كتاب:النبوات
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

النبوات
لابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله

فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم كما سماها الله آيات
وبراهين
وللنظار طرق في التمييز بينها وبين غيرها وفي وجه دلالتها
أما الأول فان منهم من رأى أن كل ما يخرج عن الأمر المعتاد فانه معجزة وهو الخارق للعادة إذا إقترن بدعوى النبوة وقد علموا أن الدليل مستلزم للمدلول فيلزم أن يكون كل من خرقت له العادة نبيا فقالت طائفة لا تخرق العادة إلا لنبي وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان وبكرامات الصالحين وهذه طريقة أكثر المعتزلة وغيرهم كأبي محمد بن حزم وغيره بل يحكى هذا القول عن أبي إسحاق الاسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد ولكن كأن في الحكاية عنهما غلطا وإنما أرادوا الفرق بين الجنسين وهؤلاء يقولون إن ما جرى لمريم وعند مولد الرسول فهو إرهاص أي توطئة وإعلام بمجيء الرسول فما خرقت في الحقيقة إلا لنبي فيقال لهم وهكذا الأولياء إنما خرقت لهم لمتابعتهم الرسول فكما أن ما تقدمه هو من معجزاته فكذلك ما تأخر عنه وهؤلاء يستثنون ما يكون أمام الساعة لكن هؤلاء كذبوا بما تواتر من الخوارق لغير الأنبياء والمنازع لهم يقول هي موجودة مشهودة لمن شهدها متواترة عند كثير من الناس أعظم مما تواترت عندهم بعض معجزات الأنبياء وقد شهدها خلق كثير لم يشهدوا معجزات الأنبياء فكيف يكذبون بما شهدوه ويصدقون بما غاب عنهم ويكذبون بما تواتر عندهم أعظم مما تواتر غيره
وقالت طائفة بل كل هذا حق وخرق العادة جائز مطلقا وكل ما خرق لنبي من العادات يجوز أن يخرق لغيره من الصالحين بل ومن السحرة والكهان لكن الفرق أن هذه تقترن بها دعوة النبوة وهو التحدي وقد يقولون إنه لا يمكن

أحد أن يعارضها بخلاف تلك وهذا قول من إتبع جهما على أصله في أفعال الرب من الجهمية وغيرهم حيث جوزوا أن يفعل كل ممكن فلزمهم جواز خرق العادات مطلقا على يد كل أحد واحتاجوا مع ذلك الى الفرق بين النبي وغيره فلم يأتوا بفرق معقول بل قالوا هذا يقترن به التحدي فمن إدعى النبوة وهو كاذب لم يجز أن يخرق الله له العادة أو يخرقها له ويكون دليلا على صدقه لما يقترن بها مما يناقض ذلك فان هذين قولان لهم فقيل لهم لم أوجبتم هذا في هذا الموضع دون غيره وأنتم لا توجبون على الله شيئا فقالوا لأن المعجزة علم الصدق فيمتنع أن تكون لغير صادق فالمجموع هو الممتنع وهو خارق العادة ودعوى النبوة أو هذان مع السلامة عن المعارض فقيل لهم ولم قلتم إنه علم الصدق على قولكم فقالوا إما لأنه يفضي منع ذلك إلى عجزه وإما لأنه علم دلالته على الصدق بالضرورة فقيل لهم إنما يلزم العجز لو كان التصديق على قولكم ممكنا وكون دلالتها معلومة بالضرورة هو مسلم لكنه يناقض أصولكم ويوجب أن يكون أحد الشيئين معلوما بالضرورة دون نظيره وهذا ممتنع فإنكم تقولون يجوز أن يخلق على يد مدعي النبوة والساحر والصالح لكن إن إدعى النبوة دلت على صدقه وإن لم يدع النبوة لم تدل على شيء مع أنه لا فرق عند الله بين أن يخلقها على يد مدعي النبوة وغير مدعي النبوة بل كلاهما جائز فيه فاذا كان هذا مثل هذا فلم كان أحدهما دليلا دون الآخر ولم إقترن العلم بأحد المتماثلين دون الآخر ومن أين علمتم أن الرب لا يخرقها مع دعوى النبوة إلا على يد صادق وأنتم تجوزون على أصلكم كل فعل مقدور وخلقها على يد الكذاب مقدور
ثم هؤلاء جوزوا كرامات الصالحين ولم يذكروا بين جنسها وجنس كرامات الأنبياء فرقا بل صرح أئمتهم أن كل ما خرق لنبي يجوز أن يخرق للأولياء حتى معراج محمد وفرق البحر لموسى وناقة صالح وغير ذلك ولم يذكروا بين المعجزة والسحر فرقا معقولا بل قد يجوزون أن يأتي الساحر بمثل ذلك لكن بينهما فرق دعوى النبوة وبين الصالح والساحر البر والفجور وحذاق الفلاسفة الذين تكلموا في هذا الباب مثل إبن سينا وهو أفضل طائفتهم ولكنه أجهل من تكلم

في هذا الباب فإنهم جعلوا ذلك كله من قوى النفس لكن الفرق أن النبي والصالح نفسه طاهرة يقصد الخير والساحر نفسه خبيثة وأما الفرق بين النبي والصالح فمتعذر على قول هؤلاء
ومن الناس من فرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء بفروق ضعيفه مثل قولهم الكرامة يخفيها صاحبها أو الكرامة لا يتحدى بها ومن الكرامات ما أظهرها أصحابها كإظهار العلاء بن الحضرمي المشي على الماء وإظهار عمر مخاطبة سارية على المنبر وإظهار أبي مسلم لما ألقي في النار أنها صارت عليه بردا وسلاما وهذا بخلاف من يدخلها بالشياطين فإنه قد يطفئها إلا أنها لا تصير عليه بردا وسلاما وإطفاء النار مقدور للإنس والجن ومنها ما يتحدى بها صاحبها أن دين الاسلام حق كما فعل خالد بن الوليد لما شرب السم وكالغلام الذي أتى الراهب وترك الساحر وأمر بقتل نفسه بسهمه باسم ربه وكان قبل ذلك قد خرقت له العادة فلم يتمكنوا من قتله ومثل هذا كثير
فيقال المراتب ثلاثة آيات الأنبياء ثم كرامات الصالحين ثم خوارق الكفار والفجار كالسحرة والكهان وما يحصل لبعض المشركين وأهل الكتاب والضلال من المسلمين أما الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء فإنهم يقولون نحن إنما حصل لنا هذا باتباع الانبياء ولو لم نتبعهم لم يحصل لنا هذا فهؤلاء إذا قدر أنه جرى على يد أحدهم ما هو من جنس ما جرى للأنبياء كما صارت النار بردا وسلاما على أبي مسلم كما صارت على إبراهيم وكما يكثر الله الطعام والشراب لكثير من الصالحين كما جرى في بعض المواطن للنبي صلى الله عليه و سلم أو إحياء الله ميتا لبعض الصالحين كما أحياه للأنبياء وهي أيضا من معجزاتهم بمنزلة ما تقدمهم من الإرهاص ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين فلا تبلغ كرامات أحد قط مثل معجزات المرسلين كما أنهم لا يبلغون

في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم ولكنهم قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول لا تدل على أن الولي معصوم ولا على أنه تجب طاعته في كل ما يقوله ومن هنا ضل كثير من الناس من النصارى وغيرهم فان الحواريين وغيرهم كانت لهم كرامات كما تكون الكرامات لصالحي هذه الأمة فظنوا أن ذلك يستلزم عصمتهم كما يستلزم عصمة الأنبياء فصاروا يوجبون موافقتهم في كل ما يقولون وهذا غلط فان النبي وجب قبول كل ما يقول لكونه نبيا إدعى النبوة ودلت المعجزة على صدقه والنبي معصوم وهنا المعجزة ما دلت على النبوة بل على متابعة النبي وصحة دين النبي فلا يلزم أن يكون هذا التابع معصوما ولكن الذي يحتاج إلى الفرقان الفرق بين الأنبياء وأتباعهم وبين من خالفهم من الكفار والفجار كالسحرة والكهان وغيرهم حتى يظهر الفرق بين الحق والباطل وبين ما يكون دليلا على صدق صاحبه كمدعي النبوة وبين مالا يكون دليلا على صدق صاحبه فإن الدليل لا يكون دليلا حتى يكون مستلزما للمدلول متى وجد وجد المدلول وإلا فاذا وجد تارة مع وجود المدلول وتارة مع عدمه فليس بدليل فآيات الأنبياء وبراهينهم لا توجد إلا مع النبوة ولا توجد مع ما يناقض النبوة ومدعي النبوة إما صادق وإما كاذب والكذب يناقض النبوة فلا يجوز أن يوجد مع المناقض لها مثل ما يوجد معها وليس هنا شيء مخالف لها ولا مناقض فإن الكفر والسحر والكهانة كل ذلك يناقض النبوة لا يجتمع هو والنبوة
والناس رجلان رجل موافق لهم ورجل مخالف لهم فالمخالف مناقض وإذا كان كذلك فيقال جنس آيات الأنبياء خارجة عن مقدور البشر بل وعن مقدور جنس الحيوان وأما خوارق مخالفيهم كالسحرة والكهان فإنها من جنس أفعال الحيوان من الإنس وغيره من الحيوان والجن مثل قتل الساحر وتمريضه لغيره فهذا أمر مقدور معروف للناس بالسحر وغير السحر وكذلك ركوب المكنسة أو الخابية وغير ذلك حتى تطير به وطيرانه في الهواء من بلد إلى بلد هذا

فعل مقدور للحيوان فان الطير يفعل ذلك والجن تفعل ذلك وقد أخبر الله أن العفريت قال لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وهذا تصرف في أعراض الحي فان الموت والمرض والحركة أعراض والحيوان يقبل في العادة مثل هذه الأغراض ليس في هذا قلب جنس إلى جنس ولا في هذا ما يختص الرب بالقدرة عليه ولا ما تختص به الملائكة وكذلك إحضار ما يحضر من طعام أو نفقة أو ثياب أو غير ذلك من الغيب وهذا إنما هو نقل مال من مكان إلى مكان وهذا تفعله الإنس والجن لكن الجن تفعله والناس لا يبصرون ذلك وهذا بخلاف كون الماء القليل نفسه يفيض حتى يصير كثيرا بأن ينبع من بين الأصابع من غير زيادة يزادها فهذا لا يقدر عليه أنسي ولا جني وكذلك الإخبار ببعض الأمور الغائبة مع الكذب في بعض الأخبار فهذا تفعله الجن كثيرا مع الكهان وهو معتاد لهم مقدور بخلاف اخبارهم بما يأكلون وما يدخرون مع تسمية الله على ذلك فهذا لا تظهر عليه الشياطين وبنو إسرائيل كانوا مسلمين يسمون الله وأيضا فخبر المسيح وغيره من الأنبياء ليس فيه كذب قط والكهان لا بد لهم من الكذب والرب قد أخبر في القرآن أن الشياطين تنزل على بعض الناس فتخبره ببعض الأمور الغائبة لكن ذكر الفرق فقال هل انبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون كذلك مسرى الرسول صلى الله عليه و سلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه الرب من آياته فخاصة الرسول ليست مجرد قطع هذه المسافة بل قطعها ليريه الرب من الآيات الغائبة ما يخبر به فهذا لا يقدر عليه الجن وهو نفسه لم يحتج بالمسرى على نبوته بل جعله مما يؤمن به فأخبرهم به ليؤمنوا به والمقصود إيمانهم بما أخبرهم من الغيب الذي رآه تلك الليلة وإلا فهم كانوا يعرفون المسجد الأقصى ولهذا قال وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به وهذا كما قال في الآية ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى

لقد رأى من آيات ربه الكبرى وكذلك ما يخبر به الرسول من أنباء الغيب قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا فهذا غيب الرب الذي اختص به مثل علمه بما سيكون من تفصيل الأمور الكبار على وجه الصدق فان هذا لا يقدر عليه إلا الله والجن غايتها أن تخبر ببعض الأمور المستقبلة كالذي يسترقه الجن من السماء مع ما في الجن من الكذب فلا بد لهم من الكذب والذي يخبرون به هو مما يعلم بالمنامات وغير المنامات فهو من جنس المعتاد للناس وأما ما يخبر به الرسول من الأمور البعيدة الكبيرة مفصلا مثل إخباره إنكم تقاتلون الترك صغار الأعين ذلف الأنوف ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة وقوله لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ونحو ذلك فهذا لا يقدر عليه جني ولا إنسي والمقصود أن ما يخبر به غير النبي من الغيب معتاد معروف نظيره من الجن والإنس فهو من جنس المقدور لهم وما يخبر به النبي خارج عن قدرة هؤلاء وهؤلاء فهو من غيب الله الذي قال فيه فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول
والآيات الخارقة جنسان جنس في نوع العلم وجنس في نوع القدرة فما اختص به النبي من العلم خارج عن قدرة الإنس والجن وما اختص به من المقدورات خارج عن قدرة الإنس والجن وقدرة الجن في هذا الباب كقدرة الإنس لأن الجن هم من جملة من دعاهم الأنبياء إلى الإيمان وأرسلت الرسل اليهم قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ومعلوم أن النبي اذا دعا الجن إلى الإيمان به فلا بد أن يأتي بآية خارجة عن مقدور الجن فلا بد أن تكون آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الإنس والجن وما يأتي به الكاهن من خبر الجن وغايته أنه سمعه الجني لما استرق السمع مثل الذي يستمع إلى حديث قوم وهم له كارهون وما أعطاه الله سليمان مجموعه يخرج عن قدرة الانس والجن كتسخير الرياح والطير وأما الملائكة فالأنبياء لا تدعو الملائكة إلى الإيمان بهم بل الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء وتعينهم وتؤيدهم والخوارق التي تكون بأفعال الملائكة تختص بالأنبياء

وأتباعهم لا تكون للكفار والسحرة والكهان ولهذا أخبر الله تعالى أن الذي جاء بالقرآن ملك لا شيطان فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم وقال نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين وقال قل نزله روح القدس من ربك بالحق وقال من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله وقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فينبغي أن يتدبر هذا الموضع وتعرف الفروق الكثيرة بين آيات الأنبياءوبين ما يشتبه بها كما يعرف الفرق بين النبي وبين المتنبي وبين ما يجيء به النبي وما يجيء به المتنبي فالفرق الحاصل بين صفات هذا وصفات هذا وأفعال هذا وأفعال هذا وأمر هذا وأمر هذا وخبر هذا وخبر هذا وآيات هذا وآيات هذا إذ الناس محتاجون الى هذا الفرقان أعظم من حاجتهم الى غيره والله تعالى يبينه وييسره ولهذا أخبر أنه أرسل رسله بالآيات البينات وكيف يشبه خير الناس بشر الناس ولهذا لما مثلوا الرسول بالساحر وغيره قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
وقد تنازع الناس في الخوارق هل تدل على صلاح صاحبها وعلى ولايته لله والتحقيق أن من كان مؤمنا بالأنبياء لم يستدل على الصلاح بمجرد الخوارق التي قد تكون للكفار والفساق وإنما يستدل بمتابعة الرجل للنبي فيميز بين أولياء الله وأعدائه بالفروق التي بينها الله ورسوله كقوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وقد علق السعادة بالإيمان والتقوى في عدة مواضع كقوله لما ذكر السحرة ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون وقوله عن يوسف نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون وقوله في قصة صالح

ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون وهذه طريقة الصحابة والسلف
أما دلالتها على ولاية المعين فالناس متنازعون هل الولي والمؤمن من مات على ذلك بحيث إذا كان مؤمنا تقيا وقد علم أنه يموت كافرا يكون في تلك الحال عدوا لله أو ينتقل من إيمان وولاية إلى كفر وعداوة وهما قولان معروفان فمن قال بالأول فالولي عنده كالمؤمن عند من علم أنه يموت على تلك الحال والخوارق لا تدل على ذلك ولذلك قال هؤلاء كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وغيرهما إنها لا تدل وأما من قال الولاية تتبدل فالولاية هنا كالايمان وقد يعلم أن الرجل مؤمن في الباطن تقي بدلائل كثيرة وقد يطلع الله بعض الناس على خاتمة غيره فهذا لا يمتنع لكن هذا مثل الشهادة لمعين بالجنة وفيها ثلاثة أقوال قيل لا يشهد بذلك لغير النبي وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي وعلى بن المديني وغيرهم وقيل يشهد به لمن جاء به نص إن كان خبرا صحيحا كمن شهد له النبي بالجنة فقط وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهما وكان أبو ثور يشهد لاحمد بن حنبل بالجنة وقد جاء في الحديث الذي في المسند يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بماذا يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيء وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت فقيل يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وفي حديث آخر إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت وسئل عن الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن والتحقيق أن هذا قد يعلم بأسباب وقد يغلب على الظن ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم فصار لنا عثمان ابن مظعون في السكنى فمرض فمرضناه ثم توفي فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل

فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي أن قد أكرمك الله قال النبي صلى الله عليه و سلم وما يدريك أن الله قد أكرمه قالت لا والله لا أدري فقال النبي صلى الله عليه و سلم أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا قالت ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عينا تجري فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ذاك عمله
وأما من لم يكن مقرا بالأنبياء فهذا لا يعرف الولي من غيره إذ الولي لا يكون وليا إلا إذا آمن بالرسل لكن قد تدل الخوارق على أن هؤلاء على الحق دون هؤلاء لكونهم من أتباع الأنبياء كما قد يتنازع المسلمون والكفار في الدين فيؤيد الله المؤمنين بخوارق تدل على صحة دينهم كما صارت النار على أبي مسلم بردا وسلاما وكما شرب خالد السم وأمثال ذلك فهذه الخوارق هي من جنس آيات الأنبياء وقد يجتمع كفار ومسلمون ومبتدعة وفجار فيؤيد هؤلاء بخوارق تعينهم عليها الجن والشياطين ولكن جنهم وشياطينهم أقرب الى الإسلام فيترجحون بها على أولئك الكفار عند من لا يعرف النبوات كما يجري لكثير من المبتدعة والفجار مع الكفار مثل ما يجري للأحمدية وغيرهم مع عباد المشركين البخشية قدام التتار كانت خوارق هؤلاء أقوى لكونهم كانوا أقرب الى الاسلام وعند من هو أحق بالاسلام منهم لا تظهر خوارقهم بل تظهر خوارق من هو أتم إيمانا منهم وهذا يشبه رد أهل البدع على الكفار بما فيه بدعة فإنهم وإن ضلوا من هذا الوجه فهم خير من أولئك الكفار لكن من أراد أن يسلك إلى الله على ما جاء به الرسول يضره هؤلاء ومن كان جائرا نفعه هؤلاء بل كلام أبي حامد ينفع المتفلسف ويصير أحسن فان المتفلسف مسلم به إسلام الفلاسفة والمؤمن يصير به إيمانه مثل إيمان الفلاسفة وهذا بخلاف ذاك
والخوارق ثلاثة أنواع إما أن تعين صاحبها على البر والتقوى فهذه أحوال نبينا ومن أتبعه خوارقهم لحجة في الدين أو حاجة للمسلمين والثاني أن تعينهم

على مباحات كمن تعينه الجن على قضاء حوائجه المباحة فهذا متوسط وخوارقه لا ترفعه ولا تخفضه وهذا يشبه تسخير الجن لسليمان والأول مثل إرسال نبينا إلى الجن يدعوهم إلى الإيمان فهذا أكمل من إستخدام الجن في بعض الامور المباحة كاستخدام سليمان لهم في محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات قال تعالى يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور وقال تعالى ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ونبينا صلى الله عليه و سلم أرسل اليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته كما أرسل إلى الإنس فاذا اتبعوه صاروا سعداء فهذا أكمل له ولهم من ذاك كما أن العبد الرسول أكمل من النبي الملك ويوسف وداود وسليمان أنبياء ملوك أما محمد فهو عبد رسول كابراهيم وموسى والمسيح وهذا الصنف أفضل وأتباعهم أفضل والثالث أن تعينه على محرمات مثل الفواحش والظلم والشرك والقول الباطل فهذا من جنس خوارق السحرة والكهان والكفار والفجار مثل أهل البدع من الرفاعية وغيرهم فانهم يستعينون بها على الشرك وقتل النفوس بغير حق والفواحش وهذه الثلاثة هي التي حرمها الله في قوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ولهذا كانت طريقهم من جنس طريق الكهان والشعراء والمجانين وقد نزه الله نبيه عن أن يكون مجنونا وشاعرا وكاهنا فإن إخبارهم بالمغيبات عن شياطين تنزل عليهم كالكهان وأقوى أحوالهم لمؤلهيهم وهم من جنس المجانين وقد قال شيخهم إن أصحاب الأحوال منهم يموتون على غير الاسلام وأما سماعهم ووجدهم فهو شعر الشعراء ولهذا شبههم من رآهم بعباد المشركين من الهند الذين يعبدون الأنداد
فصل وحقيقة الأمر أن ما يدل على النبوة هو آية على النبوة وبرهان عليها فلا بد أن يكون مختصا بها لا يكون مشتركا بين الأنبياء وغيرهم فإن الدليل هو مستلزم لمدلوله لا يجب أن يكون أعم وجودا منه بل إما أن يكون مساويا له في العموم والخصوص أو يكون أخص منه وحينئذ فآية النبي لا تكون لغير الأنبياء

لكن إذا كانت معتادة لكل نبي أو لكثير من الانبياء لم يقدح هذا فيها فلا يضرها أن تكون معتادة للأنبياء وكون الآية خارقة للعادة أو غير خارقة هو وصف لم يصفه القرآن والحديث ولا السلف وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا وصف لا ينضبط وهو عديم التأثير فإن نفس النبوة معتادة للأنبياء خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم إن كون الشخص يخبره الله بالغيب خبرا معصوما هذا مختص بهم وليس هذا موجودا لغيرهم فضلا عن كونه معتادا فآية النبي لا بد أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها ليست معتادة للآدميين وذلك لأنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي بل مشتركة وبهذا احتجوا على أنه لا بد أن تكون خارقة للعادة لكن ليس في هذا ما يدل على أن كل خارق آية فالكهانة والسحر هو معتاد للسحرة والكهان وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم كما أن ما يعرفه أهل الطب والنجوم والفقه والنحو هو معتاد لنظرائهم وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم ولهذا إذا أخبر الحاسب بوقت الكسوف والخسوف تعجب الناس إذا كانوا لا يعرفون طريقه فليس في هذا ما يختص بالنبي وكذلك قراءة القرآن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه و سلم صارت مشتركة بين النبي وغيره وأما نفس الإبتداء به فهو مختص بالنبي وكذلك ما يرويه من أنباء الغيب عن الأنبياء لما صار مشتركا بين النبي وغيره لم يبق آية بخلاف الابتداء فالكهانة مثلا وهو الإخبار ببعض الغائبات عن الجن أمر معروف عند الناس وأرض العرب كانت مملوءة من الكهان وإنما ذهب ذلك بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وهم يكثرون في كل موضع نقص فيه أمر النبوة فهم كثيرون في أرض عباد الأصنام ويوجدون كثيرا عند النصارى ويوجدون كثيرا في بلاد المسلمين حيث نقص العلم والإيمان بما جاء به الرسول لأن هؤلاء أعداء الأنبياء والله تعالى قد ذكر الفرق بينهم وبين الأنبياء فقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فهؤلاء لا بد أن يكون في أحدهم كذب وفجور وذلك يناقض النبوة فمن ادعى النبوة وأخبر بغيوب من جنس أخبار الكهان كان ما أخبر به خرقا للعادة عند أولئك القوم لكن ليس خرقا لعادة جنسه من الكهان وهم إذا جعلوا ذلك آية لنبوته كان ذلك لجهلهم

بوجود هذا الجنس لغير الأنبياء كالذين صدقوا مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء من المتنبئين الكذابين وكان هؤلاء يأتون بأمور عجيبة خارقة لعادة أولئك القوم لكن ليست خارقة لعادة جنسهم ممن ليس بنبي فمن صدقهم ظن أن هذا مختص بالأنبياء وكان ذلك من جهله بوجود هذا لغير الأنبياء كما أنهم كانوا يأتون بأمور تناقض النبوة ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يعارضها من ليس بنبي فكل من عارضها صادرا ممن ليس من جنس الأنبياء فليس من أياتهم ولهذا طلب فرعون أن يعارض ما جاء به موسى لما ادعى أنه ساحر فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة وأمرهم موسى أن يأتوا أولا بخوارقهم فلما أتت وابتلعتها العصا التي صارت حية علم السحرة أن هذا ليس من جنس مقدورهم فآمنوا إيمانا جازما ولما قال لهم فرعون لأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون فكان من تمام علمهم بالسحر أن السحر معتاد لأمثالهم وأن هذا ليس من هذا الجنس بل هذا مختص بمثل هذا فدل على صدق دعواه وفرعون وقومه بين معاند وجاهل استخفه فرعون كما قال تعالى فاستخف قومه فأطاعوه فاذا قيل لهم المعجزة هي الفعل الخارق للعادة أو قيل هي الفعل الخارق للعادة المقرون بالتحدي أو قيل مع ذلك الخارق للعادة السليم عن المعارضة فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا فإنه إن أريد به أنه لم يوجد له نظير في العالم فهذا باطل فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض بل النوع الواحد منه كاحياء الموتى وهو آية لغير واحد من الأنبياء وإن قيل إن بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها كالقرآن والعصا والناقة لم يلزم ذلك في سائر الآيات ثم هب أنه لا نظير لها في نوعها لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا فنفس خوارق العادات معتاد جميعه للأنبياء بل هو من لوازم نبوتهم مع كون الأنبياء كثيرين وقد روي أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي وما يأتي به كل واحد من هؤلاء لا يكون معدوم النظير في العالم

بل ربما كان نظيره وإن عني بكون المعجزة هي الخارقة للعادة أنها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك فهذا ليس بحجة فإن أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة والسحر ونحو ذلك وقد يكون المخاطبون بالنبوة ليس فيهم هؤلاء كما كان أتباع مسيلمة والعنسي وأمثالهما لا يقدرون على ما يقدر عليه هؤلاء والمبرز في فن من الفنون يقدر على ما لا يقدر عليه أحد في زمنه وليس هذا دليلا على النبوة فكتاب سيبويه مثلا مما لا يقدر على مثله عامة الخلق وليس بمعجز إذ كان ليس مختصا بالأنبياء بل هو موجود لغيرهم وكذلك طب أبقراط بل وعلم العالم الكبير من علماء المسلمين خارج عن عادة الناس وليس هو دليلا على نبوته
وأيضا فكون الشيء معتادا هو مأخوذ من العود وهذا يختلف بحسب الأمور فالحائض المعتادة من الفقهاء من يقوم تثبت عادتها بمرة ومنهم من يقول بمرتين ومنهم من يقول لا تثبت إلا بثلاث وأهل كل بلد لهم عادات في طعامهم ولباسهم وأبنيتهم لم يعتدها غيرهم فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم لا لعادة من اعتاده من غيرهم فلهذا لم يكن في كلام الله ورسوله وسلف الامة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل فان هذا لا ضابط له وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم ولكن إذا قيل من شرطها أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد ويعرفون أن الأمر المعتاد مثل الأكل والشرب والركوب والسفر وطلوع الشمس وغروبها ونزول المطر في وقته وظهور الثمرة في وقتها ليس دليلا ولا يدعي أحد أن مثل هذا دليل له فان فساد هذا ظاهر لكل أحد ولكن ليس مجرد كونه خارقا للعادة كافيا لوجهين أحدهما أن كون الشيء معتادا وغير معتاد أمر نسبي إضافي ليس بوصف مضبوط تتميز به الآية بل يعتاد هؤلاء مالم يعتد هؤلاء مثل كونه مألوفا ومجربا ومعروفا ونحو ذلك من الصفات الإضافية الثاني أن مجرد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم وإذا خص ذلك بعدم المعارضة فقد يأتي الرجل بما لا يقدر الحاضرون على معارضته ويكون معتادا لغيرهم كالكهانة والسحر وقد يأتي بما

يمكن معارضته وليس بآية لشيء لكونه لم يختص بالأنبياء وقد يقال في طب أبقراط ونحو سيبويه إنه لا نظير له بل لا بد أن يقال إنه مختص بالأنبياء بل معروف أن هذا تعلم بعضه من غيره واستخرج سائره بنظره واذا خص الله طبيبا أو نحويا أو فقيها بما ميزه به على نظرائه لم يكن ذلك دليلا على نبوته وإن كان خارقا للعادة فان ما يقوله الواحد من هؤلاء قد علمه بسماع أو تجربة أو قياس وهي طرق معروفة لغير الأنبياء والنبي قد علمه الله من الغيب الذي عصمه الله فيه عن الخطأ ما لم يعلمه إلا نبي مثله فان قيل فحينئذ لا يعرف أن الآية مختصة بالنبي حتى تعرف النبوة قيل أما بعد وجود الأنبياء في العالم فهكذا هو ولهذا يبين الله عز و جل نبوة محمد في غير موضع باعتبارها بنبوة من قبله وتارة يبين أنه لم يرسل ملائكة بل رجالا من أهل القرى ليبين أن هذا معتاد معروف ليس هو أمرا لم تجر به عادة الرب كقوله تعالى وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون كما ذكره في سورة النحل والأنبياء وقال في يوسف وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من اهل القرى أفلم يسيروا في الأرص فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون فان الكفار كانوا يقولون إنما يرسل الله ملكا أو يرسل مع البشر ملكا كما قال فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال مشركو العرب لمحمد ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا نزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم

لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون بين أنهم لا يطيقون الأخذ عن الملائكة إن لم يأتوا في صورة البشر ولو جاءوا في صورة لبشر لحصل اللبس وقال تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وكانت العرب لا عهد لها بالنبوة من زمن إسماعيل فقال الله لهم فاسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون هل أرسل اليهم رجالا أو ملائكة ولهذا قال له قل ما كنت بدعا من الرسل وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل بين أن هذا الجنس من الناس معروف قد تقدم له نظراء وأمثال وهو سبحانه أمر أن يسأل أهل الكتاب وأهل الذكر عما عندهم من العلم في أمور الأنبياء هل هو من جنس ما جاء به محمد أو هو مخالف له ليتبين بإخبار أهل الكتاب المتواترة جنس ما جاءت به الأنبياء وحينئذ فيعرف قطعا أن محمدا نبي بل هو أحق بالنبوة من غيره والثاني أن يسألوهم عن خصوص محمد وذكره عندهم وهذا يعرفه الخاصة منهم ليس هو معروفا كالأول يعرفه كل كتابي قال تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله وقوله شهد شاهد ليس المقصود شاهدا واحدا معينا بل ولا يحتم كونه واحدا وقول من قال إنه عبد الله بن سلام ليس بشيء فان هذه نزلت بمكة قبل أن يعرف إبن سلام ولكن المقصود جنس الشاهد كما تقول قام الدليل وهو الشاهد الذي يجب تصديقه سواء كان واحدا قد يقترن بخبره ما يدل على صدقه أو كان عددا يحصل بخبرهم العلم بما تقول فان خبرك بهذا صادق وقوله على مثله فان الشاهد من بني إسرائيل على مثل القرآن وهو أن الله بعث بشرا وأنزل عليه كتابا أمر فيه بعبادة الله وحده لا شريك له ونهى فيه عن عبادة ما سواه واخبر فيه أنه خلق هذا العالم وحده وأمثال ذلك وقد ذكر في أول هذه السورة التوحيد وبين أن المشركين ليس معهم على الشرك لا دليل عقلي ولا سمعي فقال تعالى ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون

من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثرة من علم إن كنتم صادقين ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون واذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين قل أرأيتم أن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله الى آخره ومثل ذلك قوله تعالى ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب فمن عنده علم الكتاب شهد بما في الكتاب الأول وهو يوجب تصديق الرسول لانه يشهد بالمثل ويشهد أيضا بالعين وكل من الشهادتين كافية فمتى ثبت الجنس علم قطعا أن العين منه وقال تعالى فان كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين وهذا سواء كان خطابا للرسول والمراد به غيره أو خطابا له وهو لغيره بطريق الأولى والمقدر قد يكون معدوما أو ممتنعا وهو بحرف ان كقوله قل ان كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين و إن كنت قلته فقد علمته والمقصود بيان الحكم على هذا التقدير إن كنت قلته فانت عالم به وبما في نفسي وإن كان له ولد فأنا عابده وان كنت شاكا فاسأل ان قدر امكان ذلك فسؤال الذين يقرءون الكتاب قبله اذا أخبروا فما عندهم شاهد له ودليل وحجة ولهذا نهى بعد ذلك عن الإمتراء والتكذيب وأما تقدير الممتنع بحرف ان فكثير ومن ذلك قوله فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية فإن كان لكم كيد فكيدون أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا

