كتاب : الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي

نبوة من قامت الأدلة القاطعة على صدقه من حيث أنه حكم بشيء يصح في العقل أن يوجد
ثم من العجب العجاب الذي يستعظمه أولو الألباب أنكم إلتزمتم في شرعكم بما يشهد العقل الأول بفساده مثل قولكم في الأقانيم أنها آلهة ثلاثة إله واحد وقلتم في الإتحاد والحلول ما يعلم فساده بضرورة العقول ثم لم ينفركم ذلك عن إتباع شرعكم بل يقول من يميز إستحالة ذلك القول منكم هذا مما ليس يدرك بالعقول بل يتبع فيه الكتاب المنقول ثم بعد إلتزام هذه المحالات والمدافعة عنها بالترهات والخرافات تنكرون علينا فعل شيء تجوزه العقول ولم تصر إليه إلا بعد ثبوت الشرع المنقول الذي دل على صحته البرهان المعقول فأنتم من الجهل والزلل كما جرى من كلام النبوة مجرى المثل يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه وإنما كان ذلك كله للمعنى الذي نبه الشاعر عليه هنالك ... عيون الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا ...
فلو وفقتم لطريق الإنصاف لتركتم طريق التعصب والإعتساف ولو كنتم تطلبون الحق بدليله لأوشك أن يرشدكم إلى سبيله ولكن من حرم التوفيق استدبر الطريق ونكل عن التحقيق
وإن ادعيت أن ذلك ممنوع من جهة الشرع فنقول لك إما أن يكون ممنوعا من جهة الشرائع كلها أو من بعضها فإن قلت إنه ممنوع من جهة الشرائع كلها كان ذلك باطلا إذ الشرائع في ذلك مختلفة فإن المعلوم من شرع التوراة في ذلك خلاف شرعكم وكفى دليلا على أن التوراة تخالفكم في ذلك أو الكلام الذي حكيته عن المسيح أنه قال أما علمتم أنه قيل للقدماء من طلق إمرأته فليكتب لها كتاب طلاق وأن أقول من طلق إمرأته فقد جعل لها سبيلا إلى الزنى فهذا تصريح بين ما أنكرته علينا وتنقصت به شرعنا وكما جاز أن يخالف عيسى عليه السلام بعض أحكام التوراة ولا يدل ذلك على كذبه ولا على فساد شرعه كذلك يجوز أن يخالف شرعنا

شرع عيسى وموسى في بعض الأحكام ولا يدل ذلك على فساده إذ كل واحد منهم إنما يبلغ حكم الله ولس مخترعا حكما من قبله ثم قد تختلف الأحكام والأوضاع بحسب ما يريده الله تعالى وبحسب ما يعلمه من إختلاف الأحوال 2 والمصالح
والأصل في ذلك أن الله تعالى لاحجر عليه في أفعاله ولا راد لشيء من أحكامه فيحل لعباده ما شاء ويحرم عليهم ماشاء لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وهذا بين بنفسه لا يجهله إلا من كان عديم حسه
ثم قلت وأنتم تقولون لا يحل لزوجها مراجعتها إلا أن تزنى بدل أن تنهوا عن الزنى تأمروا بالزنا اسكت فض الله فاك فما أكذبك وما أجفاك تتقول علينا بما لا نقول وتتصرف في شرائع الأنبياء تصرف متواقح جهول كما فعل أشياعكم من قبل
اسمع يا لكع على أنك لا تحسن أن تسمع اعلم أن هذا الذي ظننته بجهلك زنا ليس بزنا لأن الزنا حقيقته إيلاج فرج في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا وهذه الحقيقة معدومة في الذي توهمت أنه زنا فإن قلت إن كانت هذه الحقيقة معدومة عندكم فليست معدومة عندنا فإن هذا الإيلاج محرم عندنا فهو زنا قلنا لك إن كان قد ثبت تحريم ذلك عندكم فقد ثبت تحليله عندنا فإن الله تعالى يحل لعبيده ما يشاء ويحرم عليهم ما يشاء
وهذا كما أحل الله لموسى من الطلاق ما حرمه على عيسى ثم كيف يمكن لعاقل أن ينكر مثل ذلك وقد ثبت أنه أحلت في بعض الشرائع فروج وحرمت في شرع آخر فقد ثبت أن البطن الأول من أولاد آدم أحلت لهم نكاح الأخوات ثم حرمت على من بعدهم من الشرائع وقد جاء في التوراة أن يعقوب نكح أختين راحيل وليئة وجمع بينهما وحرمهما على غيره والجمع بينهما في

النكاح محرم عندكم وقد فعل الله ذلك في أحكام أخر على ما يعرف من أحوال الشرائع وإختلافها في بعض الأحكام وإنما يتحقق هذا المعنى على اليقين من يعلم أن حقيقة الحكم الشرعي هي خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الإقتضاء أو التخيير فعلى هذا لا معنى للحكم إلا قول الشارع افعلوا أو لا تفعلوا أو إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فاتركوا على ما يعرف في موضعه
ثم هذا الذي عبته علينا أيها الجهول له معنى صحيح في العقول جار على منهاج المصالح المعقول وذلك أن الله تعالى إنما شرع الطلاق ليتخلص الرجل من نكد المرأة وأسوها رفقا بنا ورحمة منه علينا فقد تكون غلا قملا تضر بالرجل ضررا حقبا لا يمكن أن يطلع عليه أحد فلا تجبر على إزالته لكونه لا يتحقق من جهتها فجعل للرحل أنه متى شاء أن يتخلص منها ومن ضررها فعل
وأيضا فلكون النساء في الغالب ناقصات عقل فلو علمت أن الرجل لم يجعل له سبيل إلى مفارقتها لما كانت تحترمه وبادرت إلى ضرره فأراد الشارع أن يجعل للرجل سببا يحترم لأجله وهو الطلاق فإن المرأة إذا علمت أنها إن بالغت في ضرر زوجها طلقها امتنعت من ضرره في الأكثر
فإن عورضنا وقيل لنا فيلزم على ذلك أن تطلق المرأة نفسها متى شاءت فإن الرجل قد يضر بها ضررا لا يطلع عليه أحد فإن راعيتم وجود الضرر وتوقعه في حق الزوج فلم لم تراعوه في حق الزوجة كذلك فنقول إنما لم نراعه في حق المرأة لأنا لو جعلنا للمرأة أن تطلق نفسها متى شاءت لما استقرت إمرأة عند زوجها في غالب الأمر لأنهن ناقصات عقل فلا يؤمن عليهن غلبة شهواتهن على عقولهن
وإن فتح هذا الباب طرأ منه من الضرر ما لا ينسد ولا يتدارك فسد هذا الباب في حق النساء لهذه الحكمة وفتح في حق الرجال ليزول عن أعناقهم غل الضرر والنقمة والله أعلم

