كتاب : كتاب المواقف
المؤلف : عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي

بسم الله الرحمن الرحيم


سبحات من تقدست سبحان جماله عن سمة الحدوث والزوال وتنزهت سرادقات جلاله عن وصمة التغير والانتقال تلألأت على صفحات الموجودات أنوار جبروته وسلطانه وتهللت على وجنات الكائنات آثار ملكوته وإحسانه تحيرت العقول والأفهام في كبرياء ذاته وتولهت الأذهان والأوهام في بيداء عظمة صفاته يا من دل على ذاته بذاته وشهد بوحدانيته نظام مصنوعاته صل على نبيك المصطفى ورسولك المجتبي محمد المبعوث بالهدى إلى كافة الورى وعلى آله البررة الأتقياء وأصحابه الخيرة الأصفياء ما تعاقبت الظلم والضياء
وبعد فإن أنفع المطالب حالا ومالا وأرفع المآرب منقبة وكمالا وأكمل المناصب مرتبة وجلالا وأفضل الرغائب أبهة وجمالا هو المعارف الدينية والمعالم اليقينية إذ يدور عليها الفوز بالسعادة العظمى والكرامة الكبرى في الآخرة والأولى وعلم الكلام في عقائد الإسلام من بينها

شأنا وأقواها برهانا وأوثقها بنيانا وأوضحها تبيانا فإنه مأخذها وأساسها وإليه يستند اقتناصها واقتباسها بل هو كما وصف به رئيسها ورأسها ومما صنف فيه من الكتب المنقحة المعتبرة وألف فيه من الزبر المهذبة المحررة كتاب المواقف الذي إحتوى من أصوله وقواعده على أهمها وأولاها ومن شعبه وفوائده على ألطفها وأسناها ومن دلائله العقلية على أعمدها وأجلاها ومن شواهده النقلية على أفيدها وأجداها كيف لا وقد انطوى على خلاصة أبكار الأفكار وزبدة نهاية العقول والأنظار ومحصل ما لخصه لسان التحقيق وملخص ما حرره بنان التدقيق في ضمن عبارات رائقة معجزة وإشارات شائقة موجزة فصار بذلك في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار واستمال إليه بصائر أولي الأبصار من أذكياء الأمصار والأقطار فاستهتروا بكنوز عباراته الجامعة ولم يجدوا عليها دليلا واستهيموا برموز إشاراته اللامعة ولم يهتدوا إليها سبيلا فاجتمع إلي نفر من أجلة الأحباب المتطلعين إلى سرائر الكتاب واقترحوا علي أن أكشف لهم عن مخدراته الأستار وأبرز لهم من نقاب الحجاب هاتيك الأسرار ليجتلوها بأعينهم متبرجات بزينتها متبخترات بمحاسن فطرتها فأسعفتهم إلى ذلك متمسكا بحبل التوفيق ومستهديا إلى الطريق وشرحته بحمد الله سبحانه شرحا يذلل من شوارده صعابها ويميط عن خرائده نقابها يهتدي به السادي إلى لب الألباب ويطلع به الناشي على التعجب العجاب وضمنته جميع ما يحتاج إليه من بيان ما فيه وما له وما عليه مراعيا في ذلك شريطة الإنصاف مجانبا عن طريقة الاعتساف ولما تيسر لي إتمامه وختم بالخير اختتامه خبرت بالدعاء لمن أيده الله بالسلطنة العظمى والخلافة الكبرى وزاده بسطة في الفضل والندى وشيد ملكه بجنود لا قبل لها من العدى وأمده بمعقبات من السموات العلى يحفظونه من بين يديه ومن خلفه بأمر ربه الأعلى وذلك

فضل الله يؤتيه من يشاء ليحق به الحق ويقطع دابر الكافرين ويبطل به الباطل ويشفي غيظ صدور قوم مؤمنين ويجعل له لسان صدق في الآخرين ويرفع مكانه يوم الدين في أعلى عليين وما هو إلا حضرة المولى السلطان الأعظم والخاقان الأعلم الأكرم مالك رقاب الأمم من طوائف العرب والعجم المختص من لدن حكيم عليم بفضل جسيم وخلق عظيم ولطف عميم شمل الورى ألطافه وعمهم أعطافه وصانهم أكنافه من كل ما لا يرتضي مكارمه لا تحصى ومآثره لا تستقصى
مولى عطاياه سمت فوق المدى ... وتباعدت عن رتبة الإدراك
الدر والدرى خافا جوده ... فتحصنا في البحر والأفلاك
من التجأ إلى جنابه يجد له مكانا عليا ومن أعرض عن بابه لم يجد له نصيرا ولا وليا إذا هم بمنقبة أمضى وإذا عن له مكرمة أسرع إليها ومضى
عزماته مثل السيوف صوارما ... لو لم يكن للصارمات فلول
ناشر العدل والإحسان على الأنام وباسط الأمن والأمان في الأيام هو الذي رفع رايات العلم والكمال بعد انتكاسها وعمر رباع الفضل والإفضال بعد اندراسها فعادت رياض العلوم إلى روائها مخضرة الأطراف وآضت حدائقها إلى بهائها مزهرة الجوانب والأكناف ملجأ سلاطين العالم بالاستحقاق ومفخر أساطين بني آدم في الآفاق السلطان المؤيد المنصور المظفر غياث الحق والدولة والدين بير محمد اسكندر خلد الله ملكه وسلطانه وأفاض على العالمين بره وإحسانه
وهذا دعاء لا يرد لأنه ... صلاح لأصناف البرية شامل
وها أنا أفيض في المقصود متوكلا على الصمد المعبود فأقول قال المص

8 - بسم الله الرحمن الرحيم
ضمن خطبة كتابه الإشارة إلى مقاصد علم الكلام رعاية لبراعة الاستهلال فبسمل أولا تيمنا ثم قال الحمد لله العلي شأنه أمره وحاله في ذاته وصفاته وأفعاله فإنه تعالى جامع لجهات علو الشأن لا يتطرق إلى سرادقات قدسه شائبة النقصان الجلي برهانه حجته القاطعة التي نصبها دالة على وجود ذاته واتصافه بكمالاته وهي آياته المنبثة في الآفاق والأنفس تجتليها بصائر أولي الأبصار وتشاهد بها أسرارا يضيق عن تصويرها نطاق الإظهار القوي سلطانه سلطنته ونفاذ حكمه إذ لا يستعصى على إرادته شيء من الأشياء ولا يجري في ملكوته إلا ما يشاء الكامل حوله قوته المحولة للممكنات من حال إلى حال إيجادا وإفناء إعادة وابداء الشامل طوله فضله ونواله فإن رحمته وسعت كل شيء على حسب حاله ثم أنه قرر جميع ما ذكر بما اقتبس من قوله تعالى الذي خلق سبع سموات
هي أفلاك الكواكب السبعة السيارة فإن الفلكين الآخرين يسميان كرسيا وعرشا
ومن الأرض مثلهن
مثل السموات في العدد كما ورد في الأثر من أن الأرض أيضا سبع طبقات وفي كل طبقة منها مخلوقات وما يعلم جنود ربك إلا هو
وقد تؤول تارة بالأقاليم السبعة وأخرى بطبقات العناصر الأربعة حيث

سبعا بكمال قدرته متعلق بخلق وجعل الأمر أي حكمه أو تدبيره يتنزل بينهن من السماء السابعة إلى الأرض السفلى ببالغ حكمته التي هي إتقانه وإحكامه في علمه وفعله وكرم بني آدم نوع الإنسان على غيره بالعقل الغريزي أي بالقوة المستعدة لإدراك المعقولات التي جبلت عليها فطرتهم ويسمى عقلا هيولانيا والعلم الضروري الحاصل لهم بلا اكتساب المسمى عقلا بالملكة وأهلهم جعلهم أهلا وفي نسخة الأصل وأهله بتأويل الإنسان للنظر والاستدلال بالعلوم الضرورية والارتقاء في مدارج الكمال وذلك بأن يرتقي أولا من الضروريات إلى مشاهدة النظريات ويسمى عقلا مستفادا ثم تتكرر مشاهدتها مرة بعد أخرى حتى تحصل له ملكة استحضارها متى أريد بلا تجشم كسب جديد ويسمى عقلا بالفعل وهو وإن كان متأخرا عن المستفاد في الحدوث لكنه وسيلة إليه متقدمة عليه في البقاء وقد يقال العقل المستفاد هو أن تصير النفس الناطقة بحيث تشاهد معقولاتها بأسرها دفعة واحدة فلا يغيب عنها شيء منها أصلا وهذا هو الغاية القصوى في الارتقاء في الكمالات العلمية ومستقره الدار الآخرة وأما في الدار الدنيا فقد يرتجى لمحات منه للنفوس المجردة عن العلائق البشرية ثم أمرهم عطف على كرم مع ما عطف عليه وكلمة ثم على معناها الأصلي الذي هو المهلة والمراد أنه تعالى أمرهم على ألسنة الرسل بالتفكر في مخلوقاته وأحوالها والتدبر لمصنوعاته وأطوارها وفي قوله ليؤديهم أي التفكر والتدبر فيها مع ما في حيزه نوع تفصيل لما أجمله من مباحث الإلهيات والاستدلال عليها بالممكنات في قوله العلي شأنه وما يعقبه إلى العلم بوجود صانع لأن المخلوقات حادثة ولا بد للحادث من صانع قديم لا أول لوجوده إذ لو كان أيضا حادثا لاحتاج

إلى صانع آخر فتسلسل أو دار قيوم قائم بنفسه مقيم لغيره فإن ذلك لازم لكونه صانعا حقيقيا
حكيم لظهور إتقانه في آثاره الصادرة عنه واحد في صفات الألوهية لا شريك له فيها وإلا لاختل النظام المشاهد في العالم
أحد في حد ذاته لا تركيب فيه وإلا لكان ممكنا وحادثا
فرد لا شفع له من صاحبة أو ولد لعدم مجانسته غيره
صمد سيد يقصد في الحوائج من صمده يصمده صمدا أي قصده منزه عن الأشباه المشاركة له في صفاته والأمثال الموافقة إياه في حقيقة ذاته
متصف بصفات الجلال أي العظمة يقال جل فلان إذا عظم قدره وجلال الله عظمته
مبرأ عن شوائب النقص جامع لجهات الكمال أي في الذات

والصفات والأفعال غني في جميع ذلك عما سواه فلا يحتاج إلى شيء من الأشياء فيما ذكرناه
عالم بجميع المعلومات لما سيأتي من أن المقتضى لعلمه خصوصية ذاته والمصحح للمعلومية ذوات المفهومات ولا شك أن نسبة ذاته إلى جميعها على السواء فوجب عموم علمه إياها فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء أي لا يبعد ولا يغيب عنه أقل قليل هو مثل في القلة فكيف بالزائد المشتمل عليه
قادر على جميع الممكنات لأن مقتضى القدرة ذاته ومصحح المقدورية هو الإمكان المشترك بينها فوجب شمول قدرته أياها على سبيل الاختراع والإنشاء أي بلا احتذاء مثال يقال اخترعه أي ابتدعه وأصل الخرع هو الشق وأنشأ يفعل كذا أي ابتدأ يفعل كذا
مريد لجميع الكائنات خيرها وشرها لأن وقوع ما لا يريده بل يكرهه كما زعمت المعتزلة يستلزم عجزه المنافي للألوهية
تفرد بمتقنات الأفعال بالأفعال المتقنة المحكمة الخالية عن الاختلال وأحاسن الأسماء وإنما اختار صيغة الفعل أعني تفرد على متفرد تنبيها على أنه استئناف يدل على اتصاف ذاته بما ذكر من الصفات فإن الإتقان المشير إليه قوله تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء

يدل على ذلك علمه وقدرته وإرادته كما أن أسماءه الحسنى تنبىء عن اتصاف المسمى بالكمالات والتبرؤ من النقائص
أزلي هو أعم من القديم لأن إعدام الحوادث أزلية وليست بقديمة وإنما ذكره مع الاستغناء عنه بقديم ليقارنه لفظ أب دي فإنهما يذكران غالبا معا
توحد بالقدم والبقاء ربط بالأزلي على طريق الاستئناف بصيغة الفعل توحده بالقدم وذلك لا ينافي كون صفاته الزائدة على ذاته قديمة لأنها ليست مغايرة له وربط بالأبدي توحده بالبقاء فإنه الباقي بذاته وما سواه إنما هو باق به وبإرادته وقضى أي حكم على ما عداه بالعدم والفناء هو العدم الطارىء على الوجود فهو أخص من العدم مطلقا له الملك توطئة لما يذكره من صفاته الفعلية وما يتعلق بها وإنما ذكرها بصيغ الأفعال لمناسبتها إياها يحيي ويبيد من الإبادة بمعنى الإهلاك ويبديء ويعيد وينقص من خلقه ويزيد كل ذلك على وفق مشيئته لا يجب عليه شيء من الأفعال كما يزعمه أهل الاعتزال إذ لا حاكم فوقه يوجبه عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكون العقل حاكما باطلا كما ستعرفه له الخلق والأمر له الإيجاد والحكم يفعل ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد بحكمته لا مانع لمشيئته ولا راد لحكمه لا تعلل أفعاله بالأغراض والعلل لأن ثبوت الغرض للفاعل من فعل يستلزم استكماله بغيره وثبوت علة لفعله يستلزم نقصانه في فاعليته وليس من يلزم من ذلك عبث في أفعاله تعالى لأنها مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى إلا أنها ليست عللا لأفعاله ولا أغراضا له منها
وقدر الأرزاق والآجال في الأزل أشار به إلى القضاء الذي يتبعه القدر والرزق عندنا ما ينتفع به حلالا كان أو حراما والأجل يطلق على جميع مدة الشيء كالعمر وعلى آخره الذي ينقرض فيه كوقت الموت
وقوله ثم أنه بعث إليهم الأنبياء والرسل إشارة إلى مباحث النبوات

وكلمة ثم للتراخي في الرتبة فإن البعثة مشتملة على أحكام كثيرة أشار إليها ههنا سوى الأمر بالتفكر الذي ذكره فيما سبق ولا يجوز حملها على المهلة بناء على أن ذلك الأمر يعرف بالعقل فإنه باطل عند المصنف والرسول نبي معه كتاب والنبي غير الرسول من لا كتاب معه بل أمر بمتابعة شرع من قبله كيوشع عليه السلام مثلا مصدقا لهم للأنبياء والرسل بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فإن ما يصدق الله به أنبياءه في دعوى النبوة يسمى معجزة لإعجازه الناس عن الإتيان بمثله وآية أيضا لكونه علامة دالة على تصديقه إياهم والباهرة الغالبة من بهر القمر إذا أضاء حتى غلب ضوءه ضوء الكواكب ليدعوهم بتسكين الواو إلى تنزيهه عن النقائص وتوحيده عن الشركاء وخص التوحيد بالذكر مع اندراجه في التنزيه لمزيد اهتمام بشأنه ويأمروهم بمعرفته بمعرفة وجوده وتعظيمه بإثبات الكمالات الوصفية الذاتية وتمجيده بإثبات الكمالات الفعلية تكميلا للمبعوث إليهم في قوتهم النظرية ويبلغوا أحكامه المتعلقة بأفعالهم إليهم تكميلا لهم في قوتهم العملية مبشرين ومنذرين بوعده بنعيمه المقيم ووعيده بنار الجحيم فأقام بهم على المكلفين الحجة وأوضح المحجة فانقطعت بذلك أعذارهم بالكلية قال الله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
وأما من نشأ على شاهق جبل ولم تبلغه دعوة نبي أصلا فإنه معذور عند الإشاعرة في ترك الأعمال والإيمان أيضا ثم ختمهم بأجلهم قدرا مرتبة وشرفا وأتمهم بدرا شرعا يهتدى به في ظلمات الهوى

وأشرفهم نسبا فإن الله اصطفاه من أشرف القبائل كما نطق به الحديث المشهور وأزكاهم مغرسا مكان غرس وأطيبهم منبتا موضع نبات وأكرمهم محتدا مكان إقامة من حتد بالمكان يحتد إذا أقام به والمراد بهذه الثلاثة مكة شرفها الله فإن الأماكن لها مدخل في زكاء الأخلاق وطهارتها وطيب الأوصاف ووسامتها وحسن الأفعال وكرامتها وهي أزكى البلاد عند المشركين الذين هم نجس قد طردوا عنها بقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام به عامهم هذا
وأطيبها وأحبها إلى رسول الله لقوله عليه السلام ما أطيبك من بلد وأحبك إلي
وأكرمها عند الله لقوله عليه السلام إنك لخير أرض وأحب أرض الله إلى الله
وأقوامهم دينا وأعدلهم ملة الدين والملة يتحدان بالذات ويختلفان بالاعتبار فإن الشريعة من حيث أنها تطاع تسمى دينا ومن حيث أنها يجتمع عليها تسمى ملة وإنما كان شرعه أقوم وأعدل لخلوه عن الآصار والتكاليف الشاقة التي كانت على اليهود من وجوب قطع موضع النجاسة وحرمة البيتوتة

مع الحائض في بيت واحد وتعين القود وعن التخفيف المفرط المفوت لمحاسن الآداب الذي كان في دين النصارى من مخامرة النجاسات ومباضعة الحيض وتعين العفو في القصاص إلى غير ذلك
وأوسطهم أمة الأوسط كالوسط بمعنى الأفضل وكذلك جعلناكم أمة وسطا
وأسدهم أصوبهم قبلة فإن الكعبة أول بيت وضع للناس مباركا وأسد ما استقبل إليه وأشدهم عصمة فإن الأنبياء معصومون وكان عليه الصلاة و السلام أشدهم وأقواهم في العصمة لأن الله تعالى أعانه على قرينه من الجن فلم يأمره إلا بخير
وأكثرهم حكمة علمية وعملية كما تشهد به سيرته لمن تتبعها وأعزهم نصرة فإنه خص بالرعب مسيرة شهر قال تعالى وينصرك الله نصرا عزيزا بالغا في العز والغلبة
سيد البشر كما اشتهر في الخبر
المبعوث إلى الأسود والأحمر إلى العرب والعجم وقيل إلى الأنس والجن
الشفيع المشفع المقبول الشفاعة يقال شفعته أي قبلت شفاعته يوم المحشر بكسر الشين من حشر يحشر ويحشر حبيب الله
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله

أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم كني عليه السلام بأبي القاسم إما لأن القاسم أكبر أولاده وإما لأنه يقسم للناس حظوظهم في دينهم ودنياهم وذكر الأب حينئذ مبالغة في مباشرة القسمة
وأنزل معه عطف على ختمهم وأشار إلى أظهر معجزاته الدالة على نبوته فإن الباقي على وجه كل زمان والدائر على كل لسان بكل مكان كتابا عربيا مبينا أي ظاهرا إعجازه أو مظهرا للأحكام من أبان بمعنى ظهر أو أظهر فأكمل لعباده دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا مأخوذ من قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية
كتابا بدل من كتابا عربيا
كريما مرضيا جامعا لمنافع لا تستقصى
وقرآنا مقروءا قديما لأن كلامه تعالى من صفاته الحقيقية التي لا مجال للحدوث فيها ذا غايات هي أواخر السور ومواقف هي فواصل الآيات محفوظا في القلوب ويروى في الصدور مقروءا بالألسن مكتوبا في المصاحف وصف القرآن بالقدم ثم صرح بما يدل على أن هذه العبارات المنظومة كما هو مذهب السلف حيث قالوا إن الحفظ والقراءة والكتابة حادثة لكن متعلقها أعني المحفوظ والمقروء والمكتوب قديم وما يتوهم من أن ترتب الكلمات والحروف وعروض الانتهاء والوقوف مما يدل على الحدوث فباطل لأن ذلك لقصور في آلات القراءة وأما ما اشتهر عن الشيخ أبي الحسن الأشعري من أن القديم معنى قائم بذاته تعالى قد عبر عنه بهذه العبارات الحادثة فقد قيل إنه غلط من الناقل منشأة اشتراك لفظ المعنى بين ما يقابل اللفظ وبين ما يقوم بغيره وسيزداد ذلك وضوحا فيما بعد إن شاء الله تعالى

لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا يجد إليه الباطل سبيلا من جهة من الجهات إلا أنه خص هاتين الجهتين لأن من يأتي شيئا يأتيه غالبا من قدامه أو من خلفه ولا يتطرق إليه نسخ أي لا ينتهي حكمه بعد زمانه عليه السلام وذلك لانقطاع الوحي وتقرر أحكامه إلى يوم القيامة
ولا تحريف في أصله بأن تبدل كلماته عن مواضعها كما فعلت اليهود بكلم التوراة أو وصفه بأن يغير مثلا إعرابه أو تشديده كما غيرت النصارى تشديد ما أنزل إليهم في الإنجيل من قوله ولد الله عيسى من جارية عذراء أي جعله متولدا منها وإنما لم يتطرق إلى القرآن تحريف أصلا لقوله تعالى وإنا له لحافظون
ولما توفاه إشارة إلى مباحث الإمامة فإنها وإن كانت من فروع الدين إلا أنها ألحقت بأصوله دفعا لخرافات أهل البدع والأهواء وصوتا للأئمة المهديين عن مطاعنهم كيلا يفضي بالقاصرين إلى سوء اعتقاد فيهم وفق أصحابه لنصب أكرمهم وأتقاهم يعني أبا بكر رضي الله عنه إذ قد نزل فيه وسيجنبها الأتقى
وقد علم أن أكرمهم عند الله أتقاهم وأشار إلى أن انعقاد إمامته كان بالبيعة والإجماع أحقهم بخلافته وأولاهم فإنه عليه السلام جعله خليفة له في إمامة الصلاة حال حياته فأبرم قواعد الدين أحكمها ومهد بسطها ووطأها من ذلك تصلبه في دفع مانعي الزكاة معللين بأن صلاته عليه السلام

كانت سكنا لهم دون صلاته ورفع مبانيه وشيد يقال شيد البناء طوله وأقام الأود ورتق الفتق الأود الاعوجاج والرتق ضد الفتق وهو الشق ولم الشعث يقال لم الله شعثه أي أصلح وجمع ما تفرق من أموره وسد الثلمة الخلل وقام قيام الأبد بأمر دينهم ودنياهم الأيد بوزن السيد هو القوي وجلب المصالح جذبها ودرأ المفاسد دفعها لأولاهم وأخراهم وكفاه في دفع المفاسد أن قتل مسيلمة الكذاب في خلافته وتبع من بعده من الخلفاء الراشدين سيرته واقتفى اتبع أثره هو بتحريك الثاء ما بقي من رسم الشيء والتزم وتيرته طريقته فجبروا فقهروا عتاة الجبابرة هما جمع العاتي وهو المتجاوز الحد وجمع الجبار وهو الذي يقتل على الغضب وقسروا أعناق الأكاسرة جمع كسرى بفتح الكاف وكسرها معرب خسرو وهو لقب ملوك الفرس حتى أضاءت بدينه الافاق وأشرقت الآفاق بذلك كل الإشراق وزينوا المغارب والمشارق بالمعارف بالعلوم والاعتقادات الحقة ومحاسن الأفعال المرضية ومكارم الأخلاق الزكية وطهروا من التطهير الظواهر من الفسوق من الخروج عن الطاعة والبطالة بكسر الباء وهي الكسالة المؤدية إلى إهمال المهمات والبواطن من الزيغ وهو الميل إلى العقائد الزائفة الباطلة والجهالة والحيرة وهي التردد بين الحق والباطل والضلالة وهي سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب صلى الله عليه صلاة تكافئ تماثل سابق بلائه سابق مشقته وعنائه في إزهاق الباطل وإفنائه وتضاهي تشابه حسن غنائه نفعه وكفايته في إظهار الحق

وإعلائه ما طلع نجم وهوى وعلى آله نجوم الهدى ومصابيح الدجى يهتدى بهم في مسالك الأفكار ومنازل الأعمال وعلى جميع أصحابه ممن هاجر إليه من أوطانه أو نصر وآوى في مكانه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه تسليما كثيرا وبعد شرع يبين الباعث على تأليف الكتاب فإن كمال كل نوع يعني أن كماله بعد تحصله وتكمله نوعا بمنوعه المسمى كمالا أول على الإطلاق إنما هو بحصول صفاته الخاصة به وصدور آثاره المقصودة منه ويسمى هذا الكمال كمالا ثانيا
وأشار إلى أنه قسمان أحدهما صفات تخصه قائمة به غير صادرة عنه كالعلم للإنسان مثلا والثاني آثار صادرة عنه مقصودة منه بخصوصه فتختص به أيضا كالكتابة الصادرة عنه وكالمضاء للسيف وبحسب زيادة ذلك المذكور أعني الكمال الثاني ونقصانه بفضل بعض أفراده أي أفراد ذلك النوع بعضا إلى أن يعد أحدهم بألف
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى المجد حتى عد ألف بواحد
بل يعد أحدهم سماء والآخر أرضا
الناس أرض بكل أرض ... وأنت من فوقهم سماء
وأما تفاضل الأنواع فيما بينها فبحسب تفاضل منوعاتها المستتبعة لخواصها وآثارها المقصودة منها كما أشار إليه بقوله والإنسان مشارك لسائر الأجسام في الحصول في الحيز في المكان والفضاء الخالي عن المتحيز وللنباتات في الإغتداء والنشوء والنماء وللحيوانات العجم في حياته بأنفاسه وحركته بالإدارة وإحساسه
وهذه الأمور المشتركة بينه وبين غيره ليست كمالا له من حيث أنه إنسان بل إنما هي للجسم مطلقا أو للجسم النامي أو للحيوان وإنما يتميز الإنسان عن هذه الأمور المشاركة فيما ذكر بما أعطي من القوة النطقية التي هي كماله الأول المنوع إياه وما يتبعها من الكمالات الثانية التي

بها تتفاضل أفراده بعضها عن بعض من العقل أي استعداده لإدراك المعقولات والعلوم الضرورية الحاصلة له باستعمال الحواس وإدراك المحسوسات والتنبه لما بينها من المشاركات والمباينات وأهليته للنظر والاستدلال وترقيه بذلك في درجات الكمال وعلمه بما أمكن واستحال فإذا كماله الأشرف الأعلى إنما هو بتعقل المعقولات الأولى واكتساب المجهولات منها وإن كانت الأخلاق الحسنة التابعة للأعمال الصالحة كمالا له معتدا به أيضا لكن الكمالات العلمية أرفع وأسنى إذ لا كمال له كمعرفته تعالى
والعلوم متشعبة متكثرة والإحاطة بجملتها متعسرة أو متعذرة فلذلك أي فلتعسر الإحاطة بل لتعذرها افترق أهل العلم زمرا فرقا وتقطعوا أي تقسموا أمرهم فيما بينهم زبرا هو بفتح الباء جمع زبرة وهي القطعة من الحديد ونحوها وبضمها جمع زبور بمعنى الكتاب أي اتخذوا أمر العلم وطلبهم إياه فيما بينهم قطعا مختلفة أو كتبا متفاوتة دائرا أمرهم فيه بين منقول متخالف الأصناف ومعقول متابين الأطراف وفروع متدانية الجنوب وأصول متشابكة العروق وتفاوت عطف على افترق حالهم في اقتناء العلوم وتفاضل رجالهم في الترقي إلى مراتبها إلى أن قال ابن عباس

رضي الله عنهما في درجاتهم إنها خمسمائة درجة ما بين الدرجتين من تلك الدرج مسيرة خمسمائة عام والمراد تصوير الكثرة لا الحصر في هذه العدة
وقال بعض أكابر الأئمة وأحبار الأمة الحبر بالكسر والفتح العالم الذي يحبر الكلام ويزينه في بيان معنى الخبر المشهور والحديث المأثور المروي من أثرت الحديث إذا ذكرته عن غيرك
اختلاف أمتي رحمة عطف بيان للخبر وقوله يعني أي يريد الرسول باختلاف أمته اختلاف هممهم في العلوم مقول ذلك البعض وما بعده تفصيل لذلك الاختلاف أعني قوله فهمة واحد في الفقه لضبط الأحكام المتعلقة بالأفعال وهمة آخر في الكلام لحفظ العقائد فينتظم بهما أمر المعاد وقانون العدل المقيم للنوع كما اختلفت همم أصحاب الحرب والصناعات ليقوم كل واحد منهم بحرفة أو صناعة فيتم النظام في المعاش المعين لذلك الانتظام وهذا الاختلاف أيضا رحمة كما لا يخفى لكنه مذكور ههنا تبعا ونظيرا وإذا كان الأمر على ما ذكر من تعذر الإحاطة بجملة العلوم فإذا الواجب على العاقل الاشتغال بالأهم وما الفائدة فيه أتم هذا كما ذكر وإن أرفع العلوم مرتبة ومنقبة وأعلاها فضيلة ودرجة وأنفعها فائدة وأجداها عائدة وأحراها أي أجدرها بعقد الهمة بها وإلقاء الشراشر عليها يقال ألقى شراشره أي نفسه بالكلية حرصا ومحبة وهي في الأصل بمعنى الأثقال جمع شرشرة وإدآب النفس إتعابها فيها وتعويدها بها وصرف الزمان إليها علم الكلام المتكفل بإثبات الصانع وتوحيده في الألوهية وتنزيهه عن مشابهة الأجسام ترك الأعراض إذ لا يتوهم مشابهته إياها واتصافه بصفات

الجلال والإكرام أي بصفات العظمة والإحسان إلى المخلصين من عباده أو بالصفات السلبية والثبوتية أو القهر واللطف وإثبات النبوة التي هي أساس الإسلام بل لا مرتبة أشرف منها بعد الألوهية وعليه مبنى الشرائع والأحكام أي وعلى علم الكلام بناء العلوم الشرعية والأحكام الفقهية إذ لولا ثبوت الصانع بصفاته لم يتصور علم التفسير والحديث ولا علم الفقه وأصوله وبه يترقى في الإيمان باليوم الآخر من درجة التقليد إلى درجة الإيقان وذلك الإيقان هو السبب للهدى والنجاح في الدنيا والفوز والفلاح في العقبى فوجب أن يعتنى بهذا العلم كل الاعتناء وأنه في زماننا هذا قد اتخذ ظهريا أي أمرا منسيا قد ألقي وراء الظهر وصار طلبه عند الأكثرين شيئا فريا بديعا عجيبا وقيل مصنوعا مختلفا لم يبق منه من علم الكلام بين الناس إلا قليل ومطمح نظر من يشتغل به على الندرة
قال وقيل هما فعلان والمعنى أن منتهى ما يرتفع إليه نظر من يشتغل به نادرا هو النقل عن شخص معين أو مجهول من غير التفات إلى دراية واستبصار في رواية فوجب علينا أن نرغب طلبة زماننا في طلب التدقيق ونسلك بهم في ذلك العلم مسالك التحقيق وإني قد طالعت ما وقع إلي من الكتب المصنفة في هذا الفن فلم أر فيها ما فيه شفاء لعليل بأمراض الأهواء في الآراء أو رواء أي ري أو إرواء لغليل لحرارة العطش بفقدان المطالب الاعتقادية والشوق إليها وفي الصحاح أن الرواء بالمد وفتح الراء هو الماء العذب وبكسرها جمع ريان وبضمها المنظر الحسن سيما حذف منه كلمة

لا لكثرة الاستعمال والجملة الحالية أعني قوله والهمم قاصرة مؤولة بالظرف نظرا إلى قرب الحال من ظرف الزمان فصح وقوعها صلة لما وهذا من قبيل الميل إلى المعنى والإعراض عما يقتضيه اللفظ بظاهره أي انتفى حصول الشفاء والإرواء عن تلك الكتب في كل زمان لا مثل انتفائه في زمان قصور الهمم فإن هذا الانتفاء أقوى والرغبات في تعلمه فاترة والدواعي إليه قليلة والصوارف عنه متكاثرة ثم أنه بين ما أجمله من حال تلك الكتب بقوله فمختصراتها قاصرة عن إفادة المرام باختصارها المخل ومطولاتها مع الإسام بما فيها من الإسهاب الممل مدهشة للأفهام في الوصول إلى حقائق المسائل ثم زاد في ذلك البيان بذكر أحوال المصنفين في تصانيفهم الكلامية فقال فمنهم من كشف عن مقاصده أي مقاصد علم الكلام القناع بإزالة أستارها عنها ولكنه قنع من دلائله بالإقناع بما يفيد الظن ويقنع ومنهم من سلك المسلك السديد في الدلائل لكن يلحظ المقاصد ينظر إليهاا بمؤخرة عينه من مكان بعيد فلم يكشفها ولم يحررها ومنهم من غرضه نقل المذاهب التي ذهبت إليها طوائف من الناس واستقروا عليها والأقوال التي صدرت عمن قبله والتصرف بالرفع عطفا على نقل في وجوه الاستدلال وتكثير السؤال والجواب ولا يبالي إلام المآل إلى أي شيء مرجع نقله وتصرفه وتكثيره هل يترتب عليها ثمرة أو يزداد بها حيرة ومنهم من يلفق يجمع ويضم مغالط شبها يغلط فيها لترويج رأيه ولا يدري أن النقاد من ورائه فيزيفها ويفضحها ومنهم من ينظر في مقدمة مقدمة ويختار منها من المقدمات التي نظر فيها ما يؤدي إليه بادئ رأيه أي أوله بلا إمعان وتأمل ويبني عليها مطالبه وربما يكر يرجع ويحمل بعضها بعض تلك المقدمات على بعض بالإبطال ويتطرق إلى المقاصد بسبب

الاختلال ومنهم من يكبر حجم الكتاب بالبسط في العبارة والتكرار في المعنى ليظن به أنه بحر زخار كثير الماء مواج من زخر البحر امتد وارتفع ومنهم من هو كحاطب ليل كمن يجمع الحطب في الليل فلا يميز بين الرطب واليابس والضار والنافع وجالب رجل وخيل الرجل جمع الراجل وهو خلاف الفارس والخيل الفرسان يعني كجالب العسكر بأسره ضعيفة وقوية ثم أشار إلى وجه الشبه في جانب المشبه في كلا التشبيهين بقوله يجمع ما يجده من كلام القوم ينقله نقلا ولا يستعمل عقلا ليعرف أغث ما أخذه أم ثمين وسخيف أي رقيق ركيك ما ألفاه ما وجده أم متين أي قوي فصار جميع ما ذكره باعثا له على تأليف الكتاب كما أشار إليه بقوله فحداني ساقني وبعثني الحدب العطف والشفقة على أهل الطلب لهذا العلم ومن له في تحقيق الحق فيه إرب حاجة إلى أن كتبت هذا إشارة إلى كتابه كتابا مقتصدا متوسطا لا مطولا مملا بتطويله ولا مختصرا مخلا بإيجازه أودعته أوردت فيه لب الألباب خلاصة العقول وميزت فيه القشر من اللباب ولم آل أي لم أترك جهدا سعيا وطاقة في تحرير المطالب الكلامية وتقرير المذاهب الاعتقادية وتركت الحجج تتبختر تتمايل في مشيها كالمتدلل بجماله اتضاحا مفعول له والشبه تتضاءل تتصاغر وتتحاقر افتضاحا كالذي ظهرت قبائحه وانكشفت سوآته ونبهت في النقد والتزييف للدلائل والهدم والترصيف أي الإحكام للمقاصد على نكت هي ينابيع التحقيق وفقر تهدي إلى مظان التدقيق النكتة طائفة من الكلام منقحة مشتملة على لطيفة مؤثرة في القلوب والينبوع عين الماء والفقرة بالسكون فقارة الظهر وتطلق على أجود بيت في القصيدة تشبيها له بها وعلى قرينة الاسجاع أيضا وأنا أنظر من الموارد مواضع الورود جمع مورد من ورد الماء إلى المصادر مواضع الرجوع من صدر إذا رجع وأتأمل في المخارج قبل أن أضع قدمي في المداخل ثم

أرجع القهقري أي الرجوع إلى خلف أتأمل فيما قدمت هل فيه من قصور فأزيله وأتمه وأرجع البصر كرة بعد أخرى هل أرى من فطور أي شق فأسده وأصلحه حافظا حال من فاعل كتبت وما في حيزه من أودعته وما عطف عليه أي فعلت كل ذلك حافظا للأوضاع التي ينبغي أن يحافظ عليها رامزا مشيرا بإيجاز العبارة مشبعا موضحا بأطنابها في مقام الرمز والإشباع ولقد بالغ في تحرير كتابه ونصح طالبيه حتى جاء متعلق بتلك الأفعال المذكورة كما أردت ووفق الله وسدد في إتمام ما قصدت ثم بين مجيئه على وفق إرادته بقوله جاء كلاما لا عوج فيه ولا إرتياب ولا لجلجة أي ولا تردد ولا اضطراب متناسبا صدوره أوائله وروادفه أواخره متعانقا سوابقه ولو احقه
وقوله بكرا بدل من كلاما من أبكار الجنان لم يطمثها لم يمسها من قبل إنس ولا جان وكنت برهة من الزمان مدة طويلة منه أجيل رأيي أديره وأردد قدامي كما يفعله الياسر حال تفكره في الميسر وأؤامر نفسي من المؤامرة وهي المشاورة لأن كلا من المتشاورين يأمر صاحبه بما يراه وأشاور ذوي النهى جمع نهية وهي العقل لأنه ينهى عن الفحشاء من أصدقائي مع تعدد خاطبيها من الخطبة والضمير للبكر ومن جملة خاطبيها سلطان الهند محمد شاه جونه وكثرة الراغبين فيها وقوله في كفء متعلق بأجيل وما عطف عليها أزفها إليه يقال زففت العروس إلى زوجها أزف بالضم زفا وزفافا يعرف قدرها ويغلي مهرها يكثره موفق من عند الله له مواقف جمع موقف من الوقوف بمعنى

اللبث يعز الدين فيها بالسيف والسنان وهو متطلع ناظر مستشرف إلى مواقف جمع موقف من الوقوف بمعنى الدراية وفيه إشارة إلى اسم الكتاب ينصره فيها بالحجة والبرهان ولا بد لذلك الإعزاز من النصرة فإن السيف القاضب القاطع إذا لم تمض الحجة حده كما قيل مخراق لاعب وهو منديل يلف ليضرب به عند التلاعب حتى وقع غاية لإجالة الرأي وما عطف عليها الاختيار على من لا يوازن من وازنت بين الشيئين إذا وزنت أحدهما بالآخر لتعرف أيهما الأرجح ولا يوازى لا يحاذى ولا يقابل بأحد وهو غني عن أن يباهي غيره ويفاخره وأجل من أن يباهي يوفاخر والمعنى أنه أجل من متعلق المباهاة أي مما يمكن أن تتعلق به فلا يتصور أن يفاخره أحد أصلا وهو أعظم من ملك البلاد وساس أي حفظ وضبط العباد شأنا تمييز عن النسبة في أعظم وأعلاهم منزلا ومكانا وأنداهم راحة وبنانا يقا الفلان ندي الكف إذا كان سخيا وأشجعهم جأشا هو بالهمزة رواع القلب إذا اضطرب وفلان رابط الجأش أي يربط نفسه عن الفرار بشجاعته وجنانا وأقواهم دينا وإيمانا وأروعهم سيفا وسنانا يقال رعته فارتاع أي أفزعته ففزع وأبسطهم ملكا وسلطانا وأشملهم عدلا وإحسانا وأعزهم أنصارا وأعوانا وأجمعهم للفضائل النفسية التي أصولها ثلاثة الحكمة والعفة والشجاعة وأولاهم بالرياسة الأنسية من شيد رفع وأحكم قواعد الدين بعد أن كادت تنهدم واستبقى حشاشة الكرم بقية روحه حين أرادت أن تنعدم ورفع رايات المعالي أوان زمان ناهزت قاربت الانتكاس الانقلاب على رؤوسها وجدد مكارم الشريعة الفضائل التي دعي إليها في الشرع ولو أبدل لفظ المكارم بالمعالم لكان أقعد وقد آذنت أعلمت بالاندراس بالانمحاء محرز ممالك الأكاسرة والاستحقاق جمال الدنيا والدين أبو إسحاق لا زالت الأفلاك متابعة لهواه والأقدار متحرية لرضاه هذا دعاء قد

في عباراتهم لكن الاحتراز عن أمثاله أولى إذ فيه مبالغة غير مرضية وإلى الله أبتهل أتضرع بأطلق لسان وأرق جنان أي برغبة وافرة توجب طلاقة اللسان ورقة قلب تامة يلزمها الإخلاص المستدعي للإجابة أن يديم أيام دولته ويمتعه بما خوله أعطاه وملكه دهرا طويلا ويوفقه لأن يكتسب به بما خوله ذكرا جميلا في هذه الدار وأجرا جزيلا في دار القرار إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير والكتاب مرتب على ستة مواقف وذلك لأن ما يذكر فيه إما أن يجب تقديمه في علم الكلام وهو الموقف الأول في المقدمات أو لا يجب وحينئذ إما أن يبحث فيه عما لا يختص بواحد من الأقسام الثلاثة للموجود وهو الموقف الثاني في الأمور العامة أو عما يختص فإما بالممكن الذي لا يقوم بنفسه بل بغيره وهو الموقف الثالث في الأعراض أو بالممكن الذي يقوم بنفسه وهو الموقف الرابع في الجواهر وإما بالواجب تعالى فإما باعتبار إرساله الرسل وبعثه الأنبياء وهو الموقف السادس في السمعيات أو لا باعتباره وهو الموقف الخامس في الإلهيات والوجه في التقديم والتأخير أن المقدمات يجب تقديمها على الكل والأمور العامة كالمبادئ لما عداها والسمعيات متوقفة على الإلهيات المتوقفة على مباحث الممكنات وأما تقديم العرض على الجوهر فلأنه قد يستدل بأحوال الأعراض على أحوال الجواهر كما

يستدل بأحوال الحركة والسكون على حدوث الأجسام وبقطع المسافة المتناهية في زمان متناه على عدم تركبها من الجواهر الأفراد التي لا تتناهى ومنهم من قدم مباحث الجوهر نظرا إلى أن وجود العرض متوقف على وجوده

الموقف
الأول في المقدمات وفيه مراصد
1 -
المرصد الأول فيما يجب تقديمه في كل علم
3 -
المرصد الثاني في تريف مطلق العلم
3 - المرصد الثالث في أقسام العلم
4 -
المرصد الرابع في إثبات العلوم الضرورية
5 -
المرصد الخامس في النظر إذ به يحصل المطلوب
6 - المرصد السادس في الطريق وهو الموصل إلى المقصود

المرصد الأول فيما يجب تقديمه في كل علم وفيه مقاصد

المقصد الأول تعريفه

المتن
ليكون طالبه على بصيرة فإنه من ركب متن عمياء أوشك أن يخبط خبط عشواء والكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبهة والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام
الشرح
وأما المراصد الباقية ففيما يجب تقديمه في هذا العلم كما ستعرفه ولم يرد بوجوب التقديم أنه لا بد منه عقلا بل أريد الوجوب العرفي الذي مرجعه اعتبار الأولى والأحق في طرق التعليم وفيه مقاصد ستة أيضا
الأول تعريفه أي تعريف العلم الذي يطلب تحصيله وإنما وجب تقديم تعريفه ليكون طالبه على بصيرة في طلبه فإنه إذا تصوره بتعريفه سواء كان حدا لمفهوم اسمه أو رسما له فقد أحاط بجميعه إحاطة إجمالية باعتبار أمر شامل له يضبطه ويميزه عما عداه بخلاف ما إذا تصوره بغيره فإنه وإن فرض أنه يكفيه في طلبه لكنه لا يفيده بصيرة فيه فإن من ركب متن عمياء وهي العماية بمعنى

الباطل أوشك أن يخبط خبط عشواء وهي الناقة التي لا تبصر قدامها فهي تخبط بيديها كل شيء ويقال فلان ركب العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة والكلام علم بأمور يقتدر معه أي يحصل مع ذلك العلم حصولا دائميا عاديا قدرة تامة على إثبات العقائد الدينية على الغير وإلزامه إياها بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها فالأول إشارة إلى المقتضى والثاني إلى انتفاء المانع وههنا أبحاث
الأول أنه أراد بالعلم معناه الأعم أو التصديق مطلقا ليتناول إدراك المخطئ في العقائد ودلائلها على ما صرح به
الثاني أنه نبه بصيغة الاقتدار على القدرة التامة وبإطلاق المعية على المصاحبة الدائمة فينطبق التعريف على العلم بجميع العقائد مع ما يتوقف عليه إثباتها من الأدلة ورد الشبه لأن تلك القدرة على ذلك الإثبات إنما تصاحب دائما هذا العلم دون العلم بالقوانين التي يستفاد منها صور الدلائل فقط ودون علم الجدل الذي يتوسل به إلى حفظ أي وضع يراد إذ ليس فيه اقتدار تام على ذلك وإن سلم فلا اختصاص له بإثبات هذه العقائد والمتبادر من هذا الحد ما له نوع اختصاص به ودون علم النحو المجامع لعلم الكلام مثلا إذ ليس يترتب عليه تلك القدرة دائما على جميع التقادير بل لا مدخل له في ذلك الترتب العادي أصلا
الثالث أنه اختار يقتدر على يثبت لأن الإثبات بالفعل غير لازم واختار معه على به مع شيوع استعماله تنبيها على انتفاء السببية الحقيقية

المتبادرة من الباء ههنا واختار إثبات العقائد على تحصيلها إشعارا بأن ثمرة الكلام إثباتها على الغير وأن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليعتد بها وإن كانت مما يستقل العقل فيه ولا يجوز حمل الإثبات ههنا على التحصيل والاكتساب إذ يلزم منه أن يكون العلم بالعقائد خارجا عن علم الكلام ثمرة له ولا شك في بطلانه
الرابع أن المتبادر من الباء في قوله بإيراد هو الاستعانة دون السببية ولئن سلم وجب عملها على السببية العادية دون الحقيقية بقرينة ذلك التنبيه السابق وليس المراد بالحجج والشبه ما هي كذلك في نفس الأمر بل بحسب زعم من تصدى للإثبات بناء على قصد المخطئ ولم يرد بالغير الذي يثبت عليه العقائد غيرا معينا حتى يرد أنها إذا أثبتت عليه مرة لم يبق اقتدار على إثباتها قطعا فيخرج المحدود عن الحد
الخامس أن هذا التعريف إنما هو لعلم الكلام كما قررناه لا لمعلومه وإن أمكن تطبيقه عليه بنوع تكلف فيقال علم أي معلوم يقتدر معه أي مع العلم به الخ والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل فإن الأحكام المأخودة من الشرع قسمان
أحدهما ما يقصد به نفس الاعتقاد كقولنا الله تعالى عالم قادر سميع بصير وهذه تسمى إعتقادية وأصلية وعقائد وقد دون علم الكلام لحفظها
والثاني ما يقصد به العمل كقولنا الوتر واجب والزكاة فريضة وهذه تسمى عملية وفرعية وأحكاما ظاهرية وقد دون علم الفقه لها وإنها

لا تكاد تنحصر في عدد بل تتزايد بتعاقب الحوادث الفعلية فلا يتأتى أن يحاط بها كلها وإنما مبلغ من يعلمها هو التهيؤ التام لها أعني أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامها إذا رجع إليه وإن استدعى زمانا بخلاف العقائد فإنها مضبوطة لا تزايد فيها أنفسها فلا تتعذر الإحاطة بها والاقتدار على إثباتها وإنما تتكثر وجوه استدلالاتها وطرق دفع شبهاتها وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد صوابا كانت أو خطأ فإن الخصم كالمعتزلة مثلا وإن خطأناه في اعتقاده وما يتمسك به في إثباته لا نخرجه من علماء الكلام ولا يخرج علمه الذي يقتدر معه على إثبات عقائده الباطلة من علم الكلام

المقصد الثاني موضوعه
موضوع العلم الذي يراد تحصيله وإنما وجب تقديم موضوعه أي التصديق بموضوعيته ليمتاز العلم المطلوب عند الطالب مزيد امتياز إذ به أي بالموضوع تتمايز العلوم في أنفسها وبيان ذلك أن كمال النفس الإنسانية في قوتها الإدراكية إنما هو بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقدر الطاقة البشرية ولما كانت تلك الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة وكانت معرفتها مختلطة منتشرة متعسرة وغير مستحسنة اقتضى حسن التعليم وتسهيله أن تجعل مضبوطة متمايزة فتصدى لذلك الأوائل فسموا الأحوال والأعراض الذاتية المتعلقة بشيء واحد إما مطلقا أو من جهة واحدة أو بأشياء متناسبة تناسبا معتدا به سواء كان في ذاتي أو عرضي علما واحدا ودونوه على حدة وسموا ذلك الشيء أو تلك الأشياء موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه فصارت عندهم كل طائفة من الأحوال

متشاركة في موضوع علما منفردا ممتازا في نفسه عن طائفة أخرى متشاركة في موضوع آخر فجاءت علومهم متمايزة في أنفسها بموضوعاتها وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة في علومهم وهو أمر استحساني إذ لا مانع عقلا من أن تعد كل مسألة علما برأسه وتفرد بالتعليم ولا من أن تعد مسائل كثيرة غير متشاركة في موضوع واحد سواء كانت متناسبة من وجه آخر أو لا علما واحدا وتفرد بالتدوين واعلم أن الامتياز الحاصل للطالب بالموضوع إنما هو للمعلومات بالأصالة وللعلوم بالتبع والحاصل بالتعريف على عكس ذلك إن كان تعريفا للعلم وأما إن كان تعريفا للمعلوم فالفرق أنه قد لا يلاحظ الموضوع في التعريف كما في تعريف الكلام أن جعل تعريفا المعلومه وهو أي موضوع الكلام المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا وذلك لأن مسائل هذا العلم إما عقائد دينية كإثبات القدم والوحدة للصانع وإثبات الحدوث وصحة الإعادة للأجسام وإما قضايا تتوقف عليها تلك العقائد كتركب الأجسام من الجواهر الفردة وجواز الخلاء وكانتفاء الحال وعدم تمايز المعدومات المحتاج إليهما في اعتقاد كون صفاته تعالى متعددة موجودة في ذاته
والشامل لموضوعات هذه المسائل هو المعلوم المتناول للموجود والمعدوم والحال فإن حكم على المعلوم بما هو العقائد الدينية تعلق به إثباتها تعلقا قريبا وإن حكم عليه بما هو وسيلة إليها تعلق به إثباتها تعلقا بعيدا
وللبعد مراتب متفاوتة وقد يقال المعلوم من هذه الحيثية المذكورة يتناول محمولات مسائله أيضا فالأولى أن يقال المعلوم من حيث يثبت له ما هو العقائد الدينية أو وسيلة إليها لا يقال إن أريد بالمعلوم مفهومه فأكثر محمولات المسائل أخص منه فلا يكون عرضا ذاتيا له وإن أريد به ما صدق عليه من إفراده كان أعم منه فلا يكون أيضا عرضا ذاتيا مبحوثا عنه

مالم يقيد بما يجعله مساويا له كما حقق في موضعه لأنا نقول قد حقق هناك أيضا أن العرض الذاتي يجوز أن يكون أخص من معروضه نعم يتجه أن الحيثية المذكورة لا مدخل لها في عروض القدرة للمعلوم مثلا فلا يكون عرضا ذاتيا له من تلك الحيثية وإن كان بحث المتكلم عن قدرته تعالى لإثبات عقيدة دينية
وقيل هو أي موضوع الكلام ذات الله تعالى والقائل بذلك هو القاضي الأرموي إذ يبحث فيه عن أعراضه الذاتية أعني عن صفاته الثبوتية والسلبية وعن أفعاله إما في الدنيا كحدوث العالم أي إحداثه وإما في الآخرة كالحشر للأجساد وعن أحكامه فيهما كبعث الرسول ونصب الإمام في الدنيا من حيث أنهما واجبان عليه أم لا والثواب والعقاب في الآخرة من حيث أنهما يجبان عليه أم لا ولا بد في هذه الأربعة من اعتبار قيد الوجوب أوعدمه وإلا لكانت من قبيل الأفعال دون الأحكام وفيه نظر من وجهين
الأول أنه قد يبحث فيه أي في الكلام عن غيرها أي عن غير ما ذكرت من الأعراض الذاتية لذاته تعالى كالجواهر والأعراض أي أحوالهما لا من حيث هي مستندة إليه تعالى حتى يمكن أن تدرج في البحث عن أعراضه الذاتية وذلك مثل قولهم الجوهران لا يتداخلان والأعراض لا تنتقل لا يقال ذلك البحث إنما يورد في هذا العلم على سبيل المبدئية لا على أنه من مسائله فلا يلزم أن يكون راجعا إلى أحوال موضوعه لأنا نقول ليس ذلك البحث من الأمور البينة بذاتها حتى تكون من المبادئ المطلقة المستغنية بالكلية عن البيان فلا بد من بيانه في علم فإن بين في هذا

العلم فهو من مسائله فوجب أن يكون راجعا إلى أحوال موضوعه وليس كذلك كما عرفت ولا شبهة في جواز كون بعض مسائل علم مبدأ لمسائل أخرى منه إذا لم تتوقف الأولى على الأخرى فتكون مسألة من جهة ومبدأ من جهة أخرى كما سيأتي أو في علم أخر أي وإن بين في علم آخر كان ثمة علم أعلى منه أي من علم الكلام تبين فيه مباديه شرعي إذ لا يجوز أن تبين مباديه في علم أعلى غير شرعي وإلا لاحتاج رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق إلى علم أعلى غير شرعي وإنه أي ثبوت علم شرعي أعلى من علم الكلام باطل اتفاقا
ولقائل أن يقول إن مبادئ العلم الأعلى قد تبين وإن كان على قلة في العلم الأدنى فاللازم على ذلك التقدير ثبوت علم شرعي تبين فيه مبادئ الكلام أو احتياجه في مباديه إلى علم غير شرعي فإن سلم بطلان الثاني فقد لا يسلم بطلان الأول إلا أن يقال ليس لنا علم شرعي يبين فيه ما نحن بصدده
الثاني أن موضوع العلم لاا يبين فيه وجوده وذلك لأن المطلوب المبين في العلم إثبات الأعراض الذاتية لموضوعه ولا شك أنه متوقف على وجوده فلا يكون وجوده عرضا ذاتيا مبينا فيه وإلا لزم توقفه على نفسه واعترض عليه بأن إثبات العرض الذاتي الذي هو غير الوجود متوقف عليه وأما إثباته فلا محذور فيه أصلا وأجيب بأن الوجود المطلق مشترك بين الموجودات بأسرها فلا يكون عرضا ذاتيا لشيء منها وأما الوجود الخاص بواحد منها فهو جزئي حقيقي لا يحمل على شيء قطعا وربما يقال لما امتاز الوجود عما عداه من الأعراض الذاتية بتوقفها عليه لم يستحسنوا أن يجعل معها في قرن فيطلب إثباته مع إثباتها في علم واحد فيلزم إذا كان

موضوع الكلام ذاته تعالى إما كون إثبات الصانع بينا بذاته فلا يحتاج إلى بيان أصلا أو كونه مبينا في علم أعلى سواء كان شرعيا أو لا فإن بيان وجود الموضوع إنما يجوز في الأعلى الذي هو أعم موضوعا دون الأدنى لأن الأخص يثبت في الأعم بانقسامه إليه وإلى غيره دون العكس
والقسمان يعني كون إثباته تعالى بينا بذاته وكونه مبينا في علم أعلى من الكلام باطلان أما بطلان الأول فمما لا ينبغي أن يشك فيه وأما بطلان الثاني فقد خالف فيه الأرموي حيث جوز أن يكون ذاته تعالى مسلم الآنية في الكلام مبينا في العلم الإلهي الباحث عن أحوال الموجود بما هو موجود المنقسم إلى الواجب وغيره وهو مردود بأن إثباته تعالى هو المقصد الأعلى في علمنا هذا وأيضا كيف يجوز كون أعلى العلوم الشرعية أدنى من علم غير شرعي بل احتياجه إلى ما ليس علما شرعيا مع كونه أعلى منه مما يستنكر أيضا فإن قلت المعلوم الذي جعلته موضوع الكلام ماذا حال آنيته قلت هي بينة بذاتها غير محتاجة إلى بيان كآنية الموجود الذي هو موضوع العلم الإلهي ولا نعني بآنيتهما سوى حملهما على غيرهما إيجابا فتدبر وقيل هو أي موضوع الكلام الموجود بما هو موجود أي من حيث هو هو غير مقيد بشيء والقائل به طائفة منهم حجة الإسلام
ويمتاز الكلام عن الإلهي المشارك له في أن موضوعه أيضا هو الموجود مطلقا باعتبار وهو أن البحث ههنا أي في الكلام على قانون

الإسلام بخلاف البحث في الإلهي فإنه على قانون عقولهم وافق الإسلام أو خالفه وفيه أيضا كالقول الأول نظر من وجهين
الأول أنه قد يبحث فيه أي في الكلام عن أحوال المعدوم والحال وعن أحوال أمور لا باعتبار أنها موجودة في الخارج أي يبحث فيه عن أحوال لأمور لا تتوقف تلك الأحوال على وجود تلك الأمور في الخارج سواء كانت موجودة فيه أم لا كالنظر والدليل فيقال مثلا النظر الصحيح يفيد العلم أم لا والدليل وجه دلالته كذا وينقسم إلى كذا فإن هذه كلها مسائل كلامية كما ستعرفه لا يعتبر فيها وجود موضوعاتها في الخارج وأما الوجود في الذهن فهم أي المتكلمون لا يقولون به حتى يقال النظر والدليل وكذا المعلوم الخارجي والحال من الموجودات الذهنية فيندرج تحت الموجود بما هو موجود ولا شك أن أحوالها إنما تعرضها من حيث أنها موجودة مطلقا فلا إشكال
الثاني قانون الإسلام ما هو الحق من هذه المسائل الكلامية إذ المسائل الباطلة خارجة عن قانون الإسلام قطعا فإن زعم هذا القائل أن الكلام هو هذه المسائل الحقة فقط ورد عليه ما أشار إليه بقوله وبهذا القدر أي بكون المسائل حقة على قانون الإسلام لا يتميز العلم أي علم الكلام عما ليس علم الكلام كيف وكل من صاحبي المسائل الحقة والباطلة يدعي ذلك أي كون مسائله حقة على قانون الإسلام مع أن هذا الزعم منه باطل قطعا لأن المخطىء من أرباب علم الكلام ومسائله من مسائل الكلام كما أشير إليه بقوله وإن كفر ذلك المخطىء كالمجسمة المصرحين بكونه تعالى جسما دون القائلين باتصافه بصفات الأجسام المتسترين بالبلكفة أو بدع

كالمعتزلة وقد يجاب عنه بأن المراد بكون البحث على قانون الإسلام أن تلك المسائل مأخوذة من الكتاب والسنة وما ينسب إليهما فيتناول الكل
ولقائل أن يقول إن لم تجعل حيثية كون البحث على قانون الإسلام قيدا للموضوع لم يتوقف تمايز العلوم على تمايز الموضوعات وهو باطل لما مر وإن جعلت قيدا له اتجه أن تلك الحيثية لا مدخل لها في عروض المحمولات لموضوعاتها على قياس ما مر في حيثية المعلوم

المقصد الثالث فائدته
وإنما وجب تقديم فائدة العلم الذي يراد أن يشرع فيه دفعا للعبث فإن الطالب إن لم يعتقد فيه فائدة أصلا لم يتصور منه الشروع فيه قطعا وذلك لظهوره لم يتعرض له وإن اعتقد فيه فائدة غير ما هي فائدته غير ما هي فائدة أمكنه الشروع فيه إلا أنه لا يترتب عليه ما اعتقده بل ما هو فائدته وربما لم تكن موافقة لغرضه فيعد سعيه في تحصيله عبثا عرفا وليزداد عطف على دفعا رغبة فيه إذا كان ذلك العلم مهما للطالب بسبب فائدته التي عرفها فيوفيه حقه من الجد والاجتهاد في تحصيله بحسب تلك الفائدة وهي أي فائدة علم الكلام أمور
الأول بالنظر إلى الشخص في قوته النظرية وهو الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات خص العلماء الموقنين بالذكر مع اندراجهم في المؤمنين رفعا لمنزلتهم كأنه قال وخصوصا هؤلاء الأعلام منكم
الثاني بالنظر إلى تكميل الغير وهو إرشاد المسترشدين بإيضاح المحجة لهم إلى عقائد الدين وإلزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم فإن هذا

الإلزام المشتمل على تفضيح المعاند ربما جره إلى الإذعان والاسترشاد فيكون نافعا له ومكملا إياه
الثالث بالنسبة إلى أصول الإسلام وهو حفظ قواعد الدين وهي عقائده عن أن تزلزلها شبه المبطلين
الرابع بالنظر إلى فروعه وهو أن تبنى عليه العلوم الشرعية أي يبنى عليه ما عداه منها فإنه أساسها وإليه يؤول أخذها واقتباسها فإنه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلف مرسل للرسل منزل للكتب لم يتصور علم تفسير وحديث ولا علم فقه وأصوله فكلها متوقفة على علم الكلام مقتبسة منه فالآخذ فيها بدونه كبان على غير أساس وإذا سئل عما هو فيه لم يقدر على برهان ولا قياس بخلاف المستنبطين لها فإنهم كانوا عالمين بحقيقته وإن لم تكن فيما بينهم هذه الاصطلاحات المستحدثة فيما بيننا كما في علم الفقه بعينه
الخامس بالنظر إلى الشخص في قوته العملية وهو صحة النية بإخلاصهم في الأعمال وصحة الاعتقاد بقوته في الأحكام المتعلقة بالأفعال إذ بها أي بهذه الصحة في النية والاعتقاد يرجى قبول العمل وترتب الثواب عليه وغاية ذلك كله أي والفائدة التي يفيدها ما ذكر من الأمور الخمسة وتنتهي إليها هي الفوز بسعادة الدارين فإن هذا الفوز مطلوب لذاته فهو منتهى الأغراض وغاية الغايات

المقصد الرابع مرتبته
المتن
ليعرف قدره فيوفي حقه من الجد
قد علمت أن موضوعه أعم الأمور وأعلاها وغايته أشرف الغايات وأجداها ودلائله يقينية يحكم بها صريح العقل وقد تأيدت بالنقل وهي الغاية في الوثاقة

وهذه هي جهات شرف العلم لا تعدوها فهو أشرف العلوم
الشرح
أي شرفه وإنما وجب تقديم مرتبة العلم الذي يطلب أن يشرع فيه ليعرف قدره ورتبته فيما بين العلوم فيوفى حقه من الجد والاعتناء في اكتسابه واقتنائه إذا عرفت هذا فنقول قد علمت أن موضوعه أي موضوع الكلام وهو المعلوم أعم الأمور وأعلاها فيتناول أشرف المعلومات التي هي مباحث ذاته تعالى وصفاته وأفعاله ولا شك أنه إذا كان المعلوم أشرف كان العلم به أشرف مع أن موضوعه مقيد بحيثية تنبىء عن شرفه أيضا وغايته أعني تلك السعادة المترتبة على الأمور الخمسة أشرف الغايات وأجداها نفعا ودلائله يقينية يحكم بها أي بصحة مقدماتها وحقية الصور العارضة لها صريح العقل بلا شائبة من الوهم وقد تأيدت تلك الدلائل بالنقل وهي أي شهادة العقل لها بصحتها مع تأيدها بالنقل هي الغاية في الوثاقة إذ لا يبقى شبهة في صحة الدليل الذي تطابق فيه العقل والنقل قطعا بخلاف دلائل العلم الإلهي فإن مخالفة النقل إياها شهادة عليها بأن أحكام عقولهم بها مأخوذة من أوهامهم لا من صرائحها فلا وثوق بها أصلا وهذه الأمور المذكورة في شرف علم الكلام أعني معلومه وغايته هي جهات شرف العلم لا تعدوها أي لا تتجاوز جهات الشرف هذه الأمور التي ذكرناها وأما كون مسائل العلم أقوم فراجع إلى فضيلة الدلائل ووثاقتها فهو فالكلام إذا شرف العلوم بحسب جميع جهات الشرف

المقصد الخامس مسائله
المتن
التي هي المقاصد وهي كل حكم نظري لمعلوم هو من العقائد الدينية أو يتوقف عليه إثبات شيء منها وهو العلم الأعلى فليست له مباد تبين في علم آخر بل مباديه إما بينة بنفسها أو بينة فيه فهي مسائل له ومباد لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور فمنه تستمد العلوم وهو لا يستمد من غيره فهو رئيس العلوم على الإطلاق
الشرح
بدون كلمة في وهو المناسب لما تقدم وما تأخر والموجود في كثير من النسخ في مسائله وإنما وجب تقديم الإشارة الإجمالية إلى مسائل العلم الذي يطلب الشروع فيه ليتنبه الطالب على ما يتوجه إليه من المطالب تنبها موجبا لمزيد استبصاره في طلبها وإنما قال التي هي المقاصد لأن كل علم مدون له مسائل هي المقاصد الأصلية فيه وهي حقيقته ومباد إما تصورية أو تصديقية هي وسائل إلى تلك المقاصد وربما عدت جزءا منه لشدة الحاجة إليها وأما عد موضوعه جزءا ثالثا منه ففيه أن الموضوع نفسه من المبادىء التصورية وكونه موضوعا له من مقدمات الشروع فيه الخارجة عنه اتفاقا وآنيته أعني وجوده من المبادىء التصديقية المسماة عندهم أصولا موضوعة كما صرح به ابن سينا في برهان الشفاء وهي أي مسائل الكلام كل حكم نظري جعل المسألة نفس الحكم لأنه المقصود في القضية

المطلوبة في العلم وأما أطرافه فمن المبادىء التصورية ووصف الحكم بكونه نظريا بناء على الغالب وإلا فالمسألة قد تكون ضرورية فتورد في العلم إما لاحتياجها إلى تنبيه يزيل عنها خفاءها أو لبيان لميتها وإنما حمل كل حكم نظري على المسائل نظرا إلى مآل معناه كأنه قال وهي الأحكام النظرية لمعلوم هو أي ذلك الحكم النظري من العقائد الدينية أو يتوقف عليه إثبات شيء منها سواء كان توقفا قريبا أو بعيدا وهو أي الكلام العلم الأعلى الذي إليه تنتهي العلوم الشرعية كلها وفيه تثبت موضوعاتها أو حيثياتها فليست له مباد تبين في علم آخر سواء كان علما شرعيا أو غير شرعي وذلك أن علماء الإسلام قد دونوا لإثبات العقائد الدينية المتعلقة بالصانع تعالى وصفاته وأفعاله وما يتفرع عليها من مباحث النبوة والمعاد علما يتوصل به إلى إعلاء كلمة الحق فيها ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى علم آخر أصلا فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد والمباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد سواء كان توقفها عليها باعتبار مواد أدلتها أو باعتبار صورها وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في علمهم هذا فجاء علما مستغنيا في نفسه عما عداه ليس له مباد في علم آخر بل مباديه إما بينة بنفسها مستغنية عن البيان بالكلية أو مبينة فيه فهي أي فتلك المبادىء المبينة فيه مسائل له من هذه الحيثية ومباد لمسائل أخر منه لا تتوقف تلك المبادىء عليها أي على المسائل الأخر لئلا يلزم الدور ومما قررناه تبين لك أن أحوال المعدوم والحال ومباحث النظر والدليل

مسائل كلامية وتجويز أن تكون مبادىء أعلى علوم الشرع مبينة في علم غير شرعي وتحتاج بذلك إليه مما لا يجترىء عليه إلا فلسفي أو متفلسف يلحس من فضلات الفلاسفة وتشبيه ذلك باحتياج أصول الفقه إلى العربية مما لا يفوه به محصل
فإن وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقف عليها إثبات العقائد أصلا ولا دفع الشبه عنها قطعا فذلك من خلط مسائل علم آخر به تكثيرا للفائدة في الكتاب فمنه أي من الكلام تستمد العلوم الشرعية وهو لا يستمد من غيره أصلا فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق لنفاذ حكمه فيها بأسرها وليس ينفذ فيه حكم شيء منها نعم قد ينفذ حكم بعض منها على بعض آخر فيكون لذلك البعض رياسة مقيدة ثم إن نفع الكلام فيما عداه بطريق الإفاضة والإنعام من الأعلى على الأدنى دون الخدمة فلا يناسب تسميته خادم العلوم

المقصد السادس تسميته
المتن
إنما سمي كلاما إما لأنه بازاء المنطق للفلاسفة أو لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا أو لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه أو لأنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم

الشرح
وإنما وجب تقديمها لأن في بيان تسمية العلم الذي يتوجه إلى تحصيله مزيد اطلاع على حالة تفضي الطالب مع ما سبق إلى كمال استبصاره في شأنه إنما سمي الكلام كلاما إما لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة يعني أن لهم علما نافعا في علومهم سموه بالمنطق ولنا أيضا علم نافع في علومنا سميناه في مقابلته بالكلام إلا أن نفع المنطق في علومهم بطريق الآلية والخدمة ومن ثمة يسمى خادم العلوم وآلتها وربما يسمى رئيسها نظرا إلى نفاذ حكمه فيها ونفع الكلام في علومنا بطريق الإحسان والمرحمة فلا يسمى إلا رئيسا لها أو لأن أبوابه عنونت أولا أي في كتب المتقدمين بالكلام في كذا فبعد تغير العنوان بقي ذلك الاسم بحاله أو لأن مسألة الكلام يعني قدم القرآن وحدوثه أشهر أجزائه وسبب أيضا لتدوينه حتى كثر فيه أي في حكم الكلام أنه قديم أو حادث التناحر أي التقاتل والسفك إذ قد روي أن بعض الخلفاء العباسيين كان على الاعتزال فقتل جماعة من علماء الأمة طالبا منهم الاعتراف بحدوث القرآن فغلب عليه تسمية للشيء باسم أشهر أجزائه أو لأنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات مع الخصم على قياس ما قيل في المنطق من أنه يفيد قوة على النطق في العقليات والمخاصمات

المرصد الثاني في تعريف مطلق العلم
من ههنا شرع في مقاصد علم الكلام وما تقدم في المرصد الأول كان مقدمة للشروع فيه ولا بد للمتكلم من تحقيق ماهية العلم أولا ومن بيان انقسامه إلى ضروري ومكتسب ثانيا ومن الإشارة إلى ثبوت العلوم الضرورية التي إليها المنتهى ثالثا ومن بيان أحوال النظر وإفادته للعلم رابعا ومن بيان الطريق الذي يقع فيه النظر ويوصل إلى المطلوب خامسا إذ بهذه المباحث يتوصل إلى إثبات العقائد وإثبات مباحث أخرى تتوقف عليها العقائد وقد عرفت أنه قد جعل جميع ما يتوقف عليه إثبات العقائد من القضايا المكتسبة مقاصد في علمه كيلا يحتاج فيه إلى علم آخر فالمباحث المذكورة في هذه المراصد الخمسة مسائل كلامية وفي أبكار الأفكار تصريح بذلك حيث جعله مشتملا على ثماني قواعد متضمنة لجميع مسائل الأصول الأولى في العلم وأقسامه الثانية في النظر وما يتعلق به الثالثة في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية وفيه أي في العلم المطلق ثلاثة مذاهب

المذهب الأول أنه ضروري أي تصور ماهيته بالكنه واختاره الإمام الرازي لوجهين
الوجه الأول أن علم كل أحد بوجوده أي بأنه موجود ضروري أي حاصل له بلا اكتساب ونظر وهذا علم خاص متعلق بمعلوم خاص هو وجوده والعلم المطلق جزء منه لأن المطلق ذاتي للمقيد والعلم بالجزء سابق على العلم بالكل فإذا حصل العلم الخاص الذي هو كل لكل أحد بالضرورة كان العلم المطلق الذي هو جزؤه سابقا عليه والسابق على الضروري أولى أن يكون ضروريا فالعلم المطلق ضروري وهو المطلوب والجواب عنه أن الضروري حصول علم جزئي متعلق بوجوده فإن هذا العلم حاصل لكل أحد بلا نظر وهو أي حصول ذلك العلم الجزئي غير تصوره وغير مستلزم له إذ كثيرا ما تحصل لنا علوم جزئية بمعلومات مخصوصة ولا نتصور شيئا من تلك العلوم مع كونها حاصلة لنا بل نحتاج في تصورها إلى توجه مستأنف إليها فلا يكون حصولها عين تصورها ولا مستلزما له وإذا لم يكن ذلك العلم الجزئي المتعلق بوجوده متصورا فلا يلزم تصور العلم المطلق أصلا فضلا عن أن يكون تصوره ضروريا ويجوز أن يجاب عنه أيضا بأنه إنما يتم إذا كان العلم ذاتيا لما تحته وكان شيء من أفراده متصورا بالكنه بديهة وكلاهما ممنوعان لا يقال نحن لا نقتصر على ما ذكر بل نقول إن كل واحد يعلم بالضرورة أنه موجود ويعلم أيضا كذلك أنه يعلم بذلك والعلم أحد تصوري هذا التصديق وهو بديهي أيضا فيكون تصوره السابق على التصديق البديهي أولى أن يكون بديهيا فإن قلت في جواب هذا التقرير لا يلزم من بداهة التصديق بداهة تصورية ولا بداهة شيء منهما

فإن التصديق البديهي ما لا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر فجاز أن تكون تصوراته بأسرها كسبية فلا يصح الاستدلال ببداهة التصديق على بداهة شيء من تصوراته أصلا
قلت في رد هذا الجواب إن المدعي حصول هذا التصديق بلا نظر في الحكم ولا في شيء من أطرافه إذ لا تخلو عنه البله والصبيان الذين لا يتأتى منهم الاكتساب لا في حكم ولا في تصور والنزاع في التسمية بأن التصديق إنما هو الحكم وحده وتصورات أطرافه شروط له خارجة عنه فالبديهي منه هو الحكم المستغني عن الاستدلال وإن كانت تصوراته نظرية وليس التصديق عبارة عن المجموع المركب من الحكم وتصورات أطرافه حتى تكون بداهته مستلزمة لبداهة تصوراته لا يجدي طائلا في هذا المقام لما عرفت من أن هذا التصديق الذي نحن فيه مستغن عن النظر مطلقا ثم شرع في جواب لا يقال بقوله لأنا نقول يكفي في التصديق تصور الطرفين بوجه ما ولا يحتاج فيه إلى تصورهما بالكنه كما نحكم على جسم معين مشاهد من بعيد بأنه شاغل لحيز معين مع الجهل بحقيقته هل هو إنسان أو حجر بل ومع الجهل بحقيقة الحيز والشغل بل نحكم بأن الواجب تعالى إما نفس أو لا وإن لم نعلم حقيقتهما بكنههما بل باعتبار أمر عام عارض لهما ككونه صانعا للعالم وكونها مدبرة للبدن مثلا فاللازم مما ذكرتم أن يكون تصور مطلق العلم بوجه ما بديهيا ولا نزاع فيه بل في تصوره بحسب الحقيقة
الوجه الثاني أن العلم لو كان كسبيا معروفا فإما أن يتعرف بنفسه وهو باطل قطعا أو بغيره وهو أيضا باطل لأن غير العلم إنما يعلم بالعلم

فلو علم العلم بغيره لزم الدور لتوقف معلومية كل منهما على معلومية الآخر حينئذ وهذا الوجه على تقدير صحته حجة على من يقول إنه أي مطلق العلم معلوم بحسب حقيقته لكن لا بالضرورة فإنه إذا لم يسلم كونه معلوما كذلك اتجه أن يقال لا يلزم من امتناع كونه مكتسبا أن يكون ضروريا لجواز أن يكون تصوره بكنهه ممتنعا
والجواب أن غير العلم إنما يعلم بحصول علم جزئي متعلق به لا بتصور حقيقة العلم المطلق فإن أكثر الناس يعلمون أشياء كثيرة وليسوا يتصورون حقيقة العلم المطلق والذي نحاول أن نعلمه أي نطلب أن نحصله على ذلك التقدير بغير العلم تصور حقيقة العلم فلا دور إذ اللازم أن يكون تصور حقيقة العلم موقوفا على حصول علم جزئي متعلق بذلك الغير وعلى حصول حقيقة العلم في ضمن ذلك الجزئي أيضا فيتوقف تصور حقيقته على حصولها في ضمن بعض جزئياتها وليس ذلك الحصول متوقفا على تصور حقيقته فلا دور وحاصل حل الشبهتين بالفرق بين حصول العلم المطلق بنفسه في الذهن وبين تصوره وذلك لأن منشأهما عدم الفرق بينهما ففي الشبهة الأولى تخيل أنه إذا حصل بالضرورة علم جزئي قائم بالنفس كانت ماهية العلم حاصلة بالضرورة في ضمنه قائمة بالنفس أيضا وهذا معنى كون تلك الماهية متصورة وفي الشبهة الثانية تخيل أن تصور ماهية العلم إذا توقف على حصول علم جزئي متعلق بالغير ولا شك أنه يتوقف على حصول ماهيته في ضمنه قائمة في الذهن وهذا معنى تصورها فقد توقف كل منهما على الآخر وإذا ظهر الفرق بينهما بأن ارتسام ماهية العلم في النفس على وجهين
أحدهما أن ترتسم فيها بنفسها في ضمن جزئياتها وذلك حصولها وليس تصورها ولا مستلزما له على قياس حصول الشجاعة للنفس الموجب لاتصافها بها من غير أن تتصورها

والثاني أن ترتسم فيها بمثالها وبصورتها وهذا هو تصورها لا حصولها على قياس تصور الشجاعة الذي لا يوجب اتصاف النفس بها وهو المطلوب بتعريفها اضمحلت الشبهتان بالكلية
المذهب الثاني وبه قال إمام الحرمين والغزالي أنه ليس ضروريا بل هو نظري ولكن يعسر تحديده وربما نصرا بالدليل الثاني إنما قال ربما لأن النصرة به تخييلية ألا يرى أنه إن تم دل على امتناع التحديد دون عسره وإن لم يتم لم يدل على شيء قالا وطريق معرفته القسمة والمثال أما القسمة فهي أن نميزه عما يلتبس به من الاعتقادات فنقول مثلا الاعتقاد إما جازم أو غير جازم والجازم إما مطابق أو غير مطابق والمطابق إما ثابت أو غير ثابت فقد خرج عن القسمة اعتقاد جازم مطابق ثابت وهو العلم بمعنى اليقين وقد تميز عن الظن بالجزم وعن الجهل المركب بالمطابقة وعن تقليد المصيب الجازم بالثابت الذي لا يزول بالتشكيك وأما المثال فكان يقال العلم إدراك البصيرة المشابه لإدراك الباصرة أو يقال هو كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين وهذا القول بعيد فإنهما أي القسمة والمثال إن أفادا تميزا لماهية العلم عما عداها صلحا معرفا وحدا لها إذ لا يعني ههنا بتحديدها سوى تعريفها وإلا لم يحصل بهما معرفة لماهية

العلم لأن محصل المعرفة بشيء لا بد أن يفيد تميزه عن غيره لامتناع حصول معرفته بدون تميزه واعلم أن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى صرح في المستصفى بأنه يعسر تحديد العلم بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتيين فإن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل في أكثر المدركات الحسية فكيف لا يعسر في الإدراكات الخفية ثم قال إن التقسيم المذكور يقطع العلم عن مظان الاشتباه والتمثيل بإدراك الباصرة يفهمك حقيقته فظهر أنه إنما قال بعسر التحديد الحقيقي دون التعريف مطلقا وهذا كلام محقق لا بعد فيه لكنه جار في غير العلم كما اعترف به
المذهب الثالث أنه نظري لا يعسر تحديده وذكر له تعريفات
الأول لبعض المعتزلة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به وهو أي هذا التعريف غير مانع لدخول التقليد فيه إذا طابق الواقع فزيد لدفعه عن ضرورة أو دليل فاندفع دخول التقليد لكن بقي الاعتقاد الراجح المطابق أعني الظن الصادق الحاصل عن ضرورة أو دليل ظني داخلا فيه إلا إن يخص الاعتقاد بالجازم اصطلاحا فلا يدخل الظن فيه ويرد عليهم أي على أصحاب هذا التعريف خروج العلم بالمستحيل عنه فإنه ليس شيئا اتفاقا بخلاف المعدومات الممكنة التي اختلف فيها وقد أجاب بعضهم عن هذا بأن العلم لايتعلق بالمستحيل فلا نقض به فأشار إلى رده بقوله ومن أنكر تعلق العلم بالمستحيل فهو مكابر لبديهة العقل فإن كل عاقل يجد من نفسه الحكم باستحالة اجتماع الضدين والنقيضين ولا يتصور ذلك إلا مع كون اجتماعهما

المستحيل معلوما بوجه ما ومناقض لكلامه أيضا لأن هذا أي إنكاره تعلق العلم بالمستحيل حكم على المستحيل بأنه لا يعلم فيستدعي هذا الحكم العلم به لامتناع الحكم على ما ليس معلوما أصلا نعم قد يعتذر لهم بأن المستحيل يسمى شيئا لغة فلا يخرج العلم به عن تعريفهم وكونه ليس بشيء بمعنى أنه غير ثابت في نفسه لا يمنع ذلك أي كونه شيئا لغة
الثاني للقاضي أبي بكر الباقلاني أنه معرفة المعلوم على ما هو به فيخرج عن حده علم الله سبحانه مع كونه معترفا بأن لله علما إذ لا يسمى علمه تعالى معرفة إجماعا لا اصطلاحا ولا لغة وأيضا ففيه دور إذ المعلوم مشتق من العلم فلا يعرف إلا بعد معرفته لأن المشتق مشتمل على معنى المشتق منه مع زيادة وأيضا فعلى ما هو به قيد زائد لا حاجة إليه إذ المعرفة لا تكون إلا كذلك لأن إدراك الشيء لا على ما هو به جهالة لا معرفة
الثالث للشيخ أبي الحسن الأشعري فقال تارة بالقياس إلى المحل هو الذي يوجب كون من قام به عالما أو هو الذي يوجب لمن قام

به اسم العالم ومؤدى العبارتين واحد وفيه دور ظاهر لأخذ العالم في تعريف العلم وقال أخرى بالقياس إلى متعلق العلم إدراك المعلوم على ما هو به وفيه الدور لأخذ المعلوم في الحد وفيه أن الإدراك مجاز عن العلم لأن معناه الحقيقي هو اللحوق والوصول والمجاز لا يستعمل في الحدود فإن أجيب باشتهاره في معنى العلم قلنا لم يندفع بذلك تعريف الشيء بنفسه لأن المعنى المجازي هو العلم نفسه فكأنه قيل هو علم المعلوم وفيه الزيادة المذكورة يعني أن قوله على ما هو به زائد فإن المعلوم لا يكون إلا كذلك
الرابع لابن فورك ما يصح ممن قام به إتقان الفعل أي إحكامه وتخليته عن وجوه الخلل فإن أراد ما يستقل بالصحة فهو باطل قطعا وإن أراد ما له دخل فيها فتدخل القدرة في الحد ويخرج عنه علمنا إذ لا مدخل له في صحة الإتقان على رأينا فإن أفعالنا ليست بإيجادنا وقد أورد عليه بعد تسليم أن فعل العبد بإيجاده علم أحدنا بنفسه وبالباري تعالى وبالمستحيل فإن ما تعلق به هذا العلم ليس فعلا ولا مما يصح إتقانه به

يرد عليه هذا أن لو أراد ما يصح به إتقان متعلقه وإما لو أراد ما يصح به الإتقان في الجملة وإن لم يكن مصححا بحسب شخصه فلا ورود لهذا عليه ولهم عبارات قريبة من هذه العبارات المذكورة نحو تبين المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة المذكورة والدور وأن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء فيخرج عنه علمه تعالى أو إثباته أي إثبات المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور وأنه يلزم أن يكون العالم منا بوجوده تعالى مثبتا له وهو محال وأيضا الإثبات يطلق على الإيجاد وعلى تسكين الشيء عن الحركة ولا مجال ههنا لإرادة شيء منهما وقد يطلق على العلم تجوزا فيلزم تعريف الشيء بنفسه او الثقة بأنه أي المعلول على ما هو به وفيه الزيادة والدور وأنه يوجب كون الباري تعالى واثقا بما هو عالم به وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعا
الخامس للإمام الرازي إنه اعتقاد جازم مطابق لموجب إما ضرورة أو دليل وإنما عرفه به بعد تنزله عن كونه ضروريا ولا غبار عليه غير أنه يخرج عنه التصور لعدم اندراجه في الاعتقاد ولا يخفى وروده أيضا على التعريف الأول المنقول عن بعض المعتزلة مع أنه علم يقال مثلا في الأعراض علمت معنى المثلث وفي الجواهر علمت حقيقة الإنسان أو أراد أن الأول من المفهومات الاصطلاحية والثاني من الماهيات الموجودة
السادس للحكماء أنه حصول صورة الشيء كليا كان أو جزئيا موجودا أو معدوما في العقل أي عنده ليتناول إدراك الجزئيات ويقال بعبارة ظاهرة الاختصاص بالكليات هو تمثل ماهية المدرك بفتح الراء في نفس المدرك بكسرها وهو أي كون العلم حصول الصورة أو تمثل الماهية مبني على الوجود الذهني وسنبحث عنه أي عن الوجود الذهني وكون

العلم عندهم عبارة عنه وهذا أي ما ذكروه في تعريف العلم يتناول الظن والجهل المركب والتقليد بل الشك والوهم أيضا وتسميتها علما أي جعلها مندرجة فيه كما ذهبوا إليه يخالف استعمال اللغة والعرف والشرع إذ لا يطلق على الجاهل جهلا مركبا أنه عالم في شيء من استعمالات اللغة والعرف العام والشرع كيف ويلزم أن يكون أجهل الناس بما هو في الواقع أعلمهم به وكذا لا يطلق العالم في شيء منها على الظان والشاك والواهم وأما التقليد فقد يطلق عليه العلم مجازا لا حقيقة ولا مشاحة أي لا مضايقة ولا منازعة في الاصطلاح بل لكل أحد أن يصطلح على ما شاء إلا أن رعاية الموافقة في الأمور المشهورة بين الجمهور أولى وأحب
السابع وهو المختار من تعريفاته لبراءته عما ذكر من الخلل في غيره وتناوله للتصور مع التصديق اليقيني أنه صفة أي أمر قائم بغيره توجب تلك الصفة لمحلها وهو موصوفها تمييزا خرج به عن الحد ما عدا الإدراكات من الصفات النفسانية كالشجاعة وغير النفسانية كالسواد مثلا فإن هذه الصفات توجب لمحلها تميزا عن غيرها ضرورة أن الشجاع بشجاعته ممتاز عن الجبان وكذا الأسود بسواده متميز عن الأبيض وأما الإدراكات فإنها توجب لمحالها تميزا عن غيرها على قياس ما تقدم وتوجب لها أيضا تميزا لمدركاتها عما عداها أي تجعلها بحيث تلاحظ مدركاتها وتميزهما عما سواها بين المعاني أي ما ليس من الأعيان المحسوسة بالحواس الظاهرة فيخرج به إدراكات هذه الحواس فإنها توجب تمييزا في الأمور العينية كما سيصرح به لا يحتمل النقيض أي لا يحتمل متعلق التمييز نقيض ذلك التمييز وبهذا القيد خرج الظن والشك

فإن متعلق التمييز الحاصل فيها يحتمل نقيضه بلا خفاء وكذا خرج الجهل المركب لاحتمال أن يطلع في المستقبل صاحبه على ما في الواقع فيزول عنه ما حكم به من الأيجاب أو السلب إلى نقيضه وكذا خرج التقليد لأنه يزول بالتشكيك ومحصله أن العلم صفة قائمة بمحل متعلقة بشيء توجب تلك الصفة إيجابا عاديا كون محلها مميزا للمتعلق تمييزا لا يحتمل ذلك المتعلق نقيض ذلك التمييز فلا بد من اعتبار المحل الذي هو العالم لأن التمييز المتفرع على الصفة إنما هو له لا للصفة ولا شك أن تمييزه إنما هو لشيء تتعلق به تلك الصفة والتمييز وذلك الشيء هو الذي لا يحتمل النقيض وهذا الحد يتناول التصديق اليقيني وهو ظاهر والتصور أيضا إذ لا نقيض له لأن المتناقضين هما المفهومان المتمانعان لذاتيهما ولا تمانع بين التصورات فإن مفهومي الإنسان واللاإنسان مثلا لا يتمانعان إلا إذا اعتبر ثبوتهما لشيء وحينئذ يحصل هناك قضيتان متنافيتان صدقا وكذبا وكذا قولنا حيوان ناطق وحيوان ليس بناطق على التقييد لا يتمانعان إلا بملاحظة وقوع تلك النسبة إيجابا وارتفاعها سلبا أعني التصديقين اللذين أشير بهذين القولين إليهما بعد رعاية شروط التناقض فيهما وإطلاق النقيض على أطراف القضايا سواء كانت تلك الأطراف بمعنى السلب أو بمعنى العدول مجاز على التأويل لا يقال فعلى هذا جميع التصورات علم مع أن بعضها غير مطابق لأنا نقول لا يوصف التصور بعدم المطابقة أصلا فإنا إذا رأينا من بعيد شبحا هو حجر مثلا وحصل منه في أذهاننا صورة إنسان فتلك الصورة صورة للإنسان وعلم تصوري به والخطأ إنما هو في حكم العقل بأن هذه الصورة للشبح المرئي فالتصورات كلها مطابقة لما هي تصورات له موجودا كان أو معدوما ممكنا كان أم ممتنعا وعدم المطابقة في أحكام العقل المقارنة لتلك التصورات فلا إشكال
وأورد على الحد المختار العلوم العادية وهي العلوم المستندة إلى العادة كعلمنا مثلا بأن الجبل الذي رأيناه فيما مضى لم ينقلب الآن ذهبا فإنها تحتمل النقيض فتخرج عن الحد مع كونها من أفراد المحدود وإنما كانت محتملة له لجواز خرق العادة فنقول مثلا في المثال المذكور إن

شمول قدرة المختار مع استواء الجواهر الأفراد في قبول الصفات المتقابلة كالذهبية والحجرية إذا كانت متناسبة متجانسة في الأجسام كما ذهب إليه بعضهم يوجب ذلك الاحتمال وإذا قيل إنها متخالفة الماهية وما يتركب منه الحجر لا يجوز أن يتركب منه الذهب قلنا نحن نعلم بالعادة أن الشاغل لذلك المكان المخصوص مثلا حجر مع جواز أن يكون المختار قد أعدمه وأوجد بدله ذهبا
والجواب أن يقال احتمال العاديات للنقيض بمعنى أنه لو فرض نقيضا واقعا بدلها لم يلزم منه أي من ذلك النقيض محال لذاته لأن تلك الأمور العادية ممكنة في ذواتها والممكن لا يستلزم بشيء من طرفيه محالا لذاته غير احتمال متعلق التميز الواقع فيه أي في العلم العادي للنقيض وذلك لأن الاحتمال الأول راجع إلى الإمكان الذاتي الثابت للممكنات في حد ذواتها كما بيناه والاحتمال الثاني هو أن يكون متعلق التمييز محتملا لأن يحكم فيه المميز بنقيضه في الحال كما في الظن أو في المآل كما في الجهل المركب والتقليد ومنشأة ضعف ذلك التمييز إما لعدم الجزم أو لعدم المطابقة أو لعدم استناده إلى موجب وهذا الاحتمال الثاني المغاير للأول هو المراد من الاحتمال المذكور في التعريف وهو الذي ورد عليه النفي فيه وأنه ممنوع ثبوته في العلوم العادية كما في العلوم المستندة إلى الحس وثبوت الاحتمال الأول لا يقدح في شيء منهما والمعاني خصت بالأمور العقلية كلية كانت أم جزئية إذ المراد بها ما يقابل العينية الخارجية التي تدرك بإحدى الحواس الخمس فيخرج عن حد العلم إدراك الحواس الظاهرة لأنه يفيد تمييزا في الأمور العينية ومن يرى كالشيخ الأشعري أنه

أي إدراك الحواس الظاهرة من قبيل العلم كما سيأتي يطرح هذا القيد فيقول صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض ومنهم من يزيد قيدا في الحد المختار ويقول بين المعاني الكلية وهذه الزيادة مع الغنى عنها تخل بالطرد أي طرد الحد في جميع أفراد المحدود وجريانه فيها وشموله أياها فهو محمول على معناه اللغوي دون الاصطلاحي إذ يخرج بها عن الحد العلم بالجزئيات كالعلم بالامنا ولذاتنا وهذا المختار إنما هو حد للعلم عند من يقول العلم صفة ذات تعلق بالمعلوم ومن قال إنه نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم كما سيأتي حده بأنه تميز معنى عند النفس تميزا لا يحتمل النقيض واعلم أن أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم هو أنه صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به فالمذكور يتناول الموجود والمعدوم الممكن والمستحيل بلا خلاف ويتناول المفرد والمركب والكلي والجزئي والتجلي هو الانكشاف التام فالمعنى أنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافا تاما لا اشتباه فيه فيخرج عن الحد الظن والجهل المركب واعتقاد المقلد المصيب أيضا لأنه في الحقيقة عقدة على القلب فليس فيه انكشاف تام وانشراح تنحل به العقدة

المرصد الثالث في أقسام العلم وفيه مقاصد
المقصد الأول
أنه أي العلم بمعنى الإدراك مطلقا ليتناول الظنيات أيضا أو بالمعنى المفسر بالحد المختار إن خلا عن الحكم أي إيقاع النسبة أو انتزاعها فتصور سواء كان المعلوم مما لا نسبة فيه أصلا كالإنسان أو فيه نسبة تقييدية كالحيوان الناطق أو إنشائية كقولك اضرب أو نسبة خبرية لم يحكم بأحد طرفيها كما إذا شككت في زيد قائم فإن هذه كلها علوم خالية عن الحكم المذكور وإلا أي وإن لم يخل عن الحكم فتصديق والمتبادر من هذه العبارة أن التصديق هو الإدراك المقارن للحكم كما تقتضيه عبارة المتأخرين لا نفس الحكم كما هو مذهب الأوائل ولا المجموع المركب منه ومن تصورات النسبة وطرفيها كما اختاره الإمام الرازي ونحن نقول إذا جعل الحكم إدراكا كما يشهد به رجوعك إلى وجدانك فالصواب أن يقال العلم إن كان حكما أي إدراكا لأن النسبة واقعة أو ليست بواقعة فهو تصديق وإلا فهو تصور فيكون لكل من قسمي العلم طريق موصل يخصه وإن جعل فعلا كما توهمه العبارات التي يعبر بها عنه من الإسناد والإيجاب والإيقاع والسلب والانتزاع فالصواب أن يقسم العلم إلى تصور ساذج وتصور معه تصديق كما ورد في بعض الكتب المعتبرة فللعلم حينئذ وهو التصور مطلقا طريق خاص كاسب لما هو نظري منه ولعارضه المسمى بالحكم والتصديق طريق خاص آخر وأما جعل التصديق قسما من العلم مع

تركبه من الحكم وغيره فلا وجه له فعلا كان الحكم أو إدراكا وهما أي التصور والتصديق نوعان متمايزان بالذات أي بالماهية فإنك إذا تصورت نسبة أمر إلى آخر وشككت فيها فقد علمت ذينك الأمرين والنسبة بينهما قطعا فلك في هذه الحالة نوع من العلم ثم إذا زال عنك الشك وحكمت بأحد طرفي النسبة فقد علمت تلك النسبة نوعا آخر من العلم ممتازا عن الأول بحقيقته وجدانا وباعتبار اللازم المشهور وهو احتمال الصدق والكذب في التصديق وعدمه في التصور

المقصد الثاني
العلم الحادث قيده بالحدوث ليخرج عنه علمه تعالى فإنه قديم ولا يوصف بضرورة ولا كسب ينقسم إلى ضروري ومكتسب فالضروري قال القاضي أبو بكر في تفسيره هو العلم الذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد المخلوق إلى الانفكاك عنه سبيلا كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وأورد عليه جواز زواله أي زوال العلم الضروري بعد حصوله بأضداده كالنوم والغفلة وأورد أيضا أنه قد يفقد العلم الضروري لعدم مقتضيه كما يفقد قبل الحس أي الإحساس والوجدان وسائر ما يتوقف عليه من التواتر والتجربة وتوجه العقل فلا يكون العلم الضروري لازما لنفس المخلوق لا دائما ولا بعد حصوله ولا يرد على تعريفه ما ورد عليه إذ عبارته مشعرة بالقدرة أي باعتبار مفهوم القدرة في التعريف منفية فإنك إذا قلت فلان يجد إلى كذا سبيلا يفهم منه أنه يقدر عليه وإذا قلت لا يجد إليه سبيلا فهم منه أنه لا يقدر عليه فمراد القاضي أن الانفكاك عن

العلم الضروري ليس مقدورا للمخلوق وما ذكرتم من زواله بأضداده وفقده قبل ما يقتضيه لا ينافي مراده إذ ليس شيء منهما انفكاكا مقدورا بل ليس بمقدور فإن قلت الانفكاك مقدورا كان أو غير مقدور ينافي اللزوم المذكور في التعريف فالسؤال باق بحاله قلت لعله أراد باللزوم الثبوت مطلقا ثم قيده بكون الإنفكاك عنه غير مقدور أو أراد به امتناع الانفكاك المقدور فيكون آخر كلامه تفسيرا لأوله فإن قيل فكذا النظري بعد حصوله أي هو أيضا غير مقدور انفكاكه إذ لا قدرة للمخلوق على الانفكاك عنه بعد حصوله فيدخل في حد الضروري والفاء في قوله فكذا للإشعار بترتب هذا السؤال على الجواب عن السؤال الأول
قلنا لا يلزم من عدم القدرة على الانفكاك عن النظري بعد حصوله عدم القدرة على الانفكاك عنه مطلقا والمذكور في التعريف هو عدم القدرة على الانفكاك مطلقا وذلك إنما يوجد في الضروري وأما النظري فمقدور انفكاكه قبل حصوله بأن يدرك النظر فيه ونقول نحن في تلخيص تعريف القاضي هو ما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق فإنه لم يكن تحصيله مقدورا لم يكن الانفكاك عنه مقدورا وذلك كالمحسوسات بالحواس الظاهرة فإنها لا تحصل بمجرد الإحساس المقدور لنا بل تتوقف على أمور غير مقدورة لا نعلم ما هي ومتى حصلت وكيف حصلت كما سنذكره بخلاف النظريات فإنها تحصل بمجرد النظر المقدور لنا وكالمحسوسات بالحواس الباطنة مثل علم الإنسان بلذته وألمه وكالعلم بالأمور العادية مثل

بأن الجبال المعهودة لنا ثابتة والبحار غير غائرة وكالعلم بالأمور التي لا سبب لها ولا يجد الإنسان نفسه خالية عنها مثل علمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان والبديهي ما يثبته مجرد العقل أي يثبته بمجرد التفاته إليه من غير استعانة بحس أو غيره تصورا كان أو تصديقا فهو أخص من الضروري وقد يطلق مرادفا له والكسبي يقابل الضروري فهو العلم المقدور تحصيله بالقدرة الحادثة وأما النظري فهو ما يتضمنه النظر الصحيح هذه عبارة القاضي
قال الآمدي معنى تضمنه له أنهما بحال لو قدر انتفاء الآفات وأضداد العلم لم ينفك النظر الصحيح عنه بلا إيجاب وتوليد مع أنه لا يحصل إلا معه ولم نقل ما يوجبه النظر الصحيح كما قاله بعضهم إذ ليس إيجاب النظر للعلم مذهبنا بل حصوله عقيبه بطريق العادة عندنا ولم نقل أيضا ما يحصل عقيبه إذ يدخل في الحد حينئذ بعض الضروريات أعني ما يحصل من الضروريات عقيب النظر الصحيح كالعلم بما يحدث به من الألم واللذة والفرح والغم ونحو ذلك فمن يرى أن الكسب لا يمكن إلا بالنظر لأنه لا طريق لنا إلى العلم مقدورا سواه فإن الإلهام والتعليم غير مقدورين لنا بلا شبهة وكذلك التصفية لاحتياجها إلى مجاهدات قلما يفي بها مزاج ولا معنى لكون العلم كسبيا مقدورا سوى أن طريقه مقدورا فهو أي النظري عنده الكسبي وتعريفا هما متلازمان فإن كل علم مقدور لنا يتضمنه النظر الصحيح وكل ما يتضمنه النظر الصحيح فهو مقدور لنا ومن

يرى جواز الكسب بغيره بناء على أنه يجوز أن يكون هناك طريق آخر مقدور لنا وإن لم نطلع عليه جعله أخص بحسب المفهوم من الكسبي لكنه أي النظري يلازمه أي الكسبي عادة بالإنفاق من الفريقين

المقصد الثالث
إن كلا من التصور والتصديق بعضه ضروري بالوجدان فإن كل عاقل يجد من نفسه أن بعض تصوراته وكذا بعض تصديقاته حاصل له بلا قدرة منه ولا نظر فيه وإذ لولاه أي لولا أن بعضا من كل منهما ضروري لزم الدور أو التسلسل إذ حينئذ يكون كل واحد من التصور وكذا كل واحد من التصديق نظريا فإذا حاولنا تحصيل شيء منهما كان ذلك التحصيل مستندا إلى تصور أو تصديق آخر هو أيضا نظري مستند إلى غيره من التصورات أو التصديقات فإما أن يدور الاستناد في مرتبة من المراتب أو يتسلسل إلى ما لا يتناهى وهما يمنعان الاكتساب لأنهما باطلان ممتنعان كما سيأتي فما يتوقف عليهما كان باطلا ممتنعا وحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من التصور والتصديق حاصلا لنا وهو باطل قطعا لا يقال إذا فرض أن الكل نظري فهذا الذي ذكرته من لزوم الدور أو التسلسل وكونهما مانعين من الاكتساب ومفضيين إلى أن لا يكون شيء من الإدراكات حاصلا لنا أيضا نظري على ذلك التقدير وحينئذ يمتنع إثباته لأن إثباته إنما يكون بنظري آخر فيلزم الدور أو التسلسل لما ذكرتم بعينه والحاصل أن دليلكم على بطلان كون الكل نظريا ليس يتم بجميع مقدماته لأن كونه تاما كذلك يستلزم المحال المذكور ولأنا نقول ما ذكرنا في دليلنا من التصورات والتصديقات نظري وغير معلوم على ذلك التقدير لا في نفس الأمر بل هو معلوم لنا في نفس الأمر فيبطل ذلك التقدير لاستلزامه خلاف الواقع أعني كون تلك

القضايا معلومة في نفس الأمر والحق أن هذا الدليل الذي ذكرناه حجة قائمة على من اعترف بالمعلومات أي اعترف بأن تلك القضايا المذكورة في الدليل معلومة في نفس الأمر وزعم أنها كسبية على ذلك التقدير ولا تكون معلومة عليه فكيف يجوز التمسك بها في إبطاله إذ حينئذ يجاب بأن الاستدلال بها يتوقف على معلومية صدقها وهي في الواقع واقعة فإن جامعها ذلك التقدير فلا كلام وإن لم يجامعها كان ذلك التقدير غير واقع في نفس الأمر وهو المطلوب لا على من يجحدها مطلقا أي يجحد معلومية تلك القضايا على ذلك التقدير وفي نفس الأمر أيضا فإن هذه الحجة لا تقوم عليه قطعا لأن كل ما يورد في إثبات معلومية صدق مقدماتها يتجه عليه منع المعلومية إذلم يثبت بعد ضروري لا يقبل المنع وقد يقال أراد أن ما ذكرناه في امتناع كسبية الكل إنما يقوم حجة على من اعترف بأن لنا معلومات تصورية وتصديقية إلا أنها بأسرها كسبية وذلك لأنا إذا أثبتنا حينئذ أن الكل من كل منهما ليس كسبيا لزم أن يكون بعض كل منهما ضروريا وأما من يجحد المعلومات ولا يعتر ف بشيء منها فله أن يقول امتناع كسبية الكل لا يستلزم ضرورية البعض لجواز امتناع الحصول وقد مر نظيره في الاستدلال الثاني على أن تصور العلم ضروري وبعضه نظري بالضرورة الوجدانية أيضا فإن كل عاقل يجد من نفسه احتياجه في تصور حقيقة الروح والملك والتصديق بأن العلم حادث إلى نظر وكسب

المقصد الرابع
في بعض مذاهب ضعيفة في هذه المسألة وهي أن تلك المذاهب بتأويل الطرائق أربع

المذهب الأول أن الكل ضروري وبه قال ناس من أصحابنا وهو قول الإمام الرازي وذلك لعدم حصول شيء منه بقدرتنا إذ لا تأثير لها عندنا وهؤلاء فرقتان فرقة تسلم توقفه أي توقف بعض من الكل أو توقف العلم على النظر فيكون النزاع معهم في مجرد التسمية بلا مخالفة معنوية لأنا نسلم أن ليس لقدرتنا تأثير في حصول شيء منه لكنا نعني بالكسبي المقدور لنا ما تتعلق به القدرة الحادثة كسبا ويحصل عقيب النظر عادة لا ما تؤثر فيه قدرتنا حقيقة
قال الإمام الرازي في المحصل العلوم كلها ضرورية لأنها إما ضرورية ابتداء أو لازمة عنها لزوما ضروريا فإنه إن بقي احتمال عدم اللزوم ولو على أبعد الوجوه لم يكن علما وإذا كانت كذلك كانت بأسرها ضرورية وقال ناقده أراد بالضروري معنى اليقيني دون البديهي المستغني عن النظر وقد سمى كل اليقينيات ضروريا موافقة لقول أبي الحسن الأشعري
وفرقة تمنع ذلك أي توقفه على النظر وهؤلاء إن أرادوا بعدم توقفه أنه أي العلم لا يتوقف على النظر وجوبا إذ ليس بينهما ارتباط عقلي يوجب ذلك بل يتوقف عليه عادة أو أرادوا به أن العلم الحاصل بعد النظر غير واقع به أي بالنظر أو غير واقع بقدرتنا على وجه التأثير بل بخلق الله تعالى فينا عقيب النظر بطريق جريان العادة فهو مذهب أهل الحق من الأشاعرة وأحترز بذلك عما اختاره الإمام الرازي في المحصل من القول بوجوب العلم من النظر لا على سبيل التوليد وقد نسب هذا القول إلى القاضي وإمام الحرمين فإنهما قالا باستلزام النظر للعلم وجوبا من غير أن يكون النظر علة أو

مولدا وإن أرادوا بعدم توقفه عليه أنه لا يتوقف عليه أصلا أي لا تأثيرا ولا وجوبا ولا عادة فهو مكابرة ومخالفة لما يجده كالعاقل من أن علمه بالمسائل المختلف فيها يتوقف على نظره فيها
المذهب الثاني في هذه المسألة أن التصور لا يكتسب بالنظر بل كل ما يحصل منه كان ضروريا حاصلا بلا اكتساب ونظر بخلاف التصديق فإنه ينقسم إلى ضروري ومكتسب وبه قال الإمام الرازي واختاره في كتبه لوجهين
أحدهما أن المطلوب التصوري إما مشعور به مطلقا فلا يطلب لحصوله بناءت على أن تحصيل الحاصل محال بالضرورة أو لا يكون مشعورا به أصلا فلا يطلب أيضا لأن المغفول عنه بالكلية وهو المسمى بالمجهول مجهول المطلق لا يمكن توجه النفس بالطلب نحوه بالضرورة أيضا
وأجيب عن هذا الوجه بأن الحصر أي حصر المطلوب التصوري فيما هو مشعور به من جميع الوجوه أو غير مشعور به أصلا ممنوع لجواز أن يكون معلوما ومشعورا به من وجه دون وجه آخر ولم يتبين بما ذكره أن هذا القسم يمتنع طلبه فعاد الإمام وقال الوجه المعلوم معلوم مطلقا والوجه المجهول مجهول مطلقا فلا يمكن طلب شيء منهما لما مر من امتناع تحصيل الحاصل وامتناع توجه النفس نحو المغفول عنه بالكلية
والجواب عن هذا الوجه بعد استيفاء الأقسام الثلاثة أن يقال لا نسلم أن الوجه المجهول مطلقا أي من جميع الوجوه فإن المجهول مطلقا ما لم يتصور ذاته بكنهه ولا شيء مما يصدق عليه من ذاتياته أو عرضياته وهذا الوجه المجهول ليس كذلك بل قد يصور شيء مما يصدق عليه وهو الوجه المعلوم فإن الوجه المجهول فرضا هو الذات والحقيقة التي تطلب تصورها بكنهها والوجه المعلوم بعض الاعتبارات الثابتة له الصادقة عليه سواء كان ذاتيا أو عرضيا له كما يعلم الروح مثلا بأنها شيء به

الحياة والحس والحركة وأن لها حقيقة مخصوصة هذه الأمور المذكورة صفاته فتطلب تلك الحقيقة المخصوصة بعينها لنتصور بكنهها أو بوجه أتم مما ذكر وإن لم يبلغ الكنه ومنهم من أثبت في جواب هذه الشبهة وراء الوجهين أي الوجه المعلوم والوجه المجهول أمرا ثالثا هو المطلوب يقومان أي الوجهان به وهذا القيد أعني قيام الوجهين بالأمر الثالث زائد على كلام هذا المثبت وفيه حزازة لجواز أن يكون أحد الوجهين جزءا وإطلاق القيام عليه مستبعد جدا إلا أن يراد به الحمل ولا حاجة في دفع هذه الشبهة إليه أي إلى إثبات الأمر الثالث لأنها قد اندفعت بما حققناه مع أن إثباته مخالف للواقع وذلك لأنا إذا أردنا تعريف مفهوم لنتصوره فلا بد أن تكون ذات ذلك المفهوم أي نفسه وعينه مجهولا وغير حاصل لنا ليمكن تحصيله وهذا معنى قولنا المجهول هو الذات أي ذات المطلوب وعينه ولا بد هناك أيضا من أن يكون أمر ما صدق عليه معلوما لنا ليصح به توجهنا إليه وطلبنا إياه فهذا هو المراد بقولنا المعلوم بعض اعتبارات الذات أي بعض اعتبارات ذات المطلوب الذي هو المجهول ولا خفاء في أنه ليس هناك أمر ثالث يتعلق به غرضنا حتى يتصور أن يكون المطلوب أمرا ثالثا وراء الوجهين
فإن قلت قد يطلب مفهوم الإنسان من حيث هو هو وقد يطلب وجه من وجوهه وقد يطلب مفهوم الإنسان بوجه من وجوهه

فعلى هذا التقدير الأخير يثبت أمور ثلاثة مفهوم الإنسان الذي هو المطلوب ووجهه المجهول الذي باعتباره صار مطلوبا ووجهه المعلوم الذي به أمكن طلبه
قلت مفهوم الإنسان بحسب ذلك الوجه الذي طلب به مفهوم هو المجهول وهو ذات المطلوب فليس لنا إلا ذات المطلوب المجهول وبعض اعتباراته المعلوم واعلم أن صاحب نقد المحصل أثبت الأمر الثالث إلزاما للإمام بما ذكره في مسألة المعلوم على الإجمال حيث قال المعلوم على سبيل الجملة معلوم من وجه ومجهول من وجه والوجهان متغايران والوجه المعلوم لا إجمال فيه والوجه المجهول غير معلوم البتة لكن لما اجتمعا في شيء واحد ظن أن العلم الجملي نوع يغاير العلم التفصيلي فإنه قد اعترف عنه هناك بأن الشيء المعلوم من وجه والمجهول من وجه يغاير الوجهين فالزم ههنا بأن المطلوب التصوري ليس أحد الوجهين بل الشيء الذي له ذانك الوجهان ويشهد لما ذكرناه أن هذا المثبت قال في نقد تنزيل الأفكار المطلوب المجهول هو حقيقة الماهية المعلومة ببعض عوارضها فاكتفى بالوجهين
وقال بعض المتأخرين هو المولى شرف الدين المراغي إن هذه الشبهة إذا ردت إلى قوانين الاستدلال كانت قياسا مقسما من منفصلة ذات جزءين وهو من حمليتين هكذا المطلوب التصوري إما مشعور به وإما غير مشعور به وكل مشعور به يمتنع طلبه وكل غير مشعور به يمتنع طلبه فالمطلوب التصوري يمتنع طلبه ولا شك أن هذا الإنتاج إنما يصح إذا صدقت الحمليتان معا لكن قولنا كل مشعور به يمتنع طلبه وكل غير

مشعور به يمتنع طلبه لا يجتمعان على الصدق إذ العكس المستوي لعكس نقيض كل منهما ينافي الآخر فإن الأول ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل ما لا يمتنع طلبه فهو غير مشعور به وهذا العكس ينعكس بالمستوى . . . إلى قولنا بعض غير المشعور به لا يمتنع طلبه وهذا أخص من نقيض الثاني فينافيه وكذا الثاني ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل ما لا يمتنع طلبه فهو مشعور به وينعكس هذا العكس بالمستوي . . . إلى قولنا بعض المشعور به لا يمتنع طلبه وهو أخص من نقيض الأول فينافيه أيضا
وإذا كان لازم كل منهما منافيا للآخر لم يتصور اجتماعهما صدقا فأجيب بمنع انعكاس الموجبة الكلية كنفسها بعكس النقيض تارة فإن انعكاس الموجبة الكلية بعكس النقيض إلى موجبة كلية كما هو طريقة القدماء مما لم يقم عليه برهان وأجيب بتقييد الموضوع فيهما بالتصور أخرى أي نحن نستدل هكذا التصور إما تصور مشعور به وإما تصور غير مشعور به وكل تصور مشعور به يمتنع طلبه وكل تصور غير مشعور به يمتنع طلبه وحينئذ تنعكس الحملية الأولى بعكس النقيض إلى قولنا كل ما لا يمتنع طلبه فهو ليس تصورا مشعورا به وينعكس هذا العكس بالمستوي . . . إلى قولنا بعض ما ليس تصورا مشعورا به لا يمتنع طلبه وهذا لا ينافي الحملية الثانية لأن موضوعه أعم من موضوعها
ألا ترى أن ما ليس تصورا مشعورا به جاز أن لا يكون تصورا أصلا وأن يكون تصورا غير مشعورا به وقس على ذلك حال الحملية الثانية فإن العكس المستوى لعكس نقيضها هو قولنا بعض ما ليس تصوراا غير مشعور به لا يمتنع طلبه وموضوعه أعم من موضوع الحملية الأولى فلا منافاة بينهما

الوجه الثاني من متمسكي الأمام في امتناع كسبية التصور أن يقال الماهية أي المفهوم التصوري إن عرفت وحصلت بالكسب والنظر فإما بنفسها أو بجزئها أو بالخارج منها سواء كان خارجا بتمامه أو ببعضه والأقسام بأسرها باطلة أما الأول فلأنه يستلزم معرفتها قبل معرفتها لأن معرفة المعرف الموصل متقدمة على معرفة المعرف الموصل إليه وتقدم الشيء على نفسه محال بديهة وأما الثاني فلأن جميع الأجزاء نفسها فلا يجوز تعريف الماهية بجميع أجزائها لأنه تعريف للشيء بنفسه والبعض من أجزاء الماهية إن عرفها وإنها لا تعرف بالتخفيف من المعرفة إلا بمعرفة جميع الأجزاء عرف ذلك البعض نفسه وقد أبطل والخارج أي وعرف الجزء الخارج وهو منه وسيبطل وهذان المحذوران إنما يلزمان معا إذا كان ذلك البعض معرفا لكنه الماهية وهو ممنوع فالأولى أن يقال والبعض إن عرفها فلا بد أن يعرف جزءا منها فذلك الجزء إما نفسه فيكون معرفا لنفسه وإما غيره فيلزم التعريف بالخارج لأن كل جزء خارج عما يقابله من الأجزاء
وأما الثالث فلأن الخارج لا يعرف الماهية إلا إذا كان شاملا لأفرادها دون شيء مما عداها ليكون مميزا لها عن جميع ما سواها والعلم بذلك الاختصاص الشمولي يتوقف على تصورها وأنه دور لتوقف تصور الماهية حينئذ على تعريف الخارج رياها وتوقف تعريفه إياها على العلم بذلك الاختصاص المتوقف على تصورها وتصور ما عداها مفصلا وأنه محال لاستحالة إحاطة الذهن بما لا يتناهى تفصيلا وأجاب عنه بعض المتأخرين

يعني صاحب نقد المحصل بأن جميع أجزاء الماهية ليس نفسها إذ كل واحد من أجزائها مقدم عليها بالذات فكذا الكل يكون مقدما عليها فلا يكون نفسها لامتناع تقدم الشيء على نفسه فجاز تعريفها بجميع أجزائها
قلنا في دفع هذا الجواب بطريق المعارضة الماهية لو كانت غير جميع الأجزاء فإما معها أي فإما أن يكون تحصل الماهية مع الأجزاء وإذ ليست تلك الأجزاء تمامها فلا بد هناك من أمر آخر معتبر في ذاتها فلا تكون جميع الأجزاء جميعا هذا خلف أو دونها أي ويكون تحصلها بدون الأجزاء وقطع النظر عنها فلا تكون أجزاء لاستحالة تحصل الماهية بدون أجزائها وإلا ظهر في العبارة أن يقال لو لم يكن جميع الأجزاء نفس الماهية فإما أن يكون داخلا فيها فلا يكون جميعا أو خارجا عنها فلا يكون أجزاء وقلنا في دفعه بطريق المناقضة لا يلزم من تقدم كل من الأجزاء على الماهية تقدم الكل عليها فإن الكل المجموعي وكل واحد قد يتخالفان في الأحكام فإن كل إنسان تسعه هذه الدار التي لا تسع كلهم وكل العسكر يهزم العدو الذي لا يهزمه كل واحد منهم بل نقول كل واحد من الأجزاء جزء من الكل المجموعي الذي ليس جزءا لنفسه ثم أنه أيد هذه المناقضة بقوله وإلا أي وإن لم يصح ما ذكرناه من أنه ليس يلزم من تقدم كل واحد على شيء تقدم الكل عليه تقدم الكل أي كل الأجزاء على نفسه لأن كل واحد منها متقدم على كلها كتقدمه على الماهية بعينه ويمكن أن يجعل هذا نقضا إجماليا كما لا يخفى فإن أراد هذا المجيب بجميع الأجزاء جميعها مطلقا بحيث يتناول المادية والصورية معا فدفع جوابه ما قدمناه وإن أراد به الأجزاء المادية فقط لم يكن ما أراده أعني الأجزاء المادية وحدها جميعا