براهانكم إن كنتم صادقين وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقد قال تعالى أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل وقال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وقال تعالى ان الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون واذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا وهذا كله في السور المكية والمقصود الجنس فاذا شهد جنس هؤلاء مع العلم بصدقهم حصل المطلوب لا يقف العلم على شهادة كل واحد واحد فان هذا متعذر ومن أنكر أو قال لا أعلم لم يضر إنكاره وإن قال بل أعلم عدم ما شهدوا به علم افتراؤه في الجنس وعلم في الشخص اذ كان لم يحط علما بجميع نسخ الكتب المتقدمة وما في النبوات كلها فلا سبيل لأحد من أهل الكتاب أن يعلم انتفاء ذكر محمد في كل نسخة نسخة بكل كتاب من كتب الأنبياء إذ العلم بذلك متعذر ثم هذه النسخ الموجود فيها ذكره في مواضع كثيرة قد ذكر قطعة منها في غير هذا الموضع ومما ينبغي أن يعلم أن أعظم ما كان عليه المشركون قبل محمد وفي مبعثه هو دعوى الشريك لله والولد والقرآن مملوء من تنزيه الله عن هذين وتنزيهه عن المثل والولد يجمع كل التنزيه فهذا في سورة الإخلاص وفي سورة الأنعام في مثل قوله وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون وفي سورة سبحان وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وفي سورة الكهف في أولها وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وفي آخرها افحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفي مريم تنزيهه عن الولد في أول السورة وآخرها ظاهر وعن الشريك في مثل قصة

إبراهيم وفي تنزيل وغير ذلك وفي الأنبياء تنزيهه عن الشريك والولد وكذلك في المؤمنين ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله وأول الفرقان الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وأما طه والشعراء مما بسط فيه قصة موسى فالمقصود الأعظم بقصة موسى إثبات الصانع ورسالته إذ كان فرعون منكرا ولهذا عظم ذكرها في القرآن بخلاف قصة غيره فإن فيها الرد على المشركين المقرين بالصانع ومن جعل له ولدا من المشركين وأهل الكتاب ومذهب الفلاسفة الملحدة دائر بين التعطيل وبين الشرك والولادة كما يقولونه في الإيجاب الذاتي فانه أحد أنواع الولادة وهم ينكرون معاد الأبدان وقد قرن بين هذا وهذا في الكتاب والسنة في مثل قوله ويقول الإنسان أإذا مامت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا إلى قوله وقالوا إتخذ الرحمن ولدا وهذه في سورة مريم المتضمنة خطاب النصارى ومشركي العرب لأن الفلاسفة داخلون فيهم فإن اليونان اختلطوا بالروم فكان فيها خطاب هؤلاء وهؤلاء وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فاما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته رواه البخاري عن إبن عباس
ولما كان الشرك أكثر في بني آدم من القول بأن له ولدا كان تنزيهه عنه أكثر وكلاهما يقتضي إثبات مثل وند من بعض الوجوه فان الولد من جنس الوالد ونظير له وكلاهما يستلزم الحاجة والفقر فيمتنع وجود قادر بنفسه فالذي جعل لله شريكا لو فرض مكافئا لزم إفتقار كل منهما وهو ممتنع وإن كان غير مكافئ فهو مقهور والولد يتخذ المتخذ لحاجته إلى معاونته له كما يتخذ المال فان الولد إذا اشتد أعان والده قال تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا الى قوله ان كل من في السموات والارض إلا آت الرحمن

عبدا وقال تعالى وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون فان كون المخلوق مملوكا لخالقه وهو مفتقر اليه من كل وجه والخالق غني عنه يناقض اتخاذ الولد لانه انما يكون لحاجته اليه في حياته أو ليخلفه بعد موته والرب غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير اليه وهو الحي الذي لا يموت والوالد في نفسه مفتقر الى ولد مخلوق لا حيلة له فيه بخلاف من يشتري المملوك فانه بإختياره ملكه ويمكنه إزالة ملكه فتعلقه به من جنس تعلقه بالاجانب والولادة بغير اختيار الوالد والرب يمتنع ان يحدث شيء بغير اختياره
واتخاذ الولد هو عوض عن الولادة لمن لم يحصل له فهو أنقص في الولادة ولهذا من قال بالإيجاب الذاتي بغير مشيئته وقدرته فقوله من جنس قول القائلين بالولادة الحاصلة بغير الاختيار بل قولهم شر من قول النصارى ومشركي العرب من بعض الوجوه كما قد بسط الكلام على هذا في تفسير قل هو الله أحد وغيره
والمقصود أن الله قال لمحمد قل ما كنت بدعا من الرسل وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فبين أن هذا الجنس من الناس معروف قد تقدم له نظراء وأمثال فهو معتاد في الآدميين وان كان قليلا فيهم وأما من جاءهم رسول ما يعرفون قبله رسولا كقوم نوح فهذا بمنزلة ما يبتدئه الله من الأمور وحينئذ فهو يأتي بما يختص به مما يعرفون أن الله صدقه في إرساله فهذا يدل على النوع والشخص وان كانت آيات غيره تدل على الشخص إذ النوع قد عرف قبل هذا فالمقصود أن آيته وبرهانه لا بد أن يكون مختصا بهذا النوع لا يجب أن يختص بواحد من النوع ولا يجوز أن يوجد لغير النوع وقد قلنا إن ما يأتي به أتباع الانبياء من ذلك هو مختص بالنوع فأنا نقول هذا لا يكون إلا لمن اتبع الأنبياء فصار مختصا بهم وأما ما يوجد لغير الانبياء وأتباعهم فهذا هو الذي لا يدل على النبوة كخوارق السحرة والكهان
وقد عرف الناس أن السحرة لهم خوارق ولهذا كانوا إذا طعنوا في نبوة نبي واعتقدوا علمه قالوا هو ساحر كما قال الملأ من قوم فرعون لموسى ان هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا

تأمرون وقال للسحرة لما آمنوا إنه لكبيركم الذي علمكم السحر و ان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها كل هذا من كذب فرعون وكانوا يقولون يا أيها الساحر ادع لنا ربك وكذلك المسيح قال تعالى وإذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين وقال تعالى عن كفار العرب وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وان نسبوه إلى عدم العلم قالوا مجنون كما قالوا عن نوح مجنون وازدجر وقالوا عن موسى ان رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقال عن مشركي العرب وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون انه لمجنون وقد قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فالسحر أمر معتاد في بني آدم كما أن النبوة معتادة في بني آدم والمجانين معتادون فيهم فاذا قالوا عن الشخص انه مجنون فانه يعلم هل هو من العقلاء أو من المجانين بنفس ما يقوله ويفعله وكذلك يعرف هل هو من جنس الانبياء أو من جنس السحرة وكذلك لما قالوا عن محمد انه شاعر فان الشعراء جنس معروفون في الناس وقالوا إنه كاهن وشبهة الشعر أن القرآن كلام موزون والشعر موزون وشبهة الكهانة أن الكاهن يخبر ببعض الامور الغائبة فذكر الله تعالى الفرق بين هذين وبين النبي فقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ثم قال والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وقال وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين وقال تعالى وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولهذا لما عرض الكفار على كبيرهم الوحيد أن يقولوا للناس هو شاعر

ومجنون وساحر وكاهن صار يبين لهم أن هذه أقوال فاسدة وأن الفرق معروف بينه وبين هذه الأجناس
فالمقصود أن هذه الأجناس كلها موجودة في الناس معتادة معروفة وكل واحد منها يعرف بخواصه المستلزمة له وتلك الخواص آيات له مستلزمة له فكذلك النبوة لها خواص مستلزمة لها تعرف بها وتلك الخواص خارقة لعادة غير الانبياء وان كانت معتادة للانبياء فهي لا توجد لغيرهم فهذا هذا والله أعلم
فاذا أتى مدعي النبوة بالأمر الخارق للعادة الذي لا يكون إلا لنبي لا يحصل مثله لساحر ولا كاهن ولا غيرهما كان دليلا على نبوته وكل من الساحر والكاهن يستعين بالشياطين فان الكهان تنزل عليهم الشياطين تخبرهم والسحرة تعلمهم الشياطين قال تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر والساحر لا يتجاوز سحره الامور المقدورة للشياطين كما تقدم بيانه والساحر كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى وقال تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق فهم يعلمون أن السحر لا ينفع في الآخرة ولا يقرب إلى الله وأن من اشتراه ماله في الآخرة من خلاق فإن مبناه على الشرك والكذب والظلم مقصود صاحبه الظلم والفواحش وهذا مما يعلم بصريح العقل أنه من السيئات فالنبي لا يأمر به ولا يعمله يستعين على ذلك صاحبه بالشرك والكذب وقد علم بصريح العقل مع ما تواتر عن الانبياء أنهم حرموا الشرك فمتى كان الرجل يأمر بالشرك وعبادة غير الله أو يستعين على مطالبه بهذا وبالكذب والفواحش والظلم علم قطعا أنه من جنس السحرة لا من جنس الانبياء وخوارق هذا يمكن معارضتها وإبطالها من بني جنسه وغير بني جنسه وخوارق الانبياء لا يمكن غيرهم أن يعارضها ولا يمكن أحدا إبطالها لا من جنسهم ولا من غير جنسهم فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضا فلا يتصور أن نبيا يبطل معجزة آخر وإن أتى بنظيرها فهو يصدقه ومعجزة كل منهما آية له وللآخر أيضا

كما أن معجزات أتباعهم آيات لهم بخلاف خوارق السحرة فإنها إنما تدل على أن صاحبها ساحر يؤثر آثارا غريبة مما هو فساد في العالم ويسر بما يفعله من الشرك والكذب والظلم ويستعين على ذلك بالشياطين فمقصوده الظلم والفساد والنبي مقصوده العدل والصلاح وهذا يستعين بالشياطين وهذا بالملائكة وهذا يأمر بالتوحيد لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا إنما يستعين بالشرك وعبادة غير الله وهذا يعظم إبليس وجنوده وهذا يذم إبليس وجنوده والإقرار بالملائكة والجن عام في بني آدم لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الامم ولهذا قالت الامم المكذبة ولو شاء الله لأنزل ملائكة حتى قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون قال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة وقال فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون وفرعون وإن كان مظهرا لجحد الصانع فإنه ما قال فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين إلا وقد سمع بذكر الملائكة إما معترفا بهم وإما منكرا لهم فذكر الملائكة والجن عام في الأمم وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكارا عاما وإنما يوجد إنكار ذلك في بعضهم مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم فلا بد في آيات الانبياء من أن تكون مع كونها خارقة للعادة أمرا غير معتاد لغير الانبياء بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الانبياء ليس مما يقدر عليه غير الانبياء لا بحيلة ولا عزيمة ولا استعانة بشياطين ولا غير ذلك ومن خصائص معجزات الانبياء أنه لا يمكن معارضتها فإذا عجز النوع البشري غير الانبياء عن معارضتها كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالانبياء بخلاف ما كان موجودا لغيرها فهذا لا يكون آية البتة فأصل هذا أن يعرف وجود الانبياء في العالم وخصائصهم كما يعلم وجود السحرة وخصائصهم ولهذا من لم يكن عارفا بالانبياء من فلاسفة اليونان والهند وغيرهم لم يكن له فيهم كلام يعرف كما لم يعرف لارسطو وأتباعه فيهم كلام يعرف بل غاية

من أراد أن يتكلم في ذلك كالفارابي وغيره أن يجعلوا ذلك من جنس المنامات المعتادة ولما أراد طائفة كأبي حامد وغيره أن يقرروا إمكان النبوة على أصلهم احتجوا بأن مبدأ الطب ومبدأ النجوم ونحو ذلك كان من الانبياء لكون المعارف المعتادة لا تنهض بذلك وهذا إنما يدل على اختصاص من أتى بذلك بنوع من العلم وهذا لا ينكره عاقل وعلى هذا بنى ابن سينا أمر النبوة أنها من قوى النفس وقوى النفوس متفاوتة وكل هذا كلام من لا يعرف النبوة بل هو أجنبي عنها وهو أنقص ممن أراد أن يقرر أن في الدنيا فقهاء وأطباء وهو لم يعرف غير الشعراء فاستدل بوجود الشعراء على وجود الفقهاء والاطباء بل هذا المثال أقرب فإن بعد النبوة عن غير الانبياء أعظم من بعد الفقيه والطبيب عن الشاعر ولكن هؤلاء من أجهل الناس بالنبوة ورأوا ذكر الانبياء قد شاع فأرادوا تخريج ذلك على أصول قوم لم يعرفوا الانبياء
فان قيل موسى وغيره كانوا موجودين قبل أرسطو فان أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وأيضا فقد قال الله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وقال إنا أرسلناك بالحق شيرا ونذيرا وان من أمة إلا خلا فيها نذير فهذا يبين أن كل أمة قد جاءها رسول فكيف لم يعرف هؤلاء الرسل قلت عن هذا جوابان أحدهما أن كثيرا من هؤلاء لم يعرفوا الرسل كما قال ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فلم تبق أخبار الرسول وأقواله معروفة عندهم الثاني أنه قال تعالى تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم فاذا كان الشيطان قد زين لهم أعمالهم كان في هؤلاء من درست أخبار الأنبياء عندهم فلم يعرفوها وأرسطو لم يأت إلى أرض الشام ويقال ان الذين كانوا قبله كانوا يعرفون الانبياء لكن المعرفة المجملة لا تنفع كمعرفة قريش كانوا قد سمعوا بموسى وعيسى وابراهيم سماعا من غير معرفة بأحوالهم

وأيضا فهم وأمثالهم المشاءون أدركوا الاسلام وهم من أكفر الناس بما جاءت به الرسل إما أنهم لا يطلبون معرفة أخبارهم وما سمعوه حرفوه أو حملوه على أصولهم وكثير من المتفلسفة هم من هؤلاء فإذا كان هذا حال هؤلاء في ديار الاسلام فما الظن بمن كان ببلاد لا تعرف فيها شريعة نبي
بل طريق معرفة الانبياء كطريق معرفة نوع من الآدميين خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم كما يعرف الأطباء والفقهاء ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وغيرهم فيذكر وجود هؤلاء وأن قوما صدقوهم وقوما كذبوهم ويبين حال من صدقهم وحال من كذبهم فيعلم بالاضطرار حينئذ ثبوت هؤلاء ويتبين وجود آثارهم في الارض فمن لم يكن رأى في بلدة آثارهم فليسر في الارض ولينظر آثارهم وليسمع أخبارهم المتواترة يقول الله تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ولهذا قال مؤمن آل فرعون لما أراد إنذار قومه يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ولهذا لما سمع ورقة بن نوفل والنجاشي وغيرهما القرآن قال ورقة بن نوفل هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى وقال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة فكان عندهم علم بما جاء به موسى اعتبروا به ولولا ذلك لم يعلموا هذا وكذلك الجن لما سمعت القرآن ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا

لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ولما أراد سبحانه تقرير جنس ما جاء به محمد قال إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصا فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذرأم القرى ومن حولها فهو سبحانه يثبت وجود جنس الانبياء ابتداء كما في السور المكية حيث يثبت وجود هذا الجنس وسعادة من اتبعه وشقاء من خالفه ثم نبوة عين هذا النبي تكون ظاهرة لأن الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الانبياء فمن أقر بجنس الانبياء كان إقراره بنبوة محمد في غاية الظهور أبين مما أقر أن في الدنيا نحاة وأطباء وفقهاء فإذا رأى نحو سيبويه وطب أبقراط وفقه الأئمة الاربعة ونحوهم كان إقراره بذلك من أبين الامور ولهذا كان من نازع من اهل الكتاب في نبوة محمد إما أن يكون لجهله بما جاء به وهو الغالب على عامتهم أو لعناده وهو حال طلاب الرياسة بالدين منهم والعرب عرفوا ما جاء به محمد فلما أقروا بجنس الانبياء لم يبق عندهم في محمد شك وجميع ما يذكره الله تعالى في القرآن من قصص الانبياء يدل على نبوة محمد بطريق الاولى إذ كانوا من جنس واحد ونبوته أكمل فينبغي معرفة هذا فإنه أصل عظيم ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية فإنهم لما عرفوا نبوته وأنه لا بد من متابعته أو متابعة اليهود والنصارى عرفوا أن متابعته أولى ومن كان من أهل الكتاب بعضهم آمن به وبعضهم لم يؤمن جهلا وعنادا وهؤلاء كان عندهم كتاب ظنوا استغناءهم به فلم يستقرئوا أخبار محمد وما جاء به خالين من الهوى بخلاف من لم يكن له كتاب فإنه نظر في الأمرين نظر خال من الهوى فعرف فضل ما جاء به محمد على ما جاء به غيره ولهذا لا تكاد توجد أمة لا كتاب لها يعرض عليها دين المسلمين واليهود والنصارى إلا رجحت دين المسلمين كما يجري لأنواع الامم التي لا كتاب لها فأهل الكتاب مقرون بالجنس منازعون في العين والمتفلسفة من

اليونان والهند منازعون في وجود كمال الجنس وإن أقروا ببعض صفات الانبياء فإنما أقروا منها بما لا يختص بالانبياء بل هو مشترك بينهم وبين غيرهم فلم يؤمن هؤلاء بالانبياء البتة هذا هو الذي يجب القطع به ولهذا يذكرون معهم ذكر الجنس الخارج عن أتباعهم فيقال قالت الانبياء والفلاسفة واتفقت الانبياء والفلاسفة كما يقال المسلمون واليهود والنصارى وقال أيضا رضي الله عنه

فصل ومن آياته نصر الرسل على قومهم
وهذا على وجهين تارة يكون بإهلاك الامم وإنجاء الرسل وأتباعهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى ولهذا يقرن الله بين هذه القصص في سور الاعراف وهود والشعراء ولا يذكر معها قصة ابراهيم وإنما ذكر قصة ابراهيم في سورة الانبياء ومريم والعنكبوت والصافات فإن هذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الامم بل في سورة الانبياء كان المقصود ذكر الانبياء ولهذا سميت سورة الانبياء فذكر فيها إكرامه للأنبياء وإن لم يذكر قومهم كما ذكر قصة داود وسليمان وايوب وذكر آخر الكل إن هذه أمتكم أمة واحدة وبدأ فيها بقصة إبراهيم إذ كان المقصود ذكر إكرامه للانبياء قبل محمد وابراهيم أكرمهم على الله تعالى وهو خير البرية وهو أبو أكثرهم إذ ليس هو أب نوح ولوط لكن لوط من أتباعه وأيوب من ذريته بدليل قوله في سورة الانعام ومن ذريته داود وسليمان وأيوب وأما سورة مريم فذكر الله تعالى فيها انعامه على الانبياء المذكورين فيها فذكر فيها رحمته زكريا وهبته يحيى وأنه ورث نبوته وغيرها من علم آل يعقوب وأنه آتاه الحكم صبيا وذكر بدء خلق عيسى وما اعطاه الله تعالى من تعليم الكتاب وهو التوراة النبوة وأن الله تعالى جعله مباركا أينما كان وغير ذلك وذكر قصة ابراهيم وحسن خطابه لأبيه وأن الله تعالى وهبه اسحاق ويعقوب نبيين ووهبه من رحمته وجعل له لسان صدق عليا ثم ذكر موسى وأنه خصه الله تعالى بالتقريب والتكليم ووهبه أخاه وغير ذلك وذكر اسماعيل

وأنه كان صادق الوعد وكأنه والله أعلم من ذلك أو أعظمه صدقه فيما وعد به أباه من صبره عند الذبح فوفى بذلك وذكر إدريس وأن الله تعالى رفعه مكانا عليا ثم قال أولئك الذين أنعم الله عليهم وأما سورة العنكبوت فإنه ذكر فيها امتحانه للمؤمنين ونصره لهم وحاجتهم الى الصبر والجهاد وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر وعاقبة من كذب الرسل فذكر قصة ابراهيم لانها من النمط الاول ونصرة الله له على قومه وكذلك سورة الصافات قال فيها ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة إما بكونهم غلبوا وذلوا وإما بكونهم أهلكوا ولهذا ذكر فيها قصة إلياس ولم يذكرها في غيرها ولم يذكر هلاك قومه بل قال فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وإلياس قد روي ان الله تعالى رفعه وهذا يقتضي عذابهم في الآخره فان إلياس لم يقم فيهم وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال وبعد نوح لم يهلك جميع النوع وقد بعث في كل أمة نذيرا والله تعالى لم يذكر قط عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر عن غيرهم بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأرادوا به كيدا فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين وفي هذا ظهور برهانه وآيته وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم وأظهره أيضا بالقدرة حيث أذلهم ونصره وهذا من جنس المجاهد الذي هزم عدوه وتلك من جنس المجاهد الذي قتل عدوه وابراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا فلم يوجد في حق قوم ابراهيم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل وهكذا محمد مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك ومحمد وابراهيم أفضل الرسل فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود وقد يتوب منهم من يتوب بعد ذلك كما تاب من قريش من تاب وأما حال إبراهيم فكانت الى الرحمة أميل فلم يسعى في هلاك قومه لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم وقد قال تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم

لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الارض من بعدهم وكان كل قوم لا يطلبون هلاك نبيهم الا عوقبوا وقوم ابراهيم أوصوله الى العذاب لكن جعله الله عليه بردا وسلاما ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب أذ الدنيا ليست دار الجزاء التام وانما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة كما في العقوبات الشرعية فمن أراد أعداؤه من أتباع الانبياء أن يهلكوه فعصمه الله وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره فهو أشبه بإبراهيم واذا عصمه من كيدهم وأظهره حتى صارت الحرب بينه وبينهم سجالا ثم كانت العاقبة له فهو أشبه بحال محمد صلى الله عليه و سلم فان محمدا سيد الجميع وهو خليل الله كما أن ابراهيم خليله والخليلان هما أفضل الجميع وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريقة غيرهما ولم يذكر الله عن قوم ابراهيم دينا غير الشرك وكذلك عن قوم نوح وأما عاد فذكر عنهم التجبر وعمارة الدنيا وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين لم يذكر عنهم من التجبر ما ذكر عن عاد وإنما أهلكهم لما عقروا الناقة وأما أهل مدين فذكر عنهم الظلم في الاموال مع الشرك قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد أباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء وقوم لوط ذكر عنهم استحلال الفاحشة ولم يذكروا بالتوحيد بخلاف سائر الامم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين وانما ذنبهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك وكانت عقوبتهم أشد إذ ليس في ذلك تدين بل شر يعلمون أنه شر وهذه الامور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم فان قوم نوح أغرقهم اذ لم يكن فيهم خير يرجى

فصل في آيات الانبياء وبراهينهم
وهي الادلة والعلامات المستلزمة لصدقهم والدليل لا يكون إلا مستلزما للمدلول عليه مختصا به لا يكون مشتركا بينه وبين غيره فإنه يلزم من تحققه تحقق للمدلول وإذا انتفى المدلول انتفى هو فما يوجد مع وجود الشيء ومع عدمه لا يكون دليلا عليه بل الدليل لا يكون الا مع وجوده فما وجد مع النبوة تارة ومع عدم النبوة تارة لم يكن دليلا على النبوة بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها وهنا اضطرب

الناس فقيل دليلها جنس يختص بها وهو الخارق للعادة فلا يجوز وجوده لغير نبي لا ساحر ولا كاهن ولا ولي كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم كابن حزم وغيره وقيل بل الدليل هو الخارق للعادة بشرط الاحتجاج به على النبوة والتحدي بمثله وهذا منتف في السحر والكرامة كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي أهل الاثبات كالقاضيين أبي بكر وأبي يعلى وغيرهما وقد بسط القاضي أبو بكر الكلام في ذلك في كتابه المصنف في الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانات والسحر والنيرنجيات وهؤلاء جعلوا مجرد كونه خارقا للعادة هو الوصف المعتبر وفرق بين أن يقال لا بد أن يكون خارقا للعادة وبين أن يقال كونه خارقا للعادة هو المؤثر فإن الاول يجعله شرطا لا موجبا والثاني يجعله موجبا وفرق بين أن يقال العلم والبيان وقراءة القرآن لا يكون إلا من حي وبين أن يقال كونه حيا يوجب أن يكون عالما قارئا ومن هنا دخل الغلط على هؤلاء وليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف بل ولا ذكر خرق العادة ولا لفظ المعجز وانما فيه آيات وبراهين وذلك يوجب اختصاصها بالانبياء
وأيضا فقالوا في شرطها أن لا يقدر عليها إلا الله لا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للإنس بأن يكون جنسها مما لا يقدر عليه إلا الله كاحياء الموتى وقلب العصا حية واذا كانت من أفعال العباد لكنها خارقة للعادة مثل حمل الجبال والقفز من المشرق الى المغرب والكلام المخلوق الذي يقدر على مثله البشر ففيه لهم قولان أحدهما أن ذلك يصح أن يكون معجزة والثاني أن المعجزة انما هي إقدار المخلوق على ذلك بأن يخلق فيه قدرة خارجة عن قدرته المعتادة وهذا اختيار القاضي أبي بكر ومن اتبعه كالقاضي أبي يعلى وظنوا أن هذا يوجب طرد قولهم إنها لا تكون مقدورة لغير الله بخلاف القول الاول فانه تقع فيه شبهة اذ كان الجنس معتادا وانما الخارق هو الكثير الخارج عن العادة وهذا الفرق الذي ذكره ضعيف فإنه إذا كان قادرا على اليسير فخرق العادة في قدرته حتى جعله قادرا على الكثير فجنس القدرة معتاد مثل جنس المقدور وانما خرقت العادة بقدرة خارجة عن العادة كما خرقت بفعل خارج عن القدرة وعنده أن خلق القدرة خلق

لمقدورها والقدرة عنده مع الفعل فلا فرق وهذا القول وهو أن المعجزة لا تكون إلا مقدورة للرب لا للعباد قول كثير من أهل الكلام من القدرية والمثبتة للقدر وغيرهم ثم انهم لما طولبوا بالدليل على أنه لا يجوز أن تقدر العباد على مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك مما ذكروا أنه يمتنع أن يكون مقدورا لغير الله اعتمدوا في الدلالة على أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز أن يكون العبد قادرا على هذه الامور لوجب أن لا يخلو من ذلك ومن ضده وهو العجز أو القدرة على ضد ذلك الفعل كما يقولونه في فعل العبد انه اذا لم يقدر على الفعل فلا بد أن يكون عاجزا أو قادرا على ضده هذا احتجاج من يقول القدرة مع الفعل والقدرة عنده لا تصلح للضدين كالاشعرية فيقول لا يخلو من القدرة أو العجز فهذه مقدمة والمقدمة الثانية ونحن لا نحس من أنفسنا عجزا عن إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو هذه الامور لكنا غير قادرين عليها ولا يجوز أن نقدر عليها وهؤلاء يقولون لا يكون الشيء عاجزا إلا عما يصح أن يكون قادرا عليه بخلاف مالا يصح أن يكون قادرا عليه فلا يصح أن يكون عاجزا عنه ولهذا قالوا لا ينبغي أن تسمى هذه معجزات لان ذلك يقتضي أن الله أعجز العباد عنها وإنما يعجز العباد عما يصح قدرتهم عليه هذا كلام القاضي أبي بكر ومن وافقه وكلا المتقدمين دعوى مجردة لم يقم على واحدة منها حجة فكيف يجوز أن يكون الفرق بين المعجزة وغيرها مبنيا على مثل هذا الكلام الذي ينازعه فيه أكثر العقلاء ولو كان صحيحا لم يفهم إلا بكلفة ولا يفهمه إلا قليل من الناس فكيف اذا كان باطلا والذين آمنوا بالرسل لما رأوه وسمعوه من الآيات لم يتكلموا بمثل هذا الفرق بل ولا خطر بقلوبهم ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق كأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم حذفوا هذا القيد وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها وقالوا كل حادث فهو مقدور للرب وأفعال العباد هي أيضا مقدورة للرب وهو خالقها والعبد ليس خالقا لفعله فالاعتبار بكونها خارقة للعادة قد استدل بها على النبوة وتحدى بمثلها فلم يمكن أحدا معارضته هذه القيود الثلاثة وحذفوا ذلك القيد وزعم القاضي أبو بكر أن ما يستدل به على أن المعجزات يمتنع دخولها تحت قدرة العباد لا

يصح على أصول القدرية وبسط القول في ذلك بكلام يصح بعضه دون بعض كعادته في أمثال ذلك ثم جعل هذا الفرق هو الفرق بين المعجزات وبين السحر والحيل فقال وأما على قولنا إن المعجز لا يكون إلا من مقدورات القديم ومما يستحيل دخوله ودخول مثله تحت قدرة العباد فاذا كان كذلك استحال أن يفعل أحد من الخلق شيئا من معجزات الرسل أو ما هو من جنسها لان المحتال إنما يحتال ويفعل ما يصح دخوله تحت قدرته دون ما يستحيل كونه مقدورا له قال وأما القائلون بأنه يجوز أن يكون في معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قدرة العباد وان لم يقدروا على كثيره وما يخرق العادة منه فانهم يقولون قد علمنا انه لا حيلة ولا شيء من السحر يمكن أن يتوصل به الساحر والمشعبذ الى فعل الصعود في السماء ولا قفز من المشرق الى المغرب وقفز الفراسخ الكثيرة والمشي على الماء وحمل الجبال الراسيات هذا أمر لا يتم بحيلة محتال ولا سحر ساحر وتكلم على إبطال قول من قال ان السحر لا يكون إلا تخييلا لا حقيقة له وذكر أقوال العلماء والآثار عن الصحابة بأن الساحر يقتل بسحره وقول إنه يقتل حدا عند أكثرهم وقصاصا عند بعضهم ثم قال باب القول في الفصل بين المعجزة والسحر وهو لم يفرق بين الجنسين بل يجوز أن يكون ما هو معجزة للرسول يظهر على يد الساحر لكن قال الفرق هو تحدي الرسول بالاتيان بمثله وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه فمتى وجد الذي ينفرد الله بالقدرة عليه من غير تحد منه واحتجاج لنبوته بظهوره لم يكن معجزا واذا كان كذلك خرج السحر عن أن يكون معجزا ومشبها لآيات الانبياء وكان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل وما يفعله الله عند تحديهم به غير أن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله بوجهين أحدهما أن ينسيه عمل السحر أولا يفعل عند سحره شيئا في المسحور من موت أو سقم أو بغض ولم يخلق فيه الصعود الى جهة العلو والقدرة على الدخول في بقرة فاذا منعه هذه الاسباب بطل السحر والثاني أن الساحر تمكن معارضته فان أبواب السحر معلومة عند السحرة فاذا تحدى ساحر بشيء يفعل عند سحره لم يلبث أن يجد خلقا من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق وأبلغ مما أورده والرسول اذا ظهر عليه مثل ذلك وادعاه آية

له قال لهم هذا آيتي وحجتي ودليل ذلك أنكم لا تقدرون على مثله ولا يفعله الله في وقتي هذا ومع تحدي ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر وفعل كاهن وقد كان يظهر من سحرتكم وكهانكم وهي آية لا تظهر اليوم على أحد من الخلق وان دق سحره وعظم في الكهانة علمه فاذا ظهر ذلك عليه وامتنع ظهور مثله على يد ساحر أو كاهن مع أنه قد كان يظهر من قبل صار هذا خرق عادة البشر وعادة السحرة والكهنة خاصة قال ولم يبعد أن يقال هذه الآية أعظم من غيرها وان لها فضل مزية ذكر هذا بعد أن قال فان قال قائل فاذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله عنده سقم الصحيح وموته ويفعل عنده بغض المحب وحب المبغض وبغض الوطن والرد اليه من السفر وضيق الصدر والعجز عن الوطء بالربط والشد الذي يعلمه السحرة والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض الآلات في الفصل بين هذا وبين معجزات الرسل وكيف تنفصل مع ذلك المعجزات من السحر ويمكن الفرق بين النبي والساحر أو ليس لو قال نبي مبعوث أني أصعد على هذا الخيط نحو السماء وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج وأني أفعل فعلا أفرق به بين المرء وزوجه وأفعل فعلا أقتل به هذا الحي وأسقم هذا الصحيح فهل كان يكون ذلك لو ظهر على يده آيه ودليلا على صدقه وما الفصل اذا بين السحر والمعجز ثم قال في الجواب يقال له جواب هذا قريب وذلك أنا قد بينا في صدر هذا الكتاب أن من حق المعجز ألا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله على وجه خرق عادة البشر مع تحدي الرسول بالايتان الى آخر ما كتب
قلت هذا عمدة القوم ولهذا طعن الناس في طريقهم وشنع عليهم ابن حزم وغيره وذلك أن هذا الكلام مستدرك من وجوه
أحدها أنه إذا جوز أن يكون ما ينفرد الرب بالقدرة عليه على قوله يأتي به النبي تارة والساحر تارة ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوة والاستدلال به والتحدي بالمثل فلا حاجة الى كونه مما انفرد الباري بالقدرة عليه لا سيما وقد ظهر ضعف الفرق بين ما يمتنع قدرة العباد عليه وما لا يمتنع ولهذا أعرض المتأخرون عن هذا القيد

