كتاب:الصفدية
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

كتاب الصفدية لابن تيمية أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم

بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام بقية العصر قدوة الخلف تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبدالحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبدالسلام بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه عن رجل مسلم يقول أن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا الكلام وهو قول القائل أن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية باطل بل هو كفر يستتاب قائله ويبين له الحق فإن أصر على اعتقاده بعد قيام الحجة الشرعية عليه كفر وإذا أصر على إظهاره بعد الاستتابة قتل وهو من كلام طائفة من المتفلسفة والقرامطة

الباطنية والإسماعيلية ونحوهم كابن سينا وأمثاله وأصحاب رسائل إخوان الصفا والعبيدين الذين كانوا بمصر من الحاكمية وأشباههم وهؤلاء كانوا يتظاهرون بالتشيع وهم في الباطن ملاحدة ويسمون القرامطة والباطنية وغير ذلك

وأهل بيت ابن سينا كانوا من أتباع هؤلاء وأبوه وجده من أهل دعوتهم وبسبب ذلك دخل في مذاهب الفلاسفة فإن هؤلاء يتظاهرون باتباع الملل ويدعون أن للملة باطنا يناقض ظاهرها ثم هم في هذه الدعوة على درجات فالواصلون منهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم مثل قرامطة

البحرين أتباع الجنابي وأصحاب الألموت وسنان الذي كان بالشام وأمثالهم لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس ولا الزكاة ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت العتيق ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الخمر والميسر والزنا وغير ذلك ويزعمون أن هذه النصوص لها

تأويل وباطن يخالف الظاهر المعلوم للمسلمين فالصلاة عندهم معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وأمثال ذلك وقد يقولون أن هذه الفرائض تسقط عن الخاصة دون العامة وأما النصوص التي في المعاد وفي أسماء الله وصفاته وملائكته فدعواهم فيها أوسع وأكثر وقد دخل في كثير من أقوالهم في العلوم أو في العلوم والأعمال طائفة من المنتسبين إلى التصوف والكلام وكلام ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من ملاحدة المتصوفة يرجع إلى قول هؤلاء وهؤلاء الملاحدة من المتفلسفة والقرامطة ومن وافقهم يقولون أن النبوة لها ثلاث خصائص من قامت به فهو نبي والنبوة عندهم لا تنقطع بل يبعث الله بعد كل نبي نبيا دائما وكثير منهم يقول أنها مكتسبة وكان السهروردي

المقتول منهم يطلب أن يصير نبيا وكذلك ابن سبعين كان يطلب أن يصير نبيا وكانوا يعلمون من السحر والسيماء ما يضلون من يلبسون عليه الخاصة الأولى أن تكون له قوة قدسية وهي قوة الحدس بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره إلا بكلفة شديدة وقد يعبرون عن ذلك بأنه يدرك الحد الأوسط من غير احتياج إلى ما يحتاج إليه من ليس مثله وحاصل الأمر أنه أذكى من غيره وأن العلم عليه أيسر منه على غيره الخاصة الثانية قوة التخييل والحس الباطن بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صورا نورانية هي عندهم ملائكة الله ويسمع في نفسه أصواتا هي عندهم كلام الله من جنس ما يحصل للنائم في منامه ومن جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة ومن

جنس ما يحصل لبعض الممرورين الذين يصرعون ويقولون إن ما أخبرت به الرسل من أمور الربوبية واليوم الآخر إنما هو تخييل وأمثال مضروبة لا أنه إخبار عن الحقائق على ما هي عليه الخاصة الثالثة أن تكون له قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي العالم كما أن العائن له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين ويزعمون أن خوارق العادات التي للأنبياء والأولياء هي من هذا النمط وأصل أمر هؤلاء أنهم لا يثبتون لصانع العالم مشيئة واختيارا وقدرة بها يقدر على تغيير العالم وتحويله من حال إلى حال بل وأئمتهم لا يثبتون علمه بتفاصيل أحوال العالم بل منهم من يقول لا يعلم شيئا ومنهم من يقول لا يعلم إلا نفسه ومنهم من يقول يعلم الجزئيات على وجه كلي وهذا اختيار ابن سينا وهو أجود أقوالهم مع تناقض هذا القول وفساده

فإن كل موجود في الخارج هو موجود معين جزئي والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ونفس الصانع موجود واجب معين ليس هو كليا وكذلك أيضا الصادر عنه كالأفلاك وكالعقول والنفوس التي يثبتونها فإن كان لا يعلم إلا كليا لم يعلم نفسه ولا الصادر عنه ولا الأفلاك وأيضا فلا يوجد إلا ما هو جزئي فإن كان لا يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات وهم يقولون أنه علة تامة مستلزمة للعالم والعالم متولد عنه تولدا لازما بحيث لا يمكن أن ينفك عنه لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وقولهم أن النفوس والعقول معلولة له ومتولدة عنه أعظم كفرا من قول من قال من مشركي العرب أن الملائكة بنات الله قال الله تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون سورة الأنعام 100 وهؤلاء المتفلسفة يقولون العقل بمنزلة الذكر والنفس بمنزلة الأنثى وكلاهما متولد عن الله تعالى وأولئك كانوا يقولون أنه خلق الملائكة بمشيئته وقدرته وأنه هو رب السماوات والأرض وأما هؤلاء فيقولون أن العقول التي يسميها من يتظاهر بالإسلام منهم ملائكة يقولون أنها معلولة متولدة عن الله لم

يخلقها بمشيئته وقدرته ويقولون أنها هي رب العالم فالعقل الأول أبدع كل ما سوى الله عندهم والثاني أبدع ما سوى الله وسوى العقل الأول حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الفعال المتعلق بفلك القمر فيقولون أنه أبدع ما تحت الفلك فهو عندهم المبدع لما تحت السماء من هواء وسحاب وجبال وحيوان ونبات ومعدن ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء وغيرهم والخطاب الذي سمعه موسى إنما كان عندهم في نفسه لا في الخارج وهو فيض فاض عليه من هذا العقل الفعال ومنهم من يقول جبريل فلما كان أصل قولهم أن صانع العالم لا يمكنه تغيير العالم ولا له قدرة ولا اختيار في تصريفه من حال إلى حال جعلوا يريدون أن ينسبوا جميع الحوادث إلى أمور طبيعية ليطرد قولهم ويسلم عن التناقض وهو قول فاسد متناقض في نفسه وذلك أنا نشاهد الحوادث التي تحدث مثل حركات الكواكب وطلوع الشمس والقمر ومثل المطر والسحاب وهبوب الرياح وحدوث الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك من الحوادث

فإذا كان أصل قولهم أن الصانع هو موجب بالذات وهو علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لم يتأخر عنها شيء من معلولها فإن العلة التامة هي التي تستلزم معلولها والموجب بالذات هو الذي تكون ذاته مستلزمة لموجبه ومقتضاه فلا يجوز أن يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله ولهذا قالوا بقدم العالم وهذا أعظم حججهم على قدم العالم قالوا لأن الحادث بعد أن لم يكن لا بد له من سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح ثم القول في ذلك السبب الحادث كالقول فيما قبله فيلزم التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل يلزم الدور الممتنع بخلاف التسلسل المتنازع فيه فإن وجود الحوادث دائما بلا ابتداء ولا انتهاء للناس من المسلمين وغيرهم فيه ثلاثة أقوال قيل يجوز مطلقا وهذا قول أئمة السنة والحديث وأساطين الفلاسفة لكن المسلمون وسائر أهل الملل وجمهور العقلاء من جميع الطوائف يقولون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وإن قال منهم من قال بدوام الحوادث شيئا بعد شيء

وقيل لا يجوز لا في الماضي ولا في المستقبل وهو قول الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وقيل يجوز في المستقبل دون الماضي وهو قول أكثر أتباع جهم وأبي الهذيل من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم وأما تسلسل العلل أو الفاعلين أو ما هو من تمام الفاعل أو العلة الفاعلة فممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لفاعل العالم فاعل ولذلك الفاعل فاعل وهلم جرا فهذا التسلسل قد اتفق العقلاء على امتناعه وقد بسطنا الدلائل العقلية على امتناعه في غير هذا الموضع وكذلك إذا قيل الحادث لا بد له من سبب حادث وذلك السبب لا بد له من سبب حادث فإن هذا إذا أريد به الحادث المعين لزم التسلسل في تمام الفاعلية وإن أريد به نوع الحوادث لزم الدور الممتنع

والدور نوعان أحدهما الدور القبلي السبقي فهذا ممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لا يكون هذا إلا بعد ذاك ولا يكون ذاك إلا بعد هذا فهذا ممتنع باتفاق العقلاء ونفس تصوره يكفي في العلم بامتناعه فإن الشيء لا يكون قبل كونه ولا يتأخر كونه عن كونه فلو قيل إن الشيء لا يوجد إلا بعد أن يوجد لكان هذا ممتنعا فكيف إذا قيل أنه لا يكون إلا بعد ذاك وقيل أيضا ذاك لا يكون إلا بعد هذا فإنه يلزم أن يكون قبل قبل نفسه وبعد بعد نفسه فلزم الدور الممتنع أربع مرات فإنه إذا قيل لا يكون هذا إلا بعد ذاك كان ذاك قبل هذا وإذا قيل لا يكون ذاك إلا بعد هذا كان هذا بعد ذاك لا قبله فيلزم أن لا يكون هذا إلا قبل ذاك الذي هو قبل هذا وأن لا يكون ذاك إلا قبل هذا الذي هو قبل ذاك فيكون ذاك قبل ذاك بمرتبتين ويكون هذا قبل هذا بمرتبتين فلهذا اتفق العقلاء على امتناع هذا وأما الدور المعي الاقتراني مثل أن يقال لا يكون هذا إلا مع ذاك لا قبله ولا بعده فهذا جائز كما إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع البنوة وقيل أن صفات الرب اللازمة له لا تكون إلا مع ذاته وعلمه مع حياته وقدرته مع علمه ونحو ذلك

فإذا قيل إن جنس الحوادث لا يحدث إلا بسبب حادث كان المعنى أنه لا يكون شيء من الحوادث حتى يكون حادث فلايكون حادث من الحوادث ألبتة حتى يسبقه حادث والسابق من الحوادث التي جعلت متأخرة عن هذا الحادث وجعلت الحوادث كلها بعده فيلزم أن يكون الشي قبل نفسه وأما إذا قيل لا يكون الحادث المعين حتى يكون حادث ثم ذلك الحادث لا يكون حتى يكون حادث فهذا على وجهين إن قيل لا يكون الحادث حتى يكون قبله حادث فهذا التسلسل في الآثار وفيه الأقوال الثلاثة للمسلمين وليس الخلاف في ذلك بين أهل الملل وغيرهم كما يظنه كثير من الناس بل نفس أهل الملل بل أئمة أهل الملل أهل السنة والحديث يجوزون هذا النزاع في كلمات الله وأفعاله فيقولون إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء وكلمات الله دائمة قديمة النوع عندهم لم تزل ولا تزال أزلا وأبدا وقد بسط هذا وما يناسبه في موضع آخر وذكر بعض ما في ذلك من أقوال أئمة السنة والحديث وأما ما يذكره كثير من أهل الكلام عن أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن الله لم يزل معطلا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم حدث ما حدث من كلام ومفعولات بغير سبب حادث فهذا قول لم ينطق به شيء من كتب الله لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا نقل هذا عن أحد من انبياء الله ولا قاله أحد من الصحابة

أصحاب نبينا صلى الله عليه و سلم ولا التابعين لهم بإحسان ولكن الذي نطقت به الكتب والرسل أن الله خالق كل شيء فما سوى الله من الأفلاك والملائكة وغير ذلك مخلوق ومحدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه وليس مع الله شيء قديم بقدمه في العالم لا أفلاك ولا ملائكة سواء سميت عقولا ونفوسا أو لم تسم والحديث الذي في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لما قدم عليه وقد اليمن قالوا جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض قد ذكرنا ألفاظه وطرقه وذكرنا الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على

الماء والحديث الآخر الذي رواه مسلم أيضا في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر وذكرنا أن حديث عمران رواه البخاري في ثلاثة مواضع بثلاثة ألفاظ كان الله ولم يكن شيء قبله ورواه في موضع ولم يكن شيء معه ورواه في موضع آخر ولم يكن

شيء غيره وأن المجلس كان واحدا لم يقل النبي صلى الله

عليه وسلم إلا واحدا من الثلاث وقد ثبت أنه قال ليس قبلك شيء واللفطان الآخران رويا بالمعنى وبينا على كل تقدير أن مراد النبي صلى الله عليه و سلم جواب أهل اليمن عما سألوه من ابتداء خلق هذا العالم الذي خلق في ستة أيام وكان عرش الله على الماء قبل ذلك وقدر الله مقادير هذا العالم قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة والمقصود هنا أنه إذا قيل لا يكون حادث حتى يكون حادث فهذا على وجهين أحدهما أنه لا يكون حادث حتى يكون قبله حادث فهذا فيه نزاع مشهور والثاني أن يقال أنه لا يكون حادث حتى يكون معه حادث لامتناع حدوث الحادث بلا سبب حادث لأن الفاعل لا يفعل بعد أن لم يكن فاعلا إلا لحدوث سبب حادث فهذا يوجب أن القديم لا يصدر عنه حادث ألبتة لأنه متى حدث حادث بلا سبب حادث انتقضت القضية الكلية فيلزم أن لا يفعل البتة شيئا وإن فعل لزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وهذه الحجة أعيت كثيرا من أهل الكلام والنظر حتى قال كثير منهم القادر يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وكذلك قال الآخرون نفس الإرادة القديمة هي المرجحة لأحد المثلين على الآخر

ونحن ننبه على ما به يعلم فساد قولهم والجواب عن حجتهم وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضعه فيقال إذا كان الصانع قديما موجبا بالذات وعلته تامة أزلية لزم ألا يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله كما ذكروا لأن المتأخر إن كان قد وجدت كلته التامة في الأزل لزم أن يكون أزليا لا يتأخر وإن لم يوجد فقد وجدت علته التامة بعد أن لم تكن سواء كان الحادث شرطا من شروط تمام العلة أو غير ذلك ثم القول في علة تلك العلة كالقول في العلة التي هي معلول هذه فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث علة تامة في الأزل وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه فإن العلة التامة تستلزم معلولها فالحادث لا تكون علته تامة في الأزل فيلزم على ذلك ألا يكون شيء من الحوادث حادثا عن العلة التامة التي هي واجب الوجود وحينئذ فأما أن تكون الحوادث حادثة بنفسها وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهم يسلمون فساده وإما أن تكون حادثة عن فاعل آخر غير الواجب الموجود بنفسه فله فاعل ثم ذلك الفاعل إن لم يكن واجب الوجود بنفسه فله فاعل والقول في حدوث الحوادث عنه كالقول في الأول وإن كان واجب الوجود بنفسه كان القول فيه كالقول في ذلك الواجب إن كان علة تامة لزم ألا يحدث عنه حادث وإن لم يكن علة تامة بطل قولهم بالموجب بالذات فتبين فساد قولهم على كل تقدير وغاية ما يقولون أنهم يقولون أن لك حادث مشروط

بحادث قبله والحوادث معدات وشروط للفيض عن الواجب بذاته ويقولون أن حركة الفلك هي سبب الحوادث والتغييرات فيقال لهم هب أن الأمر كذلك فالحوادث المتعاقبة سواء كانت حركة متصلة أو غير ذلك إذا كانت لم تصدر إلا عن علة تامة لزم أن تكون مقارنة للعلة التامة فإن العلة التامة يجب أن يقارنها معلولها والموجب بذاته يقارنه موجبه حينئذ فلا يتأخر عنها معلولها فالمتأخر لا يكون معلولها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها
وإذا قالوا حدوث الأول أعدها لإحداث الثاني قيل لهم القول في حدوث الحادث الأول كالقول في حدوث الحادث الثاني فالحادث الأول الذي هو شرط الثاني لا يجوز أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية بل لا تكون العلة التامة له إلا حادثة سواء كان الحادث كلها أو بعض أجزائها وشروطها وهذا مما يعترفون به مع أنه حق بين فحينئذ لا يكون لشيء من الحوادث علة تامة أزلية فإذا كان المبدأ الأول الذي هو صانع العالم علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث عالة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صدر عنه فلا يكون لشيء من الحوادث فاعل ولا محدث وهذا غاية الجهل والتعطيل والسفسطة وهم يعترفون بفساده فإذا قالوا هذا الحادث المعين اليومي إنما تمت شروط

اقتضائه وأحداثه التي بها صارت علته تامة في هذا الوقت المعين فإن العلة إذا تمت لم يتأخر عنها معلولها قيل لهم فيلزم أن يكون تمام العلة التامة لما يحدث في اليوم المعين إنما حدث ذلك اليوم ثم تمام العلة أيضا حادث في اليوم المعين فيلزم أن تكون علته أو تمام علته حادثا في اليوم المعين وهلم جرا فيلزم أن يكون كل حادث إنما صارت علته تامة عند حدوثه فيلزم من ذلك بطلان قولهم من وجوه أحدها أنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية بل إنما صارت له علة تامة عند حدوثه بلط قولهم فإنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صادرا عن الموجب بالذات الذي هو علة تامة أزلية فعلم أن المحدث للحوادث ليس علة تامة لمعلولة في الأزل وهو المطلوب وهذا الموضع إذا تدبره من يفهمه ويفهم مذهبهم علم أنه يبين فساد قولهم بالضرورة وكلما غيرت العبارات الدالة عليه زاد بيانا وقوة فدعواهم أن المبدع الموجب بالذت علة تامة أزلية مع كون الحوادث المتعاقبة صدرت عنه جمع بين النقيضين إذ العلة التامة يقارنها معلولها ولا يتأخر عنها وسواء قيل أن الفلك صدر عنه بلا واسطة كما تقوله طائفة منهم أو قيل صدر عنه بواسطة العقل الأول كما يقوله طائفة أخرى فهم يقولون أن المحرك للفلك هو النفس بما يتجدد لها من التصورات والإرادات الشوقية فيقال هذه الأمور الحادثة سواء كانت هي الحركات أو الإرادات أو

التصورات لا بد لها من أمر محدث لها والعلة التامة الأزلية المستلزمة لمعلولها في الأزل التي توجبه بذاتها يقارنها معلولها الذي هو موجبها ومقتضاها في الأزل فلا يكون شيء من هذه الحركات والإرادات والتصورات معلولا لها لأنها حادثة ولا تكون موجبة له ولا فاعلة ولا محدثة لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن فإن القديم المعلول لا يصدر إلا عن موجب بذاته أزلي الإيجاب وهو العلة التامة الأزلية التي تستلزم معلولها في الأزل فلو كان في العالم ما هو قديم لزم ثبوت العلة التامة الأزلية لكن ثبوت هذه ممتنع لأنه حينئذ يلزم ألا يكون للحوادث فاعل لا لوسط ولا بغير وسط لأن الحوادث لا تحدث عن علة تامة لها أزلية فكل ما سوى الله لا بد أن يقارن شيئا من الحوادث أو تحدث فيه الحوادث وكل ما قارن شيئا من الحوادث أو حدثت فيه الحوادث يمتنع أن يصدر عن علة تامة أزلية إذ يمتنع صدوره دون الحوادث عن الفاعل لأنه لا بد للحوادث من الفاعل فإثبات قدم شيء من العالم يستلزم إثبات علة قديمة له وإثبات العلة القديمة توجب كون الحوادث لا فاعل لها سواء قيل أن تلك العلة القديمة صدر عنها ما قارنته الحوادث أو صدر عنها ما حدثت فيه الحوادث فإنه على التقديرين يلزم كون الحوادث لا فاعل لها لامتناع صدور الحوادث عن العلة التامة الازلية وإذا كان قدم شيء من العالم يستلزم إثبات العلة التامة

القديمة وإثبات ذلك يستلزم كون الحوادث لا فاعل لها وهذا اللازم باطل بالضرورة فالملزوم أيضا باطل والملزوم قدم شيء من العالم فإذا كان الملزوم باطلا فنقيضه حق وهو أنه ليس من العالم شيء قديم الوجه الثاني أن قولهم هذا يستلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهم يسلمون فساد ذلك وفساده معلوم بالادلة اليقينية كما قد بسطناه في غير هذا الموضع ونبهنا على أن المعلولات كلها ممكنة ليس فيها ما يقتضي وجودها وتقدير أمور غير متناهية ليس فيها ما يقتضي وجودها بمنزلة تقدير أمور متناهية معدومة أو ممتنعة فإذا قدر علل لا تتناهى وهي معلولات كان ذلك بمنزلة تقدير أمور معدومة لا تتناهى فلا يكون فيها ما هو موجود والمعدوم يمتنع أن يكون مبدعا أو فاعلا للموجود ولا حاجة إلى الإطناب في هذا فإنه متفق عليه بين العقلاء لكن بعض المتأخرين أورد على هذا شبهات قد بينا فسادها في غير هذا الموضع كما أورد ذلك الآمدي والأبهري وغيرهما

ومن الناس من ظن أن الكلام في تناهي المؤثرات بمنزلة الكلام في تناهي الآثار كما ظن ذلك طائفة من أهل الكلام والجدل ثم من هؤلاء من قال فإذا كان تناهى الآثار لا يقوم دليل على فساده فكذلك تتناهى العلل
وهذا مما سلكه أبو حامد في الرد علىالفلاسفة في تهافت الفلاسفة وجعل قولهم بتجويز حوادث لا أول لها يقتضي تجويز علل لا تتناهى
وكثير من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية لما سووا بين النوعين اعتمدوا في نفس التسلسل في المؤثرات والآثار على طرق معروفة قد أفسدها كثير منهم حتى أن الرجل من هؤلاء يذكر بعض هذه الطرق في كتاب ويفسدها في كتاب آخر كما يفعله أبو عبدالله بن الخطيب ونحوه فيقرر في كتاب

الأربعين ونحوه طرقا في إبطال حوادث لا تتناهى ويبطلها في مثل كتاب المباحث المشرقية وأمثاله ولهذا بين أبو الحسن الآمدي فساد عامة هذه الطرق واعتمد طريقة أضعف من غيرها وكذلك أبو الثناء الأرموي أفسد في لباب الأربعين عامة ما قيل في هذا الباب وهذا كله مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن التسلسل في المؤثرات باطل باتفاق العقلاء وأما الاعتراض المذكور فهو أنهم قالوا إذا كان كل من المؤثرات ممكنا فلم لا يجوز ألا تكون الجملة ممكنة على قول من يقول أن كل واحد من الحوادث محدث والنوع القديم متسلسل فإن حكم الجملة إما أن يكون مثل حكم الأفراد وأما ألا يكون فإن كان مثل حكمها لزم حدوث نوع الحوادث وهذا هو الذي يقوله كثير من أهل الكلام وعليه اعتمد أبو الحسين البصري وأمثاله وقالوا إذا كان كل واحد من الزنج أسود فالجميع سود

لكن نقض ذلك المعارضون لهم بأن الواحد من العشرة ليس هو عشرة والواحد من أجزاء القبة والبيت ليس هو قبة ولا بيتا وبعض الإنسان ليس هو إنسان فقال هؤلاء الذين أشكل عليهم بطلان تسلسل المؤثرات كالآمدي والأبهري فحينئذ يجوز أن يكون كل واحد من العلل ممكنا والجملة ليست ممكنة فصارت هذه المباحث المتعلقة بأصول الدين والعلم مضطربة عند أئمة الفلاسفة والمتكلمين وفصل الخطاب في هذا الباب أن نقول انضمام الفرد إلى غيره إما أن يوجب ثبوت أمر يخالف حكم تلك الأفراد وإما ألا يوجب فإن لم يوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد كان حكم المجموع حكم الأفراد وإن أوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد لم يجب أن يكون حكم المجموع حكم الأفراد مثال الأول المعدوم مع المعدوم فإن انضمام أحدهما إلى الآخر لا يخرجه عن أن يكون معدوما وكذلك انضمام الواجب إلى الواجب والممكن إلى الممكن وكذلك انضمام الموجود إلى الموجود لا يخرجه عن أن يكون موجودا اللهم إلا إذا كانا يتضادان
ومثال الثاني أبعاض الإنسان وغيره من الحيوان وأبعاض الدار والبيت والمدينة ونحو ذلك فإن انضمام بعض ذلك إلى بعض يوجب للمجموع أن يصير حيوانا وبيتا ومدينة وكذلك آحاد العشرة والألف بالانضمام تصير عشرة وألفا وكذلك غير ذلك من المركبات فإنه بالاجتماع يحصل له من التركيب ما لا يحصل بالأفراد وكذلك أجزاء الطويل

والدائم والممتد والكبير والعظيم ونحو ذلك فإنه لا يسمى طويلا ولا دائما ولا ممتدا ولا كبيرا ولا عظيما إلا إذا اجتمعت تلك الأجزاء فبالاجتماع يتغير حكم الأفراد إذا تبين ذلك فإذا قدر مؤثرات ممكنة ليس لها من أنفسها وجود ولكن كل منها يحتاج إلى مؤثر لم تكن بانضمام بعضها إلى بعض تخرج عن أن تكون ممكنة مفتقرة إلى غيرها بل كلما كثرت زاد الافتقار والحاجة كما أنه كلما ضم المعدوم إلى المعدوم كثر المعدوم فإذا قدر علل لا تتناهى كل منها معلول أو فاعلون لا يتناهون كل منهم مفعول فهذه كلها مؤثرات أبدعها غيرها وكل منها ممكن بنفسه محتاج إلى غيره قد أبدعه غيره ليس فيها ما هو موجود بنفسه فإذا قدر عدم تناهيها كان ذلك تكثيرا للحاجة والافتقار إلى الموجود بنفسه وتكثيرا للممكنات التي هي معدومة بنفسها لا توجد إلا بموجود غيرها فكثرتها وعدم تناهيها لا يخرج شيئا منها عن أن يكون ممكنا مفتقرا إلى غيره وأنه إذا لم يكن له مبدع كان معدوما بل المجموع مفتقر إلى كل من الأفراد وإذا كان كل من الأفراد ممكنا فالمجموع المتوقف على كل من الأفراد أولى أن يكون ممكنا فتبين بذلك امتناع وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهو امتناع أرباب كل منهم مربوب أو فاعلين كل منهم مفعول ومؤثرين كل منهم أثر فيه غيره فهذا جميعه مما يعلم امتناعه بالضرورة بعد التصور التام كما اتفق عليه

عامة العقلاء وذلك مما بيبن أن جميع الممكنات والحوادث لها مبدع موجود بنفسه خارج عنها كلها وهذا بخلاف دوام الحوادث وتسلسلها في الماضي أو المستقبل فإن الواحد منها إذا لم يكن دائما باقيا متصلا لم يلزم ألا يكون النوع دائما باقيا متصلا لأن انضمام الواحد إلى غيره يوجب الكثرة التي لا توجد في الواحد والدائم الباقي المديد الطويل الكثير لا يستلزم أن يكون كل واحد من أفراده دائما طويلا مديدا كثيرا
فهذا تنبيه على الفرق بين النوعين وإذا كان كذلك فنقول قولهم بقدم العالم يستلزم التسلسل في المؤثرات وذلك فاسد بالضرورة والاتفاق وهم يسلمون امتناع تسلسل المؤثرات لكن الذين يقولونه هنا يقولون التسلسل إنما هو حاصل في شروط العلية لا في ذات العلة
فيقال لهم إذا كان هذا الحادث موقوفا على شرط العلة الذي هو تمامها وعند حصول تمام العلة يجب مقارنة ذلك المعلول له لا يجوز تأخره عنه فكل حادث يجب أن يقارنه تمام علة الحادث والكلام في تمام علية الحادث كالكلام في الحادث فيلزم تسلسل تمامات العلل وأن يكون تمام علة كل معلول مقارنا لذلك المعلول فإذن كل حادث إنما تمت علته عند حدوثه وذلك التمام إنما تمت علة حدوثه عند حدوثه أيضا فيلزم تسلسل تمامات لا فاعل لها ولا فرق بين تسلسل علل هي معلولات لا فاعل لها وبين تسلسل تمامات علل هي معلولات لا فاعل لها وأيضا فإن هذه التمامات المتسلسلة لا يجوز أن تكون

صادرة عن العلة التامة الأزلية فإن ذلك يستلزم أن تكون مقارنة لتلك العلة ولا يجوز أن تكون العلة الأزلية علة تامة لواحد منها معين وذلك شرط في الثاني لأنه يتعين لها مبدأ معين وما من واحد إلا وقبله آخر فلا يتعين شيء منها دون الآخر ولا يكون شيء منها علة تامة لحوادث متعاقبة مع كون العلة ثابتة على حال واحدة لأن حدوث المتغير عن علة تامة لا تتغير ممتنع فإذا لم يكن لها محدث سوى العلة التامة الأزلية والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يصدر عنها حادث فيلزم ألا يكون للحوادث محدث وأبو عبدالله الرازي قد نبه على هذا لكن لم يوضحه إيضاحا تاما فاعترض عليه الأرموي حيث لم يفهم حقيقة هذا الإلزام فظن الفرق بين حدوث شروط العلة وحدوث ذات العلة وهذا الفرق إنما يصح إذا كان هناك سبب يقتضي حدوث شروط العلة غير العلة حتى يقال تأثيرها موقوف على حدوث شروط أخر تحدث بسبب غيرها فأما إذا كان لا مقتضى للحوادث إلا ذات العلة التي فرض أنها تامة لا يتخلف عنها معلولها لم يكن اقتضاؤها موقوفا على شرط غيرها فيجب أن يقارنها معلولها فلا يحدث عنها حادث
واعلم أن هذا هو عمدتهم في قدم العالم وقد تبين أنه مناقض لما قالوه وأنه مبطل لقولهم فإن أصل قولهم أن المؤثر في العالم يجب أن يكون تاما فلا يتخلف عنه أثره وهذا بعينه يمنع أن يكون محدثا لشيء من الحوادث بشرط أو بغير شرط

والرازي أجاب بأن هذه الحجة تستلزم التسلسل في العلل وهو باطل فاعترض عليه الأرموي في لباب الأربعين
قال الرازي في الأربعين احتج القائلون بالقدم بوجوه أولها لا شك أن الممكنات تنتهي في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود فنقول كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في إيجاده إما أن يقال أنه كان حاصلا في الأزل أو ما كان حاصلا في الأزل فإن كان كل ما لا بد منه في المؤثرية حاصلا في الأزل فإما أن يجب مع حصوله حصول الأثر أو لا يجب فإن وجب لزم من دوامه دوام الأثر وإن لم يجب كان وجوده مع عدم تلك الآثار جائزا فلنفرض ذاته مع مجموع الأمور المعتبرة في المؤثرية تارة مع وجود تلك الآثار وتارة مع عدمها فاختصاص ذلك الوقت بالوجود دون الوقت الآخر إما أن يختص بأمر ما لأجله كان هو أولى بوجود ذلك الأثر وإما ألا يكون كذلك فإن كان الأول كان ذلك المخصص معتبرا في المؤثرية وهو ما كان حاصلا قبل ذلك فإن كان ما لا بد منه في المؤثرية ما كان

حاصلا في الأزل وكنا قد فرضنا حاصلا قبل ذلك هذا خلف وإن كان الثاني كان ذلك ترجيحا لأحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر من غير مرجح أصلا وهو محال هذا إذا قلنا كل ما لا بد منه في المؤثرية كان حاصلا في الأزل أما إذا قلنا بأن كل ذلك ما كان حاصلا في الأزل فحدوثه فيما لا يزال بعد أن لم يكن إما أن يفتقر إلى مؤثر أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن مرجح وإن افتقر نقلنا الكلام إلى كيفية إحداث تلك الأمور ويلزم التسلسل وهو محال
قال الرازي هذا هو العمدة الكبرى للقوم ثم ذكر أجوبة طوائف من أهل الكلام عن ذلك بأن قوما قالوا المرجح هو الإرادة وقيل المرجح هو العلم وقيل المرجح اختصاص وقت الأحداث بحكمه خفية وقيل إحداث العالم في الأزل محال لأن الإحداث جعله موجودا بعد أن كان معدوما وذلك يقتضي سبق العدم والأزل عبارة عن نفي المسبوقية بالغير فكان الجمع بينهما بمحال

وقيل أن العالم قبل ذلك ما كان ممكنا بل ممتنعا ثم انقلب ممكنا ذلك في الوقت وقيل أن القادر المختار يمكنه أن يرجح أحد المقدورين على الآخر من غير مرجح ثم بين فساد هذه الأجوبة جملة فإن حاصلها أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم ما كان حاصلا في الأزل وبين فسادها على وجه التفصيل بما لا حاجة إلى ذكره هنا ثم قال والجواب أن نقول إن صح ما ذكرتم يلزم أن لا يحصل في العالم شيء من التغيرات لأنه يلزم من دوام واجب الوجود أزلا وأبدا دوام المعلول الأول ومن دوام المعلول الأول دوام المعلول الثاني وهلم جرا إلى آخر المراتب فيلزم ألا يحصل في العالم شيء من التغيرات وأنه خلاف الحس
قال فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الاستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية

وكل واحد منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في هذا العالم قال والجواب أنا نقول العرض المعين إذا حدث في هذا العالم فإما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن سبب وهو باطل بالاتفاق وإذا افتقر إلى سبب فذلك السبب إن كان حادثا كان الكلام في كيفية حدوثه كما في الأول فيفضي إلى وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وهو محال وإن كان السبب قديما فقد أسندتم إلى المؤثر القديم أثرا محدثا وإذا عقلتم ذلك فلم لا يجوز في كل العالم مثل ذلك
قال الأرموي معترضا على هذا الجواب ولقائل أن يقول إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شروطه فإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه

أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب جائز عندهم
قال بل الجواب الباهر عنه أنه لا يلزم ذلك من حدوث العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنها تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى تنتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم
قلت هذا الجواب الذي أجاب به الأرموي أخذه من المطالب العالية للرازي فإنه ذكر هذا الجواب فيه وهذا الجواب باطل متناقض في نفسه فإنه يتضمن وجود حوادث لا أول لها والمتكلمون الذين أثبتوا حدوث الأجسام إنما أثبتوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن كان هذا الأصل صحيحا بطل الجواب المذكور ولزم حدوث النفوس التي تقوم بها تصورات متعاقبة لأنها حوادث لا أول لها وإن كان حوادث لا أول لها جائزا كما ذكره في الجواب الباهر بطل دليل المتكلمين على حدوث الأجسام