حقيقة بل بعضا داخلا في القسم الثاني ولا كافية في معرفة كنه الماهية فلا يكون التعريف بها حدا تاما والكلام فيه
وقال غيره وهو القاضي الأرموي بجميع تصورات الأجزاء يحصل تصور واحد لجميع الأجزاء ومحصله على ما لخصه في بعض كتبه أن جميع الأجزاء وإن كانت نفس الماهية بالذات إلا أنهما يتغايران بالاعتبار فإنه قد يتعلق بكل جزء تصور على حدة فيكون هناك تصورات بعدد الأجزاء وقد يتعلق تصور واحد بجمع الأجزاء فمجموع التصورات المتعلقة بالأجزاء تفصيلا هو المعرف الموصل إلى التصور الواحد المتعلق بجميع الأجزاء إجمالا وليس في ذلك تقدم شيء على نفسه ولا شك أن المتبادر من هذه العبارة هو أنا إذا تصورنا كل واحد من الأجزاء حتى اجتمعت في ذهننا تصوراتها معا مرتبة يحصل لنا حينئذ تصور آخر مغاير لذلك المجموع المرتب متعلق بجميع الأجزاء هو تصور الماهية والوجدان يكذبه فلذلك قال والحق أن الأجزاء إذا استحضرت في الذهن مرتبة مقيدا بعضها ببعض حتى حصلت صورها فيه مجتمعة فهي فتلك الأجزاء المستحضرة المرتبة الماهية يعني أن تلك الصور المجتمعة تصور الماهية بالكنه بل عينها كما ستعرفه لا أن ثمة مجموعا من التصورات يوجب ذلك المجموع حصول شيء آخر في الذهن هو الماهية أي تصورها وتوضيحه أن صورة كل جزء مرآة يشاهد بها ذلك الجزء قصدا فإذا اجتمعت صورتان وتقيدت إحداهما بالأخرى صارتا معا مرآة واحدة يشاهد بها مجموع الجزءين قصدا ويشاهد بها كل واحد منهما ضمنا وهذا هو تصور الماهية بالكنه الحاصل بالإكتساب من تصوري الجزءين ومتحد معهما بالذات ومغاير لهما بالاعتبار على قياس حال الماهية بالنسبة إلى جميع أجزائها فالمعرف للماهية مجموع أمور كل واحد منها متقدم على الماهية وله مدخل في تعريفها وأما المجموع المركب منها الحاصل في الذهن فهو تصور الماهية المطلوب بالاكتساب

هو جميع تلك الأمور وترتيبها وما أحسن ما قيل حدست تصورات مجموع تصورات محدود وهذا المجموع وتعريفه للماهية في الذهن كالأجزاء الخارجية وتقويمها للماهية في في الخارج فإنها متقومة بجميع الأجزاء بمعنى أنه ما من جزء من الأجزاء الخارجة إلا وله مدخل في التقويم والكل أي جميع الأجزاء مجتمعا هو الماهية بعينها لا أنها تترتب عليه أي على جميع الأجزاء فكما أن جميع الأجزاء الخارجية المجتمعة عين الماهية واجتماعها فيه ليس جزءا منها بل خارجا عنها لازم لها كذلك جميع الأجزاء في الذهن عين الماهية واجتماعها فيه أمر خارج عنها لازم لها وكما أن كل واحد من الأجزاء الخارجية مقوم للماهية متقدم عليها في الخارج كذلك كل واحد من الأجزاء الذهنية مقوم لها متقدم عليها في الذهن ولما كان جواب القاضي محتملا لهذا المعنى أيضا لم يرد عليه جزما بل أشار بقوله والحق إلى أشعاره بما ليس حقا وستراه أي الإمام الرازي يطرد هذه المغلطة الثانية في نفي التركيب الخارجي عن بعض الأشياء بتغيير ما فيقول في نفي التركيب عن الوجود مثلا إن كانت أجزاؤه وجودات ساوى الجزء كله في تمام الماهية وإن كانت غير وجودات فإن لم يحصل عند اجتماعها أمر زائد كان الوجود محض ما ليس بوجود وإن حصل فذلك الزائد هو الوجود وتلك الأمور معروضاته لا أجزاؤه وأنت خبير بأن هذا لو تم لدل على انتفاء التركيب عن الوجود مطلقا سواء كان تركيبا خارجيا أو ذهنيا فالأولى أن لا يقيد التركيب بالخارجي إلاا أنه قيده به إشعارا بأن هذه المغلطة سفسطة لاستلزامها انتفاء التركيب عن الوجود

مطلقا مع شهادة البديهة بتركيب بعض الأشياء في الخارج هذا أي هذا كما ذكرناه أو نختار أنه أي تعريف الماهية ببعض الأجزاء وقد يكون ذلك البعض غنيا عن التعريف بأن يكون تصوره ضروريا أو يكون معرفا بغيره إن كان تصوره نظريا وعلى التقديرين لا يلزم من تعريفه للماهية تعريفة لنفسه فما ذكر من أن معرف الماهية يجب أن يعرف جميع أجزائها باطل قطعا لا يقال لا بد أن يعرف شيئا من أجزائها وذلك إما نفسه أو غيره فيلزم أحد المحذورين كما مر لأنا نقول معرف الماهية يجب أن يحصل معرفتها بوجه ما يميزها عما عداها وليس يلزم من ذلك تحصيل معرفة شيء من أجزائها ألا يرى أن الجزء الصوري علة لحصول الماهية في الخارج وليس علة لحصول شيء من أجزائها فيه ومن التزم ما ذكرتموه اختار تعريفه لغيره الذي هو خارج عنه
فإن قلت إذا كان ذلك البعض المعرف للماهية معرفا بغيره كما ذكرتم عاد الإشكال بحذافيره إلى تعريفه به
قلت ويعود إليه أيضا الجواب برمته أو نختار أنه أي تعريف الماهية بالخارج عنها ويجب في تعريفه إياها الاختصاص فإن الخارج إذا كان لازما لها مختصا بها وكان مع ذلك بحيث ينتقل الذهن من تصؤره إلى تصورها صلح أن يكون معرفا لها بلا لزوم محذور لا العلم به فإنه ليس شرطا في ذلك الانتقال المرتب على الاختصاص والعلاقة وهو المنشأ لما ذكرتموه من المحال وإن سلم وجوب العلم بالاختصاص في تعريف الخارج فالعلم بالاختصاص يتوقف على تصور الماهية بوجه ما لا على تصورها الحاصل بتعريف الخارج إياها فلا دور ويتوقف على تصور ما عداها باعتبار شامل له أي مجملا لا على تصور ما عداها مفصلا وإنه أي تصور ما عداها باعتبار شامل ممكن كاختصاص أي كعلمنا باختصاص الجسم بحيز معين دون ما عداه من الأحياز التي لا تنحصر ولا يحيط بها علمنا إلا إجمالا باعتبار شامل لها
فإن قيل الأمور الداخلة أي الأمور التي كل واحد منها داخل في

الماهية وإنما فسرناها بذلك ليتناول الحد التام والناقص معا لأن الشبهة عامة فيهما كما أن جوابها المذكور بتناولهما أيضا أو الخارجة إن كانت حاصلة ضرورة ومستلزمة للعلم بالماهية فالماهية معلومة معها فلا تعرف الماهية لها لامتناع تحصيل الحاصل وإلا امتنع التعريف بها أما إذا لم تكن حاصلة فلا يتصور التعريف بها قطعا وأما إذا لم يكن حصولها ضروريا بل كسبيا فلاحتياجها حينئذ إلى معرف آخر وينقل الكلام إليه فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهي إلى ما حصوله ضروري وأما إذا لم تكن مستلزمة للعلم بالماهية فامتناع التعريف بها ظاهر
قلنا في الجواب عن هذه الشبهة المستلزم للعلم بالماهية حضورها معا مرتبة وأنه أي ذلك الحضور مع الاجتماع والترتيب بالكسب وتفصيله أن الأمور الداخلة أو الخارجة حاصلة إما ضرورة وإما اكتسابا منتهيا إلى الضرورة لكنها متفرقة مخلوطة بأمور أخر فإذا جمع الأجزاء بأسرها ورتبت حصل مجموع هو تصور الماهية بكنهها وهذا المجموع إنما حصل بالكسب الذي هو جمع تلك الأجزاء وترتيبها وكذا إذا جمع بعض متعدد من أجزائها ورتب بعضه مع بعض فإنه يحصل مجموع هو تصور الماهية بوجه أكمل مما كان قبل ذلك وقس على هذه الأمور الخارجة المتعددة
فإن قلت هذا الجواب لا يتأتى في التعريف بالمعاني البسيطة
قلت من جوز ذلك فله أن يقول إن المعاني البسيطة الحاصلة قد لا

تكون ملحوظة قصدا فإذا استحضرت ولوحظت قصدا أفادت العلم بالماهية وإن كان ذلك نادرا جدا
المذهب الثالث في هذه المسألة أن ما اعتقاده لازم للمكلف مما يتوقف عليه إثبات التكليف والعلم به نحو إثبات الصانع وصفاته والنبوات ضروري
قيل هذا مذهب الجاحظ ومن تابعه ويبطله أن معرفة الله تعالى واجبة إجماعا كما ذهب إليه الأشاعرة أو عقلا كما ذهب إليه المعتزلة فلو كانت ضرورية لكانت غير مقدور عليها ولا شيء من غير المقدور كذلك أي بواجب فلو كانت المعرفة ضرورية لم تكن واجبة هذا خلف
احتج لهذا المذهب بأنه أي بأن ذلك اللازم المذكور لو لم يكن حاصلا بالضرورة بل كان نظريا يتوقف حصوله على النظر كان العبد مكلفا بتحصيله بنظره ليثبت به الشرائع والأحكام التكليفية وأنه أي التكليف بتحصيله تكليف الغافل لأن من لا يعلم هذه الأمور المذكورة من نحو إثبات الصانع وصفاته والنبوات لا يعلم التكليف قطعا لا بهذه الأمور ولا بغيرها وإذا لم يكن التكليف أصلا كان غافلا وتكليف الغافل لا يجوز إجماعا
والجواب أن الغافل الذي لا يجوز تكليفه إجماعا من لا يفهم الخطاب أصلا كالصبي والمجنون أو يفهم ذلك ولكن لم يقل له إنك مكلف كالذي لم تبلغه دعوة نبي قطعا فإن هذين غافلان عن تصور التكليف بالتنبيه

عليه فلا تكليف على الأول اتفاقا ولا على الثاني عندنا لا من لا يعلم أنه مكلف مع أنه خوطب بكونه مكلفا حال ما كان فاهما فإنه غافل عن التصديق بالتكليف لا عن تصوره وذلك لا يمنع من تكليفه وإلا لم يكن الكفار مكلفين إذ ليسوا مصدقين بالتكليف ولأن عطف على ما تقدم بحسب المعنى كأنه قيل ليس التصديق بالتكليف شرطا في تحققه لكون الكفار مكلفين ولأن العلم بوقوع التكليف موقوف على وقوعه فإن العلم بوقوع الشيء ظل لوقوعه في نفسه فلو توقف وقوعه على العلم والتصديق به لزم الدور
المذهب الرابع في هذه المسألة أن الكل نظري سواء كان تصورا أو تصديقا مما يلزم اعتقاده أو لا يلزم وهو مذهب بعض الجهمية التابعين لجهم بن صفوان الترمذي رئيس الجبرية
ويبطله ما مر من شهادة الوجدان بكون البعض ضروريا ومن لزوم الدور أو التسلسل على تقدير كون الكل نظريا
واحتجوا على مذهبهم بأن الضروري يمتنع خلو النفس عنه وما من علم تصوري أو تصديقي إلا والنفس خالية عنه في مبدأ الفطرة ثم تحصل لها علومها بالتدريج بحسب ما يتفق من الشروط كالإحساس والتجربة والتواتر وغيرها فيكون الكل غير ضروري وهو المراد بالنظري
والجواب أن الضروري المقابل للنظري قد تخلو عنه النفس أما عند من يوقفه كالمعتزلة والفلاسفة على شرط كالتوجه والإحساس وغيرهما أو استعداد به تقبل النفس ذلك العلم الضروري فلفقده أي فقد ذلك الموقوف

عليه من الشرط والاستعداد وأما عندنا يعني القائلين باستناد الأشياء كلها إلى اختياره تعالى ابتداء فإنه قد لا يخلقه الله تعالى في العبد حينا ثم يخلقه فيه بلا قدرة من العبد متعلقة بذلك العلم أو نظر منه يترتب عليه ذلك العلم عادة فيكون ضروريا غير مقدور إذ لم تتعلق به قدرة العبد ابتداء ولا بواسطة

المرصد الرابع في اثبات العلوم الضرورية
أي بيان ثبوتها وتحققها والرد على منكريها ولا بد لنا من ذلك إذ إليها المنتهى فإن العلوم الكسبية من العقائد الدينية وغيرها تنتهي إليها وهي المبادىء الأولى ولولاها لم نتحصل على علم أصلا وأنها تنقسم إلى الوجدانيات وهي التي نجدها إما بنفوسنا أو بآلاتنا الباطنة كعلمنا بوجود ذواتنا وخوفنا وغضبنا ولذتنا وألمنا وجوعنا وشبعنا وأنها قليلة النفع في العلوم لأنها غير مشتركة أي غير معلومة الإشتراك يقينا فلا تقوم حجة على الغير فإن ذلك الغير ربما لم يجد من باطنه ما وجدناه وإلى الحسيات أراد بها ما للحس مدخل فيها فيتناول التجربيات والمتواترات وأحكام الوهم في المحسوسات والحدسيات والمشاهدات والبديهيات أي الأوليات وما في حكمها من القضايا الفطرية القياس فهذان القسمان أعني الحسيات والبديهيات هما العمدة في العلوم وهما يقومان حجة على الغير أما البديهيات فعلى الإطلاق وأما الحسيات فإذا ثبت الاشتراك في أسبابها أعني فيما يقتضيها من تجربة أو تواتر

أو حدس أو مشاهدة والناس فيهما فرق أربع حسب الاحتمالات العقلية باعتبار قبولهما معا وردهما معا وقبول إحديهما دون الأخرى
الفرقة الأولى المعترفون بهما وهم الأكثرون الظاهرون على الحق القويم والصراط المستقيم إلى العقائد الدينية وسائر المطالب اليقينية
الفرقة الثانية القادحون في الحسيات فقط أي دون البديهيات وهذا القدح ينسب إلى إفلاطون وأرسطو وبطليموس وجالينوس صرح بهذه النسبة الإمام الرازي ولما كان هذا القدح منهم مستبعدا جدا أشار المصنف إلى تأويله على تقدير صحة النسبة إليهم بقوله ولعلهم أرادوا بقولهم إن الحسيات غير يقينة أي جزم العقل بالحسيات ليس بمجرد الحس بل لا بد مع الإحساس من أمور تنضم إليه أي إلى الحس فتضطره أي تلجىء تلك الأمور العقل إلى الجزم بما جزم به من الحسيات لا نعلم ما هي أي ما تلك الأمور المتضمة إلى الإحساس الموجبة للجزم ومتى حصلت لنا وكيف حصلت فلا تكون الحسيات بمجرد تعلق الإحساس بها يقينية وهذا حق لا شبهة فيه وإلا أي وإن لم يريدوا بالقدح في الحسيات ما ذكرناه من التأويل فإليها أي إلى الحسيات تنتهي علومهم فيكون القدح الحقيقي فيها قدحا في علومهم التي يفتخرون بها وذلك لا يتصور ممن له أدنى مسكة فكيف من هؤلاء الأذكياء الأجلاء وإنما قلنا بانتهاء علومهم إليها لأن العلم الإلهي المنسوب إلى أفلاطون مبني على الاستدلال بأحوال المحسوسات المعلومة

الحس وأكثر أصول العلم الطبيعي المنسوب إلى أرسطو كالعلم بالسماء والعالم وبالكون والفساد وبالآثار العلوية وبأحكام المعادن والنبات والحيوان مأخوذة من الحس وعلم الأرصاد والهيئة المنسوب إلى بطليموس مبني على الإحساس وأحكام المحسوسات وعلم التجارب الطبية المنسوب إلى جالينوس مأخوذ من المحسوسات هذا وقد صرحوا بأن الأوليات إنما تحصل للصبيان باستعداد يحصل لعقولهم من الإحساس بالجزئيات فالقدح في الحسيات يؤول إلى القدح في البديهيات
قالوا لو اعتبر حكم الحس فأما في الكليات أي في القضايا الكلية أو في الجزئيات أي في الأحكام الجارية على الجزئيات الحقيقية وكلاهما باطل
أما الأول وهو بطلان اعتبار حكمه في الكليات فظاهر لأن الحس لا يدرك إلا هذه النار وتلك النار لا جميع النيران الموجودة في الحال ولو فرض إدراكه إياها بأسرها فليس له تعلق قطعا بأفرادها الماضية والمستقبلة فلا يعطي حكما كليا على جميع أفرادها سيما وقد ذهب المحققون إلى أن الحكم في قولنا النار حارة ليس على كل نار موجودة في الخارج في أحد الأزمنة الثلاثة فقط بل عليها وعلى جميع الأفراد المتوهمة

الوجود في الخارج أيضا ولا شك أنه لا تعلق للحس بها أي بالأفراد المتوهمة البتة فكيف يعطي حكما متناولا إياها والحاصل أن الحكم لا يعطي حكما كليا أصلا لا حقيقيا ولا خارجيا فلا يتصور اعتبار حكمه في الكليات قطعا
وأما الثاني وهو بطلان اعتبار حكمه في الجزئيات فلأن حكم الحس في الجزئيات يغلط كثيرا وإذا كان كذلك فحكمه في أي جزئي كان في كل معرض الغلط فلا يكون مقبولا معتبرا وإنما قلنا يغلط كثيرا لوجوده
الوجه الأول أنا نرى الصغير كبيرا كالنار البعيدة في الظلمة هذا إذا لم تكن بعيدة جدا والسبب فيه أن ما حولها من الهواء يستضيء بضوئها والشعاع البصري المحاذي لما حولها لا ينفذ في الظلمة نفوذا تاما فلا يتميز عند الرائي جرم النار عن الهواء المضيء بها المشابه بضوئها إياها فيدركهما معا جملة واحدة ويحسبها نارا وإذا كانت قريبة نفذ الشعاع وامتازت النار عن الهواء المضيء بمجاورتها فأدركها على ما هي عليه من الصغر وإذا كانت بعيدة جدا كانت كالمرئيات البعيدة التي ستعرف حالها وكالعنبة في الماء ترى كالإجاصة وسببه أن رؤية الأشياء على القول الأظهر إنما هي بخروج الشعاع على هيئة مخروط مستدير رأسه عند الحدقة وقاعدته على سطح المرئي ويتفاوت مقدار المرئي صغرا وكبرا بحسب صغر زاوية رأس المخروط وكبرها ثم إن الخطوط الشعاعية التي على سطح المخروط الشعاعي تنفذ إلى المرئي على الاستقامة إلى طرفيه إذا كان الشفاف المتوسط بين الرائي والمرئي متشابه الغلظ والرقة فإن فرض فيه تفاوت بأن يكون مثلا

ما يلي الرائي رقيقا كالهواء وما يلي المرئي غليظا كالماء في مثالنا هذا فإن تلك الخطوط تنعطف وتميل إلى سهم المخروط عند وصولها إلى ذلك الغليظ ثم تصل إلى طرفي المرئي فتكون زاوية رأس المخروط ههنا أكبر منها في الصورة الأولى مع كون المرئي شيئا واحدا فيرى في الصورة الثانية أكبر منه في الأولى والزاوية التي بين الأولين أصغر من التي بين الأخيرين فلذلك ترى في الماء أكبر منها في الهواء والخاتم المقرب من العين يرى كالحلقة الكبيرة وذلك لكبر الزاوية التي عند الحدقة فإن المقدار الواحد إذا جعل وترا لزاويتين مستقيمتي الأضلاع فالزاوية التي ضلعها أقصر كانت أكبر من الزاوية التي ضلعها أطول
وبالعكس أي وترى الكبير صغيرا كالأشياء البعيدة وسببه صغر تلك الزاوية بحسب بعد المرئي فكلما كان أبعد كانت الزاوية أضيق إلى أن تتقارب الخطوط الشعاعية جدا كأن بعضها منطبق على بعض فيرى ذلك المرئي كأنه نقطة وبعد ذلك ينمحي أثره فلا يرى أصلا وترى الواحد كثيرا كالقمر إذا نظرنا إليه مع غمز إحدى العينين وذلك لأن النور البصري يمتد من الدماغ في عصبتين مجوفتين تتلاقيان قبل وصولهما إلى العينين ثم تتباعدان وتتصل كل واحدة منها بواحدة من العينين فالعصبتان إذا كانتا مستقيمتين وقعت الخطوط الشعاعية على المرئي من محاذاة واحدة هي ملتقاهما فيرى واحدا فإذا انحرفتا أو انحرفت إحداهما امتدت تلك الخطوط إلى المرئي من محاذاتين فيرى لذلك اثنين أو نظرنا إلى الماء عند طلوعه وكونه قريبا من الأفق فإنا نراه على التقديرين قمرين أما على التقدير الأول فلما مر وأما على الثاني فلأن الشعاع البصري ينفذ في الهواء إلى قمر السماء وينعكس من سطح الماء إليه أيضا فيرى مرة في السماء بالشعاع وكالأحوال أي الذي يقصد الحول تكلفا فإنه يرى الواحد اثنين بسبب وقوع الانحراف في

العصبتين أو في إحديهما وأما الأحول الفطري فقلما يرى الواحد اثنين وذلك لاعتياده بالوقوف على الصواب وبالعكس أي ويرى الكثير واحدا كالرحى إذا أخرج من مركزها إلى محيطها خطوط كثيرة متقاربة في الوضع بألوان مختلفة فإنها إذا دارت سريعة جدا رؤيت تلك الألوان الكثيرة كاللون الواحد الممتزج المؤلف منها والسبب في ذلك أن ما أدركه الحس الظاهر يتأدى أولا إلى الحس المشترك ثم إلى الخيال فإذا أدرك البصر مثلا لونا وانتقل منه بسرعة إلى لون آخر كان أثر اللون الأول باقيا في المشترك عند إدراك اللون الثاني ووصول أثره إليه فيمتزج الأثران هناك فتراهما النفس لامتزاج أثريهما ممتزجين ولا تقدر على تمييز أحدهما عن الآخر وأيضا لما وقع الشعاع البصري على تلك الألوان بأسرها في زمان قليل جدا لم تتمكن النفس من تمييز بعضها عن بعض فلذلك رأتها ممتزجة ونرى المعدوم موجودا كالسراب
قيل هذا من اشتباه الشيء بمثله فإن السراب ليس معدوما مطلقا بل هو الشيء يتراءى للبصر بسبب ترجرج الشعاع البصري المنعكس عن أرض سبخة كما ينعكس من الماء فيحسب لذلك ماء وما يريه صاحب خفة اليد والشعبذة مما لا وجود له في الخارج أصلا وسببه عدم تمييز النفس بين الشيء وبين ما يشبه إما بسبب سرعة الحركة من الشيء إلى شبهة وإما بسبب إقامة البدل مقام المبدل منه بسرعة على وجه لا يقف عليه إلا من يعرف تلك الأعمال وكالخط لنزول القطرة فإن القطرة إذا نزلت سريعا يرى هناك خط مستقيم ولا وجود له قطعا والدائرة لإدارة الشعلة بسرعة فإنها إذا

أديرت بسرعة شديدة يرى هناك دائرة من النار ولا وجود لها بلا شبهة والسبب في هذين أن البصر إذا أدرك القطرة أو الشعلة في موضع وأداها إلى الحس المشترك ثم أدركها في موضع آخر قبل أن يزول أثرها عن الحس المشترك اتصل هناك صورتها في الموضع الثاني بصورتها في الموضع الأول فيرى كما مر ممتدا إما على الاستقامة أو الاستدارة وأيضا لما اتصل الشعاع بها في مواضع متعددة في زمان قليل جدا كان ذلك بمنزلة اتصال الشعاع بها في تلك المواضع دفعة واحدة فيرى لذلك خطا مستقيما أو دائرة ونرى المتحرك ساكنا وبالعكس أي ونرى الساكن متحركا كالظل يرى ساكنا وسببه أن البصر إذا أدرك الشيء في موضع محاذيا لشيء بعدما أدركه في موضع آخر محاذيا لذلك الشيء حكمت النفس بالحركة فإذا كانت المسافة في غاية القلة لم تميز النفس بين الموضعين والمحاذاتين وحكمت بالسكون وهو متحرك أبدا لأن الشمس متحركة دائما إما ارتفاعا أو انحطاطا فلا بد أن يتحرك الظل انتقاصا أو ازديادا فإن قيل الظل مرتبة من مراتب النور الذي هو عرض فلا يكون متحركا قلنا المقصود أنه يرى على حالة واحدة ولا يحس بازدياده وانتقاصه مع أنه لا يخلو عن إحداهما قطعا وكراكب السفينة المتحركة يراها ساكنة ويرى الشط الساكن متحركا
وذلك لأنه لما لم يتبدل وضع الراكب بالنسبة إلى السفينة حسب نفسه والسفينة ساكنين ولما تبدل محاذاته لأجزاء الشط مع تخيله السكون في

نفسه وفي السفينة حسب الشط متحركا ونرى المتحرك إلى جهة متحركا إلى خلافها كالقمر نراه سائرا إلى الغيم حين يسير الغيم إليه فإن القمر يتحرك بحركة الفلك من المشرق إلى المغرب أبدا فإذا كان بيننا وبينه غيم غير ساتر إياه ونظرنا إليه نفذ شعاع البصر منا في جزء من أجزاء ذلك الغيم فإذا فرضنا حركة الغيم من المشرق إلى المغرب أيضا كانت هذه الحركة لقرب الغيم منا أسرع في الرؤية من حركة القمر لبعده عنا فيصير ذلك الجزء الذي كان قد نفذ الشعاع فيه قريبا ونفذ الشعاع في جزء آخر قد حاذاه بالحركة فيقع بين الجزءين قطعة من الغيم فيتخيل أن القمر بحركته إلى المشرق قطع تلك القطعة التي هي بمنزلة المسافة وإذا تحركنا إلى جهة رأيناه أي القمر متحركا إليها إن كان هناك غيم رقيق وسببه أن الوضع بيننا وبين القمر يتغير بالنسبة إلى أجزاء الغيم ويقع بيننا وبينه أجزاء منه على التعاقب في جهة حركتنا فيتخيل أن القمر تحرك إلى تلك الجهة وقطع قطعة من ذلك الغيم وإن تحرك القمر إلى خلافها كما إذا كان حركتنا نحو المشرق فإن القمر متحرك نحو المغرب ونرى الشجر المستقيم على الشط منتكسا في الماء وذلك لأن الخطوط الشعاعية المنعكسة من سطح الماء إلى الشجر إنما تنعكس إليه على هيئة أوتار الآلة الحدباء المسماة في الفارسية بجنك فإذا كان الشجر على الطرف الآخر من الماء انعكس الشعاع إلى رأس الشجر من موضع أقرب من الرائي وإلى ما تحت رأسه من موضع أبعد منه وهكذا وإذا كان الشجر على طرفي الرائي كان الأمر في الانعكاس على عكس ما ذكر ألا ترى أنك إذا سترت سطح الماء من جانبك ستر عنك رأس الشجر في الصورة الأولى وقاعدتها في الصورة الثانية فيكون الخط الشعاعي المنعكس إلى رأس الشجر أطول من جميع تلك الخطوط المنعكسة إلى ما دونه ويكون ما هو أقرب منه أطول مما هو أبعد منه على الترتيب حتى يكون أقصرها هو المنعكس إلى قاعدة الشجر ثم إن النفس لا تدرك الانعكاس لتعودها في روية

المرئيات بنفوذ الشعاع على الاستقامة فتسحب الشعاع المنعكس نافذا في الماء ولا نفوذ هناك إذ ربما لا يكون الماء عميقا بقدر طول الشجر فتحسب لذلك أن رأس الشجر أكثر نزولا في الماء لكون الشعاع المنعكس إليه أطول وكذا الحال في باقي الأجزاء على الترتيب فتراه كأنه منتكس تحت سطح الماء وترى الوجه طويلا وعريضا ومعوجا بحسب اختلاف شكل المرآة إذا فرض المرآة كنصف قالب إسطوانة مستديرة فإن نظر إليها بحيث يكون طولها محاذيا لطول الوجه يرى الوجه فيها طويلا بقدر طوله قليل العرض وذلك لأن الأشعة المنعكسة حينئذ إلى طول الوجه إنما تنعكس من خط مستقيم مساو لطول الوجه فيرى طوله بحاله والمنعكسة إلى عرضه إنما تنعكس من خط منحن مساو لعرض الوجه والزاوية التي يوترها هذا المنحنى أصغر من التي كان يوترها على تقدير كونه مستقيما فيرى عرض الوجه أقل مما هو عليه وإن نظر إليها بحيث يكون طولها محاذيا لعرض الوجه انعكس الأمر فيرى الوجه عريضا بقدر عرضه قليل الطول لما عرفته وإن نظر إليها بحيث يكون طولها موديا في محاذاة الوجه يرى الوجه معوجا وأحد طرفيه أطول من الآخر لأن الانعكاس حينئذ من خط بعضه مستقيم وبعضه منحن بل نقول إذا كانت المرآة مقعرة يرى وسط الوجه غائرا وإذا كانت محدبة يرى ثالثا وبالجملة الاختلافات المتنوعة في أشكال المرايا تستتبع اختلاف الوجه في الرؤية
الوجه الثاني وهو الدال على غلط الحس في أحكام الجزئيات بسبب التباس بعضها ببعض أن الحس لا يميز بين الأمثال فربما جزم بالاستمرار أي بكون شيء موجودا مستمرا عند تواردها أي توارد الأمثال كما تقوله أهل السنة في الألوان من أنها لا تبقى آنين بل يحدثها الله تعالى حالا فحالا مع أن البصر يحكم بوجود لون واحد مستمر وكما يقوله النظام في الأجسام

من أنها أيضا غير باقية بل متجددة آنا فآنا مع أن الحس يحكم بخلافه وكذلك الحال في البيضات المتماثلة إذا وردت على الحس متعاقبة وفي ماء الفوارة فقام الاحتمال أي احتمال غلط الحس في الكل أي في جميع أحكام الجزئيات هذا والسبب في غلطه عند توارد الأمثال أن الحس وإن تعلق بكل واحد منها من حيث خصوصيته لكن الخيال لم يستثبت ما به يمتاز كل منها عن غيره فيتخيل الرائي أن هناك أمرا واحدا مستمرا
الوجه الثالث وهو الدال على غلط الحس في تلك الأحكام بسبب عروض عارض من نوم أو مرض النائم يرى في نومه ما يجزم به في النوم جزمه بما يراه في يقظته ثم يتبين له في اليقظة أن ذلك الجزم كان باطلا وكذا المبرسم أي صاحب البرسام قد يتصور صورا لا وجود لها في الخارج ويشاهدها ويجزم بوجودها ويصيح خوفا منها فجاز في غيرهما مثله أي مثل ما ذكر فيهما من الغلط إذ يجوز أن يكون للإنسان حالة ثالثة يظهر له فيها بطلان ما رآه في اليقظة وأن يكون له أمر عارض لأجله يرى ما ليس بموجود في الخارج موجودا فيه والسبب في غلطهما أن النفس بسبب النوم للاستراحة أو للاشتغال بدفع المرض تغفل عن ضبط القوة المتخيلة فتسلط على القوى فتركب صورا خيالية ترسمها في الحس المشترك على نحو ارتسام الصور فيه من الخارج بالإحساس حال اليقظة والصحة فتدركها النفس وتشاهدها وتعتقد أنها وردت عليها من الخارج لاعتيادها بذلك لا

يقال ذلك أي غلط النائم والمبرسم بسبب لا يوجد ذلك السبب في حال اليقظة والصحة قطعا فلا يقع فيهما الغلط أصلا لأنا نقول انتفاء السبب المعين لا يفيد لجواز أن يكون للغلط سبب آخر في اليقظة والصحة مغاير لما كان سببا له في النوم والمرض بل لا بد من حصر الأسباب المقتضية للغلط حصرا عقليا لا يتصور له سبب خارج عنه وبيان انتفائها بأسرها وبيان وجوب انتفاء المسبب عند انتفائها وكل واحد من هذه الثلاثة التي لا بد منها في نفي الغلط عن أحكام الحس مما لو ثبت فالبنظر الدقيق إذ كل واحد منها مما يتطرق إليه الشكوك والشبه بل حصر أسباب الغلط وبيان انتفائها بكليتها مما لا سبيل إليه أصلا وأنه أي ثبوت كل واحد من الثلاثة بالنظر الدقيق ينفي البداهة أي الضرورة وأيضا لما توقف الجزم بالحكم الحسي على العلم بتلك الأدلة الدقيقة لم يكن مجرد حكم الحس مقبولا والعجب ممن سمع هذا الذي ذكرناه من أن انتفاء السبب المعين لا يفيد بل لا بد من الأمور الثلاثة إلى آخر ما قررناه ثم اشتغل في الأمثلة المذكورة ببيان أسباب الغلط المعينة وانتفائها في غيرها وأعجب منه أي من العجب الذي أشرنا إليه منع كون الحس حاكما بناه على أن الحكم تأليف بين مدركات بالحس أو بغيره على وجه يعرض للمؤلف لذاته إما الصدق أو الكذب وذلك إنما هو للعقل وليس من شأن الحس التأليف الحكمي بل من شأنه الإحساس فقط فليس شيء من الأحكام محسوسا في ذاته نعم إذا قارن المحسوس حكم عقلي يقال له حكم حسي لصدوره عن

العقل بواسطة إدراك الحس لذلك المحسوس فليس الحس حاكما بل العقل حاكم بواسطة الحس وإنما كان أعجب لأنه يؤول إلى نزاع لفظي إذ مقصودنا بحكم الحس حكم العقل بواسطته فهذا المنع مما لا يجدي نفعا أصلا ونحن نقول إذا سلم الخصم المعترف بالبديهيات أن الحكم في المحسوسات إنما هو للعقل أو أثبتنا ذلك عليه كانت الشبه التي ذكرناها دالة على غلط العقل في الأحكام الصادرة عنه بمعاونة الحس وذلك مما يورث احتمال تطرق الغلط في الأحكام التي يستقل العقل بها إذ لا شهادة لمتهم فلو تمت تلك الشبه لارتفع الوثوق عن البديهيات إيضا فتصير تلك الشبه منقوضة بها وهذه فائدة جليلة مبنية على أن الحس ليس حاكما فإن أجاب عن النقض بأن البداهة تنفي احتمال الغلط فيما جزمت بها بنفسها قلنا فكذلك البداهة تنفي احتمال الغلط في بعض المحسوسات فلا يرتفع الوثوق ههنا أيضا وأما بيان الأسباب في الأغلاط المذكورة فالمقصود منه الاطلاع على حقيقة الحال في هذه المغالط أو إزالة ما عسى يشوش النفس من الدغدغة وزيادة اطمئنانها في سائر المحسوسات لا إثبات الأحكام الحسية بدليل كما صرح به ناقد المحصل حيث قال ونحن لم نثبت الوثوق بالمحسوسات بدليل بل نقول العقل الصريح يقتضيه ثم قال وأما قوله انتفاء السبب الواحد لا يوجب انتفاء الحكم قلنا نعم لو أثبتنا صحة الحكم بثبوت المحسوسات في الخارج بدليل لكان الأمر على ما ذكره لكنا لم نثبت ذلك إلا بشهادة العقل من غير رجوعه إلى دليل فليس علينا أن نجيب عن هذه الإشكالات فإن احتمال عدم الصحة فيما يشاهده الأصحاء مندفع عند بداهة العقل من غير تأمل في الأسباب وحصرها وانتفائها وبيان امتناع حصول المسبب عند انتفاء الأسباب وغير ذلك مما يثبت بالنظر الدقيق أو الجلي فظهر أنه لا تشنيع على ذلك الناقد ومن تابعه

الوجه الرابع وهو الدال على غلط الحس في الجزئيات التي نظنها محسوسة وليست بمحسوسة حقيقة أنا نرى الثلج في غاية البياض مع أنه ليس بأبيض أصلا فإنا إذا تأملناه علمنا أنه مركب من أجزاء شفافة لا لون لها وهي الأجزاء المائية الرشية وقولهم سببه أي سبب انا نراه أبيض مداخلة الهواء المضيء بالأشعة الفائضة من الأجرام النيرة للأجزاء الشفافة المتصغرة جدا وتعاكس الأضواء من سطوحها الصغار بعضها إلى بعض فإن الضوء المنعكس يرى كلون البياض ألا ترى أن الشمس إذا أشرقت على الماء وانعكس شعاعها منه إلى الجدار يرى الجدار كأنه أبيض فإذا كثر الانعكاس بين الأجزاء الرشية جدا تخيل ما على سطوحها من الضوء بياضا في الغاية من النمط الأول أي من قبيل بيان أسباب الغلط وقد عرفت أنه لا فائدة فيه على ما قرره وأظهر منه أي من الثلج في الدلالة على غلط الحس الزجاج المدقوق دقا ناعما فإنه يرى أبيض ولا بياض هناك وإنما كان أظهر لأنه لم يحدث له مزاج يحدث ذلك المزاج البياض المشروط به عندهم صلبة يابسة ومتفقة في الصور والكيفيات لا تفاعل بينها لعدم الالتصاق واتفاق الصورة والكيفية فكيف يتصور حدوث المزاج فيه مع كونه مشروطا عندهم بالتفاعل وأما الثلج ففيه أجزاء مائية وهوائية فجاز أن يتوهم فيما بينهما تفاعل وأظهر منهما في الدلالة على غلط الحس موضع الشق من الزجاج الثخين الشفاف فإنه يرى أبيض ولا بياض هناك قطعا إذ ليس ثمة إلا الزجاج والهواء المحتقن في ذلك الشق وشيء منهما غير ملون أي ليس شيء منهما بملون وإنما كان أظهر منهما ليس هناك أجزاء متصغرة يتوهم تفاعلها
والجواب عن شبه هذه الفرقة أن مقتضاه أي مقتضى ما ذكرتم من الشبه الدالة على أن حكم الحس لا يعتبر في الكليات ولا في الجزئيات أن لا يجزم العقل بحكم كلي أو جزئي بمجرده أي بمجرد الحس والإحساس

به أما في الكلي فلعدم تعلق الحس بجميع الأفراد وأما في الجزئي فلأنه قد يغلط فيه ونحن نقول به فإن جزم العقل ليس يحصل في الكليات ولا في الجزئيات بمجرد الإحساس بالحواس بل لا بد مع ذلك من أمور أخر توجب الجزم كما مر فإذا لم توجد تلك الأمور في بعض الصور لم يكن من العقل جزم وكان احتمال الخطأ هناك قائما لا أن لا يوثق بجزمه أي بجزم العقل بما جزم به من الأحكام الكلية أو الجزئية على المحسوسات بحصول تلك الأمور مع الإحساس في هذه الصور وكيف لا يوثق بجزمه ههنا مع أن بديهته شاهدة بصحته وانتفاء الغلط عنه كما في قولنا الشمس مضيئة والنار حارة وكونه محتملا هو مرفوع عطفا على أن لا يوثق أي لا عدم الوثوق يجزمه وكون جزمه محتملا للغلط وتوهم كونه مجرورا معطوفا على بجزمه أي لا أن لا يوثق بكون الجزم محتملا للحصول في بعض المحسوسات بأن تنضم فيه إلى الحس أمور توجب الجزم باطل قطعا إذ لا فائدة في هذا الموضع لذكر كون الجزم محتملا للوجود ولا لعدم الوثوق بذلك الاحتمال
الفرقة الثالثة القادحون في البديهيات فقط أي لا في الحسيات فإنهم معترفون بها قالوا هي أضعف من الحسيات لأنها فرعها وذلك لأن الإنسان في مبدأ الفطرة خال عن الإدراكات كلها فإذا استعمل الحواس في الجزئيات تنبه لمشاركات بينها ومباينات وانتزع منها صورا كلية يحكم

بعضها ببعض إيجابا أو سلبا إما ببديهة عقله كما في البديهيات أو بمعاونة شيء آخر كما في سائر الضروريات والنظريات فلولا إحساسه بالمحسوسات لم يكن له شيء من التصورات والتصديقات ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما متعلقا بذلك الحس ابتداء أو بواسطة كالأكمة فإنه لا يعرف حقائق الألوان ولا يحكم باختلافها في الماهية لعدم إحساسه بجزئياتها والعنين فإنه لا يعرف حقيقة لذة الجماع ولا يحكم بمخالفتها لسائر اللذات واعترض بأنه ليس يلزم من كون الإحساس شرطا في حصول حكم عقلي أن يكون الإحساس أقوى من التعقل فإن الاستعداد شرط في حصول الكمال وليس بأقوى منه فلا يلزمنا من قدحنا في البديهيات التي هي فرع القدح في الحسيات التي هي أصل لها ولم يرد بكون البديهيات موقوفة على الحسيات مشروطة بها أنها متفرعة عليها لازمة لها كالنتيجة للقياس حتى يلزم من القدح في لازمها القدح فيها أو من حقيتها حقية لازمها ولهم في ذلك أعني القدح في البديهيات شبه
الشبهة الأولى أجلى البديهيات وأقواها في الجزم قولنا الشيء إما أن يكون أو لا يكون أعني الترديد بين النفي والإثبات بأنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان وأنه غير يقيني
أما الأول وهو كونه أجلى البديهيات وأقواها فلأن المعترفين بها أي بالبديهيات يمثلون لها بهذا الترديد بين النفي والإثبات وثلاثة أخرى تتوقف تلك الثلاثة عليه الأول من تلك الثلاثة المتوقفة عليه قولنا الكل أعظم من الجزء وإلا أي وإن لم يكن أعظم منه فالجزء الآخر معتبر في الكل لأنه جزء الكل وليس بمعتبر فيه لحصول الاكتفاء بالجزء الأول إذ المفروض أن الكل ليس أزيد منه فيجتمع النفي والإثبات
الثاني من تلك الثلاثة قولنا الأشياء المساوية في الكمية مثلا لشيء واحد متساوية في الكمية وإلا أي وإن لم تكن متساوية في الكمية فحقيقتها في الكمية واحدة لمساواتها لذلك الشيء وليست واحدة لاختلافها وعدم تساويها فيها فيجتمع أيضا النفي والإثبات

قيل وعلى هاتين المقدمتين يخرج أكثر مباحث الكم المتصل والمنفصل وكثير من مباحث الزمان والجسم أيضا لكونه في الحقيقة راجعا إلى البحث عن الكم المتصل
الثالث من تلك الثلاث قولنا الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين وإلا أي وإن لم يكن كما ذكرنا بل كان في مكانين لم يتميز ذلك الجسم الواحد عن جسمين كذلك أي كائنين في آن واحد في مكانين فالجسم الآخر معتبر وجوده وليس بمعتبر إذ لم يتميز وجوده عن عدمه فيصدق عليه أنه موجود ومعلوما معا
وقيل الأولى أن يقال لو كان جسم واحد في آن واحد في مكانين لكان الواحد اثنين فيكون وجود أحد المثلين وعدمه واحدا ولما أمكن أن يقال إن كل عاقل يعلم بالبديهة حقية هذه القضايا الثلاث وإن لم يخطر بباله تلك الحجج الدقيقة التي أوردتموها كيف ولو توقفت عليها لكانت نظرية غير بديهية أشار إلى الجواب بقوله وهذه الاستدلالات التي ذكرناها ملحوظة للعقلاء وإن عجز البعض عن تلخيصها في التعبير عنها ألا ترى إلى قولهم لو لم يكن الكل أعظم من الجزء لم يكن للجزء الآخر أثر البتة ولو كان الشيء الواحد مساويا لمختلفين لكان مخالفا لنفسه فإنه إشارة إلى ما قررناه وإن لم تكن عبارته ملخصة كما لخصناها لكن العبرة بالمعنى لا بالعبارة وليس يلزم من توقفها على هذه الحجج كونها نظرية لجواز كون الحجج ملحوظة بلا تجشم كسب جديد وتعمل فكر فتأمل لكن بقي ههنا شيء وهو أن هذه الاستدلالات أخفى من تلك القضايا بلا شبهة والحجة تجب أن تكون أبين من الدعوى

قالوا فقد لاح أن أجلى البديهيات ما ذكرناه ولذلك سماه الحكماء بأول الأوائل
وأما الثاني أعني كونه غير يقيني فلوجوه أربعة
الوجه الأول أنه أي هذا التصديق الذي هو قولنا الشيء إما أن يكون أو لا يكون يتوقف على تصور المعدوم الذي هو مفهوم قولنا لا يكون ضرورة توقف التصديق على تصور أطرافه وما يعتبر فيها وأنه لا يتصور أصلا بل تصوره ممتنع قطعا فيمتنع التصديق الموقوف على تصوره أيضا فلا يكون حاصلا فضلا عن أن يكون يقينيا وإنما قلنا إن تصوره ممتنع إذ كل متصور متميز فإن إدراك الشيء ملزوم لامتيازه عن غيره عند المدرك أو هو نفس ذلك الامتياز كما سلف في تحقيق العلم وكل متميز عن غيره ثابت في نفسه لأن المتميز هو الذي ثبت له التميز والتعين الذي هومفهوم ثبوتي وثبوته للشيء فرع ثبوت ذلك الشيء في نفسه فيكون المعدوم ثابتا في نفسه فلا يكون معدوما بل ثابتا موجودا هذا خلف أي محال باطل لا يقال تصور المعدوم يقتضي تميزه في الذهن لا في الخارج وتميزه فيه لا يقتضي إلا ثبوته هناك وأنه أي المعدوم ثابت في الذهن فلا خلف في ذلك إذ المعدوم في الخارج يكون ثابتا موجودا في الذهن وأيضا إن كان المعدوم متصورا فالحكم عليه بأنه غير متصور كما ذكرتم يستدعي تصوره إذ لو لم يكن متصورا أصلا لامتنع عليه هذا الحكم قطعا لأنا نقول في جواب الأول الكلام في المعدوم مطلقا أي المعدوم في الخارج والذهن معا فإن قولنا الشيء إما أن يكون أو لا يكون ترديد بين الوجود المطلق المتناول للوجود الخارجي والذهني وبين ما يقابله ويمتنع أن يكون له أي

للمعدوم مطلقا ثبوت بوجه سواء كان في الخارج أو في الذهن لأن الثابت بوجه ما لا يكون معدوما مطلقا ونقول في جواب الثاني الآخر معرضة أي للحجة الدالة على أن المعدوم المطلق غير متصور لأصل تلك الحجة وأنها أي معارضة ما ذكرتم لما ذكرنا تحقق تعارض الحجج القواطع لأنهما قطعيتان وهو أي تعارض الحجج القواطع المركبة من المقدمات البديهية إحدى حججنا القوادح في البديهيات كما سيأتي وقد يجاب بأن تحقق التعارض إنما يلزم إذ يلم دليل الخصم المستدل عن المنع الذي سنذكره في الجواب عنه
الوجه الثاني من تلك الوجوه الأربعة أنه أي قولنا الشيء إما أن يكون أولا يكون يقتضي تميز المعدوم عن الوجود إذ لولا تميزه عنه لما أمكن بالانفصال بينهماا ولو كان المعدوم متميزا لكان له حقيقة وماهية بها يمتاز عن الموجود وكان للعقل سلبها أي سلب تلك الحقيقة ورفعها فإن كل ماله حقيقة يشير العقل إليها يمكنه رفعها وإلا لم يكن لذلك الشيء مقابل فلو لم يكن للعقل رفع حقيقة العدم لم يكن لها مقابل هو الوجود وهذا معنى قوله وإلا أي لم يكن للعقل سلبها انتفى الوجود وإذا كان للعقل سلبها عدم خاص لكونه مضافا إلى حقيقة العدم فقسم من العدم المطلق وهو هذا لعدم الخاص قسيم له لأنه رفعه الذي يقابله هذا خلف لأن قسم الشيء أخص منه وقسيمه مباين له فيستحيل صدقهما على شيء واحد
الوجه الثالث من تلك الأربعة أن قولنا الشيء إما أن يكون أو لا يكون فيه ترديد بين الثبوت والعدم فنقول المردد فيه في قولنا هذا ثبوت الشيء وعدمه إما في نفسه فيكون كقولناا السواد إما موجود أولا أي ليس

بموجود وإما لغيره فيكون كقولنا الجسم إما أسود أو لا ولا يتصور ههنا معنى سوى هذين المعنيين وكلاهما باطل فالأول وهو أن يكون الترديد بين وجود الشيء وعدمه في نفسه كما في قولنا السواد إما موجود أو لا باطل لأنه لا يعقل شيء من طرفيه أي لا يتصور من شيء منهما معنى صحيح أما الثبوت وهو قولنا السواد موجود فلأن وجود الشيء إما نفسه فلا يفيد حمله عليه بل يكون حينئذ قولنا السواد موجود عاريا عن الفائدة كقولك السواد سواد والموجود موجود لكن التفاوت ظاهر فبطل كون وجود الشيء نفسه وقد يقال نحن نلتزم عدم التفاوت فإن ادعيت حكم البديهة بالتفاوت فقد ناقضت مطلوبك وأما غيره وهذا أيضا باطل لوجهين أشار إلى أولهما بقوله فهو أي ذلك الشيء كالسواد مثلا في نفسه معدوم على تقدير مغايرة الوجود إياه وإلا أي وإن لم يكن معدوما في نفسه على ذلك التقدير بل كان موجودا عاد الكلام فيه إلى ذلك الوجود فيقال هو إما أن يكون نفس الشيء وهو باطل لما مر أو غيره فالشيء معدوم في نفسه إذ لو كان موجودا عاد الكلام إلى الوجود الثالث فإما أن يثبت المدعي أو تتسلسل الوجودات إلى غير النهاية والتسلسل باطل فتعين المدعي وأيضا لم يكن الشيء معدوما في نفسه على ذلك التقدير لوجد ذلك الشيء مرتين وكان موجودا بوجودين هذا خلف فإذا ثبت أن الشيء معدوم في نفسه والوجود موجود وإلا أي إن لم يكن الوجود موجودا اجتمع النقيضان على تقدير كونه معدوما أو وجد الواسطة بين الموجود والمعدوم إذ لم يكن موجودا ولا معدوما وفيهما أي في اجتماع النقيضين ووجود الواسطة المطلوب وهو بطلان قولنا السواد إما موجود أو معدوم

إذ على الأول يبطل منع الجمع في هذه المنفصلة وعلى الثاني يبطل منع الخلو فيها فيلزم مما ذكر من كون السواد معدوما في نفسه وكون الوجود موجودا قيام الموجود الذي هو الوجود بالمعدوم الذي هو السواد مثلا على تقدير صحة قولنا السواد موجود فيلزم جواز مثله في الحركات والألوان بأن يقال هذه أمور موجودة بشهادة الحس وقائمة بالمعدومات ويحصل المراد وهو بطلان حكم البداهة لأنها تحكم بأن هذه الحركات والألوان لا يجوز قيامها إلا بأمور موجودة
وأشار إلى ثانيهما بقوله وأيضا فإنه أي حمل الوجود على السواد على تقدير المغايرة حكم بوحدة الاثنين وهما السواد والوجود وأنه باطل لا يقال ليس المراد بقولنا السواد موجود هو أن السواد عين الوجود حتى يلزم ما ذكرتم بل المراد أن السواد موصوف بالوجود ولا إشكال فيه لأنا ننقل الكلام إلى الموصوفية بالوجود فإن مفهوم الموصوفية بالوجود إما نفس السواد فلا يفيد الحمل وقد أبطلناه وأما غيره فيكون قولنا السواد موصوف بالوجود حكما بوحدة الاثنين إلا أن يراد به أن السواد موصوف بموصوفية الوجود وحينئذ يعود التقسيم إلى الموصوفية الثانية ويلزم التسلسل وهو باطل فوجب رفع الموصوفية عن البين ويلزم الحكم بوحدة الاثنين فإن قيل لا يمتنع التسلسل في الأمور الذهنية لأن البرهان إنما قام على بطلانه في الأمور الخارجية والموصوفية من المفهومات الاعتبارية الذهنية قلنا الموصوفية نسبة بين الموصوف والصفة فتقوم بهما وهو الذهن لاستحالة قيام النسبة بغير المنتسبين وإذا لم تقم بالذهن لم تكن أمرا ذهنيا بل خارجيا

وقد يقال معنى كونها ذهنية أنها ليست موجودا خارجيا بل توجد في الذهن قائمة بالمنتسبين مع أن حكم الذهن بأن السواد موصوف بالوجود في الخارج اما مطابق للخارج فيكون هناك موصوفية خارجية ويعود الإلزام الذي ذكرناه أو لا يكون مطابقا له فلا عبرة به لكونه حكما باطلا وقد يجاب بأن حكم الذهن يجب أن يكون مطابقا لنفس الأمر حتى يكون صادقا لا للخارج فإنه أخص منها وأيضا إذا صدق أن هذا موصوف بكذا في الخارج لم يلزم وجود الموصوفية في الخارج للفرق الظاهر بين أن يكون قولنا في الخارج ظرفا لنفس الموصوفية وبين أن يكون ظرفا لوجودها وأما النفي وهو قولنا السواد ليس بموجود فلأن وجوده إما نفسه فنفيه عنه أي سلب الوجود عن السواد حينئذ تناقض لأنه سلب الشيء عن نفسه أو غيره وهو باطل لوجهين
الوجه الأول قوله فيتوقف نفيه عنه على تصوره أي يتوقف نفي الوجود عن السواد على تصور السواد المحكوم عليه بذلك النفي وهو أي تصور السواد يستدعي تميزه وثبوته لما عرفت في الوجه الأول من الوجوه الأربعة فيكون حصول الوجود للسواد شرطا في نفي الوجود عنه وهو محال وليس ثبوت السواد في الذهن حتى يقال هذا الثبوت شرط لنفي الثبوت الخارجي عنه ولا محذور فيه لما مر من أن الكلام في النفي المطلق المقابل للثبوت الذي هو أعم من الخارجي والذهني فلو كان السواد ثاتبا في الذهن لم يصح نفي الثبوت عنه مطلقا وجوابه أن ثبوت السواد في الذهن شرط للحكم بانتفاء الثبوت المطلق عنه لا لانتفائه عنه ولم نحكم على السواد الثابت في الذهن أنه معدوم مطلقا بل رددناه بينه وبين الموجود في الجملة فلا محذور أصلا وقد يتوهم أن الضمائر في تصوره وتميزه وثبوته راجعة إلى نفي الوجود عن السواد وتصور هذا النفي هو تصور المعدوم فيلزم تميزه وثبوته وقد تبين بطلانه وما ذكرناه هو المذكور في المحصل

والوجه الثاني من ذينك الوجهين قوله وأيضا فإنه أي نفي الوجود عن السواد وسلبه عن ماهيته يقتضي خلو الماهية عن الوجود وسنبطله في مسألة أن المعدوم ليس بشيء إذ يستدل هناك على امتناع خلو الماهية عن الوجود فيستحيل الحكم عليها بالعدم وقد يجاب بأن عدم خلوها عن الوجود لا ينافي الترديد بينه وبين العدم
قال في المحصل فقد ظهر أنه ليس لقولنا السواد موجود والسواد معدوم معنى محصل فلا يكون أيضا للترديد بينهما مفهوم محصل فامتنع التصديق به فضلا عن أن يكون ذلك التصديق بديهيا
والوجه الثالث وهو أن يكون الترديد في قولنا الشيء إما أن يكون أو لا يكون بين ثبوت الشيء لغيره وسلبه عنه كما في قولنا الجسم إما أسود أو لا باطل أيضا لأن الجزء الثبوتي منه لا يعقل على وجه يكون معناه صحيحا لأنه حكم بوحدة الاثنين وذلك مما لا يتصور صحته قطعا ولأن المحمول إذا كان مغايرا للموضوع كما فيما نحن بصدده وجب أن يكون المعنى أن الموضوع موصوف بالمحمول فقد اعتبر بينهما موصوفية ولا يمكن اعتبارها على وجه يصح لأن الموصوفية ليست عدمية لأنه نقيض اللاموصوفية وتذكير الضمير للنظر إلى الخبر وهي أي اللاموصوفية عدمية لصدقها على المعدوم فإن المعدومات لا تتصف بالألوان والحركات فالموصوفية ثبوتية وإلا ارتفع النقيضان أعني الموصوفية واللاموصوفية إذ لا ثبوت لشيء منهما ولا وجودية وإلا أي وإن كانت الموصوفية وجودية فإما نفسهما أي نفس الموصوف والصفة فلا يعقلان دونها وهو ظاهر البطلان وكذا الحال إذا كانت الموصوفية جزءا لهما أو غيرهما يعني به ما كان خارجا عنهما قائما بهما فلهما حينئذ موصوفية بها أي بتلك الموصوفية القائمة بهما فننقل الكلام إلى الموصوفية الثانية فإنها تكون أيضا وجودية قائمة بطرفيها فهناك موصوفية ثالثة فتتسلسل الموصوفيات إلى ما لا يتناهى وهو باطل وإذا لم تكن الموصوفية عدمية ولا وجودية فلا يمكن اعتبارها بين الموضوع والمحمول اعتبارا صحيحا فلا يكون حينئذ للجزء

الثبوتي من قولنا الشيء إما أن يكون أو لا يكون معنى صحيح فهو باطل قطعا فإذا الحق منه هو السلب أبدا وأنتم لا تقولون به أي بتعين الحقية في الجزء السلبي
الوجه الرابع من الوجوه الأربعة الدالة على أن أجلى البديهيات ليس بيقيني أن يقال الواسطة المسماة بالحال ثابتة بينهما أي بين الموجود والمعدوم لما سيأتي بيانه في الموقف الثاني وإذ أثبتها قوم بلغوا في الكثرة إلى حد تقوم الحجة بقولهم ونفاها الأكثرون وادعوا أن البديهة شاهدة بالانحصار في الموجود والمعدوم فأحد الفريقين أشتبه عليه البديهي وغيره فإن الانحصار فيهما إن كان بديهيا فقد اشتبه على الفرقة الأولى البديهي بغيره وإلا فقد اشتبه على الأكثرين ما ليس بديهيا بالبديهي وحيث جاز الاشتباه فيه فلا ثقة به بل ولا ثقة بشيء من البديهيات لجواز كونه من المشتبهات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن قولنا الشيء إما أن يكون أو لا يكون ليس بيقيني فلا يكون غيره أيضا يقينيا وهو المطلوب وستعرف جواب الوجه الرابع عن قريب فلذلك تركه وأشار إلى أجوبة الوجوه الثلاثة فقال والجواب أن المتصور مفهوم المعدوم وذلك لأن المعدوم وقع هناك محمولا فيراد به مفهومه وهو أي مفهوم المعدوم مفهوم قولنا ذات ما ثبت له العدم على أنه تركيب تقييدي لا أي ليس مفهوم المعدوم أن ثمة ذاتا ثبت له العدم في نفس الأمر وإلا اقتضى مفهوم المعدوم تحقق ذات في

نفس الأمر متصفة بالعدم فيها وأنه باطل وهو أي مفهوم المعدوم هو المتميز لكونه متصورا ولكونه محكوما عليه بالانفصال بينه وبين الموجود وهو الثابت لكونه متميزا وهذا الذي ذكره جواب عن الوجهين الأولين وتوضيحه أن يقال إن أردتم بما ذكرتم في الوجه الأول من أن أجلى البديهيات يتوقف على تصور المعدوم أنه يتوقف على تصور ذات المعدوم فهو ممنوع وإن أردتم به توقفه على تصور مفهوم المعدوم فهو مسلم ويلزم حينئذ أن يكون مفهوم المعدوم متميزا وثابتا في الذهن ولا استحالة فيه إنما المستحيل أن يكون ما صدق عليه مفهوم المعدوم المطلق ثابتا بوجه وإن أردتم بما ذكرتم في الوجه الثاني من أن أجلى البديهيات يقتضي تميز المعدوم عن الموجود أنه يقتضي تميز ذات المعدوم المطلق حتى يلزم أن يكون ذاته ثابتا بوجه ما منعناه وإن أردتم به أنه يقتضي تميز مفهوم المعدوم المطلق كما هو الظاهر من عبارتكم سلمناه فيكون لمفهومه حقيقة وللعقل سلبها فهناك عدم خاص قد عرض لمفهوم المعدوم مطلقا وليس في ذلك كون قسم من الشيء قسيما له وإنما يلزم هذا في رفع حقيقة العدم ولا استحالة فيه أيضا إذ يكون عدم العدم المطلق من حيث أنه رفع للعدم المطلق قسيما له ومن حيث أنه عدم خاص قسيما منه والحمل أي حمل الموجود على السواد إنما صح للتغاير مفهوما فإن مفهوم السواد مغاير لمفهوم الموجود والاتحاد هوية أي ذاتا صدقا عليه فلا يلزم ههنا عدم الإفادة كما في قولنا السواد سواد ولا الحكم بوحدة الإثنين فهذا جواب عن الدليل الثاني في الشق الأول الذي هو طرف الثبوت من الترديد الأول من الوجه الثالث أعني قوله وأيضا فإنه حكم بوحدة الإثنين وترك جواب الدليل الأول في هذا الشق أعني قوله فهو في نفسه معدوم اعتمادا على ما سيجيء من أن الماهية في حد ذاتها ليست موجودة ولا معدومة وأنه ليس يلزم من كون

الوجود معدوما اجتماع النقيضين وقد ذكر في طرف النفي من هذا الترديد أيضا دليلين قد علم جواب أولهما مما قررناه لك هناك ومما مر في جواب الأولين من الأربعة وجواب الثاني مما أسلفناه من أن عدم خلو الماهية عن الوجود لا ينافي صدق ترديدها بينه وبين العدم وهذا أعني قوله والحمل للتغاير بعينه جواب عن الدليل الأول في الشق الأول من الترديد الثاني من الوجه الثالث كما أن قوله والموصوفية جواب عن الدليل الثاني في هذا الشق أيضا وحاصله أن يقال الموصوفية ونحوها من الأمور الاعتبارية كالإمكان والحدوث والقدم لا وجود لها ولا لنقيضها في الخارج كالامتناع ونقيضه أعني اللاإمتناع إذ لا وجود لهما في الخارج بلا شبهة وليس ارتفاع النقيضين بحسب الوجود الخارجي محالا إنما المحال ارتفاعهما في الصدق لأن تناقضهما إنما هو باعتباره لا باعتبار الوجود في الخارج وستفاد أنت فيما يرد عليك من المباحث الآتية زيادة تحقيق تتسلق به أي بذلك التحقيق الذي زيد لك إلى الجواب التفصيلي فيما أجبنا عنه إجمالا وفيما تركنا جوابه أيضا
الشبهة الثانية للقادحين في البديهيات فقط أنا نجزم بالعاديات التي جرت بها العادة كجزمنا بالأوليات التي هي البديهيات سواء لا فرق بينهما فيما يعود إلى الجزم وطمأنينة العقل مع أن العاديات لا اعتماد عليها فكذا البديهيات فمنها أي من العاديات المجزوم بها أن هذا الشيخ الذي رأيناه الآن على هيئة الشيخوخة لم يتولد دفعة على هذه الهيئة بلا أب وأم بل تولد منهما ملتبسا بالتدريج فكان وليدا ثم طفلا ثم مترعرعا من ترعرع

الصبي أي تحرك ونشأ إلى أن شاخ بعد الشباب والكهولة ومنها أن أواني البيت لم تنقلب بعد خروجي عنه أناسا فضلاء محققين في العلوم الإلهية والهندسية ولا أحجاره أي ولم تنقلب أحجار البيت جواهر نفيسة ولا ماء البحر الذي رأيناه من قبل دهنا وعسلا وأن ليس تحت رجلي الآن ياقوتة من ألف من ومنها أن المجيب عن خطابي بما يطابقه حي فاهم لما خوطب به عالم بما يطابقه من الجواب قادر على التعبير عنه ثم إذا تأملنا في هذه القضايا التي ذكرناها لم نجدها مما يجوز الجزم بها فكان الاحتمال أي احتمال الخطأ قائما في الكل أي في كل هذه القضايا باتفاق العقلاء أما عند المتكلمين فلا ستناد الكل أي كل الأشياء عندهم إلى القادر المختار فلعله أوجب أي أثبت وأوجد باختياره شيئا من ذلك أي مما ذكر من الشيخ المتولد دفعة ونظائره من الأمور المستبعدة التي لم تجر بها عادته للإمكان فإن هذه الأمور المستبعدة جدا ممكنة في حد ذواتها قطعا وعموم القدرة لجميع الممكنات مستقربة كانت أو مستبعدة وأما عند الحكماء فلا ستناد الحوادث الأرضية عندهم إلى الأوضاع الفلكية الحادثة من حركاتها فلعله حدث شكل أي وضع غريب فلكي لم يقع فيما مضى من الزمان مثله أو وقع لكنه لا يتكرر ذلك الشكل بتعاقب الأمثال إلا في ألوف من السنين كثيرة جدا بحيث لا تفي بضبطها التواريخ فاقتضى ذلك الشكل الغريب ذلك الأمر العجيب وأيضا إنما فصل هذه القضايا السابقة لأن المتكلم قائل بوقوع ما هو قادح فيها أعني تبديل صورة الملك فأنا أجزم بأن ابني هذا ليس جبريل وكذا الذبابة التي نراها ليست جبريل وأنتم يا أهل الملة تجوزونه أي تجوزون ما ذكر من كون ابني أو الذبابة جبريل إذ نقلتم أنه كان يظهر جبريل تارة في صورة دحية الكلبي وكان له أخرى دوي كدوي الذباب

والجواب أن الإمكان أي إمكان نقائض ما جزمنا به من العاديات لا ينافي الجزم بالوقوع أي وقوع تلك الأمور العادية جزما مطابقا للواقع ثابتا لا يزول بالتشكيك أصلا كما في بعض المحسوسات فإنا نجزم بأن هذا الجسم شاغل لهذا الحيز في هذا الآن جزما لا تتطرق إليه شبهة مع أن نقيضه ممكن في ذاته فقد ظهر أن الجزم في العاديات واقع موقعه وليس فيها احتمال النقيض القادح في الجزم وأما احتمال النقيض بمعنى إمكانه الذاتي فليس بقادح فيها كما في المحسوسات اليقينية وقد مر ذلك في تعريف العلم
الشبهة الثالثة لمنكري البديهيات فقط أن يقال للأمزجة والعادات تأثير في الاعتقادات فقوي القلب بحسب المزاج يستحسن الإيلام ولا يستقبحه بل ربما يلتذ به وضعيف القلب يستقبحه جدا ولذلك نرى بعضهم لا يجوزون ذبح الحيوانات للانتفاع بأكلها ومن مارس مذهبا من المذاهب حقا كان أو باطلا واعتاد به برهة من الزمان ونشأ عليه فإنه بمجرد اعتياده به من غير أن يلوح له ما يظهر به حقيته يجزم بصحته وإن كان باطلا وبطلان ما يخالفه وإن كان حقا فجاز أن يكون الجزم من بديهة العقل في الكل أي كل ما حكمت به لمزاج أو عادة عامين لجميع أفراد الإنسان المتفقين في البديهيات فلا تكون يقينية كالقضايا الصادرة من الأمزجة والعادات المخصوصة لا يقال نحن نفرض أنفسنا خالية عن جميع الأمزجة والعادات ومع ذلك نجد من أنفسنا الجزم بهذه الأمور البديهية فالحاكم فيها صريح العقل بلا تأثير من مزاج أو عادة لأنا نقول لا نسلم إمكان فرض الخلو عن جميع الأمزجة والعادات إذ قد لا نشعر ببعض من الهيآت المزاجية أو العادية فكيف نفرض الخلو عن ذلك البعض مع عدم الشعور به ولئن سلم إمكان فرض الخلو عن الجميع فلا يلزم من فرض الخلو الخلو في نفس الأمر ألا يرى أن البخيل لا يزول عنه بخله بمجرد فرض خلوه عنه ولعل عادة

مستمرة صارت ملكة مستقرة لا تزول بتهذيب النفس عنها مدة العمر فضلا عن مجرد فرض زوالها والخلو عنها
والجواب أنه أي ما ذكرتم من تأثير الأمزجة والعادات في الاعتقاديات وحصول الجزم بسبب ذلك في القضايا لا يدل على جواز كون الكل أي جميع القضايا البديهية كذلك أي حاصلة بتأثير المزاج أو العادة فإن الجزم بكون الكل أعظم أي أزيد من الجزء ليس مما للأمزجة أو العادات فيه مدخل قطعا
الشبهة الرابعة للفرقة المنكرة للأحكام الديهية فقط قولهم مزاولة العلوم العقلية دلت على أنه قد يتعارض دليلان قاطعان بحسب الظاهر بحيث تعجز عن القدح فيهما وما هو أي العجز عن القدح فيهما إلا للجزم بمقدماتهما مع أن إحديهما أي إحدى تلك المقدمات وهي الأمور المعتبرة في صحة الدليلين خطأ قطعا وإلا أي وإن لم تكن إحداها خطأ بل كانت بأسرها صوابا اجتمع النقيضان في الواقع لصحة الدليلين حينئذ وإذا كانت إحداهما خطأ مع جزم بديهة العقل بصحتها فقد ارتفع الوثوق عن أحكامها
فإن قيل لا نسلم العجز عن القدح فيهما دائما فإن ذلك العجز لا يدوم ويحق الحق ويبطل الباطل من ذينك الدليلين المتعارضين عن كثب أي قرب
قلنا نحن لا ندعي العجز عن القدح دائما بل بالإطلاق فحين العجز ولو أنا نجزم لما لا يجوز الجزم به وأنه أي الجزم في آن بما لا يجوز الجزم به كاف في رفع الثقة عن أحكام البديهة
والجواب بعد تسليم كون مقدمات ذينك الدليلين المتعارضين بديهية أن البديهي ما يجزم به بتصور الطرفين مع ملاحظة النسبة بينهما فيتوقف البديهي على تجريدهما أي تجريد الطرفين عما لا مدخل له في ذلك

الحكم وتعلقهما على وجه هو مناط الحكم فيما بينهما فلعل فيه أي في تجريد الطرفين وتعلقهما على ذلك الوجه خللا لوجود خفاء فيهما إما لكونهما نظريين أو لغير ذلك فيتطرق الخطأ إلى البديهي لهذا السبب فلا يلزم رفع الثقة عن البديهيات التي جرد أطرافها على ما هو حقها
الشبهة الخامسة لهم أنا نجزم بصحة دليل آونة أي أزمنة متطاولة ونجزم لأجله بما يلزمه من النتيجة ثم يظهر لنا خطأه ظهورا لا تبقى معه فيه شبهة ولذلك ننقل المذاهب المتنافية وأدلتها المتخالفة إذ ربما لاح حقية ما حكم فيها ببطلانه وبالعكس فجاز مثله في الكل أي كل ما يجزم به من البديهيات فيرتفع الأمان عنها
الشبهة السادسة لهم أن في كل مذهب من المذاهب المشهورة قضايا صاحبه فيها البداهة ومخالفوه ينكرونها أي البداهة في تلك القضايا وهو أي ما ذكر من ادعاء البداهة فيها وإنكارها يوجب الاشتباه في البديهيات بأسرها ورفع الأمان عنها وذلك لاشتباه البديهي بغيره على إحدى الطائفتين ههنا فلنعد عدة منها أي من تلك القضايا التي وقع النزاع في بداهتها
الأولى للمعتزلة الصدق النافع حسن والكذب الضار قبيح قالوا يحكم بذلك بديهة العقل وأنكره الأشاعرة والحكماء واتفقوا على أنها ليست من القضايا الأولية بل من المشهورات التي قد تكون كاذبة وقد تكون صادقة
الثانية لهم أيضا فإنهم قالوا العبد موجد بالاستقلال لأفعاله الاختيارية متمكن من فعلها وتركها بيده زمام الاختيار فيها وادعى بعضهم أن هذا الحكم بديهي وهما أي الأشاعرة والحكماء منعاه أي كذبا هذا الحكم وعارضاه أي قابلا ادعاء الضرورة فيه بضرورة أخرى في أنه لا بد له

أي للفعل الصادر عن العبد من مرجح يرجح أحد طرفيه الجائزين على الآخر فإن حركته يمنة ويسرة إذا كانتا جائزتين منه على سواء فلا بد بالضرورة في صدور إحديهما عنه من مرجح يرجحها على الأخرى فهو أي فذلك المرجح من خارج أي لا يكون صادرا عن العبد وإلا تسلسل ما صدر عنه من أفعاله إلى ما لا يتناهى بل ذلك المرجح أمر واجب هو إرادته تعالى إما بغير واسطة وإما بوسائط فإن استناد الجائز إلى الواجب أمر ضروري ومع هذا الاستناد لم يبق للعبد التمكن والاستقلال بالاختيار
الثالثة للحكماء والمعتزلة أيضا قالوا يمتنع بالبديهة رؤية أعمى الصين في ظلمة الليل ببقعة الأندلس ويمتنع أيضا بالبديهة رؤية مالا يكون مقابلا للرائي أو في حكمه كما في رؤية الأشياء في المرآة فإنها في حكم المقابل وجوزه أي ما ذكر من الرؤيتين الأشعرية فقد كذبوهم في دعوى الامتناع فضلا عن كون العلم بالامتناع ضروريا
الرابعة للكل أي لجمهور الناس حتى العوام فإنهم قالوا الأعراض كالألوان وغيرها باقية مستمرة الوجود في أزمنة متطاولة تشهد به بديهة العقل وأنكره أي بقاء الأعراض الأشعرية وكثير من المعتزلة وزعموا أنها متجددة آنا فآنا إما بإعادة المعدوم وإما بتعاقب الأمثال

الخامسة للمجسمة قالوا كل موجود إما مقارن للعالم أو مباين له فإن البديهة تشهد بأن ما لا يختص بجهة ولا يكون ملاقيا للعالم ولا مباينا له فليس بموجود وأنكره الموحدون عن آخرهم أي اتفقوا على إنكار هذا الحكم وتكذيبه فضلا عن أن يكون العلم به بديهيا وقالوا إنه حكم وهمي
السادسة للمتكلمين القائلين بالخلاء قالوا يجب بالبديهة انتهاء الأجسام أي انتهاء كل واحد منها إلى ملأ أو خلاء وينكره الحكماء النافون للخلاء ويقولون هذا من الأحكام الوهمية الكاذبة
السابعة للحكماء القائلين بقدم الزمان قالوا لا يعقل تقدم عدم الزمان عليه إلا بزمان فلو كان حادثا مسبوقا بعدمه لكان موجودا حال ما كان معدوما والقائلون بالحدوث فيما سوى الواجب تعالى يكذبونهم في هذا الحكم ويعارضونهم بتقدم بعض أجزاء الزمان على بعضها
الثامنة للحكماء قالوا لا حدوث لشيء إلا عن شيء آخر هو مادة له وادعى بعضهم العلم الضروري باستحالة حدوث شيء لا عن شيء والمسلمون ينكرونه ويجوزون حدوث الأشياء التي لا تعلق لها بمادة أصلا
التاسعة لهم أيضا قالوا الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ويجوزه المسلمون من القادر فإنه يجوز أن يرجح أحد طرفي مقدوره على الآخر بلا مرجح يدعوه إليه
العاشرة للمتكلمين قالوا الإنسان محل لألمه ولذته أي يدركهما بذاته وقال الحكماء بل محلهما ومدركهما هو الجسم والقوى الحالة فيه وهو أي ذلك الجسم الذي حلت فيه تلك القوى آلة له أي للإنسان وليس هو ذات الإنسان قال في النهاية اتفق المتكلمون على أن أول العلوم الضرورية علم الإنسان بنفسه وألمه ولذته وجوعه وعطشه واتفقت الفلاسفة على أن مدرك الألم واللذة والجوع والعطش ليس ذات الإنسان بل قواها

الجسمانية التي هي من توابع ذاته التي هي النفس الناطقة فإنها الإنسان بالحقيقة
الحادية عشرة للأشعرية قالوا يمتنع بالبديهة الفعل عن نائم أو معدوم وجوزه المعتزلة توليدا
وجوابهما أي جواب الشبهة الخامسة والسادسة يعلم من جواب الشبهة الرابعة فيقال في جواب الخامسة لا نسلم أن مقدمات الدليل الذي نجزم بصحته آونة بديهية ولئن سلم ذلك فالبديهي قد يتطرق إليه الاشتباه لخلل في تجريد طرفيه وتعقلهما على الوجه الذي هو مناط الحكم بينهما وذلك لا يعم جميع البديهيات كما عرفت وفي جواب السادسة أن أصحاب المذاهب ادعوا في تلك القضايا أنها ضرورية ولذلك أوردها الإمام الرازي في شبه السوفسطائية فلا يلزم ادعاء البداهة بمعنى الأولية فيها سلمنا ولكن الأولى قد يقع خلل في تصور طرفيه كما مر فلا يعم الاشتباه في الأوليات وقد أجيب عنها أي عن الشبهة الأخيرة أعني السادسة بأن الجازم بها أي بتلك القضايا التي ادعت أصحاب المذاهب بداهتها بديهة الوهم لا بديهة العقل وهي أي بديهة الوهم كاذبة لا اعتماد على أحكامها إذ تحكم بما ينتج نقائضها أي نقائض الأحكام الصادرة عنها فإنها تحكم بأن الميت جماد وأن الجماد لا يخاف منه وهما ينتجان نقيض ما حكمت به من أن الميت يخاف منه بخلاف بديهة العقل فإنها صادقة قطعا وقد يقال أراد أن بديهة الوهم تحكم بما ينتج نقائض هذه القضايا التي جزمت بها
قلنا فيتوقف الجزم بها أي بالبديهيات وبصحتها على هذا الدليل

الذي يظهر به كذب بديهة الوهم إذ به يمتاز بديهة العقل عنها فيدور أي يلزم الدور لأن هذا الدليل يتوقف على صحة البديهيات التي استعملت فيه وأيضا إذا توقف الوثوق بجزم البديهة بقضية على أنها ليست جازمة بما ينتج نقائضها إذ لو جزمت به أيضا لكانت تلك القضية من الأحكام الوهمية التي لا وثوق بها فلا يحصل الجزم الموثوق به في بديهي مالم نتيقن أنه لا ينتج نقيضه أي مالم يتيقن أن ذلك البديهي ليس في مجزومات البديهة ما ينتج نقيضه وذلك مما لا يتيقن بل غايته عدم الوجدان مع التفحص البليغ وأنه لا يدل على عدم الوجود دلالة قطعية وقد أجيب عن الشبه الست كلها بأن المقدمات المذكورة فيها ليست قضايا حسية فهي إما بديهيات أو نظريات مستندة إلى بديهيات فلو كانت قادحة في البديهيات لكانت قادحة في أنفسها ورد بأنا لم نقصد بإيراد الشبه إبطال البديهيات باليقين بل قصدنا ايقاع الشك فيها وكيف ما كان الحال فمقصودنا حاصل ثم أنهم أي المنكرين للبديهيات فقط بعد تقرير الشبه قالوا لخصومهم إن أجبتم عنها أي عن هذه الشبه فقد التزمتم أن البديهيات لا تصفو عن الشوائب ولا يحصل الوثوق بصحتها إلا بالجواب عنها أي عن هذه الشبه وأنه أي الجواب عنها إنما يحصل بالنظر الدقيق فلا تبقى البديهيات ضرورية لتوقفها حينئذ على ذلك النظر الدقيق وهو أي عدم بقائها ضرورية موثوقا بها لأجل الضرورة هو المراد من إيراد تلك الشبه وأيضا فيلزم الدور لتوقف البديهيات حينئذ على النظريات المتوقفة عليها هذا إذا كان الجواب بمقدمات نظرية وإن كان بمقدمات بديهية توقف الشيء أعني البديهي على نفسه وإن لم تجيبوا عنها أي عن الشبه تمت ونفت الجزم بالبديهيات
وأجيب عن ذلك بأنا لا نشتغل بالجواب عنها لأن الأوليات مستغنية عن أن يذب عنها وليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها

فاسدة قطعا وإن لم يتيقن عندنا وجه فسادها أو نشتغل بالجواب لإظهار فساد الشبه لا لاحتياج العقل في جزمه بصحة البديهيات إلى ذلك الجواب فإنه جازم بها مع قطع النظر عنه
الفرقة الرابعة المنكرون لهما أي للحسيات والبديهيات جميعا وهم السوفسطائية قالوا دليل الفريقين يبطلهما أي الحسيات والبديهيات والنظر فرعهما فيبطل ببطلان أصله المنحصر فيهما ولا طريق إلى العلم غيرهما أي غير الضرورة والنظر وأمثلهم أي أفضل السوفسطائية اللاأدرية القائلون بالتوقف فإنهم قالوا ظهر بكلام الفريقين تطرق التهمة إلى الحاكم الحسي والعقلي فلا بد من حاكم آخر وليس ذلك الحاكم هو النظر لأنه فرعهما فلو صححناهما به لزم الدور وليس لنا شيء يحكم سوى الضرورة والنظر وقد بطلا فوجب التوقف في الكل فإذا قيل لهم لقد قطعتم بشبهتكم هذه ببطلان الحسيات والبديهيات والنظر جميعا وبوجوب التوقف فقد ناقضتم بكلامكم كلامكم
قالوا كلامنا هذا لا يفيدنا قطعا بذلك البطلان والوجوب فيتناقض بنفسه كما توهمتم بل يفيدنا شكا فأنا شاك في بطلان تلك الأمور ووجوب التوقف وشاك أيضا في أني شاك وهلم جرا فلا ينتهي في الحال إلى قطع شيء أصلا فيتم مقصودنا بلا تناقض ومنهم فرقة أخرى تسمى

بالعنادية وهم الذين يعاندون ويدعون أنهم جازمون بأن لا موجود أصلا وإنما نشأ مذهبهم هذا من الإشكالات المتعارضة مثل ما يقال لو كان الجسم موجودا لم يخل من أن يتناهى قبوله للانقسام فيلزم الجزء وهو باطل لأدلة نفاته أو لا يتناهى وهو أيضا باطل لأدلة مثبتيه ولو كان شيء ما موجودا لكان إما واجبا أو ممكنا وكلاهما باطل للإشكالات القادحة في الوجوب والإمكان وبالجملة ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة مثلها في القوة تقاومها ويرد عليهم أنكم جزمتم بانتفاء الأحكام كلها وبلزومه عما ذكرتم من الشبه فكان كلامكم مناقضا لنفسه
ومنهم فرقة ثالثة تسمى بالعندية وهم القائلون بأن حقائق الأشياء تابعة للاعتقادات دون العكس فمن اعتقد مثلا أن العالم حادث كان حادثا في حقه وبالعكس فمذهب كل طائفة حق بالقياس إليهم وباطل بالقياس إلى خصومهم ولا استحالة فيه إذ ليس في نفس الأمر شيء بحق واحتجوا على ذلك بأن الصفراوي يجد السكر في فمه مرا فدل على أن المعاني تابعة للإدراكات وذلك مما لا يخفى فساده فظهر أن السوقسطائية قوم لهم نحلة ومذهب ويتشعيون إلى هذه الطوائف الثلاث
وقيل ليس يمكن أن يكون في العالم قوم عقلاء ينتحلون هذا المذهب بل كل غالط سوفسطائي في موضع غلطه فإن سوفا بلغة اليونانيين اسم للعلم واسطا اسم للغلط فسوفسطا معناه علم الغلط كما أن فيلا بلغتهم اسم المحب وفيلسوف معناه محب العلم ثم عرب هذان اللفظان واشتق منهما السفسطة والفلسفة والمناظرة معهم أي مع السوفسطائية قد منعها المحققون من العلماء لأنها لإفادة المجهول المحتاج إلى النظر بالعلوم ولا يتصور في الضروريات كونها مجهولة أي محتاجة إلى النظر والخصم لا يعترف بمعلوم حتى يثبت به مجهول فانتفى القيدان

المعتبران في المناظرة فالاشتغال به أي بجواب ما ذكروه من الشبه التزام لمذهبهم ومحصل لغرضهم كما قرروه في قولهم إن أجبتم عنها . . الخ بل الطريق معهم في إلزامهم ودفع إنكارهم أن تعد عليهم أمور لا بد لهم من الإعتراف بثبوتها والجزم فيها حتى يظهر عنادهم في إنكار الأشياء كلها مثل أنك هل تميز بين الألم واللذة أو بين دخول النار والماء أو بين مذهبك وما يناقضه فإن أبوا إلا الإصرار على الإنكار أوجعوا ضربا وأصلوا نارا أو يعترفوا أي إلى أن يعترفوا بالألم وهو من الحسيات وبالفرق بينه وبين اللذة وهو من البديهيات
قال ناقد المحصل والحق أن تصدير كتب الأصول الدينية بمثل هذه الشبهات تضليل لطلاب الحق وقد يقال اطلاعهم على هذه الشبه ووجوه فسادها يفيدهم التثبت فيما يرومونه كيلا يركنوا إلى شيء منها إذا لاح لهم في بادئ رأيهم

المرصد الخامس في النظر
إذ به يحصل المطلوب الذي هو إثبات العقائد الدينية وقيل هو معرفة الله تعالى وفيه مقاصد
المقصد الأول
في تعريفه قال القاضي الباقلاني النظر هو الفكر الذي يطلب به علم أو غلبة ظن وأورد عليه أسئلة أربعة
السؤال الأول إن الظن ينقسم إلى مطابق وغير مطابق والظن الغير المطابق جهل فيلزم مما ذكره في تعريف النظر أن يكون الجهل مطلوبا وهو ممتنع كذا قال الآمدي وزاد عليه المصنف فقال لا يطلبه عاقل فإذا المطلوب بالفكر من الظن ما يعلم مطابقته للواقع فيكون علما لا ظنا وحينئذ يكون قوله أو غلبة ظن مستدركا ويمكن أن يقال قد يكتفى بظن المطابقة فلا يندرج في العلم فلا استدراك
قلنا بل يطلب الظن من حيث هو ظن من غير ملاحظة المطابقة للمظنون وعدمها فإن المقصود الأصلي قد يترتب على الظن من حيث هو ظن كما في الاجتهاديات العملية ولا يلزم من طلب الأعم الذي هو الظن مطلقا طلب الأخص الذي هو الظن الغير المطابق فلا يلزم طلب الجهل
السؤال الثاني غلبة الظن غير أصل الظن بلا شبهة فيخرج عنه أي عن تعريف القاضي ما يطلب له أصل الظن فلا يكون تعريفه جامعا

الظن هو المعبر عنه بغلبة الظن لأن الرجحان مأخوذ في حقيقته فإن ماهيته هو الاعتقاد الراجح فكأنه قيل أو غلبة الاعتقاد التي في الظن وفائدة العدول إلى هذه العبارة هي التنبيه على أن الغلبة أي الرجحان مأخوذة في ماهيته وقد أجاب عنه الآمدي بأن له أي النظر خاصتين إفادة أصل الظن وإفادة غلبته بأن يزداد رجحانه وقوته متقاربا إلى الجزم وقد اكتفى في تعريفه بذكر إحداهما يعني إحدى الخاصتين ولا يجب ذكر الكل أي كل خواصه في تعريفه وفيه نظر إذ يوجب جوابه هذا جواز القناعة بقوله يطلب به علم فإن إفادة العلم خاصة ثالثة للنظر كما اعترف هو به فجاز أن يقتصر على إحدى الخواص لأن ذكر الكل غير واجب وفساده ظاهر لخروج ما يطلب به الظن مطلقا ولأن هذه الخاصة التي اكتفى بها مع ذكر العلم غير شاملة لأفراده فلا يكون جامعا إذ قد يخرج ما يطلب به الظن الخالي عن الغلبة المفسرة بما ذكره وأما الاكتفاء بإحدى الخاصتين أو الخواص فإنما يصح في الخواص الشاملة
السؤال الثالث التحديد إنما يكون للماهية من حيث هي هي وهذا الذي ذكره القاضي في تحديد النظر تعديد لأقسامه فإن ما يطلب به العلم وما يطلب به الظن قسمان داخلان تحت النظر
قلنا هذا تعريف رسمي والانقسام إليهما أي إلى هذين القسمين خاصة له أي للنظر مميزة إياه فيما عداه وقد يقرر هذا السؤال الثالث في هذا الموضع وغيره من الحدود المشتملة على الترديد بعبارة أخرى فيقال لفظة أو للترديد وهو أي الترديد للإبهام فينافي التحديد الذي يقصد به البيان
والجواب منع كونه أي كون أوفى الحدود التي ذكر فيها للترديد بل هو للتقسيم أي أيا كان من القسمين المذكورين في هذا الحد فهو من المحدود وحاصله أن المراد بأو أن قسما من المحدود حده هذا وهو أنه الفكر الذي يطلب به علم وقسما آخر منه حده ذاك وهو أنه الفكر الذي يطلب به ظن فهو في الحقيقة حدان لقسميه المتخالفين في الحقيقة

المتشاركين في ماهية مطلق النظر ولم يرد بأو أن الحد إما هذا وإما ذاك على سبيل الشك أو التشكيك لينافي التحديد
السؤال الرابع لفظ الفكر في هذا الحد زائد لا حاجة إليه إذ باقي الحد مغن عنه فإنه يكفي أن يقال النظر هو الذي يطلب به علم أو ظن
والجواب أن المراد بالفكر ههنا هو الحركات التخيلية أي الذهنية لا العينية المحسوسة فلا يكون منافيا لما قيل من أن حركة الذهن إذا كانت في المعقولات تسمى فكرا وإذا كانت في المحسوسات تسمى تخيلا كيف كانت أي سواء طلب بها علم أو ظن أو لم يطلب
قال إمام الحرمين في الشامل الفكر قد يكون لطلب علم أو ظن فيسمى نظرا وقد لا يكون فلا يسمى به كأكثر حديث النفس فهو بالمعنى الذي ذكرناه جنس للنظر لا مرادف له على ما هو المتعارف والباقي من الحد فصل له يميزه عن سائر الحركات التخيلية ولا يقال إن الفصل كاف في التمييز والجنس مستغن عنه في الحد كيف والجنس هو الذي يدل على أصل الماهية والفصل يحصلها ويميزها ألا ترى أنك إذا قلت النظر هو الذي يطلب به علم أو ظن لم يفهم منه أن أصل ماهية النظر ماذا هو بل ربما أوهم شموله لغير النظر مما له مدخل في ذلك الطلب

قال الآمدي لم يذكره جزاء من التعريف بل قال النظر هو الفكر بيانا لاتحاد مدلولهما وما بعده هو الحد لهما وفيه تمحل لا يخفى لأن بيان الترادف واتحاد المدلول في مقام التحديد بعبارة ظاهرة في خلافه بعيد جدا وإنما كانت ظاهرة في خلاف بيان الترادف لأن المتبادر منها أن الفكر من أجزاء الحد ولو أريد بيان ترادفهما لقيل النظر والفكر فهذا الحد الذي ذكره القاضي تعريفه الشامل لجميع أقسامه من الصحيح والفاسد والقطعي والظني والموصل إلى التصور سواء كان في مفرد أو مركب والموصل إلى التصديق على اختلاف أقسامه وله أي للنظر تعريفات بحسب المذاهب فمن يرى أنه أي النظر اكتساب المجهول بالمعلومات السابقة على ذلك المجهول وهم أرباب التعاليم القائلون بالتعليم والتعلم للمجهولات من المعلومات قالوا النظر ترتيب أمور معلومة أو مظنونة للتأدي إلى أمر آخر وعليه إشكالان
أحدهما أنه غير جامع لخروج التعريف بالفصل والخاصة وحدهما أي تعريف المجهول التصوري بالفصل وحده وبالخاصة وحدها فإن هذا التعريف من أقسام النظر مع خروجه عن حده وكونه أي كون التعريف بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها نزرا قليلا خداجا ناقصا كما قال ابن سينا لا يشفي غليلا لأن هذا الحد إنما هو لمطلق النظر فيجب أن يندرج فيه جميع أفراده التامة والناقصة قل استعمالها أو كثر وقد أجيب أيضا بأنه لا بد مع الفصل والخاصة من قرينة عقلية مخصصة لأنهما بحسب مفهوميهما

أعم من المحدود فلا يتصور الانتقال منهما إليه إلا مع أمر زائد يكون بينهما ترتيب وأيضا هما مشتقان ومعنى المشتق شيء له المشتق منه فهناك تركيب قطعا وكلاهما مردود أما الأول فلأن اعتبار القرينة مع الفصل يخرجه عن كونه حدا إلا أن يجوز الحد الناقص بالمركب من الداخل والخارج وأما الثاني فلعدم انحصار التعريف بالمفرد في المشتقات والحق أن التعريف بالمعاني المفردة جائز عقلا فتكون هناك حركة واحدة من المطلوب إلى المبدأ الذي هو معنى بسيط مستلزم للإنتقال إلى المطلوب من غير حاجة إلى قرينة رلا أنه لم ينضبط انضباط التعريف بالمعاني المركبة ولم يكن أيضا للصناعة وللاختيار فيه مزيد مدخل فلم يلتفتوا إليه وخصوا حد النظر بما هو المعتبر منه وهذا تحقيق ما نقله من ابن سيناء ومنهم من استصعب الإشكال فغير تعريف النظر إلى أنه تحصيل أمر أو ترتيب أمور
وثانيهما أنه أي الحد المذكور تعريف لمطلق النظر الشامل لجميع أقسامه لا الصحيح منه فقط وإلا وجب تقييد الظن المذكور في الحد بالمطابقة ليخرج عنه النظر الفاسد بحسب مادته ووجب أيضا أن يوضع في الحد مكان قوله للتأدي قوله بحيث يؤدي ليخرج عنه النظر الفاسد بحسب صورته وإذا كان هذا التعريف لمطلق النظر فمقدماته قد لا تكون معلومة ولا مظنونة أيضا بل هي مجهولة جهلا مركبا فلا يكون التعريف جامعا ولا يمكن أن يحمل العلم على المعنى الأعم إذ يلزم أن يكون قوله أو مظنونه مستدركا نعم قد يقال كما أن الظن يطلق على المعنى المشهور كذلك يطلق على ما يقابل اليقين من التصديقات فيحمل العلم ههنا على ما يتناول التصور والتصديق اليقيني كما مر والظن على ما يتناول سائر التصديقات
ونقول نحن في تعريف النظر على مذهبهم بحيث يتناول جميع أقسامه

في التصورات والتصديقات بلا إشكال هو ملاحظة العقل ما هو حاصل عنده لتحصيل غيره هذا وأما من يراه أي النظر مجرد التوجه إلى المطلوب الإدراكي بناء على أن المبدأ عام الفيض فمتى توجهنا إلى ذلك المطلوب أفاضه علينا من غير أن يكون لنا في ذلك استعانة بمعلومات سابقة فمنهم من جعله عدميا فقال هو تجريد الذهن عن الغفلات المانعة عن حصول المطلوب ومنهم من جعله وجوديا فقال هو تحديق العقل نحو المعقولات وشبهوه بتحديق النظر بالبصر نحو المبصرات وقد يقال كما أن الإدراك بالبصر يتوقف على أمور ثلاثة مواجهة المبصر وتقليب الحدقة نحوه طلبا لرؤيته وإزالة الغشاوة المانعة من الإبصار كذلك الإدراك بالبصيرة يتوقف على أمور ثلاثة التوجه نحو المطلوب وتحديق العقل نحوه طلبا لإدراكه وتجريد العقل عن الغفلات التي هي بمنزلة الغشاوة واعلم أن الظاهر مذهب أصحاب التعاليم وهو أن النظر اكتساب المجهولات من المعلومات وحينئذ نقول لاشبهة في أن كل مجهول لا يمكن اكتسابه من أي معلوم اتفق بل لا بد له من معلومات مناسبة إياه ولا شك أيضا في أنه لا يمكن تحصيله من تلك المعلومات على أي وجه كانت بل لا بد هناك من ترتيب معين فيما بينها ومن هيئة مخصوصة عارضة لها بسبب ذلك الترتيب فإذا حصل لنا شعور ما بأمر تصوري أو تصديقي وحاولنا تحصيله على وجه أكمل فلا بد أن يتحرك الذهن في المعلومات المخزونة عنده منتقلا من معلوم إلى آخر حتى يجد المعلومات المناسبة لذلك المطلوب وهي المسماة بمباديه ثم لا بد أيضا أن يتحرك في تلك المبادئ ليرتبها ترتيبا خاصا يؤدي إلى ذلك المطلوب فهناك حركتان مبدأ الأولى منهما هو

المطلوب المشعور به بذلك الوجه الناقص ومنتهاها آخر ما يحصل من تلك المبادئ ومبدأ الثانية أول ما يوضع منها للترتيب ومنتهاها المطلوب المشعور به على الوجه الأكمل فحقيقة النظر المتوسط بين المعلوم والمجهول هي مجموع هاتين الحركتين اللتين هما من قبيل الحركة في الكيفيات النفسانية وأما الترتيب الذي ذكروه في تعريفه فهو لازم للحركة الثانية وقلما توجد هذه الحركة بدون الأولى بل الأكثر أن ينتقل أولا من المطالب إلى المبادئ ثم منها إلى المطالب ولا خفاء في أن هذا الترتيب يستلزم التوجه إلى المطلوب وتجريد الذهن عن الغفلات وتحديق العقل نحو المعقولات فتأمل واعلم أيضا أن الإمام الرازي عرف النظر بترتيب تصديقات يتوصل بها إلى تصديقات أخر بناء على ما اختاره من امتناع الكسب في التصورات

المقصد الثاني
إنه أي النظر ينقسم إلى صحيح وهوالذي يؤدي إلى المطلوب وفاسد يقابله أي لا يؤدي إلى المطلوب فالصحة والفساد صفتان عارضتان للنظر حقيقة لا مجازا لكنه أراد أن يبين السبب في اتصافه بهما فقال ولما كان المختار عند المتأخرين مذهب أهل التعليم وهو أنه ترتيب العلوم بحيث يؤدي إلى هيئة مخصوصة للتأدي إلى مجهول ولا شك أن هذا الترتيب يتعلق بشيئين أحدهما تلك العلوم التي يقع فيها الترتيب وهي بمنزلة المادة له والثاني تلك الهيئة المترتبة عليه وهي منزلة الصورة له فإذا اتصفت كل واحدة منهما بما هو صحتها في نفسها اتصف الترتيب قطعا بصحته في نفسه أعني تأديته إلى المطلوب وإلا فلا وهذا معنى قوله ولكل ترتيب مادة وصورة أي لا بد له من أمرين يجريان منه مجرى المادة والصورة من المركب منهما فتكون جوابا لما مع الفاء وهو قليل في الاستعمال صحته

أي صحة النظر بمعنى تأديته إلى المطلوب بصحة المادة أي بسبب صحتها أما في التصورات فمثل أن يكون المذكور في موضع الجنس مثلا جنسا لا عرضا عاما وفي موضع الفصل فصلا لا خاصة وفي موضع الخاصة خاصة شاملة بينة وأما في التصديقات فمثل أن تكون القضايا المذكورة في الدليل مناسبة للمطلوب وصادقة إما قطعا أو ظنا أو تسليما وبسبب صحة الصورة الحاصلة من رعاية الشرائط المعتبرة في ترتيب المعرفات والأدلة معا أي بسبب هاتين الصحتين مجتمعين وفساده بفسادهما معا أو فساد أحديهما فقط ومنهم من قسمه أي النظر إلى الجلي والخفي وهذا بعيد لأن النظر أمر يطلب به البيان ولا يجامعه فلا يتصف بما هو من صفاتت البيان فلذلك حققه فقال وتحقيقه أن الدليل قد يعرض له الكيفيتان يعني الجلاء والخفاء بوجهين
أحدهما بحسب الصورة وهي الهيئة العارضة للمقدمات فإن الأشكال متفاوتة في الجلاء والخفاء في استلزام المطلوب فإن الشكل الأول لا يحتاج في ذلك إلى وسط وغيره يحتاج إلى وسط أقل أو أكثر
وثانيهما بحسب المادة فإن المطلوب قد يتوقف على مقدمات كثيرة

وأكثر وذلك بأن لأن لا يكون المطلوب مستندا ابتداء إلى مقدمات ضرورية بل ينتهي إليها بوسائط على مراتب متفاوتة في الكثرة وقليلة وأقل وذلك بأن يستند إلى الضروريات مثلا بواسطة واحدة أو ستند إليها ابتداء مع تفاوتها أي تفاوت المقدمات في الجلاء والخفاء وإن كانت ضرورية باعتبار تفاوت في تجريد الطرفين كما مر تقريره وأنت خبير بأن الاختلاف بحسب المادة يجري في المعرف أيضا فإن أجزاءه قد تكون ضرورية متفاوتة في الجلاء وقد تكون نظرية منتهية إلى الضروريات بواسطة أو وسائط بخلاف الاختلاف بحسب الصورة فلذلك خص الدليل بالذكر فإن أريد بجلاء النظر وخفائه ذلك الذي ذكرناه فهو لا يعرض للنظر حقيقة بل للدليل أو المعرف والتجوز لا يمنعه بل يجوز أن يوصف النظر بما هو من صفات ما وقع النظر فيه ويحمل على هذا التجوز ما وقع في كلامهم من أن هذا نظر جلي وذاك نظر خفي وإن أريد بجلاء النظر وخفائه غيره أي غير ما ذكرنا فلا ثبت له أي لا دليل له يدل على ثبوته

المقصد الثالث
النظر الصحيح المشتمل على شرائطه بحسب مادته وصورته يفيد العلم بالمنظور فيه عند الجمهور وأما إفادته للظن فقد قيل إنها متفق عليها عند الكل ولا بد قبل الشروع في الاستدلال من تحرير محل النزاع ليتوارد النفي والإثبات على محل واحد فقال الإمام الرازي قد يفيد أي النظر العلم فيكون المدعى موجبة جزئية
قال في المحصل الفكر المفيد للعلم موجود وهو أي هذا المدعى الجزئي وإن سهل بيانه فإن قولنا هذا حادث وكل حادث محتاج إلى مؤثر يفيدنا العلم بأن هذا محتاج إلى المؤثر فقد وجد نظر مفيد للعلم بلا شبهة قل جدواه لأن المقصود الأصلي من إثبات كون الظن الصحيح مفيدا للعلم أن يستدل به على أن الأنظار الصحيحة الصادرة منا مفيدة للعلم بأن يقال مثلا هذا نظر صحيح وكل نظر صحيح له يفيد العلم فهذا يفيد العلم وإذا

كان المدعى الذي أثبتناه جزئيا لم يتيسر لنا ذلك المقصود إذ الجزئي لا يثبت ولا يعلم حاله إلا بالكلي الذي يندرج فيه ذلك الجزئي يقينا
وقال الآمدي كل نظر صحيح بحسب مادته وصورته معا في القطعيات احترز بهذا القيد عن النظر الصحيح الذي في المقدمات الظنية الصادقة فإنه يفيد ظنا لا علما لا يعقبه ضد للعلم أي مناف له كالموت والنوم والغفلة وفائدة هذا التقييد ظاهرة مفيد له أي للعلم فقد جعل المدعى موجبة كلية موضوعها مقيد بقيود فإن قلت الأنظار الصحيحة في التصورات ليست واقعة في القطعيات فلا تندرج في هذه الموجبة الكلية قلت لا بأس بذلك فإن المقصد الأصلي هو الأنظار التصديقية لأن حالها في الإفادة مما علم يقينا وفي نهاية العقول أن من عرف حقيقة النظر الذي يدعي أنه يفضي إلى العلم علم بالضرورة كونه كذلك فإنا نعني بالنظر ما يتضمن مجموع علوم أربعة الأول العلم بالمقدمات المرتبة الثاني العلم بصحة ترتيبها الثالث العلم بلزوم المطلوب عن تلك المقدمات المعلومة صحتها وصحة ترتيبها الرابع العلم بأن ما علم لزومه عن تلك المقدمات كان صحيحا ولا شك أن كل عاقل يعلم ببديهة العقل أن من حصلت له هذه العلوم الأربعة فلا بد من أن يحصل العلم بصحة المطلوب هذا محصول كلامه وحاصله أن من تصور النظر من حيث أنه صحيح مادة وصورة ولا حظ معه حال اللازم منه بالقياس إليه جزم بأن كل نظر صحيح يستلزم العلم جزما يديهيا لا يحتاج فيه إلى تعقل الطرفين على الوجه الذي هو مناط الحكم بينهما
ثم قال المنكرون لكون النظر الصحيح مفيدا للعلم هذا أي كون النظر الصحيح مفيدا له إن كان معلوما كان ضروريا مستغنيا عن الاحتجاج

عليه أو نظريا محتاجا إليه وهما باطلان أما الأول يعني كونه ضروريا فلأن الضروري لا يختلف فيه العقلاء أصلا خصوصا إذا كان الضروري أوليا وهذا أي كون النظر الصحيح مفيدا للعلم مختلف فيه بين العقلاء ولأنا نجد بينه أي بين الحكم بأن النظر الصحيح مفيد للعلم وبين قولنا الواحد نصف الاثنين تفاوتا ضروريا معلووما ببديهة العقل ونجزم بأنه أي كون النظر مفيداا للعلم دون ذلك القول في القوة ولا يتصور ذلك أي كونه دونه في القوة إلا باحتماله للنقيض ولو بأبعد وجه وأنه أي احتماله للنقيض ينفي بداهته قطعا فلا يكون بديهيا وأما الثاني يعني كونه نظريا فلإنه إثبات للنظر بالنظر إذ يحتاج على تقدير كونه نظريا إلى نظر يفيد العلم به فيلزم إثبات الشيء بنفسه وأنه تناقض لاستلزامه كون السيء معلوما حينما ليس معلوما
فإن قيل هذه الشبهة إنما تدل على امتناع العلم بكون النظر مفيدا لا على انتفاء صدقه لجواز أن يكون صادقا في نفسه مع امتناع العلم به
قلنا المدعى عندنا هو أن هذه القضية صادقة معلومة الصدق لأن المقصود بها يترتب على العلم بصدقها فالمنكر يدعي انتفاء معلومية صدقها وذلك إما بانتفاء صدقها أو بانتفاء العلم به فاختار في جواب الشبهة طائفة منهم الإمام الرازي أنه ضروري كما حققناه من كلامه في النهاية قولكم لو كان ضروريا لم يختلف فيه
قلنا لا نسلم بل قد يختلف فيه مع كونه ضروريا قوم قليل وكيف يقال لا يجوز اختلافهم فيه وقد أنكر قوم من العقلاء البديهيات رأسا كما

عرفت وذلك الاختلاف الواقع منهم ههنا إنما يكون لخفاء في تصور الطرفين في هذا الحكم البديهي ولعسر في تجريدهما عن العوارض واللواحق ليتحصلا في الذهن على الوجه الذي هو مناط الحكم فلما لم يجردوهما كما هو حقهما أنكروا الحكم بينهما وذلك لا يقدح في كونه بديهيا كما مر في جواب الشبهة الرابعة لمنكري البديهيات بالكلية قولكم التفاوت بينه وبين قولنا الواحد نصف الاثنين وكونه أدنى منه في القوة إنما هو لاحتماله للنقيض ولو بأبعد وجه قلنا ممنوع بل ذلك التفاوت إما للإلف والاستئناس بذلك القول لوروده على الذهن كثيرا بخلاف ما نحن فيه أو لتفاوت في تجريد الطرفين ولا شك أن التفاوت الناشئ من هذين لا يقدح في البداهة وقال طائفة منهم إمام الحرمين إنه نظري ولا تناقض في إثبات النظر بالنظر وأنكر عليه الإمام الرازي في النهاية فقال إن إثبات الشيء بنفسه يقتضي أن يعلم به قبل نفسه ليمكن إثباته به وذلك يستلزم أن يعلم حينما لا يعلم وتلخيصه أنه من حيث هو مطلوب يجب أن لا يكون حاصلا حال الطلب ومن حيث أنه آلة الطلب يجب أن يكون حاصلا في تلك الحال وهو تناقض قال فبطل ما توهموه من أن نفي الشيء بنفسه تناقض لاجتماع نفيه وإثباته معا بخلاف إثبات الشيء بنفسه إذ لا تناقض فيه أصلا فظهر أن إثبات كل النظر بالنظر يشتمل على تناقض من وجه كما أن نفي كل النظر بالنظر متناقض من وجه آخر فلا مخلص إلا في دعوى الضرورة كما لخصناها
والجواب أنه أي إمام الحرمين إنما يمنع كون إثبات كون النظر بالنظر إثباتا للشيء بنفسه لا أنه يسلم ذلك ويمنع كونه تناقضا حتى يتجه عليه ذلك الإنكار وتحقيقه أي تحقيق ما ذكرناه من أن إثبات النظر بالنظر ليس إثباتا للشيء بنفسه وإن أوهمته العبارة أنا نثبت القضية الكلية القائلة كل نظر صحيح في القطعيات لا يعقبه ما ينافي العلم فإنه يفيده أو المهملة القائلة النظر قد يفيد العلم على اختلاف التحريرين بمشخصه أي بقضية شخصية حكم فيها على جزئي معين من أفراد النظر فنقول النتيجة في كل نظر قياسي معلوم الصحة مادة وصورة لازمة لزوما قطعيا لما هو حق قطعا

ما هو كذلك فهو حق قطعا فالنتيجة في كل قياس صحيح حقة قطعا وهذا معنى قولنا كل نظري قطعي المادة والصورة مفيد للعلم أما الصغرى فإذ لا معنى للعلم بصحة المادة والصورة إلا القطع بحقية المقدمات وحقية استلزامها للنتيجة وأما الكبرى فبديهية لا شبهة فيها وقد يقال بعبارة أخرى هكذا كل نظر صحيح في القطعيات لا يعقبه مناف للعلم يشتمل على ما يقتضي العلم مع عدم المانع وكل ما هو مشتمل على مقتضى العلم مع انتفاء المانع يفيد العلم ويستلزمه أما الصغرى فلأن النظر الصحيح ما ينطوي على جهة الدلالة أعني العلاقة العقلية الموجبة للانتقال إلى المطلوب وقد اعتبرنا معه ارتفاع المانع وأما الكبرى فلإمتناع تخلف الشيء عن المقتضى مع ارتفاع المانع وبالجملة فههنا قضيتان بديهيتان إذا نظرنا فيهما أفاد لنا العلم بأن كل نظر صحيح يفيد العلم ثم إن حكمنا بأن هذا النظر الجزئي الواقع في هاتين المقدمتين يفيد العلم بديهي لا يحتاج فيه إلا إلى تصور الطرفين من حيث خصومهما فقط من غير أن يعلم أنه من أفراد النظر أو لا فلا يلزم حينئذ إلا توقف العلم بالقضية الكلية على العلم بالقضية الشخصية وقد تكون القضية المشخصة ضرورية معلومة بالضرورة كما ذكرناه من الحكم بإفادة العلم على هذا النظر الجزئي دون الكلية أو المهملة بل تكونان نظريتين وذلك جائز لاختلاف العنوان في المشخصة والكلية والمهملة فيجوز اختلافها في الضرورية والنظرية فإن الحكم البديهي مشروط بتصور الطرفين بلا شبهة وتصور الشيء بكونه نظرا ما كما في القضية الكلية والمهملة غير تصوره باعتبار ذاته المخصوصة كما في القضية المشخصة فجاز أن يكون تصوره من حيث ذاته المخصوصة مع تصور المحكوم به كافيا في الحكم بينهما فتكون المشخصة ضرورية ولا يكون تصوره من

حيث أنه فرد من أفراد النظر كذلك فلا تكون الكلية ولا المهملة ضرورية بل نظرية موقوفة على تلك المشخصة ولا استحالة فيه
فإن قلت لا شك أن الكلية مشتملة على أحكام الجزئيات كلها فإذا أثبتت الكلية بحكم جزئي معين فقد أثبت حكم ذلك الجزئي بنفسه
قلت حكمه من حيث خصوصية ذاته غير حكمه من حيث أنه فرد من أفراد موضوع الكلية فالأول ضروري أثبت به هذا الثاني النظري فلا محذور أصلا واعلم أن ذكر المهملة في تحقيق الجواب استطراد لأن لزوم إثبات الشيء بنفسه إنما يظهر في إثبات الكلية بالنظر وأما إثبات المهملة بالنظر فلازمه الظاهر هو التسلسل ولذلك قال في المحصل الحكم بأن النظر قد يفيد العلم نظري والتسلسل غير لازم لجواز الانتهاء إلى نظر مخصوص يكون الحكم بكونه مفيدا للعلم بديهيا كقولنا النتيجة في القياس الضروري الاستلزام والمقدمات ابتداء أو بواسطة قطعية لازمة لما هو حق فتكون حقة وقد قررنا لك هذا النظر على وجه يفيد القضية الكلية وقد عرفت أن إثبات الحكم الكلي بحكم جزئي معين لا يستلزم إثبات الشيء بنفسه كما ادعاه الإمام الرازي فكن على بصيرة ثم عورضت هذه الشبهة فقيل قولكم لا شيء من النظر بمفيد للعلم إن كان ضروريا لم يختلف فيه أكثر العقلاء وهذا لا يمنع إذ لا يتصور إنكار أكثر العقلاء وهذا لا يمنع إذ لا يتصور إنكار أكثر العقلاء لحكم بديهي بخلاف إنكار أقلهم إياه فإنه جائز كما مر وإن كان نظريا لزم إثباته بنظر خاص يفيد العلم به وأنه تناقض صريح لأن المدعى سالبة كلية قد أثبتت بموجبة جزئية مناقضة إياها وهذه المعارضة إنما تتم إذا ادعى الخصم اليقين بهذه السالبة الكلية إذ يلزمه التناقض على تقدير كونها نظرية وأما إذا كان غرضه التشكيك حتى لا يثبت كون النظر مفيدا للعلم فله أن يختار أن هذا النظر الخاص يفيد الظن بعدم الإفادة فلا

نظر مفيد للعلم فلا تناقض والمنكرون طوائف سياق كلامه مشعر بأن ما تقدم شبهة واحدة للمنكرين بأسرهم وما سيأتي من الشبه مخصوصة بقوم دون قوم والصواب أن اشتراك شبهة واحدة فيما بينهم غير متصور وأن ما سبق شبهة للمنكرين بالكلية أعني السمنية ألا ترى إلى قوله فقيل قولكم لا شيء من النظر بمفيد وإلى أن هذه الشبهة في قوة أولى الشبه المنسوبة إليهم فإن كون النظر مفيدا للعلم وكون الاعتقاد الحاصل عقيبه علما مؤداهما واحد ومراد الشبهتين على أن العلم بهما ليس ضروريا ولا نظريا لكن لما كان الجواب عن لزوم إثبات الشيء بنفسه المذكور في الشبهة السابقة يشتمل على تدقيق وتحقيق أفردها عن الشبه الأخر
الطائفة الأولى من أنكر إفادته للعلم مطلقا أي زعم أنه لا يفيده أصلا لا في الإلهيات ولا في غيرها وهم السمنية المنسوبة إلى سومنات وهم قوم من عبدة الأوثان قائلون بالتناسخ وبأنه لا طريق إلى العلم سوى الحس ولهم شبه
الشبهة الأولى العلم بأن الاعتقاد الحاصل بعد النظر علم وحق إن كان ضروريا لم يظهر خطأه لامتناع الخطأ في الضروريات والتالي باطل إذ قد يظهر للناظر بعد مدة بطلان ما اعتقده وأنه لم يكن علما وحقا ولذلك تنقل المذاهب ودلائلها لما مر من أنه قد يظهر صحة ما اعتقد بطلانه وبالعكس وأنت تعلم أن هذا منقوض بأحكام الحس فإنها ضرورية عندهم ومقبولة مع وقوع الغلط فيها وإن كان نظريا احتاج إلى نظر آخر لأن

المستفاد من النظر الأول هو ذلك الاعتقاد كقولك مثلا العالم حادث وأما قولك هذا الاعتقاد علم وحق فهو قضية أخرى وقد فرضت نظرية فلا بد لها من نظر آخر يفيدها ويتسلسل إذ ننقل الكلام إلى الاعتقاد الحاصل من النظر الآخر ونقول العلم بكونه علما وحقا نظري أيضا فلا بد من نظر ثالث يفيده وهكذا إلى ما لا نهاية له فإن قلت اللازم من هذه الشبهة أن لا يحصل لنا لا بالضرورة ولا بالنظر العلم بأن الاعتقاد الحاصل بعد النظر علم وحق ولا يلزم من هذا أن لا يكون ذلك الاعتقاد في نفسه علما وحقا قلت قد عرفت أنا ندعي كون ذلك الاعتقاد علما وحقا وأن كونه كذلك معلوم لنا فيكفي للخصم نفي المعلومية
قلنا نختار أنه ضروري وإن كان حصوله عقيب النظر إذ قد عرفت أن بعض الضروريات إنما تحصل عقيبه كالعلم بأن لنا لذة من ذلك النظر أو ألما أوغما أو فرحا قولك قد يظهر للناظر بطلان ما اعتقده بنظره وأنه لم يكن علما وحقا قلنا النظر الذي يظهر خطأه أي خطأ الاعتقاد الحاصل منه لا يكون نظرا صحيحا والنزاع إنما وقع فيه أي النظر الصحيح وكون الاعتقاد الحاصل بعده علما وحقا لا في مطلق النظر صحيحا كان أو فاسدا ويمكن أن يجاب أيضا باختيار كونه نظريا ولا تسلسل لجواز الانتهاء إلى نظر جزئي ينتج الكلية الموجبة أو المهملة ويكون العلم بأن الاعتقاد الحاصل عقيبه علم بديهي كما مر ومن اختار أنه نظري وقال لا يتسلسل لأن المقدمات القطعية المرتبة ترتيبا قطعيا كما تفيد الاعتقاد بالمنظور فيه تفيد أيضا العلم بكون ذلك الاعتقاد علما وحقا فلا حاجة إلى نظر آخر فقد اشتبه عليه الضروري الحاصل عقيب النظر بالنظري
الشبهة الثانية المقدمتان لا تجتمعان في الذهن معا لأنا متى توجهنا إلى حكم مقصود امتنع منا في تلك الحالة التوجه إلى حكم آخر بالوجدان وحينئذ لم يتحقق نظر مفيد للعلم إذ المقدمة الواحدة لا تنتج اتفاقا وهذه منقوضة بإفادة النظر للظن إذا كانت متفقا عليها بخلاف الشبهة الأولى والسابقة فإن الظن ضروري قد يظهر خطأه ويجوز اختلاف

العقلاء فيه وتفاوته بالنسبة إلى ظن آخر قلنا لا نسلم أنه لا يجتمع مقدمتان في الذهن بل قد يجتمعان وذلك كطرفي الشرطية فإنهما قضيتان يجب اجتماعهما في الذهن ولولا اجتماعهما فيه لامتنع الحكم بينهما بالتلازم أي اللزوم في المتصلات والعناد في المنفصلات ومنهم من فرق بأن طرفي الشرطية قضيتان بالقوة لا حكم بالفعل في شيء منهما بخلاف مقدمتي النظر ونحن نعلم بالضرورة أن الحكم في إحديهما لا يجامع الحكم في الأخرى دفعة ثم أجاب عن الشبهة بأنه لا يجب في الإنتاج اجتماع المقدمتين معا بل يكفيه حصول إحديهما عقيب الأخرى بلا فصل إذ بذلك يتحقق النظر فيهما أعني الحركة المعدة لحصول النتيجة والتوجه إلى مقدمة غير العلم بها بل هو أي الت وجه إليها هو النظر فيها وملاحظتها قصدا ولا يلزم من عدم اجتماع النظرين أي التوجهين إلى المقدمتين وملاحظتيهما القصديتين عدم اجتماع العلمين بالمقدمتين والحاصل أن التفات النفس إلى المقدمتين معا دفعة بالقصد ممتنع وأما حضورهما عند النفس بأن تلاحظ إحديهما قصدا وتتوجه بالقصد إلى الأخرى عقيب الأولى بلا فصل فيحضران معا وإن لم تكونا ملحوظتين قصدا دفعة كطرفي الشرطية فليس ممتنعا وحضورهما على هذا الوجه هو المحتاج إليه في الإنتاج وتوضيح هذا الجواب أنك إذا حدقت نظرك إلى زيد وحده ثم حدقته كذلك إلى عمرو القائم عنده ففي حال تحديقك إلى عمرو كان عمرو مرئيا قصدا وزيد مرئيا تبعا لا قصدا كذلك إذا لاحظت ببصيرتك مقدمة قصدا وانتقلت منها سريعا إلى ملاحظة مقدمة أخرى كذلك كانت الثانية ملحوظة قصدا والأولى تبعا فقد اجتمع العلمان وإن لم يجتمع التوجهان