الوجه الثاني وبه تنكشف حقيقة طريقهم انه على هذا لم تتميز المعجزات بوصف نختص به وانما امتازت باقترانها بدعوى النبوة وهذا حقيقة قولهم وقد صرحوا به فالدليل والبرهان إن استدل به كان دليلا وان لم يستدل به لم يكن دليلا وان اقترنت به الدعوى كان دليلا وان لم تقترن به الدعوى لم يكن دليلا عندهم ولهذا لم يجعلوا دلالة المعجز دلالة عقلية بل دلالة وضعية كدلالة الالفاظ بالاصطلاح وهذا مستدرك من وجوه منها أن كون آيات الانبياء مساوية في الحد والحقيقة لسحر السحرة أمر معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل الثاني أن هذا من أعظم القدح في الانبياء إذا كانت آياتهم من جنس سحر السحرة وكهانة الكهان
الثالث أنه على هذا التقدير لا تبقى دلالة فان الدليل ما يستلزم المدلول ويختص به فاذا كان مشتركا بينه وبين غيره لم يبق دليلا فهؤلاء قدحوا في آيات الانبياء ولم يذكروا دليلا على صدقهم
الرابع أنه على هذا التقدير يمكن الساحر دعوى النبوة وقوله إنه عند ذلك يسلبه الله القدرة على السحر أو يأتي بمن يعارضه دعوى مجردة فان المنازع يقول لا نسلم أنه أذا ادعى النبوة فلا بد أن يفعل الله ذلك لا سيما على أصله وهو أن الله يجوز أن يفعل كل مقدور وهذا مقدور للرب فيجوز أن يفعله وادعى أن ما يخرق العادة من الامور الطبيعية والطلمسات هي كالسحر فقال ولاجل ذلك لم تلتبس آيات الرسل بما يظهر من جذب حجر المغناطيس وما يوجد ويكون عند كتب الطلمسات قال وذلك أنه لو ابتدأ نبي باظهار حجر المغناطيس لوجب أن يكون ذلك آية له ولو أن أحدا أخذ هذا الحجر وخرج الى بعض البلاد وادعى أنه آية له عند من لم يره ولم يسمع به لوجب أن ينقضه الله عليه بوجهين أحدهما أن يؤثر دواعي خلق من البشر الى حمل جنس تلك الحجارة الى ذلك البلد وكذلك سبيل الزناد الذي يقدح النار وتعرفه العرب وكذلك سبيل الطلمسات التي يقال انها تنفي الذباب والبق والحيات والوجه الآخر أن لا يفعل الله عند ذلك ما كان يفعله من قبل فيقال هذه دعوى مجردة
ومما يوضح ذلك الوجه الخامس وهو أن جعل قدح الزناد وجذب حجر

المغناطيس والطلمسات من جنس معجزات الانبياء وأنه لو بعث نبي ابتداء وجعل ذلك آية له جاز ذلك غلط عظيم وعدم علم بقدر معجزات الانبياء وآياتهم وهذا إنما أتاهم حيث جعلوا جنس الخارق هو الآية كما فعلت المعتزلة وأولئك كذبوا بوجود ذلك لغير الانبياء وهؤلاء ما أمكنهم تكذيب ذلك لدلالة الشرع والاخبار المتواترة والعيان على وجود حوادث من هذا النوع فجعلوا الفرق افتراق الدعوى والاستدلال والتحدي دون الخارق ومعلوم أن ما ليس بدليل لا يصير دليلا بدعوى المستدل أنه دليل وقد بسط الكلام في ذلك وجوز أن تظهر المعجزات على يد كاذب إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه فعمدته سلامتها من المعارضة بالمثل مع أن المثل عنده موجود وآيات الانبياء لها أمثال كثيرة لغير الانبياء لكن يقول إن من ادعى الإتيان فإما أن لا يظهرها الله على يديه وإما أن يقيض من يعارضه بمثلها هذا عمدة القوم وليس فرقا حقيقيا بين النبي والساحر وانما هو مجرد دعوى
وهذا يظهر بالوجه السادس وهو أن من الناس من ادعى النبوة وكان كاذبا وظهرت على يده بعض هذه الخوارق فلم يمنع منها ولم يعارضه أحد بل عرف أن هذا الذي أتى به ليس من آيات الانبياء وعرف كذبه بطرق متعددة كما في قصة الاسود العنسي ومسيلمة الكذاب والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء ممن ادعى النبوة فقولهم إن الكذاب لا يأتي بمثل هذا الجنس ليس كما ادعوه
الوجه السابع أنه إنما أوجب أن لا يظهر الله الخوارق على يد الكذاب لأن ذلك يفضي الى عجز الرب وهذه عمدة الاشعري في أظهر قوليه وهي المشهورة عند قدمائهم وهي التي سلكها القاضي أبو يعلى ونحوه قال القاضي أبو بكر فان قال قائل من القدرية فلم لا يجوز أن تظهر المعجزات على يد مدعي النبوة ليلبس بذلك على العباد ويضل به عن الدين وانتم تجوزون خلقه الكفر في قلوب الكفار وإضلالهم فما الفصل بين إضلالهم بهذا وبين اضلالهم باظهار المعجزات على يد الكاذبين قال فيقال لمن سأل عن هذا من القدرية الفصل بين الامرين ظاهر معلوم وقد نص القرآن والأخبار بأنه يضل ويهدي ويختم على القلوب والأسماع والأبصار فاما مطالبتهم بالفرق بين إضلال العباد بهذه الضروب من الأفعال وبين إضلالهم

بإظهار المعجزات على أيدي الكذابين فجوابه أنا لم تحل إضلالهم بهذا الضرب لأنه إضلال عن الدين او لقبحه من الله لو وقع أو لاستحقاقه الذم عليه تعالى عن ذلك أو لكونه ظالما لهم بالتكليف مع هذا الفعل كل ذلك باطل محال من تمويههم وإنما احلناه لأنه يوجب عجز القديم عن تمييز الصادق من الكادب وتعريفنا الفرق بين النبي والمتنبي من جهة الدليل إذ لا دليل في قول كل أحد أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم إلا ظهور أعلام المعجزة على أيديهم أو خبر من ظهرت المعجزة على يده عن نبوة آخر مرسل فهذا إجماع لا خلاف فيه فلو أظهر الله على يد المتنبي الكاذب ذلك لبطلت دلائل النبوة وخرجت المعجزات عن كونها دلالة على صدق الرسول ولوجب لذلك عجز القديم عن الدلالة على صدقهم ولما لم يجز عجزه وارتفاع قدرته عن بعض المقدورات لم يجز لذلك ظهور المعجزات على أيدي الكذابين بخلاف خلق الكفر في قلوب الكافرين
قلت هذا عمدة القوم والمتأخرون عرفوا ضعف هذا فلم يسلكوه كأبي المعالي والرازي وغيرهما بل سلكوا الجواب الآخر وهو أن العلم بالصدق عند المعجز يحصل ضرورة فهو علم ضروري وبين ضعف هذا الجواب مع أنه يحتج به وقال فهذا هذا من وجوه أحدها أن يقال إن كان الامر كما زعمتم فانما يلزم العجز إذا كان خلق الدليل دال على صدقهم جنسه لا يدل بل جنسه يقع مع عدم النبوة ولم يبق عندكم جنس من الادلة يخص النبوة فلم قلتم إن تصديقهم والحال هذه ممكن ولا ينفعكم هذا الاستدلال بالاجماع ونحوه من الادلة السمعية لان كلامكم مع منكري النبوات فيجب أن تقيموا عليهم كون المعجزات دليلا على صدق النبي وأما من أقر بنبوتهم بطريق غير طريقكم فإنه لا يحتاج الى كلامكم فاذا قال لكم منكرو النبوة لا نسلم إمكان طريق يدل على صدقهم لم يكن معكم ما يدل على ذلك وقد أورد هذا السؤال وأجاب عنه بأنه يمكنه تصديقهم بالقول والمعجزات تقوم مقام التصديق بالقول بل التصديق بالفعل أوكد وضرب المثل بمدعي الوكالة اذا قال قم أو اقعد ففعل ذلك عند استشهاد وكيله فان العقلاء كلهم يعلمون أنه أقام تلك الأفعال مقام القول

قلت وهذا يعود الى الاحتجاج بالطريقة الثانية وهي العلم بالتصديق ضرورة فلا حاجة الى طريقة المعجزات الثاني انه يمكن أن يخلق علما ضروريا بصدقهم وقد سلم القاضي أبو بكر ذلك لكن قال إذا اضطررنا الى العلم بصدق مدعي النبوة وأنه أرسله الينا كان في ضمن هذا العلم اضطراره لنا الى العلم بذاته والى أنه قد أرسل مدعي النبوة وإذا علمنا ذلك اضطرارا لم يكن للتكليف بالعلم بصدقه وجه وخرجنا بذلك عن أن نكون مكلفين بالعلم بالدين وهذا كلام يؤدي الى خروجنا عن حد المحنة والتكليف فيقال له اذا حصل العلم الضروري بوجود الخالق وبصدق رسوله كان التكليف بالاقرار بالصانع وعبادته وحده لا شريك له وبتصديق رسله وطاعة أمره وهذا هو الذي أمرت به الرسل أمرت الخلق أن يعبدوا الله وحده وأن يطيعوا رسله ولم يأمروا جميع الخلق بأن يكتسبوا علما نظريا بوجود الخالق وصدق رسله لكن من جحد الحق امروه بالاقرار به وأقاموا الحجة عليه وبينوا معاندته وأنه جاحد للحق الذي يعرفه وكذلك الرسول كانوا يعلمون أنه صادق ويكذبونه فليتدبر هذا الموضع فانه موضع عظيم الوجه الثالث أن يقال نحن نسلن أن المعجزات تدل على الصدق وأنه لا يجوز إظهارها على يد الكاذب لكن هو لأن الله منزه عن ذلك وأن حكمته تمنع ذلك ولا يجوز عليه كل فعل ممكن وأنتم مع تجويزكم عليه كل ممكن يلزمكم تجويز خلق المعجزة على يد الكاذب فما علم بالعقل والاجماع من امتناع ظهورها على يد الكاذب يدل على فساد أصلكم الوجه الرابع أن يقال لم قلتم إنه لا دليل على صدقهم إلا المعجزات وما ذكرتم من الاجماع على ذلك لا يصح الاستدلال به لوجهين أحدهما أنه لا إجماع في ذلك بل كثير من الطوائف يقولون إن صدقهم بغير المعجزات الثاني أنه لا يصح الاحتجاج بالاجماع في ذلك فان الاجماع إنما يثبت بعد ثبوت النبوة والمقدمات التي تعلم بها النبوة لا يحتج عليها بالاجماع وقولكم لا دليل سوى المعجز مقدمة ممنوعة وذكر عن الأشعري أنه ذكر جوابا آخر فقال وأيضا فإن قول القائل ما أنكرتم من جواز إظهار المعجزات على أيدي الكذابين قول متناقض والله على كل شيء قدير ولكن ما طالب السائل باجازته محال لا تصح القدرة عليه ولا العجز عنه لأنه بمنزلة كونه

أظهر المعجزات على أيديهم فانه أوجب أنهم صادقون لان المعجز دليل على الصدق ومتضمن له وقوله مع ذلك إنهم كاذبون نقض لقوله إنهم صادقون قد ظهرت المعجزات على أيديهم فوجب إحالة هذه المطالبة وصار هذا بمثابة قول من قال ما أنكرتم من صحة ظهور الأفعال المحكمة الدالة على علم فاعلها والمتضمنة لذلك من جهة الدليل من الجاهل بها في أنه قول باطل متناقض فيجب اذا كان الامر كذلك استحالة ظهور المعجزات على يدي الكاذبين واستحالة ثبوت قدرة قادر عليه وكيف يصح على هذا الجواب أن يقال ما أنكرتم وزعمتم أنه من فعل المحال الذي لا يصح حدوثه وتناول القدرة له هو من قبيل الجائز قياسا على صحة خلق الكفر وضروب الضلال التي يصح حدوثها وتناول القدرة لها قلت هذا كلام صحيح اذا علم أنها دليل الصدق يستحيل وجوده بدون الصدق والممتنع غير مقدور فيمتنع أن يظهر على أيدي الكاذبين ما يدل على صدقهم لكن المطالب يقول كيف يستقيم على أصلكم أن يكون ذلك دليل الصدق وهو أمر حادث مقدور وكل مقدور يصح عندكم أن يفعله الله ولو كان فيه من الفساد ما كان فانه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن ولا يقبح منه فعل فحينئذ اذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق لم يكن ممتنعا على أصلكم وهي لا تدل على الصدق البتة على أصلكم ويلزمكم إذا لم يكن دليل إلهي ألا يكون في المقدور دليل على صدق مدعي النبوة فيلزم أن الرب سبحانه لا يصدق أحدا ادعى النبوة واذا قلتم هذا ممكن بل واقع ونحن نعلم صدق الصادق اذا ظهرت هذه الاعلام على يده ضرورة قيل فهذا يوجب أن الرب لا يجوز عليه إظهارها على يد كاذب وهذا فعل من الأفعال هو قادر عليه وهو سبحانه لا يفعله بل هو منزه عنه فأنتم بين أمرين ان قلتم لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعا فقد قلتم إنه لا يقدر على إحداث حادث قد فعل مثله وهذا تصريح بعجزه وأنتم قلتم فليست بدليل فلا يلزم عجزه فصارت دلالتها مستلزمة لعجزه على أصلكم وان قلتم يقدر لكنه لا يفعل فهذا حق وهو ينقض أصلكم وحقيقة الامر أن نفس ما يدل على صدق الصادق بمجموعه امتنع أن يحصل للكاذب وحصوله له ممتنع غير مقدور وأما خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب فهو ممكن والله سبحانه وتعالى قادر عليه

لكنه لا يفعله لحكمته كما أنه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب أو يظلم والمعجز تصديق وتصديق الكاذب هو منزه عنه والدال على الصدق قصد الرب تصديق الصادق وهذا القصد يمتنع حصوله للكاذب فيمتنع جعل من ليس برسول رسولا وجعل الكاذب صادقا ويمتنع من الرب قصد المحال وهو غير مقدور وهو اذا صدق الصادق بفعله علم بالاضطرار والدليل أنه صدقه وهذا العلم يمتنع حصوله للكاذب واستشهادكم بالعلم هو من هذا الباب فانتم تقولون إن الرب لا يخلق شيئا لشيء وحينئذ فلا يكون قاصدا لما في المخلوقات من الإحكام فلا يكون الإحكام دالا على العلم على أصلكم فان الإحكام إنما هو جعل الشيء محصلا للمطلوب بحيث يجعل لأجل ذلك المطلوب وهذا عندهم لا يجوز فاثباته علمه وتصديق رسله مشروط بأن يفعل شيئا لشيء وهذا عندكم لا يجوز فلهذا يقال إنكم متناقضون والله سبحانه وتعالى أعلم
الوجه الثامن أن حقيقة الامر على قول هؤلاء الذين جعلوا المعجزة الخارق مع التحدي أن المعجز في الحقيقة ليس الا منع الناس من المعارضة بالمثل سواء كان المعجز في نفسه خارقا أو غير خارق وكثير مما يأتي به الساحر والكاهن أمر معتاد لهم وهم يجوزون أن يكون آية للنبي واذا كان آية منع الله الساحر والكاهن من مثل ما كان يفعل أو قيض له من يعارضه وقالوا هذا أبلغ فانه منع المعتاد وكذلك عندهم أحد نوعي المعجزات منعهم من الأفعال المعتادة وهو مأخذ من يقول بالصرفة واذا كان كذلك جاز أن يكون كل أمر كالأكل والشرب والقيام والقعود معجزة اذا منعهم أن يفعلوا كفعله وحينئذ فلا معنى لكونها خارقا ولا لاختصاص الرب بالقدرة عليها بل الاعتبار بمجرد عدم المعارضة وهم يقرون بخلاف ذلك والله أعلم
الوجه التاسع أنه اذا كانت المعجزة هي مجموع دعوى الرسالة مع التحدي فلا حاجة الى كونه خارقا كما تقدم ويجب اذا تحدى بالمثل أن يقول فليأت بمثل القرآن من يدعي النبوة فإن هذا هو المعجز عندهم وإلا كان القرآن مجردا ليس بمعجز فلا يطلب مثل القرآن إلا ممن يدعي النبوة كما في الساحر والكاهن اذا ادعى النبوة سلبه الله ذلك او قيض له من يعارضه وإذا لم يدع النبوة جاز أن يظهر على يده مثل ما يظهر على يد النبي فكذلك يلزمهم مثل هذا في القرآن وسائر المعجزات والله أعلم

فصل في أن الرسول لا بد أن يبين أصول الدين
وهي البراهين الدالة على أن ما يقوله حق من الخبر والأمر فلا بد أن يكون قد بين الدلائل على صدقه في كل ما أخبر ووجوب طاعته في كل ما أوجب وأمر ومن أعظم أصول الضلال الإعراض عن بيان الرسول للأدلة والآيات والبراهين والحجج فإن المعرضين عن هذا إما أن يصدقوه ويقبلوا قوله ويؤمنوا به بلا دليل أصلا ولا علم وإما أن يستدلوا على ذلك بغير أدلته فان لم يكونوا عالمين بصدقه فهم ممن يقال له في قبره ما قولك في هذا الرجل الذي بعث فيكم فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه وأما المنافق أو المرتاب فيقول هاء هاء لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين وان استدل على ذلك بغير الآيات والأدلة التي دعا بها الناس فهو مع كونه مبتدعا لا بد أن يخطئ ويضل فان ظن الظان أنه بأدلة وبراهين خارجة عما جاء به تدل على ما جاء به فهو من جنس ظنه أنه يأتي بعبادات غير ما شرعه توصل الى مقصوده وهذا الظن وقع فيه طوائف من النظار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر كما وقع في الظن الاول طوائف من العباد الغالطين أصحاب الارادة والمحبة والزهد وقوله صلى الله عليه و سلم في خطبته يوم الجمعة خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة يتناول هذا وهذا وقد أرى الله تعالى عباده الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى تبين لهم أن ما قاله هو حق فأن أرباب العبادة والمحبة والارادة والزهد الذين سلكوا غير ما أمروا به ضلوا كما ضلت النصارى ومبتدعة هذه الأمة من العباد وأرباب النظر والاستدلال الذين سلكوا غير دليله وبيانه أيضا ضلوا قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى

قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وفي الكلام المأثور عن الإمام أحمد أصول الاسلام أربعة دال ودليل ومبين ومستدل فالدال هو الله والدليل هو القرآن والمبين هو الرسول قال الله تعالى لتبين للناس ما نزل اليهم والمستدل هم أولو العلم وأولو الألباب الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وقد ذكره ابن المنى عن أحمد وهو مذكور في العدة للقاضي أبي يعلى وغيرها إما أن أحمد قال له أو قيل له فاستحسنه ولهذا صار كثير من النظار يوجبون العلم والنظر والاستدلال وينهون عن التقليد ويقول كثير منهم إن ايمان المقلد لا يصح أو أنه وان صح لكنه عاص بترك الاستدلال ثم النظر والاستدلال الذي يدعون إليه ويوجبونه ويجعلونه أول الواجبات وأصل العلم هو نظر واستدلال ابتدعوه ليس هو المشروع لا خبرا ولا أمرا وهو استدلال فاسد لا يوصل الى العلم فانهم جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام والاستدلال على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض لا تخلو عنا ولا تنفك منها ثم استدلوا على حدوث الاعراض قالوا فثبت أن الأجسام مستلزمة للحوادث لا تخلو عنها فلا تكون مثلها ثم كثير منهم قالوا وما لم يخل من الحوادث أو ما لم يسبق الحوادث فهو حادث وظن أن هذه مقدمة بديهية معلومة بالضرورة لا يطلب عليها دليل وكان ذلك بسبب أن لفظ الحوادث يشعر بان لها ابتداء كالحادث المعين والحوادث المحدودة ولو قدرت ألف ألف ألف حادث فإن الحوادث اذا جعلت مقدرة محدودة فلا بد أن يكون لها ابتداء فإن مالا ابتداء له ليس له حد معين ابتدأ منه اذ قد قيل لا ابتداء له بل هو قديم أزلي دائم ومعلوم أن هذه الحوادث مالم يسبقها فهو حادث فإنه يكون إما معها وإما بعدها وكثير منهم يفطن للفرق بين جنس الحوادث وبين الحوادث المحدودة فالجنس مثل أن يقال ما زالت الحوادث توجد شيئا بعد شيء أو ما زال جنسها موجودا أو ما زال الله متكلما اذا شاء او ما زال الله فاعلا لما يشاء أو ما زال قادرا على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور فان هذه في

الحقيقة ليست قدرة ومثل أن يقال في المستقبل لا بد أن الله يخلق شيئا بعد شيء ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول ولا ينفد وقد يقال في النوعين كلمات الله لا تنفذ ولا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ونحو ذلك فالكلام في دوام الجنس وبقائه وأنه لا ينفد ولا ينقضي ولا يزول ولا ابتداء له غير الكلام فيما يقدر محدودا له ابتداء أوله ابتداء وانتهاء فإن كثيرا من النظار من يقول جنس الحوادث إذا قدر له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء لأنه يمكن فرض تقدمه على ذلك الحد فيكون أكثر مما وجد ومالا يتناهى لا يدخله التفاضل فإنه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها بخلاف مالا ابتداء له ولا انتهاء فإن هذا لا يكون شيء فوقه فلا يفضي الى التفاضل فيما لا يتناهى وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كل مكلف وأنه من لم ينظر في هذا الدليل فاما أنه لا يصح إيمانه فيكون كافرا على قول طائفة منهم وإما أن يكون عاصيا على قول آخرين وأما إن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص والأقوال الثلاثة باطلة لأنها مفرعة على أصل باطل وهو أن النظر الذي هو أصل الدين والايمان هو هذا النظر في هذا الدليل فان علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أن الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهدا الدليل لا عامة الخلق ولا خاصتهم فامتنع أن يكون هذا شرطا في الايمان والعلم وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم وأنهم عالمون بصدق الرسول وبما جاء به وعالمون بالله وبأنه لا إله إلا الله ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعين كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد وقال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وقال أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى
وقد وصف باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله وبالآخرة هم يوقنون وقوله أولئك على هدى من ربهم وقوله قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني

وأمثال ذلك فتبين أن هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصل الدين ليس مما أوجبه الله ورسوله ولو قدر أنه صحيح في نفسه وأن الرسول أخبر بصحته لم يلزم من ذلك وجوبه اذ قد يكون المطلوب أدلة كثيرة ولهذا طعن الرازي وأمثاله على أبي المعالي في قوله إنه لا يعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق وقالوا هب أنه يدل على حدوث العالم فمن أين يجب أن لا يكون ثم طريق آخر وسلكوا هم طرقا أخر فلو كانت هذه الطريق صحيحة عقلا وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة لم تتعين مع إمكان سلوك طرق أخرى كما أنه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنص والاجماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى ومع هذا فاذا اهتدى الرجل بغيرها وقام بالواجب ومات ولم يعلم بها ولم يتمكن من سماعها لم يضره كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل سائر القرآن فالدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء ايجاب سلوك هذه الطريق مع تسليمهم أنها صحيحة كالخطابي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم والأشعري نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضا في رسالته إلى أهل الثغر مع اعتقاده صحتها واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمى باللمع في الرد على أهل البدع وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحا كثيرة والقاضي أبو بكر شرحه ونقض كتاب عبد الجبار الذي صنفه في نقضه وسماه نقض نقض اللمع وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول وانه لا يحصل بها العلم بالصانع ولا بغير ذلك بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب مخالفة كثير مما جاء به الرسول مع مخالفة صريح المعقول كما أصاب من سلكها من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية ومن تبعهم من الطوائف وان لم يعرفوا غورها وحقيقتها فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في

مخالفة الشرع والعقل فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته اذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته وأسماؤه مستلزمة لصفاته فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى والمعتزلة استعظموا نفي الاسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فانهم لم يثبتوا في نفس الامر شيئا قديما البتة كما أن المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الامكان والوجوب وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم لم يثبتوا واجبا بنفسه البتة وظهر بهذا فساد عقلهم وعظيم جهلهم مع الكفر وذلك أنه يشهد وجود السماوات وغيرها فهذه الأفلاك إن كانت قديمة واجبة فقد ثبت وجود الموجود القديم الواجب وان كانت ممكنة أو محدثة فلا بد لها من واجب قديم فإن وجود الممكن بدون الواجب والمحدث بدون القديم ممتنع في بدائه العقول فثبت وجود موجود قديم واجب بنفسه على كل تقدير فاذا كان ما ذكروه من نفي الصفات عن القديم والواجب يستلزم نفي القديم مطلقا ونفي الواجب علم أنه باطل وقد بسط هذا في مواضع وبين أن كل من نفى صفة مما أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات فلا يمكن القول بموجب أدلة العقول إلا مع القول بصدق الرسول فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول بل من كذبه فليس معه لا عقل ولا سمع كما أخبر الله تعالى عن أهل النار قال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بل قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات

فصاروا متناقضين فان اثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الاسماء المشتقة كاسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الاسماء وقالوا ليست أعراضا لان العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الإعراض قالوا وهذه تنفي عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فانما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الامور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ومنهم من قال بل فعل الرب قديم أزلي وهو من صفاته الأزلية وهو قول قدماء الكلابية وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة لما وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل فكتبوا عقيدة اصطلحوا عليها وفيها إثبات الفعل القديم الأزلي وكان سبب ذلك أنهم كانوا كلابية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه المعين لازم لذاته أزلا وأبدا وكان ابن خزيمة وغيره على القول المعروف للمسلمين وأهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وكان قد بلغه عن الإمام أحمد أنه كان يذم الكلابية وأنه أمر بهجر الحارث المحاسبي لما بلغه أنه على قول ابن كلاب وكان يقول حذروا عن حارث الفقير فإنه جهمي واشتهر هذا عن أحمد وكان بنيسابور طائفة من الجهمية والمعتزلة ممن يقولون إن القرآن وغيره من كلام الله مخلوق ويطلقون القول بأنه متكلم بمشيئته وقدرته لكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاما بائنا عنه قائما بغيره كسائر

المخلوقات وكان من هؤلاء من عرف أصل ابن كلاب فاراد التفريق بين ابن خزيمة وبين طائفة من أصحابه فأطلعه على حقيقة قولهم فنفر منه وهم كانوا قد بنوا ذلك على أصل ابن كلاب واعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث بناء على هذه الطريقة طريقة الإعراض وابن خزيمة شيخهم وهو الملقب بإمام الأئمة وأكثر الناس معه ولكن لا يفهمون حقيقة النزاع فاحتاجوا لذلك الى ذكر عقيدة لا يقع فيها نزاع بين الكلابية وبين أهل الحديث والسنة فذكروا فيها أن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يزل متكلما وأن فعله أيضا غير مخلوق فالمفعول مخلوق ونفس فعل الرب له قديم غير مخلوق وهذا قول الحنفية وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره في آخر عمره وبسط هذا له موضع آخر والمقصود التنبيه على افتراق الامة بسبب هذه الطريقة ولما عرف كثير من الناس باطن قول ابن كلاب وأنه يقول أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي وأن كلامه شيء واحد هو معنى آية الكرسي وآية الدين عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل فنفروا عنه وعرفوا أن هؤلاء يقولون أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه وكان ممن أنكر ذلك الكرامية وغير الكرامية كاصحاب أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي وطوائف فصار كثير من هؤلاء يقولون أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فانكروه لكن يراعى تلك الطريقة لاعتقاده صحتها فيقول إنه لن يكن في الأزل متكلما لأنه إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود حوادث لا تتناهى وأصل الطريقة أن هذا ممتنع فصار حقيقة قول هؤلاء إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فخالفوا قول السلف والأئمة انه لم يزل متكلما اذا شاء وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والايمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع المخالفة للعقل التي انفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذم أهلها فذمهم للجهمية الذين ابتدعوا هذه الطريقة أولا متواتر مشهور قد صنف فيه مصنفات وذمهم للكلام والمتكلمين مما عني به أهل هذه الطريقة كذم الشافعي لحفص الفرد الذي كان على قول ضرار بن عمرو

وذم أحمد بن حنبل لأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي كان على قول حسين النجار وذمهما وذم أبي يوسف ومالك وغيرهم لأمثال هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة وقد صنف في ذم الكلام وأهله مصنفات أيضا وهو متناول لاهل هذه الطريقة قطعا فكان ايجاب النظر بهذا التفسير باطلا قطعا بل هذا نظر فاسد يناقض الحق والايمان ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة من حذاق الطوائف يتبين لهم فسادها كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما ثم الذي يتبين له فسادها إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائرا مضطربا والقائلون بقدم العالم من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم تبين لهم فسادها فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل فيبطلون قول هؤلاء إنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن ويثبتون وجوب دوام نوع الحوادث ويظنون أنهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم وهم أضل وأجهل من أولئك فإن أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم بل كل ما سوى الله فهو محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة وأن كان الفاعل لم يزل فاعلا لما يشاء ومتكلما بما يشاء وصار كثير من أولئك إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين وليس عنده إلا قولهم وقول هؤلاء يميل الى قول هؤلاء الملاحدة ثم قد يبطن ذلك وقد يظهره لمن يأمنه وابتلى بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف وصاروا يظهرون هذا في قالب المكاشفة ويزعمون أنهم أهل التحقيق والتوحيد والعرفان فأخذوا من نفي الصفات أن صانع العالم لا داخل العالم ولا خارجه ومن قول هؤلاء أن العالم قديم ولم يروا موجودا سوى العالم فقالوا إنه هو الله وقالوا هو الوجود المطلق والوجود واحد وتكلموا في وحدة الوجود وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه ثم لما ظهر أن كلامهم يخالف الشرع والعقل صاروا يقولون يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدني الأعلى فليترك العقل والنقل وصار حقيقة قولهم الكفر بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيع

لكن أولئك لما كان ظاهر قولهم هو ذم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان صارت وصمة الرفض تنفر عنهم خلقا كثيرا لم يعرفوا باطن أمرهم وهؤلاء صاروا ينتسبون الى المعرفة والتوحيد وأتباع شيوخ الطريق كالفضيل وابراهيم بن أدهم والتستري والجنيد وسهل بن عبد الله وأمثال هؤلاء ممن له في الامة لسان صدق فاغتر بهؤلاء من لم يعرف باطن أمرهم وهم في الحقيقة من أعظم خلق الله خلاقا لهؤلاء المشايخ السادة ولمن هو أفضل منهم من السابقين الاولين والانبياء المرسلين وكان من أسباب ذلك أن العبادة والتأله والمحبة ونحو ذلك مما يتكلم فيه شيوخ المعرفة والتصوف أمر معظم في القلوب والرسل إنما بعثوا بدعاء الخلق الى أن يعرفوا الله ويكون أحب إليهم من كل ما سواه فيعبدوه ويألهوه ولا يكون لهم معبود مألوه غيره وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوبا أو أنه يحب شيئا أو يحبه أحد وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبودا فان الآله هو المألوه الذي يستحق أن يؤله ويعبد والتأله والتعبد يتضمن غاية الحب بغاية الذل ولكن غلط كثير من أولئك فظنوا أن الآلهية هي القدرة على الخلق وإن الآله بمعنى الآله وإن العباد يألههم الله لا أنهم هم يألهون الله كما ذكر ذلك طائفة منهم الأشعري وغيره وطائفة ثالثة لما رأت ما دل على أن الله يحب أن يكون محبوبا من أدلة الكتاب والسنة وكلام السلف وشيوخ أهل المعرفة صاروا يقرون بأنه محبوب لكنه هو نفسه لا يحب شيئا إلا بمعنى المشيئة وجميع الاشياء مرادة له فهي محبوبة له وهذه طريقة كثير من أهل النظر والعبادة والحديث كأبي إسماعيل الأنصاري وأبي حامد الغزالي وأبي بكر بن العربي وحقيقة هذا القول أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضاه وهذا هو المشهور من قول الأشعري وأصحابه وقد ذكر أبو

