يُغفر لمن مات عليها من المسلمين؛ كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } الآية والمراد بذلك من مات على الذنوب فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى إذ التائب من الشرك أيضاً مغفور له . ورُوي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعاً قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } وقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] ، وقوله تعالى : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : 40 ] وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } [ النساء : 152 ] . وقال ابن عباس؛ ثمان آيات في سورة النساء ، هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، الآية ، { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } [ النساء : 147 ] الآية .
وفي تفسير الرازي - (ج 5 / ص 179)
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ، فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام ، أو جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه :
الحجة الأولى : هذه الآية ، فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر .
الحجة الثانية : قوله تعالى : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 53 ] وقوله : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
الحجة الثالثة : ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : « الكبائر : الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس » وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر .
الحجة الرابعة : قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة : أولها : الكفر ، وثانيها : الفسوق . وثالثها : العصيان ، فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي العصيان . واحتج ابن عباس بوجهين : أحدهما : كثرة نعم من عصى . والثاني : إجلال من عصى ، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية ، كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ النحل : 18 ] وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة .
والجواب من وجهين : الأول : كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب . الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت . إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين .
أما القول الأول : فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ، ونحن نشير إلى بعضها ، فالأول : قال ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف . الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك :{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] الثالث : قال قوم : كل عمد فهو كبيرة . واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة .
أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه .
وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة .
وأما الثالث : فضعيف أيضا ، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه ، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة . وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها .
وأما القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب ، فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ، لأنه تعالى قال : { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } [ الشورى : 7 ] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير .
والقسم الثاني : أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير .
والقسم الثالث : أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة . وهذا قول جمهور المعتزلة .
واعلم أن هذا الكلام مبني علىأصول كلها باطلة عندنا . أولها : أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا اذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب ، وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر ، فان أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد ، وثالثها : أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضاً باطل . ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة ، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق .
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا : إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة ، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالاقدام على تلك الصغائر ، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة ، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه . قالوا : ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جميع الأوقات . والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا ، فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة ، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :" ما تعدون الكبائر " فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : " الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات " وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها : استحلال آمين البيت الحرام ، وشرب الخمر ، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها : القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله . وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ، ثم قال : هي إلى السبعين أقرب . وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام .
وأجاب أصحابنا عنه من وجوه : الأول : أنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث أنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل . لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه آيات : إحداها : قوله : { واشكروا الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد . وثانيها : قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك . وثالثها : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } [ البقرة : 282 ] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا . ورابعها : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده . وخامسها : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] والاكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن . وسادسها : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء } [ النساء : 3 ] والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل ، وسابعها : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] والقصر جائز ، سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين ، وتاسعها : قوله :{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } [ النساء : 35 ] وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل . وعاشرها : قوله : { إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } [ النساء : 35 ] وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما ، والحادي عشر : قوله : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة «إن» على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي .
الوجه الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الاصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين : الأول : أن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز . الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره .
والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } محمول على ما تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه . وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم .
الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول : إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي : إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه .
الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } الكفر؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وإذا كان هذا محتملا ، بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة .
ثم قال تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ المفضل عن عاصم { يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ } بالياء في الحرفين على ضمير الغائب ، والباقون بالنون على استئناف الوعد ، وقرأ نافع { مُّدْخَلاً } بفتح الميم وفي الحج مثله ، والباقون بالضم ، ولم يختلفوا في { مُدْخَلَ صِدْقٍ } بالضم ، فبالفتح المراد موضع الدخول ، وبالضم المراد المصدر وهو الادخال ، أي : ويدخلكم إدخالا كريما ، وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ } [ الفرقان : 34 ]
المسألة الثانية : أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة ، بل لا بد معه من الطاعات ، فالتقدير : ان أتيتم بجميع الواجبات ، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة ، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة . ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب ، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي ، وهو فضل الله وكرمه ورحمته ، كما قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] ، والله أعلم .