الشبهة الثالثة النظر لو أفاد العلم وأعلم أن ذلك المفاد علم فمع العلم بعدم المعارض المقاوم إذ معه أي مع المعارض وظهوره للناظر يحصل التوقف لأن الجزم بمقتضاهما يوجب اعتقاد النقيضين وبمقتضى أحدهما دون الآخر يوجب الترجيح بلا مرجح فإذا لم يعلم عدم المعارض وجوز وجوده لم يعلم أن ما أفاده النشر علم وحق بل جوز كون نقيضه حقا وعدمه ليس ضروريا وإلا لم يقع المعارض أي لم ينكشف وجوده بعد النظر وكثيرا ما ينكشف فهو نظري ويحتاج إلى نظر آخر يفيده وهو أي ذلك النظر الآخر أيضا محتمل لقيام المعارض فلا يعلم أيضا أن ما أفاده علم وحق إلا بعد العلم بعدم ما يعارضه وليس ضروريا بل نظري يحتاج إلى نظر ثالث ويتسلسل فيتوقف حصول العلم من النظر على أنظار غير متناهية قلنا النظر الصحيح في المقدمات القطعية كما يفيد العلم بحقية النتيجة يفيد العلم بعدم المعارض يعني كما أن العلم بأن النتيجة حقة أي بأن الاعتقاد الحاصل بعد النظر علم متوقف على وجود النظر الحاصل بعده بطريق الضرورة دون الكسب وظهور الخطأ فيه بعد النظر الصحيح القطعي ممنوع على ما مر كذلك العلم بعدم المعارض ضروري حاصل بعد ذلك النظر وانكشاف المعارض بعده ممنوع بل هذا أولى بأن يكون ضروريا لأن العلم الأول يتوقف عليه ولم يرد بإفادته النظر الصحيح القطعي للعلم بحقية النتيجة والعلم بعدم المعارض أنهما علمان نظريان مستفادان من ذلك النظر بطريق الكسب كما توهم فإنه باطل لأن المكتسب منه هو العلم بالنتيجة نفسها لا العلم بأن النتيجة حقة أو بأن المعارض معدوم بل أراد أنه إذا لوحظ النتيجة من حيث أنها نتيجة لذلك النظر ولوحظ معنى الحقية جزم بأنها حقة جزما بديهيا لا يتوقف إلا على تصور طرفيه وكذلك إذا لوحظ المعارض من حيث أنه معارض لذلك النظر ولوحظ معنى العدم جزم بأنه معدوم قطعا ألا ترى إلى قوله المعارض في نفس الأمر ضروري أي يعلم

بالضرورة أن معارض النظر الصحيح في المقدمات القطعية معدوم في نفس الأمر
الشبهة الرابعة النظر إما أن يستلزم العلم بالمنظور فيه أو لا والأول ينافي كون عدم العلم بالمنظور فيه شرطا له أي للنظر لأن عدم اللازم مناف لوجود الملزوم فلا يكون شرطا له لكن عدم العلم بالمنظور فيه شرط للنظر لئلا يلزم تحصيل الحاصل على ما سيأتي والثاني وهو أن لا يستلزم النظر العلم بالمنظور فيه هو المطلوب قلنا يستلزمه بمعنى أنه يستعقبه عادة كما هو مذهبنا أو إعدادا أو توليدا على مذهب الحكماء والمعتزلة فإذا تم النظر حصل العلم كما أنه إذا تمت الحركة الحسية وصل إلى المكان الذي قصد بها الحصول فيه لا بمعنى أنه يعني النظر علة موجبة له أي للعلم بالمنظور فيه كإيجاب حركة اليد حركة المفتاح حتى يلزم اجتماعهما في الزمان معا وذلك الاستلزام الذي هو بمعنى الاستعقاب لا ينافي كون عدم العلم بالمنظور فيه شرط له أي للنظر
الشبهة الخامسة المطلوب إما معلوم فلا يطلب بالنظر لاستحالة تحصيل الحاصل أو لا فإذا حصل لم يعرف أنه المطلوب فلا يحصل العلم بأن النظر يفيد العلم بالمطلوب قلنا هو معلوم تصورا فإنا قد تصورنا النسبة مع طرفيها غير معلوم تصديقا بثبوت النسبة أو انتفائها فيتميز المطلوب عند حصوله عن غيره بتصور طرفيه فيعرف أنه المطلوب وإنما خص الجواب بالمطلوب التصديق لأن المتنازع فيه هو النظر الواقع في التصديقات كما أشرنا إليه ويشعر به بعض الشبه السالفة والآتية
الشبهة السادسة أن دلالة الدليل أي إفادة النظر فيه العلم

بالمدلول إن توقفت على العلم بدلالته عليه أي على ذلك المدلول لزم الدور لأن العلم بدلالة الدليل على المدلول يتوقف على العلم بالمدلول ضرورة أن العلم بالإضافة مسبوق بالعلم بالمضافين فيتوقف كل واحد من العلم بالمدلول وإفادة النظر إياه على الآخر وإلا أي وإن لم تتوقف إفادة النظر على العلم بالدلالة لزم كون الدليل دليلا وكون النظر فيه مفيدا للعلم بالمدلول وإن لم يعتبر ولم يعلم وجه دلالته عليه وأنه باطل لأن الدليل إذا لم يعتبر وجه دلالته على المدلول كان أجنبيا منقطع التعلق عنه فلا يكون النظر فيه مفيدا للعلم به قلنا لا تتوقف إفادة النظر في الدليل العلم بالمدلول على العلم بدلالته عليه بل تتوقف على العلم بوجه دلالته عليه ووجه الدلالة في الدليل غير كونه دليلا موصولا بالفعل إلى العلم بالمدلول فإنه أي وجه الدلالة الأمر الذي بحسبه ولأجله ينتقل الذهن من الدليل إلى المدلول وهو متحقق في الدليل نظر فيه ناظر أم لا وكونه دالا بالفعل على المدلول أمراضا في مقيس إلى المدلول يعرض له بعد النظر فيه وإفادته أي إفادة النظر فيه للعلم بالمدلول مثلا وجه الدلالة العالم على الصانع هو الحدوث أو الإمكان الثابت له في نفسه قبل أن يتعلق به نظر وهو الذي يتوقف على العلم به إفادة النظر في العالم للعلم بالصانع وأما دلالته عليه بالفعل فمتوقف على النظر وحينئذ فلا يلزم الدور ولا كون النظر فيما هو أجنبي عن المدلول
الشبهة السابعة العلم بعده أي بعد النظر إما واجب لازم الحصول بحيث يمتنع انفكاكه عنه فيقبح التكليف به أي بذلك العلم لكونه غير مقدور حينئذ بل هو اضطراري كالعلم الضروري فيكون حكمه

حكمه في امتناع الزوال والخروج عن القدرة والاختيار وأنه أي قبح التكليف بالعلم الحاصل بعد النظر خلاف الإجماع لكونه واقعا كما في معرفة الله سبحانه وتعالى أو لا يجب فيجوز حينئذ انفكاكه عنه عن النظر فلا تكون إفادته إياه مجزوما بها وهو المطلوب عندنا
قلنا هو واجب الحصول بعده والتكليف إنما هو بالنظر المقدور لا بالعلم النظري الواجب الحصول كذا ذكره الآمدي وسيرد عليك هذا المعنى أيضا في وجوب النظر ورد عليه بأن الإجماع منعقد على أن معرفة الله تعالى واجبة فيكون مكلفا بها وجعل إيجابها راجعا إلى إيجاب النظر فيها عدول عن الظاهر فالأولى في الجواب ما ذكره الإمام الرازي من أن النظري الواجب الحصول حكمه حكم الضروري إلا في المقدورية وما يتبعها فإن الإنسان لا يمكنه أن يعتقد ما يناقض الضروري إذ الموجب للحكم فيه تصور طرفيه فإذا أوجب تصورهما حكما إيجابيا لم يمكنه بعد تصورهما أن يعتقد السلب بينهما بخلاف النظري لأن موجبه النظر فإذا غفل عن النظر أمكنه أن يعتقد ما يناقض ذلك النظر فيكون النظري مع وجوب حصوله عن النظر مقدورا للبشر فلا يقبح التكليف به وأيضا إن سلمنا أن التكليف متعلق بالنظري الذي هو غير مقدور فهذا الذي ذكرتموه من قبح التكليف بغير المقدور إنما يلزم المعتزلة النافين للجبر القائلين بحكم العقل في تحسين

الأفعال وتقبيحها ولا يلزمنا فإن جميع الأفعال حسنة بالنسبة إلى الشارع جائزة الصدور عنه عندنا
الشبهة الثامنة لو أفاد النظر العلم فإما أن يكون ذلك معه أو بعده والأول باطل إذ لا يجتمعان لأن النظر مضاد للعلم بالمنظور فيه ومشروط بعدمه وكذلك الثاني باطل أيضا لجواز طرو ضد للعلم بعده أي بعد النظر بلا مهلة كنوم أو موت أو غفلة فلا يتصور حينئذ حصول العلم بعده
قلنا يفيد بعده بشرط عدم طرو الضد كما أومأنا إليه عند تحرير المبحث حيث قلنا كل نظر صحيح في القطعيات لا يعقبه ضد للعلم مفيد له
الشبهة التاسعة لو أفاد النظر العلم لكان ذلك النظر واقعا في الدليل وهو باطل لأنا إذا نظرنا واستدللنا بدليل كالعالم على وجود الصانع مثلا فموجبه أي موجب ذلك الدليل الذي نظرنا فيه إما ثبوت الصانع في نفس الأمر أو العلم وكلاهما باطل أما الأول فلأنه يلزم حينئذ من عدم ذلك الدليل أن لا يثبت الصانع في الواقع لأن انتفاء الموجب المفيد يستلزم انتفاء موجبه المستفاد منه وهو ظاهر البطلان فإنه تعالى بتسحيل عليه العدم أوجد العالم أو لم يوجد وأما الثاني فلأنه يلزم حينئذ أن لا يبقى الدليل بتقدير عدم النظر فيه وإفادته للعلم دليلا إذ المفروض أن موجبه اللازم له هو العلم فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو أيضا باطل لأن الأدلة أدلة في أنفسها سواء نظر فيها واستفيد العلم منها أم لا
قلنا إنه أي الدليل الذي نظر فيه واستدل به يوجب وجود الصانع

أي يستلزمه من غير أن يكون محصلا له في الواقع ولا يلزم من نفي الملزوم الذي لا مدخل له في حصول لازمه نفي اللازم أو يوجب العلم به أي هو بحيث متى علم ونظر فيه علم وجود الصانع وهذه الحيثية لا تفارق الدليل على حال نظر فيه أم لا وذلك لأن هذه الحيثية هي الدلالة بالإمكان وهي متفرعة على وجه الدلالة فقط وهي المعتبرة في كون الدليل دليلا لا الدلالة بالفعل المتوقفة على النظر فيه
الشبهة العاشرة الاعتقاد الجازم قد يكون علما لكونه مطابقا مستندا لموجب وقد يكون جهلا لكونه غير مطابق مستندا إلى شبهة أو تقليد ولا يمكن التمييز بينهما لوجود اشتراكهما في الجزم والاستناد إلى ما يجزم أنه موجب سيما عند من يقول الجهل مماثل للعلم فإذا ماذا يؤمننا أن يكون الحاصل عقيب النظر جهلا مستندا إلى شبهة لا علما مستندا إلى موجب حقيقي
قلنا هذا الذي ذكرتم إنما يلزم المعتزلة القائلين بالتماثل بينهما وأما نحن فنقول إذا حصل للناظر العلم بالمقدمات الصادقة القطعية وبترتبها المفضي إلى المطلوب فإنه يعلم بالبديهة أن اللازم عنه علم لا جهل مخالف للعلم في الحقيقة ولا يمكنهم التخلص عن هذا الإشكال بتميز العلم عن الجهل بركون النفس إليه دون الجهل فإن ذلك التميز بالركون مع التماثل بينهما مشكل لأن حكم المتماثلين واحد فكيف يتصور الركون إلى أحدهما دون الآخر وأيضا فيلزمهم الكفرة المصرون على اعتقاداتهم الباطلة الراكنون إليها على سبيل الاطمئنان التام
وقيل للمعتزلة أن يتخلصوا عنه بأن المتماثلات تختلف بالعوارض فإذا حصل النظر الصحيح في القطعيات ميزت البديهة أن اللازم هناك علم لا جهل يخالفه في بعض عوارضه
الطائفة الثانية من المنكرين المهندسون قالوا إنه أي النظر يفيد

العلم في الهندسيات والحسابيات لأنها علوم قريبة من الأفهام متسقة منتظمة لا يقع فيها غلط دون الإلهيات فإنها بعيدة عن الأذهان جدا والغاية القصوى فيها الظن والأخذ بالأحرى والأخلق بذاته تعالى وصفاته وأفعاله واحتجوا على ذلك بوجهين
الأول الحقائق الإلهية من ذاته وصفاته لا تتصور لا بالضرورة وهو ظاهر ولا بالنظر إما لأنه لا شيء من التصورات بنظري كما ذهب إليه جمع وإما لأنه إما بالحد وهو مختص بالمركب ولا تركيب في الحقائق الإلهية أو بالرسم وأنه لا يفيد العلم بالكنه والتصديق بها فرع التصور فامتنع التصديق أيضا
قلنا لا نسلم أنها لا تتصور بحقائقها قطعا لجواز أن يخلق الله تعالى فينا العلم بكنه حقيقته وحقائق صفاته ابتداء أو يكون هناك لازم ينتقل الذهن منه إلى كنه حقائقها فإنه غير ممتنع وإن لم يكن الانتقال من اللازم إلى كنه الملزوم أمرا كليا وان سلم أنها لا تتصور بالكنه أصلا فيكفي للتصديق اليقيني تصورها يعارض ما وهو حاصل بلا شبهة ثم هذا الذي ذكر تموه يلزمكم في الظن لأنه أيضا تصديق متفرع على التصور فيجب أن لا يكون حاصلا في الإلهيات فما هو جوابكم فهو بعينه جوابنا
الوجه الثاني أقرب الأشياء إلى الإنسان وأولاها بأن يكون معلوما له بحقيقته وأحواله هويته التي يشير إليها بقوله أنا وإنها غير معلومة لا من حيث التصديق بوجودها فإنه بديهي لا خلاف فيه بل من حيث تصورها بكنهها ومن حيث التصديق بأحوالها من كونها عرضا أو جوهرا مجردا أو

منقسما أو غير منقسم إلى غير ذلك من صفاتها إذ قد كثر الخلاف فيها كثرة لا يمكن معها مع تلك الكثرة الجزم بشيء من الأقوال المختلفة المتنافية التي ذكرت فيها في تلك الهوية كما ستقف عليها على تلك الأقوال في مباحث النفس فلو كان النظر يفيد العلم بتلك الهوية وصفاتها لما اختار العقلاء الناظرون فيها أقوالا متناقضة وإذا كان أقرب الأشياء إليه كذلك أي بحيث لا يفيد النظر فيه علما فما ظنك بأبعدها عنه وإفادة النظر فيه العلم وهذا من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى لا من القياس الفقهي كما ترى
قلنا لا نسلم أن هوية الإنسان غير معلومة له أصلا وكثرة الخلاف فيها لا تدل إلا على العسر أي على عسر معرفتها وإما الامتناع أي امتناع معرفتها أو عدمها فلا تدل عليه تلك الكثرة لجواز أن تكون معلومة لصحة بعض تلك الأنظار وفساد باقيها فلم يثبت بما ذكرتم أن هناك نظرا صحيحا لا يفيد علما بل ثبت أن تمييز النظر الصحيح عن غيره مشكل جدا فيكون ذلك في الإلهيات أشكل ولا نزاع فيه
الطائفة الثالثة الملاحدة قالوا النظر لا يفيد العلم بمعرفة الله تعالى بلا معلم يرشدنا إلى معرفته ويدفع الشبهات عنا وقد رد عليهم بوجهين
الأول صدق المعلم ولا بد منه إن علم بقوله أي أخباره بصدقه في أقواله لزم الدور لأن إخباره هذا إنما يفيدنا العلم بصدقه فيها بعد علمنا بصدقه في أقواله كلها حتى يتحقق عندنا صدقه في هذا الإخبار وإن علم

صدقه فيما يخبر عن الله تعالى بالعقل ففيه كفاية في معرفة الأمور الإلهية فلا حاجة إلى المعلم
وأجيب عن هذا الوجه بأنه قد يشارك العقل قوله في العلم بصدقه بأن يضع المعلم مقدمات يعلم بالعقل منها صدقه فيكون العلم بصدق المعلم مستفادا منهما معا فلا دور ولا كفاية
الوجه الثاني لو لم يكن العقل في معرفته تعالى لاحتاج المعلم فيها إلى معلم آخر ويتسلسل وأجيب عنه بأنه قد يكفي عقله لكونه مؤيدا من عند الله بخاصية تقتضي كمال عقله واستقلاله في معرفته دون عقل غيره أو ينتهي إلى الوحي أي أن سلم احتياجه إلى معلم آخر لم يلزم التسلسل لجواز الانتهاء إلى النبي الذي يعلم الأشياء بالوحي والمعتمد في الرد عليهم دعوى الضرورة فإن من علم المقدمات الصحيحة القطعية المناسبة لمعرفة الله تعالى على صورة مستلزمة للنتيجة استلزاما ضروريا كما في الأقيسة الكاملة حصل له المعرفة قطعا كقولنا العالم ممكن وكل ممكن له مؤثر فالعالم له مؤثر وما يقال من أن العلم بتلك المقدمات على تلك الصورة مما لا يحصل إلا بمعلم مكابرة صريحة نعم إذا كان هناك معلم كان الأمر أسهل وهذا المعتمد إنما يصير حجة على من قال النظر لا يفيد العلم بلا معلم في معرفة الله تعالى وأما من قال إنه يفيده فإن مقدمات إثبات الصانع وصفاته تستلزم العلم بنتائجها لكن العلم الحاصل بالنظر وحده لا يفيد النجاة في الآخرة ولا يكمل به الإيمان في الدنيا كالمأخوذ من غير النبي فإنه لا يتم به الإيمان ألا ترى إلى قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله مع أن كثيرا

منهم كانوا يقولون بالتوحيد لكنهم لما لم يأخذوا ذلك منه ما كان يقبل قولهم لم يرد عليه ذلك المعتمد الذي ذكرناه وطريق الرد عليه إجماع من قبلهم من هذه الأمة على حصول النجاة بالمعرفة الحاصلة بلا معلم والآيات الآمرة بالنظر في معرفة الله سبحانه متكررة متكثرة في معرض الهداية إلى سبيل النجاة من غير ايجاب التعلم فدلت دلالة ظاهرة على أن التعلم غير محتاج إليه في النجاة فهذه الآيات طريق آخر للرد عليهم لهم أي للملاحدة وجهان
الأول أنه كثر الخلاف بين العقلاء في المعرفة كثرة لا تحصى ولو كان العقل باستعمال النظر كافيا فيها لما كان الأمر كذلك بل كان العقلاء الناظرون فيها متفقين على عقيدة واحدة
قلنا ذلك الخلاف إنما وقع لكون بعض تلك الأنظار الصادرة عنهم فاسدة فترتب عليها عقائد باطلة وذلك لا ينفعكم ولا يضرنا فإن المفيد للعلم عندنا إنما هو النظر الصحيح لا الفاسد نعم دل الاختلاف المذكور على صعوبة التمييز هناك بين صحيح النظر وفاسده وهو مسلم
الثاني نرى الناس محتاجين إلى معلم في العلوم الضعيفة التي يكتفى فيها بأدنى نظر كالنحو والصرف والعروض لا يستغنون فيها عن العلم فكيف لا يحتاجون إليه في العلوم العويصة التي هي أبعد العلوم عن الحس والطبع مع أن المطلوب فيها اليقين
قلنا الاحتياج إلى المعلم بمعنى العسر أي عسر حصول المعرفة بدونه مسلم وما ذكرتم يدل عليه وأما بمعنى الامتناع فلا نسلمه ولا يفيده كلامكم

المقصد الرابع
في كيفية إفادة النظر الصحيح للعلم بالمنظور فيه والمذاهب التي يعتد بها ثلاثة مبنية على أصول مختلفة
الأول مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه أي حصول العلم

عقيب النظر بالعادة وإنما ذهب إلى ذلك بناء على أن جميع الممكنات مستندة عنده إلى الله سبحانه ابتداء بلا واسطة وعلى أنه تعالى قادر مختار فلا يجب عنه صدور شيء منها ولا يجب عليه أيضا ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقيب بعض كالاحراق عقيب مماسة النار والري بعد شرب الماء فليس للمماسة والشرب مدخل في وجود الإحراق والري بل الكل واقع بقدرته واختياره تعالى فله أن يوجد المماسة بدون الإحراق وأن يوجد الإحراق بدون المماسة وكذا الحال في سائر الأفعال وإذا تكرر صدور فعل منه وكان دائما أو أكثريا يقال إنه فعله بإجراء العادة وإذا لم يتكرر أو تكرر قليلا فهو خارق للعادة أو نادر ولا شك أن العلم بعد النظر ممكن حادث محتاج إلى مؤثر ولا مؤثر إلا الله تعالى فهو فعله الصادر عنه بلا وجوب منه ولا عليه وهو دائمي أو أكثري فيكون عاديا
الثاني مذهب المعتزلة أنه أي حصول العلم بعد النظر بالتوليد وذلك أنهم لما أثبتوا لبعض الحوادث مؤثرا غير الله تعالى قالوا الفعل الصادر عنه إما بالمباشرة وإما بالتوليد ومعنى التوليد عندهم كما سيأتي أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر كحركة اليد والمفتاح فإن حركة اليد أوجبت لفاعلها حركة المفتاح فكلتاهما صادرتان عنه الأولى بالمباشرة والثانية بالتوليد والنظر فعل للعبد واقع بمباشرته أي بلا توسط فعل آخر منه يتولد منه فعل آخر هو العلم بالمنظور فيه وطريق الرد على المعتزلة ما سيأتي في

إبطال قاعدة التوليد واعلم أن تذكر النظر لا يولد العلم عندهم فقاس الأصحاب ابتداء النظر بالتذكر إلزاما لهم حيث قالوا النظر المعاد لا يولد العلم إتفاقا فوجب أن يكون النظر المبتدأ كذلك إذ لا فرق بينهما فيما يعود إلى استلزام العلم بالمنظور فيه وأجابوا أي المعتزلة بأنا إنما قلنا بعدم توليد التذكر لعلة فارقة لا توجد في ابتداء النظر هي عدم مقدورية التذكر فإنه يقع بطريق الضرورة بلا اختيار منا فيكون من أفعاله تعالى فلو كان مولدا للعلم بالمنظور فيه لكان ذلك العلم أيضا من أفعاله تعالى ويلزم من هذا ارتفاع التكليف بالمعارف النظرية إذ هو تكليف بفعل الغير وهو قبيح فإن صح ما ذكرناه من عدم مقدورية التذكر بطل القياس الفقهي الذي ذكرتموه لأن العلة غير مشتركة وإلا أي وإن لم يصح ما ذكرناه من عدم مقدورية التذكر منعنا الحكم الذي هو التوليد والتزمنا التوليد ثمة أي في التذكر فإن أبا هاشم صرح بأن التذكر السانح للذهن بلا مقصد من العبد لا يولد العلم التابع له لأن ذلك إنما يكون من فعل الله تعالى والذي يفعله العبد بقصده واختياره فهو يولده لأن ذلك العلم حاصل للعبد بسبب ما هو من فعله والحاصل أنه أي قياس الأصحاب قياس مركب يعني مركب الأصل والخصم فيه بين منع وجود الجامع في الفرع ومنع وجود الحكم في الأصل فإنه يقول عدم التوليد في التذكر معلل عندي بعدم المقدورية فإن صح هذا لم توجد العلة في الفرع الذي هو ابتداء النظر وإن لم يصح عدم المقدورية في التذكر منعنا عدم توليده
وأيضا جواب آخر للمعتزلة عن قياس الأصحاب بالفرق قالوا التذكر إنما يكون بعد حصول العلم وابتداء النظر قبله فلا يلزم من عدم توليد

التذكر لئلا يلزم تحصيل الحاصل عدم توليد ابتداء النظر الذي لا يلزمه هذا المحال
الثالث مذهب الحكماء أنه بسبيل الإعداد فإن المبدأ الذي تستند إليه الحوادث في عالمنا هذا موجب عندهم عام الفيض ويتوقف حصول الفيض منه على استعداد خاص يستدعيه أي ذلك الفيض والاختلاف في الفيض إنما هو بحسب اختلاف استعدادات القوابل فالنظر يعد الذهن إعدادا تاما والنتيجة تفيض عليه من ذلك المبدأ وجوبا أي لزوما عقليا وههنا مذهب آخر اختاره الإمام الرازي وهو أنه يعني العلم الحاصل عقيب النظر واجب لازم حصوله عقيبة عقلا غير متولد منه
قيل أخذ هذا المذهب من القاضي الباقلاني وإمام الحرمين حيث قالا باستلزام النظر للعلم على سبيل الوجوب من غير توليد ورد بأن مرادهما الوجوب العادي دون العقلي أما وجوبه عقلا فلأنا نعلم ضرورة وبديهة أن من علم أن العالم متغير وكل متغير حادث واجتمع في ذهنه هاتان المقدمتان على هذه الهيئة امتنع أن لا يعلم أن العالم حادث وهذا الاستدلال جار في سائر الأشكال والأقيسة إذا اعتبرت مأخوذة مع ما يحتاج إليه من بياناتها وإما أنه غير متولد من النظر فلاستناد جميع الممكنات والحوادث إلى الله تعالى ابتداء ابتداء فيكون العلم عقيب النظر واقعا بقدرته لا بقدرة العبد وهذا المذهب لا يصح مع القول باستناد الجميع إلى الله ابتداء وكونه قادرا مختارا وأنه ومع القول بأنه لا يجب على الله شيء إذ لا وجوب عن الله كما تزعمه الحكماء القائلون بأنه موجب لا مختار ولا وجوب عليه أيضا كما تزعمه المعتزلة وإنما يصح إذا حذف قيد الابتداء في استناد الأشياء إلى الله سبحانه وجوز أن يكون لبعض آثاره مدخل في بعض بحيث يمتنع تخلفه عنه عقلا فيكون بعضها متولدا عن بعض وإن كان الكل واقعا بقدرته كما تقول المعتزلة في أفعال العباد الصادرة عنهم بقدرتهم ووجوب بعض الأفعال

عن بعض لا ينافي قدرة المختار على ذلك الفعل الواجب إذ يمكنه أن يفعله بايجاد ما يوجبه وأن يتركه بأن لا يوجد ذلك الموجب لكن لا يكون تأثير القدرة فيه ابتداء كما هو مذهب الأشعري وحينئذ يقال النظر صادر بإيجاد الله تعالى وموجب للعلم بالمنظور فيه إيجابا عقليا بحيث يستحيل أن ينفك عنه

المقصد الخامس
شرط النظر إما مطلقا سواء أكان صحيحا أو فاسدا فبعد الحياة أمران
الأول وجودي وهو وجود العقل الذي هو مناط التكليف وسيأتي تفسيره
الثاني عدمي وهو عدم ضده أي ضد النظر وهو ما ينافيه فمنه ما هو عام يضاد النظر وغيره وهو كل ما هو ضد الإدراك مطلقا من النوم والغفلة والغشية فإنه يضاد النظر لاستلزامه الإدراك ومنه ما هو خاص يضاد النظر بخصوصه وهو العلم بالمطلوب من حيث هو مطلوب وأما العلم به من وجه فلا بد منه ليمكن طلبه والجهل المركب به أعني الجزم به على خلاف ما هو عليه إذ صاحبهما لا يتمكن من النظر فيه أما صاحب الأول فلامتناع طلب العلم مع حصوله وأما صاحب الثاني فلأنه جازم بكونه عالما وذلك

يمنعه من الإقدام على النظر إما لأنه صارف عنه كالامتلاء عن الأكل وإما لأنه مناف للشك الذي هو شرط النظر عند أبي هاشم
فإن قلت إن كان العلم بالمطلوب مضادا للنظر منافيا له فماذا تقول فيمن يعلم شيئا بدليل ثم ينظر فيه ثانيا ويطلب دليلا آخر إذ يلزم حينئذ اجتماع المتناقيين قلت النظر ههنا في وجه دلالة الدليل الثاني يعني أن المقصود بالنظر هنا ليس هو العلم بالمنظور فيه الذي هو النتيجة بل العلم بوجه دلالة الدليل الثاني عليه وهو أي هذا الوجه غير معلوم فلا يلزم ههنا طلب الحاصل بخلاف ما إذا قصد به العلم بالمنظور فيه الذي هو النتيجة فإنه يستلزم طلبه مع كونه حاصلا والفائدة في طلب العلم بوجه الدلالة في الدليل الثاني زيادة الاطمئنان بتعاضد الأدلة فعدم العلم بالمنظور فيه شرط للنظر الذي يطلب به العلم بالمنظور فيه وأما عدم الظن به على ما هو عليه أو على خلافه فليس شرطا له وأما الشرط للنظر الصحيح على الخصوص فأمران
الأول أن يكون النظر في الدليل وستعرفه دون الشبهة وهي التي تشبه الدليل وليست به
الثاني أن يكون النظر في الدليل من جهة دلالته على المدلول وهي أمر ثابت للدليل ينتقل الذهن بملاحظته من الدليل إلى المدلول كالحدوث أو الإمكان للعالم فإن النظر في الدليل لا من جهة دلالته لا ينفع ولا يوصل إلى المطلوب لأنه بهذا الاعتبار أجنبي منقطع التعلق عنه كما إذا نظر في العالم باعتبار صغره أو كبره وطوله أو قصره

المقصد السادس
النظر في معرفة الله تعالى أي لأجل تحصيلها واجب إجماعا منا ومن المعتزلة وأما معرفته تعالى فواجبة إجماعا من الأمة واختلف في طريق ثبوته أي ثبوت وجوب النظر في المعرفة فهو يعني طريق الثبوت عند أصحابنا

السمع وعند المعتزلة العقل أما أصحابنا فلهم في إثبات وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة مسلكان
الأول الاستدلال بالظواهر من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب النظر في المعرفة نحو قوله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض
وقوله تعالى فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها فقد أمر بالنظر في دليل الصانع وصفاته والأمر للوجوب كما هو الظاهر المتبادر منه ولما نزل إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب
قال عليه الصلاة و السلام ويل لمن لاكها أي مضغها بين لحييه أي جانبي فمه ولم يتفكر فيها
فقد أوعد بترك التفكر في دلائل المعرفة فهو واجب إذ لا وعيد على ترك غير الواجب وهذا المسلك لا يخرج عن كونه ظنيا غير قطعي الدلالة لاحتمال الأمر غير الوجوب وكون الخبر المنقول من قبيل الآحاد
والمسلك الثاني وهو المعتمد في إثبات وجوب النظر أن معرفة الله تعالى واجبة إجماعا من المسلمين كافة وقد يتمسك في ذلك بقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله لكنه ظني لما عرفت من احتمال صيغة الأمر غير الوجوب ولأن العلم قد يطلق لغة على الظن الغالب وذلك قد يحصل بالتقليد من غير نظر كما ذكره الإمام الرازي وهي لا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب كوجوبه وعليه إشكالات

الأول أن وجوب المعرفة يتوقف على إمكانها وليس إمكانها باعتبار كونها ضرورية لأن الإنسان لو خلي ودواعي نفسه من مبدأ نشوء من غير نظر لم يجد من نفسه العلم بذلك أصلا والضروري لا يكون كذلك بل باعتبار كونها نظرية مستفادة من النظر فعلى هذا إمكان معرفة الله تعالى فرع إفادة النظر العلم مطلقا أي في الجملة وفي الإلهيات خاصة وفيها بلا معلم وقد مر الإشكال عليه أي على كل واحد منها في تقرير مذاهب السمنية والمهندسين والملاحدة قلنا وقد مر أيضا الجواب عنه أي عن ذلك الإشكال
الثاني أنا وإن سلمنا إمكان معرفته تعالى لكن لا نسلم إمكان وجوبها شرعا لأن وجوبها كذلك إنما يكون بإيجاب الله تعالى وأمره وهو غير ممكن إذ إيجاب المعرفة إما للعارف به تعالى وهو تحصيل الحاصل أي تكليف بتحصيله وذلك ممتنع أو لغيره وهو تكليف الغافل فإن من لا يعرفه تعالى كيف يعلم تكليفه إياه وهو أيضا باطل
قلنا المقدمة الثانية القائلة بأن تكليف غير العارف باطل لكونه غافلا - ممنوعة إذ شرط التكليف فهمه وتصوره لا العلم والتصديق كما مر من أن الغافل من لا يفهم الخطاب أو لم يقل له إنك مكلف لا من يعلم أنه مكلف

الثالث سلمنا إمكان وجوب المعرفة شرعا لكن لا نسلم وقوعه قولكم أجمعت الأمة على ذلك قلنا لا يمكن الإجماع منهم على وجوبها عادة كعلى أي كالإجماع منهم على أكل طعام واحد وعلى كلمة واحدة في آن واحد
قلنا يجوز الإجماع منهم فيما يوجد فيه أمر جامع لهم عليه كوجوب المعرفة مثلا ثم بين الجامع بقوله من توفر الدواعي إلى انقياد الشريعة ومعرفة أحكامها وقيام الدليل الظاهر على ذلك المجتمع عليه وما ذكرتم من الإجماع على طعام واحد أو كلمة واحدة لا جامع لهم عليه بل شهواتهم بحسب أمزجتهم وحالاتهم متخالفة داعية إلى عدم الاتفاق فيه
الرابع الإجماع إن ثبت في نفسه امتنع نقله إلينا فلا يصح أن يتمسك به وإنما امتنع نقله لانتشار المجتهدين في مشارق الأرض ومغاربها فلا يعرفون بأعيانهم فكيف تعرف أقوالهم وجواز خفاء واحد إما لخموله أو لوقوعه في بلاد الكفار أسيرا وجواز كذبه في قوله إن الحكم عندي كذا بناء على احترازه من المخالفة المفضية إلى المفسدة ولا شك أن المعتبر اعتقاده لا مجرد قول يفوه به وجواز رجوعه عن حكم أفتى به لتغير اجتهاده قبل فتوى الآخر بفتح الخاء وكسرها وأيضا نقل الإجماع بطريقة التواتر ممتنع عادة وبطريق الآحاد لا يفيد في القطعيات
قلنا ما ذكرتموه منقوض بما علم الإجماع عليه بطريق التواتر كالأركان الإسلامية من وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وغيرهما وتقديم الدليل القاطع على الظني

الخامس وإن سلم نقله بعد تسليم إمكانه وإمكان نقله فليس بحجة لجواز الخطأ على كل - أي كل واحد من المجتهدين فكذا يجوز الخطأ على كل من حيث هو كل فلا يكون قولهم حجة قطعية ولأن انضمام الخطأ الصادر من أحدهم على انفراده إلى الخطأ الصادر من واحد آخر وهكذا إلى أن يشملهم الخطأ بأسرهم لا يوجب الصواب بل يوجب كون الكل على خطأ
قلنا كون الإجماع حجة قطعية معلوم بالضرورة من الدين فيكون التشكيك فيه بالاستدلال في مقابلة الضرورة سفسطة لا يلتفت إليها ولا يلزم من جواز الخطأ على كل واحد جواز الخطأ على الكل المجموعي لتغايرهما وتغاير حكميهما فإن كل واحد من الإنسان تسعه هذه الدار ولا تسع كلهم وأما احتمال انضمام الخطأ إلى الخطأ حتى يعم الكل فمدفوع بما علم من الدين ضرورة وبما ثبت بالأدلة من عصمة الأمة
السادس منع وقوع الإجماع عليه على وجوب المعرفة بل الإجماع واقع على خلافه وذلك لتقرير النبي وأهل سائر الأعصار إلى عصرنا هذا العوام على إيمانهم وهم الأكثرون في كل عصر مع عدم الاستفسار على الدلائل الدالة على الصانع وصفاته بل مع العلم بأنهم لا يعلمونها قطعا إذ غاية مجهودهم الإقرار باللسان والتقليد المحض الذي لا يقين معه ولو كانت المعرفة واجبة لما جاز ذلك التقرير والحكم بإيمانهم
قلنا كانوا يعلمون أنهم يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أقسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحر ذات أمواج لا تدل على اللطيف الخبير غايته أي غاية ما في الباب أنهم قصروا عن التحرير والتوضيح للمقاصد العرفانية والتقرير والتفصيل للدلائل الدالة عليها وذلك القصور لا يضر فإن المعرفة الواجبة أعم من الإجمالية التي لا يقتدر معها على التحرير والتقرير ودفع الشبه والشكوك والتفصيلية التي يقتدر معها على ذلك أو ندعي نه أي العرفان التفصيلي

واجب لكنه فرض كفاية فإن الوجوب الذي ادعيناه أعم من ذلك أي من فرض الكفاية وفرض العين أيضا والحاصل أن المعرفة على وجهين
أحدهما فرض عين وهو حاصل للعوام الذين قرروا على إيمانهم والآخر فرض كفاية وهو حاصل لعلماء الأعصار
السابع سلمنا إنعقاد الإجماع على وجوب المعرفة لكن لا نسلم أنها لا تتم إلا بالنظر كما ادعيتم بل قد تحصل المعرفة بالإلهام والتوجه التام كما قال به حكماء الهند فإنهم إذا أرادوا حصول شيء من المعرفة وغيرها صرفوا هممهم إليه وسلطوا أذهانهم عليه وانقطعوا عما يعوقهم عنه بالكلية حتى يحصل لهم مطلوبهم أو التعليم كما تقول به الملاحدة أو التصفية كما تقول به الصوفية فإنهم قالوا رياضة النفس بالمجاهدات وتجريدها عن الكدورات البشرية والعوائق الجسدية والتوجه إلى الحضرة الصمدية والتزام الخلوة والمواظبة على الذكر والطاعة تفيد العقائد الحقة التي لا تحوم حولها شائبة ريبة وأما أصحاب النظر فيعرض لهم في عقائدهم الشكوك والشبهات الناشئة من أدلة الخصم
قلنا كل ذلك يحتاج إلى معونة النظر فإن القائل بالتعليم لا ينكر النظر بل يقول هو وحده لا يفيد المعرفة بل يحتاج في إفادتها إلى قول الإمام ويشبه النظر بالبصيرة بالنظر بالبصر وقول الإمام بضوء الشمس فكما أنه لا يتم الإبصار إلا بهما كذلك لا تحصل المعرفة إلا بمجموعهما والإلهام

على تقدير ثبوته لا يأمن صاحبه أنه من الله فيكون حقا أو من غيره فيكون باطلا إلا بعد النظر وإن لم يقدر على تقريره وتحريره وكذا الحال في التصفية ألا ترى أن رياضة المبطلين من اليهود والنصارى تؤديهم إلى عقائد باطلة فلا بد من الاستعانة بالنظر أو قلنا المراد أنه لا مقدور لنا من طريق المعرفة إلا بالنظر فإن التعليم والإلهام من فعل الغير فليس شيء منهما مقدورا لنا وأما التصفية كما هو حقها فتحتاج إلى مجاهدات شاقة ومخاطرات كثيرة قلما يفي بها المزاج فهي في حكم ما لا يكون مقدورا أو قلنا نخصه أي وجوب النظر في المعرفة بمن لا طريق له إليها إلا بالنظر وذلك بأن لا يكون متمكنا إلا منه كجمهور الناس إذ من عرف الله بغيره من الطرق النادرة التي توصل إلى معرفته لم يجب النظر عليه
الثامن سلمنا أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر لكن لا يلزم من هذا وجوب النظر إذ الدليل الذي بنيتموه عليه منقوض بعدم المعرفة وبالشك فإن تحصيل المعرفة كما يتوقف على النظر يتوقف أيضا على عدمها لامتناع تحصيل الحاصل وكذلك يتوقف على الشك عند بعضهم مع أنه ليس يلزم من وجوب تحصيل المعرفة وجوب عدم المعرفة ولا وجوب الشك اتفاقا
قلنا الكلام فيما يكون الوجوب مطلقا والمقدمة يعني ما لا يتم الواجب إلا به مقدورة والوجوب ههنا أي وجوب المعرفة مقيد بعدم المعرفة عند الكل فإن العارف لا يجب عليه تحصيل المعرفة أو الشك عند من يقول بأن تحصيل المعرفة بالنظر يجب أن يكون مقارنا للشك وإذا كان وجوب الواجب مقيدا بوجوب مقدمته لم يستلزم وجوبها كوجوب الزكاة

والحج إذ ليس تحصيل النصاب والاستطاعة واجبا وأيضا يمكن أن يناقش في مقدورية عدم المعرفة والشك
فإن قلت إذا كان وجوب المعرفة مقيدا بما ذكرتم لم تكن المعرفة من قبيل الواجب المطلق فلا يلزم وجوب مقدمتها
قلت وجوبها مطلق بالقياس إلى النظر وإن كان مقيدا بالقياس إلى ما ذكرنا فإن الإطلاق والتقييد مما يختلف بالإضافة ألا ترى أن وجوب الصلاة مقيد بوجوب العقل وإن لم يكن مقيدا بوجود الطهارة ومن ثم عرف الواجب المطلق بما لا يتوقف وجوبه على مقدمة وجوده من حيث هو كذلك
التاسع لا نسلم أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب شرعا لأن الوجوب الشرعي إما خطاب الله أو مترتب عليه ويجوز أن يتعلق خطابه بشيء ولا يتعلق بما يتوقف عليه ذلك الشيء
قلنا المعرفة غير مقدورة بالذات أي لا يمكن أن تتعلق بها القدرة ابتداء بل هي مقدورة بإيجاب السبب المستلزم إياها فإيجابها إيجاب لسببها المقدور الذي هو النظر وذلك كمن يؤمر بالقتل الذي هو إزهاق الروح وهو غير مقدور له بذاته فإنه أمر له بمقدوره الذي هو السبب الموجب للإزهاق وهو ضرب السيف قطعا أي هو أمر بذلك المقدور يقينا إذ لا تكليف بغير المقدور شرعا وتلخيصه أن المقدمة إذا كانت سببا للواجب أي مستلزما إياه بحيث يمتنع تخلفه عنه فإيجابه إيجاب المقدمة في الحقيقة إذ القدرة لا تتعلق إلا بها لأن القدرة على المسبب باعتبار القدرة على السبب لا بحسب ذاته فالخطاب الشرعي وإن تعلق في الظاهر بالمسبب إلا أنه يجب صرفه بالتأويل إلى السبب إذ لا تكليف إلا بالمقدور من حيث هو مقدور فإذا كلف بالمسبب كان تكليفا بإيجاد سببه لأن القدرة إنما تتعلق

بالمسبب من هذه الحيثية بخلاف ما كانت المقدمة شرطا للواجب غير مستلزم إياه كالطهارة للصلاة والمشي للحج فإن الواجب ههنا تتعلق به القدرة بحسب ذاته فلا يلزم أن يكون إيجابه إيجابا لمقدمته وقد يجاب عنه بأنه أي العبد لو كان مأمورا بالشيء مطلقا دون ما يتوقف ذلك الشيء عليه لزم تكليف المحال لبقاء الوجوب حال عدم الموقوف عليه وإلا لم يكن وجوبا مطلقا وهو ضعيف إذ المحال أن يجب الشيء مع عدم المقدمة لا مع عدم التكليف بها فإن عدم التكليف بها لا يستلزم عدمها كما أن التكليف بها لا يستلزم وجودها بل كل من وجودها وعدمها يجامع كلا من إيجابها وعدم إيجابها
فإن قلت إذا لم تكن المقدمة واجبة جاز له تركها فإذا تركها فإن لم يبق وجوب والواجب لم يكن واجبا مطلقا وإن بقي فقد وجب الشيء مع عدم المقدمة
قلت هذا بعينه جاز فيما إذا تركها مع كونها واجبة والتحقيق أن المحال هو أن يكلف بالشيء مع التكليف بعدم مقدمته معه لا مع عدم التكليف بمقدمته ولك أن تحمل عبارة الكتاب على هذا بأن تقول تقديرها إذ المحال أن يجب وجوب الشيء مع عدم المقدمة وتجعل لفظة مع متعلقة بالوجود المقدر فتدبر ولو قدم الإشكال التاسع على الثامن لكان أنسب بمساق الكلام
العاشر المعارضة لما ذكر من الدليل الدال على وجوب النظر بوجوه ثلاثة دالة على أنه ليس واجبا أحدها أنه أي النظر في معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله والعقائد الدينية والمسائل الكلامية بدعة في الدين إذ لم ينقل عن النبي عليه الصلاة و السلام والصحابة الاشتغال به أي بالنظر فيما ذكر ولو

كانوا قد اشتغلوا به لنقل إلينا لتوفر الدواعي على نقله كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهية على اختلاف أصنافها وكل بدعة رد لما ورد في الحديث وهو أنه قال عليه الصلاة و السلام من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد أي مردود جدا
قلنا ما ذكرتم من عدم النقل ممنوع بل تواتر أنهم كانوا يبحثون عن دلائل التوحيد والنبوة وما يتعلق بهما ويقررونها مع المنكرين لهما لأن أهل مكة كانوا يحاجون النبي عليه الصلاة و السلام ويوردون عليه الشبه والشكوك ويطالبونه بالحجة على التوحيد والنبوة حتى قال تعالى في حقهم بل هم قوم خصمون وكان النبي عليه السلام يجيبهم بالآيات الظاهرة والدلائل الباهرة والقرآن مملوء منه أي من البحث عن تلك الدلائل التي يتوصل بها إلى العقائد الدينية وإثباتها عند الخصم وهل ما يذكر في كتب الكلام إلا قطرة من بحر مما نطق به الكتاب الكريم ألا ترى إلى قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
وقوله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
وقوله تعالى أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة إلى آخر السورة
فإنه تعالى ذكر ههنا مبدأ خلقة الإنسان وأشار إلى شبهة المنكرين

للإعادة وهي كون العظام رميمة متفتتة فكيف يمكن أن تصير حية واحتج على صحة الإعادة بقوله تعالى قل يحييها الذي أنشأها أول مرة
وهذا هو الذي عول عليه المتكلمون في صحة الإعادة حيث قالوا إن الإعادة مثل الإيجاد أول مرة وحكم الشيء حكم مثله فإذا كان قادرا على الإيجاد كان قادرا على الإعادة ثم نفى شبهتهم التي حكاها عنهم ولما كان تمسكهم بكون العظام رميمة من وجهين
أحدهما اختلاط أجزاء الأبدان والأعضاء بعضها ببعض فكيف يميز أجزاء بدن عن أجزاء بدن آخر وأجزاء عضو عن أجزاء سائر الأعضاء حتى يتصور الإعادة
والثاني أن الأجزاء الرميمة يابسة جدا مع أن الحياة تستدعي رطوبة البدن أشار إلى جواب الأول بأنه عليم بكل شيء فيمكنه تمييز أجزاء الأبدان والأعضاء وإلى الجواب الثاني أنه جعل النار في الشجر الأخضر مع ما بينهما من المضادة الظاهرة فلأن يقدر على إيجاد الحياة في العظام الرميمة اليابسة أولى لأن المضادة ههنا أقل من ذلك ثم إن لمنكري الإعادة شبهة أخرى مشهورة هي أن الإعادة على ما جاءت به الشرائع تتضمن إعدام هذا العالم وإيجاد عالم آخر وذلك باطل لأصول كثيرة مقررة في كتب الفلاسفة فأجاب عن هذه الشبهة بأن المنكر لما سلم كونه تعالى خالقا لهذه السموات والأرض لزمه إن يسلم كونه قادرا على إعدامها فإن ما صح عليه العدم في وقت صح عليه في كل الأوقات وأن يسلم كونه قادرا على إيجاد عالم آخر لأن القادر على شيء قادر لا محالة على مثله
قال في نهاية العقول إن الآيات الدالة على إثبات الصانع وصفاته

وإثبات النبوة والرد على المنكرين أكثر من أن تحصى فكيف يقال إن الرسول والصحابة لم يخوضوا في هذه الأدلة وكانوا منكرين للخوض فيها نعم إنهم يعني الصحابة لم يدونوه أي علم الكلام كما دوناه ولم يشتغلوا بتحرير الاصطلاحات وتقرير المذاهب وتبويب المسائل وتفصيل وتلخيص السؤال والجواب كما اشتغلنا نحن بهذه الأمور ولم يبالغوا في تطويل الذيول والأذناب كما بالغنا فيه وذلك أعني ترك التدوين والاشتغال والمبالغة لاختصاصهم بصفاء النفوس وقوة الأذهان وحدة القرائح ومشاهدة الوحي المقتضية لفيضان الأنوار على قلوبهم الزكية والتمكن من مراجعة من يفيدهم ويدفع عنهم ما عسى أن يعرض لهم من شك أو شبهة كل حين من الأحيان مع متعلق بالاختصاص أي اختصوا بما ذكر مع قلة المعاندين المشككين لهم ولم تكثر الشبهات معطوف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل مع أنه قل المعاندون ولم تكثر الشبهات في زمانهم كثرتها في زماننا بما حدث من الشبه في كل حين من الأحيان السالفة فاجتمع لنا بالتدريج كل ما حدث في الأعصار الماضية فاحتيج في زماننا إلى تدوين الكلام لحفظ العقائد ودفع الشبه دون زمانهم وذلك أي عدم تدوينهم الكلام كما لم يدونوا الفقه ولم يميزوا أقسامه أرباعا هي العبادات والمبايعات والمناكحات والجنايات وأبوابا وفصولا كما ميزناها كذلك ولم يتكلموا فيها أي في أقسامه ومسائله بالاصطلاح المتعارف في زماننا من النقض وهو تخلف الحكم عما جعله علة في القياس والقلب وهو تعليق ما ينافي الحكم بعلته والجمع وهو أن يجمع بين الأصل والفرع بعلة مشتركة بينهما فيصح القياس والفرق وهو أن يفرق بينهما بما يختص بأحدهما فلا يصح وتنقيح المناط وهو إسقاط ما لا مدخل له في العلية وتخريجه وهو تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة إلى غير ذلك من اصطلاحات الفقهاء فكما لم يلزم مما ذكرناه قدح في الفقه لم يلزم منه أيضا قدح في الكلام وبالجملة فمن البدعة ما هي حسنة هذا إشارة إلى أن قوله نعم الخ منع لكلية الكبرى القائلة كل بدعة رد وتحرير

الجواب أنك إن ادعيت أن النبي وأصحابه لم يشتغلوا بالأبحاث الكلامية أصلا فالاشتغال بها مطلقا بدعة فهو ممنوع لما ذكرناه من التواتر الذي لا شبهة فيه وإن ادعيت أن الاشتغال بها على هذه الاصطلاحات والتفاصيل بدعة فهو مسلم لكنه بدعة حسنة لا مردودة كالاشتغال بالفقه وسائر العلوم الشرعية
وثانيهما يعني ثاني وجوه المعارضة أنه عليه الصلاة و السلام نهى عن الجدل كما في مسألة القدر روي أنه خرج على أصحابه فرآهم يتكلمون في القدر فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا عزمت عليكم أن لا تخوضوا فيه أبدا وقال عليه الصلاة و السلام إذا ذكر القدر فأمسكوا ولا شك أن النظر جدل فيكون منهيا عنه لا واجبا
قلنا ذلك النهي الوارد في حق الجدل إنما هو حيث كان الجدل تعنتا ولجاجا بتلفيق الشبهات الفاسدة لترويج الآراء الباطلة ودفع العقائد الحقة وإراءة الباطل في صورة الحق بالتلبيس والتدليس كما قال تعالى وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق

وقال تعالى بل هم قوم خصمون
وقال ومن الناس من يجادل في الله بغير علم
ومثل هذا الجدال لا نزاع في كونه منهيا عنه وأما الجدال بالحق لإظهاره وإبطال الباطل فمأمور به قال الله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن
وقال تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ومجادلة الرسول لابن الزبعري وعلي للقدري مشهورة روي أنه لما نزل قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال عبد الله بن الزبعري قد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يعذبون فقال عليه الصلاة ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل
وروي أيضا أن شخصا قال إني أملك حركاتي وسكناتي وطلاق زوجتي وعتق أمتي فقال علي رضي الله عنه أتملكها دون الله أو مع الله فإن قلت أملكها دون الله فقد أثبت دون الله مالكا وإن قلت أملكها مع الله فقد أثبت له شريكا
هذا كما مضى والنظر غير الجدل فإن الجدل هو المباحثة لإلزام الغير والنظر هو الفكر ولا يلزم من كون الجدل منهيا عنه كون النظر

كذلك كيف وقد مدحه الله تعالى بقوله ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا فيكون مرضيا لا منهيا
وثالثها أي ثالث الوجوه المعارضة قوله عليه الصلاة و السلام عليكم بدين العجائز ولا شك أن دينهن بطريق التقليد ومجرد الاعتقاد إذ لا قدرة لهن على النظر فيجب علينا الكف عنه
قلنا إن صح الحديث أي لا نسلم صحته إذ لم يوجد في الكتب الصحاح بل قيل إنه من كلام سفيان الثوري فإنه روى أن عمرو بن عبيد من رؤساء المعتزلة قال إن بين الكفر والإيمان منزلة بين المنزلتين فقالت عجوز قال الله تعالى هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن فلم يجعل الله من عباده إلا الكافر والمؤمن فبطل قولك فسمع سفيان كلامها فقال عليكم بدين العجائز وإن سلمنا صحته فالمراد به التفويض إلى الله سبحانه فيما قضاه وأمضاه والانقياد له فيما أمر به ونهى عنه لا الكف عن النظر والاقتصار على مجرد التقليد ثم إنه خبر آحاد لا

يعارض القواطع وما استدللنا به على وجوب النظر من قبيل القواطع وأما المعتزلة فهذه الطريقة التي هي معتمد الأصحاب في إثبات وجوب النظر وهي الاستدلال بوجوب المعرفة على وجوبه طريقتهم أيضا في إثباته إلا أنهم يقولون المعرفة واجبة عقلا أي يتمسكون في إثبات وجوبها بالعقل لا بالإجماع والآيات لأنها دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف أي من اختلاف الناس في إثبات الصانع وصفاته وإيجابه علينا معرفته فإن العاقل إذا اطلع على هذا الاختلاف الواقع بين الناس جوز أن يكون له صانع قد أوجب عليه معرفته فإن لم يعرفه ذمه وعاقبه فيحصل له خوف وغيره أي الخوف الحاصل من غير الاختلاف كالنعم الظاهرة والباطنة فإن العاقل إذا شاهدها جوز أن يكون المنعم بها قد طلب الشكر عليها فإن لم يعرفه ولم يشكره عليها سلبها عنه وعاقبه فيحصل له من ذلك أيضا خوف وهو أي الخوف ضرر للعاقل ودفع الضرر عن النفس مع القدرة عليه واجب عقلا فإن العاقل إذا لم يدفع ضرره مع قدرته عليه ذمه العقلاء بأسرهم ونسبوه إلى ما يكرهه وهذا معنى الوجوب العقلي ولما كانت المعرفة واجبة عقلا وكانت لا تتم إلا بالنظر كان النظر أيضا واجبا عقلا لما عرفت هكذا تمسكوا بهذه الطريقة ونحن نقول بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح في الأفعال وما يتفرع عليهما من الوجوب والحرمة وغيرهما تمنع حصول الخوف المذكور لعدم الشعور بما جعلوا الشعور به سببا له من الاختلاف وغيره ودعوى ضرورة الشعور من العاقل ممنوعة لعدم الخطور في الأكثر فإن أكثر الناس لا يخطر ببالهم أن هناك اختلافا بين الناس فيما ذكر وأن لهذه النعم منعما قد طلب منهم الشكر عليها بل هم ذاهلون عن ذلك فلا يحصل لهم خوف أصلا وإن سلم حصول الخوف فلا نسلم أنه أي العرفان الحاصل بالنظر يدفعه أي الخوف إذ قد يخطىء فلا يقع العرفان على وجه الصواب لفساد النظر فيكون الخوف حينئذ أكثر لا يقال الناظر فيه أي في عرفانه تعالى أحسن حالا قطعا من المعرض عنه بالكلية لأنا نقول ذلك ممنوع لأن النظر قد يؤدي إلى الجهل المركب الذي هو أشد خطرا من الجهل البسيط والبلاهة أدنى إلى الخلاص من

فطانة بتراء ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة و السلام أكثر أهل الجنة البله
ثم لنا في أنه يعني النظر أو العرفان لا يجب عقلا بل في أنه لا يجب شيء عقلا بل سمعا قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا نفى الله سبحانه وتعالى التعذيب مطلقا دنيويا كان أو أخرويا قبل البعثة وهو من لوازم الوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفي الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه وهو ينفي كونه بالعقل إذ لو كان الوجوب بالعقل لكان ثابتا معه قبل بعثة الرسل ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل بالآية لا يقال المراد بالرسول في الآية الكريمة هو العقل لاشتراكهما في الهداية أو المراد من الآية ما كنا معذبين بترك الواجبات الشرعية وليس يلزم من ذلك نفي التعذيب بترك الواجبات العقلية لأنا نقول كل واحد من حمل الرسول على العقل وتقييد التعذيب بترك الواجب الشرعي خلاف الوضع والأصل وحينئذ لا يجوز صرف الكلام إليه إلا لدليل ولا دليل ههنا فلا يجوز أن يرتكب شيء منهما احتج المعتزلة بأنه لو لم يجب النظر إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوتهم في مقام المناظرة إذ يقول المكلف حين يأمره النبي بالنظر في معجزته وفي جميع ما تتوقف عليه نبوته من

ثبوت الصانع وصفاته ليظهر له صدق دعواه لا أنظر ما لم يجب النظر علي فإن ما ليس بواجب علي لا أقدم عليه ولا يجب النظر علي ما لم يثبت الشرع عندي إذ المفروض أن لا وجوب إلا به ولا يثبت الشرع عندي ما لم أنظر لأن ثبوته نظري فيتوقف كل واحد من وجوب النظر وثبوت الشرع على الآخر وهو محال ويكون هذا كلاما حقا لا قدرة للنبي على دفعه وهو معنى إفحامه
وأجيب عنه بوجهين
الأول النقض وهو أنه أي ما ذكرتم من لزوم إفحام الأنبياء مشترك بين الوجوب الشرعي الذي هو مذهبنا والوجوب العقلي الذي هو مذهبكم فما هو جوابكم فهو جوابنا وإنما كان مشتركا إذ لو وجب النظر بالعقل فبالنظر اتفاقا لأن وجوبه ليس معلوما بالضرورة بل بالنظر فيه والاستدلال عليه بمقدمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أن المعرفة واجبة وأنها لا تتم إلا بالنظر وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيقول المكلف حينئذ لا أنظر أصلا ما لم يجب ولا يجب ما لم أنظر فيتوقف كل واحد من وجود النظر مطلقا ووجوبه على الآخر
لا يقال قد يكون وجوب النظر فطري القياس أي من القضايا التي قياساتها معها فيضع النبي له للمكلف مقدمات ينساق ذهنه إليها بلا تكلف ويفيده العلم بذلك يعني بوجوب النظر ضرورة فيكون الحكم بوجوب النظر ضروريا محتاجا إلى تنبيه على طرفيه مع تلك المقدمات أو نظريا قريبا من الضروري محتاجا إلى أدنى التفات يحصل بذلك التنبيه لأنا نقول كونه فطري القياس مع توقفه على ما ذكرتموه من المقدمات الدقيقة

الأنظار باطل قطعا وعلى تقدير صحته بأن يكون هناك دليل آخر له للمكلف أن لا يستمع إليه أي إلى النبي وكلامه الذي أراد به تنبيهه ولا يأثم بتركه أي بترك النظر أو الاستماع إذ لم يثبت بعد وجوب شيء أصلا فلا تمكن الدعوة وإثبات النبوة وهو المراد بالإفحام
الوجه الثاني الحل وهو أن قولك لا يجب النظر على ما لم يثبت الشرع عندي قلنا هذا إنما يصح لو كان الوجوب عليه بحسب نفس الأمر موقوقا على العلم بالوجوب المستفاد من العلم بثبوت الشرع لكنه لا يتوقف الوجوب في نفس بالأمر على العلم به إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب لأن العلم بثبوت شيء فرع لثبوته في نفسه فإنه إذا لم يثبت في نفسه كان اعتقاد ثبوته جهلا لا علما فلو توقف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور ولزم أيضا أن لا يجب شيء على الكافر بل نقول الوجوب في نفس الأمر يتوقف على ثبوت الشرع في نفس الأمر والشرع ثابت في نفس الأمر علم المكلف ثبوته أو لم يعلم نظر فيه أو لم ينظر وكذلك الوجوب وليس يلزم من هذا تكليف الغافل لأن الغافل من لم يتصور التكليف لا من لم يصدق به كما مر وهذا معنى ما قيل إن شرط التكليف هو التمكن من العمل به لا العلم به وبهذا الحل أيضا يندفع الإشكال عن المعتزلة فيقال قولك لا يجب النظر على مالم أنظر باطل لأن الوجوب ثابت بالعقل في نفس الأمر ولا يتوقف على علم المكلف بالوجوب والنظر فيه

المقصد السابع
قد اختلف في أول واجب على المكلف أنه ماذا فالأكثر ومنهم الشيخ أبو الحسن الأشعري على أنه معرفة الله تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينية وعليه يتفرع وجوب كل واجب من الواجبات الشرعية

وقيل هو النظر فيها أي في معرفة الله سبحانه لأنه واجب اتفاقا كما مر وهو قبلها وهذا مذهب جمهور المعتزلة والأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني
وقيل هو أول جزء من النظر لأن وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه فأول جزء من النظر واجب وهو متقدم على النظر المتقدم على المعرفة
وقال القاضي واختاره ابن فورك وإمام الحرمين إنه القصد إلى النظر لأن النظر فعل إختياري مسبوق بالقصد المتقدم على أول أجزائه والنزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد الأول أي لو أريد أول الواجبات المقصودة أو لا وبالذات فهو المعرفة اتفاقا وإلا أي وإن لم يرد ذلك بل أريد أول الواجبات مطلقا فالقصد إلى النظر لأنه مقدمة للنظر الواجب مطلقا فيكون واجبا أيضا وقد عرفت أن وجوب المقدمة إنما يتم في السبب المستلزم دون غيره ثم إن المصنف ألحق في كتابه الذي هو بخطه هكذا وإلا فإن شرطنا كونه مقدورا فالنظر وإلا فالقصد إلى النظر هذا أوفق بسياق الكلام لشموله المذاهب الثلاثة المعتبرة إلا أنه يدل على أن القصد غير مقدور مع كونه واجبا وعدم مقدوريته وإن أمكن توجيهه بأنه لو كان مقدورا لاحتاج إلى قصد واختيار آخر ويلزم التسلسل لكن كون الواجب غير مقدور باطل اتفاقا
قال الإمام الرازي إن أريد أول الواجبات المقصودة بالقصد الأول فهو المعرفة عند من يجعلها مقدورة والنظر عند من لا يجعل العلم الحاصل عقيبه

مقدورا بل واجب الحصول وإن أريد أول الواجبات كيف كانت فهو القصد
وقال أبو هاشم هو أي أول الواجبات الشك لأن القصد إلى النظر بلا سابقة شك يقتضي طلب تحصيل الحاصل أو وجود النظر مع ما يمنعه ألا ترى أنك إذا تصورت طرفي المطلوب فإن جزمت به كان حاصلا وإن جزمت بنقيضه كان مانعا وأنت تعلم أن انتفاء الجزم لا يستلزم الشك لجواز أن يكون هناك ظن بالمطلوب أو بنقيضه فيجوز القصد إلى النظر لتحصيل العلم ورد قول أبي هاشم بوجهين
الأول أن الشك غير مقدور فلا يكون واجبا إجماعا وفيه نظر إذ لو لم يكن الشك مقدورا لم يكن العلم أيضا مقدورا لأن القدرة نسبتها إلى الضدين سواء عند أبي هاشم والعلم مقدور عنده فيكون الشك عنده أيضا مقدورا فلا نسلم كونه غير مقدور
قال الآمدي والحق أن ابتداء الشك غير مقدور للعبد بل هو واقع بغير اختياره إلا أن دوامه مقدور إذ له أن يترك النظر فيدوم الشك أو أن ينظر فيزول الشك وأنت خبير بأن ما قاله لا ينفع أبا هاشم لأن الذي يجب أن يتقدم عنده على القصد إلى النظر هو ابتداء الشك لا دوامه
الثاني وهو الصواب في الرد عليه أن وجوب المعرفة عنده مقيد بالشك على ما تقتضيه قاعدته لأن الخوف المقتضي لوجوب المعرفة إنما نشأ عنده من الشك الحاصل من الشعور باختلاف الناس في الصانع ومن رؤية آثار النعم وإذا كان وجوبها مقيدا بوجوب الشك عنده فلا يكون إيجابها إيجابا له ولا مقتضيا لإيجابه كإيجاب الزكاة لما كان مشروطا ومقيدا بحصول النصاب لم يكن إيجابا لتحصيل النصاب ولا مستلزما

لإيجاب تحصيله اتفاقا فرع أن قلنا الواجب الأول النظر فيمن أمكنه زمان يسع فيه النظر التام والتوصل به إلى معرفة الله تعالى ولم ينظر في ذلك الزمان ولم يتصول بلا عذر فهو عاص بلا شبهة ومن لم يمنكنه زمان أصلا بأن مات حال البلوغ فهو كالصبي الذي مات في صباه ومن أمكنه من الزمان ما يسع بعض النظر دون تمامه فإن شرع فيه بلا تأخير واخترمته المنية قبل انقضاء النظر وحصول المعرفة فلا عصيان قطعا وأما إذا لم يشرع فيه بل أخره بلا عذر ومات ففيه احتمال وإلا ظهر عصيانه لتقصيره بالتأخير وإن تبين عدم اتساع الزمان لتحصيل الواجب كالمرأة تصبح طاهرة فتفطر ثم تحيض في ذلك اليوم فإنها عاصية وإن ظهر أنها لم يمكنها إتمام الصوم وإنما خص الفرع بالنظر لاقتضائه زمانا يتأتى فيه التفصيل الذي ذكره بخلاف القصد وأما المعرفة فالشروع فيها راجع إلى الشروع في النظر
وقد يقال في هذا التخصيص إيماء إلى أنه المختار فإن القصد إلى النظر من تتمته كيف ولو جعل واجبا برأسه وجب أن يقصد إلى تحصيله ولزم أن يكون القصد مسبوقا بقصد آخر

المقصد الثامن
الذين قالوا النظر الصحيح يستلزم العلم بالمنظور فيه فقد اختلفوا في النظر الفاسد هل يستلزم الجهل أي الاعتقاد الذي لا يطابق المنظور فيه على مذاهب ثلاثة
أحدها واختاره الإمام الرازي أنه يفيده مطلقا سواء كان فساده من جهة مادته أو من جهة صورته لأن من اعتقد أن العالم قديم وكل قديم غني عن العلة امتنع أن لا يعتقد أن العالم غني عن العلة ضرورة وهو جهل وقد يقال إن دليله هذا يرشد إلى أن المختار عنده هو المذهب الثالث

أعني التفصيل كيف والقول بأن الفاسد من جهة الصورة يستلزم الجهل ظاهر البطلان
وثانيها وهو الصواب والمختار عند الجمهور أنه لا يفيده مطلقا سواء كان فاسدا مادة أو صورة وقد احتج عليه بأنه لو أفاده واستلزمه لكان نظر المحق في شبهة المبطل يفيده الجهل وليس الأمر كذلك
والجواب لو صح هذا الاحتجاج لم يكن النظر الصحيح مفيدا ومستلزما للعلم وإلا أي وإن لم يكن غير مفيد له بل كان مفيدا لكان نظر المبطل في حجة المحق يفيده العلم فإن قلت شرط إفادة العلم اعتقاد المقدمات المعتبرة في النظر الصحيح والمبطل لا يعتقدها فلذلك لم يفده العلم
قلنا هو مشترك إذ شرط إفادته أي النظر الفاسد للجهل اعتقادها أي المقدمات المعتبرة فيه والمحق لا يعتقدها فلذلك لم يفده الجهل وأثبته أي المذهب الثاني وهو عدم الإفادة المحققون بأن النظر الفاسد ليس له وجه استلزام للجهل أي ليس له في نفس الأمر ما لأجله يستلزمه وإن كان قد يجلبه اتفاقا كما في المثال الذي أورده الإمام الرازي بيانه أن النظر الصحيح إنما هو في مقدمات لها في نفس الأمر إلى المطلوب بالنظر نسبة مخصوصة بسببها يستلزم العلم بالمطلوب عند انتفاء أضداد العلم
قال الآمدي إن الدليل المنظور فيه مع المطلوب على صفتين في ذاتيهما لا يتصور معهما الانفكاك بينهما وليس للفاسد ذلك فإن الشبهة المنظور فيها ليس لها في نفس الأمر بحسب ذاتها نسبة مخصوصة وصفة ذاتية لأجلها تكون مستلزمة للمطلوب بل استلزامها إياه راجع إلى أن الناظر

اعتقد فيها وجود صفة يلزمها المطلوب لأجلها وهو مخطئ فيه ألا ترى أنه رذا ظهر خطأه في اعتقاد وجه الدلالة لم تبق الدلالة أصلا فالنظر الصحيح يوقف على وجه دلالة الدليل على المطلوب لرابطة بينهما في نفس الأمر بحسب ذاتيهما فاستلزم العلم به وتضمنه بحيث لا ينفك عنه بخلاف النظر الفاسد مع الجهل إذ ليس لما وقع فيه النظر الفاسد رابطة ذاتية مع خلاف ما عليه المنظور فيه حتى يوقف النظر الفاسد عليها ويستلزم لأجلها الاعتقاد بذلك الخلاف أعني الجهل المركب بالمطلوب ولا خفاء به أي بأن النظر الفاسد لا يستلزم الجهل بعد التحرير والتوضيح الذي قدمناه وقول الإمام الرازي في المثال الذي أورده من اعتقد هاتين المقدمتين اعتقد تلك النتيجة الجهلية
قلنا ما ذكرته حق ولكن ليس الشأن من أتى بالنظر الفاسد فيه أي في ذلك المثال اعتقده كذلك أي اعتقد أن مقدماته حقة صادقة بل ربما لم يعتقد ذلك فلا يحصل له الجهل فلا يكون النظر الفاسد مستلزما للجهل وإن كان جالبا له لبعضهم بسبب اعتقاده ولقائل أن يقول ليس كل من أتى بالنظر الصحيح اعتقد مقدماته حقة وإذا لم يعتقدها كذلك لم يحصل له بذلك النظر العلم بالمنظور فيه فلا يكون النظر الصحيح مستلزما للعلم
فإن قلت إذا لم يعتقدها لم يكن هناك نظر صحيح لأنه ترتيب علوم تصديقية ولا تصديق علميا له فيما ذكرته
قلت إنه إذا لم يعتقد المقدمات لم يكن أيضا هناك نظر فاسد بحسب مادته لأنه ترتيب تصديقات غير مطابقة وليس له حينئذ تصديق غير مطابق والتحقيق أنه لا استحالة في أن يكون بين القضايا الكواذب رابطة عقلية لأجلها يستلزم بعضها بعضا فإنه لا فرق بين المقدمات الصادقة

والكاذبة الواقعة على هيئة الشكل الأول مثلا في استلزام النتيجة إنما الفرق بينهما في تحقق الملزوم في الأولى دون الثانية وذلك لا مدخل له في الاستلزام وظهور الغلط في النظر الفاسد لا يجب أن يكون في وجه الدلالة أعني تلك الرابطة العقلية بل ربما كان في صدق المقدمات بأن تكون كاذبة مع وجود الارتباط العقلي الموجب للاستلزام القطعي بحسب نفس الأمر ولا شك أن حصول العلم في الأولى والجهل في الثانية يتوقف على اعتقاد حقية المقدمات بلا فرق وإما ما ذكره من التحرير فإنما يتأتى على اصطلاح من جعل المفرد دليلا فيقول مثلا العالم دليل الصانع وله ارتباط عقلي به ووجه دلالته عليه بحسب نفس الأمر ولأجله كان مستلزما له وكان النظر فيه من ذلك الوجه مفيدا للعلم به قطعا بخلاف دوران أفعال العباد على اختيارهم وجودا وعدما فإنه ليس له رابطة عقلية يكون بها مستلزما في نفس الأمر لكون تلك الأفعال مخلوقة لهم ويكون النظر من ذلك الوجه فيه مفيدا للجهل به لكن من اعتقد أن هناك ارتباطا عقليا أداه النظر فيه إلى ذلك الجهل بسبب اعتقاده لا بسبب مناسبة مخصوصة ورابطة عقلية بينهما تكون منشأ للأستلزام
وثالثها أن الفساد إن كان من المادة فقط استلزمه لما مر من استدلال الإمام وفيه بحث لأن قولنا زيد حمار وكل حمار جسم ينتج أن زيدا جسم وليس بجهل فالصواب أن الفاسد من جهة المادة قد يستلزم الجهل في بعض الصور وأما استلزامه إياه مطلقا فلا كيف وقد بين في الميزان كيفية استنتاج الصادق من المقدمات الكاذبة وإلا أي وإن لم يكن الفساد من جهة المادة فقط بل كان من الصورة فقط أو منهما معا فلا يستلزم النظر الجهل إذ الضروب الغير المنتجة وهي التي فسدت

صورتها سواء كانت مقدماتها صادقة أو كاذبة لا تستلزم اعتقادا أصلا لا خطأ ولا صوابا

المقصد التاسع
فيما اختلف في كونه شرطا للنظر
قال ابن سينا شرط إفادة النظر للعلم التفطن لكيفية الاندراج والارتباط بين المقدمتين فإن من يعلم أن هذه بغلة وكل بغلة عاقر قد يراها منتفخة البطن فيظن أنها حامل وما هو أي ظنه كونها حاملا إلا لذهوله عن ارتباط الصغرى بالكبرى واندراج هذا الجزئي الذي هو هذه البغلة تحت ذلك الكلي الذي هو كل بغلة عاقر إذ لولا هذا الذهول لجزم بكونها عاقرا ولم يظن أنها حامل ومنعه الإمام الرازي فقال ليس ذلك التفطن شرطا لإفادة النظر للعلم لأن العلم بأن هذا مندرج في ذلك وبأن إحدى المقدمتين مرتبطة بالأخرى تصديق آخر مغاير للتصديق بالصغرى والكبرى فلو وجب العلم به أي بأن هذا مندرج في ذاك وبأن هذه مرتبطة بتلك كانت هذه القضية التي وجب العلم بها مقدمة أخرى منضمة إليها أي إلى المقدمات الأخرى مرتبطة معها ويجب ملاحظة الترتيب وكيفية الاندراج مرة أخرى ويلزم التسلسل فيمتنع حصول العلم بالمطلوب والواجب لا نسلم أن ذلك الذي وجب العلم به مقدمة أخرى بل ذلك التفطن الذي اعتبره ابن سينا هو ملاحظة نسبة المقدمتين إلى النتيجة فإنه قال هكذا فلا سبيل إلى درك مطلوب مجهول إلا من قبل حاصل معلوم ولا سبيل أيضا إلى ذلك إلا بالتفطن للجهة التي لأجلها صار مؤديا إلى المطلوب فأشار بالتفطن للجهة المذكورة إلى تلك الملاحظة وهي من قبيل التصور دون التصديق فلا تسلسل وقد احتج البعض يعني القاضي البيضاوي على رأي ابن سينا

وكون التفطن شرطا شرطا للإنتاج باختلاف الاشكال في الجلاء والخفاء فإنا نجد شكلين يتركب كل منهما من مقدمتين بديهيتين مع إنتاج إحداهما لنتيجته بين جلي وإنتاج الآخر خفي محتاج إلى بيان وما ذلك إلا لأن هيئة الأول قريبة من الطبع يتفطن لها بالبديهة وهيئة الثاني بعيدة منه فلا يتفطن لها إلا بدليل أو تنبيه وفيه نظر لاختلاف اللوازم في الأشكال فقد يكون إنتاجها لبعض من تلك اللوازم أظهر من إنتاجها لبعض آخر منها وتفصيل الكلام أن الأشكال مختلفة على سبيل منع الخلو إما في المقدمات وإما في النتائج فإذا فرض الاتحاد في المقدمتين كما في الأول والرابع كان اللازم من أحدهما عكس اللازم من الآخر وإذا كان أحد الاختلافين لازما وقد يجتمعان أيضا جاز أن يكون الاختلاف في الجلاء والخفاء لاختلاف اللوازم أو لاختلاف الملزومات أو لاختلافهما معا فإن اللزوم بين أمرين قد يكون بينا ولا يكون بين أمرين آخرين أو بين أحدهما وأمر آخر بينا والحق أنه إن أراد ابن سينا بما ذكره وجعله شرطا للانتاج إجتماع المقدمتين معا في الذهن مرتبتين على ما ينبغي فمسلم لأنه لو كان حصول المبادئ وحدها بلا ترتيب معتبر بينها كافيا في حصول المطلوب لكان العالم بالقضايا الواجب قبولها عالما بجميع العلوم لإنتهاء الكسبيات إلى الضروريات وليس كذلك فوجب أن تكون مع المبادئ هيئة مخصوصة عارضة لها هي صورة للنظر كما مر وإن أراد أمرا آخر وراءه أي وراء الاجتماع المذكور فممنوع إذ لا حاجة بنا بعد ترتيب المقدمتين على هيئة الشكل الأول إلى أمر آخر والحاصل أنه لا بد مع المقدمتين من الترتيب والهيئة ومن أن تكون لهما نسبة مخصوصة مع

النتيجة وأما ملاحظة الترتيب والهيئة والنسبة المخصوصة فلا دليل على كونها شرطا سوى قضية جلاء الأشكال وخفائها وقد عرفت ما فيها وما ذكره من المثال في البغلة إنما يصح عند الذهول عن إحدى المقدمتين وأما عند ملاحظتهما على الترتيب اللائق فلا يصح ذلك المثال نعم إذا لوحظ الكبرى قبل الصغرى كان الترتيب مفقودا وأمكن ذلك الظن

المقصد العاشر
قد اختلف في أن العلم بدلالة الدليل على المدلول هل يغاير العلم بالمدلول
قال الإمام الرازي هناك دليل مستلزم كوجود العالم ومدلول لازم كوجود الصانع ودلالة هي نسبة بينهما متأخرة عنهما ولا شك أنها متغايرة فتكون العلوم المتعلقة بها متغايرة أيضا ثم قال قوم وجه الدلالة غير الدليل كما نقول العالم يدل على وجود الصانع لحدوثه أو إمكانه فالدليل هو العالم ووجه دلالته هو الحدوث أو الإمكان وهو مغاير له عارض
وقال آخرون لا يجب ذلك أي كون وجه الدلالة مغايرا للدليل بل قد يدل الشيء على غيره نظرا إلى ذاته وإلا أي وإن لم يدل الشيء على غيره بذاته بل وجب أن يكون لكل دليل وجه دلالة يغايره لزم التسلسل لأنا ننقل الكلام إلى ذلك الوجه الذي هو سبب دلالة الدليل كالإمكان مثلا فإنه أيضا دليل يدل على وجود الصانع فوجب أن يكون له وجه دلالة يغايره والحدوث الذي هو وجه الدلالة ليس غير العالم الذي هو الدليل إذ لا واسطة بين العالم الذي هو ما سوى الله تعالى والصانع بل كان ما هو مغاير له تعالى فهو داخل فيما سواه فليس ثمة أمر ثالث هو غير العالم والصانع

ونحن نستدل بالعالم على الصانع فليس ثمة أمر ثالث هو غير الدليل والمدلول وهذا الذي ذكره هؤلاء قريب مما قال مشايخنا صفة الشيء لا هو ولا غيره كما سيأتي بل يشبه أن يكون فرعا لذلك فإن وجه الدلالة صفة للدليل وستقف عليه أي على ما ذكره مشايخنا من حال الصفة مع الموصوف
قال ناقد المحصل هذه المسألة إنما تجري فيما بين المتكلمين عند استلالاهم بوجود ما سوى الله على وجوده تعالى فيقولون لا يجوز أن يكون وجه دلالة وجود ما سواه على وجوده مغايرا لهما إذ المغاير لوجوده تعالى داخل في وجود ما سواه والمغاير لوجود ما سواه هو وجوده فقط وأجاب بأن وجه الدلالة مغاير لوجودهما وهو أمر اعتباري ليس بموجود في الخارج كالإمكان والحدوث

المرصد السادس في الطريق
الذي يقع فيه النظر وهو الموصل إلى المقصود بتوسط النظر وفيه مقاصد
المقصد الأول
في تحديده وتقسيمه إلى أقسامه الأولية هو أي الطريق ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب اعتبر الإمكان لأن الطريق لا يخرج عن كونه طريقا بعدم التوصل بل يكفيه إمكانه وقيد النظر بالصحيح لأن الفاسد لا يستلزم المطلوب فلا يمكن أن يتوصل به إليه إذ ليس في نفسه وسيلة له وأراد بالنظر فيه ما يعم النظر في نفسه والنظر في أحواله ليتناول المفرد الذي من شأنه أنه إذا نظر في أحواله أوصل إلى المطلوب كالعالم مثلا فإنه يسمى عندهم دليلا ويتناول أيضا التصورات المتعددة غير مأخوذة مع الترتيب وحينئذ يلزم تناوله للمقدمات إذا لم تؤخذ مع ترتيبها وأطلق المطلوب ليتناول المطلوب التصوري والتصديقي ولما كان الإدراك إما تصورا أو تصديقا فكذا المطلوب الإدراكي الذي يطلب بالنظر فإن كان المطلوب تصورا سمى طريقه الذي يمكن أن يتوصل بالنظر فيه إليه معرفا وإن كان المطلوب تصديقا سمى طريقه دليلا وهو أي الدليل بالمعنى المذكور يشمل الظني الموصل إلى الظن كالغيم الرطب الموصل إلى ظن المطر والقطعي الموصل إلى الجزم والقطع كالعالم الموصل إلى العلم بوجود

الصانع وقد يخص الدليل بالقطعي ويسمى الظني إمارة وقد يخص الدليل أيضا مع التخصيص الأول بما يكون الاستدلال فيه من المعلول كالحمى على العلة كتعفن الأخلاط ويسمى هذا برهانا آنيا ويسمى عكسه وهو ما يستدل فيه من العلة على المعلول تعليلا وبرهانا لميا

المقصد الثاني
المعرف تجب معرفته قبل معرفة المعرف لأن معرفته طريق إلى معرفته وسبب لها فلا بد أن تتقدمها فيكون غيره إذ لو كان عينه لزم كون الشيء معلوما قبل أن يكون معلوما ويكون أيضا أجلى منه إذ لو ساواه في الجلاء أو كان أخفى منه لم يكن معلوما قبله فلا يعرف هذا تغريع على كونه أجلى أي لا يعرف الشيء بما لا يعرف إلا به فإنه لا يكون أجلى منه سواء توقف معرفته على معرفته بمرتبة واحدة ويسمى دورا صريحا كقولك الشمس كوكب نهاري والنهار زمان كون الشمس طالعة أو أكثر ويسمى دورا مضمرا كقولك الحركة خروج الشيء من القوة إلى الفعل بالتدريج والتدريج وقوع الشيء في زمان والزمان مقدار الحركة ولا بد إشارة إلى شرط آخر للمعرف أي لا بد من أن يساويه في العموم والخصوص ليحصل به التميز إذ لولاه أي لولا كونه مساويا لدخل فيه غير المعرف على تقدير كونه أعم مطلقا أو من وجه فلم يكن مانعا من دخول غير المعرف فيه ولا مطردا وهو أن يكون بحيث كل ما صدق على شيء صدق عليه المعرف أيضا أو خرج عنه بعض أفراده على تقدير كونه أخص إما مطلقا أو من وجه فلم يكن جامعا لجميع أفراد المعرف ولا منعكسا وهو أن يكون بحيث يصدق على كل ما صدق عليه المعرف وأعلم أن اشتراط المساواة في الصدق مما ذهب إليه المتأخرون إذ حينئذ يحصل التميز التام بحيث يمتاز جميع أفراد المعرف عن جميع ما عداها ولا يلتبس شيء منها

بغيرها وأما المتقدمون فقد قالوا الرسم منه تام يميز المرسوم عن كل ما يغايره ومنه ناقص يميزه عن بعض ما يغايره وصرحوا بأن المساواة شرط لجودة الرسم كيلا يتناول ما ليس من المرسوم ولا يخلو عما هو منه وجوزوا الرسم بالأعم والأخص وأيد ذلك بأن المعرف لا بد أن يفيد التميز عن بعض الأغيار فإن ما لا يفيد تميز الشيء عن غيره أصلا لم يكن سببا لتصوره وأما التميز عن جميعها فليس شرطا له لأن التصورات المكتسبة كما قد تكون بوجه خاص بالشيء إما ذاتي أوعرضي كذلك قد تكون بوجه عام ذاتي أو عرضي فيجب أن يكون كاسب كل منهما معرفا فالمساواة شرط للمعرف التام دون غيره حدا كان أو رسما ولا بد فيه أي في المعرف من مميز مساو للمعرف فإن كان المميز ذاتيا سمي المعرف حدا وإلا سمي رسما وعلى التقديرين فإن ذكر فيه تمام الذاتي المشترك بينه وبين غيره المسمى بالجنس القريب فتام إما حد تام مركب من الجنس والفصل القريبين وإما رسم تام مركب من الخاصة والجنس القريب وإلا فناقص إما حد ناقص سواء كان بالفصل وحده أو مع الجنس البعيد أو العرض العام عند من يجوز أخذه في الحد وإما رسم ناقص سواء كان بالخاصة وحدها أو مع الجنس البعيد أو العرض العام عند من يجوز أخذه في الرسم والمركب إذا لم يكن بديهي التصور يحد بأجزائه حدا تاما وناقصا دون البسيط فإنه لا يمكن تحديده إذ لا جزء له فإن تركب عنهما عن المركب والبسيط غيرهما ولا يكون ذلك الغير بديهي التصور حد بهما وإلا فلا يحد بهما إذ لم يقعا جزءا لشيء وكل متصور كسبي مركب أو بسيط له خاصة شاملة لازمة بينة بحيث يكون تصورها مستلزما لتصوره يرسم وإلا أي وإن لم تكن له خاصة كذلك فلا يرسم فإن كان ذلك الكسبي الذي له تلك الخاصة مركبا أمكن رسمه التام بتركيب جنسه القريب مع خاصته وإلا فالناقص وههنا نوعان آخران من التعريف الأول

التعريف بالمثال سواء كان جزئيا للمعرف كقولك الإسم كزيد والفعل كضرب أو لا يكون جزئيا له كقولك العلم كالنور والجهل كالظلمة وهو بالحقيقة تعريف بالمشابهة التي بين ذلك المعرف وبين المثال فإن كانت تلك المشابهة مفيدة للتميز فهي خاصة لذلك المعرف فيكون التعريف بها رسما ناقصا داخلا في الأقسام الأربعة المذكورة للمعرف وإلا أي وإن لم تكن تلك المشابهة مفيدة للتميز لم تصلح للتعريف بها فليس التعريف بالمثال قسما على حدة ولما كان استئناس العقول القاصرة بالأمثلة أكثر شاع في مخاطبات المتعلمين التعريفات بها
والثاني التعريف اللفظي وهو أن لا يكون اللفظ واضح الدلالة على معنى فيفسر بلفظ أوضح دلالة على ذلك المعنى كقولك الغضنفر الأسد وليس هذا تعريفا حقيقيا يراد به إفادة تصور غير حاصل إنما المراد تعيين ما وضع له لفظ الغضنفر من بين سائر المعاني ليلتفت إليه ويعلم أنه موضوع بإزائه فمآله إلى التصديق وهو طريقة أهل اللغة وخارج عن المعرف الحقيقي وأقسامه الأربعة التي ذكرت وحقه أن يكون بألفاظ مفردة مرادفة فإن لم يوجد ذكر مركب يقصد به تعيين المعنى لا تفصيله وأعلم أن التعريف الحقيقي الذي يقصد به تحصيل ما ليس بحاصل من التصورات ينقسم إلى قسمين
أحدهما ما يقصد به تصور مفهومات غير معلومة الوجود في الخارج ويسمى تعريفا بحسب الاسم فإذا علم مثلا مفهوم الجنس إجمالا وأريد

تصوره بوجه أكمل فإن حصل نفس مفهومه بأجزائه كان ذلك حدا له إسميا وإن ذكر في تعريفه عوارضه كان ذلك رسما له إسميا
والثاني ما يقصد به تصور حقائق موجودة ويسمى تعريفا بحسب الحقيقة إما حدا أو رسما وكلا هذين القسمين لا يتجه عليه منع لأن المتصدي لهما يمنزلة نقاش ينقش لك في ذهنك صورة مفهوم أو موجود فإنه إذا قال مثلا الإنسان حيوان ناطق لم يقصد به أن يحكم على الإنسان بكونه حيوانا ناطقا وإلا لكان مصدقا لا مصورا أي مفيدا للتصديق لا التصور بل أراد بذكر الإنسان أن يتوجه ذهنك إلى ما عرفته بوجه ما ثم شرع في تصويره بوجه أكمل فليس بين الحد والمحدود حكم حتى يمنع فلا يصح أن يقال لا نسلم أن الإنسان حيوان ناطق فإن ذلك يجري مجرى أن يقال للكاتب لا نسلم كتابتك نعم يصح أن يقال لا نسلم أن هذا حد للإنسان أو أن الحيوان جنس له أو أن الناطق فصل له . . إلى غير ذلك فإن هذه الدعاوى صادرة عنه ضمنا وقابلة للمنع فإذا أريد دفعه صعب جدا في الحقائق الموجودة وكان خرط القتاد دونه وإن سهل في المفهومات الإعتبارية وكذا يتجه على الحد النقض والمعارضة فإذا قيل مثلا العلم ما يصح من الموصوف به أحكام الفعل يقال هذا منقوض بالعلم بالواجبات والمستحيلات فإن سلم اتحاد وجود العلم المتعلق بهما فقد اعترف ببطلان حده وفساد نقشه وإلا فلا ويقال أيضا هذا معارض بأنه الاعتقاد المقتضى لسكون النفس فأن سلم الحد الثاني بطل حده وإلا فلا إذ لا تعاند بين مفهومي هذين الحدين بل كان منهما مفهوم على حدة أما إذا قيل الإنسان حيوان ناطق وأريد أن هذا مدلوله لغة أو اصطلاحا كان هذا تعريفا لفظيا وحكما قابلا للمنع الذي يدفع بمجرد نقل أو وجه استعمال ثم إنه يقدم في

التعريف الأعم لكونه أظهر عند العقل فتقديمه أولى ولأن الأخص قيد له مخصص إياه فكان تقديمه عليه أنسب وما يقال من أنه واجب في الحد التام محصل لجزئه الصوري حتى إذا أخر الجنس فيه كان حدا ناقصا فليس بشيء إذ ليس للحد التام جزء خارج عن أجزاء الماهية المنحصرة في الجنس والفصل ويحترز فيه عن الألفاظ الغريبة الوحشية التي لا يفهم السامع معناها فيحتاج إلى تفسيرها فتطول المسافة وذلك مما يختلف بالقياس إلى السامعين فإن اصطلاحات كل قوم مشهورة عند أربابها غريبة عند غيرهم وعن المشترك والمجاز بلا قرينة ظاهرة فيتردد السامع حينئذ في المشترك وغيره ويتبادر ذهنه في المجاز إلى غيره وبالجملة فعن كل لفظ غير ظاهر الدلالة على المقصود وذلك لأنه بصدد الإظهار والتوضيح فلا بد من ظهور الدلالة

المقصد الثالث
الاستدلال إما بالكلي كالحيوان مثلا على الجزئي كالإنسان فإنه يستدل بحال الأول على حال الثاني وهو أي ما يستدل فيه بحال الكلي على حال الجزئي القياس وعرف بأنه قول أي مركب إما مسموع وهو جنس للقياس المسموع وإما معقول وهو جنس للقياس المعقول وإنما احتيج إلى قوله مؤلف لأنك إذا قلت قول من قضايا تبادر منه أنه بعض منها فصرح بأنه مؤلف من قضايا وأراد بها ما فوق الواحدة متى سلمت تلك القضايا سواء كانت مسلمة في نفس الأمر أو لا لزم عنه أي عن ذلك القول لذاته أي لا لمقدمة أجنبية غير لازمة لشيء من المقدمتين كما في

قياس المساواة أو غريبة لازمة لإحدى المقدمتين مغايرة لها في طرفيها كما إذا بين اللزوم بعكس النقيض قول آخر أراد به المعقول لأن المسموع غير لازم أصلا والكشف عن هذه القيود على ما ينبغي محتاج إلى مزيد أطناب مشهور في الكتب المبسوطة وأما بالحزئي على الكلي أي بحال بالجزئي على حال الكلي وهو الاستقراء من استقريت الشيء إذا تتبعته وهو إثبات الحكم الكلي لثبوته في جزئياته أما كلها فيفيد اليقين كقولنا العدد إما زوج وإما فرد وكل زوج يعده الواحد وكل فرد يعده الواحد فكل عدد يعده الواحد ومثل ذلك يسمى قياسا مقسما واستقراء تاما أو بعضها فلا يفيد إلا الظن لجواز أن يكون مالم يستقرأ من جزئيات ذلك الكلي على خلاف ما استقرئ منها كما يقال كل حيوان يحرك عند المضغ فكه الأسفل لأن الإنسان والفرس وغيرهما مما نشاهده من الحيوانات كذلك مع أن التمساح بخلافه فإنه عند المضغ يحرك فكه الأعلى وأما بجزئي على جزئي أي بحالة على حالة وهو التمثيل ويسميه الفقهاء قياسا وهو مشاركة أمر لأمر آخر في علة الحكم وهي الكلي الشامل لذينك الجزئين
قالوا لا بد بين الدليل والمدلول من مناسبة مخصوصة وتلك إما باشتمال الدليل على المدلول وهو القياس أو باشتمال المدلول على الدليل وهو الاستقراء أو باشتمال أمر ثالث عليهما وهو التمثيل فإن قلت ههنا قسم آخر غير الثلاثة المذكورة وهو الاستدلال بكلي على كلي قلنا إن دخل أي الكليان المذكوران تحت كلي ثالث مشترك بينهما يقتضي الحكم فهما جزئيان له أي لذلك الكلي الثالث الذي هو علة الحكم لأن

المراد بالجزئي ههنا المندرج تحت الغير وهو المسمى بالإضافي لا ما يمنع نفس تصور الشركة فيه أعني المسمى بالحقيقي وحينئذ كان الاستدلال بأحدهما على الآخر داخلا في التمثيل لا قسما برأسه وإلا أي وإن لم يدخلا تحت ثالث مشترك هو علة الحكم فلا تعلق بينهما فلا يتعدى حكم أحدهما إلى الآخر أصلا
فإن قيل لا يلزم من عدم دخولهما تحت ثالث يقتضي الحكم أن لا يكون بينهما تعلق يتعدى به حكم أدحهما إلى الآخر فإنك إذا كل إنسان ناطق وكل ناطق حيوان فقد استدللت بأحد الكليين المتساويين على الآخر لا بالكلي على الجزئي فمثل هذا خارج عما ذكرتموه من أنواع الاستدلال مع أنه من قبيل القياس اتفاقا ولهذا قال بعضهم إنه إن استدل بالكلي على الجزئي أو بأحد المتساويين على الآخر فهو القياس
قلت المقصود أنا أثبتنا في المثال المذكور لكل واحد واحد من أفراد الإنسان الحيوانية لاتصافه بمفهوم الناطق فإن ملاحظة مفهوم الناطق هو الأمر الذي يفيدنا الحكم بها أي بالحيوانية على كل واحد واحد من أفراد الإنسان
والحاصل أن الاستدلال بمفهوم الناطق على كل واحد من جزئيات الإنسان ولا شك أن كل واحد منهما جزئي لمفهوم الناطق فرجع إلى الاستدلال بالكلي على الجزئي وقد يجاب أيضا بأن كل واحد من المتساويين يعد جزئيا إضافيا للآخر إذ يقع كل منهما موضوعا للآخر كليا وهو معنى اندراجه فيه ولا يخفى بعده وعدم جريانه في مثل قولنا بعض الحيوان أسود وكل أسود كذا وههنا بحث آخر وهو أن القياس الاستثنائي المتصل في مثل قولك كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا لكنها طالعة أو لكن النهار ليس بموجود لم يستدل فيه بالكلي على الجزئي أصلا وكذا الحال في الاستثنائي المنفصل في مثل قولنا إما أن يكون زيد في البحر وإما أن لا يغرق لكنه ليس في البحر فلا يغرق أو لكنه غرق فيكون في البحر فالصواب أن يقال المناسبة بين الدليل والمدلول إما

بالاشتمال كما ذكر وإما بالاستلزام الذي لا اشتمال معه فإما صريحا كما في الاستثنائيات المتصلة وإما غير صريح كما في الايتثنائيات المنفصلة وأما الاقترانيات الشرطية فراجعة إما إلى الاستلزام أو الاشتمال فتأمل

المقصد الرابع
القياس وهو العمدة لإفادته اليقين فإن الاستقراء لا يفيد يقينا إلا إذا كانت قياسا مقسما وكذا التمثيل لا يفيده إلا إذا كان العلة فيه قطعية وحينئذ يرجع إلى القياس هكذا النبيذ مسكر وكل مسكر حرام صوره خمس
الأولى أن يعلم حكم إيجابي أو سلبي لكل أفراد شيء هو الأوسط ثم يعلم ثبوته أي ثبوت ذلك الشيء الذي هو الأوسط لآخر هو الأصغر كله أو بعضه فيعلم ثبوت ذلك الحكم الإيجابي أو السلبي للآخر كذلك أي لكله أو بعضه قطعا حاصلا بالبديهة فقد أشار إلى كلية كبرى الشكل الأول وإيجاب صغراه مع فعليتهما وإلى نتائجه الأربع اللازمة من ضروبه الأربعة لزوما ضروريا
الثانية أن يعلم حكم إيجابي أو سلبي لكل أفراد شيء هو الأكبر ومقابله أي ويعلم مقابل ذلك الحكم لآخر وهو الأصغر كله أو بعضه فيعلم سلب ذلك الشيء عن الآخر كله أو بعضه فظهر أن الشكل الثاني يجب فيه كلية الكبرى واختلاف مقدمتيه سلبا وإيجابا بحيث يمتنع إجتماعهما في شيء واحد فتكون ضروبه أيضا أربعة وأنه لا ينتج إلا سلبا كليا أو جزئيا يحتاج في العلم بلزومه إلى نوع تأمل وهو أن يكون ذلك الشيء لو كان ثابتا للآخر لاجتمع فيه الحكمان المتقابلان
الثالثة أن يعلم ثبوت أمرين هما الأصغر والأكبر الثالث هو الأوسط ولا بد أن يكون ثبوتهما أو ثبوت أحدهما لذلك الثالث كليا فيعلم حينئذ

إلتقاؤهما فيه أي في ذلك الثالث إما كله أو بعضه ولا يعلم إلتقاؤهما فيما عداه بل يجوز أن يكون الأصغر أعم من الأكبر فلا يصدق عليه كليا لا جرم كان اللازم جزئيا موجبا في ضروب ثلاثة وأما الضابط فيما ينتج منه السلب فهو أن يعلم ثبوت أحد أمرين لشيء إما كليا أو جزئيا ويعلم مع الأول سلب الآخر عن ذلك الشيء أو بعضه ويعلم مع الثاني سلب الآخر عن ذلك الشيء كليا فيعلم سلب الآخر عن صاحبه في ذلك الشيء ولا يعلم فيما عداه فيحصل ضروب ثلاثة أخرى منتجة للسلب الجزئي ويظهر من ذلك كله أن الشكل الثالث لا بد فيه من كلية إحدى المقدمتين وإيجاب الصغرى مع فعليتها وأنه لا ينتج إلا جزئيا موجبا أو سلبا وإنما لم يتعرض للشكل الرابع لأنه بعيد عن الطبع يحتاج في بيان استلزامه للنتيجة إلى مؤنة ربما كانت أكثر مما يحتاج إليه في تحصيل تلك النتيجة ابتداء من غيره
الرابعة أن تثبت ملازمة أي لزوم بين شيئين فيلزم من وجود الملزوم وجود اللازم ومن عدم الملزوم عدم الملزوم وإلا أي وإن لم يلزم من وجود الملزوم وجود اللازم أو من عدم اللازم عدم الملزوم فلا لزوم بينهما إذ قد وجد الملزوم حينئذ بدون اللازم من غير عكس أي ليس يلزم من عدم المزوم عدم اللازم ولا من وجود اللازم وجود الملزوم لجواز أن يكون اللازم أعم فيوجد مع عدم الملزوم
الخامسة أن تثبت المنافاة بين أمرين فيلزم من ثبوت أيهما عدم الآخر

قطعا فإن تنافيا صدقا فقط لزم من ثبوت صدق أيهما كان عدم صدق الآخر أي كذبه وإن تنافيا فقط لزم من ثبوت كذب أيهما كان عدم كذب الآخر أعني صدقه ففي كل واحدة من هاتين المنافاتين نتيجتان وإذا اجتمعتا معا كان هناك أربع نتائج ولهذه الصور الخمس وما يتعلق بها تفاصيل جمة قد أفرد لها فن على حدة إلا أن ما ذكرناه كاف لنا فيما قصدناه

المقصد الخامس
ما هي الطرق القوية وهنا طريقان ضعيفان يسلكهما بعض المتكلمين في إثبات مطالبهم العقلية
الأول أنهم إذا حاولوا نفي شيء غير معلوم الثبوت بالضرورة قالوا لا دليل عليه فيجب نفيه أما الأول وهو أنه لا دليل عليه فيثبت تارة بنقل أدلة المثبتين لذلك الشيء وبيان ضعفها وفسادها مع عدم وجدان دليل سواها وأخرى بحصر وجوه الأدلة مع نفيها أي نفي الوجوه كلها بالاستقراء أي تتبعناها فلم نجد ههنا شيئا منها وهو عائد إلى الأول إذ مآله إلى عدم الوجدان مع مزيد مؤنة هو بيان حصر وجوه الأدلة فالتمسك بالأول أولى لتسقط هذه المؤنة
وأما الثاني وهو أن كل ما لا دليل عليه يجب نفيه فيثبتونه بوجهين أشار إلى الأول بقوله فإذ لولاه أي لولا وجوب نفي ما لا دليل عليه انتفت الضروريات لجواز أن تكون جبال شامخة بحضرتنا لا نراها واللام في قوله لعدم الدليل على وجودها متعلقة بالجواز والمعنى أنه إذا جوز ثبوت

ما لا دليل عليه فحينئذ يجوز أن تكون تلك الجبال بحضرتنا لأنها من قبيل ما لا دليل على ثبوته وانتفت النظريات أيضا لجواز وجود معارض للدليل لا نعلمه لعدم ما يدلنا عليه أو غلط فيه لا دليل عليه والحاصل أنا إذا استدللنا بدليل على حكم نظري فإن جوزنا ثبوت ما لا دليل عليه جاز أن يكون لذلك الدليل معارض في نفس الأمر لا دليل لنا على وجود ذلك المعارض فلا نعلمه وجاز أيضا أن يكون في مقدمات ذلك الدليل غلط لا دليل عليه فلم ينكشف لنا ولا لغيرنا ومع هذا التجويز لا يمكن حصول اليقين من الدليل فظهر أن تجويز ما لا دليل عليه يوجب القدح في العلوم الضرورية والنظرية فيكون باطلا وأشار إلى الثاني بقوله وأيضا فإن ما لا دليل عليه من الأشياء غير متناه يعني أن غير المتناهي من جملة الأشياء التي لا دليل على ثبوتها فلو جوزنا ثبوت ما لا دليل عليه لزمنا تجويز إثبات ما لا يتناهى وإثباته محال
والجواب أن قولكم في شيء معين أنه لا دليل عليه إما أن تريدوا به عدمه في نفس الأمر أو عدمه عندكم فإن أردتم الأول قلنا عدم الدليل على ذلك الشيء في نفس الأمر ممنوع فإن تزييفكم أدلة المثبتين وعدم وجدانكم بالاستقراء دليل عليه لا يفيد أن ذلك لجواز أن يكون هناك دليل لم يطلع عليه أحد ولئن سلم فعدم الدليل في نفس الأمر لا يدل على عدم ذلك الشيء في نفسه فإن الصانع تعالى لو لم يوجد العالم لم يدل ذلك على عدمه قطعا وإن أردتم الثاني فنقول عدم الدليل عندكم لا يفيد ولا يدل على عدم ذلك الشيء في نفس الأمر وإلا لزم علم العوام وكونهم جازمين عالمين بانتفاء الأمور التي لا يعلمون دليلا على ثبوتها وعلم الكفار المنكرين لوجود الصانع وتوحيده والنبوة والحشر أعني يلزم كونهم عالمين بانتفاء هذه الأمور التي ليست عندهم أدلتها ولزم أن يكون الأجهل بالدلائل

أكثر علما لأن جهله بدليل أي شيء كان دليل له يوصله إلى العلم بعدم ذلك الشيء فيساوي الجاهل العالم فيما لا يقيمان عليه دليلا ويزداد علم الجاهل فيماا علم العالم دليلا على ثبوته فإن اعتقاد الجاهل بانتفائه لعدم الدليل عنده لما كان علما كان اعتقاد العالم بثبوته جهلا فيكون الأجهل بالدلائل أوفر علما بالأشياء مع أنه أي العلم بالدليل قد يحدث في الاستقبال ومع هذا الاحتمال لا يكون الجهل به في الحال مفيدا لليقين بانتفاء المدلول
وفي نهاية العقول أن الدليل قد يحدث في الاستقبال كاخبار الشارع بما لا يعلم إلا باخباره من أحوال الجنة والنار ومقادير الثواب والعقاب فلا يكون عدم الدليل في نفس الأمر ولا عدمه عندنا مقتضيا لانتفاء المدلول في نفسه والعلم بعدم الجبل الشاهق بحضرتنا ضروري لا يتوقف على هذه المقدمة القائلة بأن كل ما لا دليل على ثبوته فإنه يجب انتفاؤه وإلا لكان العلم بعدم الجهل نظريا لا ضروريا وعدم المعارض والغلط في المقدمات القطعية ضرورية كانت أو نظرية ضروري معلوم بالبديهة فلا يتوقف على الاستدلال بتلك المقدمة الفاسدة ووجود مالا نهاية له إن امتنع لقاطع دل على امتناعه امتنع القياس عليه أعني قياس ما لا دليل عليه من الأمور المتناهية التي لم يدل قاطع على امتناعها لظهور الفارق حينئذ وإلا أي وإن لم يمتنع القاطع منع الحكم الذي هو وجوب الانتفاء فيه أي فيما لا يتناهى وجوز ثبوته في نفس الأمر كسائر الأمور التي لا دليل على ثبوتها ولا قاطع يدل على امتناعها وأيضا إن صح ما ذكرتم من أن عدم الدليل على الثبوت يستلزم العلم بالعدم وجب أن يكون عدم الدليل على الانتفاء مستلزما للعلم بالثبوت فيلزم من عدم دليل الطرفين أي الانتفاء والثبوت الجزم

بهما معا في شيء واحد لا يقال عدم دليل النبوة يدل على عدمها قطعا فإنا إذا لم نجد مع إنسان ما يدل على نبوته جزمنا بأنه ليس نبيا بلا شبهة بخلاف عدم دليل عدمها فإنا إذا لم نجد معه ما يدل على عدم نبوته لم نجزم بأنه نبي فليس يلزم من كون عدم دليل الوجود مستلزما للنفي كون عدم دليل النفي مستلزما للوجود حتى يلزم ما ذكرتم من الجزم بالنقيضين معا وأيضا يلزم هنا أي من كون عدم دليل النفي مستلزما للوجود إثبات ما لا يتناهى وهو ممتنع ويلزم ثمة أي من كون عدم دليل الوجود مستلزما للانتفاء نفيه أي نفي ما لا يتناهى ولا يمتنع هذا النفي فظهر الفرق واندفع الإشكال لأنا نقول الجزم بعدم ثبوته أي نبوة من لا نجد دليلا على نبوته ليس لذلك المدرك الذي هو عدم الدليل على نبوته بل للدليل القاطع الدال على أن لا نبي بعد محمد ولولا هذا القاطع لما جزمنا بعدم نبوته
وأما الثاني أي الجواب عنه فالغرض مما ذكرنا ليس هو أن الاستدلال بعدم دليل النفي على الثبوت طريق مستقيم حتى يتجه علينا أنه يفضي إلى إثبات مالا يتناهى بل الغرض أنه لا فارق بينهما أي بين الاستدلال بعدم دليل الثبوت على النفي والاستدلال بعدم دليل النفي على الثبوت في العقل فلو جاز الأول جاز الثاني لكنه ممتنع لوجوه منها ما ذكرتم من أنه يلزم منه إثبات ما لا يتناهى وإنما يتمشى هذا الجواب لو أثبت الملازمة بين جواز الأول وجواز الثاني لكنها لم تثبت ودعوى عدم الفارق مع ظهوره غير مسموعة
الطريق الثاني من ذينك الطريقين الضعيفين قياس الغائب على الشاهد وإنما يسلكونه إذا حاولوا إثبات حكم لله سبحانه فيقيسونه على الممكنات

قياسا فقهيا ويطلقون اسم الغائب عليه تعالى لكونه غائبا عن الحواس ولا بد في هذا القياس بل في القياس الفقهي مطلقا من إثبات علة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه وهو أي هذا الإثبات بطريق اليقين مشكل جدا لجواز كون خصوصية الأصل الذي هو المقيس عليه شرطا لوجود الحكم فيه أو كون خصوصية الفرع الذي هو المقيس مانعا من وجوده فيه وعلى التقديرين لا يثبت بينهما علة مشتركة ولهم فيه أي في إثبات العلة المشتركة وبيان عليتها للحكم طرق كثيرة مفصلة في كتب أصول الفقه أشهرها أمور ثلاثة أحدها الطرد والعكس وهو المسمى بالدوران وجودا وعدما أي كلما وجد ذلك المشترك وجد الحكم وكلما عدم عدم وذلك مثل ما قالت المعتزلة من أن الاضرار بلا جناية سابقة ولا عوض لاحق قبيح في الشاهد ثم إذا تأملنا وجدنا أن الفعل إذا وقع على هذه الوجوه كلها كان قبيحا وإذا زال عنه شيء من هذه القيود زال قبحه فقد دار القبح مع هذه الاعتبارات وجودا وعدما فعلمنا أن قبح الظلم معلل بها فلو صدر عن الله تعالى لوجب أن يحكم بقبحه لوجود علته ولو صح ما ذكر من أن الدوران يدل على عليه المدار للدائر دل على علية المعلول المساوي لعلته فإن العلة دائرة معه وجودا وعدما وكونه علة لها محال قطعا وكذا المشروط دائر كذلك مع الشرط المساوي والمعلوم أيضا دائر مع الجزء الأخير من العلة وليس شيء من هذين المدارين علة لدائرة فالاستدلال بالدوران على العلية منقوض بهذه الصورة
فإن قلت كون المدار صالحا للعلية معتبر عندهم وليس شيء من

المدارات التي ذكرتم صالحا لها فلا نقض قلت فليس الاستدلال بالدوران وحده وأيضا كون تلك الوجوه مثلا صالحة لعلية القبح في العقل مما لا يتيقين به أصلا وإن جاز أن يظن والمقصود ههنا إنما يتم باليقين دون الظن وأيضا فيجوز أن يكون المؤثر في الحكم الدائر أمرا مقارنا للمدار دونه وحينئذ لا يكون المدار علة للدائر وقد ينفي هذا الاحتمال أي احتمال كون المؤثر أمرا مقارنا بوجوه
الأول الرجوع إلى أنه لا دليل عليه أي على المقارن فيجب نفيه وقد مر فساده
الثاني أنهما أي المدار والدائر متلازمان علما يعني أنه إذا علم المدار وحده ولم يعلم معه غيره علم الدائر وإذا علم غير المدار بدونه لم يعلم الدائر فدل على أنه العلة دون ما يقارنه مثلا إذ علمنا في الفعل هذه الوجوه علمنا قبحه وإن لم نعلم شيئا غيرها أي أصلا وإذا لم نعلم فيه هذه الوجوه لم نعلم قبحه وإن علمنا سائر الأشياء فلولا أن هذه الوجوه هي العلة للقبح لما لزم من مجرد العلم بها العلم به
قلنا فينتقض ما ذكرتم بالمتضايفين كالأبوة والنبوة فإن العلم بكل منهما وحده من غير أن يعلم معه غيره يستلزم العلم بالآخر مع ثبوت الدوران بينهما من الجانبين ولا شك أنه لا يمكن أن يكون بينهما علية كيف أي كيف لا ينتقض ما ذكرتم ولا يكون باطلا في نفسه ولا كل ما يعلم به وحده غيره علة له أي لذلك الغير فإن كثيرا من الأسباب العادية كذلك مع الاتفاق على أنها غير مؤثرة أصلا ألا ترى أنا إذا علمنا ملاقاة النار للقطن علمنا احتراقه وإن لم نعلم شيئا آخر غير الملاقاة وإذا علمنا أن البدن الصحيح يتناول الغذاء الجيد علمنا حصول الشبع وإن لم نعلم غير التناول مع اتفاقنا على أن الاحتراق والشبع إنما يحصلان بفعل الله تعالى إبتداء من أن يكون للملاقاة والتناول مدخل فيهما بالتأثير وأنت خبير بأن هذا الاتفاق

إنما هو بين الأشاعرة وأما المعتزلي فربما خالفهم في ذلك فالأولى أن يقال إن كثيرا من المسببات تعلم من أسبابها وليست عللا لها ولا العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول يعني أن قولكم العلم بالمدار وحده يقتضي العلم بالدائر فيكون علة له مبني على أن ما لا يكون علة لشيء لا يكون العلم به وحده مستلزما للعلم بذلك الشيء وقد أبطلناه وعلى أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلوم وسنبين بطلانه في مسألة العالمية في تزييف دليل الفلاسفة على كونه تعالى عالما بالكليات
الثالث الدوران لو لم يفد كون المدار علة للدائر وجاز معه أن يكون الدائر معللا بغير المدار لجاز استناد المتحركية إلى علة غير الحركة مع دوران الأولى على الثانية وجودا وعدما وذلك فتح لباب التشكيك في العلل والمعلولات
قلنا إن سلم التغاير بين المتحركية والحركة أي لا تغاير بينهما عندنا فلا يتصور هناك دوران وعلية ولئن سلمنا كما هو مذهب مثبتي الأحوال فلا نريد بالحركة إلا ما يوجب المتحركية
فإذا قيل لنا جوزوا إسناد المتحركية إلى غير الحركة كان معناه جوزوا أن يكون الموجب للمتحركية غير ما هو موجب لها وفساده ظاهر والحاصل أن العلية ههنا معلومة مع قطع النظر عن الدوران فلا يلزم من القدح في دلالته على العلية القدح في العلية المعلومة بوجه آخر
الرابع المقارن الذي زعمتم أنه يجوز أن يكون هو العلة للدائر أن لازم المدار وساواه بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر حصل المطلوب الذي هو الحكم إذ كلما وجد المدار وجد المقارن وكلما وجد المقارن وجد

الحكم المطلوب الذي هو قبح الفعل الدائر مع تلك الوجوه مثلا وإلا أي وإن لم يلازمه ولم يساوه لم يكن هذا الذي فرضناه مدارا مدارا لأنه إن كان المقارن أخص لم يكن المدار مدارا وجودا وإن كان أعم لم يكن المدار مدارا عدما هذا خلف
قلنا لعل المدار لازم للمقارن أعم منه فيوجد المدار دونه في صورة النزاع أي نختار أن المقارن أخص من المدار موجود معه فيما عدا المتنازع فيه فيوجد الحكم هناك وغير موجود معه في صورة النزاع فلا يوجد الحكم ههنا مع كونه مدارا له وجودا وعدما فيما عداها من الصور ودعوى كونه مدارا له في هذه الصورة أيضا مصادرة على المطلوب
وثانيها أي ثاني الأمور التي هي أشهر الطرق المثبتة للعلة المشتركة السبر وهو قسمة غير منحصرة كأن يقال مثلا علة كون السواد مرئيا إما وجوده أو كونه عرضا أو محدثا أو لونا أو كونه سوادا والكل باطل سوى الوجود والله سبحانه موجود فيصح رويته
فإذا قيل قد تكون العلة المقتضية لصحت الرؤية في السواد أمرا آخر سوى هذه الأقسام
قيل في الجواب لا دليل على ثبوت ذلك الأمر الآخر فينتفي وهذا رجوع إلى أول الطريقين وقد انكشف لك ضعفه
وثالثها أي ثالث الأمور التي هي أشهر الطرق في إثبات العلة المشتركة الإلزامات وهو القياس على ما يقول به الخصم لعلة فارقة توجد في الأصل الذي يقول به الخصم ولا توجد في الفرع الذي يقاس عليه
قال الإمام الرازي وهي أي الإلزامات من أنواع القياس بالحقيقة