وحينئذ فلا فرق بين أن يقال القديم هو النفس أو جسم وأيضا فهذا الجواب باطل من وجه آخر وهو أن النفوس عند من يثبتها من المتفلسفة لا تفارق الأجسام بل النفس عندهم لا بد أن تكون متعلقة بالجسم تعلق التدبير والتصريف وقد تنازعوا في النفس الفلكية هل هي جوهر أو عرض وأكثرهم يقولون هي عرض ولكن ابن سينا وطائفة رجحوا أنها جوهر فإذا كان وجود النفس التي تقوم بها التصورات المتعاقبة مشروطا بوجود الجسم بطل هذا الجواب وأما العقول فتلك مفارقة لا تدبر الأجسام ولا يقوم بها عندهم شيء من الحوادث لا متعاقبا ولا غير متعاقب وأيضا فهذا الجواب يتضمن شيئين جواز حوادث لا أول لها بناء على أن التسلسل الممتنع إنما هو في المؤثرات لا في الآثار والشروط وهذه مسألة نظرية لا تناقض أصول الإسلام ويتضمن أيضا إثبات العقول والنفوس وأنها قديمة أزلية وأن المخلوق المحدث إنما هو الأجسام دون العقول والنفوس وهذا ليس من دين أحد من أهل الملل وهو مبني على إثبات العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة وأنها ليست أجساما وكلامهم في ذلك في غاية الفساد في العقل كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع

وإنما غلط في هذا لأن الشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم من المتأخرين ظنوا أن المتكلمين ليس لهم دليل ينفي وجود هذه الأمور وأنهم لم يذكروا على نفيها دليلا وليس الأمر كما ذكره هؤلاء بل قد صرح النظار كإمام الحرمين وأبي الوفاء بن عقيل ومن قبلهم كالقاضي أبي بكر وأبي الحسن الأشعري وأبي

علي وأبي هاشم الجبائي وأبي الحسين البصري ومحمد بن كرام وابن الهيصم وهشام بن الحكم وغيرهم أن إثبات ذلك معلوم الفساد بضرورة العقل وإن إثبات ما لا يشار إليه ولا يقوم بما يشار إليه معلوم الفساد بضرور العقل إما مطلقا عند طائفة وإما في الممكنات عند طائفة وهذا مبسوط في موضعه ولو أن الأرموي قال هذا في واجب الوجود نفسه لكان

ذلك أقرب إلى دين المرسلين فإن ذلك يمكن معه القول بأن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى مخلوق محدث غايته أنه يلزم قيام الأفعال المتعاقبة بالواجب نفسه وهذا قول أئمة أهل الحديث وجمهورهم وطوائف من أهل الكلام وقول أساطين الفلاسفة القدماء فهو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة ففي الجملة هذا فيه نزاع بين أهل الملل فيمكن مع القول به موافقة الأنبياء بخلاف ما ذكره
وأيضا فقد بين الرازي والآمدي ضعف ادلة نفاة ذلك وذكر الرازي أن ذلك لازم لعامة الطوائف ثم قرر هو ذلك بطريقة هي أيضا في غاية الضعف كما قد بسط هذا كله في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك فالواجب الذي هو أصح في الشرع والعقل أولى من الجواب الذي هو أفسد في الشرع والعقل فهذا الكلام على جواب الأرموي وأما جواب الرازي وإلزامه لهم فصحيح كما ذكره ولكن لم يقرره ويبينه تبيينا يشفي الغليل فلهذا لم يفهم الأرموي حقيقة هذا الجواب وذلك أنه إذا كان المؤثر التام أزليا لزم من دوامه دوام أثاره فيلزم أن لا يحدث شيء وهو خلاف الحس وهذا الجواب وحده كاف إذا تصوره الإنسان فإنه إذا قيل بأن المؤثر التام أزلي وأنه يستلزم آثاره امتنع حدوث شيء من الآثار فيلزم أن لا يحدث شيء لأن حدوث الحوادث بلا محدث ممتنع وحدوثها عن المؤثر التام ممتنع وأما السؤال الذي أورده فيجاب عنه بما ذكره وبغير

ما ذكره وذلك أن قول القائل أن المؤثر دائم الفيض ولكن حدوث الأثر عنه متوقف على حدوث الاستعداد والشرائط إنما يمكن قوله في الأثر الذي يتوقف على اثنين كالإحراق من النار المتوقف على استعداد المحل فلا تحرق الياقوت والسمندل ونحو ذلك وكالشمس التي يتوقف فيض شعاعها على محل قابل وذلك المحل ليس صادرا عنها وكما قالوه فيما يفيض عن العقل الفعال المتوقف على حدوث امتزاجات حاصلة بحركة الأفلاك وحركة الأفلاك التي فوق فلك القمر لا تتوقف على فيض العقل الفعال فهذا الذي ذكروه من توقف الفيض على استعداد القوابل إنما يمكن أن يقال إذا كان ذلك الاستعداد ليس هو من فيض ذلك الموجب وهذا لا يصح في الواجب الوجود الذي هو المبدع لكل ما سواه فإنه هو الفاعل للإستعدادات والشرائط كما هو الفاعل لما يفيض عليها فلا شريك له في الفعل والإبداع أصلا فإذا قال القائل إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل قيل لهم فاستعداد القوابل هو أيضا مما فاض عنه فيتمنع أن يقال هو عام الفيض لكل ممكن إذ لو كان كذلك لكانت الممكنات كلها أزلية وإذا قيل فلم تأخر عنه فيض الحادث فقيل لتأخر الاستعداد

قيل وما الموجب لتأخر الاستعداد فإذا قيل لتأخر استعداد آخر وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الفائضة بسببها ليس هو مؤثرا تاما في الأزل لها ولا مؤثرا لها فيما لا يزال لأن المؤثر التام الأزلي لا يتأخر عنه شيء من أثره وتأخر الآثار مشاهد معاين وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب لا ينفعهم بل ذلك مما يستلزم فساد قولهم بقدم شيء من العالم فإنه إذا جاز تسلسل الحوادث والآثار امتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء منها لأن ذلك يستلزم وجود هذه الحوادث في الأزل وذلك جمع بين النقيضين ويمتنع أن تحدث عنه بعد ذلك لأنها لا تحدث حتى يحدث عنه ما يجعله علة تامة لها وحدوث شيء من الحوادث عن العلة المستلزمة لمعلولها في الأزل ممتنع لكن لو قالوا إن الرب سبحانه وتعالى ليس فعله تاما في الأزل بل هو يحدث كل ما سواه شيئا بعد شيء كان هذا موافقا لأصلهم في جواز تعاقب الحوادث ولكنه مبطل لقدم شيء بعينه من العالم لا الفلك ولا غيره وحجتهم في القدم مبنية على أنه مؤثر تام في الأزل فقد ثبت أنه ليس مؤثرا تاما لها ولم يثبت أنه مؤثر تام لغيرها فبطلت حجتهم فلم يبق معهم ما يثبت علة تامة في الأزل وهذا يبطل حجتهم لو لم يثبت امتناع علة تامة في الأزل فكيف إذا ثبت امتناع ذلك فإنه يوجب امتناع قدم شيء من العالم

وأيضا فإذا لم يكن مؤثرا تاما في الأزل للحوادث فتأثيره بعد أن لم يكن مؤثرا أن توقف على غيره لزم أن يكون مبدع العالم مفتقرا في الإبداع إلى غيره ثم ذلك الغير إن كان واجبا لزم إثبات واجبين فاعلين وهذا ممتنع بالاتفاق مع أنه لا يستلزم قدم العالم ثم إن كان كل منهما مستقلا بالفعل لزم أن يكون كل منهما مبدعا لكله فيلزم أن يكون هذا فاعلا لكله وهذا فاعلا لكله وذلك جمع بين النقيضين وإن لم يكن أحدهما مستقلا بالفعل لزم احتياجه إلى الآخر وافتقاره إليه فيكون كونه فاعلا وقادرا موقوفا على الآخر وذلك يستلزم ألا يكون هذا فاعلا قادرا إلا بهذا وإلا يكون هذا قاعى فاعلا قادرا إلا بهذا فيلزم الدور المعي القبلي فلا يكون واحد منهما فاعلا قادرا وهذا كله مما يسلمه جميع الناس وهو مبسوط في غير هذا الموضع فلا حاجة إلى الإطناب فيه وإن كان ذلك الغير ممكنا كان مفعولا مصنوعا له فتوقف فعله عليه توقف على ما هو من مفعولاته ومصنوعاته والقول في فعله لذلك الممكن كالقول في فعله لغيره فلا بد أن يكون فعله لا يتوقف على غيره وإن قيل إن تأثيره بعد أن لم يكن لا يتوقف على غيره لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب وهذا ممتنع عندهم وبتقدير صحته فإنه يمكن حدوث الحوادث حينئذ

بعد أن لم تكن حادثة على هذا التقدير فيبطل قولهم بقدم العالم فتبين أنه يمتنع مع حدوث الحوادث أن يكون مؤثرا تاما في الأزل وإذا قيل أحداثه للثاني مشروط بالأول وهلم جرا قيل فليس هو وقت حدوث حادث واحد مؤثرا تاما بل في كل وقت لا بد من حادث به يتم كونه مؤثرا تاما وإذا لم يكن في وقت من الأوقات مؤثرا تاما امتنع ثبوت المؤثر التام الذي لا يتوقف تأثيره على حدوث حادث وإذا بطل المؤثر التام بطل القول بقدم العالم وإيضاح هذا بالكلام على نص كلامهم قالوا لم لا يجوز أن يقال إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الإستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والإتصالات الكوكبية وكل حادث منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في العالم فيقال لهم إذا كان حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل وحصول الإستعدادات متوقف علىالحركات والإتصالات فهذه الحركات والإتصالات هي أيضا حادثة كما أن الإستعدادات أيضا حادثة والقول في حدوث هذه الحوادث كالقول فيما يفيض على القوابل السفلية فإن الجميع حادث وحجتهم تستلزم ألا يحدث شيء لأن المؤثر التام دائم أزلا

وأبدا فيلزم دوام آثاره أزلا وأبدا وألا يتأخر عنه شيء من آثاره فإذا قيل الحادث الثاني مشروط بالأول قيل فالكلام في حدوث الأول فكل من هذه الحوادث لا يجوز أن يصدر عن المؤثر التام الأزلي إذ لو كان كذلك لكان قديما معه وكل من هذه الحوادث يجب أن يحدث مؤثره أو تمام مؤثره وليس في المؤثر التام الأزلي سبب يقتضي حدوث شيء أصلا عندهم فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث سبب منه وإذا قيل حركة الفلك هي سبب الحوادث قيل فحركة الفلك يمتنع صدورها عن مؤثر تام لا يقوم به شيء من الحوادث لأن ذلك يستلزم تأخر المعلول عن علته التامة وتأخر موجب الشيء ومقتضاه عن المقتضي الموجب التام فالكلام في حدوث حركة الفلك كالكلام في غيرها وهذا الموضع من فهمه علم ضرورة بطلان مذهب القوم وأن حقيقة قولهم أن الحركات والحوادث حادثة بلا فاعل لها ولا سبب يقتضي حدوثها فإن أثبتوا في الفاعل الأول أفعالا تقوم به شيئا بعد شيء وقالوا تلك هي سبب التغيرات كان هذا موافقة على إمكان إحداث العالم وغيره وبطل أصل قولهم وأما الإلزام الذي ذكره الرازي في الأربعين فصحيح

أيضا فإنه قال العرض المعين إما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر والثاني باطل بالاتفاق وإذا افتقر فالسبب إن كان حادثا لزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وإن كان قديما لزم جواز صدور الحوادث عن القديم وهو يبطل حجتهم وأما اعتراض الأرموي بقوله إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه فيقال له هب أن الأمر كذلك فإذا عنى بحدوثه حدوث السبب التام وحدوثه لا يقف على حدوث الفاعل بل يكفي حدوث بعض الشرائط فأي جواب لهم في هذا وقوله حدوث بعض الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندهم فيقال له فهب أنه جائز عندهم فجوازه عندهم لا يدل على صحة مذهبهم ولا على إمكانه ولا على بطلان ما ذكره بل حدوث الشرائط والمعدات باطل بما به بطل حدوث العلة التامة وذلك أن تلك الشروط والمعدات الحادثة لا بد لها من محدث وإذا قلت حدوثه موقوف على تمام حدوث التأثير

قيل الكلام في حدوث تمام تلك التأثيرات كالقول في كل من هذه الحوادث إن كان المقتضي لحدوثه حادثا لزم تسلسل العلل وإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن القديم وإن قيل المقتضي لحدوثه هو القديم بشرط الحادث قيل هذا مع قولكم إن القديم مؤثر تام باطل لأن المؤثر التام لا يحدث عنه شيء فلا يحدث عنه شيء من الشروط وأيضا فالعلة يجب أن تكون مقارنة لمعلولها عندكم لا متقدمة عليه ولا متأخرة عنه وإذا كان القديم مؤثرا في الثاني بشرط حدوث الأول كانت العلة متقدمة على المعلول وبهذا احتج الرازي فإنه قال كل حادث يجب أن تكون علته التامة موجودة عند وجوده وإن كان بعض أجزائها متقدما فإذا جعلتم كل حادث جزءا من المؤثر في الآخر أو شرطا فيه وجزء العلة وشرطها هو من تمام العلة التامة لزم وجود هذه الشروط الحادثة عند حدوث كل حادث فيلزم وجود الحوادث المتعاقبة معا وهذا ممتنع ففي الجملة قولهم إن العلة التامة يقارنها معلولها وإن الاول علة تامة يستلزم أن الأول لم يحدث عنه شيء ويستلزم أن يكون تمام علة كل حادث إنما يحصل عند حصوله فلا يكون تمام علته متقدما عليه وهذا يناقض قولهم إن الحادث الأول شرط في تمام علة الثاني فإن الأول متقدم علىالثاني والمتقدم على الشيء لا يكن جزءا من علته التامة

والإنسان وإن كان يقطع المسافة الثانية بشرط قطع الأولى فليس هو علة تامة للأولى ولا للآخرة والعلة التامة في حدوث قطع الثانية إنما وجد مع الثانية وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة التي لم تحصل إلا بعد قطع الأولى فإذا قالوا مثل هذا في الواجب لزم تجدد الإرادات له وهذا قول حذاقهم من الأولين والآخرين كالأساطين الذين كانوا قبل أرسطو طاليس أو كثير من الأساطين وكأبي البركات صاحب المعتبر وغيره فإنه قال القول بكون الرب تعالى مؤثرا في هذا العالم لا يمكن إلا مع هذا القول قال والتنزيه عن التنزيه واجب والإجلال عن هذا الإجلال متعين

وهذا القول يبطل حجتهم في قدم العالم ويبين أنه فاعل بمشيئته وقدرته أفعالا متعاقبة شيئا بعد شيء فهذا أحد الجوابين عن اعتراض الأرموي
الجواب الثاني أن قوله للرازي إما ان تعني بالسبب السبب التام وإما أن تعني به الفاعل فيقول له لا حاجة بي إلى هذا التقسيم فإن حجتي صحيحة مع الإعراض عن هذا التقسيم والناس منهم من يقول إن الحوادث لا توجد إلا بسبب تام يستلزم حدوثها كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم وأكثر هؤلاء يقولون المرجح مع ذلك هو الفاعل القادر المختار الذي تستلزم قدرته وإرادته للحادث وجود ذلك الحادث فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بحدوث العالم ومن هؤلاء من يقول بل نفس ذاته موجبة للمكنات بدون ذلك وهذا قول الفلاسفة الدهرية الإلهية وقولهم يستلزم ألا يحدث شيء من الحوادث وهذا الموجب الذي فرضوه لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي فرضوه أيضا وقالوا إنه لا يصدر عنه إلا واحد

ومن الناس من يقول بل يكفي في حدوثها الفاعل القادر الذي يمكنه الفعل والترك الذي يفعل على سبيل الإختيار وأنه بقدرته فقط أو بقدرته ومشيئته أو بقدرته وداعيه يرجح أحدهما بلا مرجح ومنهم من يفرق بين القادر والموجب فيقول المؤثر الموجب لا يؤثر إلا إذا كان تاما مستلزما لأثره وأما القادر فيمكنه التأثير على سبيل الجواز
والمقصود هنا أن ما ذكره الرازي يصح على جميع هذه التقديرات فبأي شيء فسر المفسر المؤثر أمكن صحة جوابه وذلك أن هذا الحادث المعين كالإنسان والفرس والثمرة وغيرها مما يحدث كل يوم لا بد له من مؤثر فذلك المؤثر إن كان حادثا كان الكلام في سبب حدوثه كالكلام في الأول فيلزم إثبات مؤثرات لا تتناهى كل منها مؤثر في الآخر وإن شئت قلت يلزم إثبات علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإن شئت قلت يلزم إثبات فاعلين مفعولين وإن شئت قلت يلزم إثبات خالقين مخلوقين لا يتناهون وإن شئت قلت يلزم إثبات أسباب ومسببات لا تتناهى فعلى كل تقدير إذا كان هذا حادثا لزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإنما قال دفعة واحدة لأن التقدير أن فاعل هذا المحدث محدث أيضا لا قديم فإن قيل فهل لا يجوز أن يكون فاعل هذا محدثا قبله وفاعل هذا محدثا قبله وهلم جرا

قيل لأن الفاعل يجب أن يكون موجودا عند وجود الفعل ويمتنع بعد عدم الفاعل وجود الفعل وكذلك العلة والسبب لا بد أن يكون موجودا عند وجود المعلول والسبب لا يكون موجودا قبله ولو قدر أن لكل فاعل فاعلا قبله محدثا كان هذا أيضا ممتنعا فهذا ممتنع سواء قيل أن الأسباب الفاعلة موجودة معا أو متعاقبة لكنه لما كان الدليل قد قام على أن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول لا قبله ذكر هذا اللازم وإذا أردت أن تتبين امتناع ذلك على التقديرين قلت هذا يقتضي ثبوت علل ومعلولات محدثة لا نهاية لها وذلك ممتنع سواء فرضت مجتمعة أو متعاقبة لأن كل واحد منها ليس له وجود من نفسه فلا يستحق من نفسه إلا العدم فإذا كانت كلها محدثة مفعولة مصنوعة امتنع مع عدم الفاعل الصانع وجود شيء منها بمنزلة تعاقب المعدومات والممتنعات وهذا لكونه معلوما متفقا عليه مبسوطا في موضع آخر لم نبسطه هنا فإنه يعلم بضرورة العقل امتناع حوادث بلا محدث قديم لها
والمقصود أن الرازي يقول كل ما يحدث في العالم يمتنع أن يحدث بلا محدث ويمتنع أن يكون كل محدث أحدثه محدث آخر فوجب أن يكون المحدث لكل حادث هو فاعل قديم وهذا يناقض قولهم فإنه برهان باهر على أن المحدثات

يمكن بل يجب صدورها عن القديم وإذا صدرت عن القديم لم يكن القديم علة تامة لشيء منها إذ لو كان كذلك لقارنها فبطل قولهم بالعلة التامة وهو المطلوب لكن ليس في هذا الجواب ما يبطل وجود حوادث لا أول لها بل يجوز أن يقال إحداث القديم الأول مشروط بالثاني ولكن على هذا التقديرين لا يلزم قدم شيء من العالم بل يجوز أن يكون كل منه حادثا وإن كان مشروطا بحادث قبله لا سيما إذا كان الحادث فعل الفاعل سبحانه وتعالى وهذا الذي ذكره الرازي وغيره إلزام لهم لكن ليس فيه حل الشبهة ولا بيان فسادها ونحن نبين فسادها على أصولهم وعلى أصول المسلمين وذلك أن الحجة مبناها على أنه لا بد أن يكون في الأزل مؤثر تام لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل هكذا أطلق كثير منهم الحجة ولفظ التسلسل يراد به التسلسل المتنازع فيه ويراد به التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل والدور فإنه إذا لم يكن في الأزل مؤثر تام ثم صار مؤثرا تاما لزم حدوث تمام التأثير وهذا يتضمن حدوث الحادث بلا فاعل ولهذا عبر ابن سينا وغيره عن هذا بأن قالوا كل ما فعل بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد له من حدوث أمر إما علم وإما قصد وإما إرادة وإما زوال مانع وإما أمر آخر وإلا فإذا قدر أنه كما كان وكان لا يحدث عنه شيء فالآن لا يحدث عنه شيء وقد حدثت الحوادث فهذا خلف

وإنما لزم هذا المحذور من فرض ذات معطلة عن الفعل وإذا كان هذا الفرض باطلا فنقيضه حق والتسلسل المذكور هنا هو التسلسل في الفاعل وهو في تمام كونه فاعلا ويلزم الدور أيضا لأنه لا يصير فاعلا إلا بعد أن يصير فاعلا وهذا كما يقال يمتنع أن يكون لفاعل العالم فاعل وللفاعل فاعل ويمتنع أن يكون هو فاعل نفسه لكن هنا الكلام فيما به يتم كونه فاعلا فإذا قيل لم يكن مؤثرا تاما ثم صار مؤثرا فلا بد من حدوث تمام التأثير أو الترجيح بلا مرجح فإنه إذا لم يكن المؤثر التام ثابتا في الازل فحدوث الحوادث عنه إن لم يتوقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب فالقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل فمضمون الحجة إما أن يكون المؤثر التام ثابتا في الأزل وإما أن يلزم الترجيح بلا مرجح وإما أن يلزم التسلسل والدور الممتنع فلا بد من أحد هذه الأمور الثلاثة ولهذا كان كثير من أهل الكلام يختار الترجيح بلا مرجح بناء على أن القادر المريد يرجح بقدرته أو بالقدرة والداعي أو أن الإرادة نفسها ترجح أحد المثلين على الآخر وبهذا الجواب أجابهم جمهور المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافق هؤلاء من أصحاب الأئمة الأربعة

وهو أحد جوابي الغزالي في تهافت الفلاسفة وبه أجاب الآمدي وغيره لكن جمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة وكذلك بين الرازي على لسان الفلاسفة فساد هذا الجواب فيقال للفلاسفة هذه الحجة باطلة على أصلكم ومتناقضة وذلك أن غاية هذه الحجة أنه إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل

لزم التسلسل والتسلسل جائز عندكم فإذا كان التسلسل جائزا فلم لا يجوز ألا يكون المؤثر في شيء معين تاما في الأزل ولكن تأثيره في كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى غاية وتكون جميع مفعولاته محدثه ومعلوم أن هذا مقتضي هذه الحجة والرازي وغيره غفلوا عن هذا الجواب لأنهم يعتقدون بطلان التسلسل فأخذوا في الحجة مسلما لما قالوا في آخر الحجة ويلزم التسلسل وهو محال وإنما هو محال مطلقا عند من يقول بامتناع حوادث لا أول لها من أهل الكلام وليس هو ممتنعا مطلقا عند الفلاسفة بل ولا عند أئمة أهل الملل كالسلف والأئمة الذين يقولون إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ويقولون إن الفعل من لوازم الحياه فإن كل حي فعال بل يصرح غير واحد منهم بأن كل حي متحرك كما صرح بهذه المعاني من صرح بها من أئمة السلف والسنة والحديث فلو أن هؤلاء المتكلمين قالوا للفلاسفة وهب أن هذا يستلزم التسلسل فالتسلسل جائز عندكم فالحجة باطلة على أصلكم لتبين فساد الحجة على أصل الفلاسفة لكن الفلاسفة تقول للمتكلمين التسلسل اللازم هو تسلسل في أصل التأثير وهو في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا متفق على امتناعه كالتسلسل في نفس المؤثر

وفصل الخطاب أن لفظ التأثير والفعل والإبداع ونحو ذلك يراد به في حق الله تأثيره في كل ما سواه وهو إبداعه لكل ما سواه ويراد به التأثير في شيء معين وهو خلقه لذلك المعين ويراد به مطلق التأثير وهو كونه مؤثرا في شيء ما فإذا أريد بالتأثير إبداعه لكل شيء في الأزل فهذا ممتنع بضرورة الحس والعقل فإن الحوادث مشهودة وأيضا فكون الشيء مبدعا أزليا ممتنع وإن أريد به التأثير في شيء معين فمعلوم أيضا أن مثل هذا التأثير حادث بحدوث أثره فإحداث الأثر المعين لا يكون إلا حادثا
وإن أريد بالتأثير مطلق الفعل وهو كونه فاعلا في الجملة فيقال للفلاسفة بحثكم إنما ينفي نقيض هذا وهو أنه يمتنع أن يفعل بعد أن لا يكون فاعلا لشيء لا يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد أن كان فاعلا لشيء آخر ولا يوجب كونه في الأزل مؤثرا تاما بمعنى أنه مستلزم لآثاره في الأزل بل يوجب أنه لم يزل موصوفا بمطلق الفاعلية لا أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن وهذا إذا صح دل على أنه لم يزل محدثا لشيء بعد شيء لم يدل على أن مفعوله المعين قديم أزلي معه فإنهم قالوا فعله معه في الأزل لأنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام يستلزم أثره فلا يتخلف عنه فعله لأنه لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما فإن لم يحدث شيء لزم الترجيح بلا مرجح

وإن حدث شيء فذلك الحادث لا بد له من سبب حادث فيلزم التسلسل وقولهم لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما إنما يستلزم التسلسل في الآثار لا في المؤثرات لأنه يمكن أن تقوم به إرادات وتصورات متعاقبة متسلسلة وهذا التسلسل جائز عندهم ثم عند اجتماع متأخرها مع متقدمها تحدث الآثار وهذا الجواب أجاب به طائفة منهم الأبهري وهو أجود من الجواب الذي سماه الرازي الباهر وأبو البركات وغيره يسلمون صحة هذا وابن سينا وأمثاله ليس لهم ما ينفون به هذا إلا ما ينفون به الصفات وقولهم في نفي الصفات في غاية الفساد وأيضا فيقال الذي دل على امتناع التسلسل في تمام التأثير هو التأثير المطلق وذلك لا يدل على قدم شيء من العالم وقد يقول الفلاسفة للمتكلمين فهذا لازم على أصلكم فإذا قالوا لهم ذلك أمكن أن يجاب عن هؤلاء المتكلمين بأن التسلسل إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولكم بقدم العالم ودوام حركة الفلك وإذا بطل قولكم بطلت الحجة الدالة عليه بطريق الأولى فإن القول الباطل لا يكون عليه دليل صحيح وإن كان التسلسل ممكنا بطلت هذه الحجة فثبت بطلان هذه الحجة على التقديرين فإن قيل أبو علي بن الهيثم وابن سينا والسهروردي

وأمثالهم إنما ذكروا هذه الحجة على من يثبت ذاتا معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب فقالوا نحن نعلم بضرورة العقل أن الحادث بدون سبب حادث محال فإذا قلت حدث بسبب حادث فالقول في الأول كالقول في الثاني فيلزم حدوث الحادث بلا سبب وأيضا فإن الحجة مبنية على امتناع التسلسل في المؤثرات وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء قيل أولا الحجة المذكورة لا تتضمن لا هذا ولا هذا وإنما هي مبنية على امتناع التسلسل في الآثار الصادرة عن الواجب الوجود والفلاسفة تجوز هذا وحقيقة الأمر أن هؤلاء المتفلسفة أدعوا قدم الأفلاك وغيرها من الأمور المعينة ومنازعوهم قالوا بل نوع الفعل والمفعول ممتنع في الأزل فاحتج أولئك بامتناع أن يصير فاعلا من لم يكن فاعلا بدون سبب حادث والحدث لا يحدث إلا بفاعل ولا فاعل فكان تقدير الكلام لا يكون فاعلا حتى يصير فاعلا ولا يصير فاعلا حتى يصير فاعلا وهذا دور من وجه وتسلسل من وجه وهو تسلسل في نفس كونه فاعلا فهو من التسلسل في المؤثرات لكنه

دور في شيء واحد وتسلسل في شيء واحد مثل أن يقال هذا لا يكون حتى يكون ولا يكون حتى يكون فإنه اعتبار نفسه شيء واحد وباعتبار تعدد الأكوان دور وتسلسل في أمور ثم إن جعل الكون الثالث هو الأول كان دورا وإن جعله غيره كان تسلسلا ولذلك إذا قيل لا يفعل حتى يفعل ولا يفعل حتى يفعل إن جعل الثالث هو الأول كان دورا وإن جعل غيره كان تسلسلا فهذا ممتنع بلا ريب وأما إذا قيل لا يفعل فعلا حتى يفعل فعلا آخر لم يكن نوع الفاعلية حادثا بل أعيانها وهذا فيه النزاع المشهور والفلاسفة تجوز مثل هذا وهو لا يستلزم قدم شيء من العالم ولا يلزم أن يكون تأثيره في شيء معين أزليا وقيل ثانيا أما كلام ابن سينا وأخوانه فباطل من وجهين أحدهما أن يقال له قولك يستلزم حدوث الحوادث بلا محدث لها فجواز حدوثها عن مؤثر قديم بلا سبب حادث إن كان باطلا فقولكم أبطل منه وإن كان قولكم ممكنا فهذا أولى بالإمكان فالقول الذي فررتم إليه شر من القول الذي فررتم منه إذ قولكم يتضمن أن المؤثر التام الأزلي صدرت عنه الحوادث بلا حدوث شيء فيه ولا منه مع كون المؤثر التام لا يتخلف عنه شيء من مفعولاته
الوجه الثاني أن يقال أن هذه الحجة إنما تتضمن أن الفاعل لم يزل فاعلا ليس فيها ما يدل على أنه علة تامة في

الأزل ولا على أن شيئا من العالم قديم لا الأفلاك ولا غيرها فإذا كان كذلك فليس فيها ما يدل على مطلوبه وإنما يدل على بطلان قول من يجعل الفاعل صار فاعلا بعد أن لم يكن بلا سبب أصلا لكن هذا قول طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة ليس هذا القول معروفا عند سلف المسلمين وأئمة الدين فضلا عن الانبياء والمرسلين وليس في بطلان هذا القول إن بطل إثبات قدم العالم ولا شيء منه بل إنما يدل على بطلان ما يقوله أهل الكلام المبتدع كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم وهذا مما يتبين به أن أدلة العقول موافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ومما يبين فساد قول هؤلاء القائلين بقدم العالم عن الموجب بالذات أن يقال إما أن يكون مجرد ذاته هي الموجب للعالم أو هي متوقفة على أمر آخر فإن كان الأول لزم قدم كل شيء في العالم ودوامه بقدم الموجب ودوامه فإنه إذا لم يكن هنا إلا مؤثر تام قديم مستلزم لأثره لزم أن يكون أثره قديما معه بقدمه وهو مكابرة للحس وإن كان تأثيره موقوفا على غيره كان هذا مع بطلانه بالاتفاق مبطلا لقولهم بقدم العالم وأن يقال ذلك الغير إن كان قديما واجبا معه ومجموعهما هو العلة التامة لزم قدم الآثار بقدمهما فسواء فرض المؤثر القديم الموجب واحدا أو عددا متى قيل

إنه موجب بذاته في الأزل لزم حصول جميع موجبه في الأزل فيلزم ألا يحدث شيء وهو مخالف للعيان وإن قيل أن تأثيره موقوف على حادث غيره كان القول في حدوث ذلك الحادث كالقول في غيره فيمتنع صدوره عنه فتبين أنه يلزمهم كون الحوادث لا محدث لها كيفما داروا ويلزمهم أيضا ألا يكون واجبا بذاته لأن الواجب بذاته لا بد أن يكون غنيا عن غيره من كل وجه فإذا افتقر في فعله إلى غيره لم يكن غنيا من كل وجه لا سيما إذا كان فعله من لوازم ذاته وكان ذلك موقوفا على غيره كان لوازم ذاته موقوفا على غيره ووجود الملزوم بدون اللازم محال فيكون وجود ذاته موقوفا على ذلك الغير وما كان كذلك لم يكن واجبا بنفسه فكان قولهم مستلزما لكونه غير واجب بنفسه وكونه غير مبدع لشيء لا بالإيجاب ولا غيره
وأيضا فإذا كانت ذاته غير كافية في الأحداث كانت مفتقرة في الأحداث إلى امر عدمي لامتناع حدوث الحوادث عن غيره وإذا كان افتقاره إلى موجود غيره ممتنعا فافتقاره إلى المعدوم أولى بالامتناع ولأن المعدوم لا يكون مؤثرا ولا جزءا من المؤثر في الوجود وأيضا فهم يزعمون أنهم قالوا بقدم العالم نفيا للشركة عن الله لأنه إذا كان فعله مجرد ذاته مستقلا بالفعل لزم قدم الفعل وإذا كان حادثا كان موقوفا على غيره

فيقال لهم بل قولكم أن فعله متوقف على غيره لأن الحوادث التي تحدث ليست ذاته موجبة لها لامتناع كون الذات القديمة الموجبة بذاتها لآثارها موجبة للحوادث فلا يكون ممكنا من فعل الحوادث إلا بشريك وأما القائلون بالحدوث فلهم قولان أحدهما قول من يقول الأول لم يزل فاعلا للحوادث شيئا بعد شيء فعلى هذا تكون ذاته مستلزمة للفعل مع كون الأفعال والمفعولات حادثة شيئا بعد شيء ليس فيها ما هو قديم ومن غير أن يكون له شريك وإذا كان فعله للثاني موقوفا على فعله الأول مع أنه هو فاعل للجميع لا يفتقر في ذلك إلى غيره لم يكن في ذلك مفتقرا إلى شيء غيره
والقول الثاني قول من يقول أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فهؤلاء يقولون أنه فعل لمجرد قدرته أو لقدرته أو لمشيئته أو قدرته وداعيه لا يقولون أن فعله متوقف على موجود غيره وإذا قالوا أنه موقوف على انقضاء الأول لم يكن هذا الانقضاء مفتقرا عندهم إلى سبب وجودي فتبين أنهم على كل واحد من القولين أبعد عن الشرك من الفلاسفة
وهؤلاء الفلاسفة ليس معهم قط دليل يدلهم على قدم شيء من العالم ولا أن الخالق قارنه شيء من مخلوقاته ولكن غاية ما معهم أنه لم يزل فاعلا وإثبات نوع الفعل لا يستلزم إثبات فعل معين ولا مفعول معين