[النساء/31] }، فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ ،وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ ،فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)سورة الزلزلة }(1)
__________
(1) -وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4554)
و " المثقال " مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ القليل الذى يحتمل الوزن ، و " الذرة " تطلق على أصغر النمل ، وعلى الغبار الدقيق الذى يتطاير من التراب عند النفخ فيه . والمقصود المبالغة فى الجزاء على الأعمال مهما بلغ صغرها ، وحقر وزنها .
والفاء : للتفريع على ما تقدم . أى : فى هذا اليوم يخرج الناس من قبورهم متفرقين لا يلوى أحد على أحد . متجهين إلى موقف الحساب ليطلعوا على جزاء أعاملهم الدنيوية . . فمن كان منهم قد عمل فى دنياه عملا صالحا رأى ثماره الطيبة ، حتى ولو كان هذا العمل فى نهاية القلة ، ومن كان منهم قد عمل عملا سيئا فى دنياه ، رأى ثماره السيئة ، حتى ولو كان هذا العمل - أيضا - فى أدنى درجات القلة .
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد جمعتا أسمى وأحكم ألوان الترغيب والترهيب ، ولذا قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله - تعلى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم آيتين ، أحصتا ما فى التوراة والإِنجيل والزبور والصحف ، ثم قرأ هاتين الآيتين .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين عددا من الأحاديث ، منها : ما أخرجه الإِمام أحمد . " أن صعصعة بن معاوية ، أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هاتين الآيتين ، فقال : حسبى لا أبالى أن لا أسمع غيرها " وفى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة " .
وفى الصحيح - أيضاً - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة : " يا عائشة ، استترى من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان . يا عائشة . إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله - تعالى - طالبا " .
ومن الآيات الكريمة التى وردت فى معنى هاتين الآيتين قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يواظبون على فعل الخيرات .
وفي تفسير الرازي - (ج 17 / ص 163)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي زنة ذرة قال الكلبي : الذرة أصغر النمل ، وقال ابن عباس : إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً إلا أراه الله تعالى إياه .
المسألة الثانية : في رواية عن عاصم : { يَرَهُ } برفع الياء وقرأ الباقون : { يَرَهُ } بفتحها وقرأ بعضهم : { يَرَهُ } بالجزم .
المسألة الثالثة : في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة ، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر؟ .
واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه : أحدها : قال أحمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس له فيها شيء ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي أنه عليه السلام قال لأبي بكر : « يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة » وثانيها : قال ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً إلا أراه الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها : أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره ، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية ورابعها : أن تخصص عموم قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ونقول : المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شراً يره .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ والجواب : هذا هو الكرم ، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف ، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم ، وإن قل فالكريم لا يضيعه ، وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً ، فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة ، بل اعتبرتها ونظرت فيها ، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركباً به وصلت إلي ، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك! ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد ، فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب ، وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ، ومن ذلك ما روى عن كعب : لا تحقروا شيئاً من المعروف ، فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة .
وعن عائشة : «كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها ، فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها ، فقالت : إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية» ولعلها كان غرضها التعليم ، وإلا فهي كانت في غاية السخاوة . روي : «أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين ، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس ، فلما أمست قالت : يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز وزيت ، فقيل لها : أما أمسكت لنا درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه ، فقالت : لو ذكرتيني لفعلت ذلك» وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، ويقول ما هذا بشيء ، وإنما نؤجر على ما نعطي! وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، ويقول : لا شيء علي من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر ، فنزلت هذه الآية ترغيباً في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر ، وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ، ولهذا قال عليه السلام : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " والله سبحانه وتعالى أعلم ،
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 6198)
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } كان ابن عباس يقول : مَن يعمل من الكفار مثقال ذرّة خيراً يَرَهُ في الدنيا ، ولا يُثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عُوقب عليه في الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يَرَهُ في الدنيا ، ولا يعاقَبْ عليه في الآخرة إذا مات ، ويُتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يُقْبلْ منه ، ويضاعفْ له في الآخرة . وفي بعض الحديث : " الذرّة لا زِنة لها " وهذا مَثَلٌ ضَرَبه الله تعالى : أنه لا يُغْفِل من عمل ابن آدم صغيرةً ولا كبيرة . وهو مِثل قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] . وقد تقدم الكلام هناك في الذرّ ، وأنه لا وزن له . وذكر بعض أهل اللغة أن الذرّ : أن يضرب الرجل بيده على الأرض ، فما علِق بها من التراب فهو الذَّرّ ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق من التراب ذَرَّة . وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ : فمنْ يَعْمَل مِثقْالَ ذَرّة منْ خَيْر من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير . ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مُوْمن ، يرى عُقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شرّ . دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، وإنا لنُرَى ما عَمِلْنا من خير وشرّ؟ قال : " ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذرّ الشرّ ، ويُدَّخَر لكم مثاقيلُ ذَرّ الخير ، حتى تُعْطَوْه يومَ القِيامة " . قال أبو إدريس : إن مِصْداقه في كتاب الله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطِيه التمرة والكِسرة والجوزة . وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكَذبة والغِيبة والنظْرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يُعْطُوه؛ فإنه يوشِك أن يكثُر ، ويُحَذِّرهُمْ اليسيرَ من الذنب ، فإنه يوشِك أن يكثُر؛ وقاله سعيد بن جبير . والإِثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء .
الثانية : قراءة العامة «يَرَهْ» بفتح الياء فيهما . وقرأ الجَحْدَرِيّ والسُّلَمِيّ وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم : «يُرَهْ» بضم الياء؛ أي يُريه اللَّهُ إياه .
والأَوْلَى الاختيار؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] الآية . وسكن الهاء في قوله «يَرَه» في الموضعين هشام . وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حَيْوة والمغيرة . واختلس يعقوب والزهري والجحدرِي وشيبة . وأشبع الباقون . وقيل «يَرَه» أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعُدم فلا يُرَى . وأنشدوا :
إنّ منْ يَعْتدِي ويَكْسِبُ إِثْما ... وَزْنَ مِثْقالِ ذرّة سَيَرَاهُ
ويُجَازَى بفعله الشرَّ شرا ... وبفعل الجميلِ أيضاً جَزَاهُ
هكذا قوله تبارك ربِّي ... في إذا زُلزلت وجَل ثَناه
الثالثة : قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن؛ وصَدّق . وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لَمْ يقل به . وروى كعب الأحبار أنه قال : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحْصَتَا ما في التوراة والإنجيل والزَّبور والصُّحُف : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } . قال الشيخ أبو مَدْين في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } قال : في الحال قبل المآل . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الآية الجامعة الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحُمُر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كَرّ فيهما ولا فرّ؛ فلما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحُمُر ، لأنهم لم يكن عندهم يومئذٍ بَغْل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم «الدُّلْدُل» ، التي أهداها له المقوقِس ، فأفتاه في الحَمِير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذرّ كثيرة؛ قاله ابن العربيّ . وفي الموطأ : أن مِسْكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عِنَب؛ فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها . فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقالت : أتعجب! كم ترى في هذه الحبَة من مثقال ذرّة . وروي عن سعد بن أبي وَقَّاص : أنه تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل الذرّ ، وفي التمرتين مثاقيل ذرّ كثيرة . وروى المُطَّلب بن حَنْطَب : " أن أعرابياً سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُها فقال : يا رسول الله ، أمثقالُ ذرّة! قال : «نعم» فقال الأعرابيّ : واسَوْأَتَاه! مِراراً : ثم قام وهو يقولها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لقد دَخَلَ قلبَ الأَعْرابيّ الإيمانُ» " وقال الحسن : قَدِم صعصعة عَمّ الفرزدق على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآيات؛ قال : لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حَسْبي ، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره الثعلبي . ولفظ الماوردِيّ : ورُوي أن صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية؛ فقال صعصعة : حسبي حسبي؛ إن عَمِلتُ مِثقالَ ذرَّةٍ شَرًّا رأيتُه . ورَوى مَعمر عن زيد بن أسلم : " أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : عَلِّمني مما علمك الله . فدفعه إلى رجل يعلمه؛ فعلمه { إِذَا زُلْزِلَتِ } حتى إذا بلغ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قال : حسبي . فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «دَعُوهُ فإنَّهُ قد فَقُه» " ويحكى أن أعرابياً أخَّر «خَيْراً يَرَهُ» فقيل : قدمت وأخرت . فقال :
خذ بطنَ هَرشَى أو قَفاها فإنهُ ... كِلا جانِبي هَرْشَى لهنّ طرِيق

.