فتارة تكون على صورة قياس الطرد أما في الإثبات كقول الأشعرية الله عالم بالعلم لأنه مريد بالإرادة اتفاقا وأما النفي كقولهم النظر لا يولد العلم لأن تذكره لا يولده وأخرى تكون على صورة قياس العكس كقول الأشعرية في خلق الأعمال لو كان العبد قادرا على الإيجاد لكان قادرا على الإعادة كالباري تعالى ولما لم يكن قادرا على الإعادة اتفاقا لم يكن قادرا على الإيجاد أيضا وهو أي هذا النوع من الاستدلال القياسي المسمى بالإلزامات لا يفيد اليقين لأن حكم الأصل غير متيقن به بل هو متفق عليه فيما بين المتخاصمين ولا بين منع ثبوت حكمه أي حكم الأصل لأنه إن سلم له علته فهي ليست موجودة في الفرع وإن لم يسلم له تلك العلة منع حكم الأصل لأنه إنما قال به لأجلها فهذا قياس مركب الأصل كما عرفته في التذكرة فللمعتزلي أن يقول إنما حكمت بأن مريدية الله تعالى معللة بالإرادة لأن المريدية عندنا صفة جائزة له والصفات الجائزة معللة والعالمية صفة واجبة له تعالى والواجب لا يعلل فإن صح ما قلت من أن المريدية صفة جائزة ظهر الفرق وإلا منعت كون المريدية معللة بالإرادة وأن يقول إنما منعت من اقتدار العبد على الإعادة لأمر لا يوجد في الإيجاد وذلك لأن قدرته على الإعادة إما أن تكون عين القدرة المتعلقة بالإيجاد أو غيرها والأول باطل لأن القدرة المتعلقة بالإيجاد لها بحسب كل وقت تعلق بمقدور على حدة فلو تعلقت في بعض الأوقات بإعادة ما عدم وهي في ذلك الوقت متعلقة بإيجاد مقدور آخر لزم أن تكون قدرة واحدة في وقت واحد في محل واحد متعلقة بإيجاد شيئين وذلك يقتضي تعلق تلك القدرة بما لا يتناهى من المقدورات إذ ليس عدد أولى من عدد فيلزم حينئذ بطلان التفاوت بين القادر والأقدر والثاني أيضا بطل لأنه إذا كانت القدرة المتعلقة بإعادة الشيء غير المتعلقة بإيجاده كانت القدرتان متعلقتين بمقدور واحد وإذا صح ذلك

صح قيام كل واحدة من القدرتين بشخص على حدة فيلزم وجود مقدور بين قادرين وهو محال فهذه الأصول التي اعتقدتها ساقتني إلى أن أحكم باستحالة اقتدار العبد على الإعادة دون الإيجاد فإن صحت ظهر الفرق وإن فسدت منعت الحكم في الأصل وجوزت اقتدار العبد على الإعادة أيضا وأعلم أن عد الإلزامات من طرق إثبات العلية سهو من المصنف لأنه قسم من القياس بلا شبهة كما تحققته وهو معترف بذلك حيث قال وهو القياس . . إلى آخره وإنما وقع منه هذا السهو بناء على أن الإمام الرازي قال في النهاية الطرق الضعيفة أربعة الأول قولهم مالا دليل عليه يجب نفيه وبين ضعفه ثم قال الثاني القياس الذي من أنواعه رد الغائب إلى الشاهد أو بالعكس والمقام المشكل فيه بيان كون الحكم في الأصل معللا بعلة موجودة في الفرع ولهم في بيان ذلك طرق الأول الطرد والعكس واستوفى مباحثه ثم قال الطريق الثاني في إثبات علة الأصل في الأقيسة العقلية السبر والتقسيم وضعفه ثم قال والثالث الإلزامات وهي بالحقيقة من أنواع القياس وأراد أن الإلزامات ثالث الطرق الأربعة الضعيفة التي جعل رابعها التمسك بالأدلة النقلية في المباحث العقلية التي يطلب بها اليقين فتوهم المصنف أنه أراد ثالث الطرق المثبتة للعلة المشتركة

المقصد السادس في المقدمات
أي القضايا التي يقع فيها النظر المتعلق بالدليل الذي هو الطريق إلى التصديق مطلقا على قسمين قطعية تستعمل في الأدلة القطعية وظنية تستعمل في الإمارة فالقطعية أي اليقينية واليقين هو اعتقاد أن الشيء كذا مع مطابقته للواقع واعتقاد أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا والمراد أن القطعية الضرورية التي هي المبادئ الأول سبع
الأولى الأوليات وهي ما لا تخلو النفس عنها بعد تصور الطرفين وملاحظة النسبة بينهما فمنها ما هو جلي عند الكل لوضوح تصورات أطرافه ومنها ما هو خفي لخفاء في تصوراته وهذا القسم لا يخفى أيضا على الأذهان المشتعلة النافذة في التصورات
الثانية قضايا قياساتها معها وهي قضايا تكون تصورات أطرافها ملزومة لقياس يوجب الحكم بينه أو هي قريبة من الأوليات نحو الأربعة منقسمة بمتساويين وكل منقسم بمتساويين زوج
الثالثة المشاهدات وهي ما يحكم به العقل بمجرد الحس الظاهر مثل حكمنا بوجود الشمس وكونها مضيئة وكون النار حارة وتسمى هذه محسوسات أو الحس الباطن كالحكم بأن لنا فكرة وأن لنا خوفا وغضبا وتسمى هذه وجدانية وقضايا اعتقادية ويعد منها ما نجده بنفوسنا لا بآلاتها كشعورنا بذواتنا وبأفعال ذواتنا واعلم أن الحس لا يفيد إلا حكما جزئيا كما في قولك هذه النار حارة وأما الحكم بأن كل نار حارة فمستفاد من الإحساس بجزئيات كثيرة مع الوقوف على العلة فلعل الإحساسات الجزئية تعد النفس لقبول العقد الكلي من المبدأ الفياض ولا شك أن تلك الإحساسات إنما تؤدي إلى اليقين إذا كانت صائبة فلولا أن العقل يميز بين الحق والباطل من الإحساسات لم يتميز الصواب عن الخطأ

الرابعة المجربات وهي ما يحكم بها العقل بواسطة الحس مع التكرار ولا بد مع ذلك من قياس خفي هو أن الوقوع المتكرر على نهج واحد دائما أو أكثريا لم يكن اتفاقيا بل لا بد أن يكون هناك سبب وإن لم يعرف ماهية ذلك السبب وإذا علم حصول ذلك السبب حكم بوجود المسبب قطعا وذلك مثل حكمنا بأن الضرب بالخشب مؤلم وبأن شرب السقمونيا مسهل
الخامسة الحدسيات وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوي يزول معه الشك كعلم الصانع باتقان فعله فإنا لما شاهدنا أن أفعاله تعالى محكمة متقنة حكمنا بأنه عالم حكما حدسيا وكذا لما شاهدنا اختلاف حال القمر في تشكلاته النورية بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس حدسنا منه أن نوره مستفاد من نورها ولا بد في الحدسيات من تكرار المشاهدة ومقارنة القياس الخفي كما في المجريات والفرق بينهما أن السبب في المجريات معلوم السببية مجهول الماهية فلذلك كان القياس المقارن لها قياسا واحدا وهو أنه لو لم يكن لعلة لم يكن دائما ولا أكثريا وأن السبب في الحدسيات معلوم السببية والماهية معا فلذلك كان المقارن لها أقيسة مختلفة بحسب اختلاف العلل في ماهياتها
السادسة المتواترات وهي ما يحكم بها بمجرد خبر جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب كحكمنا بوجود مكة وجالينوس ومن اعتبر في التواتر عددا معينا فقد أحال فإن ذلك مما يختلف بحسب الوقائع والضابط

مبلغ ما يقع معه اليقين فإذا حصل اليقين فقد تم العدد ولا بد في المتواترات من تكرار وقياس خفي وأن تكون مستندة إلى المشاهدة فيكون الحاصل من التواتر علما جزئيا من شأنه أن يحصل بالإحساس فلذلك لا يقع في العلوم بالذات كالمحسوسات
السابعة الوهميات في المحسوسات فإن حكم الوهم في الأمور المحسوسة صادق نحو كل جسم في جهة فإن العقل يصدقه في أحكامه على المحسوسات ولتطابقهما كانت العلوم الجارية مجرى الهندسيات شديدة الوضوح لا يكاد يقع فيها اختلاف الآراء كما وقع في غيرها بخلاف حكمه في المجردات والمعقولات الصرفة فإنه إذا حكم عليها بأحكام المحسوسات كان حكمه هناك كاذبا كحكمه بأن كل موجود لا بد أن يكون في جهة وفي مكان واعلم أن العمدة من هذه المبادئ الأول السبعة هي الأوليات إذ لا يتوقف فيها إلا ناقص الغريزة كالبله والصبيان أو مدنس الفطرة بالعقائد المضادة للأوليات كما لبعض الجهال والعوام ثم القضايا الفطرية القياس ثم المشاهدات ثم الوهميات وأما المجريات والحدسيات والمتواترات فهي وإن كانت حجة للشخص مع نفسه لكنها ليست حجة له على غيره إلا إذا شاركه في الأمور المقتضية لها من التجربة والحدس والتواتر فلا يمكن أن يقنع جاحدها على سبيل المناكرة ووجه الحصر الاستقرائي في هذه السبع أن تصور الطرفين إن كفى في حكم العقل فهو الأوليات وإن لم يكف فإما أن يحتاج العقل إلى أمر ينضم إليه ويعينه في الحكم فذلك الأمر إن كان هو التوهم فهو الوهميات وإن كان غيره فهو المشاهدات أو يحتاج إلى أمر ينضم إلى القضية التي يحكم العقل بها ولا شك أن ذلك الأمر يكون مبادئ لتلك القضية فإن

كانت لازمة فهي القضايا التي قياساتها معها وإن كانت غير لازمة لها فإما أن يكون حصولها بسهولة فهي الحدسيات أو بصعوبة وهي النظريات وليست من المبادئ الأول أو يحتاج إليهما معا فإما أن يكون من شأنه أن يحصل بالأخبار وهو المتواترات أو لا وهو المجربات فإن العقل فيهما يحتاج إلى أمر ينضم إليه وهو استماع الأخبار في التواتر وتكرار المشاهدات في التجربة وإلى أمر آخر ينضم إلى القضية وهو القياس الخفي ولك أن تدرج الحدسيات في هذا القسم لاحتياجها إلى تكرار المشاهدة والقياس الخفي معا لكن التعويل فيها على القياس الحاصل بلا تجشم كسب فلذلك أدرجت فيما قبله
والمقدمات الظنية التي تسعمل في الإمارة فقط أربع
الأولى مسلمات تقبل على أنها مبرهنة في موضع آخر كمسائل أصول الفقه إذا سلمها الفقيه وبنى عليها الأحكام الفقهية لكونها مبرهنة في موضعها
الثانية مشهورات اتفق عليها الجم الغفير من الناس فقد تكون مشهورة عند الكل كقولنا العدل حسن والظلم قبيح أو عند الأكثر كقولنا الإله واحد أو عند طائفة كقولنا التسلسل مطلقا محال وبالجملة فالمشهورات ما يحكم بها لتطابق الآراء عليها إما لمصلحة عامة أو رقة أو حمية أو تأديبات شرعية أوانفعالات خلقية أو مزاجية سواء كانت صادقة أو كاذبة
الثالثة مقبولات تؤخذ ممن حسن الظن فيه أنه لا يكذب

كالمأخوذات من العلماء الأخيار والحكماء الأبرار بخلاف المأخوذات من الأنبياء الذين علم أنهم لا يكذبون فإنها بعد ما علم استنادها إليهم مستعملة في الأدلة النقلية كما ستعرفها
الرابعة المقرونة بالقرائن كنزول المطر لوجود السحاب الرطب ولنتكلم الآن في ضعف مقدمات مشهورة بين القوم أي المتكلمين ذوات فروع كثيرة من المسائل العظيمة الكلامية
الأولى أنهم إذا أرادوا نفي عدد غير متناه لتعيين الواحد قالوا ليس عدد أولى من عدد فينتفي العدد بالكلية كنفي مسألة الوحدة فإنهم احتجوا على وحدانيته تعالى بأن الإله الواحد كاف في إيجاد الخلق فلو ثبت إله ثان لم يكن أولى من الثالث والرابع وهكذا فيلزم آلهة لا تتناهى وذلك محال فالقول بالعدد باطل لإفضائه إلى ذلك المحال وكفى مسألة عدم جواز تعلق علم واحد منا بمعلومين فإنهم قالوا العلم الواحد الحادث لا يتعلق إلا بمعلوم واحد إذ لو تعلق بأكثر منه لم يكن عدد أولى من عدد فيلزم تعلقه بمعلومات لا نهاية لها هذا خلف وكفى مسألة عدم جواز تعلق قدرة واحدة بمقدورين فإنهم زعموا أن القدرة الواحدة الحادثة لا تتعلق في وقت واحد في محل واحد من جنس واحد إلا بمقدور واحد إذ لو جاز تعلقها بأكثر منه لم يكن عدد أولى من عدد فيلزم تعلقها بمقدورات لا تتناهى وهو محال وكذا إذا أرادوا إثبات عدد غير متناه قالوا إما أن لا يثبت عدد أصلا وهو باطل أو يثبت عدد غير متناه لامتناع ترجيح عدد على عدد وذلك نحو كون الله عالما بكل معلوم فإنه تعالى عالم بأكثر من معلوم واحد وعالميته أمر واجب وليس عدد أولى من عدد فإما أن لا يجب كونه عالما بأكثر من واحد وهو باطل اتفاقا أو يجب كونه عالما بكل ما يصح أن يعلم وهو المطلوب ونحو كون الله تعالى قادرا على كل ممكن فإنهم أثبتوه بهذه الطريقة فنقول في بيان ضعف هذه المقدمة عدم الأولوية بين عدد وعدد في نفس الأمر ممنوع لجواز أن يكون لبعض الأعداد رجحان

وأولوية على بعض في نفس الأمر فجاز أن يكون الثاني مثلا حاصلا مع استحالة الثالث فلا يلزم من ثبوت عدد ثبوت عدد آخر ولا من انتفاء عدد انتفاء عدد آخر وعدم الأولوية في ذهنك لا يفيد إذ لا يلزم من عدم العلم بالأولوية عدمها في نفسها إلا أن يقال ما لا دليل عليه وجب نفيه وقد عرفت بطلانه فإن قال المستدل نختار الأول وهو أن عدم الأولوية في نفس الأمر ونقول حكم الشيء الذي هو عدد من الأعداد مثلا حكم مثله من سائر الأعداد فإن المثلين يتشاركان في الأحكام اللازمة فلو صح الثاني صح الثالث والرابع . . إلى ما لا يتناهى من أمثاله وإذا لم تصح تلك الأمثال لم يصح هو أيضا قلنا ما ذكره إعادة للدعوى بعبارة أخرى مع أنه لزمه في صورة الاستدلال على نفي الأعداد نفي الواحد أيضا لأنه مثل الثاني والثالث فإذا انتفيا انتفى الواحد قطعا
فإن قيل ليس الواحد مثل العدد
قلنا إن كان العدد نفس الآحاد فقط كان الواحد مثلا له وإن اعتبر مع كل عدد صورة منوعة هي مبدأ لخواصه لم تكن الأعداد متماثلة أصلا ولزمه في صورة الاستدلال على إثبات مالا يتناهى من الأعداد فساد آخر أشار إليه بقوله وإذا يلزمهم صحة عدم العالم فإنه يصح تقديم أحداثه على الوقت الذي حدث فيه بوقت واحد وبوقتين وبأوقات ثلاثة وهلم جرا لأن الأوقات كلها متساوية فيلزم صحة تقديم أحداثه على ذلك الوقت بأوقات لا نهاية لها مع أنهم لا يقولون بها وهذا الذي ذكرناه من ضعف المقدمة الأولى مشترك بين جانبي النفي والإثبات كما تحققته ويخص جانب النفي بسؤال وهو أن مالا يتناهى من الأعداد إن امتنع لدليل قاطع دل عليه لم يقس عليه ما لا يمتنع من الأعداد المتناهية إذ ليس يلزم من تجويز مالا دليل على امتناعه تجويز ما قام الدليل على امتناعه وإلا أي وإن لم يمتنع

مالا تناهى من الأعداد لدليل دل عليه لم يمكن نفيه ودعوى استحالته فلا يكون اللازم من إثبات عدد مخصوص أمرا محالا فلا يتم الاستدلال
المقدمة الثانية وهي قريبة من الأولى أنهم يحكمون على وجوب المتشاركين في صفة وجودية كانت أو عدمية بالمساواة مطلقا كنفي المعتزلة قدم الصفات أي قالوا ليس لله تعالى صفات موجودة قديمة قائمة بذاته وإلا ساوت تلك الصفات الذات في القدم فتساويها في جميع الوجوه فتكون الذات مثلا للصفات فلا يكون قيام الصفات بها أولى من العكس هذا خلف وكنفي المعتزلة كونه تعالى عالما بعلم وإلا فهو أي علمه مساو لعلمنا لكونه متعلقا بما تعلق به علم الواحد منا فيساويان في كون كل منهما علما متعلقا بذلك المعلوم فيكونان متساويين مطلقا فيلزم من حدوث علمنا حدوث علمه أو من قدم علمه قدم علمنا وكنفي المتكلمين وجود المجردات كالعقول والنفوس الناطقة قالوا يستحيل وجودها وإلا فمثل الله في أنها ليست متحيز ولا حالة في تحيز فتساويه مطلقا فيلزم إما كون الواجب ممكنا أو كون الممكن واجبا وضعفه أي ضعف ما حكموا به من التشارك في صفة يقتضي تساوي المتشاركين من جميع الوجوه ظاهر لا حاجة بنا إلى إظهاره ألا ترى أن الأنواع المندرجة تحت جنس واحد متشاركة في الحقيقة الجنسية مع أنها ليست متماثلة مطلقا بل الأشياء المتخالفة الحقائق متشاركة في عوارض كثيرة ويستحيل تماثلها

المقدمة الثالثة أنهم إذا أرادوا إثبات صفة الله تعالى قالوا هذه صفة كمال فتثبت لله تعالى وإذا أرادوا نفي صفة عنه قالوا هذه صفة نقص فتنتفي عنه وقد تعتبر هذه المقدمة ويتمسك بها في أمور ثلاثة في الأفعال فيقال مثلا الثواب على الطاعة كمال فيجب أن يثبت لله تعالى والإيلام بلا سبق جناية ولحوق عوض نقص فيجب أن ينفى عنه وهو أي الكمال في الأفعال هو الحسن والنقصان في الأفعال هو القبح ويعتبر أيضا في الذات فيقال الوجوب الذاتي كمال فيجب ثبوته لله والإمكان نقص فيجب نفيه عنه وفي الصفات الحقيقية فيقال العلم صفة كمال فيجب ثبوته له تعالى والجهل صفة نقص فيجب نفيه عنه وإنما تثبت هذه المقدمة ويتم الاستدلال بها على إثبات الصفة أن لو قبلها أي تلك الصفة الذات فإن الذات إذا لم تكن قابلة لها لم يمكن الاستدلال بكونها كمالا على اتصاف الذات بها ألا ترى أن إيجاد العالم في الأزل كمال له تعالى من حيث أنه وجود مستمر لكن كونه فاعلا مختارا مانع من اتصافه به لأن فعله يجب أن يكون حادثا لكونه مسبوقا بالقصد والاختيار والإرادة وحصل معنى الكمال أنه ماذا وكانت تلك الصفة كمالا لها أي للذات لائقا بها في نفس الأمر إذ يجوز أن يكون كمالا بالقياس إلينا ولا يكون كمالا بالقياس إلى ذاته تعالى كالكتابة مثلا ووجب لها كل ما هو كمال بالبرهان ولم يجز أن يكون له كمال منتظر وإثبات ذلك موقوف على أنه موجب بالذات

المقصد السابع
الدليل إما عقلي بجميع مقدماته قريبة كانت أو بعيدة أو نقلي بجميعها كذلك أو مركب منهما
والأول هو الدليل العقلي المحض الذي لا يتوقف على السمع أصلا

والثاني وهو الدليل النقلي المحض لا يتصور إذ صدق المخبر لا بد منه حتى يفيد الدليل النقلي العلم بالمدلول وأنه لا يثبت إلا بالعقل وهو أن ينظر في المعجزة الدالة على صدقه ولو أريد إثباته بالنقل دار أو تسلسل
والثالث يعني المركب منهما هو الذي نسميه بالنقلي لتوقفه على النقل في الجملة فانحصر الدليل في قسمين العقلي المحض والمركب من العقلي والنقلي هذا هو التحقيق ثم إنه قد يقسم الدليل إلى ثلاثة أقسام فيقال مقدماته القريبة قد تكون عقلية محضة كقولنا العالم متغير وكل متغير حادث وقد تكون نقلية محضة كقولنا تارك المأمور به عاص لقوله تعالى أفعصيت أمري
وكل عاص يستحق العقاب لقوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم
وقد يكون بعضها مأخوذا من العقل وبعضها من النقل كقولنا هذا تارك المأمور به وكل تارك للمأمور به عاص فلا بأس أن يسمى هذا القسم الأخير بالمركب من العقلي والنقلي فظهر صحة تليث القسمة كما وقع في عبارة بعضهم والمطالب التي تطلب بالدلائل ثلاثة أقسام
أحدها ما يمكن عند العقل أي مالا يمتنع عقلا إثباته ولا نفيه حتى ولو خلى العقل وطبعه وترك مع ما عنده لم يحكم هناك بنفي ولا إثبات نحو جلوس غراب الآن على منارة الاسكندرية فهذا المطلوب لا يمكن

إثباته إلا بالنقل لأنه لما كان غائبا عن العقل والحس معا استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق ومن هذا القبيل تفاصيل أحوال الجنة والنار والثواب والعقاب فإنها إنما تعلم باخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
لثاني من المطالب ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع وكونه عالما قادرا مختارا ونبوة محمد فهذا المطلوب لا يثبت رلاا بالعقل إذ لو ثبت بالنقل لزم الدور لأن كل واحد منهما يتوقف حينئذ على الآخر
الثالث من المطالب ما عداهما نحو الحدوث فإن صحة النقل غير متوقفة على حدوث العالم إذ يمكن إثبات الصانع دونه بأن يستدل على وجوده بإمكان العالم ثم يثبت كونه عالما ومرسلا للرسل ثم يثبت بإخبار الرسل حدوث العالم ونحو الوحدة فإن إرسال الرسل لا يتوقف على كون الإله واحدا فجاز أن يثبت التوحيد بالأدلة السمعية فهذا المطلوب يمكن إثباته بالعقل إذ يمتنع خلافه عقلا بالدليل العقلي الدال عليه ويمكن أيضا إثباته بالنقل لعدم توقفه عليه كما عرفت

المقصد الثامن
الدلائل النقلية هل تفيد اليقين بما يستدل بها عليه من المطالب أو لا قيل لا تفيد وهو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة لتوقفه أي توقف كونها مفيدة لليقين على العلم بالوضع أي وضع الألفاظ المنقولة عن النبي معان مخصوصة والإرادة أي وعلى العلم بأن تلك المعاني مرادة منه

والأول وهو العلم بالوضع إنما يثبت بنقل اللغة حتى يتعين مدلولات جواهر الألفاظ ونقل النحو حتى يتحقق مدلولات الهيئات التركيبية ونقل الصرف حتى يعرف مدلولات هيئآت المفردات وأصولها أي أصول هذه العلوم الثلاثة تثبت برواية الآحاد لأن مرجعها إلى أشعار العرب وأمثالها وأقوالها التي يرويها عنهم آحاد من الناس كالأصمعي والخليل وسيبويه وعلى تقدير صحة الرواية يجوز الخطأ من العرب فإن امرأ القيس قد خطئ في مواضع عديدة مع كونه من أكابر شعراء الجاهلية وفروعها تثبت بالأقيسة وكلاهما يعني رواية الآحاد والقياس دليلان ظنيان بلا شبهة

والثاني وهو العلم بالإرادة يتوقف على عدم النقل أي نقل تلك الألفاظ عن معانيها المخصوصة التي كانت موضوعة بإزائها في زمن النبي إلى معان أخرى إذ على تقدير النقل يكون المراد بها تلك المعاني الأولى لا المعاني الأخرى التي نفهمها الآن منها وعلى عدم الإشتراك إذ مع وجوده جاز أن يكن المراد معنى آخر مغايرا لما فهمناه وعدم المجاز إذ على تقدير التجوز يكون المراد المعنى المجازي لا الحقيقي الذي تبادر إلى أذهاننا وعدم الإضمار إذ لو أضمر في الكلام شيء تغير معناه عن حاله وعدم التخصيص إذ على تقدير التخصيص كان المراد بعض ما تناوله اللفظ لا جميعه كما اعتقدناه وعدم التقديم والتأخير فإنه إذا فرض هناك تقديم وتأخير كان المراد معنى آخر لا ما أدركناه والكل أي كل واحد من النقل وأخواته لجوازه في الكلام بحسب نفس الأمر لا يجزم بانتفائه بل غايته الظن واعلم أن بعضهم أسقط الإضمار بناء على دخوله في المجاز بالنقصان وذكر النسخ وكأن المصنف أدرجه في التخصيص لأن النسخ على ما قيل تخصيص بحسب الأزمان ثم بعد هذين الأمرين أعني العلم بالوضع والعلم بالإرادة لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي إذ لو وجد ذلك المعارض لقدم على الدليل النقلي قطعا بأن يؤول الدليل النقلي عن معناه إلى معنى آخر مثاله قوله تعالى
الرحمن على العرش استوى
فإنه يدل على الجلوس وقد عارضه الدليل العقلي الدال على استحالة الجلوس في حقه تعالى فيؤول الاستواء بالاستيلاء أو يجعل الجلوس على العرش كناية عن الملك وإنما قدم المعارض العقلي على الدليل النقلي إذ لا يمكن العمل بهما بأن يحكم بثبوت مقتضى كل منهما لاستلزامه اجتماع النقيضين ولا بنقيضهما بأن يحكم بانتفاء مقتضى كل منهما لاستلزامه ارتفاع النقيضين وتقديم النقل على العقل بأن يحكم بثبوت ما يقتضيه الدليل

النقلي دون ما يقتضيه الدليل العقلي إبطال للأصل بالفرع فإن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل لأن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه ليس إلا العقل فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه فإذا قدم النقل عليه وحكم بثبوت مقتضاه وحده فقد أبطل الأصل بالفرع وفيه أي في إبطال الأصل بالفرع إبطال للفرع أيضا إذ حينئذ يكون صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه فلا يكون النقل مقطوع الصحة فقد لزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل عدم صحته وإذا أدى إثبات الشيء وتصحيحه إلى إبطاله وإفساده كان مناقضا لنفسه أي مستلزما لنقيض نفسه ومنافيا لها فكان باطلا ومحالا إذ لو أمكن لأمكن اجتماع النقيضين أعني نفسه ونقيضه وإذا لم يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما ولا تقديم النقلي على العقلي فقد تعين تقديم العقلي على النقلي وهو المطلوب لا يقال جاز أن يتوقف فيهما فلا يحكم بثبوت مقتضى شيء منهما بعينه فلا يلزم شيء من تلك المحالات لأنا نقول هذا منع لا يضر المعلل لأن وجود المعارض العقلي إذا أوجب التوقف لم يفد الدليل النقلي اليقين مالم يعلم عدم ذلك المعارض وهذا هو الوجه الذي كان المستدل بصدده وأيضا التوقف يوجب تطرق احتمال الخطأ في الدليل العقلي القطعي وحينئذ لا يبقى النقلي حجة قطعية يتوقف لأجلها في الدلائل العقلية القطعية فقد ثبت أنه لا بد في إفادة الدليل النقلي اليقين من العلم بعدم المعارض العقلي لكن عدم المعارض العقلي غير يقيني إذ الغاية عدم الوجدان مع المبالغة الكاملة في تتبع الأدلة العقلية وهو أي عدم الوجدان لا يفيد القطع والجزم بعدم الوجود إذ يجوز أن يكون هناك معارض عقلي لم نطلع عليه فقد تحقق أن دلالتها أي دلالة الأدلة النقلية على مدلولاتها يتوقف على أمور عشرة ظنية فتكون دلالتها أيضا ظنية لأن الفرع الموقوف لا يزيد على الأصل الذي هو

عليه في القوة والمتانة وإذا كانت دلالتها ظنية لم تكن مفيدة لليقين بمدلولاتها هذا ما قيل والحق أنها أي الدلائل النقلية قد تفيد اليقين أي في الشرعيات بقرائن مشاهدة من المنقول عنه أو متواترة نقلت إلينا تواترا تدل تلك القرائن على انتفاء الاحتمالات المذكورة فإنا نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوهما من الألفاظ المشهورة المتداولة فيما بين جميع أهل اللغة في زمن الرسول في معانيها التي تراد منها الآن والتشكيك فيه سفسطة لاشبهة في بطلانها وكذا الحال في صيغة الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل وغيرها فإنها معلومة الاستعمال في ذلك الزمان فيما يراد منها في زماننا وكذا رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه مما علم معانيها قطعا فإذا انضم إلى مثل هذه الألفاظ قرائن مشاهدة أو منقولة تواترا تحقق العلم بالوضع والإرادة وانتفت تلك الاحتمالات التسعة وأما عدم المعارض العقلي فيعلم من صدق القائل فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأنه أي كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها أي بمجرد الدلائل النقلية والنظر فيها وكون قائلها صادقا الجزم بعدم المعارض العقلي و أنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك أي الجزم بعدم المعارض العقلي وهما أي حصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه أي النفي والإثبات فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل
فإن قلت إن كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم بعدم المعرض في العقليات كما لزم منه ذلك في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما
قلت المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا

طريق له إليها والمراد بالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا كما مر وقد جزم الإمام الرازي بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية في المسائل العقلية نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة حجية الإجماع وخبر الآحاد وأخرى لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية الفرعية

الموقف الثاني في الأمور العامة

أي ما لا يختص بقسم من أقسام الموجود التي هي الواجب والجوهر والعرض فإما أن يشتمل الأقسام الثلاثة كالوجود والوحدة فإن كل موجود وإن كان كثيرا له وحدة ما باعتبار وكالماهية والتشخص عند فالقائل بأن الواجب له ماهية مغايرة لوجوده وتشخص مغاير لماهيته أو يشمل الاثنين منها كالإمكان الخاص والحدوث والوجوب بالغير والكثرة والمعلولية فإنها كلها مشتركة بين الجوهر والعرض فعلى هذا لا يكون العدم والامتناع والوجوب الذاتي والقدم من الأمور العامة ويكون البحث عنها ههنا على سبيل قد يقال الأمور العامة ما يتناول المفهومات بأسرها إما على سبيل الإطلاق كالإمكان العام أو على سبيل التقابل بأن يكون هو مع ما يقابله متناولا لها جميعا ويتعلق بكل من هذين المتقابلين غرض علمي كالوجود والعدم وإنما جعلنا هذا الموقف فيما لا يختص بقسم من تلك الأقسام الثلاثة إذ قد أوردنا كلا من ذلك أي مما يختص بواحد منها في بابه فلم يبق إلا الأمور المشتركة فلا بد لها من باب على حدة وفيه أي في ذها الموقف مقدمة يجب تقديمها على مباحث تلك الأمور العامة لاشتمالها على تقسيم المعلومات إلى معروضاتها ومراصد خمسة مشتملة على مباحثها
المقدمة في قسمة المعلومات إلى معروضات الأمور العامة وهي عند المتكلمين أربع تقسيمات مبنية على مذاهبهم الأربعة وبيان ذلك أنه إما أن يقال بأن المعدوم ثابت أو لا وعلى التقديرين إما أن تثبت الواسطة بين

الموجود والمعدوم وهو الحال أولا فهذه أربعة احتمالات ذهب إلى كل واحد منها طائفة منهم
الاحتمال الأول المعدوم ليس بثابت ولا واسطة أيضا بينهما وهو مذهب أهل الحق فالمعلوم أي ما من شأنه أن يعلم إما أن لا يكون له تحقق في الخارج إنما اعتبر قيد في الخارج لأنهم لا يقولون بالوجود الذهني أو يكون والأول هو المعدوم في الخارج والثاني هو الموجود فيه فهذه قسمة ثنائية يتبعها ثلاثيتان ورباعية
الاحتمال الثاني المعدوم ليس بثابت والواسطة أمر حق أي ثابت وقال به القاضي الباقلاني قولا مستمرا وإمام الحرمين منا أي من الأشاعرة أو لا فإنه رجع عن ذلك آخرا وقال به بعض المعتزلة أيضا فالمعلوم على رأيهم إما لا تحقق له أصلا وهو المعدوم أو له تحقق إما باعتبار ذاته أي لا بتبعية الغير وهو الموجود أو باعتبار غيره أي له تحقق تبعا له وهو الحال وعرفوه بأنه صفة لموجود لا موجودة ولا معدومة فقولنا صفة لأن الذوات وهي الأمور القائمة بأنفسها إما موجودة أو معدومة لا غير إذ لا يتصور تحققها تبعا لغيرها فلا تكون حالا و قولنا لموجود لأن صفة المعدوم معدومة فلا تكون حالا و قولنا لا موجودة لتخرج الأعراض فإنها متحققة باعتبار ذواتها فهي من قبيل الموجود دون الحال وقولنا ولا معدومة لتخرج السلوب التي يتصف بها الموجود فإنها معدومة لا أحوال واعترض الكاتبي على هذا التعريف بأنه منقوض بالصفات النفسية كالجوهرية والسوادية والبياضية فإنها عندهم أحوال حاصلة للذوات حالتي

وجودها وعدمها والجواب أن المراد بكونه صفة للموجود أنه يكون صفة له في الجملة لا أنه يكون صفة له دائما هذا على مذهب من قال بأن المعدوم ثابت ومتصف بالأحوال حال العدم وأما على مذهب من لم يقل بثبوت المعدوم أو قال به ولم يقل باتصافه بالأحوال فالاعتراض ساقط من أصله
الاحتمال الثالث المعدوم ثابت ولا واسطة هو مذهب أكثر المعتزلة فالمعلوم على رأيهم إما لا تحقق له في نفسه أصلا وهو المنفي المساوي للممتنع أو له تحقق في نفسه بوجه ما وهو الثابت المتناول للموجود والمعدوم والممكن ثم قسموا المعلوم تقسيما آخر فقالوا وأيضا فإما أن لا كون له في الأعيان وهو المعدوم ممكنا كان أو ممتنعا أو له كون فيها وهو الموجود والمنفي عندهم أخص مطلقا من المعدوم لاختصاصه بالممتنع منه أي من المعدوم وأنت تعلم أن نقيض الأخص مطلقا أعم مطلقا من نقيض الأعم فيكون الثابت الذي هو نقيض المنفي أعم من الموجود الذي هو نقيض المعدوم لصدقه عليه أي لصدق الثابت على الموجود وعلى المعدوم الممكن فقد ذكر على رأي هؤلاء تقسيمين لكن الأقسام عندهم في الحقيقة ثلاثة هي المنفي والثابت الموجود والثابت الذي هو المعدوم الممكن وأما المعدوم مطلقا فهو راجع إلى المنفي والمعدوم الممكن فلا يكون قسما رابعا وكأنه لم يقسم الثابت على رأيهم إلى الموجود والمعدوم كما فعله غيره لئلا يتوهم من إطلاق المعدوم على المنفي كون قسيم الثبات قسما منه لكنه مندفع بأن قسم الثابت هو المعدوم الذي له ثبوت أعني المعدوم الممكن وذلك لا يطلق على المنفي وإنما يطلق عليه المعدوم مطلقا وليس قسما من الثابت حقيقة
الاحتمال الرابع المعدوم ثابت والحال حق أيضا وهو قول بعض

المعتزلة من مثبتي الأحوال فيقول الكائن في الأعيان إما أن يكون له كون بالاستقلال وهو الموجود أو يكون له كون بالتبعية وهو الحال فيكون الحال الذي هو قسم من الكائن في الأعيان أيضا قسما من الثابت كما أن الموجود والمعدوم الممكن قسمان منه وغيره أي غير الكائن في الأعيان هو المعدوم فإن كان له تحقق وتقرر في نفسه فثابت وإلا فمنفي فالأقسام أربعة فظهر أن الثابت الذي يقابل المنفي يتناول الموجود والمعدوم والممكن فقط وعلى الثاني يتناول الموجود والحال فقط وأما المعدوم ففي المذهبين الآخرين يتناول شيئين المنفي أي الممتنع والمعدوم الممكن وفي المذهب الثاني يرادف النفي كما في المذهب الأول الذي يرادف فيه الثابت والموجود أيضا وأما الحكماء فقالوا في تقسيم المعلومات ما يمكن أن يعلم ولو باعتبار إما لا تحقق له بوجه من الوجوه وهو المعدوم وإما له تحقق ما هو الموجود ولا بد من انحيازه بحقيقة أي لا بد من أن ينفرد الموجود وينحاز ويمتاز عن غيره بحقيقة يكون بها هو هو فإن انحاز مع ذلك عن غيره بهوية شخصية يمتنع بها فرض اشتراكه بين كثيرين فهو الموجود الخارجي وإلا فهو الموجود الذهني فإن الذهن لا يدرك إلا أمرا كليا فالموجود فيه لا ينحاز عن غيره إلا بحسب الماهية الكلية بخلاف الموجود الخارجي فإنه ينحاز عن غيره بماهية كلية وتشخص ورد ذلك بأن الواجب تعالى موجود خارجي وليس له تشخص يغاير حقيقته حتى ينحاز بهما معا عن غيره وبأن الجزئيات المدركة

بالحواس المرتسمة في القوى الباطنة منحازة عن غيرها بالحقيقة والهوية معا وليست موجودات خارجية بل ذهنية وقد يجاب بأن الواجب سبحانه شيء واحد في حد ذاته إلا أن ذلك الشيء يسمى حقيقة من حيث أن الواجب به هو هو ويسمى تشخصا من حيث أنه المميز له على وجه لا يمكن فرض الشركة معه فقد انحاز الواجب بحقيقة وهوية شخصية متغايرتين اعتبارا وذلك كاف لنا فيما نحن بصدده وبأن المدرك بالحواس لا ينحاز في تحققه الذهني بماهية وهوية تنضم إليها في هذا التحقق بل المنحاز في الخارج بماهية وهويةج شخصية انحاز في الذهن لا على وجه ينضم فيه تشخص إلى ماهيته والفرق ظاهر بالتأمل الصادق فيصدق عليه أنه منحاز عن غيره بحقيقته فإن الحقيقة تطلق على ما يتناول الجزئيات أيضا وكل ذلك تعسف والأظهر أن يقال الموجود إما أن يكون وجوده أصلا يترتب عليه آثاره ويظهر منه فهو الموجود الخارجي والعيني أو لا وهو الموجود الذهني والظلي والموجود في الخارج إما أن لا يقبل العدم لذاته وهو الواجب لذاته أو يقبله وهو الممكن لذاته فتقييد الواجب بقوله لذاته احتراز عن الواجب بغيره وتقييد الممكن بذلك ليس احترازا عن شيء إذ لا ممكن بالغير بل هو رعاية للموافقة وإظهار لكون الإمكان مقتضى الذات كالوجوب وهو أي الممكن لذاته إما أن يوجد في موضوع أي في محل يقوم ذلك المحل ما حل فيه وهو العرض أو لا يوجد في موضوع وهو الجوهر سواء لم يوجد في محل أو وجد في محل لا يكون موضوعا فقولنا يقوم ما حل فيه احتراز عن الصورة لوجودها في محل وهو المادة لكنه أي ذلك المحل الذي هو المادة غير مقوم لما حل فيه وهو الصورة فإن المادة هي المتقومة بالصورة عندهم كما ستعرفه فالصورة جوهر مع كونها حالة في محل فالمحل أعم من المادة لصدق المحل على الموضوع أيضا والحال أعم من الصورة لصدق الحال على العرض أيضا

والموضوع والمادة متباينان مندرجان تحت المحل اندارج الأخص تحت الأعم وكذا العرض والصورة متباينان مندرجان تحت الحال كذلك
وقال المتكلمون الموجود أي في الخارج إذ لا يثبتون الموجود الذهني إما أن لا يكون له أول أي لا يقف وجوده عند حد يكون قبله أي قبل ذلك الحد العدم وهو القديم أو يكون له أول أي يقف وجوده عند حد يكون قبله العدم وهو الحادث والحادث إما متحيز بالذات أو حال في المتحيز بالذات أو لا متحيز ولا حال فيه فالمتحيز بالذات هو الجوهر ونعني به أي المتحيز بالذات المشار إليه أي الذي يشار إليه بالذات إشارة حسية بأنه هنا أو هناك اعتبر قيد بالذات احترازا عن العرض فإنه قابل للإشارة على سبيل التبعية وقيد الإشارة بكونها حسية لأن المجردات على تقدير وجودها قابلة للإشارة العقلية والحال في المتحيز هو العرض ونعني بالحلول فيه أي في المتحيز أن يختص به بحيث تكون الإشارة الحسية إليهما واحدة كاللون مع المتلون فإن الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر دون الماء مع الكوز فإن الإشارة إليهما ليست واحدة فإن الماء ليس حالا في الكوز اصطلاحا وإن كان حالا فيه لغة وما ذكره تفسيرا للحلول في المتحيز كما صرح به فلا يتجه عليه أنه لا يتناول حلول صفات الواجب تعالى في ذاته فالأولى أن يفسر بالاختصاص الناعت وما ليس متحيزا ولا حالا فيه أعني الذي جعلناه قسما ثالثا من أقسام الممكن الحادث وهو المسمى بالمجرد لم يثبت وجوده عندنا إذ لم نجد عليه دليلا فجاز أن يكون موجودا وأن لا يكون موجودا سواء كان ممكنا أو ممتنعا فمنهم من قنع بهذا القدر وهو أنه لم يثبت وجوده ومنهم من جزم بامتناعه لوجهين
الأول أنه لو وجد لشاركه الباري في هذا الوصف وهو أنه ليس

متحيزا ولا حالا في متحيز ولا بد من أن يمايزه الباري بغيره أي بغير هذا الوصف المشترك بينهما فيلزم التركيب في الباري من المشترك والمميز وأنه محال
الثاني أن هذا الوصف أخص صفات الباري فإن من سأل عنه أي عن الباري لا يجاب ذلك السائل إلا به أي بهذا الوصف فيقال هو موجود لا متحيز ولا حال في المتحيز فلو شاركه فيه غيره لشاركه أيضا في الحقيقة فيلزم حينئذ إما قدم الحادث أو حدوث القديم وجواب الأول أنه لا يلزم من الاشتراك في وصف سيما وهو سلبي كالوصف الذي نحن فيه التركيب في شيء من المتشاركين لجواز اشتراك البسيطين الحقيقيين في عارض ثبوتي كالوجود أو سلبي كنفي ما عداهما عنهما و جواب الثاني أنا لا نسلم أنه أي هذا الوصف أخص صفاته تعالى بل أخص صفاته إما الوجود الذاتي وإما كونه موجدا لكل ما عداه أو القدم إذ لا يشاركه فيها غيره و جواب الثاني بوجه آخر أن يقال هذه الدعوى أي دعوى كون هذا الوصف أخص صفاته لا تخلو عن مصادرة لأن كونه أخص صفاته إنما يتم إذا ثبت أنه ليس هناك موجود حادث لا يكون متحيزا ولا حالا فيه فتتوقف مقدمة الدليل على ثبوت المدعي فإثباته بها دور

المرصد الأول في الوجود والعدم
وفيه مقاصد
المقصد الأول في تعريفه
أي تعريف الوجود فقيل إنه بديهي تصوره فلا يجوز حينئذ أن يعرف إلا تعريفا لفظيا وقيل هو كسبي فلا بد حينئذ من تعريفه وقيل لا يتصور أصلا لا بداهة ولا كسبا والمختار أنه بديهي لوجوه وهذه الوجوه إما استدلالات كما هو الظاهر منها فإن بداهة التصور صفة خارجة عنه فجاز أن تكون مطلوبة له بالبرهان وإما تنبيهات بناء على ما قيل من أن الحكم ببداهة تصوره بديهي أيضا لكن قد يحتاج في الأمور البديهية إلى تنبيه بالنسبة إلى الأذهان القاصرة
الأول أنه جزء وجودي لأن المطلق جزء من المقيد بالضرورة وهو متصور بالبديهة لأن من لا يقدر على الكسب حتى البله والصبيان يتصور وجوده قطعا وجزء المتصور بالبديهة بديهي إذ لو كان كسبيا محتاجا إلى تعريف لكان ذلك المتصور أيضا محتاجا إلى ذلك التعريف فلا يكون بديهيا وعلى التنزل أي تنزلنا عن كون وجودي متصورا بالبديهة وقلنا إن تصوره كسبي فلا بد من الإنتهاء إلى دليل أي طريق موصل يلزم من وجده وجوده أي من وجوده ذلك الدليل وجود المدلول الذي هو تصور وجودي

ويكون وجوده أي وجود ذلك الدليل ضروريا دفعا للتسلسل أو الدور اللازم من كون العلم بوجود كل دليل متسفادا من دليل آخر وبه يتم الدليل على بداهة تصور الوجود فإنه إذا كان وجود ذلك الدليل متصورا بالبديهة كان الوجود المطلق الذي هو جزء من وجوده بديهيا أيضا
قال الإمام الرازي في المباحث المشرقية علم الإنسان بوجود نفسه غير مكتسب والوجود جزء من وجوده والعلم بالجزء سابق على العلم بالكل والسابق على غير المكتسب أولى بأن لا يكون مكتسبا
فإن قيل علم الإنسان بوجوده مكتسب
قلنا سنبطله في باب النفس وبتقدير التسليم لا قدح في المقصود لأنا ما لم نعرف وجود الدليل لا يمكننا أن نستدل به على وجود المدلول وليس العلم بوجود كل دليل محتاجا إلى دليل آخر بل لا بد من الانتهاء إلى دليل يكون العلم بوجوده بديهيا فكذا العلم بالوجود المطلق فإذا حمل كلامه هذا على أن علم كل إنسان بأنه موجود ضروري فلا إشكال في ذكر الدليل وإن حمل على أن كل إنسان يتصور وجوده بديهة فالمراد من الدليل هو الطريق الموصل إلى التصور كما أشرنا إليه ثم إن المصنف مع تصريحه بأن وجودي متصور بالبديهة وجزء من المتصور بالبديهة بديهي قال ههنا أو نقول بعد التنزل إلى كونه كسبيا لا بد من الانتهاء إلى دليل ولا دليل على سالبتين فلا بد في الدليل من مقدمة موجبة قد حكم فيها بوجود المحمول للموضوع ولا يمكن أن يكون العلم بوجود كل محمول للموضوع مستفادا من دليل آخر بل لابد من الانتهاء إلى دليل مشتمل على موجبة يكون العلم بوجود محمولها لموضوعها بديهيا وأنه يستدعي تصور الوجود المطلق بطريق البداهة فاتجه الإشكال بأن الكلام في اكتساب التصور وما ذكرتم من المقدمة الموجبة إنما يكون في اكتساب التصديق

فلعله أراد كما أنه لا دليل عن سالبيتين كذلك لا تعريف عن مفهومين سلبيين لأن السلب لا يعقل إلا بالقياس إلى الثبوت فلا بد في المعرف من مفهوم وجودي إما ضروري أو منته إليه فيكون العلم بوجوده ضروريا فكذا الوجود المطلق في ضمنه وجوابه أي جواب الوجه الأول أنا لا نسلم أن وجودي حقيقته بكنهها متصورة بالبديهة نعم أنا موجود تصديق بديهي حاصل لمن لا يتصور منه كسب وأنه لا يستدعى تصور وجودي بالكنه بل باعتبار ما كما أن أحد طرفيه أنا والمشار إليه بأنا حقيقته بكنهها غير بديهية وإذا كان وجودي متصورا بوجه ما بديهة كان اللازم منه بداهة تصور الوجود المطلق بوجه ما ولا نزاع فيه إنما الكلام في أن تصوره بكنهه بديهي هذا إذا كان الوجود معنى واحدا مشتركا وذاتيا لما تحته من الجزئيات أما إذا كان مشتركا لفظيا فليس هناك وجود مطلق يتصور بداهة أو كسبا وإذا كان عارضا لإفراده لم يلزم من تصور إفراده بالكنه بداهة تصور عارضها أصلا فإن قلت المحمول في قولك أنا موجود هو ذلك العارض مطلقا لا خصوصية فرد منه وأيضا إذا قلت وجودي فقد عبرت عن فرد بذلك العارض مع الإضافة فلا بد أن يكون متصورا
قلت يكفينا تصور ذلك العارض بوجه ما وليس يلزم من كون مفهوم الوجود جزءا من مفهوم وجودي أن يكون حقيقة الوجود جزءا من حقيقة وجودي لجواز أن يكون هذان المفهومان عارضين لحقيقتهما قوله في التنزل أولا لا بد من الانتهاء إلى دليل وجوده ضروري قلنا ممنوع نعم لا بد من دليل هو ضروري أي معلوم بالضرورة وأما وجوده فلا إذ قد لا يكون له أي للدليل وجود فإن الدليل كما يكون وجوديا يكون عدميا أيضا كعدم الغيم الدال على عدم المطر فإنا نستدل بصدق المقدمتين في

نفس الأمر على صدق المدلول فيهما لا بوجودهما في الخارج على وجود المدلول فيه فإن الدليل والمدلول قد يكونان معا عدميين والحاصل أنا كما نتوصل بصدق مقدمتي الدليل لابالعلم بوجودهما إلى المدلول كذلك نتوصل بتصور أجزاء المعرف لا بالعلم بوجودها إلى المعرف فلا يتم استدلالكم فإن قيل المعرف أو الدليل سواء كان وجوديا أو عدميا لا بد أن يعلم ويوجد في الذهن ويكون بديهيا أو منتهيا إليه دفعا للدور أو التسلسل وبذلك يتم مقصودنا
قلنا إن سلم الوجود الذهني كان اللازم وجوده في الذهن لا العلم بوجوده فيه قوله في التنزل ثانيا الموجبة ما حكم فيه بوجود المحمول للموضوع ممنوع بل الموجبة ما حكم فيه بأن ما صدق عليه الموضوع صدق عليه المحمول وقد لا يوجدان نحو قولك شريك الباري ممتنع وقد لا يوجد المحمول مع صدقه على الموضوع في الخارج كقولك زيد أعمى فصدق المحمول على الموضوع وهو المعتبر في الإيجاب أعم من وجوده له
الوجه الثاني من الوجوه الدالة على بداهة تصور الوجود هو أن يقال قولنا الشيء إما موجود أو معدوم تصديق بديهي وأنه يتوقف على تصور الموجود والمعدوم فيكون تصور الموجود والمعدوم بل الوجود والعدم بديهيا وكذا يتوقف هذا التصديق على تصور تغايرهما الذي هو الاثنينية أو مستلزم لتصورهما المسبوق بتصور الوحدة فتكون تصورات هذه الأمور أيضا بديهية فإن قيل إن زعمت أنه أي هذا التصديق بديهي مطلقا أي بحميع أجزائه فمصادرة لأن الوجود من جملة أجزائه فالحكم بأن ذلك الجميع بديهي موقوف على الحكم بأن الوجود بديهي فقد توقف مقدمة الدليل على ثبوت المدعي أو زعمت أن الحكم في هذا التصديق بعد تصور الطرفين بديهي غير محتاج إلى استدلال لم ينفع لجواز أن يكون تصور طرفيه معا

أو تصور أحدهما الذي هو الوجود مثلا كسبيا مع كون الحكم في نفسه بديهيا قلنا هذا التصديق بديهي مطلقا ولا مصادرة لأن بداهته مطلقا في نفس الأمر تتوقف على بداهة أجزائه في نفس الأمر ولكن لا يتوقف العلم ببداهته مطلقا على العلم ببداهة أجزائه أي العل ببداهة كل واحد منها مفصلا بل يستتبعه مثلا إذا علم أن هذا التصديق حاصل لمن لا يتصور منه كسب كالبله والصبيان علم إجمالا أن كل واحد من أجزائه بديهي فإذا أريد أن يعلم حال الوجود بخصوصه قيل الوجود جزء من أجزاء هذا التصديق وكل جزء من أجزائه بديهي فظهر أن العلم بالكلية القائلة بأن كل جزء من اجزائه بديهي لا يتوقف على العلم ببداهة جزء معين منه بخصوصه حتى يلزم المصادرة وهذا بعينه ما قيل من أن العلم بكلية كبرى الأول لا يتوقف على العلم بالنتيجة فإن الحكم على زيد من حيث أنه فرد من أفراد الإنسان إجمالا غير الحكم عليه باعتبار خصوصيته فإن الحكم يختلف باختلاف العنوان فالأحكام الجارية على خصوصيات أفراد موضوع الكلية مندرجة فيها بالقوة فيستدل بالكلية عليها حتى يخرج من القوة إلى الفعل نعم إذا كان العلم بالكلية مستفادا من العلم بحال كل فرد بخصوصه لم يمكن الاستدلال بها على حكم الأفراد كما إذا علم أن الوجود والعدم والشيء الذي ردد بينهما كلها بديهية وعلم بذلك أن هذا التصديق بديهي مطلقا لم يصح الاستدلال ببداهته على بداهة شيء منها لأنه دور وجوابه أي جواب الوجه الثاني أنه يكفي تصورهما أي تصور الموجود والمعدوم بوجه ما والنزاع إنما وقوع في التصور بالكنه
الوجه الثالث وإنما ينتهض حجة على من يعترف بأن الوجود متصور

بالكنه ويدعي أنه بالكسب أنه لو كان الوجود مكتسبا فإما بالحد أو بالرسم لانحصار كاسب التصور فيهما والقسمان باطلان أما تعريفه بالحد فلأن الحد كما مر إنما يكون بالأجزاء والوجود بسيط فلا يكون له حد وإلا أي وإن لم يكن بسيطا بل مركبا فأجزاؤه إما وجودات فيكون الجزء مساويا للكل في الماهية أو لا تكون أجزا ؤه وجودات بل ما ليست بوجودات فعند الاجتماع بين تلك الأجزاء التي كل واحد منها ليس وجودا لا بد أن يحصل أمر زائد على تلك الأجزاء وإلا أي وإن لم يحصل عند الاجتماع أمر زائد فلا وجود هناك أصلا إذ ليس ثمة إلا تلك الأجزاء التي ليست وجودات ويكون ذلك الأمر الزائد الحاصل عند اجتماع الأجزاء الذي هو الوجود عارضا لها مسببا من اجتماعها فتكون هي أي تلك الأجزاء علل الوجود ومعروضاته لكونه مسببا من اجتماعها عارضا لها لا أجزاءه فيكون التركيب في فاعل الوجود أو قابله لا فيه والمقدر خلافه وقد يقال لو كان للوجود أجزاء فتلك الأجزاء تتصف إما بالوجود فيكون الكل صفة للجزء لكن أو بالعدم ذلك الجزء لا يكون صفة لنفسه بل يكون صفة لسائر الأجزاء فلا تكون الصفة بتمامها صفة فيلزم حينئذ اجتماع النقيضين وقد يقال لو كان للوجود أجزاء فتلك الأجزاء إما أن تتصف بوجود مع أو بعد أي مع الوجود الذي هو المركب أو بعده فليس الجزء بحسب وجوده متقدما على كله بل هو إما معه أو متأخر عنه أو يتصف بوجود قبل أي قبل الوجود الذي هو المركب فيتقدم الشيء أي الوجود على نفسه أو لا تتصف تلك الأجزاء به أي بالوجود فلا شك أنها تتصف بالعدم فالوجود محض ما ليس له وجود أعني تلك الأجزاء التي لم تتصف بالوجود وأما تعريفه بالرسم فلوجهين أحدهما أن الرسم لا يفيد

معرفة كنه الحقيقة والنزاع فيه لا في وجه يمكن استفادته من الرسم الثاني أن الرسم يجب أن يكون بالأعرف لما مر في شرائط المعرف ولا أعرف من الوجود بالاستقرار فإنا تتبعنا المفهومات فوجدنا الوجود أعرف من كل ما نحاول تعريفه به وأيضا فهو أي الوجود أعم المفهومات والأعم جزء الأخص والجزء أعرف من الكل لأن العلم بالكل يتوقف على العلم بالجزء من غير عكس وأيضا فالفيض من المبدأ الفياض عام والنفس الإنسانية قابلة للتصورات وإذا وجد القابل والفاعل لم يتوقف الفيض إلا على اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع فكل ما كان شرائطه وموانعه أقل كان إلى الفيض أقرب والأعم لا شك أنه أقل شرطا ومعاندا من الأخص لأن شرط العام ومعانده شرط للخاص ومعاند له من غير عكس كلي لأن الخاص بحسب خصوصه له شرائط وموانع لا تعتبر في العام أصلا فيكون اجتماع شرائطه وارتفاع موانعه أقل بالنسبة إلى الخاص فيكون وقوعه في النفس وارتسامه فيها أكثر من وقع الخاص وارتسامه فيكون أعرف وجوابه أي جواب الوجه الثالث أنا نختار أن تعريف الوجود بالحد فنختار أو لا أن أجزاءه التي يحد بها وجودات قولك فالجزء مساو للكل في تمام الماهية قلنا ممنوع فإن وجود كل شيء عندنا نفس حقيقته وهي أي حقائق الأشياء متخالفة فكذا الوجودات الواقعة أجزاء للوجود متخالفة في أنفسها ومخالفة في الحقيقة للمركب منها وقد سبقت منا الإشارة إلى أن الخلاف في كون الوجود بديهيا أو كسبيا مبني على كونه مفهوما واحدا مشتركا وإما على تقدير كونه نفس الحقيقة فالمناسب أن يقال بعضه بديهي وبعضه كسبي أو يقال كله كسبي إذ ليس كنه شيء من الحقائق الموجودة بديهيا فالأولى في الجواب أن يقال أجزاؤه وجودات وليس يلزم من ذلك مساواة الجزء للكل في الماهية لجواز أن يكون صدق الوجود على تلك

الأجزاء صدقا عرضيا ولا استحالة في صدق الكل على أجزائه كذلك ونختار ثانيا أن أجزاءه ليست وجودات قوله يحصل عند الاجتماع بين تلك الأجزاء أمر آخر قلنا نعم و ذلك الأمر الآخر هوالمجموع من حيث هو مجموع وهو عين الوجود وإن كان كل واحد من أجزاء ذلك المجموع ليس وجودا فيكون التركيب في الوجود نفسه لا في قابله أو فاعله ثم ما يكرته منتقض لسائر المركبات التي علم تركيبها يقينا إذ نطرده بعينه في السكنجبين مثلا فنقول إن كانت أجزاؤه سكنجبينات ساوى الجزء الكل في الماهية وإن لم تكن سكنجبينات فإن حصل عند الاجتماع أمر زائد عليها مسبب عن اجتماعها عارض لها هو السكجبين كان التركيب في علل السكنجبين ومعروضاته لا فيه وإن لم يحصل كان السكنجبين محض ما ليس بسكنجبين قوله في الاستدلال ثانيا على نفي تركيب الوجود الأجزاء تتصف بالوجود أو العدم قلنا كسائر المركبات المعلومة الركيب رذ أجزاؤها لا تخلو عنها أو عن نقيضها فيكون الدليل منقوضا بها إذ نقول مثلا أجزاء الدار إما دار أو ليست بدار فعلى الأول يكون الكل صفة للجزء وعلى الثاني يلزم اجتماع النقيضين والحق عند الحكماء اتصاف الوجود ونقيضه أي العدم بالعدم وأنه أي الوجود بل العدم أيضا من المعقولات الثانية التي لا وجود لها في الخارج وما لا وجود له فهو معدوم إذ لا واسطة عندهم بين الموجود والمعدوم فالموجود عندهم معدوم وليس يلزم من هذا اجتماع النقيضين لا في معروض الوجود فإنه موجود فقط ولا في الوجود نفسه لأنه معدوم فقط نعم يلزم اتصاف أحد النقيضين بالآخر بطريق الاشتقاق وليس بمحال إنماا المحال أن يتصف أحدهما بالآخر مواطأة كأن يقال مثلا الوجود عدم فحل الشبهة على قاعدتهم أن يقال أجزاء الوجود متصفة بالعدم ويحصل من اجتماعها الوجود كما أن أجزاء الدار متصفة بأنها ليست دارا ويحصل من اجتماعها الدار غاية ما في الباب أن جزء الوجود إذا كان معدوما كانالوجود أيضا معدوما وقد عرفت أنه لا استحالة فيه و الحق عند الشيخ الأشعري اتصافه أي اتصاف الوجود بالوجود لأنه نفس الحقيقة وأنها موجودة فحل الشبهة عنده أن أجزاء

موجودة وليس يلزم منه كون الكل صفة للجزء لأن وجود كل شيء عنده عين حقيقته وليس المراد بالصفة ما يكون خارجا عن الشيء قائما به بل ما يحمل عليه سواء كان عين حقيقته أو داخلا فيها أو خارجا عنها وقد عرفت أن ذكر مذهب الشيخ لا يناسب هذا المقام لأن الوجود إذا كان عين الحقيقة فمن الحقائق مركبات ومنها بسائط وكذا الحال في الوجودات وقد يقال في حل الشبهة لا تتصف أجزاء الوجود لا بهذا ولا بذاك أي لا بالوجود ولا بالعدم وهو تصريح بإثبات الواسطة بين الموجود والمعدوم فلا يصح إلا على مذهب مثبتي الأحوال فتكون أجزاء الوجود عندهم من قبيل الأحوال كما أن الوجود عندهم كذلك قوله في الاستدلال ثالثا على نفي التركيب في الوجود تتصف الأجزاء بوجود مع أو بعد أو قبل قلنا هذا مبني على تمايز الجنس والفصل في الخارج وتقدمهما بالوجود على النوع فيه لأن الحد في المشهور إنما يتوقف على التركيب من الجنس والفصل لا من الأجزاء الخارجية المتمايزة الوجود في الخارج وهو أي تمايز الجنس والفصل في الخارج وتقدمهما بالوجود على النوع فيه ممنوع بل التمايز بينهما في الوجود وتقدمهما على الفرع بحسبه إنما هو في الذهن دون الخارج كما سيأتي تحقيقه أو نختار أنه أي جزء الوجود يتصف بالمعدوم أي بمفهوم المعدوم بل بالعدم ولا يكون الوجود حينئذ محض العدمات حتى يكون محالا بل محض معدومات فلا يلزم إلا كون الوجود مركبا من أجزاء متصفة بنقيضه وكذا كل مركب

من أجزاء متمايزة الوجود في الخارج فإنه مركب من أجزاء متصفة بنقيضه فالعشرة مثلا محض أمور لا شيء منها بعشرة أعني الوحدات التي تركب منها العشرة وكذا الحال في الأجزاء الذهنية فإن الحيوان نفسه ليس عين الإنسان في الحقيقة وإن كانا متصادقين وليس يلزم من ذلك كون أحد النقيضين جزءا من الآخر فإنه صفة الجزء ليست جزءا من المركب ولنا أيضا أن نختار أن تعريف الوجود بالرسم قوله الرسم لا يعرف الكنه قلنا لا يجب تعريفه الكنه وإيصاله إليه وإما أنه لا يفيد أي الكنه شيء من الرسوم أصلا فلا لجواز أن يكون من الخواص ما تصوره موجب لتصور كنه الحقيقة وأن يكون للوجد خاصة كذلك قوله في الوجه الثاني لإبطال الرسم لا أعرف من الوجود مصادرة فإن من لا يسلم كونه بديهيا ويدعي أنه كسبي كيف يسلم أنه لا أعرف منه بل يقول كونه أعرف يتوقف على كونه بديهيا فتتوقف مقدمة الدليل على ثبوت المدعي وما ذكرتم من الاستقراء ليس بصحيح عندنا قوله في الاستدلال ثانيا على كون الوجود أعرف مما عداه الأعم جزء الأخص ممنوع بل قد يكون الأعم عرضا عاما للأخص فلا يلزم من تصور الأخص ولو بالكنه تصور الأعم فجاز أن يكون الحال في الوجود كذلك قوله في الاستدلال على ذلك ثالثا الفيض عام قلنا مبني على الموجب بالذات حتى يجب الفيض منه عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع ونحن لا نقول به بل الحوادث كلها مستندة عندنا إلى الفاعل المختار فجاز أن يوجد العلم بالخاص دون العلم بالعام وقوله في هذا الاستدلال شروط العام ومعانداته أقل من شروط الخاص ومعانداته قلنا ذلك الذي ذكرتموه إنما هو بالنسبة إلى تحققهما أي تحقق العام والخاص في الهويات إذ العموم والخصوص إنما يعرض للشيء باعتبار ذلك فالأعم يكون متحققا في هويات وأفراد أكثر والأخص في أفراد أقل فإذا ترتبت الأشياء في العمورم والخصوص كالجوهر بالنسبة إلى نوع الإنسان بل صنفه فكل ما هو شرط لتحقق الأعم أو معاند له فهو شرط لتحقق الأخص أو معاند له فإنه لو لم يتحقق الأعم في ضمن فرد لم يتحقق الأخص في ضمنه بدون العكس إذ قد يتحقق الأعم في ضمن فرد غير فرد

الأخص لا بالنسبة إلى تحققهما في الذهن إذ لا علاقة بين الصورتين الذهنيتين بحسب تحققهما في الذهن فجاز أن تحصل صورة الخاص فيه بدون صورة العام ولا تعاند بين الصور الذهنية بل هي متقاربة ألا يرى أن الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد منه بدونه نعم إذا كان الأعم جزء الأخص وكان الأخص معلوما بالكنه كان شرط تحقق الأعم في الذهن شرطا لتحقق الأخص فيه وكذا معاند تحقق الأعم فيه أن فرض هناك معاند لتحقق الأخص فيه من غير عكس كلي والمنكر له أي لكون الوجود بديهيا فرقتان الأولى من يدعي أنه سبي محتاج إلى معرف لوجهين
الأول أنه إما نفسي الماهية كما و مذهب الشيخ فلا يكون بديهيا كالماهيات فإنه ليس كنه شيء منها بديهيا إنما البديهي بعض وجوهها وإما زائد عليها كما هو مذهب غيره فيكون الوجود حينئذ من عواضها أي من عوارضها الماهيات فيعقل الوجود تبعا لها لأن العارض لا يستقل بالمعقولية لكن الماهيات ليست بديهية فلا يكون الوجود بديهيا أيضا لأن التابع للكسبي أولى بأن يكون كسبيا والجواب لا نسلم أنه إذا كان عارضا للماهية عقل تبعا لها إذ قد يتصور مفهوم العارض دون ملاحظة معروضة ومن يدعي أن تصور الوجود أول الأوائل في التصورات كيف يسلم أن تعقله تبع لتعقل غيره سلمناه لكن يكفي لتصور العارض تصور ماهية معينة وقد تكون ضرورية فيعقل العارض تبعا لهذه الماهية الضرورية فلا يلزم كونه كسبيا وقد يجاب عنه أي عن هذا الوجه بأنه يعقل العارض تبعا للماهية المطلقة الصادقة على الماهيات كلها وإنها بديهية وفيه نظر لأن الماهية من حيث هي ماهية أعني مفهوم لفظ الماهية من عوارض الماهيات المخصوصة فيعود الكلام فيها بأن يقال هي أيضا غير مستقلة بالمعقولية

بل تعقل تبعا للماهيات المخصوصة التي ليست بديهية فيحتاج حينئذ إلى أحد الجوابين السابقين فيلزم الاستدراك في هذا الجواب
الوجه الثاني أن يقال لا شك أنه لايشتغل العقلاء بتعريف التصورات البديهية كما لا يبرهن العقلاء على القضايا البديهية فلو كان الوجود ضروريا لم يعرفوه والجواب أن تعريفه ليس لإفادة تصوره حتى ينافي كونه بديهيا بل تعريفه لتمييز ما هو المراد بلفظ الوجود من بين سائر المتصورات ولتلتفت النفس إليه بخصوصه فيكون تعريفا لفظيا ما له التصديق كما مر والأمور البديهية يجوز تعريفهما بحسب اللفظ فإن البديهي وإن كان حاصلا في الذهن بديهة لكن قد يكون مجهولا من حيث أنه مدلول لفظ مخصوص ومراد به فيعرف ليعلم أنه مدلول مراد به وقد أجيب عن الوجه الثاني أيضا بأن أحدا لم يشتغل بتعريف الكون في الأعيان الذي وقع النزاع فيه لكن جماعة لما تصوروا أنه أي الوجود ليس هو الكون في الأعيان بل هو شيء يوجب الكون في الأعيان ولم يكن ذلك الشيء الذي توهموا أنه الوجود ضروريا اشتغلوا بتعريفه وذلك لا ينافي بداهة الكون في الأعيان
الفرقة الثانية من المنكرين لكون الوجود بديهيا من يدعي أنه لا يتصور الوجود أصلا لا بداهة ولا كسبا بل هو ممتنع التصور واحتجوا على ذلك بأمرين
الأول أن تصوره إنما يكون بتميزه عن غيره لأن المدرك متميز بالضرورة عن غير المدرك ومعنى التميز أنه ليس غيره ومعنى أنه ليس غيره سلب مخصوص فيتوقف تعقله على تعقل السلب المطلق الذي هو عدم مطلق لا يعقل إلا بعد تعقل الوجود المطلق لكونه مضافا إليه

فيلزم الدور لتوقف تعقل كل واحد من الوجود والعدم على تعقل الآخر والجواب أن تصوره بتميزه عن غيره في نفس الأمر لا بالعلم بتميزه عنه حتى يجب في تصوره تعقل السالب الذي هو المفضي إلى الدور سلمناه لكن السلب والإيجاب غير العدم والوجود كما عرفت في بداهة الوجود إذ قد عرفت هناك أن المعتبر في الموجبة صدق المحمول على الموضوع وذلك لا يقتضي وجود المحمول في نفسه ولا وجوده للموضوع بل يقتضي اتصاف الموضوع به فلا يكون الإيجاب عين الوجود ولا مستلزما لتعقله وعلى هذا فالسلب رفع ذلك الصدق والإتصاف فلا يكون عين العدم ولا مستلزما لتعقله أيضا نعم قد يطلق لفظ الوجود والحصول والثبوت والتحقق على ذلك الصدق والإتصاف لمشابهته لمعناها الحقيقي الذي كلامنا فيه
الأمر الثاني لتصور حصول الماهية في النفس فتحصل ماهية الوجود في النفس على تقدير كونه متصورا وللنفس وجود آخر وإلا امتنع أن نتصور شيئا فيجتمع حينئذ في النفس المثلان أعني وجودهما والوجود المتصور والجواب أن ما ذكرتم من أن تصور الشيء حصول ماهيته في النفس قول بالوجود الذهني ونحن لا نسلم الوجود الذهني ولئن سلم فيكفي في تصوره أي تصور الوجود حصوله للنفس فيكون العلم بالوجود حينئذ علما حضوريا لا يحتاج فيه إلى حصول صورة منتزعة من المعلوم في العالم بل يكون المعلوم نفسه حاصلا له حاضرا عنده سواء قلنا الوجود المطلق ذاتي لوجود النفس أو عارض له فإنه على التقديرين حاضر عندنا وذلك كما نتصور ذاتنا بذاتنا لا بصورة منتزعة من ذاتنا حالة في ذاتنا أو نمنع على تقدير تسليم الوجود الذهني مماثلة الصورة الكلية التي هي ماهية الوجود للوجود الجزئي الثابت للنفس

على أن الممتنع هو يقوم المثلان بمحل واحد قيام الأعراض بمحالها وليس قيام الوجود بالنفس كذلك ثم قال بأنه أي الوجود يعرف حقيقة لكونه كسبيا عنده ذكر فيه عبارات الأولى أنه أي الموجود هو الثابت العين والمعدوم هو المنفي العين وفائدة لفظ العين التنبيه على أن المعرف هو الموجود في نفسه والمعدوم في نفسه لا الموجود لغيره والمعدوم عن غيره ولا ما هو أعم منهما
الثانية أنه المنقسم إلى فاعل ومنفعل أي مؤثر ومتأثر أو المنقسم إلى حادث وقديم والمعدوم ما لا يكون كذلك
الثالثة أنه ما يعلم ويخبر عنه أي يصح أن يعلم ويخبر عنه والمعدوم ما لا يصح أن يكون كذلك فهذه العبارات تعريفات للموجود ويعلم منها تعريفات الوجود فيقال الوجود ثبوت العين أو ما به ينقسم الشيء إلى فاعل ومنفعل أو إلى حادث وقديم أو ما به يصح أن يعلم الشيء ويخبر عنه وكله أي كل ما ذكره هذا القائل تعريف للشيء بالآخفى كما لا يخفى فإن الجمهور يعرفون معنى الوجود والموجود ولا يعرفون شيئا مما ذكر في هذه العبارات وأيضا الثابت يرادف الموجود والثبوت والوجود فلا يصح تعريفه به تعريفا حقيقيا والفاعل موجود له أثر في الغير والمنفعل موجود فيه أثر من الغير والقديم موجود لا أول له والحادث ههنا موجود له أول فلا يصح أخذ شيء منها في تعريف الموجود وصحة العلم والإخبار إمكان وجودهما فالتعريف بها أيضا دوري

المقصد الثاني في الوجود المشترك
في أنه أي الوجود مشترك اشتراكا معنويا أي هو معنى واحد اشترك فيه الموجودات بأسرها وإليه ذهب الحكماء والمعتزلة غير أبي

الحسين وأتباعه وذهب إليه جمع من الأشاعرة أيضا إلا أنه مشكك عند الحكماء متواطئ عند غيرهم وإنما ذهبوا إلى كونه مشتركا معنى لوجوه
الأول أنه لو لم يكن مشتركا لامتنع الجزم به أي الوجود عند التردد في الخصوصيات من أنواع الموجودات وأشخاصها ضرورة أنه أعني الوجود على تقدير كونه غير مشترك إما نفس الخصوصيات أو مختص بها ذاتيا كان لها أو عرضيا فيزول اعتقاده مع زوال اعتقادها أما على الأول فلأن التردد في الخصوصيات عين التردد في الوجودات التي هي أعيان تلك الخصوصيات وأما على الثاني فلأن التردد في شيء يستلزم التردد فيما يختص به قطعا
والثاني باطل لأنا إذا جزمنا بوجود ممكن جزمنا بأن له سببا فاعليا موجودا ثم إذا ترددنا في أن ذلك السبب واجب أو ممكن وعلى تقدير كونه ممكنا جوهر أو عرض وإذا كان جوهرا فهو متحيز أو غير متحيز وهكذا إذا ترددنا في جميع أنواع الموجودات وأشخاصها لم يكن ترددنا في هذه الخصوصيات موجبا لزوال الجزم المتعلق بوجود ذلك السبب ومقتضيا للتردد فيه وكذا إذا اعتقدنا أن ذلك السبب ممكن ثم تبين لنا أنه واجب فإنه يزول اعتقاد كونه ممكنا إلى اعتقاد كونه واجبا مع أن اعتقاد كونه موجودا باق على حاله لم يتغير أصلا فلولا أن الوجود المشترك معنى لتغير اعتقاده أيضا لا يقال إذا ترددنا في الخصوصيات فقد ترددنا في معنى الوجود وكذا إذا زال اعتقاد بعضها إلى بعض زال اعتقاد معنى الوجود إلا أن الباقي في الحالتين بلا تردد وزوال هو المسمى بلفظ الوجود المشترك بين جميع الموجودات فيكون الاشتراك لفظيا لا معنويا لأنا نقول نحن نعلم أن

هذا الجزم باق بحاله مع قطع النظر عن اللفظ والعلم بوضعه وأنه لا يختلف باختلاف اللغات فوجب أن يكون الاشتراك معنويا
الوجه الثاني أنا نقسمه أي الوجود إلى وجود الواجب و وجود الممكن و وجود الجوهر و وجود العرض وهكذا نقسمه إلى وجودات الأنواع وأشخاصها أو نقسم الموجود إلى هذه الموجودات بأسرها فإن المال في التقسيمين واحد ومورد القسمة مشترك بين جميع أقسامه التي ينقسم إليها ابتداء لأن حقيقة التقسيم ضم مختص إلى مشترك لا يقال قسمة الوجود إلى ما ذكرتم للاشتراك اللفظي كما تقسم العين إلى الغوراة والباصرة لكونه مشتركا بينهما لفظا لأنا نقول هذه يعني قسمة الوجود قسمة عقلية لا تتوقف على وضع والعلم به ولذلك لا تختلف باللغات المتفاوتة ويمكن فيها الحصر العقلي الدائر بين النفي والإثبات بخلاف ذلك الذي ذكرتم من التقسيم للاشتراك اللفظي كتقسيم العين فإنه موقوف على الوضع والعلم به ويختلف بحسب اختلاف اللغات ولا يمكن فيه الحصر العقلي فالاشتراك المعنوي واجب في القسمة العقلية هذا وقد قيل التقسيم في مثل العين إنما هو باعتبار تأويله بالمسمى بلفظ العين فيؤول الاشتراك بالمعنوي ولولا هذا التأويل لكان ترديدا لا تقسيما ورد أنه يعود الإشكال لجواز مثل ذلك في الوجود وقد ينقض هذان الوجهان بالماهية والتشخص فيقال نحن نجزم بالماهية في ذلك السبب أي نجزم بأن له ماهية ونتردد في خصوصيات الماهيات ونقسم الماهية إلى الخصوصيات وكذا الحال في التشخص فيلزم كون الماهية والتشخص

مشتركين وهو باطل لأن الماهيات متخالفة الحقائق والتشخصيات متميزة فلا تكون مشتركة بل متخالفة الهويات والتحقيق أنه إن أريد مجرد الاشتراك أي إن أريد من الاستدلال بهذين الوجهين مجرد أن الوجوه معنى واحد مشترك بين الموجودات سواء كانت أفراده متماثلة في الحقيقة أو لا فهما أي مفهوما الماهية والتشخص أيضا عارضان للماهيات المخصوصة والتشخصات الجزئية مشتركان بينهما وإن كانت أفرادهما متخالفة الحقائق والهويات فلا نقض بهما وإن أريد التماثل في الوجود أي إن أريد أنه مشترك وأفراده متماثلة متفقة في الحقيقة فلا يلزم هذا المراد من هذين الوجهين والنقض بهما أي بالماهية والتشخص وارد عليهما لأن أفرادهما متخالفة لا متماثلة وأنت خبير بأن المتبادر من دعوى الاشتراك مطلقا هو المعنى الأول
الوجه الثالث أن العدم مفهوم واحد إذ لا تمايز فيه أي في العدم بالذات فلا تعدد فيه إذ لا يتصور تعدد بلا تمايز فكذا مقابله أعني الوجود معنى واحد وإلا بطل الحصر العقلي فيهما يعني أن قولك الشيء إما موجود أو معدوم حصر عقلي لا يخرج عنه قطعا فإذا كان العدم مفهوما واحدا والوجود مفهومات متعددة بطل ذلك الحصر العقلي ضرورة أنه لا حصر في العدم المطلق والوجود الخاص فإنك إذا قلت زيد إما أن يكون موجودا بوجود خاص أو لا يكون موجودا أصلا لم يكن ذلك حاصرا لجواز أن يكون موجودا بوجود مغاير لذلك الوجود الخاص فإن قيل إذا أريد أنه إما موجود بوجود ما من الوجودات وإما ليس موجودا أصلا لم يبطل الإنحصار قلنا فحينئذ كان الحصر بملاحظة اللفظ وأوضاعه فلا يكون عقليا بل استقرائيا تابعا للوضع مختلفا بحسب اختلافه

والجواب أنا لا نسلم أن العدم مفهوم واحد بل هو متعدد متمايز بحسب إضافته إلى الوجود فإن كان الوجود نفس الحقيقة فالعدم رفع الحقيقة ولا شك أن الحقائق متعددة ولكل حقيقة منها رفع يقابلها والترديد بين الحقيقة المخصوصة ورفعها حاصر بلا شبهة وإن كان الوجود زائدا على الحقائق متعددا بحسب تعددها كان أيضا لكل وجود مخصوص بشيء رفع يقابله ويكون الترديد بين ذلك الوجود ورفعه حصرا عقليا كما أن الترديد بين الوجود المطلق على تقدير ثبوته وبين رفعه حصر عقلي
الوجه الرابع قال بعض الفضلاء هذه القضية أي كون الوجود مشتركا معنى ضرورية لا حاجة فيها إلى دليل بل يكفيها أدنى تنبيه إذ نعلم بالضرورة أن بين الوجود والموجود كالسواد والبياض الموجودين مثلا من الشركة في الكون في الأعيان ما ليس بين الموجود والمعدوم كالبياض والعنقاء وليس هذه الشركة في الكون المذكور بحسب اتحاد الاسم لأنها ثابتة مع قطع النظر عن الألفاظ وأوضاعها وهذا الذي ذكرناه لا يمنعه إلا المعاند فإنه غير مقنع له وأما بالنسبة إلى المصنف فهو قاطع فيما ادعيناه كذا في المباحث المشرقية قال المصنف وتعود قضية الماهية والتشخص فإن الحال فيهما أيضا كذلك فإن اكتفى بمجرد الاشتراك تم الكلام وإن ادعى معه التماثل بين أفراد الوجود بطل بشهادة الماهية والتشخص
الوجه الخامس قال ذلك البعض من الفضلاء من زعم أنه يعني الوجود غير متشرك فقد اعترف بأنه مشترك من حيث لا يدري إذ لولا أنه تصور مفهوما واحدا شاملا لجميع الموجودات يحكم عليه بأنه غير مشترك بين الموجودات للزمه البرهان في كل وجود أنه كذلك أي غير مشترك وإذا لم تكن الدعوة المتعلقة بأمور متعددة واحدة عامة لها لم يكن إثباتها بدليل واحد عام لأن تلك الدعوة حينئذ متعددة بحسب المعنى كتعدد

تلك الأمور فلا بد لكل واحدة من تلك الدعاوى من برهان على حدة والحاصل أن الدليل إذا كان واحدا متناولا لمتعدد فلا بد أن تكون الدعوى عامة متناولة لذلك المتعدد وعمومها إياه إنما يكون بأخذ معنى واحد عام لجميعه إذ لولاه لوجب التعرض لخصوصية كل واحد من ذلك المتعدد فمن قال إن الوجود غير مشترك فلا شك أن حكمه غير مقتصر على وجود واحد بل يتناول كل وجود فلو كان مفهوم الوجود مختلفا لاحتاج ذلك القائل إلى أن يبرهن على كل واحد واحد من وجودات الماهيات أنه غير مشترك لاستحالة أن ينطبق الدليل الواحد على متعدد باعتبار خصوصية كل واحد منه لكنه معترف بأن حجته على أن الوجود غير مشترك تتناول كل وجود فلا بد له من أن يتصور معنى واحدا متناولا للوجودات بأسرها وقد حكم على ذلك المعنى بحكم إيجابي صادق هو أنه غير مشترك فلا بد أن يكون ذلك المعنى متحققا فقد لزمه الإعتراف بأن الوجود مشترك
والجواب أنا نأخذها أي الدعوة سالبة لا موجبة معدولة فنقول لا يوجد معنى مشترك فيه بينها يسمى الوجود وذلك لا يقتضي وجودا مشتركا بينها بل يكفيها تصور وجود كذلك وهذا كما يقال لا يوجد شخص مشترك فيه بين اثنين فإنه لا يقتضي شخصا مشتركا بينهما لاستحالته بل يقتضي تصوره وتحقيقه أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع بل تصوره فقط ويمكن أن يجاب أيضا بأن المراد بالوجود هو المسمى بلفظ الوجود وهذا معنى واحد شامل لجميع الخصوصيات فيحكم عليه حكما عاما لها بهذا العنوان المتناول إياها من غير حاجة إلى أن يبرهن على خصوصية كل واحد منها
الوجه السادس لو لم يكن الوجود معنى واحدا مشتركا لم يتميز الواجب عن الممكن فإنا إذا قلنا على تقدير كون الوجود معاني متعددة

الشيء إما أن يجب وجوده أو لا فقد يجب له الوجود بمعنى ولا يجب بمعنى آخر فيكون الشيء الواحد واجبا ممكنا معا فلا يتميزان أصلا بخلاف ما إذا كان الوجود معنى واحدا لاستحالة أن يكون نسبة المعنى الواحد إلى شيء واحد بالوجوب والإمكان معا بالنظر إلى ذاته
والجواب أن ما ذكرتم مبني على جواز أن يكون لشيء واحد وجودان وكون الشيء الواحد له وجودان وإن كان الوجود نفس الحقيقة أو زائد عليها معلوم الانتفاء بالضرورة لامتناع أن تكون الحقيقة الواحدة حقيقتين أو أن تكون موجودة بوجودين وإن كانا زائدين عليها وأما من قال ليس الوجود مشترك معنى بل هو مشترك بين الكل اشتراكا لفظيا فهم القائلون بأنه نفس الحقيقة في الكل وسيجيء حجتهم وههنا مذهب ثالث نقل عن الكشي وأتباعه وهو أن الوجود مشترك لفظا بين الواجب والممكن ومشترك معنى بين الممكنات كلها وهذا لسخافته لم يلتفت المصنف إليه

المقصد الثالث في الوجود والماهية
في أن الوجود نفس الماهية أو جزؤها أو زائد عليها وفيه مذاهب ثلاثة لأنه إذ لم يقل أحد بإن الوجود جزء الماهية فإما أن يكون نفس الماهية في الكل أي الواجب والممكن جميعا أو زائد عليها في الكل أو يكون نفس الماهية في الواجب زائدا عليها في الممكن أو بالعكس وهذا الاحتمال الأخير لم يقل به أحد فانحصرت المذاهب في ثلاثة
أحدها للشيخ أبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري من المعتزلة أنه نفس الحقيقة في الكل أي الواجب والممكنات كافة لوجوه ثلاثة

الأول لو كان الوجود زائدا على الماهية كانت الماهية من حيث هي هي غير موجودة أي إذا اعتبرت الماهية في حد ذاتها مع قطع النظر عن جميع ما هو خارج عنها لم تكن موجودة فكانت معدومة إذ لا واسطة بينهما فيلزم حينئذ من انضمام الوجود إليها وقيامه بها اتصاف المعدوم الذي هو الماهية بالوجود وأنه تناقض إذ تكون الماهية حينئذ معدومة موجودة معا
والجواب من وجهين
الأول النقص بسائر الأعراض الزائدة على معروضاتها بلا اشتباه فيقال لو كان السواد مثلا زائدا على الجسم كان الجسم من حيث هو غير أسود فإذا انضم إليه السواد لزم اتصاف الجسم الذي ليس بأسود بالسواد فيلزم أن يكون ذلك الجسم أسود وليس بزسود معا وأنه تناقض
الثاني الحل وهو أن الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة كما سيأتي في المرصد الثاني وكل منهما أي من الوجود والمعدوم أمر زائد عليها ينضم إليها فقولنا الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة نعني به أنها ليست عين الوجود ولا عين العدم وأنه ليس شيء منهما داخلا فيها بل كل واحد منهما زائد عليها فإذا اعتبر معها الوجود كانت موجودة وإذا اعتبر معها العدم كانت معدومة وإذا لم يعتبر معها شيء منهما لم يمكن أن يحكم عليها بأنها موجودة أومعدومة ولا نعني به أن الماهية منفكة عنهما معا حتى يلزم الواسطة وتلخيصه أن الوجود ينضم إلى الماهية وحدها لا إلى الماهية المأخوذة مع العدم حتى يلزم التناقض ولا إلى الماهية المأخوذة مع الوجود حتى يلزم كونها موجودة قبل

وبعبارة أخرى ينضم إليها لا بشرط كونها موجودة ولا بشرط كونها معدومة بل في زمان كونها موجودة بهذا الوجود لا بوجود آخر كل ذلك على قياس انضمام الأعراض إلى محلها
الوجه الثاني قيام الصفة الثبوتية بالشيء فرع وجوده أي وجود ذلك الشيء في نفسه ضرورة فإن ما لا ثبوت له في نفسه لم يمكن أن يتصف بصفة ثبوتية ولا شك أن الوجود أمر ثبوتي فلو كان الوجود صفة زائدة قائمة بالماهية لزم أن يكون قبل قيام الوجود بها لها وجود فيلزم كون الشيء موجودا مرتين هذا خلف و أيضا يلزم تقدم الشيء على نفسه إن كان الوجود السابق عين الوجود اللاحق ويعود الكلام في ذلك الوجود السابق إن كان غير الوجود اللاحق بأن يقال لو كن الوجود السابق صفة قائمة بالماهية لكان لها قبل قيام هذا الوجود بها وجود ثالث وتتسلسل الوجودات إلى ما لا نهاية له وهو ممتنع ومع امتناعه فلا بد هناك من وجود لا يكون بينه وبين الماهية وجود آخر قطعا فيكون هو عين الماهية وذلك لأن جميع هذه الوجودات الزائدة التي لا تتناهى عارضة للماهية فتقتضي أن يكون لها وجود قبلها لامتناع اتصاف المعدوم بالصفات الثبوتية وذلك الوجود لا يكون زائدا على الماهية وإلا لم يكن ما فرضناه جميعا جميعا بل يكون عينها وهو المطلوب
والجواب أن الضرورة التي ادعيتموها إنما هي في صفة وجودية هي غير الوجود فإن البديهة تشهد بأن كل صفة ثبوتية سوى الوجود فإن قيامها بالموصوف فرع وجود الموصوف نفسه وأما الوجود فالضرورة فيه على عكس ذلك لأنها تقضي بامتناع مسبوقيته بالوجود لما ذكرتم من لزوم كون الشيء موجودا مرتين ومن لزوم تقدم الشيء على نفسه أو تسلسل الوجودات إلى ما لا نهاية له ولقائل أن يقول هذا الجواب من قبيل التخصيص للأحكام العقلية اليقينية بسبب ما يعارضها كما هو دأب أصحاب العلوم

الظنية في أحكامها العامة فلا يصح قطعا بل الصواب أني قال الضرورة تحكم بأن كل صفة ثبوتية أي موجودة في الخارج فإن قيامها بالموصوف فرع وجوده فيه وليس الوجود صفة موجودة في الخارج بل امتيازه عن معروضه إنما هو في العقل وحده نعم هو ثبوتي بمعنى أنه ليس السلب داخلا في مفهومه لا بمعنى أنه موجود في الخارج فلا يكون مندرجا في ذلك الحكم الضروري هذاه وقد اعترض بأن هذين الوجهين إن صحا لزم منهما أن الوجود ليس زائدا على الماهية لا أنه عينها لجواز أن يكون جزءا منها وإن لم يذهب إليه أحد
الوجه الثالث لو كان الوجود زائدا على الماهية أو جزءا منها لكان له وجود آخر لامتناع اتصافه بالعدم الذي هو نقيضه وحينئذ ننقل الكلام إلى وجود الوجود وتتسلسل الوجودات إلى ما لا يتناهى
والجواب المنع أي لا نسلم الملازمة إذ قد يكون الوجود من المعقولات الثانية فلا يكون موجودا بل معدوما ولا استحالة في اتصاف الشيء بنقيضه اشتقاقا إنما المستحيل اتصافه به مواطأة كما مر وإن سلم أن للوجود وجودا على ذلك التقدير فقد يكون وجود الوجود نفسه لا زائدا عليه ولا جزءا منه وكذلك نقول قدم القدم نفسه وحدوث الحدث نفسه على تقدير كون القدم والحدوث موجودين في الخارج و كذلك أمثاله أي أمثال ما ذكر من وجوب الوجوب وإمكان الإمكان وغير ذلك من الأنواع المتكررة التي سيأتي ذكرها فإن كل وصف يلحق الغير فهو زائد عليه أي على ذلك الغير لكن ثبوته لنفسه ليس أمرا زائدا على نفسه فنقول مثلا كل مفهوم مغاير للقدم فإنه لا يكون قديما إلا بانضمام أمر آخر إليه أعني مفهوم القدم وأما مفهوم القدم على تقدير وجوده فهو قديم بنفسه لا بأمر زائد عليه ينضم إليه فكذلك الماهية موجودة بوجود زائد عليه وأما

فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد عليه ألا ترى أن كل ما يغاير الضوء إنما يكون مضيئا بواسطة قيام الضوء به وأما الضوء فهو مضيء بذاته لا بقيام ضوء آخر به
وثانيها مذهب الحكماء أنه نفس ماهية الواجب وإن زاد في الممكن أما زيادته على الماهية في الممكن فلما سيأتي في المذهب الثالث وأما كونه نفس ماهيةالواجب فلقوله إذ لو قام وجوده بماهيته أي لو لم يكن وجوده نفس ماهيته لكان زائدا عليها إذ لا يجوز أن يكون جزءا منها وإذا كان زائدا عليها وجب أن يقوم بها وإلا لم تكن موجودة أصلا ولو قام وجوده بماهيته لكان وجوده وصفا محتاجا إليها أي إلى ماهيته وإنها غيره والمحتاج إلى الغير ممكن فيكون وجوده ممكنا فله علة وهي أي تلك العلة ليست غير الماهية الواجبية وإلا لكان وجود الواجب معلولا لغيره فلا يكون الواجب واجبا فهي أي تلك العلة الماهية الواجبية والعلة متقدمة تقدما ذاتيا على المعلول بالوجود فتتقدم الماهية الواجبية على الوجود أي على وجودها بالوجود وأنه محال لما مر من الوجوه في الدليل الثاني للشيخ وهي أنه يلزم كون الشيء موجودا قبل وجوده وكونه موجودا مرتين وأنه يلزم إما تقدم الشيء على نفسه أو التسلسل في الوجودات ويلزم أيضا ثبوت المطلوب على تقدير عدمه وذلك لأن الماهية المقتضية لجميع تلك الوجودات المتسلسلة لا بد أن تتقدمها بوجود لا يكون زائدا عليها وإلا لم يكن ذلك الجميع جميعا بل يكون عينها وهو المطلوب
فإن قلت كون وجود الواجب على تقدير الزيادة ممكنا محتاجا إلى علة مبني على أن وجوده موجود خارجي وهو ممنوع
قلت ليس المراد أنه محتاج إلى علة توجده بل المراد أنه على تقدير

زيادته وقيامه بالماهية كان صفة لها فاتصاف الماهية بها لا بد له من علة هي إما الماهية أو غيرها
وأجيب عنه بأن العلة لا شك أنها متقدمة على المعلول وأما أن تقدمها عليه يجب أن يكون بالوجود فممنوع فإن التقدم الثابت للعلة بالقياس إلى المعلول قد يكون بغير الوجود كتقدم الماهية الممكنة على وجودها فإنها قابلة للوجود عندكم والقابل متقدم على مقبوله لأنه علة قابلية له وليس ذلك التقدم بالوجود لما ذكرتم بعينه من لزوم كون وجود الشيء قبل وجوده وكونه موجودا مرتين ومن لزوم تقدم الشيء على نفسه أو التسلسل وإذا كان تقدم القابل لا بالوجود فلم لا يجوز أن يكون تقدم الفاعل كذلك وأيضا فالأجزاء علل مقومة للماهية والمقوم للشيء متقدم عليه ضرورة لكونه علة له وليس كذلك التقدم الثابت للأجزاء بالوجود لأنا نجزم بذلك التقدم للأجزاء وإن قطعنا النظر عن الوجود أي عن وجود الأجزاء والماهية فإنا إذا لاحظنا الماهية من حيث هي بلا اعتبار وجود أو عدم معها جزمنا بتقدم أجزائها عليها فلو كان تقدمها بحسب الوجود لما أمكن ذلك الجزم أصلا لا يقال هو أي تقدم المقوم على الماهية تقدمه عليها بالوجود أيضا لكن لا باعتبار حصول الوجود لهما في الواقع بل على تقدير حصول الوجود لهما فإنا إذا قلنا الواحد مقدم على الاثنين مثلا لم نرد أنهما موجودان معا وللواحد تقدم بحسب الوجود على الاثنين بل نريد أنهما بحيث متى وجدا كان وجود الجزء مقدما على وجود الكل لأن نقول فهذه الحيثية أي كون المقوم بحيث متى وجد هو مع ما يقومه كان سابقا عليه هي التقدم الثابت للجزء بالقياس إلى الماهية وأنها تلحقه أي هذه الحيثية تلحق المقوم لا باعتبار الوجود لأنها ثابتة للمقوم قبل أن يوجد إلا أنا لا نتعقله إلا باعتبار الوجود وهو أي هذا الذي ذكرناه من اتصاف المقوم بالتقدم على المعلول حال عدمه كاف لنا في سند المنع إذ قد ثبت حينئذ أن علة من العلل قد اتصفت بالتقدم على المعلول حال كونها معدومة فلا يكون تقدمها عليه بحسب الوجود فجاز أن

يكون الحال في العلة الموجدة كذلك وما يقال من أنه أراد أن هذه الحيثية ثابتة للجزء حال عدمه فهي من عوارضه ومعلولة لماهيته فتكون ماهيته متقدمة على هذه الحيثية لا باعتبار الوجود وهذا القدر يكفينا في المنع ليس بشيء لأن هذه الحيثية ليست موجودة في الخارج حتى تحتاج إلى علة خارجية وكلامنا فيها وأيضا قوله فهذه الحيثية هي التقدم لا يناسب هذا التوجيه كما لا يخفى أجاب الحكماء بأن المفيد للوجود وهو العلة الفاعلية لا بد وأن يلاحظ العقل له وجودا أو لا حتى يمكنه أن يلاحظ له إفادة الوجود وذلك لأن مرتبة الإيجاد متأخرة عن مرتبة الوجود بالضرورة فإن ما لا يوجد في نفسه لم يتصور منه إيجاد قطعا سواء كان إيجاد غيره أو إيجاد نفسه وحينئذ لا يجوز أن تكون ماهية الواجب من حيث هي مقتضية لوجودها كما جوزه من جعل وجوده زائدا على ماهيته والمستفيد للوجود وهو العلة القابلية لا بد وأن يلحظ العقل له الخلو عن الوجود حتى يمكنه أن يلاحظ له استفادة الوجود وذلك لأن استفادة الحاصل محال كتحصيله فلا يجوز أن يتقدم قابل الوجود ومستفيده عليه بالوجود ضرورة والمقوم للماهية يجب أن يقطع فيه النظر عن وجوده وعدمه فإن تقويمه الماهية ودخوله في قوامها إنما هو بالنظر إلى ذاتها بلا اعتبار وجود وعدم وإلا امتنع الجزم بالتقويم مع التردد في الوجود والعدم فيجب أن يكون تقدمه عليها بحسب الذات دون الوجود فالمنع الذي أوردتموه على وجوب تقدم العلة الموجدة على معلولها بالوجود مندفع لكونه مصادما للضرورة فيكون مكابرة والفرق بين صورة النزاع التي هي العلة الفاعلية و بين ما جعلتموه مستندا للمنع هو العلة القابلية والمقدمة بين قد انكشف عنه غطاؤه فلا يستلزم جوازه جوازه أي جواز المستند جواز المتنازع فيه فلم يبق فيما ذكرنها اشتباه أصلا

وثالثها أنه زائد على الحقيقة في الواجب والممكن جميعا
فههنا بحثان
الأول أنه زائد على الماهية في الممكن لوجوده أربعة
الأول أن الماهية الممكنة من حيث هي هي تقبل العدم وإلا أي وإن لم تقبل العدم ارتفع عنها الإمكان واتصفت بالوجوب الذاتي و لا شبهة في أن الماهية الممكنة حال كونها مأخوذة مع الوجود تأباه وإلا جاز أن تكون موجودة معدومة معا ولو كان الوجود نفس الماهية الممكنة أو جزءها لم تكن كذلك بل كانت تأبى العدم من حيث هي هي أيضا أما على تقدير كون الوجود نفسها فلأن الوجود يأبى قبول نقيضه وأما على تقدير كونه جزءا لها فلأن الماهية حينئذ تكون من حيث هي هي مأخوذة مع الوجود فلا تقبل العدم لما مر
وأجيب عن هذا الوجه بأنك إن أردت بقبول العدم أنها أي الماهية الممكنة تثبت في الخارج خالية عن الوجود متصفة بالعدم فممنوع لأن الماهية حال العدم لا ثبوت لها في نفسها عندنا بل هي نفي صرف وإن أردت بقبولها العدم ارتفاعها بالكلية فلا نسلم أنها لو كانت نفس الوجود أو كان الوجود جزءها لما قبلته أي لما قبلت الماهية من حيث هي هي العدم وذلك لأن الوجود نفسه يرتفع بالكلية لأنه إذا ارتفع الماهية الممكنة فقد ارتفع وجودها قطعا إذ لا يجوز قيام ذلك الوجود بذاته ولا بغير تلك الماهية ولو قام بها لم تكن مرتفعة بل موجودة وإذا جاز ارتفاع الوجود بالكلية واتصافه اشتقاقا بنقيضه الذي هو العدم جاز ذلك في الماهية على تقدير كون الوجود نفسها
الوجه الثاني أنا نعقل الماهية الممكنة كالمثلث مثلا مع الشك

في وجودها فلا يكون الوجود نفسها ولا جزءها لما سيصرح به لا يقال الشك إنما يتصور في وجودها الخارجي دون الوجود الذهني فإنه أي الوجود الذهني نفس التعقل والتصور فإذا تعقلت الماهية كانت موجودة في الذهن فكيف يشك بعد تعقلها في وجودها الذهني فاللازم مما ذكرتم أن الوجود الخارجي ليس نفس الماهية ولا جزءها والكلام في الوجود المطلق وأنه زائد على الماهية سواء كان وجودا خارجيا أو ذهنيا فالدليل قاصر عن المدعي لأنا نقول على تقدير تسليم الوجود الذهني لا قصور فيه إذ تحقق الوجود الذهني حال كون الماهية معقولة متصورة لا يمنع الشك فيه لأن حصول الشيء في الذهن لا يستلزم تعقل ذلك الحصول والحكم بثبوته له فإن الشعور الشيء غير الشعور بذلك الشعور وغير مستلزم له على وجه لا يشك فيه ولذلك اختلف فيه أي في الوجود الذهني ومن أثبته أثبته ببرهان لا بكونه معلوما بالضرورة ولو كان تحقق الوجود الذهني مانعا من الشك فيه وموجبا للجزم به لما أنكره عاقل ولما احتيج إلى برهان وأيضا فالماهية الخارجية أي المتحققة في الخارج إذا لم تكن معقولة لأحد خالية عن الوجود الذهني فيغايرها فلا يكون نفسها ولا جزءها أيضا

فبهذا يتم الجزء الآخر من المدعي ولا يمكن أن يقال الماهية الموجودة في الذهن خالية عن الوجود الخارجي فيكون زائدا عليها أيضا إذ يتوجب عليه أنا لا نسلم حصول الماهية في الذهن وقد قال بعض الفضلاء يعني القاضي الأرموي حاصل الدليل الذي هو الوجه الثاني أنا نعلمه أي الممكن كالمثلث مثلا تصورا فإن هذا معنى كون الماهية الممكنة معقولة ولا نعلمه أي وجود الممكن تصديقا لأن الشك في الوجود ينافي التصديق به لا تصوره فيصير الدليل هكذا نعلم الماهية تصورا ولا نعلم وجودها تصديقا فلا ينتج إذ الوسط غير مكرر وليس له ورود إذ الاستدلال ليس بما توهمه هذا الفاضل بل بأنا نشك في ثبوته أي ثبوت الوجود للماهية المعقولة ولا شيء من الماهية وجزئها مما يشك في ثبوته للماهية لامتناع الشك في ثبوت الشيء لنفسه وفي ثبوت ذاتيته له فلا يكون الوجود نفس الماهية ولا جزءها لكن يرد على هذا أنه إنما لا يجوز الشك في الجزء إذا كانت الماهية معقولة بالكنه ولا نسلم أن شيئا من الماهيات معقول كذلك وأيضا المثال الجزئي لا يصحح قاعدة كلية فيجوز أن يكون بعض مالم نتعقلها من الماهيات بحيث لو تعقلت بخصوصها لم يشك في وجودها فما ذكرتموه إنما يصلح لإبطال قول من ادعى أن كل وجود نفس الماهية لا لإثبات أن كل وجود زائد عليها
الوجه الثالث لو كان الوجود نفس الماهية لما أفاد حمله عليها فائدة معنوية أصلا بل كان يعد هذرا وكان قولنا السواد موجود مع كونه مفيدا فائدة معنوية معتدا بها كقولنا السواد سواد والموجود موجود وهو مما لا يعتد به والأظهر أن يقال وكأن قولنا السواد موجود كقولنا السواد ذو سواد والوجود ذو وجود قيل ولو كان الوجود جزءا لكان قولنا السواد موجود كقولنا السواد لون أو ذو لون وليس فيه فائدة جديدة إذا كان السواد معقولا بالكنه بخلاف حمل الوجود عليه
الوجه الرابع أنه لو لم يكن الوجود زائدا على الماهية لكان إما نفسها أو جزءها والأول باطل لأنه أي الوجود مشترك لما مر دونها أي

دون الماهية لأن حقائق الموجودات متخالفة بالضرورة وما يقال من أن الكل ذات واحدة تتعدد بحسب الأوصاف لا غير فالمتقيدون بطور العقل يعدونه مكابرة لا يلتفت إليها وكذا الثاني باطل إذ لو كان الوجود جزءا للماهيات لكان أعم الذاتيات المشتركة بين الموجودات إذ لا ذاتي لها أعم منه فكان جنسا لها إن كان محمولا عليها وإلا كان جزءا مشتركا مثل الجنس وتتمايز أنواعه المندرجة تحته بفصول أو بأجزاء مختصة مثل الفصول هي أيضا موجودة لكونها مقومة وأجزاء للماهيات الموجودة فيكون الوجود جنسا لها أي لتلك الفصول أيضا إذ الفرض أنه جنس للموجودات فلها أي فللفصول فصول أخر كذلك أي موجودة أيضا ويلزم التسلسل وترتب أجزاء الماهية الواحدة إلى غير النهاية وأنه محال إذ المركب لا بد له من الانتهاء إلى البسيط لأن البسيط مبدأ المركب فلو انتفى انتفى المركب قطعا والكثرة ولو كانت غير متناهية لا بد فيها من الواحد لأن مبدأ الكثرة فلو انتفى انتفت الكثرة أيضا فقد وجب أن يوجد في تلك الفصول المترتبة إلى ما لا نهاية له فصل هو وسيط وواحد فتنقطع به تلك السلسلة التي فرضت غير متناهية وأيضا فالموجود إما جوهر فلا يكون جزءا للعرض أو عرض فلا يكون جزءا للجوهر فقد بطل كونه جزءا للموجودات بدليل ثان
والجواب عن الوجه الرابع أن يختار كون الوجود جزءا ويجاب عن الدليل الأول بأن يقال يجوز أنه قد يكون جنسا للأنواع أي أنواع الموجودات عرضا عاما للفصول كالجوهر فإنه جنس للأنواع المندرجة تحته عرض عام لفصولها بل كل جنس بالقياس إلى الفصل الذي يقسمه عرض

عام له وإنما جاز ذلك لأن المدعي هو أن كل وجود زائد ونقيضه سلب جزئي فجاز أن يكون الوجود داخلا في بعض الماهيات دون بعض فلا تسلسل ويجاب عن الدليل الثاني بأن يقال قوله الموجود إما جوهر أو عرض قلنا لا جوهر ولا عرض فإنهما أي الجوهر والعرض من أقسام الموجود والوجود ليس من أقسام الموجود لاستحالة أن يكون الشيء مندرجا تحت المتصف بذلك الشيء
قال المصنف والتحقيق أن هذه الوجوه التي استدل بها على كون الوجود زائدا على ماهية الممكن إنما تفيد تغاير المفهومين أي مفهوم الوجود ومفهوم السواد مثلا دون تغاير الذاتين أي ذات الوجود وذات السواد مثلا والنزاع إنما وقع فيه أي في تغاير الذاتين لا في تغاير المفهومين فإن عاقلا لا يقول مفهوم السواد هو بعينه مفهوم الوجود بل يقول العاقل إن ما صدق عليه السواد من الأمور الخارجية هو بعينه ما صدق عليه الوجود وليس لهما أي للوجود والسواد هويتان متمايزتان في الخارج تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد القائم بالجسم فإن للسواد هوية ممتازة عن هوية الجسم بحسب الخارج وقد قامت الأولى بالثانية و ما ذكره من أن ما صدق عليه أحدهما هو عين ما صدق عليه الآخر وأنه ليس لهما هويتان متمايزتان هو الحق المطابق للواقع وإلا لكان للماهية هوية ممتازة في الخارج مع قطع النظر عن الوجود وكان للوجود أيضا هوية أخرى حتى يمكن قيامها بهوية السواد في الخارج كما أن للجسم هوية خارجية مع قطع النظر عن السواد وللسواد هوية أخرى حتى أمكن قيام السواد بالجسم في الخارج فكان لها أي للماهية قبل انضمام الوجود إليها وجود فيلزم ما مر من المحذورات وهو معنى كلام الشيخ أبي الحسن الأشعري وفحوى دليله لأنه يدل على امتناع كون الوجود متمايز

الهوية عن هويات الماهيات الموجودة وفيه بحث لأن ما ذكره يدل على أن الوجود والموجود لا يتمايزان في الخارج كتمايز السواد والأسود إلا أن هذا لا يستلزم أن تكون هوية الوجود في الخارج عين هوية الموجود كالسواد مثلا حتى يكون ما صدق عليه أحدهما هو عين ما صدق عليه الآخر لجواز أن يكون صدق عدم الامتياز بأن لا يكون للوجود هوية خارجية لكونه من المعقولات الثانية كيف ولو اتحد الوجود بالسواد ذاتا في الخارج لكان محمولا علىتلك الذات مواطأة كالسواد وأيضا لم يكن لأحد شك في أن الوجود موجود كما لا شك في أن السواد موجود وبالجملة فالهوية الثابتة في الأعيان هوية السواد والوجود عارض لها ويمتاز عنها في العقل فقط فاشتق منه الموجود المحمول على تلك الهوية بالمواطأة فهذا القدر مسلم وإما أن تكون تلك الهوية ذات الوجود وماهيته المتعينة كما هي ذات السواد وماهيته المتعينة فممنوع نعم لما أثبت الحكماء الوجود الذهني فإنهم وإن وافقوه في ذلك أي وافقوا الشيخ في أن الوجود الخارجي لا يمتاز عن الماهية في الخارج بل هما متحدان هوية قالوا بانه أي الوجود يغاير الحقيقة الخارجية ذهنا فإنه إذا تصور الماهية الموجودة في الخارج فصلها العقل إلى أمرين ماهية ووجود خارجي فيحصل هناك صورتان مطابقتان للماهية الخارجية على قياس ما قيل في الجنس والفصل ثم استشهد على أنهم وافقوا الشيخ في الاتحاد بحسب الخارج وإن خالفوه في التقارير بحسب الذهن بقوله فصرح ابن سينا في الشفاء أنه من المعقولات الثانية فليس في الأعيان عين هو وجود أو شيء إنما الموجود أو الشيء في الخارج جواد أو إنسان أو غيرهما من الحقائق فهذه الماهيات موجودات عينية متأصلة في الوجود وأما الوجود والشيئية فلا تأصل لهما في الأعيان بل

هما من المعقولات الثانية التي تعرض للمعقولات الأولى من حيث أنها في الذهن ولا يحاذي بها أمر في الخارج وذلك أي الوجود في كونه من المعقولات الثانية كالحقيقة والتشخص والذاتي والعرضي فإن مفهومات هذه الألفاظ معقولات ثانية لا وجود لها في الخارج فليس في الأعيان شيء هو حقيقة مطلقة أو تشخص مطلق أو ذاتي أو عرضي كذلك بل هذه مفهومات عارضة في العقل للمعقولات الأولى ولا يذهب عليك أن هذا الكلام من ابن سينا تصريح بأن ليس للوجود هوية خارجية كما للماهيات وإلا لكان متأصلا في الوجود لا معقولا ثانيا
قال المصنف فإن النزاع في أن الوجود زائد أو ليس بزائد راجع إلى النزاع في الوجود الذهني فمن لم يثبته كالشيخ قال إن الوجود الخارجي عين الماهية مطلقا ومن أثبته قال الوجود الخارجي زائد على الماهية في الذهن فمن ادعى من المتأخرين في أن الوجود زائد مع أنه ناف للوجود الذهني لم يكن على بصيرة في دعواه هذه
البحث الثاني أن الوجود زائد على الماهية في الواجب لوجوه
الأول لو لم يكن وجود الواجب مقارنا لماهيته بل كان موجودا مجردا قائما بذاته هو عين ماهية الواجب فتجرده عن الماهية وقيامه بذاته إما لذاته فيكون كل وجود مجردا لأن مقتضى ذات الشيء لا يختلف ولا يتخلف عنه فيكون وجود الممكن أيضا مجردا عن الماهية وقد أبطلناه في البحث الأول وإما لغيره فيكون تجرد واجب الوجود لعلة منفصلة فلا يكون الواجب الذي هو ذلك الوجود المجرد واجبا لاحتياجه في تجرده وقيامه بذاته إلى غيره سواء كان ذلك لغير وجوديا أو عدميا هذا خلف
الوجه الثاني أن الواجب مبدأ الممكنات كلها فلو كان هو الوجود المجرد القائم بذاته فالمبدأ للممكنات إما الوجود وحده أو هو مع قيد التجرد والأول يقتضي أن يكون كل وجود مبدأ لما الواجب مبدأ له فيكون كل شيء من الأشياء الموجودة مبدأ لكل شيء منها حتى لنفسه

وعلله لأن الوجودات متساوية متماثلة الماهية وبطلانه أظهر من أن يخفى والثاني يقتضي أن يكون التجرد وهو عدم العروض جزءا من مبدأ الوجود أي فاعله وأنه محال بديهة ومؤد إلى انسداد باب إثبات الصانع لأنه لما جاز أن يكون المركب من العدم موجدا مع كونه معدوما جاز أن يكون العدم الصرف موجدا أيضا لا يقال لم لا يجوز أن يكون التجرد الذي هو عدمي شرطا لتأثره لا جزءا من المؤثر فلا يلزم ذلك المحال لأنا نقول فإذن كل وجود مبدأ لما الواجب مبدأ له إلا أنه تخلف عنه الأثر لفقد شرطه وفي بعض النسخ لفقد شرط أي شرط يمكن اجتماعه معا لمساواته وجود الواجب الذي جامعه الشرط ويعود المحال وهو جواز كون كل شيء مبدأ لكل شيء حتى لنفسه وعلله وقد أجاب عنهما أي عن هذين الوجهين بعض الفضلاء بأن النزاع في أن وجود الواجب عين ماهيته أم لا ليس في الوجود المشترك بين الموجودات إذ لا يقول عاقل بأن الوجود المطلق المشترك عين حقيقته تعالى وإلا لكان حقيقته أمورا متعددة مقارنة للممكنات بل في وجوده الخاص المخالف في الماهية لسائر الوجودات الخاصة المشارك لها في مطلق مفهوم الوجود فإن ما صدق عليه أنه وجود أي ما يحمل عليه الوجود مواطأة ليس في الواجب أمرا زائدا بل هو عين ماهية الواجب وقائم بذاته وهو المجرد المقتضى بخصوصية ذاته تجرده عن الماهية وقيامه بذاته وهو المبدأ للممكنات ولا يلزم من ذلك أن يكون سائر الوجودات المخالفة له في الماهية مجردة ومبدأ إنما يلزم هذا إذا كان وجوده مساويا في تمام الماهية لوجودات الممكنات واشتراك الوجود بينها

وإن كان بالتواطؤ لا يستلزم تماثلها لجواز أن يكون أمرا عارضا لها خارجا عن ماهيتها وبهذا القدر ثم الجواب عن الوجهين معا لكنه زاد في التوضيح فقال وأما حصته أي حصة الواجب من مفهوم الكون في الأعيان فزائدة على ماهيته وهذا الجواب لا يشفي غليلا فإنه اعتراف بأن حصة الكون في الأعيان عارض لماهيته تعالى كما أنها عارضة لماهية الممكنات وإلى هذا المعنى أشار الإمام الرازي في المباحث المشرقية حيث قال فإن قيل الوجود الذي يشارك وجود الممكنات في المفهوم لازم لماهية الواجب فيكون قد جعل الوجود في حق واجب الوجود مقارنا لماهيته وهذا ترك لمذهب الحكماء واختيار لما ذكرناه فلا فرق إذن بين الواجب والممكن في كون الوجود زائدا عارضا للماهية إلا أن يثبت أن للممكنات أمرا ثالثا وراء الماهية وحصة الكون في الأعيان هو أي ذلك الأمر الثالث ما صدق عليه أنه وجود ويثبت أيضا أنه أي ذلك الثالث معروض للحصة من الكون في الأعيان عارضة للماهية الممكنة فيظهر الفرق حينئذ بأن في الممكن ثلاثة أمور ماهية وفرد من الوجود عارض لتلك الماهية وحصة من الكون الخارجي عارضة لذلك الفرد وفي الواجب أمرين فرد من الوجود هو عين ماهيته وحصة من الكون عارضة لذلك الفرد فيكون ما صدق عليه الوجود زائدا على الماهية في الممكن وعينا لها في الواجب ولكن لم يقم عليه أي على ذلك الأمر الثالث دليل أصلا بل ولا قال به أحد فإن التزمه في الممكن ملتزم إظهارا للفرق التزمنا نحن عدمه في الواجب وقلنا ليس فيه إلا ماهية ليست هي فردا من الوجود كما زعمتم بل هي معروضة لحصة الكون فيكون وجوده أعني تلك الحصة زائدة على ماهيته وطالبناه بإثباته في الممكن هذا ما ذكره وقد عرفت أنت أن حقيقة الجواب هو منع تساوي وجودي الواجب والممكن في تمام الماهية وإن كانا متشاركين في عارض صادق عليهما هو مفهوم الوجود المطلق سواء كان صدقه عليهما تواطأ أو تشكيكا وأن قوله وأما حصته إلى آخره فمزيد

للجواب فالمناقشة في هذه الزيادة بطريق المنع خارجة عن قانون المباحثة وبطريق الإبطال لا تجدي نفعا لبقاء المنع بحاله وستعرف من كلام المصنف ما يدل على أن في الممكن أمورا ثلاثة ولما زيف جواب ذلك الفاضل قال نعم ههنا اعتراضان واردان على الوجهين أشار إلى أولهما بقوله فإن الوجود مقول على أفراده بالتشكيك لا بالتواطىء فإنه في وجود الواجب أولى وأقدم وأقوى فيكون الوجود المقول بالتشكيك عارضا لما يصدق عليه من أفراده إذ الماهية وأجزاؤها لا تكون مقولة بالتشكيك على أفرادها كما اشتهر فيما بينهم فالأشياء التي يصدق عليها أي على كل واحد منها أنه وجود لا موجود يعني الأشياء التي يحمل عليها الوجود مواطئة وهي الوجودات لا الأشياء التي يصدق عليها الوجود اشتقاقا وهي الماهيات فإن تخالفها لا ينفعنا مختلفة بالحقيقة أي يجوز أن يكون كذلك لأن الاشتراك في العارض لا يوجب الاتحاد في الحقيقة فقد يكون هو أي الوجود الخاص الذي في الواجب هو المقتضى للتجرد والقيام بالذات وللمبدئية ولا يلزم مشاركة وجود الممكن له في ذلك الاقتضاء للتجرد والمبدئية لاختلاف الوجودين بالحقيقة وأشار إلى الثاني بقوله وأيضا قلنا أن نطرح عنا مؤنة بيان التشكيك واقتضائه كون المشكك عارضا لما تحته ونقنع بمجرد المنع ونقول وإن سلمنا أن الوجود أمر مشترك معنى بين ما يطلق عليه الوجود فلم لا يجوز أن يكون ذلك المشترك عارضا لأفراده وأن تكون حقائق الوجودات متخالفة بالكنه مع التشارك في العارض فيجب لوجود الواجب ما يمتنع على وجود الممكن من التجرد والمبدئية ويكون الوجود في ذلك كالماهية