فقولهم بقدم الأفلاك أو مادة الأفلاك أو العقول والنفوس أو غير ذلك ليس لهم عليه حجة أصلا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتكلمنا على جميع ما ذكر في هذا الباب وأنه ليس في شيء منها ما يقتضي قدم شيء من العالم وهذا منتهى نظر العقلاء في هذا المقام ولهذا ذكر أبو عبدالله الرازي في خاتمة كتابه المسمى بالأربعين المسألة الأربعون وهي خاتمة الكتاب في ضبط المقدمات التي يكون الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية وختم ذلك بأن قال واعلم أن هنا مقدمتين يفرع المتكلمون والفلاسفة أكثر مباحثهم عليها المقدمة الأولى مقدمة الكمال والنقصان كقولهم هذه الصفة من صفات الكمال فيجب إثباتها لله عز و جل وهذه الصفة من صفات النقصان فيجب نفيها عن الله عز و جل وقال وأكثر مذاهب المتكلمين مفرعة على هذه المقدمة

إلى أن قال وأما المقدمة الثانية فهي مقدمة الوجوب والإمكان وهذه المقدمة في غاية الشرف والعلو وهي غاية عقول العقلاء قالوا الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب وذلك الواجب لا بد وأن يكون واجبا في ذاته وفي صفاته إذ لو كان ممكنا لافتقر إلى مؤثر آخر وتكلم على المقدمة الاولى قال والمقدمة الثانية وجوبه في جميع صفاته السلبية والثبوتية قالوا والدليل على أن الأمر كذلك أن ذاته إن كفت في تحقق تلك الصفة وجب دوامها بدوام الذات وإن لم تكف افتقرت ذاته في تلك الصفة إلى أمر آخر ولا بد في الآخر من الانتهاء إلى الواجب بذاته فيعود ما ذكرناه من أنه يلزم من دوام ذاته دوام تلك الصفة قال ثم إن الفلسفي يقول ما لأجله كان مؤثرا في غيره إما أن يكون هو ذاته أو لوازم ذاته فيلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته ودوام أثره والمتكلم يقول لما وجب في

الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فالفيلسوف يستدل بحال المؤثر على حال الأثر والمتكلم يستدل بحال الأثر على حال المؤثر وهي المعركة الكبرى والطامة العظمى في هذا الموضع قلت مقدمة الكمال والنقصان أشرف من مقدمة الوجوب والإمكان كما قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أنه لقائل أن يقول كل من المتكلم والمتفلسف لو أعطي تمام الهداية لعلم أن ما دل عليه العقل موافق لما أخبرت به الرسل ولما دل عليه الدليل الآخر العقلي فإن أدلة العقول لا تتناقض في نفسها ولا تناقض ما أخبرت به الرسل فيقال للمتفلسف أتعني بقولك يلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته في شيء معين كالأفلاك أو غيرها وكذلك تعني أنه يلزم دوام أثر معين كالأفلاك أو غيرها أو تعني به دوام مؤثريته في كل شيء أم تعني دوام مطلق التأثير والأثر فإن عنيت الاول لم يكن قولك صحيحا من وجوه أحدها أن هذا الدليل لا يستلزم دوام تأثير في أثر معين وإنما يستلزم دوام مطلق التأثير ومطلق الأثر وعلى هذا التقدير فإذا قيل لم يزل الله موصوفا بصفات

الكمال حيا متكلما إذا شاء فعالا أفعالا تقوم به أو مفعولات محدثة شيئا بعد شيء أعطي هذا الدليل موجبه ولم يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه وأشخاصه ولا دوام شيء منها كما تقوله أنت في حركات الفلك والحوادث الأرضية فإنك تقول نوع الحوادث دائم باق لا أول له فليس فيها شيء بعينه قديم فهي كلها محدثة وإن كانت الأحداث لم تزل وإذا قلت مثل هذا في فعل الواجب كنت قد وفيت بموجب هذا الدليل ولم تخالف شيئا من أدلة العقل ولا الشرع
الوجه الثاني أن يقال لو كان مؤثريته في شيء معين من لوازم ذاته دون غيره من الموجودات لم يكن التأثير في غيره من لوازم ذاته فيلزم أن يكون من التأثير ما ليس من لوازم ذاته في الأزل فكان من التأثير ما هو حادث ليس بقديم وحينئذ فإن كان ذلك بدون أن تقوم بذاته أمور متعاقبة أمكن أن يقال ذلك في جميع العالم فلا يكون شيء منه قديما وإن كان لا بد من قيام أمور متعاقبة أمكن أن يكون كل ما صدر عنه حادثا بعد أن لم يكن بهذا السبب من غير قدم شيء من العالم
الوجه الثالث أن كون الفاعل فاعلا لشيء مع كونه قديما بقدمه جمع بين النقيضين كما ذكره المتكلمون وأما كون الموجب لكونه فاعلا ذاته ولوازم ذاته فذلك لا يقتضي أن يكون فاعلا لشيء معين كما لا يقتضي أن يكون فاعلا لكل شيء وأما إن أريد مؤثريته في كل شيء فيقال محال أن يكون

اللازم دوام مؤثريته التامة وأثره كله فإن هذا لو كان حقا لم يحدث شيء في هذا العالم فحدوث الحوادث دليل على أنه لا يلزمه آثاره كلها وليست المؤثرية التامة المستلزمة الآثار ثابتة في الأزل بل تحدث عنه الأثار فيكون مؤثرا في هذا الحادث ثم في هذا الحادث وقد تقدم أنه لو لزم دوام الآثار لم يكن في العالم تغير أصلا وإن قلت بل اللازم دوام مطلق التأثير
فيقال ليس في هذا ما يقتضي قدم شيء من العالم بل كونه فاعلا للشيء يقتضي كون المفعول له مسبوقا بالعدم ودوام كونه فاعلا لا يناقض ذلك وحينئذ فليس مع الفلسفي ما يوجب قدم شيء من العالم
وأما قول المتكلم لما وجب في الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فيقال له أوجب في كل مفعول معين وكل فعل معين أن يكون مسبوقا بالعدم أم أوجب في نوع الفعل فإن قلت بالأول فلا منافاة بين أن يكون كل من الأفعال والمفعولات مسبوقة بالعدم مع دوام نوع المؤثرية والأثر وأذن ما دل عليه دليل العقل لا يناقض ما دل عليه ذلك

الدليل الآخر العقلي ومن اهتدى في هذا الباب إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال ومسألة الكلام والخطاب واعلم أن أولي الألباب هم سلف الأمة وأئمتها المتبعون لما جاء به الكتاب بخلاف المختلفين في الكتاب المخالفين للكتاب الذين قيل فيهم وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة 176 وحينئذ فالرب تعالى أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجدا له وكل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادث ولا يلزم من ذلك ان يكون نفس كماله الذي يستحقه متجددا بل لم يزل عالما قادرا مالكا غفورا متكلما كما شاء كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف فإن قال أن نوع الفعل يجب أن يكون مسبوقا بالعدم قيل له من أين لك هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه ولا في المعقول ما يرشد إليه وهذا يستلزم أن يصير الرب قادرا على نوع الفعل بعد أن لم يكن قادرا عليه فإنه إن لم يزل قادرا أمكن وجود المقدور فإن كان المقدور ممتنعا ثم صار ممكنا صار الرب قادرا بعد أن لم يكن وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء ولا تجدده فإن الأزل ليس هو شيئا معينا بل هو عبارة عن عدم الأولية كما أن الأبد عبارة عن عدم الآخرية فما من وقت يقدر إلا والأزل قبله لا إلى غاية كما قال النبي صلى الله عليه

وسلم في الحديث الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء ومما ينبغي أن يعلم أن الرازي وأتباعه مضطربون في هذه الحجة وأمثالها فتارة يكونون مع أهل الكلام وتارة يكونون مع الفلاسفة ولهذا يحتج بهذه الحجة في كتابه الذي صنفه في السحر ودعوة الكواكب وعبادة الأصنام المبنية على ذلك وقال فيه هذا ملخص ما وصل إلينا من علم الطلسمات والسحريات والعزائم ودعوة الكواكب مع التبري عن كل ما يخالف الدين ويثلم اليقين
قال في المقالة الأولى في تقرير الأصول الكلية لهذا العلم وفيه فصول الفصل الأول في تحديد الطلسمات وتحقيق الكلام فيها علىالوجه الكلي الطلسم علم بأحوال تمزيج القوى الفعالة السماوية والقوى المنفعلة الأرضية لأجل التمكن من إظهار ما يخالف العادة والمتع مما يوافقها قال وتحقيق الكلام فيه يستدعي بيان مقامين أحدهما

إثبات القوى الفعالة السماوية وتقريره أن الحوادث الحادثة في هذا العالم العنصري لا بد لها من أسباب وأسبابها إما أن تكون حادثة وإما أن تكون قديمة فإن كانت حادثة افتقرت إلى أسباب أخرى ولزم التسلسل وذلك محال لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في وجود كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال لأن ذلك المجموع ممكن وحادث بمجموعه وبكل واحد من أجزائه وكل ممكن محدث فله سبب مغاير له فاذن ذلك المجموع مفتقر لمجموعه ولكل واحد من أجزائه لمجموع الممكنات أجزاء ذلك المجموع ليس بممكن ولا حادث فإذن ثبت انتهاء جميع الممكنات إلى موجود واجب الوجود فقد بطل القول بالتسلسل وإذا ثبت انتهاء جميع الممكنات والمحدثات إلى سبب قديم واجب الوجود فنقول ذلك القديم إما أن يكون كل ما لا بد منه في مؤثريته حاصلا في الأزل أو ليس كذلك ويدخل في هذا القسم قول من يقول انه إنما خلق هذا الحادث في هذا الحين لأن خلقه فيه أصلح من خلقه في حين آخر

ولأن خلقه كان موقوفا على حضور وقت معين أو محقق أو مقدر فإنه على جميع هذه الأقوال صح القول بأن كل ما لا بد منه في مؤثريته في حدوث ذلك الحادث ما كان حاصلا في الأزل فأما إن قلنا إن كل ما لا بد منه في هذه المؤثرية كان حاصلا في الأزل لزم أن يكون الأثر واجب الترتيب عليه في الأزل لأن الأثر لو لم يكن واجب الترتيب عليه فهو إما ممتنع الترتيب عليه وإما ممكن الترتيب عليه فإن كان ممتنع الترتيب عليه فليس هو بمؤثر أصلا وقد فرضناه مؤثرا هذا خلف وإن كان ممكن الترتيب عليه وممكنا أن لا يترتب عليه أيضا فلنفرضه تارة مصدرا لذلك الأثر بالفعل وأخرى غير مصدر له بالفعل لأن كل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال وامتياز الحين الذي صار المؤثر فيه مصدر الأثر بالفعل عن الحين الذي لم يصر كذلك إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أولا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل انضمام القيد إليه تاما في المؤثرية وقد فرضناه كذلك هذا خلف وإن لم يتوقف فقد ترجح الممكن من غير مرجح ألبتة وتجويزه يسد باب الاستدلال بالممكن على المرجح وأما إن قلنا أن كل ما لا بد منه في المؤثرية ما كان حاصلا في الأزل فإن استمر ذلك السبب أبدا وجب ألا يصير ألبتة مؤثرا لكنا فرضناه مؤثرا فيما لا يزال هذا خلف فإن كان بسبب نقلنا الكلام إلى كيفية حدوثه ويلزم التسلسل فهو على وجهين أحدهما أن يكون التسلسل واقعا في أسباب ومسببات يكون مجموعها موجودا دفعة واحدة

وذلك مما أبطلناه الثاني أن يكون التسلسل واقعا على وجه يكون واحد منها مسبوقا بآخر لا إلى بداية وأول ذلك هو المتعين فإنه لما بطل جميع الأقسام إلا هذا القسم تعين هو للمصير إليه وتقريره أن يقال ذلك المؤثر القديم الواجب لذاته فياض أيضا لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر حتى يكون انقضاء المتقدم شرطا لفيضان المتأخر عنه وبهذا الطريق يصير المبدأ الأول مبدأ الحوادث المتغيرة قالوا ولهذا مثال في الحركات الطبيعية وفي الحركات الإرادية أما الحركات الطبيعية فلأن المدرة المرمية إلى فوق تعود بسبب ثقلها إلى الأرض فالموجب لتلك الحركة من أول المسافة إلى آخرها هو ذلك الثقل إلا أن ذلك الثقل إنما أوجب انتقال الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث لأن الحركة السابقة أوصلته إلى الثاني فكان حصول الجزء الأول من الحركة وانقضاؤه شرطا لإمكان أن يصير ذلك الثقل مؤثرا في حركة الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث وهكذا القول في جميع الأجزاءالتي في الحركة وأما في الحركة الإرادية فلأن من أراد الذهاب إلى زيارة صديق له فتلك الإرادة هي المؤثرة في حركة البدن من ذلك المكان إلى مكان ذلك الصديق إلا أن تأثير تلك الإرادة في إيجاد الخطوة الثانية مسبوق بحصول الخطوة الأولى وانقضائها وعلى هذا الطريق فإن كل خطوة سابقة فهي

شرط لإمكان تأثير تلك الإرادة في حصول اللاحقة وعلى هذا الترتيب إلى آخر المسافة فثبت أنه لا بد من توسط حركة سرمدية دائمة بين المبدأ الأول وبين هذه الحوادث وهذه الحركة الدائمة يمتنع أن تكون مستقيمة وإلا لزم القول بوجود أبعاد غير متناهية وهو محال فإذن لا بد من جرم متحرك بالاستدارة وهو الفلك فثبت أن حركات الأفلاك هي المبادىء القريبة للحوادث الحادثة في هذا العالم فكان الفلك جرما بسيطا والنسب بين صفة الأجزاء المتشابهة متشابهة والأمور المتشابهة في تمام الماهية لا يمكن أن تكون عللا للأمور المختلفة فوجب أن تكون في أجرام الأفلاك أجرام مختلفة الطبائع وتكون تلك الأجرام بحيث تختلف نسبها وتشكلاتها حتى يمكن أن تكون تلك التشكلات هناك مبادىء لحدوث الحوادث المختلفة في هذا العالم والأجرام المختلفة الطبائع المركوزة في أجرام الأفلاك هي الكواكب فثبت أن المبادىء القريبة لحدوث الحوادث في عالم الكون والفساد هي اتصالات الكواكب قال الرازي ثم إن القائلين بهذا المذهب وهم الفلاسفة والصابئة قالوا بربوبيتة هذه الكواكب واشتغلوا بعبادتها واتخذوا لكل واحد هيكلا مخصوصا وصنما معينا واشتغلوا بخدمتها وساق الكلام إلى آخره قلت فهذا غاية تقرير أصل هؤلاء ومطلوبهم في هذا التقرير وهو مع هذا يدل على نقيض مطلوبهم لمن فهم حقيقة مقدمات هذه الحجة إذ ثبوت المؤثر التام في الأزل

ممتنع فإن الأزل ليس وقتا بعينه ولكنه عبارة عن نفي الأولية وهو الدوام الذي لا ابتداء له فلو كان لم يزل مؤثرا تاما والتام هو المستلزم لأثره لم يزل كل شيء موجودا قديما وهو خلاف المشاهدة فعلم أنه صار مؤثرا في الحوادث بعد أن لم يكن مؤثرا فيها وحينئذ فإذا قيل لم يزل مؤثرا في حادث بعد حادث وعنى بالمؤثر هذا لم يدل هذا على قدم شيء من العالم بل هذا يقتضي انقضاء مدة وأن المؤثرية المعتبرة في حدوث الحوادث ما كانت موجودة من الازل هذا نقيض ما طلبوه في ذلك التقدير فإنهم طلبوا أن تكون جميع الأمور المعتبرة في التأثير موجودة في الأزل ليكون العالم مقارنا له وقد بينا أن هذا ممتنع وأنه يمتنع وجود المؤثر التام في الأزل لأن ذلك يستلزم امتناع حدوث الحوادث كما قرروه هنا ونحن نبين بطلان استدلالهم على قدم العالم على هذا التقدير الآخر فقولهم لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال فيقال هذا بعينه يدل على حدوث ما سوى الله تعالى فإنه لا بد عند كل حادث من وجود المؤثر التام فيجب أن تكون

مجموع الأمور المعتبرة في تأثير كل حادث موجودة عند ذلك الحادث وحينئذ فالحادث الأول لا بد أن يكون شرطا في وجود الثاني حتى يوجد بعده سببا به يصير المؤثر مؤثرا وهؤلاء يقولون المؤثر القديم باق على حال واحدة ولكن الحادث الأول شرط في الثاني فلا يوجبون أن يكون عند كل امر حادث مؤثره التام موجودا لأن كل ما يعتبر في التأثير فهو داخل في المؤثر التام فلا بد أن تكون شروط التأثير موجودة عند التأثير وهؤلاء يجعلون شرط التأثير سابقا على وجود الأثر ليس بمقارن له فهذا الأصل مما يدل على نقيض قولهم وأيضا فقوله فإن كان حدوث الحادث بسبب لزم التسلسل على وجه التعاقب كما ذكره فيقال هذه الحجة تتضمن أن المؤثر القديم الواجب لذاته فياض لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر وذلك يقتضي أن يكون هو الذي يحدث الحوادث المتعاقبة فتكون صادرة عنه فلا يحدث الثاني حتى يحدث الأول فإذا كان إحداثه الثاني مشروطا بإحداثه الأول امتنع أن يكون موجبا بذاته وعلة تامة مستلزمة لمعلولها لأن الموجب لا يتأخر عنه موجبه والعلة لا يتأخر عنها معلولها وإذا لم يكن موجبا بذاته كان فعله لما يفعله بمشيئته وقدرته وكان تأثيره في كل واحد من الحوادث حاصلا بعد أن لم يكن مؤثرا فيه

وحينئذ فالمحدث لكمال ذلك التأثير لا يجوز أن يكون غيره لأن كل ما سواه مفعول له وإحداثه لذلك الغير هو من جملة إحداثاته فلا يجوز أن يكون ما به صار الخالق فاعلا مؤثرا هو أمرا يستفيده من غيره بل هو بنفسه الخالق لكل شيء والأفعال المتقدمة المشروطة في المفعولات المتأخرة هي أفعاله لا أفعال غيره فلو كان هو نفسه لم يفعل شيئا بنفسه بل الحوادث تحدث منفصلة عنه شيئا بعد شيء وهو نفسه لم يفعل بنفسه شيئا لزم ألا تكون تلك الحوادث صادرة عنه فإنه كل واحد من أجزاء الحركة حادث فلا بد له من سبب حادث والمتحرك جسم ممكن فما يحدث فيه من الاسباب المقتضية للحركة كالتصورات والإرادات المتعاقبة هي أيضا حادثة فيه شيئا بعد شيء وهو نوع حركة أيضا والفاعل لذلك يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبة بذاتها لمعلولها فإن ذلك لو كان كذلك لم يصدر عنها شيء من تلك الحركات والحركات حادثة ممكنة فلا بد لها من فاعل ونفس الجسم الذي هو متحرك دائما لا يجوز أن يكون موجبا بذاته علة تامة في الأزل مستلزمة لمعلولها لأن من معلولها الحركة التي توجد شيئا بعد شيء وتلك لا يكون المستلزم لها أزليا فإنه يلزم أن يكون أزليا وذلك تناقض لا سيما مع كثرة الحركات والحوادث واختلاف أنواعها
فصدور الأمور الحادثة المختلفة عن علة تامة بسيطة مستلزمة لمعلولها ممتنع في بدائه العقول سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة

وهؤلاء يقولون أن الواجب بذاته بسيط ليس له صفة ثبوتية ولا فعل قائم به ويقولون أنه علة تامة مستلزمة لمعلولها فكان لازم قولهم أنه لا يصدر عنه إلا واحد بسيط قديم وكذلك عن الصادر عنه فلما تيقن وجود الكثرة المختلفة الحادثة كان هذا مناقضا لقولهم وفضلاؤهم معترفون بهذا كما بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وهذا الكلام يدل على أمور تدل على امتناع حدوث الحوادث عن علة تامة فإن قولهم بحدوثها عن علة تامة قول باطل كيفما كان ويدل على أن محدث الحوادث لا يكون إلا فاعلا تقوم به الأفعال وكما أنه يدل على إبطال حجتهم على القدم فيدل أيضا على حدوث العالم من وجه آخر وذلك أن يقال العالم كله بما فيه من الأجسام والأعراض والعقول والنفوس إن قدر أنها خارجة عن الأجسام والأعراض بل كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون خاليا عن الحوادث المتعاقبة كالجسم الساكن وإما أن يكون متضمنا لها كالجسم المتحرك وكل من الأمرين يمتنع قدمه لانه لو كان شيء من العالم قديما لكان صادرا عن موجب بالذات وعلة تامة أزلية باتفاق العقلاء وهو معلوم بالدليل العقلي فإنه إذا كان قديما فإن كان فاعله فاعلا بغير قدرة ومشيئته فهو موجب بذاته وإن كان فاعلا بقدرته ومشيئته فإن كان الفاعل بالقدرة والاختيار لا يقارنه شيء من مفعولاته امتنع أن يكون مفعوله مقارنا

له فامتنع قدم مفعوله وإن قيل أنه يمكن أن يقارنه شيء من مفعولاته فهو مثل الموجب بذاته لكن هذا موجب بذاته مع مشيئته وقدرته والمقصود أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون فاعله مستلزما له لا يجوز أن يكون فاعله ممن يتراخى عنه مفعوله فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه وإما أن يجوز فيه الأمران فلو كان العالم قديما لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله لأن ذلك جمع بين النقيضين كيف يكون مفعوله قديما أزليا ويكون متأخرا عنه حادثا بعد أن لم يكن فتعين أن يكون فاعله إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجوز فيه الأمران والثاني باطل أيضا فإنه إذا جاز أن يقترن به المفعول وجاز ألا يقترن كان وجود المفعول ممكنا والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والقول في هذا المرجح كالقول في غيره إن كان فاعله مستلزما له كان مقارنا له فيلزم مقارنة الأول له فإن لم تجب مقارنته له كان ممكنا مفتقرا إلى مرجح آخر وهلم جرا فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مرجح تام مستلزم لمفعوله فتبين أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون مبدعه مرجحا تاما مستلزما لمفعوله سواء عبر عنه بالعلة التامة

أو المؤثر التام أو المرجح التام وسواء قيل أنه يفعل بدون قدرة وإرادة أو بقدرة وإرادة مستلزمة لمرادها أو غير ذلك من الأمور التي يجب معها أن يكون صادرا عن فاعل مستلزم لمفعوله وإذا كان قدمه مستلزما للمؤثر التام فوجود المؤثر التام في الأزل ممتنع وذلك لأن أثره إن كان خاليا عن الحوادث وأثر أثره كذلك لزم ألا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف الحس سواء قيل إن ذلك الأثر هو العقول التي لا حركة فيها أو قيل هو أجسام ساكنة فعلى التقديرين إذا كان الصادر عنه لا حادث فيه لزم أن يكون الصادر عن الصادر لا حادث فيه وإلا لزم صدور ما فيه الحوادث عما لا حوادث فيه وهذا هو القسم الثاني وهو أن يكون أثره متضمنا للحوادث وهذا أيضا ممتنع لأن تلك الحوادث هي أيضا من الصادر عنه وإما أن يقال هي لازمة لذلك المحل أو عارضة له حادثة بعد أن لم تكن وكلاهما ممتنع
أما الثاني فلأن حدوثها بعد أن لم تكن هو أمر حادث فلا بد له من سبب حادث والتقدير أن الفاعل لم يحدث عنه سبب حادث فامتنع ابتداء الحوادث بلا سبب حادث وإن قيل أنه مستلزم للحوادث وهو قولهم كما في الفلك قيل ما كان مستلزما للحوادث امتنع وجوده بدونها فالمبدع له لا بد أن يبدع الحوادث اللازمة له التي هي شرط

في وجوده والعلة التامة يمتنع أين يصدر عنها حادث فإن العلة التامة الأزلية معلولها معها قديم والحادث لا يكون قديما
وإن قيل صدر عنها حادث بعد حادث لم يكن في الأزل علة تامة لشيء بل هي علة تامة لكل حدث حال حدوثه فتبين أن العلة التامة الأزلية لا يصدر عنها لاحادث معين ولا نوع الحوادث وإن قيل هي علة تامة للنوع قيل النوع لا يوجد إلا متعاقبا فيكون تمامها متعاقبا لا أزليا وذلك إنما يكون بما يقوم بها شيئا بعد شيء فأما أن يكون تمامها لمفعولها من غير فعل يقوم بها فهو ممتنع وهو مستلزم لأن يكون المخلوق مؤثرا في الخالق بدون فعل يقوم بالخالق يؤثر به في المخلوق وأيضا فصدور الحوادث والمختلفات عن بسيط لا يقوم به فعل ولا صفة ممتنع في بدائه العقول وأيضا فمقارنة المفعول لفاعله ممتنعة وأيضا فإن الحادث متأخر والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها وإذا كان صدور الحوادث اللازمة التي هي شرط ممتنعا وصدور الملزوم بدون اللازم ممتنع امتنع صدور العالم كله لازمه وملزومه وهوالمطلوب ونكتة الدليل أن قدم العالم لا يكون إلا مع كون المبدع موجبا بذاته وصدور الحوادث عن الموجب بذاته ممتنع فصدور العالم عن الموجب بذاته ممتنع فقدم العالم ممتنع

فالقول بالعلة التامة يقتي بطلان القول بقدم العالم المستلزم للحوادث وإنما كان القول بذلك ممكنا لو كان المعلول غير مستلزم للحوادث وغير قابل للحوادث وإن كان ذلك ممتنعا من وجه آخر كامتناع مقارنة المفعول لفاعله يوضح هذا انه إذا قال القائل قد يكون علة تامة للأفلاك وليس علة تامة لحركات الأفلاك بل يصدر عنه شيء بعد شيء
قيل صدورها شيئا بعد شيء عن علة تامة ممتنع فلا بد أن يكون قد قامت به أحوال اوجبت حدوث تلك الحركات فلا يكون علة تامة لشيء من الحركات وإذا لم يكن علة تامة لشيء من الحركات لم يكن علة تامة لما يستلزم الحركات لأنه إذا كان علة لها بدون الحركات لزم أن تكون مقارنة له خالية عن الحركات والتقدير أنها مستلزمة للحركات فيلزم اجتماع النقيضين وإن قيل انه يستلزم حركة واحدة منها قيل الحركات الدائمة الأزلية لا يتعين فيها شيء دون شيء بل لم تزل ولا تزال أفرادها متعاقبة فيمتنع أن يكون علة تامة لواحد منها دون الآخر في الأزل مع أنه ليس فيها شيء أزلي بعينه ويمتنع أن يكون علة تامة لجميعها في

الأزل لامتناع وجودها في الأزل فامتنع أن يكون علة تامة لشيء من الحركات الأزلية فالحركة التي توجد شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة أزلية كيفما قدر الأمر فإذا كان القديم مستلزما للحركة إما لحركة فيه كالفلك وإما لحركة لازمة له معلولة كما يقولونه في العقل امتنع أن تكون العلة الموجبة موجبة له دون الحركة اللازمة وامتنع أن يكون موجبا للحركة اللازمة فامتنع أن يكون موجبا له على التقديرين فامتنع قدم العالم أو شيء من العالم وهو المطلوب وهذا برهان شريف على حدوث ما سوى الله مطلقا وهو مبنى على المقدمات الصحيحة التي تسلمها الفلاسفة وغيرهم فإن الموجب بالذات لا بد أن يقارنه موجبه بالاتفاق وأما الفاعل بالاختيار فهل يجب مقارنة مراده لإرادته أو يمتنع ذلك فيها أو يجوز الأمران على ثلاثة أقوال للناس وعلى كل تقدير فإنه يجب حدوث كل ما سوى الله أيضا فإنه إن قيل بوجوب مقارنة مراده له امتنع أن تكون إرادته لشيء معين أزلية فإنه يكون مستلزما له في الازل ويكون القول فيه كالقول في الموجب بالذات وقد تبين امتناع الموجب بالذات في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من مراده أزليا فإن قيل بوجوب تأخر مفعوله لزم حدوث مراده وإن

قيل بجواز الأمرين فحدوث المراد بعد أن لم يكن يقتضي سببا حادثا والقول فيه كالقول في الأول فامتنع حدوث شيء عنه إلا بسبب حادث وحدوث الحادث عن إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع وقدم العالم بدون إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع فثبت حدوثه وحاصل الأمر أن مقارنة المراد للإرادة أن قيل أنها واجبة ألحقت بالقسم الأول وإن قيل بأنها ممتنعة اقتضت حدوث العالم وأما القول بأنه يمكن مقارنة مفعوله له ويمكن تأخره عنه في الواجب الوجود فهذا لم يقله طائفة معروفة لأن المعتزلة الذين يقولون أن الممكن لا يقف على المرجح التام المستلزم لمقتضاه بل يكفي فيه القادر الذي له أن يرجح وألا يرجح يقولون أنه يجب تأخير مفعول القادر عن الازل
وأما من يقول أن الممكن يقف على المرجح المستلزم لمقتضاه كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يمتنع عندهم أن يكون الفاعل يمكن أن يوجد فعله وأن لا يوجد ويكون فاعلا مع إمكان الطرفين بل أن تمت أسباب الفعل وجب المفعول وإن لم تتم أسبابه امتنع المفعول فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والممكن باعتبار غيره أما واجب بغيره أو ممتنع لغيره فإن حصل المقتضى التام كان واجبا وإن لم يحصل كان ممتنعا فتبين أنه ليس في العقلاء المعروفين من يقول أن المفعول القديم يصدر عن فاعل يجوز أن يتأخر عنه مفعوله بل

هم متفقون على ما قام عليه الدليل من أنه لو كان قديما لكان فاعله مستلزما لمفعوله لكن العالم مستلزم للحوادث وصدور الحوادث والمستلزم للحوادث عن الفاعل المستلزم لمفعوله محال وإذا قدر أنه اوجب العالم ثم أحدث فيه الحوادث كان ذلك أيضا ممتنعا لأنه يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك ممتنع كما تقدم وإن شئت قلت إن كان حدوث الحوادث بلا سبب حادث جائزا أمكن حدوث العالم وبطل القول بوجوب قدمه وإن كان ممتنعا بطل القول بقدمه لامتناع حدوث الحوادث عن الموجب الأزلي فبطل قول الفلاسفة بوجوب قدمه على التقديرين وبطلت حجتهم على قدمه وهذا كما تقول إن كان تسلسل الحوادث ممتنعا لزم حدوثه وإن كان ممكنا أمكن حدوث كل شيء منه بحادث قبله فبطلت الحجة الدالة على قدم شيء منه وبطل القول بوجوب ذلك على التقديرين وهذه الطريق فيها تقرير حدوث كل شيء من العالم من غير احتياج إلى جعل الرب قادرا بعد أن لم يكن أو فاعلا بعد أن لم يكن وهي موافقة لمذهب السلف والأئمة ليس فيها ابطال أفعال الله القائمة به ولا ابطال صفاته ولا تعطيله عن الأفعال وصفات الكمال ولا إثبات حادث بلا سبب حادث ولا ترجيح الممكن بلا مرجح فهي جامعة للأدلة العقلية السليمة عن المعارض والنصوص السمعية المزكية لما دل عليه العقل ومبينة أن الرب لم يزل ولا يزال

موصوفا بصفات الكمال كما وصفه أئمة السنة من أنه لم يزل متكلما إذا شاء لم يزل حيا فاعلا أفعالا تقوم به لم يزل قادرا وكل ما سواه مخلوق له حادث عنه وأن حدوث الأشياء عنه شيئا بعد شيء فليس فيها شيء كان معه ولا قارنه بوجه من الوجوه والله أعلم فهذا مما يدل على حدوث كل واحد واحد من العالم وليس هذا موضع بسطه وإنما تكلمنا هنا في فساد حجتهم التي هي عمدتهم ذكرنا أن قولهم يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل وتسلسل العلل وذلك ممتنع بصريح العقل وبموافقة المنازعين
وما ذكرناه من البراهين يتبين بالبرهان الثالث وإن كان فيما تقدم تنبيه عليه وهو أن يقال العلة التامة لا بد أن تكون موجودة عند وجود المعلول لا قبله وهم يسلمون ذلك فيلزم أن يكون لكل حادث علة تامة موجودة عند وجوده فلو كان الحادث الأول الذي حدث قبله هو تمام العلة لكان جزء العلة موجودا قبل المعلول فلا تكون علته التامة موجودة عند حدوثه بل يلزم من ذلك حدوث الحوادث بشرط متقدم على وجودها وإذا جاز وجود الموجودات بفاعل متقدم على وجودها وشرط حادث قبل وجودها لم يجب أن يكون لها علة تامة فلا يكون لشيء من الحوادث علة تامة بحيث تكون جميع أجزائها حاصلة عند وجوده فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث علة تامة بطل أن يكون لها محدث وذلك ممتنع

فإن قيل لم لا يجوز تمام العلة للحادث الثاني عدم الأول وهذا العدم مقارن للحادث الثاني
قيل لأن العدم إذا لم يستلزم أمرا وجوديا لم يكن جزءا من علة الموجود فإن العدم لا تأثير له اصلا في وجود بخلاف الماشي في الأرض فإنه كلما قطع مسافة تجدد له قدرة وإرادة لقطع المسافة الثانية والاول إذا قيل أنه يفعل شيئا بعد شيء بذاته يقتضي كمال فاعليته لكل مفعول عند وجوده وذاته فعلها للأول أمر وجودي ووجود الثاني مع الأول الذي يضاده ممتنع وعدم الممتنع يقتضي كمال القدرة المقارنة للفعل بخلاف ما إذا قيل أن حال الذات مع الحادث الأول والثاني واحد ولم يتجدد منها ولا من غيرها ما يقتضي كمال فاعليتها للثاني عند وجوده وتبين هذا بالبرهان الرابع وهو أن الحادث الثاني إذا كان مشروطا بالحادث الأول الذي هو موجود قبله والواجب الوجود أيضا موجود قبله وهو علة تامة أزلية كان هذا متناقضا فإنه على الأول يلزم أن يكون كل ما به تصير الحوادث موجودة موجودا قبلها ولا يكون شيء من المحدث لها حادثا معها وهذا يمنع أن يكون لشيء من الحوادث علة إذ العلة يجب مقارنتها للمعلول فضلا عن أن يكون لها علة أزلية فتبين أن إثبات العلة التامة يناقض هذا القول المتضمن حدوث الحوادث بشروط متقدمة عليها وهو أيضا يناقض القول بحدوث تمام العلل مع حدوث المعلومات

