كتاب :الرد على المنطقيين
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

كتاب الرد على المنطقين
الإمام ابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
ملخص أصول المنطق واصطلاحاته
بنوا المنطق على الكلام في الحد ونوعه والقياس البرهاني ونوعه قالوا لأن العلم إما تصور وإما تصديق وكل منهما بديهي وإما نظري فإنه من المعلوم أنه ليس الجميع بديهيا ولا يجوز أن يكون الجميع نظريا لافتقار النظري إلى البديهي فيلزم الدور القبلي أو التسلسل في العلل التي هي هنا أسباب العلم وهي الأدلة وهما ممتنعان
والنظري منهما لا بد له من طريق ينال به فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس

فالحد اسم جامع لكل ما يعرف التصور وهو القول الشارح فيدخل فيه الحقيقي والرسمي واللفظي أو هو الحقيقي خاصة فيقرن به الرسمي واللفظي ليس من هذا الباب أو والحد اسم للحقيقي والرسمي دون اللفظي فان كل نوع من هذه الثلاثة اصطلاح طائفة منهم كما قد بسطته وذكرت أسماءهم في غير هذا الموضع والقياس إن كانت مادته يقينية فهو البرهان خاصة وإن كانت مسلمة فهو الجدلى وإن كانت مشهورة فهو الخطابي وإن كانت مخيلة فهو الشعري وإن كانت مموهة فهو السوفسطائي ولهذا قد يتداخل البرهاني والخطابي والجدلي وبعض الناس يجعل الخطابي هو الظنى وبعضهم يجعله الاقناعى ولهم اصطلاحات أخر بعضها موافق لاصطلاح المعلم الأول أرسطو وبعضها مخالف له فان كثيرا من المصنفين فيه خرجوا في كثير منه عن طريقة معلمهم الأول ولكن ليس المقصود هنا بسط هذا
ثم الحد إنما يتألف من الصفات الذاتية إن كان حقيقيا وإلا فلا بد من العرضية وكل منهما إما أن يكون مشتركا بين المحدود وغيره وإما أن يكون مميزا له عن غيره فالمشترك الذاتي الجنس والمميز الذاتي الفصل والمؤلف منهما النوع والمشترك العرضي هو العرض العام والمميز العرضى هو الخاصة وقد يعبر ب الخاصة عما يعرض ل النوع وإن لم يكن عاما لأفراده لكن تلك الخاصة لا يحصل بها التمييز كما قد يعبر ب النوع عن الأنواع الإضافية التي هي بالنسبة إلى ما فوقها نوع وبالنسبة إلى ما تحتها جنس ولكن هذا وأمثاله من جزئيات المنطق التي ليس هنا المقصود الكلام فيها فان للكلام على ما ذكروه في الجنس والنوع مقاما آخر غير ما علق في هذه العجالة
فهذه الكليات الخمس وبازاء الكلى الجزئى وهو ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه والكلام في المركب مسبوق بالكلام على المفرد ودلالة اللفظ عليه

والقياس مؤلف من مقدمتين والمقدمة قضية إما موجبة وإما سالبة وكل منهما إما كلية وإما جزئية فلا بد من الكلام في القضايا وأنواعها وجهاتها
وقد يستدل عليها ب نقيضها وب عكسها وب عكس نقيضها فإنها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فتكلم في تناقض القضايا وعكسها المستوى وعكس نقيضها
والقضية إما حملية وإما شرطية متصلة وإما شرطية منفصلة فانقسم القياس باعتبار صورته إلى قياس تداخل وهو الحملي وقياس تلازم وهو الشرطي المتصل وقياس تعاند وهو التقسيم والترديد وهو الشرطى المنفصل هذا باعتبار صورته وباعتبار مادته إلى الأصناف الخمسة المتقدمة
فلا بد من الكلام في مواد القياس وهي القضايا التي يستدل بها على غيرها وهذا كله في قياس الشمول وأما قياس التمثيل والاستقراء فله حكم آخر فانهم قالوا الاستدلال ب الكلى على الجزئي هو قياس الشمول وب الجزئي على الكلى هو الاستقراء إما التام إن علم شموله للأفراد وإلا ف الناقص والاستدلال بأحد الجزئيين على الآخر هو قياس التمثيل
مع أنا قد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام على أن كل قياس شمول فانه يعود إلى التمثيل كما أن كل قياس تمثيل فانه يعود إلى شمول وأن جعلهم قياس الشمول يفيد اليقين دون قياس التمثيل خطأ
وذكرنا تنازع الناس في اسم القياس هل يتناولهما جميعا كما عليه جمهور الناس أو هو حقيقة في التمثيل مجاز في قياس الشمول كما اختاره أبو حامد الغزالي وأبو محمد المقدسي أو بالعكس كما اختاره ابن حزم وغيره من أهل المنطق والكلام على هذا مبسوط في مواضع

والمقصود هنا ذكر شئ آخر فنقول الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين
فالأولان 1 أحدهما في قولهم إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد 2 والثاني إن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس
والآخران 3 في أن الحد يفيد العلم بالتصورات و4 أن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات المقام الأول
المقام السلبي في الحدود والتصورات
في قولهم إن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد والكلام على هذا من وجوه
أحدها أن يقال لا ريب أن النافي عليه الدليل إذا لم يكن نفيه بديهيا كما أن على المثبت الدليل فالقضية سواء كانت سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية فلا بد لها من دليل وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم فقول القائل إنه لا تحصل هذه التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية فمن أين لهم ذلك وإذا كان هذا قولا بلا علم كان في أول ما أسسوه القول بلا علم فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره

الثاني أن يقال الحد يراد به نفس المحدود وليس هذا مرادهم ههنا ويريدون به القول الدال على ما هيه المحدود وهو مرادهم هنا وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال
فيقال إذا كان الحد قول الحاد فالحاد إما أن يكون قد عرف المحدود بحد وإما أن يكون عرفه بغير حد فان كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول وهو مستلزم للدور القبلى أو التسلسل في الأسباب والعلل وهما ممتنعان باتفاق العقلاء وإن كان عرفه بغير حد بطل سلبهم وهو قولهم إنه لا يعرف إلا بالحد
الثالث إن الأمم جميعهم من أهل العلم والمقالات وأهل العمل والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد منطقي ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات علمهم فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود
الرابع أنه إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم بل أظهر الأشياء الإنسان وحده ب الحيوان الناطق عليه الاعتراضات المشهورة وكذلك حد الشمس وأمثال ذلك حتى إن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا ل الاسم بضعة وعشرين حدا وكلها معترض عليها على أصلهم بل إنهم ذكروا ل الاسم سبعين حدا لم يصح منها شئ كما ذكر ذلك ابن الأنباري المتأخر والأصوليون ذكروا ل القياس بضعة وعشرين حدا وكلها معترض على أصلهم وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة والاصوليين والمتكلمة معترضة على أصلهم وإن قيل بسلامة بعضها كان قليلا بل منتفيا فلو كان تصور الأشياء موقوفا على الحدود لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور والتصديق موقوف على التصور فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق فلا يكون عند بني آدم علم في عامة علومهم وهذا من أعظم السفسطة

الخامس إن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الذي هو الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة وهو المركب من الجنس والفصل وهذا الحد إما متعذر أو متعسر كما قد أقروا بذلك و حينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائما أو غالبا وقد تصورت الحقائق فعلم استغناء التصورات عن الحد
السادس إن الحدود الحقيقية عندهم إنما تكون الحقائق المركبة وهي الأنواع التي لها جنس وفصل وأما ما لا تركيب فيه وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس كما م ثله بعضهم ب العقول فليس له حد وقد عرفوه وهو من التصورات المطلوبة عندهم فعلم استغناء التصورات عن الحد بل إذا أمكن معرفة هذه بلا حد فمعرفة تلك الأنواع أولى لأنها أقرب إلى الحس وان أشخاصها مشهودة
وهم يقولون إن التصديق لا يقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي بل يكفي فيه أدنى تصور ولو ب الخاصة وتصور العقول من هذا الباب وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يقف على الحد الحقيقي لكن يقولون الموقوف عليه هو تصور الحقيقة أو التصور التام وسنبين إن شاء الله أنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه وأنا نحن لا نتصور شيئا بجميع لوازمه حتى لا يشذ عنا منها شئ وأنه كلما كان التصور لصفات المتصور أكثر كان التصور أتم
وأما جعل بعض الصفات داخلة في حقيقة الموصوف وبعضها خارجة فلا يعود إلى أمر حقيقي وإنما يعود ذلك إلى جعل الداخل ما دل عليه اللفظ ب التضمن والخارج اللازم ما دل عليه اللفظ ب اللزوم فتعود الصفات الداخلة في الماهية إلى ما دخل في مراد المتكلم بلفظه والخارجة اللازمة للماهية إلى ما يلزم مراده بلفظه وهذا أمر يتبع مراد المتكلم فلا يعود إلى حقيقة ثابتة في نفس الأمر للموصوف وقد بسطنا ألفاظهم في غير هذا الموضع وبينا ذلك بيانا مبسوطا يبين أن ما سموه الماهية أمر يعود إلى ما يقدر في الأذهان لا إلى ما يتحقق في الأعيان والمقدر في الأذهان بحسب ما يقدره كل أحد في ذهنه فيمتنع أن

تكون الحقائق الموجودة تابعة لذلك
السابع إن مستمع الحد يسمع الحد الذي هو مركب من ألفاظ كل منها لفظ دال على معنى فان لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات تلك الألفاظ ودلالتها على معانيها المفردة لم يمكنه فهم الكلام والعلم بأن اللفظ دال على المعنى أو موضوع له مسبوق بتصور المعنى فمن لم يتصور مسمى الخبر والماء والسماء والأرض والأب والأم لم يعرف دلالة اللفظ عليه وإذا كان متصورا لمسمى اللفظ ومعناه قبل استماعه وإن لم يعرف دلالة اللفظ عليه امتنع أن يقال إنه إنما تصوره باستماع اللفظ لأن في ذلك دورا قبليا إذ يستلزم أن يقال لم يتصور المعنى حتى سمع اللفظ وفهمه ولم يمكن أن يفهم المراد باللفظ حتى يكون قد تصور ذلك المعنى قبل ذلك وهذا كما أنه مذكور في دلالة الأسماء على مسمياتها المفردة فهو بعينه وارد في دلالة الحدود على المحدودات إذ كلاهما إنما يدل على معنى مفرد لكن الحد يفيد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال
وقد يكون فيه عند المنطقين تفصيل صفاته المشتركة والمختصة وإن كان للمتكلمين في الحد طريق آخر إذ لا يحدون إلا ب الخاصة المميزة الفاصلة دون المشتركة بل يمنعون من التركيب الذي يوجبه المنطقيون وهو لعمري اقرب إلى المقصود كما سنبينه إن شاء الله تعالى ونبين أن فائدة الحدود التمييز لا التصوير
وإذا كان المطلوب التمييز فإنما ذاك بالمميز فقط دون المشترك ولأنه كلما كان أوجز واجمع وأخص كان احسن كالأسماء فليس الحد في الحقيقة إلا اسما من الأسماء أو اسمين أو ثلاثة كقولك حيوان ناطق وكذلك قيل في تعليم آدم الأسماء كلها تعليم حدودها وهي من جنس الحدود المحدود المذكورة في قوله تعالى وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله التوبة

الثامن إن الحد إذا كان هو قول الحاد فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ فان المتكلم قد يتصور معنى ما يقوله بدون لفظ والمستمع قد يمكنه تصور تلك المعاني من غير مخاطب بالكلية فكيف يمكن أن يقال لا تتصور المفردات إلا بالحد الذي هو قول الحاد
التاسع إن الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات وإما أن يتصورها بمشاعره الباطنة كما تتصور الأمور الحسية الباطنة الوجدية مثل الجوع والشبع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهية والعلم والجهل وأمثال ذلك وكل من الأمرين قد يتصوره معينا وقد يتصوره مطلقا أو عاما وهذه التصورات جميعها غنية عن الحد ولا يمكنه تصور شئ بدون مشاعره الظاهرة والباطنة وما غاب عنه يعرفه بالقياس والاعتبار بما شاهده
العاشر إنهم يقولون إن للمعترض أن يطعن على حد الحاد ب النقض والمعارضة
والنقض إما في الطرد وإما في العكس أما الطرد فهو انه حيث وجد الحد وجد المحدود فيكون الحد مانعا فإذا بين وجود الحد ولا محدود لم يكن مطردا ولا مانعا بل دخل فيه غيره كما لو قال في حد الإنسان إنه الحيوان وأما العكس وهو أن يكون حيث انتفى الحد انتفى المحدود لكون الحد جامعا وإذا لم يكن جامعا انتفى الحد مع بقاء بعض المحدود كما لو قال في حد الإنسان إنه العربي فلا يكون الحد منعكسا ولو استعمل لفظ الطرد في موضع العكس لكان سائغا والمقصود انه لا بد من اتفاق الحد والمحدود في العموم والخصوص فلا بد أن يكون مطابقا للمحدود لا يدخل فيه ما ليس من المحدود ولا يخرج منه ما هو من المحدود فمتى كان أحدهما اعم كان باطلا بالاتفاق وسمى ذلك نقضا

فان النقض يرد على الحد والدليل والقضية الكلية والعلة لكن الدليل والقضية الكلية لا يجب فيهما الانعكاس إلا بسبب منفصل مثل المتلازمين إذا استدل بأحدهما على الآخر فهنا يكون الدليل مطردا منعكسا وأما الحد فلا بد فيه من الانعكاس
والعلة إن كانت تامة وجب طردها وإن لم تكن تامة جاز تخلف الحكم عنها لفوات شرط او وجود مانع ويسمى ذلك تخصيصا ونقضا اما وجود الحكم بلا علة فيسمى عدم عكس وعدم تاثير ونفس الحكم المتعلق بها ينتفى لا بانتفائها ولا يجب انتفاء نظيره إذا كان له علة اخرى فمجرد عدم الانعكاس لا يدل على فساد العلة إلا إذا وجد الحكم بدون العلة من غير ان تخلفها علة اخرى وهو في الحقيقة وجود نظير الشخص وهو نوعه فهنا تكون العلة عديمة التأثير فتكون باطلة وبهذا يظهر ان عدم التأثير مبطل لها وعدم الانعكاس ليس مبطلا لها فانها إذا انتفت انتفى الحكم المعلق بها وإذا وجد الحكم بعلة اخرى فان كانت العلة مساوية هي كالأخرى فهى هي وإن كانت مجانبة لها فلا بد إن يختلف الحكم كما ان حل الدم كان اسم جنس فالحل الحاصل بالردة نوع غير النوع الحاصل بالزنا والحل الحاصل بالقتل فان الحل الحاصل بالقتل يجوز فيه الفداء والمعافاة والحل الحاصل بالردة يجوز فيه الغفران بالتوبة والحل الحاصل بالزنا فيه حد الرجم بالحجارة وبحضور شهود وكثير نظائر هذا فالى في احد الحلين إن كان مماثلا للاخر فالعلتان واحدة وإن اختلف الحكم اختلف العلة وانتقاض الوضوء بالبول والغائط نوع واحد ليس هو من باب تغاير الحكم بعلتين كالقتل بالحدود قال المعترض هذه الاوصاف لا تأثير لها في حل الدم فان الردة وزنا المحصن وحراب الكافر الاصلي يبيح الدم مع انتفاء هذه الاوصاف فيقال له فان الحل وجد لسبب آخر لا لعدم تأثر هذه الاوصاف كما يستحق الابن

الارث بالنسب والنكاح والولاء ويثبت الملك بالمعاوضة والارث والايهاب والاغتنام وتلك المباحات لو كان للمستدل فيجب القود فياسا على القتل لم يرد عليه هذا السؤال لأن الواجب بالردة والزنا ليس قودا
وأما عدم التأثير مبطل لما هو العلة لان تأثير الدلالة الذي يجمع فيه لا يدل على العلة فان الدليل لا يجب انعكاسه كما لو قال من يركب القياس في مسألة زكوة الصبي ملبوس فلا يجب له الزكوة كلباس الكبير قيل له لا تأثير لكونه لباسا لا في الفرع ولا في الاصل بل هذا الحكم ثابت عند اهل الشرع في جميع مال الصغير وهذه كلمات جوامع في هذه الكليات التي يكثر فيها اضطراب الناس
وأما المعارضة للحد بحد آخر فظاهر
فاذا كان المستمع للحد يبطله ب النقص تارة وب المعارضة أخرى ومعلوم ان كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود علم انه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب
الحادي عشر ان يقال هم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج الى حد وإلا لزم الدور أو التسلسل
وحينئذ فيقال كون العلم بديهيا او نظريا هو من الامور النسبية الاضافية مثل كون القضية يقينية او ظنية إذ قد يتيقن زيد ما يظنه عمرو وقد يبده زيدا من المعاني ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر وقد يكون حسيا لزيد من العلوم ما هو خبرى عند عمرو وإن كان كثير من الناس يحسب ان كون العلم المعين ضروريا او كسبيا او بديهيا أو نظريا هو من الامور اللازمة له بحيث يشترك في ذلك جميع الناس وهذا غلط عظيم وهو مخالف للواقع
فان من رأى الامور الموجودة في مكانه وزمانه كانت عنده من الحسيات

المشاهدات وهي عند من علمها بالتواتر من المتواترات وقد يكون بعض الناس إنما علمها بخبر ظنى فتكون عنده من باب الظنيات فان لم يسمعها فهى عنده من المجهولات وكذلك العقليات فان الناس يتفاوتون في الادراك تفاوتا لا يكاد ينضبط طرفاه ولبعضهم من العلم البديهي عنده والضروري ما ينفيه غيره او يشك فيه وهذا بين في التصورات والتصديقات
وإذا كان ذلك من الامور النسبية الاضافية أمكن ان يكون بديهيا عند بعض الناس من التصورات ما ليس بديهيا لغيره فلا يحتاج الى حد وهذا هو الواقع وإذا قيل فمن لم يحصل له تلك المحدودات بالبداهة حصلت له بالحد قيل كثير منهم يجعل هذا حكما عاما في جنس النظريات لجنس الناس وهذا خطا واضح ومن تفطن لما ذكرناه يقال له ذلك الشخص الذي لم يعلمها بالبديهة يمكن ان تصير بديهة له بمثل الاسباب التي حصلت لغيره فلا يجوز ان يقال لا يعلمها إلا بالحدود المقام الثاني
المقام الايجابي في الحدود والتصورات
وهو أنه هل يمكن تصور الاشياء بالحدود
فيقال المحققون من النظار يعلمون ان الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته وإنما يدعى هذا أهل المنطق اليوناني أتباع ارسطو ومن سلك سبيلهم وحذا حذوهم تقليدا لهم من الإسلاميين وغيرهم فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا
وإنما دخل هذا في كلام من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة وأوائل المائة السادسة فأما أبو حامد فقد وضع مقدمة منطقية في أول المستصفى وزعم أن من لم يحط بها علما فلا ثقة له بشئ من

علومه وصنف في ذلك محك النظر ومعيار العلم ودواما اشتدت به ثقته وأعجب من ذلك أنه وضع كتابا سماه القسطاس المستقيم ونسبه الى أنه تعليم الانبياء وإنما تعلمه من ابن سينا وهو تعلمه من كتب ارسطو وهؤلاء الذين تكلموا في الحدود بعد أبى حامد هم الذين تكلموا في الحدود بطريقة اهل المنطق اليوناني
وأما سائر طوائف النظار من جميع الطوائف المعتزلة والاشعرية والكرامية والشيعة وغيرهم ممن صنف في هذا الشأن من اتباع الائمة الاربعة وغيرهم فعندهم إنما تفيد الحدود التمييز بين المحدود وغيره بل أكثرهم لا يسوغون الحد إلا بما يميز المحدود عن غيره ولا يجوز ان يذكر في الحد ما يعم المحدود وغيره سواء سمي جنسا او عرضا عاما وإنما يحدون بما يلازم المحدود طردا وعكسا ولا فرق عندهم بين ما يسمى فصلا وخاصة ونحو ذلك مما يتميز به المحدود من غيره
وهذا مشهور في كتب اهل النظر في مواضع يطول وصفها من كتب المتكلمين من اهل الاثبات وغيرهم كأبي الحسن الأشعري والقاضي ابي بكر اسحاق وابي بكر بن فورك والقاضي ابي يعلى وابن عقيل وابي المعالي الجويني وابي الميمون النسفي الحنفي وغيرهم وقبلهم ابو علي وابو هاشم وعبد الجبار وامثالهم من شيوخ المعتزلة وكذلك ابن النوبخت والموسى والطوسي وغيرهم من شيوخ الشيعة وكذلك محمد بن الهيصم وغيره من شيوخ الكرامية فانهم إذا تكلموا في الحد قالوا ان حد الشىء وحقيقته خاصته التي تميزه

قال ابو القاسم الانصاري في شرح الارشاد قال امام الحرمين القصد من التحديد في اصطلاح المتكلمين التعرض لخاصة الشيء وحقيقة التي يقع بها الفصل بينه وبين غيره
قال الاستاد حد الشيء معناه الذي لاجله كان بالوصف المقصود بالذكر قال ابو المعالي ولو قال قائل حد الشيء معناه واقتصر عليه كان سديد او قال حد الشيء حقيقته او خاصته كان حسنا
قال فأن قيل اذا قلتم حد العلم أو حقيقة ما يعلم به فلم تذكروا خاصة العلم لأن العلم يشتمل على مختلفات ومتماثلات لا يجمع جميعها في خاصة واحدة فان المجتمعين في الاخص متماثلان فنقول انما غرضنا ان نبين ان المذكور حدا هو خاصة وصف المحدود في مقصود الحد إذ ليس الغرض بالسؤال عن العلم التعرض لتفصيله وإنما الغرض معرفة العلمية بأخص وصف العلم الذي يشترك فيه ما يختلف منه وما يتماثل بما ذكرناه حيث قلنا أنه المعرفة او ما يعلم به أو التبيين
وهذا على طريقة الاستاذ ومن رام ذكر حد من قبيل المعلومات فانما غرضه الوقوف على صفة يشترك فيها القبيل المسئول عنه على وجه يتضح للسائل
قال أبو المعالي فان قيل الحد يرجع الى قول المخبر أو الى صفة في المحدود قلنا ما صار اليه كافة الائمة ان الحد صفة المحدود سكت عنه الواصفون أم نطقوا وهو بمعنى الحقيقة وقد ذكر القاضي في التقريب أن الحد قول الحاد المنبئ عن الصفة التي تشترك فيها آحاد المحدود ووافق الأصحاب في أن حقيقة الشئ ومعناه راجعان الى صفة دون قول القائل وإنما بين ذلك في الحد لمشابهته الوصف ومشابهة الحقيقة الصفة ونحن نفصل بين الوصف والصفة ثم قال القاضي من الاشياء ما يحد ومنها ما لا يحد وما من محقق إلا وله حقيقة ومن صار إلى ان الحد يرجع الى حقيقة المحدود

يقول ما من ذي حقيقة إلا وله حد نفيا كان أو إثباتا والغرض من التحديد التعرض لحقيقة الشئ التي بها يتميز عن غيره والشئ إنما يتميز عن غيره بنفسه وحقيقته لا بقول القائل
ثم قال ابو المعالي قال المحققون الاطراد والانعكاس من شرائط الحد وإذا كان الغرض من الحد تمييز المحدود بصفة عما ليس منه فليس يتحقق ذلك إلا مع الاطراد والانعكاس ف الطرد هو تحقق المحدود مع تحقق الحد والعكس هو انتفاء المحدود مع انتفاء الحد
وإذا قيل حد العلم هو العرض لم يطرد ذلك إذ ليس كل عرض علما فهذا نقض الحد ولو قلنا في حد العلم كل معرفة حادثة فهذا لا ينعكس إذ ثبت علم ليس بحادث والسائل عن حد العلم لم يقصد حد ضرب منه تخصيصا وإنما أراد الاحاطة بمعنى سائر العلوم
وإذا قلنا العلم هو المعرفة ف كل معرفة علم وكل علم معرفة وكل ما ليس بعلم فليس بمعرفة وكل ما ليس بمعرفة فليس بعلم وهذه عبارات اربع عبارتان في النفي وعبارتان في الاثبات ولا تستقيم الحدود دون ذلك
قال أبو المعالي فان قال قائل هل يجوز تركيب الحد من وصفين ام لا قلنا اختلف المتكلمون
فذهب كثير منهم الى ان المركب ليس بحد وشيخنا ابو الحسن يميل الى ذلك ويقدح في التركيب وليس المراد بمنع التركيب تكليف المسئول ان يأتى في حد ما يسأل عنه بعبارة واحدة إذ المقصود إتحاد المعنى بدون اللفظ والعبارات لا تقصد لأنفسها وليست هي حدودا بل هي منبئة عن الحدود وقال شيخنا ابو الحسن في حد العلم مع منعه التركيب هو ما اوجب كون محله عالما وهذا يشتمل على كلمات ولم يعد هذا تركيبا فان المقصود بالحد التعرض لصفة واحدة هو إيجاب العلم حكمه وكذلك إذا قيل في حد الجوهر ما قبل العرض فليس

بمركب وإن ذكر العرض وقبوله اياه ولكن المقصود بالحد التعرص للقبول فقط
ثم التركيب فيه تقسيم فمنه باطل بالاتفاق ومنه مختلف فيه فالمتفق عليه هو أن يذكر الحاد معنيين يقع الاستقلال بأحدهما وذكر الاخر لغو فى مقصود الحد وشرطه وأما المختلف فيه فكما يقول المعتزلة في حد المرئي ما يكون لونا أو متلونا فهم يصححون هذا الحد ولا يرون هذا التركيب قادحا قالوا لأن المقصود من الحد حصر المحدود مع التعرض للحقيقة فإذا قامت الدلالة على أن المتحيز يرى وعلى أن الألوان مرئية ولا يجتمع الألوان والجوهر في حقيقة واحدة إذ الأوصاف الجامعة لها محدودة منها الوجود والحدوث وباطل تحديد المرئي بالموجود أو المحدث إذ يلزم منه رؤية الطعوم والروائح والعلوم ونحوها فإذا لم يمكن الجمع بين الجواهر والألوان في صفة جامعة لها في حكم الرؤية غير منتقضة فلا وجه إلا ذكر الجواهر بخاصتها وذكر الألوان بحقيقتها
ومعظم المتكلمين على الامتناع من مثل ذلك في الحدود وقالوا المتحيز وكون اللون هيئة حكمان متنافيان فينبغي أن لا يثبت لهما مع تباينهما حكم لا تباين فيه وهو كون المرئي مرئيا
قال الأستاذ أبو المعالي وأحسن طريقة في هذا ما ذكره القاضي فأنه قال ما يذكر من معرفة الحدود ينقسم فربما يتأتى ضبط آحاد المحدود بصفة واحدة يشترك فيها جملة الآحاد نحو تحديدنا العلم ب المعرفة والشيئية ب الوجود وربما لا يتأتي ضبط جميع آحاد المحدود في صفة واحدة يشترك جميعها فيها فلو ذكر في حدها صفة جامعة لبطل فإذا كان الأمر كذلك وتأتي ضبط ما يسأل عنه بذكر صفتين يشتمل إحداهما على قبيل من المسئول والأخرى على القبيل الآخر لصح تحديده قال القاضي ولو حقق ذلك لزال فيه الخلاف فان الذي يحد بصفتين لو قيل له أتدعي

اجتماع القبلين في صفة واحدة لما ادعاه ولو قيل لمطالبة اتنكر تحقيق الانحصار عند ذكر الصفتين لما وجد سبيلا الى انكار ذلك والحد ليس بموجب وانما هو بيان وكشف وهذا المعنى يتحقق في الصفتين تحققه في الصفة الواحدة فإن الكلام الى مناقشة في العبارة
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب وان قال لنا قائل ما حد العلم عندكم قلنا حده معرفة المعلوم على ما هو به والدليل على ذلك ان هذا الحد يحصره على معناه ولا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه شيء هو فيه والحد إذا أحاط بالمحدود على هذا السبيل وجب ان يكون حدا ثابتا صحيحا فكلما حد به العلم وغيره وكانت حاله في حصر المحدود وتميزه من غيره واحاطته به حال ما حددنا به العلم وجب الاعتراف بصحته وقد ثبت ان كل علم تعلق بمعلوم فأنه معرفة له على ما هو به وكل معرفة بمعلوم فانها علم به فوجب توفيق الحد الذي حددنا به العلم وجعلناه تفسيرا لمعنى منه بانه علم
قلت فقد بين القاضي ان كل ما احاط بالمحدود بحيث لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما هو منه كان حدا صحيحا
اعتراف الغزالي باستعصاء الحد
وقد ذكر الغزالي في كتابه الكبير في المنطق الذي سماه معيار العلم مذهب المتكلمين هذا بعد ان ذكر استعصاء الحد على طريقة المنطقيين فقال
الفصل السابع
في استعصاء الحد على القوى البشرية الا عند غاية التشمير والجهد ومن عرف ما ذكرناه من مثارات الاشتباه في الحد عرف عن أن القوة البشرية لا تقوى على التحفظ عن كل ذلك الا على الندوز وهي كثيرة واعصاها على الذهن اربعة امور

أحدها أن شرطنا أن نأخذ الجنس الاقرب ومن أين للطالب أن لا يغفل عنه فيأخذ جنسا يظن انه اقرب وربما يوجد ما هو أقرب منه فيحد الخمر بأنه مائع مسكر ويذهل عن الشراب الذي هو تحته وهو أقرب منه ويحد الانسان بأنه جسم ناطق مائت ويغفل عن الحيوان وامثاله
الثاني انا إذا شرطنا ان تكون الفصول ذاتية كلها واللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم يشتبه بالذاتي غاية الاشتباه ودرك ذلك من أغمض الامور فمن أين له أن لا يغفل فيأخذ لازما فيورده بدل الفصل ويظن انه ذاتي
الثالث أنا شرطنا أن يأتي بجميع الفصول الذاتيه حتى لا يحل بواحد ومن أين يأمن من شذوذ بعضها عنه لا سيما إذا وجد فصلا حصل به التمييز والمساواه في الاسم في الحمل كالجسم ذى النفس الحساس ومساواته لفظ الحيوان مع إغفال المتحرك بالارادة وهذا من أغمض ما يدرك
الرابع إن الفصل مقوم ل النوع مقسم ل الجنس فاذا لم يراع شرط التقسيم اخذ في القسمة فصولا ليست أولية ل الجنس وهو غير مرضى في الحدود فان الجسم كما أنه ينقسم الى النامى وغير النامى انقساما ب فصل ذاتي فكذلك ينقسم الى الحساس وغير الحساس والى الناطق وغير الناطق فمهما قيل الجسم ينقسم الى الناطق وغير الناطق فقد قسم بما ليس هو الفصل القاسم أوليا بل ينبغي ان يقسم اولا الى النامي وغير النامي ثم النامى ينقسم الى الحيوان وغير الحيوان ثم الحيوان الى الناطق وغير الناطق وكذلك الحيوان ينقسم الى ذي رجلين والى ذي ارجل ولكن هذا التقسيم ليس ل فصول اولية بل ينبغي ان يقسم الحيوان الى ماش وغير ماش ثم الماشى ينقسم الى ذي

رجلين وذى أرجل إذ الحيوان لم يستعد ل الرجلين والارجل باعتبار كونه حيوانا بل باعتبار كونه ماشيا واستعد لكونه ماشيا باعتبار كونه حيوانا
فرعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد وهي في غاية العسر
ولذلك لما عسر اكتفى المتكلمون بالتمييز وقالوا إن الحد هو القول الجامع المانع ولم يشترطوا فيه إلا التمييز
ويلزم عليه الاكتفاء ب الخواص فيقال في حد الفرس إنه الصهال وفي حد الانسان إنه الضحاك وفي الكلب إنه النباح وذلك في غاية البعد عن غرض التعريف لذات المحدود
ولأجل عسر التحديد قد رأينا أن نورد جملة من الحدود المعلومة المحررة في الفن الثاني من كتاب الحدود
ثم قال
الفن الثاني في الحدود المفصلة
اعلم أن الأشياء التي يمكن تحديدها لا نهاية لها لأن العلوم التصديقية غير متناهية وهي تابعة ل التصورات وأقل ما يشتمل عليه التصديق تصوران وعلى الجملة فكل ما له اسم يمكن تحرير حده ورسمه أو شرح اسمه وإذا لم يكن في الاستقصاء مطمع فالأولى الاستقصار على القوانين المعروفة لطريقه وقد حصل ذلك بالفن الأول
ولكنا أوردنا حدودا مفصلة لفائدتين
إحداهما أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه فان الامتحان والممارسة للشيء يفيد قوة عليه لا محالة
الثانية ان يقع الاطلاع على معاني اسماء اطلقها الفلاسفة وقد اوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم اصطلاحهم وإذا لم نفهم ما أوردناه من اصطلاحهم لا يمكن مناظرتهم