وأما ما عابه أيضا من أن المطلقة ثلاثا لا تحل إلا بعد زوج فذلك أيضا له معنى معقول مناسب وذلك أن الطلاق وإن كان الله قد أباحه لنا فهو من قبيل المكروه من غير سبب من حيث التقاطع والتدابر المنهى عنهما ولأجل هذا قال نبينا عليه السلام أبغض الحلال إلى الله الطلاق فأطلق عليه لفظ البغض مشعرا بالكراهة وأطلق لفظ الحلال مشعرا بجوازه فحصل لنا من مفهومه أنه يجوز على كراهة
فإذا تقرر أنه مكروه من الوجه الذي ذكرناه فينبغي ألا يفعل ثم إن فعل ولا بد منه فلا يكثر منه ثم إن كثر منه فلا يزاد على المرتين فإن تعداهما عوقب بأنه لا تحل له إلا بعد زوج فكانت الحكمة في ذلك أن الزوج إذا علم أنه إذا أكثر من هذا المكروه الذي هو الطلاق عوقب بتفويت زوجته عليه وتملكها غيره امتنع من تكثير المكروه الذي هو الطلاق ثم لا يظن الجاهل بنا أننا نجبر الزوج الثاني على طلاقها حتى يرجع إليها الأول حاشى لله وإنما الزوج الثاني يملك منها ما يملكه الأول فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها
ثم إن طلقها اعتدت منه وجاز للأول أن يتزوجها تزويجا مستأنفا إن شاء ولا يجوز عندنا أن يتزوجها الثاني ليحللها للزوج الأول فإن فعل كان نكاحه فاسدا وهو الذي نسميه المحلل وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم لعن الله المحلل والمحلل له
فإن سماه مسم تيسا فعلى جهة الذم لفعله
فإذا تقرر هذا المعنى الذي لا يمنعه العقل ولا تنافيه مكارم الأخلاق بل هو على منهاجها وعلى سنتها فكيف ينبغي لعاقل منصف غير متواقح ولا متعسف أن يتقول علينا أنا نقول لا يحل لزوجها مراجعتها إلا أن تزنى ولو كنت يا هذا من أهل العقل الذين تبرأوا عن السفه والجهل لما كنت تشبه نكاحا على وفق شريعة صحيحة بحسب دلالة أدلتها القاطعة مع أن هذا النكاح وقع بولى ومهر وشهود وإعلان بنكاح الزنا الذي ليس فيه ولى ولا مهر ولا شهود ولا إعلان وإنما يقع الزنا مخالفا للشرائع عريا عن الشهود والولي مستورا فهذا تشبيه يدل على عناد وتمويه

ثم قلت بدل أن تنهوا عن الزنا تأمروا به وهو عندكم فريضة التياس هذا التشنيع باطل وقول غبي جاهل وتهويل ليس وراءه حاصل وقول الزور والأباطل قصد به قائله استزلال العوام وليكره لهم دين الإسلام يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ولقد صدق الله عبده وأنجز وعده ومن أوفى بعهده من الله
اعلم يا هذا المفترى الكذاب والمشنع المرتاب أن العقلاء لا يرضون بما فعلت ولا يأتون بمثل ما به أتيت وذلك أنك جهلت شرعنا وكذبت عليه وعميت عليك مقاصده فنسبت الزور والفحش إليه وإنما كان ينبغي لك لو كنت على سنن العقلاء أهل السياسة الفضلاء أن تبحث عن أدلة صحة هذه الشريعة وعن صدق الذي جاء به فإن كانت أدلتها صحيحة وجب عليك أن تقبلها جملة ولا ترد منها شيء وتكون واحدا ممن إلتزمها وإن لم تظهر لك صحة أدلتها فناظر أهلها في تلك الأدلة ولا تتعداها إلى غيرها وباحثهم فيها مشافهة فإن المخبر ليس كالمعاين فلو لم يقدروا على أن يحتجدوا لدينهم ولا أن يقيموا دليلا على صحة شرعهم وجب عليك رد تلك الشريعة من أولها وهذا دأب الموفقين لا الكذابين المشنعين
ثم قلت وأنا أريد قطع ذنب التيس وأن نجعله في ذقنه ليلوح استه لمعرة صرصر الشمال وحمارة قيظ هجير الجنوب
يا هذا التيس وأي ذنب ساتر للتيس أتظن أنك تتفصح وتستعير وأنت لا في العير ولا في النفير وكيف تظن السلامة من الحمق والبؤس بمن يجهل كيفية أذناب التيوس أم كيف يبالي بتفصحه وجعاجعه وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من جهل عدد أصابعه ولولا أن شرعنا منع من السباب ولا يليق ذلك بأولى المروءات والآداب لأقذعتك سبا ولأوجعتك عتبا ومع هذا ... نجا بك لومك منجى الذباب ... حمته مقاديره أن ينالا