والتشخص العارضين لما تحتهما فإنه يجب لبعض ما صدق عليه أحدهما ما يمتنع لبعض آخر منه وذلك لاختلاف ما صدقا عليه بحسب الحقيقة مع الاشتراك فيهما وأقول إذا كانت الوجودات متخالفة الحقائق ومتشاركه في العارض الذي هو الوجود المطلق ففي كل وجود حصة من ذلك العارض ففي الممكنات ماهية معروضة للوجود الخاص الذي هو معروض للحصة فقد ثبت فيها ثلاثة أشياء فهذا الجواب الذي طرح فيه مؤنة التشكيك إذا حقق كان بعينه جواب ذلك البعض من الفضلاء فتأمل دليل آخر وهو الوجه الثالث من الوجوه الدالة على زيادة الوجود في الواجب الوجوب الذاتي إضافة تقتضي في الواجب طرفين أحدهما الماهية والآخر الوجود لأنه عبارة عن اقتضاء الماهية للوجود فيكون وجوده زائدا على ماهيته قلنا كون الوجوب إضافة ممنوع بل هو نفس الماهية لأن الوجوب هو الأمر الذي به يمتاز ذات الواجب عن غيره وذلك الأمر هو ذات الواجب لأنه بذاته ممتاز عن غيره والصواب أن يقال إن فسر الوجوب الذاتي بالاستغناء عن الغير في الوجود كان أمرا سلبيا غير محتاج إلى تحقق شيئين في الواجب وإن فسر باقتضاء الذات للوجود فنقول وجوده الخاص الذي هو ماهيته يقتضي بذاته عارضه الذي هو الوجود المطلق فإن قلت فكذا سائر الوجودات الخاصة مقتضية بذواتها لعارضها فتكون واجبة قلنا تلك الوجودات ليست مستقلة في اقتضاء عارضها لأنها في ذواتها محتاجة إلى غيرها فكذا في اقتضائها المتفرع على ذواتها بخلاف الوجود الذي هو في الواجب فإنه مستغن عما عداه بالكلية إلزام للحكماء القائلين بإن وجود الواجب عين ذاته وهو

الوجه الرابع من تلك الوجوه إلا أنه إلزامي فإن الحكماء اتفقوا على أن الطبيعة النوعية يصح على كل فرد منها ما يصح على الآخر فنقول الوجود طبيعة نوعية مشتركة بين الوجودات فلا تختلف لوازمه فلما ثبت كونه زائدا على ماهيات الممكنات عارضا لها وجب أن يكون في الواجب كذلك وبه أي بما ذكر من أن الطبيعة النوعية لا يجوز اختلاف لوازمها بل يصح على كل فرد منها ما يصح على سائرها أثبت الحكماء الهيولى للفلكيات فإنهم أثبتوها في العناصر بأنها قابلة للانفصال كما ستعرفه ثم قالوا الأفلاك وإن لم تكن قابلة للانفصال إلا أن الصورة الجسمية طبيعة نوعية فلما كانت قاذمة بالهيولى في العنصريات وجب قيامها بها في الفلكيات لأن مقتضى الطبيعة النوعية لا يختلف وبه وأبطلوا المثل المجردة التي قال بها أفلاطون كما سيأتي في مباحث الماهية وأبطلوا أيضا مذهب ديمقراطيس في تركب الأجسام البسيطة الطباع من أجزاء متفقة الحقيقة قابلة للانقسام وهما لا خارجا

والجواب منع كونه أي الوجود طبيعة نوعية بل هو أمر عارض لأفراده المتخالفة الحقائق

المقصد الرابع في الوجود الذهني
لا شبهة في أن النار مثلا لها وجود به تظهر عنها أحكامها وتصدر عنها آثارها من الإضاءة والإحراق وغيرهما وهذا الوجود يسمى وجودا عينيا وخارجيا وأصيلا وهذا مما لا نزاع فيه إنما النزاع في أن النار هل لها سوى ذلك الوجود وجود آخر لا يترتب به عليها تلك الأحكام والآثار أو لا وهذا الموجود الآخر يسمى وجودا ذهنيا وظليا وغير أصيل وعلى هذا يكون الوجود في الذهن نفس الماهية التي توصف بالوجود الخارجي والاختلاف بينهما بالوجود دون الماهية ولهذا قال بعض الأفاضل الأشياء في الخارج أعيان وفي الذهن صور فقد تحرر محل النزاع بحيث لا مرية فيه ويوافقه كلام المثبت والنافي كما ستطلع عليه فلا عبرة بما قيل من إن تحريره عسير جدا احتج مثبتوه وهم الحكماء بأمور
الأول أنا نتصور ما لا وجود له في الخارج أصلا كالممتنع مطلقا واجتماع النقيضين والضدين والعدم المقابل للوجود الخارجي المطلق أي من غير إضافة وتقييد بشيء مخصوص وحمل الإطلاق ههنا على ما يتناول الوجود الذهني لغو ونحكم عليه أي على ما لا وجود له في الخارج بأحكام ثبوتية صادقة ككونها محكوما عليها بالإمكان العام وملزومة أو لازمة لبعض الأشياء وكون الممتنع مثلا أخص من المعدوم وأعم من شريك الباري وكونه متعقلا إلى غير ذلك من الأحكام الإيجابية الصادقة في نفس الأمر سواء كانت صادقة على مفهوم الممتنع أو على ما صدق عليه وأنه أي الحكم على تلك الأمور المتصورة بأحكام ثبوتية صادقة يستدعي ثبوتها

إذ ثبوت الشيء لغيره في نفس الأمر فرع ثبوته أي ثبوت ذلك الغير في نفسه وإذ ليس ثبوت تلك الأمور المتصورة في الخارج فهو في الذهن وهو المطلوب
فإن قلت لو صح هذا الذي ذكرتم من أن المحكوم عليه بالأحكام الثبوتية الصادقة يجب أن يكون موجودا إما خارجا أو ذهنا لصدق قولنا المعدوم المطلق الذي لا وجود له أصلا لا في الخارج ولا في الذهن لا يعلم ولا يخبر عنه لأن كونه معلوما ومخبرا عنه في نفس الأمر يستلزم وجوده في الجملة وإذ لا وجود له أصلا فلا علم ولا إخبار وأنه تناقض لأن المعدوم المطلق صار محكوما عليه باتصافه بعدم العلم والإخبار عنه فيكون معدوما وموجودا في الجملة
قلنا اللازم مما ذكرنا أنه يصدق قولكم الذي ذكرتموه قضية سالبة بمعنى أنه ليس بمعدوم مطلق يعلم ويخبر عنه والسالبة الصادقة لا تقتضي وجود الموضوع بل المقتضى له هو الموجبة الصادقة فلا تناقض لا أنه يصدق بمعنى أنه ثمة أمرا يصدق عليه في نفس الأمر أنه معدوم مطلق وصفته أنه لا يعلم ولا يخبر عنه حتى يكون قضية موجبة معدولة مقتضية لوجود الموضوع فإن عاد وقال لو صح ما ذكرتم لما صدق قولنا المعدوم المطلق مقابل للموجود المطلق قلنا مفهوم المعدوم المطلق من حيث هو هو مقابل للموجود المطلق ومن حيث أنه متصور موجود في الذهن قسم منه ولا استحالة في ذلك أجاب عنه أي عن الأمر الأول الذي يتمسك به الحكماء في إثبات الوجود الذهني الإمام الرازي بمنع أنا نتصور ما لا وجود له في الخارج أصلا بل كل ما نتصوره فله وجود غائب عنا وذلك المتصور إما قائم بنفسه كما يقوله أفلاطون فإنه ذهب إلى أنه لا بد في كل

طبيعة نوعية من شخص مجرد باق أزلي أبدي وما استدل به أرسطو على إبطال هذا الرأي غير صحيح فيكون الاحتمال قائما فيه فيبطل ما ذكرتموه من الدليل ولو حمل قول أفلاطون ههنا على ما نقل من أن صور معلومات الله تعالى قائمة بذواتها لكان أنسب أو قائم بغيره كما يقوله الحكماء فإن الصور أي صور جميع المفهومات مرتسمة عندهم في العقل الفعال فإنه عندهم مبدأ الحوادث في عالمنا هذا فلا بد أن يرتسم فيه صور ما يوجده فإذا التفتت النفس إليها شاهدتها
والجواب أن المرتسم فيها أي في الأمور الغائبة عنا كالعقل الفعال مثلا إن كانت الهويات أي هويات ما يتصوره لزم تحقق هوية الممتنع في الخارج وأنه سفسطة ظاهرة البطلان وإن كان المرتسم فيها هو الصور والماهيات الكلية فهو المراد بالوجود الذهني إذ عرضنا مقصودنا إثبات نوع من التميز للمعقولات التي هي الماهيات الكلية هو غير التميز بالهوية الذي نسميه بالوجود الخارجي سواء اخترعها الذهن أي اخترع الذهن تلك المعقولات فيكون ذلك النوع من التميز لها في ذهننا أو لاحظها أي لاحظ الذهن تلك المعقولات من موضع آخر كالعقل الفعال فيكون ذلك النوع من التميز لها فيه وإنما لم يتعرض لقيام ما نتصوره بنفسه لأن بطلانه أظهر والحاصل أن تلك الأمور المتصورة إذا كانت ممتنعة الوجود في الخارج لم يمكن أن يكون لها وجود أصيل لا قائم بنفسها ولا بغيرها فوجب أن يكون لها وجود ظلي في قوة دراكة وسواء كانت هي النفس الناطقة أو غيرها وهو المطلوب هذا وقد اعترض على متمسكهم بأنه إن أريد بالأمور الثبوتية أمور ثابتة في الخارج فلا نسلم أنا نحكم بها على ما لا وجود له

في الخارج كيف ولو سلم لزم كون المحكوم عليه موجودا في الخارج وإن أريد بها أمور ثابتة في الذهن كان ذلك مصاردة على المطلوب
وأجيب بأن المراد بالثبوتية ما ليس السلب داخلا في مفهومها واحترز بذلك عن الموجبة السالبة المحمول فإنها مساوية للسالبة فلا تقتضي وجود الموضوع وعن المعدولة أيضا إذا جوز صدقها مع عدم الموضوع واعترض أيضا بأنك إن أردت أن تلك الأمور الثبوتية ثابتة في الخارج للموضوع المذكور فهو ممنوع كيف ولو صح ذلك كان الموضوع موجودا في الخارج وإن أردت أنها ثابتة له في الذهن كان ذلك فرعا لوجود الموضوع فيه فيكون مصادرة
وأجيب بأنا نريد أنها ثابتة للموضوع في نفس الأمر وذلك موقوف على وجود الموضوع فيها وإذ ليس في الخارج فهو في الذهن
الأمر الثاني من الأمور الدالة على الوجود الذهني أن يقال من المفهومات ما هو كلي أي متصف بالكلية التي هي صفة ثبوتية فلا بد أن يكون الموصوف بها موجودا وليس في الخارج إذ كل موجود في الخارج فهو مشخص متعين في حد اذته بحيث يمتنع فرض اشتراكه فيكون موجودا في الذهن ويرد عليه أن الكلية صفة سلبية لأنها عدم المنع من فرض الشركة وإن سلم كونها ثبوتية كانت داخلة في الاستدلال الأول فلا وجه لجعلها استدلالا على حدة وقد يقال المفهومية صفة ثبوتية اتصف بها الكلي فيكون موجودا وليس في الخارج بل في الذهن ويرد عليه السؤال الثاني وقد يقال أيضا للحقائق الكلية كالإنسان مثلا وجود بالضرورة وليس في الأعيان بل في الأذهان ويتجه عليه أن دعوى الضرورة في كون الحقائق أنفسها موجودة غير مسموعة نعم أفراد هذه الحقائق موجودة في الخارج بالضرورة

الأمر الثالث لولا الوجود الذهني لم يمكن أخذ القضية الحقيقية للموضوع وهي التي حكم فيها على ما يصدق عليه في نفس الأمر الكلي الواقع عنوانا سواء كان موجودا في الخارج محققا أو مقدرا أو لا يكون موجودا فيه أصلا والتالي باطل وقد أشار إلى بيان الملازمة وبطلان التالي معا بقوله فإنا إذا قلنا الممتنع معدوم فلا نريد به أن للممتنع أي ما يصدق عليه الممتنع في الخارج معدوم فيه قطعا أي لا نريد ذلك قطعا إذ ليس في الخارج ما يصدق عليه الممتنع أصلا بل نريد به أن الأفراد المعقولة للمتنع أي ما يصدق عليها الممتنع في العقل من الأفراد المعقولة للمعدوم أي يصدق عليها في العقل بحسب نفس الأمر أنها معدومة في الخارج فلو لم يكن للممتنع أفراد معقولة موجودة في العقل لم يصدق عليها الحكم الإيجابي فلذلك قال وهذا بالحقيقة عائد إلى الأول والحاصل أن قولنا الممتنع معدوم في الخارج قضية صادقة وليست خارجية بل حقيقية مفسرة بما ذكرناه لا بما اشتهر من أن الحكم فيها على الأفراد الخارجية فقط إما محققة أو مقدرة فلولا أن يكون للممتنع أفراد موجودة في الذهن لم يصدق هذا الحكم الإيجابي في هذه القضية الحقيقية ويرد عليه أن مفهوم المعدوم أمر سلبي وقد يقال لولا الوجود الذهني لبطلت الحقيقة الموجبة الكلية كقولك كل مثلث تساوي زواياه قائمتين إذ ليس الحكم فيها مقصورا على الأفراد الخارجية بل يتناول ما عداها من الأفراد التي يصدق عليها الموضوع في نفس الأمر فلو لم يكن لما عداها وجود ذهني لم يصدق عليها حكم إيجابي واحتج نافيه وهم جمهور المتكلمين فإن بعضهم قالوا بالوجود الذهني بوجهين
أحدهما لو اقتضى تصور الشيء حصوله في ذهننا لزم كون الذهن حارا باردا مستقيما معوجا لأنا إذا تصورنا الحرارة فقد حصلت الحرارة في ذهننا ولا معنى للحار إلا ما قامت به الحرارة وكذا الحال في البرودة

والاستقامة والاعوجاج لكن هذه الصفات منتفية عن الذهن بالضرورة وأيضا يلزم اجتماع الضدين إذا تصور الضدان معا وحكم عليهما بالتضاد
وثانيهما أن حصول حقيقة الجبل والسماء مع عظمهما في ذهننا مما لا يعقل وأجاب عنه أي عما ذكر من الوجهين الحكماء بأن الحاصل في الذهن صورة وماهية موجودة بوجود ظلي لا هوية عينية موجودة بوجود أصيل والحار ما يقوم به هوية الحرارة أي ماهيتها موجودة بوجود عيني لا ما يقوم به ماهية الحرارة موجودة بوجود ذهني فلا يلزم اتصاف الذهن بتلك الصفات المنفية عنه ولا اجتماع الضدين أيضا لأن التضاد من أحكام الأعيان والهويات دون الصور والماهيات وبأن الذي يمتنع حصوله في الذهن هو هوية الجبل والسماء وغيرهما من الأشياء فإن ماهيتها موجودة بوجود خارجي يمتنع أن يحصل في أذهاننا وأما مفهوماتها الكلية وماهياتها الموجود بالوجودات الظلية فلا يمتنع حصولها في الذهن إذ ليست موصوفة بصفات تلك الهويات لا يقال الحاصل في الذهن إن كان مساويا لها أي للهوية عاد الإلزام وتم الدليلان معا وإلا لم تكن هي الهوية حاصلة في ذهننا معقولة لنا لأنا نقول الحاصل في الذهن نفس الماهية التي لتلك الهوية وأنه أي ذلك الحاصل ليس مساويا للهوية فإن الماهية كلية والهوية جزئية فيتخالفان في الحقيقة والأحكام إذ في الهويات أمور زائدة على الماهيات نعم ذلك الحاصل ماهيتها أي ماهية تلك الهوية ولا معنى للماهية إلا ذلك أي ما يحصل في العقل بحذف المشخصات من الهوية فلا يلزم أن لا تكون الهوية حاصلة معقولة وإذا كان الحاصل في الذهن نفس ماهية الهوية فقولك هل يساويها أي هل يساوي الحاصل الهوية أولا إن اردت به أنه هل يساوي نفس الهوية اخترنا أنه ليس مساويا لها ولا محذور كما عرفت وإن أردت أنه هل يساويها في الماهية أو لا فهو كلام خال عن التحصيل إذ معناه أن ماهية الهوية هل تساوي ماهية

أو لا وبالجملة فالصور الذهنية كلية كانت كصور المعقولات أو جزئية كصور المحسوسات مخالفة للخارجية في اللوازم المستندة إلى خصوصية أحد الوجودين وإن كانت مشاركة لها في لوازم الماهية من حيث هي هي وما ذكرتم امتناعه هو حكم الخارجي لأن منشأه الوجود العيني فعين الحرارة يمتنع حصولها في الذهن ويضاد عين البرودة وعين الجبل يمتنع حصوله في الذهن فلم قلتم أن الذهني كذلك فهذا القدر من الجواب الإجمالي يكفينا ولا حاجة بنا إلى ذلك التفصيل المخصوص بوجود الكليات في الذهن

المقصد الخامس المعدومات هل تتمايز أم لا
الموجودات الخارجية متمايزة في الخارج بلا اشتباه وتمايز الوجودات الخارجية بحسب أنفسها مما لا يشك فيه أيضا وتمايزها بحسب الخارج متفرع على كونها موجودة فيه وأما المعدومات التي من جملتها العدمات ففي تمايزها وتعددها اللازم للتمايز خلاف منهم من أثبته فإن عدم الشرط يوجب عدم المشروط وعدم الضد عن محل يصحح وجود الضد الآخر فيه دون غيرهما أي غير عدمي الشرط والضد فإن عدم غير الشرط لا يوجب عدم المشروط وعدم غير الضد لا يصحح وجود الضد الآخر ولولا التمايز والتعدد اللازم منه بين العدمات لم تختلف مقتضياتها ولا أحكامها من كون بعضها ملزوما لآخر أو لازما له أو مساويا أو مباينا إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ومنهم من نفاه لأن المعدومات والعدمات نفي صرف لا إشارة إليها أصلا وكل ما هو متميز فله وجود إما في الذهن وإما في الخارج لأن التميز صفة ثبوتية لا بد أن يكون الموصوف

بها ثابتا في الجملة وما يكون ثابتا كذلك لم يكن معدوما فلا شيء من المعدوم بتميز أصلا ولو اقتصر على قوله فله وجود ولم يتعرض للوجود الذهني ونفيه عن المعدوم الذي كلامنا فيه لكان أنسب بقوله والحق فيه أي في الخلاف في تمايز المعدوم أنه فرع الخلاف في الوجود الذهني وذلك لأنه لا تمايز بين المعدومات إلا في العقل فإن تلك الإحكام إنما تتصف بها المعدومات بحسب نفس الأمر في العقل لا في الخارج إذ لا ثبوت للمعدوم الخارجي في الخارج حتى يمكن اتصافه فيه بشيء فلا تمايز بينها إلا في العقل فإن كان ذلك التمايز الحاصل لها في العقل لوجود لها في الذهن لم يتصور معدوم مطلقا بل كل ما يتصور من المعدومات والعدمات ومفهوم المعدوم المطلق والعدم المطلق كان موجودا في الذهن فالامتياز الحاصل هناك ثابت للموجود لا للمعدوم المطلق الذي لا وجود له أصلا وإلا تصور ما هو معدوم مطلقا لا وجود له خارجا ولا ذهنا مع أنه متصف بالامتياز فالمعدومات متمايزة

المقصد السادس في أن المعدوم شيء أم لا
وأنها أي هذه المسألة من أمهات المسائل الكلامية إذ يتفرع عليها أحكام كثيرة من جملتها أن الماهيات غير مجعولة وسيرد عليك بعضها عن قريب
قال الإمام الرازي هذه المسألة متفرعة على القول بزيادة الوجود على الماهية فإن القائل باتحادهما لا يمكنه القول بها قيل ويمكن أن يعكس الحكم فإن من قال بها يجب عليه القول بزيادة الوجود قطعا فقال

غير أبي الحسين البصري وأبي الهذيل العلاف والكعبي ومتبعيه من البغداديين من المعتزلة إن المعدوم الممكن شيء أي ثابت متفرد في الخارج منفك عن صفة الوجود فإن الماهية عندهم غير الوجود معروضة له وقد تخلو عنه مع كونها متقرر متحققة في الخارج وإنما قيدوا المعدوم بالممكن لأن الممتنع منه منفي لا تقرر له أصلا اتفاقا ومنعه الأشاعرة مطلقا أي في المعدوم الممكن والممتنع جميعا فقالوا المعدوم الممكن ليس بشيء كالمعدوم الممتنع لأن الوجود عندهم نفس الحقيقة فرفعه رفعها أي رفع الوجود رفع الحقيقة فلو تقررت الماهية في العدم منفكة عن الوجود لكانت موجودة معدومة معا فلا يمكنهم القول بأن المعدوم شيء وبه أي بما ذهب إليه الأشاعرة قال الحكماء أيضا فإن الماهية الممكنة وإن كان وجودها زائدا على ذاتها إلا أنها لا تخلو عندهم عن الوجود الخارجي أو الذهني يعني أنها إذا كانت متقررة متحققة فهي موجودة بأحد الوجودين لأن تقررها وتحققها عين وجودها وقيل هي مطلقا لا تخلو عنهما لأن كل ماهية يجب كونها محكوما عليها بأنها ممتازة عن غيرها أو لأنها ثابتة في علم الملأ الأعلى مع ما لها من الأحكام كما هو قاعدتهم نعم المعدوم في الخارج يكون عندهم شيئا في الذهن وإما أن المعدوم في الخارج شيء في الخارج أو المعدوم المطلق شيء مطلقا أو المعدوم في الذهن شيء في الذهن فكلا فالشيئية عندهم تساوق الوجود وتساويه وإن غايرته لأن قولنا السواد موجود يفيد فائدة يعتد بها دون قولنا السواد شيء وللنافي أي للذي ينفي كون المعدوم ثابتا وجوه

الأول الثبوت والتحقق والتقرر أمر زائد على الذات أي الماهية لاشتراكه بين الذوات المعدومة دونها أي دون خصوصية الذات فإن ذات السواد مثلا ليست مشتركة بينه وبين البياض فلا يكون الثبوت نفس الذات المعدومة ولا جزءها وإلا لزم التسلسل ولإفادة الحمل فإن قولنا السواد ثابت يفيد فائدة بخلاف قولنا السواد سواد ولا معنى للوجود إلا هو أي الثبوت فلو كان المعدوم ثابتا لكان موجودا هذا خلف فإن قلت يكفي أن يقال لا معنى للوجود سوى الثبوت فلا حاجة إلى أن الثبوت زائد على الذات والاستدلال عليه بالاشتراك وإفادة الحمل قلت في هذه المقدمة تخييل للاتحاد بين الوجود والثبوت لأن كلا منهما زائد على الذات ومشترك ومفيد قلنا بل هو أي الثبوت أعم من الوجود فلا يلزم من ثبوت المعدوم في الخارج وجوده فيه فإن فسر الثبوت به أي بالوجود فلفظي أي فالنزاع بيننا وبينكم لفظي لأنا نقول المعدوم ثابت ونريد به معنى أعم من الوجود وأنتم تقولون ليس بثابت بمعنى أنه ليس بموجود
الوجه الثاني الذوات المتقررة عندكم في العدم غير متناهية لأنكم تقولون بإن الثابت من كل نوع من الأنواع الممكنة أفراد غير متناهية مع أنها أي تلك الذوات المتقررة إذا أخذت بدون ما قد خرج منها إلى الوجود كانت أقل من الكل المتناول لما خرج ولما لم يخرج بمتناه هو ما خرج منها إلى الوجود فإن الموجودات متناهية اتفاقا والأكثر من غيره بمتناه متناه ببرهان التطبيق لأنا نطبق الجملة الناقصة التي هي الذوات الباقية على العدم على الجملة الزائدة التي هي مشتملة على تلك الذوات مع الموجودات فلا بد أن تنقطع الناقصة فتكون متناهية والزائدة إنما زادت عليها بمتناه فتكون أيضا متناهية فالكل الذي هو الأكثر متناه وقد فرض غير متناه هذا خلف ونقض هذا

الوجه بمراتب الأعداد فإنها غير متناهية مع أنه إذا فصل عنها عدد متناه حصل هناك جملتان إحداهما زائدة على الأخرى بمتناه فيلزم أن يكون الأكثر الذي هو مراتب الأعداد متناهيا وهو باطل وإن اكتفى بمجرد الاتصاف بالقلة والكثرة وادعى أنه يستلزم التناهي نقض أيضا بمعلومات الله تعالى فإنها زائدة على مقدوراته مع أن كل واحدة منهما غير متناهية
الوجه الثالث الذوات المتقررة في حال العدم إما واجبة التقرر فتكون واجبة مع أنها فرضت ممكنة ويلزم أيضا تعدد الواجب أو لا تكون واجبة التقرر بل ممكنة التقرر وكل ممكن محدث فتكون تلك الذوات محدثة مسبوقة بالنفي وعدم الثبوت وهو المطلوب فقيل الواجب ما يجب وجوده لا ما يجب تقرره الذي هو أعم من الوجود
الوجه الرابع أن العدم صفة نفي أي صفة منفية غير ثبوتية لأنه رفع الوجود والموصوف بصفة النفي نفي أي منفي غير ثابت كما أن الموصوف بصفة الإثبات أي بالصفة الثبوتية إثبات أي مثبت غير منفي فالمعدوم المتصف بالعدم منفي قال الآمدي هذا المسلك وإن حوم على معناه جمع من فضلاء المتكلمين كمحمد الشهرستاني وغيره إلا أنه هكذا مقررا محررا لم نجده لغيرنا وهو في غاية الأحكام والحسن وأنه في غاية

الضعف والقبح إذ لا نسلم أن المتصف بصفة النفي نفي لجواز اتصاف الموجود بالسلب أي بالصفة السلبية التي لا ثبوت لها في نفسها كاتصاف زيد بالعمى وأما قوله كما أن الموصوف بصفة الإثبات إثبات فقياس تمثيلي من غير جامع بين المقيس والمقيس عليه مع ظهور الفرق بينهما لأن ثبوت الشيء لغيره فرع على ثبوت ذلك الغير في نفسه فلا يجوز أن يتصف المعدوم بصفة ثبوتية بل لا بد أن يكون الموصوف بها ثابتا في نفسه وليس انتفاء الشيء عن غيره فرعا عن انتفاء ذلك الغير في نفسه فجاز أن يتصف الموجود بصفة سلبية فلا يجب أن يكون الموصوف بها منتفيا في نفسه
الوجه الخامس المعدومات الثابتة في العدم لو تباينت لذواتها كان كل شيئين مختلفين بالذات فيلزم أن يكون كل فردين موجودين من نوع واحد كسوادين مثلا متباينين متخالفين بالذات لأن مقتضى ذوات الأشياء لا يختلف ولا يتخلف عنها وإلا أي وإن لم تتباين لذواتها فإن اتحدت لذواتها لم تتكثر في الوجود بل كانت متصفة بالوحدة التي تقتضيها ذواتها فيلزم أن يكون النوع الواحد كالسواد مثلا منحصرا في فرد واحد وإلا أي وإن لم تتحد لذواتها أيضا كما لم تتباين لذواتها فالمعدوم حال العدم مورد للمتزايلات أي الصفات المتعاقبة فإن ذات المعدوم لما لم تقتض الوحدة ولا الكثرة اللازمة للتباين جاز أن يعرض له كل واحدة منهما بسبب أمر خارج عنه ويلزم السفسطة أعني جواز تعاقب الحركات والسكنات على المعدوم قلنا قولك لذواتها إن أردت به لماهياتها اخترنا أنها لا تتباين لذواتها ولا تتحد أيضا لذواتها ولا يلزم كونها موردا للمتزا يلات إذ التميز إنما يعرض للهويات الثابتة في العدم وكل ما تمتاز به هوية عما عداها فإنه لازم لها فلا توارد ولا تزايل بالنسبة إلى الهويات نعم يلزم أن تكون الماهية المشتركة بين تلك الهويات مقارنة لأمور بها يمتاز

بعض افرادها عن بعض وأما أن ذلك التقارن على سبيل التوارد والتنزيل فلا فإن قلت إذا لم تقتض الماهية الواحدة ولا الكثرة جاز تعاقبهما عليها لأمر خارج عنها قلت هما وصفان اعتباريان فلا يلزم من جواز تعاقبهما جواز تعاقب الصفات الموجودة حتى تلزم السفسطة المذكورة وإن أردت به لهوياتها فنختار تباينها وتكثرها لذواتها قولك فكل شيئين مختلفان بالذات قلنا نعم فإن الهوية لا تعرض لها كثرة ولا فهو يتصور فيها شركة بل كل هويتين فهما مختلفتان بالذات والحقيقة الشخصية وبالجملة إن أي ما ذكرتم في العدم وارد عليكم في الوجود فإن ماهية السواد من حيث هي اقتضت الاتحاد انحصرت في شخص وإن اقتضت التباين كان كل سوادين متباينين بالذات وإن لم تقتض شيئا منهما كانت موردا للمتزايلات مع أنها من حيث هي ليست موجودة فإن قلت لا استحالة في جواز تعاقب الصفات الاعتبارية عليها في زمان كونها موجودة قلت قد عرفت أنه لا استحالة في جواز تعاقب الصفات الاعتبارية عليها حال كونها معدومة ثابتة وقد يقال إن المشخصات المميزة للهويات إنما تتوارد على الماهيات المعدومة إذا خرجت إلى الوجود وأما حال العدم فلا كثرة وأيضا جاز أن تكون الماهية بشرط العدم مقتضية للوحدة فإذا وجدت زال الاقتضاء فهذه الوجوه الخمسة مسالك ضعيفة والمعتمد في إثبات هذا المطلب وجهان
الأول أن القول بثبوت المعدوم في حال العدم ينفي المقدورية لأن الذوات ثابتة أزلية فلا تتعلق القدرة بالذوات أنفسها والوجود حال لأنا نثبته بدليله ثم نقول لنافي الحال من المعتزلة لو كان للقدرة تأثير لكان ذلك التأثير في الحال لكن ذلك تأثير القدرة في الحال مع أنه لا حال عندكم أمر محال أو نقول لمن أثبت الحال منهم الذوات أزلية والأحوال التي من جملتها الوجود عندكم لا تتعلق بها القدرة فإن الأحوال كما اعترفتم ليست معلومة ولا مجهولة ولا مقدورة ولا معجوزا عنها وإذا لم تتعلق القدرة بالذوات ولا بالوجود لم يكن الباري سبحانه موجدا للممكنات ولا قادرا على إيجادها وذلك كفر صريح لا يقال تأثير قدرة الله

تعالى إنما هو في اتصاف الذات بالوجود لأنا نقول ذلك الاتصاف أمر عدمي فلا يكون أثرا للمؤثر وفيه بحث لأن المراد أن القدرة إنما تجعل الذات متصفة بالوجود لا أنها توجد الاتصاف والفرق بين ألا ترى أن الصباغ يجعل الثوب متصفا بالصبغ وإن لم يكن موجدا لاتصافه به
الوجه الثاني لو كان المعدوم الممكن ثابتا كان المعدوم المطلق أعم مطلقا من المنفي لشموله الثابت والمنفي معا فيكون مفهوم المعدوم مطلقا متميزا عنه أي عن مفهوم المنفي وإلا أي وإن لم يكن متميزا عنه لكان المفهوم العام عين المفهوم الخاص وهو محال فيكون مفهوم المعدوم أمرا ثابتا لأن كل متميز عن غيره ثابت عندكم وأنه يعني مفهوم المعدوم صادق على المنفي أي على ما صدق عليه المنفي و كل ما يصدق عليه صفة ثبوتية فهو ثابت فالمنفي ثابت هذا خلف وما يقال من أن المعدوم الممكن ثابت عندهم لا كل معدوم فيصدق حينئذ بعض المعدوم ثابت فلا يلزم من صدقه أي صدق المعدوم على المنفي ثبوته إذ يصير الاستدلال هكذا المنفي معدوم وبعض المعدوم ثابت وأنه لا ينتج لكون الكبرى في الشكل الأول جزئية فإنه بمعزل مما قدمناه من التحرير وإنما خذلهم ذلك القول أنهم لم يحوموا على المراد ولم يتفطنوا لأن قصدهم أي قصد المستدلين بالوجه الثاني الإلزام أي إلزام المعتزلة بما هم معترفون به من أن التميز يقتضي الثبوت وتوضيحه أن تحرير المصنف متعلق بمفهوم المعدوم وأنه على تقدير كونه أعم من مفهوم المنفي يلزم أن يكون متميزا عنه فيكون أمرا ثابتا فيلزم أن يكون ما صدق عليه المنفي ثابتا لاتصافه بأمر ثبوتي هو مفهوم المعدوم وحينئذ لا يتجه عليه أصلا ما قالوه من أن الكبرى في الشكل الأول جزئية وهناك تقرير آخر متعلق بما صدق عليه مفهوم المعدوم وهو أن يقال على تقدير كونه أعم من المنفي لا يكون

ما صدق عليه المعدوم نفيا محضا وإلا لم يكن بينهما فرق وإذا لم يكن نفيا محضا كان ثابتا فيصدق المنفي معدوم والمعدوم ثابت فيرد عليه أنه ليس جميع ما صدق عليه مفهوم المعدوم نفيا محضا بل بعضه نفي محض هو المعدوم الممتنع وبعضه ثابت هو المعدوم الممكن وحينئذ تصير الكبرى في ذلك القياس جزئية واعلم أن الأظهر على تحرير المصنف أن يقال على تقدير كونه أعم من المنفي كان مفهوم المنفي متميزا عنه فيكون ثابتا وقد اتصف به ما صدق عليه من أفراده فيكون أيضا ثابتا وأما ما يقال من أن المعدوم ليس عندهم أعم من المنفي فمردود بما نقل عنهم من أنهم يطلقون المعدوم على المنفي أيضا وحينئذ إما أن يكون مساويا له أو أخص منه مطلقا أو من وجه أو أعم وعلى التقادير فالمطلوب حاصل كما لا يخفى للمثبت أي للذي يثبت كون المعدوم ثابتا وجهان
الأول المعدوم متميز وكل متميز ثابت فالمعدوم ثابت أما الأول فلأنه أي المعدوم متصور ولا يمكن تصور الشيء إلا بتميزه عن غيره وإلا لم يكن هو بكونه متصورا أولى من الغير لا يقال إن أرادوا أن كل معدوم ممكن متصور منعناه وإن اقتصروا على البعض لم يثبت مدعاهم لأنا نقول لعلهم أرادوا أن بعضه متصور دون بعض وكل منهما ممتاز عن الآخر كما يشهد به قوله وأيضا مراد فإن بعضه مراد دون بعض و بعضه مقدور دون بعض ولولا التميز بين المعدومات لما عقل ذلك أي اتصاف بعضها بالمرادية أو المقدورية دون بعض
وأما الثاني فلأن كل متميز له هوية يشير إليها العقل وذلك لا يتصور إلا بتعينه وثبوته في نفسه والنفي الصرف لا تعين له في نفسه ولا إشارة عقلا إليه والجواب عن هذا الوجه هو النقض بما وافقونا على أنه منفي كالممتنعات فإن بعضها كشريك الباري متميز عن بعض كاجتماع الضدين

والخياليات كبحر من زئبق وجبل من ياقوت وإنسان ذي رأسين فإن بعضهما متميز عن بعض ولا ثبوت لها اتفاقا لأنها عبارة عن جواهر متصفة بالتأليف والألوان والأشكال المخصوصة وعندهم أن الثابت في العدم ذوات الجواهر والأعراض من غير أن تتصف الجواهر هناك بالأعراض ونفس الوجود فإنه متميز عن العدم وغيره أيضا ولا ثبوت له في العدم اتفاقا وبالضرورة والتركيب فإن ماهيته متميزة عن غيرها وليست متقررة حال العدم وفاقا لأنها عبارة عن اجتماع الأجزاء وانضمام بعضها إلى بعض وتماسها على وجه مخصوص وذلك لا يتصور حال العدم بل حال الوجود والأحوال فإنها متمايزة وليست ثابتة عندكم في العدم وكأنه خص الوجود بالذكر مع اندراجه في الأحوال لأن كونه ثابتا في العدم منتف اتفاقا وضرورة إذ لو ثبت وجود المعدوم حال عدمه لزم اجتماع الوجود والعدم ثم النقض بالأحوال إنما يتجه على نفاة الحال كأنه قيل المفهومات التي يسميها بعضهم أحوالا لا شك أنها متمايزة وليست ثابتة عندكم أصلا لا في الوجود ولا في العدم ولا في غيرهما وأما القائل بالحال فيقول إنها ثابتة على أنها واسطة هذا كما ذكر و قد بينا أن ثبوته أي ثبوت المعدوم الممكن ينافي كونه مقدورا و كونه مرادا فإن ما يدل على نفي المقدورية يدل على نفي المرادية أيضا فلا يمكن إثباته به أي إثبات ثبوته بكونه مقدورا ومرادا بعضه دون بعض وبالجملة فالتميز الذي ادعيتم ثبوته للمعدوم الممكن إن أردتم به القدر الثابت في المنفي وهو التميز الذهني فظاهر أنه لا يوجب الثبوت وإلا لكان المنفي أيضا ثابتا وإن أردتم به غيره أي غير ذلك القدر معناه أي لا نسلم ثبوت التميز الذي هو غير ذلك القدر للمعدوم الممكن وعليكم أولا تصويره حتى نعلم أنه ماذا وتقريره أي بيان ثبوته للمعدوم الممكن حتى نصدق به و

عليكم ثانيا بيان كونه مقتضيا للثبوت حال العدم فإنا من وراء المنع في المقامين
الوجه الثاني المعدوم المتصف بالإمكان لأن كلامنا في المعدوم الممكن وأنه أي الإمكان صفة ثبوتية كما سيأتي تقريره في المرصد الثالث فكان المتصف به ثبوتيا أي ثابتا لما مر من أن اتصاف غير الثابت بالصفة الثبوتية محال وجوابه منع كون الإمكان ثبوتيا بل هو أمر اعتباري كما سيأتي في ذلك المرصد أيضا على أنه منقوض ببعض ما نقض به الوجه الأول ولهم شبه غيرهما أي غير الوجهين المذكورين منها ما يعود إليهما نحو أنه أي المعدوم الممكن في الأزل ليس الله فهو غيره والغيران شيئان إذ لا يتصور التغاير إلا بين شيئين وهذا راجع إما إلى الأول إذ حاصله أن كل واحد من الغيرين متمايز عن الآخر وإما إلى الثاني بأن يقال كل من الغيرين متصف بالغيرية التي هي صفة ثبوتية فجوابه إما النقض أو منع كون الغيرية صفة ثبوتية ونحو أن القصد إلى إيجاد غير المعين ممتنع فلو لم تكن الذوات الممكنة ثابتة في العدم ومتعينة متميزة فيه لم يتصور من الفاعل القصد إلى إيجادها فإن ما ليس بمتعين في نفسه لم يتميز القصد إليه عن القصد إلى غيره فلم يكن هو بكونه مقصودا بذلك القصد أولى من غيره ومحصوله أنه متعين متميز فيكون ثابتا فقد رجع إلى الوجه الأول والجواب كالجواب فإن التميز في علم الفاعل كاف في القصد و نحو أن الإدراك أي الإحساس علم أي نوع منه فلو جاز أن يكون لنا معلوم هو ليس بشيء فليجز أن يكون لنا مدرك أي محسوس ليس بشيء وهذا راجع إلى الأول وجوابه النقض بالمستحيل فإنه معلوم وليس بشيء ولا مدرك بالحواس وأيضا ما ذكره تمثيل خال عن الجامع فإن الإحساس نوع من العلم يخالف التعقل ألا نرى أنه لا يتعلق بالمعدوم وإن كان ثابتا فلا

يلزم من كون المعلوم المتعقل غير ثابت كون المدرك المحسوس كذلك ومنها ما سنوردها في مسألة أن الماهية مجعولة أم لا وهي أن يقال لو كانت الذوات غير متقررة في أنفسها وكانت بجعل الجاعل لم تكن الإنسانية مثلا عند عدم جعل الجاعل إنسانية وسلب الشيء عن نفسه محال فوجب أن لا تكون الذوات متجددة بل ثابتة متقررة في أنفسها وسيأتيك جوابها هناك

خاتمة للمقصد السادس
وفيها بحثان
الأول في تحقيق معنى لفظ الشيء وبيان اختلاف الناس فيه وهذا بحث لفظي متعلق باللغة بخلاف ما تقدم من أن المعدوم شيء أم لا فإنه بحث معنوي الشيء عندنا الموجود أي لفظ الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط وكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء وقال الجاحظ والبصرية من المعتزلة هو المعلوم ويلزمهم المستحيل أي يلزمهم إطلاق الشيء على المستحيل لأنه معلوم إلا أن يقولوا المستحيل لا يعلم إلا على سبيل التشبيه والتمثيل كما ذهب إليه البيهسية و قال الناشيء أبو العياش هو القديم وللحادث مجاز و قالت الجهمية هو الحادث و قال هشام بن الحكم هو الجسم و قال أبو الحسين البصري والنصيبيني من معتزلة البصرة هو حقيقة في الموجود ومجاز في

المعدوم وهذا قريب من مذهب الاشاعرة والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ماذا يطلق والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات والظاهر معنا فإن أهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول ولو قيل ليس بشيء قابلوه بالإنكار ولا يفرقون في إطلاق لفظ الشيء بين أن يكون الموجود قديما أو حادثا جسما أو عرضا ونحو خلقتك من قبل ولم تك شيئا ينفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح نفيها فيبطل به قول الجاحظ و قوله والله على كل شيء قدير ينفي اختصاصه بالقديم لأن القدرة إنما تتعلق بالحادث دون القديم والأصل في الإطلاق الحقيقة فيبطل به قول أبي العياش الناشيء وقوله ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك ينفي اختصاصه بالجسم فيبطل به قوله هشام و قول لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل ينفي اختصاصه بالحادث لأن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا فيبطل به قول الجهمية
البحث الثاني في تعريفات المعتزلة على القول بأن المعدوم شيء أي ثابت متقرر متحقق في الخارج منفكا عن صفة الوجود كما مر قالوا المعدومات الممكنة قبل وجودها ذوات وأعيان وحقائق وتأثير الفاعل في جعلها موجودة لا في كونها ذوات ثم اختلفوا فقال أبو إسحاق بن عياش الذوات في العدم معراة عن جميع الصفات ولا تحصل لها الصفات إلا حال

الوجود وقال غير ابن عياش إنها في حال العدم متصفة بصفات الأجناس ككون السواد سوادا والبياض بياضا والجوهر جوهرا والعرض عرضا وهي أي الصفات على الإطلاق إما عائدة إلى الجملة أي البنية المركبة من أمور عدة أو إلى التفصيل أي إلى كل واحد من متعدد بلا اعتبار تركيب بينها
و القسم الأول العائد إلى الجملة هو الحياة وما يتبعها من القدرة والعلم والإرادة والكراهية وغيرها فإنها محتاجة إلى بنية مخصوصة مركبة من جواهر فردة فهذا القسم مختص بالجواهر إذ لا يتصور حلول الحياة في الأعراض المركبة
و القسم الثاني العائد إلى التفصيل إما للجواهر وإما للأعراض فللجواهر أنواع أربعة من الصفات
الأول الصفة الحاصلة للجوهر حالتي الوجود والعدم وهي الجوهرية التي هي من صفات الأجناس
الثاني الصفة الحاصلة من الفاعل وهو الوجود فإن الفاعل لا تأثير له في الذوات لأنها ثابتة أزلا وإثبات الثابت محال ولا في كون الجوهر جوهرا لأن الماهيات غير مجعولة عندهم بل في جعل الجوهر موجودا أي متصفا بصفة الوجود
الثالث ما يتبع الوجود أي وجود الجوهر وهو التحيز قالوا إنه صفة صادرة عن صفة الجوهرية بشرط الوجود ويسمونه بالكون فمنهم من قال الكون غير الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فإنه إذا فرض أنه تعالى خلق جوهرا واحدا فقط كان له في أول حدوثه كون بدون شيء من هذه الأربعة ومنهم من قال إنه أحد الأربعة
الرابع الصفة المعللة بالتحيز بشرط الوجود وهو الحصول في الحيز أي اختصاص الجوهر بالحيز ويسمون هذا الحصول بالكائنية وهم

إنه معلل بالكون وعندهم أن الجوهر الفرد ليس له صفة زائدة على هذه الأربعة فليس له بكونه أسود أو أبيض صفة إذ لا معنى لكونه أسود إلا حلول السواد فيه وكذا القول في كل عرض غير مشروط بالحياة وللأعراض الأنواع الثلاثة الأول أعني الوصف الحاصل حالتي الوجود والعدم وهو العرضية التي هي من صفات الأجناس وما بالفاعل وهو الوجود و الصفة التابعة له أي للوجود وهو الحصول في المحل فإن العرضية ليست علة للحلول في المحل مطلقا بل بشرط الوجود وأما سبب الحصول في المحل فلم يجعلوه أمرا زائدا على نفس العرض ومنهم من قال الجوهرية نفس التحيز كابن عياش والشحام والبصري فلا يكون التحيز عندهم صفة زائدة على حدةكما مر وابن عياش ينفيهما حال العدم لأن التحيز علة للحصول في الحيز فلا ينفك عنه معلوله وليس المعدوم حاصلا في الحيز قطعا فلا يكون له تحيز ولا جوهرية لأنها عين التحيز فلذلك أثبت الذوات خالية عن صفات الأجناس و أبو يعقوب الشحام يثبتهما فيه لأنهما متحدان ولا يجوز أن لا يكون الجوهر جوهرا مع إثبات الحصول في الحيز لأنه معلول التحيز فلا ينفك عنه و أبو عبد الله البصري يثبتهما لاتحادهما وامتناع انتفاء الجوهرية دون الحصول في الحيز فإنه معلول للتحيز بشرط الوجود فلا يثبت حال العدم وأنه أي البصري يختص من بينهم بإثبات العدم صفة واتفق من عداه على أن المعدوم ليس له بكونه معدوما صفة والكل أي جميع القائلين بأن المعدومات ثابتة ومتصفة بالصفات اتفقوا على أنه بعد العلم بأن للعالم صانعا قادرا عالما حيا يحتاج إلى إثباته أي بيان وجوده

بالدليل فإنهم لما جوزوا اتصاف المعدومات بالصفات لم يلزم من اتصاف المانع بالصفات المذكورة أن يكون موجودا بل يحتاج في العلم بوجوده إلى دليل قال الإمام الرازي إنه جهالة بينة وسفسطة ظاهرة لاستلزامه جواز أن يكون محال هذه الحركات والسكنات أمورا معدومة فيحتاج في العلم بوجودها إلى دلالة منفصلة و قال المصنف لعلهم أرادوا أنا بعد أن نعلم أن صانع العالم ذات تتصف بهذه الصفات نحتاج إلى أن نبين أن للعالم صانعا أي ذاتا تتصف بها كما نعلم أن الواجب يمتنع عدمه ومع ذلك نحتاج إلى إثباته بالبرهان وهذا قول صحيح لا جهالة فيه ولا سفسطة إذ معناه أنه لا يصح صانعا للعالم إلا من هذه صفاته وبهذا القدر لا يلزم وجوده في الخارج وماذا تقول فيمن يقول شريك الباري يجب اتصافه بهذه الصفات وإلا لم يكن شريكا له وإنه ممتنع في الخارج فظهر أن تقدير الاتصاف بالصفات الخارجية لا يقتضي تحقق وجود الموصوف في الخارج وهذا الاعتذار بعيد جدا لأن جعل هذا الكلام بهذا المعنى من تفاريع القول بثبوت المعدوم مما لا وجه له فإن جميع العقلاء متفقون على ذلك

المقصد السابع الحال
وهو الواسطة بين الموجود والمعدوم وقد أثبته إمام الحرمين أولا والقاضي منا وأبو هاشم من المعتزلة فإنه أول من قال بالحال وبطلانه ضروري لما عرفت أن الموجود ماله تحقق والمعدوم ما ليس كذلك ولا واسطة بين النفي والإثبات في شيء من المفهومات ضرورة واتفاقا فإن أريد نفي ذلك أي نفي ما ذكرناه من أنه لا واسطة بين النفي والإثبات وقصد

إثبات واسطة بينهما فهو سفسطة باطلة بالضرورة والاتفاق وإن أريد معنى آخر بأن يفسر الموجود مثلا بما له تحقق أصالة والمعدوم بما لا تحقق له أصلا فيتصور هناك واسطة بينهما هي ما يتحقق تبعا لم يكن النفي والإثبات في المنازعة التي بيننا متوجهين إلى معنى واحد فيكون النزاع لفظيا لأنا ننفي الواسطة بين الموجود والمعدوم بمعنى الثابت والمنفي وأنتم معترفون بذلك وتثبتون الواسطة بينهما بمعنى آخر ولا نزاع لنا في ذلك والذي أحسبهم أي أظنهم أرادوه حسبانا يتاخم اليقين أي يقاربه أنهم وجدوا مفهومات يتصور عروض الوجود لها بأن يحاذى بها أمر في الخارج فسموا تحققها وجودا وارتفاعها عدما ووجدوا مفهومات ليس من شأنها ذلك العروض كالأمور الاعتبارية التي يسميها الحكماء معقولات ثابتة فجعلوها لا موجودة ولا معدومة فنحن نجعل العدم للوجود سلب إيجاب وهم يجعلونه له عدم ملكة ولا ننازعهم في المعنى ولا في التسمية فقد ظهر بهذا التأويل أيضا أن النزاع لفظي
قيل قد أسقط المصنف هذا الكلام من متن الكتاب لأنهم لم يصرحوا بهذا المعنى وليس في عبارتهم ما فيه نوع إشعار به مع أن الإمتناع والذوات المتصفة به كشريك الباري مثلا ليس من شأنها أن يعرض لها الوجود ولم يعدوها من قبيل الأحوال حجة المثبتين للحال وجهان
الأول الوجود ليس موجودا وإلا لزاد وجوده على ذاته لأنه يشارك سائر الموجودات في الموجودية ويمتاز عنها بخصوصية هي ذاته فقد زاد وجوده على ماهيته وتسلسل وجود بعد وجود إلى غير النهاية ولا معدوما وإلا اتصف الشيء بنقيضه
قلنا الوجود موجود ووجوده نفسه فإن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر زائد ينضم إليه وأما الوجود فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد عليه كما مر وامتيازه عما عداه بقيد سلبي وهو أن وجوده ليس زائدا على ذاته أصلا فلا يتسلسل أو معدوم وإنما يمتنع اتصاف الشيء

بهو هو بأن يقال مثلا الوجود عدم أو الموجود معدوم أما اتصافه بنقيضه بالنسبة والاشتقاق فلاا يمتنع فإن كل صفة قائمة بشيء فرد من أفراد نقيضه كالسواد القائم بالجسم فإنه لا جسم مع اتصاف الجسم به فيصدق أن الجسم ذو لا جسم فلا بعد في أن يصدق أيضا أن الوجود ذو لا وجود
الوجه الثاني السواد مركب من اللونية التي هي جنسه المشترك بينه وبين سائر الألوان وفصل يمتاز به عنها وهو قابضية البصر فرضا إنما قال ذلك لأن خصوصية الفصل مجهولة وقبض البصر الذي هو من آثارها معلوم فعبر به عنها كما يعبر عن فصل الإنسان بالناطق مثلا فإن الاطلاع على ذاتيات الحقائق وخصوصياتها التي هي فصولها عسير جدا فنقول الجزءان إن وجدا وهما معنيان أي عرضان لزم قيام المعنى بالمعنى إذ لاا بد أن يقوم أحد ذينك الجزءين بالآخر وإلا لم يلتئم منهما حقيقة واحدة وحدة حقيقية وسنبطله وإن عدما معا أو أحدهما فقط لزم تقوم السواد مع وجوده بالمعدوم وأنه محال بديهة
قلنا نختار أنهما موجودان قولك يلزم قيام المعنى بالمعنى
قلنا نعم ولم قلتم بأنه محال وحجتكم عليه سنبطلها أو نمنع الملازمة أي نقول هما موجودان ولا يلزم قيام العرض بالعرض لأنهما في الخارج شيء واحد ذاتا ووجودا ولا تمايز في الخارج حتى يقوم أحدهما بالآخر فيه لأن التمايز بينهما ذهني فليس في الخارج شيء هو لون وشيء آخر هو القابض للبصر يقوم ذلك الشيء الآخر به أي بالشيء الأول الذي هو اللون أو يقوم الأول بذلك الآخر بل هو أي السواد لون ذلك اللون بعينه

في الخارج قابض للبصر فلا تمايز في الخارج وسنزيد هذا شرحا في مكانه حيث نبين تركب الماهية من الأجزاء المحمولة وأن تلك الأجزاء إنما تتمايز في الذهن دون الخارج فإن قيل إذا كان السواد أمرا واحدا في الخارج ولم يكن له جزء فيه بل في الذهن فقط يلزم أن يكون للبسيط في ا لخارج صورتان ذهنيتان متغايرتان تطابقان ذلك البسيط أعني صورتي اللون وقابض البصر وأنه محال بالضرورة لأن مطابقة إحدى المتغايرتين إياه ينافي مطابقة الأخرى له بديهة قلنا لا نسلم استحالته أي استحالة أن يكون للبسيط تانك الصورتان وإنما جزمك بذلك أي بكونه محالا إنما هو بديهة وهمك لإلفك بالصور الخيالية كالنقوش على الجدار والمتخيل في المرآة فإن صورتين متغايرتين من الصور الخيالية يستحيل مطابقتهما لأمر واحد بسيط فلذلك تسارع وهمك إلى أن الحال في الأجزاء العقلية كذلك ولو علمت أن هذه الصور التي هي الأجزاء الذهنية صور عقلية مخالفة للصور الخيالية ينتزعها العقل من الهويات الخارجية بحسب استعدادات تعرض للنفس وبحسب شروط مختلفة تقتضيها أي تقتضي هذه الشروط تلك الاستعدادات وكلمة من في قوله من مشاهدة جزئيات أقل أو أكثر بيان للشروط وقوله والتنبه عطف على المشاهدة لمشاركات ومباينات أي فيما بين تلك الجزئيات بحسبها أي بحسب المشاهدة فإن التنبه إنما يكون على مقدار المشاهدة قطعا لم تستبعد جوابا لقوله ولو علمت أن تعقل النفس صورة مطابقة لشخص واحد كما إذا شاهدت زيدا فارتسم فيها أو في بعض آلاتها صورة تطابقه فقط وأن تعقل صورة أخرى تطابقه وبني نوعه كما إذا شاهدت مع زيد أفرادا كثيرة من الإنسان فانتزعت منها بحذف المشخصات صورة ماهية الإنسان التي تطابق زيدا وبني نوعه وأن تعقل صورة أخرى تشاركها أي تشارك ذلك الشخص وأنثه بتأويل الهوية الشخصية فيها أي في تلك الصورة الأخرى المشاركون له في جنسه كما إذا شاهدت مع أفراد الإنسان أفراد الفرس أيضا فانتزعت منها صورة ماهية الحيوان المطابقة لزيد وبني جنسه

خاتمة للمقصد السابع في تعريفات القائلين بالحال
ذكر لهم فرعين
الأول أنهم قسموه أي الحال إلى معلل أي بصفة موجودة قائمة بما هو موصوف بالحال كما تعلل المتحركية بالحركة الموجودة القائمة بالمتحرك وتعلل القادرية بالقدرة وإلى غير معلل هو بخلاف ما ذكر فيكون حالا ثابتا للذات لا بسبب معنى قائم به نحو اللونية للسواد والعرضية للعلم والجوهرية للجوهر والوجود عند القائل بكونه زائدا على الماهية فإن هذه أحوال ليس ثبوتها لمحالها بسبب معان قائمة بها فإن قلت جوز أبو هاشم تعليل الحال بالحال في صفاته تعالى فكيف اشترط في علة الحال المعلل أن تكون موجودة قلت لعل هذا الاشتراط على مذهب غيره وقد نقل عنه أن الأحوال المعللة لا تكون إلا للحياة وما يتبعها فإن غيرها من الصفات لا توجب لمحالها أحوالا كالسواد والبياض على ما مر والمثبتون للحال من الأشاعرة يقولون الأسودية والأبيضية والكائنية والمتحركية كلها آحوال معللة
الثاني من الفرعين أنهم قالوا الذوات كلها متساوية في أنفسها وإنما تتمايز الذوات بعضها عن بعض بالأحوال القائمة بها ويبطله أن الذوات

المتساوية لا بد وأن يختص كل منها بحال حتى يتصور تمايزها بالأحوال فإما أن يكون ذلك الاختصاص لا لأمر يقتضيه وأنه ترجيح بلا مرجح وإما أن يكون لإمر وذلك الأمر المقتضي للاختصاص إما ذات فالكلام في اختصاصه من بين سائر الذوات بالمراجحية أو صفة الذات فالكلام في اختصاص الذات بها أي بتلك الصفة وبالجملة فالاشتراك في الذوات أعني التساوي في الحقيقة يوجب الاشتراك والتساوي في اللوازم ضرورة سواء كانت تلك اللوازم أحوالا أو لا فكيف يتصور الاشتراك والتساوي في الحقيقة مع الامتياز باللوازم التي هي الأحوال وأما على رأينا يعني نفاة الأحوال فالذوات متخالفة في الحقائق وأنها تشترك في اللوازم وذلك غير ممتنع لجواز أن تكون الحقائق المختلفة مقتضية لأمر واحد لازم لها بخلاف العكس وهو أن تكون الذوات مشتركة متساوية مع الاختلاف والتنافي في اللوازم كما هو رأيكم فإنه ممتنع قطعا وربما قال النافون للأحوال إن ملخص حجة المثبتين لها هو أن الحقائق مشتركة في أمور ومختلفة بخصوصياتها وما به من الاشتراك غير ما به من الاختلاف وهما ليسا بموجودين ولا معدومين فقد ثبت الواسطة التي هي الحال وذلك منقوض بأن الأحوال تشترك في الحالية وتختلف بالخصوصيات التي يتميز بها بعضها عن بعض وما به الاشتراك غير ما به الاختلاف فالحالية زائدة على الخصوصيات وأنها أي الحالية المشتركة وهي مفهوم الحال حال فتشارك سائر الأحوال في الحالية وتمتاز عنها بخصوصية وليس شيء من المشترك والمميز موجودا ولا معدوما فثبت حال آخر فتتسلسل الأحوال إلى غير النهاية أونقول وإنها أي كل واحدة من تلك الخصوصيات حال تشرك سائر الأحوال في مفهوم الحال وتماز عنها بخصوصية أخرى وهكذا وأجيب عنه بوجهين

الأول التزام التسلسل في الأحوال ورده الإمام الرازي بأنه يسد باب إثبات الصانع وفيه نظر لأن إثبات الصانع إنما يتوقف على امتناع التسلسل في الأمور الموجودة والتزامهم لا ينافي هذا الامتناع لجواز أن يمتنع التسلسل في الموجودات ولا يمتنع في الأحوال التي ليست بموجودة كما لا يمتنع في الإضافات والسلوب اتفاقا
والثاني أن الأحوال لا توصف بالتماثل والاختلاف فلا يصح أن يقال إنها مشتركة في الحالية لأنه وصف لها بالتماثل ولا إنها متمايزة بخصوصياتها لأنه وصف لها بالاختلاف
وأجاب الإمام الرازي عنه أيضا بأن ذلك جهالة لأن كل أمرين يشير إليهما العقل بوجه من الوجوه إما أن يكون المتصور من أحدهما هو المتصور من الآخر أو لا فعلى الأول بينهما تماثل وعلى الثاني اختلاف فلا مخرج عنهما وفيه نظر لأنهم جعلوا التماثل والاختلاف إما صفة موجودة أو حالا وعلى كلا التقديرين لا يقوم إلا بالموجود أما على الأول فلأن وجود الصفة فرع وجود الموصوف وأما على الثاني فلأن الحال لا يقوم إلا بالموجود فإطلاقهما أي إطلاق التماثل والاختلاف على الأحوال يكون بمعنى آخر فلا يكون الحكم بأن الأحوال لا توصف بها بالمعنى الأول جهالة ثم إن الإمام الرازي بعد ما زيف الوجهين المذكورين في الجواب أجاب عن كلام النافين بأن الحال أي مفهومه ليس حالا بل هو سلب إذ معناه كونه ليس موجودا ولا معدوما وكل مفهوم اعتبر فيه سلب كان معدوما لا حالا وهذا الجواب إنما يتمشى إذا ادعى أن مفهوم الحال حال وحينئذ يجاب بجواب آخر أيضا وهو أن مفهوم الحال مشترك بين نفسه والأحوال الخاصة فلا

يكون لمفهوم الحال حال زائد على نفسه حتى يتسلسل وأما إذا ادعى أن الخصوصيات المميزة لبعض الأحوال عن بعض أحوال أيضا فلا يتم ذلك الجواب إلا إذا قيل إن الخصوصيات أيضا سلوب واعلم أن المباحث المتعلقة بثبوت المعدوم والحال أحكام فاسدة مبنية على أصول باطلة فلذلك أعرضنا عن الإطناب فيها وتضييع الأوقات في توجيهاتها

المرصد الثاني
من مراصد الأمور العامة في الماهية
قدم
مباحث الوجود والعدم على مباحث معروضهما أعني الماهية لأن البحث عنها من حيث أنها صالحة لمعروضية أحدهما وهي بهذا الاعتبار متأخرة عنها وفيه أي في هذا المرصد مقاصد اثنتا عشر
المقصد الأول
في تمييز الماهية عما عداها لكل شيء كليا كان أو جزئيا حقيقة هو بها هو وهذا تفسير لمفهوم حقيقة الشيء والحقيقة الجزئية تسمى هوية وقد تستعمل الهوية بمعنى الوجود الخارجي والحقيقة الكلية تسمى ماهية ثم الحقيقة من حيث هي إما أن تقاس إلى أمور مباينة إياها فذلك لا التباس فيه لأن الأمور المباينة لها مسلوبة عنها بمعنى أنها ليست نفس الماهية ولا داخلة فيها ولا عارضة لها وإما أن تقاس إلى أمور داخلة فيها أو خارجة عنها عارضة لها فإذا قيست إلى الأمور العارضة لها يقال هي مغايرة لما

عداها من الأمور التي تعرض لها سواء كان ذلك العارض لازما لها لا ينفك عنها أصلا فأينما وجدت هي كانت معروضة له كالزوجية اللازمة لماهية الأربعة أو مفارقا عنها كالكتابة للإنسان فإن الإنسانية من حيث هي إنسانية ليست إلا الإنسانية فليست الماهية الإنسانية من حيث هي ماهية إنسانية موجودة ولا معدومة ولا واحدة ولا كثيرة ولا شيئا من المتقابلات على معنى أن شيئا منها ليس نفس تلك الماهية ولا داخلا فيها لا على معنى أنها ليست متصفة بشيء منها فإنها يستحيل خلوها عن المتقابلات إذ لا بد لها من اتصافها بواحد من المتناقضين بل هذه أمور زائدة عن الماهية الإنسانية تنضم إلى الإنسانية فتكون الإنسانية مع الوحدة واحدة ومع الكثرة كثيرة ومع الوجود موجودة ومع العدم معدومة وعلى هذا فقس وبالجملة إذا لوحظ ماهية في نفسها ولم يلاحظ معها شيء زائد عليها كان الملحوظ هناك نفس الماهية وما هو داخل فيها إما مجملا أو مفصلا ولم يكن للعقل بهذه الملاحظة أن يحكم على الماهية بشيء من عوارضها بل يحتاج في هذا الحكم إلى أن يلاحظ أمرا آخر لم يكن ملحوظا في تلك الحالة لا مفصلا ولا مجملا فيظهر أن تلك العوارض ليست للماهية في حد ذاتها فليست نفسها ولا داخلة فيها وإلا لما احتيج إلى ملاحظة أخرى وأيضا لو كان شيء منها نفسها أو داخلا فيها لما أمكن اتصافها بما يقابله ومن هذا يعلم أيضا أنها ليست مقتضية ولا مستلزمة لشيء من المتقابلات على التعيين وإذا قيست الماهية إلى الأمور الداخلة فيها صح السلب بمعنى أنها ليست نفسها لأن الداخل في الماهية ليس عينها من حيث هو داخل فيها وأما الأجزاء المحمولة فهي وإن كانت بحسب الخارج عين الماهية لكن باعتبار آخر فإذا سئلنا بطرفي النقيض وقيل الإنسانية من حيث هي إنسانية وليست كان الجواب الصحيح أنها ليست من حيث هي هي لأنها من حيث هي

ليست فإن تقديم حرف السلب على الحيثية كما في العبارة الأولى معناه المتبادر أنها إذا أخذت بهذه الحيثية لا تقتضي وذلك لأن الرابطة ههنا متأخرة عن السلب فالمقصود سلب الربط وهو حق ومعنى تقديم الحيثية على حرف السلب أنها إذا أخذت بهذه الحيثية تقتضي لا وذلك لأن الرابطة في هذه العبارة متقدمة على السلب فالمتبادر منها الإيجاب العدولي وهذا باطل ولو سئلنا عن المعدولتين أراد الموجبتين المعدولة والمحصلة على سبيل التغليب فقيل أهي أو لا لم يلزمنا الجواب عن هذا السؤال لأنه غير حاصر بخلاف طرفي النقيض إذ لا مخرج عنهما وإن قلنا أي وإن أجبنا عن هذا السؤال تبرعا قلنا لا هذا ولا ذاك بالمعنى الذي عرفته إذ ليس شيء من الألف واللا ألف نفس الماهية ولا داخلا فيها فإن قيل الإنسانية التي لزيد من حيث أنها إنسانية إن كانت هي التي لعمرو كان شخص واحد في آن واحد في مكانين ومتصفا بالأوصاف المتقابلة معا وإن كانت غيرها لم تكن الإنسانية أمرا واحدا مشتركا بين أفراده قلنا معنى هذا الكلام أن الإنسانية من حيث هي إما واحدة مشتركة بين أفراده وإما متعددة متغايرة فيها وعلى كل تقدير يلزم محذور فلا يلزمنا الجواب لأنها من حيث هي ليست شيئا مما ذكر فإن الحيثية المذكورة تقتضي قطع النظر عن جميع العوارض وإن أجبنا قلنا هي من حيث هي ليست التي في زيد ولا غيرها وليست التي في عمرو ولا غيرها لأن وحدتها وتغايرها وكونها في زيد أو عمرو كلها عوارض قطع النظر عنها في هذه الحيثية ولو وقع بدل قوله في زيد قولنا في عمرو لكان أظهر بل هما أي كون الإنسانية واحدة مشتركة وكونها متعددة متغايرة قيدان خارجان عن الإنسانية يلحقانها بعد النسبة إليهما أي إلى الوحدة والتعدد

المقصد الثاني في اعتبارات الماهية
بالقياس إلى عوارضها التي ذكر حالها في المقصد الأول وهي ثلاثة تقييد الماهية بوجودها وتقييدها بعدمها وإطلاقها بلا تقييد فنقول الماهية إذا أخذت مع قيد زائد عليها تسمى مخلوطة وبشرط شيء ووجودها في الخارج مما لا مرية فيه فإن وجود الأشخاص في الخارج بين لا سترة به وهي عبارة عن الماهية الكلية والتشخص فالماهية المخلوطة موجودة قطعا وفيه بحث وهو أن الشخص هل هو مركب في الخارج من الماهية والتشخص أو هو مركب منهما في الذهن وسيرد عليك تحقيقه إن شاء الله تعالى وإذا أخذت الماهية بشرط الخلو عن اللواحق سميت مجردة وبشرط لا شيء وأنها لا توجد في الخارج وإلا لحقهما الوجود الخارجي والتعين فلم تكن مجردة عن جميع اللواحق كما فرضناه هذا خلف وهل توجد المجردة في الذهن عند القائل بالوجود الذهني قيل لا توجد لأن وجودها في الذهن من العوارض واللواحق فلا تكن مجردة عن جميعها كالموجود الخارجي وقيل توجد لأن الذهن يمكنه تصور كل شيء حتى عدم نفسه ولا حجر في التصورات أصلا فلا يمتنع أن يعقل الذهن الماهية المجردة عن جميع اللواحق الخارجية والذهنية بأن يعتبرها معراة عنها ويلاحظها كذلك وإن كانت بحسب نفس الأمر متصفة ببعضها ألا ترى أنه يمكنه الحكم على المجردة مطلقا باستحالة الوجود في الخارج ولا حكم على شيء إلا بعد تصوره ويقرب من هذا ما قيل من أن المعدوم مطلقا أي خارجا وذهنا قد يتصور فيعرض له الوجود الذهني

قسما من الموجود المطلق باعتبار وجوده في الذهن وقسيما له باعتبار ذاته ومفهومه فكذلك إذا تصورت المجردة مطلقا كانت من حيث ذاتها ومفهومها مجردة ومقابلة للمخلوطة ومن حيث وجودها في الذهن تكون قسما من المخلوطة ومحكوما عليها وكذا الكلام في المجهول مطلقا فإنه باعتبار حصوله في الذهن بحسب هذا الوصف العارض له قسم من المعلوم بوجه ما ومن حيث اتصافه بهذا الوصف فرضا قسيم له وقيل إن شرط تجردها عن الأمور واللواحق الخارجية وجدت في الذهن بلا اشتباه وإن شرط تجردها مطلقا أي من العوارض الخارجية والذهنية معا فلا توجد فيه لأن الوجود الذهني من العوارض كما مر وفيه نظر فإن كونه أي كون الشيء موجودا في الذهن ليس من االعوارض الذهنية إذ هي أي العوارض الذهنية ما جعله الذهن قيدا فيه أي في الشيء بأن يعتبر الذهن لذلك الشيء عارضا ويلاحظه له وهذا الذي فرضناه موجودا في الذهن عرض له في نفس الأمر كونه في الذهن من غير أن يعتبره الذهن عارضا له ويلاحظه فيه وبعد وضوح الحق في أن مفهوم العوارض الذهنية ماذا فلا نمنعك أن تسميها أي تسمي الأمور العارضة للشيء بحسب نفس الأمر حال كونه موجودا في الذهن باللواحق الذهنية بناء على أن المراد بها ما يلحق الماهية عند قيامها بالذهن وإن كانت عارضة لها في نفس الأمر لا ما يجعله الذهن قيدا فيها واعتبر عروضه لها وإذا أخذت الماهية من حيث هي هي مع قطع النظر عن المقارنة للعوارض والتجرد عنها سميت مطلقة وبلا شرط وهذه أعم من الأوليين وقد وجدت في الخارج إحدى قسميها وهي المخلوطة ووجود الأخص في الخارج مستلزم لوجود الأعم فيه فتكون هي أي المطلقة أيضا موجودة فيه وذلك ظاهر إذا كان التركيب في الأشخاص خارجيا كما أشرنا إليه

المقصد الثالث
قال أفلاطون الماهية المجردة موجودة فإنه يوجد من كل نوع فرد مجرد عن جميع العوارض أزلي أبدي لا يتطرق إليه فساد أصلا قابل للمتقابلات واحتج عليه بأن الإنسان قابل للمتقابلات وإلا لم تعرض له فيكون في نفسه مجردا عن الكل لأن ما يكون معروضا لبعضها يستحيل أن يكون قابلا لما يقابله وأنت قد علمت أن المجرد لا وجود له في الخارج بل يمتنع أن يكون موجودا فيه فهذا المدعى باطل قطعا وعلمت أيضا أن القابل للمتقابلات الماهية من حيث هي هي فإنها في حد ذاتها قابلة للاتصاف بكل واحدة منها بدلا عن الآخر فالماهية الإنسانية المطلقة هي المقارنة للتشخصات المتقابلة وأما وجود فرد من الماهية الإنسانية يكون ذلك الفرد قابلا لزيد وعمرو أي لتشخصهما كما يدل عليه كلامه فضروري البطلان لاستحالة أن يكون الواحد المعين متصفا بالصفات المتقابلة في زمان واحد وكذا إن أراد بفرد منها الماهية المقيدة بقيد التجرد فإن اقتران المجرد بالقيود التي اعتبر تجريده عنها ضروري البطلان أيضا فظهر أن دليله غير واف بما ادعاه ولا يوجد في الخارج إلا الهويات الجزئية هذا الذي ذكرناه إنما يرد عليه أن حمل كلامه على ما هو ظاهر المنقول عنه وإن عنى به معنى آخر مثل ما أوله به بعض المتأخرين وهو صاحب الإشراق من أن لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها أمرا من عالم العقول مجردا عن المادة قائما بذاته يديره أي يدبر ذلك النوع ويفيض عليه كمالاته ويعتني بشأنه عناية عظيمة شاملة لجميع أفراده وهو الذي يسميه ذلك البعض رب النوع ويعبر عنه في لسان الشرع كما ورد في

الحديث بملك الجبال وملك البحار وملك الأمطار ونحوها فذلك بحث آخر لا تعلق له بهذا المقام

المقصد الرابع
الماهية إما بسيطة لا تلتئم من عدة أمور تجتمع أو مركبة تقابلها فهي التي تلتئم من عدة أمور مجتمعة وينتهي المركب إلى البسيط إذ لا بد أن يكون في المركب أمور كل واحد منها حقيقة واحدة وإلا لكان مركبا من أمور لا نهاية لها لا مرة واحدة بل مرارا غير متناهية ومع ذلك فلا بد من وجود البسيط فيه لأن العدد أي المتعدد بالفعل ولو كان غير متناه فيه الواحد الذي لا تعدد فيه بالفعل ضرورة لأن الواحد مبدأ المتعدد كما أن الوحدة مبدأ للعدد فكما امتنع عدد متناه من غير أن يوجد فيه وحدات كذلك يمتنع أن يوجد متعدد لا يكون فيه آحاد أي أمور غير منقسمة بالفعل سواء كانت قابلة للإنقسام أو لا وكلاهما يعتبر بالقياس إلى العقل تارة وبالقياس إلى الخارج أخرى فالأقسام أربعة بسيط عقلي لا يلتئم في العقل من أمور عدة تجتمع فيه كالأجناس العالية والفصول البسيطة وبسيط خارجي لا يلتئم من أمور كذلك في الخارج كالمفارقات من العقول والنفوس فإنها بسيطة في الخارج وإن كانت مركبة في العقل ومركب عقلي يلتئم من أمور تتمايز في العقل فقط ومركب خارجي يلتئم من أجزاء متمايزة في الخارج كالبيت والمركب العقلي لو لم ينته إلى البسيط لزم محال آخر سوى ما ذكر وهو تعقل ما لا يتناهى وأنه محال إذا كان في زمان متناه فلا تكون الماهية المعقولة معقولة وهذا إنما يتم في الماهيات المعقولة بالكنه
المقصد الخامس في تقسيم الأجزاء للماهية المركبة
وهو من وجهين
الأول أنها إن صدق بعضها على بعض فمتداخلة سواء كانت متساوية أو غير متساوية وإلا فمتباينة والمشهور أن المتداخلة ما يكون بعضها أعم من بعض فلا يتناول المتساوية فيحتاج إلى جعلها قسما ثالثا والأظهر في العبارة أن يقسم الأجزاء إلى متصادقة ومتباينة ثم يقسم المتصادقة إلى متداخلة ومتساوية أما المتداخلة فإن صدق كل منهما على كل أفراد الآخر فهما متساويان نحو الحساس والمتحرك بالإرادة إذا اعتبر ماهية مركبة منهما وإلا أي وإن لم يصدق كل منهما على كل أفراد الآخر مع كونها متصادقة في الجملة فبينهما لا محالة عموم وخصوص إما مطلقا وحينئذ إما إن يكون العام الخاص وهذا إنما يكون في الماهيات الاعتبارية نحو الجسم الأبيض فإن العقل يعتبر منهما ماهية واحدة أو لا يقوم العام الخاص بل يكون الأمر بالعكس نحو الحيوان الناطق فإن الناطق لكونه فصلا هو المقوم للحيوان الذي هو جنس ونحو الجوهر الموجود والكم الموجود مثلا فإن الأعم ههنا أعني الموجود صفة للأخص على عكس الجسم الأبيض ولا شك أن الصفة متقومة بالموصوف مطلقا وأما الناطق فليس وصفا للحيوان بل هو جار مجراه وأما من وجه قسيم لقوله إما مطلقا نحو الحيوان الأبيض فإنه ماهية اعتبارية لأن الماهية الحقيقية يمتنع أن يكون بين أجزائها عموم من وجه وأما المتباينة فإما أن يعتبر الشيء مع علة من علله الأربع أو مع معلول له أو مع ما ليس علة ولا معلولا بالقياس إليه فإن قلت تركب الشيء مع علته يستلزم تركب الشيء الذي هو تلك العلة مع معلوله ففي التقسيم

استدراك قلت معنى تركب الشيء مع علته أن يعتبر ذلك الشيء من حيث عرضت له الإضافة إلى تلك العلة ومعنى تركب الشيء مع معلوله أن يعتبر من حيث عرضت له الإضافة إلى ذلك المعلول فلا استدراك أصلا
والأول وهو المعتبر بالقياس إلى العلة إما معتبر مع الفاعل نحو العطاء فإنه اسم لفائدة اعتبرت إضافتها إلى الفاعل أو مع القابل نحو الفطوسة وهي التقعير الذي في الأنف اعتبر فيها الشيء بالإضافة إلى قابله أو مع الصورة نحو الأفطس وهو الأنف الذي فيه تقعير وهو يجري مجرى الصورة من الأنف أو مع الغاية نحو الخاتم فإنه حلقة يتزين بها في الإصبع وذلك التزين هو الغاية المقصودة من تلك الحلقة
والثاني وهو المعتبر بالنسبة إلى المعلول نحو الخالق والرازق وأمثالهما مما اعتبر فيه الشيء مقيسا إلى معلوله
والثالث وهو الذي اعتبر مع ما ليس علة ولا معلولا إما متشابهة في الماهية نحو أجزاء العشرة وهي الوحدات المتوافقة الحقيقة أو متخالفة في الماهية وهي إما متمايزة عقلا لا حسا كالجسم المركب من الهيولى والصورة فإن أجزاءه متخالفة متمايزة في العقل دون الحس وكالعدالة المركبة من الحكمة والعفة والشجاعة أو خارجا أي حسا كأعضاء البدن وعلى هذا ففي قوله نحو الإنسان المركب من النفس والبدن نظر فإن النفس الناطقة والبدن لا يتمايزان حسا وإن أريد بالخارج ما يقابل

الذهن كانت الهيولى والصورة من الأجزاء الخارجية دون العقلية ونحو الخلقة المركبة من اللون والشكل المتمايزين في الحس فإن الهيئات الشكلية محسوسة تبعا ونحو البلقة المركبة من السواد والبياض المحسوسين بالذات التقسيم الثاني أنها أي الأجزاء إما وجودية بأسرها بمعنى أنه لا يكون في مفهوماتها سلب أو لا تكون كذلك
والقسم الأول إما حقيقية أي غير إضافية كما مر من الجسم المركب من الهيولى والصورة والإنسان المركب تركيبا اعتباريا من الروح والجسد أو إضافية نحو الأقرب فإن مفهومه مركب من القرب والزيادة فيه وكلاهما إضافيان أو ممتزجة من الحقيقية والإضافية نحو السرير فإنه مركب من القطع الخشبية وهي موجودات حقيقية ومن ترتيب مخصوص فيما بينها باعتباره يتحصل السرير وإنه أمر نسبي لا يستقل بالمعقولية
والثاني وهو ما لا تكون بزسرها وجودية نحو القديم فإنه موجود لا أول له فقد يتركب مفهومه من وجودي وعدمي ولم يتعرض تلما هو عدمي محض لأنه غير معقول فإن العدمات لا تعقل إلا مضافة إلى الوجودات فيكون المعنى الوجودي ملحوظا هناك قطعا واعلم أن هذه الأقسام المذكورة في هذين التقسيمين إنما هي في الماهية على الاطلاق أعم من أن تكون ماهية حقيقية أو اعتبارية وأما إذا اعتبرنا الماهية الحقيقية فلا تكون أجزاؤها إلا موجودة فتكون وجودية قطعا فلا يتأتى فيها التقسيم الثاني باعتبار الوجودية والعدمية ولا باعتبار الحقيقية والإضافية إذا لم تجعل الإضافات من الموجودات الخارجية والنسبة بينها أي بين أجزاء الماهية الحقيقية قد تمتنع على بعض الوجوه المذكورة في التقسيم الأول كالعموم من وجه على المشهور وكالمساواة على ما قيل من امتناع تركيب الماهية الحقيقية الواحدة وحدة حقيقية من أمرين متساويين

المقصد السادس
الماهيات الممكنة هل هي مجعولة بجعل جاعل أم لا
ففيه مذاهب ثلاثة

الأول أنها غير مجعولة مطلقا سواء كانت بسيطة أو مركبة إذ لو كانت الإنسانية مثلا بجعل جاعل لم تكن الإنسانية عند عدم جعل الجاعل إنسانية لأن ما يكون أثرا للجعل يرتفع بارتفاعه قطعا وسلب الشيء عن نفسه محال بديهة
والجواب أنا لا نسلم استحالته فإن المعدوم في الخارج دائما مسلوب عن نفسه دائما فإذا ارتفع الجعل في وقت أو دائما ارتفعت الإنسانية كذلك فيصدق قولنا ليست الإنسانية انسانية في الخارج ويكون صدق السالبة الخارجية لعدم الموضوع في الخارج وليس ذلك بمحال وإنما المحال هو الإيجاب المعدول وحاصله أن عند عدمه أي عدم جعل الجاعل ترتفع الماهية الإنسانية عن الخارج رأسا وبالكلية فلا يصدق عليها حكم إيجابي بل يصدق سلب جميع الأشياء حتى سلب نفسها عنها بحسب الخارج لا أنها تتقرر في الخارج مع اللاإنسانية حتى يلزم صدق قولنا الإنسانية لا إنسانية والمحال هو هذا الثاني الذي هو الإيجاب المعدول والأول الذي هو السلب مما نقول به
المذهب الثاني أنها مجعولة مطلقا أي في الجملة إذ لو لم تكن أي شيء من الماهيات مجعولة أصلا أرتفعت المجعولية مطلقا أي بالكلية لأن ما فرض كونه مجعولا من وجود أو موصوفية الماهية به أي بالموجود فهو أيضا ماهية في نفسه والمقدر أن لا شيء من الماهيات بمجعولة فلا تكون حينئذ ماهية الممكن ولا وجودها ولا اتصافها بالوجود مجعولة بجعل الجاعل فيلزم استغناء الممكن عن المؤثر وذلك مما لا يقول به عاقل هذا ما يقتضيه تقرير الكتاب ههنا والمشهور كما أورده المصنف في تحرير المسألة أن أحد المذاهب هو أن الماهيات كلها مجعولة أما البسيطة فلأنها

ممكنة والممكن محتاج لذاته إلى فاعل وأما المركبة فكذلك أيضا أو لأن أجزاءها البسيطة مجعولة
والجواب أن المجعول هو الوجود الخاص أي هويته لا ماهية الوجود فلا يلزم من ارتفاع المجعولية عن الماهيات بأسرها بارتفاع المجعولية رأسا واستغناء الممكن عن الفاعل المؤثر
المذهب الثالث الماهية المركبة مجعولة بخلاف الماهية البسيطة لأن شرط المجعولية الإمكان وذلك لأن المجعولية فرع الاحتياج إلى المؤثر والاحتياج إليه فرع الإمكان وإنه أي الإمكان لا يعرض للبسيط فإنه نسبة بل كيفية عارضة لنسبة لا تتصور إلا بين شيئين والبسيط لا شيئين فيه فلا يتصور عروضه له وقد اعترض عليه بأنه لو صح ما ذكرتم لم تكن المركبات أيضا مجعولة لأنه فإذا لم تكن البسائط مجعولة لم تكن المركبات مجعولة إذ ليس المركب إلا مجموع البسائط كما مر في مباحث التعريف فإذا لم يكن شيء من أجزائه حتى الجزء الصوري مجعولا لم يكن المركب أيضا مجعولا وأنه يفضي إلى نفي المجعولية بالكلية وأنتم لا تقولون به لا يقال في دفع هذا الاعتراض المجعول انضامها أي انضمام بسائط المركب بعضها إلى بعض أو وجودها أي وجود الماهية المركبة منها فلا يلزم مما ذكرناه ارتفاع المجعولية بالكلية لأنا نقول ذلك الذي ذكرتموه من الانضمام أو الوجود أيضا له ماهية فهي إما بسيطة فلا تكون مجعولة على ذلك التقدير أو مركبة فيعود الكلام فيه وفي أجزائه البسيطة حتى يظهر ارتفاع المجعولية مطلقا والاعتراض المذكور معارضة والحل هو أن البسيط له ماهية ووجود فلعل الإمكان يعرض للماهية البسيطة بالنسبة إلى الوجود فالإمكان يقتضي شيئين لا جزءين حتى يستحيل عروضه للبسيط واعلم أن هذه المسألة من المداحض التي تزلق فيها أقدام الأذهان وإنا نريد

أن نثبت أقدامك في هذه المسألة بإشارة خفية إلى تحرير محل النزاع ومنشأ المذاهب والحق لا يحتجب عن طالبه بعد ذلك التحرير فنقول الحكماء لما قسموا الوجود إلى ذهني وخارجي وجعلوا الماهية الممكنة قابلة لهما ولرفعهما رأوا العوارض أي الأمور التي تعرض لتلك الماهية ثلاثة أقسام
قسم يلحق الماهية من حيث هي هي أي مع قطع النظر عن هوياتها الخارجية وعن وجودها الذهني أيضا إذ لا مدخل في ذلك اللحوق لخصوصية شيء من الوجودين بل لمطلق الوجود فأينما وجدت الماهية كانت متصفة به وذلك كالزوجية للأربعة فإنها لازمة لماهية الأربعة وعارضة لها سواء وجدت الأربعة في الخارج أو في الذهن فلو فرض أربعة موجودة بأحد الوجودين غير زوج لم تكن أربعة فيلزم التناقض وكذا الحال في تساوي زوايا المثلث لقائمتين فإنه لازم لماهية المثلث وإن لم يكن بين الثبوت لها كالزوجية للأربعة فلو تصور مثلث غير متساوي الزوايا لقائمتين لم يكن مثلثا
وقسم آخر يلحق الوجود أي الهويات الخارجية لا الماهية من حيث هي هي نحو التناهي والحدوث للجسم فإنه أي نحو ما ذكر لا يلزم ماهيته أي ماهية الجسم من حيث هي هي بل وجوده الخارجي فإن من تصور جسما قديما أو غير متناه لم يكن ذلك الشخص متناقضا في نفسه ولا متصورا لجسم غير جسم كما لزمه ذلك في تصور أربعة غير زوج
وقسم ثالث يلحق الماهية باعتبار وجودها في الذهن فيكون لخصوصية هذا الوجود مدخل في عروضه للماهية فلا يحاذى به أمر في

الخارج وهذا القسم هو المسمى بالمعقولات الثانية نحو الذاتية والعرضية والكلية والجزئية العارضة للأشياء الموجودة في الذهن وليس في الخارج ما يطابقها فنبهوا بقولهم إن الماهية غير مجعولة على أن المجعولية إنما تلحق الهوية لا الماهية أي هي من عوارض الوجود الخارجي لا من عوارض الماهية من حيث هي هي فلو تصور مثلا إنسان غير مجعول لم يكن ذلك المتصور لا إنسانا حتى يلزم التناقض وأرادوا نعني هؤلاء النافين بالمجعولية الاحتياج إلى الفاعل الموجد وهذا كلام حق لا مرية فيه لأن الاحتياج من لوازم الوجود دون الماهية وقال بعضهم وقد أرادوا بالمجعولية الاحتياج إلى الغير سواء كان فاعلا موجدا أو جزءا مقوما أنها أي المجعولية بهذا المعنى تلحق الماهية المركبة لذاتها مع قطع النظر عن وجودها فإن الاحتياج إلى جزئها الداخل في قوامها يلحقها لنفس مفهومها من حيث هو هو قطعا فأينما وجدت الماهية المركبة كانت متصفة بالاحتياج إلى الغير بخلاف البسيطة إذ ليس لها هذا الاحتياج اللازم للماهية وإن اشتركنا في الاحتياج اللازم للوجود وأرادوا بقولهم الإمكان لا يعرض للبسيط إذ ليس فيه شيئان أن الاحتياج العارض للماهية المركبة في حد ذاتها مع قطع النظر عن وجودها لا يتصور عروضه للماهية البسيطة وهذا أيضا كلام صواب لا شبهة فيه وقال بعضهم الماهية مجعولة مطلقا سواء كانت مركبة أو بسيطة وقد أرادوا عروض المجعولية لها في الجملة أي أرادوا أن الاحتياج عارض لها أعم من أن يكون عروضه لنفس الماهية أو للوجود وأعم من أن يكون إلى الفاعل الموجد أو الجزء المقوم وهذا أيضا كلام صدق لا شك فيه وأن عاقلا عطف على أن هذه المسألة أي واعلم أن عاقلا لم يقل بأن الماهية الممكنة مستغنية في تقررها وثبوتها في الخارج عن الفاعل الموجد كما يتبادر إليه الوهم من قولهم الماهية غير مجعولة إلا ما ينسب إلى المعتزلة من أن المعدومات الممكنة ذوات متقررة ثابتة في أنفسها من غير

تأثير للفاعل فيها وإنما تأثيره في اتصافها بالوجود هذا تقرير ما حرره المصنف وفيه بعد لأن البحث عما يلحق الماهية أنه من لوازمها من حيث هي أو من لوازم وجودها الخارجي أو الذهني جار في كثير من لواحقها فليس لتخصيص هذا البحث بالمجعولية كثير فائدة وأيضا كما أن الماهية الممكنة محتاجة إلى الفاعل في وجودها الخارجي كذلك محتاجة إليه في وجودها الذهني فالمجعولية بمعنى الاحتياج إلى الفاعل من لوازم الماهية الممكنة مطلقا فإنها أينما وجدت كانت متصفة بهذا الاحتياج سواء كان اتصافها به بينا أو غير بين وإن فسر المجعولية بأنها الاحتياج إلى الفاعل في الوجود الخارجي كان الكلام صحيحا والتقييد تكلفا وأبعد من ذلك ما قاله الإمام الرازي من أن معنى قولهم الماهية غير مجعولة أن المجعولية ليست نفس الماهية ولا داخلة فيها على قياس ما قيل من أن الماهية لا واحدة ولا كثيرة والصواب أن يقال معنى قولهم الماهية ليست مجعولة أنها في حد أنفسها لا يتعلق بها جعل جاعل ولا تأثير مؤثر فإنك إذ لاحظت ماهية السواد ولم تلاحظ معها مفهوما سواها لم يعقل هناك جعل إذ لا مغايرة بين الماهية ونفسها حتى يتصور توسط جعل جاعل بينهما فتكون إحداهما مجعولة تلك الأخرى وكذا لا يتصور تأثير الفاعل في الوجود بمعنى جعل الوجود وجودا بل تأثيره في الماهية باعتبار الوجود بمعنى أنه يجعلها متصفة بالوجود لا بمعنى أنه بجعل اتصافها موجودا متحققا في الخارج فإن الصباغ مثلا إذا صبغ ثوبا فإنه لا يجعل الثوب ثوبا ولا الصبغ صبغا بل يجعل الثوب متصفا بالصبغ في الخارج وإن لم يجعل اتصافه به موجودا ثابتا في الخارج فليست الماهيات في أنفسها مجعولة ولا وجوداتها أيضا في أنفسها مجعولة بل الماهيات في كونها موجودة مجعولة وهذا

مما لا ينبغي أن ينازع فيه ولا منافاة بين نفي المجعولية عن الماهيات بالمعنى الذي ذكرناه أولا وبين إثباتها لها بما بينا أنفا أنه الحق الذي لا يتوهم بطلانه فالقول بنفي المجعولية مطلقا وبإثباتها مطلقا كلاهما صحيح إذ حملا على ما صورناه ومن ذهب إلى أن المركبات مجعولة دون البسائط فإن أرادوا بالمجعولية أحد المعنيين فالفرق باطل لأن المجهولية بمعنى جعل الماهية تلك الماهية منفية عنهما معا وبمعنى جعل الماهية موجودة ثابتة لهما معا وإن أرادوا كما هو الظاهر من كلامهم أن ماهية المركب في حد ذاتها مع قطع النظر عن وجودها محتاجة إلى ضم بعض أجزائها إلى بعض وهذا الاحتياج الذاتي لا يتصور في البسيط فهو والمركب يتشاركان في ثبوت المجعولية بحسب الوجود والحاجة إلى التأثير وفي نفي المجعولية بحسب الماهية ويتمايزان بأن المركب مجعول في حد ذاته مع قطع النظر عن وجوده دون البسيط كان هذا أيضا صوابا بلا ريبة

المقصد السابع
المركب إما ذات إن كان قائما بنفسه وإما صفة إن كان قائما بغيره

والأول يقوم بعض أجزائه ببعض آخر منها وإلا أي وإن لم يقم بعض أجزائه ببعض استغنى كل عن الآخر فلم يحصل منها ماهية متحدة وحدة حقيقية لما سيأتي في المقصد التاسع من أنه لا بد من حاجة بعض الأجزاء إلى بعض وعلى هذا فحق هذا المقصد أن يؤخر عن التاسع على أن حاجة بعضها إلى بعض لا يجب أن يكون بقيامه به لجواز أن يكون احتياجه إليه بوجه آخر ولا بد في الأول أيضا من أن يكون بعض أجزائه قائما بنفسه وإلا لم يكن المركب قائما بنفسه والمقدر خلافه
والثاني أي المركب الذي هو صفة يقوم بثالث هو غير المركب وأجزائه فإما أن يقوم أجزاؤه كلها بذلك الثالث ابتداء لكن يكون قيام بعضها به شرطا لقيام البعض الآخر حتى يتصور كون ذلك المركب واحدا حقيقيا لا اعتباريا أو يقوم جزء منه بذلك الثالث ابتداء ويقوم الجزء الآخر منه بالجزء القائم به فيكون قيامه أي قيام الجزء الآخر بالثالث بالواسطة هي التي الجزء القائم به ابتداء

المقصد الثامن
إنما يحكم بكون الماهية مركبة من أجزاء سواء كانت أجناسا أو فصولا أو غيرها إذا علم أنها مشاركة لغيرها في ذاتي أي أمر غير خارج عنها ومخالفة لذلك الغير في ذاتي بالمعنى المذكور إذ يعلم بالضرورة أن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ولما لم يكن شيء منهما خارجا عنها كانت مركبة منهما لا بأن يشتركا أي يحكم على الماهية بكونها مركبة بأن تشارك غيرها في ذاتي وتخالفه في ذاتي آخر لا بأن يشتركا في ذاتي ويختلفا بعارض ثبوتي أو سلب أي عارض سلبي لجواز كونه أي كون ذلك الذاتي أعني ما ليس بعرض تمام ماهيتهما كأفراد البسيط الذي هو طبيعة

نوعية فإن أفراده تختلف بالتعينات التي هي أمور عارضة مع أن الماهية واحدة لا تركيب فيها وكذل الوجود يشارك الماهيات الموجودة في الثبوت ويمتاز عنها بقيد سلبي هو أنه ليس مفهومه إلا الثبوت فقط وللماهيات أمر وراءه وليس يلزم من ذلك تركيب الوجود ولا بأن يختلفا في ذاتي مع الاشتراك في عارض ثبوتي أو سلب فإن هذا أيضا لا يقتضي التركيب إذ البسيطان قد يستلزمان صفة ثبوته أو سلبية ويتمايزان إن بتمام الحقيقة ولا تركيب في شيء منهما واعلم أن المشتركين في ذاتي إذا اختلفا في لوازم الماهية دل ذلك على التركيب لأن اللازم المذكور المستند إلى الماهية لا يستند لما به الاشتراك وإلا كان مشتركا مثله بل لا بد أن يستند إلى شيء آخر معتبر في الماهية غير مشترك فيلزم التركيب فهذا القسم مستثنى عن قوله لا بأن يشتركا في ذاتي ويختلفا بعارض أو سلب وأما الاشتراك في عارض ثبوتي أو سلبي والاختلاف في عارض آخر ثبوتي أو سلبي فظاهر أنه لا يقتضي تركيبا أصلا

المقصد التاسع
لا بد في تركيب الماهية الحقيقية من حاجة الأجزاء بعضها إلى بعض إذ لو استغنى كل من الأجزاء عن الآخر لم يحصل منهما ماهية واحدة وحدة حقيقية كالحجر الموضوع بجنب الإنسانية قالوا هذا الحكم الكلي بديهي والتمثيل للتوضيح وأورد العسكر فإنه مركب من الآحاد مع

استغناء كل منها عن الآخر والمعجون فإنه مركب من المفردات مع أن كل مفرد منها مستغن عما عداه فانتقد ذلك الحكم الكلي وأجيب عنه بأن الجزء الصوري فيهما وهو الهيئة الاجتماعية العارضة للآحاد كلها وللمفردات بأسرها محتاج إلى الجزء المادي الذي هو الآحاد والمفردات وهو ضعيف لأن مثل هذه الهيئة الاعتبارية عارضة للإنسان والحجر الموضوع بجنبه فلو كان احتياجها كافيا لكان المركب منهما ماهية حقيقية وهو باطل بالضرورة والأولى في الجواب أن يقال أما المعجون فلا بد فيه من مزاج أي صورة نوعية تابعة للمزاج يستعقب كيفيات وآثارا صادرة عنه وأنه أي ذلك المزاج بمعنى الصورة جزء من المعجون ومحتاج إلى الأجزاء الأخر لحلوله فيها ويؤيد ما ذكرناه قول الإمام الرازي في المباحث المشرقية وأما الجزء الآخر وهو الصورة المعجونية التي هي مبدأ الآثار الصادرة عنه فهي محتاجة إلى الجزء الأول الذي هو مجموع المفردات وعلى هذا فلا إشكال وإن حمل المزاج على معناه الحقيقي وجعل جزءا من المعجون محتاجا إلى باقي الأجزاء لزم تركيب الجوهر الذي هو المعجون من جوهر وعرض وقد جوزه بعضهم متمسكا بتركب السرير من جوهر هو القطع الخشبية وعرض هو الترتيب المخصوص أو الهيئة المرتبة عليه قال والمحال تركب الجوهر من عرض قائم به فإنه متأخر عنه فلا يكون جزءا منه دون تركبه من جوهر آخر وعرض يقوم بذلك الجوهر الآخر لأن اللازم حينئذ تأخر أحد الجزئين عن الآخر نعم يستحيل أن يكون العرض جزءا محمولا للجوهر فتأمل وأما العسكر فإنه عبارة عن مجموع الآحاد فقط وهو موجود بلا شبهة إلا أنه ماهية وحدتها اعتبارية والكلام في الماهية الحقيقية الوحدة ولا فرق بين العسكر والمركب من الإنسان والحجر في أن المركب فيهما عين الآحاد بأسرها وفي أنه يترتب على الكل فيهما ما لا يترتب على كل واحد من أجزائه وفي أنه يمكن أن يعتبر هناك هيئة اجتماعية باعتبارها تعرض للأمور المتعددة وحدة اعتبارية إلا أن تلك الهيئة

إذا اعتبرت وجعلت جزءا من العسكر مثلا لم يكن العسكر أمرا موجودا في الخارج لأن ما جزؤه عدم فهو عدم قطعا وذلك مما لا يقول به عاقل ثم إنه يجب أن تكون الحاجة بين الأجزاء إما من جانب واحد أو من الجانبين بحيث لا يستلزم الدور وذلك أعني استلزامها الدور بأن يحتاج كل جزء إلى الآخر من جهة واحدة وأما احتياج كل جزء إلى الآخر من جهتين فجائز إذ لا دور فيه كما تحتاج الهيولى إلى الصورة من وجه وهو أن بقاء الهيولى بالصورة وتحتاج الصورة إلى الهيلولي من وجه آخر وهو احتياجها في تشخصها إلى الهيولى وسيأتي ذلك في موقف الجواهر

المقصد العاشر
قال الحكماء قد ظهر وجوب حاجة بعض الأجزاء إلى بعض في الماهية الواحدة وحدة حقيقية ولا شك أن الماهية المركبة من الجنس والفصل حقيقة واحدة كذلك فلا بد أن يكون بينهما حاجة فأحدهما علة للآخر وليس الجنس علة للفصل وإلا استلزمه وكان الجنس منحصرا في نوع واحد أو نقول كانت الفصول المتقابلة لازمة لشيء واحد وكلاهما باطل فالفصل علة للجنس وهو المطلوب وأجيب عنه بأن المحتاج إليه هو العلة الناقصة وأنها غير مستلزمة لمعلولها فإن أردت بالعلة العلة التامة منعنا كون أحدهما علة للآخر والحاجة التي يجب ثبوتها بين الأجزاء لا تستلزمه أي كون أحدهما علة تامة للآخر وهو ظاهر وإن أردت بالعلة العلة الناقصة فلعل الجنس علة ناقصة للفصل ولا يجب استلزامها لمعلولها إنما المستلزم للمعلول هي العلة التامة فلا يلزم انحصار الجنس في نوع واحد ولا كون الفصول المتقابلة لازمة لشيء واحد وفي عبارة الجواب استدراك إذ يكفي

أن يقال إن أردت بالعلة التامة الخ ثم أن المتبادر مما نقله عن الحكماء وزيفه هو أن الفصل علة لوجود الجنس في الخارج وذلك مخالف لقواعدهم إنما المطابق لها ما ذكره بقوله قال الحكماء الجنس أمر مبهم في العقل يصلح أن يكون أنواعا كثيرة هو عين كل واحد منهما في الوجود وليس هو متحصلا مطابقا لماهية نوع منها بتمامها وإنما تحصله بالفصل فإنه إذ انضم الفصل إليه صار متعينا ومتحصلا فهو أي الفصل علة له يحصله في العقل أي يجعله مطابقا لتمام ماهية النوع ويزيل إبهامه أي يعينه لنوع واحد من تلك الأنواع التي كان صالحا لكل واحد منها فهو علة لتحصله وتعينه في الذهن لا أنه علة خارجية لوجوده إذ ليس للجنس وجود مغاير لوجود الفصل في الخارج حتى يتصور بينهما علية وليس الفصل أيضا علة لوجود الجنس في الذهن وإلا لم يعقل الجنس بدون فصل من الفصول وهذا الذي ذكرناه من كون الفصل علة لتحصل الجنس وزوال إبهامه في العقل بين لا حاجة به إلى دليل اخترعه المتأخرون لهم فإنه ليس المقدار مثلا أمرا ممتازا في الخارج يقترن به تارة كونه خطأ أي فصل الخط المميز إياه عن مشاركاته في المقدارية وتارة كونه سطحا وتارة كونه جسما تعليميا بل ثمة مقدار مخصوص هو في نفسه الخط ليس ذلك المقدار إلا الخط من غير أن يكون هناك شيئان يجتمعان في الخارج فيتحصل منهما الخط ومقدار آخر هو السطح ليس إلا السطح ومقدار ثالث هو الجسم التعليمي ليس إلا نعم المقدار أمر مبهم في العقل يحتمل كل واحد من الأنواع المندرجة تحته ولا يطابق تمام ماهية شيء منها بل يحتاج في تحصله ومطابقته لتمام الماهية الموجودة في الخارج إلى أن يكون أحدهما بل أحدها أي إلى أن يقترن به فصل واحد منها ليفرزه ويحصله فما لم يقترن به في العقل فصل من تلك الفصول لم تحصل له الصورة الخطية

المطابقة لماهية الخط الموجود في الخارج ولا الصورة السطحية ولا الصورة الجسمية وتقرر لك من هذا الذي صورناه في المقدار وأنواعه أنه ليس بين الجنس والفصل تمايز في الخارج بأن يكون للجنس وجود فيه وللفصل وجود آخر بل هما متحدان بحسب الخارج وجودا وجعلا كيف والأمران المتمايزان بالوجود في الخارج لا يمكن حمل أحدهما على الآخر بهو هو وإن كان بينهما أي اتصال فرضت كالملازمة والحلول في الهيولى والصورة ولنزده زيادة تحقيق فنقول العام له مفهوم غير مفهوم الخاص ويتحصل مفهوم العام بالخاص كما تحققته فيكون له أي لكل واحد من العام والخاص صورة عقلية مغايرة لصورة الآخر ولكن هويتهما في الخارج واحدة فلا تمايز بينهما في الخارج بل في الذهن فقط فزيد هو الإنسان وهو الحيوان وهو الناطق ولا تعدد في الخارج بأن يكون الحيوان موجودا في الخارج وينضم إليه موجود آخر هو الناطق فيتحصل منهما ماهية الإنسان ثم ينضم إلى هذه الماهية موجود آخر هو التشخص المخصوص فيتحصل منهما زيد إذ لو كان هناك تعدد خارجي لم يتصور حمل هذه الأشياء بعضها على بعض بالمواطأة فإذا اعتبرنا الحيوان مثلا من حيث أنه هو الناطق أي من حيث أنه متحصل قد دخل فيه من هذه الحيثية ما من شأنه أن يحصله كالناطق مثلا كان هو الإنسان إذ لا معنى للإنسان إلا حيوان دخل في طبيعته الناطق وإذا أخذناه من حيث هو مفهوم غيره أي غير الناطق منضم إليه أي إلى الناطق حصلت منهما ماهية مركبة هي غيرهما كان كل واحد منهما جزءا لها أي لتلك الماهية وبهذا الاعتبار لا يحمل شيء منهما على الآخر ولا على الماهية المركبة منهما وإذ أخذناه من حيث هو هو من غير اعتبار أنه ناطق بوجه كما أخذناه أولا أو غيره بوجه كما أخذناه ثانيا فهو المحمول على الإنسان والحاصل أن الأجزاء المتمايزة بحسب العقل دون الخارج لها اعتبارات فإن الصورة العقلية تؤخذ تارة بشرط شيء أي ب شرط

أن ينضم إليها صورة أخرى فيطابقان معا أمرا واحدا فلا يلاحظ حينئذ تغايرهما بل اتحادهما كالحيوان والناطق المأخوذين من حيث أنهما يطابقان الماهية الإنسانية فالجنس المأخوذ بهذا الاعتبار هو عين النوع وكذا النوع وكذا الفصل وتؤخذ تارة بشرط لا شيء أي بشرط أنها صورة على حدة بحيث إذا انضمت إلى صورة أخرى كانتا متغايرتين وقد تركب منهما ماهية ثالثة كالحيوان والناطق إذا اعتبرا موجودين متغايرين في العقل وقد تركب منهما ماهية الإنسان فكل واحد من الجنس والفصل بهذا الاعتبار جزء ومادة للنوع فلا يحمل بعضها على بعض وقد تؤخذ لا بشرط شيء فيكون لها جهتان إذ يمكن أن يعتبر التغاير بينها وبين ما يقارنها وأن يعتبر اتحادهما بحسب المطابقة لماهية واحدة وهذا هو الذاتي الحمول ومعنى حمله أي حمل الحيوان مثلا عليه أي على الإنسان أن هذين المفهومين المتغايرين في العقل هويتهما الخارجية أو الوهمية واحدة فلا تلزم وحدة الاثنين ولا حمل الشيء على نفسه يعني قد اندفع بما حققناه من معنى الحمل ما يقال من أن المحمول إن كان غير الموضوع يلزم من الحمل بالمواطأة الحكم بوحدة الاثنين وإن كان عينه يلزم حمل الشيء على نفسه فلا يكون مفيدا بل لا يكون هناك حمل حقيقي وهذا المقام يستدعي مزيد بسط في الكلام لينضبط به المرام وهو أن تقول لا إشكال في تركيب الماهية من الأجزاء الخارجية التي لا تحمل عليها مواطأة إنما الإشكال في تركبها من الأجزاء المحمولة عليها المتصادقة بعضها على بعض ولذلك تحيرت فيها الأوهام واختلفت المذاهب ووجه ضبطها أن يقال ماهية الإنسان مثلا يصدق عليها مفهومات متعددة كالجوهر والجسم والحيوان وكالماشي والكاتب

والضاحك إلى غير ذلك وليست نسبة هذه المفهومات إلى الماهية الإنسانية على السوية بل بعضها خارجة عنها عارضة لها كالماشي وأخواته وبعضها ليست كذلك كالجوهر وأخواته ثم إن هذه المفهومات التي ليست خارجة عنها لا شك أنها متغايرة في الذهن بحسب أنفسها ووجوداتها أيضا فهذه الصور المتغايرة في الذهن إما أن تكون صورا لشيء واحد في حد ذاته بسيط لا تعدد فيه أو تكونه صورا لأشياء متعددة متغايرة الماهية وعلى الثاني إما أن تكون تلك الماهية المتعددة موجودة بوجودات متعددة أو بوجود واحد فهذه احتمالات ثلاثة لا مزيد عليها وقد ذهب إلى كل واحد منها طائفة
الاحتمال الأل أن تكون تلك الصورة لشيء واحد هو بسيط ذاتا ووجودا لكن ينتزع العقل منه باعتبارات شتى هذه الصور المتخالفة كما مر وهذا هو القول بأن لأجزاء المحمولة عين المركب في الخارج ماهية ووجودا وإن جعل الأشياء في الخارج هو بعينه جعل المركب فيه ولا امتياز بينهما إلا في الذهن وهو المختار عند المحققين كما بين في الكتاب ولا إشكال عليه إلا ما سلف من أن الصور العقلية المختلفة كيف يتصور مطابقتها لأمر واحد بسيط في الخارج وقد عرفت جوابه هناك
الاحتمال الثاني أن تكون تلك الصور لأمور مختلفة الماهية إلا أنها موجودة في الخارج بوجود واحد وهذا هو القول بأن الأجزاء المحمولة تغاير المركب ماهية لا وجودا ويرد عليه أن ذلك الوجود الواحد إن قام بكل واحدة من تلك الماهيات لزم حلول شيء واحد بعينه في محال متعددة وإن قام بمجموعها من حيث هو لزم وجود الكل بدون وجود أجزائه وكلاهما محال
الاحتمال الثالث أن تكون تلك الماهيات المختلفة موجودة بوجودات متعددة وهذا هو القول بأن الأجزاء المحمولة تغاير المركب ماهية ووجودا

وهو مردود بأن الأجزاء المتمايزة بحسب الخارج في الماهية والوجود يمتنع حملها على المركب منها وكذا حمل بعضها على بعض فإن المتمايزين في الماهية والوجود وإن فرض بينهما أي ارتباط أمكن يمتنع أن يقال أحدهما هو الأخر أو يقال المجتمع منهما هو هذا الواحد أو ذاك الواحد يشهد بذلك بديهة العقل وبهذا يبطل ما تمسك به هذا القائل من أنها لما التأمت وحصل منها ذات واحدة وحدة حقيقية صح حملها على تلك الذات وحمل بعضها على بعض أيضا واعلم أن تفسير الحمل بالتغاير في المفهوم والاتحاد في الهوية إنما يصح في الذاتيات دون الأمور العدمية المحمولة على الموجودات الخارجية كقولك الإنسان أعمى إذ ليس لمفهوم الأعمى هوية خارجية متحدة بهوية الإنسان وإلا كان مفهومه موجودا خارجيا متأصلا كالإنسان وإذا أريد تفسيره بحيث يعم الكل قيل معنى الحمل أن المتغايرين مفهومان متحدان ذاتا بمعنى أن ما صدقا عليه ذات واحدة وجواز صدق المفهومات العدمية على الموجودات الخارجية مما لاشبهة فيه واعلم أيضا أن الماهية المركبة من أجزاء خارجية أي غير محمولة عليها لا يجوز أن تكون مركبة من أجزاء محمولة وذلك لأنه إذا حصلت الأجزاء الخارجية بأسرها في العقل فلا شك أنه تحصل فيه تلك الماهية المركبة بكنهها ويكون القول الدال على مجموع تلك الأجزاء حدا تاما لها إذ لا معنى للتحديد التام إلا تصوير كنه الماهية فلو كان لها أجزاء محمولة أيضا فإن لم تشتمل على تلك الأجزاء لم تحصل منها صورة مطابقة للماهية المفروضة لأن الصورة المطابقة لها هي الملتئمة من تلك الأجزاء وإن اشتملت عليها فحينئذ إن لم تشتمل على أمر زائد كانت هي تلك الأجزاء بعينها لا أجزاء محمولة وإن اشتملت على أمر الزائد فذلك الزائذ إن دخل

في الماهية كانت حقيقتها قابلة للزيادة والنقصان وإن لم تدخل فلا اعتبار به في الأجزاء وبالجملة مجموع الأجزاء الخارجية تمام حقيقة المركب في العقل كما أنه تمام حقيقته في الخارج فلو كان له أجزاء عقلية مغايرة لتلك الأجزاء لكان مجموعها أيضا تمام ماهية المركب في العقل فيلزم أن يكون لشيء واحد حقيقتان مختلفتان في العقل وأنه محال فبطل ما قيل من أن تركب الماهية من أجزاء غير محمولة لا ينافي تركبها من أجزاء محمولة بل كل مركب خارجي إذا اشتق من جزئه المشترك بينه وبين غيره كان ذلك المشتق جنسا له وإذا اشتق من جزئه المختص به كان فصلا له وكل مركب فإنه مركب من الجنس والفصل وكيف لا يبطل والاشتقاق يخرج الجزء عن الجزئية إذ لا بد أن يعتبر الجزء مع نسبة هي خارجة عن ماهية المركب فإن النسبة بين الجزء والكل خارجة عنهما قطعا والجزء المأخوذ مع الخارج خارج وتحقق عندك أن المركب من أجزاء غير محمولة لا يجوز أن يتركب من أجزاء محمولة وأن المركب من الأجزاء المحمولة لا يكون إلا بسيطا في الخارج وفرعوا على علية الفصل كما فهموا فروعا أربعة
الأول لا يكون فصل الجنس جنسا للفصل باعتبار نوعين أي لا يجوز أن يكون لماهية واحدة جزءان أحدهما جنس لها مشترك بينها وبين نوع ما والآخر فصل لها يميزها عن ذلك النوع ثم ينعكس الأمر فيكون هذا الفصل جنسا لها مشتركا بينها وبين نوع آخر وذلك الجنس فصلا لها يميزها عن النوع الآخر وإلا لكان كل منهما علة للآخر وأنه محال وأورد عليهم الحيوان والناطق فإنه جنس للإنسان مشترك بينه وبين الفرس مثلا والناطق فصل له يميزه عن الفرس والناطق جنس له مشترك بينه وبين الملك

والحيوان فصل له يميزه عن الملك فقد انعكس الحال بين الجنس والفصل في الإنسان بالقياس إلى نوعي الملك والفرس وأجابوا عنه بأن المراد بالناطق إن كان هو الجوهر الذي له النطق أي إدراك المعقولات فإنه ليس مشتركا بين الإنسان والملك بل مختلفا بالماهية فيهما فلا يكون جنسا لهما وإن كان المراد بهذا الناطق هو هذا العارض أعني مفهوم ما له قوة إدراك المعقولات لم يكن فصلا للإنسان بل هو أثر من آثار فصله
الفرع الثاني الفصل القريب لا يتعدد فلا يكون لشيء واحد سواء كان نوعا أخيرا أو لا فصلان قريبان أي في مرتبة واحدة وإلا اجتمع على المعلول الواحد بالذات علتان مستقلتان قيد الفصل بالقريب لأن الفصل البعيد وكذا المطلق يجوز تعدده ويكون كل من الفصول المتعددة علة للجنس الذي في مرتبته كالناطق للحيوان للحيوان والحساس للجسم النامي والنامي للجسم مطلقا وقابل الأبعاد للجوهر واعتبر وحدة المعلول بالذات لأنه إذا تعدد ذاته جاز توارد العلل عليه كما في أفراد نوع واحد يقع بعضها بعلة وبعضها بعلة أخرى وأما مع وحدة الذات فلا مساغ لذلك إذ يستغنى بكل عن كل سواء كان الواحد بالذات شخصا وهو ظاهر أولا كما نحن بصدده فإن طبيعة الجنس في النوع قبل اعتبار تعدد أفراده ذات واحدة لا تعدد فيها وقيد العلة بالاستقلال لأن تعدد العلل الناقصة جائز فإن قلت ليس الفصل وحده علة تامة للجنس لجواز أن يكون للجنس أجزاء وأن يكون هناك شرائط معتبرة قلت كل واحد من الفصلين مع باقي الأمور المعتبرة علة مستقلة فيلزم توارد العلل المستقلة لا يقال الحساس والمتحرك بالإرادة فصلان قريبان للحيوان لأنا نقول بل كل منهما أثر لفصله فإن حقيقة الفصل إذا جهلت عبر عنها بأقرب آثارها كالنطق لفصل الإنسان

ولما اشتبه تقدم كل من الحس والحركة الإرادية على الآخر عبر بهما معا عن فصل الحيوان ويكفينا في ذلك أي في أن الفصل القريب لا يتعدد أن الفصل القريب هو تمام الجزء المميز فلا يجوز تعدده وإلا لم يكن شيء منهما وحده فصلا بل الفصل في تلك المرتبة هو مجموعهما معا فإذا تركبت ماهية من أمرين متساويين لم يكن لها فصل بهذا المعنى ولو أردنا بالفصل القريب الجزء المميز للشيء عن جميع ما عداه لم يمتنع تعدده فإن الماهية المركبة من الأمور المتساوية يكون كل جزء منها فصلا قريبا لها وبالجملة إذا جعل التمام المعتبر في الفصل القريب صفة للجزء المميز امتنع تعدده بلا شبهة واستعانة بالعلية وإن جعل صفة للتميز لم يمتنع تعدده في ماهية ليس لها جنس وامتنع فيما لها جنس تفريغا على العلية
الفرع الثالث لا يقوم فصل قريب إلا نوعا واحدا وإلا أي وإن لم يكن كذلك بل قوم نوعين في مرتبة واحدة فللبسيط أثران هما جنسا ذينك النوعين وهذا إنما يتم إذا كان الفصل القريب بسيطا فالأولى أن يقال فيتخلف عنه معلوله لأن جنس كل من النوعين لا يوجد في الآخر
الفرع الرابع وهو فرع الفرع الثالث المتقدم أنه أي الفصل القريب لا يقارن في مرتبة واحدة إلا جنسا واحدا وإلا فللبسيط أثران إذ لو قارن جنسين في مرتبة واحدة لقوم نوعين في مرتبة واحدة لاستحالة أن يكون لنوع واحد جنسان في مرتبة واحدة وحينئذ يلزم تخلف المعلول عن علته