( الثَّانِي ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ }(1) .
وَفِي السُّنَنِ عَنِ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ :قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ - يَعْنِى - النَّارَ بِالْقَتْلِ فَقَالَ « أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ »(2).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ }(3)
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(1519 ) عن بِلاَلِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُنِيهِ عَنْ جَدِّى أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ » وهو صحيح .
وفي تحفة الأحوذي - (ج 8 / ص 475)
قَالَ الطِّيبِيُّ : الزَّحْفُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الَّذِي يُرَى لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا دَبَّ عَلَى اِسْتِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَقَالَ الْمُظْهِرُ هُوَ اِجْتِمَاعُ الْجَيْشِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ أَيْ مِنْ حَرْبِ الْكُفَّارِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ بِأَنْ لَا يَزِيدَ الْكُفَّارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَوَى التَّحَرُّفَ وَالتَّحَيُّزَ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 59)
وَمِنْ أَوْضَح مَا وَقَعَ فِي فَضْل الِاسْتِغْفَار مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ حَدِيث يَسَار وَغَيْره مَرْفُوعًا " مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِر اللَّه الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم وَأَتُوب إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبه وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْف " قَالَ أَبُو نُعَيْم الْأَصْبِهَانِيّ : هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَعْض الْكَبَائِر تُغْفَر بِبَعْضِ الْعَمَل الصَّالِح ، وَضَابِطه الذُّنُوب الَّتِي لَا تُوجِب عَلَى مُرْتَكِبهَا حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا مَال ، وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْهُ أَنَّهُ مَثَّلَ بِالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْف وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِثْله أَوْ دُونه يُغْفَر إِذَا كَانَ مِثْل الْفِرَار مِنْ الزَّحْف ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِب عَلَى مُرْتَكِبه حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا مَال .
(2) - سنن أبى داود برقم(3966 ) وهو حسن لغيره
عون المعبود - (ج 8 / ص 487)
( أَعْتِقُوا عَنْهُ ) : أَيْ عَنْ قَتْله وَعِوَضه
( بِكُلِّ عُضْو مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْعَبْد الْمُعْتَق بِفَتْحِ التَّاء
( عُضْوًا مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْقَاتِل
( مِنْ النَّار ) : مُتَعَلِّق بِيُعْتِق وَلَعَلَّ الْمَقْتُول كَانَ مِنْ الْمُعَاهَدِينَ وَقَدْ قَتَلَهُ خَطَأً وَظَنُّوا أَنَّ الْخَطَأ مُوجِب لِلنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَوْع تَقْصِير حَيْثُ لَمْ يَذْهَب طَرِيق الْحَزْم وَالِاحْتِيَاط كَذَا فِي الْمِرْقَاة .
(3) - صحيح البخارى برقم(1237 ) وصحيح مسلم برقم(282)
عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى - أَوْ قَالَ بَشَّرَنِى - أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » .
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 201)
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ )فَهُوَ حُجَّة لِمَذْهَبِ أَهْل السَّنَة أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا يُقْطَع لَهُمْ بِالنَّارِ ، وَأَنَّهُمْ إِنْ دَخَلُوهَا أُخْرِجُوا مِنْهَا وَخُتِمَ لَهُمْ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّة . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلّه مَبْسُوطًا . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 261)
قَوْله : ( فَقُلْت وَإِنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ ) قَدْ يَتَبَادَر إِلَى الذِّهْن أَنَّ قَائِل ذَلِكَ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقُول لَهُ الْمَلَك الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْقَائِل هُوَ أَبُو ذَرّ وَالْمَقُول لَهُ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُؤَلِّف فِي اللِّبَاس . وَلِلتِّرْمِذِيِّ " قَالَ أَبُو ذَرّ يَا رَسُول اللَّه " وَيُمْكِن أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ مُسْتَوْضِحًا وَأَبُو ذَرّ قَالَهُ مُسْتَبْعِدًا ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنهمَا فِي الرِّقَاق مِنْ طَرِيق زَيْد بْن وَهْب عَنْ أَبِي ذَرّ . قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : حَدِيث أَبِي ذَرّ مِنْ أَحَادِيث الرَّجَاء الَّتِي أَفْضَى الِاتِّكَال عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْجَهَلَة إِلَى الْإِقْدَام عَلَى الْمُوبِقَات ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِره فَإِنَّ الْقَوَاعِد اِسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُط بِمُجَرَّدِ الْمَوْت عَلَى الْإِيمَان ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ عَدَم سُقُوطهَا أَنْ لَا يَتَكَفَّل اللَّه بِهَا عَمَّنْ يُرِيد أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي ذَرّ اِسْتِبْعَاده . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " دَخَلَ الْجَنَّة " أَيْ صَارَ إِلَيْهَا إِمَّا اِبْتِدَاء مِنْ أَوَّل الْحَال وَإِمَّا بَعْد أَنْ يَقَع مَا يَقَع مِنْ الْعَذَاب ، نَسْأَل اللَّه الْعَفْو وَالْعَافِيَة . وَفِي هَذَا الْحَدِيث " مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر ، أَصَابَهُ قَبْل ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ " وَسَيَأْتِي بَيَان حَاله فِي كِتَاب الرِّقَاق . وَفِي الْحَدِيث أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّار ، وَأَنَّ الْكَبَائِر لَا تَسْلُب اِسْم الْإِيمَان ، وَأَنَّ غَيْر الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة . وَالْحِكْمَة فِي الِاقْتِصَار عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَة الْإِشَارَة إِلَى جِنْس حَقّ اللَّه تَعَالَى وَحَقّ الْعِبَاد ، وَكَأَنَّ أَبَا ذَرّ اِسْتَحْضَرَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن " لِأَنَّ ظَاهِره مُعَارِض لِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَر ، لَكِنَّ الْجَمْع بَيْنهمَا عَلَى قَوَاعِد أَهْل السُّنَّة بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَان الْكَامِل وَبِحَمْلِ حَدِيث الْبَاب عَلَى عَدَم التَّخْلِيد فِي النَّار . قَوْله : ( عَلَى رَغْم أَنْف أَبِي ذَرّ ) بِفَتْحِ الرَّاء وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَيُقَال بِضَمِّهَا وَكَسْرهَا ، وَهُوَ مَصْدَر رَغَمَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَكَسْرهَا مَأْخُوذ مِنْ الرَّغْم وَهُوَ التُّرَاب ، وَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُلْصَق أَنْفه بِالتُّرَابِ .