لا أسبنكم فلستم بسبي ... إن سبي من الرجال الكريم ...
ثم قلت وهذا جواب كلامك إنتصافا منك كما يقول قرآنك ومن أنتصف من بعد ظلمه فلا جناح عليه
يا هذا شأنك يحار فيه النحرير وجهلك يتعجب منك الصغير والكبير كيف لا وكلامك هذا يشهد عليك بجهلك بإنجيلك وبمخالفتك حكمه وشرع رسولك كيف يحل لك في شرعك أن تنتصف ممن ظلمك وتشتم من شتمك وإنجيلك يقول لك لا تكافئوا أحدا بسيئة ولكم من لطم خدك اليمنى فانصب له اليسرى ومن أراد مغالبتك وإنتزاعك قميصك فزده أيضا رداءك فهذا إنجيلك يشهد عليك بأنك لست على شرعه بل رددت حكمه وعملت على رفضه
وإذا كان شأنك هذا مع كتابك فكيف يرتجي فلاحك من ليس من أحبابك ثم العجب العجاب تركت كتابك والعمل به ثم أخذت تعمل بكتاب لا تصدق بأصله فهذا يعلم من حالك أنك لست تريد أن تتبع الحق ولا أن تبحث عنه ولكنك اتبعت هواك فأضلك وأطعت الشيطان فأزلك ثم من أدل دليل على جهلك ومغالطتك أنك أوهمت أنك تعرف القرآن وأنك تحتج علينا به ثم ذكرت ما ليس بقرآن حيث قلت ومن انتصف من بعد ظلمه فلا جناح عليه وهذا ليس بقرآن وإن كان يشهد بمعناه القرآن
وليس القرآن عندنا بمجرد معناه فقط بل بلفظه المخصوص ومعناه وأسلوبه الذي أعجز الأولين والآخرين فعلى هذا المعنى أن تترجم بلسان آخر أو عبر عن معناه بغير لفظه وأسلوبه خرج عن كونه قرآنا فأفهم وما أدراك تحسن
ثم قلت فانصر أنت محالك لأنك قلت بالسفه والطعن في ديننا وقلت الكذب على مسيحنا
أنظر هذا الكلام الفصيح الجهالة على قائله تلوح فلقد عدم هذا الكلام الإنتظام والإرتباط فوجب له لأجل ذلك الإلغاء والإسقاط

وأما ما ذكرت من تسفيه دينك والطعن عليه فذلك واجب على العقلاء إذ قد تبين بدليل العقل الذي لا يشك فيه أنكم قد تمذهبتم بكك مقالة شنعاء وقد بينا ذلك فيما تقدم
ثم إن الطعن على دينكم ليس طعنا على دين المسيح فإنكم لم تتدينوا بدينه ولا عرفتم حقيقة يقينه بل تخرصتم عليه بالأباطيل وقبلتم عليه قول كل متواقح جاهل فما لكم وللإنتساب للمسيح وهو مبرأ عن كل قبيح بل هو ساخط عليكم وبراء إلى الله منكم وقد بينا ذلك فيما تقدم وسيأتي إن شاء الله تعالى بمزيد يبطل قولكم فيه ويهدم
وأما ما نسبت إلينا من الكذب على المسيح والسب له فذلك والله شيء لا نفعله ولا يرضى بذلك متدين ولا عاقل وكيف يجوز هذا علينا ونحن نكفر من سبه أو سب أمه عليهما الصلاة والسلام وهذا عندنا أصل من أصول عقائدنا وذلك أن الله تعالى أخذ علينا من الميثاق أن نؤمن بجميع الأنبياء والرسل ولا نفرق بين أحد منهم وهو عندنا من أكرم الرسل فكيف نسبه أو نكذب عليه وفي فعل ذلك خروج عن دين الإسلام وتمسك بفعل الجهال الطغام بل أنتم الذين كذبتم عليه ونسبتم ما تحيله العقول إليه وهو يتبرأ من ذلك ويتنصل مما أفتريتم عليه هنالك ثم أضفتم مع ذلك من العيب والتنقيص على الله تعالى ما يعلم على الضرورة والقطع أنه محال فنحن وإياك على المثل السائر رمتني بدائها وإنسلت
ثم قلت واعلم أنك إن أرسلت بعد هذا بالشتم فإني أبعث إلى كل بلد كتابا بنص شريعتكم وبكل ما نعرف من الأقاويل التي لا تقدرون على إنكارها
لولا أن السب منهى عنه على الإطلاق وليس من مكارم الأخلاق لأكثرت من سبك ولأوغلت في لومك وعتبك ولو كان ذلك لما كذبت ولا افتريت وإنما كنت أفعل ذلك لأظهر بذلك باطل تمويهك ومغالطة تهويلك ومن أين لك أن تعرف ديننا وأي طريق يوصلك إليه وبأي لسان تتمكن منه وبأي فهم تتوصل إلى معناه
ها أنت لا تعرف دينك الذي نشأت عليه فكيف بك أن تعرف ما لم تفهم منه حرفا ولا سمعته على وجهه اللهم إلا أن تقولت

بما ليس لك به علم كما قد فعلت في فريضة التياس فلا يعدم أحمق مخرق ما يقول
وأما إن ذكر شريعتنا من يعرفها فالعقول السليمة تقبلها بنفس ما تسمعها لشدة ارتباطها وحسن نظامها وليست كشريعة من يعتقد إلها آخر مع الله ويعتقد في الله ما يستحيل عليه وينسب إلى الأنبياء ما يتبرأون منه ويحكمون بأهواء جهالهم في دين الله وسنعقد أثر هذا إن شاء الله بابا نبين فيه جملا من أحكامهم وفيها يتبين أنكم لا تستندون فيها إلى مستند وأنكم اخترعتم فيها من الجهالات مالم يقل به أحد
ثم قلت لأنك قلت في المسيح غث وأوطار وأنك سبيت الحاكم عليك وعلى جميع الأمم يوم القيامة لكن سوف تلقاه حاكما ليس يطلب عليك بينة ... وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم ...
لتعلم يا هذا أنى وقفت على الكتاب الذي جاوبك بعض أصحابنا وتأملت هذا الموضع الذي لم تفهمه فعلمت أن الخطأ من قبل فهمك لا من قبل الكاتب وذلك أن لفظ ما كتب به إليك في هذا الموضع شجرتنا نبوية فروعها قرشية ثمرتها هاشمية شجرتك غثاء وأوضار اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار هذا نصه
وكان ينبغي لك أن تفهمه لو كنت منصفا فإن هذا الكلام إنما جرى مجرى المثل وإنما أراد بشجرتنا نبوية أن أصل إعتقادنا أن محمدا نبي ورسول ليس باله واعتقادكم أنتم أن عيسى اله وليس بنبي وهذا قول باطل وإعتقاد فاسد ولذلك عبر عن أصل هذا الإعتقاد بالشجرة ثم قال إنها غثاء وأوضار فالمسبوب المذموم إنما هو إعتقادكم في عيسى لا عيسى حاشى وكلا فهكذا ينبغي أن تفهم الكلام ولا تبادر لأجل الجهل بالملام فالملوم على كل حال هو الجاهل الذي ليس يفهم ولا عاقل وحين وقفت على