فقد أوردنا ألفاظ أطلقوها في الالهيات والطبيعات وشيئا قليلا من الرياضيات
فلتؤخذ هذه الحدود على أنها شرح الاسم فان قام البرهان على ان ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا وإلا اعتقد شرحا للاسم
كما يقال حد الجنى حيوان هوائي ناطق مشف الجرم من شانه ان يتشكل باشكال مختلفة فيكون هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس فاما وجود هذا الشئ على هذا الوجه فيعرف بالبرهان فان دل على وجوده كان حدا بحسب الذات وإن لم يدل عليه بل دل على ان الجنى المراد به في الشرع موجود آخر كان هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس
وكما تقول في حد الخلاء إنه بعد يمكن ان يفرض فيه ابعاد ثلاثة قائم لا في مادة من شأنه ان يملأه جسم ويخلو عنه وربما دل الدليل على ان ذلك محال فيؤخذ على انه شرح للاسم في إطلاق النظار
وإنما قدمنا هذه المقدمة ليعلم أن ما نورده من الحدود شرح لما أراده الفلاسفة بالاطلاق لا حكم بأن ما ذكروه كما ذكروه فان ذلك مما يتوقف على ما يوجبه البرهان
الرد على كلام الغزالي
قلت ما ذكره من صعوبة الحد على الشروط التي ذكرها حق لو كان المقصود بالحد تصوير الحدود كما يدعونه وكان ذلك ممكنا لكن ما ذكروه في الحد باطل فإنه يمتنع ان يحصل بمجرد الحد تصور المحدود وما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفات الخارجة اللازمة أمر باطل لا حقيقة له وما أوجبوه من ذكر الصفتين في الحدود هو مما يحظره المتكلمون فيمتنعون منه في الحد والتحقيق انه لا واجب ولا محظور كما قد بيناه في موضع آخر

وكل ما يذكرونه من الحدود فانما يفيد التمييز وإذا كان لا يحصل بالحد إلا التمييز فالتمييز قد يحصل ب الفصل والخاصة فعلم ان طريقة المتكلمين اسد في تحصيل المقصود الصحيح بالحدود
وأما قوله إن ذلك في غاية البعد عن التعريف لذات المحدود فيقال وكذلك سائر الحدود هي غير محصلة لتصوير ذات المحدود كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وما ذكره من الوجوه حجة عليهم
فان ما ذكره من لزوم اخذ الجنس القريب امر اصطلاحي وذلك انه إذا أخذ البعيد كان الفصل يدل على القريب بالتضمن أو الالتزام كدلالة القريب على البعيد ف الناطق عندهم يدل على الحيوان والمسكر على الشراب كما يدل الحيوان على الجسم وكما يدل الشراب على المائع سواء جعلوا هذه دلالة تضمن او التزام فان كانوا يكتفون بمثل هذه الدلالة كان الفصل كافيا وإن كانوا لا يكتفون إلا بما يدل على الذاتيات بالمطابقة لم يكن ذكر الجنس القريب وحده كافيا
فاذا قال مائع مسكر كان لفظ المسكر يدل عل انه الشراب فان المسكر ههنا اخص عندهم من الشراب ومن المائع وهو فصل كالناطق ل الانسان ومعلوم حينئذ ان كل مسكر شراب كما ان كل ناطق حيوان كما أنه إذا قيل في الانسان جسم ناطق ف الناطق عندهم اخص من الجسم ومن الحيوان وهو يدل على الحيوان بالتضمن او الالتزام ودل لفظ المائع على الجنس البعيد بالمطابقة
وإذا قال شراب مسكر دل قوله شراب على انه مائع بالتضمن او الالتزام عندهم ودل على الجنس القريب بالمطابقة فصار الفرق بينهما انه تارة

يدل على الجنس البعيد بالمطابقة والقريب بالتضمن وتارة بالعكس
فاذا قالوا الأحسن أن يدل على القريب بالمطابقة لانه اخص بالمحدود وكلما كان اخص كان أكثر تمييزا قيل ليس في ذلك اختصاص احد الحدين بتصوير الماهية دون الآخر بل بأنه اتم تمييزا
وهذا تكلم على المعنى الذي ذكره في حد الخمر بحسب ما قاله ف الخمر اسم ل المسكر عند الشارع سواء كان مائعا او جامدا طعاما او شربا كما قال النبي ص - كل مسكر خمر فلو كان الخمر جامدة وأكلها كانت خمرا باتفاق المسلمين
وأما الوجه الثاني فقوله اللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم يشتبه بالذاتي غاية الاشتباه كلام صحيح بل ليس بينهما في الحقيقة فرق إلا بمجرد الوضع والاصطلاح كما قد بين في غير هذا الموضع وبين انهم في هذا الوضع المنطقي والاصطلاح المنطقي فرقوا بين المتماثلين وسووا بين المختلفين
وهذا وضع مخالف لصريح العقل وهو اصل صناعة الحدود الحقيقية عندهم فتكون صناعة باطلة إذ الفرق بين الحقائق لا يكون بمجرد امر وضعي بل بما هي عليه الحقائق في نفسها وليس بين ما سموه ذاتيا وما سموه لازما للماهية في الوجود والذهن فرق حقيقي في الخارج وإنما هي فروق اعتبارية تتبع الوضع واختيار الواضع وما يفرضه في ذهنه وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وذكرنا ألفاظ أئمتهم في هذا الموضع وتفسيرها
وإن حاصل ما عندهم أن ما يسمونه ماهية هي ما يتصوره الذهن فان أجزاء الماهية هي تلك الامور المتصورة فاذا تصور جسما ناميا حساسا

متحركا بالارادة ناطقا او ضاحكا كان كل جزء من هذه الاجزاء المعنى المتصور وكان داخلا في هذا التصور وإن تصور حيوانا ناطقا كان أيضا كل منهما جزءا مما تصوره داخلا فيه وكان ما يلزم هذه الصورة الذهنية مثل كونه حيا وحساسا وناميا هو لازما لهذا المتصور في الذهن فالماهية بمنزلة المدلول عليه بالمطابقة وجزؤها المقوم لها الداخل فيها الذي هو وصف ذاتي لها بمنزلة المدلول عليه التضمن واللازم لها الخارج عنها بمنزلة المدلول عليه بالالتزام ومعلوم ان هذا امر يتبع ما يتصوره الانسان سواء كان مطابقا او غير مطابق ليس هو تابع للحقائق في نفسها
وأصل غلط هؤلاء أنه اشتبه عليهم ما في الاذهان بما في الاعيان فالانسان إذا حد شيئا كالانسان مثلا بمن هو جسم حساس نام متحرك بالارادة ناطق كان هذا القول له لفظ ومعنى فكل لفظ من ألفاظه له معنى من هذه المعاني جزء هذا الكلام
وأما قوله في الثالث إنه يشترط جميع الفصول فهذا كاشتراط الجنس وليس في ذلك ما يفيد تصوير الماهية واما التمييز فيحصل بدون ذلك وهذا امر وضعى والمتكلمون قد اتفقوا على انه لا يجوز الجمع بين وصفين متساويين في العموم والخصوص ضد ما يوجبه هؤلاء فلا يجمع بين فصلين وهذا كما إذا حد الحيوان نأنه جسم نام حساس متحرك بالارادة ف الحساس والمتحرك بالارادة فصلان والمنطقيون يوجبون ذكرهما والمنكلمون يمنعون من ذكرهما جميعا ويأمرون بالاقتصار على أحدهما
أما الوجه الرابع فانه من جنس احد الجنس البعيد بدل القريب فان تقسيم

الجنس ب الفصول الآخرية دون الأولية مثل تقويم النوع ب الأجناس الأولية دون الآخرية
صناعة الحد وضع اصطلاحي غير فطري
وقوله رعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد وهو في غاية العسر فيقال
هذه صناعة وضعية اصطلاحية ليست من الأمور الحقيقة العلمية وهي مع ذلك مخالفة لصريح العقل ولما عليه الوجود في مواضع فتكون باطلة ليست من الأوضاع المجردة كوضع أسماء الأعلام فان تلك فيها منفعة وهي لا تخالف عقلا ولا وجودا وأما وضعهم فمخالف لصريح العقل والوجود ولو كان وضعا مجردا لم يكن ميزانا للعلوم والحقائق فان الأمور الحقيقية العلمية لا تختلف باختلاف الأوضاع والاصطلاحات كالمعرفة بصفات الأشياء وحقائقها فالعلم بأن الشيء حي أو عالم أو قادر أو مريد أو متحرك أو ساكن أو حساس أو غير حساس ليس هو من الصناعات الوضعية بل هو من الأمور الحقيقية الفطرية التي فطر الله تعالى عباده عليها كما فطرهم على أنواع الارادات الصحيحة والحركات المستقيمة
لاسيما وهؤلاء يقولون إن المنطق ميزان العلوم العقلية ومراعاته تعصم الذهن عن أن يغلط في فكر 5 كما أن العروض ميزان الشعر والنحو والتصريف ميزان الألفاظ العربية المركبة والمفردة وآلات المواقيت موازين لها
ولكن ليس الأمر كذلك فان العلوم العقلية تعلم بما فطر الله عليه بني آدم من أسباب الادراك لا تقف على ميزان وضعي لشخص معين ولا يقلد في

العقليات أحد بخلاف العربية فانها عادة لقوم لا تعرف الا بالسماع وقوانينها لا تعرف إلا بالاستقراء بخلاف ما به يعرف مقادير المكيلات والمذونات والمزروعات والمعدودات فانها تفتقر إلى ذلك غالبا لكن تعيين ما به يكال ويوزن بقدر مخصوص أمر عادي كعادة الناس في اللغات
وقد تنازع علماء المسلمين في مسمى الدرهم والدينار هل هو مقدر بالشرع أو المرجع فيه الى العرف على قولين أصحهما الثاني وعلى ذلك يبنى النصب الشرعي هل هو مائتا درهم يوزن معين او مائتا درهم مما يتعامل بها الناس باعتبار تقررها
وأما ما ذكروه من صناعة الحد فلا ريب أنهم وضعوها وهم معترفون بأن الواضع لها ارسطو وهم يعظمونه بذلك ويقولون لم يسبقه احد الى جميع اجزاء المنطق وتنازعوا هل سبق بعض اجزائه على قولين
واجزاء المنطق ثمانية
1 - المفرادات وهى المقولات المعقولة المفردة و
2 - التركيب الاول وهو تركيب القضايا و
3 - التركيب الثاني وهو تركيب القياس من القضايا ثم
4 - البرهانى و 5 الجدلى 6 الخطابى 7 الشعرى 8 السفسطة
ويسمون الجزء الاول إيساغوجى وقد يقولون أن فرفوريوس هو الذي أدخل ذلك المنطق بعد أرسطو
وقد يجعلون القياس والبرهان واحدا ويجعلون أجزاءه سبعة ويقولون

هذا قول أرسطو
والجزء الثاني الذي يشتمل على المقدمات يسمونه هرمينياس ومعناه العبارات
والثالث الذي يشتمل على القياس المطلق يسمونه انولوطيقيا الاول
والبرهاني يسمونه انولوطيقا الثاني
والجدلى يسمونه طوبيقا
والخطابي يسمونه ديطويقا
والشعري يسمونه اوقيوطيقا
والسفسطة يسمونه سوفسطيقا
وهذه عبارات يونانيه فاذا تكلمت بها العرب فانها تعربها وتقربها الى لغاتها كسائر ما تكلمت به العرب من الالفاظ المعجمة فلهذا توجد ألفاظها مختلفة
وقد كانت الامم قبلهم تعرف حقائق الاشياء بدون هذا الوضع وعامة الامم بعدهم تعرف حقائق الاشياء بدون وضعهم فان ارسطو كان وزيرا للاسكندر بن فيلبس المقدوني وليس هذا ذا القرنين المذكور في القرآن كما يظنه كثير منهم بل هذا كان قبل المسيح بنحو ثلثمائه سنة
وجماهير العقلاء من جميع الامم يعرفون الحقائق من غير تعلم منهم بوضع ارسطو وهم إذا تدبروا انفسهم وجدوا انفسهم تعلم حقائق الاشياء بدون هذه الصناعة الوضعية
ثم إن هذه الصناعة زعموا انها تفيد تعريف حقائق الاشياء ولا تعرف إلا بها وكلا هذين غلط

ولما راموا ذلك لم يكن بد من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيا فلا بد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم وما ليس كذلك ولا بد ان يرتبوا ذكرها على ترتيب مخصوص إذ لا تذكر على كل ترتيب فكانت الصفات الذاتية مادة الحد الوضعي والترتيب الذي ذكروه هو صورته
ولما كان ذلك مستلزما للتفريق بين المتماثلين او المتقاربين كان ممتنعا أو عسرا إذ يفرقون بين صفة وصفة يجعل احدهما ذاتية دون اخرى مع تساويهما او تقاربهما ويفرقون بين ترتيب وترتيب بجعل احدهما معرفا للحقيقة دون الآخر مع تساويهما او تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات طلب ما لا حقيقة له فهو ممتنع وإن كان بين المتقاربين كان عسرا فالمطلوب إما متعذرا وإما متعسرا فان كان متعذرا بطل بالكلية وإن كان متعسرا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله فصاروا بين ان يمتنع عليهم ما شرطوه او ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه وعلى التقديرين ليس ما وضعوه من الحد طريقا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان الحد قد يفيد من تنبيه المخاطب وتمييز المحدود ما قد تفيده الاسماء كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وما ذكروه من الفرق بين الحد وشرح الاسم فتلخيصه ان المحدود المميز عن غيره إذا تصورت حقيقته فقد يكون هو الموجود الخارجي وقد يكون هو المراد الذهني وقد يراد بالحد تمييز ما عناه المتكلم بالاسم وتفهيمه سواء كان ذلك المعنى الذي اراده بالاسم ثابتا في الخارج او لم يكن وقد يراد به تمييز ما هو موجود في الخارج وهذا شأن كل من فسر كلام متكلم او شرحه فقد يفسر مراد المتكلم ومقصودة سواء كان مطابقا للخارج او لم يكن وقد يتبين مع ذلك انه مطابق

للامر الخارج وأنه حق في نفسه
وإذا كان الكلام غير حق لم يكن مطابقا للخارج فيريد المستمع أن يطابق بينه وبين الواقع فلا يطابقه ولا يوافقه حتى قد يظن الظان ان الشارح او المستمع لم يفهم مقصود المتكلم لعسرته ولا يكون كذلك بل لان ما ذكره من الكلام ليس بمطابق للواقع فلا يمكن مطابقته إياه وقد يكون ظن من ظنه مطابقا للخارج إحسانا للظن بالمتكلم ويكون قد ظن أنه لم يفهمه لدقته عليه فلا يكون كذلك
وقولهم في الحد الحقيقي إنه متعسر وإنه لا يتوقف عليه إلا آحاد الناس هو من هذا الباب فان الحد الحقيقي إذا اريد به ما زعموه فإنه لا حقيقة له في الخارج إذ يريدون به أن الموصوف في نفسه مؤلف من بعض صفاته اللازمة له التي بعضها اعم منه وبعضها مطابق له دون بعض صفاته اللازمة المساوية لتلك العامة في العموم وللمطابقة في المطابقة دون بعض وأن حقيقته هي مركبة من تلك الصفات دون غيرها وان تلك الحقيقة يصورها الحد دون غيره فهذا ليس بحق
فدعواهم تأليفه من بعض الصفات اللازمة دون بعض باطلة بل دعواهم انه مركب من الصفات باطلة ودعواهم له حقيقة ثابتة في الخارج يصورها الحد دون غيره باطلة وإنما الواقع ان المحدود الموصوف الذي ميز بالاسم أو الحد عن غيره قد يكون ثابتا في الخارج وقد يكون ثابتا في نفس المتكلم بالاسم او الحد وهو يظن ثبوته في الخارج وليس كذلك
وبهذا يقال الحد يكون تارة بحسب الاسم وتارة بحسب المسمى ويقال الحد يكون تارة بحسب اسم الشئ وتارة بحسب حقيقته وإن كان الحد بحسب الاسم قد يكون مطابقا للخارج لكن المقصود أن الحد تارة يميز بين المراد باللفظ وغير المراد وتارة يميز بين الموجود في الخارج من الاعيان وبين غيره وهذا التمييز إنما يحصل بواسطة ذلك فالتمييز الذي في النفس يجب أن يكون مطابقا للتمييز في الخارج والتمييز الذي يحصل للمستمع هو بواسطة التمييز الذي في نفس المتكلم والله أعلم

خلط مقالات أهل المنطق بالعلوم النبوية وإفساد ذلك للعقول والأديان
وقد نفطن ابو عبدالله الرازي بن الخطيب لما عليه ائمة الكلام وقرر في محصله وغيره ان التصورات لا تكون مكتسبة وهذا هو حقيقة قول القائلين إن الحد لا يفيد تصوير المحدود
لكنه لم يهتد هو وأمثاله الى ما سبق اليه ائمة الكلام في هذا المقام
وهذا مقام شريف ينبغي ان يعرف فانه بسبب إهماله دخل الفساد في العقول والاديان على كثير من الناس إذ خلطوا ما ذكره اهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت به الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصارى بل وسائر العلوم كالطب والنحو وغير ذلك
وصاروا يعظمون أمر الحدود ويدعون أنهم هم المحققون لذلك وأن ما يذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان وإتعاب الاذهان وكثرة الهذيان ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يضلها عما لا بد لها منه وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعوا انه أصل المعرفة والتحقيق
وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه وإن كان الذي نهوا عنه خيرا من هذا واحسن إذ هو كلام في أدلة وأحكام ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون ان يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما دخل في ذلك متأخروهم الذين يظنون ذلك من التحقيق وإنما هو زيغ عن سواء الطريق
ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها لا تفيد الانسان علما لم يكن عنده وإنما تفيده كثرة كلام سموهم أهل الكلام

وهذا لعمرى في الحدود التي ليس فيها باطل فأما حدود المنطقين التي يدعون انهم يصورون بها الحقائق فانها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين
الأدلة على بطلان دعواهم ان الحدود تفيد تصوير الحقائق
ونحن نبين ان الحدود لا تفيد تصوير الحقائق وان حدود اهل المنطق التي يسمونها حقيقية تفسد العقل والدليل على ذلك وجوه
الوجه الاول
الحد سواء جعل مركبا أو مفردا لا يفيد معرفة المحدود
احدها إن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فانه إذا قال حد الانسان مثلا إنه الحيوان الناطق أو الضاحك فهذه قضية خبرية ومجرد دعوى خلية عن حجة فاما ان يكون المستمع لها عالما يصدقها بدون هذا القول وإما ان لا يكون فان كان عالما بذلك ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد وإن لم يكن عالما يصدقه بمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم كيف وهو يعلم انه ليس بمعصوم في قوله فقد تبين انه على التقديرين ليس الحد هو الذي يفيده معرفة المحدود
فان قيل الحد ليس هو الجملة الخبرية وإنما هو مجرد قولك حيوان ناطق وهذا مفرد لا جملة وهذا السؤال وارد على احد اصطلاحيهم فانهم تارة يجعلون الحد هو الجملة كما يقول الغزالي وغيره وتارة يجعلون الحد هو المفرد المفيد كالاسم وهو الذي يسمونه التركيب التقييدي كما يذكر ذلك الرازي ونحوه قيل التكلم بالمفرد لا يفيد ولا يكون جوابا للسائل سواء كان موصوفا تركيبا

مركبا تركيبا تقييديا او لم يكن كذلك
ولهذا لما مر بعض العرب بمؤذن يقول اشهد ان محمدا رسول الله بالنصب قال فعل ماذا
فاذا قيل ما هذا قيل طعام فهذا خبر مبتدإ محذوف باتفاق الناس تقديره هذا طعام كقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله الزمر وقوله قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس الى قوله قل الله الانعام وكقوله سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم الكهف أي هم ثلاثة وهم خمسة وهم سبعة
ومنه قوله تعالى وقل الحق من ربكم الكهف أي هذا الحق من ربكم ليس كما يظنه بعض الجهال أي قل القول الحق فان هذا لو اريد لنصب لفظ الحق والمراد إثبات ان القرآن حق ولهذا قال الحق من ربكم ليس المراد ههنا بقول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله وإذا قلتم فاعدلوا الانعام وقوله الم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق الاعراف
ثم إذا قدر ان الحد هو المفرد فالمفرادات اسماء وغاية السائل ان يتصور مسماها لكن من أين له إذا تصور مسماها أن هذا المسمى هو المسئول عنه وأن هذا المسمى هو حقيقة المحدود
فان قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير ان يحكم أنه هو ذلك أو غير ذلك بل تصور إنسان قيل فحينئذ يكون هذا كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه كما لو قيل الانسان وهذا يحقق ما قلناه من أن

دلالة الحد كدلالة الاسم وهذا هو قول أهل الصواب الذين يقولون الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال وحينئذ فيقال ان لا نزاع بين العقلاء ان مجرد الاسم لا يوجب تصوير المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والاشارة إليه
ولهذا قالوا إن المقصود باللغات ليس هو دلالة اللفظ المفرد على معناه وذلك لان اللفظ المفرد لا يعرف دلالته على المعنى إن لم يعرف أنه موضوع له ولا يعرف انه موضوع له حتى يتصور اللفظ والمعنى فلو كان المقصود بالوضع استفاده معانى الالفاظ المفردة لزم الدور
وإذا لم يكن المقصود من الاسماء تصوير معانيها المفردة ودلالة الحد كدلالة الاسم لم يكن المقصود من الحد تصوير معناه المفرد وإذا كان دلالة الاسم على مسماه مسبوقا بتصور مسماه وجب أن تكون دلالة الحد على المحدود مسبوقا بتصور المحدود وإذا كان كل من المحدود والمسمى متصورا بدون الاسم والحد وكان تصور المسمى والمحدود مشتركا في دلالة الحد والاسم على معناه امتنع أن تتصور المحدودات بمجرد الحدود كما يمتنع تصور المسميات بمجرد الاسماء وهذا هو المطلوب
ولهذا كان من المتفق عليه بين جميع اهل الارض أن الكلام المفيد لا يكون إلاجملة تامة كاسمين أو فعل واسم
هذا مما اعترف به المنطقيون وقسموا الالفاظ الى اسم وكلمة وحرف يسمى اداة وقالوا المراد ب الكلمة ما يريده النحاة بلفظ الفعل لكنهم مع هذا يناقضون ويجعلون ما هو اسم عند النحاة حرفا في اصطلاحهم فالضمائر ضمائر الرفع والنصب والجر والمتصلة والمنفصلة مثل قولك رأيته ومر بي فان هذه اسماء ويسميها النحاة الاسماء المضمرة والمنطقيون يقولون إنها في لغة اليونان من باب الحروف ويسمونها الخوالف كأنها

خلف عن الاسماء الظاهرة
فأما الاسم المفرد فلا يكون كلاما مفيدا عند أحد من أهل الارض بل ولا اهل السماء وإن كان وحده كان معه غيره مضمرا أو كان المقصود به تنبيها أو إشارة كما يقصد بالأصوات التي لم توضع لمعنى لا أنه يقصد به المعاني التي تقصد بالكلام استطراد
ولهذا عد الناس من البدع ما يفعله بعض النساك من ذكر اسم الله وحده بدون تأليف كلام فان النبي ص - قال أفضل الذكر لا إله إلا الله وافضل الدعاء الحمد لله رواه ابو حاتم في صحيحه وقال أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير رواه مالك وغيره
وقد نواتر عن النبي ص - انه كان يعلم امته ذكر الله تعالى بالجمل التامة مثل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله افضل الكلام بعد القرآن أربع وهي من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رواه مسلم وفي صحيح مسلم عنه ص - أنه قال لأن اقول سبحان الله والحمد لله

ولا إله إلا الله والله أكبر أحب الى مما طلعت عليه الشمس وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وأمثال ذلك
فظن طائفة من الناس ان ذكر الاسم المفرد مشروع بل ظنه بعضهم افضل في حق الخاصة من قول لا إله إلا الله ونحوها وظن بعضهم ان ذكر الاسم المضمر وهو هو هو افضل من ذكر الاسم المظهر
وأخرجهم الشيطان إلى أن يقولوا لفظا لا يفيد إيمانا ولا هدى بل دخلوا بذلك في مذهب اهل الزندقة والالحاد أهل وحده الوجود الذين يجعلون وجود المخلوقات وجود الخالق ويقول احدهم ليس إلا الله والله فقط ونحو ذلك
وربما احتج بعضهم عليه بقوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وظنوا انه مأمور بان يقول الاسم مفردا وإنما هو جواب الاستفهام حيث قال وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قال الله تعالى قل من انزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا قل الله الانعام أي الله انزل الكتاب الذي جاء به موسى
عود إلى اصل الموضوع
وإذا عرف ان مجرد الإسم ومجرد الحد لا يفيد ما يفيده الكلام بحال علم ان الحد خبر مبتدإ محذوف لتكون جملة تامة
ثم قد بينا فساد قولهم سواء جعل الحد مفردا كالاسماء او مركبا كالجمل وأنه على التقديرين لا يفيد تصوير المسمى وهو المطلوب

ودعوى المدعى أن الحد مجرد المفرد المفيد كدعواهم ان التصور الذي هو احد نوعى العلم هو التصور المجرد عن كل نفي وإثبات ومعلوم أن مثل هذا لا يكون علما عند أحد من العلماء بل إذا خطر ببال الانسان شيء ما ولم يخطر له ثبوته ولا انتفاءه بوجه من الوجوه لم يكن قد علم شيئا مثل من خطر له بحر زئبق أو جبل ياقوت خاطرا مجردا عن كون هذا التصور ثابتا في الخارج أو منتفيا ممكنا أو ممتنعا فان هذا من جنس الوسواس لا من جنس العلم
وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع متعددة مثل الكلام على المحصل وبينا أن المشروط في التصديق من جنس العلم المشروط في القول فمن صدق بما لم يتصوره كان قد تكلم بغير علم ومن صدق بما تصوره كان كالمتكلم بعلم فقولهم في الحدود ألقولية من جنس قولهم في التصورات الذهنية
الوجه الثاني
خبر الواحد بلا دليل لا يفيد العلم
الثاني انهم يقولون الحد لا يمنع ولا يقوم عليه دليل وإنما يمكن إبطاله ب النقض والمعارضة بخلاف القياس فانه يمكن فيه الممانعة والمعارضة
فيقال إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد إلا بقوله وقوله محتمل للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله
ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية ويجعلون العلم بالمفرد أصلا للعلم بالمركب ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا

دليل وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم ولا ريب أن مجرد خبر الواحد الذي لا دليل على صدقة لا يفيد العلم لكن هذا بعينه قولهم في الحد وإنه خبر واحد لا دليل على صدقه بل ولا يمكن عندهم إقامة دليل على صدقه فلم يكن الحد مفيدا لتصور المحدود
ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصوير وهذا بين
وتلخيصه أن المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر فلا يعلم المحدود بالحد
ومن قال أنا أريد بالحد المفرد لم يكن قوله مفيدا لشيء أصلا فإن التكلم ب الاسم المفرد لا المستمع شيئا بل إن كان تصور المحدود بدون هذا اللفظ كان قد تصوره بدون هذا اللفظ المفرد وإن لم يكن تصوره لا قبله ولا بعده
الوجه الثالث
لو حصل تصور المحدود بالحد لحصل ذلك قبل العلم بصحة الحد
الثالث أن يقال لو كان مفيدا لتصور المحدود لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد فانه دليل التصور وطريقه وكاشفه فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرف المحدود قبل العلم بصحة المعرف والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل

تصور المخبر عنه من غير تقليد المخبر وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر والمخبر ليس هو من باب الاخبار عن الأمور الغائبة
الوجه الرابع
معرفة المحدود يتوقف على العلم بالمسمى واسمه فقط
الرابع أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية ويسمونها اجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها ونحو ذلك من العبارات
فان لم يعلم المستمع ان المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع ان يتصوره وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد فثبت انه على تقدير النقيضين لا يكون قد تصوره بالحد وهذا بين
فانه إذا قيل الانسان هو الحيوان الناطق فان لم يكن قد عرف الانسان قبل هذا كان متصورا لمسمى الحيوان الناطق ولا يعلم انه الانسان احتاج الى العلم بهذه النسبة وإن لم يكن متصورا لمسمى الحيوان الناطق احتاج الى شيئين الى تصور ذلك وإلى العلم بالنسبة المذكورة وإن عرف ذلك كان قد تصور الانسان بدون الحد
الحد قد ينبه تنبيها
نعم الحد قد ينبه على تصور المحدود كما ينبه الاسم فان الذهن قد يكون غافلا عن الشئ فاذا سمع اسمه أو حده اقبل بذهنه الى الشئ الذي اشير اليه بالاسم او الحد فيتصوره فيكون فائدة الحد من جنس فائدة الاسم وهذا هو الصواب وهو التمييز بين الشئ المحدود وغيره

ويكون الحدود للانواع بالصفات كالحدود للاعيان بالجهات كما إذا قيل حد الارض من الجانب القبلي كذا ومن الجانب الشرقي كذا وميزت الارض باسمها وحدها وحد الارض يحتاج اليه إذ خيف من الزيادة في المسمى او النقص منه فيفيد إدخال المحدود جميعه وإخراج ما ليس منه كما يفيد الاسم وكذلك حد النوع
وهذا يحصل بالحدود اللفظية تارة وبالوصفية أخرى وحقيقة الحد في الموضعين بيان مسمى الاسم فقط وتمييز المحدود عن غيره لا تصوير المحدود وإذا كان فائدة الحد بيان مسمى الاسم والتسمية امر لغوي وضعي رجع في ذلك الى قصد ذلك المسمى ولغته ولهذا يقول الفقهاء من الاسماء ما يعرف حده ب اللغة ومنه ما يعرف حده ب الشرع ومنه ما يعرف حده ب العرف
ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبيين مراد المتكلم فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره فانه يحتاج الى معرفة دليل صحة الكلام فالاول فيه بيان تصوير كلامه والثاني بيان تصديق كلامه
وتصوير كلامه كتصوير مسميات الاسماء ب الترجمة تارة لمن يكون قد تصور المسمى ولم يعرف ان ذلك اسمه وتارة لمن لم يكن قد تصور المسمى فيشار له إلى المسمى بحسب الامكان إما إلى عينة وإما الى نظيره ولهذا يقال الحد تارة يكون ل الاسم وتارة يكون ل المسمى
وأئمة المصنفين في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون عند التحقيق بهذا كما ذكر أبو حامد الغزالي في كتاب معيار العلم الذي صنفه في المنطق بعد ان قال

البحث النظري الجاري في الطلب إما أن يتجه الى تصور او إلى تصديق فالموصل الى التصور يسمى قولا شارحا فمنه حد ومنه رسم والموصل الى التصديق يسمى حجة فمنه قياس ومنه استقراء وغيره
قال الغزالي
مضمون هذا الكتاب تعريف مبادئ القول الشارح لما أريد تصوره حدا كان أو رسما وتعريف مبادئ الحجة الموصلة الى التصديق قياسا كان او غيره مع التنبيه على شروط صحتها ومثار الغلط فيها
قال
فان قلت كيف يجهل الانسان العلم التصوري حتى يفتقر الى الحد قلنا بان يسمع الانسان اسما لا يعرف معناه كمن قال ما الخلاء وما الملاء وما الشيطان وما العقار فيقال العقار الخمر فان لم يعرفه باسمه المعروف يفهمه بحده فيقال الخمر هو شراب مسكر معتصر من العنب فيحصل له علم تصوري بذات الخمر
قلت فقد بين أن فائدة الحدود من جنس فائدة الاسماء وان ذلك كمن سمع اسما لا يعرف معناه فيذكر له اسم فان لم يتصوره وإلا ذكر له الحد
وهذا مما يعترف به حذاقهم حتى بين معلمهم الثاني ابو نصر الفارابي وهو أعظم الفلاسفة كلاما في المنطق وتفاريعه من برهانه
ومعلوم ان الاسم لا يفيد بنفسه تصوير المسمى وإنما يفيد التمييز بينه وبين غيره وأما تصور المسمى فتارة يتصوره الانسان بذاته بحسه الباطن أو الظاهر وتارة يتصوره بتصور نظيره وهو ابعد فمن عرف عين

الخمر إذا لم يعرف مسمى لفظ العقار قيل له هو الخمر او غيرها من الاسماء فعرفها ومن لم يعرف عين الخمر بحال عرف بنظيرها فقيل له هو شراب فاذا تصور القدر المشترك بين النظيرين ذكر له ما يميزها فقيل مسكر
ولكن الكلام في تصوره لمعنى المسكر كالكلام في تصوره لمعنى الخمر فان لم يعرف عين المسكر وإلا لم يمكن تعريفه إلا بنظيره فيقال هو زوال العقل وهذا جنس يشترك فيه النوم والجنون والاغماء والسكر فلا بد ان يميز السكر فيقال زوال العقل بما يلتذ به ثم اللذة لا بد ان يكون قد تصور جنسها ب الاكل والشرب وغيرهما
وهذا يبين أن فائدة الحدود قد تكون اضعف من فائدة الاسماء لأنها تفيد معرفة الشئ بنظيره والاسم يكتفى به من عرفه بنفسه
وحقيقة الامر ان الحد هو ان تصف المحدود بما تفصل به بينه وبين غيره والصفات تفيد معرفة الموصوف خبرا وليس المخبر كالمعاين ولا من عرف المشهود عليه بعينه كمن عرفه بصفته وحليته فمن عرف المسمى بعينه كان الاسم مغنيا له عن الحد كما تقدم ومن لم يعرفه بعينه لم يفده الحد ما يفيد الاسم لمن عرفه بعينه إذ الاسم هناك يدل على العين التي عرفها بنفسها والحد لمن لم يعرف العين إنما يفيده معرفة النوع لا معرفة العين كما يتصور اللذه بشرب الخمر من لم يشربها قياسا على اللذة ب الخبز واللحم ومعلوم فرق ما بين اللذتين
وليس مقصودنا أن فائدة الحدود اضعف مطلقا وإنما المقصود انها من جنس