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 8 / ص 489)
باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوابه لمن قال له بعد قوله : « من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة » : وإن زنى ، وإن سرق ؟ وبقوله له : « وإن زنى ، وإن سرق »
3366 - حدثنا أبو أمية ، وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا زيد بن وهب ، قال : حدثنا والله أبو ذر بالربذة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة » قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى ، وإن سرق »
3367 - وحدثنا أبو أمية ، وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، قال : حدثني أبو صالح ، عن أبي الدرداء نحوه ، قال : قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي الدرداء » وحدثنا أبو أمية وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : قلت لزيد بن وهب ، يعني لما حدثه الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب أنه بلغني أنه أبو الدرداء ، فقال : أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة وحدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو داود ح وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي ، قالا : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن حماد ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، قال حماد : ما بيني وبين أبي ذر غيره ، قال : « انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الغرقد ، وانطلقت معه ، ثم ذكر مثل الحديث الأول سواء حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، أن أبا سليمان الجهني حدثه ، قال : حدثني أبو ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، وعبيد الله بن موسى العبسي ، قالا : حدثنا مهدي بن ميمون ، عن واصل الأحدب ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، ثم ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ، غير أنه قال : » أتاني آت من ربي عز وجل « ولم يذكر جبريل صلى الله عليه وسلم
3368 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الأشيب ، قال : حدثنا شيبان يعني النحوي ، عن منصور بن المعتمر ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن سلمة بن نعيم وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئا ، دخل الجنة وإن زنى وإن سرق »
3369 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو عمر الحوضي ، قال : حدثنا مرجى بن رجاء ، عن محمد بن الزبير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « قال جبريل عليه السلام : » من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة « قال : قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : » وإن زنى وإن سرق «
3370 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا أبو المليح ، عن يزيد بن يزيد ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : « ولمن خاف مقام ربه جنتان ( سورة : الرحمن آية رقم : 46) ، قال : يا رسول الله : وإن زنى وإن سرق ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي هريرة «
3371 - وحدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، قال : حدثنا نعيم بن حكيم ، قال : حدثني أبو مريم ، قال : سمعت أبا الدرداء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « من شهد أن لا إله إلا الله ، أو مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا ، دخل الجنة ، أو لم يدخل النار » قال : قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي الدرداء »
3372 - حدثنا أبو أمية ، قال حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا أبو عمران ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه أبي موسى أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه ، فقال : « أبشروا وبشروا من وراءكم ، أنه من قال : لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة » فخرجوا يبشرون الناس ، فلقيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبشروه ، فردهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من ردكم ؟ » فقالوا : ردنا عمر ، فقال : « لم رددتهم يا عمر ؟ » قال : إذا يتكل ( الاتكال : الاعتماد على رحمة الله والتكاسل في العمل) الناس يا رسول الله « وفيما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب ما يغني عن الكلام في هذا الباب غير أنا نأتي في هذا الباب بمعنى فيه توكيد ما جئنا به في ذلك الباب إن شاء الله وهو أنه إذا كان من قال : » لا إله إلا الله « قد قالها عارفا بما يجب على أهلها ، فقد قالها وهو عارف بمقام الله عز وجل وبما يرجوه أهلها عند خوفهم خلافه والخروج عن أمره ، وفي ذلك ما يدل على أن حال الزنى وحال السرقة اللذين كانا منه قد زال عنهما إلى ضدهما على ما قد ذكرنا في ذلك الباب الأول ، ودل على ذلك أيضا ما في حديث أبي موسى الذي ذكرناه في هذا الباب أنه من قال : لا إله إلا الله صادقا بها وكان معنى قوله : » صادقا بها « والله أعلم أي : موفيا لها حقها ، وقد ذكرنا في هذا الباب أيضا حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة : ولمن خاف مقام ربه جنتان (سورة : الرحمن آية رقم : 46) ، وقد كان الباب الأول أولى به ، فذهب عنا ذكره هناك ، فذكرناه هاهنا ؛ لأن البابين جميعا من جنس واحد وقد سأل سائل عن معنى قول الله : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( سورة : الفرقان آية رقم : 70) ، ما قيل في ذلك ؟ فكان جوابنا له في ذلك والله عز وجل نسأله التوفيق أن الذي وجدناه عن المتقدمين فيه :