كلامك هذا هممت أن لا أكاتبك لكونك قليل الإنصاف كثير الجهل والإنحراف
ولقد أعرف أنك إذا وقفت على كتابي هذا لا تفهمه ومع ذلك فتبادر إلى رده مكابرة ومجاهرة وتتناوله بالرد والقبيح وبكل قول ليس بصحيح وقد حكمت بيني العقلاء المتدينين الفضلاء الذين يعترفون بالحق حيث كان ولا يعرجون في قبوله على إنسان
وأما قولك
الحاكم عليك وعلى جميع الأمم فقول ليس بصحيح ولا أمم وإنما الحاكم على كل الأمم وكل المخلوقات الذي أوجدها بعد أن لم تكن ثم يعدمها كأن لم تكن ثم يعيدها كأنها ما برحت قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما الآية
وأما قولك
ستلقاه حاكما ليس يطلب عليك بينة فقد نسبتموه إلى الجور فإنه إذا لم تقم بينة على المحكوم عليه عندنا وعندكم ونفذ الحاكم الحكم نسب إلى الجور فإذا قامت البينة زال عنه توهم الجور وظهر معيار العدل وعند سماع هذا يتحقق معنى المثل المعروف عدو عاقل خير من صديق جاهل
فإن العدو العاقل يذعه عنك عقله والصديق الجاهل يريد نفعك فيضرك وأنت بجهلك أردت أن تعظم المسيح فنقصته وأن تمدحه فذممته فعل السفيه الأحمق الجاهل
وأنا أقول ستلقونه بين يدي الله تعالى فإن اعترفتم بقولكم فيه جوزيتم على ذلك بجزاء سترونه عيانا وإن أنكرتم قولكم فيه يقول الله لجوارحكم أنطقي فتشهد عليكم بأقوالكم وأفعالكم فهكذا يظهر العدل ويعلم كل مكلف أنه محاسب بما عمل من خير أو شر ومجزى عليه
ومما يدل على أن الله تعالى إنما يأخذ بالبينات يوم القيامة أنه قد ثبت على لسان من دلت المعجزة على صدقه أن الله وكل بنا

كراما كاتبين يكتبون ما نفعل فهم الشهود العدول الذي ليس لطاعن عليهم ما يقول وستقدم فتعلم
ثم العجب من جرأتك أنك سببت خليل ربك حيث قلت رشح الجلد المدبوغ في قصرية هاجر هذا لإبراهيم ذم صريح صدر من جاهل وقبيح هنا يرد عليك قولك كيف قلت ما لا تعلم وكيف تجرمت في خليل الرحمن أن تتكلم وستلقاه يناضل عنه الله
ثم من ركيك الإستعارة أن الذي ذممت به إسماعيل يلزم منه ذم إسحق والذي ذممت به هاجر يلزم منه ذم سارة فإن الجلد الذي رشح في قصرية هاجر هو الذي رشح في قصرية سارة وأصل النطفة التي كان منها إسماعيل هو بعينه الذي كانت منه نطفة إسحق وهذا كله ذم لإبراهيم ولعن فقد حاق بك وبمن قال بقولك لعنة الله التي قال فيها لإبراهيم في التوراة وألعن لاعنيك ثم أعجب من ذلك كله اعتذارك عن قبيح ما أتيت حيث قلت لما بعث إلى أولا كتاب بالسفه والسب رددت له الجواب بأمه هاجر
فكأنك قلت لما سببتني أنت أسب أنا هاجر التي إذا سبت تعدى سبها إلى سيدها إبراهيم ثم إنك صرحت بسب إبراهيم فلزمك على ذلك سب إسحق وأمه سارة فأنت في هذه الفعلة بمنزلة من سبه رجل في وجهه فأخذ المسبوب ينكل الساب بأن يسب أبا نفسه أعنى نفس المسبوب وهذا ما لا يرضى به عاقل ولا متدين جاهل
ثم قلت بعد ذلك عهدا لغدرك القبيح ما قلت هنالك ولم تقل فيها عشر ما قال الله في التوراة وعن إبنها وهذا القول منك يوهم أن الله تعالى ذمها وإبنها في التوراة وهذا على الله وعلى كتابه كذب صراح وكفر براح ثم ذكرت بعض قصه هاجر مع إبراهيم ولم تسقها بكمالها لئلا تفتضح وتظهر كذبك وخزيك