المستلزمة إياه سواء كانت علة تامة أو جزءا أخيرا منها وقد يفرع الثالث على الرابع فيقال لما ثبت أن الفصل القريب لا يقارن جنسين في مرتبة واحدة لاستلزامه التخلف وجب أن لا يقوم نوعين في مرتبة والأظهر أنهما مشتركان في الدليل بلا تفريع بينهما وكل ذلك أي جميع ما ذكر من الفروع ضعفه ظاهر لابتنائه على أن الفصل علة للجنس في الخارج ويظهر حقيقته أي حقيقة كل ما ذكر وضعفه مما لخصناه وأوضحناه من تحقيق كلامهم في الجنس والفصل وعلية الفصل له فإن قلت هل تتأتى هذه الفروع على ما لخصه أو لا قلت أما تعاكس الحال بين الجنس والفصل فلا مانع منه عليه لجواز أن يكونا مفهومين في كل منهما إبهام من وجة فيتحصل بالآخر نعم يمتنع ذلك في الماهيات الحقيقية إذ لم يجز أن يكون بين أجزائها عموم من وجه وأما تعدد الفصل القريب فلا يجوز لأن الواحد منهما أن تحصل به الجنس فقد صار به نوعا وليس للآخر في حصول هذا النوع مدخل فيكون فصلا خارجا لا فصلا مقوما له وإن لم يتحصل الجنس بأحدهما بل بهما معا كانا فصلا واحدا لا متعددا هذا إذا كان للماهية جنس فإن المركب من المتساويين لا يتصور فيه إبهام وتحصيل فلا منع من تعدد الفصل القريب فيه كما عرفت وأما تقويم الفصل القريب لنوعين في مرتبة واحدة فيستلزم أن يكون بين الجنس والفصل عموم من وجه وقد مر بيان حاله وأما مقارنته لجنسين في مرتبة واحدة فإن كانت في نوعين لزم ذلك أيضا أعني أن يكون بين الجنس والفصل عموم وخصوص من وجه وإن كانت في نوع واحد لزم أن يكون لماهية واحدة جنسان في مرتبة واحدة وذلك باطل لأنه لا يتحصل حينئذ كل منهما بالفصل وحده وإلا لكان النوع وحده متحققا بدون الجنس الآخر فلا يكون جنسا له بل يتحصل كل منهما بالفصل والجنس الآخر ولما كان كل منهما مبهما لم يمكن أن يكون له مدخل في تحصيل الآخر إلا باعتبار تحصله في نفسه فيلزم أن يكون تحصل كل منهما علة ناقصة لتحصل الآخر فيلزم الدور

المقصد الحادي عشر
الماهية كالإنسان مثلا تقبل الشركة أي لا تمنع من فرض اشتراكها وحملها على كثيرين دون التعين المخصوص كتعين زيد مثلا فإنه لا يمكن فرض اشتراكه بين أمور متعددة بالبديهة فهو غيرها وقد اختلف في التعين الذي هو غير الماهية وباعتباره معها يمتنع فرض اشتراكها هل هو وجودي أي موجود في الخارج أم لا فذهب المحققون من العلماء إلى أنه وجودي لأنه جزء المعين الموجود في الخارج وجزء الموجود الخارجي موجود في الخارج بالضرورة وقد قال بعضهم يعني الكاتبي إن أردت بالمعين معروض التعين وحده فلا نسلم أن التعين جزؤه بل هو عارضه ووجود المعروض في الخارج لا يستلزم وجود عارضه فيه ألا ترى أن العمى العارض للموجودات الخارجية ليس موجودا في الخارج أو المجموع المركب من العارض والمعروض فلا نسلم أنه أي المعين بهذا المعنى موجود فإن من يمنع وجود التعين كيف يسلم أنه مع معروضه موجودان بل الموجود عنده هو المعروض وحده
والجواب أن المراد بالمعين الذي ادعينا وجوده هو الشخص مثل زيد ولا ريبة لعاقل في وجوده وليس مفهومه مفهوم الإنسان وحده قطعا وإلا لصدق على عمرو أنه زيد كما يصدق عليه أنه إنسان فإذا هو الأنسان مع شيء آخر نسميه التعين فيكون ذلك الشيء الآخر جزء زيد فيوجد ذلك الآخر وهو المطلوب ثم أنه بين أن تركب الشخص المعين من الماهية والتعين إنما هو بحسب الذهن دون الخارج فقال واعلم أن نسبة الماهية إلى المشخصات كنسبة الجنس إلى الفصول فكما أن الجنس مبهم في العقل

يحتمل ماهيات متعددة ولا تعين لشيء منها إلا بانضمام فصل إليه وهما متحدان ذاتا وجعلا ووجودا في الخارج ولا يتمايزان إلا في الذهن كذلك الماهية النوعية تحتمل هويات متعددة ولا تعين لشيء منها إلا بمشخص ينضم إليها وهما متحدان ف يالخارج ذاتا وجعلا ووجودا ومتمايزان في الذهن فقط فليس في الخارج موجود هو الماهية الإنسانية مثلا وموجود آخر هو التشخص حتى يتركب منهما فرد منها وإلا لم يصح حمل الماهية على أفرادها بل ليس هناك إلا موجود واحد أعني الهوية الشخصية إلا أن العقل يفصلها إلى ماهية نوعية وتشخص كما يفصل الماهية النوعية إلى الجنس والفصل ثم أشار إلى الفرق بقوله بيد أنه لا يحصل من كل مشخص صورة في العقل مغايرة للصورة الأخرى الحاصلة من مشخص آخر لأن المشخصات أمور جزئية لا ترتسم صورها في ذات النفس بل في آلاتها فكذا صورة الماهية المتشخصة إنما ترتسم في الالة ولا تتناولها إلا الإشارة الحسية أو الوهمية بخلاف صور الفصول وما يتحصل بها من الأنواع فإنها أمور كلية يتحصل منها في العقل صور متغايرة وبالجملة فالفصول تحصل ماهيات متخالفة تنطبع في العقول والمشخصات تحصل هويات ترتسم في الحواس مع كون الماهية واحدة والأشخاص تمايزها في الوجود الخارجي بهوياتها أي بذواتها لا بمشخصاتها كما يتبادر إليه الوهم إذ لا تمايز في هذا الوجود بين الماهية والمشخص ومن ههنا ظهر أن لا وجود في الخارج

إلا للأشخاص وأما الطبائع والمفهومات الكلية فينتزعها العقل من الأشخاص تارة من ذواتها وأخرى من الأعراض المكتنفة بها بحسب استعدادات مختلفة واعتبارات شتى فمن قال بوجود الطبائع في الخارج إن أراد به أن الطبيعة الإنسانية مثلا بعينها موجودة في الخارج مشتركة بين أفرادها لزمه أن يكون الأمر الواحد بالشخص في أمكنة متعددة متصفا بصفات متضادة لأن كل موجود خارجي فهو بحيث إذا نظر إليه في نفسه مع قطع النظر عن غيره كان متعينا في حد ذاته غير قابل للاشتراك فيه بديهة وإن أراد أن في الخارج موجودا إذا تصور هو في ذاته اتصفت صورته العقلية بالكلية بمعنى المطابقة لكثيرين لا بمعنى الاشتراك بينهما بالفعل فهو أيضا باطل لما مر آنفا من أن الموجود الخارجي متعين في حد نفسه فلا تكون صورته المخصوصة مطابقة لكثيرين وإن أراد أن في الخارج موجودا رذا تصور وجرد عن مشخصاته حصل منه في العقل صورة كلية فذلك بعينه مذهب من قال لا وجود في الخارج إلا للأشخاص والطبائع الكلية منتزعة منها فلا نزاع إلا في العبارة وأما ما يقال من أن الطبيعة الإنسانية مثلا قابلة في نفسها للتعدد والتكثير فتحتاج إلى من يكثرها فإذا تكثرت بتكثير الفاعل ووجدت تلك الكثرة في الخارج كان كل واحد منها عين تلك الطبيعة فتكون الطبيعة الإنسانية موجودة في الخارج على أنها متكثرة لا على أنها متصفة بالوحدة حتى يلزم ذلك المحذور فجوابه أن كل واحد من تلك الكثرة لا بد أن يشتمل على أمر زائد هو تشخصه وتعينه فليس شيء منها عين تلك الطبيعة كيف ولو كان كذلك لكان كل واحد من تلك الكثرة عين الآخر منها وهو باطل بديهة
وقد احتج الإمام الرازي على كون التعين أمرا وجوديا بأنه لو كان عدميا لكان إما عدما مطلقا وأنه ظاهر البطلان لأن العدم المطلق لا تميز

فيه فكيف يميز غيره وإما عدما مضافا وحينئذ إما أن يكون عدما للاتعين العدمي فيكون هو وجوديا وإما أن يكون عدما لتعين آخر فذلك التعين الآخر إن كان عدما فهذا التعين عدم العدم فهو وجود والتعين الآخر مثله فيكون هو وجودا وإن كان ذلك التعين الآخر وجودا وهذا التعين الذي نحن فيه مثله فهو أيضا وجود فثبت أن كون التعين عدميا يستلزم كونه وجوديا هذا خلف فيكون وجوديا
والجواب لا نسلم أنه لو كان التعين عدميا لكان عدما وإنما يلزم ذلك إذا كان العدمي بمعنى العدم أو مستلزما له وهو ممنوع لأن العدمي يقابل الوجودي كما أن العدم يقابل الوجود فلو كان العدمي عدما لكان الوجودي وجودا وليس كذلك بل المراد بالوجودي ما يكون ثبوته لموصوفه بوجوده له أي الوجودي ما لا يستقل بنفسه بل يقوم بغيره ويكون قيامه به بوجوده له في الخارج نحو السواد القائم بالجسم فإن ثبوته له إنما هو بوجوده له لا أن يكون ذلك أي ثبوته لموصوفه باعتبار وجودهما في العقل واتصافه به فيه كالجنسية القائمة بالجسم إذ ليست الجنسية موجودة في الخارج قائمة به فيه بل ثبوتها له واتصافه بها إنما هو في الذهن وهو أي الوجودي بالمعنى المذكور أعم من الموجود لا مطلقا بل من وجه لجواز وجودي لا يعرض له الوجود أبدا كالسواد المعدوم دائما فإن ملخص معنى الوجودي أنه مفهوم يصح أن يعرض له الوجود عند قيامه بموجود فالسواد مثلا وجودي سواء وجد أو لم يوجد وأما صدق الموجود بدون الوجودي في الموجودات القائمة بذواتها وإذا كان كذلك لم يكن الوجودي مستلزما

للوجود فلا يكون العدمي مستلزما للعدم ويقرب من هذا الذي ذكرناه في تفسير الوجودي ما قيل إنه أي الوجودي عرض من شأنه الوجود الخارجي سواء وجد أو لم يوجد وبالجملة فلو كان العدمي هو العدم لكان الوجودي هو الوجود فلا حصر إذ المفهومات المغايرة لمفهومي الوجود والعدم غير متناهية فلا يلزم من أن لا يكون التعين وجودا أن يكون عدما أو كان الوجودي ما ليس بعدم فتكون جميع الأمور الاعتبارية وجودية إذ يصدق عليها أنها ليست نفس مفهوم العدم ولا قائل به فإن قلت الوجودي والعدمي قد يطلقان بمعنى الموجود والمعدوم أيضا وهو المناسب للمقام وإذا لم يكن التعين موجودا كان معدوما قطعا قلت فحينئذ يجاب بأن التعين إذا كان معدوما لم يلزم أن يكون عدما لشيء آخر بل ربما كان شيئا معدوما في نفسه وهو ظاهر وأما المتكلمون فقالوا التعين أمر عدمي لوجهين
الأول لو كان التعين وجوديا لتوقف انضمامه إلى الماهية على تميزها وتميزها موقوف على انضمامه إليها فيدور وأجيب عنه بأن الماهية ممتازة عن غيرها بذاتها لا بانضمام التعين إليها وفيه أي في هذا الجواب نظر إذ مرادهم امتياز حصة من الماهية عن حصة أخرى منها إذ لولا امتياز إحديهما عن الأخرى لم يكن اختصاص التعين بإحديهما وانضمامه إليها أولى من

العكس وذلك أي امتياز الحصة عن الحصة إنما يكون بالتعين لا بذات الماهية بل الجواب أن يقال الانضمام مع الامتياز زمانا وإن كان متقدما عليه ذاتا ولا استحالة في ذلك كما في اختصاص الفصول بحصص الأجناس وتوضيحه أن التعين أو الفصل ينضم إلى الماهية فتتحصص الماهية حال الانضمام لا أنه ينضم إلى حصة منها متميزة قبل الانضمام
الوجه الثاني لو كان التعين موجودا خارجيا لكان معينا فإن كل موجود خارجي لا بد أن يكون متعينا في نفس فهو أي كل واحد من التعين مشارك للتعينات الأخر في كونها تعينا ويمتاز عنها بتعين آخر يخصه فيتسلسل إذ ننقل الكلام إلى ذلك التعين الآخر وأجيب عنه بأن كونه تعينا أي مفهوم التعين المشترك بين التعينات أمر عارض للتعينات وهي متمايزة بذواتها المخصوصة والمحوج إلى التمايز بتعين زائد هو الاشتراك في الماهية دون الاشتراك في العوارض
قال المصنف وفيه نظر لأن كل تعين أي كل فرد من أفراد التعين فله ماهية كلية في العقل ضرورة لأن كل موجود في الخارج كذلك سواء كان له ما يشاركه في نوعه أم لا بل انحصر نوعه في شخصه وتعينه غير ماهيته لأنه لا يقبل الشركة بخلاف ماهيته ويتم الدليل بلزوم التسلسل ولقائل أن يقول لا نسلم أن كل تعين له ماهية كلية ينتزعها العقل من هويته ودعوى الضرورة ههنا غير مسموعة كيف والقاعدة القائلة بأن كل موجود خارجي كذلك منقوض عندهم بالواجب تعالى بل كل فرد من أفراد التعين هو في نفسه بحيث إذا لاحظه العقل لم يمكن له فرض اشتراكه ولا تفصيله إلى ماهية قابلة للاشتراك وأمر زائد عليها مانع من الشركة على قياس تفصيله لأفراد الإنسان والحق أن هذين الدليلين الخلفيين للمتكلمين على كون التعين عدميا مبنيان على كون التعين أمرا منضما إلى الماهية في الخارج ممتازا فيه عنها وقد علمت أنه نفس الهوية الخارجية ذاتا وجعلا ووجودا وهذا أي كون التعين ممتازا عن الماهية في الخارج منضما إليها بحيث يتحصل منهما هوية مركبة فيه هو الذي حاول المتكلمون نفيه فإن هذا

هو اللازم مما استدلوا من الوجهين فإذا النزاع لفظي فإن الحكماء يدعون أن التعين أمر موجود على أنه عين الماهية بحسب الخارج ويمتاز عنها في الذهن فقط والمتكلمون يدعون أنه ليس موجودا زائدا على الماهية في الخارج منضما إليها فيه ولا منافاة بينهما كما ترى

المقصد الثاني عشر
قال الحمكاء الذاهبون إلى كون التعين وجوديا التعين إن علل بالماهية بأن تكون مقتضية لتعينها اقتضاء تاما إما بالذات أو بواسطة ما يلزمها انحصر نوعها في الشخص الواحد الحاصل من الماهية والتعين الذي علل بها ولم يمكن أن يوجد معها تعين آخر وإلا انفك عنها التعين الأول فيختلف المعلول عن علته المستلزمة إياه هذا إذا كان تعين الماهية زائدا عليها واقتضته الماهية ذلك الاقتضاء وأما إذا كانت الماهية متعينة بذاتها ممتنعة في نفسها عن فرض الاشتراك فيها كالواجب تعالى على رأيهم فلا يتصور هناك تعدد أصلا بل هذا أقوى في نفي التعدد من انحصار الماهية في شخص واحد وإلا اي وإن لم يعلل التعين بالماهية فلا يعلل بما يحل فيها أي في الماهية لأنه أي حلول شيء في الماهية فرع تعينها لأنها ما لم تتعين في نفسها لم يتصور حلول شيء فيها فلا يجوز أن يعلل تعينها بما حل فيها وإلا دار ولا يعلل أيضا بما ليس حالا في الماهية ولا محلا لها إذا هو مباين عنها نسبته إلى الكل سواء فلا يمكن أن يكون علة لتعين شخص دون آخر ولا لتعين ماهية دون أخرى بل يعلل بمحلها أي بمحل الماهية فيجوز تعددها أي تعدد أفرادها بتعدد القوابل اي المحال إما

كهيولات الأفلاك القابلة لصورها الجسمية وكالنطف القابلة للصورة الإنسانية وإما بسبب أعراض تكتنفها كهيولى العناصر الأربعة فإنها واحدة مشتركة بينها وقد عرض لها استعدادات مختلفة بحسب القرب والبعد من الفلك فلذلك تعدد أشخاصها وإذا لم يتعدد القاب بالذات ولم يتصور فيها استعدادات متفاوتة انحصرت الماهية الحالة في شخص واحد أيضا كهيولى كل فلك بالقياس إلى صورته النوعية وبنوا على هذا الذي ذكروه من أن تعدد أفراد الماهية الواحدة إنما يكون بتعدد قابلها أعني مادتها على أحد الوجهين أن ما ليس بمادي ويسمى مجردا ومفارقا فنوعه منحصر في الشخص الواحد لأن علة تعينه ليست المحل إذ لا محل لغير المادي فهي إما الماهية نفسها أو ما يلزمها فيلزم الانحصار كما مر وقد يقال لم لا يجوز أن يكون للمجرد محل غير المادة الجسمية فيتعدد بتعدد ذلك المحل إما ذاتا أو استعدادا ولما كان لقائل أن يقول النفوس الناطقة متعددة مع كونها مجردة عندهم أجاب بقوله والنفوس الإنسانية إنما تعددت وإن لم تكن مادية أي حالة في المادة لتعلقها بالمادة التي تعلق التدبير والتصرف فهي في حكم الماديات فتتعدد بحسب تعدد المادة التي تتعلق بها بخلاف العقول المجردة من المادة بحسب الذات والتعلق فإن أنواعها منحصرة في أشخاصها
قال بعض الفضلاء إذا كان تعين الماهية المتعددة الأفراد معللا بالقابل فالقابل إن كان تشخصه بماهيته أو لوازمها انحصر نوعه في شخصه ولم

يقولوا به أي يكون تعينه معللا بماهيته وانحصاره في شخص واحد بل تعينه عندهم بصورته فإن تشخص الهيولي معلل عندهم بالصورة الحالة فيها لا بماهية الهيولى ومن ههنا يظهر جواز تشخص الماهية بما يحل فيها وقد بنوا دليلهم على عدم جوازه وإن كان تشخص القابل بما حل فيه لزم الدور الذي ادعيتموه وإن كان تشخصه بقابل آخر لزم التسلسل لأننا ننقل الكلام إلى تشخص ذلك القابل الآخر والحاصل أنه لو صح دليلكم على أن تعدد أفراد الماهية النوعية إنمكا يكون لقابلها للزم تسلسل القوابل إلى غير النهاية وتركب الجسم الواحد منها هذا خلف
والجواب عن اعتراض بعض الفضلاء بأن تعينه أي تعين القابل معللا بأعراض تلحقه لاستعدادات متعاقبة إلى غير النهاية بحيث يكون كل استعداد سابق معدا للاحق وهذه الاستعدادات ليست مجتمعة معاا بل متعاقبة ومثل هذا التسلسل جائز عندهم لا يجدي خبر لقوله والجواب وإنما قلنا إنه لا يجدي نفعا لأنهم لما جوزوا تعينه أي تعين القابل لما حل فيه لأن مرجع ما ذكروه هو أن علة تشخص القابل أمور حالة فيه سابقة على ذلك التشخص ومقارنة لتشخص آخر معلل بأمور أخرى متقدمة على التشخص الآخر وهكذا إلى ما لا نهاية له اتجه لنا أن نقول فلم لا يجوز تعين الماهيات بصفاتها العارضة لها كذلك أي على سبيل التعاقب إلى ما لا يتناهى فلا حاجة حينئذ في تعدد أفراد الماهية النوعية إلى القابل والمادة هذا وقد يجاب عن أصل الدليل أيضا بجواز أن يكون للمباين نسبة مخصوصة بها تقتضي تشخصا معينا وإذا تعدد الفاعل المباين تعدد أفراد الماهية أيضا ومنهم من جعل هذا الاعتراض دليلا على أن التعين ليس

وجوديا فقال لو كان تعين الشخص الذي له ما يشاركه في نوعه وجوديا لكان له علة فعلته إن كانت الماهية انحصر نوعها في شخصها وإن كانت القابل فتعين القابل إن كان بماهيته انحصر نوعه في شخص وإن كان بقابل آخر لزم التسلسل وإن كان بالمقبول لزم الدور والكل باطل ولا يجوز أن تكون العلة أمرا مباينا فلا يكون التعين أمرا وجوديا وقد يقال في إثبات كون التعين عدميا التعين معناه أنه ليس غيره وهو سلب لا وجود له في الخارج ومنع بأن هذا السلب الذي ذكرتموه ليس هو التعين بل هو لازم له وليس يلزم من كون اللازم عدميا كون الملزوم كذلك ولما فرغ من مباحث الماهية وما يعرض لها في نفسها أعني التعين شرع في الأمور العارضة لها بالقياس إلى الوجود فقال

المرصد الثالث في الوجوب والإمكان والامتناع والقدم والحدوث وفيه مقاصد
ستة
المقصد الأول
تصوراتها وكذا تصورات ما يشتق منها أعني الواجب والممكن والممتنع ضرورية فإن من لا يقدر على الاكتساب أصلا يعرف هذه المفهومات ألا ترى أن كل عاقل يعلم أن الإنسان يجب كونه حيوانا ويمكن كونه كاتبا ويمتنع كونه حجرا إلى غير ذلك من موارد الاستعمال ومن رام تعريفها فقد عرف كل واحد من الثلاثة إما بأحد الآخرين أو بسلبه إذ لم يزد على أن يقول الواجب ما يمتنع عدمه أو ما لا يمكن عدمه فإذا قيل له وما الممتنع قال ما يجب عدمه أو ما لا يمكن وجوده وإذا قيل له ما الممكن قال ما لا يجب وجوده ولا عدمه أو ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه فيأخذ كلا من الثلاثة في تعريف الآخر ألا ترى أنه عرف الواجب

الوجود تارة بالممتنع المنسوب إلى العدم وأخرى بسلب الممكن المنسوب إلى العدم أيضا وعرف الممتنع الوجود تارة بالواجب المنسوب إلى العدم وأخرى بسلب الممكن المنسوب إلى الوجود وعرف الممكن أولا بسلب الواجب المنسوب إلى الوجود والعدم معا وثانيا بسلب الممتنع المنسوب إليهما أيضا وإنه دور ظاهر وقس على ذلك تعريفات ما اشتق منه هذه الأمور فيقال الوجوب امتناع العدم أو لا إمكان العدم والامتناع وجوب العدم أو لا إمكان الوجود والإمكان لا وجوب الوجود والعدم أو لا امتناعهما فلا يجوز أن تكون هذه التعريفات حقيقية ولا تنبيهية بالقياس إلى شخص واحد وقوله لكن استدراك من قوله تصوراتها ضرورية يعني أنها مشاركة في كونها ضرورية ومع ذلك متفاوتة أظهرها الوجوب إذ لا استحالة في كون بعض الضروريات أجلى من بعض وعلى هذا فالتنبيه على معنى الإمكان والامتناع بالوجوب أولى من العكس وإنما كان الوجوب أظهر لأنه أقرب إلى الوجود الذي هو أظهر المفهومات وأجلاها وذلك لأنه يؤكد الوجود وأما الامتناع فهو مناف للوجود والإمكان مالم يصل إلى حد الوجوب لم يقرب إلى الوجود وما هو أقرب إلى أجلى التصورات كان أظهر من غيره واعلم أن الوجوب يقال على الواجب باعتبار ما له من الخواص وهي ثلاث
فالأولى استغناؤه في وجوده عن الغير وقد عبر عنها بعدم احتياجه أو بعدم توقفه فيه على غيره
الثانية كون ذاته مقتضية لوجوده اقتضاء تاما
الثالثة الشيء الذي يمتاز به الذات عن الغير وإطلاق الوجوب على المعنيين الأوليين ظاهر مشهور وأما إطلاقه على الثالث فإما بتأويل الواجب

أو إرادة مبدأ الوجوب وهي أي هذه الخواص أمور متلازمة لكنها متغايرة في المفهوم أما تغايرها فلأن الخاصة الثالثة عين الذات فإنه تعالى بذاته متميز عن جميع ما عداه والثانية نسبة ثبوتية بين الذات والوجود والأولى نسبة سلبية مترتبة على النسبة الثبوتية وأما تلازمها فلأنه متى كان ذاته كافيا في اقتضاء وجوده لم يحتج في وجوده إلى غيره وبالعكس ومتى وجد أحد هذين الأمرين وجد ما به يتميز الذات عن الغير وبالعكس فافهم هذا الذي ذكرناه من معاني الوجوب وليكن هذا على ذكر منك فإنه ينفعك فيما يرد عليك من أحكامه أي أحكام الوجوب من كونه وجوديا أو عدميا وكونه عين الذات أو زائدا عليها فالمعنى الأول عدمي والأخيران وجوديان بمعنى أنه لا سلب في مفهومهما والثالث عين الذات بخلاف الأولين وكذا الإمكان يقال على الممكن باعتبار ما له من الخواص فالأولى احتياجه في وجوده إلى غيره والثانية عدم اقتضاء ذاته وجوده أو عدمه والثالثة ما به يمتاز ذات الممكن عن الغير وهذه الثلاث أيضا متغايرة متلازمة على ما مر في الواجب

المقصد الثاني
إن هذه أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج أما الامتناع فلأنه صفة لما يستحيل وجوده في الخارج فلا يتصور لصفته وجود خارجي وأما الوجوب فلوجهين
الأول أنه لو وجد الوجوب في الخارج لكان إما ممكنا أو واجبا لانحصار الموجودات الخارجية فيهما فإن كان ممكنا والواجب إنما يجب به إذ لولا قيام الوجوب به لم يكن واجبا أصلا فبالأولى أن يكون الواجب ممكنا هذا خلف وإن كان الوجوب واجبا كان له وجوب آخر

وتسلسل وجوابه أنا نختار الشق الثاني ونمنع لزوم التسلسل إذ قد يكون وجوب الوجوب نفسه على قياس ما قيل من أن وجود الوجود عينه وأيضا جاز أن يكون وجوب الوجوب أو ما بعده من المراتب أمرا اعتباريا فإن وجود فرد من أفراد طبيعة لا يستلزم وجود جميعها ولعل هذا هو المراد من كون وجوب الوجوب نفسه وإلا لم يصح لأن وجوب الوجوب نسبة بل كيفية نسبة بين الوجوب ووجوده فلا يجوز أن يكون نفسه وربما نختار الشق الأول ويجاب عنه أي عن الوجه الأول بأنه قد يكون الوجوب ممكنا ولا يلزم من إمكانه إمكان الواجب لجواز أن يكون حصول الوجوب للواجب لذاته ولا يكون حصول الوجوب لوجوبه لذات الوجوب وقولك به أي بالوجوب يجب الواجب قلنا ممنوع لعدم التغاير بين الوجوب وكون الواجب واجبا فإن الواجبية والوجوب صفة واحدة عندنا فليس ثمة علة هي الوجوب ولا معلول هو الواجبية نعم هذا لازم للقائل بالحال لأن الواجبية عنده صفة معللة بالوجوب فإنه إذا قام الوجوب بذات أوجب لها الواجبية فإن قلت لنا أن نقول إذا كان الوجوب ممكنا جاز زواله فإذا فرض وقوع هذا الجائز لخلا الواجب عن صفة الوجوب فلا يكون واجبا وهو محال قلت إذا كان الوجوب ممكنا جاز زواله نظرا إلى ذاته لكنه يمتنع نظرا إلى ذات الواجب فيستحيل خلوه عنه فلا محذور
الوجه الثاني وهو الأقوى أنه لو كان الوجوب موجودا فإما نفس الماهية ويبطله أنه نسبة بل كيفية عارضة لنسبة بين الماهية والوجود فيكون متأخرا عن الماهية بمرتبة واحدة بل مرتبتين فكيف يكون نفسها وإما زائدا

على الماهية وسنبطله حيث نبين أن الوجوب على تقدير كونه موجودا لم يجز أن يكون زائدا على ماهية الواجب ولم يتعرض لكونه جزءا منها لأنه ظاهر البطلان وأيضا كونه نسبة ينافيه ومن أجاب على هذا الوجه الثاني بأن منع كونه نسبة فقال نختار أنه على تقدير وجوده عين الذات ولا يمكن حينئذ كونه نسبة فلعله أراد بالوجوب المعنى الثالث أعني ما تتميز به الذات فإنه تعالى متميز بذاته عن جميع ما عداه لا بصفة تسمى الوجوب فيكون النزاع لفظيا لأن المستدل أراد بالوجوب اقتضاء الذات للوجود والمانع أراد به ما تتميز به الذات عن الغير وفي الملخص إن أريد بالوجوب عدم توقفه في وجوده على غيره فلا شك أنه عدمي وإن أريد به استحقاقه الوجود من ذاته فهذا أيضا لا يمكن أن يكون أمرا ثبوتيا وفي شرحه أن الوجوب يطلق على معنيين
الأول منهما عدمي بالضرورة
والثاني اختلف العلماء في كونه ثبوتيا زائدا على ماهية معروضة وأما الإمكان فلهذا الوجه بعينه أشار به إلى الوجه الأول فيقال لو كان الإمكان موجودا لكان إما واجبا أو ممكنا فإن كان واجبا مع كونه صفة للممكن كان موصوفه أولى منه بالوجوب فكان الممكن واجبا هذا خلف وإن كان ممكنا نقلنا الكلام إلى إمكانه ويتسلسل ويجاب بأن إمكان الإمكان نفسه على قياس ما مر في الوجوب ولم يشر به إلى الوجه الثاني كما توهمه العبارة إذ لا دليل على استحالة كونه صفة قائمة بالممكن بخلاف الوجوب إذ يلزم منه كون الماهية واجبة قبل وجوبها كما سيأتي وقد يتكلف إجراء الثاني في الإمكان فيقال لو كان موجودا لكان إما نفس ماهية الممكن أو جزءها ويبطل كلا منهما كونه نسبة بين الماهية والوجود أو كان زائدا عليها قائما بها فيكون معلولا لها إذ يستحيل استفادتها إمكانها الذاتي من غيرها وإلا لم تكن ممكنة في حد ذاتها والعلة متقدمة على المعلول بالوجوب فذلك الوجوب إما بالذات وهو محال في الممكن وإما بالغير والوجوب بالغير فرع الإمكان الذاتي فللممكن قبل إمكانه إمكان آخر ووجه

آخر وهو أنه أي الإمكان سابق على الوجود لأن الشيء يمكن وجوده في نفسه فيوجد من غيره والصفة الثبوتية متأخرة عنه أي عن الوجود فإن قيام الصفة الموجودة بموصفها فرع لوجوده فلا يكون الإمكان صفة موجودة وربما يستعمل هذا الوجه الآخر في الوجوب كما استعمله الإمام الرازي فيقال الوجوب سابق على الوجود سبقا ذاتيا لأن إيجاب ماهيته لوجوده يستتبع وجوده عقلا ولذلك صح أن يقال اقتضى ذاته وجوده فوجود الصفة الثبوتية يستحيل أن يسبق على وجود موصوفها سبقا ذاتيا ويكفينا في الاستدلال على كون الوجوب أو الإمكان أمرا عدميا امتناع تأخره عن وجود الموصوف فلا نحتاج في ذلك إلى بيان التقدم فلا يتوجه علينا أنا لا نسلم تقدمه لجواز أن يكون معه وحينئذ نقول لا شبهة في أن الإمكان أو الوجوب يمتنع تأخره عن وجود موصوفه وكل صفة ثبوتية لا يمتنع تأخرها عن وجود موصوفها بل يجب تأخرها عنه ويكون هذا الدليل مطردا في كل صفة يمتنع تأخرها عن وجود موصوفها كالحدوث ونظائره ضابط يشتمل على قاعدتين ذكرهما صاحب التلويحات إحديهما أساس الوجه الأول الدال على كون كل واحد من الوجوب والإمكان أمرا اعتباريا والثانية أساس الوجه الآخر الذي استعمل في الوجوب أيضا إذا اكتفى فيه بامتناع التأخر أن كل ما تكرر نوعه أي يتصف أي شخص يفرض منه بمفهومه فهو اعتباري أي كل نوع كان بحيث إذا فرض أن فردا منه أي فرد كان موجود يجب أن يتصف ذلك الفرد بذلك النوع حتى يوجد ذلك النوع فيه مرتين مرة على أنه حقيقته ومرة

على أنه صفته فإنه يجب أن يكون اعتباريا لا وجود له في الخارج وإلا لزم التسلسل في الأمور الخارجية المترتبة الموجودة معا نحو التقدم فإنه لو وجد فرد منه لقدم ذلك الفرد وإلا كان ذلك الفرد حادثا مسبوقا بالعدم ولا شك أن القدم صفة لازمة لا يتصور انفكاك موصوفها عنها فإذا كانت مسبوقة بالعدم كان الموصوف أيضا كذلك فيلزم حدوث القديم والحدوث فإنه لو وجد فرد منه لحدث وإلا كان قديما فالموصوف به أولى بالقدم فيكون الحادث قديما والبقاء فإنه لو وجد لبقي وإلا اتصف بالفناء وإذا كان البقاء فانيا لم يكن الباقي باقيا والموصوفية فإنها لو وجدت لكانت الماهية موصوفة بها فيكون هناك موصوفية أخرى والوحدة فإنها لو وجدت لكانت الواحدة وإلا كانت كثيرة فتنقسم الوحدة والتعين فإنه لو وجد لكان له تعين آخر وقس على هذا فيلزم من كون هذه الأمور وأمثالها وجودية ذلك التسلسل الباطل
قال المصنف والمنع ما ذكرنا من أن وجوب الوجوب نفسه وتلخيصه أن ما حقيقته غير الوجوب فإنه لا يكون واجبا إلا بوجوب يقوم به وأما الذي حقيقته الوجوب فإنه واجب بذاته لا بوجوب زائد على ذاته وكذلك القدم فإنه قديم بذاته لا بقدم زائد عليه قائم به كما في غيره من المفهومات وكذا الحال في نظائرهما هذه هي القاعدة الأولى وأما الثانية فهي قوله وكذا أي وكذا اعتباري أيضا كل ما لا يجب من الصفات تأخره عن الوجود أي وجود الموصوف كالوجود فإنه على تقدير كونه زائدا يجب أن يكون من المعقولات الثانية إذ لا يجب أن يكون ثبوته للماهية

متأخرا عن وجودها بل يمتنع ذلك والحدوث والذاتية والعرضية وأمثالها فإنها صفات لا يجب تأخرها عن وجود موصوفاتها في الخارج فيجب أن تكون اعتبارية إذ لو كانت وجودية لجاز اتصاف الماهية حال عدمها في الخارج بصفة موجودة فيه وأنه محال بالضرورة فهذا الذي ذكرناه من القاعدتين ضابط وأصل كلا شامل لموارد متعددة أعطيناكه ههنا حذفا لمؤنة التكرار عنا فاحتفظ به واعتن بشأنه واستعمله في تلك الموارد المندرجة فيه لينكشف عندك حال الأمور الاعتبارية واعلم أن هذه الوجوب والإمكان والامتناع التي نحن فيها غير الوجوب والإمكان والامتناع التي هي جهات القضايا في التعقل أو الذكر وموادها بحسب نفس الأمر وذلك لأن المبحوث عنها ههنا وجوب الوجود وامتناع الوجود وإمكان الوجود والعدم فهي جهات ومواد في قضايا مخصوصة محمولاتها وجود الشيء في نفسه فتكون أخص من جهات القضايا وموادها فإن المحمول في القضية قد يكون وجود الشيء في نفسه وقد يكون مفهوما آخر وحينئذ إما أن يعتبر وجود ذلك المفهوم للموضوع حقيقة كالسواد في قولنا زيد أسود وإما أن يعتبر مجرد اتصاف الموضوع بذلك المفهوم الاعتباري الذي لا وجود له في الخارج كالعمى في قولنا زيد أعمى والوجوب والإمكان والامتناع التي هي جهات القضايا ومواردها جارية في الكل فيقال زيد يجب أن يكون أسود أو أعمى أو يمتنع أو يمكن كما يقال زيد يجب وجوده أو يمتنع أو يمكن وهذا الأخير هو الذي نحن بصدده إذ مرادنا بالواجب ههنا هو الواجب الوجود لا الواجب الحيوانية أو السوادية أو غيرهما وكذا الحال في الممتنع والممكن وإلا أي وإن تكن هذه غير جهات القضايا وموادها بل كانت عينها لكانت لوازم الماهيات واجبة لذواتها أي كانت تلك اللوازم من قبيل الواجب الذي نحن نبحث عنه وليست كذلك فإذا قلنا مثلا الزوجية واجبة للأربعة

فنعني به وجوب الحمل أي حمل الزوجية على الأربعة وامتناع الانفكاك أي انفكاك الأربعة عن صفة الزوجية وهذا أي وجوب الحمل الذي بين الأربعة والزوجية غير الوجوب الذاتي الذي بين الشيء ووجوده ألا ترى أن الأربعة واجبة الزوجية لا واجبة الوجود وأن الزوجية واجبة الحمل والصدق على الأربعة لا واجبة الوجود في نفسها وتحقيقه ما صورناه لك فلا تغفل عنه وقد زعم بعض المجادلين أنها أي هذه الأمور الثلاثة سوى الامتناع إذ لم يدع أحد كونه وجوديا أمور وجودية لوجوه ثلاثة جارية في كل واحد من الوجوب والإمكان
الأول الوجوب لو كان أمرا عدميا لم يتحقق إلا باعتبار العقل له إذ لا تحقق للعدميات في أنفسها إنما تحققها باعتبار العقل لها فيلزم أن لا يكون الواجب واجبا إلا إذا اعتبر العقل وجوبه والتالي باطل فإن الواجب في نفسه مع قطع النظر عن غيره سواء وجد فرض من عقل أم لا يوجد فرض أصلا بل ولو فرض عدم العقول كلها وحينئذ لا يتصور أن يوجد منها فرض الوجوب قطعا لم يقدح ذلك في وجوب الواجب ولم يخرج به الواجب عن كونه واجبا وهكذا الحال في الإمكان فيكون كل منهما وجوديا والجواب النقض بالامتناع والعدم إذ كل منهما ثابت لموصوفه سواء وجد فرض من عقل أم لم يوجد وليس شيء منهما موجودا بالضرورة والاتفاق والحل أن يقال اتصاف الذات بصفة في الخارج أو نفس الأمر لا يقتضي كون تلك الصفة موجودة في أحدهما ألا ترى أن زيدا أعمى في الخارج وليس العمى موجودا فيه وذلك لأن الموجود في الخارج ما يكون الخارج ظرفا لوجوده لا ظرفا لاتصاف شيء آخر به وكذا الحال في نفس الأمر فلا يلزم من كون الصفة كالوجوب والإمكان مثلا أمرا عدميا اعتباريا أن لا يكون شيء موصوفا بها في نفس الأمر
الوجه الثاني أن نقيضه الوجوب وهو عدمي لصدقه على

فإن الممتنع لا واجب فهو وجودي وإلا لزم ارتفاع النقيضين وكذا نقول الإمكان نقيضه هو اللا امتناع عدمي لصدقه على الممتنع فالإمكان وجودي والجواب النقض بالامتناع لأن نقيضه هو اللاإمتناع عدمي لصدقه على المعدوم الممكن فيكون الامتناع وجوديا وتحقيقه أي تحقيق الجواب بطريق الحل أن ارتفاع النقيضين بمعنى الخلو عنها محال أي يستحيل أن يخلو مفهوم من المفهومات عنهما معا بأن لا يصدق شيء منهما عليه فلا يجوز أن لا يصدق على أ مثلا أنه واجب ولا أنه ليس بواجب أو لا يصدق عليه أنه ممتنع ولا أنه ليس بممتنع فكل مفهوم وجوديا كان أو عدميا مع نقيضه الذي هو رفعه يقتسمان جميع ما عداهما فلا يجتمعان في شيء بأن يصدقا عليه معا ولا يرتفعان عنه بأن لا يصدق عليه شيء منهما وأما ارتفاعهما بمعنى خلوهما عن الوجود فلا استحالة فيه بل يجوز أن يكون الوجوب واللا وجوب وكذا الامتناع واللا امتناع معدومين معا في الخارج والسر في ذلك أنك إذا اعتبرت ثبوت مفهوم الوجوب مثلا لشيء كان نقيضه رفع ثبوته له فلا يجتمعان ولا يرتفعان وإذا اعتبرت وجود مفهوم الوجوب في نفسه كان نقيضه رفع وجوده في نفسه فلا يجتمعان ولا يرتفعان أيضا وليس نقيض وجود الوجوب في نفسه وجود مفهوم اللا وجوب في نفسه حتى يلزم من عدمية اللا وجوب أعني ارتفاع وجوده في نفسه أن يكون الوجوب موجودا في نفسه
والوجه الثالث وهو لابن سينا أن إمكانه لا أي إمكانه عدمي ولا إمكان له أي ليس له إمكان واحد لعدم التمايز بين العدميات فلا يكون فرق بين الإمكان المنفي ونفي الإمكان فلو كان الإمكان عدميا لم يكن الممكن ممكنا وكذا نقول لا فرق بين قولنا وجوبه لا وقولنا لا

وجوب له وهو أي هذا الوجه قريب من الوجه الأول لأن محصولهما أنه لو كان الإمكان أو الوجوب أمرا عدميا لم يكن الممكن ممكنا أو الواجب واجبا إلا أن الملازمة هناك بينت بأن العدمي لا تحقق له إلا باعتبار العقل وههنا بأن اللا عدم لا تمايز بينها والنقض هو النقض فنقول إمتناعه لا ولا امتناع له واحد وكذا عدمه لا ولا عدم له واحد أيضا فلو كان الامتناع أو العدم عدميا لم يكن الممتنع ممتنعا أو المعدوم معدوما والحل أن يقال قولنا إمكانه لا معناه أنه متصف بصفة عدمية هي الإمكان وقولنا لا إمكان له معناه سلب تلك الصفة العدمية عنه وكما أن فرقا بين اتصاف الشيء بصفة ثبوتية وبين سلب اتصافه بها كذلك أيضا فرق بين الاتصاف بصفة عدمية وبين سلب الاتصاف بها وليست هذه الوجوه مخصوصة بالوجوب والإمكان بل لك طردها في كل ما حاولت إثبات كونه وجوديا من الصفات الاعتبارية التي تتصف بها الأشياء في نفس الأمر كالوحدة والحصول والقدم والحدوث وغيرها ولما ذكر أدلة متقابلة بعضها يدل على وجودية الوجوب والإمكان وبعضها على عدميتها أشار إلى قانون يتوصل به إلى نفي الأشياء التي اختلف فيها وذكر هناك أدلة متقابلة فقال ولو شئت نفي شيء فقل هو إما وجودي أو عدمي أي إذا أردت نفي شيء كالوجوب مثلا بالكلية فقل لا وجوب أصلا إذ لو كان له وجوب فإما أن يكون وجوديا أو عدميا وكلاهما باطل أما كونه وجوديا فبدليل كونه عدميا أو لأنه لو وجد الوجوب مثلا لكان إما زائدا على ذات الواجب أو لا يكون زائدا على ذاته أو لأنه لو وجد لكان وجوده إما زائدا على ماهيته أو لا يكون زائدا عليها ويبطل كل من الزيادة وعدمها بدليل نافيه وأما كونه عدميا فبدليل كونه وجوديا وكذلك كل مشترك بين قسمين أو أقسام

نفيه بنفي قسميه أو أقسامه كقولك لو كان الوجود موجودا لكان إما واجبا أو ممكنا وكلاهما باطل وكقول الكرامية لا يجوز زوال العالم بل هو أبدي لأنه إن زال لكان زواله إما بنفسه أو بأمر عدمي كعدم الشرط أو وجودي موجب كطريان الضد أو مختار والكل محال أو بنفي مذهبين متقابلين فيه كأن يقال لو كان العالم موجودا لكان إما قديما أو حادثا ويبطل كل واحد بدليل نافيه وكثير من شبه القوم في الأشياء التي يرومون نفيها من هذا القبيل الذي نبهناك عليه على وجه كلي فنتركها أي نترك تلك الشبه الكثيرة ولا نذكرها في مواضعها لأنه أي لأن ذلك الكثير من الشبه فأنثه أولا نظرا إلى المعنى وذكره ثانيا نظرا إلى اللفظ عندك بعد الوقوف على المأخذ العام إيرادا وإبطالا على طرف التمام يعني قد نبهناك على مأخذ إيرادها وإبطالها على وجه كلي قانوني فهي بعد وقوفك على ذلك المأخذ يسهل عليك أيرادها وإبطالها فلا حاجة بنا إلى التصريح بها في مواضعها قال الميداني قولهم هو على طرف الثمام مثل يضرب في سهولة الحاجة وقرب المراد والثمام نبت ضعيف يسد به خصاص البيوت من القصب أي فرجها يقال إنه ينبت على قدر قامة المرء

المقصد الثالث
في أبحاث الواجب لذاته وهي أربعة
أحدها أنه أي الواجب لذاته لا يكون واجبا بالغير وإلا لزم من ارتفاع الغير ارتفاعه لوجوب ارتفاع المعلول عند ارتفاع العلة فلم يكن الواجب لذاته واجبا لذاته هذا خلف واعترض عليه بأنا لا نسلم لزوم ارتفاعه

من ارتفاع ذلك الغير إنما يلزم ذلك إذ لم تكن ذاته مقتضية لوجوده اقتضاء تاما وارتفاع المعلول إنما يلزم من ارتفاع العلة إذا كانت منحصرة في ذلك الواحد الذي ارتفع أما إذا كان له علة أخرى فلا وأيضا ربما كان ارتفاع ذلك الغير محالا والمحال جاز أن يستلزم المحال والجواب أن ثبوت الوجود له لما كان مقتضى ذاته اقتضاء تاما لم يتصور أن يكون ذلك الثبوت معللا بغيره وإلا لزم توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد وهو محال فإذا فرض أنه معلل بالغير لم يكن معللا بذاته بل بذلك الغير فقط فلا يكون واجبا لذاته بل يلزم من ارتفاعه الذي هو ممكن في نفسه لامتناع تعدد الواجب ارتفاعه قطعا وربما يغير الدليل فيجاب بأن الواجب لذاته ما لا يحتاج في وجوده إلى غيره والواجب لغيره ما يحتاج فيه إليه فلا يجتمعان لتنافي لازميهما
وثانيها أنه لا يكون الواجب لذاته مركبا لا من أجزاء متمايزة في الخارج ولا من أجزاء متمايزة في الذهن وإلا احتاج الواجب لذاته في ذاته ووجوده إلى جزئه بحسب نفس الأمر وجزء الشيء غيره والمحتاج في نفس الأمر إلى الغير ممكن لا يقال كون المحتاج إلى الغير مطلقا ممكنا ممنوع بل المحتاج إلى العلة هو الممكن وإن سلم أن المحتاج إلى الغير على الإطلاق ممكن لكن جميع أجزائه هي ذاته لا غيره فلا يخرجه الاحتياج إليها أي إلى الأجزاء كلها عن كونه بحيث يجب وجوده لذاته لأنا نقول جميع أجزائه وإن كان ذاته لكن كل واحد من أجزائه ليس ذاته بل هو غيره فإذا كان مركبا فلا يكون ذاته من دون ملاحظة الغير الذي هو كل واحد من أجزائه كافيا في وجوده بل يكون ذاته في نفسه ووجوده محتاجا إلى غيره فلا يكون واجبا

وثالثها لو كان الوجوب وجوديا أي موجودا في الخارج لم يكن زائدا عن ماهيته أي ماهية الواجب بل كان عينها لامتناع الجزئية وإلا وإن لم يكن كذلك بل كان زائدا على الماهية لكان الوجوب الموجود محتاجا إلى الماهية إذ لا بد أن يكون عارضا لها قائما بها والعارض محتاج في وجوده إلى معروضه فيكون ممكنا مستندا إلى علة ويعلل بها أي بماهية الواجب لامتناع تعليله بغيرها وإلا احتاج الواجب في وجوبه إلى علة مغايرة لماهيته فلا يكون واجبا وجوبا ذاتيا هذا خلف وما لم يجب المعلول عن علته لا يوجد لما ستعرفه من أن الممكن الموجود لا بد له من وجوب سابق على وجوده مستفاد من علته وما لم تجب العلة لا يجب المعلول عنها وذلك لأن وجوب المعلول مستفاد من وجود العلة قطعا ووجودها متأخر عن وجوبها فإن الشيء مالم يجب وجوده إما لذاته أو لغيره لم يوجد فوجوب المعلول متأخر عن وجوب العلة بمرتبتين فيكون وجوده متأخرا عن وجوبها بمراتب فيلزم وجوب الماهية قبل وجوبها بمراتب هذا خلف لا يقال هذا معارض بأنه أي الوجوب نسبة والنسبة متأخرة عن المنتسبين قطعا فيكون الواجب متأخرا عن ماهية الواجب فلا يكون عينها بل زائدا عليها لأنا نقول إنما حكمنا بكونه نفس الماهية لا مطلقا بل على تقدير كونه موجودا وكونه نسبة ينافي الفرض المذكور وهو كونه موجودا لأن النسب عندنا أمور اعتبارية لا وجود لها فلا يكون كلامكم معارضا بكلامنا
ورابعها أنه لا يكون الوجوب مشتركا بين اثنين لأنه نفس الماهية فلو كان مشتركا بينهما لكان نفس ماهيتهما والمشتركان في الماهية لا بد أن يتمايزا بتعين فيلزم حينئذ تركبهما من الماهية والتعين وإنه محال لما

مر من امتناع تركب الواجب لا يقال لا نسلم أنه نفس الماهية لجواز أن يكون عارضا لها فلا يلزم تركب الواجب لأنا نقول المدعي هو أنه لا يكون الوجوب وجوديا مشتركا وقد بينا أنه لو كان وجوديا لكان نفس الماهية والأظهر أن يحال هذا الحكم على برهان التوحيد ليظهر امتناع الاشتراك مطلقا

المقصد الرابع
في أبحاث الممكن لذاته وهي أيضا أربعة
أحدها قال الحكماء الإمكان محوج للممكن إلى السبب أي الإمكان علة احتياج الممكن إلى المؤثر وفي إثباته منهجان
الأول دعوى الضرورة فإن الممكن ما يتساوى طرفاه أي وجوده وعدمه بالنظر إلى ذاته ومعنى كونه أي كون الإمكان الذي هو ذلك التساوي محوجا للممكن إلى السبب أنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لأمر مغاير للممكن يرجح أحدهما على الآخر والحكم بعد تصورهما أي تصور الموضوع الذي هو معنى إمكان الممكن وتصور المحمول الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب ضروري يحكم به بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما ولذلك يجزم به الصبيان الذين لهم أدنى تمييز ألا ترى أن كفتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما وقال قائل ترجحت إحداهما على الأخرى بلا مرجح من خارج لم يقبله صبي مميز وعلم بطلانه بديهة فالحكم بأن أحد المتساويين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح مجزوم به عنده بلا نظر

وكسب وهذا معنى كون الإمكان محوجا إلى السبب بل الحكم بالاحتياج في المتساويين إلى المرجح مركوز في طباع البهائم أيضا ولذلك تراها تنفر من صوت الخشب فإنه لما كان وجود الصوت وعدمه متساويين بالنسبة إلى ذات الصوت تخيلت البهائم من رجحان وجوده على عدمه أن هناك مرجحا رجحه عليه فنفرت وهربت منه قلنا ذلك أي نفورها لحدوثه لا لإمكانه فإنه لما حدث الصوت بعد عدمه تخيلت البهائم أن لا بد له من محدث لا أنها تخيلت تساوي طرفي الصوت وأن لا بد هناك من مرجح فإن قيل لو كان الحكم بأن الإمكان محوج إلى السبب المؤثر ضروريا أوليا كما زعمتم لم يكن بينه وبين قولنا الواحد نصف الاثنين فرق إذ لا تفاوت بين الأوليات ولم تختلف فيه أيضا العقلاء لأن بداهة عقولهم حاكمة به حينئذ قلنا قد مر جوابه وهو أن الفرق والتفاوت ليس باعتبار الجزم واحتمال النقيض بل هو للتفاوت في تجريد الطرفين أو للإلف والعادة بسبب كثرة وقوع تصور طرفي أحد الضروريين دون تصور طرفي الآخر وإنه يجوز أن يخالف في البديهي قوم قليل كيف وقد أنكر طائفة البديهيات رأسا وإن قيل أكثر العقلاء قالوا بخلافه حيث جوزوا رجحان أحد طرفي الممكن لا عن سبب مرجح في مواضع كثيرة ولا شك أن أكثر العقلاء لا يقدمون على إنكار الحكم البديهي فالمسلمون بل المليون قاطبة حكموا بخلافه في تخصيص الله العالم بوقته الذي أوجده فيه بلا مرجح مخصص مع أن سائر الأوقات تساويه في صحة الإيجاد فيها والنافون للغرض عن أفعاله تعالى يعني الأشاعرة قالوا بخلافه في تخصيص كل فعل من أفعال العباد بحكم مخصوص كالوجوب والحرمة والندب والكراهة مع أن تلك الأفعال متساوية عندهم في صحة تعلق تلك الأحكام بها والمعتزلة خالفوه في تعلق القدرة بالشيء مع أن نسبتها إلى الضدين أي إلى ذلك الشيء وضده سواء وفي

اختلاف الذوات في الصفات مع تساويها في الذاتية التي هي تمام ماهيتها عندهم والحكماء خالفوه أيضا في اختصاص الفلك بالحركة إلى جهة كالغرب أو االشرق مثلا مع تساوي جميع الجهات في قبول حركته إليه وعلى سرعة مخصوصة أو بطء معين مع تساوي نسبة حركته إليهما وعلى قطبين معينين مع مساواتهما في قبول القطبية لكل نقطتين متقابلتين على الفلك وفي اختصاص الكواكب بمواضعها المعينة المساوية للمواضع الأخر وفي اختصاص طرفي المتمم بمقدارهما من الغلظ والرقة قلنا لم يقل أحد من العقلاء المذكورين بأن أحد طرفي الممكن يترجح بلا مرجح نعم يلزمهم ذلك في بعض أحكامهم التي حكموا بها ولكنهم لا يلتزمونه ولا يقولون به بل يحتالون للجواب ليندفع عنهم القول بوقوع أحد طرفي الممكن بلا سبب قوية كانت الأجوبة أو ضعيفة فمركوز في عقولهم بطلانه وإلا لما احتالوا في دفعه بأسرهم ولا اجترأ بعضهم على التزامه وسنفصلها أي تلك الأجوبة القوية والضعيفة في مواضعها مما سيرد عليك في الكتاب
المنهج الثاني في إثباته الاستدلال عليه وفيه طرق
الأول الماهية الممكنة المقتضية للتساوي أي تساوي الوجود والعدم بالقياس إليها فلو وقع أحدهما لا لمرجح من خارج كان ذلك الطرف الواقع راجحا وأولى بها من الطرف الآخر فلا يكون مساويا له وهو خلاف المفروض الذي هو تساويهما بالنسبة إلى ماهية الممكن ومناقض له قلنا إنما يناقضه أي المفروض الذي هو التساوي اقتضاء الذات له أي لذلك الطرف الواقع لأن معنى تساوي الطرفين أن ذات الممكن لا تقتضي هذا ولا ذاك فنقيضه اقتضاء الذات أحدهما لا حصوله أي لا حصول

أحدهما لا لعلة كما يزعمه الخصم القائل بالاتفاق وأن أحد المساويين يقع بلا علة أصلا
الطريق الثاني واختاره الإمام الرازي في المحصل والأربعين لابد للممكن قبل الوجود أن يترجح طرف أي يترجح طرف وجوده على عدمه بحيث يجب لما سيأتي وذلك الترجح الواصل إلى حد الوجوب صفة وجودية لأنه حصل بعد مالم يكن فلو جاز أن لا يكون وجوديا لجاز أن لا تكون حركة بعد السكون والعلم الحاصل بعد عدمه وجودي وإذا كان الترجح أمرا وجوديا فله محل موجود لامتناع قيامه بذاته أو بمعدوم آخر وليس ذلك المحل هو الأثر أي الممكن وإلا كان الأثر موجودا قبله أي قبل الترجح السابق على وجوده فيكون الممكن موجودا قبل وجوده بمرتبتين هذا خلف فلا بد هناك من شيء آخر موجود يقوم به الترجح فهو المؤثر قلنا لا نسلم أن الممكن يجب أن يترجح وجوده قبل الوجود وما سيأتي من أنه لا بد أن يترجح وجوده إلى حد الوجوب حتى يوجد مبني على أنه محتاج إلى علة وهو المتنازع فيه بل يترجح مع الوجود وحينئذ جاز أن يقوم الترجح بالممكن حال كونه موجودا فلا حاجة إلى محل آخر هو المؤثر وأيضا إن سلم كون الترجح سابقا على وجود الممكن فالترجح السابق صفة الوجود فلا يقوم بغيره لامتناع قيام الصفة بغير موصوفها فلا يتصور قيامه بالمؤثر والحق أن الترجح والوجوب المتجدد لا يجب أن يكون موجودا لأن العدمي قد يتجدد بل هو أمر اعتباري يتصف به الممكن حال ما يكون متصورا فلا يستدعي محلا آخر موجودا في الخارج
الطريق الثالث أي للإمام الرازي ذكره في الأربعين وقد بناه على قول الفلاسفة أنه يمتنع عدم الزمان قبل وجوده أو بعده أي يمتنع عدمه مقيدا بهذا القيد وهو أن يكون قبل وجوده أو بعده تلا عدمه مطلقا وإلا كان واجبا بذاته وإلا أي وإن لم يمتنع كون عدمه قبل وجوده أو بعده فبزمان

أي فيكون تقدم العدم على وجوده أو تأخره عنه بزمان لأن المتقدم إذا لم يمكن أن يجامع المتأخر كان التقدم زمانيا ويجتمع الوجود والعدم لأن الزمان حال ما كان معدوما كان موجودا فيجتمع وجوده وعدمه معا هذا خلف فهو أي الزمان لامتناع عدمه كذلك واجب مستمر وجوده دائما وأنه ممكن لذاته لتركبه من آنات منقضية فلا يكون وجوبه لذاته لما مر من استحالة تركب الواجب بالذات خصوصا إذا كانت الأجزاء منقضية متعاقبة فوجوبه بالغير فيكون الإمكان علة الحاجة إلى الغير دون الحدوث إذا لا حدوث ههنا ولا يخفى أنه أي هذا الطريق بعد تسليم مقدماته يبطل كون الحدوث علة الحاجة أو جزءها أو شرطها ولا نثبت الدعوى الكلية التي هي مطلوبنا فإن المثال الجزئي أعني كون إمكان الزمان محوجا إلى السبب لا يصحح القاعدة القائلة بأن الإمكان مطلقا محوج إلى المؤثر لجواز أن يكون ذلك بسبب أمر مختص بالزمان وقد عرفت أن الطريقين الأولين لا يتمان أيضا فالأمم الميتاء أي الطريق الواضح المعبد هو المنهج الأول يعني دعوى الضرورة المختارة عند الجمهور وشبه المنكرين لكون الممكن محتاجا إلى المؤثر عدة أي متعددة كثيرة
الشبهة الأولى أن احتياجه إلى مؤثر سواء كان ذلك الاحتياج لإمكانه أو لغيره إنما يتحقق إذا أمكن تأثير شيء في شيء لكنه غير معقول إذ التأثر في الوجود مثلا إما حال الوجود أي وجود الأثر وهو محال لأنه إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وإما حال العدم وهو باطل أيضا لأنه جمع للنقيضين وذلك لأن وجود الأثر مع التأثير لا يتخلف عنه أصلا كالانكسار مع الكسر والوجود مع الإيجاد ولما فرض أن التأثير في الوجود أعني الإيجاد إنما هو حال العدم

كان وجود الأثر أيضا في تلك الحال فيجتمع وجود الأثر وعدمه معا ولأنه أي الأثر حال عدمه نفي محض فلا يصلح هو في هذه الحالة أن يكون أثرا للموجد وإذ لا أثر له فلا تأثير ولا إيجاد منه حينئذ ولأنه أعني الأثر حال عدمه مستمر على ما كان عليه قبل أن يتعلق به تأثير وإيجاد فلا يستند هو مع كونه مستمرا على حالته السابقة على الإيجاد إلى مؤثر الوجود فقد بطل كون التأثير في الموجود حال العدم بوجوه ثلاثة وإن شئت نفي التأثير في العدم قلت التأثير إما فيه حال كون الأثر معدوما وهو تحصيل الحاصل وإما حال كونه موجودا وأنه جمع للنقيضين وأيضا هو حال الوجود لا يصلح أثرا للمعدوم وأيضا هو حينئذ مستمر على ما كان عليه قبل أن يتعلق به الإعدام فلا يستند إلى مؤثر العدم والجواب أن المحال إيجاد ما هو موجود بوجود قبل أي قبل الإيجاد فإنه تحصيل لما كان حاصلا قبل هذا التحصيل وهو محال بديهة وإلا فالإيجاد للموجود بوجود مقارن للإيجاد لأن حصول الأثر مع التأثير زمانا وذلك تحصيل للحاصل بهذا التحصيل ولا استحالة فيه ولو صح ما ذكرتم لزم أن لا يحدث صفة في نفسها أصلا كهذه السخونة وهذا الصوت لأن حدوثها إما حال أو عدمها وهو اجتماع النقيضين أعني الوجود والعدم وإما حال وجودها وهو حصول الحاصل نقول لزم أن لا يحدث صفة في شيء من مؤثر يحدثها لأن إحداثها وإيجادها إما حال الوجود أو العدم وكلاهما باطل لكن حدوث هذه الصفات واستنادها إلى أمر يحدثها أمر بديهي فانتقض دليلكم قطعا والحل أن ذلك الذي ذكرتموه من استحالة التأثير حال الوجود أو حال العدم ضرورة بشرط المحمول فإن التأثير في وجود الأثر بشرط الوجود أو بشرط العدم محال فسلب التأثير في الوجود مثلا ضروري بشرط

اتصاف الأثر بالوجود أو العدم ومثل ذلك يسمى ضرورة بشرط المحمول وهو أي هذا المذكور أعني الضرورة المشروطة بالمحمول لا ينافي الإمكان الذاتي لأن الملاحظ فيه الذات دون ما لها من الصفات فامتناع التأثير بشرط إحدى هاتين الصفتين لا ينافي إمكانه بالنظر إلى ذات الممكن في زمان كل واحدة منهما وتحريره أن يقال قولك التأثير إما حال الوجود أو حال العدم وكلاهما باطل إن أردت به أن التأثير إما بشرط الوجود أو بشرط العدم فالحصر ممنوع فإن التأثير في ذات الممكن من حيث هو لا بشرط الوجود ولا بشرط العدم وإن أردت به أنه في زمان الوجود أو زمان العدم اخترنا أنه في زمان الوجود كما مر ومنهم من أجاب بأن التأثير في زمان الخروج من العدم إلى الوجود وليس ذلك زمان الوجود ولا زمان العدم بل في زمان الواسطة بينهما ومن النافين للواسطة من جوز تقدم التأثير على حصول الأثر فقال التأثير حال العدم في آن وحصول الأثر في آن آخر يعقبه وليس في ذلك اجتماع الوجود والعدم أصلا
الشبهة الثانية وهي أيضا دالة على أن الممكن غير محتاج إلى مؤثر لا لإمكانه ولا لغيره إذ ذلك فرع إمكان التأثير وهو محال إذ التأثير إما في الماهية أو الوجود أو الموصوفية به لأنه إذا لم يكن التأثير في شيء من هذه الثلاثة كانت الماهية الموجودة مستغنية عما فرض مؤثرا بالقياس إليها وقد بطلت هذه الأقسام كلها فيما مر لأن جعل الماهية تلك الماهية محال وكذا جعل الوجود وجودا وأيضا هو حال فلا يقبل تأثيرا والموصوفية عدمية فلا تكون أثرا والجواب أنه أي التأثير في الوجود الخاص أي في الهويات كما مر من أن المجعول هو الوجود الخاص لا ماهية الوجود وقد سبق منا تحقيق أن تأثير المؤثر في أي شيء هو بما لا مزيد عليه وأيضا

ما ذكرتموه الحدوث أي حدوث الصفات المحسوسة عمن يحدثها لأن تأثيره إما في ماهيتها أو وجودها أو موصوفيتها به والكل باطل لما ذكرتم بعينه
الشبهة الثالثة الحاجة والمؤثرية لو وجدنا في الخارج تسلسل أي لزم التسلسل وذلك لأن الحاجة لو وجدت لاحتاجت إلى الموصوف بها إذ لا يتصور قيامها بذاتها فللحاجة حاجة أخرى فينقل الكلام إلى حاجة الحاجة وكذا المؤثرية لو وجدت لاحتاجت إلى مؤثرية أخرى إذ يستحيل كونها واجبة بذاتها وإذا لم تكونا موجودتين لم يكن الممكن متصفا بالحاجة إلى سبب لا لإمكانه ولا لغيره ولم يكن شيء متصفا بالمؤثرية في الممكن أصلا وهو المطلوب والجواب أنه لا يلزم من كونهما أمرين عدميين اعتباريين انتفاؤهما من غيرهما بمعنى أن لا يكون الشيء في نفس الأمر محتاجا ومؤثرا أي متصفا بالحاجة والمؤثرية فإن الأمور العارضة العدمية تتصف بها الأشياء في أنفسها كالامتناع والعدم فإنهما وصفان اعتباريان لا وجود لهما في الخارج مع أن الممتنع والمعدوم متصفان بهما قطعا
فإن قيل لو ثبتنا أي لو ثبتت الحاجة والمؤثرية لشيء واتصف ذلك الشيء بهما فإما وجوديتان وإما عدميتان إذ لا مخرج عنهما ويبطل كل أي كل واحد من كونهما وجوديتين أوعدميتين بما عرفت أما إبطال الوجودية فبلزوم التسلسل لأنهما من الأنواع المتكررة التي عرف حالها في الضابط المتقدم وأما العدمية فبأن يقال هما نقيضا اللا حاجة واللا مؤثرية العدميتين على قياس ما مر في الوجوب وقد عرفت الجواب عن ذلك فيما أشرنا إليه فيما مر من أجوبة الشبهة العامة وهو أن يقدح في دليل الوجودية أو دليل العدمية بما عرف فيه من الخلل والنقض بحاله هذا متعلق بقوله والجواب أنه لا يلزم من كونهما اعتباريين وما توسط بينهما أعني قوله فإن قيل من تتمة الأول والمراد أن هذه الشبهة كالأوليين منقوضة بحدوث الصفات

المحسوسة فإنها تقتضي أن لا تحدث هذه الصفات لأنا نعلم بالبديهة أنها على تقدير حدوثها متصفة بالحاجة إلى المؤثر المتصف بالمؤثرية فيها
الشبهة الرابعة وهي مخصوصة بنفي كون الإمكان محوجا أن يقال لو أحوج الإمكان في الوجود إلى المؤثر لأحوج في العدم أيضا إلى المؤثر لاستواء نسبتهما إليه أي نسبة الوجود والعدم إلى الإمكان لأنه رفع الضرورة الذاتية عنهما معا فكما أن الوجود ممكن كذلك العدم ممكن لكن العدم نفي محض لا يصلح أثرا لشيء سواء كان عدما أصليا أو طارئا وفي الأصلي مانع آخر وهو أنه مستمر فالتأثير فيه تحصيل للحاصل فوجب أن لا يكون الوجود أيضا أثرا لشيء
والجواب أن العدم إن صلح أثرا بطل دليلكم لبطلان انتفاء اللازم حينئذ وإلا وإن لم يصلح منعنا الملازمة أي لا نسلم أنه لو أحوج في الوجود لأحوج في العدم للفرق البين وهو أن الوجود يصلح أثرا دون العدم فيكون الإمكان محوجا في الجانب الذي يصلح أن يكون أثرا ولا يلزم منه أن يكون محوجا في الجانب الذي لا يصلح لذلك قطعا ولنا أن نقول ابتداء من غير ترديد إن سلمنا الملازمة المذكورة في دليلكم فلا نسلم أن العدم لا يصلح أثرا لشيء أي لا نسلم بطلان اللازم فإن عدم المعلول عندنا لعدم العلة فإنه لولا أن العلة معدومة لم يكن المعلول معدوما لا يقال لو جاز استناد العدم إليه أي إلى العدم كما ذكرتم من استناد عدم المعلول إلى عدم العلة لجاز أيضا استناد الوجود إليه أي إلى العدم وأنه أي جواز استناد الوجود إلى العدم ينفي الحاجة إلى وجود المؤثر في العالم فينسد باب إثبات وجود الصانع لأنا نقول هذا كلام على الستند مع أن الملازمة ممنوعة إذ

الضرورية العقلية تحكم بجواز ذلك أعني استناد العدم إلى العدم وامتناع هذا أعني استناد الوجود إلى العدم فلا تصح تلك الملازمة أصلا
الشبهة الخامسة وهي أيضا مخصوصة بنفي كون الإمكان محوجا لو كان المحوج إلى المؤثر هو الإمكان لأحوج إليه أيضا حال البقاء لثبوته حينئذ أي ثبوت الإمكان للممتكن في حال البقاء فإنه لازم للماهية الممكنة تقتضيه ذاتها من حيث هي هي فلا ينفك عنها أصلا كالوجوب والامتناع الذاتيين وإذا كان الإمكان ثابتا حال البقاء كان معلوله الذي هو الاحتياج إلى المؤثر ثابتا أيضا والثاني باطل لأن الحاصل به أي بتأثير المؤثر حال البقاء إن كان نفس الوجود وأنه حاصل قبله أي قبل البقاء لزم تحصيل الحاصل وإن كان الحاصل به أمرا متجددا لم يكن ذلك المؤثر بتأثيره موجبا للباقي الذي هو المتصف بذلك الوجود الحاصل قبل البقاء بل موجبا لأمر آخر فلا يكون مؤثرا في الباقي والمقدر خلافه لا يقال تأثيره في بقائه الذي هو أمر متجدد لا في ذاته بحسب أصل الوجود الذي كان حاصلا لأنا نقول الذات ممكنة حال البقاء ولا تأثير فيها كما اعترفتم به فتبقى الذات بلا مؤثر فيها فتكون مستغنية عنه مع ثبوت إمكانها المحوج إياها إليه فرضا هذا خلف
والجواب أنه أي التأثير في الممكن الباقي ليس تحصيلا للحاصل ولا تحصيلا للمتجدد بل تأثيره فيه هو أن يكون دوامه لدوامه كما كان وجوده أولى من وجوده فإن سمي الدوام متجددا لأنه لم يكن حاصلا في أول زمان الوجود صار النزاع لفظيا لأنا نقول التأثير في دوام الوجود الحاصل أولا لا في أمر متجدد هو وجود ابتدائي وأنتم تقولون لا تأثير في الوجود الحاصل أولا بل في أمر متجدد هو دوامه فالمعنى واحد والاختلاف في

أن المراد بلفظ المتجدد ماذا واعلم أن الجواب الأول مذكور في نقد المحصل وليس فيه أنه لا تأثير في ذات الممكن حتى يتجه عليه ما أورده المصنف بل فيه أن تأثير المؤثر في أمر جديد هو البقاء فإنه غير الأحداث فهو مؤثر في أمر جديد صار به باقيا ومعناه أنه إذا أخذ الذات مع البقاء موصوفا به لم يتصور أن يفيده المؤثر لبقاء بهذا الاعتبار وإلا لزم تحصيل الحاصل وإذا أخذ وحده كان بقاؤه مستفادا منه ولا شك أن البقاء هو دوام الوجود فيكون الذات باعتبار دوام وجوده مستندا إلى المؤثر وهذا بعينه ما آثره ولا فرق في تسمية البقاء أي الدوام متجددا وتوضيح المقام بما لا مزيد عليه في تحقيق المرام أن يقال كما أن اتصاف الممكن بالوجود في زمان حدوثه لم يكن مقتضى ذاته لاستواء نسبته إلى وجوده وعدمه كذلك انضمام ذلك الوجود إليه وبقاء اتصافه به في الزمان الثاني وما بعده ليس مقتضى ذاته لأن استواء نسبته إلى طرفيه أمر لازم له في حد ذاته فكما استحال اقتضاؤه الوجود في الزمان الأول استحال اقتضاؤه إياه في الزمان الثاني وكما أن اتصافه بالوجود في زمان الحدوث مستند إلى المؤثر كذلك اتصافه به فيما بعده من الأزمنة مستند إليه أيضا والأول هو اتصافه بأصل الوجود والثاني هو اتصافه ببقاء الوجود فهو في وجوده ابتداء وفي استمراره محتاج إلى المؤثر الذي يفيده الوجود ويديمه له على معنى أنه يجعله متصفا بالوجود ويديم له ذلك الاتصاف لا على معنى أنه يوجد اتصافه بالوجود ويوجد دوام اتصافه به لأن الاتصاف ودوامه أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج وقد نبهت على معنى التأثير والإيجاب فيما سبق ومن قال إن التأثير في الباقي تحصيل للحاصل فقد وهم أن المؤثر يحصل في الزمان الثاني أصل الوجود الذي كان حاصلا أو وهم أنه يفيد البقاء ويحصله للممكن المأخوذ مع بقائه وكلاهما باطل ومن قال إن التأثير إذا كان في أمر متجدد لا يكون تأثيرا في الباقي البتة فقد توهم أن

ذلك المتجدد وجود ابتدائي وهو أيضا باطل لأن التأثير في ذلك الوجود الحاصل لا في أصله بل في بقائه ودوامه الذي هو متجدد وما يقال من أن المعنى بالتأثير هو استتباع وجود المؤثر وجود الأثر وذلك حاصل حال البقاء فراجع إلى ما ذكرناه من أن وجوده لوجوده ودوامه لدوامه فكن من أمرك على بصيرة كيلا يشتبه عليك الحال بتغير العبارات
الشبهة السادسة لو كان الإمكان أو الحدوث محوجا إلى المؤثر كان للحوادث التي تشاهدها مؤثر إما لحدوثها وإما لإمكانها فإما أن يقال ذلك المؤثر قديم فيلزم حدوثها أي حدوث تلك الحوادث في أوقاتها المخصوصة بلا سبب مخصص لتلك الأوقات بالحدوث من الأوقات السابقة عليها مع كونها متساوية في أن ذلك المؤثر القديم موجود فيها وإما أن يقال ذلك المؤثر حادث فيكون محتاجا إلى مؤثر آخر حادث أيضا فيتسلسل وهو محال قلنا المؤثر في الحوادث قديم مختار عندنا وفعله تابع لإرادته وتعلق إرادته بتخصيص الحدوث ببعض الأوقات مع تساويها لا يحتاج إلى داع بل له أن يختار أحد مقدوريه المتساويين على الآخر بلا سبب يدعوه إليه فإن ذلك هو الكمال في الاختيار والترجيح الصادر من الفاعل لأحد مقدوريه على الآخر لا لداع يدعوه إلى اختيار ذلك المقدور غير الوقوع أي وقوع أحد المتساويين بلا سبب مؤثر والثاني هو المحال لأنه ترجح أحد المتساويين من طرفي الممكن بلا سبب مرجح من خارج وقد عرفت بطلانه بالضرورة وأما الأول فليس بمحال لأنه ترجيح من غير مرجح أي من غير داع يدعوه لا من غير ذات متصف بالترجيح ولا استحالة فيه لأن المؤثر إذا كان مختارا فهو يرجح كيف يشاء وفيه بحث وهو أن المختار وإن رجح أحد مقدوريه بإرادته لكن إذا كانت إرادته لأحدهما مساوية لإرادته للآخر بالنظر إلى ذاته توجه أن يقال لم اتصف

بإحدى الإرادتين دون الأخرى فإن أسند ترجيح هذه الإرادة إلى ارادة أخرى نقلنا الكلام إليها ولزم تسلسل الإرادات وإن لم يسند إلى شيء فقد ترجح أحد المتساويين على الآخر بلا سبب فإن قيل الإرادة واحدة لكن يتعدد تعلقها بحسب المرادات قلنا فيلزم حينئذ التسلسل في التعلقات
الشبهة السابعة جملة الحوادث التي وجدت إلى الآن من حيث هي جملة لا شك أنها حادثة وممكنة فلو كان الحدوث أو الإمكان محوجا إلى المؤثر لكانت تلك الجملة علة لكن لا علة لها وإلا فإما حادثة فتكون تلك العلة داخلة في الجملة الشاملة لجميع الحوادث بحيث لا يشذ عنها شيء منها وهي أي تلك العلة خارجة عنها لأن المؤثر في الجملة لا بد أن يكون خارجا عن الأثر فتكون داخلة وخارجة معا وهذا خلف وإما قديمة فصدورها لا لمؤثر إذ لا يجوز أن يؤثر ذلك القديم فيها لأن تأثيره فيها إن كان قديما لزم قدم الحوادث إذ لا يعقل تأثير حقيقي بلا حصول أثر وإن كان حادثا لزم أن يتصف القديم بصفة متجددة هي المؤثرية فتكون محتاجة إلى مؤثرية أخرى فننقل الكلام إليها فيلزم التسلسل والجواب أنها أي المؤثرية صفة ذهنية فنختار أن المؤثر في جملة الحوادث قديم وأن له تأثيرا متجددا لكنه صفة ذهنية اعتبارية يتصف بها القديم من غير حاجة إلى تأثير آخر فلا يتسلسل ولقائل أن يقول الاتصاف بحادث وإن كان عدميا محتاج إلى مرجح مخصص فإن قيل الإرادة كافية في ذلك قلنا قد مر آنفا وجه الإشكال فيها

الشبهة الثامنة دعوى الضرورة في قدرة العبد وفي قضية الهارب من السبع أن نعلم بالضرورة أن قدرة العبد مؤثرة على وفق إرادته وأن أفعاله صادرة عنه بمجرد اختياره ونعلم بالضرورة أيضا أن الهارب من السبع إذا عن له طريقان متساويان فإنه يختار أحدهما بلا مرجح لأنه مع شدة احتياجه إلى القرار يستحيل منه أن يقف ويتفكر في رجحان أحدهما على الآخر وكذا الحال في العطشان إذا أحضر عنده قدحان من الماء متساويان فقد وجد ممكن حادث بلا سبب
والجواب ما قد عرفت من أن مثل ذلك ترجيح من فاعل مختار بلا داع وليس بمستحيل إنما المحال ترجح أحد طرفي الممكن بلا سبب مرجح من خارج وقد عرفت أيضا ما في هذا الجواب
خاتمة للبحث الأول من أبحاث الممكن
قال المتكلمون المحوج إلى السبب هو الحدوث لا الإمكان لأن الممكن إنما يحتاج إلى المؤثر في خروجه من العدم إلى الوجود أعني الحدوث إذ ماهيته لا تفي بذلك فإذا خرجت إلى الوجود زالت الحاجة ولهذا يبقى بعد زوال المؤثر كبقاء البناء بعد فناء البناء وأيضا إذا لاحظ العقل حدوث شيء طلب علته وإن لم يلاحظ معه شيئا آخر وأيضا لو كان المحوج هو الإمكان لأحوج في جانب العدم فيلزم أن تكون الاعدام الأزلية معللة مع كونها مستمرة والكل منظور فيه
أما الأول فلأنه ليس لماهية الممكن خروج من العدم إلى الوجود مسمى بالحدوث وإلا لكانت حالة الخروج عارية عنهما معا بل ليس لها إلا الاتصاف بالعدم أو الاتصاف بالوجود فاحتياجها إلى المؤثر في هذا

الاتصاف وقضية البناء كاذبة فإن البناء ليس علة موجدة للبناء حقيقة وكلامنا في العلة الموجدة بل هو بحركة يده مثلا علة لحركات الآلات من الخشبات واللبنات وتلك الحركات علة معدة لأوضاع مخصوصة بين تلك الآلات وتلك الأوضاع مستندة إلى علل فاعلية غير تلك الحركات المستندة إلى حركة البناء فلا يضرها عدم شيء منها
وأما الثاني فلأن العقل لو جوز وجود الحادث لذاته لما طلب علته أصلا فظهر أن ذلك الطلب لملاحظة إمكانه الناشئة من ملاحظة اتصافه بالعدم أولا وبالوجود ثانيا
وأما الثالث فلما عرفت في جواب الشبهة الرابعة من أن عدم المعلول لعدم العلة وإن كانا مستمرين وقيل المحوج إلى المؤثر هو الإمكان مع الحدوث فيكون كل منهما جزءا من العلة المحوجة وقيل المحوج هو الإمكان بشرط الحدوث فيكون الإمكان علة محوجة والحدوث شرطا لعليتها وتأثيرها قالوا دليل الفريقين السابقين يقتضي اعتبار كل من الإمكان والحدوث فيعتبر الحدوث إما شرطا وإما شطرا وقيل الكل أي كل واحد من الأقوال الثلاثة ضعيف
قال الإمام الرازي لأن الحدوث صفة للوجود لأنه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم فيكون صفة له قطعا فيتأخر الحدوث عن الوجود لأن صفة الشيء متأخرة عنه وهو أي الوجود متأخرا عن تأثير العلة أي عن الإيجاد المتأخر عن الحاجة لأن الشيء إذا لم يحتج في نفسه إلى مؤثر لم يتصور تأثيره فيه كما في الواجب والممتنع المتأخرة عن علة الحاجة بالضرورة فيلزم على تقدير كون الحدوث علة للحاجة أو جزءا لها أو شرطا تأخره عن نفسه بمراتب أربع على التقدير الأول والثالث وخمس على التقدير الثاني

لأن جزء العلة متقدم عليها والأظهر في العبارة أن يقال فيلزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب والمال في المعنى واحد
قال المصنف ولا يخفى أنه أي ما ذكره هذا القائل مغالطة نشأت من اشتباه الأمور الذهنية بالخارجية وتنزيلها منزلتها لأنهم لم يريدوا بقولهم إن الحدوث علة الحاجة أو جزؤها أو شرطها إلا أن حكم العقل بالحاجة لملاحظة الحدوث إما وحده أو مع الإمكان وهذا حق لا شبهة فيه لأن الحدوث علة في الخارج للحاجة فيوجد الحدوث في الخارج أولا فتوجد الحاجة فيه ثانيا لأن الحدوث والحاجة أمران اعتباريان فكيف يتصور كون أحدهما علة للآخر في الخارج حتى يرد عليه أنه يلزم منه تقدم الشيء على نفسه بمراتب ونحن نقول إن قولنا الممكن محتاج في وجوده إلى مؤثر قضية صادقة في نفس الأمر فيكون الممكن موصوفا في حد ذاته بالحاجة إلى غيره فكما أن أتصاف الشيء بالصفات الوجودية يحتاج إلى علة هي ذات الموصوف أو غيره كذلك اتصافه بالصفات العدمية محتاج إليها والفرق بين الوجودية والعدمية أن الوجودية تحتاج إلى العلة في وجودها أيضا دون العدمية إذ لا وجود لها ألا ترى أنه إذا قيل لم اتصف زيد بالعمى كان سؤالا مقبولا عند العقلاء بخلاف ما لو قيل لأي شيء وجد العمى في نفسه وكما يجوز أن يعلل اتصاف الشيء بوصف من الأوصاف الثبوتية باتصافه ببعض آخر منها كذلك يجوز أن يعلل اتصافه ببعض الاعتباريات ببعض آخر منها وكما أن العلل هناك موصوفة بالتقدم على معلولاتها كذلك ههنا موصوفة به أيضا إذا عرفت هذا فالمقصود في هذا المقام بيان أن علة اتصاف الممكن بالحاجة في نفس الأمر ماذا فذهب القدماء إلى أن تلك

العلة هي اتصافه بالإمكان وذهب جمهور المتأخرين إلى أنها اتصافه بالحدوث وحده أو مع غيره فورد عليهم أن اتصاف الحادث بالحدوث في نفس الأمر متأخر بالذات عن اتصافه بالوجود فيها واتصافه بالوجود متأخر كذلك عن الإيجاد وهو أيضا متأخر كذلك عن احتياجه فلا يمكن أن يكون اتصافه بالحدوث علة لاتصافه بالحاجة وهذا كلام منقح لا مغالطة فيه أصلا إذ لم يرد به أن هذه الأمور موجودات خارجية وبعضها علل لبعض في الخارج حتى يكون من قبيل تنزيل الاعتباريات منزلة الحقيقيات بل أريد أنها أمور اعتبارية لا حاجة بها إلى علة في وجودها لكن الأشياء متصفة بها في نفس الأمر فلا بد لذلك الاتصاف من علة متقدمة على معلولها بحسب نفس الأمر كما مر وأما قوله لأنهم لم يريدوا به إلى آخره فإن أراد به أن الحدوث علة لحكم العقل بالحاجة مع كونه علة للحاجة في نفس الأمر دون الخارج كما حققناه كان الدور لازما قطعا وإن أراد به أنه علة للحكم والتصديق بالحاجة فقط لم يكن له تعلق بهذا المقام إذ المقصود فيه بيان علة الحاجة لا بيان علة التصديق بها كما لا يخفى فإن قيل الإمكان متأخر أيضا عن الوجود لأنه كيفية لنسبة الوجود إلى الماهية فيتأخر عنها كالحدوث قلنا الامكان متأخر عن الماهية نفسها وعن مفهوم الوجود أيضا لكنه ليس متأخرا عن كون الماهية موجودة ولهذا توصف الماهية ووجودها بالإمكان قبل أن تتصف به الماهية وأما الحدوث فلا توصف به الماهية ولا وجودها إلا حال كونها موجودة
وثانيها أي ثاني أبحاث الممكن الممكن لا يكون أحد طرفيه أي الوجود أو العدم أولى به لذاته
فإن قلت هذا البحث مما لا فائدة فيه لأن الممكن هو الذي يتساوى طرفاه بالنظر إلى ذاته فلا يتصور حينئذ أن يكون أحدهما أولى به

لذاته وإلا لم يكن هناك تساو قلت الممكن الخارج من القسمة هو ما لا يقتضي وجوده اقتضاء تاما يستحيل معه انفكاك الوجود عنه كالواجب ولا يقتضى أيضا عدمه كذلك الممتنع وليس يلزم من هذا تساوي طرفيه لذاته لزوما بينا بل يحتاج فيه إلى بيان أنه لا يجوز أن يكون لأحد طرفيه بالنظر إلى ذاته أولوية غير واصلة إلى حد الوجوب ومنهم من جوز ذلك أي كون أحد طرفيه أولى به لذاته فقال طائفة العدم أولى بالممكنات السيالة أي غير القارة كالحركة والزمان والصوت وعوارضها إذ لولا أن العدم أولى بها لجاز بقاؤها ورد بأن الوجود غير البقاء وغير مستلزم له وماهية تلك الأشياء لاقتضائها التقضي والتجدد ليست قابلة للبقاء مع تساوي نسبتها إلى أصل الوجود والعدم وقال بعضهم العدم إولى بالممكنات كلها إذ يكفي لها في عدمها انتفاء جزء من علتها ولا يتحقق وجودها إلا بتحقق جميع أجزاء عللها فالعدم أسهل وقوعا وهو مردود بأن سهولة عدمها بالنظر إلى غيرها لا يقتضي أولويته لذاتها
وقال بعضهم إذا أوجد المؤثر وعدم الشرط كان الوجود أولى بالممكن من العدم وإذا عدم المؤثر ووجد الشرط كان العدم أولى به وقيل إذا وجد العلة فالوجود أولى وإلا فالعدم وفسادهما ظاهر لأن تلك الأولوية مستندة إلى الغير لا إلى ذات الممكن وأنه أي كون أحد طرفيه أولى به لذاته باطل لأن الطرف الآخر إن امتنع بسبب تلك الأولوية الناشئة من ذات الممكن كان هذا الطرف الأولى لذاته واجبا فيصير الممكن إما واجب الوجود لذاته أو واجب العدم لذاته هذا خلف وإلا وإن لم يمتنع الطرف الآخر فإما أن يقع الطرف الآخر بلا علة وأنه محال بديهة لأن المساوي لما امتنع وقوعه بلا علة فالمرجوح أولى بأن يمتنع وقوعه بلا علة وإما أن يقع الطرف الآخر بعلة فهذا أي ثبوت الأولوية للطرف الأول يتوقف على عدم تلك العلة التي للطرف الآخر ضرورة إذ مع وجود تلك العلة يكون

الآخر راجحا وأولى وإلا لم يكن علة له فلا تكون تلك الأولوية الثابتة للطرف الأول ثابتة له لذاته أي لذات الممكن وحده بل تكون الأولوية ثابتة لذاته مع انضمام ذلك العدم إليه والمفروض خلافه وهو أن الأولوية ناشئة من ذات الممكن وحده لأنه المبحث ههنا
فإن قيل إذا جوزتم حصول الأولوية لأحد الطرفين من الذات مع انضمام عدم علة الطرف الآخر إليه فلنفرض أن ذلك الطرف هو الوجود فيصير أولى بسبب انضمام عدم علة العدم إلى ذات الممكن ولا استحالة في وقوع الطرف خالراجح فيكفي في وقوع الوجود عدم سبب العدم منضما إلى ذات الممكن وأنه أي ما ذكر من كون عدم سبب العدم كافيا في وجود الممكن يغني عن وجود المؤثر في الممكنات الموجودة فينسد باب إثبات وجود الصانع
قلنا سبب العدم عدم لأن إعدام المعلولات مستندة إلى إعدام عللها فعدمه أي عدم سبب العدم وجود لأن عدم العدم وجود قطعا ويحصل المطلوب وهو استناد وجود الممكن إلى مؤثر موجود وكون العالم دالا على وجود الصانع
وثالثها أي ثالث تلك الأبحاث أن الممكن لاحتياجه إلى العلة المؤثرة في وجوده لما مر وكون الأولوية الناشئة من تلك العلة إذا لم تصل إلى حد الوجوب غير كافية في وقوعه لأنه إذا صار الوجود بسبب تلك العلة أولى بلا وجوب وكان ذلك كافيا في وقوعه فلنفرض مع تلك الأولوية الوجود في وقت والعدم في وقت آخر فإن لم يكن اختصاص أحد الوقتين بالوجود لمرجح لم يوجد في الآخر لزم ترجح أحد المتساويين بلا سبب

وإن كان لمرجح لم تكن الأولوية الشاملة للوقتين كافية للوقوع والمقدر خلافه وأيضا الأولوية لا تنشأ إلا من العلة التامة لأنه متى فقد جزء من أجزائها كان العدم أولى فإذا فرض أن اختصاص أحد الوقتين لمرجح لم يوجد في الآخر لم تكن العلة التامة علة تامة فقد ثبت أن الأولوية وحدها غير كافية فما لم يجب وجود الممكن عن علته بحيث يستحيل تخلفه عنها لم يوجد وهو وجوبه السابق على وجوده لأنه وجب أولا وجوده من علته فوجد ثم أنه إذا وجد فبشرط الوجود وأخذه معه يمتنع عدمه وإلا جاز اجتماع عدمه مع وجوده وأه وجوبه اللاحق لوجوده فإنه وجد أولا فامتنع عدمه ووجب وجوده فله أي فللمكن الموجود وجوبان يحيطان بوجوده وهما بالغير لأن الأول بالنظر إلى وجود العلة والثاني بالنظر إلى وجود الممكن وأخذه معه فلا ينافيان الإمكان الذاتي لأنه بالنظر إلى ذات الممكن مع قطع النظر عن كون علته موجودة وكذا عن كونه موجودا وقس على ذلك حال الممكن المعدوم فإنه محفوف بامتناعين
أحدهما من عدم علة وجوده
والثاني من عدمه
ورابعها إن الإمكان لازم للماهية الممكنة لا يجوز انفكاكها عنه أصلا وإلا جاز خلو الماهية عنه فينقلب الممكن ممتنعا وواجبا إن كان خلوها عنه بزواله عنها أو بالعكس أي ينقلب الممتنع أو الواجب ممكنا إن كان خلوها عنه بحدوثه لها بعد مالم يكن وأنه أي جوااز خلوها عنه على أحد الوجهين ينفي الإمكان عن الضروريات فيرتفع الوثوق عن حكم العقل بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات وجواز الجائزات لجواز انقلاب

بعضها إلى بعض حينئذ وذلك سفسطة ظاهرة البطلان لأن الوجوب والإمتناع والإمكان المستندة إلى ذوات الأشياء في أنفسها لا يتصور انفكاكها عنها وإلا لم تكن تلك الذوات لانتفاء مقتضياتها من حيث هي هي وربما يحتج عليه أي على لزوم الإمكان لماهية الممكن بأن الإمكان إن لم يكن لازما لها بل حادثا فنقول إن حدوث الإمكان لها واتصافها به إما أن يكون لأمر يقتضي ذلك الاتصاف وهو أي الإمكان باعتبار وقوعه صفة لها ممكن لحدوثه بهذا الاعتبار واستناده إلى الغير فيكون للإمكان إمكان فتتسلسل الإمكانات إلى غير النهاية أو لا يكون حدوث الإمكان لها لأمر يقتضيه فيلزم نفي الصانع أي لا يثبت وجوده لجواز حدوث الحوادث حينئذ من غير استناد إلى شيء يقتضيها أو نقول حدوثه للماهية أن توقف على حادث آخر تسلسل بأن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر لا إلى نهاية وإلا وإن لم يتوقف حدوثه لها على حادث آخر فاختصاصه أي اختصاص حدوث الإمكان بذلك الوقت الذي حدث فيه يكون بلا مرجح هذا خلف والحق أن الدعوى وهي أن الإمكان الذي يقتضيه ذات الممكن من حيث هي هي لازم لها يستحيل انفكاكه عنها أظهر من هذين الدليلين لأنها قضية بديهية يحكم بها صريح العقل بعد تجريد طرفيها على ما ينبغي وفي الدليلين مناقشات لا تخفى على ذوي الفطانة وبتقدير صحتهما لا شبهة في خفاء مقدماتهما وربما يشكك عليه أي على لزوم الإمكان للماهية بأن حدوث العالم أي وجوده غير ممكن في الأزل لما ثبت من الدلالة على وجوب حدوثه بل نقول وجود الحادث في هذا الآن غير ممكن في الأزل لاستحالة أن يكون الحادث أزليا ثم يصير وجود العالم بل وجود ذلك الحادث ممكنا فيما لا يزال فقد ثبت الإمكان لشيء بعد مالم يكن له فلا يكون لازما وكذا فاعلية الباري تعالى للعالم بل للحوادث اليومية غير

ممكنة في الأزل ثم إنها تصير ممكنة فيما لا يزال وأيضا فيحدث للمكن المقدور مع بقاء الوجود امتناع المقدورية لأن الموجود يمتنع أن يكون مقدورا لاستحالة تحصيل الحاصل بعد إمكانه أي بعد إمكان مقوريته حال حدوثه وصدوره من القادر فقد زال إمكان الشيء بعد ما كان حاصلا له فلا يكون لازما
والجواب عن الأول أن أزلية الإمكان ثابتة وهي غير إمكان الأزلية وغير مستلزمة له وذلك لأنا إذا قلنا إمكانه أزلي أي ثابت أزلا كان الأزل ظرفا للإمكان فيلزم أن يكون الشيء ذلك متصفا بالإمكان اتصافا مستمرا غير مسبوق بعدم الاتصاف وهذا هو الذي يقتضيه لزوم الإمكان لماهية الممكن وهو ثابت للعالم والحوادث اليومية ولفاعلية الباري لها أيضا وإذا قلنا أزليته ممكنة كان الأزل ظرفا لوجوده على معنى أن وجوده المستمر الذي لا يكون مسبوقا بالعدم ممكن ومن المعلوم أن الأولى لا تستلزم الثانية لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرا ولا يكون وجوده على وجه الاستمرار ممكنا أصلا بل ممتنعا فلا يلزم من هذا أن يكون ذلك الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات لأن الممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه هذا هو المسطور في كتب القوم ولنا فيه بحث وهو أن إمكانه إذا كان مستمرا أزلا لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل فيكون عدم منعه منه أمرا مستمرا في جميع تلك الأجزاء فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها بل جاز اتصافه به في كل منها لا بدلا فقط بل ومعا أيضا وجواز اتصافه به في كل منها معا هو إمكان اتصافه بالوجود المستمر في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزلية الإمكان مستلزمة لإمكان الأزلية

نعم ربما امتنعت الأزلية بسبب الغير وذلك لا ينافي الإمكان الذاتي مثلا الحادث يمكن أزليته بالنظر إلى ذاته من حيث هو ويمتنع إذا أخذ الحادث مقيدا بحدوثه فذات الحادث من حيث هو إمكانه أزلي وأزليته ممكنة أيضا وإذا أخذ مع قيد الحدوث لم يكن لهذا المجموع إمكان وجود أصلا لأن الحدوث أمر اعتباري يستحيل وجوده فالمجموع من حيث هو ممتنع لا ممكن فإن قلت نحن نأخذ ذات الحادث لا وحده بل مع الحدوث على أنه قيد لا جزء ونقول إنه ممتنع في الأزل وممكن فيما لا يزال قلت الإمكان الذاتي معتبر بالقياس إلى ذات الشيء من حيث هو فإن أخذ ذات الحادث وحده أو ذات المجموع فقد عرفت حالهما وإن أخذ ذات الحادث وحده أو ذات الحادث مقيدا بقيد خارجي لم يتصور هناك إمكان ذاتي إذ ليس لنا ممكن بالغير على قياس الواجب أو الممتنع بالغير والسر فيه أن الوجوب والامتناع بالغير إنما يعرضان للممكن ولا استحالة فيه لأن الممكن هو الذي لا يقتضي الوجود والعدم ونسبته إليهما على سواء بالنظر إلى ذاته فإذا وجد علة أحد طرفيه فوجب به وامتنع الطرف الآخر لم يضر ذلك في استواء نسبتهما إلى ذاته وأما الإمكان بالغير فلا يجوز عروضه للممكن بالذات لأن استواء طرفيه لما كان ثابتا له بالنظر إلى ذاته لم يتصور ثبوته بواسطة الغير وإلا توارد علتان على شيء واحد ولا عروضه للواجب أو الممتنع وإلا لم يبق الوجود أو العدم واجبا فيلزم الانقلاب وهذا محال

والجواب عن الثاني أنه أي كون المقدور مقدورا أمر اعتباري فلا يوصف بإمكان الوجود حتى يتصور زواله وإن وصف بالإمكان من حيث وقوعه صفة لغيره فما عرض له من الامتناع غير الامتناع الذاتي بل هو امتناع ناشيء من أخذ المقدور مع الوجود فلا ينافي الإمكان الذاتي مع أنه قد ثبت فيما سبق أن الباقي حال بقائه مقدور ومحتاج إلى مؤثر يفيده البقاء والدوام فلا يكون إمكان المقدورية زائلا مع وجود المقدور

المقصد الخامس
في أبحاث القديم وهي أمران أي هي راجعة إليهما
أحدهما أنه أي القديم لا يستند إلى القادر المختار أي لا يكون أثرا صادرا منه اتفاقا من المتكلمين وغيرهم والحكماء إنما أسندوه أي القديم الذي هو العالم على رأيهم إلى الفاعل الذي هو الله تعالى لاعتقادهم أنه تعالى موجب بالذات لا فاعل بالاختيار ولو اعتقدوا كونه مختارا لم يذهبوا إلى قدم العالم المستند إليه والمتكلمون لو سلموا كونه تعالى موجبا بالذات لم يمنعوا استناده أي استناد القديم إليه تعالى فالحاصل جواز استناده إلى الفاعل الموجب اتفاقا من الفريقين بأن يدوم أثره أي أثر الموجب بدوام ذاته فيكون كلاهما قديمين مع استناد أحدهما إلى الآخر ويمتنع استناده أي وامتناع استناده إلى الفاعل المختار اتفاقا منهما أيضا لأن فعل المختار مسبوق بالقصد إلى الإيجاد دون فعل الموجب إذ لا قصد له وأنه أي القصد إلى الإيجاد مقارن للعدم أي لعدم ما قصد إيجاده ضرورة لأن القصد إلى الإيجاد الموجود ممتنع بديهة فنزاعهم في قدم العالم وحدوثه

مع كونه مستندا إلى الله تعالى اتفاقا ليس مبنيا على أن الحكماء جوزوا استناد القديم إلى الفاعل فحكموا بأن العالم قديم ومع قدمه مستند إليه تعالى وإن المتكلمين لم يجوزوا استناد القديم إلى الفاعل فحكموا بأن العالم حادث مستند إليه تعالى بل هذا النزاع بينهم عائد إلى كون الفاعل الموجد للعالم موجبا أو مختارا حتى لو اتفقوا كلهم على أنه موجب أو على أنه مختار لا تقفوا على قدم العالم على التقدير الأول وعلى حدوثه على التقدير الثاني هكذا ذكره الإمام الرازي ورد عليه بأنه يدل على أن المتكلمين بنوا مسألة الحدوث على مسألة الاختيار وليس الأمر كذلك بل بالعكس فإنهم استدلوا أولا على كون العالم حادثا من غير تعرض لفاعله أصلا فضلا عن كونه مختارا ثم بنوا على حدوثه أن موجده يجب أن يكون مختارا إذ لو كان موجبا لكان العالم قديما وهو باطل واعلم أن القائل بأن علة الحاجة هي الحدوث وحده أو مع الإمكان حقه أن يقول إن القديم لا يستند إلى علة أصلا إذ لا حاجة له إلى مؤثر قطعا فلا يتصور منه القول بأن القديم يجوز استناده إلى الموجب إلا أن يتنزل من اعتبار الحدوث إلى اعتبار الإمكان وحده
فإن قلت مثبتو الحال من الأشاعرة زعموا أن عالميته تعالى مستندة إلى علمه مع كونهما قديمين وأبو هاشم من المعتزلة زعموا أن الأحوال الأربعة وهي العالمية والقادرية والحيية والموجودية معللة بحالة خامسة هي الألوهية وكلها قديمة والأشاعرة كافة زعموا أن لله تعالى صفات موجودة قائمة بذاته وهي قديمة فهم بين أن يجعلوا الواجب بالذات متعددا وبين أن يجعلوا القديم مستندا إلى الغير والأول باطل فتعين الثاني فهذه الأقوال منهم منافية لما ذهبوا إليه من اعتبار الحدوث ولا مجال لتأويل التنزل فيها

قد يعتذر عن ذلك بأن القديم ما لا أول لوجوده فالحال لا يوصف بالقدم إلا أن يغير تفسيره بأنه مالا أول لثبوته وبأن صفات الله تعالى ليست عين الذات ولا غيرها فلا يلزمهم تعدد الواجب ولا تعليل القديم بغيره وأنت تعلم أن أمثال هذه الاعتذارات أمور لفظية لا معنوية
قال المصنف ولقد عثرت في كلام القوم على منع الأمرين يعني عدم جواز استناد القديم إلى المختار وجواز استناده إلى الموجب أما استناده إلى المختار فجوزه الآمدي وقال سبق الإيجاد قصدا على وجود المعلول كسبق الإيجاد إيجابا فكما أن ذلك أي سبق الإيجاد الإيجابي سبق بالذات لا بالزمان فيجوز مثله ههنا بأن يكون الإيجاد القصدي مع وجود المقصود زمانا ومتقدما عليه بالذات ولا فرق بينهما أي بين الإيجادين فيما يعود إلى السبق واقتضاء العدم وحينئذ جاز أن يكون العالم واجبا في الأزل بالواجب لذاته تعالى مع كونه مختارا فيكونان معا في الوجود وإن تفاوتا في التقدم والتأخر بحسب الذات كما أنه حركة اليد سابقة على حركة الخاتم بالذاتت وإن كانت معها في الزمان ويؤيد كلام الآمدي ما نقله بعضهم من أن الحكماء متفقون على أن تعالى فاعل مختار بمعنى إن شاء فعل وإن شاء ترك وصدق الشرطية لا يقتضي وقوع مقدمها ولا عدم وقوعه فمقدم شرطية الفعل واقع دائما ومقدم شرطية الترك غير واقع دائما ويدفعه ما قد قيل من أنا نعلم بالضرورة أن القصد إلى إيجاد الموجود محال فلا بد أن يكون القصد مقارنا لعدم الأثر فيكون أثر المختار حادثا قطعا

وقد يقال تقدم القصد على الإيجاد كتقدم الإيجاد على الوجود في أنهما بحسب الذات فيجوز مقارنتهما للوجود زمانا لأن المحال هو القصد إلى إيجاد الموجود بوجود قبل
وبالجملة فالقصد إذا كان كافيا في وجود المقصود كان معه وإذا لم يكن كافيا فيه فقد يتقدم عليه زمانا كقصدنا إلى أفعالنا وأما استناده إلى الموجب القديم قيد الموجب بالقديم لأن استناد القديم إلى الموجب الحادث مستحيل بالضرورة إنما الكلام في استناده إلى الموجب القديم فمنعه الإمام الرازي لأن تأثيره فيه أي تأثير الموجب في القديم إما في حال بقائه أي بقاء القديم وفيه إيجاد الموجود وهو محال وإما في حال عدمه أو حدوثه وعلى التقديرين يكون حادثا وقد فرضناه قديما هذا خلف
فإن قلت قد يحتاج ذلك القديم بالضرورة إلى الموجب في البقاء فيكون مستمرا دائما بدوام علته الموجبة وذلك لأن الاحتياج في البقاء أمر معلوم بالضرورة لا يجوز إنكاره كالمعلول الباقي فإنه محتاج في بقائه إلى علته كاحتياج حركة الخاتم في بقائها إلى حركة اليد والمشروط الباقي فإنه أيضا محتاج في بقائه إلى الشرط كالعلم المحتاج في بقائه إلى الحياة والعالمية المحتاجة في بقائها إلى العلم وإذ قد يراد بقاء الشيء على وجوده وهو أي بقاء الشيء على وجوده نفس وجوده في الزمان الثاني وإلا أي وإن لم يكن نفس وجوده في الزمان الثاني بل كان زائدا عليه فلا بد أن يكون موجودا حاصلا في ذلك الزمان فننقل الكلام إلى بقائه وتسلسل وقد يراد بقاء الشيء على عدمه وبقاؤه على عدمه نفس عدمه في الزمان الثاني إذ لو كان زائدا عليه لكان موجودا قائما بالمعدوم فظهر أن الإرادة تتعلق بالشيء حال بقائه سواء كان موجودا أو معدوما فيكون في تلك الحال

محتاجا مستندا إلى علة وإذا ثبت الاحتياج في البقاء في هذه الأشياء ولم يلزم منه إيجاد الموجود على وجه محال لم يكن استناد القديم أي الباقي دائما في بقائه ودوامه إلى موجب مستلزما لإيجاد الموجود بل كان هناك استمرار وجود مستند إلى استمرار وجود آخر ثم إنه أي ما ذكره الإمام في إبطال استناد القديم إلى مؤثر موجب معارض بوجوه
الأول العدم ينافي الوجود والفاعلية أي عدم الأثر ينافي وجوده وهذا ظاهر وينافي أيضا فاعلية الفاعل لذلك الأثر لأن تلك الفاعلية ملزومة لذلك الوجود ومنافي اللازم مناف للملزوم وإذا كان كذلك فلا يكون السابق منه أي من عدم الأثر شرطا لهما أي لوجود الأثر وكون الفاعل فاعلا له ضرورة أن شرط الشيء لا ينافيه وإذا لم يكن العدم السابق شرطا لهما جاز أن يكون الأثر المستند إلى الفاعل غير مسبوق بالعدم وهو المطلوب
الثاني هو أي الأثر حال البقاء ممكن لأن الإمكان لازم للممكن يستحيل انفكاكه عنه كما مر والمحوج إلى العلة هو الإمكان فيكون الباقي حال بقائه محتاجا إلى المؤثر فما لا يكون له إلا حال البقاء أعني القديم يجوز استناده في بقائه المستمر إلى المؤثر
الثالث أبطلنا كون الحدوث شرطا للحاجة أي أبطلنا كون الحاجة إلى الموثر متوقفة على الحدوث بوجه من الوجوه أعني كونه علة أو جزءا أو شرطا فيجوز حينئذ احتياج القديم إلى المؤثر وإلا لكان الحدوث معتبرا في الحاجة إليه
الرابع الواجب تعالى لو استجمع في الأزل شرائط المؤثرية في أثر من الآثار قدم أثره المستند إلى تلك المؤثرية الأزلية لامتناع تخلف المعلول عن علته التامة وإلا وإن لم يستجمع تلك الشرائط في الأزل توقف تأثيره في أي أثر فرض على أمر حادث معتبر في مؤثريته فننقل الكلام إلى ذلك

الحادث وتسلسل لتوقف كل حادث على حادث آخر إلى غير النهاية والثاني باطل فتعين الأول فقد استند القديم إلى المؤثر
الخامس الإمكان محوج في العدم كما هو محوج في الوجود لما مر وأنه أي العدم كعدم الحوادث لا أول له بل هو مستمر أزلا فقد جاز استناد المستمر في استمراره الأزلي إلى غيره وهذا معنى استناد القديم إلى المؤثر
السادس زوجية الأربعة مثلا معللة بذاتها من حيث هي دائمة معها بحيث يستحيل انفكاكها عنها فلو فرض أن الأربعة ثابتة أزلا كانت زوجيتها أزلية أيضا مع كونها مستندة إلى ذات الأربعة فقد صح استناد مالا أول له إلى غيره
قلنا جواب لقوله فإن قلت أي قلنا في جواب كل ما ذكرتموه دليلنا الدال على أن الباقي لا يجوز استناده حال بقائه إلى المؤثر أقوى مما تمسكتم به في جوازه وذلك لأن المؤثر في الباقي حال البقاء إما لا أثر له فيه أصلا فلا يكون مؤثرا فيه قطعا والمقدر خلافه وهو أي تأثيره في الباقي حال البقاء إما لا أثر له فيه أصلا فلا يكون مؤثرا فيه قطعا والمقدور خلافه وهو أي تأثيره في الباقي تحصيل الحاصل فيكون أيضا باطلا بالضرورة كما مر هكذا أجاب الإمام الرازي وقال وأما الأجوبة المفصلة فمذكورة في المطولات
قال المصنف وقد عرفت ما فيه أي ما في هذا الدليل من الخلل وهو أن التأثير في الباقي وإن كان قديما هو أن يكون دوامه لدوام المؤثر فلا يكون تحصيلا للحاصل ولا في أمر متجدد لا تعلق له بالباقي من حيث

هو باق فلا يتم هذا الدليل فضلا عن أن يكون أقوى فلذلك أورد الأجوبة المفصلة بقوله بل الجواب إما عن دعوى الضرورة في قوله قد يحتاج بالضرورة في البقاء فالمنع لازم لأن دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مسموعة وحكاية العلة مع المعلول المستند إليها في البقاء وحكاية الشرط مع المشروط الذي يستند إليه في بقائه فرع ثبوتهما ونحن لا نقول به أي بثبوتهما إذ لا علية ولا شرطية عندنا بين الأشياء بل كلها صادرة عن المختار ابتداء بمجرد اختياره بلا لزوم وهذا ظاهر على تقدير كونه تعالى مختارا لكن الكلام على تقدير كون المؤثر موجبا فكأنه رجع إلى مذهبه ولم يلتفت إلى فرض الإيجاب والعالمية عندنا نفس العلم لا معللة به مع قدمها كما ادعيتموه نعم يتجه هذا على القائل بالحال وإرادتنا غير مؤثرة أي لا مدخل لها في وجود أفعالنا فلذلك جاز تعلقها بالموجود الباقي حال بقائه إذ لا تأثير منا هناك ابتداء ولا دواما فلا محذور بخلاف ما إذا تعلق به التأثير إراديا كان أو إيجابيا فإنه يستلزم إيجاد الموجود وأما عن المعارضات الدالة على جواز استناد القديم إلى المؤثر الموجب فعن الأولى أن الشرط في استناد الأثر إلى المؤثر كونه مسبوقا بالعدم وهو غير العدم السابق وهذا الشرط لا ينافي وجود الأثر وفاعلية الفاعل بل يجامعهما ولقائل أن يقول كونه مسبوقا بالعدم متوقف على العدم فيلزم من شرطية هذا شرطية ذاك أيضا وعن الثانية أن الكلام في الباقي الذي لا أول له وهو القديم وما ذكرتم فيه أي في الباقي الذي لا أول له مصادرة وفي غيره لا يفيد يعني إن أردتم بقولكم الأثر حال البقاء ممكن أن الأثر القديم كذلك فهو

مصادرة على المطلوب إذ لا معنى لامتناع استناد القديم إلى الموثر إلا امتناع كون القديم ممكنا وأثرا لشيء وإن أردتم به الباقي الذي له أول وهو في حال بقائه ممكن ومستند إلى المؤثر فهو مسلم ولا يجديكم نفعا فإن قلت إذا جاز التأثير حال البقاء ههنا جاز هناك أيضا
قلت هذه الملازمة ممنوعة فإن الباقي الذي له أول قد يتصور فيه التأثير ابتداء فيتصور دوامه بخلاف الباقي الذي لا أول له إذ لا يتصور فيه ابتداء تأثير فكيف يتصور دوامه
وعن الثالثة أن العقل ببديهته يحكم بأن القديم الذي هو مستمر الوجود في الأزل لا يحتاج إلى مؤثر يفيده الوجود لاستحالة إيجاد الموجود وهذا هو مطلوبنا ولا يجب منه كون الحدوث شرطا للحاجة ومعتبرا فيها وحده أو مع غيره على أنا قد نلتزم شرطية الحدوث في قبول التأثير إذ قد أجبنا عن إبطال اعتبار الحدوث بما سبق وههنا بحث وهو أن القديم إذا لم يقبل التأثير أصلا كان قبوله موقوفا على انتفاء القدم الذي هو الحدوث في الموجودات فيكون شرطا له بلا شبهة وأما الجواب عن ذلك الإبطال فقد عرفت ما فيه

وعن الرابعة أنا نختار أنه أي الواجب تعالى مستجمع في الأزل لشرائط الفاعلية لكنه فاعل مختار فله تأخير الفعل إلى أي وقت شاء فلا يلزم قدم أثره إنما يلزم ذلك أن لو كان موجبا بالذات وهو ممنوع
وعن الخامسة إن استناد العدم إلى العدم وإن كان جائزا لما مر من أن عدم المعلول لعدم العلة لكن هذا الاستناد أمر وهي لا حقيقة له في الخارج فلا يلزم من جواز استناد العدم المستمر إلى العدم المستمر استنادا وهميا جواز استناد للوجود المستمر إلى الوجود المستمر استنادا حقيقيا وكلامنا في هذا الاستناد لأن القدم من عوارض الوجود دون العدم
وعن السادسة مثله وهو أن يقال الأربعة من الأعداد التي لا وجود لها وكذا زوجيتها أيضا من الاعتبارات العقلية فاستنادها إلى ذات الأربعة استناد وهمي لا حقيقة له في الخارج فلا يلزم من جواز هذا الاستناد دائما جواز الاستناد الحقيقي دائما
وثانيهما أي ثاني الأمرين من مباحث القديم أنه يوصف به أي بالقدم ذات الله تعالى اتفاقا من الحكماء وأهل الملة ويوصف به أيضا صفاته عند الأشاعرة ومن يحذو حذوهم فإنهم أجمعوا على أن لله سبحانه صفات موجودة قديمة قائمة بذاته تعالى وأما المعتزلة فأنكروه لفظا أي أنكروا أن يوصف بالقدم ما سوى الله تعالى سواء كان صفة له أو لم يكن إنكارا بحسب اللفظ لكن قالوا به معنى فإنهم أثبتوا له أي لله تعالى أحوالا أربعة لا أول لها هي الوجود والحياة والعلم والقدرة أي الموجودية والحيية والعالمية والقادرية فإنها أحوال ثابتة لله سبحانه وتعالى أزلا وأثبت أبو هاشم

منهم حالة خامسة هي علة للأربعة المذكورة ومميزة للذات أي لذاته تعالى عن سائر الذوات المساوية له في الذاتية هي الإلهية فقد أثبتوا مع الله في الأزل أمورا كثيرة فلزمهم تعدد القديم مع تحاشيهم عن إطلاق القديم على غير الله كذا قال الإمام الرازي وفيه نظر لأن القديم موجود لا أول له وهذه الأمور التي أثبتوها أحوال لا توصف عندهم بالوجود فلا تكون قديمة إلا أن يراد بالقديم ثابت لا أول له لكن الكلام في المعنى المشهور وأيضا إنما يلزم هذا من أثبت منهم الحال دون من عداهم احتج المعتزلة على نفي الصفات القديمة التي أثبتها الأشاعرة بأن القول بقدماء معتدة كفر إجماعا والنصارى إنما كفروا لما أثبتوا مع ذاته تعالى صفات أي أوصافا ثلاثة قديمة سموها أقانيم وهي بمعنى الأصول واحدها أقنوم قال الجوهري وأحسبها رومية هي العلم والوجود والحياة وعبروا عن الوجود بالأب وعن الحياة بروح القدس وعن العلم بالكلمة وقد وقع في بعض النسخ القدرة بدل الوجود وهو سهو فكيف لا يكفر من أثبت مع ذاته تعالى سبعة من الأوصاف القديمة المشهورة أو أكثر كما إذا ضم إليها التكوين أو غيره من الصفات الوجودية التي اختلف فيها كالبقاء واليد وغيرهما
والجواب أنهم أي النصارى إنما كفروا لأنهم أثبتوا أي الأقانيم المذكورة ذوات لا صفات وإن تحاشوها عن التسمية بالذوات وسموها صفات فإنهم قالوا بانتقال أقنوم العلم وهو الكلمة إلى المسيح والمستقل بالانتقال لا يكون إلا ذاتا وإثبات المتعدد من الذوات القديمة هو الكفر إجماعا دون إثبات الصفات القديمة في ذات واحدة وأيضا إنما كفرهم الله

بقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة لإثباتهم آلهة ثلاثة كما يدل عليه قوله عقيبه وما من إله إلا إله واحد
فمن أثبت صفات متعددة لإله واحد لا يكون كافرا وسيأتيك في بحث الصفات القائمة بذاته تعالى تتمة لهذا الكلام وأما غير ذات الله تعالى وصفاته فلا يوصف بالقدم بإجماع المتكلمين لأن ما سوى الله تعالى مخلوق وكل مخلوق حادث عندهم وجوزه الحكماء إذ قالوا العالم قديم على التفصيل الذي ستطلع عليه في البحث عن حدوث العالم وأثبت الحرنانيون من المجوس وهم فرقة منهم منسوبة إلى رجل يقال له حرنان قدماء خمسة اثنان منها عالمان حيان والأولى كما في المحصل اثنان حيان فاعلان وهما الباري والنفس أما الباري فهو قديم وحي وفاعل لهذا العالم وأما النفس والمراد بها ما يكون مبدأ للحياة وهي الأرواح البشرية والسماوية فهي حية لذواتها وقديمة أيضا إذ لو كانت حادثة لكانت مادية وفاعلة في الأجسام التي تعلقت بها تعلق التدبير والتصرف وثلاثة لا عالمة ولا حية ولا فاعلة بل واحد منها منفعل واثنان لا فاعلان ولا منفعلان هي الهيولى والفضاء والدهر فالهيولى قديمة وإلا احتاجت إلى هيولى أخرى هي منفعلة بقبول الصور فلا تكون فاعلة وإلا لكانت مع بساطتها قابلة وفاعلة معا وليست بحية وهو ظاهر والمراد بالفضاء هو الخلاء ولو لم يكن قديما لارتفع الامتياز عن الجهات فلا تتميز جهة اليمين عن اليسار ولا جهة الفوق عن التحت وذلك أمر غير معقول والدهر هو الزمان ولا يتصور