إذ لو كان حادثا معها لزم أن يكون تمام علة كل حادث حادثا معه فلا يكون للحوادث علة تامة أزلية مع أن حدوث تمام العلل ممتنع على هذا التقدير فإنه يستلزم وجود حوادث متسلسلة في آن واحد من غير محدث إذ لم يكن هناك إلا علة تامة أزلية وهذا أيضا مما يوافقون على امتناعه وهو يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل فتبين أن القول بالعلة التامة الأزلية باطل سواء قيل إن شرط حدوث الحادث موجود قبله أو موجود معه وحدوث الشروط علىالتقديرين عن العلة التامة ممتنع فتبين امتناع حدوث كل واحد من الحوادث وشروطها عن العلة التامة الأزلية على كل تقدير والقول بالقدم يستلزم العلة التامة الأزلية وما استلزم الباطل فهو باطل
وكل من العالم مقارن لشيء من الحوادث فإذا ظهر امتناع حدوث الحوادث عن العلة التامة الأزلية تبين امتناع قدم شيء من العالم لأنه لا يوجد إلا مع حادث ووجود ذلك عن العلة التامة الأزلية محال لا سيما وهم يقولون كل من الحوادث تمام علة حادث قبله فليس لشيء منها علة تامة مقارنة له وإنما الذي يقارنه جزء العلة وهو السبب الدائم الذي يتوقف فيضه على حدوث هذا الحادث فلا يحدث الثاني حتى ينقضي الأول وذلك السبب ليس هو علة تامة لشيء من الحوادث لا احداثه للثاني مقارنا لوجود الأول وليس عند حدوث شيء من الحوادث علة تامة أصلا فتبين أنهم يقولون في الحقيقة أن الحوادث لا تحدث عن علة تامة فضلا عن أن تكون أزلية

وهذه الوجوه من تدبرها وفهمها علم فساد مذهب القوم بالضرورة وأن صانع العالم يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبا بذاته بل يجب أن يكون فاعلا للأشياء شيئا بعد شيء وهذا لا يكون إلا إذا فعل بمشيئته وقدرته وهو المطلوب
واعلم أن هذا كلام المتأخرين منهم كابن سينا وأمثاله وهو خير من كلام متقدميهم كأرسطوطاليس فإن أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة الذى هو غاية حكمتهم وعلمهم إنما اعتمد في إثبات العلة الأولى على الحركة الشوقية فإنه لما قرر أن حركة الفلك شوقية إرادية وأن المتحرك بالشوق والإرادة لا بد أن يكون له مراد وهو محبوبه ومطلوب وجب ان يكون هناك علة غائية هي المحبوب المعشوق المراد وقالوا أن الفلك يتحرك للتشبه بها كتحريك المؤتم بإمامه ثم قد يقولون إن الفلك يتشبه بالمبدأ الأول وقد يقولون يتشبه بالعقل والعقل يتشبه بالأزل

وهذا التقدير إنما يثبت وجود علة غائية لا يثبت وجود علة فاعلية فيقال هب أن الحركة إرادية وأن الحركة الإرادية لا بد لها من محبوب مراد فما السبب المحدث الفاعل لتلك الحركة الإرادية الشوقية فإن كان الفلك واجب الوجود بذاته لم يكن هذا قولهم وكان باطلا من وجهين أحدهما أن واجب الوجود بذاته لا يكون مفتقرا إلى غيره لا إلى علة فاعلية ولا غائية فإذا جعلت له علة غائية يحتاج إليها في إرادته وحركته لم يكن مستغنيا بنفسه عنها فلا يكون واجبا بذاته
الثاني أنه إذا جاز أن يكون الفلك واجبا بذاته أمكن أن يكون هو العلة الغائية لحركته كما أنه هو العلة الفاعلة لحركته وقد بسط الكلام على فساد قولهم في غير هذا الموضع وأما ابن سينا وأتباعه فإنهم عدلوا عن هذه الطريق وسلكوا طريقة مركبة من طريق المتكلمين وطريق هؤلاء الفلاسفة فقالوا الموجود إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا والممكن لا بد له من واجب كما يقول المتكلمون الموجود إما محدث وإما قديم والمحدث لا بد له من قديم

فلا بد من موجود واجب قديم ثم إنه أثبت أن الأفلاك ممكنة بناء على أنها أجسام والجسم مركب والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجبا بنفسه كما يقول المعتزلة الأجسام محدثة لأن الأجسام مركبة والمركب لا بد له من مركب فلا يكون قديما وجعلوا هذا عمدة في نفى صفات الله تعالى
وهؤلاء أخذوا لفظ المركب بالاشتراك فإن المركب إذا أريد به ما ركبه غيره أو ما كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمع أو ما يقبل التفريق امتنع أن يكون واجبا بنفسه وقديما وأما إذا أريد به الموصوف بصفات الكمال اللازمة كالعلم والقدرة ونحوهما لم يلزم من ذلك أن يكون محدثا ولا ممكنا يقبل العدم كما قد بسط في غير هذا الموضع ولفظ الافتقار والجزء والغير ألفاظ مجملة فيراد بالغير ما يباين غيره وعلى هذا فالصفة اللازمة لا يقال أنها غير الموصوف ويراد بالغير ما ليس هو الآخر وعلى هذا فالصفة غير الموصوف وواجب الوجود بنفسه يمتنع أن يفتقر إلى أمر مباين له ولكن لا يمتنع أن يكون مستلزما لصفات الكمال التي يمتنع أن تفارقه وتسمية الصفة اللازمة جزءا تلبيس وتسمية استلزام الموصوف لصفته واستلزام الصفة للموصوف افتقارا تلبيس أيضا كما قد بسط في غير هذا الموضع وهؤلاء القوم من أسباب ظهور كلامهم وظلال كثير من الناس به أنهم يحتجون على طوائف أهل القبلة بما

يشاركونهم فيه من المقدمات الضعيفة المبتدعة فلا يزالون يلزمون صاحب ذلك القول بلوازم قوله حتى يخرجوه من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين فإن الحسنة تدعو إلى الحسنة والسيئة تدعو إلى السيئة كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق عليه عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا وقال بعض السلف أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها والإنسان قد يعتقد صحة قضية من القضايا وهي فاسدة فيحتاج أن يعتقد لوازمها فتكثر اعتقاداته الفاسدة ومن هذا الباب دخلت القرامطة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم على طوائف المسلمين فإن هؤلاء قالوا للمعتزلة ألستم قد وافقتمونا على نفي الصفات حذرا من التشبيه والتجسيم فقالوا نعم فقالوا وهذا المحذور يلزمكم في إثبات أسماء

الله تعالى له فإذا قلتم هو حي عليم قدير كان في هذا تشبيه له بغيره ممن هو حي عليم قدير وكان في هذا من التجسيم كما في إثبات الحياة والعلم والقدرة له لأنه لا يعرف مسمى بهذه الأسماء إلا جسم كما لا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا جسم فأخذوا ينفون أسماء الله الحسنى ويقولون ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير ثم اقتصر بعضهم على نفي الإثبات فقال لهم الصنف الآخر إذا قلتم ليس بموجود ولا بحي ولا عليم ولا قدير فقد شبهتموه بالمعدوم كما أن في الإثبات تشبيها بالموجود فيجب أن يقال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وهؤلاء يقولون في انفسهم أنهم من أذكى الناس وأفضلهم وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم فإنه يقال لهم أولا سلبتم النقيضين والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فكما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين وكما يمتنع أن يقال في شيء واحد أنه موجود معدوم يمتنع أن يقال ليس بموجود ولا معدوم وأما إثبات سلب الحياة والموت والعلم والجهل والكلام والخرس فقد يقولون أن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب ويفرقون بين هذا وبين هذا بأن سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له هو العدم وتقابله الملكة كسلب العلم والسمع والبصر عن الحيوان بخلاف سلب ذلك عن الجماد قالوا فالحيوان

يقال له أعمى أصم أبكم إذا عدم عنه ما من شأنه أن يقبله بخلاف الجماد فإنه لا يقال له أعمى أصم أبكم لأنه لا يقبل ذلك وحينئذ فلا يلزم من سلب الحياة والعلم والقدرة والكلام عن واجب الوجود أن يكون موصوفا بما يقابل ذلك من الموت والجهل والعجز والخرس إلا أن يكون قابلا لذلك وهذا ممنوع أو غير معلوم وهذه الشبهة قد أضلت خلقا من أذكياء المتأخرين حتى الآمدي وأمثاله وهي باطلة من أوجه أحدها أن يقال إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك وإما ألا يكون قابلا لذلك فإن لم يكن قابلا لذلك كان ذلك أعظم في النقص من كونه قابلا لذلك غير متصف به فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى وإذا كان اتصافه بكونه أعمى أصم أبكم ممتنعا مع كون المتصف بذلك أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بهذا وبضده علم أن كونه غير قابل للاتصاف بذلك أعظم في نقصه وإذا كان ذلك ممتنعا فهذا أعظم امتناعا فامتنع أن يقال أنه غير قابل للاتصاف بصفات الكمال وإذا كان قابلا للاتصاف بذلك تقابلا تقابل العدم والملكة باصطلاحهم فإن لم يتصف بالحياة والعلم والقدرة لزم اتصافه بالموت والعجز والجهل وهذا ممتنع بالضرورة فنقيضه حق
الوجه الثاني أن يقال كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أحق به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه

عنه لأن الموجود الواجب القديم أكمل من الموجود الممكن والمحدث ولأن كل كمال في المفعول المخلوق هو من الفاعل الخالق وهم يقولون كمال المعلول من كمال العلة فيمتنع وجود كمال في المخلوق إلا من الخالق فالخالق أحق بذلك الكمال ومن المعلوم بضرورة العقل أن المعدوم لا يبدع موجودا والناقص لا يبدع ما هو أكمل منه فإن النقص أمور عدمية ولهذا لا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورا وجودية وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه كما قال تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم سورة البقرة 255 فنزه نفسه عن السنة والنوم لأن ذلك يتضمن كمال الحياة والقيومية وكذلك قوله وما مسنا من لغوب سورة ق 38 يتضمن كمال القدرة وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سورة سبأ 3 يتضمن كمال العلم وكذلك قوله لا تدركه الأبصار سورة الأنعام 103 فمعناه على قول الجمهور لا تحيط به ليس معناه لا تراه فإن نفي الرؤية يشاركه فيه المعدوم فليس هو صفة مدح بخلاف كونه لا يحاط به ولا يدرك فإن هذا يقتضي أنه من عظمته لا تدركه الأبصار وذلك يقتضي كمالا عظيما تعجز معه الأبصار عن الإحاطة فالآية دالة على إثبات رؤيته ونفي الإحاطة به نقيض ما تظنه الجهمية من أنها دالة على نفي رؤيته الوجه الثالث أن يقال الكمال الذي لا نقص فيه بوجه

من الوجوه الممكن للموجود إما أن يكون ممكنا للواجب وإما أن يكون ممتنعا عليه فإن كان ممتنعا عليه لزم أن يكون الموجود غير قابل للكمال فإن الموجود إما واجب وإما ممكن والواجب إذا لم يقبل الكمال فالممكن أولى ونحن قد ذكرنا الكمال الممكن للموجود الذي لا نقص فيه فيمتنع أن يكون الكمال الممكن للموجود غير ممكن للموجود وإذا كان ذلك ممكنا له فإما أن يكون لازما أو يكون جائزا فإن كان لازما له ثبت أن الكمال الممكن للموجود لازم للقديم تعالى واجب له وهو المطلوب وإن كان جائزا كان مفتقرا في حصوله إلى غيره وحينئذ فذلك الغير أكمل منه لأن معطي الكمال أكمل من الآخذ له وذلك المعطي إن كان مخلوقا له لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق وأيضا فشرط إعطائه الكمال اتصافه بصفات الكمال والكمال إنما يستفيده من الكامل فيمتنع أن يكون معطيا له لئلا يلزم الدور في الفاعلين والعلل الفاعلة فإنه ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء
وإن كان الغير ليس مخلوقا له كان واجب الوجود بنفسه وحينئذ فإن كان متصفا بصفات الكمال بنفسه فهو الرب الخالق والأول مفعول له ليس له من نفسه صفات الكمال فهو عبد لا رب وإن لم يكن متصفا بصفات الكمال بنفسه بل هذا يستفيد الكمال من هذا وهذا يستفيده من هذا كان هذا دورا ممتنعا وهذا من أعظم ما يحتج به على توحيد الربوبية وأنه

يمتنع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إما أن يكون كل منهما فاعلا لجميع العالم وهذا ممتنع بالضرورة فإنه إذا كان هذا فاعلا للجميع لم يكن الآخر فاعلا لشيء منه فضلا عن أن يكون فاعلا لجميعه فلو كان هذا فاعلا لجميعه وهذا فاعلا لجميعه كان كل منهما فاعلا غير فاعل وإن كانا متشاركين فإن كان كل منهما قادرا حين الانفراد لزم امتياز مفعول كل منهما عن الآخر فذهب كل إله بما خلق ولهذا كل مشاركين فلا بد أن يكون فعل كل منهما مميزا عن الآخر وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا لزم أن يقدر أحدهما على فعل العالم حين قدرة الآخرة عليه فيلزم كون كل منهما قادرا على فعله كله حال قدرة الآخر على فعله كله وهذا ممتنع كما تقدم فامتنع أن يكون أحدهما قادرا على فعله حال قدرة الآخر على فعله كما هو المعروف في القادرين على تحريك شيء ولا يقدر أحدهما على تحريكه إلا حال ما لا يكون الآخر محركا له فإذن لا يكون احدهما قادرا إلا عند تمكين الآخر له فلا يكون أحدهما قادرا إلا بأقدار الآخر له فلا يكون قادرا حال الانفراد وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا حال الانفراد أمكن أن يفعل ضد مفعول الآخر وأن يريد خلاف مراده مثل أن يريد هذا تحريك جسم والآخر تسكينه فيمتنع وجود المرادين جميعا لامتناع اجتماع الضدين فيلزم تمانعهما

فلا يكون واحد منهما قادرا فثبت أنه يمتنع كون كل منهما قادرا حين الانفراد وإن لم يكن واحد منهما قادرا إلا عند الاجتماع كان كل منهما مؤثرا في جعل الآخر قادرا فلا يكون هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له ولا هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له فيلزم كون كل منهما مؤثرا في الآخر وهذا هو الدور في الفاعلين والعلل وهو ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه كثيرة فإن كون الشيء فاعلا لنفسه ممتنع فكيف يكون فاعلا لفاعله
ولأن الفاعل متقدم بذاته على المفعول فيلزم تقدم هذا بذاته على هذا وهذا بذاته على هذا فيلزم تقدم الشيء على نفسه بدرجتين والدور كما هو ممتنع في المؤثر فهو ممتنع في تمام كونه مؤثرا كما أن التسلسل لما امتنع في المؤثر امتنع في تمام كونه مؤثرا
وهذا بخلاف الدور المعي في الآثار فإنه جائز باتفاق العقلاء وأما التسلسل في الآثار ففيه نزاع مشهور وهذه الأمور كلها مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الكمال الذي لا نقص فيه الممكن للموجود هو واجب لواجب الوجود لازم له لا يجوز أن يكون ممتنعا عليه مع كونه ممكنا للموجود فلا يجوز أن يكون ممكن الوجود والعدم لأنه حينئذ يفتقر في اتصافه به إلى غيره لأنه إما أن يكون كل منهما معطيا للآخر الكمال وإما أن يكون هذا الثاني هو المعطي فإن كان هذا فذلك الغير المتصف بصفات

الكمال هو حينئذ الرب الكامل المعطي لغيره الكمال وإن كان الأول لزم كون كل منهما معطيا للآخر صفات الكمال وهو يقتضي كون كل منهما مؤثرا في الآخر مثل أن يكون كل منهما فاعلا للآخر عالما قادرا حيا وذلك دور ممتنع كما تبين فثبت أن اتصافه بصفات الكمال أمر لازم له يمتنع زواله عنه وهو المطلوب
الوجه الرابع أن يقال لهؤلاء قولكم أن هذين يتقابلان تقابل العدم والملكة اصطلاح اصطلحتموه وإلا فكل ما لا حياة فيه يسمى مواتا وميتا قال الله تعالى والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء سورة النحل 20 21 فسمى الأصنام الجامدات أمواتا وتسمى الأرض مواتا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم من أحيا أرضا ميتة فهي له

الوجه الخامس أن يقال كل عين من الأعيان تقبل الحياة فإن الله قادر على خلق الحياة وتوابعها في كل شيء
الوجه السادس أن يقال هب أنكم لا تسمونه ميتا ولا جاهلا ولا عاجزا لكن يجب أن يقال ليس بحي ولا عالم ولا قادر ونفس سلب هذه الصفات فيه من النقص ما في قولنا ميت وجاهل وعاجز وزيادة ولهذا كان نقص الجماد أعظم من نقص الأعمى فكل محذور في عدم الملكة هو ثابت في السلب العام وزيادة
الوجه السابع أن يقال لهؤلاء النفاة أنتم نفيتم هذه الأسماء فرارا من التشبيه فإن اقتصرتم على نفي الأثبات شبهتموه بالمعدوم وإن نفيتم الأثبات والنفي جميعا فقلتم ليس بموجود ولا معدوم شبهتموه بالمتنع فأنتم فررتم من تشبيهه بالحي الكامل فشبهتموه بالحي الناقص ثم شبهتموه بالمعدوم ثم شبهتموه بالممتنع فكنتم شرا من المستجير من الرمضاء بالنار وهذا لازم لكل من نفى شيئا مما وصف الله به نفسه لا يفر من محذور إلا وقع فيما هو مثله أو شر منه مع تكذيبه بخبر الله وسلبه صفات الكمال الثابتة لله ومن هؤلاء طائفة ثالثة تقول نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فلا ننفي النقيضين بل نسكت عن هذا وهذا فنمتنع عن كل من المتناقضين لا نحكم لا بهذا ولا بهذا فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم

ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه
وهؤلاء من جنس السوفسطائية المتجاهلة اللاأدرية

الذين يقولون لا نعلم هل الحقائق ثابتة أو منتفية وهل يمكن العلم أو لا يمكن فإن السفسطة أنواع أحدهما قول هؤلاء
الثاني قول أهل التكذيب والجحود والنفي الذين يجزمون بنفي الحقائق والعلم بها
والثالث الذين يجعلون الحقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان في حقه ثابتا ومن نفاه كان في حقه منتفيا ولا يجعلون للحقائق أمرا هي عليه في أنفسها والصنف الرابع قول من يقول الحقائق موجودة لكن لا سبيل إلى العلم بها إما لكون العالم في السيلان فلا يمكن العلم بحقيقته وإما لغير ذلك وهذه الأنواع الأربعة موجودة في هؤلاء الملاحدة فمنهم الواقفة المتجاهلة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي ومنهم المكذبة الذين ينفون ومنهم من يجعل الحقائق تتبع العقائد كما يحكى عن طائفة تصوب كل واحد من القائلين للأقوال المتناقضة وكما يقوله من يقوله من أصحاب الوحدة ابن عربي ونحوه بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب فيها حتى قال

عقد الخلائق في الإله عقائدا ... وأنا أعتقدت جميع ما عقدوه ... وأما
الرابع فهو منتهى قول أئمة الجهمية وهو الحيرة والشك لتكافؤ الأدلة عند بعضهم أو لعدم الدليل المرشد عند بعضهم وهذا عند أصحاب الوحدة هو أعلى العلم بالله تعالى والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على مجامع الأقوال ومنشأ الضلال حيث أخذوا الفظ التشبيه بمعنى مشترك مجمل فأرادوا نفيه بكل معنى من المعاني ومن المعلوم أنه ما من موجودين إلا وبينهما قدر يتفقان فيه وإن كان المعنى الكلي المشترك وجوده في الاذهان لا في الأعيان فلا بد أن يكون بين أفراد الاسم العام الكلي نوع من المشابهة باعتبار اتفاقهما في ذلك المعنى العام وهذا موضع غلط فيه كثير من الناس في أحكام الأمور الكلية التي تشتبه فيها أعيانها منهم من يجعل الكلي ثابتا في الخارج كليا ومنهم من يقول أفراده لم تتفق إلا في مجرد اللفظ وهي مسألة الأحوال التي اضطرب فيها كثير من الناس والتحقيق

أنه لا بد من تشابه في الخارج ومعنى كلي عام في الذهن من غير أن يكون في الخارج على أو شيء لا موجود ولا معدوم فيقال لهؤلاء التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه بل يمتنع أن يشترك مخلوقان في شيء موجود في الخارج بل كل موجود في الخارج فإنه مختص بذاته وصفاته القائمة به لا يشاركه غيره فيها ألبتة وإذا قيل هذان يشتركان في كذا كان حقيقته أن هذا يشابه هذا في ذلك المعنى كما إذا قيل هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية أو يشارك هذا الحيوان في الحيوانية فمعناه أنهما يتشابهان في ذلك المعنى وإلا فنفس الإنسانية التي لزيد لا يشاركه فيها غيره وإنما يشتركان في نوع الإنسانية المطلقة لا في الإنسانية القائمة به

والإنسانية المشتركة المطلقة هي في الأذهان لا تكون في الأعيان مشتركة مطلقة فما هو موجود في الخارج لا اشتراك فيه وما وقع فيه الاشتراك هو الكلي المطلق الذي لا يكون كليا مطلقا إلا في الذهن فإذا كان المخلوق لا يشاركه غيره فيما له من ذاته وصفاته وأفعاله فالخالق أولى أن لا يشاركه غيره في شيء مما هو له تعالى لكن المخلوق قد يماثل المخلوق ويكافئه ويساميه والله سبحانه وتعالى ليس له كفؤ ولا مثيل ولا سمي وليس مطلق الموافقة في بعض الأسماء والصفات الموجبة نوعا من المشابهة تكون مقتضية للتماثل والتكافؤ بل ذلك لازم لكل موجودين فإنهما لا بد أن يتفقا في بعض الأسماء والصفات ويشتبها من هذا الوجه فمن نفى ما لا بد منه كان معطلا ومن جعل شيءا من صفات الله مماثلا لشيء من صفات المخلوقين كان ممثلا والحق هو نفي التمثيل ونفي التعطيل فلا بد من إثبات صفات الكمال المستلزمة نفى التعطيل ولا بد من إثبات اختصاصه بما له على وجه ينفي التمثيل ولكن طائفة من الناس يجعلون التمثيل والتشبيه واحدا ويقولون يمتنع أن يكون الشيء يشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما لم

يشتبها من وجه وكل مشتبهين كالأجسام عندهم يقولون بتماثلها فإنها مماثلة عندهم من كل وجه لا اختلاف بينهما إلا في أمور عارضة لها
وهؤلاء يقولون كل من أثبت ما يستلزم التجسيم في اصطلاحهم فهو مشبه ممثل وهذه طريقة كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيره وأما جمهور الناس فيقولون أن الشيء قد يشبه غيره من وجه دون وجه وهذا القول هو المنقول عن السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره ولهذا ينكر هؤلاء على من ينفي مشابهة الموجود للموجود من كل وجه ويقولون ما من موجودين إلا وأحدهما يشبه الآخر من بعض الوجوه
فالصفات نوعان أحدهما صفات نقص فهذه يجب تنزيهه عنها مطلقا كالموت والعجز والجهل والثاني صفات كمال فهذه يمتنع أن يماثله فيها شيء وكذلك ما كان مختصا بالمخلوق فإنه يمتنع اتصاف الرب به فلا يوصف الرب بشيء من النقائص ولا بشيء من خصائص المخلوق وكل ما كان من خصائص المخلوق فلا بد فيه من نقص وأما صفات الكمال الثابتة له فيمتنع أن يماثله فيها شيء من الأشياء

وبهذا جاءت الكتب الإلهية فإن الله تعالى وصف نفسه فيها بصفات الكمال على وجه التفصيل فأخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور ودود سميع بصير إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وأخبر أنه ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد وقال تعالى هل تعلم له سميا سورة مريم 65 فأثبت لنفسه ما يستحقه من الكمال بإثبات الأسماء والصفات ونفى عنه مماثلته المخلوقات ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات إثبات بلا كمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير سورة الشورى 11 فقوله ليس كمثله شيء رد على أهل التمثيل وقوله وهو السميع البصير رد على أهل التعطيل وهؤلاء نفاة الأسماء من هؤلاء الغالية من الجهمية الباطنية والفلاسفة وإنما استطالوا على المعتزلة بنفي الصفات وأخذوا لفظ التشبيه بالاشتراك والإجمال كما أن المعتزلة فعلت كذلك بأهل السنة والجماعة مثبتة الصفات فلما جعلوا إثبات الصفات من التشبيه الباطل ألزمهم أولئك بطرد قولهم فألزموهم نفي الأسماء الحسنى والأمر بالعكس فإن إثبات الأسماء حق وهو يستلزم إثبات الصفات فإن إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر

بلا قدرة كإثبات متحرك بلا حركة ومتكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومصل بلا صلاة ونحو ذلك مما فيه إثبات اسم الفاعل ونفى مسمى المصدر اللازم لاسم الفاعل ومن أثبت الملزوم دون اللازم كان قوله باطلا
وكذلك هؤلاء نفاة الصفات أخذوا يقولون إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم والجسم مركب في اصطلاحهم وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة وذلك تركيب
وبالغت ملاحدة الفلاسفة في نفي الصفات بنفي مسمى التركيب فقالوا التركيب خمسة أنواع وكلها يجب نفيها عن الله
الأول التركيب من الوجود والماهية فلا يكون له حقيقة سوى الوجود المطلق بشرط الاطلاق لأنه لو كان له حقيقة مغايرة لذلك لكانت موصوفة بالوجود وحينئذ فيكون الوجود الواجب لازما ومعلولا لتلك الحقيقة فيكون الواجب معلولا
الثاني التركيب من العام والخاص كتركيب النوع من الجنس والفصل وهذا يجب نفيه
الثالث التركيب من الذات والصفات وهذا يجب نفيه وهذه الثلاث تركيبات في الكيفية

الرابع التركيب في الكم وهو تركيب الجسم من أبعاضه إما من الجواهر المفردة وهو التركيب الحسي وأما من المادة والصورة وهو التركيب العقلي وهذان النوعان هما الرابع والخامس
وقد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع لكنا ننبه هنا على بعضه فنقول هذه الأمور ليست تركيبا في الحقيقة وبتقدير أن تكون تركيبا كما تدعونه فلا دليل لكم على نفيها بل الدليل يقتضي إثبات المعاني التي سميتموها تركيبا
فهذه مقامات ثلاث أولها أن نقول لا دليل لكم على نفي هذه المعاني التي سميتموها تركيبا وذلك أن عمدتهم في نفي التركيب أنهم يقولون أن المركب مفتقر إلى جزئه وجزء غيره وواجب الوجود لا يكون مفتقرا إلى غيره وهذا الكلام اعتمد عليه ابن سينا وأتباعه كالرازي وغيره وبنوا عليه النفي والتعطيل وهو من أبطل الكلام وذلك بأن يقال لفظ التركيب يحتمل معان متجددة بحسب الاصطلاحات فيقال المركب لما ركبه غيره كما قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك سورة الانفطار 8 ويقال ركبت الباب في موضعه ونحو ذلك وهذا هو مفهوم المركب في اللغة
وقد يقال المركب لما كان متفرقا فجمع كجمع الأغذية والأدوية المركبة

وقد يقال المركب لما يمكن تفريق بعضه عن بعض كأعضاء الإنسان وإن لم يعهد له حال تفريق في الابتداء وقد يقال المركب لما يشار إليه كالشمس والفلك قبل أن يعلم جواز الانفكاك عنه وقد يقال المركب لما جاز أن يعلم منه شيء دون شيء كما يعلم كونه قادرا قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا وإذا كان كذلك فمعلوم أنهم إذا قالوا أن أثبات الصفات تستلزم التركيب لم يريدوا به الأول والثاني فإن أثبات الصفات لازم لله تعالى فيمتنع زوال صفات الكمال عنه ويمتنع أن يجوز عليه خلاف الصمدية كالتفرق ونحوه فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وكذلك إذا قالوا المركب مفتقر إلى أجزائه فلفظ الجزء قد يعني به ما جمع إلى غيره حتى حصلت الجملة كالواحد من العشرة وكجزء الطعام والثياب وقد يعني بالجزء ما كان بعضا لغيره وإن لم يعلم انفراده عنه أو لم يمكن انفراده عنه وقد يدخلون في هذه الحياة اللازمة للحي والعلم اللازم للعالم كما يقولون الحيوانية والناطقية جزءا الإنسان وهما نعتان لازمان له لا يمكن وجوده بدونهما وكذلك لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى علته والمصنوع إلى صانعه ويراد به افتقار الصفة إلى محلها الذي تقوم به وقد يعني به التلازم وهو استلزام الموصوف لصفات كماله

وكذلك لفظ الغير قد يراد به المباين للشيء وقد يعني به ما يعلم الشيء بدونه ولهذا لما تنازع الناس في صفات الله تعالى بل في صفة كل موصوف وبعض كل مجموع هل يقال أنه غير له أم لا فقالت طائفة صفة الموصوف وبعض الجملة ليس غيرا له لأنه لا يوجد إلا به وقال بعضهم بل هو غير له لأنه يمكن العلم به دونه كان هذا نزاعا لفظيا فامتنع السلف والأئمة أن يطلقوا على صفات الله كلامه وعلمه ونحو ذلك أنه غير له أو أنه ليس غيره ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في مناظرتهم له في المحنة وأمر المعتصم قاضيه عبدالرحمن بن إسحق أن يناظره سأله فقال ما تقول في القرآن أهو الله أم غير الله عارضه الإمام أحمد بالعلم فقال ما تقول في علم الله أهو الله أم غير الله فسكت وذلك أنه إن قال القائل لهم القرآن هو الله كان خطأ وكفرا وإن قال غير الله قالوا فما كان غير الله فهو مخلوق فعارضهم الإمام أحمد بالعلم فإن هذا التقسيم وارد عليه ولا يجوز أن يقال علم الله مخلوق ومما يبين ذلك أن النبي

صلى الله عليه و سلم قال من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت عنه أنه حلف بعزة الله والحلف بعمر الله ونحو ذلك من صفاته فعلم أن الحالف بصفاته ليس حالفا بغيره ولو كانت الصفة يطلق عليها القول بأنها غيره لكان الحلف بها حلفا بغيره وإذا قال القائل الحالف بصفته حالف به لأن الصفة تستلزم الموصوف وهو المقصود باليمين قيل لهم فلهذا لم يدخل في إطلاق القول بأنها غير الله فعلمه لازم له وملزوم له وكلامه لازم له وملزوم له والصفة داخلة في مسمى الموصوف فإذا قال القائل عبدت الله وذكرت الله ونحو ذلك فاسم الله متضمن لصفاته اللازمة لذاته فإذا قيل أنها غير الله فقد يفهم منه أنها خارجة عن مسمى اسمه وهذا

باطل ولهذا قد يقال أنها غير الذات ولا يقال أنها غير الله لأن لفظ الذات يشعر بمغايرته للصفة بخلاف اسم الله تعالى فإنه متضمن لصفات كماله وقولنا أنه مغاير للذات لا يتضمن جواز وجوده دون الذات فإنه ليس في الخارج ذات منفكة عن صفات ولا صفات منفكة عن ذات بل ذلك ممتنع لنفسه
ومن قال من أهل الأثبات أن له صفات زائدة على ذاته فحقيقة قوله أنها زائدة على ما أثبته المثبت من الذات حيث أقر بذات ولم يقر بصفاتها وإلا ففي الخارج ليس هناك ذات منفكة عن صفات حتى يقال أن الصفات زائدة عليها بل لفظ الذات في الأصل تأنيث ذو كقوله وأصلحوا ذات بينكم سورة الأنفال 1 وقوله عليم بذات الصدور سورة آل عمران 119 وهي تستلزم الإضافة ولكن المتكلمون قطعوه عن الإضافة وعرفوه فقالوا الذات وحقيقته التي لها صفات فحيث قيل لفظ الذات كان مستلزما للصفات ويستحيل وجود ذات منفكة عن الصفات في الخارج وفي العقل وفي اللغة ومن قدر ذاتا بلا صفات فهو تقدير محال كما يقدر سواد ليس بلون وعلم بلا عالم وعالم بلا علم ونحو ذلك من الأمور الممتنعة وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هذه الحجة التي ينفون بها الصفات ويعتمدون على نفي مسمى التركيب هي مبنية على ألفاظ مجملة مشتركة موهمة فإذا قالوا إثبات الصفات تركيب

والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه قيل لهم إن أردتم بالغير غيرا مباينا له فهذا باطل وإن أردتم ما هو داخل في مسمى اسمه كان حقيقة قولكم المركب لا يوجد إلا بوجود جزئه والمجموع لا يوجد إلا بوجود بعضه والجملة لا توجد إلا بوجود أفرادها
ومن المعلوم أن القائل إذا قال الشيء لا يوجد إلابوجود نفسه كان هذا صحيحا وكذلك إذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في نفسه مما يسمى صفات وأجزاء ونحو ذلك فإذا قيل أن هذا يقتضي افتقاره إلى غيره كان من المعلوم أن هذا دون افتقاره إلى نفسه فإن نفسه إذا كانت لا توجد إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بوجود ما يدخل في نفسه أولى وإذا قيل لم يوجد إلا بنفسه لم يمنع هذا أن يكون واجبا بنفسه وإذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في مسمى نفسه كان هذا اولى أن لا يمنع كونه واجبا بنفسه لأن الافتقار إلى المجموع أعظم من الافتقار إلى الجزء ومن افتقر إلى مجموع العشرة كان افتقاره أبلغ من افتقار من افتقر إلى واحد من العشرة فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بالمجموع ولا يمنع هذا أن يكون المجموع مفتقرا إلى نفسه فلأن لا يمنع كون المجموع مفتقرا إلى فرد من أفراده أولى وأحرى
وإذا قيل جزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ممكن بنفسه قيل إن أريد بذلك أن المفتقر إلى المباين له ممكن بنفسه