المعالي أنه أول من قال ذلك وكذلك ذكر ابن عقيل أن أول من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعري وأصحابه وهم قد يقولون لا يحبه دينا ولا يرضاه دينا كما يقولون لا يريد أن يكون فاعله مأجورا وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات فإنها عندهم محبوبة له إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق فهو عندهم محبوب مرضي
وجماهير المسلمين يعرفون أن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل وان المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن الله لا يحب الشرك ولا تكذيب الرسل ولا يرضى ذلك بل هو يبغض ذلك ويمقته ويكرهه كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرمات ثم قال كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها وبسط هذه الأمور له مواضع أخر والمقصود هنا أن الذين اعرضوا عن طريق الرسول في العلم والعمل وقعوا في الضلال والزلل وأن أولئك لما أوجبوا النظر الذي ابتدعوه صارت فروعه فاسدة اذ قالوا ان من لم يسلكها كفر أو عصى فقد عرف بالاضطرار من دين الاسلام أن الصحابة والتابعين لهم باحسان لم يسلكوا طريقهم وهم خير الامة وإن قالوا ان من قاله ليس عنده علم ولا بصيرة بالايمان بل قاله تقليدا محضا من غير معرفة يكون مؤمنا فالكتاب والسنة يخالف ذلك ولو أنهم سلكوا طريقة الرسول لحفظهم الله من هذا التناقض فان ما جاء به الرسول جاء من عند الله وما ابتدعوه جاءوا به من عند غير الله وقد قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثير وهؤلاء بنوا دينهم على النظر والصوفية بنوا دينهم على الارادة وكلاهما لفظ مجمل يدخل فيه الحق والباطل فالحق هو النظر الشرعي والارادة الشرعية فالنظر الشرعي هو النظر فيما بعث به الرسول من الآيات والهدى كما قال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان والارادة الشرعية إرادة ما أمر الله به ورسوله والسماع الشرعي سماع ما أحب الله سماعه كالقرآن والدليل الذي يستدل به هو الدليل الشرعي وهو لذي دل الله به عباده وهداهم به الى صراط مستقيم فانه لما ظهرت البدع والتبس

الحق بالباطل صار اسم النظر والدليل والسماع والارادة يطلق على ثلاثة أمور منهم من يريد به البدعي دون الشرعي فيريدون بالدليل ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة والنظر فيها ومن السماع والارادة ما ابتدعوه من اتباع ذوقهم ووجدهم وما تهواه أنفسهم وسماع الشعر والغناء الذي يحرك هذا الوجد التابع لهذه الارادة النفسانية التي مضمونها اتباع ما تهوى الأنفس بغير هدى من الله ومنهم من يريد مطلق الدليل والنظر ومطلق السماع والارادة من غير تقييدها لا بشرعي ولا ببدعي فهؤلاء يفسرون قوله الذين يستمعون القول بمطلق القول الذي يدخل فيه القرآن والغناء ويستمعون الى هذا وهذا وأولئك يفسرون الارادة بمطلق المحبة للآله من غير تقييدها بشرعي ولا بدعي ويجعلون الجميع من أهل الارادة سواء عبد الله بما أمر الله به ورسوله من التوحيد وطاعة الرسول أو كان عابدا للشيطان مشركا عابدا بالبدع وهؤلاء أوسطهم وهم أحسن حالا من الذين قيدوا ذلك بالبدعي وأما القسم الثالث فهم صفوة الامة وخيارها المتبعون للرسول علما وعملا يدعون إلى النظر والاستدلال والاعتبار بالآيات والأدلة والبراهين التي بعث الله بها رسوله وتدبر القرآن وما فيه من البيان ويدعون إلى المحبة والارادة الشرعية وهي محبة الله وحده وارادة عبادته وحده لا شريك له بما أمر به على لسان رسوله فهم لا يعبدون إلا الله ويعبدونه بما شرع وأمر ويستمعون ما أحب استماعه وهو قوله الذي قال فيه أفلم يدبروا القول وهو الذي قال فيه فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه كما قال واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقال وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها
سبحانه بين القدرة على الابتداء كقوله إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم الآية ومثل قوله ويقول الانسان أإذا مامت لسوف

أخرج حيا أولا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا الآية ومثل قوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم وغير ذلك
فالاستدلال على الخالق بخلق الانسان في غاية الحسن والاستقامة وهي طريقة عقلية صحيحة وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس اليها وبينها وأرشد اليها وهي عقلية فان نفس كون الانسان حادثا بعد أن لم يكن ومولودا ومخلوقا من نطفة ثم من علقة هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم سواء أخبر به الرسول أو لم يخبر لكن الرسول أمر أن يستدل به ودل به وبينه واحتج به فهو دليل شرعي لان الشارع استدل به وأمر أن يستدل به وهو عقلي لأنه بالعقل تعلم صحته وكثير من المتنازعين في المعرفة هل تحصل بالشرع أو بالعقل لا يسلكونه وهو عقلي شرعي وكذلك غيره من الادلة التي في القرآن مثل الاستدلال بالسحاب والمطر هو مذكور في القرآن في غير موضع وهو عقلي شرعي كما قال تعالى أولم يروا أنا نسوق الماء الى الارض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسم أفلا يبصرون فهذا مرئي بالعيون وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فالآيات التي يريها الناس حتى يعلموا أن القرآن حق هي آيات عقلية يستدل بها العقل على أن القرآن حق وهي شرعية دل الشرع عليها وأمر بها والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقلية التي يستدل بها العقل وهي شرعية لان الشرع دل عليها وأرشد اليها ولكن كثيرا من الناس لا يسمي دليلا شرعيا إلا ما دل بمجرد خبر الرسول وهو اصطلاح قاصر ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والاجماع والكتاب يريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط والمقصود من أصول الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية العملية فيجعلون الادلة الشرعية ما دلت على الاحكام العملية فقط ويخرجون ما دل باخبار الرسول عن أن يكون شرعيا فضلا عما دل بارشاده وتعليمه ولكن قد يسمون هذا دليلا سمعيا ولا يسمونه شرعيا وهو اصطلاح قاصر والأحكام

العملية أكثر الناس يقولون إنها تعلم بالعقل أيضا وأن العقل قد يعرف الحسن والقبح فتكون الادلة العقلية دالة على الأحكام العملية أيضا ويجوز أن تسمى شرعية لأن الشرع قررها أو وافقها أو دل عليها وأرشد اليها كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبرية كاثبات الرب ووحدانيته وصدق رسله وقدرته على المعاد ان الشرع دل عليها وأرشد اليها وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الاشعري بنى أصول الدين في اللمع ورسالة الثغر على كون الانسان مخلوقا محدثا فلا بد له من محدث لكون هذا الدليل مذكورا في القرآن فيكون شرعيا عقليا لكنه في نفس الامر سلك في ذلك طريقة الجهمية بعينها وهو الاستدلال على حدوث الانسان بأنه مركب من الجواهر الفردة فلم يخل من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فجعل العلم بكون الانسان محدثا وبكون غيره من الأجسام المشهودة محدثا انما يعلم بهذه الطريقة وهو أنه مؤلف من الجواهر الفردة وهي لا تخلو من اجتماع وافتراق وتلك أعراض حادثة وما لم ينفك من الحوادث فهو محدث وهذه الطريقة أصل ضلال هؤلاء فانهم أنكروا المعلوم بالحس والمشاهدة والضرورة العقلية من حدوث المحدثات المشهود حدوثها وادعوا أنه إنما يشهد حدوث أعراض لا حدوث أعيان مع تنازعهم في الأعراض ثم قالوا والأجسام لا تخلوا من الأعراض وهذا صحيح ثم قالوا والأعراض حادثة فاضطربوا هنا ثم قالوا وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وهذا أصل دينهم وهو أصل فاسد مخالف للسمع والعقل كما قد بسط في غير هذا الموضع
والمتفلسفة أشد مخالفة للعقل والسمع منهم لكنهم عرفوا فساد طريقتهم هذه العقلية فاستطالوا عليهم بذلك وسلكوا ما هو أفسد منها كطريقة الإمكان والوجوب كما قد بسط في موضع آخر فلبسوا هذا الباطل بالحق الذي جاء به الرسول وهو الاستدلال بحدوث الانسان وغيره من المحدثات التي يشهد حدوثها فصار في كلامهم حق وباطل من جنس ما أحدثه أهل الكتاب حيث لبسوا الحق بالباطل واحتاجوا

في ذلك الى كتمان الحق الذي جاء به الرسول الذي يخالف ما أحدثوه فصاروا يكرهون ظهور ما جاء به الرسول بل يمنعون عن قراءة الاحاديث وسماعها وقراءة كلام السلف وسماعه ومنهم من يكره قراءة القرآن وحفظه والذين لا يقدرون على المنع من ذلك صاروا يقرءون حروفه ولا يعلمون حدود ما انزل الله على رسوله بل إن اشتغلوا بعلومه اشتغلوا بتفسير من يشركهم في بدعتهم ممن يحرفون الكلم كلم الله عن مواضعه والاصل العقلي الحسي الذي به فارقوا العقل والسمع هو حدوث ما يشهد حدوثه مثل حدوث الزرع والثمار وحدوث الانسان وغيره من الحيوان وحدوث السحاب والمطر ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها غير حدوث الاعراض كالحركة والحرارة والبرودة والضوء والظلمة وغير ذلك بل تلك الأعيان التي يسمونها أجساما وجواهر هي حادثة فانه معلوم أن الانسان مخلوق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وأن الثمار تخلق من الاشجار وأن الزرع يخلق من الحب والشجر يخلق من النوى قال تعالى ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر و البحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكما ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره اذا أثمر وينعه ان في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون فهذا الانسان والشجر والزرع المخلوق من مادة قد خلق منها عين قائمة بنفسها وهم يقولون إنما هي من الجسم القائم بنفسه وهو الجوهر العام في اصطلاحهم الذي يقولون إنه مركب من الجواهر الفردة وهل الذي خلق من المادة هو أعيان أم لم يخلق إلا أعراض قائمة بغيرها وأما الأعيان فهي الجواهر الفردة وتلك منها شيء في هذه الحوادث ولكن أحدث فيها جمع وتفريق فكان خلق الانسان وغيره هو تركيب تلك الجواهر وأحداث هذا

التركيب لا أحداث تلك الجواهر وأما حدوث تلك الجواهر فانما يعلم بالاستدلال فيستدل عليه بأن الجواهر التي تركبت منها هذه الأجسام لا تخلو من اجتماع وافتراق والاجتماع والافتراق حادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فهذه طريق هؤلاء الجهمية أهل الكلام المحدث وأما جمهور العقلاء فيقولون بل نحن نعلم حدوث هذه الأعيان القائمة بنفسها لا نقول إنه لم يحدث إلا عرض فان هذا القول يقتضي أن تلك الجواهر التي ركب منها آدم باقية لم يزل في كل آدمي منها شيء وهذا مكابرة فان بدن آدم لا يحتمل هذا كله لا يحتمل أن يكون فيه جواهر بعدد ذريته لا سيما وكل آدمي إنما خلق من مني أبويه وهم يقولون تلك الجواهر التي في مني الابوين باقية بأعيانها في الولد وهم يقولون إن الجواهر لا تفنى بل تنتقل من حال الى حال وكثير منهم يقول إنها مستغنية عن الرب بعد أن خلقها وتحيروا فيما إذا أراد أن يفنيها وكيف يفنيها كما قد ذكر في غير هذا الموضع اذ المقصود هنا التنبيه على أن أصل الاصول معرفة حدوث الشيء من الشيء كحدوث الانسان من المني فهؤلاء ظنوا أنه لا يحدث إلا الأعراض ولهذا لما ذكر أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتبه الكبار والصغار الطرق الدالة على إثبات الصانع لم يذكر طريقا صحيحا وليس في كتبه وكتب أمثاله طريق صحيح لإثبات الصانع بل عدلوا عن الطرق العقلية التي يعلمها العقلاء بفطرتهم وهي التي دلتهم عليها الرسل الى طرق سلكوها مخالفة للشرع والعقل لا سيما من سلك طريقة الوجوب والامكان متابعة لابن سينا كالرازي فان هؤلاء من أفسد الناس استدلالا كما قد ذكرنا طرق عامة النظار في غير هذا الموضع مثل كتاب منع تعارض العقل والنقل وغير ذلك والمقصود هنا أن الرازي ذكر أن ما يستدل به على إثبات الصانع إما حدوث الأجسام وإما حدوث صفاتها وإما إمكانها وإما إمكان صفاتها وذكر في بعض المواضع وإما الأحكام والإتقان لكن الإحكام والإتقان يدل على العلم ابتداء والاستدلال بحدوث الاجسام وإمكانها وإمكان صفاتها طرق فاسدة فان دلالة حدوثها مبنية على امتناع حوادث لا أول لها ودلالة إمكانها مبنية على ما قامت به الصفات يمتنع أن يكون واجبا بنفسه لأنه مركب ودلالة صفاتها مبنية على تماثلها فلا بد لتخصيص

بعضها بالصفات من مخصص وهذه كلها طرق باطلة قال وأما الاستدلال بحدوث الصفات فهو الاستدلال بحدوث الأعراض وهذه الطريق أجود ما سلكوه من الطرق مع أنها قاصرة فان مدارها على أنهم لم يعرفوا حدوث شيء من الأعيان وإنما علموا حدوث بعض الصفات وهذا يدل على أنه لا بد لها من محدث قال وهذا لا ينفي كون المحدث جسما بخلاف تلك الطرق وهذه الطريق تدل على أن الأعراض كتركيب الانسان لا بد له من مركب ولا ينفي بها شيء من قدم الأجسام والجواهر بل يجوز أن يكون جميع جواهر الانسان وغيره قديمة أزلية لكن حدثت فيها الأعراض ويجوز أن يكون المحدث للأعراض بعض أجسام العالم فهذه الطريق لا تنفي أن يكون الرب بعض أجسام العالم وتلك باطلة مع أن مضمونها أن الرب لا يتصف بشيء من الصفات فهي لا تدل على صانع وإن دلت على صانع فليس بموجود بل معدوم أو متصف بالوجود والعدم كما قد بسط في غير موضع ولهذا يقول الرازي في آخر مصنفاته لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ولما ذكر الرازي الاستدلال بحدوث الصفات كالحيوان والنبات والمطر ذكر أن هذه طريقة القرآن ولا ريب أن القرآن يذكر فيه الاستدلال بآيات الله كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وهذا مذكور بعد قوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقبل قوله ومن الناس من يتخذ من دونه أندادا يحبونهم كحب الله لكن القرآن لم يذكر أن هذه صفات حادثة وأنه ليس فيها أحداث عين قائمة بنفسها بل القرآن يبين أن في خلق

الأعيان القائمة بنفسها آيات ويذكر الآيات في خلق الأعيان والأعراض كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وهي أعيان ثم قال وما أنزل الله من السماء من ماء والماء عين قائمة بنفسها وقوله فأحيا به الأرض بعد موتها هو بما يخلقه فيها من النبات وهو أعيان وكذلك قوله وبث فيها من كل دابة وقوله وتصريف الرياح فالرياح أعيان وتصريفها أعراض وقوله والسحاب المسخر بين السماء والارض والسحاب أعيان لآيات لقوم يعقلون
وقد تقدم أن أصل الاشتباه في هذا أن خلق الشيء من مادة هل هو خلق عين أم إحداث اجتماع وافتراق وأعراض فقط والناس مختلفون في هذا على ثلاثة أقوال
فالقائلون بالجواهر الفردة من أهل الكلام القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر الى حد لا يتميز منها جانب عن جانب يقولون تلك الجواهر باقية تنقلت في الحوادث ولكن تعتقب عليها الأعراض الحادثة والاستدلال بالأعراض على حدوث ما يلزمه من الجواهر ثم الاستدلال بذلك على المحدث غير الاستدلال بحدوث هذه الأعراض على المحدث لها فتلك هي طريقة الجهمية المشهورة وهي التي سلكها الأشعري في كتبه كلها متابعة للمعتزلة ولهذا قيل الأشعرية مخانيت المعتزلة
وأما الاستدلال بالحوادث على المحدث فهي الطريقة المعروفة لكل أحد لكن تسمية هذه أعراضا هو تسمية القائلين بالجوهر الفرد مع أن الرازي توقف في آخر أمره فيه كما ذكر ذلك في نهاية العقول وذكر أيضا عن أبي الحسين البصري وأبي المعالي أنهما توقفا فيه والمقصود أن القائلين بالجوهر الفرد يقولون إنما أحدث أعراضا كجمع الجواهر وتفريقها فالمادة التي هي الجواهر المنفردة باقية

عندهم بأعيانها ولكن أحدث صورا هي أعراض قائمة بهذه الجواهر وأما المتفلسفة فيقولون أحدث صورا في مواد باقية كما يقول هؤلاء لكن يقولون أحدث صورا هي جواهر في مادة هي جوهر وعندهم ثم مادة باقية بعينها والصور الجوهرية كصورة الماء والهواء والتراب والمولدات تعتقب عليها وهذه المادة عندهم جوهر عقلي وكذلك الصورة المجردة جوهر عقلي ولكن الجسم مركب من المادة والصورة ولهذا قسموا الموجودات فقالوا إما أن يكون الموجود حالا بغيره أو محلا أو مركبا من الحال والمحل أو لا هذا ولا هذا فالحال في غيره هو الصورة والمحل هو المادة والمركب منهما هو الجسم وما ليس كذلك إن كان متعلقا بالجسم فهو النفس والا فهو العقل وهذا التقسيم فيه خطأ كثير من وجوه ليس هذا موضعها إذ المقصود أنهم يقولون أيضا انه لم يحدث جسما قائما بنفسه بل إنما أحدث صورة في مادة باقية ولا ريب ان الأجسام بينها قدر مشترك في الطول والعرض والعمق وهو المقدار المجرد الذي لا يختص بجسم بعينه ولكن هذا المقدار المجرد هو في الذهن لا في الخارج كالعدد المجرد والسطح المجرد والنقطة المجردة وكالجسم التعليمي وهو الطويل العريض العميق الذي لا يختص بمادة بعينها فهذه المادة المشتركة التي أثبتوها هي في الذهن وليس بين الجسمين في الخارج شيء اشتركا فيه بعينه فهؤلاء جعلوا الأجسام مشتركة في جوهر عقلي وأولئك جعلوها مشتركة في الجواهر الحسية وهؤلاء قالوا اذا خلق كل شيء من شيء فانما أحدثت صورة مع أن المادة باقية بعينها لكن أفسدت صورة وكونت صورة ولهذا يقولون عما تحت الفلك عالم الكون والفساد ولهذا قال ابن رشد إن الأجسام المركبة من المادة والصورة هي في عالم الكون والفساد بخلاف الفلك فانه ليس مركبا من مادة وصورة عند الفلاسفة قال وإنما ذكر أنه مركب من هذا وهذا ابن سينا وهؤلاء وهؤلاء تحيروا في خلق الشيء من مادة كخلق الانسان من النطفة والحب من الحب والشجرة من النواة وظنوا أن هذا لا يكون إلا مع بقاء اصل تلك المادة إما الجواهر عند قوم وإما المادة المشتركة عند قوم وهم في الحقيقة ينكرون أن يخلق الله شيئا من شيء فانه عندهم لا يحدث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم أو جوهر

عقلي عند قوم وكلاهما لم يخلق من مادة والمادة عندهم باقية بعينها لم يخلق ولن يخلق منها شيء وقد ذكروا في قوله أم خلقوا من غير شيء ثلاثة أمور قال ابن عباس والاكثرون أم خلقوا من غير خالق وهو الذي ذكره الخطابي وقال الزجاج وابن كيسان أم خلقوا عبثا وسدى فلا يبعثون ولا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون كما يقول فعلت هذا من غير شيء أي لغير علة وقيل أم خلقوا من غير مادة أي من غير أب وأم ثم من هؤلاء من قال فهم كالجماد ومنهم من قال كالسماوات ظنا منه أنها خلقت من غير مادة ذكر الأربعة أبو الفرج وذكر البغوي الوجهين الاولين والذي ذكرناه من قول أولئك المتكلمين والفلاسفة معنى آخر وهو أن من قال المادة الباقية بعينها وانما حدث عرض أو صورة وذلك لم يخلق من غيره ولكن أحدث في المادة الباقية فلا يكون الله خلق شيئا من شيء لان المادة عندهم لم تخلق أما المتفلسفة فعندهم المادة قديما أزلية باقية بعينها وأما المتكلمون فالجواهر عندهم موجودة وما زالت موجودة لكن من قال إنها حادثة من أهل الملل وغيرهم قالوا يستدل على حدوثها بالدليل لا أن خلقها معلوم للناس فهو عندهم مما يستدل عليه بالأدلة الدقيقة الخفية مع أن ما يذكرونه منتهاه إلى أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو دليل باطل فلا دليل عندهم على حدوثها وإذا كانت لم تخلق اذ خلق الانسان بل هي باقية في الانسان والاعراض الحادثة لم تخلق من مادة فاذا خلق الانسان لم يخلق من شيء لا جواهره ولا أعراضه وعلى قولهم ما جعل الله من الماء كل شيء حي ولا خلق كل دابة من ماء ولا خلق آدم من تراب ولا ذريته من نطفة بل نفس الجواهر الترابية باقية بعينها لم تخلق حينئذ ولكن أحدث فيها أعراض أو صورة حادثة وتلك الأعراض ليست من التراب فلما خلق آدم لم يخلق شيء من تراب وكذلك النطفة جواهرها باقية إما الجواهر المنفردة وإما المادة والحادث هو عرض أو صورة في مادة ولا هذا ولا هذا خلق من نطفة وليس قولهم إنه لم يخلق من مادة معناه أن الخالق أبدعه لا من شيء وأنهم قصدوا بها تعظيم الخالق بل الانسان لا ريب أنه جوهر قائم بنفسه وعندهم ذلك القائم بنفسه ما زال موجودا لم يخلق

اذ خلق الانسان والجوهر الحامل لصورته ما زال موجودا أيضا فلم يخلق عند هؤلاء إلا الأعراض وعند هؤلاء إلا صورة مجردة وكلاهما ليس هو الانسان بل صفة له أو صورة له هذا هو المخلوق عندهم بخلق الانسان فقط وقد قال تعالى أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وقال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا فقد أمر الانسان أن يتذكر أن الله خلقه ولم يك شيئا والانسان اذا تذكر إنما يذكر أنه خلق من نطفة وعندهم ما زال جوهر الانسان شيئا وذلك الشيء باق وانما حدث أعراض لتلك الاشياء ومعلوم أن تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان فإن الإنسان مأمور منهي حي عليم قدير متكلم سميع بصير موصوف بالحركة والسكون وهذه صفات الجواهر والعرض لا يبقى زمانين فالمخلوق على قولهم لا يبقى زمانين بل يفنى عقب ما يخلق ولهذا اضطربوا في المعاد فان معرفة المعاد مبنيه على معرفة المبدأ والبعث مبني على الخلق فقال بعضهم هو تفريق تلك الاجزاء ثم جمعها وهي باقية بأعيانها وقال بعضهم بل يعدمها ويعدم الأعراض القائمة بها ثم يعيدهما وإذا أعادها فإنه يعيد تلك الجواهر التي كانت باقية إلى أن حصلت في هذا الانسان فلهذا اضطربوا لما قيل لهم فالانسان اذا أكله حيوان آخر فان أعيدت تلك الجواهر من الاول نقصت من الثاني وبالعكس أما على قول من يقول إنها تفرق ثم تجمع فقيل له تلك الجواهر ان جمعت للآكل نقصت من المأكول وإن أعيدت للمأكول نقصت من الآكل وأما الذي يقول تعدم ثم تعاد بأعيانها فقيل له أتعدم لما أكلها الآكل أم قبل أن يأكلها فإن كان بعد أن أن أكلها فإنها تعاد في الآكل فينقص المأكول وان كان قبل الاكل فالآكل لم يأكل إلا أعراضا لم يأكل جواهر فهذا مكابرة ثم إن المشهور أن الإنسان يبلى ويصير ترابا كما خلق من تراب وبذلك أخبر الله فإن قيل إنه إذا صار ترابا عدمت تلك الجواهر فهو لما خلق من تراب عدمت أيضا تلك الجواهر فكونهم يجعلون الجواهر باقية في جميع الاستحالات إلا إذا صار ترابا تناقض بين ويلزمهم عليه الحيوان المأكول وغير ذلك وكأن هذا الضلال أصل ضلالهم في تصور الخلق الاول والنشأة الأولى التي أمرهم الرب أن يتذكروها

ويستدلوا بها على قدرته على الثانية قال تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الاولى فلو لا تذكرون والفلاسفة أجود تصورا في هذا الموضع حيث قالوا تفسد الصورة الأولى وهي جوهر وتحدث صورة أخرى فإن هذا أجود من أن يقال يزول عرض ويحدث عرض ولكن الفلاسفة غلطوا في توهمهم أن هناك مادة باقية بعينها وإنما تفسد صورتها والحق أن المادة التي منها يخلق الثاني تفسد وتستحيل وتفنى وتتلاشى وينشئ الله الثاني ويبتدئه ويخلق من غير أن يبقى من الاول شيء لا مادة ولا صورة ولا جوهر ولا عرض فاذا خلق الله الانسان من المني فالمني استحال وصار علقة والعلقة استحالت وصارت مضغة والمضغة استحالت الى عظام وغير عظام والانسان بعد أن خلق خلق كله جواهره وأعراضه وابتدأه الله ابتداء كما قال تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وقال تعالى أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فالانسان مخلوق خلق الله جواهره وأعراضه كلها من المني من مادة استحالت ليست باقية بعد خلقه كما تقول المتفلسفة ان هناك مادة باقية ولفظ المادة مشترك فالجمهور يريدون به ما منه خلق وهو أصله وعنصره وهؤلاء يريدون بالمادة جوهرا باقيا وهو محل للصورة الجوهرية فلم يخلق عندهم الانسان من مادة بل المادة باقية وأحدث صورته فيها كما أن الصور الصناعية كصورة الخاتم والسرير والثياب والبيوت وغير ذلك إنما أحدث الصانع صورته العرضية في مادة لم تزل موجودة ولم تفسد لكن حولت من صفة الى صفة فهكذا تقول الجهمية المتكلمة المبتدعة أن الله أحدث صورة عرضية في مادة باقية لم تفسد فيجعلون خلق الإنسان بمنزلة عمل الخاتم والسرير والثوب والمتفلسفة تقول أيضا أن مادته باقية لم تفسد كمادة الصورة الصناعية لكن يقولون أنه أحدث صورة جوهرية وهم قد يخلطون ولا يفرقون بين الصور العرضية والجوهرية فإنهم يسمون صورة الانسان صورة في مادة وصورة الخاتم صورة في مادة فيكون خلق الانسان

عند هؤلاء وهؤلاء من جنس ما يحدثه الناس في الصور من المواد ويكون خلقه بمنزلة تركيب الحائط من اللبن ولهذا قال من قال منهم إنه يستغني عن الخالق بعد الخلق كما يستغني الحائط عن البناء والأشعرية عندهم أن البناء والخياط وسائر أهل الصنائع لم يحدثوا في تلك المواد شيئا فإن القدرة المحدثة عندهم لا تتعلق إلا بما هو في محلها لا خارجا عن محلها ويقولون ان تلك المصنوعات كلها مخلوقة لله ليس للانسان فيها صنع وخلق الله لها على أصلهم هو إحداث أعراض فيها كما تقدم فينكرون ما يصنعه الانسان وهو في الحقيقة مثل ما يجعلونه مخلوقا للرحمن وهم لا يشهدون للرحمن إحداثا ولا إفناء بل إنما يحدث عندهم الأعراض وهي تفنى بأنفسها لا بافنائه وهي تفنى عقب إحداثها وهذا لا يعقل وهم حائرون إذا أراد أن يعدم الأجسام كيف يعدمها والمشهور عندهم أنها تعدم بأنفسها اذا لم يخلق لها أعراضا فالعرض يفنى عندهم بنفسه والجوهر يفنى بنفسه إذا لم يخلق له عرض هذا في الإفناء وأما في الأحداث فانهم إستدلوا على حدوثها بدليل باطل لو كان صحيحا للزم حدوث كل شيء من غير محدث فحقيقة أصل أهل الكلام المتبعين للجهمية أنه لا يحدث شيئا ولا يفنى شيئا بل يحدث كل شيء بنفسه ويفنى بنفسه ويلزمهم جواز أن يكون للرب محدثا أيضا بلا محدث وهذه الاصول هي أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب والسنة والمعقولات الصريحة وهي في الحقيقة لا عقل ولا سمع كما حكى الله عمن قال لو كنا نسمع أو نعفل ما كنا في أصحاب السعير والخلق يشهدون إحداث الله لما يحدثه وإفناءه لما يفنيه كالمني الذي استحال وفنى وتلاشى وأحدث منه هذا الانسان وكالحبة التي فنيت واستحالت وأحدث منها الزرع وكالهواء الذي استحال وفنى وحدث منه النار أو الماء وكالنار التي استحالت وحدث منها الدخان فهو سبحانه دائما يحدث ما يحدثه ويكونه ويفني ما يفنيه ويعدمه والانسان إذا مات وصار ترابا فني وعدم وكذلك سائر ما على الارض كما قال كل من عليها فان ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداء من التراب ويخلقه خلقا جديدا ولكن للنشأة الثانية أحكام وصفات ليست للأولى فمعرفة الانسان بالخلق الاول وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوان وما يخلقه من

الشجر والنبات والثمار وما يخلقه من السحاب والمطر وغير ذلك هو أصل لمعرفته بالخلق والبعث والمبدأ والمعاد وان لم يعرف أن الله يخلقه كله من المني جواهره وأعراضه وإلا فما عرف أن الله خلقه ومن ظن أن جواهره لم يخلقها اذ خلقه بل جواهر المني وجواهر ما يأكله ويشربه باقية بعينها فيه لم يخلقها أو أن مادته التي تقوم بها صورته لم يخلقها إذ خلقه بل هي باقية أزلية أبدية لم يكن قد عرف أنه مخلوق محدث والعلماء ينكرون على من يقول أن روح الانسان قديمة أزلية من المنتسبين إلى الإسلام وهؤلاء الذين يقولون إن مادة جسمه باقية بعينها وهي أزلية أبدية أبعد عن العقل والنقل منهم وأولئك أنكروا عليهم حيث قالوا الانسان مركب من قديم ومحدث من لاهوت قديم وناسوت محدث أو هؤلاء جعلوه مركبا من مادة قديمة أزلية وصورة محدثة وجعلوا القديم الأزلي فيه أخس ما فيه وهو المادة فإنها عندهم أخس الموجودات وهي قديمة أزلية وأولئك جعلوا القديم الأزلي أشرف ما فيه وهي النفس الناطقة وكلا الطائفتين وإن كان ضالا فالشريف العالي أولى بالقدم من الخسيس السافل وهذا أولى بالحدوث
وأما المتكلمة الجهمية فهم لا يتصورون ما يشهدونه من حدوث هذه الجواهر في جواهر أخر من مادة ثم يدعون أن الجواهر جميعها أبدعت ابتداء لا من شيء وهم لم يعرفوا قط جوهرا أحدث لا من شيء كما لم يعرفوا عرضا أحدث لا في محل وحقيقة قولهم أن الله لا يحدث شيئا من شيء لا جوهرا ولا عرضا فان الجواهر كلها أحدثت لا من شيء والأعراض كذلك والمشهود المعلوم للناس أنما هو إحداثه لما يحدثه من غير مادة ولهذا قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ولم يقل خلقتك لا من شيء وقال تعالى والله خلق كل دابة من ماء ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء وقال تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي وهذا هو القدرة التي تبهر العقول وهو أن يقلب حقائق الموجودات فيحيل الاول ويفنيه ويلاشيه ويحدث شيئا آخر كما قال فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ويخرج الشجرة الحية والسنبلة الحية من النواة والحبة الميتة ويخرج النواة الميتة والحبة الميتة من