تقدم عدمه على وجوده لأنه تقدم زماني فيجتمع وجوده مع عدمه وهذان أعني الخلاء والزمان لا فاعلان ولا منفعلان
قال الإمام الرازي كان هذا المذهب مستورا فيما بين المذاهب فمال إليه ابن زكرياء الطبيب الرازي وأظهره وعمل فيه كتابا مسمى بالقول في القدماء الخمسة وستقف على مأخذهم في أثناء ما يرد عليك في الكتاب وقد أشرنا نحن إلى ذلك إشارة خفية

المقصد السادس
في أبحاث الحدوث وهي أيضا راجعة إلى أمرين
أحدهما أن الحادث هو المسبوق بالعدم أي يكون عدمه قبل وجوده فيكون له أي لوجوده أول هو أي الحادث معدوم قبله أي قبل ذلك وهذا الأول هو المسمى بالحادث الزماني ويقابله القديم الزماني وقيل هو المسبوق بالغير سبقا ذاتيا سواء كان هناك سبق زماني أو لا وهو المسمى بالحادث الذاتي وبإزائه القديم الذاتي فيكون الحادث بالتفسير الثاني أعم منه بالتفسير الأول إذ المعلول القديم بحسب الزمان إن ثبت كان حادثا بهذا المعنى الثاني لأن كل معلول مسبوق بغيره الذي هو علته سبقا ذاتيا دون المعنى الأول
قال الحكماء في إثبات الحدوث الذاتي الممكن لذاته غير مقتض للوجود ولغيره مقتض له وما بالذات مقدم بالذات على ما بالغير لأن ارتفاع

الشيء ذاته يستلزم ارتفاع ذاته وذلك يستلزم ارتفاع ما للذات بحسب الغير وأما ارتفاع حاله بحسب غيره فلا يقتضي ارتفاع حاله بحسب ذاته فيتقدم ما بالذات على ما بالغير تقدم الواحد على الاثنين فإذا لا وجوده أي عدمه مقدم على وجوده تقدما بالذات وهو أعني تقدم العدم على الوجود بالذات هو الحدوث الذاتي ويظهر من هذا الكلام أن الحدوث الذاتي عندهم هو مسبوقية الوجود بالعدم أيضا كالحدوث الزماني إلا أن السبق في الذاتي بالذات وفي الزماني بالزمان وقد صرح بذلك بعض الفضلاء لكنه مشكل جدا فإن العدم لا تقدم له بالذات على الوجود وإلا لكان علة له أو جزءا لعلته ولا يتصور ذلك في الممكنات المستمرة الوجود في الأزل عندهم مع كونها محدثة حدوثا ذاتيا ويرد عليه أي على الدليل الذي ذكروه أن عدم اقتضاء الوجود وإن كان أمرا ثابتا للممكن بحسب ذاته لكنه لا يوجب اقتضاءه أي اقتضاء الممكن لذاته العدم فيكون عدمه سابقا على وجوده سبقا ذاتيا كما زعموه نعم لا اقتضاء الوجود والعدم لكونه مستندا إلى ذات الممكن سابق على اقتضاء الوجود لكونه مستندا إلى غيره فإن جعل مسبوقية استحقاق الوجود بلا استحقاقيته حدوثا ذاتيا كما فعله الإمام الرازي صح أن ثبت أن ما بالذات مقدم بالذات على ما بالغير لكنه منظور فيه لأن غاية ما ذكروه في إثباته أن ارتفاع الأول يستلزم ارتفاع الثاني من دون عكس وليس يلزم منه تقدم الأول على الثاني إلا إذا ثبت أن ارتفاعه سبب لارتفاعه ولم يثبت ذلك بما ذكروه وعلى تقدير ثبوته إنما يصح هذا إذا قلنا الوجود غير الماهية في الممكنات حتى يتصور هناك أن لا اقتضائها الوجود مقدم على اقتضائه إذ لو كان الوجود عينها لم يتصور ذلك أصلا
نكتة الحدوث لا يعقل إلا بسبق أمر عليه أي على الحادث لأن الحدوث عبارة عن مسبوقية وجود الشيء فلا يعقل إلا بأمر سابق عليه فهو

أي ذلك السابق إما عدمه الذي يمتنع اجتماعه مع اللاحق أو أمر آخر يمكن اجتماعه معه وإنما اختلف تفسيره نظرا إليه أي إلى ذلك الأمر فإذا اعتبر تقدم العدم كان الحدوث زمانيا لامتناع اجتماع المتقدم والمتأخر وإذا اعتبر تقدم غير العدم وهو العلة كان الحدوث ذاتيا شاملا للممكنات بأسرها اتفاقا لأن كل ممكن مسبوق بعلته سبقا يجامع فيه السابق اللاحق فيكون القدم الذاتي مختصا بالواجب تعالى
وثانيهما أي ثاني أبحاث الحدوث أنه قال الحكماء الحدوث بمعنى المسبوقية بالعدم وهو الحدوث الزماني يستدعي مادة أي محلا إما موضوعا إن كان الحادث عرضا وإما هيولى إن كان الحادث صورة وإما جسما يتعلق به الحادث إن كان الحادث نفسا وقد تفسر المادة بالهيولى وحدها لأن الموضوع والمتعلق مشتملان عليها ومدة أي زمانا أما المادة فلأنه أي الحادث قبل وجوده ممكن وهو ظاهر والإمكان أمر وجودي لما مر من أدلة وجوده في بابه يستدعي محلا لامتناع قيام الإمكان بنفسه موجودا إذ يستحيل قيام الصفة الوجودية بالمعدوم وليس ذلك المحل نفسه أي نفس ذلك الحادث الممكن إذ لا يوجد قبل وجوده فكيف يتصور كونه نفس ذلك المحل الموجود قبله حتى يقوم به إمكانه ولا أمرا منفصلا عن الحادث بالكلية لا تعلق له به أصلا فإنه لا يصلح أن يكون محلا لإمكانه قطعا ولا أمرا متعلقا به إذا كان منفصلا عنه ومباينا له في الوجود لأن صفة الشيء لا تقوم بما يباينه كقدرة القادر مثلا أي كالفاعل القادر مثلا أي كالفاعل القادر على ما توهمه بعضهم من أن معنى إمكان الشيء قبل وجوده هو صحة اقتدار القادر عليه فإنها أي القدرة بل صحتها معللة بالإمكان إذ يقال صح من القادر إيجاد الممكن ولم يصح منه إيجاد الممتنع فإن

سئل لماذا كان الأمر كذلك وأجيب بأن ذلك لكون الممكن في نفسه صحيح الوجود دون الممتنع كان كلاما مقبولا ولولا أن الصحة العائدة إلى ذات المقدور وهي الإمكان مغايرة للصحة العائدة إلى القادر لكان هذا تعليلا للشيء بنفسه متأخرة عنه لتأخر المعلول عن علته وأيضا إمكان الشيء صفة له في نفسه لا بالقياس إلى الفاعل وصحة الاقتدار عليه مقيسة إلى الفاعل فلا يكون أحدهما عين الآخر وإذ قد ثبت أن لا مكانه محلا ليس نفسه ولا أمرا منفصلا عنه مباينا له فهو أي ذلك المحل أمر متصل به أي بالحادث اتصالا تاما حتى يصح قيام إمكانه به وهو المادة ولا بد أن تكون قديمة عندهم وإلا احتاجت إلى مادة أخرى وفي المباحث المشرقية أن ذلك الحادث تارة يوجد عن تلك المادة كالأعراض وتارة يوجد فيها كالصورة وتارة يوجد معها كالنفوس الناطقة
فإن قيل الإمكان أمر اعتباري كما سبق وأنتم معترفون به والأمور الاعتبارية لا تستدعي محلا موجودا فكيف تستدلون بثبوت الإمكان قبل وجود الحادث على محل موجود يقوم به إمكانه
قلنا المراد بهذا الإمكان الذي يستدل به على وجود محله هو الإمكان الاستعدادي وأنه غير الإمكان الذاتي لأن الإمكان الذاتي أمر اعتباري يعقل للشيء عند انتساب ماهيته إلى الوجود وهو لازم لماهية الممكن قائم بها يستحيل انفكاكه عنها كما مر ولا يتصور فيه تفاوت بالقوة والضعف والقرب والبعد أصلا بخلاف الإمكان الاستعدادي فإنه أمر موجود من مقولة الكيف قائم بمحل الشيء الذي ينسب إليه الإمكان لا به وغيره لازم له وقابل للتفاوت ثم إن ظاهر عبارتهم يوهم الاستدلال بالإمكان الذاتي فأراد توضيح المرام فقال وتحقيقه أي تحقيق كلامهم في هذا المقام أن الممكن إن كفى في صدوره عن الواجب تعالى إمكانه الذاتي اللازم لماهيته دام بدوامه لأن الواجب تام في فاعليته لا يتصور في فيضه ولا بخل هناك ولا تفاوت إلا من جهة القابل فإذا فرض أن إمكانه الذاتي كاف في قبول الفيض لم يتصور تخلفه عنه فكان دائم الوجود بدوام الواجب كالمعلول

الأول وإلا وإن لم يكف إمكانه الذاتي في الصدور احتاج إلى شرط به يفيض الوجود من الواجب عليه فإن كان ذلك الشرط قديما دام الممكن أيضا بدوام الواجب وشرطه القديم فلا يتصور أن يكون الممكن الصادر من الواجب على أحد هذين الوجهين حادثا وإن كان ذلك الشرط حادثا كان الممكن المتوقف عليه حادثا بالضرورة لكن لما كان ذلك الشرط حادثا احتاج إلى حادث آخر إذ لو لم يتوقف ذلك الشرط على شرط آخر أصلا أو كان شرطه قديما لم يكن هو حادثا وذلك الشرط الآخر الحادث محتاج أيضا إلى حادث ثالث قبله وهلم جرا فيتوقف كل حادث على حادث إلى ما لا نهاية له فهي أي تلك الحوادث المترتبة إما موجودة معا وهو باطل لما سيأتي من برهان التطبيق الدال على استحالة التسلسل في الأمور المترتبة طبعا أو وضعا مع كونها موجودة معا ولأن ذلك المجموع المركب من تلك الحوادث الموجودة على الاجتماع يحتاج لكونه حادثا إلى شرط آخر حادث أيضا لما عرفت فيكون ذلك الشرط الآخر الحادث داخلا في المجموع لأنه من جملة الحوادث المترتبة وقد أخذ مجموعها بحيث لا يشذ عنه شيء وخارجا عن ذلك المجموع أيضا لكونه شرطا له سابقا عليه وأنه محال وإما متعاقبة في الوجود يوجد بعضها عقيب بعض ولا بد له أي لذلك المجموع من محل يختص به أي بالحادث المفروض أولا وإلا وإن لم يتعلق ذلك المجموع بمحل كذلك كان اختصاصه أي اختصاص مجموع الحوادث بحادث دون حادث آخر ترجيحا بلا مرجح فإنه إذا لم يتعلق المجموع بمحل أصلا أو تعلق بمحل لا اختصاص له بحادث معين كانت نسبته إلى حادث معين كنسبته إلى غيره فلم يكن حدوث

أحدهما من المبدأ بتوسط ذلك المجموع أولى من حدوث غيره به فإذا له أي لذلك المحل استعدادات متعاقبة كل واحد منها مسبوق بآخر لا إلى نهاية وكل سابق من تلك الاستعدادات شرط للاحق وإن كانا بحيث لا يجتمعان معا في الوجود ومقرب للعلة الموجدة القديمة إلى المعلول المعين بعد بعدها عنه ومقرب لذلك المعلول إلى الوجود ومبعد له عن العدم فإن المعلول الحادث إذا توقف على ما لا يتناهى من الحوادث المتعاقبة السابقة عليه فخروج كل واحد منها إلى الوجود يقرب الفاعل القديم إلى التأثير في ذلك الحادث تقريبا متدرجا حتى تصل النوبة إليه فيوجد وهو أي هذا الاستعداد الحاصل لمحل ذلك الحادث هو المسمى بالإمكان الاستعدادي لذلك الحادث وأنه أمر موجود لتفاوته بالقرب والبعد والقوة والضعف فإن استعداد النطفة للإنسان أقرب وأقوى من استعداد العناصر له ولا يتصور التفاوت في القرب والبعد والقوة والضعف في العدم الصرف والنفي المحض فإذا هو أمر وجودي ومحله الموجود أيضا هو المادة وهذا الاستدلال الذي هو بالإمكان الاستعدادي مبني على أصلهم الفاسد وهو نفي القادر والقول بالإيجاب بناء على أن المبدأ عام الفيض بالنسبة إلى جميع الممكنات فلا يختص إيجاده ببعض دون بعض إلا لاختلاف استعدادات القوابل وسيبين أن المبدأ مختار يفعل ما يشاء بمجرد إرادته ومنهم من اختار أن الإمكان الذي استدل به لا وجود له في الخارج وقال الإمكان أمر عقلي لكنه يتعلق بشيء خارجي فمن حيث تعلقه بالشيء

الخارجي ليس هو بموجود في الخارج إذ ليس لنا في الخارج شيء هو إمكان بل هو إمكان وجود في الخارج ولتعلقه بذلك الشيء يدل على وجود ذلك الشيء في الخارج وهو موضوعه وفيه بحث لأن تعلقه بذلك الشيء الذي هو موضوعه تعلق ذهني لا خارجي فلا يدل على وجوده في الخارج وأما المدة فلوجهين
الأول إن هذه الاستعدادات المتعاقبة على المادة بعضها مقدم على بعض تقدما لا يجامع المتقدم فيه المتأخر وهو التقدم الزماني فيكون المتقدم في زمان سابق على وجود الحادث وهو المطلوب وإنما لم يجب عن هذا الوجه لابتنائه على الاستعدادات المتعاقبة إلى غير النهاية وقد عرفت بطلانها وقد يجاب أيضا بأن هذا التقدم ثابت بين أجزاء الزمان وليس للزمان زمان وربما تقصوا عن هذا الجواب بأن القبلية والبعدية اللتين لا يجامع فيهما القبل البعد عارضتان للزمان بالذات ولغيره بواسطته ألا ترى أنه إذا قيل ولادة زيد مثلا متقدمة على ولادة عمرو واتجه أن يقال لماذا فإذا أجيب بأن تلك كانت في خلافة فلان وهذه في خلافة شخص آخر وتلك الخلافة متقدمة على هذه إتجه السؤال أيضا فإذا قيل خلافة فلا كانت في العام الأول وخلافة غيره في هذه السنة لم يتجه أن يقال لم كان العام الأول متقدما على هذه السنة وعلى هذا فإذا كان كل واحد من المتقدم والمتأخر عين الزمان فذاك وإلا فلا بد من زمان يقارن كلا من المتقدم والمتأخر
الوجه الثاني إن عدم الحادث متقدم على وجوده ضرورة إذ لا معنى للحادث إلا ما تقدم عدمه على وجوده والتقدم ليس نفس وجوده لعروضه للعدم ويستحيل أن يكون وجود الشيء عارضا لعدمه ولا نفس عدمه لأن العدم قبل أي قبل الوجود كالعدم بعد أي بعد الوجود في كونه نفس العدم وليس قبل كبعد لأنهما متمايزان بالقبلية والبعدية ولا شك أن ما به الامتياز أعني التقدم غير ما به الاشتراك أعني نفس العدم فإذا هو أي التقدم أمر زائد على وجود الحادث وعدمه وموجود في الخارج لأنه نقيض

اللاتقدم العدمي لصدقه على الممتنعات وليس أمرا مستقلا بذاته بل لا بد له من محل موجود يقوم به ويكون معروضا له بالذات وهو الزمان المقارن لعدم الحادث وجوابه أنا نمنع كون التقدم أمرا وجوديا فإنه يعرض للعدم كما اعترفت به حيث قلت عدم الحادث متقدم على وجوده والوجودي لا يعرض للعدم بالضرورة وكونه نقيض اللاتقدم لا يقتضي كونه موجودا خارجيا بل هو أمر اعتباري فلا يقتضي معروضا موجودا في الخارج ولما أمكن أن يقال كون التقدم أمرا ثبوتيا مما يشهد به البداهة أجاب بقوله والحاكم بثبوته أي بثبوت التقدم في نفسه هو الوهم ببديهته دون العقل وحكمه في المعقولات الصرفة مردودا كما في تحيز الباري فإن الوهم يحكم ببديهته أن كل موجود قائم بذاته فهو متحيز ومخصوص بجهة وكما في كون كل مرئي مقابلا للرائي أو في حكمه كما في الأمور المشاهدة في المرآة وهذان الحكمان باطلان لأن الباري تعالى ليس بمتحيز أصلا وهو مرئي في الدار الآخرة بدون المقابلة وما في حكمها فكذا حكمه على التقدم بأنه موجود باطل فإن قلت هب أن القبلية واللاقبلية عدميتان لكن الحكم بانصاف الأشياء بهما حكم صحيح تشهد به بديهة العقل فلا بد لهما من معروض ذاتي هو الزمان قلت هذا مسلم لكن لا يلزم منه وجود ذلك المعروض في الخارج بل جاز أن يكون أمرا عقليا معروضا في نفس الأمر لما هو اعتباري

المقصد الرابع في الوحدة والكثرة
فإنهما من الأمور العامة العارضة للموجودات الخارجية والذهنية وفيه مقاصد
المقصر الأول
الوحدة تساوق الوجود أي تساويه فكل ما له وحدة فهو موجود في الجملة وكل موجود له وحدة ما حتى الكثير الذي هو أبعد الأشياء عن الاتصاف بالوحدة إذ كل كثير يحصل له ماهية وحدانية ما هو عين الأتصاف بالوحدة فإن العشرة المخصوصة مثلا عشرة واحدة من العشرات وهو أي

اتصاف الكثير بالوحدة لا يمنع تقابلهما أي تقابل الوحدة الكثرة فإنهما لم يعرضا لشيء واحد نعم عرض الوحدة للكثرة لا الكثير الذي عرض له الكثرة ولا استحالة في عروض أحد المتقابلين للآخر إنما المحال عروضه لمعروض الآخر فالعشرية عارضة للجسم مثلا والوحدة عارضة للعشرية فلم يتحدا في الموضوع حتى يكون ذلك مانعا من تتقابلهما فإن قلت فعلى هذا لا يصح أن كل ما هو موجود فله وحدة فإن الكثير موجود ولم يعرض له وحدة كما اعترفتم به قلت المراد من عروض الوحدة للكثرة أنها عارضة لذات الكثير مع ملاحظة صفة الكثرة بخلاف الكثرة فإنها عارضة لتلك الذات بلا ملاحظة كثرة وبعبارة أخرى ذات الكثير من حيث التفصيل معروضة للكثرة ومن حيث الإجمال معروضة للوحدة ولا استحالة في عروض المتقابلين لشيء واحد من جهتين ولنا أن نقول الوحدة عارضة للكثرة بالذات وللكثير بالعرض ولأجل ذلك التساوي الذي بينهما ظن بعضهم أنها أي الوحدة نفس الوجود فتكون الوحدة الشخصية نفس الوجود الشخصي الثابت لكل موجود معين ويبطله أنه لو كان الوجود الشخصي نفس الوحدة الشخصية لكان التفريق الواقع في الجسم الواحد إعداما لذلك الجسم المشخص وإيجادا لجسمين آخرين إذ بالتفريق تبطل الوحدة المخصوصة فيبطل الوجود المخصوص وأنه أي كون التفريق إعداما باطل إذ ليس شق البعوض بإبرته البحر الأخضر إعداما له وإيجادا لبحرين آخرين ضرورة والمجوز لذلك بناء على أنه مجرد استبعاد لا ينافي الجواز مكابر لمقتضى عقله لا يخاطب ولا يناظر وإنما جوزه من جوزه بناء على أن الصورة الجسمية هوية متصلة في حد ذاتها فإذا ورد عليها الانفصال زالت تلك الهوية الانفصالية ووجد هويتان أخريان اتصاليتان والموجود في الحالتين معا هو الهيولى التي لا اتصال لها في نفسها ولا انفصال بل تجامع كل منهما وهي هي وهذا الدليل بعينه يدل على أن الوحدة ليست عين التشخص فإن الجسم البسيط الواحد إذا جزىء زالت وحدته دون هويته الشخصية وإلا كان التفريق إعداما ويدل عليه أيضا أن الأمور الكلية موصوفة بالوحدة دون التشخص وأيضا فالوجود يجامع الكثرة والوحدة لا تجامعها ومعنى ذلك ما

فصله بقوله فالكثير من حيث هو كثير أي من حيث تلاحظ كثرته وتفصيله موجود ليس من هذه الحيثية بواحد وذلك دليل التغاير إذ لو كانا متحدين لكان إذا صدق أحدهما على شيء من جهة صدق عليه الآخر من تلك الجهة وهي أي الوحدة مغايرة للماهية زائدة عليها لأنها أي الماهية من حيث هي تقبل الكثرة وإذا أخذت مع الوحدة تأباها فلا تكون الوحدة نفسها ولا جزءها على قياس ما مر في بحث الوجود والكثرة أيضا غير الماهية بل زائدة عليها لمثل ذلك فإن الماهية كالإنسانية مثلا من حيث هي قابلة للوحدة إذا أخذت مع الكثرة مفصلة كانت آبية عنها والكثرة غير الوجود وإلا يلزم كون الجمع إعداما فإنه إذا جمع أجسام كميات في ظروف متعددة وجعلت في طرف واحد فقد زالت كثرتها التي هي وجودها فرضا فيلزم إعدام تلك الأجسام وإيجاد جسم واحد وأنه باطل والمجوز مكابر وإنما لم يتعرض لتعريف الوحدة والكثرة لأنهما بديهيتان بمثل ما مر في الوجود فإن تصور الوحدة جزء من تصور وحدتي المتصورة بالضرورة وأيضا فإن كل أحد يعلم أنه واحد بلا كسب منه وكأن في التصريح بمساوقة الوحدة للوجود نوع إشعار ببداهتها على قياس بداهته وقس حال الكثرة على حال الوحدة وقد يقال الوحدة أعرف عند العقل من الكثرة والكثرة أعرف عنه الخيال من الوحدة فإن النفس تدرك أولا جزئيات ترتسم صورها في آلاتها ثم تنتزع من تلك الجزئيات المتكثرة صورة كلية واحدة ترتسم في العقل أي في ذات النفس فالوحدة عارضة لما هو حاصل في النفس والكثرة عارضة لما هو في الآلة والمدرك للكل هو النفس ليس إلا فإذا اعتبرت من حيث أنها مدركة بذاتها كان العارض لما ارتسم فيها أظهر عندها

من العارض لما ارتسم من آلاتها وإذا اعتبرت من حيث أنها مدركة بالآلات إنعكس الحال في العارضين سواء أخذا كليين أو جزئين قالوا فيجوز التنبيه على معنى كل من الوحدة والكثرة بصاحبتها إلا أن الوحدة لما كانت مبدأ الكثرة ومنها وجودها كان التنبيه عليها بالوحدة أولى من العكس بل لا يبعد أن يقال تعريف الكثرة بها تعريف حقيقي

المقصر الثاني
قد اختلف في وجودهما فأثبته الحكماء وأنكره المتكلمون وقد اطلعت أنت فيما مر على المأخذ من الجانبين فيقال من جانب المثبت الوحدة جزء من الواحد الموجود في الخارج فتكون موجودة فيه وأيضا لو كانت عدمية لم تتحقق إلا باعتبار العقل فلا يكون الواحد واحدا في نفسه وأيضا هي نقيض اللاوحدة العدمية وأيضا لا فرق بين وحدته وبين لا وحدته له وقد عرفت أجوبتها أيضا وقس حال الكثرة عليها ويقال من جانب النافي لو وجدت الوحدة لشاركت الوحدات في الوحدة وامتازت عنها بخصوصية فللوحدة وحدة أخرى وأيضا لو كانت موجودة لتوقف إنضمامها إلى الماهية على كونها واحدة لامتناع عروض الوحدة للمتصف بالكثرة وإذا كانت الوحدة عدمية كانت الكثرة المركبة منها كذلك وأيضا يمكن إجراء الدليلين فيها وقد تقدم جوابهما ويخص الوحدة هنا دليل دال على كونها وجودية هو أنه لو كانت الوحدة عدما لكان عدم الكثرة التي تقابلها لامتناع أن تكون عدما مطلقا أو عدما لشيء آخر لا تقابله وإذا كانت عدما للكثرة فالكثرة إما وجودية والوحدة جزؤها فتكون الوحدة أيضا موجودة على تقدير كونها معدومة وهذا خلف مع أنه المطلوب وإما عدمية فتكون الوحدة عدما للعدم فتكون ثبوتية وهذا قريب مما نقله عن الإمام الرازي في باب التعين والجواب عنه ما سبق هناك بعينه
المقصر الثالث
بين الوحدة والكثرة مقابلة قطعا إذ لا يجوز اجتماعهما في شيء واحد من جهة واحدة لكن مقابلة الوحدة والكثرة ليست ذاتية أي ليس بين ذاتيهما تقابل لأنهما لا تعرضان لموضوع واحد بالشخص أي ليستا منسوبتين بالعروض إلى موضوع واحد شخصي واتحاد الموضوع معتبر في المتقابلين مطلقا لأن التقابل هو امتناع اجتماع شيئين في موضوع واحد من جهة واحدة ومعنى ذلك أن العقل إذا لاحظهما وقاسهما إلى موضوع واحد شخصي جوز بمجرد ملاحظتهما ثبوت كل واحد منهما فيه على سبيل البدل دون الاجتماع من جهة واحدة لكن ربما امتنع ثبوت أحدهما له بسبب تعين الآخر فيه لأمر من خارج وليس الحال في الوحدة والكثرة كذلك لأن موضوع الوحدة جزء لموضوع الكثرة كما أن الوحدة جزء لها ولأن الوحدة متقدمة وجوبا على الكثرة لأنها مبدأ لها وجزء منها فلا تكون الوحدة متضايقة للكثرة لأن المتضايقين متكافئان لا تقدم لأحدهما على الآخر وجودا ولا تعقلا وأيضا يمكن تعقل الوحدة بدون الكثرة فلا تضايف بينهما ولا ضدا لها إذا ليس أحد الضدين متقدما على الآخر وجوبا والوحدة مقومة للكثرة فلا تكون الوحدة عدما لها فلا يكون التفاعل بينهما تقابل العدم والملكة ولا السلب والإيجاب لأن أحدهما لا يقوم الآخر ولا ضدا أيضا لأن أحد الضدين لا يقوم ضده وإنما جعل التقدم اللازم من التقويم دليلا على نفي التضايف والتضاد لأن دلالة التقدم على نفي التضايف ظاهرة جدا ويقرب منها دلالته على نفي التضاد بخلاف القسمين الباقيين فإن تعقل الملكة متقدم على تعقل العدم وكذا تعقل الإيجاب متقدم على تعقل
المقصد الثالث
بين الوحدة والكثرة مقابلة قطعا إذ لا يجوز اجتماعهما في شيء واحد من جهة واحدة لكن مقابلة الوحدة والكثرة ليست ذاتية أي ليس بين ذاتيهما تقابل لأنهما لا تعرضان لموضوع واحد بالشخص أي ليستا منسوبتين بالعروض إلى موضوع واحد شخصي واتحاد الموضوع معتبر في المتقابلين مطلقا لأن التقابل هو امتناع اجتماع شيئين في موضوع واحد من جهة واحدة ومعنى ذلك أن العقل إذا لاحظهما وقاسهما إلى موضوع واحد شخصي جوز بمجرد ملاحظتهما ثبوت كل واحد منهما فيه على سبيل البدل دون الاجتماع من جهة واحدة لكن ربما امتنع ثبوت أحدهما له بسبب تعين الآخر فيه لأمر من خارج وليس الحال في الوحدة والكثرة كذلك لأن موضوع الوحدة جزء لموضوع الكثرة كما أن الوحدة جزء لها ولأن الوحدة متقدمة وجوبا على الكثرة لأنها مبدأ لها وجزء منها فلا تكون الوحدة متضايفة للكثرة لأن المتضايفين متكافئان لا تقدم لأحدهما على الآخر وجودا ولا تعقلا وأيضا يمكن تعقل الوحدة بدون الكثرة فلا تضايف بينهما ولا ضدا لها إذ ليس أحد الضدين متقدما على الآخر وجوبا والوحدة مقومة للكثرة فلا تكون الوحدة عدما لها فلا يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ولا السلب والإيجاب لأن أحدهما لا يقوم الآخر ولا ضدا أيضا لأن أحد الضدين لا يقوم ضده وإنما جعل التقدم اللازم من التقويم دليلا على نفي التضايف والتضاد لأن دلالة التقدم على نفي التضايف ظاهرة جدا ويقرب منها دلالته على نفي التضاد بخلاف القسمين الباقيين فإن تعقل الملكة متقدم على تعقل العدم وكذا تعقل الإيجاب متقدم على تعقل

وجعل التقويم دالا على نفي ما عدا التضايف لظهور دلالته عليه وأما دلالته على نفي التضايف فإنما تظهر إذا لوحظ استلزامه التقويم وإذا لم يكن بين ذاتي الوحدة والكثرة شيء من الأقسام الأربعة التي للتقابل لم يكن بينهما تقابل بالذات بل بنهما مقابلة بالعرض وذلك لإضافة عرضت لهما وهي المكيالية والمكيلية فإن الوحد أي الوحدة مكيال للعدد وعادله بمعنى أنه إذا أسقطت الوحدة منه مرة بعد أخرى فني بالكلية والعدد مكيل بالوحدة ومعدود بها والشيء من حيث أنه مكيال لا يكون مكيلا وبالعكس فلذلك لم يجز أن يكون الشيء واحدا وكثيرا معا من جهة واحدة وإلا كان مكيالا من حيث أنه مكيل وهو محال لأن المكيالية والمكيلية متضايفتان فبين الوحدة والكثرة تقابل التضايف بالعرض وبين عارضيهما تقابل التضايف بالذات وكذا نقول الوحدة علة والكثرة معلولة لها والعلية والمعلولية من الأمور المتضايفة
قال المصنف واعلم أنهم عرفوا الوحدة بكون الشيء بحيث لا ينقسم إلى أمور متشاركة في الحقيقة سواء لم ينقسم أصلا كالنقطة مثلا أو انقسم إلى ما يخالفه في الحقيقة كزيد المنقسم إلى أعضائه وعرفوا الكثرة بكون الشيء بحيث ينقسم إلى أمور تشاركه في الحقيقة كفردين أو أفراد من نوع واحد ولا يذهب عليك أن الكثرة المجتمعة من الأمور المختلفة الحقائق كإنسان وفرس وحمار داخلة في حد الوحدة وخارجة عن حد الكثرة فالأولى أن يقال الوحدة كون الشيء بحيث لا ينقسم والكثرة بحيث ينقسم ولا يخفى أن تقابلهما أي تقابل المذكورين في تعريفي الوحدة

والكثرة بالسلب والإيجاب وأنه أي تقابل السلب والإيجاب تقابل بالذات فبين الوحدة والكثرة المعرفتين بهذين التعريفين تقابل بالذات لا بالعرض كما ذكروه إلا أن تجعلا أي الوحدة والكثرة أمرين يتبعهما ذلك المذكور في تعريفهما إذ حينئذ جاز أن لا يكون تقابلهما بالذات ولكن لم يثبت كونهما أمرين كذلك ولم يوجد في كلامهم ما يدل على ذلك وفيه نظر لأن تقابل السلب والإيجاب إنما هو بين الأنقسام وسلبه ولا شك أن كون الشيء بحيث لا ينقسم مفهوم مغاير لمفهوم عدم الانقسام وكذا كونه بحيث ينقسم مفهوم مغاير لمفهوم الانقسام فإن قلت في العبارة مساهلة والمقصود أن الوحدة عدم الانقسام قلت هذا على تقدير صحته في الوحدة لا يتأتى في الكثرة لأن حقيقتها مركبة من الوحدات فإذا كانت الوحدة عدم الانقسام كانت حقيقة الكثرة مجموع عدمات انقسامات وذلك مفهوم مغاير لمفهوم الانقسام وإن كان مفهوم الانقسام لازما له ثم قال ولا يبعد أنهم أرادوا الكثير والواحد منه لا مفهوم الواحد والكثير يعني أنه لا يبعد أن يكون مرادهم بقولهم لا تقابل بين الوحدة والكثرة بالذات أنه لا تقابل بين الكثرة والوحدة التي هي جزؤها إلا بالعرض من حيث المكيالية والمكيلية كما تقرر لا أنه لا تقابل بالذات بين مفهومي الوحدة والكثرة وقد نقل عنه أنه قال إن اعتبر التقابل بين مفهوميهما فهو تقابل ذاتي بالسلب والإيجاب والوحدة كما ذكر في الكتاب وإن اعتبر بين ما صدقتا عليه فإما أن يعتبر بين الكثرة والوحدة التي هي جزؤها فهو تقابل بالعرض كما هو المشهور وإن اعتبر بين الكثرة والوحدة التي تطرأ على موضوع الكثرة فتبطلها وتنفيها كالمياه المتعددة إذا صبت في جرة أو بين الوحدة والكثرة الطارئة على موضوع الوحدة النافية إياها كماء واحد صب في أوان متعددة فهو تقابل بالتضاد لأن شأن الضد إذا ورد على محل الآخر أن يبطله وينفيه وشأن الوحدة والكثرة الواردتين على محل واحد كذلك لا يقال الوحدة إذا طرأت على

محل لا تفنى الكثرة بالذات بل تبطل الوحدات المقومة لها ثم يلزم من إبطالها إبطال الكثرة بالعرض ومن شأن الضد أن يبطل ضده بالذات لا بالعرض لأنا نقول إبطال الوحدات المقومة عين إبطال الكثرة لأن رفع الجزء هو رفع الكل بعينه بخلاف رفع الكل اللازم فإنه مستلزم لرفع الملزوم ولذلك أمكن أن يتصور رفع اللازم مع بقاء الملزوم وإن كان المتصور محالا ولم يمكن أن يتصور رفع الجزء مع بقاء الكل فإن التصور ههنا محال كالمتصور بقي ههنا بحث وهو أن طريان الوحدة على موضوع الكثرة إنما يتوهم إذا اجتمعت أشياء متعددة بحيث يحصل منها شيء واحد فحينئذ نقول إن كانت تلك الأشياء باقية بأعيانها وقد تركب منها شيء واحد فالكثرة باقية في موضوعها الذي هو تلك الأشياء التي صارت أجزاء للمركب والوحدة عارضة للمجموع من حيث هو مجموع فلا اتحاد في الموضوع ولا إبطال للكثرة وإن زالت تلك الأشياء التي كانت معروضة للكثرة وحصل شيء آخر هو معروض للوحدة فلا اتحاد في الموضوع أيضا لأن موضوع الكثرة هو ذلك الزائل وموضوع الوحدة هو هذا الحادث وقس على ذلك طريان الكثرة على موضوع الوحدة ثم التحقيق المفهوم من كلامهم هو أن الكثرة ملتئمة من الوحدات فإن حقيقة الإثنين مثلا وحدتان فليس هناك شيء يعتبر فيها سوى الوحدتين وأما الانقسام فلازم لتلك الحقيقة خارج عنها وإذا كانت حقيقة الكثرة مركبة من حقيقية الوحدة لم يكن بين حقيقتيهما تقابل بالذات أصلا هذا هو مقصد القوم في هذا المقام لا أن بين مفهومي تعريفيهما تقابلا بالذات أو بالعرض والقول بأن التقابل بين الكثرة والوحدة الطارئة إحديهما على الأخرى المبطلة إياها تقابل التضاد باطل لما عرفت من عدم الاتحاد في الموضوع ولأن الكلام في حقيقتيهما لا في أفرادهما

والوحدة المذكورة أعني الوحدة الطارئة على موضوع الكثرة جزء من كثرة مركبة من وحدات كل واحدة منها طارئة على موضوع كثرة مخصوصة ومبطلة إياها فلا تكون ذات هذه الوحدة مقابلة لماهية الكثرة ومن المتصلفين من قال الوحدة والكثرة ضدان إذ نحن لا نوجب بين الضدين غاية الخلاف مع أن الوحدة والكثرة مما يتباعدان جدا ولا نوجب أيضا امتناع تقوم أحد الضدين بالآخر مع أن الوحدة مبطلة للكثرة ليست مقومة لها ولا نشترط أيضا في موضوع الضدين الوحدة الشخصية ثم زعم أنا نعلم أن ذاتيهما مما يتقابلان جزما مع قطع النظر عن المكيالية والمكيلية وهو أيضا مردود بأن ذلك الجزم منا إنما هو لتبادر الذهن إلى أن معروض الوحدة جزء لمعروض الكثرة فلا يكون الموصوف بها شيئا واحدا وليس يلزم من ذلك تقابلهما وإنما يكونان متقابلين بالذات إذا نسبهما العقل إلى شيء واحد وحكم بأن حصول أحدهما فيه مانع من حصول الآخر فتأمل والله الموفق

المقصد الرابع
مراتب الأعداد أنواع متخالفة بالماهية فإنها وإن كانت متشاركة في كونها كثرة لكنها متمايزة بخصوصيات هي صورها النوعية وذلك لاختلافها باللوازم كالصمم والمنطقية والتركيب والأولية واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات فالعشرة مثلا تشارك ما عداها في أنها كثرة وتمتاز عنها بخصوصية كونها كثرة مخصوصة وهي مبدأ لوازمها وتقوم كل عدد من أنواع الأعداد بوحداته التي مبلغ جملتها ذلك النوع من العدد وكل واحد من

تلك الوحدات جزء لماهيته وليس لها جزء سوى الوحدات فما يقال من أن وحدات كل عدد أجزاء مادية له فلا بد هناك من جزء صوري كلام ظاهري بل الصواب أن المركب العددي هو عين مجموع وحداته وهذا المجموع المخصوص منشأ الخواص واللوازم العددية وأنه لا حاجة في ذلك إلى اعتبار هيئة عارضة للوحدات بعد اجتماعها لا الأعداد أي ليس تقوم كل عدد بالأعداد التي فيه فالعشرة مثلا مجموع وحدات مبلغها ذلك المذكور الذي هو العشرة أي حقيقة العشرة هي عشر وحدات مرة واحدة
وقال أرسطو إنها أي العشرة ليست ثلاثة وسبعة ولا أربعة وستة وغير ذلك من الأعداد التي يتوهم تركبها منها لإمكان تصور العشرة بكنهها مع الغفلة عن هذه الأعداد فإنك إذا تصورت حقيقة كل واحدة من وحداتها من غير شعور بخصوصيات الأعداد المندرجة تحتها فقد تصورت حقيقة العشرة بلا شبهة فلا يكون شيء من تلك الأعداد داخلا في حقيقتها بل هي عشرة مرة واحدة وربما يستدل على ذلك بأن تركب العشرة من الاثنين والثمانية ليس أولى من تركبها من الثلاثة والسبعة أو الأربعة والستة أو الخمسة والخمسة فإن تركبت من بعضها لزم الترجيح بلا مرجح وإن تركبت من الكل لزم استغناء الشيء عما هو ذاتي له لأن كل واحد منها كاف في تقويمها فيستغنى به عما عداه
فإن قلت جاز أن يكون كل واحد منها مقوما لها باعتبار القدر المشترك بين جميعها إذ لا مدخل في تقويمها لخصوصياتها
قلت القدر المشترك بينها الذي بقي بحقيقة العشرة هو الوحدات فما ذكرته اعتراف بالمطلوب نعم ربما ينقض الدليل بأن تركبها من الوحدات أيضا ليس أولى من تركبها من تلك الأعداد فيلزم الترجيح بلا مرجح لأن اشتمال تلك الأعداد على الوحدات لا يفيد ترجيحا ويجاب بأنه لما كفت

الوحدات في تحصيل العشرة لم يكن لخصوصيات الأعداد المندرجة فيها مدخل في تحصلها وهذا بالحقيقة رجوع إلى الاستدلال الأول

المقصد الخامس
في أقسام الواحد وهو أي الواحد إما أن لا ينقسم إلى جزئيات بأن يكون تصوره مانعا من حمله على كثيرين وهو الواحد بالشخص أو ينقسم إلى جزئيات بأن لا يمنع تصوره من الشركة وهو غيره أي غير الواحد بالشخص ويسمى واحدا لا بالشخص وأنه أي الواحد لا بالشخص كثير وله جهة واحدة فهو واحد من وجه وكثير من وجه آخر أما الواحد بالشخص فإن لم يقبل القسمة إلى الأجزاء أصلا فهو الواحد الحقيقي وهو أي الواحد الحقيقي إن لم يكن له مفهوم سوى أنه لا ينقسم أي سوى مفهوم عدم الانقسام فالوحدة الشخصية وإن كان له مفهوم سوى ذلك فإما ذو وضع أي قابل للإشارة الحسية وهو النقطة المشخصة أو لا يكون ذو وضع وهو المفارق المشخص وإن قبل الواحد بالشخص القسمة فإما أن ينقسم إلى أجزاء مقدارية متشابهة في الحقيقة وهو الواحد بالاتصال فإن كان قبوله القسمة إلى تلك الأجزاء المتشابهة لذاته فهو المقدار الشخصي القابل للقسمة الوهمية على رأي من أثبت المقادير وإن كان قبوله لذاته فهو الجسم البسيط كالماء الواحد بالشخص المتصل على وجه لا يكون فيه مفصل إما حقيقة على رأي نفاة الجزء وإما حسا على رأي مثبتيه بل نقول هو ما يحل فيه المقدار كالصورة الجسمية والهيولى أو ما يحل في المقدار أو في محل المقدار حلول سريان عند من يثبت هذه الأمور وينقسم إلى أجزاء مقدارية مختلفة بالحقائق وهو الواحد بالاجتماع كالشجر الواحد

فإنه مركب من أجزاء مقدارية متخالفة الحقيقة بخلاف الجسم البسيط كالماء على القول بالجزء فإن أجزائه وإن كانت موجودة بالفعل مجتمعة لكنها متوافقة الحقيقة والواحد بالاتصال بعد القسمة الانفكاكية واحد بالنوع فإن الماء الواحد إذا جزىء كان هناك ماءان متحدان في الحقيقة النوعية وواحد بالموضوع أي بالمحل عند من يقول بالمادة فإن تلك الأجزاء الحاصلة بالقسمة من شأنها أن يتصل بعضها ببعض وتحل في مادة واحدة بخلاف أشخاص الناس إذ ليس من شأنها الاتصال والاتحاد وأما عند من يقول بالجزء فالواحد بالاتصال بعد القسمة عنده واحد بالنوع دون الموضوع والتحقيق أن الواحد بالاتصال الحقيقي إنما يتصور على القول بنفي الجزء فإن الأجزاء الموجودة بالفعل إذا اجتمعت واتصل بعضها ببعض حتى يحصل منها مركب كان ذلك المركب واحدا بالاجتماع حقيقة سواء كانت تلك الأجزاء متشابهة أو متخالفة وأنه أي الواحد بالاتصال يقال لمقدارين يتلاقيان عند حد مشترك بينهما كالخطين المحيطين بزاوية ويقال أيضا لجسمين يلزم من حركة كل منهما حركة الآخر وهي على أنواع وأولاها بالاتصال ما كان الالتحام فيه طبيعيا كالمفاصل وهذا القسم شبيه جدا بالوحدة الاجتماعية وأما الواحد لا بالشخص فقد عرفت أنه واحد من جهة وكثير من جهة أخرى فجهة الوحدة فيه إما ذاتية للكثرة أي غير خارجة عنها وحينئذ فإما تمام ماهيتها وهو الواحد بالنوع كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فيقال الإنسان واحد نوعي وأفراده واحدة بالنوع أو جزؤها فإن كان ذلك الجزء تمام المشترك بين تلك الكثرة وغيرها فهو الواحد بالجنس إما قريبا كالحيوان بالنسبة إلى أفراده وإما بعيدا على اختلاف مراتبه كالجسم النامي والجسم والجوهر بالقياس إلى أفرادها وإلا وإن لم يكن ذلك الجزء تمام المشترك فالواحد بالفصل كالناطق مقيسا إلى أفراده وإما عارض أي تكون جهة الوحدة أمرا عارضا للكثرة أي محمولا عليها

خارجا عن ماهيتها وهو الواحد بالعرض وذلك إما واحد بالموضوع إن كانت جهة الوحدة موضوعة بالطبع لتلك الكثرة كما يقال الضاحك والكاتب واحد في الإنسانية فإن الإنسان عارض لهما بمعنى أنه محمول عليهما خارج عن ماهيتهما وهو موضوع لهما بالطبع أو واحد بالمحمول إن كانت جهة الوحدة محمولة بالطبع على تلك الكثرة كما يقال القطن والثلج واحد في البياض فإن الأبيض محمول عليهما طبعا وخارج عنهما أو لا أي لا تكون جهة الوحدة ذاتية للكثرة ولا أمرا عرضيا لها وذلك بأن لا تكون محمولة عليها أصلا كما يقال نسبة النفس إلى البدن هو نسبة الملك إلى المدينة ومعناه أن للنفس تعلقا خاصا بالبدن بحسبه تتمكن من تدبيره والتصرف فيه دون غيره من الأبدان وكذا للملك تعلق خاص بمدينته وبحسب ذلك يدبرها ويتصرف فيها دون غيرها من المدائن فهذان التعلقان نسبتان متحدثان في التدبير الذي ليس مقوما ولا عارضا لشيء منهما بل هو عارض للنفس والملك فإن المدبر إنما يطلق حقيقة عليهما وإذا اعتبرت الوحدة بين النفس والملك في التدبير كانت من قبيل الاتحاد في العارض المحمول كاتحاد القطن والثلج في البياض وإن اعتبرت بين النسبتين في كونهما نسبة كانت جهة الوحدة حينئذ إما مقومة لجهة الكثرة أو عارضة لها وإن اعتبر اتحاد النسبتين في كونهما منشأ للتدبير مثلا كان ذلك اتحادا في العارض المحمول وقد يسمى الواحد الذي ليس جهة الوحدة فيه ذاتية ولا عرضية للكثرة الواحد بالنسبة وأنت تعلم أن قول الواحد على هذه الأقسام المذكورة إنما هو بالتشكيك وتعلم أيها أي أي هذه الأقسام أولى بمعنى الوحدة من غيره إذ لا شك أن الواحدة بالشخص أولى بالوحدة من الواحد بالنوع وهو أولى من الواحد بالجنس الذي هو أولى من الواحد بالفصل لأن جنس الشيء ماهية له مقولة

عليه في جواب ما هو بحسب الشركة دون الفصل والواحد بأمر ذاتي أولى من الواحد بأمر عرضي وهو أولى من الواحد بالنسبة ثم الواحد الشخصي إن لم يقبل انقساما أصلا لا بحسب الأجزاء المقدارية ولا بحسب غيرها محمولة كانت أو غير محمولة وهو المسمى بالواحد الحقيقي أولى مما يقبل الانقسام بوجه ما والوحدة التي من أقسام الواحد الحقيقي أولى من غيرها والواحد بالاتصال أولى من الواحد بالاجتماع وإذا كانت مقولية الوحدة على واحدات تلك الأقسام بالتشكيك فتكون تلك الواحدت مختلفة بالحقيقة متشاركة في هذا العارض الذي هو مفهوم الوحدة مطلقا على قياس اختلاف الوجودات الخاصة بالحقائق مع الاشتراك في العارض الذي هو الوجود المطلق فلا يجب حينئذ اشتراكها أي اشتراك الوحدا في الحكم فيجوز أن يبنى على ذلك ويقال فمنها ما هو وجودي كالوحدة الاتصالية والاجتماعية على ما سيأتي ومنها ما هو اعتباري محض فلا يلزم من وجودية الوحدة تسلسل في الأمور الموجودة لجواز الانتهاء إلى وحدة اعتبارية ولا يلزم من عدميتها في الجملة كونها اعتبارية على الإطلاق ومنها ما هو زائد على ماهية الواحد كوحدة الإنسان مثلا ومنها ما هو نفس الماهية كوحدة الوحدة فإنها واحدة بذاتها لا بوحدة زائدة عليها ومنها ما هو جزؤها أي يجوز كونها جزءا منها وكذلك سائر الأحكام فيقال مثلا جاز كونها جوهرا في بعض وعرضا في بعض آخر فتنبه له أي لما ذكرناه من جواز اختلاف الواحدت في الأحكام فإنه ينفعك في مواضع متعددة

المقصد السادس
الوحدة تتنوع أنواعا بحسب ما فيه ولكل نوع منها اسم يخصه بحسب الاصطلاح تسهيلا للتعبير عنها ففي النوع مماثلة فإذا قيل هما

متماثلان كان معناه أنهما متفقان في الماهية النوعية وفي الجنس مجانسة وفي الكيف مشابهة وفي الكم عددا كان أو مقدارا مساواة وفي الشكل مشاكلة وفي الوضع موازاة ومحاذاة كشخصين تساويا في الوضع بالقياس إلى ثالث وفي الأطراف مطابقة كطاسين أطبق طرف أحدهما على طرف الآخر وفي النسبة مناسبة كزيد وعمرو إذا تشاركا في بنوة بكر

المقصد السابع
الاثنان هما الغيران أي الإثنينية تستلزم التغاير هذا هو المشهور الذي ذهب إليه الجمهور فكل اثنين عندهم غيران كما أن كل غيرين اثنين أتفاقا
وقال مشايخنا ليس كل اثنين بغيرين بل الغيران موجودان جاز انفكاكهما في حيز أو عدم فخرج بقيد الوجود الإعدام فإنها لا توصف بالتغاير عندهم بناء على أن الغيرية من الصفات الثبوتية فلا يتصف به عدمان ولا عدم ووجود وهذا أعم من قوله إذ لا تمايز فيها ولا بد في الغيرين من التمايز وذلك لاختصاصه بما يكون طرفاه عدميين
فإن قلت أليس قد مر أن الأعدام متمايزة عند المتكلمين النافين للوجود الذهني
قلت أليس أجيب عن ذلك بأن التمايز إنما هو بحسب مفهوماتها دون ما صدقت عليه ولا بد في الغيرين من التمايز بحسب ما صدقا عليه فتدبر وخرج به الأحوال أيضا إذ لا نثبتها فلا يتصور اتصافها بالغيرية وكذا يلزم أن يخرج به اثنان أحدهما موجود والآخر معدوم وخرج بقيد جواز

الانفكاك ما لا ينفك أي ما لا يجوز انفكاكهما كالصفة مع الموصوف والجزء مع الكل فإنه أي المذكور الذي هو الصفة والجزء لا هو ولا غيره أي ليس الصفة عين الموصوف ولا الجزء عين الكل وهو ظاهر وليسا أيضا غير الموصوف وغير الكل إذ لا يجوز الانفكاك بينهما من الجانبين وهو معتبر عندهم في الغيرين وقولهم في حيز أو عدم ليشمل المتحيز وغيره وكان الشيخ الأشعري قد عرف الغيرين بأنهما موجودان يصح عدم أحدهما مع وجود الآخر فاعترض عليه بأنا إذا فرضنا جسمين قديمين كانا متغايرين بالضرورة مع أنه لا يجوز عدم أحدهما مع وجود الآخر فإن العدم ينافي القدم فغير التعريف إلى ما في الكتاب وهو المختار عند الأشاعرة
قالوا دل الشرع واللغة على أن الجزء والكل ليسا غيرين فإنك إذا قلت ليس له علي غير عشرة يحكم عليك بلزوم الخمسة فلو كان الجزء غير الكل لما كان كذلك
ورد عليه بأن المراد إما الخمسة فقط فلا نسلم الحكم بلزومها وأما مع تمام آحاد العشرة فذلك هو العشرة نفسها وبأن الغير ههنا محمول على عدد آخر فوق العشرة
قالوا وكذا الحال في الصفة والموصوف فإنك إذا قلت ليس في الدار غير زيد وكان زيد العالم فيها فقد صدقت ولو كانت الصفة غير الموصوف لكنت كاذبا ورد بأن المراد غيره من أفراد الإنسان وإلا لزم أن لا يكون ثوب زيد غيره وهو باطل قطعا ولا يخفى عليك أن استدلالهم بما ذكروه يدل على

أن مذهبهم هو أن الصفة مطلقا ليست غير الموصوف سواء كانت لازمة أو مفارقة
وقيل إنهم ادعوا ذلك في الصفة اللازمة بل القديمة بخلاف سواد الجسم مثلا فإنه غيره
قال الآمدي ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وعامة الأصحاب إلى أن من الصفات ما هي عين الموصوف كالموجود ومنها ما هي غيره وهي كل صفة أمكن مفارقتها عن الموصوف كصفات الأفعال من كونه خالقا ورازقا ونحوهما ومنها ما لا يقال إنه عين ولا غير وهي ما يمتنع انفكاكه عنه بوجه كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات النفسية لله تعالى بناء على أن معنى المتغايرين موجودان يجوز الانفكاك بينهما بوجه
وعلى هذا فتلك الصفات النفسانية لما امتنع انفكاك بعضها عن بعض لم يقل إن بعضها عين الصفة الأخرى أو غيرها وأورد عليهم المضافات كالأبوة والبنوة والعلية والمعلولية فإنهما متغايران مع امتناع الانفكاك من الجانبين في العدم إذ لا يجوز أن يعدم أحدهما ويوجد الآخر وفي الحيز أيضا إذ ليسا بمتحيزين ولا يلزمهم فإنهما غير موجودين لأن النسب والإضافات أمور اعتبارية لا وجود لها عندهم لكن يرد عليهم الباري مع العالم لامتناع انفكاك العالم عن الباري في العدم لاستحالة عدمه تعالى وفي الحيز أيضا لامتناع تحيزه لا يقال في الجواب عن هذا الإيراد يجوز انفكاك الباري عن العالم في الوجود بأن يوجد الباري ويعدم العالم وحينئذ فقد انفك أحدهما عن الآخر في العدم ويجوز انفكاك العالم عن الباري في الحيز فإن العالم متحيز ويستحيل ذلك على الباري فقد انفك أحدهما عن الآخر في الحيز أيضا

والحاصل أن العالم يجوز عدمه وتحيزه ولا يجوز شيء منهما على الباري قد جاز الانفكاك بينهما من أحد الجانبين في كل واحد من العدم والحيز مع أن جواز الانفكاك عنه في العدم فقط أو الحيز فقط كان كافيا في دخولهما في الحد لأنا نقول لو كفى الانفكاك من طرف في الاتصاف بالغيرية لجاز انفكاك الموصوف عن صفته والجزء عن الكل في الوجود أي لكان جواز انفكاك الموصوف عن صفته في الوجود بأن يوجد الموصوف وتعدم الصفة كافيا في تغايرهما لأنه جاز حينئذ انفكاك أحدهما عن الآخر في العدم وكذا الحال إذا وجد الجزء وعدم الكل فإنه قد انفك الكل حينئد عن الجزء في العدم فتكون الصفة والموصوف وكذا الجزء والكل متغايرين وحيث كان الجواب السابق الذي ذكره الآمدي مردودا بما ذكرناه فقيل في الجواب عن الإيراد المراد جواز الانفكاك من الجانبين تعقلا لا وجودا ومنهم من صرح به فقال الغيران هما اللذان يجوز العلم بكل منهما مع الجهل بالآخر ولا يمتنع تعقل العالم والجزم بوجوده بدون تعقل الباري والجزم بوجوده ولذك يحتاج في وجود الباري بعد العلم بوجود العالم إلى الإثبات بالبرهان وهذا الجواب إنما يصح إذا عرف الغيران بأنهما موجودان يجوز الانفكاك بينهما من الجانبين ثم يعترض بالباري والعالم فإنه لا يجوز انفكاك العالم عن الباري في الوجود فيجاب بأنه ليس المراد جواز الانفكاك من الجانبين في الوجود بل في التعقل ولا خفاء في جواز انفكاك كل من العالم والصانع عن الآخر في التعقل وأما إذا زيد في التعريف قيد في عدم أو حيز فلا صحة لهذا الجواب إذ لا يجوز أن يقال يتعقل الباري معدوما أو متحيزا بدون أن يتعقل العالم كذلك إلا إذا جوز

كون التعقل أعم من أن يكون مطابقا أو غيره وحينئذ يلزم كون الصفة والموصوف متغايرين إذ يجوز أن يتعقل وجود كل منهما بدون وجود الآخر إما تعقلا مطابقا أو غير مطابق
واعلم أن قولهم أي قول مشايخنا في الصفة مع الموصوف وفي الجزء مع الكل لا هو ولا غيره مما استبعده الجمهور جدا فإنه إثبات للواسطة بين النفي والإثبات إذ الغيرية تساوي نفي العينية فكل ما ليس بعين فهو غير كما أن كل ما هو غير فليس بعين ومنهم من اعتذر عن ذلك بأنه نزاع لفظي لا تعلق له بأمر معنوي وذلك أن هؤلاء خصوا لفظ الغير بأن اصطلحوا على أن الغيرين ما يجوز الانفكاك بينهما وعلى هذا فالشيء بالقياس إلى آخر قد لا يكون عينا ولا غيرا وإذا أجري لفظ الغير على معناه المشهور بلا تخصيص فكل شيء بالقياس إلى آخر إما عين وإما غير و لا شك أنه لا تمتنع التسمية بل لكل أحد أن يسمي أي معنى شاء بأي اسم أراد وهذا الاعتذار ليس بمرض لأنهم ذكروا ذلك في الاعتقادات المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته فكيف يكون أمرا لفظيا محضا متعلقا بمجرد الاصطلاح مع أن بعضهم قد تصدى للاستدلال عليه
والحق أنه بحث معنوي وأن مرادهم بما ذكروه أنه لا هو بحسب المفهوم ولا غيره بحسب الهوية ومعناه أنهما متغايران مفهوما متحدان هوية كما يجب أن يكون الحال كذلك في الحمل على ما هر في تحقيق معناه ولما لم يكونوا أي المشايخ قائلين بالوجود الذهني لم يصرحوا بكون التغاير بين الصفة والموصوف وبين الجزء والكل في الذهن والاتحاد في الخارج كما صرح به القائلون بالوجود الذهني نعم المعلوم

المتحقق الثبوت فيما بين الموضوع والمحمول هو الاتحاد من وجه والاختلاف من وجه آخر فعبروا عن هذا المعلوم بتلك العبارة التي لا إشعار لها بالوجود الذي اختلف فيه وهذا كلام لا غبار عليه وفي بحث لأن كلام المشايخ في أجزاء غير محمولة كالواحد من العشرة واليد من زيد كما أوردوها في تمثيلاتهم وفي صفات هي مباديء المحمولات كالعلم والقدرة والإرادة لا في المحمولات كالعالم والقادر والمريد
والظاهر أنهم فهموا من التغاير جواز الانفكاك من الجانبين فأقدموا على ما قالوا وأيضا لما أثبتوا صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته تعالى لزمهم كون القدم صفة لغير الله تعالى فدفعوه بذلك وأيضا لزمهم أن تكون تلك الصفات مستندة إلى الذات إما بالاختيار فيلزم التسلسل في القدرة والعلم والحياة والإرادة ويلزم أيضا كون الصفات حادثة وإما بالإيجاب فيلزم كونه تعالى موجبا بالذات ولو في بعض الأشياء فتستروا عن هذا بأنها إنما تكون محتاجة مستندة إلى علة إذا كانت مغايرة للذات

المقصد الثامن
الاثنان لا يتحدان الاتحاد يطلق بطريق المجاز على صيرورة شيء ما شيئا آخر بطريق الاستحالة أعني التغير والانتقال دفعيا كان أو تدريجيا كما يقال صار الماء هواء والأسود أبيض ففي الأول زال حقيقة الماء بزوال صورته النوعية عن هيولاه وانضم إلى تلك الهيولى الصورة النوعية التي للهواء فحصل حقيقة أخرى هي حقيقة الهواء وفي الثاني زال صفة السواد عن الموصوف بها واتصف بصفة أخرى هي البياض ويطلق أيضا بطريق المجاز على صيرورة شيئا آخر بطريق التركيب وهو أن ينضم شيء إلى شيء

فيحصل منهما شيء ثالث كما يقال صار التراب طينا والخشب سريرا والاتحاد بهذين المعنيين لا شك في جوازه بل في وقوعه أيضا
وأما المفهوم الحقيقي للاتحاد فهو أن يصير شيء بعينه شيئا آخر ومعنى قولنا بعينه أنه صار شيئا آخر من غير أن يزول عنه شيء أو ينضم إليه شيء وإنما كان هذا مفهوما حقيقيا لأنه المتبادر من الاتحاد عند الإطلاق وإنما يتصور هذا المعنى الحقيقي على وجهين
الأول أن يكون هناك شيئآن كزيد وعمرو مثلا فيتحدان بأن يصير زيد عمروا أو بالعكس ففي هذا الوجه قبل الاتحاد شيئان وبعده شيء واحد كان حاصلا قبله
والثاني أن يكون هناك شيء واحد كزيد فيصير هو بعينه شخصا آخر غيره فحينئذ يكون قبل الاتحاد أمرا واحدا وبعده أمر آخر لم يكن حاصلا قبله بل بعده وهذا المعنى الحقيقي باطل بالضرورة وإليه أشار بقوله هذا أي عدم اتحاد الاثنين حكم ضروري يحكم به بديهة العقل بعد تجريد الطرفين على ما ينبغي فإن الاختلاف والتغاير بين الماهيتين وبين الهويتين وكذا بين الماهية والهوية اختلاف وتغاير بالذات فلا يعقل زواله يعني أن التغاير بين كل اثنين فرضا مقتضى ذاتهما فلا يمكن زواله عنهما كسائر لوازم الماهيات
وهذا الحكم مع وضوحه في نفسه ربما يزاد توضيحه بنوع تنبيه فيقال إن عدم الهويتان بعد الاتحاد وحدث هناك أمر غيرهما فلا اتحاد بينهما بل هما قد عدما وحدث أمر ثالث غيرهم وإن عدم أحدهما فقط فلا اتحاد أيضا إذ لا يتحد المعدوم بالموجود بديهة وإلا كان

موجودا ومعدوما معا وإن وجدا أي بقيا موجودين بعد الاتحاد فهما بعده اثنان متغيران كما كانا كذلك قبله فلا اتحاد أيضا
والغرض من هذا الكلام هو التنبيه على الضرورة بتجريد الطرفين وتصوير المراد على الوجه الذي هو مناط الحكم
وظن بعض الناس أنهم حاولوا بهذا الكلام الاستدلال على مطلوب نظري فيمنع امتناع الاتحاد على تقدير بقائهما موجودين وإنما يكونان اثنين لو لم يتحدا أي لا نسلم أنهما لو كانا بعد الاتحاد موجدين لكانا اثنين لا واحدا وإنما يكونان كذلك لو لم يكن كل منهما موجودا متحدا بالموجود الآخر وهو ممنوع

المقصد التاسع
الاثنان عند أهل الحق من المتكلمين ثلاثة أقسام لأنهما إن اشتركا في الصفات النفسية فالمثلان وإلا فإن امتنع لذاتيهما اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة فالضدان وإلا فالمتخالفان أحدهما المثلان وهما الموجودان المشتركان في جميع الصفات النفسية والمراد بالصفات النفسية ما لا يحتاج في وصف الشيء به إلى تعقل أمر زائد عليه كالإنسانية والحقيقة والوجود والشيئية للإنسان وتقابلها الصفات المعنوية التي تحتاج في الوصف بها إلى تعقل أمر زائد على ذات الموصوف كالتحيز والحدوث وبعبارة أخرى الصفة النفسية هي التي تدل على الذات دون معنى زائد عليها والمعنوية ما تدل على معنى زائد على الذات

وقال بعضهم بناء على الحال وكونها زائدة على الذات مع كونها من صفات النفس الصفة النفسية ما لا يصح توهم ارتفاعها عن موصوفها والمعنوية ما يقابلها ويلزمها أي يلزم المشاركة في الصفات النفسية المشاركة فيما يجب ويمكن ويمتنع ولذلك قد يعرف به فيقال المثلان هما الموجودان اللذان يشارك كل منهما الآخر فيما يجب له ويمكن ويمتنع وقد يقال بعبارة أخرى المثلان ما يسد أحدهما مسد الآخر في الأحكام الواجبة والجائزة والممتنعة جميعا ولأن الصفة النفسية كما عرفت ما يعود إلى نفس الذات لا إلى معنى زائد على الذات فالتماثل من الصفات النفسية لأنه أمر ذاتي ليس لمعنى زائد يعني أن التماثل بين الذات لأنفسها وليس معللا بأمر زائد عليه فهو صفة نفسية عندنا وأما عند مثبتي الأحوال منا كالقاضي ففيه أي في كون التماثل من الصفات النفسية المفسرة على رأيه بالأحوال اللازمة التي يمتنع توهم ارتفاعها عن الذات تردد إذ قال تارة إنه أي التماثل زائد على الصفات النفسية ويخلو موصوفه عنه بتقدير عدم خلق الغير فلا يكون من الصفات والأحوال اللازمة
وقال أخرى التماثل غير زائد على الصفات النفسية بل هو منها ويكفي في اتصاف الشيء بالتماثل تقدير الغير فيكون الشيء حال انفراده عن غيره في الوجود متصفا بالتماثل غير خال عنه فيكون من الأحوال اللازمة للذات ثم أيد كون تقدير الغير كافيا في الاتصاف بالتماثل بقوله فإن صفات الأجناس ومن جملتها التماثل لا تعلل بالغير أي بأمر موجود مغاير لمحلها اتفاقا فلا يكون التماثل موقوفا على وجود الغير تحقيقا وأما تقديره فلا يضر ثم من الناس من ينفي التماثل لأن الشيئين إن اشتركا من كل وجه فلا تمايز فلا اثنينية فضلا عن التماثل أو اختلفا من وجه من الوجوه فلا تماثل فلا تكون أقسام الإثنين عنده ثلاثة والجواب منع الشرطية الثانية إذ قد يختلفان بغير الصفة النفسية مع الاشتراك في جميع صفات النفس قالت المعتزلة أي أكثرهم المثلان هما

المشتركان في أخص وصف النفس فإن أرادوا أنهما مشتركان في الأخص دون الأعم فمحال لامتناع تحقق الأخص بدون تحقق الأعم وإلا أي وإن لم يريدوا ذلك بل أرادوا الاشتراك في الأخص والأعم جميعا فما ذكرناه في التعريف من الجمع المحلى باللام أصرح فيما هو المراد من الاشتراك في الكل ولهم أن يقولوا الاشتراك في الأعم وإن كان لازما لكنه خارج عن مفهوم التماثل إذ مداره على الاشتراك في الأخص مع أنه يلزمهم تعليل التماثل وهو حكم واحد بعلل مختلفة لأن التماثل يقع صفة للسوادين كما يقع صفة للبياضين فإذا كان التماثل هو الاشتراك في أخص وصف النفس كان تماثل السوادين معللا بأخص وصفهما أعني السوادية وتماثل البياضين معللا بأخص وصفهما أعني البياضية ولا شك أن السوادية والبياضية مختلفان وقد علل بهما التماثل الذي هو حكم واحد وهذا الاعتراض مشترك الإلزام فإن الأخص إذا كان مختلفا كان مجموع صفات النفس بين السوادين مخالفا لمجموعها في البياض فيكون التماثل المعلل بالمجموع معللا بعلل مختلفة والقائلون بالحال من الأشاعرة لا يجوزونه أيضا وأيضا فالتماثل للمثلين إما واجب فلا يعلل التماثل حينئذ على رأيهم إذ من قواعدهم أن الصفة الواجبة يمتنع تعليلها ومن ثمة قالوا لما كان عالمية الله تعالى واجبة لذاته امتنع أن تكون معللة بالعلم فلا يجوز تعريفه بالاشتراك في أخص صفات النفس لاقتضائه أن يكون التماثل معللا بالأخص كما مر
أولا يكون واجبا للمثلين فيجوز حينئذ كون السوادين مختلفين تارة وغير مختلفين أخرى بأن يثبت لهما التماثل فيكونان متماثلين ويزول عنهما فيكونان مختلفين وبطلانه ظاهر وقال النجار من المعتزلة

المثلان هما المشتركان في صفة إثبات وليس أحدهما بالثاني قيد الصفة الثبوتية لأن الاشتراك في الصفات السلبية لا يوجب التماثل ويلزمه السواد والبياض فإنهما مشتركان في صفات ثبوتية كالعرضية واللونية والحدوث ويلزمه أيضا مماثلة الرب للمربوب إذ يشتركان في بعض الصفات الثبوتية كالعالمية والقادرية
فإن قلت لعلة أراد أن المشتركين في صفة وجودية متماثلان لا مطلقا بل في تلك الصفة وحينئذ يلزمه أن السواد والبياض متماثلان في اللونية مثلا
قلت فيلزم أن يكون الباري مماثلا للمخلوقين في بعض الأشياء مع أنه لم يجز كونه تعالى مماثلا للحوادث أصلا
وثانيهما أي ثاني الأقسام الثلاثة الضدان وهما معنيان يستحيل لذاتيهما اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة فمعنيان أي قولنا معنيان يخرج العدم والوجود فإنهما ليسا معنيين أي عرضين ويخرج الإعدام لأنها ليست من قبيل المعنى الذي يرادف العرض ويخرج الجوهر لذلك ويخرج الجوهر والعرض وهو ظاهر أيضا ويخرج القديم والحادث فإن القديم القائم بغيره كصفاته تعالى لا يسمى عرضا فهذه الأمور لا تضاد في شيء منها وقولنا يمتنع اجتماعهما يخرج نحو السواد والحلاوة فإنهما يجتمعان فلا تضاد بينهما وقولنا لذاتيهما يخرج العلم بالحركة

والسكون معا فإن هذين العلمين وإن امتنع اجتماعهما لكن ليس ذلك لذاتيهما بل لاستلزامهما المعلومين اللذين يمتنع اجتماعهما لذاتيهما فلا تضاد بين العلمين بل بين معلوميهما وكذا يخرج الحركة الاختيارية مع العجز فإن امتناع الاجتماع بينهما ليس لذاتيهما بل لأن الحركة الاختيارية تستلزم القدرة المضادة للعجز لكونهما متنافيبين بالذات وقولنا من جهة يخرج نحو الصفر والكبر والقرب والبعد من الأمور الإضافية هذا هو الظاهر من عبارة الكتاب بناء على أن قوله ومن جهة نحو الصفر عطف على قوله فمعنيان يخرج العدم والوجود وفيه بحث لأن الصغر وأخواته من الأمور الإضافة والإضافة ليست موجودة عند المتكلمين فتكون خارجة عن التعريف بقوله معنيان وأيضا هذا القيد أعني من جهة واحدة وقع في حيز معنى النفي وهو قيد للمنفي فحقه أن يفيد تعميم الحد وإدخال شيء فيه لا تخصيصه وإخراج شيء عنه فلذلك قال بعضهم هذا احتراز عن خروج هذه الأمور ويرد عليه أنها أمور اعتبارية فكيف تجعل متضادة وأيضا هذا القيد إنما يدخل في الحد ما خرج بقوله يستحيل اجتماعهما لا ما خرج بقوله معنيان كما لا يخفى على ذي مسكة وأيضا الفاء في قوله فلا يوجب العقل دالة على أنه بيان لسبب إخراج هذه الأمور عن الحد أي إنما أخرجناها لأن العقل لا يوجب تضادا في الأمور الاعتبارية كهذه الأمور وكالحس والقبيح والحل والحرمة في الأفعال فإنها صفات اعتبارية راجعة عندنا إلى موافقة الشرع ومخالفته فلا تضاد بينهما لأن المتضادين لا بد أن يكونا معنيين موجودين ثم أن ذلك البعض قد تكلف فجعل قوله فلا يوجب كلاما مستأنفا فقال إذا عرفت تعريف المتضادين فاعلم أن كل ما لا يرجع إلى الصفات الموجودة كالإضافات والاعتبارات فإن العقل

يوجب تضادا فيه ومن جملتها الأحكام لأن التعلق بأفعال المكلفين مأخوذ في حقيقتها فتكون اعتبارية وكذا الأفعال بمعنى التأثيرات فإن معقولة الفعل لا وجود لها وستعرف أن قيد من جهة واحدة مذكور في تعريق المتقابلين احترازا عن خروج المتضايفين فله هناك فائدة ظاهرة بخلافه ههنا فالأولى حذفه هنا وأما اتحاد المحل الذي لا بد من اشتراطه في المتضادين ضرورة جواز اجتماعهما في زمان واحد في محلين فلم يشترطه المعتزلة فإنهم قالوا العلم بالشيء كالسواد مثلا إذا قام بجزء من القلب فإنه يضاد قيام الجهل بذلك الشيء بجزء آخر من القلب وإلا اتصف الجملة بهما أي إن لم يكن بينهما تضاد وقام العلم بجزء والجهل بجزء آخر اتصف جملة القلب بكونها عالمة بذلك الشيء وجاهلة به معا إذ الصفات التابعة للحياة كالعلم والجهل والقدرة وغيرها إذا قامت بجزء من شيء ثبت حكمها كالعالمية والجاهلية والقادرية للجملة أي لمجموع ذلك الشيء عندهم بل زادوا عليه أي على عدم اشتراط اتحاد المحل فلم يشترطوا في التضاد المحل إذ قالوا إرادة الله تضاد كراهيته وهما صفتان له حادثتان لا في محل أي ليستا في ذاته لامتناع قيام الحوادث به ولا في غيره لامتناع قيام الصفة بغير موصوفها وهما متضادتان لامتناع اجتماع حكميهما في ذاته أعني كونه مريدا وكارها معا لشيء واحد وسيرد عليك أن حكم الصفة لا يتعدى عن محلها وأن المعنى أي العرض لا يقوم بنفسه ومع ذلك يرد عليهم الموت والحياة فإنهما ليسا ضدين عندهم مع امتناع اجتماعهما وإذا لم يكن بينهما تضاد عندهم مع ثبوت امتناع الاجتماع فلم لا يجوز أن يكون العلم القائم بجزء والجهل القائم بجزء آخر ممتنعي الاجتماع لما ذكروه ولا يكون بينهما تضاد
قال صاحب القنية إن أوجب أصلكم امتناع ثبوت علم وجهل كما صورتموه فلم عللتم ذلك بالتضاد بينهما ألستم قلتم يستحيل اجتماع العلم

والموت مع أنهما ليسا بضدين عندكم فهلا قلتم إن العلم والجهل لا يثبتان في جزئين من القلب وليس المانع من ذلك تضادهما
وثالثهما أي ثالث أقسام الإثنين المتخالفين وهما غير الأولين أي غير الممثلين والضدين فرسمه أي رسم الثالث أن يقال المتخالفان هما موجودان لا يشتركان في صفة النفس أي في جميع الصفات النفسية فخرج عن الحد المثلان ولا يمتنع اجتماعهما لذاتيهما في محل من جهة فخرج عنه الضدان
وقيل المراد بالمتخالفين غير المثلين فيكفي في رسمهما حينئذ أن يقال هما موجودان لا يشتركان في صفة النفس أي في جميعها فيخرج المثلان ويكون الضدان قسما من المتخالفين فتكون قسمة الإثنين ثنائية ولما كان المقصود من نفي الاشتراك المذكور في تعريف المتخالفين إخراج المثلين كان محمولا على نفي الاشتراك في جميع صفات النفس كما ذكرناه وذلك لا ينافي أن يشتركا في بعضها فلذلك أشار إليه وإلى ما يتفرع عليه فقال ولا يضر الاشتراك بين المتخالفين وإن كانا ضدين في بعض صفة النفس كالوجود فإنه صفة نفسية مشتركة بين جميع الموجودات والقيام بالمحل فإنه صفة نفسية مشتركة بين الأعراض كلها وكالعرضية والجوهرية فإنهما أيضا من صفات النفس بخلاف الحدوث والتحيز فإنهما من الصفات المعنوية كما مر وهل يسميان أي هل يسمى المتخالفان المتشاركان في بعض الصفات النفسية أو غيرها مثلين باعتبار ما اشتركا فيه من الصفة النفسية

أو غيرها لهم فيه تردد وخلاف ويرجع إلى مجرد الاصطلاح لأن المماثلة في ذلك المشترك ثابتة بحسب المعنى والمنازعة في إطلاق الاسم
قال القاضي والقلانسي من الاشاعرة لا مانع من ذلك في الحوادث معنى ولفظا إذا لم يرد التماثل في غير ما وقع فيه الاشتراك حتى صرح القلانسي بأن كل مشتركين في الحدوث متماثلان فيه أي في الحدوث وعليه أي على ما ذكر من إطلاق المتماثلين على المتخالفين باعتبار ما اشتركا فيه يحمل قول النجار في تعريف التماثل بالاشتراك في صفة إثبات فالله مماثل عنده للحوادث في وجوده عقلا أي بحسب المعنى والنزاع في الإطلاق أي إطلاق لفظ المماثل للحوادث عليه تعالى ومأخذه أي مأخذ الإطلاق السمع عند من يجعل أسماء الله تعالى توقيفية فللنجار أن يلتزم التماثل بين الرب والمربوب معنى وإن منع إطلاق اللفظ عليه وأما الاعتراض عليه بتماثل السواد والبياض فهو كما مر مدفوع عنه بالالتزام معنى ولفظا واعلم أن الاختلاف في الغيرين عائد ههنا فمنهم من لا يصف الصفات أي صفات الله تعالى القديمة بالتماثل والاختلاف بناء على أنهما من أقسام التغاير ولا تغاير بين تلك الصفات كما مر ومنهم من يصفها بهما بناء على أن تلك الصفات متغايرة هذا هو المتبادر من عبارة الكتاب ونقل الآمدي عن القاضي القول بالاختلاف نظرا إلى ما اختص به كل صفة من تلك الصفات من صفة نفسية من غير التفات إلى وصف الغيرية وعلى هذا فالقاضي لا يشترط الغيرية في التخالف فبالأولى أن لا يشترطها في التماثل أيضا فلا يكون هذا الخلاف مبنيا على الخلاف في الغيرين

المقصد العاشر
كل متماثلين فإنهما لا يجتمعان وإليه ذهب الشيخ الأشعري وقد يتوهم أنه يجب عليه أن يجعلهما قسما من المتضادين لدخولهما في حدهما وحينئذ ينقسم الإثنان قسمة ثنائية إلى المتخالفين والمتضادين كما انقسما على رأي بعضهم إلى المتماثلين والمتخالفين على ما عرفت والحق أنه لا وجوب عليه ولا دخول لهما في حد المتضادين
أما الأول فلأن امتناع أجتماعهما عنده ليس لتضادهما على ما توهم بل لما سيأتي
وأما الثاني فلأن المثلين قد يكونان جوهرين
فلا يندرجان تحت معنيين فإن قلت إذا كانا معنيين كسوادين مثلا كانا مندرجين في الحد قطعا قلت لا اندراج أيضا إذ ليس امتناع الاجتماع لذاتيهما ألا ترى أن جماعة من العقلاء جوزوا اجتماعهما وأيضا المراد بالمعنيين في حد الضدين معنيان لا يشتركان في الصفات النفسية يرشدك إلى ذلك ايراده بعد حد المثلين ومنعه المعتزلة واتفقوا على جواز اجتماعهما مطلقا إلا شرذمة منهم فإنهم قالوا لا تجتمع حركتان متماثلتان في محل لنا في إثبات امتناع الاجتماع مسالك أربعة
الأول يجب على تقدير اجتماعهما في محل عدم تمايزهما بالذات وبالعوارض أيضا لأن الذات أعني الماهية مشتركة بينهما وكذا لوازمها من الصفات النفسية مشتركة أيضا فلا امتياز إلا بالعوارض المشخصة ولما كان

المحل واحدا كانت العوارض أيضا مشتركة فلا امتياز بينهما حينئذ أصلا فلا اثنينية فلا تماثل لأنه فرع الإثنينية
الثاني الإلزام في العلمين النظريين أي لو جاز اجتماع المثلين لجاز أن يجتمع علمان نظريان بشيء واحد لأنهما مثلان فإذا قام بشخص علم نظري بشيء جاز أن يقوم به أيضا علم نظري آخر بذلك الشيء وهو محال إذ يلزم النظر في المعلوم
الثالث أنه أي الاجتماع على تقدير جوازه لا يجب بحيث يمتنع زواله بعد حصوله فإذا اجتمع سوادان مثلا في محل واحد جاز أن ينتفي عنه أحدهما مع بقاء الآخر وإذا انتفى عن المحل أحد المثلين فيجوز اتصافه أي اتصاف ذلك المحل بضد المثل المنتفي لأن زوال أحد الضدين عن المحل مصحح لاتصافه بالضد الآخر وأنه أي ذلك الضد ضد أيضا له أي للمثل الباقي فيلزم اجتماع السواد الباقي مع ضده هذا خلف
الرابع لو جاز اجتماع المثلين لم يمكنا الجزم بأن القائم بالمحل المعين سواد واحد لكنا نجزم بذلك وفيها أي في هذه المسالك كلها نظر فالأول منظور فيه إذ عدم التمايز في نفس الأمر ممتنع لجواز تمايز المثلين عند الاجتماع بعوارض مستندة إلى أسباب مفارقة دون المحل وعدم التمايز عندنا غير ممتنع لأن مرجعه عدم علمنا بالتمايز ولا محذور فيه وكذا الثاني منظور فيه لأنه لا يوجب السلب الكلي الذي هو المدعي أعني قولنا لا يجوز اجتماع المثلين أصلا بل يوجب سلب الكل لأن امتناع اجتماع هذين المثلين أعني العلمين النظريين المتعلقين بمعلوم واحد يوجب رفع الإيجاب الكلي أعني قولنا ليس كل مثلين يجوز اجتماعهما وليس بمطلوب ولا بمستلزم له إذ ليس امتناع اجتماعهما لكونهما مثلين بل لأن

النظر لا يجامع العلم بما ينظر فيه على ما سلف وكذا الثالث منظور فيه لأنه فرع جواز الخلو أي خلو المحل الذي اجتمع فيه المثلان عن أحدهما وفرع أن المحل لا يخلو عن الشيء وضده وكلاهما ممنوع أما الأول فلجواز أن يكون المثلان المجتمعان في محل لازمين له فلا يجوز زوال شيء منهما عنه وأما الثاني فلجواز أن يخلو المحل عن الشيء الذي هو المثل الزائل وعن ضده أيضا فلا يلزم اجتماع الضدين فإن قلت نحن نقول إن انتفاء أحد المثلين عن المحل يصحح اتصافه بضده فيلزم جواز اجتماع المتضادين قطعا ولا حاجة بنا إلى وقوعه
قلت لا نسلم أيضا كون ذلك الانتفاء مصححا للضد مع وجود المثل الباقي والرابع أيضا منظور فيه للإلتزام أي نلتزم أنه لا يمكننا الجزم بكون السواد القائم بالمحل المعين واحدا لهم أي للمعتزلة في إثبات جواز الاجتماع الجسم يغمس في الصبغ فيعلوه كدرة ثم كهبة ثم سواد ثم حلوكة وليس ذلك الاختلاف في لونه بحسب تكرير الغمس إلا لتضاعف أفراد السواد المطلق عليه فالكهبة كدرتان اجتمعتا والسواد كهبتان والحلوكة سوادان فثبت اجتماع المثلين والجواب أن كل واحد منها أي من الألوان المذكورة لون مخالف للآخر في الشدة والضعف وتتوارد هذه الألوان على الجسم بدلا وبالثاني يزول الأول عنه ولا يتصور اجتماعهما في ذلك الجسم أصلا إلا أنه لما كان المتأخر أشد من المتقدم في السوادية توهم أن فيه اجتماع لونين متماثلين

المقصد الحادي عشر
قال الحكماء المتقابلان أمران لا يجتمعان في زمان واحد لا شك أن المتبادر من لفظ الاجتماع ما يغني عن قيد وحدة الزمان إلا أنه قد يقال ولو

على سبيل المجاز اجتمع هذان الوصفان في ذات واحدة وإن كانا في وقتين فصرح بوحدته دفعا لتوهم التجوز في الاجتماع في ذات واحدة لأن اجتماع المتقابلين في زمان واحد في ذاتين جائز من جهة واحدة هذا القيد الأخير أعني وحدة الجهة لإدخال المتضايفين كالأبوة والبنوة العارضين لزيد من جهتين فإما أن لا يكون أحدهما أي أحد المتقابلين سلبا للآخر منهما أو يكون والأول من هذين ينقسم إلى قسمين لأنه إن لم يعقل كل منهما إلا بالقياس إلى الآخر فهما المتضايفان وسيأتي بيان أحوالهما في آخر الموقف الثالث وإلا فهما الضدان وعلى هذا فتعريفهما أنهما متقابلان ليس أحدهما سلبا للآخر ولا يتوقف تعقل كل منهما على صاحبه وهما بهذا المعنى يسميان ضدين مشهورين وقد يشترط في الضدين أن يكون بينهما غاية الخلاف والبعد كالسواد والبياض فإنهما متخالفان متباعدان في الغاية دون الحمرة والصفرة إذ ليس بينهما ولا بين أحدهما وبين السواد والبياض ذلك الخلاف والتباعد فيسميان بالمتعاندين والضدان بهذا المعنى يسميان بالحقيقيين فإن اعتبر في تقسيم المتقابلين إلى الأقسام الأربعة التضاد المشهوري الشامل للتعاند فذاك وإن اعتبر الحقيقي وجب جعل المتعاندين قسما خامسا
قالوا أي الحكماء وقد يلزم أحدهما أي أحد المتضادين المحل إما بعينه كالبياض اللازم للثلج أو لا بعينه كالحركة والسكون على تقدير كونه وجوديا للجسم فإنه لا يخلو عنهما معا فأحدهما لا بعينه لازم له وقد يخلو المحل عنهما معا فلا لزوم هناك لأحدهما إصلا أما مع اتصافه أي المحل بوسط بين المتضادين ويعبر عنه أي عن ذلك الوسط إما باسم

وجودي كالمز المتوسط بين الحلو والحامض وكالفاتر المتوسط بين الحاد والبارد أو بسلب الطرفين كما يقال لا عادل ولا جائر لمن اتصف بحالة متوسطة بين العدل والجور وأما قولهم الفلك لا ثقيل ولا خفيف فلم يريدوا بسلب الطرفين هناك إثبات حالة متوسطة بين الثقل والخفة أو دونه أي دون الاتصاف بوسط فيخلو المحل عن الوسط أيضا كالشفاف الخالي عن السواد والبياض وعن كل ما يتوسطهما من الألوان وأيضا قد يمكن تعاقبهما أي تعاقب الضدين على المحل كالسواد والبياض بحيث لا يخلو عنهما معا بل يعدم أحدهما عنه ويوجد الآخر فيه في آن واحد كالسواد والبياض أو لا يمكن تعاقبهما على المحل بحيث لا يخلو عنهما كالحركتين الصاعدة والهابطة فإنه لا يجوز تعاقبهما على محل واحد إن قلنا يجب أن يكون بينهما سكون كما هو المشهور واعلم أن التضاد لا يكون إلا بين أنواع جنس واحد أي لا تضاد بين الأجناس أصلا ولا بين أنواع ليست مندرجة تحت جنس واحد إنما التضاد بين الأنواع المندرجة تحته ولا يكون التضاد في هذه الأنواع إلا بين الأنواع الأخيرة المندرجة تحت جنس واحد قريب كالسواد والبياض المندرجين تحت اللون الذي هو جنسهما القريب وما يتوهم بخلاف ذلك نحو الفضيلة والرذيلة ونحو الخير والشر فمن العدم والملكة أو التضاد فيه بالعرض قد ظن بعضهم أن الخير والشر ضدان مع كونهما جنسين لأنواع كثيرة تحتهما فلا يصح القول بأن لا تضاد بين الأجناس وهو باطل لأن الشر ليس له طبيعة وجودية وبتقدير كونه كذلك فليس شيء من الشرية والخيرية ذاتيا لما تحته لأن الخيرية عبارة عن كون الشيء ملائما والشرية عبارة عن كونه منافرا وقد تعقل الأشياء التي يطلق عليها الخير والشر مع الذهول عن كونها خيرات أو شرورا فليسا جنسين لما تحتهما وظن آخرون أن الشجاعة مع كونها تحت جنس الفضيلة مضادة للتهور المندرج تحت جنس الرذيلة فلا يصح القول بأن لا تضاد بين الأنواع المندرجة تحت أجناس مختلفة وهو أيضا مردود بأن كل واحد من

والتهور له حقيقة قد عرض لها صفة هي كونها فضيلة أو رذيلة ولا تضاد بين حقيقيتهما إذ ليست إحداهما في غاية البعد عن الأخرى إنما التضاد بين عارضيهما هذا ما ذكر في الملخص فإن أردت تطبيق ما في الكتاب عليه قلت إن قوله نحو الفضيلة والرذيلة إشارة إلى التوهم الثاني الذي أشار إلى جوابه بقوله أن أو التضاد فيه بالعرض وإن قوله ونحو الخير والشر إشارة إلى التوهم الأول الذي أشار إلى جوابه الأول من جوابي الملخص بقوله فمن العدم والملكة ولك أن تقول أراد صاحب الكتاب أن الفضيلة والرذيلة أيضا جنسان بينهما تضاد كالخير والشر ثم أشار إلى الجواب
أولا بأن الكل من قبيل العدم والملكة فإن الرذيلة عدم الفضيلة كما أن الشرية عدم الخيرية
وثانيا بأن التضاد في الكل بالعرض أي هذه الأمور الأربعة أمور عارضة ليس شيء منها جنسا لما تحته على قياس ما عرفت فكون الشيء خيرا ضد لكونه شرا كما أن كونه فضيلة ضد لكونه رذيلة فلم يثبت تضاد

بين الأجناس بل بين العوارض التي يجوز أن يكون كل متضادين منها تحت جنس واحد وضد الواحد إذ كان حقيقيا لا يكون إلا واحدا فالشجاعة ليس لها ضدان حقيقيان هما التهور والجبن بل لا تضاد حقيقيا إلا بين الأطراف كالتهور والجبن وكالفجور والخمود وكالجزيرة والبلادة كل ذلك الذي ذكرناه من أن الأجناس لا تضاد فيها وكذا الأنواع إذ لم تكن أنواعا أخيرة تحت جنس واحد قريب ومن أن ضد الواحد الحقيقي لا يكون إلا واحدا ثبت بالاستقراء وتتبع أحوال الموجودات دون البرهان القطعي والضدان عندهم أخص مما عند المتكلمين لأن المتضايفين على تقدير وجودهما داخلان في الضدين على مقتضى تعريفهم دون تعريف الحكماء قيل وكذا الحال في المتماثلين
والثاني وهو أن يكون أحد المتقابلين سلبا للآخر ينقسم أيضا إلى قسمين لأنه إن اعتبر فيه نسبتهما إلى قابل للأمر الوجودي فعدم وملكة فإن اعتبر قبوله له أي قبول ذلك القابل للأمر الوجودي في ذلك الوقت كالكوسج فإنه يعني كونه كوسجا عدم اللحية عمن من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا لا للأمرد أي يقال الكوسج لمن ذكر لا للأمرد الذي ليس من شأنه اللحية في ذلك الوقت فهو العدم والملكة المشهوريان وإن اعتبر قبوله له أعم من ذلك بل بحسب نوعه كالعمى للأكمه وعدم اللحية للمرأة أو جنسه القريب أو البعيد
فالأول كالعمى للعقرب فإن البصر من شأن جنسها القريب أعني الحيوان
والثاني كالسكون المقابل للحركة الإرادية للجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية لا كعدم القيام بالغير للمفارق إذ ليس من شأن المفارق القيام بالغير ولا من شأن نوعه أو جنسه مطلقا إذ لم يجعل الجوهر جنسا له فهو العدم والملكة الحقيقيان فالحقيقي من العدم والملكة أعم من المشهوري منهما على عكس الحقيقي والمشهوري في المتضادين وإن لم يعتبر ذلك الذي ذكرناه من نسبة

المتقابلين إلى قابل للأمر الوجود فسلب وإيجاب نحو الإنسان والإنسان ثم إن ههنا مباحث
الأول قالت الحكماء كل اثنين إن اشتركا في تمام الماهية فهما المثلان وإن لم يشتركا فيه فهما المتخالفان وقسموا المتخالفين إلى المتقابلين وغيرهما وعرفوا المتقابلين بما مر واعتبر بعضهم في تعريفهما الموضوع بدل الذات وأرادوا به المستغني عما يحل فيه ولذلك صرحوا بأن لا تضاد في الجواهر إذ لا موضوع لها واعتبر آخرون المحل مطلقا ولذلك أثبتوا التضاد بين الصور النوعية للعناصر ويظهر من ذلك أن المراد بامتناع اجتماعهما في ذات واحدة امتناع اجتماعهما بحسب الحلول فيه لا بحسب الصدق والحمل عليه فإن امتناع الاجتماع من حيث الصدق قد يسمى تباينا فلا يدخل نحو الإنسان والفرس في تعريف المتقابلين بخلاف مفهومي البياض واللا بياض فإنه يمتنع اجتماعهما باعتبار الحلول في محل واحد على قياس البصر والعمى
الثاني المشهور في تقسيم المتقابلين أنهما إما وجوديان أو لا وعلى الأول إما أن يكون تعقل كل منهما بالقياس إلى الآخر فهما المتضايفان أو لا فهما المتضادان وعلى الثاني يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا فإما أن يعتبر في العدمي محل قابل للوجودي فهما العدم والملكة أو لا فهما السلب والإيجاب واعترض عليه أولا بجواز كونهما عدميين كالعمى واللاعمى وأجيب بأن العدم المطلق لا يقابل نفسه ولا العدم المضاف لاجتماعه معه والعدم المضاف لا يقابل العدم المضاف لاجتماعهما في كل موجود مغاير لما أضيف إليه العدمان وأما العدم فهو انتفاء البصر عما هو قابل له فإن أريد باللاعمى سلب انتفاء البصر فهو

البصر بعينه والتقابل بحاله وإن أريد سلب القابلية فالتقابل بينهما بالإيجاب والسلب ورد ذلك بأن مفهوم اللاعمى أعم من كل واحد من سلب الانتفاء وسلب القابلية وهذا المفهوم الأعم مقابل لمفهوم العمى في نفسه فقد ثبت التقابل بين العدمين
وثانيا بأن عدم اللازم يقابل وجود الملزوم وليس داخلا في العدم والملكة ولا في السلب والإيجاب إذ المعتبر فيهما أن يكون العدمي منها عدما للوجودي وأجيب بأن المتقابلين مقيسان إلى محل واحد ولا شك أن عدم اللازم ووجود الملزوم متخالفان في المحل فلا تقابل بينها ورد بأن الكلام في وجود الملزوم لمحل وانتفاء اللازم عن ذلك المحل كوجود الحركة للجسم مع انتفاء السخونة اللازمة لها عنه وعدل المصنف عن المشهور إلى قوله إما أن لا يكون أحدهما سلبا للآخر أو يكون تنبيها على أن المراد بالوجودي ههنا ما لا يكون السلب جزء مفهومه فدخل مثل العمى واللاعمى في القسم الثاني أعني أن يكون أحد المتقابلين سلبا للآخر ووجب أن يكون من قبيل السلب والإيجاب لأن مفهوم اللاعمى على الوجه الأعم لم يعتبر فيه قابلية المحل وأما عدم اللازم مع وجود الملزوم فقد دخل في قسم المتضادين مع تصريحهم بأن الضدين لا بد أن يكونا وجودين
الثالث المتقابلان تقابل التضاد كالسواد والبياض يتقابلان باعتبار وجودهما في الخارج مقيسا إلى محل واحد في زمان واحد فإذا وجد فيه أحدهما امتنع به وجود الآخر فالمتضادان المذكوران أمران موجودان في الخارج وكذلك المتقابلان تقابل التضايف كالأبوة والبنوة يتقابلان باعتبار وجودهما في الخارج في محل واحد في زمان واحد من جهة واحدة على مذهب من قال بوجود الإضافات في الخارج وأما على مذهب من قال

بعدمها مطلقا فالتقابل بينهما باعتبار اتصاف المحل بهما في الخارج والمتقابلان تقابل العدم والملكة يكون أحدهما أعني الملكة كالبصر موجودا خارجيا فهو بحسب هذا الوجود في المحل يقابل العمى بحسب اتصاف المحل به وأما الإيجاب والسلب فهما أمران عقليان واردان على النسبة التي هي عقلية أيضا فلا وجود للمتقابلين ههنا في الخارج أصلا لأن ثبوت النسبة وانتفاءها ليسا من الموجودات الخارجية بل من الأمور الذهنية فإذا حصلا في العقل كان كل منهما عقدا أي اعتقادا فالمتقابلان ههنا يوجدان في الذهن وهو وجود حقيقي لهما أو في القول إذ عبر عنهما بعبارة وهو وجود مجازي وهذا معنى ما قيل من أن تقابل الإيجاب والسلب راجع إلى القول والعقد
الرابع إذا اعتبر مفهوم الفرس فإن اعتبر معه صدقه على شيء فيكون اللافرس سلبا لذلك الصدق وحينئذ إما أن تكون النسبة بالصدق خبرية فهما في المعنى قضيتان بالفعل أو تقييدية فلا تقابل بينهما إلا باعتبار وقوع تلك النسبة إيجابا ولا وقوعها سلبا فيرجعان بالقوة إلى قضيتين وإذا اعتبر مفهوم الفرس ولم يلاحظ معه نسبة بالصدق على شيء يكون مفهوم اللافرس حينئذ هو مفهوم كلمة لا مقيدا بمفهوم الفرس ولا سلب في الحقيقة ههنا إذ لا يتصور ورود سلب أو إيجاب إلا على نسبة لأنك إذا اعتبرت مفهوما واحدا ولم تعتبر معه نسبة إلى مفهوم آخر ولا نسبة مفهوم آخر إليه لم يكن لك إدراك وقوع أو لا وقوع متعلق بذلك المفهوم الواحد كما تشهد به البديهة فمفهوما الفرس واللافرس المأخوذان على هذا الوجه متباعدان في أنفسهما غاية التباعد ومتدافعان في الصدق على ذات واحدة فهما متقابلان بهذا الاعتبار

فإن قلت قد مر أن المعتبر في المتقابلين هو المحل أو الموضوع وليس لمفهومي الفرس واللافرس حلول في محل فلا يتقابل بينهما قلت ينقل الكلام إلى مفهومي البياض واللابياض المأخوذين على الوجه الأخير فبينهما تقابل خارج عن هذه الأقسام الأربعة كما أشرنا إليه فمن زعم أن بين تقابل الإيجاب والسلب مطلقا فقد سها إلا أن يبني على الشبه والنظر إلى الظاهر

خاتمة للمقصد الحادي عشر
التقابل بالذات إنما هو بين السلب والإيجاب لأن امتناع الاجتماع بينهما إنما هو بالنظر إلى ذاتيهما وغيرهما من الأقسام إنما يثبت فيها التقابل لأن كل واحد منهما مستلزم لسلب الآخر ولولاه أي لولا استلزام كل منهما لسلب الآخر لم يتقابلا فإن معنى التقابل ذلك أي استلزام كل منهما سلب الآخر فلولا أن كل واحد من السواد والبياض يستلزم عدم الآخر لم يتقابلا أصلا فالتنافي بين السلب واالإيجاب بالذات وفي سائر الأقسام بتوسطهما ولا شك أن التنافي في الذات أقوى وأيضا فالخير فيه أنه ليس بشر وهو أي نفي الشر عن الخير أمر عارض له خارج عن ماهية الخيرية وفيه أنه خير وهو ذاتي للخير ليس بخارج عن ماهيته وكونه شرا ينفي عنه كونه عارضا له وهو نفي الشرية وكونه ليس خيرا ينفي عنه الذاتي الذي هو الخيرية والنافي للذات أقوى في النفي وامتناع الاجتماع من النافي للعرضي فهو أي تقابل السلب والإيجاب أقوى التقابلات وقيل بل الأقوى هو التضاد إذ فيهما أي في المتضادين مع السلب الضمني أمر آخر زائد وهو غاية الخلاف المعتبرة في التضاد الحقيقي
المرصد الخامس في العلة والمعلول
لما كانت العلية والمعلولية من العوراض الشاملة للموجودات على سبيل التقابل كالإمكان والوجوب أورد مباحثهما في الأمور العامة وفيه مقاصد عشرة
المقصد الأول
تصور احتياج الشيء إلى غيره ضروري حاصل بلا اكتساب فإن كل أحد احتياجه إلى أمور واستغناؤه عن أمور والتصور السابق على التصديق الضروري مطلقا أولى بأن يكون ضروريا فالمحتاج إليه في وجود شيء يسمى علة له وذلك الشيء المحتاج يسمى معلولا فالعلة إما تامة كما سيأتي وإما ناقصة والناقصة إما جزء الشيء الذي هو المعلول أو أمر خارج عنه
والأول إن كان به الشيء بالفعل كالهيئة للسرير فهو الصورة لا يقال صورة السيف قد تحصل في الخشب مع أن السيف ليس حاصلا بالفعل لأنا نقول الصورة السيفية المعينة إذا حصلت بشخصها حصل السيف بالفعل قطعا وليست الحاصلة في الخشب عين تلك الصورة بل فردا آخر من نوعها وإن كان الشيء به بالقوة كالخشب له أي للسرير فهو المادة وليس المراد بالعلة الصورية والمادة ما يختص بالجواهر من المادة والصورة

الجوهريتين بل ما يعمهما وغيرهما من أجزاء الأعراض التي توجد بها الأعراض إما بالفعل أو بالقوة ولها أي للمادة أسماء متعددة باعتبارات مختلفة فمادة وطينة إذ تتوارد عليها الصور المختلفة وقابل وهيولى من جهة استعدادها للصور وعنصر إذ منها يبتدئ التركيب واسطقس إذ إليها ينتهي التحليل وقد يعكس ويفسر كل من العنصر والاسقطس بتفسير الآخر وهاتان أي الصورة والمادة علتان للماهية داخلتان في قوامها كما أنهما علتان للوجود أيضا لتوقفه عليهما فيخصان باسم علة الماهية تمييزا لهما عن الباقيتين المشاركتين إياهما في علية الوجود
والثاني أعني ما يكون خارجا عن المعلول إما ما به الشيء كالنجار له أي للسرير وهو الفاعل والمؤثر وأما ما لأجله الشيء كالجلوس عليه له وهو الغاية أي العلة الغائية وهاتان العلتان أعني الفاعل والغاية يخصان باسم علة الوجود لتوقفه عليهما دون الماهية والأوليان وهما المادة والصورة لا توجدان إلا للمركب وهو ظاهر والغاية لا تكون إلا لفاعل بالاختيار فإن الموجب لا يكون لفعله علة غائبة وإن جاز أن يكون لفعله حكمة وفائدة وقد يسمى فائدة فعل الموجب غاية أيضا تشبيها لها بالغاية الحقيقية التي هي علة غائبة للفعل وغرض مقصود للفاعل والغاية معلولة في الخارج وإن كانت علة في الذهن فإن الجلوس على السرير مثلا معلول بحسب الخارج لوجود السرير وعلة له بحسب تصوره وحصوله في الذهن فلها أي للغاية علاقتا العلية والمعلولية بالقياس إلى شيء واحد لكن باعتبار وجوديهما

الذهني والخارجي ويسمى جميع ما يحتاج إليه الشيء في ماهيته ووجوده أو في وجوده فقط علة تامة وفي لفظ الجميع نوع إشعار بوجوب التركيب في العلة التامة وذلك غير واجب ألا ترى إلى قوله وإنها أي العلة التامة قد تكون علة فاعلية إما وحدها كالفاعل الموجب الذي صدر عنه بسيط إذا لم يكن هناك شرط يعتبر وجوده ولا مانع يعتبر عدمه وإما إمكان الصادر فهو معتبر في جانب المعلول ومن تتمته فإنا إذا وجدنا ممكنا طلبنا علته أو مع الغاية كما في البسيط الصادر عن المختار وقد تكون مجتمعة من الأربع المذكورة كما في المركب الصادر عن المختار وقد تكون مجتمعة من ثلاث منها كما في المركب الصادر عن الموجب والعلة الناقصة متقدمة على المعلول تقدما ذاتيا سواء كانت داخلة فيه أو خارجة عنه وأما التقدم الزماني فيجوز إلا في العلة الصورية فإنها مع المعلول في الزمان وأما العلة التامة على تقدير تركبها من أربع أو ثلاث فمجموع أمور كل واحد منها متقدم فتقدمها على المعلول بمعنى تقدم كل واحد من أجزائها عليه مما لا شك فيه وأما تقدم الكل من حيث هو كل ففيه نظر إذ مجموع الأجزاء المادية والصورية هو الماهية بعينها من حيث الذات ولا يتصور تقدمها أي تقدم الماهية على نفسها فضلا عنها أي عن تقدمها على نفسها مع انضمام أمرين آخرين هما الفاعل والغاية إليها والحاصل أن مجموع المادة والصورة هو عين الماهية بحسب الذات فلا يمكن تقدم هذا المجموع على الماهية تقدما ذاتيا لأن التغاير الاعبتاري بالاجمال والتفصيل لا يجدي ههنا نفعا بخلافه في باب التعريف فإذا ضم إلى ذلك المجموع أمران أو أمر واحد فكيف يتصور تقدمه على الماهية وإذا كانت العلة التامة هي الفاعل وحده أو مع الغاية كانت متقدمة على المعلول بلا إشكال فإن قيل قد تركت قسما من العلة الناقصة وهو الشرط فإن من جملة ما يحتاج إليه الشيء في وجوده وجزء أيضا من العلة التامة فليست العلة الخارجية منحصرة في الفاعل

والغاية قلنا إنه جزء للفاعل بالحقيقة لأن المراد بالفاعل هو المستقل بالفاعلية والتأثير لا يكون كذلك إلا باستجماع الشرائط وارتفاع الموانع فوجود الشرط وعدم المانع من تتمة الفاعل فلا حاجة إلى الإفراد بالذكر وقد يجعلان من تتمة المادة لأن القابل إنما يكون قابلا بالفعل عند حصول الشرائط وارتفاع الموانع ومنهم من جعل الأدوات من تتمة الفاعل وما عداها من تتمة المادة فإن قلت لما جعل ارتفاع الموانع جزءا للفاعل أو القابل بل إذا جعل مما يحتاج إليه الشيء في وجوده فعدم المانع جزء من علة الوجود وأنه خلاف الضرورة الشاهدة بأن العدم لا يكون كذلك قلنا عدم المانع لا تحقق له في نفس الأمر ولا تميز له ولا ثبوت فكيف يكون مبدأ لوجود الغير نعم إنه أي عدم المانع قد يكون كاشفا عن شرط وجودي كعدم الباب المانع للدخول فإنه أي عدم الباب كاشف عن وجود فضاء له قوام يمكن النفوذ فيه وكعدم العمود المانع لسقوط السقف فإنه كاشف عن وجود مسافة يمكن تحرك السقف فيه أي في الأمر الممتد الذي هو المسافة للسقوط إلا أنه ربما لا يعلم الشرط الوجودي المعتبر في علة الوجود إلا بلازم عدمي فيعبر عنه بذلك اللازم العدمي كما في المثالين المذكورين فيسبق إلى الأوهام أنه أي ذلك العدمي مؤثر في الوجود ومعتبر في علته وليس كذلك فظهر أن الأمور الداخلة في العلة التامة كلها وجودية فتكون هي أيضا موجودة بوجود أجزائها بأسرها ثم التحقيق أن بديهة العقل لا تجوز كون العدم مؤثرا في الوجود مفيدا له ولكن تجوز أن يتوقف التأثير في الوجود على أمر عدمي كما تجوز توقفه على أمر وجودي فعلى هذا جاز أن تكون مدخلية الشيء في وجود آخر من حيث وجوده فقط كالفاعل والشرط والمادة والصورة وأن يكون من حيث عدمه فقط كالمانع وأن يكون من

حيث وجوده وعدمه معا كالمعد إذ لا بد من عدمه الطارئ على وجوده فما قيل من أن العلة التامة الوجود لا بد أن تكون موجودة أريد به أن ما له مدخل بوجوده لا بد أن يكون موجودا وما له مدخل بعدمه لا بد أن يكون معدوما وماا له مدخل بوجوده وعدمه لا بد أن يوجد ثم يعدم هذا معنى وجود العلة التامة وحصولها المقتضي لوجود المعلول وإما أنه يجب أن يكون كل واحد من أجزائها موجودا فذلك مما لم يحكم به ضرورة العقل ولا قام عليه برهان أيضا فإن قلت لما جعل ارتفاع المانع جزءا للفاعل كان المؤثر في الوجود معدوما وقد اعترفتم بأنه محال بديهة قلت ليس معنى كونه جزءا له أنه جزء له حقيقي بل معناه أنه من تتمته وداخل في عداده وهذا المقدار كاف في الاعتذار عن ترك إفراده بالذكر ويعلم من هذا أن قوله فيسبق إلى الأوهام أنه مؤثر إن أراد به سبق التأثير الحقيقي فباطل وإن أراد به سبق التأثير بمعنى المدخلية في الوجود فهو حق ولا محذور فيه لا يقال الجنس والفصل من العلل الداخلة وليس شيء منهما مادة ولا صورة وأيضا الموضوع في الأعراض من العلل الخارجة ولم يذكر فيها لأنا نقول الجنس إذا أخذ من حيث أنه جزء أعني بشرط لا شيء يسمى مادة والفصل إذا أخذ كذلك يسمى صورة أو نقول الكلام فيما يتوقف عليه الوجود الخارجي فلا تندرج فيه الأجزاء العقلية وأما الموضوع فهو مع كونه خارجا يشبه المادة مشابهة تامة في كونها محلا قابلا فجعل من عدادها ولم يعد قسما برأسه ولك أن تقول في تفصيل أقسام العلة الناقصة ما يتوقف عليه الشيء في وجوده إما جزء له أو خارج عنه

والثاني إما محل للمعلول فهو الموضوع بالقياس إلى العرض والمحل القابل بالقياس إلى الصورة الجوهرية وحدها وإما غير محل له فأما ما منه الوجود أو ما لأجله الوجود أو لا هذا ولا ذاك وحينئذ إما أن يكون وجوديا وهو الشرط أو عدميا وهو عدم المانع
والأول أعني ما يكون جزءا إما أن يكون جزءا عقليا وهو الجنس والفصل أو جزءا خارجيا وهو المادة والصورة

المقصد الثاني
الواحد بالشخص لا يعلل بعلتين مستقلتين لوجهين
الأول لو علل الواحد بالشخص بمستقلتين أي لو اجتمع عليه علتان مستقلتان لكان محتاجا إليهما أي إلى كل واحدة منهما للعلية أي لكون كل واحد علة له فإن المعلول محتاج إلى علته البتة مستغنيا عنهما أي عن كل واحدة منهما إذ بالنظر إلى كل واحد منهما أي كل واحد من الأمرين المستقلين بالعلية يوجد ذلك المعلول الشخصي ولو لم يوجد الأمر الآخر إذا الفرض أن كل واحد مستقل وهو أي جواز وجوده بكل منهما في زمان واحد وإن لم يوجد الآخر معنى الاستغناء أي استغناء ذلك المعلول عن الآخر فيلزم أن يكون محتاجا إلى كل واحدة من المستقلتين وغير محتاج إليهما لا يقال منشأ الاحتياج إلى كل واحدة هو عليتها له ومنشأ عدم الاحتياج إليها علية الأخرى له فلا استحالة في اجتماعهما لأنا نقول احتياج شيء إلى آخر في وجوده وعدم احتياجه إليه فيه متناقضان فلا يجتمعان سواء كانا مستندين إلى سبب واحد أو إلى سببين واجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد شخصي مستلزم لوقوع المحال فيكون إمكان اجتماعهما مستلزما لإمكانه وهو أيضا محال وأما تواردهما على سبيل البدل مع

امتناع الاجتماع إذا لم يمكن تعاقبهما فلا استحالة فيه بأن تكون كل واحدة منهما بحيث لو وجدت ابتداء وجد ذلك المعلول الشخصي فإذا وجدت إحداهما وجد المعلول وامتنع حينئذ وجود الأخرى إذ لو أمكن أن تعدم الأولى وتوجد الأخرى فإن عدم المعلول بعدم الأولى ووجد بإيجاد الثانية لزم إعادة المعدوم وإن لم يعدم وجب أن تكون الثانية مفيدة للمعلول أصل وجوده الحاصل له بإيجاد الأولى فيلزم تحصيل الحاصل ولا يمكن أن يقال إن الثانية تفيد بقاء الوجود الحاصل بالأولى إذ يلزم حينئذ أن لا تكون علة مستقلة فالتوارد على سبيل البدل جائز إذا كانت العلتان بحيث إذا وجدت إحداهما استحال وجود الأخرى بعدها وإن أمكن أن توجد بدل الأولى ابتداء لا يقال التوارد على البدل محال مطلقا لأنه إذا كانت إحداهما موجودة والأخرى معدومة لزم من وجود الأولى وجود المعلول ومن عدم الثانية عدمه لأن عدم العلة المستقلة يوجب عدم المعلول وما يظن من أن أصلي الخارج والتدوير يجوز تواردهما بدلا على حركة الشمس فجوابه أن المعلول ههنا أعني حركة الشمس واحد بالنوع لا بالشخص ضرورة أن الحركة الواقعة بأحد هذين الأصلين مغايرة للواقعة بالأصل الآخر شخصا لأنا نقول استلزمام عدم العلة لعدم الملعول الشخصي يتوقف على أنه لا يجوز أن يكون لواحد شخصي علتان مستقلتان على البدل فكان إثباته به دورا
الوجه الثاني إما أن يكون لكل واحد منها أثر أي تأثير فكل أي كل واحد منهما جزء العلة التامة لأن المستقل بالتأثير حينئذ هو المجموع فهو العلة التامة وكل واحد منهما جزؤها وهو خلاف المفروض أو لأحدهما فقط أثر فهي العلة دون الأخرى أو لا أثر لشيء منهما فلا شيء منهما بعلة وكلاهما أيضا خلاف المقدر فالأقسام كلها باطلة وقد يقال جاز أن يكون لكل منهما تأثير تام كما هو المتنازع فيه وليس يلزم منه كون كل جزء العلة فإن قلت فيستغنى بتأثير كل واحدة عن تأثير الأخرى قلت هذا رجوع إلى الوجه الأول فتأمل وجوزه أي تعليل الواحد الشخصي

بعلتين مستقلتين بعض المعتزلة كجوهر فرد ملتصق بيد اثنين يدفعه أحدهما حال ما يجذبه الآخر على السوية في القوة والسرعة وحينئذ لا يجوز أن يقوم بذلك الجوهر الذي لا جزء له حركتان لامتناع اجتماع المثلين بل حركة واحدة شخصية ولا يجوز استنادها إلى واحد منهما فقط لعدم الأولوية بل إلى كل منهما ولا شك أن كل واحد منهما مستقل بتحصيل تلك الحركة فقد اجتمع على واحد بالشخص علتان متسقلتان ورده الأشاعرة بأن حركة ذلك الجوهر مستندة إلى الله تعالى ابتداء كسائر الحوادث ولغيرهم أن يجيبوا عنه بأن هذه الحركة مستندة إلى مجموعهما معا فكل واحد جزء العلة لا علة مستقلة فإن استقلال كل منهما كان مشروطا بانفراده عن الآخر ولا محذور في ذلك وأما المثلان فهما واحد بالنوع فيجوز تعليله أي تعليل الواحد بالنوع بمستقلتين على معنى أن فردا منه يكون معللا بعلة مستقلة وفردا آخر منه مماثلا للأول يكون معللا بعلة أخرى مستقلة أيضا لا على معنى أن الطبيعة النوعية توجد في ضمن الأفراد عن علل متعددة إذ ليس في الأعيان إلا الأشخاص كما مرت إليه الإشارة كالمخالفة فإن مخالفة السواد للحلاوة مثل مخالفة الحلاوة للسواد فإن هذين المعروضين وإن كانا متخالفين في الماهية إلا أن عارضيهما متماثلان فيها ثم أنه يعلل كل من المخالفتين المذكورتين بمحله إما وحده أو منضما إلى غيره وعلى التقديرين لكل من المخالفتين علة مستقلة لكن هذا المثال إنما يصح عند من يقول بأن المخالفة التي هي من الإضافات أمر ثبوتي موجود في الخارج وكذا الحال في التمثيل بالمضادة بين السواد والبياض وأما التمثيل بأن طبيعة الجنس معللة بفصول مختلفة فإنما يصح على تقدير تمايز الجنس والفصل

في الوجود الخارجي وقد عرفت بطلانه وأيضا فالحرارة نوع واحد ثم يعلل فرد منها بالنار وفرد بالشمس وفرد بالحركة فقد عللت المتماثلات بعلل مختلفة مستقلة هي هذه الأمور وحدها أو مأخوذة مع غيرها لكن هذا المثال إنما يصح إذا كانت أفراد الحرارة متماثلة متفقة في تمام الماهية وسننبه على عدم تماثل أفرادها فيما بعد وإنما لم يمثلوا بأفراد الحرارة النارية المستندة إلى أفراد النار لعدم تعدد العلل ههنا فإن العلة طبيعة النار كما أن المعلول طبيعة الحرارة وإن اعتبر أفرادهما كان كل من العلة والمعلول متعددا قال في الملخص المعلول الواحد بالنوع يجوز استناده إلى علل مختلفة بالنوع فإن قيل الماهية النوعية إن اقتضت لذاتها أو للوازمها الحاجة إلى أحديهما علل الأمران أي الفردان المتماثلان منها بها أي بتلك الإحدى بعينها لأن مقتضى ذات الشيء أو لازمه يستحيل انفكاكه عنه وإلا وإن لم تقتض الحاجة إلى إحديهما استغنت عنهما أي عن كل واحدة من العلتين فلا تعلل تلك الماهية النوعية بشيء منهما لامتناع تعليل الشيء بما هو مستغن عنه قلنا هي أي تلك الماهية تقتضي الاحتياج إلى علة ما والتعيين من جانب العلة أي نختار أن الماهية لا تحتاج إلى شيء بعينه من العلتين المفروضتين بل هي محتاجة إلى علة ما لا بعينها ولا يلزم من ذلك أن لا تكون الماهية معللة بالعلتين المعينتين لجواز أن يكون تعليلها بالمعينة ناشئا من جانب العلة بأن تكون هذه المعينة تقتضي أن تكون علة لتلك الماهية وتلك المعينة أيضا تقتضي أن تكون علة لها فهي مع استغنائها عن خصوصية كل منهما تكون معللة بهما كذا ذكره الإمام الرازي
قال المصنف واعلم أن هذا الجواب فيه التزام لعدم احتياج المعلول إلى العلة بعينها مع كونها محتاجة إلى علة مالا بعينها فإن الماهية إذا كانت معللة بعلة معينة لا لاحتياجها إليها بل لاقتضاء تلك المعينة أن تكون علة للماهية فقد جاز عدم احتياج المعلول إلى ما هو علة له حقيقة فلا يلزم