وها أنا أذكر قصة هاجر مع سارة كما حكاها كتاب التوراة حتى يتبين للواقف على هذا الكتاب أن الله تعالى أثنى على هاجر وإبنها ومدحها وما ذمها بل أخبر بنبوتها أو صديقتها ونبوة إبنها إسماعيل بحول الله
قال التوراة إن سارة إمرأة إبراهيم لم تكن تلد له وكانت له أمة مصرية يقال إسمها هاجر فقالت سارة لإبراهيم إن الرب قد حرمني الولد فادخل على أمتي وإبن بها لعلى أرزق بولد منها فسمع إبراهيم قول سارة وأطاعها فانطلقت سارة امرأة إبراهيم بهاجر أمتها المصرية وذلك بعدما سكن إبراهيم أرض كنعان عشر سنين فأدخلتها على إبراهيم زوجها فدخل إبراهيم على هاجر فحبلت فلما رأت أنها قد حبلت استسفهت وزرت بسيدها وهانت في عينها فقالت سارة يا إبراهيم أنت صاحب ظلامتي أنا وضعت أمتي في حضنك فلما حملت هنت عليها يحكم الرب بيني وبينك فقال إبراهيم لسارة إمرأته هذه أمتك في يديك فاصنعي فيها ما أحببت وحسن في عينيك وسرك ووافقك
فأهانتها سارة سيدتها فهربت منها فلقيها ملاك الرب على عين ماء في البرية في طريق جرار فقال لها يا هاجر أمة سارة من أين لك أقبلت وأين تريدين فقالت أنا هاربة من سارة سيدتي فقال لها ملاك الرب انطلقي إلى سيدتك وتعبدي لها ثم قال لها ملاك الرب عن قول الرب أنا مكثر زرعك ومنميه حتى لا يحصوا من كثرتهم ثم قال لك الرب إنك حبلى وستلدين إبنا وتدعين إسمه إسماعيل لأن الرب قد عرف ذلتك وخضوعك ويكون إبنك هذا وحشيا من الناس يده على كل ويد كل به وسيحل على جميع حدود إخوته فدعت إسم الرب الذي كلمها فقالت أنت الله ذو الوحي والرؤيا
هذا ذكر الله لهاجر وإبنها في السفر الأول في التوراة في الإصحاح السادس عشر منها وذكرها أيضا في الإصحاح الحادي والعشرين

وقالت التوراة أبصرت سارة ابن هاجر المصرية المولود لإبراهيم يستهزئ فقالت لإبراهيم أخرج هذه الأمة وإبنها لأن هذا ابن الأمة لا يرث مع ابني إسحق فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان ابنه فقال الله لإبراهيم لا تشقن لحال الصبي وأمتك أطع سارة في جميع ما تقول لك لأن نسلك إنما يذكر بإسحق وابن الأمة أجعله أبا لشعب كثير لأنه ذريتك فغدا إبراهيم باكرا فأخذ خبزا وإداوة فأعطاها هاجر وحملها الصبي والطعام وأرسلها فأنطلقت وتاهت في برية بير شبع ونفد الماء من الأداوة فألقت الصبي تحت شجرة من شجر الشيح وانطلقت فجلست قبالته تباعدت عنه كرمية سهم لأنها قالت لا أعاين موت الصبي فجلست إزاه ورفعت صوتها وبكت فسمع الرب صوت الصبي فدعا ملاك الرب من السماء هاجر وقال لها مالك يا هاجر لا تخافي لأن الرب قد سمع صوت الصبي حيث هو قومي فاحملي الصبي وشدي به يديك لأني أجعله رئيسا لشعب عظيم فأجلى الله عن بصرها فرأت بير ماء فانطلقت فملأت الإداوة وأسقت الغلام فكان الله مع الغلام فشب الغلام وسكن برية فاران
فأخبرنا يا أيها الكاذب على كتاب الله المفترى على رسل الله من أين استجزت سب الأنبياء والكذب على الله ذي الآلاء
افي إنجيلك قرأته أم عن الحواريين بلغته حاشا وكلا بل بتواقحك اختلقته ثم من أعظم مباهتتك وأفحش جرأتك ومغالطتك أنك أوهمت بقولك ولم تقل فيها تعنى في هاجر عشر ما قال الله فيها في التوراة وفي إبنها تشعر بأن الله ذمها وإبنها في التوراة في عدة مواضع
وهذه التوراة قد تلوتها عليك وأنهيتها إليك فإذا بالتوراة تخبر بأن هاجر نبية أو صديقة مباركة أوحى الله إليها وكلمها وبشرها بنبوة ولدها إسماعيل بل قد مدح الله إسماعيل وأخبر عنه بما لم يخبر به عن إسحق حيث قال فيه يده على كل ويد كل به وسيحل على جميع حدود إخوته

وهذا الكلام يبشر بل يفصح ويخبر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فإن إسماعيل لم يقل الله تعالى فيه يده على كل يد ويد كل به وسيحل على جميع حدود إخوته إلا لأجل حفيده محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله تعالى قد بعثه بدعوة جميع الخلق إلى الله بني إسرائيل ومن دونهم ومن فوقهم فكل من بلغته دعوته وجب عليه الدخول في دينه
ثم إن الله تعالى قد أظهره على الدين كله ولو كره الكافرون وهذا كله وفاء بوعد الله تعالى لنبيه إبراهيم حيث قال في التوراة وقد استجبت لك في إسماعيل وباركته وكثرته وأنميته جدا جدا يولد له إثني عشر عظيما وأجعله رئيسا عظيما بشعب عظيم
فانظر أيها العاقل كيف قال الله في إسماعيل يده على كل ويد كل به وسيحل على جميع حدود إخوته ولم يقل مثل هذا في إسحق وإنما قال فيه يكون رئيسا على شعوب كثيرة وملوك الشعوب من نسله وبين الكلامين فرق ظاهر عند العاقل الفهم المنصف وكذلك قال في إسماعيل باركته وكثرته وأنميته جدا جدا ولم يقل مثل هذا القول في إسحق وإن كان قد قال فيه أباركه وأثبت عهدي له وهذا الذي وعد الله به إسحق وعد به إسماعيل وزاد زيادة عظيمة يعرفها من مساق كلام التوراة من كان عارفا بمجاري كلام الله تعالى فيها وكان مع ذلك عاقلا منصفا
وسننبه على سر تحت قوله جدا جدا في القسم الثاني من هذا الباب
فأما هاجر فقد جاء في التوراةة في حقها ما لم يجئ في حق سارة وذلك أن ملاك الرب كلمها عن الله وأبلغها أمره مرتين أو أكثر فإذن هي نبية أو صديقة وفي أي موضع من التوراة جاء أن سارة نبية وأن اله أرسل إليها ملكا ليبلغها أمره ونهيه كما فعل بهاجر
ولا شك أن من آتاه الله النبوة هو أفضل ممن لم يؤته إياها ولا يظن الجاهل أن هذا الكلام غض من منصب سارة رضي الله عنها بل هي صديقة مباركة وكل له مقام معلوم والحق أحق أن يتبع