فائدة الاسماء وأنها مذكرة لا مصورة او معرفة بالتسمية مميزة للمسمى من غيره او معرفة بالقياس
اعتراف ابن سينا بأن من الامور ما هو متصور بذاته
وهكذا يقول حذاقهم في تحديد امور كثيرة قد حدها غيرهم يقولون لا يمكن تحديدها تحديد تعريف لماهياتها بل تحديد تنبيه وتمييز كما قال ابن سينا في الشفاء قال
فنقول إن الموجود والشئ والضروري معانيها ترتسم في النفس إرتساما أوليا ليس ذلك الارتسام مما يحتاج أن يجلب بأشياء هو أعرف منها
فانه كما أنه في باب التصديق مباديء أولية يقع التصديق بها لذاتها ويكون التصديق لغيرها بسببها وإذا لم يخطر بالبال أو يفهم اللفظ الدال عليها لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها وإذا لم يكن التعريف الذي يحاول إخطارها بالبال أو يفهم ما يدل عليها من الألفاظ محاولا لافادة علم ما ليس في الغريزة بل منبها على تفهيم ما يريده القائل أو يذهب إليه وربما كان ذلك بأشياء هي في أنفسها أخفى من المراد تعريفه لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف
كذلك في التصورات أشياء هي مباديء للتصور هي متصورات لذاتها وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك في الحقيقة تعريفا لمجهول بل تنبيها وإخطارا بالبال باسم العلامة وربما كانت في نفسها أخفى منه

لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة فاذا استعملت تلك العلامة نبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال من حيث أنه هو المراد لا غيره من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه
ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر إلى غير النهاية أو لدار وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها كالموجود والشيء والواحد وغيره ولهذا ليس يمكن أن يبين شيء منها ببيان لا دور فيه ألبتة أو ببيان وشيء أعرف منها
وكذلك من حاول أن يقول فيها شيئا وقع في اضطراب كمن يقول إن من حقيقة الموجود أن يكون فاعلا أو منفعلا وهذا وإن كان ولا بد فمن اقسام الموجود والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون ألبتة أنه يجب أن يكون فاعلا أو منفعلا وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلا بقياس لاغير فكيف يكون حال من يروم أن يعرف الشيء الظاهر بصفة له تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له
وكذلك قول من قال إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر فان يصح أخفى من ل الشيء والخبر أخفى من الشيء فكيف يكون هذا تعريفا ل الشيء وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه شيء أو أنه أمر أو أنه ما أو أنه الذي وجميع ذلك كالمرادفات لاسم الشيء فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفا حقيقيا بما لا يعرف إلا به نعم ربما كان في ذلك وأمثاله تنبيه ما وأما بالحقيقة فانك إذا قلت

إن الشيء هو ما يصح ان يخبر عنه تكون كأنك قلت إن الشيء هو الشيء الذي يصح عنه الخبر لأن معنى ما والذي والشيء معنى واحد فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء على أننا لا ننكر أن يقع بهذا وما أشبهه مع فساد مأخذه تنبيه بوجه ما على الشئ ونقول إن معنى الموجود ومعنى الشئ متصوران في الانفس وهما معنيان والموجود والمثبت والمحصل اسماء مترادفة على معنى واحد ولا شك ان معناها قد حصل في نفس من يقرأ هذا الكتاب
وكذلك قال في حد الواحد والكثير قال
فصل في تحقيق الواحد والكثير وإبانة ان العدد عرض والذي يصعب علينا تحقيقه ما هية الواحد وذلك انا إذا قلنا إن الواحد الذي لا ينقسم فقد قلنا إن الواحد الذي لا يتكثر ضرورة فأخذنا في بيان الواحد الكثرة وأما الكثرة فمن الضرورة أن تحد ب الواحد لان الواحد مبدأ الكثرة ومنه وجودها وماهيتها
ثم أي حد حددنا به الكثرة استعملنا فيه الواحد بالضرورة فمن ذلك ما نقول إن الكثرة هو المجتمع من وحدات فقد اخذنا الوحدة في حد الكثرة ثم عملنا شيئا آخر وهو أنا أخذنا المجمتع في حدها والمجتمع يشبه ان يكون هو الكثرة نفسها وإذا قلنا من الوحدات أو الوحدان أو الآحاد فقد أوردنا بدل

لفظ الجمع هذا اللفظ ولا يفهم معناه ولا يعرف إلا ب الكثرة وإذا قلنا إن الكثرة هي التي تعد بالواحد فنكون قد أخذنا في حد الكثرة الوحدة ونكون أيضا أخذنا في حدها العدد والتقدير وذلك إنما يفهم ب الكثرة أيضا
فما أغنى علينا أن نقول في هذا الباب شيئا يعتد به لكنه يشبه أن تكون الكثرة أيضا أعرف عند تخيلنا ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التي يتصورها بديا فذكر الكثرة نتخيلها أولا والوحدة نعقلها من غير مبدأ لتصورها ثم إن كان ولابد فخيالي ثم تعريفنا الكثرة ب الوحدة تعريفا عقليا وهنالك نأخذ الوحدة متصورة بذاتها ومن أوائل التصور يكون تعريفنا الوحدة ب الكثرة تنبيها يستعمل فيه المذهب الخيالي النومي إلى معقول عندنا لا يتصور حاضرا في الذهن
فاذا قالوا إن الوحدة هي الشيء الذي ليست فيه كثرة دلوا على أن المراد بهذه اللفظة الشيء المعقول عندنا بديا الذي يقابل هذا الآخر وليس هو فينبه عليه بسلب هذا عنه
والعجب ممن يحدد العدد ويقول إن العدد كثرة مؤلفة من وحدة أو آحاد والكثرة نفس العدد ليس كالجنس ل العدد وحقيقة الكثرة أنها مؤلفة من وحدات فقولهم إن الكثرة مؤلفة من وحدات كقولهم إن الكثرة كثرة فان الكثرة ليس إلا اسما ل المؤلف من الوحدات

فان قال قائل إن الكثرة قد تؤلف من أشياء غير الوحدات مثل الناس والدواب فنقول إنه هذه كما أن الأشياء ليست كثرات بل أشياء موضوعة ل الكثرة وكما أن تلك الأشياء وحدان لا وحدات فكذلك هي كثيرة لا كثرة والذين يحسبون أنهم اذا قالوا إن العدد كمية منفصلة ذات ترتيب فقد تخلصوا من هذا فما تخلصوا فان الكمية تحوج تصورها للنفس إلى أن تعرف ب الجزء أ أو القسمة أو المساوة أما الجزء والقسمة فانما يمكن تصورهما ب الكثرة وأما المساوة فان الكمية أعرف منها عند العقل الصريح لأن المساواة من الأعراض الخاصة ب الكمية التي يجب أن توخذ في حدها الكمية فيقال إن المساوة هي اتحاد في الكمية والترتيب الذي أخذ في حد العدد أيضا هو ما لا يفهم إلا بعد فهم العدد
فيجب أن يعلم أن هذه كلها تنبيهات مثل الشبيه بالأمثلة والأسماء المترادفة فان هذه المعاني متصورة كلها أو بعضها لذواتها وإنما يدل عليها بهذه الأشياء لينبه عليها وتميز فقط
قلت فهذا الكلام الذي ذكره ابن سينا هنا قد تلقوه عنه بالقبول كما يذكر مثل ذلك أبو حامد والرازي والسهروردي وغيرهم
فيقال هذا الذي ذكروه في حدود هذه الأمور هو موجود في سائر ما يرومون بيانه بحدودهم عند التدبر والتأمل لكن منها ما هو بين لكل أحد كالأمور العامة ومنها ما هو بين لبعض الناس كما يعرف أهل الصناعات والمقالات أمورا لا يعرفها غيرهم فحدودها بالنسبة إلى هؤلاء كحدود تلك الأمور التي يعم علمها بالنسبة إلى العموم

وأما الأمور التي تخفى فمجرد الحدود لا تفيد تعريف حقيقتها بعينها وإنما تفيد تمييزها ونوعا من التعريف الشبهي
وهذا يتبين بتقرير قاعدة في ذلك فنقول
التحقيق السديد في مسألة التحديد
المقول في جواب ما هو المطلوب تعريفه بالحد هوجواب لقول سائل قال ما كذا كما يقول ما الخمر أو ما الانسان أو ما الثلج
فهذا الاسم المستفهم عنه المذكور في السؤال إما أن يكون السائل غير عالم بمسماه وإما أن يكون عالما بمسماه
مطلوب السائل المتصور للمعنى الجاهل بدلالة اللفظ عليه
فالأول كالسائل عن اسم تحديد في غير لغته أو عن اسم غريب في لغته أو عن اسم معروف في لغته لكن مقصوده تحديد مسماه مثل العربي إذا سأل عن معاني الأسماء الأعجمية إذا سأل عن معاني الأسماء العربية وبعض الأعاجم إذا سأل بعضا عن معاني الأسماء التي تكون في لغة المسئول دون السائل وهذا هو الترجمة
الترجمة وأحكامها
فالمترجم لا بد أن يعرف اللغتين التي يترجمها والتي يترجم بها وإذا عرف أن المعنى الذي يقصد بهذا الاسم في هذه اللغة هو المعنى الذي يقصد به في اللغة الأخرى ترجمه كما يترجم اسم الخبز والماء والأكل والشرب والسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر ونحو ذلك من أسماء الأعيان والأجناس وما تضمنته من الأشخاص سواء كانت مسمياتها أعيانا أو معاني
والترجمة تكون ل المفردات ول الكلام المؤلف التام

وإن كان كثير من الترجمة لا يأتي بحقيقة المعنى التي في تلك اللغة بل بما يقاربه لأن تلك المعاني قد لا تكون لها في اللغة الأخرى ألفاظ تطابقها على الحقيقة لا سيما لغة العرب فان ترجمتها في الغالب تقريب
ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما بل وتفسير القرآن وغيره من سائر أنواع الكلام وهو في أول درجاته من هذا الباب فان المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء أو بذلك الكلام
وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة بل في قراءة جميع الكتب بل في جميع أنواع المخاطبات بتلك فان من قرأ كتب النحو والطب أو غيرهما لا بد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف وكذلك من قرأكتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك
معرفة الحدود الشرعية من الدين
وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو كتاب الله وسنة رسوله ص - ثم قد تكون معرفتها فرض عين وقد تكون فرض كفاية ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله تعالى الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر الا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله
والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريبا بالنسبة إلى المستمع كلفظ ضيزى وقسورة وعسعس وأمثال ذلك
وقد يكون مشهورا لكن لا يعلم حده بل يعلم معناه على سبيل الاجمال

كاسم الصلوة والزكوة والصيام والحج فان هذه وإن كان جمهور المخاطبين يعلمون معناها على سبيل الاجمال فلا يعلمون مسماها على سبيل التحديد الجامع المانع إلا من جهة الرسول ص - وهي التي يقال لها الأسماء الشرعية
كما إذا قيل صلوة الجنازة وسجدة السهو وسجود الشكر والطواف هل تدخل في مسمى الصلوة في قوله ص - مفتاح الصلوة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم فقيل هل كل ذلك صلوة تجب فيها الطهارة وهل لا تجب الطهارة لمثل ذلك فهل تجب لما تحريمه التكبير وتحليله التسليم وهي كصلوة الجنازة وسجد السهو دون الطواف سجود التلاوة
وكذلك اسم الخمر والربوا والميسر ونحو ذلك يعلم أشياء من مسمياتها ومنها ما لا يعلم إلا ببيان آخر فانه قد يكون الشيء داخلا في اسم الربوا والميسر والانسان لا يعلم ذلك إلا بدليل يدل على ذلك شرعي أو غيره
ومن هذا قول النبي ص - لما سئل عن حد الغيبة فقال ذكرك أخاك بما يكره فقال له أرأيت إن كان في أخي ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته
وكذلك قوله لما قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر

فقال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذلك فقال لا الكبر بطر الحق وغمط الناس
وكذلك لما قيل له ما الإسلام وما الإيمان وما الإحسان ولما سئل عن أشياء أهي من الخمر وغير ذلك
بالجملة فالحاجة إلى معرفة هذه الحدود ماسة لكل أمة وفي كل لغة فان معرفتها من ضرورة التخاطب الذي هو النطق الذي لا بد منه لبني آدم
أقسام الحدود اللفظية
وهذا الذي يقال له حد بحسب الاسم والمقول في جواب ما هو من هذا النوع وقد يكون اسما مرادفا وقد يكون مكافيا غير مرادف بحيث يدل على الذات مع صفة أخرى كما إذا قال ما الصراط المستقيم فقال هو الاسلام واتباع القرآن أو طاعة الله ورسوله والعلم النافع والعمل الصالح وما الصارم فقيل هو المهند وما أشبه ذلك
وقد يكون الجواب ب المثال كما إذا سئل عن لفظ الخبز ورأى

رغيفا فقال هذا فان معرفة الشخص يعرف منه النوع
وإذا سئل عن المقتصد والسابق والظالم فقال المقتصد الذي يصلي الفريضة في وقتها ولا يزيد والظالم الذي يؤخرها عن الوقت والسابق الذي يصليها في أول الوقت ويزيد عليها النوافل الراتبة ونحو ذلك من التفسير الذي هو تمثيل يفيد تعريف المسمى ب المثال لا خطاره بالبال لا لأن السائل لم يكن يعرف المصلي في أول الوقت وفي أثنائه والمؤخر عن الوقت لكن لم يكن يعرف أن هذه الثلاثة أمثلة الظالم والمقتصد والسابق فاذا عرف ذلك قاس به ما يماثله من المقتصر على الواجب والزائد عليه والناقص عنه
ثم إن معرفة حدود هذه الأسماء في الغالب تحصل بغير سؤال لمن يباشر المتخاطبين بتلك اللغة أو يقرأ كتبهم فان معرفة معاني اللغات تقع كذلك
وهذه الحدود قد يظن بعض الناس أنها حدود لغوية يكفي في معرفتها العلم باللغة والكتب المصنفة في اللغة وكتب الترجمة وليس كذلك على الاطلاق
بل الأسماء المذكورة في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف ألف منها ما يعرف حده ب اللغة كالشمس والقمر والكوكب ونحو ذلك ب ومنها مالا يعرف إلا ب الشرع كأسماء الواجبات الشرعية والمحرمات الشرعية كالصلوة والحج والربوا والميسر ج ومنها ما يعرف ب العرف العادي وهو عرف الخطاب باللفظ كاسم النكاح والبيع والقبض وغير ذلك
هذا في معرفة حدود ها التي هي مسمياتها على العموم

الاجتهاد و التأويل
وأما معرفة دخول الأعيان الموجودة في هذه الأسماء والألفاظ فهذا قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا يحتاج إلى اجتهاد وهذا هو التأويل في لفظ الشارع الذي يتفاضل الفقهاء وغيرهم فيه فانهم قد اشتركوا في حفظ الألفاظ الشرعية بما فيها من الأسماء أو حفظ كلام الفقهاء أو النحاة أو الأطباء وغيرهم ثم يتفاضلون بأن يسبق أحدهم إلى أن يعرف أن هذا المعنى الموجود هو المراد أو مراد هذا الاسم كما يسبق الفقيه الفاضل إلى حادثة فينزل عليها كلام الشارع أو كلام الفقهاء وكذلك الطبيب يسبق إلى مرض لشخص معين فينزل عليه كلام الأطباء إذ الكتب والكلام المنقول عن الأنبياء والعلماء إنما هو مطلق بذكر الأشياء لصفاتها وعلاماتها فلا بد يعرف أن هذا المعين هو ذاك
وإذا كان خفيا فقد يسميه بعض الناس تحقيق المناط فان الشارع قد ناط الحكم بوصف كما ناط قبول الشهادة بكونه ذا عدل وكما ناط العشرة المأمور بها بكونها بالمعروف وكما ناط النفقة الواجبة بالمعروف وكما ناط الاستقبال في الصلوة بالتوجه شطر المسجد الحرام يبقي النظر في هذا المعين هل هو شطر المسجد الحرام وهل هذا الشخص ذو عدل وهل هذه النفقة نفقة بالمعروف وأمثال ذلك لابد فيه من نظر خاص لا يعلم ذلك بمجرد الاسم
وقد يكون الاجتهاد في دخول بعض الأنواع في مسمى ذلك الاسم كدخول الأشربة المسكرة من غير العنب والنخل في مسمى الخمر ودخول الشطرنج والنرد ونحوهما في مسمى الميسر ودخول السبق بغير محلل في سباق الخيل ورمى النشاب في ذلك ودخول الرمل ونحوه في الصعيد

الذي في قوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا ودخول من خرج منه منى فاسد في قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا ودخول الساعد في قوله فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه ودخول البياض الذي بين العذار والأذن في قوله فاغسلوا وجوهكم ودخول الماء المتغير بالطهارات أو ما أوقعت به نحاسة ولم تغيره في قوله فلم تجدوا ماء ودخول المائع الذي لم يغيره ما مات فيه من الطيبات أو الخبائث ودخول سارق الأموال الرطبة في قوله السارق والسارقة ودخول النباش في ذلك ودخول الحلفة بما يلزم لله في مسمى الأيمان ودخول بنات البنات والجدات في قوله حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم
ومثل هذا الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين ممن يثبت القياس ومن ينفيه فان بعض الجهال يظن أن من نفى القياس يكفيه في معرفة مراد الشارع مجرد العلم ب اللغة وهذا غلط عظيم جدا
ولهذا قال ابن عباس التفسير على أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله والتفسير الذي يعلمه العلماء فيتضمن الأنواع التي لا تعلم بمجرد اللغة كالأسماء الشرعية ويتضمن أعيان المسميات وأنواعها التي يفتقر دخولها في المسمى إلى اجتهاد العلماء
فصل
ثم إن هذا الاسم المسئول عنه الذي لا يعلم السائل معناه إذا أجيب عنه بما يقال

في جواب ما هو ينقسم حال السائل فيه إلى نوعين
أحدهما أن يكون قد تصور المعنى بغير ذلك اللفظ ولكن لم يعرف أنه يعنى بذلك اللفظ فهذا لا يفتقر إلا إلى ترجمة اللفظ كالمعاني المشهورة عند الناس من الاعيان والصفات والافعال كالخبز والماء والاكل والشرب والبياض والسواد والطول والقصر والحركة والسكون ونحو ذلك
مطلوب السائل الغير المتصور للمعنى الجاهل باسمه
والثاني أن يكون غير متصور المعنى كما أنه غير عالم بدلالة اللفظ عليه وهذا يحتاج إلى شيئين إلى ترجمة اللفظ وإلى تصور المعنى الى حد الاسم والمسمى
وهذا مثل من يسأل عن لفظ الثلج وهو لم يره قط أو يسأل عن اسم نوع من الفاكهة او الحيوان الذي لم يره أو لم يكن في بلاده أو يسأل عن اسم المسجد والصلوة والحج وكان حديث عهد بالاسلام لم يتصور هذه المعاني او يسأل عن اسم نوع من الاطعمة والاشربة التي لا يعرفها أو اسم نوع من أنواع الثياب والمساكن التي لا يعرفها
وبالجملة فكل ما لا يعرفه الشخص من الاعيان والافعال والصور إذا سمع اسمه إما في كلام الشارع أو كلام العلماء أو كلام بعض الناس فانه إذا كان ذلك المعنى هو لم يتصوره ولا له في لغته لفظ فهنا لا يمكن تعريفه إياه بمجرد ترجمة اللفظ بل الطريق في تعريفه إياه إما التعيين وإما الصفة
وأما التعيين فانه بحضور الشئ المسمى ليراه إن كان مما يرى أو يذوقه او يلمسه ونحو ذلك بحيث يعرف المسمى كما عرفه المتكلمون بذلك الاسم
فاذا رأى الثلج وذاقه ورأى الفاكهة أو الطبيخ أو الحلوى وذاقه أو رأى

الحيوان الذي لم يألفه أو رأى العبادات أو الاعمال التي لم يكن يعرفها فحيئذ يتصورها ويتصور اسمها كما تصورها أهل اللغة وهم على قسمين منهم من علم ذلك بالمشاهدة ولم يذق حقيقته ومنهم من يكون قد ذاقه
وأما الطريق الثاني وهو أن يوصف له ذلك والوصف قد يقوم مقام العيان كما قال النبي ص - لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها
ولهذا جاز عند جمهور العلماء بيع الاعيان الغائبة ب الصفة
هذا مع ان الموصوف شخص واما وصف الانواع فاسهل
ولهذا التعريف ب الوصف هو التعريف ب الحد فانه لا بد ان يذكر من الصفات ما يميز الموصوف والمحدود من غيره بحيث يجمع أفراده وأجزاءه ويمنع أن يدخل فيه ما ليس منه وهي في الحقيقة تعريف ب القياس والتمثيل إذ الشيء لا يتصوره إلا بنفسه أو بنظيرة
وبيان ذلك أنه يذكر من الصفات المشتركة بينه وبين غيره ما يكون مميزا لنوعه فكل صفة من تلك الصفات إنما تدل على القدر المشترك بينه وبين غيره من النوع مثلا والقدر المشترك إنما يفيد المعرفة للعين ب المثال لا يفيد معرفة العين المختصة إذ الدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز لكن يكون مجموع الصفات مميزا له تمييز تمثيل لا تمييز تعيين فان غير نوعه لا تجمع له تلك الصفات وهو نفسه لا يميز إلا بما يخصه

فالحد يفيد الدلالة عليه لا تعريف عينه بمنزلة من يقال له فلان في هذه الدار يدل عليه قبل أن يراه وهو قد يصور المشترك بينه وبين غيره بدون هذه الدلالة
ومن تدبر هذا تبين له أن الحدود المصورة للمحدود لمن لا يعرفه إنما هي مؤلفة من الصفات المشتركة لا يدخل فيها وصف مختص به إذ المختص وإن كان لا بد منه في الحد المميز فهو لم يتصوره وأنها لا تفيد تعريف عينه فضلا عن تصوير ما يتنبه له وإنما يفيد تعريفه بطريق التمثيل المقارب إذ لو عرف المثل المطابق لعرف حقيقة
ثم قد يكون المخصص صفة واحدة وقد يكون الاختصاص بمجموع الصفتين
ولو عرف المستمع الوصف الذي يخصه كان قد تصورة ب عينه فيكون هو من القسم الاول الذي يترجم له اللفظ فقط
مثال ذلك أنه إذا سمع لفظ الخمر وهو لا يعرف اللفظ ولا مسماه فيقال له هو الشراب المسكر ولفظ الشراب جنس ل الخمر يدخل فيه الخمر وغيرها من الاشربة وهذا واضح وكذلك لفظ المسكر الذي يظن أنه فصل مختص ب الخمر وهو في الحقيقة جنس فيه يشترك الشراب وغيره فان لفظ المسكر ومعناه لا يختص ب الشراب بل قد يكون ب طعام وقد يحصل السكر بغير طعام وشراب فحينئذ فلا فرق بين ان يقول هو المسكر من الاشربة أو ما اجتمع فيه الشرب والسكر أو يقول الشراب المسكر إنما هو كما يقول ثوب خز وباب حديد ورجل طويل أو قصير فان الرجل أعم من الطويل والطويل اعم من الرجل ولكن باجتماع هذين يتميز
وكذلك قولهم في حد الانسان هو الحيوان الناطق فلما نقضوا عليهم ب الملك زاد المتأخرون المائت وهي زيادة فاسدة فان كونه مائتا ليس بوصف ذاتى له إذ يمكن تصور الانسان مع عدم خطور موته بالبال بل ولا

هو صفة لازمة فضلا عن ان تكون ذاتية فان الانسان في الاخرة هو إنسان كامل وهو حي أبدا
وهب ان من الناس من يشك في ذلك او يكذب به أليس هو مما يمكن تصوره في العقل فاذا قدر الانسان على الحال الذي اخبرت به الرسل عليهم السلام اليس هو إنسانا كاملا وهو غير مائت
ثم يقال ايضا والملك يموت عند كثير من المسلمين واليهود والنصارى أو أكثرهم وهب انه لا يموت كما قالته طائفة من اهل الملل وغيرهم كما يقوله من يقوله ولكن ليس ذلك معلوما للمخاطب بالحد لا سيما والنفس الناطقة من جنس ما يسمونه الملائكة وهي العقول والنفوس الفلكية عندهم فظهر ضعف ما يذكره الفارابي وابو حامد وغيرهما من هذا الاحتراز
ولكن يقال اسم الحيوان عندهم مختص ب النامى المغتذى وهذا يخرج الملك ف الحيوان يخرج الملك وحينئذ ف الناطق اعم من الانسان إذ قد يكون إنسانا وغير إنسان كما أن الحيوان أعم منه
وهب أنا نقبل فصلهم ب المائت فنقول المائت ايضا ليس مختصا ب الانسان بل هو من الصفات التي يشترك فيها الحيوان
فقد تبين ان كل صفة من هذه الصفات الحيوان والناطق والمائت ليس منها واحد مختص بنوع الانسان فبطل قولهم إن الفصل لا يكون إلا بالصفات المختصة ب النوع فضلا عن كونها ذاتية وإنما يحصل التمييز بذكر المجموع إما الوصفين وإما الثلاثة
هذا إذا جعل الفصل مصورا للمحدود في نفس من لم يتصوره وأما إذا جعل الفصل مميزا له عن غيره فلا ريب أنه يكون بالصفات المختصة

والمقصود انه من تصور المحدود بنفسه فلا بد ان يتصور ما يختصه ويميزه عن غيره وهذا لا يحتاج في تصوره الى حد ولكن يترجم له الاسم الدال عليه ويميز له المسمى عن غيره لكن الحد يكون منبها له على الحقيقة كما ينبهه الاسم إذا كان عارفا بمسماه
وأما من لم يكن متصورا له فلا يمكن ان يذكر له صفة واحدة تختص بالمحدود فلا يمكن تعريفه إياه لا ب فصل ولا خاصة سواء ذكر الجنس والعرض العام او لم يذكر لان الصفة التي تختص المحدود لا تتصور بدون تصور المحدود إذ لا وجود لها بدونه والعقل إنما يجرد الكليات إذا تصور بعض جزئياتها فمن لم يتصور الشيء الموجود كيف يتصور جنسه ونوعه
ولكن يتصور ب التثميل والتشبيه ويتصور القدر المشترك بين تلك الصفة الخاصة وبين نظيرها من الصفات والقدر المشترك ليس هو فصلا ولا خاصة ولكن قد ينتظم من قدر مشترك وقدر مشترك ما يخص المحدود كما في قولك شراب مسكر
وعلى هذا فاذا قيل في الفرس إنه حيوان صاهل وفي الحمار إنه حيوان ناهق وفي البعير إنه حيوان راغ وفي الثور إنه حيوان خائر وفي الشاة إنها حيوان ثاغ وفي الظبي إنه حيوان باغم وامثال ذلك فهذه الاصوات مختصة بهذه الانواع لكن لا تفيد تعريف هذه الحيوانات لمن لم يكن عارفا بها فمن لم يعرف الفرس لا يعرف الصهيل ومن لم يعرف الحمار لا يعرف النهيق أعنى لا يعرف معناه وإن سمع اللفظ فاذا أريد تعريف النهيق قيل له هو صوت الحمار فيلزم الدور إذ يكون قد عرف الحمار ب النهيق والنهيق ب الحمار
وهكذا سائر الخواص المميزة للمحدود لا يعرف بها المحدود لمن لم يكن عرفه
فتبين ان تعريف الشئ إنما هو بتعريف عينه أو بذكر ما يشبهه فمن عرف عين

الشئ لا يقتصر في معرفته الى حد ومن لم يعرفه فانما يعرف به إذا عرف ما يشبهه ولو من بعض الوجوه فيؤلف له من الصفات المشتبهة المشتركة بينه وبين غيره ما يخص المعرف
ومن تدبر هذا وجد حقيقته وعلم معرفة الخلق بما أخبروا به من الغيب من الملائكة واليوم الاخر وما في الجنة والنار من انواع النعيم والعذاب بل عرف أيضا ما يدخل من ذلك في معرفتهم بالله تعالى وصفاته ولم قال كثير من السلف المتشابه هو الوعد والوعيد والمحكم هو الامر والنهى ولم قيل القرآن يعمل ب محكمة ويؤمن ب متشابهه وعلم أن تأويل المتشابه الذي هو العلم بكيفية ما أخبرنا به لا يعلمه إلا الله وإن كان العلم بتأويله الذي هو تفسيره ومعناه المراد به يعلمه الراسخون في العلم كما قد بسطناه في غير هذا الموضع
هذا كله إذا كان السائل القائل ما هو غير عالم ب المسمى
واما إن كان عالما ب المسمى ودلالة الاسم عليه فلا يحتاج الى التمييز بين المسمى وغيره ولا الى تعريفه دلالة الاسم عليه فيكون مطلوبه قدرا زائدا على التمييز بينه وبين غيره وهذا هو الذي يجعلونه مطلوبا للسائل عن المحدود وجوابه هو عندهم المقول في جواب ما هو
ومعلوم أن مطلوب هذا قد يكون ذكر خصائص له باطنة لم يطلع عليها وقد يكون مطلوبه بيان علته الفاعلية أو الغائية وقد يكون مطلوبه معرفة ما تركب منه شئ ما وقد يكون مطلوبه معرفة حقيقته التي لا يعلمها المسئول او علمها ولا عبارة تدل السائل عليها كالسائل عن حقيقة النفس وأمثال ذلك

وجواب مثل هذا لا يجب ان يحصل بذكر صفة مشتركة مع الصفات المختصة بل قد لا يحصل إلا بذكر جميع المشتركات وقد يحصل بذكر بعض المختصات وقد يحصل بغير ذلك بحسب غرض السائل ومقصوده
الوجه الخامس
التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة
الخامس إن التصورات المفردة يمتنع ان تكون مطلوبة فيمتنع ان تطلب بالحد وذلك لأن الذهن إما أن يكون شاعرا بها وإما أن لا يكون شاعرا بها فان كان شاعرا بها امتنع طلب الشعور وحصوله لان تحصيل الحاصل ممتنع وإنما قد يطلب دوام الشعور وتكرره او قوته وإن لم يكن شاعرا بها امتنع من النفس طلب ما لا تشعر به فان الطلب والقصد مسبوق بالشعور
فان قيل فالانسان يطلب تصور الملك والجن والروح واشياء كثيرة وهو لا يشعر بها قيل هو قد سمع هذه الاسماء فهو يطلب تصور مسماها كما يطلب من سمع الفاظا لا يفهم معانيها تصور معانيها سواء كانت المعاني متصورة له قبل ذلك او لم تكن وهو اذا تصور مسمى هذه الاسماء فلا بد ان يعلم انها مسماة بهذا الاسم اذ لو تصور حقيقة ولم يكن ذلك الاسم فيها لم يكن تصور مطلوبه فهنا المتصور ذات وانها مسماة بكذا من جنس ما يرى الثلج من لم يكن يعرفه فيراه ويعلم ان اسمه الثلج وهذا ليس تصورا للمعنى فقط بل للمعنى ولا سمه وهذا لا ريب ان يكون مطلوبا ولكن هذا لا يوجب ان يكون المعنى المفرد مطلوبا فان المطلوب هنا تصديق وفيه امر لغوي
وايضا فان المطلوب هنا لا يحصل بمجرد الحد بل لا بد من تعريف المحدود بالاشارة اليه او غير ذلك مما لا يكتفى فيه بمجرد اللفظ

فان قيل جعلتم امتناع الطلب لازما 54 للنقيضين والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان واذا عدم اللازم عدم الملزوم فاذا كان امتناع الطلب وهو اللازم معدوما لزم عدم النقيضين وعدم النقيضين محال قيل هذا الامتناع لازم على تقدير هذا النقيض او تقدير هذا النقيض فأيهما كان ثابتا في نفس الامر كان الامتناع لازما له يلزم به في نفس الامر وليس في هذا جمع بين النقيضين ولا رفع للنقيضين وهذا يقوى المقصود فان هذا الامتناع اذا لزم من انتفائه المحال لم يكن منتفيا بل يكون هذا الامتناع ثابتا وهو المطلوب واذا كان عدم هذا الامتناع مستلزما للنقيضين كان محالا فيكون نقيضه وهو ثبوت هذا الامتناع حقا فيكون امتناع الطلب للتصورات المفردة ثابتا وهو المراد
واذا لم تكن التصورات المفردة مطلوبة فاما ان تكون حاصلة للانسان فلا تحصل بالحد فلا يفيد الحد التصوير واما ان تكون حاصلة فمجرد حصول الحد لا يوجب ذكر الاسماء تصور المسميات لمن لا يعرفها ومتى كان له شعور بها لم يحتج الى الحد في ذلك الشعور الا من جنس ما يحتاج الى الاسم
والمقصود هو التسوية بين فائدة الحدود وفائدة الاسم لكن الحد اذا تعددت فيه الالفاظ كان كتعداد الاسماء سواء كانت مشتقة او غير مشتقة
الوجه السادس
التفريق بين الذاتي والعرضي باطل
السادس ان يقال المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد التام وهو الحقيقي وهو المؤلف من الجنس والفصل من الذاتيات المشتركة والمميزة دون العرضيات العرضيات التي هي العرض العام والخاصة والمثال المشهور