احتياج الشخص المعلول للعلتين المستقلتين إلى كل منهما أي إلى شيء منهما بعينه بل احتياجه إلى مفهوم أحدهما أي إلى علة ما الذي لا ينافي الاجتماع وتلخيص النظر أنه لما جاز أن يكون الاستناد إلى علة معينة ناشئا من اقتضاء العلة المعينة دون احتياج المعلول إلى تلك العلة المعينة جاز أن يكون الواحد الشخصي معللا بعلتين مستقلتين ولا يكون محتاجا إلى شيء منهما بعينه حتى يلزم من اجتماعهما كونه محتاجا ومستغنيا بالقياس إلى كل واحدة منهما بل يكون محتاجا إلى علة ما وهذا الاحتياج لا ينافي الاجتماع لأنهما إذا اجتمعتا لزم الاستغناء عن خصوصية كل منهما لا عن مفهوم أحدهما الذي هو أعم منهما فلا يتم الدليل المعول عليه في امتناع تعليل الواحد الشخصي بعلل مستقلة وقد خبط في تقرير هذا المقام أقوام فلا تتبع أهواءهم بعد ما جاءك من الحق هذا ثم الصواب في الجواب أن يقال لا وجود للطبائع في الخارج إنما الموجود فيه أشخاصها فإذا احتاج شخص منها إلى علة معينة لا يجب أن يحتاج مثل ذلك الشخص إلى مثل تلك العلة بل يجوز احتياجه إلى علة مخالفة للعلة الأولى ويكون منشأ الاحتياج في المتماثلين هويتهما المتخالفتين

المقصد الثالث
يجوز عندنا يعني الأشاعرة استناد آثار متعددة إلى مؤثر واحد بسيط وكيف لا يجوز ذلك عندنا ونحن نقول بأن جميع الممكنات المتكثرة كثرة لا تحصى مستندة بلا واسطة إلى الله تعالى مع كونه منزها عن التركيب ومنعه أي منع جواز استناد الآثار المتعددة إلى المؤثر الواحد البسيط الحكماء إلا بتعدد آلة كالنفس الناطقة يصدر عنها آثار كثيرة بحسب تعدد آلاتها التي هي الأعضاء والقوى الحالة فيها أو بتعدد شرط أو

قابل كالعقل الفعال على رأيهم فإن الحوادث في عالم العناصر مستندة إليه بحسب الشرائط والقوابل المتكثرة
قالوا وأما البسيط الحقيقي الواحد من جميع الجهات بحيث لا يكون هناك تعدد لا بحسب ذاته ولا بحسب صفاته الحقيقية ولا الاعتبارية ولا بحسب الآلات والشرائط والقوابل الأول فلا يجوز أن يستند إليه إلا أثر واحد وبنوا على ذلك كيفية صدور الممكنات عن الواجب تعالى كما هو مذهبهم على ما سيأتي ولا يلتبس عليك أن الأشاعرة لما أثبتوا له تعالى صفات حقيقية لم يكن هو بسيطا حقيقيا واحدا من جميع جهاته فلا يندرج على رأيهم في هذه القاعدة وقد يتوهم أن الحقيقي إن كان موجبا لم يجز أن يصدر عنه ما فوق أثر واحد اتفاقا وإن كان مختارا جاز أن يصدر عنه آثار اتفاقا فالنزاع إذا في كون المبدأ موجبا أو مختارا إلا في هذه القاعدة والحق أن الفاعل المختار إذا تعددت إرادته أو تعلقها لم يكن واحدا من جميع الجهات فلا يندرج في القاعدة فإن فرض أن لا يكون في المختار تعدد بوجه ما كان مندرجا فيها ومتنازعا فيه أيضا لنا في إثبات الجواز الجوهرية مع كونها حقيقة واحدة بسيطة علة للتحيز في الحيز المطلق ولقبول الأعراض أيضا فهما أي التحيز وقبول الأعراض أثران لبسيط واحد حقيقي لا يقال
أحدهما وهو قبول الأعراض أثر للجوهر باعتبار الحال فيه وهو العرض
والآخر وهو التحيز أثر له باعتبار الحيز الذي يتمكن فيه فقد ههنا الشرط لأنا نقول ليس كلامنا في كونه محلا للعرض بالفعل وكونه حاصلا في الحيز بالفعل حتى يكون صدورهما عنه بتوسط الحال والحيز كما ذكرتم بل الكلام في قابليته لهما وهو أي كونه قابلا لهما من عوارض ذاته المعللة بها والحق أنه لا يتم هذا الاستدلال إلا ببيان بساطة العلة التي هي الجوهرية ولا يمكن أخذه إلزاميا لأن الجوهر عندهم خمسة أقسام والقابل منها للتحيز وحلول هذه الأعراض هو الجسم باعتبار صورته ومادته

ولا وجود عندهم للجوهر الفرد وبيان كون الأمرين أي القابليتين اللتين هما الأثران وجوديين قيل ويمكن أخذه إلزاميا لأنهما من النسب والإضافات التي لا وجود لها عند المتكلمين بخلاف الحكماء وبيان انتفاء تعدد الآلة والشرط في صدور القابليتين عن الجوهرية وهو مشكل احتج الحكماء على عدم الجواز بثلاثة أوجه
الأول لو كان الواحد الحقيقي مصدرا ل أ ول ب مثلا لكان مصدرية غير مصدرية ب لإمكان تعقل كل منهما بدون الأخرى فإن دخل فيه أي في الواحد الحقيقي هما أي هذان المفهومان أو دخل فيه أحدهما لزم التركيب في الواحد الحقيقي هذا خلف وإلا وإن لم يدخل فيه هذان ولا أحدهما لكان ذلك الواحد الحقيقي مصدرا لمصدريتهما أي لمصدريتي أ ب كما كان مصدرا لهما إذ لا يجوز أن تكون المصدريتان مستندتين إلى غيره وإلا لم يكن هو وحده مصدرا ل أ و ل ب والمقدر خلافه وحينئذ عاد الكلام فيهما أي في المصدريتين فنقول كونه مصدرا لإحدى المصدريتين غير كونه مصدرا للأخرى فهذان المفهومان إن دخلا فيه أو أحدهما لزم التركيب وإلا كان مصدرا لهما أيضا ولزم التسلسل في المصدريات وقد يقرر هذا الوجه بطريق أبسط فيقال إن كان كل من مفهومي مصدرية أ ومصدرية ب نفس الواحد الحقيقي كان لأمر بسيط ماهيتان مختلفتان وإن دخلا فيه معا أو دخل أحدهما وكان الآخر عينا لزم التركيب فقط وإن خرجا معا أو خرج أحدهما وكان الآخر عينا لزم التسلسل فقط وإن دخل أحدهما وخرج الآخر لزم التركيب والتسلسل معا فالأقسام ستة والكل محال

الوجه الثاني أنا لما رأينا الماء يوجب البرودة والنار توجب السخونة قطعنا بأن طبيعة النار غير طبيعة الماء ضرورة أي قطعا يقينيا لا شبهة فيه فقد استدللنا باختلاف الأثر وتعدده على اختلاف المؤثر وتعدده فلولا أنه مركوز في العقول أن اختلاف الأثر وتعدده لا يكون إلا باختلاف المؤثر وتعدده لما كان الأمر كذلك فظهر أنه كلما تعدد المعلول تعددت العلة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلما اتحدت العلة اتحد المعلول وهو المطلوب
الوجه الثالث أنه لو كان الواحد الحقيقي مصدرا لأثرين ك أ و ب مثلا لكان مصدرا ل أولما ليس أ لأن ب ليس أ ولكان أيضا مصدرا ل ب ولما ليس ب وأنه تناقض والجواب عن الأول المصدرية أمر اعتباري أي نختار أن المصدريتين خارجتان عن الواحد الحقيقي إلا أن المصدرية لكونها من الأمور الإضافية التي لا وجود لها في الخارج غير محتاجة إلى علة توجدها فلا تكون الذات مصدرا لها لأن المحتاج إلى الموجد ما له وجود وحينئذ فلا يكون هناك مصدرية أخرى حتى تتسلسل المصدريات وإن سلمنا تسلسلها فالتسلسل في الأمور الاعتبارية غير ممتنع فإن قيل لا شك أن العلة الموجدة يجب أن تكون موجودة قبل المعلول قبلية بالذات وأنه يجب أن يكون لها خصوصية مع ذلك المعلول ليست لها تلك الخصوصية مع غيره إذ لولاها لم يكن اقتضاؤها لمعلول معين بأولى من اقتضائها لما عداه فلا يتصور حينئذ صدوره عنها ففي كل صدور لا بد أن يكون للمصدر قبل ذلك الصدور خصوصية مع الصادر ليست له مع غيره والمراد بالمصدرية هي هذه الخصوصية لا الأمر الإضافي

الذي يتعقل بين الصادر ومصدره لأنه متأخر عنهما فإذا فرض أن الفاعل واحد حقيقي وصدر عنه أثر واحد كانت تلك الخصوصية بحسب ذات الفاعل وإن فرض صدور أثر آخر كانت تلك الخصوصية أيضا بحسب الذات إذ ليس هناك جهة أخرى فلا يكون له مع شيء من المعلولين خصوصية ليست له مع غيره فلا يكون علة لشيء منهما فإذا تعدد المعلول فلا بد من تغاير في ذات الفاعل ولو بالاعتبار ليتصور هناك خصوصيتان تترتب عليهما عليتان وحينئذ لا يكون الفاعل واحدا من جميع الجهات ولهذا قيل إن هذا الحكم كأنه قريب من الوضوح وإنما كثرت مدافعة الناس إياه لإغفالهم عن معنى الوحدة الحقيقية
قلنا لم لا يجوز أن يكون لذات واحدة خصوصية مع أمور متعددة متشاركة في جهة واحدة أو غير متشاركة فيها لا تكون تلك الخصوصية لها مع غير تلك الأمور فيصدر عنها تلك الأمور بأسرها لا بعضها دون بعض ولئن سلم أنه لا بد من خصوصية مع كل صادر بعينه فذاك لا يضرنا لأن المبدأ الحقيقي متصف في نفس الأمر بسلوب كثيرة بل له إرادة يتعدد تعلقها فجاز أن يصدر عنه من هذه الحيثيات أمور كثيرة ولا يقدح ذلك في كونه واحدا حقيقيا بحسب ذاته والجواب عن الثاني أن الاستدلال على تغاير طبيعتي الماء والنار إنما هو بالتخلف لا بالاختلاف والتعدد فإنا لما رأينا نارا ولا برد معها كما كان مع الماء ورأينا ماء ولا حر معه كما كان مع النار علمنا بتخلف أثر كل منهما على الآخر أنهما مختلفان إذ لو تساويا لامتنع تخلف الأثر فلو رأينا آثارا مختلفة متعددة بلا تخلف لم يمكن لنا الاستدلال بها على اختلاف المؤثرات وتعددها بل هذا هو المتنازع فيه

والجواب عن الثالث لا نسلم أن صدور أ وصدور لا أ تناقض فإن نقيض صدور أ هو لا صدور أ وأما صدور لا أ أعني صدور ب فلا يناقضه
فإن قيل التناقض لازم لأن الجهة التي هي مصدر ل أ إن كانت مصدر لغير أ صدق أن هذه الجهة ليست مصدرا ل أ لأن الموجبة المعدولة مستلزمة للسالبة المحصلة فيصدق أن هذه الجهة مصدر ل أ وغير مصدر ل أ وهما متناقضان
قلنا إنما يتناقضان أن لو كان الزمان فيهما متحدا وهو ممتنع كذا ذكره بعضهم وهو سهو لأن قولنا هذه الجهة مصدر ل أ وإن كانت موجبة محصلة لكن قولنا هذه الجهة مصدر لغير أ ليست موجبة معدولة حتى يستلزم سالبة محصلة هي نقيض لتلك الموجبة المحصلة بل هي أيضا موجبة محصلة المحمول لكن لمحمولها متعلق معدول نعم قولنا هذه الجهة غير مصدر ل أ موجبة معدولة والفرق بينه وبين قولنا هذه الجهة مصدر لغير أ بين لا سترة به
قال الكاتبي في شرح الملخص إذا صدر عنه ب الذي هو غير أ من تلك الجهة صدق أنه لم يصدر عنه أ من تلك الجهة فيصدق حينئذ أنه صدر عنه أ ولم يصدر عنه أ من جهة واحدة وأنه تناقض وهذا الوجه كتبه الرئيس إلى بهمنيار لما طلب منه البرهان على هذا المطلوب ثم قال جوابه لا نسلم أنه إذا صدر عنه ب صدق أنه لم يصدر عنه أ بل اللازم أنه صدر عنه ما ليس أ وإن سلم فلا تناقض بين قولنا صدر عنه أ ولم يصدر عنه أ بل اللازم أنه صدر عنه ما ليس أ وإن سلم فلا تناقض بين قولنا صدر عنه أ ولم يصدر عنه أ لأنهما مطلقتان وإن قيدت إحداهما بالدوام كانت كاذبة

قال الإمام الرازي في المباحث المشرقية والعجب ممن يفني عمره في تعليم الالة العاصمة عن الغلط وتعلمها ثم إذا جاء إلى هذا المطلوب الأشرف أعرض عن استعمالها حتى يقع في غلط يضحك منه الصبيان

المقصد الرابع
قال الحكماء البسيط الحقيقي لا تعدد فيه أصلا كالواجب تعالى لا يكون قابلا وفاعلا أي لا يكن مصدرا لأثر وقابلا له من جهة واحدة خلافا للأشاعرة حيث ذهبوا إلى أن لله تعالى صفات حقيقية زائدة على ذاته وهي صادرة عنه وقائمة به وإلا وإن لم يكن كذلك بل كان قابلا وفاعلا فهو مصدر للقبول والفعل معا فقد صدر عن الواحد الحقيقي أثران وقد تبين لك بطلانه
قلنا وقد عرفت أيضا جوابه مع أن القبول والفعل بمعنى التأثير ليسا من الموجودات الخارجية وأيضا فنسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب ونسبة القابل إلى المقبول بالإمكان فلا يجتمعان واعترض على هذا بأن القابل إذا أخذ وحده لم يجب معه وجود المقبول كما أن الفاعل وحده لا يجب معه وجود المفعول وإذا أخذنا مع جميع ما يتوقف عليه وجود المقبول والمفعول وجب وجودهما معهما فلا فرق إذا بينهما في الوجوب والإمكان
وأجيب بأن الفاعل وحده قد يكون في بعض الصور مستقلا موجبا لمفعوله ولا يتصور ذلك في القابل إذ لا بد من الفاعل فالفعل وحده موجب في الجملة والقبول وحده ليس بموجب أصلا فلو اجتمعا في شيء واحد من جهة واحدة لزم إمكان الوجوب وامتناعه من تلك الجهة

والجواب أنه لا يمتنع أن يكون للشيء البسيط إلى شيء آخر نسبتان مختلفتان بالوجوب والإمكان من جهتين مختلفتين فتجب النسبة الناشئة من جهة ولا تجب النسبة الناشئة من جهة أخرى
ورد هذا الجواب بأن كلامنا في أن البسيط لا يكون قابلا وفاعلا من جهة واحدة وعلى ما ذكرتم تكون تلك الجهة متعددة ومنهم من أجاب على الوجه الثاني بأن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان العام وهو لا ينافي الوجوب بل يجامعه لا بالإمكان الخاص الذي ينافيه وأورد عليه أنه أي انتساب القابل إلى المقبول بالإمكان العام المحتمل للإمكان الخاص ولذلك لا يمكن عدم القبول من حيث أنه مقبول مع وجود القابل ويتم الدليل حينئذ إذ نقول نسبة الفاعل يتعين أن تكون بالوجوب ونسبة القابل لا يتعين أن تكون كذلك أو نقول بعبارة أخرى نسبة الفاعل لا تحتمل الإمكان الخاص ونسبة القابل تحتمله فيلزم أن تكون نسبة واحدة محتملة للإمكان الخاص غير محتملة له إلا أن يعاد إلى الجواب الأول فيقال جاز أن يكون هناك نسبتان من جهتين
إحديهما واجبة على التعين غير محتملة للإمكان الخاص
والأخرى محتملة له فيكون الجواب الثاني لغوا

المقصد الخامس
قال الحكماء القوة الجسمانية أي الحالة في الجسم لا تفيد أثرا غير متناه لا في المدة أي لا تقوى أن تفعل في زمان غير متناه سواء كان الفعل الصادر عنها واحدا أو متعددا ولا في الشدة أي لا تقوى أن تفعل حركة لا تكون حركة أخرى أسرع منها ولا في العدة أي لا تقوى على

فعل عدده غير متناه سواء كان زمانه متناهيا أو غير متناه وإنما انحصر لا تناهي القوى بحسب آثارها في هذه الأمور الثلاثة لأن التناهي واللاتناهي بمعنى عدم الملكة من الأعراض الذاتية الأولية للكمية فإذا وصف القوى باللاتناهي نظرا إلى آثارها فلا بد أن يعتبر إما عدد الاثار وذلك هو اللاتناهي بحسب العدة وإما زمانها وحينئذ إما أن يعتبر لا تناهيه الزمان في الزيادة والكثرة وهو اللاتناهي بحسب المدة وأما أن يعتبر لا تناهية في النقصان والقلة بسبب قبوله للانقسامات التي لا تقف عند حد فهو لا تناهي القوى بحسب الشدة ثم إن اللاتناهي في الشدة ظاهر البطلان لأن القوى إذا اختلفت في الشدة كرماة تقطع سهامهم مسافة واحدة محدودة في أزمنة مختلفة فلا شك زمانها أقل هي أشد قوة من التي زمانها أكثر فما تكون غير متناهية في الشدة وجب أن تقع الحركة الصادرة عنها لا في زمان إذ لو وقت في زمان وكل زمان قابل للقسمة فالحركة الواقعة في نصف ذلك الزمان مع اتحاد المسافة تكون أسرع فمصدرها أشد وأقوى فلا يكون مصدر الأولى غير متناه في الشدة والمقدر خلافه لكن وقوع الحركة لا في زمان بل في آن محال لأن كل حركة إنما هي على مسافة منقسمة فتنقسم بانقسامها وبكون مقدارها أعني الزمان منقسما أيضا واعترض عليه بأنا لا نسلم أن قطع تلك المسافة في نصف ذلك الزمان ممكن في نفس الأمر وإمكان فرض قطعها لا يجدي نفعا لجواز أن يكون المفروض محالا مستلزما لمحال آخر وأما اللاتناهي أبدا في المدة والعدة فقد جوزه المتكلمون لأن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار دائمان ولا يتصور ذلك إلا بدوام الأبدان وقواها فتكون تلك القوى مؤثرة في الأبدان تأثيرا غير متناه زمانا وعددا ومنعه الحكماء وقالوا بمنع لا تناهي القوى الجسمانية في المدة والعدة في الحركة الطبيعية والقسرية واحتجوا عليه أي على انتفاء اللاتناهي وامتناعه فيهما بأن قوة النصف أي نصف الجسم في التحريك الطبيعي نصف

قوة الكل في ذلك التحريك وإنما قلنا إن النسبة بين قوتي النصف والكل بالنصفية لتساوي الجسم الصغير الذي هو النصف والجسم الكبير الذي هو الكل في القبول أي قبول الحركة لأنه أي لأن ذلك القبول للجسمية المشتركة بينهما وتفاوتهما أي ولتفاوت الصغير والكبير في القوة فإنها أي القوة تنقسم بانقسام المحل فالقابلان أعني الجسمين الصغير والكبير متساويان في قبول الحركة الطبيعية لا تفاوت من جهتهما أصلا والفاعلان للتحريك الطبيعي أعني القوتين متفاوتتان بحسب تفاوت المحل ولما كان تفاوت المحلين بالنصفية كان تفاوت القوتين بالنصفية أيضا فيكون التفاوت بين أثريهما أيضا كذلك إذ لا تفاوت في الأثر ههنا إلا باعتبار تفاوت المؤثرين وبأن قوة الضعف أي ضعف الجسم في قبول التحريك القسري نصف قوة النصف في ذلك القبول وإنما كانت نسبة القوتين بالنصف للتساوي بين الضعف والنصف في الفاعل فرضا بأن نفرض قاسرا واحدا حركهما بقوة واحدة والتفاوت في القابل إذ المعاوق للحركة القسرية في الضعف أعني القوة الطبيعية العائقة عن قبول الحركة القسرية أكثر من المعاوق في النصف بحسب زيادة الضعف على النصف فلا تفاوت حينئذ في الحركة القسرية من جهة القابل أصلا بل من جهة الفاعل في قبوله التفاوت بكثرة المعاوق وقلته فإذا كانت نسبة المعاوق بالضعف كانت نسبة القبول إلى القبول بالنصف فيكون نسبة الأثر إلى الأثر بالنصف أيضا إذا تقرر هاتان المقدمتان الأولى في الحركة الطبيعية والثانية في الحركة القسرية فإذا فرضناهما أي التحريك الطبيعي والقسري من مبدأ واحد أي فحينئذ نقول لا يجوز أن تحرك قوة طبيعية جسمها إلى غير النهاية وإلا فنصف ذلك الجسم له قوة طبيعية هي نصف القوة الطبيعية التي للكل فنفرض أن

هاتين القوتين حركتا جسميهما من مبدأ واحد في العدد أو الزمان فلا شك أن حركة النصف نصف حركة الكل لما مر في المقدمة الاولى وكذلك نقول لا يجوز أن تكون قوة جسمانية تحرك جسما آخر بالقسر إلى غير النهاية وإلا فلذلك القاسر أن يحرك ضعف ذلك الجسم الآخر فنفرض أنه حركهما من مبدأ واحد فلا شك أن حركة الضعف نصف حركة النصف لما مر في المقدمة الثانية فإذا فرضنا ما ذكرنا في الطبيعية والقسرية فالأقل وهو حركة النصف في الطبيعية وحركة الضعف في القسرية إما متناة والأكثر الذي فرضناه غير متناه ضعفه لما عرفت وضعف المتناهي متناه بالضرورة فيكون الأكثر متناهيا وهو خلاف المفروض وإما غير مثناه وقد فرضنا مبدأ الأقل والأكثر واحدا فتقع الزيادة عليه أي زيادة الأكثر على الأقل في الجهة التي هو بها غير متناه فهو متناه إذ لا بد أن ينقطع في تلك الجهة حتى تتصور الزيادة عليه فيها وأنه أي كون الأقل متناهيا في الجهة التي هو فيها غير متناه محال بالضرورة وهذا الدليل مبني على عدة أمور كلها ممنوعة
الأول إن القوة الجسمانية مؤثرة تأثيرا طبيعيا في جسم هو محلها أو قسريا في جسم آخر وذلك غير مسلم عندنا بل الحوادث كلها مستندة إلى الله سبحانه ابتداء
فإن قلت إذا لم تكن مؤثرة أصلا لم توصف باللاتناهي في التأثير أيضا وهو المطلوب
قلت معنى كلامهم أنها مؤثرة تأثيرا متناهيا لا غير متناه ولا ثبوت لهذا المطلوب الذي دليله أيضا موقوف على أن لها تأثيرا طبيعيا أو قسريا
الثاني إن النصف من الجسم له قوة مؤثرة وهو غير لازم لجواز أن يكون لجسم قوة مؤثرة حالة فيه فإذا انقسم ذلك الجسم بنصفين انعدمت تلك القوة بالكلية كما تنعدم وحدة ذلك الجسم بالتقسيم فلا يكون

لنصف الجسم قوة أصلا وإن فرض أن له قوة هي جزءا لقوة الكل فليس يلزم أن يكون جزءا لقوة قوية على الفعل فإن عشرة مثلا إذا أقلوا حجرا في مسافة فالواحد منهم إذا انفرد ربما لا يقوى على إقلاله في عشر تلك المسافة بل لا يقوى على تحريكه أصلا
الثالث أنها أي قوة النصف نصف قوة الكل وهو أيضا غير مسلم لجواز تفاوت القوة في أجزاء الجسم فلا يكون انقسامها على نسبة انقسام الجسم وهذان الأمران معتبران في برهان تناهي القوة الطبيعية ولهذا قيل إن هذا البرهان إنما يجري في قوة حالة في جسم لا معاوقة فيه منقسمة بانقسام ذلك الجسم على التشابه كالطبائع في الأجسام العنصرية وكالنفوس المنطبعة في الأجرام الفلكية لكن التحريك الطبيعي المقابل للتحريك القسري يتناول أيضا التحريك الصادر عن النفوس النباتية والحيوانية مع أن أكثر تلك النفوس لا تنقسم بانقسام محالها وأيضا أجسام النباتات والحيوانات مركبة من بسائط لا تخلو عن معاوقات تقتضيها طبائعها فيقع التفاوت في التحريك الطبيعي الصادر عن تلك النفوس بسبب تلك المعاوقات الحاصلة في القابل المركب فلا يصح أن حركة الكل ضعف حركة النصف
الرابع إمكان فرضهما أي فرض الحركتين من مبدأ واحد عددي أو زماني وهو ممنوع فيما إذا كانت القوة غير متناهية وقد يعد هذا المنع مكابرة
الخامس وجود الحركتين الطبيعيتين أو القسريتين ليقبلا الزيادة والنقصان فيصح أن يقال إن حركة الكل ضعف حركة النصف وزائدة عليها في الحركة الطبيعية وأن حركة النصف ضعف حركة الكل وزائدة عليها الحركة القسرية لكن ليس للحركات التي تقوى عليها تلك القوى مجموع موجود في وقت ما بل هي كالأعداد التي لم توجد فلا يصح الحكم عليها

بالزيادة والنقصان وهذا هو الذي عولوا عليه في جواب دليل المتكلمين على تناهي الحوادث فإنهم لما استدلوا على وجوب تناهيها بازديادها كل يوم أجابوا عنه بأن ليس للحوادث مجموع موجود في وقت من الأوقات فلا يصح الحكم عليها بالازدياد فضلا عن اقتضائه تناهيها هذا وقد اعتذر لهم بأن المحكوم عليه ههنا هو كون القوة قوية على تلك الأفعال وهذا المعنى حاصل في الحال ولا شك أن كون القوة الطبيعية قوية على تحريك الكل أزيد من كون نصف تلك القوة قوية على تحريك الجزء وأن كون القوة القسرية قوية على تحريك الجزء أزيد من كونها قوية على تحريك الكل فوقع التفاوت في حال موجودة للقوة بخلاف الحوادث إذ ليس لمجموعها وجود في وقت فامتنع الحكم عليها بالزيادة ورد هذا الاعتذار بأن المحال اللازم من تفاوت الحركات تناهي ما فرض غير متناه وليس يلزم هذا المحال من التفاوت في حال القوة فلا بد في بيان استحالته من دليل آخر ثم قد يوجدان أي لا نسلم أن الحركتين يقبلان الزيادة والنقصان لما مر وبعد تسليم ذلك فلا نسلم أنهما يقبلانهما على الوجه الذي تقع فيه الزيادة والنقصان في الطرف المقابل للمبدأ المفروض حتى يلزم المحال لم لا يجوز أن تقع الزيادة والنقصان في الخلال بأن توجد الحركتان غير متناهيتين مع اختلاف في السرعة والبطء كفلك القمر وفلك زحل فإن القوة التي تحرك فلك القمر قوية على دوران أكثر مما تقوى عليه القوة المحركة لفلك زحل مع أن حركات الفلكين يوجدان عندكم غير متناهيتين لكون تفاوتهما في الزيادة والنقصان واقعا في الخلال بسبب الاختلاف في السرعة والبطء ثم أنه أي هذا الدليل بعد توجه المنوع المذكورة عليه منقوض بالأفلاك فإن

الحركات الجزئية الصادرة عنها لا تستند إلى تعقل كلي من جوهر مفارق حتى يكون محركها غير القوى الجسمانية وذلك لأن نسبة التعقل الكلي إلى جميع جزئيات الحركة على سواء فلا يترجح به إرادة وجود بعضها على بعض لا بد لتلك الحركات الجزئية من إدراكات جزئية يترتب عليها إرادات جزئية فتلك الحركات مستندة إلى قوى جسمانية لها إدراكات جزئية مع عدم تناهيها عندهم فإن الحركات الجزئية الفلكية لا بداية لها ولا نهاية على رأيهم وقد أجابوا عن النقض بأن مبادىء الحركات الفلكية هي الجواهر المفارقة بوساطة نفوسها الجزئية الجسمانية المنطبعة في أجرامها والبرهان إنما قام على أن القوى الجسمية لا تكون مؤثرة آثارا غير متناهية لا على أنها لا تكون واسطة في صدور لتلك الآثار ورد بأنه لما جاز بقاء القوة الجسمانية مدة غير متناهية وكونها واسطة في صدور آثار لا تتناهى جاز أيضا كونها مبادىء لتكل الآثار لأنها المباشرة لتلك التحريكات عندهم إذا كانت واسطة فليجز أن تباشرها استقلالا أيضا

المقصر السادس
الدور ممتنع وهو أن كون شيآن كل منهما علة للآخر بواسطة أو دونها وامتناعه إما بالضرورة كما ذهب إليه الإمام الرازي وإما الاستدلال لأن العلة متقدمة على المعلول فلو كان الشيء علة لعلته لزم تقدمه على علته المتقدمة عليه فيلزم تقدمه على نفسه بمرتبتين

فإن قيل لا شك أن العلة لا يجب تقدمها بالزمان كما في حركتي اليد والخاتم بل بالذات فحينئذ نقول معنى التقدم بالعلية والذات إن كان نفس العلية كان قولك لزم تقدم الشيء على علته جاريا مجرى قولك لزم علية الشيء لعلته فيمنع بطلانه لأنه عين المتنازع فيه بحسب المعنى وإن كان مخالفا له في اللفظ وإن أردت به أي بتقدم العلة على معلوله أمرا وراء ذلك المذكور الذي هو العلية فلا بد من تصويره أولا ثم تقريره وإثباته بإقامة الدليل عليه ثانيا فإنا من وراء المنع في المقامين إذ لا يتصور هناك للتقدم معنى سوى العلية ولئن سلمنا أن له مفهوما سواها فلا نسلم أن ذلك المفهوم ثابت للعلة فالجواب أن يقال معنى تقدم العلة على معلولها هو أن العقل يجزم بأنها ما لم يتم لها وجود في نفسها لم توجد غيرها فهذا الترتيب العقلي هو المسمى بالتقدم الذاتي وهو المصحح لقولنا كانت العلة فكان المعلول من غير عكس فإن أحدا لا يشك في أنه يصح أن يقال تحركت اليد فتحرك الخاتم ولا يصح أن يقال تحرك الخاتم فتحركت اليد فبالضرورة هناك معنى يصحح ترتب المعلول على العلة بالفاء ويمنع من عكسه فلذلك قال والتقدم بهذا المعنى تصوره ولو بوجه ما وثبوته للعلة كلاهما ضروري فلا حاجة بعد هذا التنبيه إلى تصوير واستدلال وقد يقال أي في إبطال الدور وذلك أن الإمام الرازي بعدما اعترض في الأربعين على الدليل المذكور قال والأولى أن يقال كل واحد منهما على تقدير الدور مفتقر إلى الآخر المفتقر إليه أي إلى ذلك الواحد فيلزم حينئذ افتقاره أي افتقار كل واحد إلى نفسه وأنه محال إذ الافتقار نسبة لا تتصور إلا بين الشيئين فكيف يتصور بين الشيء ونفسه قال والأقوى في الاستدلال على إبطاله هو أن نسبة المفتقر إليه وهو العلة إلى المفتقر وهو المعلول بالوجوب لأن العلة المعينة تستلزم معلولا معينا ونسبة المفتقر إلى المفتقر

إليه بالإمكان لأن المعلول المعين لا يستلزم علة معينة بل علة ما وهما أعني الوجوب والإمكان متنافيان فلو كان شيئان كل واحد منهما مفتقر إلى الآخر لكان نسبة كل منهما إلى صاحبه بالوجوب والإمكان معا وهو محال وإنما كان هذا أقوى من ذلك الأولى لأن تحقق النسبة يكفيه التغاير الاعتباري لا يقال جاز أن يكون لكل من الشيئين جهتان ينشأ منهما نسبتان مختلفتان بالوجوب والإمكان لأنا نقول لا دور إلا مع اتحاد الجهة وعبارة لباب الأربعين هكذا المفتقر إليه واجب بالنسبة إلى المفتقر والمفتقر ممكن بالنسبة إلى المفتقر إليه والمتبادر منهما أن المعلول يجب أن يكون له علة بخلاف العلة إذ لا يجب لها من حيث هي أن يكون لها معلول بل يمكن لها ذلك ولك أن تحملها على المعنى الأول الذي هو الصحيح ثم قال الإمام ولا يرد أي على الدليل الأولي أو الأقوى المضافان نقضا بأن يقال كل منهما مفتقر إلى الآخر فيلزم افتقار كل إلى نفسه وأن تكون نسبة كل واحد إلى الآخر بالوجوب والإمكان فلو صح ما ذكرتم لامتنع المضافان وإنما لم يردا نقضا على ما ذكره لأنهما اعتباريان لا يوجدان في الخارج فلا يوصفان بالافتقار أصلا فضلا عن أن يفتقر كل إلى الآخر أو نقول تلازمهما على تقدير كونهما موجودين لوحدة السبب الذي يقتضيهما لا لافتقار كل منهما إلى صاحبه فلا نقض بهما بوجه
قال صاحب اللباب ومع ما سبق من جواب شبهة الإمام على تقدم العلة فإن عنى بالافتقار الذي هو مبنى الدليل المرضي عنده امتناع الانفكاك مطلقا فقد يتعاكس الافتقار بهذا المعنى من الجانبين لجواز أن يمتنع انفكاك

كل من الشيئين عن الآخر ولا امتناع في ذلك بل هو واقع بين المتلازمين وليس يلزم من تعاكس هذا المعنى بين المعلول والعلة إلا امتناع انفكاك كل منهما عن نفسه ولا محذور فيه وإن أريد بالافتقار امتناع الانفكاك مع نعت المتأخر أي تأخر المفتقر عن المفتقر إليه جاء في التأخر أعني تأخر المفتقر الذي هو المعلول ما جاء من الشبهة في التقدم أعني تقدم المفتقر إليه الذي هو العلة بعينه إذ يصير حاصل الدليل حينئذ أن المفتقر أي المعلول متأخر عن العلة فلو كانت العلة معلولة له لافتقرت أي تأخرت عنه فيلزم تأخر الشيء عن نفسه بمرتبتين فيقال إن أردت بتأخر المعلول معنى المعلولية كان قولك لزم تأخر الشيء عن معلوله جاريا مجرى قولك لزم معلولية الشيء لمعلوله فيمنع بطلانه لأنه عين المتنازع فيه وإن أردت به معنى آخر فلا بد من تصويره وتقريره فالشبهة مشتركة بين الدليلين المردود والمرضي

المقصد السابع
في بيان مقدمة يتوقف عليها إبطال التسلسل وهي أن نقول العلة المؤثرة يجب أن تكون موجودة مع المعلول أي في زمان وجوده وإلا أي وأن لم يجب ذلك بل جاز أن يوجد المعلول في زمان ولم توجد العلة في ذلك الزمان بل قبله فقد افترقا أي جاز افتراقهما فيكون عند وجود العلة لا معلول وعند وجود المعلول لا علة فليس وجوده لوجودها فلا علية بينهما فإن قيل لا يلزم من افتراقهما أن لا يكون وجود المعلول لأجل وجود العلة إذ لعلها أي العلة في الزمان الأول الذي هو زمان وجودها توجد المعلول أي تحصل وجوده في الزمان الثاني فيكون التأثير والإيجاد في الزمان الأول والتأثر وحصول المعلول في الزمان الثاني

قلنا الإيجاد أي إيجاد العلة للمعلول وإيجابها إياه إن كان نفس حصول المعلول فلا يتخلف حصول المعلول عنه أي عن إيجاب العلة إياه لامتناع تخلف الشيء عن نفسه وإن كان الإيجاد والإيجاب غيره أي غير حصول المعلول كان ذلك الغير الذي هو الإيجاب موجبا في الحال له أي لحصول ذلك المعلول في ثاني الحال فله أي فلذلك الغير وهو الإيجاب إيجاب آخر وينقل الكلام إلى إيجاب الإيجاب وتتسلسل الإيجابات إلى غير النهاية وفيه نظر لأنه أي الإيجاب على تقدير المغايرة ليس موجبا حتى يلزم أن يكون له إيجاب آخر بل يكون إيجابا مغايرا لحصول المعلول وإلا أي وإن لم يكن كذلك بل كان الإيجاب موجبا لزم التسلسل في الإيجاب مطلقا سواء كان الإيجاب حال وجود المعلول أو قبله وسواء كان مغايرا لحصول المعلول أو لم يكن ولأن الضرورة تنفي كون الإيجاب نفس حصول المعلول إذ كل أحد يعلم صدق قولنا أوجبه العلة فحصل فترديد الإيجاب بين أن يكون نفسه أو غيره ترديد بين أمرين أحدهما لازم الانتفاء وهو مستدرك مستقبح جدا وقد يجاب بأنه إذا كانت العلة توجب في الحال وجود المعلول في ثاني الحال فحينئذ لا معلول حال إيجاب العلة وبالعكس أي لا إيجاب حال حصول المعلول فليس حصوله لإيجابها له ولما أمكن أن يتطرق إليه المنع المذكور أولا
قال المصنف والأولى في دفع تجويز كون الإيجاب في الحال وكون وجود المعلول في ثاني الحال هو التعويل على الضرورة الحاكمة باستحالة ذلك فإن معنى الإيجاب أي إيجاب العلة للمعلول هو أن يكون وجوده مستندا إلى وجودها ومتعلقا بها أي بوجودها بحيث لو ارتفعت العلة ارتفع المعلول تبعا لارتفاعها وبالجملة فليس وجوده أي وجود

المعلول عن علة غير إيجاد تلك العلة وإيجابها إياه أي لا تمايز بينهما بحيث يقال أن أحدهما غير الآخر بل هما بحيث يعدان واحدا فليس الكسر الذي هو تحصيل الانكسار في المكسور سوى حصول الانكسار فيه من الكاسر فكيف يتصور أن هناك كسرا حقيقية وليس هناك حصول انكسار وكذا الإيجاد وحصول الوجود فلا يتصور أن ثمة إيجادا حقيقة وليس حصول وجود فلا إيجاد من العلة حال العدم أي حال عدم المعلول بالضرورة لما عرفت من أن حصول وجوده منها هو عين إيجادها إياه إذ هما بحيث لا يتصور الانفكاك بينهما فبطل ما توهم من أن الإيجاد في الزمان الأول وحصول الوجود في الزمان الثاني وقد يقال إنما جمع بين الإيجاد والإيجاب في الذكر تنبيها على أنه لا فرق فيما ذكر بين الإيجاد الإيجابي والإيجاد الاختياري فإن حصول الوجود لا يتصور تخلفه عنهما أصلا

المقصد الثامن
التسلسل محال وهو أن يستند الممكن في وجوده إلى علة مؤثرة فيه وتستند تلك العلة المؤثرة إلى علة أخرى مؤثرة فيها وهلم جرا إلى غير النهاية لوجوده خمسة
الأول جميع تلك السلسلة المشتملة على تلك الممكنات التي لا تتناهى إذا أخذ من حيث هو جميعها أي أخذ بحيث لا يدخل فيها أي في جميعها غيرها أي غير تلك الممكنات ولا يخرج عنها شيء منها فلا شك أنه ليس بمعدوم وإلا فيعدم جزء لأن المركب لا يتصور عدمه إلا بعدم جزء من أجزائه والمفروض عدم دخول غير الأجزاء التي كل واحد منها موجود

وذلك لأنا أخذنا جميع تلك الممكنات الموجودة بحيث لم يدخل فيه شيء سواها وإذا لم يكن ذلك الجميع معدوما فهو موجود إذ لا واسطة بين الموجود والمعدوم وليس ذلك الجميع الموجود بواجب لذاته لاحتياجه إلى كل جزء من أجزائه التي كلها ممكنة والمحتاج إلى الممكن أولى بأن يكون ممكنا فهو أي ذلك الجميع ممكن لانحصار الموجود في الواجب والممكن فله علة لما مر من أن الممكن محتاج في وجوده إلى ما يوجده خارجة عن ذلك الجميع إذ الموجد للشيء لا يكون نفسه وإلا كان موجودا قبل وجود نفسه ولا شيئا من أجزائه وإلا أوجد ذلك الجزء نفسه لأن موجد الكل موجد لأجزائه كلها ومن جملتها ذلك الجزء وأنها أي تلك العلة الخارجة عن سلسلة الممكنات توجد لا محالة جزءا من أجزاء تلك السلسلة فإن جميع الأجزاء لو وقع بغيرها أي بغير تلك العلة كان المجموع أيضا واقعا بغيرها إذ ليس في المجموع شيء سوى تلك الأجزاء فلم تكن تلك العلة الخارجة علة للمجموع لاستغنائه في وجوده عنها بالمرة وإذا كانت العلة الخارجة موجدة لجزء من أجزاء السلسلة فلا يكون ذلك الجزء مستندا إلى علة موجدة داخلة في السلسلة وإلا توارد موجدان على معلول واحد شخصي وهو أي عدم استناد ذلك الجزء إلى علة داخلة في السلسلة خلاف المفروض لأنا قد فرضنا أن كل واحد من آحاد السلسلة مستند إلى آخر منها إلى النهاية هذا خلف وأيضا إذا لم يستند ذلك الجزء إلى علة داخلة كان طرفا لتلك السلسلة فتكون متناهية مع فرضها غير متناهية وإذا استلزم وجود شيء عدمه كان محالا فالتسلسل محال وههنا اعتراضات

الأول إن لفظ الجميع والمجموع والجملة إنما يطلق على المتناهي وهذا نزاع لفظي إذ المراد بالمجموع ههنا هو تلك الأمور بحيث لا يخرج عنها واحد منها كما نبه عليه بقوله ولا يخرج عنها شيء منها وهذا اعتبار معقول في الأمور المتناهية وغير المتناهية
الثاني إن الآحاد الممكنة المتسلسلة إلى غير النهاية إذا كانت متعاقبة لم يكن لها مجموع موجود في شيء من الأزمنة
وجوابه أن كلامنا في العلل المؤثرة وقد سبق في المقدمة وجوب اجتماعها مع المعلول
الثالث إن تلك الآحاد على تقدير اجتماعها في الوجود تعتبر تارة مع هيئة اجتماعية تصير بها شيئا واحدا وتعتبر أخرى بدون تلك الهيئة فإن أردت بجميع السلسلة المعنى الأول لم يكن موجودا ولا ممكن الوجود أيضا لأن الهيئة الوحدانية العارضة لها في العقل أمر اعتباري يمتنع وجوده في الخارج واستحالة جزء من المركب مستلزمة لاستحالة الكل وإن أردت به المعنى الثاني اخترنا أنه علة الجميع نفسه على معنى أنه يكفي في وجوده نفسه من غير حاجة إلى أمر خارج عنه فإن الثاني علة للأول والثالث علة للثاني وهكذا فلكل واحد من آحاد السلسلة علة فيها ولما لم يكن المجموع المأخوذ على هذا الوجه غير الأفراد لم يحتج إلى علة أخرى خارجة عن علل الأفراد ولا امتناع في تعليل الشيء بنفسه على هذا الوجه أعني أن يعلل كل واحد من أشياء غير متناهية بما قبله في الترتيب الطبيعي فلا تحتاج تلك الأشياء إلى علة خارجة عنها فتكون تلك الأشياء معللة بنفسها على معنى أنها كافية لوجودها بما فيها إنما الممتنع تعليل شيء واحد معين بنفسه

والجواب أن المراد هو المعنى الثاني كما أشار إليه بقوله أي بحيث لا يدخل فيها غيرها فيكون المجموع حينئذ عين الآحاد ولا شك أن هذه الآحاد ممكنات موجودة كما أن كل واحد منها موجود ممكن وكما أن الموجود الممكن محتاج إلى علة موجدة كافية في إيجاده كذلك الممكنات المتعددة الموجودة محتاجة إلى علة موجدة كافية في إيجادها بالضرورة وحيث كان لكل واحد من تلك السلسلة علة موجدة داخلة في السلسلة كانت العلة الموجدة لجميع الآحاد جميع تلك العلل الموجدة للآحاد وحينئذ نقول جميع تلك العلل الموجدة للآحاد التي هي علة موجدة لجميع الآحاد إما أن تكون عين السلسلة أو داخلة فيها أو خارجة عنها والأول محال لأن العلة الموجدة لشيء سواء كان ذلك الشيء واحدا معينا أو مركبا من آحاد متناهية أو غير متناهية يجب أن يتقدم بالوجود على ذلك الشيء ومن المستحيل تقدم المجموع على نفسه بالوجود والاشتباه إنما وقع بين تعليل كل واحد من السلسلة بآخر منها وبين تعليل مجموعها بمجموعتها وهما أمران متغايران
الأول هو المتنازع فيه الذي نحن بصدد إبطاله بطريق الاستدلال
والثاني مما ينبه على بطلانه فإنه باطل بديهة على أي وجه فرض أعني سواء فرض في تعليل المجموع بالمجموع تعليل الآحاد بالآحاد على سبيل الدور أو لا على سبيل الدور
الرابع أن العلة الموجدة للكل لا يجب أن تكون موجدة لكل واحد من أجزائه حتى يلزم من كون العلة الموجدة للسلسلة جزءا منها كون ذلك الجزء موجدا لنفسه فإن الواجب إذا أثر في ممكن حصل مجموعها وذلك المجموع ممكن لتوقفه على الممكن الذي هو جزؤه فلا بد له من موجد

ويمتنع أن يكون ذلك الموجد موجدا لكل جزء منه لامتناع كون الواجب أثرا لشيء والجواب أن الكلام في العلة الموجدة المستقلة بالتأثير والإيجاد ولا يمكن أن يكون بعض السلسلة المفروضة علة موجدة لها مستقلة بالتأثير على معنى أن لا يكون له شريك في التأثير في تلك السلسلة وإلا كان ذلك البعض مؤثرا في نفسه لأنه ممكن فلا بد له من علة مؤثرة ولا يمكن أن تكون تلك العلة المؤثرة غير ذلك البعض وإلا لم يكن ذلك البعض مستقلا بالتأثير في السلسلة بل كان له شريك فيه ولا يمكن أن يكون في السلسلة المفروضة بعض مستغن عن المؤثر كما في المركب من الواجب والممكن وبهذا تبين بطلان ما قد قيل من أنه يجوز أن يكون ما قبل المعلول الأخير علة للجميع وهو معلول لما قبله بمرتبة واحدة وهكذا لأنه لو كان ما قبل المعلول الأخير علة موجدة للسلسلة بأسرها مستقلة بالتأثير فيها حقيقة لكان علة لنفسه قطعا واعلم أن هذا الدليل إنما يجري في تسلسل الممكنات متصاعدة في العلل لا متنازلة في المعلولات كما لا يخفى على ذي فكرة
الوجه الثاني من وجوه إبطال التسلسل أنا نفرض من معلول ما بطريق التصاعد إلى غير النهاية جملة ومما قبله بمتناه إلى غير النهاية جملة أخرى هذا إذا كان التسلسل في جانب العلل وإذا كان في جانب المعلولات فرضنا من علة معينة بطريق التنازل إلى غير النهاية جملة ومما بعدها بمتناه إلى غير النهاية جملة أخرى فيحصل هناك جملتان غير متناهيتين إحداهما زائدة على الأخرى بعدد متناه ثم نطبق الجملتين إي إحديهما على الأخرى من ذلك المبدأ أي من ذلك الجانب الذي لكل واحدة منهما فيه مبدأ فالأول من أحديهما بالأول أي بإزاء الأول من الأخرى والثاني بالثاني وهلم جرا فإن كان بإزاء كل واحد من الجملة الزائدة واحد من الجملة الناقصة في عدة الآحاد كانت الناقصة كالزائدة أي مساوية لها في عدة الآحاد هذا

خلف وإلا أي وإن لم يكن بإزاء كل واحد من الزائدة واحد من الناقصة وجد في الزائدة جزء لا يوجد بإزائه في الناقصة شيء وعنده أي عند الجزء الذي لا يوجد بإزائه شيء من الناقصة تنقطع الناقصة بالضرورة فتكون الناقصة متناهية لانقطاعها والزائدة لا تزيد عليها إلا بمتناه كما صورناه والزائد على المتناهي بمتناه متناه بلا شبهة فيلزم انقطاعهما وتناهيهما في الجهة التي فرضناهما غير متناهيتين وغير منقطعتين فيها هذا خلف وهذا الدليل هو المسمى ببرهان التطبيق وهو العمدة في إبطال التسلسل لجريانه في الأمور المتعاقبة في الوجود كالحركات الفلكية وفي الأمور المجتمعة سواء كان بينها ترتب طبيعي كالعلل والمعلولات أو وضعي كالأبعاد أو لا يكون هناك ترتب أصلا كالنفوس الناطقة المفارقة وليس أيضا متوقفا على بيان كون العلة مع المعلول فيستدل به على تناهي هذه الأمور كلها وقد نقض هذا الدليل بمراتب الأعداد لأن الدليل قائم فيها مع عدم تناهيها وذلك لأنا نفرض جملتين من الأعداد
إحديهما تضعيف الواحد مرارا غير متناهية
والأخرى تضعيف الألف كذلك ثم تطبق إحديهما على الأخرى بأن نضع الأول من الزائدة بإزاء الأول من الناقصة ونسرد الكلام إلى آخره مع أن هاتين الجملتين غير متناهيتين بالضرورة
والجواب عن هذا النقض أن المعلومات بل جميع ما يستدل بالتطبيق

على بطلان التسلسل فيه قد ضبطها وجود فليس المذكور الذي هو المعلولات وأخواتها أمرا وهميا محضا حتى يكون انقطاعها في التطبيق بانقطاع الوهم وذهابها فيه باعتباره بخلاف مراتب الأعداد فإنها وهمية محضة فلا يكون ذهابها في التطبيق إلا باعتبار الوهم لكنه عاجز عن ملاحظة تلك الأمور الوهمية التي لا تتناهى فتنقطع تلك الأمور بانقطاع الوهم عن تطبيقها فلا يلزم محذور وتحقيقه أن الأعداد لكونها وهمية محضة ليس فيها جملتان في نفس الأمر تطبقان فنختار أنهما أي الجملتين المفروضتين في الأعداد تنقطعان في التطبيق بانقطاع الوهم عن التطبيق لعجزه وليس يلزم من انقطاعهما انقطاع ما لا يتناهى في نفس الأمر حتى يكون محالا إذ ليست الجملتان في نفس الأمر فلا يتصور أن يكون انقطاعهما في نفس الأمر أو نختار أنهما لا تنقطعان ولا يلزم من ذلك تساويهما في نفس الأمر لأن هذا التساوي فرع وجودهما في نفس الأمر بخلاف ما له وجود في نفس الأمر فإنه يلزم فيه أحد أمرين إما انقطاعه في نفس الأمر فيكون ما لا يتناهى في الواقع متناهيا فيه أو عدمه أي عدم انقطاعه في نفس الأمر فيلزم تساوي الجملتين الزائدة والناقصة وكلاهما محال لما عرفت وإنما قلنا قد ضبطها وجود ولم نقل قد اجتمعت في الوجود ليتناول كل ما له وجود إما معا سواء كان بينها ترتب أو لم يكن وإما على سبيل التعاقب أي بلا اجتماع في الوجود فإن ترتبهما أي ترتب هذين النوعين أعني المجتمعة في الوجود والمتعاقبة فيه ليس بمجرد اعتبار الوهم كما في مراتب الأعداد لأن الآحاد فيهما قد اتصفت بالوجود في نفس الأمر إما مجتمعة وإما متعاقبة
وقال الحكماء إنما يمتنع التسلسل في أمور لها وجود بالفعل وترتب إما وضعا وإما طبعا ليسقط عنهم ذلك النقض وتلخيص ما ذكروه أنه إذا كانت الآحاد موجودة معا بالفعل وكان بينها ترتب أيضا فإذا جعل الأول من إحدى الجملتين بإزاء الأول من الجملة الأخرى كان الثاني بإزاء الثاني قطعا وهكذا فيتم التطبيق بلا شبهة وإذا لم تكن موجودة في الخارج معا لم يتم لأن وقوع آحاد أحديهما بإزاء آحاد الأخرى ليس في الوجود الخارجي إذ

ليست مجتمعة بحسب الخارج في زمان أصلا وليس في الوجود الذهني أيضا لاستحالة وجودها مفصلة في الذهن دفعة ومن المعلوم أنه لا يتصور وقوع بعضها بإزاء بعض إلا إذا كانت موجودة تفصيلا معا إما في الخارج أو في الذهن وكذا لا يتم التطبيق إذا كانت الآحاد موجودة معا ولم يكن بينها ترتب بوجه ما إذا لا يلزم من كون الأول بإزاء الأول كون الثاني بإزاء الثاني والثالث بإزاء الثالث وهكذا لجواز أن يقع آحاد كثيرة من أحديهما بإزاء واحد من الأخرى اللهم إلا إذا لاحظ العقل كل واحد من الأولى واعتبره بإزاء واحد من الأخرى لكن العقل لا يقدر على استحضار ما لا نهاية له مفصلة لا دفعة ولا في زمان متناه حتى يتصور هناك تطبيق ويظهر الخلف بل ينقطع التطبيق بانقطاع الوهم والعقل واستوضح ما صورناه لك بتوهم التطبيق بين جبلين ممتدين على الاستواء وبين أعداد الحصى فإنك في الأول إذا طبقت طرف أحد الجبلين على طرف الآخر كان ذلك كافيا في وقوع كل جزء من أحدهما بإزاء جزء من الثاني وليس الحال في أعداد الحصى كذلك بل لا بد لك في التطبيق من اعتبار تفاصيلها
قالوا فقد ظهر أنه لا بد من هذين القيدين في تتميم البرهان التطبيقي فلا نقض بالأعداد أصلا
قال المصنف وأنت تعلم أن الدليل يعني برهان التطبيق عام لقيامه وجريانه في كل ما ضبطه وجود كما قررناه لك فتخصيص المدلول ببعض ذلك المضبوط أعني المقيد بالاجتماع في الوجود مع الترتب بوجه من الوجوه اعتراف بالتخلف أي بتخلف المدلول عن الدليل في البعض الآخر أعني الحوادث المتعاقبة والأمور المجتمعة بلا ترتب وأنه يوجب بطلان الدليل لكونه منقوضا
الوجه الثالث ما بين هذا المعلول المعين وكل علة من العلل

الواقعة في السلسلة التي فرضت غير متناهية متناه لأنه محصور بين حاصرين هما هذا المعلول وتلك العلة ومن المحال أن يكون ما لا يتناهى محصورا بين أمرين يحيطان به فيكون الكل أي كل السلسلة متناهيا أيضا لأنه أي الكل لا يزيد على ذلك أي على الواقع بين هذا المعلول وبين علة ما من تلك العلل إلا بواحد من جانب العلل فإن ما عدا الواحد في هذا الجانب يكون واقعا بينه وبين ذلك المعلول الأخير وإذا كان الواقع بينهما متناهيا ولا شك أن الكل لا يزيد في هذا الجانب على ذلك الواقع إلا بواحد فقط كان الكل الذي لا يزيد على المتناهي إلا بواحد متناهيا وليس ما ذكره من قبيل ما يقال أن ما بين أ و ب أقل من ذراع وما بين ب و ج أقل منها وما بين ج و د كذلك فيكون ما بين أ ود أقل من ذراع فإنه ظاهر الفساد بل هو من قبيل أن يقال ما بين أ وب أقل من ذراع وما بين أ و د كذلك فإذا أخذ د مع الواقع بينه وبين أ لم يزد على ما هو أقل من ذراع إلا بنقطة د وهذا حكم صحيح فإنه إذا كان ما بين هذا الجزء المعين من المسافة وكل جزء منها لا يزيد على فرسخ يكون المجموع أي مجموع المسافة لا يزيد على فرسخ إلا بجزء واحد ضرورة والمراد أن المجموع لو زاد عليه لم يزد إلا بجزء واحد وذلك لأن زيادتها عليه بالجزء الواحد إنما يكون إذا جعل الجزء الأول الذي هو المبدأ داخلا فيما حكم عليه بعدم الزيادة دون الجزء الأخير وفرض أيضا أن المسافة ساوت الفرسخ بما يلي الجزء الأخير وأن فرض المساواة مع إخراج المبدأ كان المجموع زائدا على الفرسخ بجزئين هما المبدأ والمنتهى وما لا يزيد على المتناهي إلا بواحد أو بعدد متناه فهو متناه بالضرورة واعترف من احتج به وسماه برهانا

عرشيا وهو صاحب الإشراق بأنه حدسي محتاج إلى حدس ليعلم به صحته وذلك لأن العلل لو كانت متناهية لظهر ظهورا تاما أن ما عدا واحدة معينة منها واقع بينها وبين المعلول الأخير وأما إذا فرضت غير متناهية كما فيما نحن بصدده فليس يظهر هذا المعنى فيه إذ لا يتصور هناك واحدة من العلل إلا وقبلها علة أخرى فكيف يتصور الانحصار لكن صاحب القوة الحدسية يعلم أن هناك واحدة من العلل وإن لم يتعين عندنا ولم يكن للعقل أن يشير إليها إشارة على التعيين وأن تلك الواحدة مع المعلول الأخير محيطة بما عداهما وهذا البرهان الحدسي يعم الأمور المتعددة الموجودة معا المترتبة سواء كان ترتبها من جانب العلل أو المعلولات ولا يجري في المقادير إلا إذا فرض عروض إلا عدد لأجزائها بأن يجعل أذرعا غير متناهية العدد بخلاف برهان التطبيق فإنه جار فيها بدون هذا الفرض
الوجه الرابع لو تسلسل العلل إلى غير النهاية لزم زيادة عدد المعلول على عدد العلل أي لزاد عدد المعلولية على عدد العلية والتالي باطل أما الشرطية فلأنا إذا فرضنا سلسلة من معلول أخير إلى غير النهاية كان كل ما هو علة فيها أي في تلك السلسلة فهو معلول لأن كل واحد مما

عدا المعلول الأخير فيها يكون علة لما بعده ومعلولا لما قبله من غير عكس كلي فإن الأخير معلول وليس بعلة لشيء من تلك السلسلة فقد زاد عدد المعلولية على عدد العلية ولو كانت العلل متناهية لم يلزم ذلك فإن مبدأ السلسلة علة وليس بمعلول ومنتهاها أعني المعلول الأخير معلول وليس بعلة فيتساوى عدد العلية والمعلولية وأما الاستثنائية وهي بطلان التالي فلأن العلة والمعلول أي العلية والمعلولية متضايفان تضايفا حقيقيا ومن لوازمها التكافؤ في الوجود أي إذا وجد أحد المتضايفين الحقيقيين وجد الآخر قطعا فلا بد أن يوجد بإزاء كل واحد من أحدهما واحد من الآخر فيكونان متساويين في العدد ضرورة وإن لم يجب تساوي العدد في المتضايفين المشهورين كأب واحد له أبناء كثيرة لكن له بإزاء كل بنوة أبوة وهذا الوجه جار في تسلسل المتضايفات فيقال لو تسلسلت المعلولات إلى غير النهاية لزاد عدد العلية على عدد المعلولية لأن كل ما هو معلول في هذه السلسلة فهو علة من غير عكس فإن العلة الأولى ليست معلولة مع كونها علة ولو كانت المعلولات متناهية لكان المعلول الأخير معلولا ولم يكن علة فيتساوى عدد العلية والمعلولية كما هو حقهما وبالجملة فإن التسلسل في المتضايفات يستلزم كون إحدى الإضافتين أزيد عددا من الأخرى وهو باطل
الوجه الخامس إنا سنبين في الإلهيات انتهاء الكل أي جميع الممكنات الموجودة إلى الواجب لذاته وعنده تنقطع السلسلة لاستحالة أن يكون الواجب لذاته معلولا لغيره فهو طرف للسلسلة وهذا الوجه يختص بالتسلسل في العلل دون المعلولات وإنما يتم إذا أثبتنا الواجب الوجود بطريق لا يحتاج فيه إلى إبطال التسلسل وإلا لزم الدور لأن بطلان التسلسل بهذا الوجه موقوف على ثبوت الواجب فلو أثبت الواجب ببطلان التسلسل كان كل منهما موقوفا على الآخر

المقصد التاسع
الفرق بين جزء العلة المؤثرة وشرطها في التأثير هو أن الشرط يتوقف

عليه تأثير المؤثر لا ذاته كيبوسة الحطب فإنها شرط للإحراق إذ النار لا تؤثر في الحطب بالإحراق إلا بعد أن يكون يابسا والجزء ما يتوقف عليه ذاته أي ذات المؤثر فيتوقف أيضا عليه تأثيره لكن لا ابتداء بل بواسطة توقفه على ذاته المتوقف على جزئه وعدم المانع ليس مما يتوقف عليه التأثير حتى يشارك الشرط في ذلك إذ قد علمت أنه أي عدم المانع كاشف عن شرط وجودي يتوقف عليه تأثير المؤثر كزوال الغيم الكاشف عن ظهور الشمس الذي هو شرطها في تجفيف الثياب وعده أي عد عدم المانع من جملة الشروط التي يتوقف عليها التأثير نوع من التجوز لما عرفت من أن العدم لا مدخل له أصلا في الوجود حتى يعد شرطا حقيقة بل هو كاشف عما هو شرط فأطلق اسمه عليه ونسب حكمه إليه

المقصد العاشر
في بيان العلة والمعلول على اصطلاح مثبتي الأحوال وبيان أحكامهما عندهم
قال الآمدي إبطال الحال يغني عن النظر فيما يتعلق به ويتفرع عليه إلا أنه ربما دعت حاجة بعض الناس إلى معرفة ذلك عند ظنه صحة القول بالأحوال فلذلك أوردناه تكميلا للإفادة وفيه أي في هذا المقصد مسائل ثمان
الأولى في تعريفهما وأقرب ما قيل فيه قول القاضي الباقلاني العلة صفة توجب لمحلها حكما فيخرج بقوله صفة الجواهر فإنها لا تكون عللا للأحوال ويتناول الصفة القديمة كعلم الله تعالى وقدرته فإنهما علتان

لعالميته وقادريته والمحدثة كعلم الواحد منا وقدرته وسواده وبياضه ومعنى الإيجاب ما يصحح قولنا وجد فوجد أي ثبت الأمر الذي هو العلة فثبت الأمر الذي هو المعلول والمراد لزوم المعلول للعلة لزوما عقليا مصححا لترتبه بالفاء عليها دون العكس فإن مثبتي الأحوال يقولون بالمعاني الموجبة للأحكام في محالها وهي عندهم علل تلك الأحكام وإيجابها إياها لا يتوقف على شرط كما سيأتي ونفاة الأحوال من الأشاعرة لا يقولون بالعلة والمعلول أصلا فإن الموجودات بأسرها عندهم مستندة إلى الله تعالى ابتداء بلا وجوب ومثبتو الأحوال منهم يوافقونهم في هذا وقوله لمحلها يشعر بأن حكم الصفة لا يتعدى المحل أي محل تلك الصفة فلا يوجب العلم والقدرة والإرادة للمعلول والمقدور والمراد حكما لأنها غير قائمة بها كيف ولو أوجبت لها أحكاما لكان المعدوم الممتنع مثلا إذا تعلق به العلم متصفا بحكم ثبوتي وهو محال وعلى هذا التعريف الذي ذكر للعلة فالمعلول هو الحكم الذي توجبه الصفة في محلها وأما نحو قولهم العلة ما توجب معلولها عقيبها بالاتصال إذ لم يمنع منه مانع أو العلة ما كان المعتل به معللا وهو أي كون المعتل معللا به قوله أي قول القائل كذا لأجل كذا كقولنا كانت العالمية لأجل العلم فدوري أما الأول فلأن المعلول مشتق من العلة إذ معناه ما له علة فتتوقف معرفته على معرفتها فلزم الدور ويتجه عليه أيضا أن العلة إن أوجبت معلولها في أول زمان وجودها فلا يصح اعتبار التعقيب في تعريفها وإن لم توجبه إلا في الوقت الثاني من وجودها لزم منه أن يقوم العلم بشخص مثلا وهو غير عالم بعد وأيضا اعتبار عدم المانع باطل فإن إيجاب العلم للعالمية لا يتصور فيه تخلف وممانعة

وسيأتي أن إيجاب العلة لا يكون مشروطا بشرط اتفاقا وأما الثاني فلأنه عرف العلة بالمعتل والمعلل ومعرفة كل منهما موقوفة على معرفة العلة فالدور لازم وفيه أيضا فساد آخر وهو رد العلية إلى القول أعني يقال كان كذا لأجل كذا ولا شك أنه ليس معنى العلية وقولهم العلية ما تغير حكم محلها أي تنقله من حال إلى حال أو العلة هي التي يتجدد بها أي بتجددها الحكم يخرج الصفة القديمة إذ لا تغير ولا تجدد فيها مع أنها من قبيل العلل فإن علمه تعالى علة موجبة لعالميته عندهم ويخرج أيضا عن الأول الصفات الحادثة في أول زمان حدوث محلها كسواد القار مثلا فإنه يوجب لمحله حكما هو الأسودية وليس فيه تغيير حكم المحل إذ لا حكم قبل ذلك لكونه معدوما ولك أن تأخذ من كل واحد من هذه التعريفات المزيفة للعلة تعريفا للمعلول فنقول المعلول ما أوجبته العلة عقيبها بالاتصال إذا لم يمنع مانع أو المعتل المعلل بالعلة أو ما كان من الأحكام متغيرا بالعلة أو ما يتجدد من الأحكام بالعلة
المسألة الثانية قال أكثر أصحابنا حكم العلة يتعدى محلها أي تكون العلة خارجة عن المحل الذي أوجبت له الحكم وأنكره الأستاذ أبو إسحق ولم يشترط قيام العلة بمحل حكمها تفريعا على القول بالحال وإن أنكره أي الأستاذ الحال وكلامه ههنا على سبيل التنزل وتسليم ثبوت الحال وأنكر أيضا البصريون من المعتزلة عدم تعدي حكم العلة عن محلها وجوزوا أن لا تكون العلة قائمة بمحل حكمها حيث قالوا الله مريد بإرادة حادثة لحدوث المرادات قائمة بذاتها لا بذاته تعالى لاستحالة قيام الحوادث ولا بمحل آخر لاستحالة قيام صفة الشيء بغيره وقالت المعتزلة بأسرهم توابع الحياة كالعلم والقدرة والإرادة وسائر ما يشترط في قيامه بمحله الحياة إذا قامت بجزء من الحي أوجبت للمجموع حكمها فكان المجموع عالما قادرا إذا قام العلم والقدرة بجزء واحد من أجزائه بخلاف

غيرهما أي غير توابع الحياة كالألوان عند من يثبت لها أحكاما فإن حكمها لا يتعدى محلها بل يختص به واختلفوا في الحياة هل يتعدى حكمها محلها أو لا فألحقها الحذاق منهم بالقسم الثاني وقالوا إذا قام الحياة بجزء من شيء كان الحي بها هو ذلك الجزء لا جملة ذلك الشيء فإنها أي الحياة ليست من توابع الحياة أي ليس قيامها بمحل مشروطا بقيام الحياة بذلك المحل وإلا لزم التسلسل فهي كالألوان في أن حكمها لا يتعدى محلها احتج أصحابنا على أن حكم العلة لا يجوز أن يتعدى محلها بأن صفة العلم لو لم تقم بمحل الحكم الذي هو العالمية لقامت إما بنفسها ويبطله أنها عرض والعرض لا يتصور قيامه بنفسه ويبطله أيضا أن نسبته أي نسبة العلم على تقدير قيامه بنفسه إلى جميع المحال سواء وحينئذ إما أن يوجب العالمية في جميع الأشخاص وهو ظاهر الاستحالة أو يوجبها في بعض دون بعض فيلزم الترجيح بلا مرجح أو بمحل آخر غير محل الحكم فيكون زيد عالما بعلم قائم بعمرو وهو باطل بالضرورة فإن قيل العلم وكثير من العلل وإن استحال قيامها بنفسها لكن ذلك غير لازم في جميع العلل لجواز أن يقوم بعضها بنفسه إذ وجود الجوهر عندكم علة لرؤيته وكونه مرئيا مع قيامه بنفسه لأن وجود الجوهر عندكم عين ذاته سلمنا امتناع قيام العلة بنفسها مطلقا لكن ليس يلزم منه امتناع التعدي مطلقا وإنما نجوزه أي تعدي الحكم إذا كان محل العلة جزءا لمحل الحكم كما صورناه في توابع الحياة وما ذكرتم من كون زيد عالما بعلم قائم بعمرو ليس كذلك فإن عمروا ليس جزءا لزيد حتى يتعدى الحكم منه إليه وأيضا فإنه أي ما ذكرتم تمثيل أي بيان للحكم الذي هو امتناع التعدي في مثال جزئي هو العلم فلا يفيد الحكم الكلي وتوضيح ذلك ما تمسك به الأستاد وهو أنكم جوزتم كون الباري فاعلا

والفعل ليس قائما به وأيضا العلم والقدرة يوجبان لمتعلقهما كونه معلوما مقدورا مع عدم قيامهما به وكذلك نحوه أي نحو ما ذكر فإن الإرادة والذكر يوجبان كون متعلقهما مرادا مذكورا وكذا الأمر علة لكون الفعل واجبا والنهي علة لكونه حراما ولا قيام للعلة بمحل الحكم في هذه الأمثلة
قلنا من قال منا بكون وجود الجوهر علة للرؤية يلتزم زيادته على الذات لأنه مشترك بين الجوهر والعرض ومن قال إن وجوده عين ذاته لم يجعله علة لرؤيته فلا إشكال وقيام العلة بجزء لو أوجب الحكم للكل كما ذهبتم إليه لزم كون الكل عالما جاهلا معا إذا قام العلم بجزء منه وقام الجهل بآخر لا يقال هذا أي قيام العلم بجزء مع قيام الجهل بجزء آخر تقدير محال لتضادهما أي لتضاد العلم والجهل باعتبار تضاد حكميهما أعني العالمية والجاهلية فإذا قام العلم بجزء لم يجز قيام الجهل بجزء آخر وإلا كان الكل عالما وجاهلا معا لأنا نقول إنه يعني قيام العلم بجزء والجهل بآخر جائز لذاته فإنا إذا قطعنا النظر عن تعدي حكمي العلم والجهل من الجزء إلى الكل كان قيام كل منهما بجزء منه أمرا ممكنا لا امتناع له في ذاته قطعا وامتناعه لتضاد حكميهما على ما ذكرتم إنما هو باعتبار تعديتهما إلى غير محله أي تعدية حكميهما إلى غير محل كل واحد منهما فيكون اعتبار التعدية وثبوتها هو المحال لأنه المستلزم لاجتماع المتنافيين دون ذلك القيام الممكن لذاته وأيضا ما ذكرتموه إنما يتأتى في العلم والجهل لا في جميع العلل التي جوزتم تعدية أحكامها فقد تقوم القدرة على تحريك جسم بيد من شخص والعجز عنه بأخرى فيجب اتصاف الجملة بهما منه قياما معلوما بالضرورة فلو جاز تعدي الحكم إلى الكل لكان ذلك الشخص قادرا على تحريكه وعاجزا عنه معا وليس يمكن أن يقال هذا تقدير محال لأنه واقع بلا ريبة إلا أن هذا الجواب إنما ينتهض على القائلين بأن العجز معنى موجود مضاد للقدرة وقولهم إن المثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية مدفوع بأن امتناع تعدي الحكم عن محل الصفة ضروري والتمثيل للتوضيح ولم يذكره المصنف لأنه مر مثله في بحث الوجود وشرع في جواب

التي ذكرها الأستاذ بقوله وأما الفعل فلا يوجب لمحله حكما ثبوتيا لأن الفاعلية صفة اعتبارية ولا العلم ونحوه يوجب لمتعلقه حكما وإلا كان للمعدوم الممتنع صفة ثبوتية إذا تعلق العلم به كما أشرنا إليه ومن الظاهر المكشوف أن المعلوم قبل تعلق العلم به كهو بعد تعلقه به لم يتغير حاله فالمعلومية والمذكورية والمرادية وأمثالها صفات اعتبارية
المسألة الثالثة العلة وجودية باتفاقهم لكن اختلفت طرقهم في بيانه أي في بيان كونها وجودية فمنهم من ادعى الضرورة فإن الكلام في الحكم الثبوتي العدم المحض والنفي الصرف لا يكون موجبا له قطعا بل لا بد أن يكون موجب الحكم الثبوتي أمرا وجوديا وهذا هو الطريق المعول عليه ومنهم من احتج عليه بوجوه
الأول لو جاز العالمية بعلم معدوم لزم الجاهلية بجهل معدوم إذ لا مزية لأحدهما على الآخر فإذا عدما أي العلم والجهل عن محل كان ذلك المحل عالما جاهلا معا
قلنا النزاع في ثبوت الصفة العدمية لا في سلب الصفة فإنا ندعي أنه يجوز أن يتصف محل بصفة عدمية ويكون ذلك موجبا لحكم ثبوتي في ذلك المحل لا أنه يجوز أن تسلب صفة عن محل ويكون ذلك السلب موجبا له حكم تلك الصفة فإنه ظاهر البطلان وما ذكرتموه من هذا القبيل مع أنه غير تام في نفسه وإليه أشار بقوله وأيضا فلا نسلم اجتماع العدمين إذ عدم العلم جهل وعدم الجهل علم وبينهما أي بين العلم والجهل تضاد وتناف

فإن قلت نحن نقول لو جاز أن تكون العالمية معللة بعلم عدمي لجاز أن تكون الجاهلية معللة بجهل عدمي فإذا اجتمع هذان العدميان في محل كان عالما جاهلا بشيء واحد من جهة واحدة
قلت لا نسلم أنه إذا كان مسمى العلم عدميا وموجبا لكون محله عالما كان مسمى الجهل أيضا عدميا موجبا لكون محله جاهلا سلمناه لكن لا نسلم إمكان اجتماع هذيه العدميين مع ما بينهما من التقابل ولا سبيل إلى الدلالة على هذا الإمكان أصلا
الوجه الثاني شرط العلة قيامها بالمحل الذي يوجب له الحكم ولا يتصور في العدم قيامه بمحل حتى يوجب له حكما ثبوتيا
قلنا إن أردت القيام أي قيام الأمر الذي هو العلة بالمحل وجوده له مثل وجود الأعراض الموجودة بمحالها ففيه النزاع لأن معنى كلامك حينئد هو أن العلة يجب أن تكون صفة موجودة قائمة بمحل الحكم أو اتصافه به يعني وإن أردت بالقيام اتصاف المحل بالأمر الذي هو العلة فقد يتصف المحل الموجود بالعدمي كاتصاف زيد بالعمى فجاز أن تكون العلة عدمية قائمة بمحلها بهذا المعنى
الوجه الثالث العلة موجبة للحكم والإيجاب صفة ثبوتية لأن نقيضه هو اللاإيجاب عدمي لصدقه على المعدومات فإذن لا بد أن تكون العلة موجودة ليمكن اتصافها بالإيجاب الوجودي
قلنا قد عرفت ما فيه وهو أن النقيضين يجوز ارتفاعهما بحسب الوجود الخارجي دون الصدق
فإن قيل على سبيل المعارضة إن العلم يوجب لمحله كونه عالما باتفاق مثبتي الأحوال فنقول الموجب للعالمية إما وجود العلم فيكون كل وجود كذلك لاتحاد مسمى الوجود في الكل هذا خلف أو العلم مع الوجود فتتركب العلة وهو باطل اتفاقا من القائلين بالحال أو العلم أي كونه

عالما وأنه حال فليس بموجود فثبت أن العلة قد لا تكون موجودة قلنا الموجب للعالمية هو العلم الذي هو موجود وفرق بينه وبين العلم مع الوجود وبينه وبين كونه علما
المسألة الرابعة العلة العقلية التي كلامنا فيها دون العلة الشرعية مطردة يستلزم وجودها وجود حكمها أي كلما وجدت العلة وجد الحكم على سبيل اللزوم وامتناع التخلف وهذا أعني وجوب الإطراد مما لا خلاف فيه أصلا بين مثبتي الأحوال ومنعكسه يستلزم عدمها عدم حكمها أي كلما انتفت العلة انتفى الحكم ولا خلاف فيه أي في الانعكاس ووجوبه في الأحوال الحادثة فإنه مهما انتفى العلم والقدرة عن واحد منا انتفى عنه العالمية والقادرية اتفاقا من مثبتي الأحوال وأوجبه أي الانعكاس الأصحاب في الأحوال القديمة أيضا فلم يجوزوا عالمية الباري وقادريته بلا علم وقدرة ومنعه المعتزلة وقالوا لله تعالى عالمية وقادرية بلا علم وقدرة ويلزمهم أحد أمرين إما تعليل العالمية بغير العلم كالقدرة مثلا وهو ضروري البطلان إذ نعلم قطعا أن غير العلم من الصفات سواء كانت مشروطة بالحياة أو لا توجب كون محلها عالما أو ثبوتها من غير علة وهو أيضا باطل لأنه إذا جاز ثبوت العالمية بلا علم ولا علة مغايرة له جاز أن تكون العالمية الثابتة مع وجود العلم غير معللة به كما كانت ثابتة مع عدمه وهذا خروج عن المعقول ومخالف لما هو مسلم عند الخصم وإليه أشار بقوله فجاز في المقارنة في العلم أي فجاز الثبوت بلا علة في العالمية المقارنة لوجود العلم فلا تكون معللة به وعلى هذا فالأظهر أن يقال للعلم إلا أنه قصد المبالغة في المقارنة ولما كان

اللازم من عدم الانعكاس جواز أن يكون الحكم المقارن للعلة غير ثابت بها
قال الأصحاب كل علة لا تكون منعكسة فهي غير مطردة أيضا وأما قوله وسيأتي تمامه في بحث الصفات فإشارة إلى ما ذهبوا إليه من أن الأحكام القديمة واجبة والواجب لا يعلل سواء وجدت العلة أو لم توجد وإلى جوابه الذي فصله هناك واعلم أن كل علة مطردة منعكسة وليس كل مطرد منعكس علة كالمعلول والمتضايفين وذلك لأن الإطراد والانعكاس شرط العلة وليس يلزم من وجود الشرط وجود المشروط لا يقال إذا كان المعلول مطردا منعكسا كالعلة كان بينهما ملازمة من الطرفين فيما إذا تمايز العلة عن غيرها وكيف يعرف أن العلم مثلا علة للعالمية دون العكس مع تلازمهما ثبوتا وانتفاء لأنا نقول تمتاز العلة عن غيرها بضرورة العقل فإنا نعلم علما ضروريا أن العلم يوجب كون محله عالما إيجابا يصدق معه وجد العلم فأوجب كون محله عالما ولا يصدق عكسه وهو أن يقال ثبت كون المحل عالما فأوجب له العلم ونعلم بالضرورة أيضا أو بدليل آخر يرشدنا إلى تمييز العلة عما يشاركها في الإطراد والانعكاس
المسألة الخامسة إيجاب العلة لمعلولها لا يكون مشروطا بشرط اتفاقا من القائلين بثبوت الحال وهذا حكم ضروري فإنه لا يتصور علم بلا عالمية يعني أنا إذا علمنا قيام العلم بمحل علمنا كونه عالما بلا توقف على العمل بشيء آخر أصلا وهو المراد بقوله سواء علمنا الشرط أو وجوده أم لا فلو كان إيجاب العلم للعالمية مشروطا بشرط لم يمكن لنا الجزم بالعالمية إلا بعد تصور ذلك الشرط والتصديق بوجوده فإن قيل اقتضاء العلم العالمية

مشروط بقيام العلم بالمحل ومشروط أيضا بالحياة وانتفاء أضداده أي أضداد العلم قلنا هذه شروط وجوده فإن وجود العلم في نفسه مشروط بهذه الأمور والكلام في شروط تأثيره وإيجابه للعالمية والفرق بين شرط وجود العلة وبين شرط اقتضائها لمعلولها بعد وجودها مما لا سترة به
المسألة السادسة لا توجب العلة الواحدة حكمين مختلفين وقد اختلف فيه فجوز بعضهم هذا الإيجاب ومنعه آخرون والمختار هو التفصيل الذي أشار إليه بقوله واعلم أنه إن جاز الانفكاك بين الحكمين إما من جانب واحد أو من الجانبين كالعالمية بالسواد والعالمية بالبياض فإنهما حكمان يجوز انفكاك كل منهما عن الآخر امتنع تعليلهما بعلة واحدة وإلا لزم عدم الانفكاك أو عدم الإطراد وذلك لأنه إذا وجد تلك العلة فإن وجب ثبوت كل من الحكمين كانا متلازمين والمقدر خلافه وإن لم يجب بل جاز انتفاء أحدهما مع ثبوت تلك العلة كانت تلك العلة غير مطردة
قيل ههنا إشكالان
الأول لله علم واحد وعالميته متعددة بحسب تعدد المعلومات إذ كونه عالما بالسواد غير كونه عالما بالبياض ولهذا لا يسد أحدهما مسد الآخر فهذه العالميات التي لا تتناهى معللة بعلة واحدة هي ذلك العلم الواحد الثابت له تعالى قلنا التزمه القاضي وقال عالميته تعالى متعددة مختلفة وهي مع ذلك معللة بعلة واحدة ورده الآمدي بأن القاضي لما اعترف بأن كون الرب عالما بسواد محل معين مخالف لكونه عالما ببياضه مع تعذر الاجتماع بينهما لزمه من تعليلهما بعلة واحدة إما اجتماعهما معا وإما عدم اطراد تلك العلة وأثبت أبو سهل الصعلوكي من الأشاعرة لله تعالى علوما غير متناهية كل واحد منها علة لعالمية واحدة ورد بأنه مخالف لمذهب

الشيخ والأئمة ولما سيأتي من البرهان على امتناع تعدد علمه تعالى وأما نحن فنمنع تعدد العالمية وإنما التعدد في تعلق العلم الواحد أو تعلق العالمية الواحدة بحسب تعدد المعلومات ولا محذور في تعدد التعلقات في حقه تعالى وأما في الشاهد فالعلم متعدد بتعدد المعلومات والعالمية متعددة بتعدد العلوم
الإشكال الثاني الحياة توجب صحة العالمية وصحة القادرية فقد أوجبت علة واحدة حكمين مختلفين
قلنا الحياة شرط لوجود المصحح فهي شرط لوجود العلة لا علة موجبة للصحتين هذا إن جاز الانفكاك بين الحكمين وأما إن امتنع الانفكاك بينهما كالعالمية بالسواد والعالمية بالعلم بها أي بالعالمية الأولى فإنهما متلازمتان لا يجوز الانفكاك في شيء من الجانبين فقال إمام الحرمين يجوز الأمران فلا يحكم فيها أي في الأحكام المتلازمة باتحاد العلة ولا بتعددها إلا بدلالة السمع مع أحدهما
وقال الآمدي الحق التفصيل وهو أنه يجوز الأمران في الشاهد إذا كانت الأحكام المتلازمة من جنس واحد كالعالميات ويمتنع ذلك في الأحكام المختلفة الأجناس في الشاهد بل يجب تعليلها بعلل متعددة وأما في الغائب فإن كان أحكامه من أجناس مختلفة وجب تعليلها بعلل متعددة كما في الشاهد وإن كانت من جنس واحد فقد سبق أن عالميته تعالى واحدة معللة بعلة واحدة وإنما التعدد والاختلاف في التعلق والمتعلق فقط وكذا الحال في القادرية ونحوها
المسألة السابعة لا يثبت حكم واحد بعلتين عكس الأول وهو أنه

لا يثبت حكمان بعلة واحدة وإثبات الحكم الواحد بالعلل المتعددة إما على الجمع أو البدل أو التركيب والكل باطل أما على الجمع فلأنه استغنى بكل على عن كل كما مر في أن الواحد بالشخص لا يعلل بعلتين ولأن العلتين إما مثلان أو ضدان فلا يجتمعان في محل واحد فلا تكونان موجبتين لحكم واحد فيه أو مختلفتان فيجوز افتراقهما فإذا ثبت إحدى العلتين دون الأخرى فإن انتفى الحكم فلا أطراد للعلة الثانية وإن ثبت فلا انعكاس للعلة المتنافية وقد يمتنع جواز الافتراق بين المختلفتين
قال الآمدي والمختلفان لا بد أن يختلف أحكامهما فإنا نعلم بالضرورة أن قيام العلم بذات يوجب كونها عالمة لا قادرة وقيام القدرة بها يوجب عكس ذلك وأما عن البدل فلضرورة أنه لا يجوز تعليل العالمية بالعلم مرة وبالقدرة أخرى وهذا التمثيل تنبيه على حكم كلي ضروري فإن قيل العالمية معللة على سبيل البدل بعلم الله وبعلمنا وهي حكم واحد
قلنا لا مخالفة بين العلمين إلا بعارض كالقدم والحدوث والعلة هو العلم المتحد فيهما مع قطع النظر عن العوارض المختلفة وإن سلم اختلاف العلمين في الحقيقة منع اتحاد العالميتين فيهما وأما على سبيل التركيب فلأن حقيقتهما حال الانفراد والاجتماع واحدة فإذا لم تؤثرا في الحكم منفردتين كما هو المفروض لم تؤثرا فيه مجتمعتين وذلك لأن اقتضاء العلة للحكم إنما هو لذاتها لا باعتبار أمر خارج عنها ولا شك أن اجتماعها مع غيرها لا يخرجها عن مقتضى ذاتها وفيه منع ظاهر لأن المقتضى حينئذ هو المجموع لا كل واحدة فلا يلزم خروج شيء منهما عن مقتضاه بحسب ذاته ولأن الصفات المختلفة لها أحكام مختلفة ضرورة كما نبهنا عليه نقلا

عن الآمدي وإذا علل حكم واحد بمجموع وصفين لم يكن هناك اختلاف في أحكامهما
المسألة الثامنة في الفرق بين العلة والشرط على رأي مثبتي الأحوال وهو من وجوه تسعة
الأول العلة مطردة فحيثما وجدت وجد الحكم قطعا والشرط قد لا يطرد فيوجد ولا يوجد معه المشروط كالحياة للعلم
الثاني العلة وجودية كما مر والشرط قد يكون عدميا كانتفاء الضد وهو مختار القاضي فإنه قال لا يمتنع أن يكون الشرط عدميا كانتفاء أضداد العلم بالنسبة إلى وجوده إذ لا معنى للشرط إلا ما يتوقف المشروط في وجوده عليه لا ما يؤثر في وجود المشروط حتى يمتنع أن يكون عدميا وذهب بعضهم إلى أن الشرط لا بد أن يكون وجوديا
الثالث أنه قد يكون الشرط متعددا بأن يكون لمشروط واحد شروط يلزم انتفاؤه بانتفاء كل واحد منها كالحياة وانتفاء الأضداد بالنسبة إلى وجود العلم أو مركبا بأن يكون عدة أمور شرطا واحدا للمشروط
الرابع الشرط قد يكون محل الحكم والعلة صفته يعني أن محل الحكم لا يجوز أن يكون علة للحكم لأنه لا يكون مؤثرا بل المؤثر فيه صفة ذلك المحل التي هي العلة كما عرفت لكن محل الحكم يكون شرطا للحكم من حيث يتوقف وجوده عليه
الخامس العلة لا تتعاكس أي لا تكون العلة معلولة لمعلولها بخلاف الشرط فإنه يجوز أن يكون مشروطا لمشروطه إذ قد يشترط وجود كل من الأمرين بالآخر قال به القاضي والمحققون من الأشاعرة ومنعه بعض

أصحابنا والحق جوازه إن لم يوجب تقدم الشرط على المشروط بل اكتفى بمجرد امتناع وجود المشروط بدون الشرط كقيام كل من اللبنتين المتساندتين بالأخرى فإن قيام كل منهما ممتنع بدون قيام الأخرى ومثل ذلك يسمى دور معية ولا استحالة فيه إنما المستحيل دور التقدم
السادس الشرط قد لا يبقى ويبقى المشروط وذلك إذا توقف المشروط عليه في ابتداء وجوده دون دوامه كتعلق القدرة على وجه التأثير فإنه شرط للحادث ابتداء لا دواما فلذكل يبقى الحادث مع انقطاع ذلك التعلق عنه وأما العلة فهي ملازمة للمعلول أبدا إذ لا تحقق للعالمية بدون العلم في الحالين وكذا كل حكم بالقياس إلى علته
السابع الصفة التي تكون علة كالعلم مثلا لها شرط كالمحل والحياة وليس لها علة فإن العلم من قبيل الذوات وهي لا تعلل بخلاف الأحكام فالعلة لا تكون معلولة في نفسها والشرط قد يكون معلولا فإن كون الحي حيا شرط لكونه عالما مع أن كونه حيا معلول للحياة
الثامن الحكم الوجب لم يتفق على عدم شرطه بل اتفق على أنه لا يوجد بدون شرط كالعالمية لله فإنها مشروطة بكونه حيا وقد اختلف في كون الحكم الواجب معللا بعلة
التاسع العلة مصححة لمعلولها اتفاقا وفي كون الشرط مصححا لمشروطه خلاف قال به القاضي كالحياة للعلم فإنه ذهب إلى أن الحياة وإن لم تكن علة للعلم بل شرطا له لكنها علة في تصحيحه ومؤثرة في صحته وموجبة له ومنعه المحققون لجواز توقفه أي توقف العلم في صحته على شروط أخر كانتفاء أضداده ووجود محله وحينئذ فلا يمكن أن تكون الحياة مستقلة بالتصحيح ولما كانت هذه المباحث مع ركاكتها في أنفسها مبنية على أصل فاسد أعرضنا عن تفاصيلها والله تعالى الموفق والمرشد

الموقف الثالث في الأعراض وفيه مقدمة ومراصد خمسة
المرصد الأول في أبحاثه الكلية
المرصد الثاني في الكم المزصد الثالث في الكيفيات
المرصد الرابع في النسب
المرصد الخامس في الإضافة
المقدمة
في تقسيم الصفات التي هي أعم من الأعراض وقد تؤخذ في تعريفها الصفة الثبوتية احترز بهذا القيد عن الصفات السلبية إذ لا يجري فيها التقسيم المذكور عندنا يعني الأشاعرة تنقسم إلى قسمين نفسية وهي التي تدل على الذات دون معنى زائد عليها ككونها جوهرا أو موجودا أو ذاتا أو شيئا وقد يقال هي ما لا يحتاج وصف الذات به إلى تعقل أمر زائد عليها ومآل العبارتين واحد ومعنوية وهي التي تدل على معنى زائد على الذات كالتحيز وهو الحصول في المكان ولا شك أنه صفة زائدة على ذات الجوهر والحدوث إذ معناه كون وجوده مسبوقا بالعدم وهو أيضا معنى زائد على ذات الحادث وقبول الأعراض فإن كونه قابلا لغيره إنما يعقل بالقياس إلى ذلك الغير وقد يقال بعبارة أخرى هي ما يحتاج وصف الذات به إلى تعقل أمر زائد عليها وما ذكرناه من تعريفي الصفة النفسية والمعنوية إنما هو على رأي نفاة الأحوال منا وهم الأكثرون
وقال بعض من أصحابنا كالقاضي وأتباعه بناء على الحال الصفة النفسية ما لا يصح توهم ارتفاعه عن الذات مع بقائها كالأمثلة المذكورة فإن كون الجوهر جوهرا وذاتا وشيئا ومتحيزا وحادثا وقابلا للأعراض أحوال زائدة على ذات الجوهر عندهم ولا يمكن تصور انتفائها مع بقاء ذات الجوهر

والمعنوية تقابلها فهي ما يصح توهم ارتفاعه عن الذات مع بقائها وهؤلاء قد قسموا الصفة المعنوية إلى معللة كالعالمية والقادرية ونحوهما وإلى غير معللة كالعلم والقدرة وشبههما ومن أنكر الأحوال منا أنكر الصفات المعللة وقال لا معنى لكونه عالما قادرا سوى قيام العلم والقدرة بذاته وأما عند المعتزلة فأربعة أقسام أي الصفة الثبوتية تنقسم عندهم إلى أقسام أربعة
الأول الصفة النفسية فقال الجبائي وأتباعه منهم هي أخص وصف النفس وهي التي بها يقع التماثل بين المتماثلين والتخالف بين المتخالفين كالسوادية والبياضية ولم يجوزوا اجتماع صفتي النفس في ذات واحدة ولم يجعلوا اللونية مثلا صفة نفسية للسواد والبياض
وقال الأكثرون من المعتزلة الصفة النفسية هي الصفة اللازمة للذات فجوزوه أي جوزوا بناء على ذلك اجتماع صفتي نفس في ذات واحدة لأن الصفات اللازمة لشيء واحد متعددة ككون السواد سوادا ولونا وشيئا وعرضا ويدخل في ذلك كون الرب تعالى عالما وقادرا فإنه لازم لذاته واتفقوا وفي نسخة المصنف وأثبتوا أنها أي الصفة النفسية يشترك فيها الموجود والمعدوم بمعنى أنها تكون ثابتة للشيء في حالتي وجوده وعدمه
القسم الثاني الصفة المعنوية فقال بعضهم هي الصفة المعللة يعني زائدا على ذات الموصوف ككون الواحد منا عالما قادرا وقيل الصفة المعنوية هي الصفة الجائزة أي غير اللازمة الثبوت لموصوفها
القسم الثالث الصفة الحاصلة بالفاعل وهي عندهم الحدوث وليست هذه الصفة أعني الحدوث صفة نفسية إذ لا تثبت حال العدم مع أن المعدوم الممكن عندهم متصف بكونه نفسيا ولا صفة معنوية لأنها لا تعلل بصفة

القسم الرابع الصفة التابعة للحدوث وهي التي لا تحقق لها في حالة العدم ولا يتصف بها الممكن إلا بعد وجوده ولا تأثير للفاعل فيها وهي منقسمة إلى أقسام فمنها ما هي واجبة أي يجب حصولها لموصوفها عند حدوثه كالتحيز وقبول الأعراض للجوهر وكالحلول في المحال والتضاد للأعراض وكإيجاب العلة معلولها وقبح القبيح فإن هذه كلها صفات واجبة الحصول لموصوفاتها عند حدوثها ومنها ما هي ممكنة أي غير واجبة الحصول لموصوفها عند حدوثه وهي إما تابعة للإرادة ككون الفعل الصادر من العبد طاعة أو معصية وتعظيما أو إهانة فإن الفعل قد يوجد غير متصف بشيء من ذلك إذا لم يكن هناك قصد وإرادة وككون الأمر أمرا فإن قول القائل افعل قد يوجد ولا يكون أمرا إذا لم يكن قصد إلى طلب الفعل وأما غيرها أي غير تابعة هو الإرادة بشرط كون الفاعل عالما به وقد اتفقوا على أن ما يؤثر فيه العلم لا فرق فيه بين العلم الضروري وغير الضروري لكن اختلفوا فيما يؤثر فيه الإرادة فقال بعضهم المؤثر من الإرادات ما كان مقدورا مخترعا للمريد دون ما كان منها ضروريا وقال الآخرون لا فرق بين الإرادتين كما لا فرق بين العلمين وبينهم خلاف في الحسن أهو مما يتبع الحدوث وجوبا كالقبيح فيكون من قبيل الواجبة أو هو مما هو يتبع الحدوث مشروطا بالإرادة فيكون من قبيل الممكنة التابعة للإرادة

المرصد الأول في أبحاثه الكلية الشاملة لجميع الأعراض
وفيه مقاصد
المقصد الأول
في تعريف العرض أما تعريفه عندنا فموجود قائم بمتحيز هذا هو المختار في تعريفه لأنه خرج منه الإعدام والسلوب إذ ليست موجودة والجواهر إذ هي غير قائمة بمتحيز وخرج أيضا ذات الرب وصفاته ومعنى القيام بالغير هو الاختصاص الناعت أو التبعية في التحيز والأول هو الصحيح كما ستعرفه
وقال بعض الأشاعرة العرض ما كان صفة لغيره وهو منقوض بالصفات السلبية فإنها صفة لغيرها وليست أعراضا لأن العرض من أقسام الموجود ومنقوض أيضا بصفاته تعالى إذا قيل بالتغاير بين الذات والصفات وأما تعريفه عند المعتزلة فما لو وجد لقام بالمتحيز وإنما اختاروا هذا التعريف لأنه أي العرض ثابت في العدم عندهم منفك عن الوجود الذي هو زائد على الماهية ولا يقوم بالمتحيز حال العدم بل إذا وجد العرض قام به ويرد

عليهم الفناء أي فناء الجوهر فإنه عرض عندهم وليس على تقدير وجوده قائما بالمتحيز الذي هو الجوهر لكونه منافيا للجوهر فلا يندرج في الحد ولا ينعكس أيضا على أصل من أثبت منهم عرضا لا في محل كأبي الهذيل العلاف للكلام فإنه قال إن بعض أنواع كلام الله لا في محل وكبعض البصريين القائلين بإرادة قائمة لا في محل والامتناع من إطلاق لفظ العرض على كلام وإرادة حادثين مما لا يلتفت إليه وأما تعريفه عند الحكماء فماهية إذا وجدت في الخارج كانت في موضوع أي في محل مقوم لما حل فيه ومعنى وجوده في كذا وإن كان يطلق أي قولنا وجد كذا في كذا إما بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز على معان مختلفة كوجود الجزء في الكل والكلي في الجزئي وكوجود الجسم في المكان أو الزمان ومثل كون الشيء في الصحة أو المرض وكونه في السعادة أن يكون وجوده هو وجوده في الموضوع بحيث لا يتمايزان في الإشارة الحسية كما مر في تفسير الحلول وقد يتوهم من هذه العبارة أن وجود السواد في نفسه مثلا هو وجوده في الجسم وقيامه به وليس بشيء إذ يصح أن يقال وجد في نفسه فقام بالجسم ولا يخفى أن إمكان ثبوت شيء في نفسه غير إمكان ثبوته لغيره وعرفوا الجوهر بأنه ماهية إذا وجدت في الخارج لم تكن في موضوع وإن جاز أن يكون في محل كالصورة الجسمية الحالة في المادة وأشاروا بقولهم إذا وجدت إلى أن الوجود زائد على الماهية في الجوهر والعرض ومن ثمة لم يصدق حد الجوهر على ذات الباري

المقصد الثاني
في أقسامه عند المتكلمين وهو أي العرض إما أن يختص بالحي وهو الحياة وما يتبعها من الإدراكات بالحواس ومن غيرها كالعلم والقدرة والإرادة والكراهة والشهوة والنفرة وسائر ما يتبع الحياة وحصرها في عشرة باطل بلا شبهة وإما أن لا يختص به وهو الأكوان المنحصرة في أنواع أربعة الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والمحسوسات بإحدى الحواس الخمس كالأصوات والألوان والروائح والطعوم والحرارة وأخواتها وذهب بعضهم إلى أن الأكوان محسوسة بالضرورة ومن أنكر الأكوان فقد كابر حسه ومقتضى عقله وآخرون إلى أنها غير محسوسة فإنا لا نشاهد إلا المتحرك والساكن والمجتمعين والمفترقين وأما وصف الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فلا ولهذا اختلف في كونها وجودية ولو كانت محسوسة لما وقع الخلاف فيها واعلم أن أنواع كل واحد من هذه الأقسام المندرجة تحت المختصة بالحي وغير المختصة به متناهية بحسب الوجود يعني أن عدد الأنواع العرضية الموجودة متناه دل عليه الاستقراء وبرهان التطبيق أيضا وهل يمكن أن يوجد منه أي من العرض أنواع غير متناهية بأن يكون في الإمكان وجود أعراض نوعية مغايرة للأعراض المعهودة إلى غير النهاية وإن لم يخرج منها إلى الوجود إلا ما هو متناه أو لا يمكن ذلك اختلف فيه فمن منعه وهم أكثر المعتتزلة وكثير من الأشاعرة نظر إلى أن كل عدد قابل للزيادة والنقصان قطعا فهو متناه لأن ما لا يتناهى لا يكون قابلا لهما وللتطبيق أيضا ومن جوزه كالجبائي وأتباعه والقاضي منا في أكثر أجوبته فلأنه ليس عدد أولى من عدد فوجب اللاتناهي كما مر والحق عند المحققين هو التوقف وعدم الجزم بالمنع أو الجواز لضعف المأخذين ووجهه أي وجه ضعفهما ظاهر أما ضعف

الثاني فلما مر في صدد الكتاب في تزييف المقدمات المشهورة بين القوم وأما ضعف الأول فلما عرفت من أن قبول الزيادة والنقصان لا ينافي عدم التناهي كتضعيف الواحد والألف مرات غير متناهية ومن أن برهان التطبيق لا يتم إلا فيما ضبطه وجود ألا ترى أنه لا نزاع في أن الأفراد الممكنة لنوع واحد من تلك الأنواع غير متناهية وإن لم يوجد منها إلا ما هو متناه

المقصد الثالث في أقسامه عند الحكماء
ذهب الحكماء إلى أنه أي العرض منحصر في المقولات التسع وأن الجواهر كلها مقولة واحدة فصارت المقولات التي هي أجناس عالية للموجودات الممكنة عشرا ولم يأتوا في الحصر بما يصلح للاعتماد عليه وعمدتهم في إثبات الحصر هو الاستقراء الناقص ووجه ضبطه بحيث يقلل من الانتشار ويسهل الاستقراء أنهم قالوا العرض إما أن يقبل لذاته القسمة أم لا والأول هو الكم وإنما قلنا لذاته ليخرج عن الحد الكم بالعرض كالعلم بمعلومين فإنه قابل للقسمة لكن لا لذاته بل لتعلقه بالمعلومين المعروضين للعدد وسيرد عليك أقسام الكم بالعرض والمراد بالقسمة هنا يعني في حد الكم أن يفرض فيه شيء غير شيء فيدخل فيه المتصل والمنفصل لأن كلا منهما قابل للقسمة بهذا المعنى وذكر في الملخص أن قبول القسمة قد يراد به كون الشيء بحيث يمكن أن يفرض فيه شيء غير شيء وهذا المعنى يلحق المقدار لذاته وقد يراد به الافتراق بحيث يحدث للجسم هويتان وهذا المعنى لا يلحق المقدار لأن الملحوق يجب بقاؤه عند

اللاحق والمقدار الواحد إذا انفصل فقد عدم وحصل هناك مقداران لم يكونا موجودين بالفعل قبل الانفصال بل القابل للانقسام بهذا المعنى هو المادة والمقدار معدلها في قبولها إياه ثم ذكر فيه أنه لا يجوز تعريف الكم بقبول القسمة لأنه مختص بالمتصل ولا يخفى عليك أن الذي يقتضيه كلامه السابق هو أنه إذا عرف الكم بقبول الانقسام وأريد به الافتراق لم يتناول المتصل بل كان مختصا بالمنفصل لكنه لما صرح فيه باختصاص الحد بالمتصل وجب أن يراد المعنى الأول ويزاد فيه قيد كما فعله الكاتبي في شرحه حيث قال ناقلا عن المباحث المشرقية أحد المعنيين هو كونه بحيث يمكن أن يفرض فيه شيء غير شيء ولا يزال كذلك أبدا ولا شك أن هذا القيد يخصصه بالمتصل لأن الوحدة التي ينقسم إليها المنفصل لا يمكن أن يفرض فيها شيء غير شيء وفي عبارة الملخص نوع إشعار بهذا القيد حيث قيل فيه وهذا المعنى يلحق المقدار لذاته لكن الصواب أن تلك الزيادة غير معتبرة في المعنى الأول بل هو شامل للمتصل والمنفصل معا وإليه أشار المصنف بقوله فلا يرد قول الإمام الرازي أنه مختص بالمتصل فيكون الحد غير جامع لخروج المنفصل عنه
والثاني وهو ما ليس يقبل القسمة لذاته إما أن يقتضي النسبة لذاته أي يكون مفهومه معقولا بالقياس إلى الغير أو لا يقتضي النسبة
والثاني هو الكيف فرسمه صرح بلفظ الرسم تنبيها على أن الأجناس العالية بسيطة لا يتصور لها حد حقيقي كما سيصرح به عرض لا يقبل القسمة لذاته ولا يقتضي النسبة لذاته وسينكشف لك هذا الرسم في المرصد الثالث فلا يرد على تعريف الكيف الوحدة لأنها عدمية فلا

تندرج في العرض الذي هو من أقسام الموجود والأول وهو ما يكون مفهومه معقولا بالقياس إلى الغير هو النسبة وأقسامه سبعة
الأول الأين وهو حصول الجسم في المكان أي في الحيز الذي يخصه ويكون مملوءا به ويسمى هذا أينا حقيقيا وعرفوه أيضا بأنه هيئة تحصل للجسم بالتسعة إلى مكانه الحقيقي وقد يقال الأين لكونه وحصوله فيما ليس حقيقيا من أمكنته مثل الدار أو البلد أو الإقليم أو المعمورة أو غير المعمورة أو غير ذلك مجازا أي قولا مجازيا فإن كل واحد منها يقع في جواب أين هو
الثاني متى وهو الحصول أو الهيئة التابعة للحصول في الزمان أو طرفه وهو الآن كالحروف الآتية الحاصلة دفعة مثل التاء والطاء وينقسم المتى كالأين إلى حقيقي كاليوم للصوم وغير حقيقي كالأسبوع والشهر والسنة لما وقع في بعض أجزائها فإنه يجوز أن يجاب بها للسؤال بمتى إلا أن الزمان في المتى الحقيقي يجوز أن يشترك فيه كثيرون بخلاف المكان في الأين الحقيقي
الثالث الوضع وهو هيئة تعرض للشيء أي للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض بالقرب والبعد والمحاذاة وغيرها وبسبب نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجة عن ذلك الشيء كوقوع بعضها نحو السماء مثلا وبعضها نحو الأرض وإذا جعل الوضع هيئة معلولة لنسبتين معا فالقيام

والاستلقاء وضعان متغايران لاختلاف نسبة الأجزاء فيها إلى الخارج ولو لم يعتبر في ماهية الوضع نسبة الأجزاء إلى الأمور الخارجة بل اكتفى فيها بالنسبة فيما بين الأجزاء وحدها لزم أن يكون القيام بعينه الإنتكاس لأن القائم إذا قلب بحيث لا تتغير النسبة فيما بين أجزائه كانت الهيئة المعلولة لهذه النسبة وحدها باقية بشخصها فيكون وضع الانتكاس وضع القيام بعينه لا يقال اللازم مما ذكرتم اشتراكهما في معنى الوضع الذي هو جنسهما فجاز أن يفترقا بالفصل الحاصل من النسبة الخارجية لأنا نقول الجنس والفصل يتحدان وجودا وجعلا فكيف يتصور أن حصة من الجنس قارنت فصلا ثم فارقته إلى فصل آخر فالحق إذن اعتبار النسبتين في ماهية الوضع
الرابع الملك ويسمى الجدة أيضا وهو هيئة تعرض للشيء بسبب ما يحيط به وينتقل بانتقاله وبهذا القيد الأخير أعني انتقال المحيط بانتقال المحاط يمتاز الملك عن المكان أي الأين المتعلق به فإنه وإن كان هيئة عارضة للشيء بسبب المكان المحيط به إلا أن المكان لا ينتقل بانتقال المتمكن سواء كان ذلك المحيط أمرا طبيعيا خلقيا كالإهاب للهرة مثلا أو لا يكون طبيعيا وسواء كان محيطا بالكل كالثوب الشامل لجميع البدن أو محيطا بالبعض كالخاتم والعمامة والخف والقميص وغيرها
الخامس الإضافة وهي النسبة المتكررة أي نسبة تعقل بالقياس إلى نسبة أخرى معقولة أيضا بالقياس إلى الأولى كالأبوة فإنها نسبة تعقل بالقياس إلى البنوة وإنها أي البنوة أيضا نسبة تعقل بالقياس إلى الأبوة فالإضافة أخص من مطلق النسبة فإذا نسبنا المكان إلى ذات المتمكن

حصل للمتمكن باعتبار الحصول فيه هيئة هي الأين وإذا نسبناه إلى المتمكن باعتبار كونه ذا مكان كان الحاصل مضافا لأن لفظ المكان يتضمن نسبة معقولة بالقياس إلى نسبة أخرى هي كون الشيء ذا مكان أي متمكنا فيه فالمكانية والمتمكنية من مقولة الإضافة وحصول الشيء في المكان نسبة تعقل بين ذاتي الشيء والمكان لا نسبة معقولة بالقياس إلى نسبة أخرى فليس من هذه المقولة وبهذا الذي صورناه لك يمكنك الفرق بين النسبة التي ليست من المضاف و بين المضاف فاعقله وتحققه في سائر النسب فإنه مما قد طول فيه الكلام وحاصله ما قلنا
السادس أن يفعل وهو التأثير كالمسخن ما دام يسخن فإن له ما دام يسخن حالة غير قارة هي التأثر التسخيني الذي هو من مقولة أن يفعل فهو يعني أن يفعل إذن غير ما هو مبدأ للسخونة أي المسخن لأنه يبقى بعد التسخين الذي لا بقاء لمقولة أن يفعل بعده وربما كان ذلك المبدأ جوهرا
السابع أن ينفعل وهو التأثير كالمتسخن ما دام يتسخن فإن له حينئذ حالة غير قارة هي التأثير التسخني الذي هو من مقولة أن ينفعل فهو يعني أن ينفعل إذن غير السخونة لبقائها بعده أي بعد التسخن الذي لا بقاء لمقولة أن ينفعل بعده بل السخونة أمر قار من مقولة الكيف وكذلك الاحتراق القار في الثوب والقطع المستقر في الخشب وغير استعداده لها أي غير استعداد المتسخن للسخونة لثبوته قبله أي قبل التسخن الذي هو من مقولة أن يفعل بل ذلك الاستعداد من مقولة الكيف أيضا ولما كانت هاتان المقولتان أمرين متجددين غير قارين اختير لهما أن يفعل وأن ينفعل دون الفعل والأنفعال
قيل الوحدة والنقطة خارجية عنها أي عن المقولات التسع فبطل الحصر فقالوا لا نسلم أنهما عرضان إذ لا وجود لهما في الخارج وإن

سلمنا أنهما عرضان موجودان فنحن لم نحصر الأعراض بأسرها فيها أي في التسع على معنى أن كل ما هو عرض فهو مندرج تحتها غير خارج عنها حتى يرد علينا أن هناك عرضا خارجا عنها بل حصرنا فيها المقولات وهي الأجناس العالية على معنى أن كل ما هو جنس عال للأعراض فهو إحدى هذه التسع فلا تردان أي الوحدة والنقطة علينا إلا إذا أثبتم أن كلا منهما مقول على ما تحته قول الجنس وتحته أجناس ولا يندرج فيما ذكرنا حتى يثبت أنهما جنسان عاليان للأعراض خارجان عن التسع فيبطل بهما حصر الأجناس العالية فيها ولم يثبت شيء منها أي من هذه الأمور الثلاثة لجواز أن يكون قولهما على ما تحتهما قولا عرضيا وأن يكون ما تحتهما أشخاصا متفقة الحقيقة أو أنواعا حقيقية لا أجناسا وأن يندرجا في مقولة الكيف كما ذكر في المباحث المشرقية لأن كلا منهما عرض لا يتوقف تصوره على تصور أمر خارج عن حامله ولا يقتضي قسمة ولا نسبة في أجزاء الحامل وإما إدراجهما في مقولة الكم على ما زعمه قوم فباطل لأن الكم هو الذي يقبل القسمة لذاته بخلافهما واعلم أن دعوى انحصار المقولات العرضية في الأمور التسعة يشتمل على مقامين
أحدهما أن هذه التسعة أجناس عالية
والثاني أنه ليس للأعراض جنس عال سواها وليس شيء من هذين المقامين بيقيني وذلك أنه لم يثبت كون كل واحد من التسعة جنسا لما تحته لجواز أن يكون ما تحته أمورا مختلفة بالحقيقة وهو عارض لها فيكون حينئذ عرضا عاما لا جنسا ولا كونها أي ولم يثبت أيضا كون هذه التسعة على تقدير جنسيتها أجناسا عالية لجواز أن يكون ما تحتهما أنواعا حقيقية فيكون كل واحد منها حينئذ جنسا مفردا لا عاليا أو أن يكون اثنان منها أو أكثر داخلا تحت جنس آخر فيكون ذلك الداخل

تحت الجنس الآخر جنسا متوسطا إن كان ما تحته أجناسا أو جنسا سافلا إن كان ما تحته أنواعا حقيقية فظهر أنه لم يثبت المقام الأول بل نقول لم يتصد أحد منهم لإثباته أصلا ولا الحصر أي ولم يثبت أيضا الحصر الذي هو المقام الثاني لجواز مقولة أخرى أي جنس عال للأعراض مغاير للتسعة المذكورة وقد احتج ابن سينا على الحصر بما خلاصته أنه أي العرض ينقسم انقساما دائرا بين النفي والإثبات إلى كم وكيف ونسبة كما مر من أن العرض إما أن يقتضي لذاته القسمة أو لا والثاني أن يقتضي لذاته النسبة أو لا فهذه أقسام ثلاثة لا مخرج للعرض عنها وغيرها الجوهر فانحصر أقسام الموجود الممكن في الأربعة وعلى هذا فالنسبة إما للأجزاء أي لأجزاء موضوعها بعضها إلى بعض وهو الوضع أو لا تكون النسبة بين أجزاء موضوعها بل لمجموعه إلى أمر خارج عنه وهي أي هذه النسبة إما إلى كم فإن كان ذلك الكم قارا لجواز اجتماع أجزائه معا فإن انتقل ذلك الكم القار به إي بانتقال موضوع النسبة فهو الملك وإلا فهو الأين وإن كان ذلك الكم غير قار فهو متى وإما إلى النسبة فالمضاف لأن النسبة حينئذ متكررة وإما إلى كيف ولا تعقل النسبة إلى الكيف إلا بأن يكون منه غيره وهو أن يفعل أو يكون هو من غيره وهو أن ينفعل وأما إلى الجوهر وهو لا يقبل النسبة لذاته بل لعارض من عوارضه ولا يخرج ذلك العارض مما ذكرنا من الأعراض الثلاثة فالنسبة إلى الجوهر تكون راجعة إلى النسب المذكورة لا قسما برأسه فانحصرت الممكنات الموجودة في عشر مقولات والأعراض في تسع منها والاعتراض على ما ذكر في هذا الحصر أنا لا نسلم أن النسبة إلى الكم القار تكون بالإحاطة فقط حتى تنحصر في الأين والملك بل قد تكون النسبة إلى الكم القار بوجه آخر كالمماسة بين سطحي جسمين

والمطابقة التي هي الاتحاد في الأطراف وأيضا فاعتبرت في الوضع نسبة الأجزاء إلى الأجزاء وإلى الخارج كما مر فقد جاء التركيب وأنه يوجب تكثر الأقسام إذ يجوز حينئذ أن يعتبر التركيب بين النسبة إلى الكم والنسبة إلى الكيف مثلا فيكون قسما خارجا عن الأقسام المذكورة وأيضا فبقي من الأقسام الممكنة النسبة إلى العدد الذي هو الكم المنفصل ولا برهان على انتفائه أي انتفاء هذا القسم وأيضا فالنسبة إلى الزمان الذي هو كم متصل غير قار لا يتعين أن تكون متى إذ لا يجب أن تكون تلك النسبة بالحصول فيه حتى تكون متى فإن للحركة التي كان الزمان مقدارها والجسم الذي هو محل تلك الحركة نسبة إلى الزمان وليس انتساب شيء منهما إلى الزمان لحصوله فيه وأيضا لا نسلم أن النسبة إلى الكيف لا تعقل إلا بأنه من غيره أو منه غيره وما الدليل عليه بل قد تكون تلك النسبة بالمشابهة وإذا جاز أن تكون النسبة إليه على وجه آخر لم تكن منحصرة في أن يفعل وأن ينفعل على أن انحصار هاتين المقولتين في النسبة إلى الكيف منظور فيه وأيضا فالنسبة إلى ذات الجوهر معقولة كالحصول فيه أعني حلول الأعراض في ذات الجوهر وكون الحيز حيزا له وهو غير حصوله في الحيز لأن حصوله فيه نسبة له إلى حيزه وكونه حيزا له نسبة للحيز إليه
وبالجملة فليس انتفاء ما أبديناه من الأقسام ضروريا وأنتم مطالبون بالحجة عليه ولو قيل استقرأنا الوجود فما وجدنا شيئا هو جنس عال للموجودات الممكنة غير ذلك الذي ذكره كان هذا التقسيم ضائعا ووجب الرجوع أثر ذي أثير أي قبل كل شيء إلى الاستقراء وطرح مؤنة هذه المقدمات الطويلة وإن أراد ابن سينا بما ذكره الإرشاد إلى

الاستقراء فلا بأس فإن فيه أي فيما ذكره تقريبا إلى الضبط الجامع للمنتشر وتبعيدا عن الخبط الناشىء من الانتشار واعلم أن انحصار الممكنات في هذه المقولات من المشهورات فيما بينهم وهم معترفون بأن لا سبيل لهم إليه سوى الاستقراء الذي لا يفيد إلا ظنا ضعيفا ولذلك خالفه بعضهم فجعل المقولات أربع الجوهر والكم والكيف والنسبة الشاملة للسبعة الباقية وبعضهم جعلها خمس فعد الحركة مقولة برأسها وقال العرض إن لم يكن قارا فهو الحركة وإن كان قارا فإما أن لا يعقل إلا مع الغير فهو النسبة والإضافة أو يعقل بدون الغير وحينئذ إما أن يقتضي لذاته القسمة فهو الكم أو لا فهو الكيف وقد صرحوا بأن المقولات أجناس عالية للموجودات وأن المفهومات الاعتبارية من الأمور العامة وغيرها سواء كانت ثبوتية أو عدمية كالوجود والشيئية والإمكان والعمى والجهل ليست مندرجة فيها وكذلك مفهومات المشتقات نحو الأبيض والأسود خارجة عنه لأنها أجناس لماهيات لها وحدة نوعية مثل السواد والبياض والإنسان والفرس وكون الشيء ذا بياض لا يتحصل به ماهية نوعية قالوا وأما الحركة فالحق أنها من مقولة أن ينفعل وذهب بعضهم إلى أن مقولتي الفعل والانفعال اعتباريتان فلا تندرج الحركة فيهما

المقصد الرابع
في إثبات العرض لم ينكر وجوده إلا ابن كيسان الأصم فإنه ذهب إلى أن العالم كله جواهر فالحرارة والبرودة واللون والضوء مثلا عنده عرضا بل جوهرا والقائلون به أي بوجود العرض اتفقوا على أنه لا يقوم بنفسه إلا شرذمة قليلة لا يبالى بشأنهم كأبي الهذيل العلاف ومن تبعه من البصريين فإنه جوز إرادة عرضية تحدث لا في محل وجعل الباري تعالى مريدا بها أي بتلك الإرادة والضرورة كافية لنا في هذين المقامين فإنا ندرك الأعراض من الألوان والأضواء والأصوات والطعوم والروائح والحرارة والبرودة وغيرها بحواسنا ولا نشك في أنها مما لا يجوز قيامها بنفسها ودعوى كون الإرادة قائمة بنفسها وكون الباري مريدا بها مع استواء نسبتها إليه وإلى غيره مكابرة صريحة

أقسام الكتاب

1 2 3 4