ثم الذي يفضى منه العجب أنكم تعتقدون النبوة لمريم عليها السلام وليس لنبوتها في التوراة ولا في الإنجيل ذكر يدل على نبوتها ولا في كتب الأنبياء المتقدمين على زمان المسيح ثم تنكرون نبوة هاجر وتذمونها مع أنه قد جاءت نبوتها ومدحها في التوراة صريحا وهذا كله مما يدل على جهلكم وقلة توفيقكم وأنكم تتحكمون في الشرائع الآلهيه بأوهامكم
وأما قولك
واعلم كيف قطع الله ورث إسماعيل وأمه في قوله لا يرثك هذا اسكت يا جهول فلست تعرف ما تقول فما كان أجمل بك أن لو سترت عارك ولم تبد عوارك كيف تتحكم بما لا تعرف ولا تفهم ها أنت قد حرفت لفظ التوراة وغيرته وليس كما ذكرته كذبتك من أم الحويرث قبلها
وإنما لفظ التوراة أن سارة قالت لإبراهيم أخرج هذه الأمة وإبنها لأن هذا ابن الأمة لا يرث مع إبني إسحق فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان إبنه فأين هذا من النص الذي ذكرت فيظهر لي أنك له اختلقت
وهذا الذي ذكره الله في التوراة بزعمكم إنما هو حكاية عن قول سارة وليس حكاية عن الله ولو سلمنا أنه حكاية عن الله لما كان فيه دليل على ما زعمت وهو أن الله تعالى لم يجعل النبوة في نسل إسماعيل وأن الله قطعها عنه بل مفهومه وظاهره أن الذي منعه الله لإسماعيل إنما هو ميراث في إبراهيم وهو حظه في ماله وأعطاه إسحق وهذا السر نجيب يعز من يتنبه لأمثاله ولو كنت له محلا وأهلا لذكرناه لك فلسنا ممن يعلق الدر في أعناق الخنازير وكذلك في كون إسماعيل مخلوقا من نطفة إبراهيم في رحم هاجر مع كونها أمة وقد كان الله تعالى قادرا على أن يخلقه في رحم حرة
وكذلك لأي معنى أخرجت هاجر على تلك الحال حتى استقرت هاجر مع إسماعيل بمكة وهذه كلها أسرار معلومة عند من نور الله بصيرته وحسن سريرته وأصلح عقيدته ونيته فإن كنت تريد

أن تظفر بأمثال هذه الأسرار فعجل إلى الله الفرار ولا تلهينك الدعة والقرار وإلا فأنت أسوأ حالا من الثور والحمار ومع ذلك فأجل الله آت وكل ما هو آت قريب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
وأما قولك
حاكيا عن الله أنه قال لإبراهيم بإسحق يتسمى نسلك ولم يقل بإسماعيل يتسمى فلم يقل في التوراة يتسمى وإنما قال يذكر ثم قطعت الكلام عنا وسكت عما بعده ولو ذكرته لتبين أنك مبطل في كلامك وذلك أنه ذكر بعد هذا الكلام وإبن الأمة فإني أجعله أبا لشعب كثير لأنه ذريتك وقد تقدم ما قال الله فيه وأنه مفضل على إسحق وإن كانت أمه أمة وإنما قال الله لإبراهيم لأن نسلك إنا يذكر بإسحق بقرب زمان الأنبياء المنتسبين إليه ولكثرة عددهم والله أعلم
ثم لو سلمنا أنه جاء في التوراة يتسمى كما ذكرت لكان معنى ذلك أن الله يسمى ذرية إسحق بإسم إبنه يعقوب الذي سماه الله إسرائيل ثم غلب عرف الإستعمال على ذرية إسحق فقيل عليهم بنو إسرائيل وغاية ما في هذا إعلام الله تعالى بأنهم يسمون بإسمه أو بإسم ولده وهذا أمر قريب وخطب يسير وإنما كان يكون لك في هذا متمسك لغرضك الفاسد لو قال النبوة في ولد إسحق وليست في ولد إسماعيل ولم يقل هكذا وإنما قال ما قد أسمعتك والذي به أخبرتك ... لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي ...
وأما قولك
فتنسلت منه الأمة الذي قال فيها قرآنكم أشد كفرا ونفاقا
ياهذا قد أغيبت في جهلك وسخفت في قولك حيث تركت ما قالته التوراة في نسله وعظيم حرمته وطوله وذكرت ما يدل على

جهلك وكثرة تواقحك وقلة فضلك ولأي شيء لم تذكر في نسله ما قال الله فيه في كتاب التوراة حيث قال فيه وفي نسله باركته وكثرته وأنميته جدا جدا يولد له إثنى عشرة عظيما وأجعله رئيسا عظيما لشعب عظيم فأنت يا جاهل قد صغرت ما عظم الله وذممت ما مدح الله فحاق عليك لذلك غضب الله فبادر لانقاذ نفسك قبل حلول رمسك وندمك على ما فرط لك في أمسك فها أنا قد نصحتك ورسولنا يقول لك قد أبلغتك
ثم الذي قال فيهم قرآننا الأعراب أشد كفرا ونفاقا إنما أراد بهم قوما معينين وطائفة مخصوصين من أعراب البادية أهل جفاء وغلظة ردوا الحق بعد ظهوره وعاندوه حين وضوحه كما فعل أشياعكم من قبل
ثم لا تظن أن قول الله تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا أنه اراد منكم لأنكم أشد الناس كفرا وأعظم العقلاء عنادا وقد بينا ذلك فيما تقدم وإنما أراد الله لهذا المعنى وهو أعلم أن أعراب البادية أشد كفرا ممن كفر من عرب الحاضرة فلا تدخلون أنتم معهم تحت أفعل إلا كما يقال العسل أحلى من الخل
ثم إن جاز ذم شعب أو قبيلة لأن بعضهم كفر أو فسق فأشد الناس كفرا ونفاقا بنو إسرائيل لكونهم عبدوا العجل والأصنام على ما هو المعروف من أحوالهم فالكافرون من أجدادكم على الحقيقة أشد الكافرين كفرا وأسوأهم طريقة
وأما قولك
والسلام على من اتبع الهدى وآمن بشريعة المسيح حقيقة الإيمان نحن والحمدلله أهل الهداية والهدى المؤمنين بشريعة المسيح المصطفى المحققون أنكم لستم على شيء منها بل على الضلالة والردى وقد بينا ذلك فيما تقدم بالبراهين القاطعة
وبعد هذا نعقبها بالدلالات الصادعة بحول الله وقوته وقد نجز ما أردنا تتبعه على هذا السائل الجاهل بدينه الغافل ولو ذكرنا كل ما فيه من الفساد لخرج الكلام عن الضبط
وبعد الفراغ منه نتكلم على ما وعدنا به من الكلام في النبوات ونذكر ما فيها من المباحثات بعون الله وتوفيقه