الشجرة والسنبلة الحية كما يخرج الانسان الحي من النطفة الميتة والنطفة الميتة من الانسان الحي وعندهم لا يخرج حيا من ميت ولا ميتا من حي فان الحي والميت إنما هو الجوهر القائم بنفسه فان الحياة عرض لا يقوم إلا بجوهر والعرض نفسه لا يقوم بعرض آخر وان كان العرض يوصف بأنه حي كما يقال قد أحييت العلم والايمان وأحييت الدين وأحييت السنة والعدل كما يقال أمات البدعة فهؤلاء عندهم لا يخرج جوهرا من جوهر ولا عرضا من عرض فلا يخرج حيا من ميت ولا ميتا من حي بل الجواهر التي كانت في الميت هي بعينها باقية كما كانت ولكن أحدث فيها حياة لم تكن وتلك الحياة لم تخرج من ميت فما أخرج عندهم حي من ميت ولا ميت من حي ولهذا ينكرون أن يقلب الله جنسا الى جنس آخر ويقولون الجواهر كلها جنس واحد فإذا خلق النطفة انسانا لم يقلب عندهم جنسا الى جنس بل نفس الجواهر هي باقية كما كانت وخاصية الخلق انما هي بقلب جنس الى جنس وهذا لا يقدر عليه إلا الله كما قال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره ان الله لقوي عزيز ولا ريب أن النخلة ما هي من جنس النواة ولا السنبلة من جنس الحبة ولا الانسان من جنس المني ولا المني من جني الانسان وهو يخرج هذا من هذا وهذا من هذا فيخرج كل جنس من جنس آخر بعيد عن مماثلته وهذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وهو سبحانه إذا جعل الابيض أسود أعدم ذلك البياض وجعل موضعه السواد لا أن الأجسام تعدم تلك المادة فتحيلها وتلاشيها وتجعل منها هذا المخلوق الجديد ويخلق الضد من ضده كما جعل من الشجر الاخضر نارا فاذا حك الاخضر بالأخضر سخن ما يسخنه بالحركة حتى ينقلب نفس الاخضر فيصير نارا وعلى قولهم ما جعل فيه نارا بل تلك الجواهر باقية بعينها وأحدث فيها عرض لم يكن وخلق الشيء من غير جنسه أبلغ في قدرة القادر الخالق سبحانه وتعالى كما وصف نفسه بذلك في قوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير

إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ولهذا قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين وقال ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين الى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ولهذا امتنع اللعين كما قال تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا وقال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون وأيضا فكون الشيء مخلوقا من مادة وعنصر أبلغ في العبودية من كونه خلق لا من شيء وأبعد عن مشابهة الربوبية فإن الرب هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فليس له أصل وجد منه ولا فرع يحصل عنه فاذا كان المخلوق له أصل وجد منه كان بمنزلة الولد له وإذا خلق له شيء آخر كان بمنزلة الوالد وإذا كان والدا ومولودا كان أبعد عن مشابهة الربوبية والصمدية فانه خرج من غيره ويخرج منه غيره لا سيما إذا كانت المادة التي خلق منها مهينة كما قال تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين وقال تعالى فلينظر الانسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر وفي المسند عن بشر ابن جحاش قال بصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال يقول الله تعالى ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللارض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق واني أوان الصدقة وكذلك إذا خلق في محل مظلم وضيق كما خلق الانسان في ظلمات ثلاث كان أبلغ في قدرة القادر وأدل على عبودية الانسان وذله لربه وحاجته اليه وقد يقول المعير للرجل مالك أصل ولا فصل ولكن الانسان أصله التراب وفصله الماء المهين ولهذا لما خلق المسيح من غير أب وقعت به الشبهة لطائفة وقالوا انه ابن الله مع أنه لم يخلق إلا من مادة أمه ومن الروح التي نفخ فيها كما قال تعالى ومريم

ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال تعالى أيضا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فما خلق من غير مادة تكون كالأب له قد يظن فيه أنه ابن الله وأن الله خلقه من ذاته فلهذا كانت الانبياء مخلوقة من مادة لها أصول ومنها فروع لها والد ومولود والأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وحدوث الشيء لا من مادة قد يشبه حدوثه من غير رب خالق وقد يظن أنه حدث من ذات الرب كما قيل مثل ذلك في المسيح والملائكة انها بنات الله لما لم يكن لها أب مع أنها مخلوقة من مادة كما ثبت في الصحيح صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ولما ظن طائفة أنها لم تخلق من مادة ظنوا أنها قديمة أزلية وأيضا فالدليل الذي احتج به كثير من الناس على أن كل حادث لا يحدث إلا من شيء أو في شيء فان كان عرضا لا يحدث إلا في محل وان كان عينا قائمة بنفسها لم تحدث إلا من مادة فان الحادث إنما يحدث إذا كان حدوثه ممكنا وكان يقبل الوجود والعدم فهو مسبوق بامكان الحدوث وجوازه فلا بد له من محل يقوم به هذا الامكان والجواز وقد تنازعوا في هذا هل الامكان صفة خارجية لا بد لها من محل أو هي حكم عقلي لا يفتقر إلى غير الذهن والتحقيق أنه نوعان فالامكان الذهني وهو تجويز الشيء أو عدم العلم بامتناعه محله الذهن والامكان الخارجي المتعلق بالفاعل أو المحل مثل أن تقول يمكن القادر أن يفعل والمحل مثل أن تقول هذه الأرض يمكن أن تزرع وهذه المرأة يمكن أن تحبل وهذا لا بد له من محل خارجي فاذا قيل عن الرب يمكن أن يخلق فمعناه أنه يقدر على ذلك ويتمكن منه وهذه صفة قائمة به وإذا قيل يمكن أن يحدث حادث فان قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث فهو ممتنع وإذا كان الحدوث لا بد له من سبب حادث فذاك السبب ان كان قائما بذات الرب فذاته قديمة أزلية واختصاص ذلك الوقت بقيام مشيئة أو تمام تمكن ونحو ذلك لا يكون إلا لسبب قد أحدثه قبل هذا في غيره فلا يحدث حادث مباين إلا مسبوقا بحادث مباين له فالحدوث مسبوق بامكانه ولا بد لامكانه من محل ولهذا لم يذكر الله قط

أنه أحدث شيئا إلا من شيء والذي يقول إن جنس الحوادث حدثت لا من شيء هو كقولهم إنها حدثت بلا سبب حادث مع قولهم إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة من غير تجدد سبب بل حقيقة قولهم إن الرب صار قادرا بعد أن لم يكن من غير تجدد شيء يوجب ذلك وهذه الامور كلها من أقوال الجهمية أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم وهو بناء على قولهم انه تمتنع حوادث لا أول لها وهؤلاء وأمثالهم غلطوا فيما جاء به الشرع وأخبرت به الرسل كما غلطوا في المعقولات فكل واحد مما يسمى شرعا وعقلا وسمعا قد وقع فيه اشتباه فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة هذا هو الشرع المنزل وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه ويطلق على ما يضيفه بعض الناس الى الشرع إما بالكذب والافتراء وإما بالتأويل والغلط وهذا شرع مبدل لا منزل ولا يجب بل ولا يجوز اتباعه وكذلك لفظ السنة فان السنة التي يجب اتباعها هي سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم والسنة تذكر في الاصول والاعتقادات وتذكر في الأعمال والعبادات وكلاهما يدخل فيما أخبر به وأمر به فما أخبر به وجب تصديقه فيه وما أوجبه وأمر به وجبت طاعته فيه ثم كثير من الناس يضيف إلى السنة ما أدخله بعض الناس فيها إما بالكذب وإما بالتأويل مثل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة واستدلالات بأقواله على ما لا تدل عليه ومثل أقوال أحدثها قوم انتسبوا إلى السنة في بعض الأمور مثل إثبات الصفات والقدر فإن المنتسبين لذلك يضافون إلى السنة لأن نفاة الصفات والقدر مبتدعة وكذلك حب الخلفاء الراشدين وموالاتهم يضاف أهله إلى السنة لان الطاعنين فيهم أهل بدعة ومثل الاستدلال بالنصوص على موارد النزاع فإن أهل ذلك يضافون إلى السنة لكونهم يقصدون اتباع القرآن والحديث والمخالفون لذلك يردون الأخبار الصحيحة أو لا يحتجون بالقرآن مبتدعون ثم قد يقول المضافون إلى السنة أشياء ليست من السنة مثل أحاديث كثيرة يروونها في فضائل بعض الصحابة وهي كذب ومثل نفي الحكمة والأسباب في مسائل القدر ومثل كلامهم في الأجسام والأعراض وتناهي الحوادث ونحو ذلك مما لم يأخذوه عن الرسول فهذا ليس من السنة وان كان أهلها وافقوا السنة في مواضع خالفهم

فيها من ينازعهم في هذه المسائل فلا يجب اذا كانوا أصابوا حيث وافقوا السنة أن يصيبوا حيث لم يوافقوها وكذلك مسمى العقل فان مسمى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية لكن لما أحدث قوم من الكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة بل وهو في نفس الامر مخالف للمعقول وصاروا يسمون ذلك عقليات وأصول دين وكلاما في أصول الدين صار من عرف أنهم مبتدعة ضلال في ذلك ينفر عن جنس المعقول والرأي والقياس والكلام والجدل فاذا رأى من يتكلم بهذا الجنس اعتقده مبتدعا مبطلا كما أن هؤلاء لما رأوا ان جنس المنتسبين إلى السنة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع وخالفوا فيها صريح المعقول وهم يقولون أن السنة جاءت بذلك صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يستدل في الاصول بالشرع والسنة ويسمونهم حشوية وعامة وكل من هؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم ثم هؤلاء قبلوا من مسمى الشرع والسنة عندهم محموده ومذمومه وخالفوا مسمى العقل محموده ومذمومه وأولئك قبلوا مسمى العقل عندهم محموده ومذمومه وخالفوا مسمى الشرع محموده ومذمومه فيجب البيان والتفصيل والاستفسار وبيان الفرقان بين الحق والباطل فان ذلك يوجب التصديق بما جاء به الشرع المنزل والسنة الغراء وهو المعقول الحق وهو الكلام الصدق وهو الجدل بالتي هي أحسن ويوجب رد ما أدخل في الشرع والسنة وليس منها ورد ما سمي معقولا وهو باطل وسمي كلاما صدقا وهو كذب وسمي جدلا بالتي هي أحسن وهو جدل بالباطل بغير علم ولهذا حصل من الذين لبسوا الحق بالباطل تبديل لما بدلوه من الدين وتحريف الكلم عن مواضعه ومضاهاة لأهل الكتاب مما ذمهم الله عليه والبخاري في أول كتاب خلق أفعال العباد ذكر الرد على المعطلة الذين يبدلون كلام الله من الجهمية وذكر من كلام السلف والأئمة فيهم ما عرف به مقصودهم
والتبديل نوعان أحدهما ان يناقضوا خبره والثاني أن يناقضوا أمره فان الله بعثه بالهدى ودين الحق وهو صادق فيما أخبر به عن الله آمر بما أمر الله به كما قال من يطع الرسول فقد أطاع الله وأهل التبديل الذين يضيفون الى دينه وشرعه ما ليس منه وهم أهل الشرع المبدل تارة يناقضونه في خبره فينفون

ما أثبته أو يثبتون ما نفاه كالجهمية الذين ينفون ما أثبته من صفات الله وأسمائه والقدرية الذين ينفون ما أثبته من قدر الله ومشيئته وخلقه وقدرته والقدرية المجبرة الذين ينفون ما أثبته من عدل الله وحكمته ورحمته ويثبتون ما نفاه من الظلم والعبث والبخل ونحو ذلك عنه وأمثال ذلك ومسسائل أصول الدين عامتها من هذا الباب ثم إنهم ايضا يوجبون مالم يوجبه بل حرمه ويحرمون ما لم يحرمه بل أوجبه فيوجبون اعتقاد هذه الاقوال والمذاهب المناقضة لخبره وموالاة أملها ومعاداة من خالفها ويوجبون النظر المعين في طريقهم الذي أحدثوه كما أوجبوا النظر في دليل الاعراض الذي استدلوا به على حدوث الأجسام وقالوا يجب على كل مكلف أن ينظر فيه ليحصل له العلم بإثبات الصانع قالوا لان معرفة الله واجبة ولا طريق اليها الا هذا النظر وهذا الدليل ولما علم كثير من موافقيهم أن الاستدلال بهذا الدليل لم يوجه الرسول خالفوهم في إيجابهم مع موافقتهم لهم على صحته والتحقيق ما عليه السلف أنه ليس بواجب أمرا ولا هو صحيح خبرا بل هو باطل منهي عنه شرعا فان الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل بل ينهى عن ذلك لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنه حق وان الدين لا يقوم الا على هذا الاصل الذي أصلوه كما أن طوائف من أهل العبادة والزهد والارادة والمحبة والتصوف سلكوا طرقا ظنوا أنه لا يوصل الى الله إلا بها ثم منهم من يوجبها ويذم من لم يسلكها ومنهم من لم ير أن سالكيها أفضل من غيرهم ويوسع الرحمة لانه قد علم أن الرسول والصحابة لم يأمروا بها الناس مع اعتقادهم أنها طرق صحيحة موصلة الى رضوان الله وهي عند التحقيق طرق مضلة إنما توصل الى رضى الشيطان وسخط الرحمن كالعبادات التي ابتدعها ضلال أهل الكتاب والمشركين وخالفوا بها دين المرسلين فهؤلاء في الاحوال البدعية وأولئك في الاقوال البدعية والقول الحق هو القرآن والحال الحق هو الايمان كما قال جندب وابن عمر تعلمنا الايمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب

وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها
فالناس أربعة أصناف صاحب قول قرآني وحال ايماني فهم أفضل الخلق وصاحب قول قرآني وحال ليس بايماني وصاحب حال ايماني وليس له قول ومن ليس له لا قول قرآني ولا حال ايماني وكثير من المنتسبين الى القول والكلام والعلم والنظر والفقه والاستدلال ابتدعوا أقوالا تخالف القرآن وكثير من المنتسبين الى العمل والعبادة والارادة والمحبة وحسن الخلق والمجاهدة ابتدعوا أحوالا وأعمالا تخالف الايمان وصار مع كل طائفة نوع من الحق الذي جاء به الرسول لكن ملبوس بغيره وصار كثير من الطائفتين ينكر ما عليه الأخرى مطلقا كما قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وفي كل من الطائفتين شبه من أحدى الامتين ففي المنتسبين الى العلم اذا لم يوافقوا العلم النبوي ويعملوا به شبه من اليهود وفي أهل العمل اذا لم يوافقوا العمل الشرعي ويعملوا بعلم شبه من النصارى وصار كثير من أهل الكلام والرأي ينكرون جنس محبة الله وارادته كما صار كثير من أهل الزهد والتصوف ينكر جنس العلم والكلام والنظر وأولئك الذين أنكروا محبة الله وإرادته بنوا ذلك على أصل لهم للقدرية المجبرة والنافية وهو أن المحبة والارادة والرضا والمشيئة شيء واحد ولا يتعلق ذلك إلا بمعدوم وهو ارادة الفاعل أن يفعل مالم يكن فعله فاعتقدوا أن المحبة والارادة لا تتعلق إلا بمعدوم فالموجود لا يحب ولا يراد والقديم الأزلي لا يحب ولا يراد والباقي لا يحب ولا يراد فانكروا أن يكون الله محبوبا أو مرادا وهم لانكار كونه يحب أبلغ وأبلغ فلا يثبتون إلا مشيئته أن يخلق فقط وهي لا تتعلق إلا بمعدوم فأما أن يحب موجودا من خلقه فهذا باطل عند الطائفتين لكن المجبرة يقولون محبته هي مشيئته وقد شاء خلق كل شيء فهو يحب كل شيء والنفاة يقولون محبته هي إرادته إثابة المطيعين وهي مشيئة خاصة والذي جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الامة وعليه مشايخ المعرفة وعموم المسلمين أن الله يحب ويحب كما نطق بذلك الكتاب والسنة في مثل قوله يحبهم ويحبونه ومثل قوله والذين آمنوا أشد حبا لله

وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله بل لا شيء يستحق أن يحب لذاته محبة مطلقة إلا الله وحده وهذا من معنى كونه معبودا فحيث جاء القرآن بالامر بالعبادة والثناء على أهلها أو على المنيبين الى الله والتوابين اليه أو الأوابين أو المطمئنين بذكره أو المحبين له ونحو ذلك فهذا كله يتضمن محبته وما لا يحب ممتنع كونه معبودا ومألوها ومطمأنا بذكره ومن أطيع لعوض يؤخذ منه أو لدفع ضرره فهذا ليس بمعبود ولا إله بل قد يكون الشخص كافرا وظالما يبغض ويلعن ومع هذا يعمل معه عامل بعوض فمن جعل العمل لله لا يكون إلا لذلك فلم يثبت الرب إلها معبودا ولا ربا محمودا وهو حقيقة قول النفاة من الجهمية والقدرية النافية والمثبتة والله سبحانه وتعالى رغب في عبادته والعمل له بما ذكره من الوعد ورهب من الكفر به والشرك بما ذكره من الوعيد وهو حق لكنه لم يقل ان العابد لله والعامل له لا يحصل له إلا ما ذكر بل وقد قال تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أدن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتهم عليه اقرءوا ان شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وقد ثبت في الحديث الصحيح عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله يا أهل الجنة ان لكم عندي موعدا أريد أن أنجزكموه فيقولون ما هو ألم تنضر وجوهنا وتثقل موازيننا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه وهي الزيادة وفي الحديث الذي رواه النسائي لما صلى عمار فأوجز وقال دعوت في الصلاة بدعاء سمعته من النبي صلى الله عليه و سلم اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر الى وجهك والشوق

الى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين وروى نحوا هذا من وجه آخر فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لم يعط أهل الجنة أحب إليهم من النظر اليه وسن أن يدعى بلذة النظر الى وجهه الكريم وأهل الجنة قد تنعموا من أنواع النعيم بالمخلوقات بما هو غاية النعيم فلما كان نظرهم إليه أحب اليهم من كل أنواع النعيم علم أن لذة النظر إليه أعظم عند أهل الجنة من جميع أنواع اللذات والجنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فما لذت أعينهم باعظم من لذتها بالنظر اليه واللذة تحصل بادراك المحبوب فلو لم يكن أحب اليهم من كل شيء ما كان النظر اليه أحب اليهم من كل شيء وكانت لذته أعظم من كل لذة والله تعالى وعد عباده المؤمنين بالجنة وهي اسم لدار فيها جميع أنواع اللذات المتعلقة بالمخلوق وبالخالق كما أن النار اسم لدار فيها أنواع الآلام لكن غلط من ظن أن التنعيم بالنظر اليه ليس من نعيم أهل الجنة وصار هؤلاء حزبين حزبا أنكروا التنعيم بالنظر اليه وهم المنكرون المحبة قال أبو المعالي ونحوه ممن ينكر محبته إنهم اذا رأوه لم يلتذوا بنفس النظر بل يخلق لهم لذة ببعض المخلوقات مع النظر وكذلك قال من شاركهم في التجهم من أهل الوحدة كابن عربي قال ما التذ عارف بمشاهدة قط وادعى أبو المعالي أن إنكار محبته من أسرار التوحيد وهو من أسرار توحيد الجهمية المعطلة المبدلة وحكى عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول أسألك لذة النظر الى وجهك الكريم فقال له هب أن له وجها أله وجه يلتذ بالنظر اليه وهذا بناء على هذا الاصل فانه وشيخه أبا يعلى ونحوهما وافقوا الجهمية في إنكار أن يكون الله محبوبا واتبعوا في ذلك قول أبي بكر بن الباقلاني ونحوه ممن ينكر محبة الله وجعل القول باثباتها قول الحلولية والجواب الثاني أن طائفة من الصوفية والعباد شاركوا هؤلاء في أن مسمى الجنة لا يدخل فيه النظر الى الله وهؤلاء لهم نصيب من محبة الله تعالى والتلذذ بعبادته وعندهم نصيب من الخوف والشوق والغرام فلما ظنوا أن الجنة لا يدخل فيها النظر اليه صاروا يستخفون بمسمى الجنة ويقول أحدهم ما عبدتك شوقا الى جنتك ولا خوفا من نارك وهم غلطوا من وجهين أحدهما أن ما يطلبونه من النظر اليه والتمتع بذكره ومشاهدته كل ذلك في الجنة

الثاني أن الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياما أو القي في بعض عذابها طار عقله وخرج من قلبه كل محبة ولهذا قال سمنون ... وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فامتحني ...
ابتلى بعسر البول فصار يطوف على المكاتب ويقول ادعوا لعمكم الكذاب وأبو سليمان لما قال قد أعطيت من الرضا نصيبا لو ألقاني في النار لكنت راضيا ذكر أنه ابتلى بمرض فقال ان لم تعافني وإلا كفرت أو نحو هذا والفضيل بن عياض إبتلي بعسر البول فقال بحبي لك إلا فرجت عني فبذل حبه في عسر البول فلا طاقة لمخلوق بعذاب الخالق ولا غنى به عن رحمته وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لرجل ما تدعو في صلاتك قال أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن ودخل على أعرابي قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء قال كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخره فعجله لي في الدنيا فقال سبحان الله انك لا تستطيعه ولا تطيقه هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار والعدوان في الارادة والعبادة والعمل حصل من إعراضهم عن العلم الشرعي واتباع الرسول وقد قال تعال قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قال بعضهم ليس الشأن في أن تحبه الشأن في أن يكون هو يحبك وهو إنما يحب من اتبع الرسول وإلا فالمشركون وأهل الكتاب يدعون أنهم يحبونه وأولئك غلطوا بنفي محبته وهؤلاء أثبتوا محبة شركية لم يثبتوا محبة توحيدية خالصة وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
فالأقسام ثلاثة أولئك معطلة للمحبة وحقيقة قولهم تعطيل العبادة مطلقا وهؤلاء مشركون في المحبة فهم مشركون في العبادة أولئك مستكبرون عن عبادته والكبر لليهود وهؤلاء مشركون في عبادته والشرك للنصارى وكل واحد من المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين بل الاسلام هو الاستسلام لله وحده ولفظ

الاسلام يتضمن الاسلام ويتضمن إخلاصه لله وقد ذكر ذلك غير واحد حتى أهل العربية كأبي بكر بن الأنباري وغيره ومن المفسرين من يجعلهما قولين كما يذكر طائفة منهم البغوي أن المسلم هو المستسلم لله وقيل هو المخلص والتحقيق أن المسلم يجمع هذا وهذا فمن لم يستسلم له لم يكن مسلما ومن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلما ومن استسلم له وحده فهو المسلم كما في القرآن بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا والاستسلام له يتضمن الاستسلام لقضائه وأمره ونهيه فيتناول فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين قال ابن أبي حاتم حدثنا عصام بن وراد حدثنا آدم عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله بلى من أسلم وجهه لله يقول من أخلص لله قال ابن أبي حاتم وروى عن الربيع نحو ذلك وقال ذكر عن يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير من أسلم وجهه لله من أسلم أخلص وجهه قال دينه وقال أبو الفرج أسلم بمعنى أخلص وفي الوجه قولان أحدهما أنه الدين والثاني العمل وقال البغوي من أسلم وجهه لله أخلص دينه لله وقيل أخلص عبادته لله وقيل خضع وتواضع لله وأصل الاسلام الاستسلام والخضوع وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه وهو محسن في عمله قيل مؤمن وقيل مخلص قلت قول من قال خضع وتواضع لربه هو داخل في قول من قال أخلص دينه أو عمله أو عبادته لله فان هذا إنما يكون اذا خضع له وتواضع له دون غيره فان العبادة والدين والعمل له لا يكون الا مع الخضوع له والتواضع وهو مستلزم لذلك ولكن أولئك ذكروا مع هذا أن يكون هذا الاسلام لله وحده فذكروا المعنيين الاستلزام وأن يكون لله وقول من قال خضع وتواضع لله يتضمن أيضا أنه أخلص عبادته

ودينه لله فان ذلك يتضمن الخضوع والتواضع لله دون غيره وأما ذكر التوجه فقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وتبين أن الله ذكر إسلام الوجه له في قوله فأقم وجهك للدين وذكر توجيه الوجه له في قوله إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض لان الوجه إنما يتوجه الى حيث توجه القلب والقلب هو الملك فاذا توجه الوجه نحو جهة كان القلب متوجها اليها ولا يمكن الوجه أن يتوجه بدون القلب فكان إسلام الوجه وإقامته وتوجيهه مستلزما لاسلام القلب وإقامته وتوجيهه وذلك يستلزم اسلام كله لله وتوجيه كله لله وإقامة كله لله وبسط الكلام على ما يناسب ذلك
وهذا حقيقة دين الاسلام لكن الذين أنكروا ذلك لهم شبهتان إحداهما أن المحبة تقتضي المناسبة قالوا وهي منتفية فلا مناسبة بين المحدث والقديم فيقال لهم هذا كلام مجمل تعنون بالمناسبة الولادة أو المماثلة ونحو ذلك مما يجب تنزيه الرب عنه فان الشيء ينسب إلى أصله بأنه ابن فلان والى فرعه بأنه ابو فلان وإلى نظيره بأنه مثل فلان ولما سأل المشركون النبي صلى الله عليه و سلم عن نسب ربه أنزل الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فلم يخرج من شيء ولا يخرج منه شيء ولا له مثل فان عنيتم هذا لم نسلم أن المحبة لا بد فيها من هذا وإن أردتم بالمناسبة أن يكون المحبوب متصفا بمعنى يحبه المحب فهذا لازم للمحبة والرب متصف بكل صفة تحب وكل ما يحب فانما هو منه فهو أحق بالمحبة من كل محبوب وإذا كان الانسان يحب الملائكة وهم من غير جنسه لما اتصفوا به من الصفات الحميدة فالسبوح القدوس رب الملائكة والروح الذي كل ما اتصفت به الملائكة وغيرهم فهو من جوده وإحسانه وهو العزيز الرحيم اذ كان المخلوق كثيرا ما يتصف بالعزة دون الرحمة أو تكون فيه رحمة بلا عزة وهو سبحانه العزيز الرحيم الغفور الودود المجيد الودود فعول من الود وقال شعيب إن ربي رحيم ودود وقال تعالى وهو الغفور الودود فقرنه بالرحيم في موضع

وبالغفور في موضع قال أبو بكر ابن الانباري الودود معناه المحب لعباده من قولهم وددت الرجل أوده ودا وودا وودا ويقال وددت الرجل ودادا وودادا وودادة وقال الخطابي هو اسم مأخوذ من الود وفيه وجهان أحدهما أن يكون فعولا في محل مفعول كما قيل رجل هيوب بمعنى مهيب وفرس ركوب بمعنى مركوب والله سبحانه وتعالى مودود في قلوب أوليائه لما يعرفونه من إحسانه اليهم والوجه الآخر أن يكون بمعنى الود أي أنه يود عباده الصالحين بمعنى أنه يرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ويكون معناه أن يوددهم إلى خلقه كقوله سيجعل لهم الرحمن ودا قلت قوله سيجعل لهم الرحمن ودا فسروها بأنه يحبهم ويحببهم الى عباده كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وقال في البغض مثل ذلك وقال عبد ابن حميد أنبأنا عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم ويحببهم ورواه ابن أبي حاتم أيضا وقال عبد أخبرني شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم ويحببهم الى المؤمنين أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن مجاهد عن ابن عباس سيجعل لهم الرحمن ودا قال محبة وهذا فيه إثبات حبه لهم بعد أعمالهم بقوله سيجعل لهم الرحمن ودا وهو نظير قوله قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فهو يحبهم إذا اتبعوا الرسول ونظير قوله في الحديث الصحيح ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وكذلك قوله وأحسنوا ان الله يحب المحسنين ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ان الله يحب المتقين إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وهذه الآيات وأشباهها تقتضي أن الله يحب أصحاب هذه الأعمال فهو يحب التوابين وإنما يكونون توابين بعد الذنب ففي هذه الحال

يحبهم وهذا مبني على الصفات الاختيارية فمن نفاها رد هذا كله ولهم قولان أحدهما أن المحبة قديمة فهو يحبهم في الأزل إذا علم أنهم يموتون على حال مرضية ويقولون أن الله يحب الكفار في حال كفرهم اذا علم أنهم يموتون على الايمان ويبغض المؤمن إذا علم أنه يرتد هذا قول ابن كلاب ومن تبعه ثم منهم من يفسر المحبة بالارادة ومنهم من يقول هي صفة زائدة على الارادة والقول الثاني يجعلون هذا من باب الفعل فالمحبة عندهم إحسانه اليهم والاحسان عندهم ليس قائما به بل بائن عنه والكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة والأدلة العقلية إنما تدل على القول الأول كما قد بسط في غير هذا الموضع اذ المقصود هنا ذكر اسمه الودود والاكثرون على ما ذكره ابن الأنباري وأنه فعول بمعنى فاعل أي هو الواد كما قرنه بالغفور وهو الذي يغفر وبالرحيم وهو الذي يرحم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عيسى بن جعفر قاضي الري حدثنا سفيان في قوله إن ربي رحيم ودود قال محب وقال قرئ على يونس حدثنا ابن وهب قال وقال ابن زيد قوله الودود قال الرحيم وقد ذكر فيه قولين القول الاول رواه من تفسير الوالبي عن ابن عباس قوله الودود قال الحبيب والثاني قول ابن زيد الرحيم وما ذكره الوالبي أنه الحبيب قد يراد به المعنيان أنه يحب ويحب فان الله يحب من يحبه وأولياؤه يحبهم ويحبونه والبغوي ذكر الأمرين فقال وللودود معنيان أن يحب المؤمنين وقيل هو بمعنى المودود أي محبوب المؤمنين وقال أيضا في قوله وهو الغفور الودود أي المحب لهم وقيل معناه المودود كالحلوب والركوب بمعنى المحلوب والمركوب وقيل يغفر ويود أن يغفر وقيل المتودد إلى أوليائه بالمغفرة قلت هذا للفظ معروف في اللغة أنه بمعنى الفاعل كقول النبي صلى الله عليه و سلم تزوجوا الودود الولود وفعول بمعنى فاعل كثير كالصبور والشكور وأما بمعنى مفعول فقليل وأيضا فان سياق القرآن يدل على أنه أراد أنه هو الذي يود عباده كما أنه هو الذي يرحمهم ويغفر لهم فان شعيبا قال واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إن ربي رحيم ودود فذكر رحمته ووده كما قال تعالى وجعل بينكم مودة ورحمة وهو أراد

وصفا يبين لهم أنه سبحانه يغفر الذنب ويقبل على التائب وهو كونه ودودا كما قال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يفرح بتوبة التائب أشد من فرح من فقد راحلته بأرض دوية مهلكة ثم وجدها بعد اليأس فهذا الفرح منه بتوبة التائب يناسب محبته له ومودته له وكذلك قوله في الآية الأخرى وهو الغفور الودود فانه مثل قوله وهو الغفور الرحيم وأيضا فان كونه مودودا أي محبوبا يذكر على الوجه الكامل الذي يتبين اختصاصه به مثل اسم الآله فإن الآله المعبود هو مودود بذلك ومثل اسمه الصمد ومثل ذي الجلال والاكرام ونحو ذلك وكونه مودودا ليس بعجيب وإنما العجب جوده واحسانه فانه يتودد إلى عباده كما في الاثر يا عبدي كم أتودد اليك بالنعم وأنت تتمقت إلي بالمعاصي ولا يزال ملك كريم يصعد إلي منك بعمل سيء وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يقول الله تعالى من تقرب إلي شبرا تقربت اليه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت اليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وجاء في تفسير اسمه الحنان المنان أن الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه والمنان الذ يجود بالنوال قبل السؤال وأيضا فمبدأ الحب والود منه لكن اسمه الودود يجمع المعنيين كما قال الوالبي عن ابن عباس انه الحبيب وذلك أنه إذا كان يود عباده فهو مستحق لان يوده العباد بالضرورة ولهذا من قال انه يحب المؤمنين قال انهم يحبونه فان كثيرا من الناس يقول انه محبوب وهو لا يحب شيئا مخصوصا لكن محبته بمعنى مشيئته العامة ومن الناس من قال إنه لا يحب مع أنه يثبت محبته للمؤمنين فالقسمة في المحبة رباعية فالسلف وأهل المعرفة أثبتوا النوعين قالوا إنه يحب ويحب والجهمية والمعتزلة تنكر الأمرين ومن الناس من قال إنه يحبه المؤمنون وأما هو فلا يحب شيئا دون شيء ومنهم من عكس فقال بل هو يحب المؤمنين مع أن ذاته لا يحب كما يقولون إنه يرحم ولا يرحم فاذا قيل إن الودود بمعنى الواد لزم أن يكون مودودا بخلاف العكس فالصواب القطع بأن الودود وان كان ذلك متضمنا لأنه يستحق أن يود ليس هو بمعنى المودود فقط ولفظ الوداد بالكسر هو مثل الموادة والتواد وذاك