فليس هذا مورد كلامنا وإن أريد أن المفتقر إلى ما يدخل في نفسه ممكن بنفسه كان هذا ممنوعا بل كان معلوم الفساد بالضرورة فإن افتقاره إلى ما يدخل في نفسه ليس بأعظم من افتقاره إلى نفسه وإذا كان هو موجود بنفسه بمعنى أنه لا يفتقر إلى مباين له لم يلزم من هذا ألا تفتقر نفسه إلى نفسه فكذلك لا يلزم ألا تفتقر إلى ما يدخل في مسمى نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه فله معينان أحدهما أنه مفتقر إلى أن يفعل نفسه ونحو ذلك فهذا ممتنع لذاته فإن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه والعلم بذلك ضروري وإن أريد بذلك أن نفسه لا تكون إلا بنفسه ولا تستغني عن نفسه ويمتنع وجود نفسه بدون نفسه فهذا صحيح لا بد منه
وإذا قيل هو مفتقر إلى ما يدخل في نفسه سواء سمي صفة أو جزءا أو غير ذلك قيل أتريد به أن ذلك الجزء يكون فاعلا له أو ما يشبه هذا فهذا ممتنع باطل ولا يقوله عاقل وإن أردت بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بوجود ذلك وأنه يمتنع وجوده بدونه ونحو ذلك كان ما يقدر في هذا دون ما يقدر في نفسه وإذا كان لا توجد نفسه إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بما يدخل في نفسه بطريق الضرورة وإذا كان ذلك أمرا واجبا لا محذور فيه فهذا بطريق الأولى وإذا كان تقدير استغناء نفسه عن نفسه يوجب عدمه فكذلك تقدير وجوده بدون ما هو داخل في مسمى نفسه مما هو لازم له يوجب عدمه بالحقيقة

فهذه الأمور التي نفوها عن الوجود الواجب توجب عدمه وامتناعه ولهذا كانوا من أعظم الناس تناقضا حيث وصفوا واجب الوجود بممتنع الوجود ولهذا جعلوه وجودا مطلقا بشرط الاطلاق أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما صرح بذلك ابن سينا
وأتباعه
وهم قد قرروا في منطقهم اليوناني ما هو معلوم بصريح العقل أن المطلق بشرط الاطلاق إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالإنسان المطلق بشرط الإطلاق والجسم المطلق بشرط الإطلاق والحيوان المطلق بشرط الإطلاق وهذا قصدوا به التمييز بين هذا وبين الوجود الذي هو موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم وهو العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه فإن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وقائم بنفسه وقائم بغيره ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فكان هذا الوجود يعم القسمين الواجب والممكن وهذا هو المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي فجعلوا أحد القسمين وهو الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق وكذلك جعل العدم المحض هو المميز للوجود الواجب عن الممكن يوجب كون العدم المحض فصلا أو خاصة وهذا أيضا باطل فإن الأمرين المشتركين في الوجود لا يكون المميز لأحدهما عن الآخر إلا أمرا وجوديا ولو قدر أنه عدمي لكان الواجب

قد امتاز بأمر عدمي والممكن امتاز بوجودي والوجود أكمل من العدم فيكون كل ممكن مخلوق على قول ابن سينا أكمل من الموجود الواجب القديم لأنهما اشتركا في الوجود وتميز الرب بعدم الأمور الثبوتية وتميز المخلوق بأمور وجودية
وهذا الكلام عندهم هو غاية التوحيد والتحقيق والحكمة وهو غاية التعطيل والكفر والجهل والضلال وذلك أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهم يسلمون هذا ويقررونه في منطقهم ويقولون الكلي ثلاثة أنواع الكلي الطبيعي والمنطقي والعقلي فالطبيعي هو الحقيقة المطلقة كالإنسانية والحيوانية وأما المنطقي فهو ما يعرض لهذه من العموم والكلية والعقلي هو المركب منهما وهو الطبيعي بشرط كونها كلية فهذا العقلي لا يوجد إلا في الذهن وكذلك المنطقي وأما الطبيعي فيقولون أنه موجود في الخارج لكن لا يوجد إلا معينا مشخصا ويقولون أنه جزء المعين وأن الماهية في الخارج زائدة عن الوجود الثابت في الخارج ويذكرون عن أصحاب أفلاطن أنهم أثبتوا الكلي العقلي في الخارج مجردا عن الأعيان وشنعوا عليهم تشنيعا عظيما ومن قال إن الرب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ويردون على أصحاب أفلاطن الذين أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان ويقولون هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان وعند هؤلاء بتقدير ثبوت هذه الكليات في الخارج

فلا بد أن تكون لها أعيان ثابتة في الخارج مجردة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق لكان كليا شاملا عاما وله أعيان ثابتة في الخارج بالضرورة ويكون متناولا للواجب والممكن كتناوله للقديم والحادث والجوهر والعرض وكتناول سائر المعاني الكلية أفرادها سواء سميت جنسا أو نوعا او فصلا أو خاصة أو عرضا عاما فيمتنع أن تكون هذه الكليات العامة هي الأعيان الموجودة الداخلة فيها ولذلك إذا قدر أن المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي موجود في الخارج فإنه لا يوجد إلا معينا والمعين ليس هو المطلق غايتهم أن يقولوا هو جزء منه أو صفة له فيلزم أن يكون رب العالمين جزءا من المخلوقات أو صفة لها
وهؤلاء غلطوا من وجهين من جهة ظنهم أن في الخارج أمورا مطلقة كلية وليس كذلك بل ما يتصوره الذهن مطلقا كليا يوجد في الخارج لكن يوجد معينا مختصا والثاني أنه لو قدر أن في الخارج مطلقا كليا فلا ريب أن كل موجود معين مشخص مختص مميز عن غيره وليس هذا هو هذا ولا وجود هذا وجود هذا فكيف يكون وجودها وجود رب العالمين فلا بد على كل تقدير من إثبات موجود واجب بنفسه مغاير لهذا المطلق سواء قيل بوجود الكليات المطلقة المفارقة للأعيان كما يقوله أصحاب أفلاطن أو قيل

بأنها لا توجد إلا مقارنة ملازمة للأعيان كما يقوله أصحاب أرسطو
وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود لما قال من قال منهم أنه الوجود المطلق كابن سبعين والقونوي وأمثالهما قال من قال منهم كالقونوي أنه المطلق لا بشرط ليكون موجودا في الخارج وهذا باطل أيضا فإن الموجود المطلق لا بشرط يتناول القسمين الواجب والممكن فيكون الممكن داخلا في مسمى واجب الوجود
وهم إنما فرقوا بينهما بناء على أن وجود الممكن زائد على حقيقته وهو باطل وأن الواجب إنما يتميز بقيود سلبية والسلوب لا تكون مميزة عندهم بل لا يحصل التمييز في الموجودين إلا بأمور وجودية ولأن المطلق عند من يقول بوجوده في الخارج جزء من المعين فيكون رب العالمين جزءا من كل مخلوق ولأن الخارج لا يوجد فيه كلي ولا مطلق إلا معينا مشخصا ولكن ما هو كلي في الأذهان يكون موجودا في الأعيان لكن معينا ومشخصا وأيضا فهؤلاء الذين يقولون إن واجب الوجود مطلق أو مقيد بالأمور السلبية كابن سينا وأهل الوحدة وغيرهم هم في الحقيقة لا يثبتون له حقيقة

ولا صفة ولا قدرا الموجود لا بد له من حقيقة تخصه مستلزمة لصفته وقدره فهم من أعظم الناس تعطيلا للخالق وجحودا له وإن كانوا يعتقدون أنهم يقرون به وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع
والرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل وهؤلاء ناقضوهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فإن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه حكيم عزيز غفور ودود وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا وأنه أنزل على عبده الكتاب إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وقال في النفي والتنزيه ليس كمثله شيء سورة الشورى 11 ولم يكن له كفوا أحد هل تعلم له سميا سورة مريم 65 وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فقالوا في النفي ليس بكذا ولا كذا ولا كذا فلا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا له كلام يقوم به ولا له حياة ولا علم ولا قدرة ولا غير ذلك ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه ولا داخلة ولا خارجة إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم ثم قالوا في الإثبات هو وجود مطلق أو وجود مقيد

بالأمور السلبية وقالوا لا نقول موجود ولا معدوم أو قالوا هو لا موجود ولا معدوم فتارة يرفعون النقيضين وتارة يمتنعون من إثبات أحد النقيضين ثم تارة يسلكون هذا المسلك في نفي الموجود وتارة فيما يوصف به الموجود من الحياة والعلم والقدرة والكلام وسائر الصفات فنفوا الحقيقة وصاروا يعبرون عن المعاني الثبوتية بأنها تركيب كما تقدم وقد ذكرنا أن تسمية هذا تركيبا أمر اصطلحوا عليه وإلا فإثبات هذه المعاني لا يسمى في اللغة المعروفة تركيبا فإن المركب لا يعقل إلا فيما ركبه مركب وهذا المعنى ممتنع فيما هو موجود بنفسه غني عن كل ما سواه وهو الفاعل لكل ما سواه وكل ما سواه مخلوق له فإذا قدر أنه متصف بصفات متعددة لم يكن أحد ركبه ولا ركبها فيه والناس قد تنازعوا في الأجسام المخلوقة كالكواكب والفلك والهواء والماء وغير ذلك فقيل هي مركبة من الجواهر المنفردة وقيل مركبة من المادة والصورة ومنه من فرق بين الجسم الفلكي والعنصري والصواب عند محققي الطوائف أنها ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا وهذا قول أكثر أهل الطوائف أهل النظر مثل الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وطائفة من الكرامية وغيرهم
وقد تنازع الناس في الجسم هل يقبل القسمة إلى غاية

محدودة هي الجوهر الفرد أو يقبل القسمة إلى غير غاية أو يقبل القسمة إلى غاية من غير إثبات الجوهر الفرد على ثلاثة أقوال
والثالث و الصواب فإن إثبات الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة باطل بوجوه كثيرة إذ ما من موجود إلا ويتميز منه شيء عن شيء وإثبات انقسامات لا تتناهى فيما هو محصور بين حاصرين ممتنع لامتناع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى وامتناع انحصاره فيه لكن الجسم كالماء يقبل انقسامات متناهية إلى أن تتصاغر أجزاؤه فإذا تصاغرت استحالت إلى جسم آخر فلا يبقى ما ينقسم ولا ينقسم إلى غير غاية بل يستحيل عند تصاغره فلا يقبل الانقسام بالفعل مع كونه في نفسه يتميز منه شيء عن شيء وليس كل ما تميز منه شيء عن شيء لزم أن يقبل الانقسام بالفعل بل قد يضعف عن ذلك ولا يقبل البقاء مع فرط تصاغر الاجزاء لكن يستحيل إذ الجسم الموجود لا بد له من قدر ما ولا بد له من صفة ما فإذا ضعفت قدره عن اتصافه بتلك الصفة انضم إلى غيره إما مع استحالة إن كان ذلك من غير جنسه وإما بدون الإستحالة إن كان من جنسه كالقطرة الصغيرة من الماء إذا صغرت جدا فلا بد أن تستحيل هواء أو ترابا أو أن تنضم إلى ماء آخر وإلا فلا تبقى القطرة الصغيرة جدا وحدها وكذلك سائر الأجزاء الصغيرة جدا من سائر الأجسام

وهذا مبسوط في موضعه ولكن نبهنا عليه هنا لأن هذه الأمور هي مبدأ الاشتباه والتنازع والاضطراب في هذه الأبواب فإذا كان ما ادعوه من التركيب الحسي في الأجسام المشهدوة باطلا فكيف في الأمرو الغائبة التي لا تعلم حقيقتها فكيف بما يدعونه من التركيب العقلي كقولهم لو كان له حقيقة لكان الوجود صفة لها فكان مركبا وكان الوجود الواجب معلولا لغيره فإنه يقال لهم بل له حقيقة تخصه يمتاز بها عن كل ما سواه بل كل موجود له حقيقة تخصه فالخالق أولى بذلك وأما قولهم يكون الوجود صفة لها فهذا إنما يقال أن لو كان الوجود مصدر وجد وجودا أو وجدته وجودا
ولا ريب أن لفظ الوجود في اللغة هو مصدر وجد يجد وجودا كما في قوله تعالى ووجد الله عنده سورة النور 39 ولكن أهل النظر والعلم إذا قالوا هذا موجود لم يريدوا أن غيره وجده يجده ولا يريدون أن غيره جعل له وجودا قائما به بل يريدون به أنه حق ثابت ليس بمعدوم ولا منتف فإذا قيل هذا الإنسان موجود لم يكن المراد أن هذا الإنسان قام به وجود يكون صفة لهذا الإنسان بل قولنا هذا الإنسان موجود أي ثابت متحقق ليس بمعدوم ولا منتف وليس وجوده في الخارج فدرا زائدا على حقيقته الموجودة في الخارج بل الحقيقة التي هي ماهيته الموجودة في الخارج هي وجوده الثابت في الخارج

وأما إذا أريد بالحقيقة ما يتصور في الذهن وهي الماهية الذهنية كما يتصور المثلث في الذهن قبل ثبوته في الخارج فالماهية الثابتة في الأذهان مغايرة للحقيقة الموجودة في الأعيان فمن قال أن وجود كل شيء عين ماهيته كما يقوله متكلمو أهل الأثبات فقد أصاب إذا أراد أن الوجود الثابت في الخارج هو الماهية الثابتة في الخارج ومن قال ان وجود كل شيء غير ماهيته كما يقوله أبو هاشم بن الجبائي وأمثاله فقد أصابوا إن أرادوا أن الوجود الثابت في الخارج مغاير للماهية الثابتة في الذهن وأما إن أرادوا ما هو المعروف من مذهبهم أن في الخارج ماهيات ثابتة وهو المعدوم الثابت في حال عدمه وأن الوجود صفة لتلك الماهية فهذا خطأ
وأعظم خطأ من هؤلاء من فرق من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله وقالوا أن الممكن وجوده في الخارج زائد على ماهيته وأما الواجب فوجوده في الخارج عين ماهيته وإنما كان خطؤهم أعظم لأنهم أخطأوا من وجهين أحدهما إثبات حقائق في الخارج غير الموجودات الثابتة في الخارج والثاني أنهم جعلوا الوجود الواجب وجودا مطلقا ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود وأنه إنما يتميز عن غيره بأمور سلبية أو إضافية مع أنهم يقولون في منطقهم أن الأمور السلبية والإضافية لا تميز بين المشتركين في أمر كلي وجودي وإنما يقع التمييز بأمور ثبوتية

وأيضا فإذا لم يتميز الواجب إلا بأمر عدمي وكل من الممكنات يتميز بأمر وجودي كان كل من الممكنات أكمل منه وأيضا فالسلب إذا لم يتضمن أمرا ثبوتيا لم يكن صفة كمال وإنما يكون كمالا إذا تضمن أمرا ثبوتيا كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم سورة البقرة 255 وأولئك المعتزلة ومن وافقهم من المتأخرين كأبي حامد والرازي في أحد القولين وغيرهما إذا قالوا أن الوجود الواجب صفة للحقيقة ومن قد يوافقهم في هذا الأصل أحيانا فيفرق بين وجود الشيء وبين حقيقته في الخارج كما يفعله أبو الحسن بن الزاغوني ونحوه في مواضع كان قولهم مع ما فيه من الخطأ خيرا من قول هؤلاء
وأما إيراد هؤلاء عليهم أن الوجود الواجب لا يكون معلولا فيقال لهم أتريدون بذلك أن الوجود الواجب بنفسه لا يكون مفعولا ولا معلولا لعلة فاعلة أم تريدون أن الوجود لا يكون صفة للماهية الموجودة ولا يكون الوجود معلولا لعلة قابلة لا فاعلة أم تريدون غير ذلك فإن أردتم الأول فهو صحيح لكن ليس في قولنا أن الوجود الواجب صفة للماهية الواجبة ما يوجب أن يكون معلولا له علة فاعلة وإن أردتم أنه لا يكون صفة للوجود فهذا ممنوع بل الوجود صفة للواجب والوجود صفة للموجود والواجب بنفسه هو الموصوف بالوجوب لا أن الوجوب هو الواجب بنفسه والموجود بنفسه هو الموجود الواجب لا أن وجوده هو الواجب بنفسه فهذا جواب

وجواب ثان وهو أن كون الوجود أو الوجوب معلولا لعلة قابلة ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون معلولا لعلة فاعلة فالعلة القابلة كالموصوف القابل لصفته والعلة الفاعلة كالمبدع الفاعل لمصنوعه والدليل دل على أن الواجب بنفسه ووجوبه ووجوده لا يكون مفعولا ولا معلولا لفاعل لم يدل على أن الواجب لا يكون إلا صفة للواجب والوجود لا يكون صفة للموجود على قول من يقول إن وجود الشيء زائد على حقيقته فهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم على قولهم إن وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته وإن كان في قولهم خطأ فهم أقل خطأ وأكثر صوابا من أولئك الفلاسفة الذين جعلوا وجوده مطلقا أو مقيدا بالعدم فقالوا ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع من وجوه كثيرة مع ما فيه من التعطيل والجحود لرب العالمين والتكذيب لأنبيائه المرسلين واتباع غير سبيل المؤمنين
وأما النوع الثاني من التركيب وهو التركيب من خاص وعام فيقال نحن وأنتم مع جماهير الناس يقولون أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام وهذه القسمة إنما ترد على المعاني لا على مجرد الألفاظ المشتركة سواء كانت تلك المعاني متفاضلة وألفاظها هي التي يقال لها الألفاظ المشككة أو كانت متساوية وهي الأسماء المتواطئة التواطؤ الخاص فأما التواطؤ العام فتندرج فيه المشككة وإذا كان الوجود منقسما إلى هذا وهذا فلا بد أن يتميز الواجب عن غيره بما

يخصه والأمور العدمية المحضة لا توجب التمييز فقد ثبت التركيب مما به الاشتراك ومما به الامتياز سواء جعلتم الوجود من الألفاظ المشككة أو من المتواطئة تواطؤا عاما أو المتواطئة تواطؤا خاصا
وأيضا فيقال قد عرف أنا إذا قلنا أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم هو المعنى العام الكلي والكلي إنما يكون كليا في الأذهان لا في الأعيان وحينئذ فليس في المخلوقات ما هو مركب مما به الاشتراك ومما به الامتياز بل كل موجود فإنه مختص بصفاته القائمة به كاختصاصه بعينه نفسه لا يشركه غيره فيها فإذا كانت المخلوقات ليست مركبة بهذا الاعتبار فالخالق أولى أن لا يكون مركبا بهذا الاعتبار ولكن أنتم غلطتم في منطقكم اليوناني فلما رأيتم الإنسان يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص عنه بالنطق والفرس يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص بالصهيل قلتم الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية وكذلك الفرس مركب من الحيوان والصاهل أو من الحيوانية والصاهلية وهكذا في سائر الأنواع وظننتم أن هذا التركيب له تأثير في الخارج وهذا غلط عظيم وقع منكم في الميزان العقلي وهو القانون الذي تزنون به المعاني العقلية الذي جعلتموه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن

أن يزل في فكرة فإن الميزان إذا كان مائلا لا عادلا أخطأ الوازن في الوزن قطعا وقد بسط الغلط في غير هذا الموضع
ومن أقرب ما يعرف به ذلك أن يقال الإنسان الموجود في الخارج مركب من عرضين أو من جوهرين فقولكم الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق أتريدون به أعراضا هي صفات تقوم بالإنسان أم جواهر هي أعيان قائمة بأنفسها
فإن قلتم أعراضا تبين فساد قولكم فإن الإنسان الموجود جوهر قائم بنفسه والجواهر لا تكون مركبة من الأعراض ولا تكون الأعراض سابقة عليها ولا مادة لها فإن الأعراض قائمة بالجوهر مفتقرة إليه حالة فيه وهو موضوع لها في اصطلاحكم والموضوع هو المحل المستغنى في قوامه عن الحال فيه فإذا كان الإنسان عندكم مستغنيا في قوامه عن أعراضه امتنع أن كون هي مادته وأجزاءه المقومة له وأن يكون مركبا منها
وإن قلتم بل الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق جوهران قائما بأنفسهما والإنسان مركب منهما كان هذا معلوم الفساد بالضرورة فإنا نعلم أن الإنسان هو الحيوان الناطق وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الناطق والفرس هو الحيوان الصاهل وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الصاهل ليس في الإنسان جوهر هو حيوان وجوهر هو ناطق وجوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو

متحرك بالإرادة بل هذه أسماء للإنسان الواحد كل اسم منها يدل على صفة من صفاته فالمسمى الموصوف بها جوهر واحد لا جواهر متعددة
فتبين أن قولكم أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من هذا وهذا قول باطل كيفما أردتموه وإما أن قلتم أن هذا تركيب عقلي في الذهن فيقال التركيب العقلي هو بحسب ما يقدره الذهن ويفرضه ومن لم يميز بين الموجودات الثابتة في الخارج وبين المقدرات الذهنية كان عن العلم خارجا وفي تيه الجهل والجا وهذا حال كثير من هؤلاء اشتبه عليهم الصور الذهنية بالحقائق الخارجية فظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان وعامة ما تدعونه من العقليات مثل الكليات والمجردات كالعقول العشرة وكالمادة وغيرها هي أمور ذهنية لا خارجية
وهم قد جعلوا في علمهم الأعلى وفلسفتهم الأولى الذي قسموا فيه الوجود إلى جوهر وعرض وجعلوا العرض تسعة أجناس كما ذكر ذلك معلمهم الأول أرسطو وسموا هذه المقالات العشر جعلوا الجوهر جنسا تحته خمسة أنواع أحدها العقول العشرة والثاني النفوس والثالث المادة والرابع الصورة والخامس الجسم وتنازعوا في واجب الوجود هل يسمى جوهرا على قولين لهم وهذه الأربعة التي هي العقول والنفوس والمادة والصورة اللتان جعلوهما جزئي الجسم إذا حقق الأمر عليهم كانت أمورا عقلية مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان بخلاف الجسم

وأعراضه فإن ذلك ثابت في الأعيان وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على منشأ غلطهم في التركيب الذي يزعمونه من الجنس والفصل أو من العرض العام والخاصة وقولهم أن هذا منتف عن واجب الوجود فإذا عرف أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة وأنه سواء جعل تركيبا أو لم يجعل تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود من الموجودات لا واجب ولا ممكن علم ضلال هؤلاء القوم الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وأما التركيب من الذات والصفات فهذا أيضا ليس بتركيب فإن الإنسان الذي لا يكون إلا حيا ناطقا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال انه مركب من هذه الذات والصفات بل لا حقيقة لذاته إلا ما هو حيوان ناطق فالخالق تعالى الذي لا يكون إلا حيا عالما قادرا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال أنه مركب من ذات وصفات وإذا قال القائل أنه يمكن تقدير الذات مجردة عن الصفات كان هذا تركيبا في ذهنه وخياله كما تقدم ومن المعلوم أن الأمور الذهنية العقلية الخيالية غير الحقائق الموجودة في الخارج وقد تقدم قولهم في تركيب الجسم من أجزائه الحسية والعقلية فقد تبين ان ما جعلوه تركيبا أخطأوا فيه لفظا ومعنى وأنه بتقدير موافقتهم على جعل ذلك تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود لا واجب ولا ممكن فظهر المقامان اللذان ذكرناهما حيث قلنا أن هذا ليس بتركيب وبتقدير أن يقال هو تركيب لا يمكن نفيه

وأما المقام الثالث فيقال إثبات معان متعددة في الموجود الواجب وغيره أمر ضروري لا بد منه وأنتم مع فرط مبالغتكم في السلب تقولون أنه موجود واجب وأنه معقول وعاقل وعقل ولذيذ وملتذ به وعاشق ومعشوق وعشق إلى أنواع أخر
وأما أهل الملل فمتفقون على أنه حي عليم قدير ومن المعلوم أن من جعل كونه حيا هو كونه عالما وكونه عالما هو كونه قادرا فهو من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكذلك من جعل الحياة هي الحي والعلم هو العالم والقدرة هي القادر فيبين العقل الصريح أن كل صفة ليست هي الأخرى ولا هي نفس الموصوف وكذلك من جعل العشق هو العاشق واللذيذ هو اللذة ونفس العقل الذي هو مصدر عقل يعقل عقلا هو العقل الذي هو العاقل القائم بنفسه فمن جعل هذا هذا كان في المكابرة والجهل والسفسطة من جنس الأول فمن جعل المعاني هي الذات القائمة بنفسها أو كل معنى هو المعنى الآخر كان من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكان أجهل من النصارى الذين يقولون أحد بالذات ثلاثة بالأقنوم ويقولون مع ذلك أن أقنوم الكلمة هو المتحد بالمسيح دون غيره وأنه إله حق من إله حق فإنهم إن جعلوا الأقنوم هو الذات الموصوفة بالصفات الثلاثة كان المسيح هو الأب وإن جعلوه صفة لم يكن المسيح إلها فإن الصفة لا تخلق ولا ترزق ولا تفارق

الموصوف فالنصارى متناقضون في التوحيد حيث يلزمهم أن يجعلوا الذات هي الصفة أو المتحد هو الذات وهؤلاء أعظم تناقضا منهم وقولهم في التوحيد شر من أقوال النصارى
لكن يحيى بن عيد النصراني الفيلسوف ظن أنه إذا جعل قولهم في التثليت هو مثل تثليت الفلاسفة في قولهم بالعاقل والمعقول والعقل يكون قد انتصر بالأدلة ولم يعلم أن ما فر إليه شر مما فر منه وأن قول الفلاسفة بالعقل والعاقل والمعقول أبطل في المعقول من قول النصارى بالأب والابن وروح القدس
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لأنها أصول كلام هؤلاء الذين أضلوا من أذكياء الأمم من لا يعلمه إلا الله وهم الذين قالوا إن معجزات الانبياء عليهم السلام قوى نفسانية وبنوا ذلك على أصولهم في قدم العالم وأن مبدعه علة تامة موجبة بذاته وجعلوا من المقدمات التي استعانوا بها على ذلك نفي الصفات الذي بنوه على ما سموه التركيب فإذا عرف بطلان أصلهم كان القول بإثبات صفات الكمال لله حقا وحينئذ فلا يمكنهم أن يقولوا لا تقوم به الأفعال الاختيارية فإنهم إنما نفوا قيام ذلك بذاته لنفيهم الصفات لا لكونه قديما فإن القديم عندهم تحله الحوادث ولهذا قالوا إن الفلك قديم تحله الحوادث
ومن قال إن القديم لا تحله الحوادث من أهل الكلام

كالمعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وأتباعهم فإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن ما قامت به الحوادث محدث أما المعتزلة فلأن من أصلهم أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بمحدث وأما الكلابية وأتباعهم فلأن من أصلهم أن ما يقبل الحوادث لم يخل منها وما لم يخل منها كان حادثا لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها والذين نازعوهم في ذلك من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم مثل جمهور أهل الحديث وكثير من المرجئة والشيعة والفقهاء وغيرهم مثل الهشامية وأبي معاذ التومني ومثل داود بن علي والكرامية ومثل كثير من أئمة الفلاسفة الأساطين المتقدمين والمتأخرين ينازعونهم في إحدى المقدمتين أو كليتهما فينازعونهم في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها كما ينازعهم في ذلك الهشامية والكرامية وأبو عبدالله بن الخطيب وأبو الحسن الآمدي وغيرهما فإن هؤلاء وغيرهم طعنوا في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها
وأما قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فهذا نازعهم فيه أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة وأئمة أهل الحديث والسنة وجمهورهم نازعوهم في هذه ونازعهم فيها أئمة الفلاسفة

الأولين والآخرين مثل أرسطو ومن قبله فالقائلون بقدم الأفلاك من الفلاسفة يقولون أن القديم تقوم به حوادث لا أول لها وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث بل ما قارنته الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث لامتناع صدروه عن علة تامة قديمة أزلية والمشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو هو القول بحدوث العالم وإنما اشتهر القول بقدمه عنه وعن متبعيه كالفارابي وابن سينا والحفيد وأمثالهم
وأما قيام الأفعال الاختيارية وقيام الصفات بالله تعالى فهو قول سلف الأمة وأئمتها الذين نقوله عن الرسول صلى الله عليه و سلم وهو القول الذي جاء به التوراة والإنجيل وهو القول الذي يدل عليه صريح المعقول مطابقا لصحيح المنقول وحينئذ فنعلم بالعقل الصريح أن العالم حادث كما أخبرت به الرسل مع أن الرب لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال لم يصر قادرا بعد أن لم يكن ولا متكلما بعد أن لم يكن ولا موصوفا بأنه خالق فاعل بعد أن لم يكن بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال المتضمنة لكماله في أقواله وأفعاله وهذه الأمور مبسوطة في غير هذاالموضع
والمقصود هنا بيان ما ذكرناه من الدليل على حدوث كل ما سوى الله وأن حقيقة قولهم يستلزم أن لا يكون للحوادث محدث أصلا لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وأن كل محدث سواء سمي معلولا أو مفعولا لا بد حين

وجوده من وجود جميع ما به يحدث فإذا سمي معلولا فلا بد من وجود العلة التامة عند وجوده وإذا كانت قديمة وتأثيرها موقوف على شرائط فلا بد من حصول الشروط عند حدوثه فلا يكفي وجودها قبل حدوثه كما يقولون لأن العلة التامة يجب مقارنة معلولها لها ومقارنتها لمعلولها فلا يكون المعلول موجودا إلا مع وجود العلة التامة بجميع أجزائها إذ لو كان شيء من شروطها معدوما قد وجد قبل حدوث المعلول لكانت العلة سابقة على المعلول والمعلول متأخر عنها وهذا ممتنع في العلة التامة وكذلك الفاعل القادر لا بد من وجود قدرته وإرادته وسائر ما يعتبر في فعله أن يكون موجودا عند حداث المحدث فهذان وجهان
وأما حجتهم المذكورة على قدم العالم فجوابها من وجوه أحدها أن يقال دوام الحوادث إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولهم وعلم أن الحوادث لها ابتداء وإن كان ممكنا أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مسبوقة بحوادث قبلها كما أخبرت بذلك الرسل فإن الله تعالى اخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء وعلى التقديرين فلا يلزم قدم العالم واعلم انه ليس لهم حجة صحيحة على قدم العالم أصلا

بل غاية ما يقررون أنه لابد من دوام فعل الفاعل فبتقدير أن يكون فعله دائما بذاته شيئا بعد شيء يبطل قولهم وبتقدير أن يكون كل مفعول محدثا وهو مسبوق مفعول محدث يبطل قولهم
الوجه الثاني أن يقال هذا بعينه يبطل قولكم بأن المؤثر إن جاز تأخر أثره عنه أمكن حدوث العالم وتأخر الفعل عن الفاعل وإن لم يجز تأخر أثره عنه لزم عدم الحوادث أو قدمها أو حدوثها بلا محدث والكل باطل فعلم أن قولهم بمؤثر لا يتأخر عنه الأثر باطل
الوجه الثالث أن يقال ترجيح الفاعل لأحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن كان ممكنا أمكن تأخر العالم وأن القادر المختار يرجح حدوثه بلا مرجح وإن قيل إن الفاعل لا يمكنه ذلك امتنع كون الموجب بالذات يرجح شيئا على شيء بلا مرجح ومعلوم أن العالم له قدر مخصوص وصفات مخصوصة وحوادث متعاقبة كلها ممكنة فترجيحها على غيرها من الممكنات لا يكون بمجرد وجود مطلق بسيط نسبته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة
الوجه الرابع أن يقال القديم إما أن يجوز قيام الحوادث به وإما أن لايجوز فإن لم يجز بطل قولهم بقدم العالم الذي قامت به الحوادث والأفلاك قامت بها الحوادث وإن جاز قيام الحوادث به أمكن أن يقوم بالقديم الواجب بذاته حوادث لا تتناهى ويكون منها ما هو شرط في حدوث

العالم كما قالوا إن حركات الأفلاك شرط في حدوث الحوادث السفلية
الوجه الخامس أن يقال مبنى حجتهم على امتناع ترجيح بلا مرجح تام وامتناع التسلسل وهم قائلون بالأمرين فإنهم يقولون بتسلسل الحوادث ويقولون أن الحوادث حدثت بلا مجرح تام وإذا قالوا نحن رددنا على من أثبت ذاتا معطلة عن الفعل فعلت بعد أن لم تكن فاعلة قيل لهم هذا قول طوائف من أهل الكلام ليس هذا القول منصوصا عن الأنبياء لا في التوارة ولا في الإنجيل ولا في القرآن ولا يلزم من بطلان هذا القول قدم العالم ومخالفة ما أخبرت به الرسل بل نقول إن كان هذا القول ممكنا بطل ردكم له وإن كان ممتنعا لم يلزم إلا دوام فعل الفاعل لا أزلية هذه الأفلاك ولا أزلية شيء بعينه من الممكنات
الوجه السادس أن يقال قولكم أشد استحالة من هذا القول فإن هؤلاء نسبوا جميع الحوادث إلى الفاعل القديم الأزلي وقالوا أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فأثبوا للحوادث فاعلا ولم يثبتوا سببا حادثا وأنتم جعلتم الحوادث تحدث بلا فاعل أصلا لأن الفاعل القديم الواجب عندكم يلزمه مفعوله الذي هو معلوله وموجبه ومقتضاه فلا يتأخر عنه فلا يجوز أن يحدث عنه شيء فإذن هذه الحوادث لم تحدث عنه فتضمن قولكم أن الحوادث لا محدث لها وهذا اعظم فسادا من قول من جعل لها محدثا أحدثها من غير سبب حادث