القسم الثاني

في النبوات وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه و سلم
المقدمة الأولى

غرض هذه المقدمة
أن نبين فيها معنى النبوة والرسالة والمعجزة وشروطها ووجه دلالتها فنقول لفظ النبوة والرسالة والمعجزة وشروطها ووجه دلالتها فنقول لفظ النبي والنبوة وما تصرف منه راجع إلى النبأ وهو الخبر تقول نبأت وأنبأت بمعنى أخبرت وخبرت وهذا مع لفظ نبئ بين
وكذلك هو مع تسهيله على أصح الأقوال فإنه قد يكون أصل شيء من الألفاظ الهمز ثم يخفف الإسم منه كما قالوا خابية وهو من خبأت هذا أصح ما قيل في اشتقاق هذا اللفظ فإذا تقرر هذا فنبئ على أصل الوضع وزنه فعيل وفعيل يأتي في الكلام بمعنيين أحدهما فعيل بمعنى فاعل كما قيل رحيم بمعنى راحم وسميع بمعنى سامع والثاني فعيل بمعنى مفعول كما قيل رجيم بمعنى مرجوم وخصيب بمعنى مخصوب فعلى هذا يصح في نبي أن يكون بمعنى مخبر وبمعنى مخبر
فعلى أصل الإشتقاق ووضع العرب كل من أخبر بشيء أو أخبر بشيء فهو نبي
وعلى المتعارف بين المتشرعين إنما يطلقون إسم النبي على من كان مخبرا عن الله فأما أن يكلمه الله مشافهة وإما بواسطة ملاك
وهذا هو عرف المتشرعين في النبوة وإلى هذا يرجع معناها فالنبئ عند عقلاء أهل الشرائع إنما هو حيوان ناطق مائت كامل في نوعه مخبر عن الله تعالى بحكم أو مشافهة إما بواسطة ملك أو ما تنزل منزلته

فقولنا حيوان ناطق أردنا به أن إنسانا باق على أصل إنسانيته لا يمتاز عن غيره من نوع الإنسان بوصف حقيقي وإن إمتاز بأوصاف عرضية عن غيره كالعلوم الخاصة بهم وصفات الكمال التي خصهم الله بها فذلك لا يخرجه عن كونه إنسانا ولأجل هذا المعنى كانت الرسل تقول لقومها إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وكذلك قال الصادق المصدوق إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي فجعل الفصل بينه وبين نوعه ما خص به من الوحي
وقولنا مائت تنبيه على مآله لئلا يغلوا في بعضهم جاهلون كما فعلت النصارى فينسبونهم إلى ما لا يليق بمن يموت
وقولنا كامل أعنى بذلك أن الأنبياء مجبولون على أتم صفات نوع الإنسان وذلك معلوم من أوصافهم وإن كانوا متفاوتين في ذلك
وقولنا مخبر عن الله هذا القيد هو خاصته التي تفصله عن غيره من نوعه فإن لم يكن كذلك لم يقل عليه أنه نبي
وقولنا إما مشافهة وإما بواسطة ملاك بحرز ممن يبلغه خير الله تعالى على ألسنة رسله فإنه ليس بنبي ولا يقال عليه بحكم العرف إنه نبي ولو جاز ذلك لجاز أن يقال نبي على كل متشرع سمع من رسوله خبرا عن الله وهذا لم يقله أحد
وقولنا أو ما تنزل منزلته نريد به أن الأنبياء قد يتلقون الوحي على وجوه منها أن يكلمه الله مشافهة ومنها أن يرسل إليه ملكا يخبره عن الله ومنها أنه يلقى إليه الوحي في النوم ومنها أن الله تعالى يقذف في روعه ويلهمه إلهاما حتى لا يشك أن الأمر كذلك ويقطع به
فإذا تقرر أن حقيقة النبوة ما ذكرناه وأن فضله الخاص به هو ما تحصل له من الأخبار عن الله فذلك الخبر أن أمر النبي بتبليغه لغيره فذلك النبي هو الذي يقال عليه رسول والرسالة هو الكلام المبلغ عن الله فلأجل هذا يصح أن يقال كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا

إذ الرسالة نبوة وزيادة وهذا بين بنفسه فإذا تقرر ذكل فهذا البشرى الذي يدعى أن الله أرسله إلينا لا بد أن يكون صادقا وذلك لا نعرفه بغير دليل فلا بد من دليل
والدليل المتحدى به هو المعجزات ولا بد من النظر في حقيقتها وفي شروطها وفي وجه دلالتها

فأما المعجزة

فلفظ مأخوذ من الإعجاز وذلك أنك تقول عجز فلان عن كذا عجزا إذا لم يقدر عليه ولم يقم به وأعجزته إعجازا إذا جعلته يعجز وتقول أعجزني الشيء إذا فاتك ولم تقدر عليه
وكلها راجعة إلى أن العاجز عن الشيء هو الذي لا يتمكن من الشيء ولا يقدر عليه ثم في تسمية هذه الأدلة التي تدل على صدق الأنبياء معجزات تجوز وذلك أن المعجز على التحقيق إنما هو خالق العجز وهذه الأسباب التي يقع العجز عندها تسمى معجزة بالتوسع وذلك من تسمة الشيء باسم غيره إذا جاوزه أو كان منه بسبب
هذا شرح لفظ المعجزة
فأما حقيقتها فهو أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة
إنما قلنا أمر ولم نقل فعل ليشتمل بذلك على الفعل الخارق للعادة والمنع من الفعل المعتاد فلو قال نبي آيتي أنه لا يقدر أحد أن يتكلم اليوم فكان ذلك لكان ذلك دليلا على صدقه ويكون ذلك معجزة له مع أنه ليس إتيانا بفعل عرفي وإنما هو منع من فعل معتاد وإنما قلنا مقرون بالتحدي لئلا يتخذ الكاذب معجزة من تقدمه حجة لنفسه ولتتميز عن الكرامة وما في معناها وإنما قلنا مع عدم المعارضة لتتميز عن السحر والشعبذة
وإذا حققت النظر فيما ذكرناه في حد المعجزة علمت شروطها لكن ينبغي لك أن تعرف أن المعجزة لا تكون دليلا إلا في حق من علم وجود الباري تعالى وأنه قادر عالم مريد موصوف بصفات الكمال حتى يتأتى منه الإرسال والتصديق والتكليف وإذا لم يعرف الناظر