عندهم ان الذاتي المميز الانسان الذي هو الفصل هو الناطق والخاصة هي الضاحك
فنقول مبنى هذا الكلام على الفرق بين الذاتي والعرضي
وهم يقولون المحمول الذاتي داخل في حقيقة الموضوع أي الوصف الذاتي داخل في حقيقة الموصوف بخلاف المحمول العرضي فانه خارج عن حقيقة
ويقولون الذاتي هو الذي تتوقف الحقيقة عليه بخلاف العرضي ويقسمون العرضي الى لازم وعارض واللازم الى لازم لوجود الماهية دون حقيقتها كالظل للفرس والموت للحيوان والى لازم للماهية كالزوجية والفردية للا ربعة والثلاثة
والفرق بين لازم الماهيه ولازم وجودها ان لازم وجودها يمكن ان تعقل الماهيه موجودة دونه بخلاف لازم الماهية لا يمكن ان يعقل موجودا دونه
وجعلوا له خاصة ثانيه وهو ان الذاتي ما كان معلولا للماهيه بخلاف للازم ثم قالوا من اللوازم ما يكون معلولا للماهيه بغير وسط وقد يقولون ما كان ثابتا لها بواسطة وقالوا ايضا الذاتي ما يكون سابقا للماهية في الذهن والخارج بخلاف اللازم فانه ما يكون تابعا
فذكروا هذه الفروق الثلاثة وطعن محققوهم في كل واحد من هذه الفروق الثلاثة وبينوا انه لا يحصل به الفرق بين الذاتي وغيره كما قد بسطت كلامهم في غير هذا الموضع
وقد يقولون ايضا هو المقوم للماهية الذي يكون متقدما عليها في الوجود وهذه الماهية وهو ان يسبق الذاتي للماهية فانه لا يتأخر عن الماهية في التصور

والفرق الثالث انه لازم لها بواسطة والعرض اللازم لازم لها بوسط والوسط عند ائمتهم كابن سينا وغيره وهو ما يسمونه باللازم في ذلك ولانه معناه الدليل لبعض متأخريهم كالرازي
ثم قد تناقضوا في هذا المقام كما قد بسطته في غير هذا المقام لما حكيت الفاظهم وتناقضهم كما ذكرته من اقوال ابن سينا في الاشارات وغير ذلك من اقوالهم اذ لم نحك هنا نفس الفاظهم وانما القصد التنبيه على جوامع تعرف ما يظهر به بطلان كثير من اقوالهم المنطقية
وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على اصلين فاسدين الفرق بين الماهية ووجودها ثم الفرق بين الذاتي لها واللازم لها
الكلام على الفرق بين الماهية ووجودها
فالاصل الاول قولهم ان الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها وهذا هو قولهم بان حقائق الانواع المطلقة التي هي ماهيات الانواع والاجناس وسائر الكليات موجودة في الاعيان وهو يشبه من بعض الوجوه قول من يقول المعدوم شيء وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وهذا من افسد ما يكون
وانما اصل ضلالهم انهم راوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك فقالوا ولو لم يكن ثابتا لما كان كذلك كما انا نتكلم في حقائق الاشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فنتخيل الغلط ان هذه الحقائق والماهيات امور ثابتة في الخارج
والتحقيق ان ذلك كله امر موجود وثابت في الذهن لا في الخارج عن الذهن والمقدر في الاذهان قد يكون اوسع من الموجود في الاعيان وهو موجود وثابت في الذهن وليس هو في نفس الامر لا موجودا ولا ثابتا فالتفريق بين الوجود

والثبوت مع دعوى ان كليهما في الخارج غلط عظيم وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى ان كليهما في الخارج
وانما نشأت الشبهة من جهة انه غلب على ان ما يوجد في الذهن يسمى ماهية وما يوجد في الخارج يسمى وجودا لان الماهية مأخوذة من قولهم ما هو كسائر الاسماء المأخوذة من الجمل الاستفهامية كما يقولون الكيفية والاينية ويقال ماهية ومايية وهي أسماء مولدة وهي المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل
فلما كانت الماهية منسوبة الى الاستفهام ب ما هو والمستفهم إنما يطلب تصوير الشئ في نفسه كان الجواب عنها هو المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل وهو الثبوت الذهني سواء كان ذلك المقول موجودا في الخارج او لم يكن فصار بحكم الاصطلاح اكثر ما يطلق الماهية على ما في الذهن ويطلق الوجود على ما في الخارج فهذا امر لفظي اصطلاحي
وإذا قيد وقيل الوجود الذهبي كان هو الماهية التي في الذهن وإذا قيل ماهية الشئ في الخارج كان هو عين وجوده الذي في الخارج
فوجود الشئ في الخارج عين ماهيته في الخارج كما اتفق على ذلك أئمة النظار المنتسبين الى أهل السنة والجماعة وسائر أهل الاثبات من المتكلمة الصفاتية وغيرهم كأبى محمد بن كلاب وأبى الحسن الاشعري وابى عبدالله بن كرام وأتباعهم دع أئمة أهل السنة والجماعة من السلف والائمة الكبار
واتفقوا على ان المعدوم ليس له في الخارج ذات قبل وجوده وأما في الذهن فنفس ماهيته التي في الذهن هي ايضا وجوده الذي في الذهن وإذا أريد ب الماهية ما في الذهن وب الوجود ما في الخارج كانت هذه الماهية غير

الوجود لكن ذلك لا يقتضى ان يكون وجود الماهيات التي في الخارج زائدا عليها في الخارج وأن يكون للماهيات ثبوت في الخارج غير وجودها في الخارج
ومما يوضح الكلام في الاصل الاول ان المتفلسفة أتباع أرسطو كابن سينا ودونه لا يقولون ان كل معدوم من الاشخاص وغيرها هو ثابت في الخارج
وإنما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة وهم أحسن حالا من المتفلسفة فان المتفلسفة على قولين
وأما قد ماؤهم كفيثاغورس وأتباعه وأفلاطون وأتباعه فقد كانوا في ذلك على ضلال مبين رد عليهم أرسطو وأتباعه كما ذكر ذلك ابن سينا في الشفاء وغيره
كان اصحاب فيثاغورس يظنون ان الاعداد والمقادير امور موجودة في الخارج غير المعدودات والمقدرات
بثم اصحاب أفلاطون تفطنوا لفساد هذا وظنوا ان الحقائق النوعية كحقيقة الانسان والفرس وامثال ذلك ثابتة في الخارج غير الاعيان الموجودة في الخارج وأنها ازلية لا تقبل الاستحالة وهذه التي تسمى المثل الافلاطونية والمثل المعلقة
ولم يقتصروا على ذلك بل أثبتوا ذلك ايضا في المادة والمدة والمكان فأثبتوا مادة مجردة عن الصور ثابتة في الخارج وهي الهيولى الاولية التي غلطهم فيها جمهور العقلاء من إخوانهم وغير إخوانهم وأثبتوا مدة وجودية خارجة عن الاجسام وصفاتها وأثبتوا خلاء وجوديا خارجا من الاجسام وصفاتها وتفطن ارسطو وذووه ان هذه كلها امور مقدرة في الاذهان لا ثابتة في الاعيان كالعدد مع المعدود ثم زعم أرسطو وذووه ان المادة موجوده في الخارج غير الصور المشهودة وأن الحقائق النوعية ثابتة في الخارج غير الاشخاص

المعينة وهذا أيضا باطل كما بسط في غير هذا الموضع وبين ان قول من يقول إن الجسم مركب من الهيولى والصورة باطل كما ان قول من يقول إنه مركب من الجواهر المفردة باطل وأن اكثر فرق اهل الكلام من المسلمين وغيرهم كالكلابية والنجارية والضرارية والهشامية وكثير من الكرامية لا يقولون بهذا ولا بهذا كما عليه جماهير أهل الفقه وغيرهم
والكلام على من فرق بين الوجود والماهية مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أن ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الماهية ووجود الماهية في الخارج هو مبنى على هذا الأصل الفاسد
وحقيقة الفرق الصحيح أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء والوجود هو نفس ما يكون في الخارج منه وهذا فرق صحيح فان الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيه وأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهذا باطل
ومعلوم أن لفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجود في الخارج ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج فمتى أريد بهما ما في النفس ف الماهية هي الوجود وإن أريد بهما ما في الخارج ف الماهية هي الوجود أيضا وأما إذا بأحدهما ما في النفس وبالأخر ما في الوجود الخارج ف الماهية غير الوجود
وكلامهم إنما يستلزم ثبوت ماهية في الذهن لا في الوجود الخارجي وهذا لا نزاع فيه ولا فائدة فيه إذ هذا خبر عن مجرد وضع واختراع إذ يقدر كل إنسان أن يخترع ماهية في نفسه غير ما اخترعه الأخر وإذا ادعى هذا أن الماهية هي الحيوان الناطق أمكن الأخر أن يقول بل هي الحيوان الضاحك وإذا قال هذا إن الحيوانية ذاتية ل الانسان بخلاف العددية ل الزوج والفرد

أمكن الآخر أن يعارضه ويقول بل العدد ذاتي ل الزوج والفرد واللون ذاتي ل السواد بخلاف الحيوان فليس ذاتيا ل الانسان إذ مضمون هذا كله أن يأتي شخص إلى صفات متماثلة في الخارج فيدعى أن الماهية التي يخترعها في نفسه هي هذه الصفة دون هذه فأنه إن جعل هذا مطابقا للأمر في نفسه وهو قولهم كان مبطلا وإن قال هذا اصطلاح اصطلحته قوبل باصطلاح آخر وكان هذا مما لا فائدة فيه
فان قيل فهم يردون بذلك ما ذكره ابن سينا وغيره من أن كون العدد زوجا وفردا ليس وصفا بينا لكل عدد بل تارة يعلم ثبوته ل العدد بلا وسط كما يعلم أن الاثنين نصف الأربعة وتارة لا يعلم ثبوته إلا بوسط به يعلم أن هذا نصف هذا كما يعلم أن ألفا وثلاثمائة واثنين وسبعين لها نصف بخلاف الحيوانية ل الحيوان فانها بينة بلا وسط إذ كل حيوان أنه حيوان
قيل هذا باطل من وجهين
أحدهما إن هذا أمر يرجع إلى علم الانسان بأن هذه الصفة ثابتة للموصوف بلا وسط وإلى أن علمه بأن هذه الصفة ثابتة لا بد له من وسط وليس هذا فرقا يعود إلى الموجودات في نفسها فان كون هذا العدد زوجا أو فردا هو مثل كون هذا العدد زوجا أو فردا سواء علم الانسان بذلك أو لم يعلم وإذا كان علمه بأحدهما يحتاج إلى دليل دون الآخر لم يوجب ذلك الفرق بينهما في نفس الأمر ولكن هذا مما يبين حقيقة قولهم الذي بيناه في غير هذا الموضع وهو أن الماهية عندهم عبارة عما دل عليه اللفظ ب المطابقة وجزؤها الداخل فيها ما دل عليه اللفظ ب التضمن واللازم الخارج عنها ما دل عليه ب الالتزام فترجع الماهية وجزؤها الداخل واللازم الخارج إلى مدلول المطابقة والتضمن والالتزام وهذا أمر يتبع قصد المتكلم وغايته وما دل عليه بلفظه لا يتبع الحقائق الموجودة في نفسها فان تصور المتكلم قد يكون مطابقا وقد يكون

غير مطابق
وهم هنا فرقوا بين الصفات المتماثلة فجعلوا بعضها ذاتيا داخلا في الحقيقة وبعضها عرضيا خارجا لازما للحقيقة
الوجه الثاني أن يقال علم الناس بلزوم الصفات للموصوف وعدم لزومها أمر يتفاوت فيه الناس فقد يشك بعض الناس في بعض الأشياء أنه حيوان أو أنه لون حتى يعلم ذلك كما يشك في بعض الأعداد أنه زوج حتى يعلم ذلك بالوسط فلا فرق حينئذ بين ما جعلوه ذاتيا وما جعلوه عرضيا لازما للحقيقة وهو المطلوب
وأما اللازم للماهية والعرض لوجودها فملخصه أنه يمكن أن يفرض في الذهن ماهية خالية عن هذا اللازم بخلاف الآخر كما يفرض في الذهن فرس لاظل لها وفرس غير مخلوقة بل كما يفرض في الذهن زنجي غير أسود وغراب غير أسود وأمثال ذلك
فيقال إذا قدر أن هذا الذي في الذهن هو الحقيقة فان عني به هو حقيقة ما في الذهن فهذا حق وهذا وجود ما في الذهن فلا فرق بين الماهية ووجودها وإن عني به أن هذا هو الماهية التي في الخارج كان بمنزلة أن يقال هذا هو الموجود الذي في الخارج فانه إن جعلت الماهية التي في الخارج مجردة عن هذه الصفات اللازمة أمكن أن يجعل الوجود الذي في الخارج مجردا عن هذه الصفات اللازمة وإن جعل هذا هو نفس الماهية بلوازمها كان هذا بمنزلة أن يقال هذا الوجود بلوازمه
وعلى التقديرين فلا فرق بين الوجود والماهية إلا فرق بين ما في الذهن وما في الخارج وتقدير ماهية في الخارج بدون هذا اللازم كتقدير وجود في الخارج بدون هذا اللازم وهما باطلان

الكلام على التفريق بين الذاتي واللازم
الأصل الثاني وهو المقصود إن ما ذكروه من الفرق بين العرضي اللازم للماهية والذاتي لا حقيقة له فان الزوجية والفردية للعدد الزوج والفرد مثل الناطقية والصاهلية للحيوان الانسان والفرس وكلاهما إذا خطر بالبال منه الموصوف والصفة لم يمكن تقدير الموصوف دون الصفة
وإذا قيل إنه يمكن أن يخطر بالبال الأربعة والثلاثة فيفهم بدون أن يخطر بالبال كون ذلك عددا شفعا أو وترا قيل يمكن أن يخطر بالبال الانسان مع أنه لم يخطر بالبال أنه ناطق ولا أنه حيوان وإذا قيل إن هذا لا يكون تصورا تاما ل الانسان قيل إن هذا لا يكون تصورا تاما ل الأربعة أو الثلاثة
وكذلك العرض الذي هو سواد إذا خطر بالبال أنه سواد ولم يخطر أنه لون أو لم يخطر بالبال أنه عرض أو صفة لغيره أو قائم بغيره ونحو ذلك فأنه لا يمكن أن يقدر في الذهن سواد أو بياض ويقدر أنه ليس ب قائم بغيره بل إذا خطر بالبال معا فلا بد أن يعلم أنه قائم بغيره كما إذا خطر بالبال الجسم الحساس النامي المتحرك بالارادة مع الانسان فلا بد أن يعلم أنه موصوف بذلك بل لزوم ذلك ل اللون في الذهن آكد
فجعل هذه الصفات اللازمة في الذهن لهذه الموصوفات ليست ذاتية لها وهذه ذاتية ل الانسان تحكم محض ولعلة إلى العكس أقرب إن صح التفريق بينهما
لهذا يتناقضون في التمثيل فهم يقولون الحيوانية ذاتية ل الحيوان كالانسان والفرس وغيرهما ف الحيوان هو الذاتي المشترك والناطق هو

الذاتي المميز ويقولون العددية ليست ذاتية مشتركة ل الزوج والفرد ولا الزوجية والفردية ذاتية مميزة ل الزوج والفرد وأما اللونية فتارة يجعلونها ك الحيوانية فيجعلونها ذاتية وتارة يجعلونها ك العددية فيجعلونها غير ذاتية وسسب ذلك دعواهم أن كون العدد المعين زوجا أو فردا قد يخفى فلا يعلم إلا بوسط هو الدليل بخلاف كون الانسان والفرس والجمل والحمار والقرد ونحو ذلك حيوانا فانه بين لكل أحد
ومعلوم أن جميع الصفات اللازمة منها ما هو خاص بالموصوف يصلح أن يكون فصلا ومنها ما هو مشترك بينه وبين غيره وكل منهما في الخارج واحد فكما أن السواد هو اللون وهو العرض القائم بغيره والثلاثة هي العدد وهي الفرد ف الانسان هو الحيوان وهوالناطق والفرس هو الحيوان وهو الصاهل وهكذا سائر المحدودات
وما ذكروه من أن ما جعلوه هو الذاتي يتقدم تصوره في الذهن لتصور الموصوف دون الآخر فباطل من وجهين
أحدهما إن هذا خبر عن وضعهم إذ هم يقدمون هذا في أذهانهم ويؤخرون هذا وهذا تحكم محض فكل من قدم هذا دون هذا فانما قلدهم في ذلك ومعلوم أن الحقائق الخارجية المستغنية عنا لا تكون تابعة لتصوراتنا بل تصوراتنا تابعة لها فليس إذا فرضنا هذا مقدما وهذا مؤخرا يكون هذا في الخارج كذلك وسائر بني آدم الذين لم يقلدوهم في هذا الوضع لا يستحضرون هذا التقديم والتأخير ولو كان هذا فطريا لكانت الفطرة تدركه بدون التقليد المغير لها كما تدرك سائر الأمور الفطرية والذي في الفطرة أن هذه اللوازم كلها لوازم للموصوف وقد تخطر بالبال وقد لاتخطر وكلما خطرت كان الانسان أعلم بالموصوف وإذا لم تخطر كان علمه بصفاته أقل أما أ أن يكون هذا خارجا عن الذات وهذا داخلا في الذات فهذا

تحكم ليس له شاهد لا في الخارج ولا في الفطرة
لاسيما وهم يقولون الذاتي يتقدم على الماهية في الذهن وفي الخارج ويسمونه الجزء المقوم لها ويقولون أجزاء الماهية متقدمة عليها في الذهن وفي الخارج لأن الماهية مركبة منها وكل مركب فانه مسبوق بمفرداته
ومعلوم أن صفات الموصوف قائمة به يمتنع أن تكون مقدمة عليه في الخارج وأما تسمية الصفة جزء فسبب ذلك أنها أجزاء في التصور الذهني وفي اللفظ فانك إذا قلت جسم حساس نام متحرك بالارادة ناطق كان هذا المجموع لفظه ومعناه مركبا من هذه الألفاظ ومعانيها وتلك من أجزاء هذا المركب ولكن هذا تحقيق ما قلناه من أن ما سموه الماهية وجزئها الداخل فيها ولازمها الخارج منها يعود إلى المعاني المتصورة في الذهن التي يدل عليها اللفظ ب المطابقة وجزؤها هو ما دل عليه ب التضمن وخارجها اللازم ما دل عليه ب الالتزام
وهم تارة يقولون الذاتي يسبق الماهية وتارة يقولون لا يتأخر عنها ويجعلون كلا من هذين فرقا وهما متداخلان فان ما يتقدم عنها يمتنع أن يتأخر عنها
الوجه الثاني إن كون الوصف ذاتيا للموصوف هو أمر تابع للحقيقة التي هو بها سواء تصورته أذهاننا أو لم تتصوره فلا بد إذا كان احد الوصفين ذاتيا دون الآخر ان يكون بينهما أمرا يعود الى حقيقتهما الخارجة الثابتة بدون الذهن وأما أن يكون الفرق بين الحقائق الخارجة لا حقيقة له إلا بمجرد التقدم والتأخر في الذهن فهذا لا يكون حقا إلا ان تكون الحقيقة والماهية هي ما تقدر في الذهن لا ما يوجد في الخارج وذلك أمر يتبع تقدير صاحب الذهن وحينئذ فيعود حاصل هذا الكلام الى امور مقدرة في الاذهان لا حقيقة لها في الخارج وهي التخيلات والوهميات الباطلة وهذا كثير في أصولهم كما بيناه في غير موضع في بيان ما ذكروه في الهيولي والعقول والماهيات وغير ذلك

وهنا وجه ثالث يظهر به فساد ما ذكروه وهو أنهم قالوا الذاتيات هي أجزاء الماهية وهي متقدمة عليها في الذهن وفي الخارج والاجزاء هي هذه الصفات فجعلوا صفة الموصوف متقدمة عليه في الخارج وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه
وسبب غلطهم أن ذلك الوصف إذا تكلم به كان جزءا من الكلام متقدما على سائر الجملة في التصور والتعبير وهو في الذهن واللسان جزؤ من الجملة التي هي في الحقيقة وما به الماهية عندهم فلما كان ما يشتبه عليهم ما في الاذهان وما في الاعيان فظنوا أن صفات الاعيان المقومة لماهياتها الثابتة في الخارج هي متقدمة عليها في الخارج وكان هذا من أظهر الغلط لمن تصور ما قالوا وقد يثبتون ماهيته متقدم عليها
الوجه السابع
اشتراط الصفات الذاتية المشتركة أمر وضعي محض
الوجه السابع ان يقال قولهم إن الحد التام يفيد تصوير الحقيقة واشتراطهم ان يكون مؤلفا من الذاتي المميز والذاتي المشترك وهو الجنس
يقال لهم هل تشترطون فيه ان تتصور جميع صفاته الذاتيه المشتركة بينه وبين غيره ام لا فان اشترطتم ذلك لزم ان تقولوا مثلا جسم نام حساس متحرك بالارادة فأما لفظ الحيوان فلا يدل على هذه الصفات ب المطابقة ولا ب فصلها وإن لم تشترطوا ذلك فاكتفوا بمجرد المميز ك الناطق مثلا فان الناطق يدل على الحيوان كما يدل الحيوان على النامى إذ النامى جنس قريب ل الحيوان يشترك فيه الحيوان والنبات فاذا اردت حد الحيوان على وضعهم قلت الجسم النامى الحساس المتحرك بالارادة كما تقول في الانسان حيوان ناطق

والمقصود انهم إن اكتفوا في الدلالة على الصفات المشتركة بما يدل ب التضمين أو ب الالتزام ف الفصل يدل على ذلك وإن أرادوا تفصيلها بدلالة المطابقة فلم يفعلوا ذلك
وهذا يبين أن إيجابهم في الحد التام الجنس القريب دون غيره تحكم محض ونظير هذا دعواهم أن البرهان لا بد أن يكون مؤلفا من مقدمتين لا أقل ولا أكثر فان اكتفى فبه ب مقدمة واحدة قالوا الأخرى محذوفة وسموه قياس الضمير وإن احتج فيه إلى مقدمات قالوا هذه قياسات متداخلة
فاصطاحوا على انه لابد في الحد من لفظين جنس وفصل ولابد في القياس من مقدمتين وكل هذا تحكم
فان البرهان قد يكتفى فيه ب مقدمة وقد لا يتم إلا ب مقدمتين وقد لايتم إلا بثلاث مقدمات وأربع وخمس بحسب حاجة المستدل وما يعلم مما لا يعلم من المقددمات
وكذلك اكتفاؤهم في الحد بلفظين لفظ يدل على المشترك ولفظ يدل على المميز وزعمهم أن الحد التام لا يحصل إلا بهذا لا يحتاج إلى زيادة عليه ولا يحصل بدونه فانه يقال إن أريد ب الحد التام ما يصور الصفات الذاتيات على التفصيل مشتركها ومميزيها ف الجنس القريب مع الفصل لا يحصل ذلك وإن أريد بما يدل على الذاتيات ولو ب التضمن او الالتزام ف الفصل بل الخاصة يدل على ذلك
وإذا عارضهم من يوجب ذكر جميع الأجناس او يحذف جميع الأجناس لم يكن لهم عنه جواب إلا ان هذا وضعهم واصطلاحهم ومعلوم أن العلوم الحقيقية لا تختلف باختلاف الأوضاع فقد تبين أن ما ذكروه هو من باب الوضع

والاصطلاح الذي جعلوه من باب الحقائق الذاتية والمعارف وهذا عين الضلال والاضلال كمن يجيء إلى شخصين متماثلين يجعل هذا مؤمنا وهذا كافرا وهذا عالما وهذا جاهلا وهذا سعيدا وهذا شقيا من غير افتراق بين ذاتيهما وصفاتهما بل بمجرد وضعه واصطلاحه فهم مع دعواهم القياس العقلي يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات
ولهذا كان الذي عليه عامة الناس من نظار المسلمين وغيرهم الاقتصار في الحدود على الوصف المميز الفاصل بن المحدود وغيره إذ التمييز يحصل بهذا وذلك هو الوصف المطابق للمحدود في العموم والخصوص إلى أخرها بحيث يدخل فيه جميع أفراد المحدود وأجزائه ويخرج منه ما ليس منه فهذا هو الحد الذي عليه نظار المسلمين كما يسطنا قولهم في غير هذا الموضع
وأما سائر الصفات المشتركة فقد لا يمكن الاحاطة بها ولا ريب أنه كلما كان الانسان بها أعلم كان بالموصوف اعلم وأنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه ونحن لا سبيل إلى ان نعلم شيئا من كل وجه
ولا نعلم لوازم كل مربوب ولوازم لوازمه إلى آخرها فانه ما من مخلوق إلا وهو مستلزم للخالق والخالق مستلزم لصفاته التي منها علمه وعلمه محيط بكل شئ فلو علمنا لوازم لوازم الشئ الى آخرها لزم أن نعلم كل شئ وهذا ممتنع من البشر فان الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الاشياء كما هي عليه من غير احتمال زيادة وأما نحن فما من شئ نعلمه إلا ويخفى علينا من أموره ولوازمه ما لا نعلمه
يوضح ذلك انهم يقولون ما ذكره أبو حامد في معيار العلم
أن دلالة التضمن كدلالة لفظ البيت على الحائط ودلالة لفظ الانسان على الحيوان وكذلك دلالة كل وصف اخص على

الوصف الاعم الجوهري
ودلالة الالتزام والاستتباع كدلالة لفظ السقف على الحائط فانه مستتبع له استتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته ودلالة لفظ الانسان على قابل صنعة الخياطة ومعلمها
قال
والمعتبر في التعريفات دلالة المطابقة والتضمن فأما دلالة الالتزام فلا لأن المدلول عليه فيها غير محدود ولا محصور إذ لوازم الاشياء ولوازم لوازمها لا تنضبط ولا تنحصر فيؤدي الى ان يكون اللفظ الواحد على ما لا يتناهى من المعانى وهو محال
فقد جعل دلالة الخاص على الاسم دلالة تضمن كدلالة الانسان على الحيوان وذكر أنها معتبرة فىالتعريفات ومعلوم أن دلالة الحيوان على الحساس المتحرك بالارادة ودلالة الحساس على النامى ودلالة النامى على الجسم هو كذلك عندهم ومعلوم أن دلالة الناطق على الحيوان كدلالة النامى على الجسم فكان الواجب حينئذ ان يكتفى ب الناطق أو لا يكتفي معه بلفظ الحيوان فانهم إن اكتفوا بدلالة التضمن لزم الحذف وإن لم يكتفوا لزم التفصيل
الوجه الثامن
اشتراط ذكر الفصول مع التفريق بين الذاتي واللازم غير ممكن
الوجه الثامن وهو أن اشتراطهم مثلا ذكر الفصول التي هي الذاتيات المميزة مع تفريقهم بين الذاتي والعرضى اللازم للماهية غير ممكن إذ ما من مميز هو من خواص المحدود المطابقة له في العموم والخصوص إلا ويمكن شخصا

أن يجعله ذاتيا مميزا ويمكن الآخر ان يجعله عرضيا لازما للماهية
الوجه التاسع
توقف معرفة الذات على معرفة الذاتيات وبالعكس يستلزم الدور
الوجه التاسع ان يقال هذا التعليم دوري قبلي فلا يصح
وذلك أنهم يقولون إن المحدود لا يتصور ولا يحد حدا حقيقيا إلا بذكر صفاته الذاتية ثم يقولون الذاتي هو ما لا يمكن تصور الماهية بدون تصوره فيفرقون بين الذاتي وغير الذاتي ان الذاتي ما يتوقف عليه تصور الماهية فلا بد أن يتصور قبلها
ويقولون تارة لا بد أن يتصور معها فلا يمكن عندهم أن يتأخر تصوره عن تصور الماهية وبذلك يعرف أنه وصف ذاتي
فحقيقة قولهم انه لا يعلم الذاتي من غير الذاتي حتى تعلم الماهية ولا تعلم الماهية حتى تعلم الصفات الذاتية التي منها تؤلف الماهية وهذا دور
فاذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية ولا يعرف ان الصفة ذاتية حتى يتصور الموصوف الذي هو المحدود حتى تتصور فلا يعلم أنها ذاتية حتى يتصور الموصوف ولا يتصور الموصوف حتى يتصور الصفات الذاتية ويميز بينها وبين غيرها داخل فيها وما هو جزء لها فان تصور كون الشيء جزءا لغيره بدون تصور ذلك الغير ممتنع
ونحن لم نقل أنه لا يتصور الوصف الذاتي حتى يتصور الموصوف بل الانسان يتصور أشياء كثيرة ولا يتصور أنها صفات لغيرها ولا أجزاء لها فضلا عن كونها

لازمة ذاتية أو غير لازمة وإنا قلنا لا يعلم أنها جزء من الماهية وأنها ذاتية ل الماهية داخلة في حقيقة الماهية إن لم تتصور الماهية
وإن قيل إن مجرد تصور الصفات الذاتيات كاف في تصور الماهية وإن لم أعلم ان تلك الصفات ذاتية قيل من أين يعلم الانسان أن هذه الصفات هي الذاتيات دون غيرها إن لم يعرف الماهية التي هذه الصفات ذاتيه لها داخلة فيها ومن اين يعلم إذا تصور بعض الصفات اللازمة أن هذه هي الذاتية التي تتركب منها الماهية والذات دون غيرها إن لم يعلم الذات فيتوقف معرفة الذات التي هي الماهية على معرفة الذاتيات وتتوقف معرفة الذاتيات أي معرفة كونها هي الذاتيات لهذه الماهية دون غيرها من اللوازم على معرفة الذات فيتوقف معرفتها على معرفتها فلا يعرف هو ولا يعرف الذاتيات
وهذا كلام متين يجتاح اصل كلامهم ويبين أنهم متحكمون فيما وضعوه لم يثبتوه على اصل علمي تابع للحقائق ولكن قالوا هذا ذاتي وهذا غير ذاتي بمجرد التحكم ولم يعتمدوا على امر يمكن الفرق به بين الذاتي وغيره إذ هذا غير ممكن فيما وضعوه ويبين ان ما ذكروه مما زعموا انه صفات ذاتية لا يعرف حقيقة الموصوف اصلا بل ما ذكروه يستلزم انه لا يمكن حده فاذا لم يعرف المحدود إلا بالحد والحد غير ممكن لم يعرف وذلك باطل
مثال ذلك إذا قدر أنه لا تتصور حقيقة الانسان حتى تتصور صفاته الذاتية التي هي عندهم الحيوانية والناطقية وهذه الحيوانية والناطقية لا يعرف انها صفاته الذاتية دون غيرها حتى يعرف ان ذاته لا تتصور إلا بها

وأن ذاته تتصور بها دون غيرها ولا يعلم أن ذاته لا تتصور إلا بها حتى تعرف ذاته
فان قيل مجرد تصور الحيوانية والناطقية يوجب تصور الانسان قيل مجرد تصوره بذلك لا يوجب ان يعلم أن هذا هو الانسان حتى يعلم ان الانسان مؤلف من هذه دون غيرها وهذا يوجب معرفته ب الانسان قبل ذلك
وأما مجرد قوله حيوان ناطق إذا جعل مفردا ولم يكن خبر مبتدإ محذوف فانه بمنزلة الاسم المفرد وهذا لا يفيد فهم كلام
وإذا ادعى المدعى أن من تصور هذا فقد تصور الانسان بدون دليل يقيمة على ان هذا هو حقيقة الانسان كان بمنزلة من يقول في حده الحيوان الضاحك ويدعى ان هذا هو حقيقة الانسان فكلاهما دعوى بلا برهان
وهذا يبين ان دلالة الحد بمنزلة دلالة الاسم إنما يفيد التمييز بين المحدود المسمى وغيره ولكنه قد يفيد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال وذلك التفصيل يتنوع بحسب ما يذكر من الصفات لا يختص ذلك ببعض الصفات المطابقة للموصوف التي هي لازمة ملزومة دون غيرها ويبين أن الالفاظ بمجردها لا تفيد تصور الحقائق لمن لم يتصورها بدون ذلك لكنها تفيد التنبيه والاشارة لمن كان غافلا معرضا
فان قيل تصوره موقوف على تصور الصفات الذاتية لا على معرفة أنها ذاتية وقد يمكن تصورها وإن لم يعرف أنها ذاتية له قيل هب أن الامر كذلك لكن لا بد من التمييز بين الصفات الذاتية التي لا تتصور الذات إلا بها وبين العرضية التي تتصور بدونها ولا يمكن التمييز بين هذين النوعين إلا إذا عرفت ذاته المؤلفة من الصفات الذاتية ولا تعرف ذاته