يكون من الطرفين كالتحاب وهو سبحانه لما جعل بين الزوجين مودة ورحمة كان كل منهما يود الآخر ويرحمه وهو سبحانه كما ثبت في الحديث الصحيح أرحم بعباده من الوالدة بولدها وقد بين الحديث الصحيح أن فرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد ماله ومركوبه في مهلكة إذا وجدهما بعد اليأس وهذا الفرح يقتضي أنه أعظم مودة لعبده المؤمن من المؤمنين بعضهم لبعض كيف وكل ود في الوجود فهو من فعله فالذي جعل الود في القلوب هو أولى بالود كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما في قوله سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم وقد دل الحديث الذي في الصحيحين على أن ما يجعله من المحبة في قلوب الناس هو بعد أن يكون هو قد أحبه وأمر جبريل أن ينادي بأن الله يحبه فنادى جبريل في السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه وبسط هذا له موضع آخر وفي مناجاة بعض الداعين ليس العجب من حبي لك مع حاجتي إليك العجب من حبك لي مع غناك عني وفي أثر آخر يا عبدي وحقي اني لك محب فبحقي عليك كن لي محبا وروي يا داود حببني إلى عبادي وحبب عبادي إلي مرهم بطاعتي فأحبهم وذكرهم آلائي فيحبوني فانهم لا يعرفون مني إلا الحسن الجميل وهو سبحانه كما قال كل ما خلقه فانه من نعمه على عباده ولهذا يقول فبأي آلاء ربكما تكذبان والخير بيديه لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو ولا حول ولا قوة إلا به ولا ملجأ ولا منجا منه إلا اليه ووده سبحانه هو لمن تاب اليه وأناب اليه كما قال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا وقال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فلا يستوحش أهل الذنوب وينفرون منه كأنهم حمر مستنفرة فانه ودود رحيم بالمؤمنين يحب التوابين ويحب المتطهرين ولهذا قال شعيب واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إن ربي رحيم ودود وقال هنا وهو الغفور الودود فذكر الودود في الموضعين لبيان مودته للمذنب إذا تاب اليه بخلاف القاسي الجافي الغليظ الذي لا ود فيه
والحجة الثانية لهم قالوا إن الارادة والمحبة لا تتعلق إلا بمعدوم يراد فعله فانه

لو جاز أن يراد الموجود وأن يراد القديم لجاز أن يكون العالم قديما مع كونه مراد مقدورا كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة فان القائلين إنه موجب بذاته والعالم قديم منهم من يصفه بالارادة كأبي البركات وغيره قالوا ومن المعلوم بالاضطرار للعقلاء إذ قالوا هذا الامر حصل بالارادة أن يكون محدثا كائنا بعد أن لم يكن ولهذا لا يجوز أن يقال إن قدرته ومشيئته تعلقت بوجوده ولا ببقائه ولا بكونه حيا ومن قال إن صفاته قديمة الأعيان لا يقول إن كلامه وإرادته حصلت بارادته وقدرته فيقال هذا الذي قالوه صحيح لكن هنا نوعان أحدهما إرادة أن يفعل الشيء ويكون فهذه لا تكون إلا مع حدوثه والثانية محبة نفس ذاته من غير أن يفعل في الذات شيء فهذه التي تتعلق بالموجود والباقي والقديم وارادة الفعل تابعة لهذه فانه لولا أن تكون الارادة متعلقة بنفس الشيء الموجود امتنع أن راد ايجاده فان من أراد أن يبني بيتا ليسكنه إنما مراده نفس البيت لسكناه والانتفاع وانما البناء وسيلة إلى ذلك ولولا إرادة الغاية المقصودة بالذات لم ترد الوسيلة وإذا بناه فهو مريد له بعد البناء ولهذا يكره خرابه وزواله وكذلك من أراد أن يلبس ثوبا فلبسه فهو في حال اللبس مريد له فمن أراد إحداث أمر وفعله كانت إرادة فعله لغاية مقصودة بعد الفعل هي العلة الغائبة والفعل المطلوب لغاية لفاعله ارادتان ارادة الفعل وارادة الغاية وهذه هي الأصل وتلك تبع لهذه والارادة ارادة لا تتعلق بالمعدوم من جهة كونه معدوما بل تتعلق بوجود الفعل لكن يمتنع أن يراد فعله إلا اذا كان معدوما فالعدم شرط في ارادة فعله ولهذا جعل من جملة علل الفعل ولهذا كان جماهير العقلاء مطبقين على أن كل مفعول فهو حادث وكل ما أريد أن يفعل فانه يكون حادثا وكل ما تعلقت المشيئة والقدرة بفعله فهو حادث ثم من الناس من يقول هذا مختص بكونه مفعولا بالاختبار وإلا اذا كان معلولا لعلة موجبة لم يلزم حدوثه وهو غلط بل كل ما فعل فلا يكون الا محدثا سواء كان ذلك ممكنا أو ممتنعا بل نفس كونه مفعولا مستلزم حدوثه ونفس تصور العلم بكونه مفعولا يوجب العلم بحدوثه وان لم يخطر بالباب كونه مفعولا بالقدرة والاختيار ثم قد يقال ما من مفعول إلا وهو مفعول بالاختيار والقديم اذا قدر فاعلا بلا مشيئة كان ذلك

ممتنعا والموجب بالذات اذا قيل هو موجب بذاته المتصفة بمشيئته وقدرته لما يشاؤه فهذا حق وهو مستلزم لكونه فاعلا بمشيئته وقدرته وأما موجب بلا مشيئة أو موجب يقارنه موجبه فهذان باطلان وبهما ضل من ضل من المتفلسفة القائلين بقدم الفلك ونفي الصفات ولكن من أراد احداث شيء وأحدثه لم يجب أن تنقطع ارادته بل قد يكون مريدا له ما دام موجودا ولولا انه مريد لوجوده لما فعله فكل ما شاء الرب وجوده فهو مريد لاحداثه وبقائه ما دام باقيا وأما الارادة والمحبة المتعلقة بالقديم فليست ارادة فعل فيه بل هي محبة ذاته وكل ارادة ومحبة فلا بد أن تنتهي الى محبوب لذاته وكل فاعل بالارادة فارادته تستلزم محبة عامة لاجلها فعل فالحب أصل وجود كل موجود والرب تعالى يحب نفسه ومن لوازم حبه نفسه أنها محبة مريدة لما يريد أن يفعله وما أراد فعله فهو يريده لغاية يحبها فالحب هو العلة الغائبة التي لأجلها كان كل شيء والمتفلسفة يصفونه بالابتهاج والفرح كما جاءت به النصوص النبوية لكنهم يقصرون في معرفة هذا وأمثاله من الأمور الالهية فانهم يقولون اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم وهو مدرك لذاته بأفضل إدراك فهو أفضل مدرك لأفضل مدرك بأفضل إدارك وقد قصروا في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أن اللذة والفرح والسرور والبهجة ليس هو مجرد الادراك بل هو حاصل عقب الادراك فالادراك موجب له ولا بد في وجوده من محبة فهنا ثلاثة أمور محبة وادراك محبوب ولذة تحصل بالادراك وهذا في اللذة الدنيوية الحسية وغيرها فان الانسان يشتهي الحلو ويحبه فاذا ذاقه التذ بذوقه والذوق هو الادراك وكذلك في لذات قلبه يحب الله فانه اذا ذكره وصلى له وجد حلاوة ذلك كما قال صلى الله عليه و سلم جعلت قرة عيني في الصلاة وأهل الجنة اذا تجلى لهم فنظروا اليه فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه والله أعلم

فصل في تمام القول في محبة الله
وانقسام المراد الى ما يراد لذاته والى ما يراد لغيره
ثم ذلك الغير لا بد أن يكون مرادا لذاته فالمراد لذاته لازم لجنس الارادة

والارادة لازمة لجنس الحركة فان الحركة القسرية مستلزمة للحركة الارادية والحركة الارادية مستلزمة للمراد لذاته فكان جنس الحركات الموجودة في العالم مستلزم للمراد لذاته وهو المعبود الذي يستحق العبادة لذاته وهو الله لا إله إلا هو فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وكل عامل لا يكون عمله لله بل لغيره فهو المشرك فانه كما قال الله تعالى فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فان قوام الشيء بطبيعته الخاصة به فالحي قوامه بطبيعته المستلزمة لحركته الارادية وقوامها بالمراد لذاته فاذا لم تكن حركتها لارادة المعبود لذاته لم يكن لنفسه قوام بل بقيت ساقطة خارة كما ذكر الله تعالى ولهذا يهوي في الهاوية وهو ذنب لا يغفر لأنه فسد الأصل كالمريض الذي فسد قلبه لا ينفع مع ذلك إصلاح أعضائه ولفظ دعاء الله في القرآن يراد به دعاء العبادة ودعاء المسألة فدعاء العبادة يكون الله هو المراد به فيكون الله هو المراد ودعاء المسألة يكون الله هو المراد منه كما في قول المصلي إياك نعبد وإياك نستعين فالعبادة إرادته والاستعانة وسيلة الى العبادة فالعبادة إرادة المقصود وارادة الاستعانة ارادة الوسيلة الى المقصود ولهذا قدم قوله إياك نعبد وان كانت لا تحصل إلا بالاستعانة فان العلة الغائبة مقدمة في التصور والقصد وان كانت مؤخرة في الوجود والحصول وهذا إنما يكون لكونه هو المحبوب لذاته لكن المراد به محبة مختصة به على سبيل الخضوع له والتعظيم وعلى سبيل تخصيصها به فيعبر عنها بلفظ الإنابة والعبادة ونحو ذلك اذ أن لفظ المحبة جنس عام يدخل فيه أنواع كثيرة فلا يرضى لله بالقدر المشترك بل اذا ذكر من يحب غير الله ذكر الله قال تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله واذا ذكر محبتهم لربهم ذكرت محبته لهم وجهادهم كما في قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وفي مثل قوله أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ولهذا كانت القلوب تطمئن بذكره كما قال تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب فتقديم المفعول يدل على أنها لا تطمئن إلا بذكره وهو تعالى

اذا ذكر وجلت فحصل لها اضطراب ووجل لما تخافه من دونه وتخشاه من فوات نصيبها منه فالوجل اذا ذكر حاصل بسبب من الانسان وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة لانه هو المعبود لذاته والخير كله منه قال تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم وقال تعالى اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم وقال علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه فالخوف الذي يحصل عند ذكره هو بسبب من العبد وإلا فذكر الرب نفسه يحصل الطمأنينة والامن فما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك كما قال ذلك المريض الذي سئل كيف تجدك فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما اجتمعا في قلب عبد مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف ولم يقل بذكر الله توجل القلوب كما قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب بل قال اذا ذكر الله وجلت قلوبهم ثم قال واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون وإنما يتوكلون عليه لطمأنينتهم الى كفايته وأنه سبحانه حسب من توكل عليه يهديه وينصره ويرزقه بفضله ورحمته وجوده فالتوكل عليه يتضمن الطمأنينة اليه والاكتفاء به عما سواه وكذلك قال في الآية الأخرى فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون فهم مخبتون والمخبت المطمئن الخاضع لله والارض الخبت المطمئنة روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي عن الثوري عن ابن أبي نجيح وبشر المخبتين قال المطمئنين وعن الضحاك المتواضعين فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل كما وصفهم هناك بالتوكل عليه مع الوجل وكما قال في وصف القرآن تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله فذكره بالذات يوجب الطمأنينة وإنما الاقشعرار والوجل عارض بسبب ما في نفس الانسان من التقصير في حقه والتعدي لحده فهو كالزبد مع ما ينفع الناس الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في

الارض فالخوف مطلوب لغيره ليدعو النفس الى فعل الواجب وترك المحرم وأما الطمأنينة بذكره وفرح القلب به ومحبته فمطلوب لذاته ولهذا يبقى معهم هذا في الجنة فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس والمتفلسفة رأوا اللذات في الدنيا ثلاثة حسية ووهمية وعقلية والحسية في الدنيا غايتها دفع الالم والوهمية خيالات واضحات واللذات الحقيقية هي العلم فجعلوا جنس العلم غاية وغلطوا من وجوه أحدها أن العلم بحسب المعلوم فاذا كان المعلوم محبوبا تكمل النفس بحبه كان العلم به كذلك وان كان مكروها كان العلم به لحذره ودفع ضرره كالعلم بما يضر الانسان من شياطين الانس والجن فلم يكن المقصود نفس العلم بل المعلوم ولهذا قد يقولون سعادتها في العلم بالامور الباقية وأنها تبقى ببقاء معلومها ثم يظنون أن الفلك والعقول والنفوس أمور باقية وأن بمعرفة هذه تحصل سعادة النفس وأبو حامد في مثل معراج السالكين ونحوه يشير الى هذا فان كلامه برزخ بين المسلمين وبين الفلاسفة ففيفه فلسفة مشوبة باسلام وإسلام مشوب بفلسفة ولهذا كان في كتبه كالأحياء وغيره يجعل المعلوم بالأعمال والأعمال كلها إنما غايتها هو العلم فقط وهذا حقيقة قول هؤلاء الفلاسفة وكان يعظم الزهد جدا ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه فان هذا التوحيد يتضمن محبة الله وحده وترك محبة المخلوق مطلقا إلا اذا أحبه الله فيكون داخلا في محبة الله بخلاف من يحبه مع الله فان هذا شرك وهؤلاء المتفلسفة إنما يعظمون تجريد النفس عن الهيولي وهي المادة وهي البدن وهو الزهد في أغراض البدن وهو الزهد في الدنيا وهذا ليس فيه إلا تجريد النفس عن الاشتغال بهذا فتبقى النفس فارغة فيلقي اليها الشيطان ما يلقيه ويوهمه أن ذلك من علوم المكاشفات والحقائق وغايته وجود مطلق هو في الاذهان لا في الاعيان ولهذا جعل أبو حامد السلوك إلى إلا ثلاثة منازل بمنزلة السلوك الى مكة فان السالك اليها له ثلاثة أصناف من الشغل الاول تهيئة الاسباب كشراء الزاد والراحلة وخرز الراوية والآخر السلوك ومفارقة الوطن بالتوجه الى الكعبة منزلا بعد منزل والثالث الاشتغال بأركان الحج ركنا بعد ركن ثم بعد النزوع عن لبسة الاحرام

وطواف الوداع استحق التعرض للملك والسلطنة قال فالعلوم ثلاثة قسم يجري مجرى سلوك البوادي وقطع العقبات وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات وطلوع تلك العقبة الشامخة التي عجز عنها الاولون والآخرون إلا الموفقون قال فهذا سلوك للطريق وتحصيل علمه كتحصيل علم جهات الطريق ومنازله وكما لا يغني علم المنازل وطرق البوادي دون سلكوها فكذا لا يغني علم تهذيب الاخلاق دون مباشرة التهذيب لكن المباشرة دون العلم غير ممكن قال وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه وهو العلم بالله وصفاته وملائكته وأفعاله وجميع ما ذكرناه في تراجم علم المكاشفة قال وههنا نجاة وفوز بالسعادة والنجاة حاصلة لكل سالك للطريق اذا كان غرضه المقصد وهو السلامة وأما الفوز بالسعادة فلا ينالها إلا العارفون فهم المقربون المنعمون في جوار الله بالروح والريحان وجنة نعيم وأما الممنوعون دون ذروة الكمال فلهم النجاة والسلامة كما قال الله تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين قال وكل من لم يتوجه الى المقصد أو انتهض الى جهته لا على قصد الامتثال بالأمر والعبودية بل لغرض عاجل فهو من اصحاب الشمال ومن الضالين فله نزل من حميم وتصلية جحيم قال واعلم أن هذا هو الحق اليقين عند العلماء الراسخين في العلم أعني أنهم أدركوه بمشاهدة من الباطن ومشاهدة الباطن أقوى وأجل من مشاهدة الأبصار وترقوا فيه عن حد التقليد الى الاستبصار قلت وكلامه من هذا الجنس كثير ومن لم يعرف حقيقة مقصده يهوله مثل هذا الكلام لان صاحبه يتكلم بخبرة ومعرفة بما يقوله لا بمجرد تقليد لغيره لكن الشأن فيما خبره هل هو حق مطابق ومن سلك مسلك المتكلمين الجهمية والفلاسفة ولم يكن عنده خبرة بحقائق ما بعق به رسوله وأنزل به كتبه بل ولا بحقائق الأمور عقلا وكشفا فان هذا الكلام غايته وأما من عرف حقيقة ما جاءت به الرسل أو عرف مع ذلك بالبراهين العقلية والمكاشفات الشهودية صدقهم فيما أخبروا به فانه يعلم غاية مثل هذا الكلام وأنه إنما ينتهي الى التعطيل ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة وسلوك وعلم في هذا فقال كلام أبي حامد يشوقك فتسير خلفه وهو

يشوقك فتسير خلفه منزلا بعد منزل فاذا هو ينتهي الى لا شيء وهذا الذي جعله هنا الغاية وهو معرفة الله وصفاته وأفعاله وملائكته قد ذكره في المضنون به على غير أهله وهو فلسفة محضة قول المشركين من العرب خير منه دع قول اليهود والنصارى بل قوم نوح وهود وصالح ونحوهم كانوا يقرون بالله وبملائكته وصفاته وأفعاله خيرا من هؤلاء لكن لم يقروا بعبادته وحده لا شريك له ولا بأنه أرسل رسولا من البشر وهذا حقيقة قول هؤلاء فانهم لا يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ولا يثبتون حقيقة الرسالة بل النبوة عندهم فيض من جنس المنامات وأولئك الكفار ما كانوا ينازعون في هذا الجنس فان هذا الجنس موجود لجميع بني آدم ومع هذا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقرون بالملائكة كما قال فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة وقال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين بل فرعون قال لموسى أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين والعبادات كلها عندهم مقصودها تهذيب الاخلاق والشريعة سياسة مدنية والعلم الذي يدعون الوصول اليه لا حقيقة لمعلومه في الخارج والله أرسل رسوله بالاسلام والايمان بعبادة الله وحده وتصديق الرسول فيما أخبر فالاعمال عبادة الله والعلوم تصديق الرسول وكان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الاخلاص وتارة قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا الآية فانها تتضمن الايمان والاسلام وبالآية من آل عمران قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم

والذين سلكوا خلف أبي حامد أو ضاهوه في السلوك كابن سبعين وابن عربي صرحوا بحقيقة ما وصلوا اليه وهو أن الوجود واحد وعلموا أن أبا حامد لا يوافقهم على هذا فاستضعفوه ونسبوه الى أنه مقيد بالشرع والعقل وأبو حامد بين علماء المسلمين وبين علماء الفلاسفة علماء المسلمين يذمونه على ما شارك فيه الفلاسفة مما يخالف دين الاسلام والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الاسلام وعلى كونه لم ينسلخ منه بالكلية الى قول الفلاسفة ولهذا كان الحفيد ابن رشد ينشد فيه ... يوما يمان اذا ما جئت ذا يمن ... وان لقيت معديا فعدناني ...
وأبو نصر القشيري وغيره ذموه على الفلسفة وأنشدوا فيه أبياتا معروفة يقولون فيها ... برئنا الى الله من معشر بهم مرض من كتاب الشفا ... وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا حفرة مالها من شفا ... فلما استهانوا بتعريفنا ... رجعنا الى الله حتى كفى ... فماتوا على دين رسطاليس وعشنا على سنة المصطفى ...
ولهذا كانوا يقولون أبو حامد قد أمرضه الشفاء وكذلك الطرطوسي والمازري وابن عقيل وأبو البيان وابن حمدين ورفيق أبي حامد أبو نصر المرغيناني وأمثال هؤلاء لهم كلام كثير في ذمه على ما دخل فيه من الفلسفة ولعلماء الاندلس في ذلك مجموع كبير ولهذا لما سلك خلفه ابن عربي وابن سبعين كان ابن سبعين في كتاب اليد وغيره يجعل الغاية هو المقرب وهو نظير المقرب في كلام أبي حامد ويجعل المراتب خمسة أدناها الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي الفيلسوف وهو السالك ثم المحقق وابن عربي له أربع عقائد الأولى عقيدة أبي المعالي وأتباعه مجردة عن حجة والثانية تلك العقيدة مبرهنة بحججها الكلامية والثالثة عقيدة الفلاسفة ابن سينا وأمثاله الذين يفرقون بين الواجب والممكن والرابعة التحقيق الذي وصل اليه وهو أن الوجود واحد وهؤلاء

يسلكون مسلك الفلاسفة الذي ذكره أبو حامد في ميزان العمل وهو أن الفاضل له ثلاث عقائد عقيدة مع العوام يعيش بها في الدنيا كالفقه مثلا وعقيدة مع الطلبة يدرسها لهم كالكلام والثالثة لا يطلع عليها أحد إلا الخواص ولهذا صنف الكتب المضنون بها على أهلها وهي فلسفة محضة سلك فيها مسلك ابن سيا ولهذا يجعل اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية إلى امور أخرى قد بسطت في غير هذا الموضع ذكرنا ألفاظه بعينها في مواضع منها الرد على ابن سبعين وأهل الوحدة وغير ذلك فانه لما انتشر الكلام في مذهب أهل الوحدة وكنت لما دخلت إلى مصر بسببهم ثم صرت في الاسكندريةجاءني من فضلائهم من يعرف حقيقة أمرهم وقال ان كنت تشرح لنا كلام هؤلاء وتبين مقصودهم ثم تبطله وإلا فنحن لا نقبل منك كما لا نقبل من غيرك فان هؤلاء لا يفهمون كلامهم فقلت نعم أنا أشرح لك ما شئت من كلامهم مثل كتاب اليد والاحاطة لابن سبعين وغير ذلك فقال لي لا ولكن لوح الاصالة فان هذا يعرفون وهو في رءوسهم فقلت له هاته فلما أحضره شرحته له شرحا بينا حتى تبين له حقيقة الامر وأن هؤلاء ينتهي أمرهم إلى الوجود المطلق فقال هذا حق وذكر لي أنه تناظر اثنان متفلسف سبعيني ومتكلم على مذهب ابن التومرت فقال ذاك نحن شيخنا يقول بالوجود المطلق فقال الآخر ونحن كذلك إمامنا قلت له والمطلق في الاذهان لا في الأعيان فتبين له ذلك وأخذ يصنف في الرد عليهم ولم أكن أظن ابن التومرت يقول بالوجود المطلق حتى وقفت بعد هذا على كلامه المبسوط فوجدته كذلك وأنه كان يقول الحق حقان الحق المقيد والحق المطلق وهو الرب وتبينت أنه لا يثبت شيئا من الصفات ولا ما يتميز به موجود عن موجود فان ذلك يقيد شيئا من الاطلاق وسألني هذا عما يحتجون به من الحديث مثل الحديث المذكور في العقل وأن أول ما خلق الله تعالى العقل ومثل حديث كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن اعرف وغير ذلك فكتبت له جوابا مبسوطا وذكرت أن هذه الاحاديث موضوعة وأبو حامد وهؤلاء لا يعتمدون على هذا وقد نقلوه إما من رسائل

اخوان الصفا أو من كلام أبي حيان التوحيدي أو من نحو ذلك وهؤلاء في الحقيقة هم من جنس الباطنية الاسماعيلية لكن أولئك يتظاهرون بالتشيع والرفض وهؤلاء غالبهم يميلون الى التشيع ويفضلون عليا ومنهم من يفضله بالعلم الباطن ويفضل أبا بكر في العلم الظاهر كأبي الحسن الحرلي وفيه نوع من مذهب الباطنية الاسماعيلية لكن لا يقول بوحدة الوجود مثل هؤلاء ولا أظنه يفضل غير الانبياء عليهم فهو أنبل من هؤلاء من وجه لكنه ضعيف المعرفة بالحديث والسير وكلام الصحابة والتابعين فيبني له أصولا على أحاديث موضوعة ويخرج كلامه من تصوف وعقليات وحقائق وهو خير من هؤلاء وفي كلامه أشياء حسنة صحيحة وأشياء كثيرة باطلة والله سبحانه وتعالى أعلم
الثاني أن صلاح النفس في محبة المعلوم المعبود وهي عبادته لا في مجرد علم ليس فيه ذلك وهم جعلوا غاية النفس التشبه بالله على حسب الطاقة وكذلك جعلوا حركة الفلك للتشبه به وهذا ضلال عظيم فان جنس التشبه يكون بين اثنين مقصودهما واحد كالإمام والمؤتم به وليس الأمر هنا كذلك بل الرب هو يعرف نفسه ويحب نفسه ويثني على نفسه والعبد نجاته وسعادته في أن يعرف ربه ويحبه ويثني عليه والتشبه به أن يكون هو محبوبا لنفسه مثنيا بنفسه على نفسه وهذا فساد في حقه وضار به والقوم أضل من اليهود والنصارى بل ومن مشركي العرب فانه ليس الرب عندهم رب العالمين وخالقهم ولا إلههم ومعبودهم ومشركو العرب كانوا يقرون بانه خالق كل شيء وما سواء مخلوق له محدث وهؤلاء الضالون لا يعترفون بذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع
الوجه الثالث أنهم يظنون أن ما عندهم هو علم بالله وليس كذلك بل هو جهل والرازي لما شاركهم في بعض أمورهم صار حائرا معترفا بذلك لما ذكر أقسام اللذات وأن اللذة العقلية هي الحق وهي لذة العلم وأن شرف العلم بشرف المعلوم وهو الرب وأن العلم به ثلاث مقامات العلم بالذات والصفات والأفعال قال وعلى كل مقام عقدة فالعلم بالذات فيه أن وجود الذات هل هو زائد عليها أم لا وفي الصفات

هل الصفات زائدة على الذات أم لا وفي الأفعال هل الفعل مقارن أم لا ثم قال ومن الذي وصل الى هذا الباب أو من الذي ذاق من هذا الشراب ... نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ... وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ... ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ...
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفيه فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى اليه يصعد الكلم الطيب واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي فالسعادة أن يكون العلم المطلوب هو العلم بالله وما يقرب اليه ويعلم أن السعادة في أن يكون الله هو المحبوب المراد المقصود ولا يحتجب بالعلم عن المعلوم كما قال ذلك الشيخ العارف للغزالي لما قال له أخلصت أربعين صباحا فلم يتفجر لي شيء فقال يا بني أنت أخلصت للحكمة لم يكن الله هو مرادك والاخلاص لله أن يكون الله هو مقصود المرء ومراده فحينئذ تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه كما في حديث مكحول عن النبي صلى الله عليه و سلم من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ولهذا تقول العامة قيمة كل امرئ ما يحسن والعارفون يقولون قيمة كل امرئ ما يطلب وفي الاسرائيليات يقول اني لا أنظر الى كلام الحكيم وإنما أنظر الى همته فالنفس لها قوة الإرادة مع الشعور وهما متلازمان وهؤلاء لحظوا شعورها وأعرضوا عن أرادتها وهي تتقوم بمرادها لا بمجرد ما تشعر به فانها تشعر بالخير والشر والنافع والضار ولكن لا يجوز أن يكون مرادها ومحبوبها إلا ما يصلحها وينفعها وهو الآله المعبود الذي لا يستحق العبادة غيره وهو الله لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم مع هذا يكون العلم حقا وهو ما أخبرت به الرسل فالعلم الحق هو

ما أخبروا به والارادة النافعة إرادة ما أمروا به وذلك عبادة الله وحده لا شريك له فهذا هو السعادة وهو الذي اتفقت عليه الانبياء كلهم فكلهم دعوا الى عبادة الله وحده لا شريك له وذلك إنما يكون بتصديق رسله وطاعتهم فلهذا كانت السعادة متضمنة لهذين الأصلين الاسلام والايمان عبادة الله وحده وتصديق رسله وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال تعالى فلنسألن الذين أرسل اليهم ولنسألن المرسلين قال أبو العالية هما خصلتان يسأل عنهما كل أحد يقال لمن كنت تعبد وبماذا أجبت المرسلين وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والله أعلم
واتبع لها أسعد الناس في الدنيا والآخرة وخير القرون القرن الذي شاهدوه مؤمنين به وبما يقول إذ كانوا أعرف الناس بالفرق بين الحق الذي جاء به وبين ما يخالفه وأعظم محبة لما جاء به وبغضا لما خالفه وأعظم جهادا عليه فكانوا أفضل ممن بعدهم في العلم والدين والجهاد أكمل علما بالحق والباطل وأعظم محبة للحق وبغضا للباطل وأصبر على متابعة الحق واحتمال الأذى فيه وموالاة أهله ومعاداة أعدائه واتصل بهم ذلك الى القرن الثاني والثالث فظهر ما بعث به من الهدى ودين الحق على كل دين في مشارق الارض ومغاربها كما قال صلى الله عليه و سلم زويت لي الارض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها وكان لا بد أن يظهر في أمته ما سبق به القدر واقتضته نشأة البشر من نوع من التفرق والاختلاف كما كان فيما غبر لكن كانت أمته خير الأمم فكان الخير فيهم أكثر منه في غيرهم والشر فيهم أقل منه في غيرهم كما يعرف ذلك من تأمل حالهم وحال بني إسرائيل قبلهم وبنو إسرائيل هم الذين قال الله فيهم ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما

كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون انهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وان الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين وقال لهم موسى يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم مالم يؤت أحدا من العالمين فاذا كان بنو اسرائيل الذين فضلهم على العالمين في تلك الازمان وكانت هذه الامة خيرا منهم كانوا خيرا من غيرهم بطريق الاولى فكان مما خصهم الله به أنه لا يعذبهم بعذاب عام لا من السماء ولا بأيدي الخلق فلا يهلكهم بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم كما كان يسلط على بني إسرائيل عدوا يجتاحهم حتى لا يبقى لهم دين قائم منصور ومن لا يقتل منهم يبقى مقهورا تحت حكم غيرهم بل لا تزال في هذه الامة طائفة ظاهرة على الحق الى يوم القيامة ولا يجتمعون على ضلالة فلا تزال فيهم أمة يدعون الى الخبر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها وهذا البأس نوعان أحدهما الفتن التي تجري عليهم والفتنة ترد على القلوب فلا تعرف الحق ولا تقصده فيؤذي بعضهم بعضا بالاقوال والاعمال والثاني أن يعتدي أهل الباطل منهم على اهل الحق منهم فيكون ذلك محنة في حقهم يكفر الله بها سيآتهم ويرفع بالصبر عليها درجاتهم وبصبرهم وتقواهم لا يضرهم كيد الظالمين لهم بل تكون العاقبة للتقوى ويكونون من أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين إذا كانوا من أهل الصبر واليقين فانه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين والمتعدي منهم إما أن يتوب الله عليه كما تاب على إخوة يوسف بعد عدوانهم عليه وآثره الله عليهم بصبره وتقواه كما قال لما قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا

لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وكما فعل سبحانه بقادة الاحزاب الذين كانوا عدوا لله وللمؤمنين وقال فيهم لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ثم قال عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم وفي هذا ما دل على أن الشخص قد يكون عدوا لله ثم يصير وليا لله مواليا لله ورسوله والمؤمنين فهو سبحانه يتوب على من تاب ومن لم يتب فالى الله إيابه وعليه حسابه وعلى المؤمنين أن يفعلوا معه ومع غيره ما أمر الله به ورسوله من قصد نصيحتهم وإخراجهم من الظلمات الى النور وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما أمر الله ورسوله لا اتباعا للظن وما تهوى الأنفس حتى يكون من خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وهؤلاء يعلمون الحق ويقصدونه ويرحمون الخلق وهم أهل صدق وعدل أعمالهم خالصة لله صواب موافقة لأمر الله كما قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال الفضيل ابن عياض وغيره أخلصه وأصوبه والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة وهو كما قالوا فان هذين الأصلين هما دين الإسلام الذي ارتضاه الله كما قال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا فالذي أسلم وجهه لله هو الذي يخلص نيته لله ويبتغي بعمله وجه الله والمحسن هو الذي يحسن عمله فيعمل الحسنات والحسنات هي العمل الصالح والعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب فما ليس من هذا ولا هذا ليس من الحسنات والعمل الصالح فلا يكون فاعله محسنا وكذلك قال لمن قال لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى قال تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقد قال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين والاسلام هو دين جميع الانبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الامم كما