الوجه السابع أن يقال كل ما تذكرونه من الشبه على نفي حدوث هذا العالم يلزمكم مثله في حدوث كل حادث مثل قولكم أن الفاعل لا بد له من غرض وقولكم أن التأثير إن كان قديما لزم قدم الأثر وأمثال ذلك وإنما وقع التلبيس منكم أنكم أخذتم تحتجون على قدم الأفلاك أو مواد الأفلاك بحجج ليس فيها ما يقتضي ذلك بل إما أن تقتضي الحجة نفي الفعل والإحداث بالكلية فيعلم فسادها بالضرورة والاتفاق وإما أن تقتضي أن كل حادث مسبوق بحادث وهذا لا يدل على قدم هذا العالم بل على أن الرب لم يزل فاعلا إما أفعالا تقوم بنفسه وإما مفعولات منفصلة تحدث شيئا بعد شيء وليس في واحد من هذين ما يقتضي صحة قولكم بل كل منهما يناقض قولكم وغايتكم أن تفسدوا قول بعض أهل الكلام أو حجتهم لكن ليس في هذا تصحيح لقولكم ولا إبطال لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين
وهذه الأمور قد بسطناها في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها هنا لأنها أصل قول هؤلاء الذين ينكرون انفطار السموات وانشقاقها ويقولون إن النبوة هي من نوع قوى النفوس وأن المعجزات هي قوى نفسانية حتى يجعلونها هي سبب ما أحدثه الله من آيات الانبياء وإن كانوا مع هذا يعظمون الأنبياء ويوجبون طاعة نواميسهم ويأمرون

بقتل من يخرق النواميس ويقولون أنهم وضعوا للناس قانونا من العدل به يعيش الناس في الدنيا فهم فيما يخبرون به من صفات الأنبياء يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض كما أخبر الله تعالى فيؤمنون ببعض الصفات التي اتصف بها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وببعض ما آتاهم الله من الفضائل ويكفرون ببعض والذي يثبتونه للأنبياء قد يحصل للرجل الصالح العالم والمخاطبات والمكاشفات التي يثبتونها للأنبياء تحصل لكثير من عوام الصالحين وما أثبتوه من الحق فهو حق لكن كفرهم بما كذبوا به من الحق فنقول ما وصفوا به الأنبياء من أن لهم خصائص في العلم والقدرة والسمع والبصر امتازوا بها حق لكن دعواهم أن منتهى خصائصهم ما ذكروه باطل فنحن لا ننكر أن الله تعالى يخص البنى بقوة قدسية يعلم بها ما لا يعلم غيره ولا ننكر أيضا ما يمثله الله له إما في اليقظة وإما في المنام من الأمور الصادقة المطابقة للحقائق ولا ننكر أيضا أن الله قد يجعل في النفوس قوى يحصل بها تأثير في الوجود والناس لهم في هذا الباب قولان فالسلف والفقهاء والجمهور يقولون أن الله جعل في الأعيان قوى وطبائع تحصل بها الآثار كما جعل في النار التسخين وفي الماء التبريد ونحو ذلك وطائفة من أهل الكلام ينكرون هذا كله ويقولون ليس في الأعيان قوى وطبائع تكون أسبابا للآثار لكن الله يخلق الأشياء عندها لا بها ويقولون ليس في العين

قوة امتازت بها عن الأنف ولا في الخبز قوة امتاز بها عن الشراب ولا في الماء قوة امتاز بها عن الخل ولكن الله تعالى يخلق الشبع والري عند ذلك لا به وهذا القول ضعيف مخالف للشرع والعقل فإن الله تعالى قال وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة البقرة 164 وقال تعالى فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف 57 وقال وأنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة سورة النحل 60 ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا أن كون النفوس أو غيرها من الأعيان جعل الله فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر لا في الشرع ولا في العقل ولكن دعوى المدعي أن معجزات نبينا أو غيره من الانبياء هي من هذا الباب بهتان عظيم والقائلون بهذا رأوا أنهم يمكنهم تعليل بعض الخوارق بعلل طبيعية فعللوها ثم جهالهم ظنوا هذا يطرد فطردوا وأما حذاقهم فيكذبون بالخوارق الخارجة عن القانون الطبيعي عندهم وذلك مثل كون بعض الناس يبقى مدة لا يأكل ولا يشرب فإن جماعة من الناس يبقى شهرا أو شهرين لا يأكل فأخذ ابن سينا يقول في إشاراته إذا بلغك أن

عارفا مكث مدة لا يأكل ولا يشرب فاسجح بالتصديق فإن في الطبيعة عجائب وقرر ذلك بأن المريض إذ بقيت قواه الهاضمة مشغولة بمدافعة المرض بقي الطعام محفوظا مدة لا يأكل فيها ولا يشرب فالعارف إذ اشتغلت نفسه بعرفانه اجتذبت إليها القوى الهاضمة فلا تهضم الطعام
وهذا الذي قاله في هذا وأمثاله ليس بطائل فإن الناس يعلمون أن النفس إذا اشتغلت بفرح عظيم أو غضب عظيم أو اهتمام بأمر عظيم اشتغلت عن الأكل والشرب بهذا وأسبابه فهذا ونحوه ليس من معجزات الأنبياء ولا مما يختص به الأولياء
ولهذا كان ما يذكرونه من التأثير مقيدا عندهم بجريانه على القانون الطبيعي المعتاد فعندهم لا يتصور أن يفعل المؤثر في المواد إلا ما هي قابلة له فقد يقولون أن الهواء لما كان قابلا لأن ينقلب ماء امكن أن يؤثر المؤثر فيه حتى يصير الهواء ماء فينزل المطر ومعلوم أن معجزات الأنبياء خارجة عن القوانين الطبيعية مثال ذلك انقلاب العصا ثعبانا ثم ابتلاع الثعبان ما هنالك من العصي والحبال فإن هذا خارج عن قوى النفس والطبيعية لأن الخشب لا يقبل أن يصير حيوانا أصلا ولا يمكن في القوى الطبيعية أن عصا تصير حية لا بقوى نفس ولا بسحر ولا غير ذلك بل الساحر غايته أن يتصرف في الأعراض بفعل ما يحدث عنه الأمراض والقتل ونحو ذلك مما يقدر عليه سائر الآدميين فإن الإنسان يمكنه أن يضرب غيره حتى يمرضه أو يقتله فالساحر والعائن وغيرهما ممن يتصرف بقوى الأنفس

يفعل في المنفصل ما يفعله القادر في المتصل فهذا من أفعال العباد المعروفة المقدروة وأما قلب الأعيان إلى ما ليس في طبعها الانقلاب إليه كمصير الخشب حيوانا حساسا متحركا بالإرادة يبلغ عصيا وحبالا ولا يتغير فليس هذا من جنس مقدور البشر لا معتادا ولا نادرا ولا يحصل بقوى نفس أصلا ولهذا لما رأى سحرة فرعون ذلك علموا أنه خارج عن طريقة السحر فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون سورة الشعراء 46 48 وهذه الحادثة الخارقة للعادة فيها إثبات الصانع وإثبات نبوة أنبيائه فإن حدوث هذا الحادث على هذا الوجه في مثل ذلك المقام يوجب علما ضروريا أنه من القادر المختار لتصديق موسى ونصره على السحرة كما قال تعالى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى سورة طه 67 69 وكذلك إخراج صالح الناقة من هضبة من الهضاب أمر خارج عن قوى النفوس وغيرها ولهذا كان أئمة هؤلاء المتفلسفة يكذبون بهذه المعجزات وربما جعلوها أمثالا فقالوا إنه ألقى عصا العلم فابتلعت حبال الجهل وعصيه ونحو ذلك كما يغلب الرجل الرجل بحجته وهذا من تأويلات القرامطة التي يعلم بالضرورة بطلانها وأنها مخالفة للمنقول بالتواتر ومخالفة لما اتفق عليه المسلمون واليهود

والنصارى من نقل هذه المعجزات واعتبر هذا بأمثاله وكذلك وقوف الشمس ليوشع بن نون وانشقاق القمر لنبينا صلى الله عليه و سلم هو عندهم ممتنع لا يمكن لا بقوى نفس ولا غير ذلك لأن الفلك دائم الحركة
ومعلوم أن هذه المعجزات لا ريب فيها وانشقاق القمر قد أخبر الله به في القرآن وتواترت به الأحاديث كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود وأنس وابن عباس وغيرهم وأيضا فكان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ بهذه السورة في الأعياد والمجامع العامة فيسمعها المؤمن والمنافق ومن في قلبه مرض
ومن المعلوم أن ذلك لو لم يكن وقع لم يكن ذلك أما أولا فلأن من مقصوده أن الناس يصدقونه ويقرون بما جاء به لا يخبرهم دائما بشيء يعلمون كذبه فيه فإن هذا ينفرهم ويوجب تكذيبهم لا تصديقهم
وأما ثانيا فلأن المؤمنين كانوا يسألونه عن أدنى شبهة

تقع في القرآن حتى نساؤه فراجعته عائشة في قوله من نوقش الحساب عذب وذكرت قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا سورة الإنشقاق 8 حتى قال لها ذلك العرض
وراجعته حفصة في قوله لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة وذكرت قوله تعالى وإن منكم إلا واردها سورة مريم 71 حتى أجابها بقوله ألم تسمعي قوله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا سورة مريم 72
وراجعه عمر بقوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين سورة الفتح 27 عام الحديبية لما صالح المشركين على الرجوع ذلك العام حتى قال له أبو بكر كما قال له النبي صلى الله عليه و سلم أقال لك أن تدخله هذا العام قال لا قال فإنك داخله ومطوف به

وأمثال ذلك كثيرة فكيف يقرأ عليهم دائما ما فيه الخبر بانشقاق القمر ولا يرد على ذلك مؤمن ولا كافر ولا منافق مع أن ابن الربعري وغيره من المشركين تعلقوا بالقياس الفاسد في قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون سورة الأنبياء 98 فقاس المسيح على الأصنام بكونه معبودا وهذا معبود وهذا من جهله بالقياس فإن الفرق ثابت بأن هؤلاء أحيانا ناطقون وهم صالحون يتألمون بالنار فلا يعذبون لأجل كفر غيرهم بخلاف الحجارة التي تلقى في النار إهانة لها ولمن عبدها
قال الله تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير ام هو ماضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون سورة الزخرف 57 58 فلو لم يكن

انشقاق القمر معلوما معروفا عندهم لعظم في إنكاره القيل والقال وكثرة الإعتراض وكثرة السؤال وصار في ذلك من المراء والجدال ما لا يخفى على أدنى الرجال
وكذلك القرآن فإن القرآن فيه من الأخبار عن الأمم الماضية كقصة آدم وإبليس ونوح وقومه ومخاطبته لهم وقصة عاد وثمود وفرعون وما جرى من الأمم وقومهم من المخاطبات في الأمور الجزئية مما لا يمكن أن تعلم بالحدس وقوى النفس التي تنال بواسطة العلم بالحد الأوسط وكذلك الخبر عن الأمور المستقبلة المفصلة فإن هذه كلها لا يمكن في الجبلة أن تعلم إلا بمخبر يخبر بها الإنسان وأما علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس ولهذا يقول سبحانه وتعالى وما كنت بجاب الطور إذ نادينا سورة القصص 46 وما كنت بجانب الغربي سورة القصص 44 وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم سورة يوسف 102 وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم سورة آل عمران 44 وفي الجملة فهؤلاء يدعون ما ذكره ابن سينا في إشاراته من أن خوارق العادات في العالم ثلاثة أنواع لأنها إما أن تكون بأسباب فلكية كتمزيج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية وهذا هو الطلسمات وإما أن تكون بأسباب طبيعة سفلية كخواص الأجسام وهي النيرنجيات وإما أن تكون بأسباب نفسانية ويزعمون أن المعجزات التي للأنبياء والكرامات التي للأولياء وانواعا من السحر

والكهانة هو من هذا الباب ويقولون الفرق بين النبي والساحر أن النبي نفسه زكية تأمر بالخير والساحر نفسه خبيثة تأمر بالشر فهما يفترقان عندهم فيما يأمر به كل منهما لا في نفس الأسباب الخارقة وقد قدمنا أن من أهل الكلام والنظر من ينكر أن تكون في شيء من الأنفس وغيرها من الأجسام الحيوان وغير الحيوان قوى أو طبائع أو أن يكون لها تأثير بل يجعلون ذلك كله من باب المقارنة العادية المحضة وهذا قول جمهور الأشعرية ومن يوافقهم من أهل الظاهر وأهل القياس من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهؤلاء قد يغلون حتى يقولوا إن قدرة الحيوان لا تأثير لها في أفعاله الاختيارية لا للإنسان ولا لغير الإنسان وينكرون أيضا أن يكون الله يفعل شيئا لشيء فينكرون الأسباب والحكم في خلقه وأمره وكثير منهم ينكر القياس ومن أقر منهم لم يجعل علل الشرع إلا مجرد علامات وأكثرهم يتناقضون في هذا الأصل فإذا تكلموا في تفاصيل الفقه والطب وحكمة الله تكلموا بموجب فطرتهم وإيمانهم على طريقة الجمهور الذين يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب المتقدمة على الحوادث والحكم المتأخرة عن الحوادث وإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة في أصول الدين في مسائل القدر والتعديل والتجوير وتعليل أفعال الله تعالى وأسباب الحوادث تكلموا على هذه الطريقة التي هي في الأصل طريقة المجبرة كجهم بن صفوان وأمثاله ويجعلون

نفس المشيئة مقتضية لترجيح أحد المثلين على الآخر بلا سبب يقتضي الترجيح غير الإرادة وادعوا أنها كما انها تقتضي جنس التخصيص فإنها تقتضي التخصيص المعين إذ التخصيص ببعض الحوادث دون بعض لا يقع بنفس العلم ولا بنفس القدرة فلا بد له من مخصص وذلك هو الإرادة لكن المعقول من ذلك أن جنس الإرادة يخصص جنس المحدثات وأما كون هذا المعين مراده من هذا فلا تقتضيه نفس جنس الإرادة إلا أن كون المراد مختصا بسبب يقتضي أن يراد دون غيره وأن يكون من المريد سبب يوجب أن يريد ذاك دون غيره فادعى هؤلاء أن نفس الإرادة تخصص مثلا عن مثل من غير سبب معين وذاك لا في المريد ولا في المراد مع أن نسبتها إلى جميع المرادات نسبة واحدة
وقال جمهور العقلاء هذا مما يعلم فساده بالضرورة فإن الإرادة إذا استوت نسبتها إلى جميع المرادات وأوقاتها وصفاتها وأشكالها كان ترجيح الإرادة لمثل على مثل ترجيحا من غير مرجح فإن جاز هذا جاز أن يقال الفاعل القادر يخصص مثلا على مثل بلا إرادة وحينئذ فلا إرادة كما تقوله معتزلة البغداديين وإن جاز هذا لزم ترجيح

أحد المثالين على الآخر بلا مرجح أصلا فإذا كان نسبة الوجود والعدم إلى حقيقة الممكن نسبة واحدة جاز ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح فيلزم جواز وجود الممكنات والمحدثات بلا مبدع فاعل
فقال هؤلاء نحن نفرق بين ترجيح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وبين ترجيح الموجب بلا مرجح وهذا الفرق هو أصل قول المعتزلة وقول الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من حيث يجعلون الموجب للترجيح إرادة نسبتها إلى المثلين سواء ولكن هؤلاء يجعلون المرجح هو إرادة القادر المختار وأولئك يجعلون المرجح هو نفس القادر المختار ثم البصريون منهم يقولون يحدث بنفسه الإرادة لا في محل والبغداديون منهم يقولون بنفي هذه الإرادة ويقولون لا تزيد الإرادة على فعل المفعول والأمر بالمأمورات

وأهل الكتاب من اليهود السامره وغيرهم الموافقون للمعتزلة هم على هذين القولين وأبو عبدالله بن الخطيب ونحوه متناقضون في هذا الباب فإذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر والجبر سلكوا مسلك من يقول أن الممكن لا يرجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام مستلزم لأمر لا فرق في ذلك بين القادر والموجب فإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وطالبهم الدهرية بسبب حدوث العالم سلكوا مسلك المعتزلة فقالوا القادر المختار يرجح أحد طرفي المقدور على الآخر بلا مرجح أو قالوا الإرادة القديمة هي المرجح كما يقول ذلك الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية
وهذا المقام هو من الأصول العظام التي اضطربت فيها

رؤوس أهل النظر والفلسفة والكلام ومن سلك الطرق النبوية السامية علم أن العقل الصريح مطابق للنقل الصحيح وقال بموجب العقل في هذا وفي هذا وأثبت ما أثبتته الرسل من خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولم يجعل شيئا سوى الله قديما معه بل كل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن مع قوله أن ترجيح أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمرجح ولا فرق في ذلك بين مرجح ومرجح ومع قوله أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومع إثباته حدوث كل ما سوى الله بالبرهان العقلي الصريح الذي لا يحتاج معه إلى تعجيز الله في الأزل عن الفعل وإلى أن يقول أنه إن لم يكن الفعل ممكنا ثم صار ممكنا من غير حدوث شيء ومن غير أن يحتاج إلى أن يجعل الحوادث تحدث بلا سبب أصلا ومع إبطاله أن يكون صانع العالم موجبا بذاته وعلة أزلية مستلزمة لمعلولها ومع قوله أن كل ما لا يسبق الحوادث من الممكنات فإنه لا يكون إلا حادثا بها لامتناع دوام الحوادث بل لامتناع صدور المحدثات وما لا يتقدم عن موجب بالذات وإذا بطل الموجب بالذات لزم حدوث كل ممكن فإن قدم شيء من الممكنات لا يكون إلا إذا كان له موجب تام أزلي وإذا امتنع شرط القدم لشيء من الممكنات امتنع قدم شيء من الممكنات وهذا مبسوط في موضعه ولكن المقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر والكلام كالأشعري وغيره أنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره وأنكروا حكم الله المقصودة بذلك

وقالوا في لامات كي المذكورة في القرآن كقوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 وقوله ولذلك خلقهم سورة هود 119 وقوله لعلهم يتقون سورة البقرة 187 وأمثال ذلك هي لام العاقبة ليست لام التعليل إذ كان يمتنع عندهم أن يفعل الله شيئا لأجل شيء أو يأمر بشيء لأجل شيء فهؤلاء لا يثبتون في الأفلاك العلوية ولا الأجسام السفلية ولا النفوس قوى تكون سببا لحدوث شيء وإذا أنكروا تأثير القدرة التي للحيوان فهم لما سواها أشد إنكارا وهؤلاء إذا أرادوا أن يجيبوا الفلاسفة عما ادعوه من أسباب المعجزات وغيرها من الخوارق قالوا نحن نقول أن المؤثر في الحوادث هو قدرة الله فقط ولا أثر لشيء من ذلك ولهذا قال الأشعري إن أخص وصف الرب هو القدرة على الإختراع والكلام بين هؤلاء وبين منازعيهم في مقامين أحدهما أنهم لا يسلمون حصول الخوارق مقارنة لما تذكره الفلاسفة من الأسباب
الثاني أنهم إذا سلموا ذلك جعلوا ذلك كسائر الأمور التي علم اقترانها في العادة فإن العادة جارية بأن الإنسان يأكل فيشبع ويشرب فيروي ويضرب بالسيف فيقطع فإذا كانوا يقولون إن مجرد القدرة القديمة هي

المحدثة للشبع والري والقطع وغير ذلك عند هذه الأمور المقارنة لها لا بها وأنه ليس هنا قوة ولا طبيعة ولا فعل له تأثير في هذه الحوادث بوجه من الوجوه كان قولهم لذلك في المعجزات أقوى وأظهر وأبو حامد الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة جعل هذه المسألة من الأصول التي نازع فيها الفلاسفة ولهذا اشتد نكير ابن رشد عليه في تهافت التهافت وجعل هذا من المواضع التي استطال بها على أبي حامد وانتهز بها الفرصة في الرد عليه والإنتصار للفلاسفة وأما المعتزلة ونحوهم من القدرية فيفرقون بين تأثير الحي القادر وتأثير غيره ويقرون بإثبات التأثير للقادر سواء كان خالقا أو مخلوقا ولا يثبتون لغير ذلك تأثيرا

ويزيدون على ذلك حتى يجعلون ما تولد عن فعل الإنسان من فعله ولا يجعلون لبقية الأسباب التي شاركته تأثيرا فإن أفعال الإنسان وغيره من الحيوان على نوعين أحدهما المباشر والثاني المتولد فالمباشر ما كان في محل القدرة كالقيام والقعود والأكل والشرب وأما المتولد فهو ما خرج عن محل القدرة كخروج السهم من القوس وقطع السكين للعنق والألم الحاصل من الضرب ونحو ذلك فهؤلاء المعتزلة يقولون هذه المتولدات فعل العبد كالأفعال المباشرة وأولئك المبالغون في مناقضتهم في مسائل القدر من الأشعرية وغيرهم يقولون بل هذه الحوادث فعل الله تعالى ليس للعبد منها فعل أصلا وهم وإن كانوا لا يثبتون لقدرة العبد أثرا في حصول المقدور فإنهم يفرقون بين ما كان في محل القدرة فيجعلونه مقدورا للعبد وما كان خارجا عن محل القدرة فلا يجعلونه مقدورا للعبد وأكثر من نازعهم يقول أن هذا كلام لا يعقل

فإنه إذا لم يثبت للقدرة أثر لم يكن الفرق بين ما كان في محل القدرة وبين ما كان في غير محل القدرة إلا فرقا في محل الحادث من غير أن يكون للقدرة في ذلك تأثير وتسمية هذا مقدورا دون هذا تحكم محض وتفريق بين المتماثلين
ولهذا قال بعض الناس عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة طفرة النظام واحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وإذا قيل لهؤلاء الكسب الذي أثبتموه لا تعقل حقيقته فإذا قالوا الكسب ما وجد في محل القدرة المحدثة مقارنا لها من غير أن يكون للقدرة تأثير فيه قيل لهم فلا فرق بين هذا الكسب وبين سائر ما يحدث في غير محلها وغير مقارن لها إذ اشتراك الشيئين في زمانهما ومحلهما لا يوجب كون أحدهما له قدرة على الآخر كاشتراك العرضين

الحادثين في محل واحد في زمان واحد بل قد يقال ليس جعل الكسب قدرة والقدرة كسبا بأولى من العكس إذا لم يكن إلا مجرد المقارنة في الزمان والمحل ولهذا قال أهل السنة وأهل الإثبات من سائر الطوائف إن العبد فاعل لفعله حقيقة بخلاف جمهور الأشعرية ومن وافقهم فإنهم يقولون إنه فاعل مجازا وليس حقيقة ويقولون أن فعل العبد فعل لله لا للعبد لأنهم مع سائر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون أن الله تعالى خالق أفعال العباد وهم يقولون أن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق
وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهو أول قولي القاضي أبي يعلى ثم رجع عن ذلك ووافق الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد في أن الخلق غير المخلوق وهو قول الحنفية وأهل الحديث وجمهور الصوفية وجمهور أهل الكلام فلما كان هؤلاء يقولون إن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق ويقولون أن فعل العبد مخلوق لله لزمهم أن يقولوا أن فعل العبد فعل لله وإذا كان فعله فعلا لله لم يكن فعلا له لأن الفعل الواحد لا يكون فعلا لفاعلين ولهذا قامت الشناعة عليهم من جماهير الناس المثبتين للقدر والنافين له وأرادت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم بهذه الزلة من هؤلاء أن يتوسلوا بذلك إلى إبطال قول أهل السنة في القدر وأن الله لم يخلق أفعال العباد لأن جمهور المعتزلة يقولون أيضا إن الخلق هو المخلوق فإذا كان العبد فاعلا لفعله امتنع أن يكون مخلوقا لله إذ المخلوق

هو الخلق والمفعول هو الفعل عندهم كما هو كذلك عند الأشعرية
فلما اتفق هذان الفريقان على أن الخلق هو المخلوق والفعل هو المفعول تباينوا في مسألة أفعال العباد تباينا صاروا فيه على طرفي نقيض هؤلاء يقولون ثبت أن العبد فاعل لفعله فلا يكون فعله فعلا لله فلا يكون خلقا لله فلا يكون مخلوقا لله وهؤلاء يقولون ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها فلا يكون في الوجود ما هو فعل ولا مفعول لغير الله إذ الفعل هو المفعول فلا تكون حركات العباد فعلا لهم بل لله تعالى وأما جمهور الخلق من أهل السنة وغيرهم فيقولون أن الخلق غير المخلوق وفعل الله القائم به ليس هو مفعوله المنفصل عنه ويقولون أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له لا أنها نفس خلقه ونفس فعله وهي نفس فعل العبد فهي فعل العبد حقيقة لا مجازا وأما كون العبد له مفعول متولد عنه غير فعله فهذه مسألة التولد وعلى ذلك يبنى الكلام في أصوات العباد وكلامهم فإن الأصوات متولدة عن حركات العبد الإختيارية فمن قال أن المتولد ليس من فعل العبد ولا كسبه يقول أن أصوات العباد ليست مقدروة لهم ولا مفعولة ولا كسبا كما يقول ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم

ثم تولد من هذا بحث آخر فيمن قال أن الأصوات المسموعة من القارىء أو بعض الأصوات المسموعة من القارىء هي صوت الله فإنه بنى ذلك على هذا الأصل فقال الأصوات ليست من مقدرو العباد ولا من أفعالهم وكسبهم بل هي مضافة إلى الله فتضاف إليه بحسب ما يوجب الإضافة فإن كانت بكلامهم أضيفت إليه إضافة خلق وإن كانت لكلام الله أضيفت إليه إضافة وصف وكانت ظاهرة في المحدث لا حالة فيه ولكن ظهورها قارن حركة العبد وهذا الكلام وإن كان قد قاله طائفة من هؤلاء فهو معلوم الفساد بالضرورة والحس واتفاق جماهير العقلاء وهو قول فاسد مبني على أصل فاسد وإنما هو من باب الإلزام لمن وافقهم من الأشعرية على أن الأصوات المسموعة ليست مقدورة للعباد وكثير من الأشعرية متناقضون في هذا الباب ففي بحثهم مع المعتزلة يجعلون أصوات العباد غير مقدورة لهم ولا مفعولة لهم وفي بحثهم في مسألة القرآن يجعلونها مقدروة للعباد مفعولة لهم والكلام على هذا مبسوط في موضع
آخر والمقصود هنا أن جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دل عليه المنقول والمعقول فيقولون أن أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له وهي فعل للعباد حقيقة لا مجازا وهم يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب والحكم وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم بل يقولون أن الله خالق كل شي وربه

ومليكه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حول ولا قوة إلا به ويعلمون أن الاسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته ولا تزال مفتقرة إلى الله لا يقولون أنها معلولة له أو متولدة عنه كما يقوله الفلاسفة ولا أنها مستغنية عنه بعد الأحداث كما يقوله من يقوله من أهل الكلام بل كل ما سوى الله تعالى دائم الفقر والإحتياج إليه لا يحدث ولا يبقى إلا بمشيئته القديمة فما كان بالأسباب فالله خالقه وخالق سببه جميعا ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء بل لا بد له من أسباب أخر تعاونه وتشاركه وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه كما في الشعاع الحادث عن الشمس والاحتراق الحادث عن النار ونحو ذلك فإنه لا بد مع الشمس من محل قابل لانعكاس الشعاع عليه وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل كالسحاب والسقف وغير ذلك من الموانع وبكل حائل
فقول متكلمة الملل من المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية ونحوهم أقرب إلى القبول من أقوال الفلاسفة والطبائعية والمنجمين ونحوهم فإن هؤلاء يشهدون بعض الأسباب كما يشهدون الطبائع والقوى التي خلقها الله في الأجسام وكما يشهدون ما للشمس والقمر وغيرهما في هذا العالم من الآثار لكنهم مع ذلك يضيفون الحوادث إلى سبب من أسبابه كإضافة الحوادث من الأجسام وغيرها إلى الطبيعة

والطبيعة عرض قائم بجسم فمن جعل المحدث للإنسان في بطن أمه وما فيه من الأعضاء المختلفة وقواها ومنافعها هو الطبيعة كان قوله أظهر فسادا من تلك الأقوال التي فيها إضافة الحوادث إلى مجرد مشيئة القديم من غير إثبات سبب ولا حكمة أو إضافة الحوادث إلى قدرة القادر المختار سواء كان قديما أو حادثا فإن كلا من القولين خير من إضافة ذلك إلى طبيعة هي عرض بجسم من الاجسام ليس له إرادة ولا مشيئة مع أن الجنين المخلوق في الرحم أكمل من الرحم وقواها ثم فلاسفة هؤلاء إذا قالوا أن هذه الحوادث تحدث بسبب حركات الأفلاك وأن ذلك يعدها لقبول الفيض عليها من العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه إلى إقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من إثبات العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه الى اقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من اثبات العقل الفعال كلام باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع وإنما يقوم الدليل على أن الحوادث تصدر عن حركات حي مختار وتلك هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء وليست الملائكة هي العقول التي يثبتها هؤلاء فإن العقل الأول عند هؤلاء هو المبدع لكل ما سوى الله والعقل الفعال عندهم هو المبدع لكل ما تحت فلك القمر
وأهل الملل يعلمون بالاضطرار من دين الرسل أنه ليس عندهم أحد غير الله يخلق جميع المبدعات ولا أنهم أثبتوا ملكا من الملائكة أبدع كل ما تحت السماء بل الملائكة عندهم عباد لله ليس فيهم من هو مستقل بإحداث جميع الحوادث فضلا عن أن يكون مبدعا لكل ما سوى الله وسواه

كما يقوله هؤلاء الفلاسفة في العقل الأول قال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 26 28 وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شريك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 22 23 وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا سورة النساء 172 173
وأيضا فبتقدير ثبوت العقل الفعال وما قبله من العقول فهذه عندهم هي لازمة لذات الله متولدة عنه معلولة له وحينئذ فالحوادث الحادثة لا تجوز أن تصدر عنها لأن

ذلك يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإذا قالوا أن حركات الأفلاك توجب تحريك العناصر حتى تمتزج امتزاجات معدة لقبول الفيض كان هذا باطلا من وجوه منها أن يقال فالحوادث كلها من حركات الأفلاك وما يحدث عنها لا بد لها من محدث ومحدث الحوادث لا يجوز أن يكون علة تامة أزلية لأن العلة التامة الأزلية مستلزمة لمعلولها فيجب أن يكون معلولها مقارنا لها في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من الحوادث صادرا عن الواجب الوجود بواسطة أو بغير واسطة وحينئذ فلا يكون للحوادث محدث
وأيضا فنفس حركة الفلك الأعلى حركة واحدة متشابهة بسيطة لا توجب بنفسها آثارا مختلفة إلا لاختلاف القوابل كما أن الشمس تبيض جسما وتسود جسما وتلين جسما وتيبس جسما بحس القوابل المختلفة فإذا كان حركته بسيطة والعقل بسيطا لم يصدر عنهما أمور مختلفة وكذلك الأفلاك التي تحته لها حركات معدودة محصورة وكل منها حركته بسيطة وليس في شيء من هذه الحركات والمتحركات ما يوجب هذه الأعيان والحوادث المختلفة اختلافا لا يحصى عدده في الصفات والأقدار والحركات هذا مع قولهم أن الواحد البسيط لا يصدر عنه إلا واحد فيعلم بالضرورة أن هذه الحوادث الكثيرة المختلفة ليست صادرة عن عدد محصور في البسائط وأيضا فيقال تلك الحركات والمتحركات والعقول المعلومة أمور مختلفة متعددة فإن صدرت عن واحد بطل قولهم لا يصدر عن الواحد إلا واحد وإن صدرت عن موصوف

بالصفات والأفعال القائمة بطل قولهم بالموجب بالذات وعلى التقديرين يبطل مذهبهم وأيضا فإن الواحد البسيط الذي يذكرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فإنه وجود مطلق والمطلق إنما يوجد في الذهن لا في الخارج وأما المطلق بشرط الإطلاق فظاهر وأما المطلق لا بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي فهذا أيضا لا يوجد في الخارج كليا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما يوجد معينا مشخصا جزئيا لكن ما في الذهن كلي بمعنى أنه مطابق لتلك الجزئيات كمطابقة اللفظ العام لأفراده وأيضا فذلك الواحد إن كان الصادر عنه واحدا لم يصدر عن الآخر إلا واحدا وكذلك هلم جرا فيلزم أن لا يكون في العالم ثرة كثرت وإن صدر عنه أكثر من واحد بطل أصلهم وإذا قالوا فيه جهات كالوجوب والإمكان وعقله لمبدعه وعقله لنفسه ونحو ذلك فيصدر عنه باعتبار وجوبه عقل وباعتبار إمكانه جسم ونحو ذلك من الهذيان الذي يقولونه في هذا الموضع قيل لهم تلك الأمور إما أن تكون وجودية وإما أن تكون عدمية فإن كانت وجودية وقد اتصف بها الصادر الأول فقد صدر عن المبدع الأول أكثر من واحد وإن كانت عدمية كان الواحد صدر عنه باعتبار اتصافه بأمور عدمية أكثر من واحد وحينئذ فالواجب الوجود يتصف بالأمور العدمية بالاتفاق فيجب أن يجوز أن يصدر عنه أكثر من واحد هو أحق بذلك من الصادر الأول الذي هو العقل الأول عندهم

وبالجملة فالأدلة الدالة على بطلان قولهم كثيرا جدا والكلام على هذا وغيره قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن أقوال هؤلاء ليست مطابقة لما أخبرت به الرسل كما ليست مطابقة لما دل عليه العقل الصريح فلا هي موافقة للمنقول الصحيح ولا للمعقول الصريح ولكنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات كما ظهر ذلك في الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وأمثالهم وكما ظهر ذلك في متصوفة الفلاسفة الذين يزعمون أن أخبار الأنبياء مطابقة لأقول هؤلاء الفلاسفة وكما ظهر ذلك فيمن يريد أن يجمع بين الشريعة والفلسفة كابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما وكما سلك نحوا من ذلك أهل الوحدة والحلول كابن عربي وابن سبعين وابن قسي صاحب خلع النعلين وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء أعظم مخالفة لصريح المعقول مع صحيح المنقول من المعتزلة
ونحوهم والمعتزلة ونحوهم أقرب منهم ومتكلمة أهل الإثبات للصفات والقدر مثل الكرامية والكلابية والأشعرية

والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه فأما السلف والأئمة وأكابر أهل الحديث والسنة والجماعة فهم أولى الطوائف بموافقة المعقول الصحيح والمنقول والصحيح والكلام في مثل هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وإنما ذكرنا ذلك هنا لأن المعجزات من جملة الحوادث ففي حدوثها للطوائف من الكلام ما نبهنا عليه
والمقصود هنا بيان بطلان قول من يقول أن أسبابها قوى نفسانية وقد ذكرنا أن الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة ونحوهم يبطلون ذلك بناء على أصولهم وهؤلاء يبطلون ذلك بناء على أن المؤثر في جميع الحوادث هو قدرة الله وأما المعتزلة فلا يبلطون تأثير الحي القادر ولكن كثير منهم يقول بإبطال تأثير النفوس وإذا قال الفيلسوف قول هؤلاء باطل لثبوت القوى والطبائع قيل له القول الذي بنيت عليه هذا القول هو أبطل من أقوال هؤلاء فإنك بنيت ذلك على أن فاعل العالم موجب بالذات وأنه علة تامة مستلزمة لمعلولها وقد تبين بصريح العقل بطلان هذا القول وتبين انه مستلزم أن لا يكون للحوادث محدث وإذا كان كذلك لم يكن لك أن تبطل قولهم مع تصحيح قولك بل إما أن يبطل القولان أو يصح أحدهما

وحينئذ فيكون قولهم أولى بالصحة وقولك أولى بالبطلان فثبت بطلان قولك على التقديرين وبيان ذلك أن يقال صحة قولك تحتاج أولا إلى أن قوى النفوس يصدر عنها مثل هذه الآثار وهذا القدر منازعك فيه أكثر ممن يوافقك على تأثير الطبائع فجمهور الفلاسفةوالطبائعيين لا يقرون بها كما يقرون بأن النار تسخن والخبز يشبع والماء يروي ثم بعد هذا إذا ثبت لقوي النفس تأثير لم يمكن أن يثبت تأثيرها في هذه الحوادث العظيمة ثم تحتاج مع ذلك أن تنفي أن يكون هناك أسباب أخر غير هذه ثم بعد ذلك كله يبقى الكلام في الأسباب والمسببات فأنت تحتاج إلى عقاب عظيمة لا تقدر على تقريرها حتى تصل إلى مسألة الأسباب وحينئذ فتجتمع أنت ومنازعوك من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية ونحوهم
وأما جمهور المسلمين فهم لا ينكرون الأسباب والمسببات لا في الجماد ولا في الحيوان كما تقدم لكن يعترفون بكل ما دل على صحته الدليل سواء كان الدليل نقليا أو عقليا وهم وإن بينا أن طريقة أهل الكلام أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من طريق الفلاسفة فإنهم يعترفون بما في طريقتهم من النقص والعيب وجحد بعض الحق والتزام بعض الباطل

ولهذا كان السلف والأئمة يذمون أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا الكلام المشتمل على نوع من الباطل ويمنعون أن ترد بدعة ببدعة ويقابل الباطل بالباطل ويرد الفاسد بالفاسد ولكن مع كون هذا يذم ويعاب فلا ينكر كونه خيرا من كلام أولئك كما أنا وإن كنا نذم ما يوجد في بعض المسلمين من ظلم وجهل فنحن نعلم أن ما في الكفار من ذلك أعظم وإن كنا لا ننكر ما يوجد في بعض أهل السنة والجماعة من جهل وظلم فنحن نعلم أن الجهل والظلم في الرافضة أكثر

فصل إذا تبين هذا فيقال الكلام على هؤلاء من وجوه
أحدها أن يقال قولكم هذا قول بلا علم وهو قول لا دليل على صحته وهذا يقال قبل الجزم ببطلان قولهم فإنهم أولا يطالبون بالدليل الدال على صحة قولهم وليس لهم على ذلك دليل أصلا بل عامة ما يعتمدون عليه التجويز الذهني والذي قرره ابن سينا وأمثاله ليس فيه ما يدل على أن هذا هو الواقع بل غاية مطلوبهم تجويز ذلك وإمكانه مع أن ذلك باطل وأيضا فإثبات قوى النفوس لا يوجب مثل هذه الآثار ولا ريب أن المعجزات المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى مما اتفق الناس على أن قوى النفوس لا تقتضيها والفلاسفة يسلمون ذلك لكن إنما يقرون من المعجزات بما يظنون أنه يمكن إحالته على قوى النفوس كإنزال المطر

وزلزلة الأرض ونحو ذلك مما يكون فيه استحالة الجسم من حال إلى حال قابل له فإذا حصل قوة فاعلة مع القوة القابلة حصل ذلك وإذا كان الهواء يستحيل ماء بأسباب تقتضي ذلك وحركة الأرض وزلزلتها ممكنة بأسباب وأمراض الجسم مما يحصل بأسباب أمكن حصول ذلك بالقوى النفسانية والساحر يؤثر في أحوال الأجسام ولا يؤثر في قلب الأعيان فيؤثر في أسباب المرض والموت ونحو ذلك وأما جعل الخشب حية فهذا عندهم غير ممكن لا بقوى نفسانية ولا غيرها وأما من أنكر أن يكون لقوى النفوس تأثير بالكلية كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة ومن الأطباء والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يسندون المنع إلى هذا الأصل
ولكن نحن لا نحتاج إلى ان ننبه على هذا الأصل بل لا يمتنع أن يكون لقوى النفوس نوع تأثير كما لقوى سائر الأعيان وإن كانت الأعيان وقواها متفاوتة فلا ريب أن قوة جبريل الذي قال الله فيه علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى سورة النجم 6 وقال فيه إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين سورة التكوير 19 21 وقد روى أنه قلع قرى قوم لوط الستة ورفعها ثم قلبها عليها فلا ريب أن هذه القوة التي

للملك مما امتاز بها على أصحاب القوى المعروفة لما نشاهده من الحيوان وقد بينا أن هؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا وأمثاله كما ختم إشاراته بأن قال الأمور الغريبة تنبعث في عالم الطبيعة من مبادىء ثلاثة أحدها الهيئة النفسية وثانيها خواص الأجسام العنصرية مثل جذب المغناطيس للحديد بقوة تخصه وثالثها قوة سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة بهيئات وضعية أو بينها وبين قوى نفوس أرضية مخصوصة بأحوال فلكية فعلية أو انفعالية تستتبع حدوث آثار غريبة قال والسحر من قبيل القسم الأول بل المعجزات والكرامات والنيرنجيات من قبيل القسم الثاني والطلمسات من قبيل القسم الثالث
فزعم أن أسباب خوارق العادات في هذاالعالم هي هذه الأسباب الثلاثة أما القوى النفسانية وأما القوى الجسمانية العنصرية وأما القوى الفلكية مع القوى الجسمانية أو النفسانية

وهذا النفي لم يذكر عليه دليلا ولا دليل له عليه والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل وهو يقول ليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن حكمته دون الخرق في تصديقك ما لم يقم بين يديك بينته وهذا كنفيهم للجن والملائكة وهؤلاء يلزمهم إقامة دليل علىالنفي ولا دليل لهم ولكن كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله وهذا مما ينبغي أن يعرف فإن عمدة هؤلاء في حصرهم الفاسد هو النفي والتكذيب بلا علم أصلا وأيضا فإنا قد علمنا نحن وغيرنا بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية بطلان هذا الحصر وأنه يحدث في هذا العالم أمور كثيرة عن أحياء ناطقين من غير نفوس بني آدم وغير الأجسام العنصرية وغير الفلك وقواه
وقد ذكر ابن سينا لما تكلم عن إثبات الخوارق على أصول إخوانه الفلاسفة الذين يزعمون أن المبدع للعالم موجب بذات لا قدرة لها ولا مشيئة وأنه يمتنع انشقاق الأفلاك وتغير هذا العالم وهؤلاء يكذبون أو يكذب كثير منهم بكثير من الغرائب التي يقر بها ابن سينا وأمثاله فإن الالهيين من الفلاسفة يقرون بأمور كثيرة ينكرها الطبيعيون منهم فلما ذكر إمكان ما صدق به من الغرائب وذكر دليل

إمكانه على أصول إخوانه قال اعلم أن هذه الأشياء ليس القول بها والشهادة لها إنما هي ظنون إمكانية صير إليها من أمور عقلية فقط وإن كان ذلك أمرا معتمدا لو كان ولكنها تجارب لما بينت طلبت أسبابها ومن العادات المتفقة لمحبي الاستبصار أن تعرض لهم هذه الأحوال في أنفسهم أو يشاهدوها مرارا متوالية في غيرهم حتى يكون ذلك تجربة في إثبات أمر عجيب ليكون حجة وداعيا إلى طلب سببه فإذا اتضح حسمت الفائدة به واطمأنت النفس إلى وجود تلك الأسباب وخضع الوهم فلم يعارض العقل فيما قدر فعله أو رؤياه منها وذلك من أجم الفوائد وأعظم المهمات ثم إني لو اقتصصت جزئيات هذا الباب فيما شاهدناه وفيما حكاه من حدثناه لطال الكلام ومن لم يصدق الجملة هان عليه أيضا أن لا يصدق التفصيل فهذا كلامه
وقد تبين أنه إنما ذكر من أسباب الغرائب الأخبار بالمغيبات لم يذكره لمجرد كونه ظنا ممكنا علم إمكانه بأدلة عقلية بل لما علمت هذه الغرائب بالمشاهدة

والخبر الصادق فطلبت حينئذ أسبابها وهذا بعينه يقال له فيما علم غيره ثبوته بالمشاهدة والأخبار الصادقة فمن شاهد وجود الجن ورآهم أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة أو علم من الأدلة اليقينية ما يدل على ذلك كما قد علم ذلك من شاء الله كان قد علم يقينا أن الجن ليست قوى نفسانية وعلم أن من الغرائب ما يكون عن أفعال الجن وأخبارهم وهذا أمر معلوم لجميع الأمم من العرب والترك والهند وغيرهم والأمور المتواترة عند الأمم عن الكهان تفوق الإحصاء والذي علمناه في زماننا ممن تحمله الجن وتطير به في الهواء وتسرق له أنواع الأطعمة من الحلاوة وغيرها وتأتيه بها وتخبره عن بعض الأمور الغائبة عنه بأمور كثيرة يطول وصفها في هذا الباب
وأماأمر الملائكة فهو أجل وأعظم وأخبارهم متواترة عند أهل الكتب وأما آثارهم في العالم فيعلم بالمعاينة والمشاهدة فدعوى المدعي بعد هذا أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية من أبطل الباطل فإن السحر كثير منه يكون بالشياطين كما قال الله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل علىالملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر إلى آخر الآية سورة البقرة 102

وكتب السحر مملوءة من الأقسام والعزائم على الجن بساداتهم الذين يعظمونهم ولذلك كانت الإنس تستعيذ بالجن كما قال الله تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا سورة الجن 5 كانوا إذا نزل الرجل منهم بواد يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فأنزل الله هذه الآية وكان النبي صلى الله عليه و سلم يعوذ الحسن والحسين فيقول أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ففرق بين الشيطان وبين الهوام وبين أعين الإنس كما يدل ذلك على وجود الضرر في هذه الجهات الثلاث الإنس والجن والهوام وقد قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا سورة الأنعام 112 وقال تعالى قل أعوذ برب الناس إلى آخرها فأمره بالتعوذ من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس

وقد أخبر الله في كتابه عن خطابه للجن وأمره لهم ونهيه لهم كقوله يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسول منكم سورة الأنعام 130 وقوله تعالى يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان سورة الرحمن 33 وقوله وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن سورة الأحقاف 29 إلى آخر السورة إلى قوله ويجركم من عذاب أليم سورة الاحقاف 31 وقوله قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن سورة الجن 1 إلى آخر السورة ونحن لو ذكرنا ما رأينا وسمعناه من أحوال الجن لطال الخطاب من أحوالهم مع المؤمنين الصالحين ومن أحوالهم مع أهل الكذب والفجور كما قال الله تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تتنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون سورة الشعراء 221 222 فهؤلاء قوم حصروا الوجود وأسبابه فيما علموه ولا علم عندهم بانتفاء ما لم يعلموه وغاية أحدهم أن ينفي الشيء لانتفاء دليل معين وهذا غاية الجهل وهم جهال من وجهين أحدهما عدم العلم بكثير من أنواع الموجودات وأحوالها والثاني عدم العلم بأسباب الحوادث فإنهم لما يثبتوا قدرة الرب على تغيير العالم ونفوا مشيئته التي بها تحدث الحوادث صاروا منكرين لخرق العادات فاحتاجوا في

إثبات الغرائب إلى إجرائها على ذلك القانون الباطل ولهذا بينا فساد الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم وهو كون العالم متولدا عن علة موجبة بالذات مستلزمة لمعلولها فإن هذا الأصل إذا بطل بطل دعواهم أن الحوادث لا تكون إلا بهذه الأسباب وأمكن أن يكون الله هو الذي يحدثها سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته وإن كان ما يشاؤه ويخلقه بأسباب يخلقها وبحكمة يريدها هو سبحانه وتعالى ومما يبين جهلهم في حصرهم وأن ما ذكروه من أن أسباب المعجزات والكرامات والسحر قوى نفسانية أنهم مخطئون في فاعل السحر فخطاؤهم في فاعل المعجزات والكرامات أولى وأعظم
وذلك أن السحر ليس هو مجرد قوى النفس كما ذكره باتفاق أهل المعرفة بالسحر بل السحرة مستعينون بأرواح مقارنة لهم وكتب السحر الموروثة الكشدانيين والهند واليونانيين والقبط وغيرهم من الأمم مملوءة بذكر

ذلك مثل كتب طمطم الهندي وتنكلوشا البابلي وكتب ثابت بن قرة وأبي معشر البلخي وغيرهم ممن صنف في هذا الباب وأبو عبدالله محمد بن الخطيب قد ذكر في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر والطلمسات ومخاطبة النجوم في ذلك أمورا كثيرة

وهؤلاء يعبدون الكواكب بأنواع العبادات والقرابين وتتنزل عليهم الشياطين التي يسمونها هم روحانيات الكواكب وهي أشخاص منفصلة عنهم وإن لم يروها سمعوا كلامها فتخبرهم وتخاطبهم بأمور كثيرة وتقضي لهم أنواعا من الحوائج وهذا موجود اليوم كثيرا في بلاد الترك والخطأ والعجم والهند بل وفي بلاد مصر واليمن والعراق والشام وغير ذلك وأعرف من هؤلاء عددا وهم كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى سورة طه 69 وقال تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون سورة البقرة 102 وقال تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان الآية سورة البقرة 102 وقد تقدم ذكرها فإذا كان هؤلاء مع أهل الملل متفقين على ما شاهدوه وسمعوه من وجود هذه الأحياء الناطقين المنفصلين عن نوع

الإنسان وعن العناصر الأربعة والأفلاك وأنهم كثيرا ما تصدر منهم الغرائب فكيف يقال إن أسباب الغرائب هي الثلاثة فقط فتبين أن الذي يجعل السحر إنما يكون عن مجرد قوى نفسانية من أعظم الناس جهلا وضلالا وقائل ذلك في المعجزات أجهل منه وأضل بكثير وأيضا فإن هؤلاء سواء قالوا بقدم العالم أو حدوثه وسواء قالوا مع الحدوث بدوام فعل الرب أو تجدده بعد أن لم يكن وسواء قالوا مع قدم العالم بأن له علة مبدعة أو لم يقولوا بذلك ليس معهم ما ينفي وجود ما لم يعلموا وجوده من الأفلاك والأرواح العلوية والسفلية وهم يصرحون بأنهم ليس معهم ما يدل على أن الأفلاك تسعة بل هم يثبتون ما اعتقدوا قيام الدليل على ثبوته وأما نفي الزيادة فلا دليل لهم على نفيه وإذا كان هذا في الأفلاك التي هي محسوسة ودلهم على عددها كسوف الكواكب بعضها بعضا واختلاف حركات الكواكب السبعة وغير ذلك أولى أن لا يكون لهم دليل على نفيه وحينئذ فلا دليل لهم على نفي ملائكة كثيرة أضعاف أضعاف العقول العشرة ولا على نفي ملائكة تدبر أمر السماء والأرض والسحاب والمطر وغير ذلك فلو أخبر بوجود ذلك من لم يعلم صدقه ولا كذبه لم يجز تكذيبه إلا بدليل فكيف إذا أخبر بذلك الأنبياء الصادقون المصدوقون وحينئذ فأفعالها من أعظم الأسباب في وجود الغرائب فكيف يقال لا سبب لها إلا هذه الأسباب الثلاثة وأيضا فالدلائل الدالة على وجود الملائكة غير إخبار الأنبياء كثيرة منها أن يقال الحركات الموجودة في العالم

ثلاثة قسرية وطبيعية وإرادية ووجه الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من سبب خارج فإن لم تمكن حركته إلا بسبب خارج عنه كصعود الحجر إلى فوق فهذه الحركة القسرية وإن كانت بسبب منه فإما أن يكون المتحرك له شعور وإما أن لا يكون فإن كان له شعور فهي الحركة الإرادية وإلا فهي الطبيعية والحركة الطبيعية في العنصار إما أن تكون لخروج الجسم عن مركزه الطبيعي وإلا فالتراب إذا كان في مركزه لم يكن في طبعه الحركة فالمتولدات من العناصر لا تتحرك إلا بقاسر يقسر العناصر على حركة بعضها إلى بعض وإذا كانت الحركات الطبيعية والقسرية مفتقرة إلى محرك من خارج علم أن أصل الحركات كلها الإرادة فيلزم من هذا أن يكون مبدأ جميع الحركات من العالم العلوي والسفلي هو الإرادة وحينئذ فإن كان الرب هو المحرك للجميع بلا واسطة ثبت أنه فاعل مختار فبطل أصل قولهم وجاز حدوث المعجزات عن مشيئته بلا سبب وإن كان حركها بتوسط إرادات أخرى فأولئك هم الملائكة وقد علم بالدلائل الكثيرة أن الله خالق الأشياء بالأسباب فعلم أن الملائكة هم الوسائط فيما يخلقه الله تعالى كما قال تعالى فالمدبرات أمرا سورة النازعات 5 فالمقسمات أمرا سورة الذاريات 4 وإذا كانوا موجودين أمكن حدوث الحوادث عنهم وبطل قول من يزعم أنه ليس لها إلا الأسباب الثلاثة المتقدمة

وأيضا فهؤلاء يقولون أن المقتضي لخوارق العادات إما أن يكون قوى نفسانية أو جسمانية وإن كانت جسمانية فإما أن تكون جسمانية عنصرية أو جسمانية فلكية فالخوارق الحاصل من التأثيرات النفسانية هي عندهم من المعجزات والكرامات والسحريات والحاصلة من القوى العنصرية كجذب المغناطيس وهي النيرنجيات والحاصلة من القوى الفلكية هي الطلسمات والقوى الفلكية لا تؤثر في الخارق إلا عند انضمام القوى العنصرية القابلة أو القوى النفسانية الأرضية الفاعلة وهذا هوالطلسمات
ومن أعظمهم إثباتا لخوارق العادات ابن سينا وقد ذكر أسباب الخوارق في أربعة أمور في سبب التمكن من ترك الغذاء مدة وهو أن النفس تشتغل بما يعرض لها من معرفة أو محبة وخوف ونحو ذلك حتى لا تجوع بسب أن القوى الهاضمة مشتغلة عن تحليل الغذاء وفي سبب التمكن من الأفعال الشاقة مثل أن يطيق العارف فعلا أو حركة تخرج عن وسع مثله وهذا كما أن النفس إذا حصل لها غضب وفرح أو انتشاء ما بسكر معتدل وأمثاله حصل لها قوة لم تكن قبل ذلك وكذلك إذا حصل لها من أحوال العارفين ما يقويها وفي سبب التمكن من الإخبار عن الغيوب ومضمونه أنه قد

يعلم الغيب في اليقظة كما يعلمه في النوم وادعوا أن سبب ذلك أن العلم بالحوادث منتقش في العقل الفعال أو النفس الفلكية فإذا اتصلت النفس الناطقة بذلك علمت ذلك ثم تارة يصوره الخيال في المثال وتارة لا يصوره والسبب الموجب لاتصال النفس ضعف تعلقها بالبدن والضعف تارة يكون لجنون أو مرض كما يصيب أهل المرة السوداء وتارة يكون لفرط الجوع أو التعب أو غير ذلك من الأحوال وتارة يكون لرياضة النفس وهذه الأقسام الثلاثة الصبر عن الأكل مدة وقوة البدن والإنذار بالمنامات وما يجري مجراها أمر يحصل للمسلم والكافر والبر والفاجر فيكون سبب الخوارق وتصرفها في العناصر فإن النفس كما أثرت في بدن نفسها بالتحريك والتحويل من حال إلى حال جاز أن تؤثر في عنصر العالم ويكون كالبدن لها فتؤثر بالزلزلة وإنزال المطر ونحو ذلك قال فالذي يقع له هذا في جبلة النفس ويكون رشيدا مزكيا لنفسه فهو ذو معجزة من الأنبياء وكرامة من الأولياء والذي يقع له هذا ويكون شريرا

ويستعمله في الشر فهو الساحر الخبيث قال والإصابة بالعين تكاد أن تكون من هذا القبيل
قال وإنما يستبعد هذا من يفرض أن يكون المؤثر في الأجسام ملاقيا أو مرسل جزءا ومنفذ كيفية بواسطة ومن تأمل ما وصفناه استسقط هذا الشرط عن درجة الاعتبار فهذا ملخص كلامهم في هذا الباب ومعلوم أن جميع ما ذكروه هو أمر معتاد كثير ليس من خوارق العادات ولا من جنس المعجزات ولهذا قال ابن سينا بعد ذكر ذلك وذكر ما تقدم حكايته من أنه من لم يصدق بالجملة هان عليه التفصيل ثم قال ولعلك قد بلغك عن بعض العارفين أخبار تكاد تأتي بتقلب العادة فتبادر إلى التكذيب وذلك مثل ما يقال أن نبيا ربما استسقى للناس فسقوا

أو استشفى فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ودعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان أو السيل أو الطوفان أو خشع لبعضهم سبع أو لم ينفر عنه طير أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح فتوقف ولا تعجل فإن لأمثال هذه أسبابا من أسرار الطبيعة وربما تأتي لي أن أقص بعضها عليك ثم ذكر أن ذلك قد يكون سببه من قوة النفس فإنها إذا كانت تتصرف في بدنها جاز أن تتصرف في غيره ومعلوم أن ما ذكروه لا يفيد الجزم بما قالوه وإنما غايته إمكان ذلك وجوازه بأن يقال إذا جاز أن يرى الإنسان مناما يدل على أمور غائبة أمكن أن يكون العلم بجميع الأمور الغائبة من هذا الباب وإذا جاز أن تؤثر النفس في بدنها وفي شيء صغير جاز أن تؤثر في مجموع الهواء والماء والتراب والنار وإذا جاز أن تقوى النفس على بعض الأفعال جاز أن تقوى على الطيران في الهواء والمشي على الماء وقلب قرى قوم لوط وفلق البحر وإنزال المن والسلوى وتفجير اثنى عشر عينا من الحجر وقلب العصا حية وإخراج القمل والضفادع

وإنزال المائدة عليها خبز وسمك وزيتون وأمثال ذلك ومن المعلوم أن هذا لا يدل على نوع هذا الممكن بلا ريب فلم قلتم أن هذا هو الواقع وكلامهم في هذا مثل كلامهم في إضافة سائر أنواع الصرع إلى الخلط السوادي والبلغمي فإن هذا إنما يصح أن لو لم تكن الجن موجودين والأطباء ليس عندهم دليل على نفي الجن ولا في صناعتهم ما يمنع وجود الجن وقدماء الأطباء كأبقراط وغيره معترفون بذلك ولكن يقولون ليس في صناعتهم ما يدل على ثبوت الجن وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل ليس علما بعدم المدلول عليه فإن عدم ما يدل على الشيء المعين لا يقتضي انتفاؤه فكيف إذا علم بالدلائل الكثيرة أن الجن قد تصرع الإنس كما قال عبدالله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي أن الأطباء يقولون أن الجني لا يدخل بدن الإنسي فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه

وهذا أمر قد باشرناه نحن وغيرنا غير مرة ولنا في ذلك من العلوم الحسيات رؤية وسماعا ما لا يمكن معه الشك لكن المقصود هنا أن نبين أنهم ينفون الشيء بلا علم والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل فهم ليس معهم في كون هذه الآيات حادثة عن القوى النفسانية إلا مجرد التجويز والإمكان إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون سورة الانعام 116 وأيضا فلا دلالة لهم على إمكان كون النفوس تؤثر في مثل هذا أصلا إلا مجرد قياس بعيد لا يقتضي ذلك فهذا أول الوجوه أن يقال أنتم لا دليل لكم بكون هذه الآثار من قوى النفوس
الوجه الثاني أن يقال من هذه الآثار أمور كثيرة تعترفون أنتم بأنه يمتنع كونها من آثار النفوس كما تقدم التنبيه عليه فبطل قولكم أن الآثار المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى من آثار النفوس فإن مجموع ما ذكروه ليس فيه ما يكاد يخرج عن قياس الأمور المعتادة إلا حوادث الأكوان كنزول المطر وشفاء المريض وزلزلة الأرض والخسف وصرف السيل والوباء ورجوع السبع والطير وهذه الأمور يحصل جنسها بأسباب معتادة فإن المطر ينزل بأسباب متعددة وكذلك شفاء المريض وحدوث الخسف والهلاك يحصل بأسباب معتادة كما يحصل نوعه بأسباب معتادة وهذا

بخلاف انفلاق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وانقلاب العصا حية ونزول المن والسلوى وانفجار اثنتي عشرة عينا من الحجارة ومثل نبع الماء من بين الأصابع وتكثير الطعام والشراب حتى يكفي أضعاف من كان يكفيه وانقلاع الشجرة ثم عودها إلى مكانها ثابتة فهذه الأمور وأمثالها لا يصدر جنسها عن سبب معتاد فهذه خارقة للعادة بخلاف ما يكون خارقا للعادة في قدره لا في جنسه وهذا الجنس هم يمنعون حصوله في العالم لا بقوي نفس ولا غيرها والعلم بحصول مثل ذلك إما بالمعاينة وإما بالأخبار الصادقة يبين فساد أصلهم وهذا مما ينبغي للعاقل أن يتدبره فإن القدر الذي بينوا سببه من الغرائب ليس من جنس خوارق العادات بل هو من جنس الأمور المعتادة وعلى هذا فيكونون منكرين لجنس الخوارق وهذا هو أصلهم الفاسد الذي يعلم فساده بدلائل كثيرة ولكن ابن سينا سلك طريقة أراد أن يجمع فيها بين أصولهم الفاسدة وبين التصديق بنوع من الغرائب وأن يجعل الكرامات والمعجزات من هذا النمط فإن السحر هو من الأمور المعتادة كالأسباب التي يحصل بها المرض والموت ونحو ذلك ومنه أمور تخالف العادة والطبيعة ولكن هو مما اعتيد أنه يحصل بالشياطين لكن مقرونا بما يدل على كذبه وفجوره فلا يشبه كرامات الصالحين فضلا عن المعجزات والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان فساد قول من جعل المعجزات قوى نفسانية

الوجه الثالث أن يقال الخوارق ثلاثة أنواع منها ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية ومنها ما هو من جنس العلم الخارج عن قوى البشر ومنها ما هو من جنس المقدورات الخارجة عن قدرة البشر ولهذا قال نوح عليه السلام وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك سورة هود 31 وقال الله تعالى لخاتم الرسل قال لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك سورة الأنعام 50 فالغناء من جنس الاستغناء عن الأكل والشرب مدة والعلم من جنس الإخبار عن الغيوب والقدرة من جنس الأفعال الشاقة ببدنه والتصرف في العناصر بالاستحالة والزلزلة ونحو ذلك فهم إنما ذكروا سبب مثل هذا أما سبب انقلاب العصا حية وخروج الناقة من الأرض وأمثال ذلك فهم معترفون بأنه غير ممكن ولا يمكنهم إحالة سببه على قوى النفس
الوجه الرابع أن يقال النوع الذي يقولون عنه أنه لقوى النفس يؤثر تأثيرا لا يدعون أن تأثيره يبلغ إلى أن ينزل ماء الطوفان الذي غرق أهل الأرض ولا أن يرسل الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوما التي أهلكت عادا ولا أن تقتلع قرى قوم لوط وتقلبها حتى هلك كل من

فيها واتبعوا بحجارة تتبع الشارد منهم ولا ترسل طيرا أبابيل بحجارة من سجيل تنزل على أصحاب الفيل واحدا واحدا مع كل طير ثلاثة أحجار صغار حجر في منقاره وحجران في رجليه حتى هلك أصحاب الفيل وصار كيدهم في تضليل حتى أرسل عليهم حجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ولا في قوى النفس أنها صبيحة كل يوم ينزل المن والسلوى الذي يكفي عسكر موسى وتظللهم بالغمام حيثما ساروا وتطيل الثبات معهم كلما طالوا وتفجر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشرة عينا لكل سبط عين ولا يفرق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم حتى إذا خرج منه عسكر موسى ودخله عسكر فرعون انطبق عليهم فأغرقهم كلهم وكذلك أيضا من الخوارق الخارجة عن قوى النفوس إحياء الموتى من الآدميين والبهائم وقد ذكر الله ذلك في غير موضع من كتابه فذكره في خمسة مواضع في سورة البقرة وقال تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حختى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون سورة البقرة 55 56 وقال تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون سورة البقرة 73 وقال تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم سورة البقرة

243 - وقال تعالى أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف نشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير سورة البقرة 259 وقد ذكر الله سبحانه إحياءالمسيح للموتى بإذن الله وذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف ومكثهم ثلاثمائة سنة شمسية وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية نياما لا يأكلون ولا يشربون وقال تعالى وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها سورة الكهف 21 وهذه الأمور التي قصها الله من أحياء الآدميين من بعد موتهم مرة بعد مرة ومن إحياء الحمار ومن إبقاء الطعام والشراب مائة عام لم يتغير ومن إبقاء النيام ثلاثمائة وتسع سنين ومن تمزيق الطيور الأربعة وجعلهن أربعة أجزاء على الجبال ثم أتيانهن سعيا لما دعاهن إبراهيم الخليل عليه السلام فيها أنواع من الاعتبار منها تثبيت المعجزات

للأنبياء وأنها خارجة عن قوى النفس فإن الفلاسفة وسائر العقلاء متفقون على أن قوى النفوس لا تفعل مثل هذا بل ولا شيء من القوى المعروفة في العالم العلوي والسفلي الثاني أن في ذلك إثبات أن الله فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته يحدث ما يشاء بحسب مشيئته وحكمته ليس موجبا بالذات فإن الموجب بالذات مستلزم لآثاره فيمتنع أن تتغير أفعاله عن القانون الطبيعي
والأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية وإن كانت تحدث بها أنواع من الغرائب في هذا العالم فلا بد من استعداد القوابل ولا بد أن تكون تلك الإتصالات جارية علىالقانون المعتاد عندهم وكلاهما منتف في هذه الخوارق فالمادة السفلية لا تقبل مثل هذا في العادة والاتصالات الفلكية لا يحدث عنها مثل هذا ولهذا كان ما يحدث من الغرائب بسبب تمزيج القوى الفعالة السماوية أو القوى المنفعلة الأرضية ليس هو من هذا الباب بل هو مما اعتيد نظيره مثل دفع بعض الحيوان عن مكان أو جذبهم إليه أو أمراض بعض الأبدان أو موتها أو غير ذلك من الأمور الثالث أن هذا من أعظم الدلالة على إمكان معاد الأبدان وإعادة الأرواح إليها فإنه لا أدل على إمكان الشيء من وقوعه أو وقوع نظيره فلما كان هذا واقعا علم أنه ممكن وكذلك

إنزال عيسى عليه السلام المائدة من السماء كل يوم عليها زيتون وسمك وغير ذلك هو من الأمور الخارجة عن قوى النفس فإن تأثير النفس في هيولي العالم إنما هو بحسب ما يقبل الهيولي وتعليق هذا في الهواء ليس هو مما يقبله الهواء وأيضا فتأثير النفس في البسيط يكون بسيطا لا يكون فيه من التركيب مثل هذا كما أن النفس ليس في قواها توليد حيوان من بطن أمه من غير جماع إلى أمثال ذلك من خوارق العادات التي يعترفون هم أن قوى النفس وإن كانت لها تأثير في الجنس العالي من ذلك فلا يبلغ تأثيرها إلى هذا الحد وهذا كما أن قوى البدن معروفة من المشي والهرولة ونحو ذلك وليس في قوى بدن أحد أن يحمل جبلا ولا ست مدائن على كاهله ولا في قوى بدنه أن يطير في الهواء وأمثال ذلك فتبين أنهم معترفون أن هذه الأمور لا يمكن إضافتها إلى قوى النفس
الوجه الخامس أن يقال نحن لا ننكر أن النفس يحصل لها نوع من الكشف أما يقظة وإما مناما بسبب قلة علاقتها مع البدن إما برياضة أو بغيرها وهذا هوالكشف النفساني لكن قد ثبت أيضا بالدلائل العقلية مع الشرعية وجود الجن وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم كما للكهان المصروعين وغيرهم والناس يسمعون من المصروع من أنواع الكلام والأخبار عن الغائبات واللغة الغريبة التي يعلمون باضطرار أنها ليست في قوة ذلك الإنسان وكذلك أهل العبادات

الشيطانية من البراهمة والبخشية ونحوهم من عباد المشركين ومن أشبههم من المنتسبين إلى أهل القبلة كأنواع من اليونسية والأحمدية والخالدية والدسوقية وأمثال هؤلاء من أهل العبادات المشركية المخالفة للكتاب والسنة فيسمع منهم حال السماع من أنواع