حتى تعرف الصفات الذاتية ولا تميز بين الذاتيات وغيرها حتى تعرف ذاته فصار معرفة الذات موقوفا على معرفة الذات وهذا هوالدور
وكذلك معرفة الذاتيات موقوف على معرفة الذاتيات فلا تعرف الصفات التي هي ذاتية للموصوف حتى تعرف ان تصور الذات موقوف على تصورها ولا يعرف أن تصور الذات موقوف على تصورها حتى تعرف الذات ولا تعرف الذات حتى تعرف الذاتيات وهذا بين عند تأمل مقصودهم فانهم يقولون لا يحد الشيء حدا حقيقيا إلا بذكر صفاته الذاتية فلا بد من الفرق بين صفاته الذاتية والعرضية والفرق بينهما أن الذاتي هو ما لا تتصور الحقيقة إلا به فاذا كنالم نعرف الحقيقة لم نعرف الصفات التي يتوقف معرفة الحقيقة عليها وإذا لم نعرف هذه الصفات لم نعرف الصفات الذاتية من العرضية وهو المطلوب
وهذا بخلاف الفرق بين الصفات اللازمة والعارضة فانه فرق حقيقي ثابت في نفس الأمر
أبحاث في حد العلم والخبر
مثال ذلك إنهم يتنازعون في حد العلم والأمر والخبر ونحو ذلك من الأمور التي شاع الكلام عليها في العلوم المشهورة فمن النظار من يحدها كما يقولون في العلم معرفة المعلوم على ما هو به أو يقولون إعتقاد المعلوم على رأي ال معتزلة الذين لا يقولون إن لله علما أو يقولون العلم ما أوجب لمن قام به أن يكون عالما ونحو ذلك
ويقال في حد الخبر هو ما احتمل الصدق والكذب أو ما شاع أن يقال لصاحبه في اللغة صدقت أو كذبت ونحو ذلك
ويعترض على هذه الحدود بالاعتراضات المشهورة

مثل أن يقال المعلوم مشتق من العلم ومعرفة المشتق متوقفة على معرفة المشتق منه فلو عرف المشتق بالمشتق منه لزم الدور
أو يقال العلم هو المعرفة وهذا حد لفظي
أو يقال قولك على ما هو به زيادة
ويقال إدخال الصدق والكذب او التصديق والتكذيب في حد الخبر لا يصلح لأنهما نوعا الخبر وتعريفهما إنما يمكن ب الخبر فلو عرف الخبر بهما لزم الدور
وأمثال ذلك من الاعتراضات المشهورة على الحدود المشهورة
ومنهم من يقول هذه الأشياء لا يمكن تحديدها أو لا يحتاج إلى تحديدها بل هي غنية عن الحد
كما يقال في العلم إن غير العلم لا يعرف إلا ب العلم فلو عرف العلم بغيره لزم الدور
أو يقال تصوره العلم لا يحصل إلا ب علم وذلك العلم العين موقوف على العلم فلو توقف تصور العلم على غيره لزم الدور
أو يقال في تعريف العلم والخبر والأمر إن كل أحد يعلم جوعه وشبعه ويعلم أنه عالم بذاك والعلم بالمركب مسبوق ب العلم بالمفرد فاذن كل أحد يعلم العلم فيكون تصوره بديهيا
ويقال في الأمر والخبر كل أحد يحسن أن يأمر وأن يخبر ويعلم أن هذا أمر وهذا خبر والعلم بالمركب مسبوق ب العلم بالمفرد
فيقال له العلم ب الخبر المعين والأمر المعين لا يستلزم العلم بالمطلوب بالحد لأن المطلوب بالحد تعريف الحقيقة العامة الجامعة المانعة وتصور المعين إنما يستلزم تصور الحقيقة مطلقا لا بشرط العموم والمطابقة فان الحقيقة لا توجد

عامة في الأعيان اذ الكليات بشرطكونها كليات انما توجد في الذهن والعلم بالعين لا يستلزم العلم بالكلى بشرط كونه كليا فإذن ما علمه بالمعين ليس هو المحدود
يوضح ذلك بأن تصور خر معين وعلم معين تصور لامر جزئي والمطلوب بالحد هو المعنى الكلي الجامع المانع فأن قيل يلزم من وجود الجزئي وجود الكلي او قيل المطلق جزؤ المعين
فأن اريد بذلك انه يوجد جزءا معينا فأن ما هو مطلق في الذهن اذا وجد في الخارج كان معينا فهذا حق ولكن لا يفيدهم واما ان اريد بذلك ان المطلق الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه هو نفسه جزء من هذا المعين مع كونه كليا فهذا مكابرة ظاهرة ونفس تصوره كاف للعلم بفساده فأن الجزئي من معين خاص والكلي اعم واكثر منه فكيف يكون الكثير بعض القليل وإذا كان المطلوب بالحد هو الكلي الجامع المانع الذي يطابق جميع أفراد المحدود فلا يخرج عنه شيء ولا يدخل فيه ما ليس منه فمعلوم أن تصور المعين لا يستلزم مثل هذا
وأيضا فهذا منقوض بسائر المحدودات كالانسان وغيره مما يتصور جنس مفرداته كل أحد
ويقال قوله إن غير العلم لا يعرف إلا بالعلم فلو عرف العلم بغيره لزم

إن أراد به المعلوم لا يعرف إلا بعلمه فهذا حق لكن العلم لا يعرف ب غير العلم فيعرف العلم المطلق أو العام ب علم معين فلفظ العلم في أحد المقدمتين ليس معناه معنى العلم في المقدمة الأخرى فيلزم الدور إذ قول القائل العلم لا يعرف إلا بالعلم معناه أن كل معلوم لا يعرف إلا بالعلم
وقوله فلو عرف العلم بغيره لزم الدور يقال المعرف المحدود ليس هو علما ب معلوم معين بل هو العلم الكلي والعلم الكلي يعلم ب علم جزئي مقيد ولا منافاة في ذلك كما يخبر عن الخبر بخبر فيخبر عن الخبر المطلق أو العام ب خبر معين خاص
وقول القائل في الجواب إن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره أي ب غير العلم لا على تصور العلم فانقطع الدور وهو أحد الجوابين فان حصول العلم بكل معلوم يتوقف على حصول العلم المعين لا على تصوره والمطلوب ما يحد تصور العلم لا حصول العلم بتلك المعلومات
والجواب الآخر أن يقال تصور غير العلم مما يتوقف على حصول العلم بذلك المعلوم لا على حصول العلم المحدود وهو الجامع المانع والمطلوب بالحد هو هذا قدر فلو أن حصول تصور غير العلم موقوف على العلم بذلك المعلوم وعلى تصور ذلك العلم لم يكن هذا مانعا من الحاجة إلى الحد فكيف وقد يقال من علم الشيء قد يعلم أنه عالم ويعود ما ذكر
وإيضاح هذا أن في الخارج امورا معينة كالانسان المعين والعلم المعين

والخبر المعين وقد يتصور الانسان أمرا مطلقا كالانسان المطلق والعلم المطلق والخبر المطلق وهذا المطلق قد يراد به المطلق بشرط له إطلاق وهو الذي يقال إنه كل عقل وقد يراد به المطلق لا بشرط وهو الذي يسمى الكلى الطبيعي
وهذا الكلى المطلق لا بشرط قد يتنازعون هل هو موجود في الخارج ام لا والتحقيق انه يوجد في الخارج لكن معينا مشخصا فلا يوجد في الخارج إلا إنسان معين وفيه حيوانية معينة وناطقية معينة ولا يوجد فيه إلا علم معين وخبر معين
ثم من الناس من يقول إن المطلق جزؤ من المعين ويقولون العام جزؤ من الخاص فانه حيث وجد هذا الانسان وهذا الحيوان وجد مسمى الانسان ومسمى الحيوان وهو المطلق
ومن الناس من ينكر هذا ويقول المطلق الكلى هو الذي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه فيجوز ان تدخل فيه أفراد كثيرة والمعين هو جزئي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فكيف يكون الكبير بعض القليل وكيف يكون العام أو المطلق الذي يتناول أفرادا كثيرة أو يصلح ليتناول جزءا من المعين الجزئي الذي لا يتناول إلا ذلك الشخص الجزئي الموجود في الخارج
وفصل الخطاب انه ليس في الخارج إلا جزئي معين ليس في الخارج ما هو مطلق عام مع كونه مطلقا عاما وإذا وجد المعين الجزئي ف الانسان والحيوان وجدت فيه إنسانية معينة مختصة مقيدة غير عامة ولا مطلقة
ف المطلق إذا قيل هو جزؤ من المعين فانما يكون جزءا بشرط ان لا يكون مطلقا عاما والمعنى أن ما يتصوره الذهن مطلقا عاما يوجد في الخارج لكن لا يوجد إلا مقيدا خاصا وهذا كما إذا قيل إن ما في نفسي وجد أو فعل أو فعلت ما في نفسي فمعناه ان الصور الذهنية وجدت في الخارج أي

وجد ما يطابقها
إذا عرف هذا فكل ما يعلم إنما يعلم بعلم معين وهذا العلم المعين فيه حصة من العلم المطلق العام ليس فيه علم مطلق عام مع كونه مطلقا عاما والانسان إذا تصور هذا الانسان وهذا العلم وهذا الخبر لم يتصوره مطلقا عاما وإنما يتصوره معينا خاصا
وذلك لا يستلزم ان يعلم المحدود الكلى الجامع المانع الشامل لجميع الافراد المانع من دخول غيرها فيه ف غير العلم إذا توقف على حصول العلم فانما توقف على حصول علم معين جزئي لا على تصوره كما قيل في الجواب الاول
فلو قيل إنه موقوف أيضا على تصوره لكان موقوفا على تصور امر جزئي معين لا على تصور المحدود المطلق الجامع المانع فان تصور هذا الكلى الجامع المانع لا يتوقف عليه وجود علم شئ من الاشياء ولا يتوقف على وجوده ولا على تصوره فلا يتوقف العلم بشئ من الاشياء على المحدود وهو العلم الجامع المانع ولا على الحد وهو العلم بهذا الجامع المانع فلا يقف لا على تصوره ولا على وجوده
وكذلك ما ذكروه في إثبات النظر ب النظر يقال فيه صحة جنس النظر ب نظر معين والنظر المعين يعلم صحته بالضرورة فالدليل نظر معين والمدلول عليه جنس النظر والنظر المعين يعلم صحته بالضرورة
وأمثال ذلك من التصورات والتصديقات التي يعلم المعين منها بالضرورة ويعلم جنسها بهذا المعين منها وليس ذلك من باب تعريف الشئ بنفسه
فاذا كان القول ب ان هذه الامور محدودة بالحدود الممكنة ترد عليه الاعتراضات القادحة على أصلهم والقول ب انها غير مفتقرة الى الحدود ترد

عليه الاعتراضات الفادحة على أصلهم لم يكن القول على أصلهم لا بأنها محدودة بما يمكن من الحدود ولا بأنها مستغنية عن الحدود وإذا لم تكن غنية عن الحد بل مفتقرة اليه والحدود غير ممكنة لزم توقف تعريفها على ما لا يمكن فيلزم امتناع تعريفها ومعلوم أن معرفتها حاصلة فعلم بطلان قولهم
وأيضا فيبقى الانسان غير متمكن لا من إثبات أن لها حدودا ولا من نفي أن يكون لها حدود وما استلزم المنع من النفي والاثبات أو رفع النفي والاثبات كان باطلا فان كل ما يذكر من الحدود يرد عليه ما يقدح فيه على أصلهم وقد ثبت عندهم انه لا بد لها من حد فيلزم أنه لا بد لها من حد وكل حد فهو باطل فيلزم إثبات الحد ونفيه
وما استلزم ذاك إلا لأنهم جعلوا مقصود الحد تصوير المحدود وإذا قيل المقصود من الحد التمييز بين المحدود وغيره كان كل من القولين حقا ولم يتقابل النفي والاثبات بل الذين حدوها بحدودهم أفادت حدودهم التمييز بينها وبين غيرها والتمييز يحصل بما يطابق المحدود في العموم والخصوص وهو الملازم له من الطرفين في النفي والاثبات
وأما اللوازم فقد تكون أعم من المحدود كما أن الملزومات قد تكون أخص منه فان الملزوم قد يكون اخص من اللازم كما أن اللازم قد يكون أعم من الملزوم فان الانسان مستلزم الحيوان والانسان أخص منه والحيوان لازم له وهو أعم منه بخلاف المتلازمين فانهما متساويان في العموم والخصوص كالانسانية مع الناطقية والصاهلية مع الفرسية ونحو ذلك
والحدود لا تجوز إلا ب الملازم في الطرفين النفي والاثبات لا بمجرد اللوازم كما يطلقه بعضهم ولا بمجرد الملزومات ثم التمييز يحصل ب المطابق الملازم وإن كان قد لا يحتاج الى هذا التمييز إذا حصل الاستغناء عنه بالاسم

والذين قالوا إنها غنية عن الحدود بينوا ان مطلق الحقيقة تتصور بلا حد وهذا حق بل هذا ثابت في جميع الحقائق ان مطلقها متصور بلا حد ولكن المقصود التمييز بين مسمى هذا الاسم العام وبين غيره أو التمييز بين المعنى العام المتشابه في افراده وبين غيره وتمييز العام من غيره قد لا يكفى فيه مجرد تصوره مطلقا او تصور بعض افراده فليس كل من تصور معنى مطلقا تصوره عاما مميزا بينه وبين غيره فكيف إذا لم يتصوره إلا خاصا مقيدا معينا إذ قد يقطع في مواضع بأنها خبر وأنها امر وأنها علم ويشك في مواضع كما يشك في الاعتقاد المطابق الذي يحصل للمقلد وفي امر الادنى للاعلى وفي الامر الخالي عن الارادة ونحو ذلك
فالمطلوب من الجمع والمنع الذي هو مقصود الحد لا يحصل بتصور أعيان معينة ولكن يحصل منه تصور الحقيقة في الجملة فان من تصورها معينة تصورها في الجملة وهو تصورها مع كونها مقيدة فيمكنه حينئذ ان يتصورها لا بشرط إذا جردها عن التعريف بمعنىا انه لا يشترط فيها التعريف ولا انه يشترط عدمه
وهذا المطلق هل هو في الخارج جزؤ من المعين أو هذا المطلق وهوالمطلق لا بشرط ليس هو في الخارج شيئا غير الاعيان الموجودة فيه قولان كما تقدم بيانه وفصل الخطاب فيه
فحينئذ فلا يكون المتصور ل الامر المعين والخبر المعين والعلم المعين قد تصور الاشياء معينة او تصور الحقيقة معينة لا مطلقة ولا عامة

المقام الثالث
المقام السلبي في الاقيسة والتصديقات
في قولهم إنه لا يعلم شئ من التصديقات إلا بالقياس
فصل
وأما القياس فالكلام في المقامين ايضا
المقام الاول السلبي فنقول
حصر العلم على القياس قول بغير علم
قولهم إنه لا يعلم شئ من التصديقات إلا بالقياس الذي ذكروا صورته ومادته قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة ولم يذكروا على هذا السلب دليلا أصلا فصاروا مدعين مالم يبينوه بل قائلين بغير علم إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم فمن اين لهم انه لا يمكن أحدا من بني آدم ان يعلم شيئا من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته
الفرق بين البديهي والنظري أمر نسبي محض
والثاني أن يقال هم معترفون بما لا بد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري الى البديهي
وإذا كان كذلك فالفرق بين البديهي والنظري إنما هو بالنسبة الاضافة

فد يبده هذا من العلم ويبتدى في نفسه ما يكون بديهيا له وإن كان غيره لا يناله إلا بنظر قصير أو طويل بل قد يكون غيره يتعسر عليه حصوله بالنظر وقد تقدم التنبيه على هذا في التصورات لكن نزيده هنا دليلا يختص هذا فنقول
البديهي من التصديقات هو ما يكفى تصور طرفيه موضوعه ومحموله في حصول تصديقه فلا يتوقف على وسط يكون بينهما وهو الدليل الذي هو الحد الاوسط سواء كان تصور الطرفين بديهيا او لم يكن
ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الاذهان اعظم من تفاوتهم في قوى الابدان فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كبيرة وحينئذ فيتصور الطرفين تصورا تاما بحيث تتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لغيره الذي لم يتصور الطرفين التصور التام
وذلك ان من الناس من يكون لم يتصور الطرفين إلا ببعض صفاتهما المميزة فيكون من تصورهما ببعض صفاتهما المشتركة مع ذلك سواء سميت ذاتية او لم تسم عالما بثبوت تلك الصفات لهما وثبوت كثير مما يكون لازما لهما بخلاف من لم يتصور إلا الصفات المميزة
بطلان التفريق بين الذاتي واللازم لثبوت كل منهما بغير وسط
وذلك أنهم قرروا في المنطق ان من اللوازم ما يكون لازما بغير وسط فهذا يعلم بنفس تصور الملزوم
والوسط المذكور في هذه المواضع هو عند ابن سينا ومحققيهم هو الدليل

وهو الحد الاوسط
وهذا يختلف باختلاف الناس فقد يحتاج هذا في العلم ب الملزوم الى دليل بخلاف الاخر
ومن لم يفهم مرادهم في هذا الموضع يظن أنهم أرادوا ب الوسط ما هو وسط في نفس الموصوف بحيث يكون ثبوت الوصف اللازم ل الملزوم بواسطته لا يثبت بنفسه كما قد فهم ذلك عنهم طائفة منهم الرازي وغيره وهذا مع انه غلط عليهم كما بينا الفاظهم في غير هذا الموضع فهو ايضا باطل في نفسه
ولا ريب ان من اللوازم ما يفتقر الى وسط ومنها ما لا يفتقر الى وسط عندهم وهذا احد الفروق الثلاثة التي فرقوا بها بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية وقد أبطلوا هذا الفرق ويعبر بعضهم عن هذا الفرق ب التعليل كما يعبر به ابن حاجب
فاذا كان في اللوازم ما هو ثابت في نفس الامر بغير وسط ولا علة لم يبق هذا فرقا بين الذاتي وبين هذه اللوازم فبطلت التصديق بهذا لكن من تصور الذات بهذه اللوازم فتصوره أتم ممن لم يتصورها بهذه اللوازم
وإذا كان المراد ب الوسط الدليل الذي يعلل به الثبوت الذهني لا الخارجي فهذا يختلف باختلاف الناس ولا ريب أن ما يستدل به سواء سمى قياسا أو برهانا أو غير ذلك قد يكون هو علة لثبوت الحكم في نفس الامر ويسمى قياس العلة وبرهان العلة وبرهان لم وقد لا يكون كذلك وهو الدليل المطلق ويسمى قياس الدلالة وبرهان الدلالة وبرهان ان وهذا مراد ابن سينا وغيره ب الوسط وهذا مما تختلف فيه أحوال الناس

فالتقريق بين الذاتي والعرضي اللازم ابعد ولهذا ابطل ابن سينا الفرق بهذا كما قد ذكرنا لفظه في موضع آخر فانه على التفسيرين من اللوازم ما يثبت بغير وسط
فاذا قيل الذاتي ما يثبت بغير وسط وقد عرف ان من اللوازم ما ثبت بغير وسط تبين بطلان هذا الفرق على كل تقدير
اختلاف احوال الناس في احتياجهم وعدم احتياجهم الى الدليل
وأما كون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر اليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض فهذا امر بين فان كثيرا من الناس تكون القضية عنده حسية أو مجربة او برهانية او متواترة وغيره إنما عرفه بالنظر والاستدلال
ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول ل الموضوع الى دليل لنفسه بل لغيره ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غنى عنها حتى يضرب له أمثالا ويقول له أليس كذا أليس كذا ويحتج عليه من الادلة العقلية والسمعية بما يكون حدا أوسط عند المخاطب مما لا يحتاج اليه المستدل بل قد يعلم الشئ ب الحس ويستدل على ثبوته لغيره ب الدليل
وهذا أكبر من أن يحتاج الى تمثيل فما أكثر من يرى الكواكب ويرى الهلال وغيره فيقول قد طلع الهلال وتكون هذه القضية له حسية وقد تكون عند غيره مشكوكا فيها او مظنونة او خبرية بل قد يظنها كذبا إذا صدق المنجم الخارص القائل إنه لا يرى

بطلان منع المنطقيين الاحتجاج
بالمتواترات والمجربات والحدسيات
وقد ذكر من ذكر من هؤلاء المنطقيين ان القضايا المعلومة ب التواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذه الطريق فلا تكون حجة على غيره بخلاف غيرها فانها مشتركة يحتج بها على المنازع
وقد بينا في غير هذا الموضع ان هذا تفريق فاسد
فان الحسيات الظاهرة والباطنة تنقسم الى خاصة وعامة وليس ما رآه زيد أو شمه أو ذاقة او لمسة يجب اشتراك الناس فيه وكذلك ما وجده في نفسه من جوعه وعطشه وألمه ولذته ولكن بعض الحسيات قد تكون مشتركة بين الناس كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والكواكب وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل وجامع ونهر وغير ذلك من الامور المخلوقة والمصنوعة
وكذلك الامور المعلومة ب التواتر والتجارب قد يشترك فيها عامة الناس كاشتراك الناس في العلم بوجود مكة ونحوها من البلاد الشهورة واشتراكهم في وجود البحر وأكثرهم ما رآه وأشتراكهم في العلم بوجود موسى وعيسى ومحمد وادعائهم النبوة ونحو ذلك فان هؤلاء قد تواتر خبرهم الى عامة بني آدم وإن قدر من لم يبلغه أخبارهم فهم في أطراف المعمورة لا في الوسط
المجربات تحصل بالحس والعقل
وكذلك المجربات فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري وأن قطع العنق يحصل معه الموت وأن الضرب الشديد يوجب الالم
والعلم بهذه القضية الكلية تجربي فان الحس إنما يدرك ريا معينا وموت شخص معين وألم شخص معين أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك

فهذه القضية الكلية لا تعلم ب الحس بل بما يتركب من الحس والعقل وليس الحس هنا هو السمع
وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله تجربيات وبعضهم يجعله نوعين تجربيات وخدسيات فان كان الحس المقرون ب العقل من فعل الانسان كأكله وشربه وتناوله الدواء سماه تجربيا وإن كان خارجا عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه حدسيا والاول اشبه باللغة فان العرب تقول رجل مجرب بالفتح لمن جربته الامور واحكمته وإن كانت تلك من أنواع البلايا التي لا تكون باختياره
وذلك ان التجربة تحصل بنظره واعتباره وتدبره كحصول الاثر المعين دائرا مع المؤثر المعين دائما فيرى ذلك عاده مسمرة لا سيما إن شعر بالسبب المناسب فيضم المناسب الى الدوران مع السبر والتقسيم فانه لا بد في جميع ذلك من السبر والتقسيم الذي ينفى المتزاحم وإلا فمتى حصل الاثر مقرونا بأمرين لم تكن إضافته الى أحدهما دون الآخر بأولى من العكس ومن إضافته إلى كليهما
وما يحتج به الفقهاء في إثبات كون الوصف علة للحكم من دوران ومناسبة وغير ذلك إنما يفيد المقصود مع نفى المزاحم وذلك يعلم ب السبر والتقسيم فان كان نفى المزاحم ظنيا كان اعتقاد العلية ظنيا وإن كان قطعيا كان الاعتقاد قطعيا إذا كان قاطعا بأن الحكم لا بد له من علة وقاطعا بأنه لا يصلح للعلة إلا الوصف الفلاني
وهكذا القضايا العادية من قضايا الطب وغيرها هي من هذا الباب وكذلك قضايا النحو والتصريف واللغة من هذا الباب ولكن في اللغة يدور المعنى مع اللفظ لا هذا الباب وفي النحو والتصريف يدور الحكم مع النوع وهذا كالعلم بأن أكل الخبز ونحو ه يشبع وشرب الماء ونحوه يروى ولبس الحشايا

يوجب الدفأ والتجرد من الثياب يوجب البرد ونحو ذلك
لكن من لا يثبت الأسباب والعلل من أهل الكلام كالجهم وموافقيه في ذلك مثل ابي الحسن وأتباعه يجعلون المعلوم اقتران احد الامرين بالاخر لمحض مشيئة القادر المريد من غير أن يكون احدهما سببا للاخر ولا مولدا له
وأما جمهور العقلاء من المسلمين وغير المسلمين وأهل السنة من أهل الكلام والفقة والحديث والتصوف وغير أهل السنة من المعتزلة وغيرهم فيثبتون الاسباب ويقولون كما يعلم اقتران احدهما بالاخر فيعلم أن في النار قوة تقتضى التسخين وفي الماء قوة تقتضى التبريد وكذلك في العين قوة تقتضى الابصار وفي اللسان قوة تقتضى الذوق ويثبتون الطبيعة التي تسمى الغريزة والنحيزة والخلق والعادة ونحو ذلك من الاسماء
ولهذا كان السلف كاحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما يقولون العقل غريزة وأما نفاة الطبائع فليس العقل عندهم إلا مجرد العلم كما هو قول أبى الحسن الاشعري والقاضي أبى بكر والقاضي أبى يعلى وأبن عقيل وأبي الخطاب والقاضي ابي بكر بن العربي وغيرهم وإن كان بعض هؤلاء قد يختلف كلامهم فيثبتون في موضع آخر الغرائز والاسباب كما هو مذهب الفقهاء والجمهور
فالمقصود ان لفظ التجربة يستعمل فيما جربه الانسان ب عقله وحسه وإن لم يكن من مقدوراته كما قد جربوا انه إذا طلعت الشمس انتشر الضوء في الافاق وإذ غابت أظلم الليل وجربوا انه إذا بعدت الشمس عن سمت رؤؤسهم جاء البرد وإذا جاء البرد سقط ورق الاشجار وبرد ظاهر الارض وسخن باطنها وإذا قربت من سمت رؤوسهم جاء الحر وإذا جاء الحر أورقت الاشجار وأزهرت فهذا امر يشترك في العلم به جميع الناس لما قد اعتادوه وجربوه

ثم يعلم من يثبت الاسباب ان سبب ذلك ان شبيه الشئ منجذب اليه وضده هارب منه فاذا برد الهواء برد ظاهر الارض وظاهر ما عليها فهربت السخونة الى البواطن فيسخن جوف الارض ويسخن الماء الذي في جوفه ولهذا تكون الينابيع في الشتاء حارة وتكون اجواف الحيوان حارة فتاكل في الشتاء أكثر مما تأكل في الصيف بسبب هضم الحرارة للطعام وإذا كان الصيف سخن الهواء فسخنت الظواهر وهربت البرودة الى البواطن فيبرد باطن الارض وأجواف الحيوان وتبرد الينابيع ولهذا يكون الماء النابع في الصيف ابرد منه في الشتاء ويضعف الهضم للطعام
فهذه القضايا ونحوها مجربات عاديات وإن كان كثير منها يقع بغير فعل بنى آدم
وكذلك ماعلم من سنة الله تعالى من نصر أنبيائه وعباده المؤمنين وعقوباته لأعدائه الكافرين هو مما قد علم ويحصل به الاعتبار وإن لم يكن ذلك مما يقدر عليه المجرب نفسه وقد يعلم الانسان من فعل غيره ما يحصل له به العلم التجربي وإن لم يكن له قدرة على فعل الغير
وأيضا فالسبب المقتضى للعلم ب المجربات هو يكرر اقتران أحد الأمرين بالآخر إما مطلقا وإما مع الشعور بالمناسب وهذا القدر يشترك فيه ما تكرر بفعله وما تكرر بغير فعله فكونه بفعله وصف عديم التأثير في اقتضاء العلم فلا يحتاج أن يجعل هذا نوعا غير النوع الآخر مع تساويهما في السبب المقتضى للعلم إلا لبيان شمول المجربات لهذين الصنفين كما يقال في الحسيات أنها تتناول ما أحسه ببصره وسمعه وشمه وذوقه ولمسه ونحو ذلك
مع أن الفرق الذي بين أنواع الحسيات تختلف فيه أنواع العلوم أعظم مما تختلف في هذا فان البصر يرى غير مباشرة المرئي والذوق والشم واللمس

لا يحصل له الاحساس إلا بمباشرة المحسوس والسمع وإن كان يحس الأصوات فالمقصود الأعظم به معرفة الكلام وما يخبر به المخبرون من العلم
وهذا سبب تفضيل طائفة من الناس ل السمع على البصر كما ذهب إليه ابن قتيبية وغيره وقال الأكثرون البصر أفضل من السمع والتحقيق أن إدراك البصر أكمل كما قاله الأكثرون كما قال النبي ص - ليس المخبر كالمعاين لكن السمع يحصل به من العلم لنا أكثر مما يحصل ب البصر ف البصر أقوى وأكمل والسمع أعم وأشمل
وهاتان الحاستان هما الأصل في العلم بالمعلومات التي يمتاز بها الانسان عن البهائم
استطراد
ولهذا يقرن الله بينهما الفؤاد في مواضع
كقوله تعالى إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا
وقوله تعالى والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصاروالافئدة لعلكم تشكرون
وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل اولئك هم الغافلون
وقال وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم

ماكانوا به يستهزءون
وقال تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة
وقال تعالى صم بكم عمى فهم لا يرجعون في حق المنافقين وقال في حق الكافرين فهم لا يعقلون
وقال تعالى وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي ءاذاننا ومن بيننا وبينك حجاب
وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه وفي ءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ونظائر هذا متعددة

عود إلى أصل الموضوع
وأما الشم والذوق واللمس فحس محض لا يحصل إلا بمباشرة الحيوان لذلك فالثلاثة كالجنس الواحد وقد قال تعالى ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون
فالجلود إن خصت ب اللمس لم يدخل فيها الشم والذوق وإن قيل بل يدخل فيها عمت الجميع وإنما ميزت عن اللمس لاختصاصها ببعض الأعضاء وبنوع من المدركات وهو الطعوم والروائح فان سائر البدن لا يميز بين طعم وطعم وريح وريح ولكن يميز بين الحار والبارد واللين والصلب والناعم

والخشن ويميز بين ما يلتذ به وبين ما يتألم ونحو ذلك
والمقصود انهم جعلوا المجربات والمتواترات مما يختص به من حصل له ذلك فلا يصلح أن يحتج به على غيره وهذه قد يحصل فيها اختصاص واشتراك كما أن الحسيات كذلك قد يحصل فيها اختصاص واشتراك
وأيضا فالاشتراك قد يكون في عين المعلوم المدرك وقد يكون في نوعه فالأول كاشتراك الناس في رؤية الشمس والقمر وغيرهما والثاني كاشتراكهم في معرفة الجوع والعطش والري والشبع واللذة والألم
فان المعين الذي ذاقه هذا الشخص ليس هو المعين الذي ذاقه هذا إذ كل إنسان يذوق ما في باطنه ولكن يشترك الناس في معرفة جنس ذلك
وما يسمونه من الرعد وما يرونه من البرق يشترك أهل المكان الواحد في رؤية المعين وسمعه ويشترك الناس في رؤية النوع وسمعه إذ الرعد والبرق الذي يحصل في زمان ومكان يكون غير ما يحصل في زمان آخر ومكان آخر
ومن المحسوسات المعروفة بالرؤية أنواع كثيرة من الحيوان والنبات وغير ذلك يوجد ببعض البلاد دون بعض فتكون مشهورة ومرئية لمن رآها دون سائر الناس فانهم إنما يعلمون ذلك ب الخبر وذلك الخبر قد يكون المشتركون فيه أكثر من المشتركين في الرؤية
فتبين أن القضايا الحسية والمتواترة والمجربة قد تكون مشتركة وقد تكون مختصة فلا معنى للفرق بأن هذه يحتج بها على المنازع دون هذه

إنكار المتواترات هو من أصول الالحاد والكفر
ثم هذا الفرق مع ظهور بطلانه هو من أصول الالحاد والكفر فان المنقول عن الأنبياء ب التواتر من المعجزات وغيرها يقول احد هؤلاء

بناء على هذا الفرق هذا لم يتواتر عندي فلا يقوم به الحجة على فيقال له اسمع كما سمع غيرك وحينئذ يحصل لك العلم
وإنما هذا كقول من يقول رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس وانا لم أره فيقال له أنظر إليه كما نظر غيرك فتراه إذا كنت لم تصدق المخبرين
وكمن يقول العلم بالنبوة لا يحصل إلا بعد النظر وأنا لا أنظر أو لا أعلم وجوب النظر حتى أنظر
ومن جواب هؤلاء أن حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها
ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة
فلذلك قال تعالى وإذا تتلى عليه ءايتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في اذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم
وقال تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا
وقال تعالى وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرأ
وقال تعالى فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك

أتتك ءايتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
وقال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت النفقين يصدون عنك صدودا
وقال ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون
ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث والسنة من الآثار النبوية والسلفية المعلومة عندهم بل المتواترة عندهم عن النبي ص - والصحابة والتابعين لهم باحسان
فان هؤلاء يقولون هذه غير معلومة لنا كما يقول من يقول من الكفار إن معجزات الأنبياء غير معلومة لهم وهذا لكونهم لم يطبلوا السبب الموجب للعلم بذلك وإلا فلو سمعوا ما سمع اولئك وقرأوا الكتب المصنفة التي قرأها أولئك تحصل لهم من العلم ما حصل لأولئك
وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود فهم إذا لم يعلموا ذلك لم يكن هذا علما منهم بعدم ذلك ولا بعدم علم غيرهم به بل هم كما قال الله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله
وتكذيب من كذب بالجن هو هذا الباب وإلا فليس عند المتطيب والمتفلسف دليل عقلي ينفي وجودهم لكن غايته أنه ليس في صناعته ما يدل على وجودهم وهذا إنما يفيد عدم العلم لا العلم بالعدم وقد اعترف بهذا حذاق الأطباء والفلاسفة كأبقراط وغيره
والمقصود هنا التنبيه على كليات طرق العلم التي تكلم فيها هؤلاء وغيرهم