أخبر الله بنحو ذلك في غير موضع من كتابه فأخبر عن نوح وابراهيم واسرائيل انهم كانوا مسلمين وكذلك عن اتباع موسى وعيسى وغيرهم والاسلام هو أن يستسلم لله لا لغيره فيعبد الله ولا يشرك به شيئا ويتوكل عليه وحده ويرجوه ويخافه وحده ويحب الله المحبة التامة لا يحب مخلوقا كحبه لله ويبغض لله ويوالي لله ويعادي لله فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلما ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلما وإنما تكون عبادته بطاعته وطاعة رسله من يطع الرسول فقد أطاع الله فكل رسول بعث بشريعة فالعمل بها في وقتها هو دين الاسلام وأما ما بدل منها فليس من دين الاسلام وإذا نسخ منها ما نسخ لم يبق من دين الاسلام كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهرا ثم الامر باستقبال الكعبة وكلاهما في وقته دين الاسلام فبعد النسخ لم يبق دين الاسلام إلا أن يولي المصلي وجهه شطر المسجد الحرام فمن قصد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لم يكن على دين الاسلام لانه يريد أن يعبد الله بما لم يأمره وهكذا كل بدعة تخالف أمر الرسول إما أن تكون من الدين المبدل الذي ما شرعه الله قط أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه كالتوجه الى بيت المقدس فلهذا كانت السنة في الاسلام كالاسلام في الدين هو الوسط كما قد شرح هذا في غير موضع والمقصود هنا أنه اذا رد ما تنازع فيه الناس إلى الله والرسول سواء كان في الفروع أو الأصول كان ذلك خيرا وأحمد عاقبة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم وفي صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان اذا قام من الليل يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات

والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم وهذه حال أهل العلم والحق والسنة يعرفون الحق الذي جاء به الرسول وهو الذي اتفق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول ويدعون اليه ويأمرون به نصحا للعباد وبيانا للهدى والسداد ومن خالف ذلك لم يكن لهم معه هوى ولم يحكموا عليه بالجهل بل حكمه الى الله والرسول فمنهم من يكفره الرسول ومنهم من يجعله من أهل الفسق أو العصيان ومنهم من يعذره ويجعله من أهل الخطأ المغفور والمجتهد من هؤلاء المأمور بالاجتهاد يجعل له أجرا على فعل ما أمر به من الاجتهاد وخطؤه مغفور له كما دل الكتاب وأما أهل البدع فهم أهل أهواء وشبهات يتبعون أهواءهم فيما يحبونه ويبغضونه ويحكمون بالظن والشبه فهم يتبعون الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى فكل فريق منهم قد أصل لنفسه أصل دين وضعه إما برأيه وقياسه الذي يسميه عقليات وإما بذوقه وهواه الذي يسميه ذوقيات وإما بما يتأوله من القرآن ويحرف فيه الكلم عن مواضعه ويقول انه إنما يتبع القرآن كالخوارج وإما بما يدعيه من الحديث والسنة ويكون كذبا وضعيفا كما يدعيه الروافض من النص والآيات وكثير ممن يكون قد وضع دينه برأيه أو ذوقه يحتج من القرآن بما يتأوله على غير تأوله ويجعل ذلك حجة لا عمدة وعمدته في الباطن على رأيه كالجهمية والمعتزلة في الصفات والافعال بخلاف مسائل الوعد والوعيد فانهم قد يقصدون متابعة النص فالبدع نوعان نوع كان قصد أهلها متابعة النص والرسول لكن غلطوا في فهم المنصوص وكذبوا بما يخلف ظنهم من الحديث ومعاني الآيات كالخوارج وكذلك الشيعة المسلمين بخلاف من كان منافقا زنديقا يظهر التشيع وهو في الباطن لا يعتقد الاسلام وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الامر والنهي وتصديق الوعيد مع الوعد ولهذا قال عبد الله بن المبارك ويوسف ابن أسباط وغيرهما ان الثنتين والسبعين فرقة أصولها أربعة الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية وأما الجهمية النافية للصفات فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول

فانه ليس في الكتاب والسنة نص واحد يدل على قولهم بل نصوص الكتاب والسنة متظاهرة بخلاف قولهم وإنما يدعون التمسك بالرأي المعقول وقد بسط القول على بيان فساد حججهم العقلية وما يدعيه بعضهم من السمعيات وبين أن المعقول الصريح موافق للمنقول الصحيح في بطلان قولهم لا مخالف له والمقصود هنا الكلام في أفعال الرب فان الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم صاروا يسلكون فيه بأصل أصل بالمعقول ويجعلونه العمدة وخاضوا في لوازم القدر برأيهم المحض فتفرقوا فيه تفرقا عظيما وظهر بذلك حكمة نهي النبي صلى الله عليه و سلم لأمته عن التنازع في القدر مع أن المتنازعين كان كل منهما يدلي بآية لكن كان ذلك يفضي إلى إيمان كل طائفة ببعض الكتاب دون البعض فكيف إذا كان المتنازعون عمدتهم رأيهم والحديث رواه أهل المسند والسنن مفصلا ورواه مسلم مجملا عن عبد الله بن رباح الانصاري أن عبد الله بن عمرو قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فسمع صوت رجلين اختلفا في آية فخرج علينا صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب وقال الإمام أحمد في المسند حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لم اشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده وهذا حديث محفوظ من رواية عمرو بن شعيب وقد رواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية وكتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول في مناظرته لهم يوم الدار في المحنة إنا قد نهينا عن أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض وروى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب الذي فررت منه فانه كما قيل ان له حياة وعلما وقدرة وإرادة وغضبا ورضى ونحو ذلك قلت هذا يستلزم أن يكون موافقا للمخلوق في مسمى هذه الاسماء وهذا تشبيه فقيل هذا يلزم مثله في الذات فان قيل بتعطيل الذات فذلك يستلزم

ما فررت منه من ثبوت جسم قديم حامل للاعراض والحركات وإذا كان هذا لازما لك على تقدير نفي الذات كما ثبت انه لازم على تقدير إثباتها كان لازما على تقدير النقيضين النفي والإثبات وما كان كذلك لم يمكن نفيه وأما نحن فقد بينا أن اللازم على تقدير إثباتها لا محذور فيه وإنما المحذور لازم على تقدير نفيها وهذا قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أنه يقال لهؤلاء الذين ينفون الحكمة ثم الارادة ثم الفعل في الأفعال نظير ما قيل لأولئك في الصفات ويجعل مبدأ الكلام من الارادة في الموضعين فيقال لمن أثبتها ونفي الحكمة من المنتسبين الى إثبات القدر والمنتسبين الى السنة والجماعة لم نفيتم الحكمة فاذا قالوا لأنا لا نعرف من يفعل لحكمة إلا من يفعل لغرض يعود اليه وهذا لا يكون إلا فيمن يجوز عليه اللذة والألم والانتفاع والضرر والله منزه عن ذلك فيقال لهم ما قاله نفاة الارادة وأنتم لا تعقلون ارادة إلا فيمن يجوز عليه اللذة والالم والانتفاع والضرر وقد قلتم ان الله تعالى مريد فاما أن تطردوا أصلكم النافي فتنفوا الارادة أو المثبت فتثبتوا اللذة والا فما الفرق فاذا قال نفاة الارادة فلهذا نفينا الارادة كما رجحه الرازي في المطالب العالية واحتج به الفلاسفة قيل لهم فانفوا أن يكون فاعلا فانكم لا تعملون فاعلا غير مقهور إلا بارادة ولا تعقلون ما يفعل ابتداء إلا بارادة أو فاعلا حياء إلا بارادة أو فاعلا مطلقا إلا بارادة فان قال أتباع أرسطو فلهذا قلنا أنه لا يفعل شيئا وليس بموجب بذاته شيئا لكن قلنا ان الفلك يتشبه به أو قال من هو أعظم تعطيلا منهم فلهذا نفينا الأول بالكلية ولم يثبت علة تفعل ولا علة يتشبه بها قيل لهم فهذه الحوادث مشهودة وحركة الكواكب والشمس والقمر مشهودة فهذه الحركات الحادثة وغيرها من الحوادث مثل السحاب والمطر والنبات والحيوان والمعدن وغير ذلك مما يشهد حدوثه أحدث بنفسه من غير أن يحدثه محدث قديم أو لا بد للحوادث من محدث قديم فان قالوا بل حدث كل حادث بنفسه من غير أن يحدثه أحد كان هذا ظاهر الفساد يعلم بضرورة العقل أنه في غاية المكابرة ونهاية السفسطة مع لزوم ما فروا منه فانهم فروا من أن يكون ثم فاعل محدث

وقد أثبتوا فاعلا محدثا لكن جعلوا كل حادث هو يحدث نفسه ويفعلها فجعلوا ما ليس بشيء يجعل الشيء وجعلوا المعدوم يحدث الموجود فلزمهم ما فروا منه من إثبات فاعل مع ما لزمهم من الكفر العظيم وغاية الجهل وغاية فساد العقل وان قالوا بل كل محدث يحدثه محدث وللمحدث محدث قيل لهم هذا أيضا ممتنع في صريح العقل فان التسلسل في الفاعل ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء فانه كلما كثر ما يقدر أنه حادث كان أحوج إلى القديم فليس في تقدير حوادث لا تتناهى ما يوجب استغناءها عن القديم بل إذا كان المحدث الواحد لا بد له من محدث غيره فمجموع الحوادث أولى بالافتقار إلى محدث لها خارج عنها كلها فان المحدث لمجموعها يمتنع أن يكون واحدا منها فانه يلزم أن يحدث نفسه ويمتنع أن يكون المجموع أحدث المجموع فان الشيء لا يحدث نفسه والمجموع هي الآحاد الحادثة وهيئتها الاجتماعية وتلك الهيئة محتاجة الى المجموع الذي هو كل واحد واحد والمجموع ليس إلا الآحاد واجتماعها وكل ذلك مفتقر إلى محدث مباين لها فلا بد للحوادث من قديم ليس بحادث ثم يقال لهم إذا قدر تسلسل الفاعلين وان ما كان محدثا له محدث وهلم جرا فهذا فيه إثبات ما فررتم منه وهو أن هذا المحدث فعل هذا وهذا فعل هذا لكن أثبتم مالا يتناهى من ذلك في آن واحد فركبتم ما فررتم منه مع لزوم هذه الجهالات التي تقتضي غاية فساد العقل والكفر بالسمع وإذا كان المحذور يلزمهم على تقدير أن يكون الحادث أحدث نفسه أو أحدث كل حادث حادثا آخر مع فساد هذين تبين أنه لا ينفعه انكار القديم وان قال بل أقر بالمحدث القديم قيل فقد أقررت بفعل القديم للمحدث وإذا ثبت أن القديم فعل المحدث وأنت لا تعلم فاعلا إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة قيل له فما كان جوابك عن هذا كان جوابا عن كونه يفعل بارادته وقيل لمثبت الارادة ما كان جوابك عن هذا كان جوابا عن حكمته فقد بين أن من نفي الحكمة فلا بد أن ينقض قوله ويلزمه مع التناقض نفي الصانع وهو مع نفي الصانع تناقضه أشد والمحذور الذي فر منه ألزم فلم يغن عنه فراره من إثبات الحكمة إلا زيادة الجهل والشر وهكذا يقال لمن نفى حبه

ورضاه وبغضه وسخطه وهذا مقام شريف من تدبره وتصوره تبين له أنه لا بد من الإقرار بما جاء به الرسول وأنه هو الذي يوافق صريح المعقول وأن من خالفه فهو ممن لا يسمع ولا يعقل وهو أسوأ حالا ممن فر من الملك العادل الذي يلزمه بطعام امرأته وأولاده والزكاة الشرعية إلى بلاد ملكها ظالم ألزمه باخراج أضعاف ذلك لخنايزه وكلابه مع قلة الكسب في بلاده وبمنزلة من فر من معاشرة أقوام أهل صلاح وعدل ألزموه ما يلزم واحدا منهم من الأمور المشتركة إذا كانوا مقيمين أو مسافرين أن يخرج مثلما يخرجه الواحد منهم فكره هذا وفر إلى بلد فألزمه أهلها بأن ينفق عليهم ويخدمهم وإلا قتلوه وما أمكنه الهرب منهم فمن فر من حكم الله ورسوله أمرا وخبرا أو ارتد عن الاسلام أو بعض شرائعه خوفا من محذور في عقله أو علمه أو دينه أو دنياه كان ما يصيبه من الشر أضعاف ما ظنه شرا في اتباع الرسول قال تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف اذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا إلا احسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
فصل ويقال لهم لم فررتم من إثبات المحبة والحكمة والارادة والفعل فان قالوا لأن ذلك لا يعقل إلا في حق من يلتذ ويتألم وينتفع ويتضرر والله منزه عن ذلك قيل للفلاسفة فأنتم تثبتون أنه مستلذ مبتهج فهذا غير محذور عندكم وان قلتم لان ذلك يستلزم لذة حادثة قيل لكم في حلول الحوادث قولان وليس معكم في النفي إلا ما يدل على نفي الصفات مطلقا كدليل التركيب وقد عرف فساده من

وجوه وقيل للجهمية والمعتزلة أن أردتم أن ذلك يقتضي حاجته الى العباد وأنهم يضرونه أو ينفعونه فهذا ليس بلازم ولهذا كان الله منزها عن ذلك كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي انكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني فالله أجل من أن يحتاج إلى عباده لينفعوه أو يخاف منهم أن يضروه واذا كان المخلوق العزيز لا يتمكن غيره من قهره فمن له العزة جميعا وكل عزة فمن عزته أبعد عن ذلك وكذلك الحكيم المخلوق اذا كان لا يفعل بنفسه ما يضرها فالحق جل جلاله أولى أن لا يفعل ذلك لو كان ممكنا فكيف اذا كان ممتنعا قال تعالى الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا وقال تعالى وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن السلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فقد بين أن العصاة لا يضرونه ولا يظلمونه كعصاة المخلوقين فان مماليك السيد وجند الملك وأعوان الرجل وشركاءه اذا عصوه فيما يأمرهم ويطلبه منهم فقد يحصل له بذلك ضرر في نفسه أو ماله أو عرضه أو غير ذلك وقد يكون ذلك ظلما له والله تعالى لا يقدر أحد على أن يضره ولا يظلمه وان كان الكافر على ربه ظهيرا فمظاهرته على ربه ومعاداته له ومشاقته ومحاربته عادت عليه بضرره وظلمه لنفسه وعقوبته في الدنيا والآخرة وأما النفع فهو سبحانه غني عن الخلق لا يستطيعون نفعه فينفعوه فما أمرهم به اذا لم يفعلوه لم يضروه بذلك كما قال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين وقال ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربي غني كريم وقال إن تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى وان أردتم أنه سبحانه لا يريد ولا يفعل ما يفرح به ويجعل عباده المؤمنين يفعلون ما يفرح به فمن أين لكم هذا وان سمى هذا لذة فالالفاظ المجملة التي قد يفهم منها معنى فاسد اذا لم ترد في كلام الشارع لم نكن محتاجين

الى اطلاقها كلفظ العشق وان أريد به المحبة التامة وقد أطلق بعضهم على الله أنه يعشق ويعشق وأراد به أنه يحب ويحب محبة تامة فالمعنى صحيح والمعنى فيه نزاع واللذة يفهم منها لذة الاكل والشرب والجماع كما يفهم من العشق المحبة الفاسدة والتصور الفاسد ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه فان الذين قالوا لا يجوز وصفه بأنه يعشق منهم من قال لأن العشق هو الإفراط في المحبة والله تعالى لا افراط في حبه ومنهم من قال العشق لا يكون الا مع فساد التصور للمعشوق والا فمع صحة التصور لا يحصل إفراط في الحب وهذا المعنى لا يمدح فاعله فان من تصور في الله ما هو منزه عنه فهو مذموم على تصوره ولوازم تصوره ومنهم من قال لان الشرع لم يرد بهذا اللفظ وفيه إبهام وإيهام فلا يطلق وهذا أقرب وآخرون ينكرون محبة الله وأن يحب ويحب كالمعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الاشعرية وغيرهم فهؤلاء يكون الكلام معهم في كونه يحب ويحب كما نطق به الكتاب والسنة في مثل قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه لا في لفظ العشق كذلك لفظ اللذة فيه إبهام وإيهام والشرع لم يرد باطلاقه ولكن استفاض عن النبي صلى الله عليه و سلم ان الله يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح من وجد راحلته بعد أن أفقدها وأيس منها في مفازة مهلكة ويئس من الحياة والنجاة من تلك الارض ومن وجود مركبه ومطعمه ومشربه ثم وجد ذلك بعد اليأس قال النبي صلى الله عليه و سلم فكيف تجدون فرحه بدابته قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته وقد نطق الكتاب والسنة بأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وأنه يرضى عن المؤمنين فاذا كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضى لأن ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب قيل لكم إن كان هذا لازما فلازم الحق حق وان لم يكن لازما بطل نفيكم والفرح في الانسان هو لذة تحصل في قلبه بحصول محبوبه وقد جاء أيضا وصفه تعالى بأنه يسر في الأثر والكتب المتقدمة وهو مثل لفظ الفرح وأما الضحك فكثير في الأحاديث ولفظ البشبشة جاء أيضا أنه يتبشبش للداخل الى المسجد كما يتبشبش أهل الغائب

بغائبهم اذا قدم وجاء في الكتاب والسنة ما يلائم ذلك ويناسبه شيء كثير فيقال لمن نفى ذلك لم نفيته ولم نفيت هذا المعنى وهو وصف كمال لا نقص فيه ومن يتصف به أكمل ممن لا يتصف به وإنما النقص فيه أن يحتاج فيه الى غيره والله تعالى لا يحتاج الى أحد في شيء بل هو فعال لما يريد لكن القدرية قد يشكل هذا على قولهم فان العباد عندهم مستقلون بإحداث فعلهم ولكن هذا مثل إجابة دعائهم وإثابتهم على أفعالهم ونحو ذلك مما فيه أن أفعالهم تقتضي أمورا يفعلها هو وهم لا يفرون من كونه يجب عليه أشياء وأنه يفعل ما يجب عليه فيكون العبد قد جعله مريدا لما لم يكن مريدا له وحينئذ فاذا كان العبد يجعلونه مريدا عندهم فالقول في لوازم الارادة كالقول فيها وهذا إما أن يدل على فساد قولهم في القدر وهو الصواب وإما أن يكون هو الذي شاء ذلك من العبد فيلزمهم في لوازمها ما يلزمهم فيها واما على قول المثبتة فكل ما يحدث فهو بمشيئته وقدرته فما جعله أحدا مريدا فاعلا بل هو الذي يحدث كل شيء ويجعل بعض الاشياء سببا لبعض فان قال نافي المحبة والفرح والحكمة ونحو ذلك هذا يستلزم حاجته الى المخلوق ظهر فساد قوله وان قيل ان ذلك ان كان وصف كمال فقد كان فاقدا له وان كان نقصا فهو منزه عن النقص قيل له هو كمال حين اقتضت الحكمة حدوثه وحدوثه قبل ذلك قد يكون نقصا في الحكمة أو يكون ممتنعا غير ممكن كما يقال في نظائر ذلك وتمام البسط في هذا الأصل مذكور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على لوازم ذلك فان نفاة ذلك نفوا أن يكون في الممكن فعل ينزه عنه فليس عندهم فعل يحسن منه وفعل ينزه عنه بل عنده تقسيم الأفعال أفعال الرب والعبد الى حسن وقبيح لا يكون عندهم إلا بالشرع وذلك لا يرجع الى صفة في الفعل بل الشارع عندهم يرجح مثلا على مثل والحسن والقبيح إنما يعقل إذا كان الحسن ملائما للفاعل وهو الذي يلتذ به والقبيح ينافيه وهو الذي يتألم به والحسن والقبح في أفعال العباد بهذا

الاعتبار متفق على جوازه وإنما النزاع في كونه يتعلق به المدح والثواب وهذا في الحقيقة يرجع الى الالم واللذة فلهذا سلم الرازي في آخر عمره ما ذكره في كتاب ان الحسن والقبح العقليين ثابتان في أفعال العباد دون الرب اذا كان معناهما يؤول الى اللدة والالم والمعتزلة أثبتوا حسنا وقبحا عقليين في فعل القادر مطلقا سواء كان قديما أو محدثا وقال الحسن ما للقادر فعله والقبيح ما ليس له فعله وقالوا ان ذلك ثابت بدون كونه مستلزما للذة والألم كما ادعوا ثبوت حكمته للفاعل القادر ولا تعود اليه ولا يستلزم اللذة فادعوا ما هو خلاف الموجود والمعقول ولهذا تسلط عليهم النفاة فكان حجتهم عليهم أن يثبتوا أن هذا أمر لا يعقل إلا مع اللذة والالم ثم يقولون وذلك في حق الله محال فحجتهم مبنية على مقدمتين أن الحسن والقبح والحكمة مستلزم للذة والالم وذلك في حق الله محال والمعتزلة منعوا المقدمة الأولى فغلبوا معهم والمقدمة الثانية جعلوها محل وفاق وهي مناسبة المعتزلة لكونهم ينفون الصفات فنفى الفعل القائم به أولى على أصلهم ونفى مقتضي ذلك أولى على أصلهم وهذه المقدمة التي اشتركوا فيها تقتضي نفي كونه مريدا ونفي كونه فاعلا ونفي حدوث شيء من الحوادث كما أن نفي الصفات يقتضي نفي قائم بنفسه موصوف بالصفات فنفي اتصافه بالصفات يستلزم أن لا يكون في الوجود شيء يتصف بصفة ونفي فعله وأحداثه يقتضي أن لا يكون في الوجود شيء حادث فكان ما نفوه مستلزما نهاية السفسطة وجحد الحقائق ولهذا كان من وافق هؤلاء على نفي محبة الله لما أمر به من الصوفية يلزمهم تعطيل الأمر والنهي وان لا ينفي إلا القدر العام وقد التزم ذلك طائفة من محققيهم وكان نفي الصفات يستلزم نفي الصفات وان لا يكون موجودان أحدهما واجب قديم خالق والآخر ممكن أو محدث أو مخلوق وهكذا التزمه طائفة من محققيهم وهم القائلون بوحدة الوجود وهم يقولون بكون العبد أولا يشهد الفرق بين الطاعة والمعصية ثم يشهد طاعة بلا معصية ثم لا طاعة ولا معصية بل الوجود واحد فالذين اثبتوا الحسن والقبح في الافعال وأن لها صفات تقتضي

ذلك قالوا بما قاله جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم قال أبو الخطاب هذا قوله أكثر الفقهاء والمتكلمين لكن تناقضوا فلم يثبوا لازم ذلك فتسلط عليهم النفاء أكثر الفقهاء والمتكلمين لكن تناقضوا فلم يثبوا لازم ذلك فتسلط عليه النفاء لما نفوا الحسن والقبح في نفس الأمر قالوا لا فرق في ما يخلقه الله وما يأمره به بين فعل وفعل وليس في نفس الأمر حسن ولا قبيح ولا صفات توجب ذلك واستثنوا ما يوجب اللذة والألم لكن اعتقدوا ما اعتقدته المعتزلة أن هذا لا يجوز اثباته في حق الرب وأما في حق العبد فظنوا أن الأفعال لا تقتضي إلا لذة وأما في الدنيا وأما كونها مشتملة على صفات تقتضي لذة وألما في الآخرة فذلك عندهم باطل ولم يمكنهم أن يقولوا إن الشارع يأمر بما فيه لذة مطلقا وينهيى عما فيها ألم مطلقا وكو الفعل يقتضي ما يوجب اللذة هو عندهم من باب التولد وهم لا يقولون به بل قدرة العبد عندهم لا تتعلق إلا بفعل في محلها مع أنها عند شيخهم غير مؤثرة في المقدور ولا يقول إن العبد فاعل في الحقيقة بل كاسب ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقا معقولا بل حقيقة قولهم قول جهم أن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب والله عندهم فاعل فعل العبد وعله هو نفس مفعوله فصار الرب عندهم فاعلا لكل ما يوجد من أفعلا العباد ويلزمهم أن يكون هو الفاعل للقبائح وان يتصف بها على قولهم أنه بوصف بالصفات الفعلية القائمة بغيره وقد تناقضوا في هذا الموضع فجعلوه متكلما بكلام يقوم بغيره وجعلوه عادلا ومحسنا بعدل واحسان يقوم بغيره كما قد بسط في غير هذا الموضع وحينئذ فما بقي يمكنهم ان يفرقوا بين ممكن وممكن من جميع الأجناس أي يقولوا هذا يحسن من الرب فعله وهذا ينزه عنه بل يجوز عندهم ان يفعل كل ممكن مقدور والظلم عندهم هو فعل ما نهى المرء عنه أو التصرف في ملك الغير وكلاهما ممتنع في حق الله فأما ان يكون هناك امر ممكن مقدور وهو منزه عنه فهذا عندهم لا يجوز فلهذا جوزوا عليه كل ما يمكن ولا ينزهونه عن فعل لكونه قبيحا أو نقصا او مذموما ونحو ذلك بل يعلم ما يقع وما لا يقع بالخبر أي بخبر الرسول كما علم بخبره المأمور والمحظور والوعد

والوعيد والثواب والعقاب أوبالعادة مع أن العادة يجوز انتقاضها عندهم لكن قالوا قد يعلم بالضرورة عدم ما يجوز وقوعه من غير فرق لا في الوجود ولا في العلم بين ما علموا انتفاءه وما لم يعلموه إذ كان أصل قولهم هو جواز التفريق بين التماثلين بلا سبب فالارادة القديمة عندهم ترجح مثلا على مثل بلا سبب في خلق الرب وفي أمره وكذلك عندهم قد يحدث في قلب العبد علما ضروريا بالفرق بين المتماثلين بلا سبب فلهذا قالوا أن الشرع لا يأمر وينهى لحكمة ولم يعتمدوا على المناسبة وقالوا علل الشرع أمارات كما قالوا ان أعفال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط من غير أن يكون في أحد الفعلين معنى يناسب الثواب أو العقاب ومن أثبت المناسبة من متأخريهم كأبي حامد ومن تبعه قالوا عرفنا بالاستقراء أن المأمور به قترن به مصلحة العباد وهو حصول ما ينفعهم والمنهى عنه تقترن به المفسدة فإذا وجد الأمر والنهى علم وجود قرينه الذي علم بعادة الشرع من غير أن يكون الرب أمر به لتلك المصلحة ولا نهى عنه لتلك المفسدة وجمهوةهم وأئمتهم على أنه يمتنع أن يفعل لحكمة لكن الآمدي قال إن ذلك جائز غير واجب فلم يجعله واجبا ولا ممتنعا
فصل وهذا الأصل دخل في جميع أبواب الدين أصضوله وفروعه في خلق الرب لما يخلقه ورزقه واعطائه ومنعه وسائر ما يفعله تبارك وتعالى وجهل في أمره ونهيه وجميع ما يأمر به وينهى عنه ودخل في المعاد فعندهم يجوز أن يعذب الله جميع أهل العدل والصلاح والدين والأنبياء والمرسلين بالعذاب الأبدي وأن ينعم دميع أهل الكذب والظلم والفواحش بالنعيم الأبدي لكن بمجرد الخبر عرفنا أنه لا يفعل هذا ويجوز عندهم أن يعذب من لا له ذنب أصلا بالعذاب الأبدي بل هذا واقع عند من يقول بأن أطفال الكفار يعذبون في النار مع آبائهم كلهم يجوزون تعذيبهم إذ كان عندهم يجوز تعيب كل حي العذاب المؤبد بلا ذنب ولا غلاض ولا حكمة لكن هل يقع هذا في أطفال المشركين منهم جزم بوقوعه كالقاضي أبي يعلى ومن وافقه ومنهم من توقفت لعدم الدليل السمعى عنده لا لمانع عقلي كالقاضي

أبي بكر ونحوه وليس عندهم من أفعال الرب ما ينزهونه عنه أو ما تقتضي الحكمة وجوده بل يجوز عندهم أن يفعل كل ممكن ويجوز أن لا يفعل شيئا من الخير لكن إذا أخبر أنه يفعل شيئا أو أنه لا يفعله علم أنه واقع أو غير واقع بالخبر ويجوز عندهم أن يعذب من لا ذنب له ومن هو أبر الناس وأعدلهم وأفضلهم عذابا مؤبدا لا يعذبه أحدا من العالمين ويجوز أن ينعم شر الخلق من شياطين الإنس والجن نعيما في أعلى درجات الجنة لا ينعم مثله لمخلوق لكن لما أخبر بأن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يدخلون النار علم ما يقع مع أنه لو وقع ضده لم يكن بينهما فرق عندهم ثم مع مجيء الخبر فكثير منهم وافقه أما في جنس الفساق مطلقا فيجوزون أن يدخل جميعهم الجنة ويجوزون أن يدخل جميعهم النار ويجوزون أن يدخل بعضهم كما يقوله من يقوله ممن وافق الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر لأن القرآن عنده لم يدل على شيء والأخبار أخبار آحاد بزعمه فلا يحتج بها في ذلك وأما جمهور المنتسبين الى السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم فيقطعون بان الله يعذب بعض أهل الذنوب بالنار ويعفو عن بعضهم كما قال تعالى ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهذا فيه الإخبار بانه يغفر ما دون الشرك وأنه يغفر لمن يشاء لا لكل أحد لكن هل الجزاء والثواب والعقاب مبني على الموازنة بالحكمة والعدل كما اخبر الله بوزن الأعمال أو يغفر ويعذب بلا سبب ولا حكمة ولا اعتبار الموازنة فيه لهؤلاء قولان فمن جوز ذلك فانه يجوز عندهم أن يعذب الله من هو من أبر الناس وأكثرهم طاعات وحسنات على سيئة صغيرة عذابا أعظم من عذاب أفسق الفاسقين ويجوز عندهم أن يغفر لأفسق الفاسقين من المسلمين وأعظمهم كبائر كل ذنب ويدخله الجنة ابتداء مع تعذيبهم ذلك في النار على صغيرة ولهذا قال جمهور الناس عن هؤلاء إنهم لا ينزهون الرب على السفه والظلم بل يصفونه بالأفعال التي يوصف بها المجانين والسفهاء فان المجنون والسفيه قد يعطي مالا عظيما لمن ليس هو له بأهل وقد

يعاقب عقوبة عظيمة من هو أهل للإكرام والإحسان والرب تعالى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وخير الراحمين والحكمة وضع الأشياء مواضعها والظلم وضع الشيء في غير موضعه ومن تدبر حكمته في مخلوقاته ومشروعاته رأى ما يبهر العقول فانه مثلا خلق العين واللسان ونحوهما من الاعضاء لمنفعة وخلق الرجل والظفر ونحو ذلك لمنفعة فلا تقتضي الحكمة أن يستعمل العين واللسان حيث يستعمل اليد والرجل والظفر ولا أن يستعمل الرجل واليد حيث يستعمل العين واللسان وهذا من حكمته موجود في أعضاء الانسان وسائر الحيوان والنبات وسائر المخلوقات فكيف يجوز في حكمته وعدله ورحمته في من هو دائما يفعل ما يرضيه من الطاعات والعبادات والحسنات وقد نظر نظرة منهيا عنها أن يعاقبه على هذه النظرة بما يعاقب به أفجر الفساق وأن يكون أفجر الفساق في أعلى عليين وهو سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لكن لا يشاء إلا ما يناسب حكمته ورحمته وعدله كما لا يشاء ويريد إلا ما علم أنه سيكون فلو قيل هل يجوز أن يشاء ما علم أنه لا يكون لم يجر ذلك باتفاقهم لمناقضة علمه والعلم يطابق المعلوم فكيف يشاء ما يناقض حكمته ورحمته وعدله وبسط هذه الامور له مواضع متعددة
والمقصود أن هؤلاء لما احتاجوا الى إثبات النبوات اضطربوا في صفة النبي وما يجوز عليه وفي الآيات التي بها يعلم صدقه فجوزوا أن يرسل الله من يشاء بما يشاء لا يشترطون في النبي إلا أن يعلم ما أرسل به لأن تبليغ الرسالة بدون العلم ممتنع ومن جوز منهم تكليف ما لا يطاق مطلقا يلزمه جواز أن يأمره الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي وجوزوا من جهة العقل ما ذكره القاضي أبو بكر أن يكون الرسول فاعلا للكبائر إلا أنه لا بد أن يكون عالما بمرسله لكن ما علم بالخبر أن الرسول لا يتصف به علم من جهة الخبر فقط لا لأن الله منزه عن إرسال ظالم أو مرتكب للفواحش أو مكاس أو مخنث أو غير ذلك فانه لا يعلم نفي شيء من ذلك بالعقل لكن بالخبر وهم في السمعيان عمدتهم الإجماع وأما الاحتجاج بالكتاب والسنة فأكثر ما يذكرونه تبعا للعقل او الاجماع والعقل والاجماع مقدمان عندهم على