الكلام واللغة الغريبة التي لا يمكن ذلك الشخص أن يتكلم بها ما يعلم أن المتكلم على لسان غيره أو الملقن له ذلك الكلام غيره لا أن مجرد نفسه فعلت ذلك بدون سبب منفصل من الأرواح وإذا كان هذا مما شوهد في النفوس الخبيثة وأن كثيرا من إخباراتها تكون عن إخبار أرواح شيطانية لها فلأن يكون إخبار الأنبياء عن إخبار أرواح الملائكة
بطريق الأولى وهم يقولون الشياطين عندنا قوى النفس الخبيثة والملائكة قوى النفس الصالحة
قلنا قد تقدم أن جمهور المسلمين لا ينكرون وجود هذه القوى كما تقدم ولكن المقصود هنا أنه يعلم وجود أمور منفصلة مغايرة لهذه القوى كالجن المخبرين لكثير من الكهان بكثير من الأخبار وهذا أمر يعلمه بالضرورة كل من باشره أو من أخبره من يحصل له العلم بخبره ونحن قد علمنا ذلك بالاضطرار غير مرة فهذا نوع من المكاشفات والإخبار بالغيب غير النفساني وأما القسم الثالث وهو ما تخبر به الملائكة فهذا أشرف الأقسام كما دلت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية
وإذا ثبت أن الإخبار بالمغيبات يكون عن أسباب نفسانية ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية ويكون عن أسباب ملكية كان ما ذكروه نوعا من الأنواع الثلاثة وهو أضعفها فكان غاية إيمانهم بالنبوة جعلهم النبي بمنزلة رجل من أضعف صالحي الناس

الوجه السادس أن يقال قد علمنا بالضرورة والتواتر أن الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان تعجز قدرته عن الوصول إليه وهذا قد علمناه نحن في غير صورة وغيرنا يعلم من جزئيات ذلك ما لم نعلمه ومن شك في أصل ذلك فليرجع إلى من عنده علم ذلك وإلا فليس للإنسان أن يكذب بما لا يعلم ونحن نعرف من ذلك أمورا كثيرة جدا ونعرف عددا كثيرا حملوا في الهواء من مدائنهم إلى عرفات وإلى مكة في غير وقت عرفات وبعضهم كان كافرا لم يسلم وبعضهم منافق لا يقر بوجوب الصلاة وبعضهم جاهل يعتقد أن وقوفه بعرفات بلا إحرام مع رجوعه إلى بلده بلا طواف وسعي ولا إحرام عبادة وكرامة من كرامات الصالحين ومثل عدد كبير حملوا إلى غير مكة ولو ذكرت ما أعرفه من هذا لطال الخطاب وأعرف شخصا من أصحابنا حملته الجن في الهواء من أسفل دار إلى أعلاها ووصوه بأمور الدين وتاب وحصل له خير وآخر كان معه شيطان يحمله قدام الناس بمدينة الشوبك فيصعد في الهواء إلى رؤوس الجبال وآخر كان يحمله شيطانه من جبل الصالحية إلى قرية يلدى نحو

فرسخ وطائفة حملتهم الشياطين من مدينة تدمر إلى بيت المقدس وأمرتهم أن يصلوا إلى الشمال وصلوا إليه أياما وأخبروهم أن هذه الشريعة تغير وتنسخ حتى طلبهم المسلمون إلى جامع تدمر وكانوا في مغارة واستتابوهم فلم يتوبوا بل مكثوا يصلون إلى الشمال ثلاثة أيام ثم تابوا بعد ذلك وتبين لهم أن ذلك كان من الشيطان وآخر أتى قوما يرقصون في سماع فبقي يرقص في الهواء على رؤوسهم فرآه شخص فصرخ به فسقط وكان هذا بحضرة الشيخ شبيب الشطي فقال الشيخ هذا سلبني حالي فسأله فقال لم يكن له حال وإنما شيطان حمله من الرحبة إلى هنا فصرخت فيه فألقاه وهرب وجرى نظير هذه القصة لغير واحد ومن المشهور المتواتر عند الترك ما تفعله سحرتهم وكهانهم من البخشية والطوينية وشيخهم الذي يقال له البوا ومن شرطه عندهم أن يكون مخنثا مأبونا ينكح ينصب له خركاة في ظلمة فيذبحون ذبيحة للشيطان ويغنون له فتأتي الشياطين وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة كأحوال غائبيهم وسرقاتهم وغير ذلك ويحمل البوا فيوقف به في الهواء وهم يرونه ولا يكون بينهم إذ ذاك مسلم ولا كتاب فيه قرآن هذا مشهور عندهم إلى هذا الوقت أخبرنا به غير واحد

وآخرون كانت الشياطين تأتيهم بأطعمة يسرقونها من حوانيت الناس وجرى هذا لغير واحد في زماننا وغير زماننا وأتى قوم بحلاوة من الهواء وعرفت تلك الحلاوة المسروقة وفقدها صاحبها ووصفت الآنية التي كانت فيها فرد ثمنها إليه وهذه الأمور وأمثالها معلوم لنا بالضرورة والتواتر فإذا كانت الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان بعيد في الهواء وتحمل الأموال إليه من مكان بعيد وتخبره بأمور غائبة عن الحاضرين علم أن هذه الخوارق ليست من قوى النفوس بل بفعل الجن وإذا كانت الجن تفعل مثل هذا فالملائكة أعلى منهم وأقدر وأكمل وأفضل
وهذه الأمور كما يصدق بها أهل الملل من المسلمين والنصارى واليهود فجمهور الفلاسفة يصدقون بها وكتب الروحانيات التي لهم مشحونة بذكر أمثال هذه الأمور وأنواع العزائم والرقي التي يذكرونها مشحونة بالأقسام على الجن والأقسام بهم والدعاء لهم والطلب منهم والذين يخاطبون الكواكب منهم وتتنزل على أحدهم روحانية الكواكب هي شيطان ينزل عليه ويخبره بأمور ويتصرف له بأمور وهذه معلومة بالتواتر عندهم فمن قال إن هذه الخوارق من آثار مجرد النفوس وأنكر وجود الجن والشياطين وأن يكون لهم تأثير في الإخبارات والخوارق كان مبطلا باتفاق أهل الملل واتفاق جمهور الفلاسفة وكان كذبه معلوما بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة أو الأخبار المعلومة بالصدق

الوجه السابع أنه من هذا الباب ما تواتر في هذه الباب من أخبار كهان العرب وما كانت تخبرهم به من الأمور الغائبة لإخبار الجن لهم بذلك
الوجه الثامن أن المدعي لكون الخوارق التي أتت بها الأنبياء من الأخبار بالغيب من الأمور الخارجة عن قدرة البشر هي من قوى النفس إما أن يكون مصدقا للرسل فيما علم أنهم أخبروا به وإما أن يكون مكذبا لهم فإن كان مكذبا لهم كان الكلام معه أولا في تثبيت النبوات والإقرار بها وهؤلاء الفلاسفة والصابئة وأتباعهم من باطنية أهل الملل ونحوهم يعظمون أمر الأنبياء ويقرون بكمال علمهم ودينهم وصدقهم ويدعون أن ما جاءت به الأنبياء لا يناقض أصول الفلسفة وهذه طريقة القائلين بأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية وإذا كان كذلك فكلام الأنبياء حق باتفاقهم مع سائر أهل الملل وإذا كان كذلك فيقال من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست إعراضا قائمة بغيرها وأخبروا بأنهم يأتون بأخبار الأمور الغائبة وأنهم يفعلون أفعالا خارجة عن قدرة البشر كما أخبر الله تعالى عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ذهبوا منه إلى لوط
قال تعالى هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء

بعجل سمين فقر به إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين سورة الذاريات 24 34
وقال تعالى ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ولما جاءت رسلنا لوطا

سيىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا أمر آتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب سورة هود 69 81 وهذه القصة مذكورة في التوراة وغيرها من كتب أهل الكتاب كما هي مذكورة في القرآن مع العلم بأن كلا من النبيين موسى ومحمد لم يأخذها عن الآخر وهذا مما يوجب العلم بصحتها قبل ثبوت نبوتهما فإن الاتفاق على مثل هذه الحكاية من غير تواطؤ يمتنع في العادة فإذا اتفق إخبار المخبرين بمثل هذه القصة الطويلة التي يمتنع في العادة إتفاق

الإثنين فيها على الكذب من غير تواطؤ علم أنها حق فكان إخبار كل منهما بها دليلا على نبوته
وقال ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون سورة الحجر 51 65 فهذه القصة فيها إثبات الملائكة وأنهم أحياء ناطقون منفصلون عن الآدميين يخاطبونهم ويرونهم في صور الآدميين الأنبياء وغير الأنبياء كما رأتهم سارة امرأة الخليل عليه السلام وكما كان الصحابة يرون جبريل إذا جاء لما جاء في

صورة أعرابي وتارة في صورة دحية الكلبي ومن هذا الباب قوله في قصة مريم فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنى رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا سورة

مريم 17 19
وقال تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا سورة التحريم 12 فهذا الروح تصور بصورة بشر سوى وخاطب مريم ونفخ فيها
ومن المعلوم أن القوى النفسانية التي تكون في نفس النبي وغير النبي لا يراها الحاضرون ولا يكون منها مثل هذه الأحوال والأقوال والأفعال
ومريم لم تكن نبيه بل غايتها أن تكون صديقة كما قال ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة سورة المائدة 75 وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى سورة يوسف 109
وقد حكى الإجماع على انه لم يكن في النساء نبية غير واحد كالقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وخلاف ابن حزم شاذ مسبوق بالإجماع فإن دعواه أن أم موسى كانت نبية هي ومريم قول لا يعرف عن أحد من السلف والأئمة وقد ثبت في الصحيح عدد من كمل من النساء وليس فيهن أم موسى بل قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت

عمران وآسية بنت مزاحم يعني ممن قبلنا فذكرتا والتي حضنت موسى وفيمن كمل ممن ليس بنبي خديجة وآسية امرأة فرعون وغيرهما والأنبياء أفضل من غيرهم فلو كانت نبية لكان غير النبي أفضل منه أو غير الكامل أفضل من الكامل
وأيضا فإن الله وصف الملائكة بصفات تقتضي أنهم أحياء ناطقون خارجون عن قوى البشر وعن العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة فعلم أن الملائكة التي أخبرت عنها الأنبياء ليسوا مطابقين لما يقوله هؤلاء الذين يقولون أن معجزات الأنبياء قوى نفسانية

وهذا كقوله علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى سورة النجم 5 18
وقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم سورة التكوير 19 25 فأخبر أن الذي جاء بالقرآن رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين وأنه مطاع ثم أمين وهذا يمتنع أن تكون صفة أعراض تقوم بنفوس البشر ولا سيما عند هؤلاء الفلاسفة الذين يمنعون أن يكون لدعاء البشر تأثير في الملأ الأعلى وقد أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وأنه رآه بالأفق المبين وما يحصل في نفس الرسول لا يكون هنا ولا هنا
وغايتهم أن يقولوا هذا تخيل في نفسه وإن لم يكن موجودا في الخارج وحينئذ فيكون الرسول من جنس آحاد

المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السموات وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك مما يراه آحاد الناس ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الخلق ولا يكون مثل هذا ذا قوة عند ذي العرش مكين ولا يكون مطاعا ثم أمين
ومنهم من يقول جبريل هو العقل الفعال الذي يفيض وليس بضنين أي بخيل بالفيض وهذا أيضا باطل من وجوه كثيرة
منها أن ذاك لا يتصور في صورة أعرابي ولا دحية ولا ضيف إبراهيم الخليل ولا لوط ولا في صورة بشر سوى فنفخ في مريم
ومنها أنه قال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين والعقل الفعال ليس مطاعا ثم وغايته عندهم أن يتحرك الفلك الأسفل تشبها به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه وهم قد يقولون أن العرش هو الفلك التاسع وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن العرش فوق الفلك التاسع ليس هو إياه
وأيضا فإنه أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى وأنه رآه بالأفق المبين مرتين وقد ثبت في الصحيح أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وأنه رآه وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشرق والمغرب وهذه الصفة

لا تنطبق على العقل الفعال فإنه لا يرى في موضعين ولا له أجنحة
وهؤلاء القوم قد يقولون أن الأنبياء أخبروا الناس بما هو كذب في نفس الأمر لأجل مصلحتهم وقد يحسنون العبارة فيقولون لم يخبروا بالحقائق بل ذكروا من التمثيل والتخييل في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما تنتفع به العامة وأما الحقيقة فلم يخبروا بها ولا يمكن إخبار العامة بها وهذا مما يعلم بالضرورة بطلانه من دين المرسلين وقد بسطنا الكلام في إبطال هذا في غير هذا الموضع

ومن عرف مذهبهم وعرف ما قالته الرسل علم بالضرورة أن ما يقولونه مخالف لما يقوله الرسل لا موافق له فيلزم إما تصديق الرسل وتكذيبهم وإما تكذيب الرسل وتصديقهم وهم يؤمنون بالرسل من وجه ويكفرون بهم من وجه فلا يقولون إنهم كاذبون ولا جاهلون ولا يصدقونهم في كل ما أخبروا به ومن المعلوم أن المخبر بالخبر إذا لم يكن خبره مطابقا لمخبره فإما ان يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا وهم يسلمون أن الرسل من أعلم الخلق بالحقائق وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به وأنهم من أبر الناس وأصدقهم فإذا كانوا مقرين بغاية الكمال لهم في العلم والصدق كان هذا مناقضا لما يذكرونه في إخباراتهم فإنها تستلزم إما تكذيبهم وإما تجهيلهم
ولهذا كان هؤلاء متناقضين في أمر النبوات فلا هم كذبوا بهم تكذيب المكذبين الذين كذبوا بالنبوات مطلقا ولا صدقوهم تصديق المؤمنين الذين آمنوا بهم مطلقا بل كانوا كمن آمن ببعض وكفر ببعض وهؤلاء من الكافرين حقا وهم من المنافقين المذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وفيهم من يكثر نفاقة وزندقته وفيهم من يكون نفاقة أقل من نفاق غيره
وأيضا فإن الله تعالى يقول وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب

أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء سورة الشورى 51 ففرق سبحانه بين الوحي وبين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء كما فرق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إلى قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما سورة النساء 163 164 ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وبين تكليمه لموسى عليه السلام كما فرق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء وهذا يناقض مذهبهم في الأصلين فإنهم لا يثبتون إلا ما هو من جنس الوحي والإلهام كالذي يسمونها القوة القدسية بل الوحي والإلهام الذي اثبته الله فوق ما يثبتونه من القوة القدسية فدل على أن أحوال الرسل الذين يرسلهم الله إلى الأنبياء خارجة عن قوى النفس وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك كما قال الله تعالى الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس سورة الحج 75 فتبين أنه يصطفي رسلا من الناس ورسلا من الملائكة
وكذلك أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب كما أخبر أنه كلم موسى تكليما وكما قال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله سورة البقرة 253 وقال ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني سورة الأعراف 143 وهذا يقتضي انه يكلم بعض عباده تكليما خارجا عن جنس

ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها وأيضا فإنه قد قال سبحانه يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ربحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا سورة الأحزاب 9 فأخبر أنه أرسل مع الريح جنودا لم يرها المؤمنون وقال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين سورة التوبة 25 26 فأخبر أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل مع ذلك جنودا لم يروها
وقال تعالى إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فروهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين سورة آل عمران 124 125 وقال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى إلى قوله إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سورة الأنفال 9 12 فقد

أخبر أنه أمدهم بجنود من الملائكة تنصرهم ففي تلك الآيات أخبر بنزول الملائكة بالعلم والوحي وفي هذه الآيات أخبر بنزولها بالنصر والقدرة وهذا يبين أن ما كان يحصل للرسول من العلم والقدرة من المكاشفة والتأثير في العالم حاصل بما هو خارج عن قوى نفسه من العلم الذي تنزل به الملائكة والنصر الذي تنزل به الملائكة
وأيضا فقد قال الله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق سورة الأنفال 50 وقال تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض سورة النساء 97 وقال تعالى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك سورة النحل 32 33 فهذه الآيات يخبر فيها بتوفي الملائكة للأنفس وخطابهم للموتى إما بخير وإما بشر وفعلهم ما يفعلونه بهم من نعيم وعذاب وكما قال إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم

ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم سورة فصلت 30 31 وقال تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك سورة الأنعام 158 وقال هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر سورة البقرة 210
فهذه النصوص وأمثالها صريحة بإثبات الملائكة وأفعالها وكلامها وتأثيرها في العالم بالقول والفعل وهذا يبطل قولهم إن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية فإن الملائكة خارجة عن هذا وهذا وحينئذ فما يحصل من خوارق العادات بأفعال الملائكة أعظم مما يحصل بمجرد القوى النفسانية والأنبياء أحق الناس بمعاونة الملائكة لهم وتأييد الله تعالى لهم كما أخبر الله سبحانه بذلك وأيضا فقد قال تعالى والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا سورة الصافات 1 3 وقوله في آخر السورة فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون اصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون إلى قوله وما منا إلا له مقام

معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون سورة الصافات 149 166 فأخبر أن الملائكة صافون يسبحون وأنها صافات صفا زاجرات زجرا وهذا مناقض لقولهم فإن العقول العشرة لا تصطف بل بعضهم فوق بعض في المرتبة والتعلق مع امتناع المصافة عليها عندهم والأعراض القائمة بالنفس يمتنع وصفها بما ذكره سبحانه وتعالى من الاصطفاف والزجر والتلاوة وغير ذلك من الصفات
وكذلك قوله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا سورة مريم 64 وقد ثبت أن جبريل قال له النبي صلى الله عليه و سلم ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزورنا فانزل الله هذه الآية وهذا يبين أن نزول جبريل إلى الأرض وأنه لا يتنزل إلا بأمر الله وعندهم يمتنع نزول ملك إلى الأرض ويمتنع أن يكون الله أمر جبريل بنزوله
وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن

ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين سورة الأنبياء 26 29 فبين سبحانه أنهم عباد أكرمهم وأنهم لا يسبقونه بالقول فلا يقولون حتى يقول وهم بأمره يعملون فلا يعملون حتى يأمرهم وأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى وأنهم من خشيته مشفقون
وهذا مناقض لقولهم فإن العقول عندهم بل العالم كله متولد عن الله تولدا لازما يمتنع معه خوفها أو أن يحدث لها من الله أمر أو قول أو يكون لها إليه شفاعة والشفاعة عندهم ليس معناها دعاء الله ورسوله كما هو مذهب المسلمين بل الشفاعة عندهم تعلق القلب بالوسائط حتى يفيض عليها بواسطة تلك الوسائط ما ينتفع به كما يفيض شعاع الشمس على الحائط بواسطة فيضه على المرآة وهذه من جنس الشفاعة التي يثبتها المشركون وهي التي نفاها الله في كتابه
ولما وقع في كلام أبي حامد في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه ما هو من جنس كلام هؤلاء في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك حتى جعل خواص النبي ثلاثة كما تقدم ذكره وغير ذلك من كلامهم اشتد نكير علماء الإسلام لهذا الكلام وتكلموا في ابي حامد وأمثاله بكلام معروف

كما تكلم فيه أصحاب أبي المعالي كأبي الحسن المرغيناني وغيره وكما تكلم فيه أهل بيت القشيري وأتباعه والشيخ أبو البيان وأبو الحسن ابن شكر وأبو عمرو بن الصلاح وأبو زكريا وكما تكلم

فيه أبو بكر الطرطوشي وأبو عبدالله المازري وابن حمدين القرطبي وصنف في ذلك وأبو بكر بن العربي تلميذه حتى قال شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وكما تكلم فيه

أبو الوفاء بن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي وأبو محمد المقدسي وغيرهم وكما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة ومن أعظم ما تكلم فيه أئمة المحققين لاجله ما وافق فيه هؤلاء الصابئة المتفلسفين مع أنه بعد ذلك قد رد على الفلاسفة وبين تهافتهم وكفرهم وبين أن طريقتهم لا توصل إلى حق بل ورد أيضا على المتكلمين ورجح طريق الرياضة والتصوف ثم لما لم يحصل مطلوبه من هذه الطرق بقي من أهل الوقف ومال إلى طريقة أهل الحديث فمات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم
والمقصود هنا أن ما ذكره الله في كتابه من شفاعة الأنبياء والملائكة نفيا وإثباتا يناقض قول هؤلاء كقوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 22 23

وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ويصعقون حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير وهذا المعنى ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه رواه البخاري من حديث أبي هريرة ورواه مسلم عن ابن عباس عن رجال من الأنصار

وهو معروف من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا وعن ابن عباس وغيره وفيه بيان أنه لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن له فلا بد من اذن للشفيع لا أن مجرد التوجه إليه ينفع المشفوع له وذلك يقتضي تجدد اذن للشفعاء وعندهم أنه لا يحدث من الله شيء للوسائط بل هي متولدة عنه لازمة لذاته أزلا وأبدا وفيه أنه يفزع عن قلوب الملائكة أي يزال الفزع عنها وقد وصف الملائكة في القرآن بالخشية والخوف وعندهم لا يتصور خشية لله ولا خوف قال الله تعالى ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون سورة النحل 49 50 وقال وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 28 وقال تعالى في الشفاعة وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى سورة النجم 26
وقوله من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى يقتضي إذنا مستقبلا فإن أن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وطرد هذا أن يقال مثل ذلك في كل ما جاء في القرآن من هذا الباب وهو قول جمهور أهل الحديث والسنة وهو المنقول عن أئمة السلف وعليه تدل الدلائل العقلية السليمة عن التناقض

ومما يوضح الأمر في هذا الباب أن الله نزه نفسه عن الشريك والولد في غير موضع كقوله تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم سورة الأنعام 100 101 وقال الله تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا سورة الإسراء 111 وقال تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق سورة المؤمنون 91 وقال تعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والأرض ولم يكن له شريك في الملك سورة الفرقان 1 2 وقال تعالى ألا أنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون سورة الصافات 151 152 وقال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص فنزه نفسه عن الولد والكفو وهذا القول يوجد في مشركي العرب وفي النصارى وغيرهم والذي يوجد في هؤلاء شر من هذا كله وذلك أن مشركي العرب والنصارى ونحوهم يقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن يثبتون تولدا من بعض الوجوه وهو تولد حادث كما تقوله النصارى في المسيح وكما كانت تقوله مشركو العرب في الملائكة ونحو ذلك وأما هؤلاء فيقولون إن

العقول والنفوس متولدة عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته والعالم متولد عن ذلك فالعالم كله متولد عندهم عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته وإن كانوا قد لا يعبرون بلفظ الولد فهم يعبرون بلفظ المعلول والعلة وهو أخص أنواع التولد ويعبرون بلفظ الموجب والموجب وما ذكره الله في كتابه من إبطال التولد يبطل قولهم عقلا وسمعا وذلك أنه قال تعالى وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سورة الأنعام 100 وهؤلاء المتفلسفة يجعلون العقل كالذكر والنفس كالأنثى قال سبحانه وتعالى أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم سورة الأنعام 101 وذلك أن التولد لا يكون إلا عن أصلين لا يكون عن واحد فيمتنع أن يكون له ولد من غير صاحبة وهو سبحانه لم يكن له كفوا أحد وهؤلاء جعلوه واحدا وجعلوا العالم معلولا عنه وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا باطل فإن الواحد البسيط لا يصدر عنه وحده شيء بل الواحد الذي قدروه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان ولا يصدر في العالم العلوي والسفلي أثر إلا عن سببين فأكثر فالنار إذا أحرقت إنما تحرق بشرط قبول المحل لإحراقها فالاحتراق حاصل بسببين لا بسبب واحد وكذلك الشعاع وكذلك جميع الأمور قال الله تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون سورة الذاريات 49 قال بعض العلماء تعلمون أن خالق الأزواج واحد وقال سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون سورة

يس 36 فليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء ولا علة مستقلة بمعلولها من غير مشارك أصلا وما يذكره طائفة من أهل الكلام من كون العلم علة العالمية هو عند أكثرهم لا حقيقة له فليس العالمية زائدة على العلم وأهل الأحوال الذين أثبتوها زائدة علىالعالم قالوا أنها ليست وجودية فلم يكن في الوجود علة مستقلة بمعلولها من غير شريك لها فتبين أن ما ذكروه من أن الواجب علة مستقلة بمعلولها مخالف لما الوجود عليه ودعواهم أن الواحد البسيط يكون علة تامة مستقلة بمعلولها أمر مخالف لما الوجود عليه وهذا غير معلوم بالعقل بل هو باطل فيه ولكن المعلوم في العقل أن الواحد لا يصدر عنه شيء معلول متولد عنه إلا بمقارنة شيء آخر له فلو كان العالم معلولا متولدا عن الله لكان له مقارنا يصدر التولد عنهما جميعا فإن التولد لا يكون إلا عن أصلين فإثبات التعليل والتولد يقتضي إثبات شريك في إبداع العالم وهذا لازم لهم لا محيد عنه من وجه آخر فإن الحوادث الموجودة في العالم لا يجوز أن تكون صادرة عن العلة التامة الأزلية لأن تلك يلزمها معلولها فيكون قديما معها فلا يكون محدثا فوجب أن يكون للحوادث فاعل آخر غير العلة التامة القديمة وذلك أيضا يوجب إثبات مشارك لله يحدث الحوادث وهذا أيضا باطل فإن ذلك الذي قدر محدثا للحوادث إن كان محدثا فهو من جملة الحوادث التي تحتاج إلى فاعل محدث وإن كان قديما فقد صدرت الحوادث عن قديم فإن كان علة تامة أزلية امتنع حدوث الحوادث عنه وإن كان فاعلا باختياره يحدث عنه الحوادث بطل قولهم سواء قيل أنه صار محدثا للحوادث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث أو قيل أنه لم يزل فاعلا قادرا بفعل اختياري يقوم بنفسه

فتبين أن القوم قولهم في إثبات الشريك والولد لله من شر أقوال من يقول بذلك وكل ما في القرآن من إبطال ذلك بالأدلة العقلية والخبرية يبطل قولهم لكن فهم هذا يحتاج إلى أن نفهم حقيقة أقوال الأمم ومراتبها وكيف يتناولها القرآن ويبطلها ويميز الحق من الباطل بالأدلة العقلية البرهانية كما قد بسط في غير هذا الموضع فهذا كله مما يبين أن الرسل أخبرت بالملائكة وأنهم عباد الله ليسوا متولدين عنه ولا خالقهم علة موجبة لهم وأنهم لا يتصرفون إلا بإذنه ولا يسبقونه بالقول وأنهم يخبرون الأنبياء بالغيب وأنهم يفعلون من خوارق العادات وغيرها ما فيه نصر الأنبياء وحجة لهم وهذا يبين أن هؤلاء الفلاسفة مناقضون للرسل فيما أخبرت به من أمر التوحيد والملائكة وأمر معجزات الأنبياء ويبين أن المعجزات خارجة عن قوى نفوس البشر وأن ما قاله هؤلاء في المعجزات قول بلا دليل وهو قول باطل مبني على أصل باطل مع أنا لا ننكر أن للقوى التي في النفوس وسائر الأجسام آثارا في العالم بحسبها كما تقدم لكن إضافة الخوارق إلى ذلك باطل كما لو أضافها مضيف إلى قوى الأجسام وادعى أنها من باب النيرنجيات التي هي قوى طبيعية كالقوى التي في حجر المغناطيس فإنه يعلم بوجوه كثيرة أن معجزات الأنبياء خارجة عن هذا الجنس وهذا الجنس وإن كان القائل أن معجزات الأنبياء قوى

نفسانية ممن يكذب مطلقا أثبتنا بعض ماغ ذكرناه من المعجزات بطرق متعددة كالأخبار المتواترة وكتطابق السنن على الإخبار بما يمتنع الاتفاق عليه من غير تواطؤ وغير ذلك
الوجه التاسع أن يقال تأثير النفوس مشروط بشعورها فإن النفس حية مريدة تفعل بإرادتها ففعلها مشروط بإرادتها والفعل الاختياري الإرادي مشروط بالشعور وخوارق العادات التي للأنبياء منها ما لا يكون النبي شاعرا به ومنها ما لا يكون مريدا له فلا يكون ذلك من فعل نفسه بل ومنها ما يكون قبل وجوده ووجود قدرته ومنها ما يكون بعد موته ومفارقة نفسه لهذا العالم ومن المعلوم أن ما يكون قبل أن تصير لنفسه قوة ونحو ذلك يمتنع أن يكون مضافا إلى قوته فإن المعدوم لا قوة له وذلك مثل قصة أصحاب الفيل التي أنزلها الله لما أتى بالفيل إلى مكة وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وكان أهل الفيل نصارى ودينهم كان خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك فإنهم كانوا مشركين ودين النصارى خير من دين المشركين الذين يعبدون الأوثان لكن كان ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه و سلم المبعوث بحرمة البيت وكان عام الفيل عام مولده صلى الله عليه و سلم قبل مولده بنحو خمسين ليلة ولم تكن له قوة نفسانية يؤثر بها ولا شعور بما جرى ولا إرادة له في ذلك وكذلك ما حصل من الحوادث حين مولده صلى الله عليه و سلم وكذلك إخبار الكهان بأموره وما صارت الجن تخبرهم به من نبوته أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته وكذلك ما أخبر به أهل الكتاب وما وجد مكتوبا عند أهل

الكتاب من إخبار الأنبياء المتقدمين بنبوته ورسالته وأمر الناس باتباعه أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته كائنة قبل مولده وكذلك ما خص الله به الكعبة البيت الحرام من حين بناه إبراهيم وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقير وانجذاب القلوب إليه ومن المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس بل كثيرا ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوى إليه ما لا يعلمه إلا الله وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة فيكونون هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر وقوى نفوسهم وأبدانهم والذي بناه قد مات من ألوف سنين
ولهذا كان أمر البيت مما حير هؤلاء الفلاسفة والمنجمين والطبائعية لكون خارجا عن قياس عقولهم وقوانين علومهم حتى اختلفوا لذلك من الأكاذيب ما يعلمه كل عاقل لبيب مثل قول بعضهم أن تحت الكعبة بيتا فيه صئم يبخر ويصرف وجهه إلى الجهات الأربع ليقبل الناس إلى الحج

وهذا مما يعلم كل من عرف أمر مكة أنه من أبين الكذب وأنه ليس تحت الكعبة شيء من هذا وأنه لا ينزل أحد من أهل مكة إلى ما تحت الكعبة ولا يحفره أحد ولا يبخر أحد شيئا هناك ولا هناك صنم ولا غير صنم وكان ابن سبعين وأمثاله من هؤلاء يحارون من هذا وربما قالوا ليت شعرنا ما هو الطلسم الذي صنعه إبراهيم الخليل حتى صار الأمر هكذا وهم يعلمون أن أمور الطلاسم لا تبلغ مثل هذا وأنه ليس في الأرض ما يقارب هذا وأن الطلاسم أمور معتادة معروفة بأسباب معروفة ولهذا يصنع الرجل طلسما ويصنع الآخر مثله أو أعظم منه وأما هذا فخارج عن قدرة البشر وليس في الوجود طلسم يستحوذ على أهل الأرض ولا يتصرف في قلوب أهل الأقاليم الثلاثة وهم أفضل الإنس وأكملهم عقولا وأديانا والطلاسم إنما يقوى تأثيرها إذا ضعف العقل فيؤثر في الجماد أكثر من الحيوان ويؤثر في البهائم أكثر من الأناسي ويؤثر في الصبيان والمجانين أكثر من العقلاء وهكذا تأثير الشياطين كلما ضعفت العقول قوى تأثيرهم وأما البيت والقرآن والنبوة فإنما قوى تأثيرها في أكمل الناس عقلا وأتمهم علما ومعرفة والإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها كما قال صلى الله عليه و سلم زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها وانتشر في الأقاليم المتوسطة الثالث

والرابع والخامس الذين هم أعدل وأكمل من غيرهم فتبين أن تأثير النبوات على خلاف تأثير السحر والطلاسم فتلك يقوى تأثيرها عند ضعف العقل وهذه يكمل تأثيرها عند قوة العقل فتبين أن هذه ليست تأثير مجرد قوى البشر لا نفوسهم ولا أبدانهم ولا قوى الأجسام الطبيعية ولا القوى الفلكية الممزوجة بالقوى العنصرية بل أمر خارج عن هذا كله وإذا قدر أن لبعض هذه في بعض ذلك معونة مثل أن يقال أن صدق إبراهيم في دعائه وكمال تمكينه وعلمه وخلته لله اوجب إجابة الله دعاءه فهذا حق لا ننكره فإنا لا ننكر حصول خوارق العادات بإجابة الدعوات لكن المنكر أن يقال مجرد قوة النفس التي تصرفت في العالم من غير أن يكون الله هو الذي أحدث بذلك الدعاء من الأسباب الإلهية ما فعل بها ذلك المخلوق فالدعاء سبب وقد علم غير مرة أن السبب لا يستقل بل له مشاركات وموانع وليس هو سببا مقتضيا للمسبب بنفسه ولكن هو سبب لأن يجيب الله الدعاء كما أن العمل الصالح سبب لأن يثيب الله عبده في الآخرة وأن الناس يحبونه ويثنون عليه ولا يمكن أن

يقال أن قوة أحد البشر أو عمله الصالح هو الذي أوجب بنفسه محبة الخلق وثناءهم ودعاءهم أو الثواب في الدار الآخرة بل هذا سبب لما يفعله الله بمشيئته وقدرته ما يخلقه في نفوس عباده الملائكة والجن والبشر مما يفعلونه باختيارهم وقدرتهم التي يخلقها الله فالدعاء سبب الإجابة والعمل سبب الإثابة قال الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون سورة البقرة 186 فأمرهم أن يستجيبوا له وأن يؤمنوا به أنه يجيب دعاءهم واستجابتهم له وطاعتهم لأمره وذلك سبب الإثابة كما أن الدعاء سبب الإجابة وأيضا فما حصل بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم مثل حفظ الله للكتاب الذي جاء به وإبقائه مئين من السنين مع كثرة الأمة وتفرقها في مشارق الأرض ومغاربها والكتاب بعد هذا محفوظ وكذلك الشريعة محفوظة فهذا أمر خارق خارج عن مقدوره ولم تبق شريعة مثل هذه المدة الطويلة إلا شريعة موسى وإلا فالملوك والفلاسفة لهم نواميس وضعوها لا تبقى إلا مدة يسيرة وأما البقاء مثل هذه المدد مع كون الكتاب محفوظا فليس هذا إلا للأنبياء
وأيضا فما جعله الله في القلوب قرنا بعد قرن من المحبة والتعظيم والعلم بعظيم منزلته وعلو درجته من غير مكره يكره القلوب على العلم والمعرفة ومع كمال عقول الناظرين في ذلك فإن كل من يعرف أحوال الأمم يعلم أن أمة محمد أكمل الأمم

أقسام الكتاب
1 2 3 4