شرك الفلاسفة أشنع من شرك الجاهلية
بحث قيم على سبيل الاستطراد
ولهذا لما صنف طائفة في تقدير الشرك على أصولهم وأثبتوا الشفاعة التي يثبتها المشركون كان شرك هؤلاء شرا من شرك مشركي العرب وغيرهم
فان مشركي العرب وغيرهم ممن يقر بأن الرب فاعل بمشيئته وقدرته وأنه خالق كل شيء وأن السموات والأرض مخلوقة لله ليست مقارنة له في الوجود دائمة بدوامه كانوا يعبدون غير الله ليقربوهم إليه زلفى ويتخذونهم شفعاء يشفعون لهم عند الله بمعنى أنهم يدعون الله لهم فيجيب الله دعاءهم له وهؤلاء المشركون الذين بين القرآن كفرهم وجاهدهم رسول الله ص - على شركهم
قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله
وقال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتهم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ان عذاب ربك كان محذورا قالت طائفة من السلف كان اقوام يدعون الملائكة والانبياء فقال تعالى هؤلاء الذين تدعونهم يتوسلون الى كما تتوسلون الى ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي
وقال تعالى ما كان لبشر ان يؤتية الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة

والنبين اربابا يأمر بالكفر بعد اذ انتم مسلمون
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيها من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنغع الشفاعة عنده الا لمن اذن له
وقال تعالى وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد ان يأذن الله لمن يشاء ويرضى
وقال تعالى ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون
ومثل هذا في القران كثير
والعرب كانوا مع شركهم وكفرهم يقولون ان الملائكة مخلوقون وكان من يقول منهم ان الملائكة بنات يقولون ايضا انهم محدثون ويقولون انه صاهر إلى الجن فولدت له الملائكة
وقولهم من جنس قول النصارى في أن المسيح ابن الله مع ان مريم امه ولهذا قرن سبحانه بين هؤلاء وهؤلاء
وقول هؤلاء الفلاسفة شر من قول هؤلاء كلهم
فان الملائكة عند من آمن بالنبوات منهم هي العقول العشرة وتلك عندهم قديمة ازلية والعقل رب كل ما سوى الرب عندهم وهذا لم يقل مثله احد من اليهود والنصارى ومشركي العرب لم يقل احد ان ملكا من الملائكة رب العالم كله
ويقولون ان العقل الفعال مبدع لما تحت فلك القمر وهذا ايضا كفر لم يصل اليه احد من كفار اهل الكتاب ومشركي العرب

وهؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا واتباعه كصاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها ومن وافقهم من القرامطة والباطنية من الملاحدة والجهال الذين دخلوا في الصوفية واهل الكلام كأهل وحدة الوجود وغيرهم
يجعلون الشفاعة مبنية على ما يعتقدونه من ان الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته وليس عالما بالجزئيات ولا يقدر ان يغير العالم بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه
فيقولون اذا توجه المستشفع الى من يعظمه من الجواهر العالية كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر او الى النفوس المفارقة مثل بعض

الصالحين فانه يتصل بذلك المعظم المستشفع به فاذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا المستشفع من جهة شفيعة
ويمثلونه بالشمس اذا طلعت على مرآة فانعكس الشعاع الذي على المراة على موضع اخر فأشرق بذلك الشعاع فذلك الشعاع حصل له بمقابلة المراة وحصل للمراة بمقابلة الشمس
فهذا الداعى المستشفع اذا توجه الى شفيعه اشرق عليه من جهته مقصود الشفاعة وذلك الشفيع يشرق عليه من جهة الحق
ولهذا يرى هؤلاء دعاء الموتي عند القبور وغير القبور ويتوجهون اليهم ويستعينون بهم ويقولون ان ارواحنا اذا توجهت الى روح المقبور في القبور اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته
وكثير منهم ومن غيرهم من الجهال يرون الصلوة والدعاء عند قبور الانبياء والصالحين من اهل البيت وغيرهم افضل من الصلوات الخمس والدعاء في المساجد وافضل من حج البيت العتيق
ومعلوم ان كفر هؤلاء بما يقولونه في الشفعاء اعظم من كفر مشركي العرب بما قالوه فيهم لان كلتى الطائفتين عبدوا من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله لكن العرب اقروا بأن الله عالم بهم قادر عليهم يخلق بمشيئته وقدرته وقالوا إن هؤلاء ينفعونا بدعائهم لنا
وأما مشركوا الفلاسفة كما ذكره ابن سينا ومن اتبعه فيقولون إن من يستشفع به لا يدعو الله لنا بشئ والله لا يعلم دعاءنا ولا دعاءه ولا يسمع نداءنا ولا نداءه بل ولا يعرف بنا ولا نراه ولا يعرف به فانا نحن من الجزئيات والله لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يقدر على تغيير شئ من العالم ولا يفعل بمشيئته

لكن قالوا لكن نحن إذا توجهنا الى هؤلاء بالدعاء لهم والسؤال منهم بل وبالعبادة لهم فاض علينا ما يفيض منهم وفاض عليهم ما يفيض من جهة الله
ثم إن طائفة من أهل الكلام يردون عليهم باطلهم بقول باطل فيردون فاسدا بفاسد وإن كان أحدهما أكثر فسادا مثل إنكار كثير منهم لكثير من الامور الرياضية كاستدارة الفلك وغير ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة وآثار السلف مع دلالة العقل
أو يفعلون كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل حيث اخذ يذكر المفاضلة بين الارواح العلوية وبين الانبياء ويجعل إثبات هذه وسائط آولى من تلك تفضيلا لأقوال الحنفاء على أقوال الصابئة وهذا غلط عظيم
فان الحنفاء لا يثبتون بين الله وبين مخلوقاته واسطة في عبادته وسؤاله وإنما يثبتون الوسائط في تبليغ رسالاته فأصل الحنفاء شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا وغيره من الرسل رسل الله
وأما الوسائط التي يثبتها المشركون فيجعلون الملئكة معبودين وهذا كفر وضلال وتوسط الملئكة بمعنى تبليغ رسالات الله أو بمعنى أنهم يفعلون ما يفعلونه باذن الله مما اتفق عليه الحنفاء
ومعلوم أن المشركين من عباد الاصنام وغيرهم كانت الشياطين تضلهم فتكلمهم وتقضى لهم بعض حوائجهم وتخبرهم بأمور غائبة عنهم
وكان للكهان شياطين تخبرهم وتأمرهم وإن كان الكذب فيما يقولونه اكثر من الصدق
وهكذا المشركون في زماننا الذين يدعون غير الله كالشيوخ الغائبين والموتى تتصور لهم الشياطين في صور الشيوخ حتى يظنوا ان الشيخ حضر وأن الله صور

على صورته ملكا وأن ذلك من بركة دعائه وإنما يكون الذي تصور لهم شيطان من الشياطين
وهذا مما نعرف أنه ابتلى في زماننا وغير زماننا خلق كثير أعرف منهم عددا وأعرف من ذلك وقائع متعددة
والشياطين ايضا تضل عباد القبور كما كانت تضل المشركين من العرب وغيرهم
وكانت اليونان من المشركين يعبدون الاوثان ويعانون السحر كما ذكروا ذلك عن أرسطو وغيره وكانت الشياطين تضلهم وبهم يتم سحرهم وقد لا يعرفونهم أن ذلك من الشياطين بل قد لا يقرون بالشياطين بل يظنون ذلك كله من قوة النفس او من أمور طبيعية او من قوى فلكية فان هذه الثلاثة هي اسباب عجائب العالم عند ابن سينا وموافقيه
وهم جاهلون بما سوى ذلك من أفعال الشياطين الذين هم أعظم تأثيرا في العالم في الشر من هذا كله وجاهلون بملئكة الله الذين يجرى بسببهم كل خير في السماء والارض
وما يدعونه من جعل الملئكة هي العقول العشرة او هي القوى الصالحة في النفس وأن الشياطين هي القوى الخبيئة مما قد عرف فساده بالدلائل العقلية بل بالضرورة من دين الرسول
فاذا كان شرك هؤلاء وكفرهم في نفس التوحيد وعبادة الله وحده أعظم من شرك مشركى العرب وكفرهم فأى كمال للنفس في هذه الجهالات
وهذا وأمثاله يفتقر الى بسط كثير وقد ذكرنا منه طرفا في مواضع غير هذا
والمقصود هنا ذكر ما ادعاه هؤلاء في البرهان المنطقي

بطلان دعواهم لا بد في البرهان من قضية كلية
وايضا فاذا قالوا العلوم اليقينية النظرية لا تحصل إلا ب البرهان الذي هو عندهم قياس شمولي وعندهم لا بد فيه من قضية كلية موجبة
ولهذا قالوا لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شئ من انواع القياس لا بحسب صورته كالحملي والشرطي المتصل والمنفصل ولا بحسب مادته لا البرهانى ولا الخطابي ولا الجدلى بل ولا الشعري
فيقال إذا كان لا بد في كل ما يسمونه برهانا من قضية كلية فلا بد من العلم بتلك القضية الكلية أي من العلم بكونها كلية وإلا فمتى جوز عليها أن لا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها والمهملة وهي المطلقة التي يحتمل لفظها أن يكون كلية وجزئية في قوة الجزئية
وإذا كان لا بد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم ب قضية كلية موجبة فيقال
العلم بتلك القضية إن كان بديهيا أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيا بطريق الاولى
وإن كان نظريا احتاج الى علم بديهي فيفضى الى الدور المعى أو التسلسل في أمور لها مبدأ محدود فان علم ابن آدم إذا توقف على علم منه وعلمه على علم منه فعلمه له مبدأ لانه نفسه مبدأ ليس هذا ك تسلسل الحوادث الماضية وأيضا فانه تسلسل في المؤثرات وكلاهما باطل
وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان ويسمونها الواجب قبولها سواء كانت حسية ظاهرة او باطنة وهي التي يحسها بنفسه

أو كانت من المجربات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من اليقينيات الواجب قبولها
مثل العلم بكون ضوء القمر مستفادا من الشمس إذا راى اختلاف اشكاله عند اختلاف محاذياته للشمس كما يختلف إذا فارقها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال وإذا كان ليلة الاستقبال عند الابدار
وهم متنازعون هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا
ومثل العقليات المحضة كقولنا الواحد نصف الاثنين والكل أعظم من الجزء والاشياء المساوية لشئ واحد متساية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان
فما من قضية من هذه القضايا الكلية التي تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم ب النتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان بل هو الواقع كثيرا
فاذا علم ان كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهما واحد فانه يعلم ان هذا الواحد نصف هذين الاثنين وهلم جرا في سائر القضايا المعينة من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية
وكذلك كل كل وجزء يمكن العلم بأن هذا الكل اعظم من جزئة بدون توسط القضية الكلية
وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فانه يعلم انهما لا يجتمعان ولا يرتفعان فكل أحد يعلم أن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ولا يخلو من الوجود والعدم كما يعلم المعين الآخر ولا يحتاج ذلك الى ان يستدل عليه بأن كل شئ لا يكون موجودا معدوما معا
وكذلك الضدان فان الانسان يعلم ان هذا الشئ لا يكون اسود ابيض ولا يكون متحركا ساكنا كما يعلم أن الاخر كذلك ولا يحتاج في العلم بذلك

الى قضية كلية بان كل شئ لا يكون اسود ابيض ولا يكون متحركا ساكنا وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فان علم تضاد المعينين علم انهما لا يجتمعان وإن لم يعلم تضادهما لم يغنه العلم بالقضية الكلية وهي علمه بأن كل ضدين لا يجتمعان فان العلم بالقضية الكلية يفيد العلم ب المقدمة الكبرى المشتملة على الحد الاكبر وذلك لا يغنى بدون العلم ب المقدمة الصغرى المشتملة على الحد الاصغر والعلم ب النتيجتة وهو أن هذين المعينين ضدان فلا يجتمعان يمكن بدون العلم بالمقدمة الكبرى وهو أن كل ضدين لا يجتمعان فلم يفتقر العلم بذلك الى القياس الذي خصوه باسم البرهان
وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما يسمونه هم البرهان وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل على القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه
مثال ذلك انه إذا اريد إبطال قول من يثبت الاحوال ويقول إنها لا موجودة ولا معدومة فقيل هذان نقيضان وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان فان هذا جعل للواحد لا موجودا ولا معدوما ولا يمكن جعل شئ من الاشياء لا موجودا ولا معدوما في حال واحدة فلا يمكن جعل الحال لا موجودة ولا معدومة كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ممكنا بدون هذه القضية الكلية فلا يفتقر العلم ب النتيجة الى البرهان
وكذلك إذا قيل إن هذا ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح لوجوده على عدمه على اصح القولين أو لاحد طرفيه على قول طائفة من الناس او قيل هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث فتلك القضية الكلية وهى قولنا كل محدث لا بد له من محدث وكل ممكن لا بد له مرجح يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها فيعلم ان هذا المحدث لا بد له من محدث وهذا

الممكن لا بد له من مرجح
فان شك عقله وجوز ان يحدث هو بلا محدث احدثه او ان يكون وهو ممكن يقبل الوجود والعدم بدون مرجح يرجح وجوده جوز ذلك في غيره من المحدثات والممكنات بطريق الاولى وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه ب النتيجة المعينة وهو قولنا وهذا محدث فله محدث أو هذا ممكن فله مرجح الى العلم بالقضية الكلية فلا يحتاج الى القياس البرهاني
ومما يوضح هذا أنك لا تجد أحدا من بني آدم يريد ان يعلم مطلوبا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي

فساد قولهم بأنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين
ولهذا لا تجد أحدا من سائر اصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول
ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة وقد يكون مقدمتين وقد يكون مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل إذ حاجة الناس تختلف
وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال إنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما ولا يحتاج الى أكثر منهما كما يقوله من يقوله من المنطقيين
وهذا ينبغي ان تأخذه من المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الانبياء فانه يظهر بها فساد منطقهم
الكلام على تمثيلهم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام
وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بأقوال الانبياء فانه يظهر الاحتياج الى القضية

الكلية كما إذا أردنا بيان تحريم النبيذ المتنازع فيه فقلنا النبيذ مسكر وكل مسكر حرام او قلنا إنه خمر وكل خمر حرام
فقولنا النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص وهو قول النبي ص - كل مسكر خمر وقولنا كل خمر حرام يعلم بالنص والاجماع وليس في ذلك نزاع وإنما النزاع في المقدمة الصغرى وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ص - انه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام
وفي لفظ كل مسكر خمر وكل خمر حرام وقد يظن بعض الناس ان النبي ص - ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة ب المقدمتين كما يفعله المنطقيون وهذا جهل عظيم ممن يظنه فان النبي ص - أجل قدرا من ان يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم
بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء امته لا يرضى لنفسه ان يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون الاستدال ويقولون هؤلاء قوم كانوا يحسنون الصناعات كالحساب والطب ونحو ذلك وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الالهية فلم يكونوا من رجالها
وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم وبسطوا الكلام عليهم
وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون فلا يحتاجون الى معرفة ذلك ب القياس
وإنما شك بعضهم في أنواع من الاشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك كما في الصحيحين عن أبي موسى الاشعري أنه قيل

يا رسول الله عندنا شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر قال وكان قد أوتى جوامع الكلم فقال كل مسكر حرام فأجابهم ص - بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم وبين ايضا ان كل ما يسكر فهو خمر
وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر متوقفا على العلم بهما جميعا
فان من علم أن النبي ص - قال كل مسكر حرام وهو من المؤمنين به علم ان النبيذ المسكر حرام ولكن قد يحصل له الشك هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر وهذا شك في مدلول قوله فاذا علم مراده ص - علم المطلوب
وكذلك إذا علم ان النبيذ خمر والعلم بهذا او كد في التحريم فان من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرا فاذا علم بالنص ان كل مسكر خمر كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الايمان الذين يعلمون ان الخمر محرم وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول فهذا لا يستدل بنصه
وإن علم ان محمدا رسول الله لكن لم يعلم انه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله كل مسكر خمر بل ينفعه قوله كل مسكر حرام وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر لأن الخرم والمسكر اسمان لمسمى واحد عند الشارع وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر
وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية بل التنبيه على التمثيل فان

هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين

التمثيل بصور مجردة عن المواد المعينة
والمنطقيون يمثلون بصور مجردة عن المواد لا تدل على شئ يعينه لئلا يستفاد العل بالمثال من صورته المعينة كما يقولون كل ا ب وكل ب ج فكل ا ج
لكن المقصود هو العلم المطلوب من المواد المعينة فاذا جردت يظن الظان ان هذا يحتاج اليه في المعينات وليس الامر كذلك
بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم ب المعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفا على البرهان
فالقضايا النبوية لا تحتاج الى القياس العقلى الذي سموه برهانا وما يستفاد بالعقل من العلوم ايضا لا يحتاج الى قياسهم البرهاني فلا يحتاج اليه لا في العقليات ولا في السمعيات
فامتنع أن يقال لا يحصل علم إلا ب القياس البرهاني الذي ذكروه
العلوم الحسية لا تكون إلا جزئية معينة
ومما يوضح ذلك ان القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار لم ندرك ان كل نار محرقة فاذا جعلنا هذه قضية كلية وقلنا كل نار محرقة لم يكن لنا طريق يعلم به صدق هذه القضية الكلية علما يقينيا إلا والعلم بذلك ممكن في الاعيان المعينة بطريق الاولى
وإن قيل ليس المراد العلم ب الامور المعينة فان البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية فالنتائج المعلومة ب البرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك

والكليات إنما تكون كليات في الاذهان لا في الاعيان
قيل فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشئ موجود بل بأمور مقدرة في الاذهان لا يعلم تحققها في الاعيان وإذا لم يكن في هذا علم بشئ موجود لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدا بل عديم المنفعة
وهم لا يقولوك بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجة الطبيعية والالهية
ولكن حقيقة الامر كما بيناه في غير هذا الموضع ان المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة بل الاكثرية فلا تفيد مقصود البرهان
وأما الالهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن ان تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان
ولهذا حدثونا باسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب كشف اسرار المنطق والموجز وغيرهما انه قال عند الموت أموت وما عرفت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر الى المؤثر ثم قال الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئا وكذلك حدثونا عن آخر من افاضلهم
فهذا امر يعرفه كل من خبرهم ويعرف انهم اجهل اهل الارض بالطرق التي ينال بها العلوم العقلية والسمعية إلا من علم منهم علما من غير الطريق المنطقية فتكون علومه من تلك الجهة لا من جهتهم مع كثرة تعبهم في البرهان الذين يزعمون أنهم يزنون به العلوم ومن عرف منهم بشئ من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق

القضايا الكلية تعلم ب قياس التمثيل
ومما يبين ان حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر الى برهانهم ان يقال إذا كان لا بد في برهانهم من قضية كلية فالعلم بتلك القضية الكلية لا بد له من سبب فان عرفوها ب اعتبار الغائب بالشاهد وان حكم الشيء حكم مثله كما إذا عرفنا أن هذا النار محرقة علمنا ان النار الغائبة محرقة لانها مثلها وحكم الشيء حكم مثله فيقال
هذا استدلال ب قياس التمثيل وهم يزعمون انه لا يفيد اليقين بل الظن فاذا كانوا علموا القضية الكلية بقياس التمثيل رجعوا في اليقين الى ما يقولون إنه لا يفيد إلا الظن
وإن قالوا بل عند الاحساس ب الجزئيات يحصل في النفس علم الكلى من واهب العقل أو تستعد النفس عند الاحساس ب الجزئيات لان يفيض عليها الكلى من واهب العقل او قالوا من العقل الفعال عندهم او نحو ذلك قيل لهم
الكلام فيها به يعلم ان ذلك الحكم الكلى الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل
فان قالوا هذا يعلم بالبديهة والضرورة كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة وأن النفس مضطرة الى هذا العلم وهذا إن كان حقا فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع
فان جزم العقلاء ب الشخصيات من الحسيات أعظم من جزمهم ب الكليات وجزمهم بكلية الانواع أعظم من جزمهم بكلية الاجناس والعلم ب الجزئيات

أسبق الى الفطرة فجزم الفطرة بها اقوى ثم كلما قوى العقل اتسعت الكليات
وحينئذ فلا يجوز ان يقال إن العلم ب الاشخاص موقوف على العلم ب الانواع والاجناس ولا ان العلم ب الانواع موقوف على العلم ب الاجناس بل قد يعلم الانسان انه حساس متحرك بالارادة قبل ان يعلم ان كل إنسان كذلك ويعلم ان الانسان كذلك قبل ان يعلم ان كل حيوان كذلك فلم يبق علمه ب انه أو ب ان غيره من الحيوان حساس متحرك بالارادة موقوفا على البرهان
وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد أو انه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركا بالارادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الاحكام الشرعية

استواء قياس التمثيل وقياس الشمول
وهؤلاء يزعمون ان ذلك القياس إنما يفيد الظن وقياسهم هو الذي يفيد اليقين وقد بينا في غير هذا الموضع ان قولهم هذا من أفسد الاقوال وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء وإنما يختلف اليقين والظن بحسب المواد فالمادة المعينة إن كانت يقينية في أحدهما كانت يقينية في الاخر وإن كانت ظنية في أحدهما كانت ظنية في الاخر
وذلك ان قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة الاصغر والاوسط والاكبر والحد الاوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطا وجامعا ومشتركا وصفا ومقتضيا ونحو ذلك من العبارات
فاذا قال في مسألة النبيذ كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فلا بد له من إثبات المقدمة الكبرى وحينئذ يتم البرهان
وحينئذ فيمكنه ان يقول النبيذ مسكر فيكون حراما قياسا على خمر العنب

بجامع ما يشتركان فيه من الاسكار فان الاسكار هو مناط التحريم في الاصل وهو موجود في الفرع
فيما به يقرر ان كل مسكر حرام به يقرر ان السكر مناط التحريم بطريق الاولى بل التقرير في قياس التمثيل اسهل عليه لشهادة الاصل له بالتحريم
فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات لا يكفى في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزئين لثبوته في الجزء الاخر ل اشتراكهما في امر لم يقم دليل على استلزامه للحكم كما يظنه هؤلاء الغالطون بل لا بد من ان يعلم ان المشترك بينهما مستلزم للحكم والمشترك بينهما هو الحد الاوسط وهو الذي يسميه الفقهاء واهل اصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم
وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج اليه غالبا في تقرير صحة القياس
فان المعترض قد يمنع الوصف في الاصل وقد يمنع الحكم في الاصل وقد يمنع الوصف في الفرع وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم ويقول لا اسلم ان ما ذكرته من الوصف المشترك هو العلة او دليل العلة فلا بد من دليل يدل على ذلك إما من نص او إجماع او سبر وتقسيم أو المناسبة او الدوران عند من يستدل بذلك فما دل على ان الوصف المشترك مستلزم الحكم إما علة وإما دليل العلة هو الذي يدل على ان الحد الاوسط مستلزم الاكبر وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى فان اثبت العلة كان برهان علة وإن اثبت دليلها كان برهان دلالة وإن لم يفد العلم بل افاد الظن فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية وهذا أمر بين
ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولى كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلى وحقيقة احدهما هو حقيقة الاخر

رد القول بأنه لا قياس في العقليات إنما هو في الشرعيات
ومن قال من متأخري اهل الكلام والرأى كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم إن العقليات ليس فيها قياس وإنما القياس في الشرعيات ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقا فقولهم مخالف لقول جمهور نظار المسلمين بل وسائر العقلاء
فان القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات فانه إذا ثبت ان الوصف المشترك مستلزم الحكم كان هذا دليلا في جميع العلوم وكذلك إذا ثبت انه ليس بين الفرع والاصل فرق مؤثر كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل ب القياس التمثيلي لا يستدل ب القياس الشمولي
وأبو المعالي ومن قبله من نظار المتكلمين لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها بل يستدلون بالادلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها من غير اعتبار ذلك
غير ان المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزما للحكم كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل
ومنازعهم يقول لم يثبت الحكم في الغائب لاجل ثبوته في الشاهد بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج الى التمثيل
فيقال لهم وهكذا في الشرعيات فانه متى قام الدليل على ان الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج الى الاصل بل نفس الدليل الدال على ان الحكم معلق بالوصف كاف لكن لما كان هذا كليا والكلى لا يوجد إلا معينا كان تعيين الاصل مما يعلم به تحقق هذا الكلى وهذا امر نافع في الشرعيات والعقليات فعلمت ان القياس حيث قام الدليل على ان الجامع مناط الحكم او على إلغاء الفارق بين الاصل والفرع فهو قياس صحيح ودليل صحيح في أي شئ كان
تنازع الناس في مسمى القياس
وقد تنازع الناس في مسمى القياس

فقالت طائفة من اهل الاصول هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول كابي حامد الغزالي وابي محمد المقدسي وغيرهما
وقالت طائفة بل هو بالعكس حقيقة في الشمول مجاز في التمثيل كابن حزم وغيره
وقال جمهور العلماء بل هو حقيقة فيهما والقياس العقلي يتناولهما جميعا وهذا قول اكثر من تكلم في أصول الدين واصول الفقه وانواع العلوم العقلية وهو الصواب وهو قول الجمهور من أتباع الائمة الاربعة وغيرهم كالشيخ ابي حامد والقاضي ابي الطيب وأمثالهما وكالقاضي ابي يعلى والقاضي يعقوب والحلواني وابي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم فان حقيقة احدهما هو حقيقة الاخر وإنما تختلف صورة الاستدلال
والقياس في اللغة تقدير الشئ بغيره وهذا تتناول تقدير الشئ المعين بنظيره المعين وتقديره بالامر الكلى المتناول له ولأمثاله فان الكلى هو مثال في الذهن لجزئياته ولهذا كان مطابقا موافقا له

حقيقة قياس الشمول
وقياس الشمول هو انتقال الذهن من المعين الى المعنى العام المشترك الكلى المتناول له ولغيره والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلى بأن ينتقل من ذلك الكلى اللازم الى الملزوم الاول وهو المعين فهو انتقال من خاص إلى عام ثم انتقال من ذلك العام الى الخاص من جزئى الى كلى ثم من ذلك الكلى الى الجزئي الاول فيحكم عليه بذلك الكلى
ولهذا كان الدليل اخص من مدلوله الذي هو الحكم فانه يلزم من وجود الدليل وجود الحكم واللازم لا يكون اخص من ملزومه

بل أعم منه أو مساويه وهو المعنى بكونه أعم
والمدلول عليه الذي هو محل الحكم وهو المحكوم عليه المخبر عنه الموصوف الموضوع إما أخص من الدليل وإما مساويه فيطلق عليه القول بأنه اخص منه لا يكون أعم من الدليل إذ لو كان أعم منه لم يكن الدليل لازما له وإذا لم يكن لازما له لم يعلم ان لازم الدليل وهو الحكم لازم له فلا يعلم ثبوت الحكم له فلا يكون الدليل دليلا وإنما يكون إذا كان لازما ل المحكوم عليه الموصوف المخبر عنه الذي يسمى الموضوع والمبتدأ مستلزما الحكم الذي هو صفة وخبر وحكم وهو الذي يسمى المحمول والخبر
هذا كالسكر الذي هو أعم من النبيذ المتنازع فيه وأخص من التحريم
وقد يكون الدليل مساويا في العموم والخصوص ل الحكم ول محله
وبأي صورة ذهنية أو لفظية صور الدليل فحقيقته واحدة وإن ما يعتبر في كونه دليلا هو كونه مستلزما للحكم لازما للمحكوم عليه فهذا هو جهة دلالته سواء صور قياس شمول وتمثيل أو لم يصور كذلك
وهذا امر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه اللسان ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل ب الادلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم فالعلم بذلك الملزوم لا بد ان يكون بينا بنفسه او بدليل آخر

حقيقة قياس التمثيل والموازنة بينه وبين قياس الشمول
وأما قياس التمثيل فهو انتقال المذهن من حكم معين الى حكم معين لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلى لان ذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلى ثم العلم بذلك الملزوم لا بد له من سبب إذا لم يكن بينا كما تقدم

فهنا يتصور المعينين أولا وهما الاصل والفرع ثم ينتقل الى لازمهما وهو المشترك ثم الى لازم اللازم وهو الحكم
ولا بد ان يعرف ان الحكم لازم المشترك وهو الذي يسمى هناك قضية كبرى ثم ينتقل الى إثبات هذا اللازم للملزوم الأول المعين
فهذا هو هذا في الحقيقة وإنما يختلفان في تصوير الدليل ونظمه وإلا فالحقيقة التي بها صار دليلا وهو أنه مستلزم للمدلول حقيقة واحدة
ومن ظلم هؤلاء وجهلهم انهم يضربون المثل في قياس التمثيل بقول القائل السماء مؤلفة فتكون محدثة قياسا على الانسان ثم يوردون على هذا القياس ما يختص به لخصوص المادة وهذا يرد عليه لو جعل قياس الشمول فانه لو قيل السماء مؤلفة وكل مؤلف محدث لورد عليه هذه الاسئلة وزيادة
ولكن إذا اخذ قياس الشمول في مادة معلومة بينة لم يكن فرق بينه وبين قياس التمثيل بل قد يكون التمثيل أبين ولهذا كان العقلاء يقيسون به
وكذلك قولهم في الحد إنه لا يحصل بالمثال إنما ذلك في المثال الذي لا يحصل به التمييز بين المحدود وغيره بحيث يعرف به ما يلازم المحدود طردا وعكسا بحيث يوجد حيث وجد وينتفى حيث انتفى فان الحد المميز للمحدود هو ما به يعرف الملازم المطابق طردا وعكسا فكل ما حصل هذا فقد ميز المحدود من غيره وهذا هو الحد عند جماهير النظار ولا يسوغون إدخال الجنس العام في الحد
فاذا كان المقصود الحد بحسب الاسم فسأل بعض العجم عن مسمى الخبز فأرى رغيفا وقيل له هذا فقد يفهم ان هذا اللفظ يوجد فيه كل ما هو خبز سواء كان على صورة الرغيف او غير صورته وقد بسط الكلام على ما

ذكروه وذكره المنطقيون في الكلام على المحصل وغير ذلك
وجد هذا في الامثلة المجردة إذا كان المقصود إثبات الجيم للألف والحد الاوسط هو الباء فقيل
كل ألف باء وكل باء جيم أنتج كل الف جيم
ولكن يحتاج ذلك الى إثبات القضية الكبرى مع الصغرى وإذا قيل
كل ألف جيم قياسا عل الدال
لأن الدال هي جيم
وإنما كانت جيما لأنها باء
والألف أيضا باء
فتكون الالف جيما لاشتراكهما في المستلزم للجيم وهو الباء
كان هذا صحيحا في معنى الاول لكن فيه زيادة مثال قيست عليه الالف مع ان الحد الاوسط وهو الباء موجود فيهما

دعواهم في البرهان أنه يفيد العلوم الكمالية
فان قيل ما ذكرتموه من كون البرهان لا بد فيه من قضية كلية صحيح ولهذا لا يثبتون به إلا مطلوبا كليا ويقولون البرهان لا يفيد إلا الكليات
ثم اشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل فهى التي تكمل بها النفس وتصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير
وإذا كان المطلوب هو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير فتلك إنما تحصل ب القضايا العقلية الواجب قبولها بل إنما تكون في القضايا التي جهتها الوجوب كما يقال كل إنسان حيوان وكل موجود فاما واجب وإما ممكن

ونحو ذلك من القضايا الكلية التي لا تقبل التغير

أقسام العلوم عندهم ثلاثة
ولهذا كانت العلوم عندهم ثلاثة
إما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الطبيعي وموضوعه الجسم
وإما علم مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو الرياضي كالكلام في المقدورات المعدودة والمقدار والعدد
وإما ما يتجرد عن المادة فيهما وهو الالهى وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه الى واجب وممكن وجوهر وعرض
الجواهر الخمسة
وانقسام الجوهر الى ما هو حال وما هو محل وما ليس بحال ولا محل بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير والى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك
فالاول هو الصورة
والثاني هوالمادة وهو الهيولي ومعناه في لغتهم المحل
والمركب منهما هو الجسم
والثالث هو النفس
والرابع هو العقل
وهذه الخمسة اقسام الجوهر عندهم
والاول مقالي يجعله اكثرهم من مقولة الجوهر ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرا وقالوا الجوهر ما اذا وجد كان وجوده لا في موضوع أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه وهذا انما يكون فيما وجوده غير ماهيته والاول ليس كذلك فلا يكون جوهرا وهذا خالفو مما