3373 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( سورة : الفرقان آية رقم : 70) ، قال : « الإيمان مكان الكفر » والذي وجدناه مما يقوله أهل العربية فيه أن ذلك على الحذف ، وأنه بمعنى : أولئك الذين يبدل الله مكان سيئاتهم حسنات ، فحذف ، كمثل قوله عز وجل : واسأل القرية التي كنا فيها ( سورة : يوسف آية رقم : 82) ، بمعنى : واسأل أهل القرية التي كنا فيها ، فحذف ذكر أهل القرية ، وهم المرادون ، والله أعلم ، وبه التوفيق
وفي تأويل مختلف الحديث - (ج 1 / ص 49)
قالوا: حديثان متناقضان، قالوا: رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ثم رويتم أنه قال: من قال لا غله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق. وفي هذا تناقض واختلاف.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس ههنا بنعمة الله تناقض ولا اختلاف لأن الإيمان في اللغة التصديق يقول الله تعالى: " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " أي بمصدق لنا ومنه قول الناس ما أومن بشيء مما تقول أي ما أصدق به. والموصوف بالإيمان ثلاثة نفر رجل صدق بلسانه دون قلبه كالمنافقين فيقول قد آمن كما قال الله تعالى في المنافقين: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " وقال: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى " ثم قال: " من آمن منهم بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولو كان أراد بالذين آمنوا ههنا المسلمين لم يقل: " من آمن بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وإنما أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم والذين هادوا والنصارى ولا نقول له مؤمن كما أنا لا نقول للمنافقين مؤمنون وإن قلنا قد آمنوا لأن إيمانهم لم يكن عن عقد ولا نية وكذلك نقول لعاصي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عصى وغوى ولا نقول عاص ولا غاو لأن ذنبه لم يكن عن إرهاص ولا عقد كذنوب أعداء الله عز وجل.
ورجل صدق بلسانه وقلبه مع تدنس بالذنوب وتقصير في الطاعات من غير إصرار فنقول: قد آمن وهو مؤمن ما تناهى عن الكبائر فإذا لا بسها لم يكن في حال الملابسة مؤمناً يريد مستكمل الإيمان. ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن يريد في وقته ذلك لأنه قبل ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن وبهد ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن تائب ومما يزيد في وضوح هذا الحديث الآخر إذا زنى سلب الإيمان فإن تاب ألبسه.
ورجل صدق بلسانه وقلبه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر فذلك المؤمن حفاً المستكمل شرائط الإيمان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه يريد ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن من لم يأمن المسلمون من لسانه ويده أي ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن ن بات شبعان وبات جاره طاوياً أي لم يستكمل الإيمان. وهذا شبيه بقوله: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه يريد لا كمال وضوء ولا فضيلة وضوء. وكذلك قول عمر رضي الله عنه: لا إيمان لمن لم يحج. يريد لا كمال إيمان والناس يقولون فلان لا عقل له. يريدون ليس هو مستكمل العقل ولا دين له أي ليس بمستكمل الدين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق فإنه لا يخلو من وجهين أحدهما أن يكون قاله على العاقبة يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة وإن عذب بالزنا والسرقة. والآخر أن تلحقه رحمة الله تعالى وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله. حدثني إسحق بن إبراهيم ابن حبيب بن الشهيد عن أبيه عن جده عن الحسن أنه قال: لا إله إلا الله ثمن الجنة. وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال: أنا عمر بن علي عن موسى ابن المسيب الثقفي قال: سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن المعرور بن سويد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول ربكم ابن آدم إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا تشرك بي شيئاً جعلت لك قرابها مغفرة ولا أبالي. وحدثني أبو مسعود الدرامي هو من ولد خراش قال: حدثني جدي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر لعلكم ترون أن شفاعتي للمتقين لا ولكنها للمتلطخين بالذنوب.

أقسام الكتاب
1 2 3