الكتاب والسنة فلم يعتمد القاضي أبو بكر وأمثاله في تنزيه الانبياء لا على دليل عقلي ولا سمعي من الكتاب والسنة فان العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاءاذ كان يجوز عنده على الله فعل كل ما يقدر عليه وإنما اعتمد على الإجماع فما أجمع المسلمون عليه أنه لا يكون في النبي نزه عنه ثم ذكر ما ظنه إجماعا كعاداته وعادات أمثاله في نقل إجماعات لا يمكن نقلها عن واحد من الصحابة ولا ثلاثة من التابعين ولا أربعة من الفقهاء المشهورين كدعواه الاجماع على أن الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة مع قوله إن العقل يحيل أن يكون مأمورا به فيدعي الاجماع على براءة المأمور من فعل ما أمر به لكونه فعل ما نهي عنه ولأهل الكلام والرأي من دعوى الإجماعات التي ليست صحيحة بل قد يكون فيها نزاع معروف وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادعوا فيه الاجماع ما يطول ذكره هنا وقد ذكرنا قطعة من الاجماعات الفروعية حكاها طائفة من أعيان العلماء العالمين بالاختلاف مع أنها منتقضة وفيها نزاع ثابت لم يعرفوه وقد يكون غيرهم حكى الاجماع على نقيض قولهم وربما كان من السلف كقول الشافعي ما اعلم أحدا قبل شهادة العبد وقبله من الصحابة أنس بن مالك يقول ما أعلم أحد رد شهادة العبد وكدعوى ابن حزم الاجماع على إبطال القياس وأكثر الأصوليين يذكرون الاجماع على إثبات القياس وبسط هذا له موضع آخر
فصل ولما أرادوا إثبات معجزات الانبياء عليهم السلام وأن الله سبحانه لا يظهرها على يد كاذب مع تجويزهم عليه فعل كل شيء فنفوا منعا فقالوا لو جاز ذلك لزم أن لا يقدر على تصديق من ادعى النبوة وما لزم منه نفي القدرة كان ممتنعا فهذا هو المشهور عن الأشعري وعليه اعتمد القاضي أبو بكر وابن فورك والقاضي أبو يعلى وغيرهم وهو مبني على مقدمات أحدها أن النبوة لا تثبت الا بما ذكروه من المعجزات وأن الرب لا يقدر على إعلام الخلق بأن هذا نبي إلا بهذا الطريق وأنه لا يجوز أن يعلموا ذلك ضرورة وان اعلام الخلق بان هذا نبي بهذا الطريق

ممكن فلو قيل لهم لا نسلم أن هذا ممكن على قولكم فانكم إذا جوزتم عليه فعل كل شيء وارادة كل شيء لم يكن فرق بين أن يظهرها على يد صادق أو كاذب ولم يكن ارسال رسول يصدقه بالمعجزات ممكنا على أصلكم ولم يكن لكم حجة على جواز إرسال الرسول وتصديقه بالمعجزات إذ كان لا طريق عندهم إلا خلق المعجز وهذا إنما يكون دليلا اذا علم أنه إنما خلقه لتصديق الرسول وأنتم عندكم لا يفعل شيئا لشيء ويجوز عليه فعل كل شيء وسلك طائفة منهم طريقا آخر وهي طريقة أبي المعالي وأتباعه وهو أن العلم بتصديقه لمن أظهر على يديه المعجز علم ضروري وضربوا له مثلا بالملك وهذا صحيح اذا منعت أصولهم فان هذه تعلم اذا كان المعلم بصدق رسوله ممن يفعل شيئا لحكمة فاما من لا يفعل شيئا لشيء فكيف يعلم أنه خلق هذه المعجزات لتدل على صدقه لا لشيء آخر ولم لا يجوز أن يخلقها لالشيء على أصلهم وقالوا أيضا ما ذكره الأشعري المعجز علم الصدق ودليله فيستحيل وجوده بدون الصدق فيمتنع وجوده على يد الكاذب وهذا كلام صحيح لكن كونه علم الصدق مناقض لاصولهم فانه إنما يكون علم الصادق اذا كان الرب منزها عن ان يفعله على يد الكاذب أو علم بالاضطرار أنه إنما فعله لتصديق الصادق أو أنه لا يفعله على يد كاذب وإذا علم بالاضطرار تنزهه عن بعض الأفعال بطل أصلهم
فصل والمعتزلة قبلهم ظنوا أن مجرد كون الفعل خارقا للعادة هو الآية على صدق الرسول فلا يجوز ظهور خارق إلا لنبي والتزموا طردا لهذا انكار أن يكون للسحر تأثير خارج عن العادة مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيء وأنكروا الكهانة وأن تكون الجن تخبر ببعض المغيبات وأنكروا كرامات الاولياء فاتى هؤلاء فأثبتوا ما أثبته الفقهاء وأهل الحديث من السحر والكهانة والكرامات لكن قيل لهم فميزوا بين هذا وبين المعجزات فقالوا لا فرق في نفس الجنس وليس في جنس مقدورات الرب ما يختص بالانبياء لكن جنس خرق العادة واحد فهذا اذا اقترن بدعوى النبوة وسلم عن المعارضة عند تحدي الرسول بالمثل فهو دليل فهي عندهم لم تدل لكونها في نفسها وجنسها دليلا بل اذا

استدل بها المدعي للنبوة كانت دليلا وإلا لم تكن دليلا ومن شرط الدليل سلامته عن المعارضة وهي عندهم غاية الفرق فاذا قال المدعي للنبوة ائتوا بمثل هذه الآية فعجزوا كان هذا هو المعجز المختص بالنبي وإلا فيجوز عندهم أن تكون معجزات الرسول من جنس ما للسحرة والكهان من الخوارق اذا استدل بها الرسول فالحجة عنده مجموع الدعوى والخارق لا الخارق وحده والاعتبار بالسلامة عن المعارض بل قد لا يشترطون أن يكون خارقا للعادة لكن يشترطون أن لايعارض وعجز الناس عن المعارضة مع أنه معتاد لا خارق للعادة فالاعتبار عندهم بشيئين باقترانه بالدعوى وتحديه لمن دعاهم أن يأتوا بمثله فلا يقدرون قالوا وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر والكاهن والصالح ولا تدل على النبوة لأنه لم يدعها قالوا ولو ادعى النبوة أحد من أهل هذه الخوارق مع كذبه لم يكن بد من أن الله يعجزه عنها فلا يخلقها على يده أو يقيض له من يعارضه فتبطل حجته واذا قيل لهم لم قلتم ان الله لا بد أن يفعل هذا وهذا وعندكم يجوز عليه كل شيء ولا يجب عليه فعل شيء ولا يجب منه فعل شيء قالوا لأنه لو لم يمنعه من ذلك أو يعارضه بآخر لكان قد أتى بمثل ما يأتي به النبي الصادق فتبطل دلالة آيات الانبياء فاذا قيل لهم وعلى أصلكم يجوز أنه تبطل دلالتها وعندكم يجوز عليه فعل كل شيء أجابوا بالوجهين المتقدمين إما لزوم أنه ليس بقادر أو أن الدلالة معلومة بالاضطرار وقد عرف ضعفهما ثم هنا يلزمهم شيء آخر وهو أنه لم قلتم إن المعجز الذي يدل به على صدق الانبياء ما ذكرتموه من مجرد كونه خارقا مع الدعوى وعدم المعارضة فان هذا يقال إنه باطل من وجوه
أحدها أنه إذا كان ما يأتي به النبي يأتي به الساحر والكاهن لكان أولئك يعارضون وهذا لا يعارض فالاعتبار إذن بعدم المعارضة فقولوا لكل من ادعى النبوة وقال معجزتي أن لا يدعيها غيري فهو صادق أو لا يقدر غيري على دعواها فهو صادق أو أفعل أمرا معتادا من الأكل والشرب واللباس ومعجزتي أن لا يفعله غيري أو لا يقدر غيري على فعله فهو صادق فالتزموا هذا وقالوا المنع من المعتاد

كإحداث غير المعتاد وعلى هذا فلو قال الرسول معجزتي أني أركب الحمار أو الفرس أو آكل هذا الطعام أو ألبس هذا الثوب أو أعدو إلى ذلك المكان وأمثال ذلك وغيره لا يقدر على ذلك كان هذا آية دعواه وهذا لا ضابط له فان ما يعجز عنه قوم دون قوم لا ينضبط ولكن هذا يفسد قول من فسرها بخرق العادة فان العادات تختلف وقد ذكروا هذا وقالوا المعجزة عند كل قوم ما كان خرقا لعادتهم وقالوا يشترط أن تكون خارقة لعادة من دعاهم وان كان معتادا لغيرهم وقالوا إذا كان المدعي كذابا فان الله يقيض له من يعارضه من أهل تلك الصناعة أو يمنعه من القدرة عليها وهذا وجه ثان يدل على فساد ما أصلوه هم والمعتزلة
الوجه الثالث المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والاثبات بالخارق فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة ويأتي بالخارق وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن أو عشر سور أو سورة بل أن يدعي أحدهم النبوة ويفعل ذلك وهذا خلاف العقل والنقل ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية بل قد يقرأه المتعلم له فلا تكون آيه لأنه لم يدع النبوة ولو ادعاها لكان الله ينسيه إياه أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل
الرابع أنه إذا كان اعتمادكم على عدم المعارضة فقولوا ما قاله غيركم وهو أن آية سلامة ما يقوله من التناقض وأن كل من ادعى النبوة وكان كاذبا فلا بد أن يتناقض أو يقيض الله له من يقول مثل ما قال وأما السلامة من التناقض من غير دعوى النبوة فليست دليلا فهذا خير من قولكم فانه قد علم أن كل ما جاء من عند غير الله فانه لا بد أن يختلف ويتناقض وما جاء من عند الله لا يتناقض كما قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وأما دعوى الضرورة فمن ادعى الضرورة في شيء دون شيء مع تماثلهما وعدم الفرق بينهما في نفس الأمر كانت دعواه مردودة بل كذبا فان وجود العلم الضروري بشيء

دون شيء لا بد أن يكون لفرق إما في المعلوم وإما في العالم وإلا فاذا قدر تساوي المعلومات وتساوي حال العالم بها لم يعلم بالضرورة أحد المتماثلين دون الآخر
الخامس انه لا بد أن تكون الآية التي للنبي أمرا مختصا بالانبياء فان الدليل مستلزم للمدلول عليه فآية النبي هي دليل صدقه وعلامة صدقه وبرهان صدقه فلا توجد قط إلا مستلزمة لصدقه وقد ادعوا أن آيات صدقهم التي تكون منفكة عن صدقهم تكون لساحر وكاهن ورجل صالح ولمدعي الإلهية لكن لا تكون لمن يكذب في دعوى النبوة فجوزوا وجود الدليل مع عدم المدلول عليه إلا اذا ادعى المدلول عليه كاذب واستدلوا على ذلك بأن الساعة تخرق عندها خوارق ولا تدل على صدق أحد ولو ادعى مدع النبوة مع تلك الخوارق لدلت قالوا فعلم أن جنس ما هو معجز يوجد بدون صدق النبي لكن مع دعوى النبوة لا يوجد إلا مع الصدق والآية عندهم الدعوى والخارق والصدق هو المدلول عليه فلا يكون ذلك كذلك إلا مع هذا وأما وجود الخارق مجردا عن الدعوى فليس بدليل ولا فرق عندهم بين خارق وخارق وخارق معتاد عند قوم دون قوم وليس لهم ضابط في العادات ولسائل أن يقول جميع ما يفعله الله من الآيات في العالم فهو دليل على صدق الانبياء ومستلزم له وإن كانت الآيات معتادة لجنس الانبياء أو لجنس الصالحين الذين يتبعون الانبياء فهي مستلزمة لصدق مدعي النبوة فانها إذا لم تكن إلا لنبي أو من يتبعه لزم أن يكون من أحد القسمين والكاذب في دعوى النبوة ليس واحدا منهما فالتابع للانبياء الصالح لا يكذب في دعوى النبوة قط ولا يدعيها إلا وهو صادق كالانبياء المتبعين لشرع موسى فاذا كان آية نبي إحياء الله الموتى لم يمتنع أن يحي الله الموتى لنبي آخر أو لمن يتبع الانبياء كما قد أحيي الميت لغير واحد من الانبياء ومن تبعهم وكان ذلك آية على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ونبوة من قبله إذا كان إحياء الموتى مختصا بالانبياء وأتباعهم وكذلك ما يفعله الله من الآيات والعقوبات بمكذبي الرسل كتغريق فرعون وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر العاتية وإهلاك قوم صالح بالصيحة وأمثال ذلك فان هذا جنس لم يعذب به إلا من كذب

الرسل فهو دليل على صدق الرسل وقد يميت الله بعض الناس بأنواع معتادة من البأس كالطواعين ونحوها لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل أما ما عذب الله به مكذبي الرسل فمختص بهم ولهذا كان من آيات الله كما قال وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وكذلك ما يحدثه من أشراط الساعة كظهور الدجال ويأجوج ومأجوج وظهور الدابة وطلوع الشمس من مغربها بل والنفخ في الصور وغير ذلك هو من آيات الانبياء فانهم أخبروا به قبل ان يكون فكذبهم المكذبون فاذا ظهر بعد مئين أو ألوف من السنين كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقهم ولم يكن هذا إلا لنبي أو لمن يخبر عن نبي والخبر عن النبي هو خبر النبي ولهذا كان وجود ما أخبر به الرسول من المستقبلات من آيات نبوته إذا ظهر المخبر به كما كان أخبر فيما مضى عرف صدقه فيما أخبر به إذ كان هذا وهذا لا يمكن أن يخبر به إلا نبي أو من أخذ عن نبي وهو لم يأخذ عن أحد من الانبياء شيئا فدل على نبوته ولهذا يحتج الله له في القرآن بذلك كما بسط في غير هذا الموضع وأخبار الكهان فيها كذب كثير والكاهن قد عرف أنه يكذب كثيرا مع فجوره قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والكهانة جنس معروف ومعروف أن الكاهن يتلقى عن الشيطان ولا بد من كذبهم وفجورهم والنبي لا يكذب قط ولا يكون إلا برا تقيا فالفرق بينهما ثابت في نفس صفاتهما وأفعالهما وآياتهما لا يقول عاقل إن مجرد ما يفعله الكاهن هو دليل إن اقترن بصادق وليس بدليل إذا لم يقترن بصادق وانه متى ادعاه كاذب لم يظهر على يده وهذا أيضا باطل
ويظهر بالوجه السادس وهو أنه قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة وأتوا بخوارق من جنس خوارق الكهان والسحرة ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان وكانوا كاذبين فبطل قولهم إن الكذاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان فلا بد أن يمنعه الله ذلك الخارق أو يقيض له من يعارضه وهذا كالاسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن في حياة النبي صلى الله عليه و سلم واستولى على اليمن وكان معه

شيطان سحيق ومحيق وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان وما عارضه أحد وعرف كذبه بوجوه متعددة وظهر من كذبه وفجوره ما ذكره الله بقوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وكذلك مسيلمة الكذاب وكذلك الحارث الدمشقي ومكحول الحلبي وبابا الرومي لعنة الله عليهم وغير هؤلاء كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان
السابع أن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبي بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها بل هي دليل على نبوته وان خلت عن هذين القيدين وهذا كإخبار من تقدم بنبوة محمد فانه دليل على صدقه وان كان هو لم يعلم بما أخبروا به ولا يستدل به وأيضا فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعاف من كان محتاجا اليه وغير ذلك كله من دلائل النبوة ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها بل لحاجة المسلمين اليها وكذلك إلقاء الخليل في النار إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم الى التوحيد
الثامن أن الدليل الدال على المدلول عليه ليس من شرط دلالته استدلال أحد به بل ما كان النظر الصحيح فيه موصولا الى علم فهو دليل وان لم يستدل به أحد فالآية أدلة وبراهين تدل سواء استدل بها النبي أو لم يستدل وما لا يدل اذا لم يستدل به لا يدل إذا استدل به ولا ينقلب ما ليس بدليل دليلا اذا استدل به مدع لدلالته
التاسع أن يقال آيات الانبياء لا تكون إلا خارقة للعادة ولا تكون مما يقدر أحد على معارضتها فاختصاصها بالنبي وسلامتها عن المعارضة شرط فيها بل وفي كل دليل فانه لا يكون دليلا حتى يكون مختصا بالمدلول عليه ولا يكون مختصا إلا اذا سلم عن المعارضة فلم يوجد مع عدم المدلول عليه مثله وإلا اذا وجد هو أو مثله

بدون المدلول لم يكن مختصا فلا يكون دليلا لكن كما أنه لا يكفي مجرد كونه خارقا بعادة أولئك القوم دون غيرهم فلا يكفي أيضا عدم معارضة أولئك القوم بل لا بد أن يكون مما لم يعتده غير الانبياء فيكون خارقا لعادة غير الانبياء فمتى عرف أنه يوجد لغير الانبياء بطلت دلالته ومتى عارض غير النبي النبي بمثل ما أتى به بطل الاختصاص وما ذكره المعتزلة وغيرهم كابن حزم من أن آيات الانبياء مختصة بهم كلام صحيح لكن كرامات الاولياء هي من دلائل النبوة فانها لا توجد إلا لمن اتبع النبي الصادق فصار وجودها كوجود ما أخبر به النبي من الغيب وأما ما يأتي به السحرة والكهان من العجائب فتلك جنس معتاد لغير الانبياء وأتباعهم بل الجنس معروف بالكذب والفجور فهو خارق بالنسبة الى غير أهله وكل صناعة فهي خارقة عند غير أهلها ولا تكون آية وآيات الانبياء هي خارقة لغير الانبياء وان كانت معتادة للانبياء
العاشر أن آيات الانبياء خارجة مقدور من أرسل الانبياء اليه وهم الجن والانس فلا تقدر الانس والجن أن يأتوا بمثل معجز الانبياء كما قال تعالى قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وأما الملائكة فلا تضر قدرتهم على مثل ذلك فان الملائكة انما تنزل على الانبياء لا تنزل على السحرة والكهان كما أن الشياطين لاتتنزل على الانبياء والملائكة لا تكذب على الله فاذا كانت الآيات من أفعال الملائكة مث أخبارهم للنبي عن الله بالغيب ومثل نصرهم له على عدوه وإهلاكهم له نصرا وهلاكا خارجين عن العادة كما فعلته الملائكة يوم بدر وغيره وكما فعلت بقوم لوط وكما فعلت بمريم والمسيح ونحو ذلك وكاتيانهم لسليمان بعرش بلقيس فقد روي أن الملائكة جاءته به وهي أقدر من الجن لم يكن هذا خارجا عما اعتاده الانبياء بل هذا ليس لغير الانبياء فلا يقال ان غير الانبياء اعتادوه فنقضت عادتهم بل هذا لم يعتده إلا الانبياء وهو مناقض لجنس عادات الآدميين بمعنى انه لا يوجد فيما

اعتاده بنو آدم في جميع الأصناف غير الانبياء كما اعتادوا العجائب من السحر والكهانة والصناعات العجيبة وما يستعينون عليه بالجن والانس والقوى الطبيعية مثل الطلاسم وغيرها فكل هذا معتاد معروف لغير الانبياء وهؤلاء جعلوا الطلاسم من جنس المعجزات وقالوا لو أتى بها نبي لكانت آية له واذا أتى بها من لم يدع النبوة جاز وان ادعاها كاذب سلبه الله علمها أو قيض له من يعارضه وهذا قول قبيح فانه لو جعل شيء من معجزات الانبياء وآياتهم من جنس ما يأتي به ساحر أو كاهن أو مطلسم أو مخدوم من الجن لاستوى الجنسان ولم يكن فرق بين الأنبياء وبين هؤلاء ولم يتميز بذلك النبي من غيره وهذا مما عظم غلط هؤلاء فيه فلم يعرفوا خصائص النبي وخصائص آياته كما أن المتفلسفة أبعد منهم عن الايمان فجعلوا للنبوة ثلاث خصائص حصول العلم بلا تعلم وقوة نفسه المؤثرة في هيولي العالم وتخيل السمع والبصر وهذه الثلاثة توجد لكثير من عوام الناس ولم يفرقوا بين النبي والساحر إلا بأن هذا بر وهذا فاجر والقاضي أبو بكر وأمثاله يجعلون هذا الفرق سمعيا والفرق الذي لا بد منه عندهم الاستدلال بها والتحدي بالمثل وكل من هؤلاء وهؤلاء أدخلوا مع الانبياء من ليس بنبي ولم يعرفوا خصائص الانبياء ولا خصائص آياتهم فلزمهم جعل من ليس بنبي نبيا أو جعل النبي ليس بنبي اذ كان ما ذكروه في النبوة مشتركا بين الانبياء وغيرهم فمن ظن أنه يكون لغير الانبياء قدح في الانبياء أن يكون هذا هو دليلهم بوجود مثل ما جاءوا به لغير النبي ومن ظن أنه لا يكون إلا لنبي إذا رأى من فعله من متنبئ كاذب وساحر وكاهن ظن أنه نبي والايمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والايمان والكفر ولم يميز بين الخطأ والصواب ولما كان الذين اتبعوا هؤلاء وهؤلاء من المتأخرين مثل أبي حامد والرازي والآمدي وأمثالهم هذا ونحوه مبلغ علمهم بالنبوة لم يكن لها في قلوبهم من العظمة ما يجب لها فلا يستدلون بها على الامور العلمية الخبرية وهي خاصة النبي وهو الاخبار عن الغيب والانباء به فلا

يستدلون بكلام الله ورسوله على الإنباء بالغيب التي يقطع بها بل عمدتهم ما يدعونه من العقليات المتناقضة ولهذا يقرون بالحيرة في آخر عمرهم كما قال الرازي ... نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ... وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ... ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ...
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي
الوجه الحادي عشر أن آيات الانبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الانبياء وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم وذلك مثل تغريق الله لجميع أهل الأرض إلا لنوح ومن ركب معه في السفينة فهذا لم يكن قط في العالم نظيره وكذلك إهلاك قوم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد مع كثرتهم وقوتهم وعظم عماراتهم التي لم يخلق مثلها في البلاد ثم أهلكوا بريح صرصر عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوما حتى صاروا كلهم كأنهم أعجاز نخل خاوية ونجا هود ومن اتبعه فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم صالح أصحاب مدائن ومساكن في السهل والجبل وبساتين أهلكوا كلهم بصيحة واحدة فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم لوط أصحاب مدائن متعددة رفعت الى السماء ثم قلبت بهم وأتبعوا بحجارة من السماء تتبع شاذهم ونجا لوط وأهله إلا امرأته أصابها ما أصابهم فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم فرعون وموسى جمعان

عظيمان ينفرق لهم البحر كل فرق كالطود العظيم فيسلك هؤلاء ويخرجون سالمين فاذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء فهذا لم يوجد نظيره في العالم فهذه آيات تعرف العقلاء عموما أنها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم وقد يحصل لبعض الناس طاعون ولبعضهم جدب ونحو ذلك وهذا مما اعتاده الناس وهو من آيات الله من وجه آخر بل كل حادث من آيات الله تعالى ولكن هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد وكذلك الكعبة فانها بيت من حجارة بواد غير ذي زرع ليس عندها أحد يحفظها من عدو ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها فليس عندها رغبة ولا رهبة ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة فكل من يأتيها يأتيها خاضعا ذليلا متواضعا في غاية التواضع وجعل فيها من الرغبة أن يأتيها الناس من أقطار الارض محبة وشوقا من غير باعث دنيوي وهي على هذه الحال من ألوف من السنين وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها والملوك ينبون القصور العظيمة فتبقى مدة ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله عى طول الزمان وقد يستولي العدو عليه كما استولى على بيت المقدس والكعبة لها خاصة ليست لغيرها وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم فانهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك وأن ما بني وبقي فقد بني بطالع سعيد فحاروا في طالع الكعبة اذ لم يجدوا في الاشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير الى جهتها واذا وجهوه الى غير جهتها توجه ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجا بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم فآيات الانبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم والدليل يجب أن يكون مختصا بالمدلول عليه لا يوجد

مع عدمه لا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول كما أن الحادث لا بد له من محدث فيمتنع وجود حادث بلا محدث ولا يكون المحدث إلا قادرا فيمتنع وجود الاحداث من غير قادر والفعل لا يكون الا من عالم ونحو ذلك فكذلك ما دل على صدق النبي يمتنع وجوده إلا مع كون النبي صادقا ولم يجعلوا آيات الانبياء تدل دلالة عقلية مستلزمة للمدلول ولا تدل بجنسها ونفسها بل قال بعضهم قد تدل وقد لا تدل وقال آخرون تدل مع الدعوى ولا تدل مع عدم الدعوى وهذا يبطل كونها دليلا وآخرون أرادوا تحقيق ذلك فقالوا تدل دلالة وضعية من جنس دلالة اللفظ على مراد المتكلم تدل إن قصد الدلالة ولا تدل بدون ذلك فهي تدل مع الوضع دون غيره فيقال لهم وما يدل على قصد المتكلم هو أيضا دليل مطرد يمتنع وجوده بدون المدلول ودلالته تعلم بالعقل فجميع الادلة تعلم بالعقل دلالتها على المدلول فان ذلك اللفظ إنما يدل اذا علم أن المتكلم أراد به هذا المعنى وهذا قد يعلم ضرورة وقد يعلم نظرا فقد يعلم قصد المتكلم بالضرورة كما يعلم أحوال الانسان بالضرورة فيفرق بين حمرة الخجل وصفرة الوجل وبين حمرة المحموم وصفرة المريض بالضرورة وقد يعلم نظرا واستدلالا كما يعلم أن عادته إذا قال كذا أن يريد كذا وانه لا ينقض عادته إلا اذا بين ما يدل على انتقاضها فيعلم هذا كما يعلم سائر العاديات مثل طلوع الشمس كل يوم والهلال كل شهر وارتفاع الشمس في الصيف وانخفاضها في الشتاء ومن هذا سنة الله في الفرق بين الانبياء وأتباعهم وبين مكذبهم قال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وقال تعالى فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد فان هذه العجائب والآيات التي للانبياء

تارة تعلم بمجرد الاخبار المتواترة وان لم نشاهد شيئا من آثارها وتارة تشاهد بالعيان آثارها الدالة على ما حدث كما قال تعالى وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وقال تعالى فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا وقال تعالى وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وقال تعالى ان في ذلك لآيات للمتوسمين وانها لبسبيل مقيم ان في ذلك لأية للمؤمنين وان كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وانهما لبامام مبين أي لبطريق موضح متبين لمن مر به آثارهم وهذا الاخبار كانت منتشرة متواترة في العالم وقد علم الناس أنها آيات للانبياء وعقوبة لمكذبيهم لهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار كما قال مؤمن آل فرعون يا قوم إني أخاف مثل يوم الآخرة مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد وقال شعيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد والقرآن آيته باقية على طول الزمان من حين جاء به الرسول تتلى آيات التحدي به ويتلى قوله فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين فأتوا بعشر سور مثله و بسورة من مثله ويتلى قوله قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الامر وقطعه بذلك مع علمه بكثرة الخلق دليل على أنه كان خارقا يعجز الثقلين عن معارضته وهذا لا يكون لغير الانبياء ثم مع طول الزمان قد سمعه الموافق والمخالف والعرب والعجم وليس في الامم من أظهر كتابا يقرأه الناس وقال انه مثله وهذا يعرفه كل أحد وما من كلام تكلم به الناس وان كان في أعلى طبقات الكلام لفظا ومعنى إلا وقد قال الناس نظيره وما يشبهه ويقاربه سواء كان شعرا أو خطابة أو كلاما في العلوم والحكمة والاستدلال والوعظ والرسائل وغير ذلك وما وجد من ذلك شيء إلا ووجد ما يشبهه ويقاربه والقرآن مما يعلم الناس عربهم وعجمهم أنه لم يوجد

له نظير مع حرص العرب وغير العرب على معارضته فلفظه آية ونظمه آية وإخباره بالغيوب آية وأمره ونهيه آية ووعده ووعيده آية وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية واذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم واذا قيل إن التوراة والإنجيل والزبور لم يوجد لها نظير أيضا لم يضرنا ذلك فإنا قلنا إن آيات الانبياء لا تكون لغيرهم وان كانت لجنس الانبياء كالإخبار بغيب الله فهذه آية يشتركون فيها وكذلك إحياء الموتى قد كان آية لغير واحد من الانبياء غير المسيح كما كان ذلك لموسى وغيره وليس المقصود هنا ذكر تفضيل بعض الانبياء على بعض بل المقصود أن جنس الانبياء متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم التي يعلم العقلاء أنها لم توجد لغيرهم فيعلمون أنها ليست لغيرهم لاعادة ولا خرق عادة بل اذا عبر عنها بأنها خرق عادة وبأنها من العجائب فالأمر العجيب هو الخارج عن نظائره وخارق العادة ما خرج عن الامر المعتاد فالمراد بذلك أنها خارجة عن الامر المعتاد لغير الانبياء وأنها من العجائب الخارجة عن النظائر فلا يوجد نظيرها لغير الأنبياء واذا وجد نظيرها سواء كان أعظم منها أو دونها لنبي فذلك توكيد لها أنها من خصائص الانبياء فان الانبياء يصدق بعضهم بعضا فآية كل نبي لجميع الانبياء كما أن آيات أتباعهم آيات لهم أيضا وهذا أيضا من آيات الانبياء وهو تصديق بعضهم لبعض فلا يوجد من أصحاب الخوارق العجيبة التي تكون بغير الانبياء كالسحرة والكهنة واهل الطبائع والصناعات الا من يخالف بعضهم بعضا فيما يدعو اليه ويأمر به ويعادي بعضهم بعضا وكذلك أتباعهم اذا كانوا من أهل الاستقامة فما أتى به الاول من الآيات فهو دليل على نبوته ونبوة من يبشر به وما أتى به الثاني فهو دليل على نبوته ونبوة من يصدقه ممن تقدم فما أتى به موسى والمسيح وغيرهما من الآيات فهي آيات لنبوة محمد لإخبارهم بنبوته فكان هذا الخبر مما دلت آياتهم على صدقه وما أتى به محمد من الآيات فهو دليل على إثبات جنس الانبياء مطلقا وعلى نبوة كل من سمي في القرآن خصوصا اذا كان هذا مما أخبر به

محمد صلى الله عليه و سلم عن الله ودلت على صدقه فيما يخبر به عن الله وحينئذ فاذا قدر أن التوراة أو الانجيل أو الزبور معجز لما فيه من العلوم والإخبار عن الغيوب والامر والنهي ونحو ذلك لم ينازع في ذلك بل هذا دليل على نبوتهم صلوات الله عليهم وعلى نبوة من أخبروا بنبوته ومن قال إنها ليست بمعجزة فان أراد ليست معجزة من جهة اللفظ والنظم كالقرآن فهذا ممكن وهذا يرجع فيه الى أهل اللغة العبرانية وأما كون التوراة معجزة من حيث المعاني لما فيها من الإخبار عن الغيوب أو الأمر والنهي فهذا لا ريب فيه ومما يدل على أن كتب الانبياء معجزة ان فيها الإخبار بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم قبل أن يبعث بمدة طويلة وهذا لا يمكن علمه بدون إعلام الله لهم وهذا بخلاف من أخبر بنبوته من الكهان والهواتف فان هذا إنما كان عند قرب مبعثه لما ظهرت دلائل ذلك واسترقته الجن من الملائكة فتحدثت به وسمعته الجن من أتباع الانبياء فالنبي الثاني اذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبي الاول وقد وصل اليه من جهته لم يكن آية له فان العلماء يشاركونه في هذا وأما اذا أخبر بقدر زائد لم يوجد في خبر الأول او كان ممن لم يصل إليه خبر نبي غيره كان ذلك آية له كما يوجد في نبوة أشعيا وداود وغيرهما من صفات النبي مالا يوجد مثله في توراة موسى فهذه الكتب معجزة لما فيها من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا نبي وكذلك فيها من الامر والنهي والوعد والوعيد ما لا يأتي به إلا نبي أو تابع نبي وما أتى أتباع الانبياء من جهة كونهم أتباعا لهم مثل أمرهم بما أمروا به ونهيهم عما نهوا عنه ووعدهم بما وعدوا به ووعيدهم بما يوعدون به فانه من خصائص الانبياء والكذاب المدعي للنبوة لا يأمر بجميع ما أمرت به الانبياء وينهى عن كل ما نهوا عنه فان ذلك يفسد مقصوده وهو كاذب فاجر شيطان من أعظم شياطين الانس والذي يعينه على ذلك من أعظم شياطين الجن وهؤلاء لا يتصور أن يأمروا بما أمرت به الانبياء وينهوا عما نهوا عنه لأن ذلك يناقض مقصودهم بل وان أمروا بالبغض في ابتداء الامر من يخدعونه ويربطونه فلا بد أن يناقضوا فيأمروا بما نهت عنه الانبياء ولا يوجبوا ما أمرت به الانبياء كما جرى مثل ذلك لمن ادعى النبوة من الكذابين ولمن أظهر موافقة الانبياء وهو في

أقسام الكتاب
1 2 3