فيه سلفهم ونازعوهم فيه نزاعا لفظيا ولم يأتوا بفرق صحيح معقول فان تخصيص أسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي
وأولئك يقولون بل هو كل ما ليس في موضوع كما يقول المتكلمون كل ما هو قائم بنفسه أو كل ما هو متحيز او كل ما قامت به الصفات أو كل ما حمل الاعراض ونحو ذلك
وأما الفرق المعنوي فدعواهم ان وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل ودعواهم ان الاول وجود مقيدة بالسلوب ايضا باطل كما هو مبسوط في موضعه

علم المقولات العشر
مع أن تقسيم الوجود الى واجب وممكن هو تقسيم ابن سينا وأتباعه وأما أرسطو والمتقدمون فلا يقسمونه إلا الى جوهر وعرض والممكن عندهم لا يكون إلا حادثا كما اتفق على ذلك سائر العقلاء وهذا العلم هو علم المقولات العشر وهو المسمى عندهم قاطيغورياس
الادلة على بطلان دعواهم في البرهان
والمقصود هنا الكلام على البرهان فيقال
هذا الكلام وإن ضل به طوائف فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه ولكن ننبه هنا على بعض ما فيه وذلك من وجوه
الوجه الاول
البرهان لا يفيد العلم بشئ من الموجودات
الاول أن يقال إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات والكليات إنما تتحقق في الاذهان لا في الاعيان وليس في الخارج إلا موجود معين لم يعلم

ب البرهان شئ من المعينات فلا يعلم به موجود اصلا بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الاذهان
ومعلوم ان النفس لو قدر ان كمالها في العلم فقط وإن كانت هذه قضية كاذبة كما بسط في موضعه فليس هذا علما تكمل به النفس إذ لم تعلم شيئا من الموجودات ولا صارت عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل صارت عالما لامور كلية مقدرة لا يعلم بها شئ من العالم الموجود وأي خير في هذا فضلا عن ان يكون كمالا

الوجه الثاني
لا يعلم ب البرهان واجب الوجود ولا العقول الخ
الثاني ان يقال اشرف الموجودات هو واجب الوجود ووجوده معين لا كلى فان الكلى لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه بل إنما علم امر كلى مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود
وكذلك الجواهر العقلية عندهم وهي العقول العشرة او اكثر من ذلك عند من يجعلها اكثر من ذلك عندهم كالسهروردى المقتول وأبى البركات وغيرهما كلها جواهر معينة لا امور كلية فاذا لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شئ منها

وكذلك الافلاك التي يقولون إنها ازلية ابدية وهي معينة فاذا لم يعلم إلا الكليات لم تكن معلومة
فلا يعلم لا واجب الوجود ولا العقول ولا شئ من النفوس ولا الافلاك بل ولا العناصر ولا المولدات وهذه جملة الموجودات عندهم فأي علم هنا تكمل به النفس

الوجه الثالث
ليس العلم الالهي عندهم علما بالخالق ولا بالمخلوق
الثالث ان يقال العلم الاعلى عندهم الذي هو الفلسفة الاولى والحكمة العليا علم ما بعد الطبيعة باعتبار الاستدلال وما هو قبلها باعتبار الوجود وهو الذي يسميه طائفة منهم العلم الالهي
وموضوع هذا العلم هو الوجود المطلق الكلى المنقسم الى واجب وممكن وقديم ومحدث وجوهر وعرض
إيراد لابن المطهر الحلى وتخطئة المصنف له عليه
وقد أورد بعض المتأخرين من الشيعة المصنفين في علمهم ما ذكره انه الاسرار الخفية في العلوم العقلية عليهم سؤالا قال إن كان موضوعه كل موجود فلا يبحث فيه عن عوارض كل موجود وإن كان أخص من ذلك ك الواجب والممكن فذلك جزء منه
التقسيم نوعان تقسيم الكل الى أجزائه وتقسيم الكلى الى جزئياته

فيقال له القسمة نوعان قسمة الكلى إلى جزئياته وقسمة الكل الى أجزائه والقسمة الثانية هي المعروفة في الامر العام كما يقول العلماء باب القسمة ويذكرون قسمة المواريث والمغانم والارض وغير ذلك ومنه قوله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر القمر ومنه قوله تعالى لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم الحجر
أما تقسيم الكلى الى جزئياته فمثل قولنا الحيوان ينقسم الى ناطق وأعجمي وهو قسمة الجنس الى أنواعه والنوع الى اشخاصه
استطراد
ولهذا كان النحاة إذا ارادوا ان يقسموا ما يقسمونه الى اسم وفعل وحرف يختلف كلامهم فكثير منهم يقول الكلام ينقسم الى اسم وفعل وحرف وهذا هو الذي يذكره قدماء النحاة
فاعترض عليهم بعض من صنف في قوانين النحو كالكرولي وقالوا كل جنس قسم الى أنواعه أو انواع اشخاصه ف الاسم المقسوم الاعلى صادق على الانواع والاشخاص وإلا فليست بأقسام له فصاروا يقولون الكلمة تنقسم الى اسم وفعل وحرف ويقولون الكلمة جنس تحته انواع الاسم والفعل والحرف
وهذا الاعتراض خطأ ممن أورده لان اولئك لم يقصدوا تقسيم الكلى الى جزئياته وإنما قصدوا تقسيم الكل الى أجزائه وهو التقسيم المعروف اولا في العقول واللغات كما إذا قلت هذه الارض مقسمومة فلفلان هذا الجانب ولفلان هذا الجانب كما قال تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر القمر والكلام مركب من الاسماء والافعال

والحروف كما يتركب البيت من السقف والحيطان والارض وكما ان بدن الانسان مركب من أعضائه المتميزة وأخلاطه الممتزجة فتقسيمه الى الاعضاء والاخلاط تقسيم كل الى أجزائه ومثل هذا يمتنع ان يصدق فيه اسم المقسوم على الاجزاء فليس كل واحد من أعضائه بدنا ولا كل من أخلاطه بدنا ولا كل من اجزاء السقف بيتا وكذلك الوجه إذا قيل ينقسم الى جبين وأنف وعين وخد وغير ذلك لم يكن كل واحد من هذه الاعضاء وجها ونظائر هذا كثيرة
وأما الكلى فانما يوجد في الذهن لا في الخارج فتبين ان تقسيم الاولين أظهر من تقسيم الآخرين
استطراد آخر

معنى الكلمة والحرف في كلام العرب
ثم إن الاخرين جعلوا ان الكلمة اسم جنس لهذه الانواع ولفظ الكلمة لا يوجد في لغة العرب إلا اسما لجملة تامة اسمية أو فعلية كقول النبي ص - كلمتان حفيفتان على اللسان حبيبتان الى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقوله اصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل وقوله في النساء أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ومنه قوله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا التوبة وقوله تعالى وينذر الذين قالوا اتخد الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم

كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا الكهف
ومثل هذا كثير في كلام العرب
وبعض متأخرى النحاة لما سمع بعض هذا قال وقد يراد ب الكلام الكلمة
وليس الامر كما زعمه بل لا يوجد في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة التي هي كلام ولا تطلق العرب لفظ كلمة ولا كلام إلا على جملة تامة ولهذا ذكر سيبويه انهم يحكون ب القول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا
وأما تسمية الاسم وحده كلمة والفعل وحده كلمة والحرف وحده كلمة مثل هل وبل فهذا اصطلاح محض لبعض النحاة ليس هذا من لغة العرب اصلا وانما تسمى العرب هذه المفردات حروفا ومنه قول النبي ص - من قرا القران فله بكل حرف عشر حسنات اما اني لا اقول الم حرف ولكن الف حرف ولام حرف وميم حرف والذي عليه محققوا العلماء ان المراد بالحرف الاسم وحده والفعل حرف المعنى لقوله الف حرف وهذا اسم
ولهذا لما سأل الخليل اصحابه عن النطق بالزاء من زيد فقالوا زا فقال نطقتم بالاسم وانما الحرف زه ومنه قول ابي الاسود

الدولي وذكر له لفظه من الغريب وقال هذا حرف لم يبلغك فقال كل حرف لم يبلغ عمك فافعل به كذا
ولهذا ذكر سيبويه في اول كتابه التقسيم الى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فجعل الفصل من النوع الثالث انه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فميزه بقوله جاء لمعنى عن حروف الهجاء مثل الف با تا فان هذه حروف هجاء
وهذه الالفاظ اسماء تعرب اذا عقدت وركبت ولكن اذا نطق بها قبل التركيب نطق بها ساكنة كما ينطق بأسماء العدد قبل التركيب والعقد فيقال واحد اثنان ثلاثة ولهذا يعلم الصبيان في اول الامر اسما الحروف المفردة ا ب ت ث ثم المركبة وهو ابجد هوز حطي ويعلمون اسماء الاعداد واحد اثنان ثلاث
عود إلى أصل الموضوع
والمقصود هنا ان التقسيم نوعان تقسيم الكل الى اجزائه وهو اشهرهما واعرفهما في العقول واللغات والثاني تقسيم الكلي الى جزئياته وهو التقسيم الثاني لان الكليات هي المعقولات الثانية
فاذا قال القائل الوجود الذي هو موضوع العلم الالهي عندهم اما ان يكون كل موجود او بعضه وهو الواجب او الممكن كان هذا الحصر خطأ منه لان موضوعه الوجود الكلي المنقسم الى انواعه لا الكل المنقسم الى اجزائه ومعلوم ان الوجود الكلي يتكلمون في لواحقه الذاتيه لا في لواحق كل موجود

العلم الاعلى عند المنطقيين ليس علما بموجود في الخارج
لكن الذي تبين به خساسة ما عند القوم ونقص قدره ان هذا الوجود الكلي

انما يكون كليا في الذهن لا في الخارج فاذا كان هذا هو العلم الاعلى عندهم لم يكن الاعلى عندهم علما بشيء موجود في الخارج بل علما بأمر مشترك بين جميع الموجودات وهو مسمى الوجود وذلك كمسمى الشيء والذات والحقيقة والنفس والعين والماهية ونحو ذلك من المعاني العامة ومعلوم ان العلم بهذا ليس هو علما بموجود في الخارج لا بالخالق ولا بالمخلوق وانما هو علم بأمر مشترك كلي يشترك فيه الموجودات لا يوجد الا في الذهن ومن المتصورات ما يشترك فيه الموجود والمعدوم كقولنا مذكور ومعلوم ومخبر عنه فهذا اعم من ذاك
وهذا بخلاف العلم الاعلى عند المسلمين فانه العلم بالله الذي هو في نفسه اعلى من غيره من كل وجه والعلم به اعلى العلوم من كل وجه والعلم به اصل لكل علم وهم يسلمون ان العلم به اذا حصل على الوجه التام يستلزم العلم بكل موجود
وهذا بخلاف العلم بمسمى الوجود فان هذا لا حقيقة له في الخارج ولا العلم بالقدر المشترك يستلزم العلم بأجناسه وأنواعه وما يتميز به كل شئ بل ليس فيه إلا علم بقدر مشترك لا تصور له في الخارج وإنما هو علم بهذه المشتركات
وليس في مجرد العلم بذلك ما يوجب كمال النفس بل ولا في العلم بأقسامه العامة فانا إذا علمنا أن الوجود ينقسم الى جوهر وعرض وأن اقسام الجوهر خمسة كما زعموه مع ان ذلك ليس بصحيح ولا يثبت مما ذكروه إلا الجسم وأما المادة والصورة والنفس والعقل فلا يثبت لها حقيقة في الخارج إلا ان يكون جسما اوعرضا ولكن ما يثبتونه يعود الى امر مقدر في النفس لا في الخارج كما قد بسط في موضعه
وقد اعترف بذلك من ينصرهم ويعظمهم كأبى محمد بن حزم وغيره ولتعظيمه

المنطق رواه باسناده الى متى الترجمان الذي ترجمه الى العربية ومع هذا فاعترف بما ذكرناه وقد بسط ذلك في موضعه
ونحن نفرض هنا وجود ذلك في الخارج فالعلم بانقسام ذلك الى جواهر خمسة وانقسام العرض الى الانواع التسعة مع انه لم يقم دليل على انقسامه الى تسعة عند بعضهم وقد انشدوا فيها ... زيد الطويل الاسود ابن مالك ... في داره بالامس كان يتكى ... في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوى ...
فذكر في هذين البيتين الجوهر والكم والكيف والاضافة والاين ومتى والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل
ولما لم يقم دليل على حصر أجناسها العالية في تسعة جعلها بعضهم خمسة وبعضهم ثلاثة الكم والكيف والاضافة
والمقصود هنا أنه إذا علم هذا التقسيم وعندهم كلما كان أعم كان أقرب الى المعقول وكان البرهان عليه أقوم فانه لا يقوم برهان واجب القبول دائما إلا على ما لا يتغير وهذه الاعراض عندهم لا يقوم ب واجب الوجود بل ولا ب العقول إلا بعضها على نزاع بينهم فيعود الكمال الى تصور وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج كتصور ذات مطلقة وشئ مطلق وحقيقة مطلقة
وأي كمال للنفس في مجرد تصور هذه الامور العامة الكلية إذا لم تتصور أعيان الموجودات المعينة الجزئية وأي علم في هذا برب العالمين الذي لا تكمل النفوس إلا

بمعرفته وعبادته محبة وذلا كما قد بسط في موضعه
ولهذا كانت نهاية الفلاسفة إذا هداهم الله بعض الهداية بداية اليهود والنصارى الكفار فضلا عن المسلمين أمة محمد ص - فان ما عند اليهود والنصارى الكفار بعد النسخ والتبديل مما هو من نوع كمال النفس افضل في الجنس والكم والكيف مما عند الفلاسفة

الوجه الرابع
العلم الرياضي لا تكمل به النفوس وإن ارتاضت به العقول
إن تقسيمهم العلوم الى الطبيعي والى الرياضي والى الالهي وجعلهم الرياضي اشرف من الطبيعي والالهي اشرف من الرياضي هو مما قلبوا به الحقائق
فان العلم الطبيعي وهو العلم بالاجسام الموجودة في الخارج ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال الى حال وما فيها من الطبائع اشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة فان كون الانسان لا يتصور إلا شكلا مدورا او مثلثا أو مربعا ولو تصور كل ما في اقليدس او لا يتصور إلا أعدادا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج وليس ذلك كمالا في النفس ولولا ان ذلك يطلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجية التي هي أجسام وأعراض لما جعل علما
وإنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة او ينتفعوا به في عمارة الدنيا هذا مع ان براهينهم القياسية لا تدل على شئ دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية
فان علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل والهندسة التي هي علم بالكم المنفصل علم يقينى لا يحتمل النقيض البتة مثل جمع الاعداد وقسمتها

وضربها ونسبة بعضها الى بعض
فانك إذا جمعت مائة الى مائة علمت انها مائتان واذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة واذا ضربتها في عشرة كان المرتفع مائة
والضرب مقابل للقسمة فان ضرب الاعداد الصصحيحة تضعيف احاد احد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع احد العددين على آحاد العدد الاخر فاذا قسم المرتفع بالضرب على احد العددين خرج المضروب الاخر واذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه والنسبة تجمع هذا كله فنسبة احد المضروبين الى المرتفع كنسبة الواحد الى المضروب الاخر ونسبة المرتفع الى احد المضروبين كنسبة الاخر الى الواحد
فهذه الامور وامثالها مما يتكلم فيه الحساب امر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول وما من احد من الناس الا يعرف منه شيئا فانه ضروري في العلم ضروري في العمل ولهذا يمثلون به في قولهم الواحد نصف الاثنين ولا ريب ان قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة
استطراد
وهذا مبتدا فلسفتهم التي وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون اصحابه اصحاب العدد وكانوا يظنون ان الاعداد المجردة موجودة خارج الذهن
ثم تبين لافلاطون واصحابه غلط ذلك وظنوا ان الماهيات المجردة ك الانسان المطلق والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وانها ازلية ابدية
ثم تبين لارسطو واصحابه غلط ذلك فقالوا بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الاشخاص ومشى من مشى من اتباع ارسطو من المتأخرين

على هذا وهو ايضا غلط فان ما في الخارج ليس بكلى اصلا وليس في الخارج الا ما هو معين مخصوص
واذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فمعناه ان ما هو كلي في الذهن هو مطابق للافراد الموجودة في الخارج مطابقة العام لافراده والموجود في الخارج معينا مختص ليس بكلي اصلا ولكن فيه حصة من الكلي
وما في الذهن يطلق عليه انه قد يوجد الخارج كما يقال فعلت ما في نفسي وفي نفسي امور اريد فعلها ومنه قوله تعالى الا حاجة في نفس يعقوب قضاها وقول عمر كنت زورت في نفسي مقالة احببت ان اقولها ونظائره كثيرة
والكلي اذا وجد في الخارج لا يكون الا معينا لا يكون كليا فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن
ومن اثبت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فتصور قوله تصورا تاما يكفي في العلم بفساد قوله وهذه الامور مبسوطة في غير هذا الموضع
عود الى اصل الموضوع
والمقصود هنا ان هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة لكن لا تكمل بذلك نفس ولا تنجو به من عذاب ولا يحصل لها به سعادة
ولهذا قال ابو حامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء

هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبه لا ثقه بها وان بعض الظن اثم يشيرون بالاول الى العلوم الرياضية وبالثاني الى ما يقولونه في الالهيات وفي احكام النجوم ونحو ذلك

الاسباب المغرية بالاشتغال بالعلم الرياضي وما اشبهه
لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك فان الانسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه وسماع ما لم يكن سمعه اذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو اهم عنده منه كما قد يلتذ بأنواع من الافعال التي هي من جنس اللهو واللعب
وايضا ففي الادمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصادقة والقياس المستقيم فيكون في ذلك تصحيح الذهن والادراك وتعويد النفس انها تعلم الحق وتقوله لتستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك
ولهذا يقال انه كان اوائل الفلاسفة اول ما يعلمون اولادهم العلم الرياضي وكثير من شيوخهم في اخر امره انما يشتغل بذلك لانه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من اهل الكلام الباطل لم يجد في ذلك ما هو حق اخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي كما كان يجري مثل ذلك لمن هو من ائمة الفلاسفة كابن واصل وغيره
وكذلك كثير من متأخري اصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك لان فيه تفريحا للنفس وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط

وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال اذا لهوتم فالهوا بالرمي واذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض فان حساب الفرائض علم معقول مبني على اصل مشروع فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع ولكن ليس هو علما يطلب لذاته ولا تكمل به النفس
واولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل ويدعونها بأنواع الدعوات كما هو معروف من اخبارهم وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعه في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والاقسام التي بها يعظم ابليس وجنوده وكان الشيطان بسبب السحر والشرك يغويهم بأشياء هي التي دعتهم الى ذلك الشرك والسحر فكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها ومقادير حركاتها وما بين بعضها وبعض من الاتصالات ليستعينوا بذلك على ما يرونه مناسبا لها
ولما كانت الافلاك مستديرة ولم يكن معرفة حسابها الا بمعرفة الهندسة واحكام الخطوط المنحنية والمستقيمة تكلموا في الهندسة لذلك ولعمارة الدنيا
فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك والا فلو لم يتعلق بذلك غرض الا مجرد تصور الاعداد والمقادير لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور
وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك فان لذات النفوس انواع ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار حتى يشغله ذلك عما هو انفع له منه
فكان مبدا وضع المنطق من الهندسة فجعلوه اشكالا كالاشكال الهندسية وسموه حدودا كحدود تلك الاشكال لينتقلوا من الشكل المحسوس الى الشكل المعقول وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم الا بالطريق البعيدة

والله تعالى قد يسر للمسلمين من العلم والبيان مع العمل الصالح والايمان ما برزوا به على كل نوع من انواع جنس الانسان والحمد لله رب العالمين

العلم الالهي عندهم ليس له معلوم في الخارج
واما العلم الالهي الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج فقد تبين لك انه ليس له معلوم في الخارج وانما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية الا في الذهن وليس في هذا من كمال النفس شيء
وان عرفوا واجب الوجود بخصوصه فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان ف برهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه لا واجب الوجود ولا غيره وانما يدل على امر كلي و الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه و واجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه ومن لم يتصور ما يمتنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله
ومن لم يثبت للرب الا معرفة الكليات كما يزعمه ابن سينا وامثاله وظن ذلك كمالات للرب وكذلك يظن كمالا للنفس بطريق الاولى لا سيما اذا قال ان النفس لا تدرك الا الكليات وانما يدرك الجزئيات البدن فهذا في غاية الجهل
وهذه الكليات التي لا يعرف بها الجزئيات الموجودة لا كمال فيها البتة والنفس انما تحب معرفة الكليات لتحيط بها بمعرفة الجزئيات فاذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك
كمال النفس بمعرفة الله مع العمل الصالح لا بمجرد معرفة الله فضلا عن
كونه يحصل بمجرد علم الفلسفة
الوجه الخامس ان يقال هب ان النفس تكمل بالكليات المجردة كما زعموه فما يذكرونه في العلم الاعلى عندهم الناظر في الوجود ولو احقه ليس كذلك فان

تصور معنى الوجود فقط امر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره فليس هو المطلوب وانما المطلوب اقسامه
ونفس انقسامه الى واجب وممكن وجوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث هو اخص من مسمى الوجود وليس في مجرد معرفة انقسام الامر العام في الذهن الى اقسام بدون معرفة الاقسام ما يقتضى علما عظيما عاليا على تصور الوجود
فاذا عرفت الاقسام فليس فيها ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغير والاستحالة فان هذه الاقسام عامتها انما هو في هذا العالم وكل ذلك يقبل التغير والاستحالة وليس معهم دليل اصلا يدلهم على ان العالم لم يزل ولا يزال هكذا
وجميع ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك فانما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه لا على قدم شيء معين ولا دوام شيء معين فالجزم بأن مدلول تلك الادلة هو هذا العالم او شيء منه جهل محض لا مستند له الا عدم العلم بموجود غير هذا العالم وعدم العلم ليس علما بالعدم
ولهذا لم يكن عند القوم ايمان بالغيب الذي اخبرت به الانبياء فهم لا يؤمنون لا بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت
واذا قالوا نحن نثبت العالم العقلي او المعقول الخارج عن العالم المحسوس وذلك هو الغيب فان هذا وان كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال فان ما سواء من المعقولات انما يعود عند التحقيق الى امور مقدرة في الاذهان لا موجودة في الاعيان والرسل اخبرت عما هو موجود في الخارج وهو اكمل واعظم وجودا مما نشهده في الدنيا فأين هذا من هذا
وهم لما كانوا مكذبين بما اخبرت به الرسل في نفس الامر واحتاجوا الى الجمع بين قولهم وبين تصديق الرسل لما بهرهم من امر الرسل قالوا ان الرسل قصدوا

اخبار الجمهور بما يتخيل اليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي اقاموه لهم
ثم منهم من يقول ان الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الامور ومنهم من يقول بل لم يكونوا يعرفون هذا وانما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية واقل اتباع الرسل اذا تصور حقيقة ما عندهم وجده مما لا يرضى به اقل اتباع الرسل
و اذا علم بالادلة العقلية ان هذا العالم يمتنع ان يكون شيء منه قديما ازليا وعلم بأخبار الانبياء المؤيدة بالعقل انه كان قبله عالم اخر منه خلق وانه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك علم ان غاية ما عندهم من الاحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم
وهب انهم لم يعلموا ما اخبرت به الرسل فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الانواع الكلية التي في هذا العالم ازلية ابدية لم تزل ولا تزال فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة وعامة فلسفتهم الاولى وحكمتهم العليا 127من هذا النمط
وكذلك من صنف على طريقتهم كصاحب المباحث المشرقية وصاحب حكمة الاشراق وصاحب دقائق الحقائق ورموز الكنوز وصاحب

كشف الحقائق وصاحب الاسرار الخفية في العلوم العقلية وامثال هؤلاء ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقا ولا تخلص من اشراك ضلالهم مطلقا بل شاركهم فى كثير من ضلالهم و شاركهم فى كثير من محالهم وتخلص من بعض و بالهم و ان كان ايضا لم ينصفهم فى بعض ما اصابوا فيه و اخطا لعدم علمه بمرادهم او لعدم معرفته ان ما قالوه صواب

مأخذ علوم ابي علي ابن سينا وشيء من احواله
ثم ان هؤلاء انما يتبعون كلام ابن سينا وابن سينا تكلم في اشياء من الالهات والنبويات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت اليها عقولهم ولا بلغتها علومهم فإنه استفادها من المسلمين وان كان انما اخذ عن الملاحدة المنتسبين الى المسلمين كالاسماعيلية وكان اهل بيته من اهل دعوتهم من اتباع الحاكم العبيدي

الذي كان هو اهل بيته واتباعه معروفين عند المسلمين بالالحاد احسن ما يظهرونه دين الرفض وهم في الباطن يبطون الكفر المحض
وقد صنف المسلمون في كشف اسرارهم وهتك استارهم كتبا كبارا وصغارا وجاهدوهم باللسان واليد اذ كانوا احق بذلك من اليهود والنصارى ولو لم يكن الا كتاب كشف الاسرار وهتك الاستار للقاضي ابي بكر محمد بن الطيب وكتاب عبد الجبار بن احمد وكتاب ابي حامد الغزالي وكلام ابي اسحاق وكلام ابن فورك والقاضي ابي يعلى وابن عقيل والشهر ستاني

وغير هؤلاء مما يطول وصفه
والمقصود هنا ان ابن سينا اخبر عن نفسه ان اهل بيته اباه واخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة وانه انما اشتغل بالفلسفة بسبب ذاك فانه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس
وهؤلاء المسلمين الذين كان ينتسب اليهم هم مع الالحاد الظاهر والكفر الباطن اعلم بالله من سلفه الفلاسفة كأرسطو واتباعه فان اولئك ليس عندهم من العلم بالله الا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه
وقد ذكرت كلام ارسطو نفسه الذي ذكره في علم ما بعد الطبيعة في مقالة اللام وغيرها وهو اخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل فانه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الالهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى واهل البدع من المسلمين وغيرهم اجهل من هؤلاء ولا ابعد عن العلم بالله تعالى منهم
نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد لكنهم جهال ب العلم الالهي الى الغاية ليس عندهم منه الا قليل كثير الخطأ
وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة اراد ان يجمع بين ما عرفه بعقله

من هؤلاء وبين ما اخذه من سلفه فتكلم في الفلسفة بكلام مركب من كلام سلفه ومما احدثه مثل كلامه في النبوات واسرار الايات والمنامات بل وكلامه في بعض الطبيعيات و المنطقيات وكلامه واجب الوجود ونحو ذلك
والا فأرسطو واتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود ولا شيء من الاحكام التي ل واجب الوجود وانما يذكرون العلة الاولى ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به
فابن سينا اصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض اصلاح حتى راجت على من لم يعرف دين الاسلام من الطلبة النظار وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده ولكن سلموا لهم اصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والالهيات ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببا الى ضلالهم في مطالب عالية ايمانية ومقاصد سامية قرانية خرجوا بها عن حقيقة العلم والايمان وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون بل يستسفطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات
والمقصود هنا التنبيه على انه لو قدر ان النفس تكمل بمجرد العلم كما زعموه مع انه قول باطل فان النفس لها قوتان قوة علمية نظرية وقوة ارادية علمية فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته
وعبادته تجمع محبته والذل له فلا تكمل نفس قط الا بعبادة الله وحده

لا شريك له والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له وبهذا بعث الله الرسل وانزل الكتب الالهية كلها تدعو الى عبادة الله وحده لا شريك له
وهؤلاء يجعلون العبادات التي امرت بها الرسل مقصودها اصلاح اخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا انه كمال النفس او مقصودها اصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية فيجعلون العبادات وسائل محضة الى ما يدعونه من العلم ولهذا يرون ذلك ساقطا عمن حصل المقصود كما تفعل الملاحدة الاسماعيلية ومن دخل في الالحاد او بعضه وانتسب الى الصوفية او المتكلمين او الشيعة او غيرهم

تزييف القول بأن الايمان مجرد معرفة الله
والجهمية قالوا الايمان مجرد معرفة الله وهذا القول وان كان خيرا من قولهم فانه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولو احقه وهذا امر لو كان له حقيقة في الخارج لم يكن كمالا للنفس الا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى
فهؤلاء الجهمية من اعظم مبتدعة المسلمين بل جعلهم غير واحد خارجين عن

اثنتين وسبعين فرقة كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك ويوسف بن اسباط وهو قول طائفة من المتأخرين من اصحاب احمد وغيرهم وقد كفر غير واحد من الائمة كوكيع بن الجراح واحمد بن حنبل وغيرهما لمن يقول هذا القول وقالوا هذا يلزم منه ان يكون ابليس وفرعون واليهود الذين يعرفونه كما يعرفون ابناءهم مؤمنين
فقول الجهمية خير من قول هؤلاء فان ما ذكروه هو اصل ما تكمل به النفوس لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين ارادتها التي هي مبدا القوة العملية وجعلوا الكمال في نفس العلم وان لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من اصول الايمان ولوازمه
واما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد
والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط وانما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب اصولهم الفاسدة
واعلم ان بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض لا يستلزم كونهم اشقياء في الاخرة الا اذا بعث الله اليهم رسولا فلم يتبعوه
بل يعرف به ان من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم الى طريق هؤلاء كان من الاشقياء في الاخرة

والقوم لولا الانبياء لكانوا اعقل من غيرهم لكن الانبياء جاؤا بالحق وبقاياه في الامم وان كفروا ببعضه حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين ابراهيم فكانوا بها خيرا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون ارسطو وامثاله على اصولهم

الوجه السادس
البرهان لا يفيد امورا كلية واجبة البقاء في الممكنات
الوجه السادس انه ان كان المطلوب ب قياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة فتلك ليس فيها واجب البقاء على حال واحدة ازلا وابدا بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر انه من اللازم لموصوفه فنفس الموصوف ليس بواجب البقاء فلا يكون العلم به علما بموجود واجب الوجود
وليس لهم على ازلية شيء من العالم دليل صحيح كما قد بسط في موضعه وانما غاية ادلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة وذلك ممكن موجود عين بعد عين من ذلك النوع ابدا مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح فان القول ب ان المفعول المعين مقارن لفاعله ازلا وابدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه أي شيء قدر فاعله لا سيما اذا كان فاعلا باختياره كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة اصول العلم والدين كالرازي وامثاله كما بسط في موضعه
وما يذكرونه من اقتران المعلول بعلته فاذا اريد ب العلة ما يكون مبدعا للمعلول فهذا باطل بصريح العقل ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل ولما كان هذا مستقرا في الفطر كان نفس الاقرار بأنه خالق كل شيء وموجبا لان يكون كل ما سواه محدثا مسبوقا بالعدم
وان قدر دوام الخالقية لمخلوق بعد مخلوق فهذا لا ينافي ان يكون خالقا لكل

شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه بل ذلك اعظم في الكمال والجود والافضال
واما اذا اريد ب العلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل من شيء بل هو من باب المشروط والشرط قد يقارن المشروط
واما الفاعل فيمتنع ان يقارنه مفعوله المعين وان لم يمتنع ان يكون فاعلا لشيء بعد شيء فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة وذلك لا ينافي حدوث كل جزء من اجزائها بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه
وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الامم حتى ارسطو واتباعه فانهم وان قالوا بقدم العالم فهم لم يثبتوا له مبدعا ولا علة فاعلة بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها لان حركة الفلك ارادية
وهذا القول وهو ان الاول ليس مبدعا للعالم وانما هو علة غائية للتشبه به وان كان في غاية الجهل والكفر فالمقصود انهم وافقوا سائر العقلاء في ان الممكن المعلول لا يكون قديما بقدم علته كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه
ولهذا انكر هذا القول ابن رشد وامثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة ارسطو وسائر العقلاء في ذلك وبينوا ان ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء وكان قصده ان يركب مذهبا من مذهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب مفعولا له مع كونه ازليا قديما بقدمه واتبعه على امكان ذلك اتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي

والرازي والامدي والطوسي وغيرهم
زعم الرازي ما ذكره في محصلة ان القول ب كون الممكن المفعول المغلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة والمتكلمون لكن المتكلمون يقولون بالحدوث ولكون الفاعل عندهم فاعلا بالاختيار
وهذا غلط على الطائفتين بل لم يقل ذلك احد لا من المتكلمين ولا من الفلاسفة المتقدمين الذين نقلت الينا اقوالهم كأرسطو وامثاله وانما قاله ابن سينا وامثاله
والمتكلمون اذا قالوا بقدم ما يقوم بالرب من الصفات ونحوها فلا يقولون انها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب واجبا قديما الا ب صفاته اللازمة له كما قد بسط في موضعه ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله
وكذلك اساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع ان يكون الممكن لم يزل واجبا سواء قيل انه واجب بنفسه او بغيره
ولكن ما ذكره ابن سينا وامثاله في ان الممكن قد يكون قديما واجبا بغيره ازليا ابديا كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في الامكان من الاسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم ان يجيبوا عنه كما قد بسط في موضعه فان ليس موضع تقريره هذا ولكن نبهنا به على ان برهانهم القياسي الي لا يفيد امورا كلية واجبة البقاء في الممكنات

واما واجب الوجود تبارك وتعالى فالقياس الذي يدعونه لا يدل على ما يختص به وانما يدل على امر مشترك كلى بينه وبين غيره اذا كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس الا امور كلية مشتركة وتلك لا تختص بواجب الوجود رب العالمين سبحانه وتعالى
فلم يعرفوا ببرهانهم شيئا من الامور التي يجب دوامها لا من الواجب ولا من الممكنات
واذا كانت النفس انما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه وهم لم يعلموا علما يبقى ببقاء معلومه لم يستفيدوا ب برهانهم ما تكمل به النفس من العلم فضلا عن ان يقال ان ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل الا ببرهانهم

طريقة الانبياء في الاستدلال
ولهذا كانت طريقة الانبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر اياته وان استعملوا في ذلك القياس استعملوا القياس الا ولى ولم يستعملوا قياس شمول يستوى افراده ولا قياس تمثيل محض فان الرب تعالى لا مثل له ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي يستوي افراده بل ما ثبت بغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الاولى وما تنزه عنه غيره من النقائص فتنزهه عنه بطريق الاولى
استعمال قياس الاولى في القران
ولهذا كانت الاقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القران من هذا الباب كما يذكره في دلائل ربو بيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وامكان المعاد وغير ذلك من المطالب العالية السنية والمعالم الالهية التي هي اشرف العلوم واعظم ما تكمل به النفوس من المعارف وان كان كما لها لا بد فيه من كمال علمها وقصدها جميعا فلا بد من عبادة الله وحده المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له

الاستدلال ب الايات في القران
واما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القران والفرق بين الايات وبين القياس ان الاية هي العلامة وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول لا يكون مدلوله امرا كليا مشتركا بين المطلوب وغيره بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول كما ان الشمس آية النهار قال تعالى وجعلنا اليل والنهار ايتين فمحونا اية اليل وجعلنا اية النهار مبصرة فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار
وكذلك آيات نبوة محمد ص - نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه لا يوجب امرا كليا مشتركا بينه وبين غيره
وكذلك آيات الرب تعالى نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى لا يوجب علما كليا مشتركا بينه وبين غيره
والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل
فكل دليل في الوجود لا بد ان يكون مستلزما للمدلول والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب اقرب الى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة والقضايا الكلية هذا شأنها فان القضايا الكلية ان لم تعلم معيناتها بغير التمثيل والا لم تعلم الا بالتمثيل فلا بد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الاوسط
فلا بد ان يعرف ان كل فرد من افراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من افراد الدليل كما اذا قيل كل ا ب وكل ب ج فكل ج ا فلا بد ان يعرف ان كل فرد من افراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الالف ومعلوم ان العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين والباء المعين للالف المعين اقرب الى الفطرة من هذا
وهذا كما قدمناه في امثلة اقيستهم البرهانية مثل قولهم الكل اعظم من الجزء

و الاشياء المساوية لشيء واحد متساوية و الضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ونحو ذلك فان هذه قضايا كلية
ومعلوم ان الانسان اذا تصور ما يتصوره من معين او جزئه فان تصوره لكون هذا الكل المعين اعظم من جزئه اسبق الى عقله من ان يتخيل ان كل كل اعظم من جزئه فهو يتصور ان بدنه اعظم من يده ورجله وان السماء اعظم من كواكبها والجبل اعظم من بعضه والمدينة اعظم من بعضها ونحو ذلك قبل ان يتصور القضية الكلية الشاملة لجميع هذه الافراد
ولذلك اذا تصور شيئا معينا يعلم انه لا يكون موجودا معدوما في حال واحدة قبل ان يتصور ان كل نقيضين لا يجتمعان ولذلك اذا تصور سوادا معينا علم انه لا يكون اللون الواحد سوادا بياضا قبل ان يتصور ان كل ضدين لا يجتمعان وامثال ذلك كثيرة
واذا قيل تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة او بديهة من واهب العقل قيل فحصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل اقرب

عظم الفرق بين اثبات الرب بالايات وبين اثباته بالقياس البرهاني
ومعلوم ان كل ما سوى الله من الممكنات فانه مستلزم لذات الرب تعالى يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى وتقدس
وان كان مستلزما ايضا لامور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين اعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهو سبحانه يعلم الامور على ما هي عليه فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها ويعلم الكليات انها كليات فيلزم من وجود الخاص وجود العام

المطلق أي حصة المعين من ذلك العام كما يلزم من وجود هذا الانسان وجود الانسان ومن وجود هذا الانسان وجود الانسانية والحيوانية القائمة به
فكل ما سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة فان الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الاعيان فضلا عن ان يكون خالقا لها مبدعا
ثم يلزم من وجوده المعين الوجود المطلق المطابق للمعين فاذا تحقق الوجود الواجب تحقق الوجود المطلق المطابق للمعين واذا تحقق الفاعل لكل شيء تحقق الفاعل المطلق المطابق واذا تحقق القديم الازلي تحقق القديم المطلق المطابق واذا تحقق الغنى عن كل شيء تحقق الغنى المطابق واذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق كما ذكرنا انه اذا تحقق هذا الانسان وهذا الحيوان تحقق الانسان المطلق المطابق والحيوان المطلق المطابق
لكن المطلق لا يكون مطلقا الا في الاذهان لا في الاعيان والله تعالى هو الخالق للامور الموجودة في الاعيان والمعلم للصور الذهنية المطابقة لما في الاعيان
ولهذا كان اول ما انزل على رسوله اقرا باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرا وربك الاكرم الى قوله ما لم يعلم بين في اول ما انزل انه خالق الاعيان عموما وخصوصا فكما انه خالق الموجودات العينية فهو المعلم للماهيات الذهنية فالموجودات الخارجية ايات مستلزمة لوجود عينه واذا تصورتها الاذهان معينة او مطلقة فهو المعلم لهذا المتصور إذ الصور الذهنية ايضا من آياته المستلزمة لوجود عينه لكنها تدل مع ذلك على هدايته وتعليمه كما قال تعالى سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق

فسوى والذي قدر فهدى الاعلى وقال موسى ربنا الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى
كما ان الموجودات العينية من آيات وجوده والصور الذهنية من حيث انها موجودات عينيه من هذا الباب كما أنها من جهة مطابقتها للموجودات الخارجية من الباب الاول
لكن إذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس المعين كذلك من علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقا وغنيا مطلقا لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره
وذلك هو مدلول آياته تعالى فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها وكل ما سواه دليل على عينه وآية له فانه ملزوم لعينه وكل ملزوم فانه دليل على لازمة ويمتنع تحقق شئ من الممكنات إلا مع تحقق عينه فكلها ملزوم لنفس الرب دليل عليه آية له
ودلالتها بطريق قياسهم على الامر المطلق الكلى الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ب برهانهم ما يختص بالرب تعالى ولهذا ما يثبتونه من واجب الوجود عند التحقيق إنما هو أمر كلى لا يختص بالرب تعالى حتى قد يجعلونه مجرد الوجود

دلالة قياس الاولى في إثبات صفات الكمال
وأما قياس الاولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على انه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا يحصر قدره وهو يعلم ان فضل الله على كل مخلوق اعظم من فضل مخلوق على مخلوق كان هذا مما يبين له ان ما يثبت للرب اعظم مما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره فكأن قياس الاولى يفيده

امرا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الامر

لا بد من الاسماء المشككة من معنى كلى مشترك
ولهذا كان الحذاق يختارون ان الاسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك الذي هو نوع من التواطئ العام ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل افراده بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن وهو في الواجب أكمل وافضل من فضل هذا البياض على هذا البياض
لكن التفاضل في الاسماء المشككة لا يمنع ان يكون اصل المعنى مشتركا كليا بينهما فلا بد في الاسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن وذلك مورد التقسيم تقسيم الكلي الى جزئياته إذا قيل الموجود ينقسم الى واجب وممكن فان مورد التقسيم مشترك بين الاقسام ثم كون وجود هذا الواجب اكمل من وجود الممكن لا يمنع ان يكون مسمى الوجود معنى كليا مشتركا بينهما
وهكذا في سائر الاسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته
الخلاف في الاسماء التي تطلق عليه تعالى وعلى العباد
والناس تنازعوا في هذا الباب فقالت طائفة كأبي العباس الناشئ من شيوخ

المعتزلة الذين كانوا اسبق من ابي علي هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق
وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة وبالعكس هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق
وقال جماهير الطوائف هي حقيقة فيهما وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة والاشعرية والكرامية والفقهاء واهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة
لكن كثيرا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بانها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك وينازع في بعضها لشبه نفاه الجميع والقول فيما نفاه نظير القول فيما اثبته ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين ونفي الجميع يمتنع ان يكون موجودا
وقد علم ان الموجود ينقسم الى واجب وممكن وقديم وحادث وغنى وفقير ومفعول وغير مفعول وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب ووجود المحدث يستلزم وجود القديم ووجود الفقير يستلزم وجود الغنى ووجود المفعول يستلزم وجود غير المفعول وحينئذ فبين الوجودين امر مشترك والواجب يختص بما يتميز به فكذلك القول في الجميع
والاسماء المشككة هو متواطئة باعتبار القدر بالمشترك ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله فالمشككة قسم من المتواطئة العامة وقسيم المتواطئة الخاصة
وإذا كان كذلك فلا بد في المشككة من إثبات قدر مشترك كلي وهو مسمى المتواطئة العامة وذلك لا يكون مطلقا إلا في الذهن وهذا مدلول قياسهم البرهاني

ولا بد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة وذلك هو مدلول الاقيسة البرهانية القرانية وهي قياس الاولى
ولا بد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه وذلك مدلول آياته سبحانه التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه لا يدل على هذه قياس لا برهانى ولا غير برهانى
فتبين بذلك ان قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها فضلا عن ان يقال لا تعلم المطالب إلا به
وهذا باب واسع لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة وهي قولهم إن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم

شناعة زعمهم أن علم الله أيضا يحصل بواسطة القياس
ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا وقصروا العلوم على طريق ضيقه لا تحصل إلا مطلوبا لا طائل فيه حتى زعموا ان علم الله وعلم انبيائه وأوليائه إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الاوسط كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه
وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم انبيائه من سلفهم الذين هم من اجهل الناس برب العالمين وبأنبيائه وبكتبه
فابن سينا لما تميز عن أولئك بمزيد عقل وعلم سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك وصاروا سالكوا هذه الطريق وإن كانوا اعلم من سلفهم وأكمل فهم اضل من اليهود والنصارى وأجهل إذ كان أولئك حصل لهم من الايمان ب واجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال وهم من أتباع فرعون وأمثاله ولهذا تجدهم لموسى ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين او معادين

قال الله تعالى إن الذين يجادلون في آيت الله بغير سلطان أتهم ان في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه المؤمن وقال الذين يجادلون في آيت الله بغير سلطان أتهم كبر مقتا عند الله وعند الذين امنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار المؤمن وقال فلما جاءتهم رسلهم بالبينت فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون فلما راؤا باسنا قالوا امنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم ايمانهم لما راوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون المؤمن
وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمرود بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله صلوات الله عليهم في مواضع
وقد جعل الله آل ابراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة وآل فرعون ائمة لاهل النار
وقال تعالى واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنوا انهم إلينا لا يرجعون فاخذناه وجنوده فنبدناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظلمين وجعلنهم ائمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعنهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ولقد آتينا موسى الكتب من بعد ما اهلكنا القرون الاولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلم يتذكرون الى قوله قال فأتوا بكتب من عند الله هو اهدى منهما اتبعة ان كنتم صدقين القصص
وقال في آل ابراهيم وجعلنا منهم ائمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا

بايتنا يوقنون السجدة
والمقصود ان متأخريهم الذين هم اعلم منهم جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني وكذلك علم انبيائه وقد سطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم إنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه وإذا كان هذا السلب باطلا في حكم آحاد الناس كان بطلانه اولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى ثم ملئكته وأنبيائه صلوات الله عليهم اجمعين

فصل
اقوال المنطقيين في الدليل والقياس
وايضا فانهم قسموا جنس الدليل الى القياس والاستقراء والتمثيل قالوا لان الاستدلال إما ان يكون ب الكلى على الجزئي او ب الجزئي على الكلي او بأحد الجزئين على الاخر وربما عبروا عن ذلك ب الخاص والعام فقالوا إما أن يستدل ب العام على الخاص أو ب الخاص على العام أو بأحد الخاصين على الاخر
قالوا والاول هو القياس يعنون به قياس الشمول فانهم يخصونه باسم القياس وكثير من أهل الاصول والكلام يخصون باسم القياس التمثيل واما جمهور العقلاء فاسم القياس عندهم يتناول هذا وهذا
قالوا والاستدلال ب الجزئيات على الكلي هو الاستقراء فان كان تاما فهو الاستقراء التام وهو يفيد اليقين وإن كان ناقصا لم يفد اليقين فالاول هو استقراء جميع الجزئيات والحكم عليه بما وجد في جزئياته والثاني استقراء أكثرها وقد يكذب كقول القائل الحيوان إذا أكل حرك فكه الاسفل

لأنا استقريناها فوجدناها هكذا فيقال هل التمساح يحرك الاعلى
ثم قالوا القياس ينقسم الى الاقتراني والاستثنائي ف الاستثنائي ما تكون النتيجة او نقيضها مذكورة فيه بالفعل والاقترانى ما تكون فيه بالقوة كالمؤلف من القضايا الحملية كقولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام
والاستثنائي ما يؤلف من الشرطيات وهو نوعان
احدهما متصلة كقولنا إن كانت الصلوة صحيحة فالمصلى متطهر واستثناء عين المقدم ينتج عين التالى واستثناء نقيض التالى ينتج نقيض المقدم
والثاني المنفصلة هي إما مانعة الجمع والخلو كقولنا العدد إما زوج وإما فرد فان هذين لا يجتمعان ولا يخلو العدد عن أحدهما وإما مانعة الجمع فقط كقولنا هذا إما ابيض وإما اسود أي لا يجتمع السواد والبياض وقد يخلو المحل عنهما وإما مانعه الخلو فهى التي يمتنع فيها عدم الجزئين جميعا ولا يمتنع اجتماعهما
وقد يقولون مانعة الجمع والخلو هي الشرطية الحقيقية وهي مطابقة للنقيضين في العموم والخصوص ومانعة الجمع هي أخص من النقيضين فان الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان وهما اخص من النقيضين
وأما مانعة الخلو فانها أعم من النقيضين وقد يصعب عليهم تمثيل ذلك بخلاف النوعين الاولين فان أمثالهما كثيرة ويمثلونه بقول القائل هذا راكب البحر أو لا يغرق فيه أي لا يخلو منهما فانه لا يغرق إلا إذا كان في البحر فاما أن لا يغرق فيه وحينئذ لا يكون راكبه وإما أن يكون راكبه وقد يجتمع ان يركب ويغرق
والامثال كثيرة كقولنا هذا حي او ليس بعالم أو قادر او سميع او

بصير او متكلم فانه إن وجدت الحيوة فهو احد القسمين وإن عدمت عدمت هذه الصفات وقد يكون حيا من لا يوصف بذلك وكذلك إذا قيل هذا متطهر او ليس بمصل فانه إن عدمت الصلوة عدمت الطهارة وإن وجدت الطهارة فهو القسم الاخر فلا يخلو الامر منهما
وكذلك كل عدم شرط ووجود مشروطه فانه إذا ردد الامر بين وجود المشروط وعدم الشرط كان ذلك مانعا من الخلو فانه لا يخلو الامر من وجود الشرط وعدمه وإذا عدم عدم الشرط فصار الامر لا يخلو من وجود المشروط وعدم الشرط
ثم قسموا الاقترانى الى الاشكال الأربعة لكون الحد الاوسط إما محمولا في الاولى موضوعا في الصغرى وهو الشكل الطبيعي وهو ينتج المطالب الاربعة الجزئي والكلى والايجابي والسلبي وإما ان يكون الاوسط محمولا فيهما وهو الثاني ولا ينتج إلا السلب وإما ان يكون موضوعا فيهما ولا ينتج إلا الجزئيات والرابع ينتج الجزئيات والسلب الكلى لكنه بعيد عن الطبع
ثم إذا ارادوا بيان إنتاج الثاني والثالث وغير ذلك من المطالب احتاجوا الى الاستدلال ب النقيض والعكس وعكس النقيض فانه يلزم من صدق القضية كذب نقيضها وصدق عكسها المستوى وعكس نقيضها فاذا صدق قولنا ليس احد من الحجاج بكافر صح قولنا ليس احد من الكفار حاجا وإذا صح قولنا كل حاج مسلم صح قولنا بعض المسلمين حاج وقولنا من ليس بمسلم فليس بحاج

رد المصنف أقوالهم في الدليل والقياس
فنقول هذا الذي قالوه إما أن يكون باطلا وإما أن يكون تطويلا يبعد

الطريق على الطالب المستدل فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق او طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل الى الحق مع إمكان وصوله بطريق قريب كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له أين أذنك فرفع يده فوق رأسه رفعا شديدا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى وقد كان يمكنه الاشارة الى اليمنى او اليسرى من طريق مستقيم وما أشبه هؤلاء بقول القائل ... اقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء ...
وبقول الاخر ... وإنى وإنى ثم إنى وإننى ... إذا انقطعت نعلى جعلت لها شسعا ...
وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله ان هذا القرآن يهدى للتي هي اقوم الاسراء فأقوم الطرق الى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله وأما طريق هؤلاء فهى مع ضلالهم في البعض وأعوجاج طريقهم وطولها في البعض الاخرى إنما يوصلهم الى امر لا ينجى من عذاب الله فضلا عن ان يوجب لهم السعادة فضلا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم

بطلان حصر الادلة في القياس والاستقراء والتمثيل
بيان ذلك ان ما ذكروه من حصر الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل حصر لا دليل عليه بل هو باطل وقولهم أيضا إن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص قول لا دليل عليه بل هو باطل
واستدلالهم على الحصر بقولهم إما ان يستدل بالكلى على الجزئي او بالحزئي على الكلى او بأحد الجزئين على الاخر والاول هو القياس والثاني هو الاستقراء والثالث هو التمثيل
يقال لم تقيموا دليلا على انحصار الاستدلال في هذه الثلاثة فانكم إذا عنيتم

بالاستدلال بجزئي على جزئي قياس التمثيل لم يكن ما ذكرتموه حاصرا وقد بقى الاستدلال بالكلى على الكلي الملازم له وهو المطابق له في العموم والخصوص وكذلك الاستدلال بالجزئي الملازم له بحيث يلزم من وجود احدهما وجود الاخر ومن عدمه عدمه فان هذا ليس مما سميتموه قياسا ولا استقراء ولا تمثيلا وهذه هي الايات

الاستدلال بالكلى على الكلى وبالجزئي على الجزئي الملازم له
وهذا كالاستدلال بطوع الشمس على النهار وبالنهار على طلوع الشمس فليس هذا استدلالا بكلى على جزئي بل الاستدلال بطوع معين على نهار معين استدلالا بجزئي على جزئي وبجنس النهار على جنس الطلوع استدلالا بكلى على كلى
وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلالا بجزئي على جزئي كالاستدلال ب الجدي وبنات نعش والكوكب الصغير القريب من القطب الذي يسميه بعض الناس القطب كما يسمى بعض الناس الجدي القطب وإن كان القطب في الحقيقة جزءا من الفلك قريبا من ذلك الكوكب الصغير
وكذلك الاستدلال بظهور كوكب على ظهور نظيره في العرض والاستدلال

بطلوعه على غروب آخر وتوسط آخر ونحو ذلك من الادلة التي اتفق عليها الناس قال تعالى وبالنجم هم يهتدون
والاستدلال على المواقيت والامكنة بالامكنة امر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة فاذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقا ومغربا ويمينا وشمالا من الكواكب كان استدلالا بجزئي على جزئي لتلازمهما وليس ذلك من قياس التمثيل وإن قضى به قضاء كليا كان استدلالا بكلى على كلى وليس استدلالا بكلى على جزئي بل بأحد الكليين المتلازمين على الاخر
ومن عرف مقدار ابعاد الكواكب بعضها من بعض وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر استدل بما رآه منها على مقدار ما مضى من الليل وما بقى منه وهو استدلال بأحد المتلازمين على الاخر ومن علم الجبال والانهار والرياح استدل بها على ما يلازمها من الامكنة
ثم اللزوم إن كان دائما لا يعرف له ابتداء بل هو منذ خلق الله الارض كوجود الجبال والانهار العظيمة النيل والفرات وسيحان وجيحان والبحر كان الاستدلال مطردا
وإن كان اللزوم أقل من ذلك مدة مثل الكعبة شرفها الله فان الخليل بناها ولم تزل معظمة لم يعل عليها جبار قط استدل بها بحسب ذلك فيستدل بها وعليها فان أركان الكعبة مقابلة لجهات الارض الاربعة الحجر الاسود يقابل المشرق والغربي الذي يقابله ويقال له الشامي يقابل المغرب واليماني يقابل الجنوب وما يقابله يقال له العراقى إذا قيل الذي من ناحية الحجر الشامي وإن قيل لذاك الشامي قيل لهذا العراقى فهذا الشامي العراقي

يقابل الشمال وهو يقابل القطب وحينئذ فيستدل بها على الجهات ويستدل بالجهات عليها
وما كان مدته اقصر من مدة الكعبة كالابنية التي في الامصار والاشجار كان الاستدلال بها بحسب ذلك فيقال علامة الدار الفلانية ان على بابها شجرة من صفتها كذا وكذا وهما متلازمان مدة من الزمان
فهذا وأمثاله استدلال بأحد المتلازمين على الاخر وكلاهما معين جزئي وليس هو من قياس التمثيل

حد الدليل عند النظار
ولهذا عدل نظار المسلمين عن طريقهم فقالوا الدليل هو المرشد الى المطلوب وهو الموصل الى المقصود وهو ما يكون العلم به مستلزما للعلم بالمطلوب
أو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا الى المطلوب وهو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا الى علم او الى اعتقاد راجح
ولهم نزاع اصطلاحي هل يسمى هذا الثاني دليلا او يخص باسم الامارة والجمهور يسمون الجميع دليلا ومن اهل الكلام من لا يسمى ب الدليل الا الاول
ثم الضابط في الدليل ان يكون مسستلزما للمدلول فكل ما كان مستلزما لغيره امكن ان يستدل به عليه ان كان التلازم من الطرفين امكن ان يستدل بكل منهما على الاخر فيستدل المستدل مما علمه منهما على الاخر الذي لم يعلمه
ثم ان كان اللزوم قطعيا كان الدليل قطعيا وان كان ظاهرا وقد يتخلف كان الدليل ظنيا
فالاول كدلالة المخلوقات على خالقها سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته فان وجودها مستلزم لوجود ذلك ووجودها بدون ذلك ممتنع فلا توجد الا دالة على ذلك
ومثل دلالة خبر الرسول على ثبوت ما اخبر به عن الله فانه لا يقول عليه الا

الحق اذ كان معصوما في خبره عن الله لا يستقر في خبره عنه خطأ البتة
فهذا دليل مستلزم لمدلوله لزوما واجبا لا ينفك عنه بحال وسواء كان الملزوم المستدل به وجودا او عدما فقد يكون الدليل وجودا وعدما ويستدل بكل منهما على وجود وعدم فانه يستدل بثبوت الشيء على انتفاء نقيضه وضده ويستدل بأنتقاء نقيضه على ثبوته ويستدل بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتقاء اللازم على انتقاء الملزوم بل كل دليل يستدل به فانه ملزوم لمدلولة وقد دخل في هذا كل ما ذكروه وما لم يذكروه
فان ما يسمونه الشرطي المتصل مضمونه الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم سواء عبر عن هذا المعنى بصيغة الشرط او بصيغة الجزم واختلاف صيغ الدليل مع اتحاد معناه لا يغير حقيقية والكلام إنما هو في المعاني لا في الالفاظ
فاذا قال القائل إن كانت الصلوة صحيحة فالمصلى متطهر وإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإن كان الفاعل عالما قادرا فهو حي ونحو ذلك فهذا معنى قوله صحة الصلوة تستلزم صحة الطهارة وقوله يلزم من صحة الصلوه صحة ثبوت الطهارة وقوله لا يكون مصليا إلا مع الطهارة وقوله الطهارة شرط في صحة الصلوة وإذا عدم الشرط عدم المشروط وقوله كل مصل متطهر فمن ليس بمتطهر فليس بمصل وأمثال ذلك من انواع التأليف للالفاظ والمعاني التي يتضمن هذا الاستدلال من غير حصر الناس في عبارة واحدة
أستطرد
وإذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها وإذا ضاقت العقول والتصورات بقى صاحبها كانه محبوس العقل واللسان كما يصيب اهل المنطق اليوناني تجدهم من أضيق الناس علما وبيانا وأعجزهم تصورا وتعبيرا

ولهذا من كان منهم ذكيا إذا تصرف في العلوم وسلك مسلك اهل المنطق طول وضيق وتكلف وتعسف وغايته بيان البين وايضاح الواضح من العي وقد يوقعه ذلك في انواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم
مثل ما ذكروه عن يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف انه قال في بعض مناظراته هذا من باب فقد عدم الوجود ومثل هذه العبارات الطويلة الركيكة كثير في كلامهم حتى في كلام افضل متأخريهم مع انه افضلهم واحسنهم بيانا
وكذلك تكلفاتهم في حدودهم مثل حدهم ل الانسان والشمس بانها كوكب يطلع نهارا وهل من يحد الشمس مثل هذا الحد ونحوه إلا من هو من أجهل الناس وهل عند الناس شئ أظهر من الشمس حتى يحد الشمس به ومن لم يعرف الشمس فاما ان يجهل اللفظ فيترجم له وليس هذا من الحد الذي ذكروه وإما أن لا يكون رآها لعماه فهذا لا يرى النهار ولا الكواكب بطرق الاولى مع أنه لا بد ان يسمع من الناس ما يعرف ذلك دون طريقهم
عود الى اصل الموضوع
وهم معترفون بان الشكل الاول من الحمليات يغنى عن جميع صور القياس وتصويره نطرى لا يحتاح احد الى تعلمه منهم مع ان الاستدلال لا يحتاج الى تصوره على الوجه الذي يزعمونه

فصل
إبطال قولهم إن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين
وأما قولهم إن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان

فان كان الدليل مقدمة واحدة قالوا الاخرى محذوفة وسموه هو قياس الضمير وإن كان مقدمات قالوا هي اقيسة مركبة ليس هو قياسا واحدا فهذا قول باطل طردا وعكسا
وذلك ان احتياج المستدل الى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس فمن الناس من لا يحتاج إلا الى مقدمة واحدة لعلمه مما سوى ذلك كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى الاستدلال بل قد يعلمة بالضرورة ومنهم من يحتاج الى مقدمتين ومنهم من يحتاج الى ثلاث ومنهم من يحتاج الى اربع واكثر
فمن أراد ان يعرف ان هذا المسكر المعين محرم فان كان يعرف أن كل مسكر محرم ولكن لا يعرف هل هذا المعين مسكر ام لا لم يحتج إلا الى مقدمة واحدة وهو ان يعمل ان هذا مسكر فاذا قيل له هذا حرام فقال ما الدليل عليه فقال المستدل الدليل على ذلك انه مسكر فقال لا نسلم انه مسكر فمتى أقام الدليل على انه مسكر تم المطلوب
وكذلك لو تنازع اثنان في بعض انواع الاشربة هل هو مسكر ام لا كما يسأل الناس كثيرا عن بعض الاشربة فلا يكون السائل ممن يعلم انها تسكر او لا تسكر ولكن قد علم ان كل مسكر حرام فاذا ثبت عنده بخبر من يصدقه او بغير من الادلة انه مسكر علم تحريمه وكذلك سائر ما يقع الشك في الدراجه تحت قضية كلية من الانواع والاعيان مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج هل هما من الميسر أم لا وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه هل هو من الخمر ام لا وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل في قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم التحريم ام لا وتنازعهم في قوله او يعفو الذي بيدة عقدة النكاح البقرة هل هو الزوج او الولى المستقل وأمثال ذلك

وقد يحتاج الاستدلال الى مقدمتين لمن لم يعلم ان النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم ولم يعلم ان هذا المعين مسكر فهو لا يعلم انه محرم حتى يعلم انه مسكر ويعلم ان كل مسكر حرام
وقد يعلم ان هذا مسكر ويعلم ان كل مسكر خمر لكن لم يعلم ان النبي ص - حرم الخمر لقرب عهده بالاسلام أو لنشأه بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك
أو يعلم ان النبي ص - قال كل مسكر حرام او يعلم ان هذا خمر وان البي ص - حرم الخمر لكن لم يعلم ان محمدا رسول الله او لم يعلم انه حرمها على جميع المؤمنين بل ظن انه اباحها لبعض الناس وظن انه منهم كمن ظن انه اباح شربها للتداوي أوغير ذلك فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريما عاما إلا ان يعلم انه مسكر وأنه خمر وأن النبي ص - حرم الخمر او ان النبي ص - حرم كل مسكر وانه رسول الله ص - حقا فما حرمه فقد حرمه الله وأنه حرمه تحريما عاما لم يبحه للتداوي ولا للتلذذ
ومما يبين ان تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل انهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهانى والخطابي والجدلى والشعري والسوفسطائي إنه قول مؤلف من أقوال او عبارة عما ألف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر قالوا واحترزنا بقولنا من أقوال عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها وكذب نقيضها وليست قياسا قالوا ولم نقل مؤلف من مقدمات لانا لا يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة إلا بكونها جزء القياس فلو أخذناها في حد القياس كان دورا
والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة وإن كانت مستفادة ب القياس سموها نتيجة وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية وتسمى

ايضا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة بل أعم منه فان المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة اسمية والقضية الخبرية قد تكون اسمية وفعلية كما لو قيل في قوله يقولون بالسنتهم ما ليس في قلوبهم الفتح وقوله لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق الفتح فان هذه جملة خبرية وليست المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة
والمقصود هنا انهم ارادوا ب القول في قولهم القياس قول مؤلف من اقوال القضية التي هي جملة تامة خبرية لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو الحد فان القياس مشتمل على ثلاثة حدود اصغر وأوسط واكبر كما إذا قيل النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام ف النبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد وهي الحدود في القياس فليس مرادهم ب القول هذا بل مرادهم ان كل قضية قول كما فسروا مرادهم بذلك ولهذا قالوا قول مؤلف من اقوال إذا سلمت لزم عنها قول آخر واللازم إنما هو النتيجة وهي قضية وخبر وجملة تامة ليست مفردا ولذلك قالوا القياس قول فسموا مجموع القضيتين قولا
وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفا من أقوال وهي القضايا لم يجب ان يراد بذلك قولان فقط لان لفظ الجمع إما ان يكون متناولا ل اثنين فصاعدا كقوله فان كان له إخوة فلامه السدس النساء وإما ان يراد به الثلاثة فصاعدا وهو الاصل عند الجمهور
ولكن قد يراد به جنس العدد فيتناول الاثنين فصاعدا ولا يكون الجمع مختصا ب اثنين فاذا قالوا هو مؤلف من أقوال إن أرادوا جنس العدد كان المعنى من اثنين فصاعدا فيجوز ان يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات واربع مقدمات فلا يختص بالاثنين وإن ارادوا الجمع الحقيقي لم يكن مؤلفا إلا من ثلاثة

فصاعدا وهم قطعا ما ارادوا هذا لم يبق إلا الاول
فاذا قيل هم يلتزمون ذلك ويقولون نحن نقول اقل ما يكون القياس من مقدمتين وقد يكون من مقدمات فيقال اولا هذا خلاف ما في كتبكم فانكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط وقد صرحوا أن القياس الموصل الى المطلوب سواء كان اقترانيا او استثنائيا لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما
وعللوا ذلك بان المطلوب المتحد لا يزيد على جزئين مبتدأ وخبر فان كان القياس اقترانيا فكل واحد من جزئي المطلوب لا بد وان يناسب مقدمة منه أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرا ولا يكون هو نفس المقدمة قالوا وليس المطلوب اكثر من جزئين فلا يفتقر الى اكثر من مقدمتين وإن كان القياس استثنائيا فلا بد فيه من مقدمة شرطية متصلة او منفصلة تكون مناسبة لكل مطلوب او نقيضه ولا بد من مقدمة استثنائية فلا حاجة الى ثالثة
قالوا لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس إما غير متعلق بالقياس او متعلق به والمتعلق بالقياس إما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما ويسمون هذا القياس المركب قالوا وحاصلة يرجع الى اقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا ان القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدا والباقي لبيان مقدمات القياس قالوا وربما حذوا بعض مقدمات القياس إما تعويلا على فهم الذههن لها او لترويج المغلطة حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها قالوا ثم إن كانت الاقيسة لبيان المقدمات قد صرح فيها بنتائجها فيسمى القياس مفصولا وإلا ف موصول
ومثلوا الموصول بقول القائل كل انسان حيوان وكل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان جوهر
والمفصول بقولهم كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان

أقسام الكتاب
1 2 3 4