هذه الأمور بأدلة عقليه لم يعرف المعجزة ولم يفده العلم بالتصديق للنبي
وأما وجه دلالتها
فهو أن المشاهد للمعجزة المتحدي بها إذا علمها وعلم شروطها علم على الضرورة أن الله تعالى قصد بذلك المعجز تصديق المدعي ويتبين هذا بمثال وذلك أنه لو فرضنا ملكا عظيما اجتمع له أهل مملكته في مجلسه وأهل المملكة مصغون لما يأمرهم به ذلك الملك
فقام رجل من بين يديه وقال إني رسول هذا الملك إليكم وقد أمرني أن أبلغكم أمره ونهيه وأنا صادق في قولي هذا ثم يقول يا أيها الملك إن كنت صادقا فيما أقوله عنك فخالف عادتك وقم عن سريرك قياما تخالف به المعتاد من فعلك فإذا فعل الملك ذلك عند تحدي المدعى فإن أهل المجلس يضطرون إلى العلم بأن الملك قصد ذلك الفعل تصديقه ولا يعتريهم في ذلك ريب ولا توقف فتنزلت إذن تلك الأفعال بتلك الشروط منزلة قوله صدقت أنا أرسلتك وهذا بين بنفسه عند كل موفق منصف معلوم علىالقطع
فإذا تقرر ذلك فمهما ادعى شخص الرسالة واستدل عليها بمثل ما ذكرناه كان محقا في دعواه صادقا في قوله لا يجوز لعاقل أن يتخلف عن متابعته سواء ادعى عموم رسالته أو خصوصها ورسولنا محمد صلى الله عليه و سلم قد ادعى عموم رسالته واستدل على صدقه بالمعجزات على الشروط التي ذكرناها فهو صادق ولا يجوز لعاقل بلغه أمره أن يتخلف عن متابعته وتصديقه
وسنذكر إن شاء الله بعض ما أمكن ذكره من معجزاته فإنه صلى الله عليه و سلم قد أيد بمعجزات كثيرة حتى إذا جمعت وتتبعت علم منها أن الله تعالى قد جمع له أكثر معجزات الأنبياء قبله وخصه بمعجزات لم يشاركه فيها غيره منهم وستقف إن شاء الله على أكثر ذلك
فهذه المقدمة الأولى

المقدمة الثانية

وأما المقدمة الثانية
فالغرض منها أن تتبين فيها أن عيسى عليه السلام ظهرت المعجزات على يديه وتحدى بها الخلق ليؤمنوا أنه رسول الله لا ليؤمنوا بأنه إله وأن النصارى غير عالمين بمعجزات عيسى عليه السلام إذ لم تتوافر عندهم فنقول وبالله التوفيق
إن النصارى غايتهم أن يسندوا معجزات عيسى عليه السلام لما في أيديهم من الإنجيل وهو لم يتواتر نقله ولا أمن التحريف والغلط فيه على ما تقرر قبل وإذا كان هذا فكل ما في أيديهم من الأخبار عنه في الإنجيل لا تفيد العلم القطعي وغاية ذلك أن تفيد غلبة ظن
والظن في الإعتقاد بمنزلة الشك بل هو شك فإذن هم من معجزات عيسى في شك وهم لا يشعرون بذلك الإفك
ومما يدل على أنهم من كتابهم وشرعهم على غير علم
ما استفاض في كتب التواريخ عندنا وعندهم وذلك أن عيسى عليه السلام لما بعثه الله تعالى دعا بني إسرائيل للإيمان فأجابه من شاء الله منهم فلما رفعه الله تعالى استحلى الناس كلامه بعد ذلك حتى بلغ عدد بني إسرائيل سبع مائة رجل فكانوا يجاهدون في بني إسرائيل ويدعون الى الايمان فقام بولش اليهودي وكان هو الملك في بنى اسرائيل فحشد عليهم الأجناد وخرج عليه وقاتلهم فهزمهم وأخرجهم من بلاد الشام حتى انتهى فلهم إلى الدروب فأعجزوه فقال بولش الملك لجنوده إن كلام هؤلاء لمستحلى وقد قدموا على عدوكم وسيرجعونهم في ملتهم فيكثرون علينا فيخروجون إلينا ويخرجوننا من بلاد الشام ولكني أرى لكم رأيا قالوا وما هو قال تعاهدوني على كل شيء كان خيرا أو شرا ففعلوا فترك ملكه ثم لبس لباسهم وخرج إليهم ليضلهم حتى

انتهى إلى عسكرهم فأخذوه وقالوا الحمدلله الذي أخزاك أمكن منك فقال لهم أجمعوا رؤوسكم فإنه لم يبلغ مني حمقي أن آتيكم وإلا ومعي برهان فأبلغوه رؤوسهم
فقالوا مالك فقال إني لقيني المسيح منصرفي عنكم فأخذ سمعى وبصري وعقلي فلم أسمع ولم أبصر ولم أعقل ثم كشف عني فأعطيت الله عهدا أن أدخل في أمركم فأتيت لأقيم فيكم وأعلمكم التورا وأحكامها فصدقوه فأمرهم أن يبنوا له بيتا ويفرشوه رمادا ليعبد الله فيه بزعمه ويعلمهم التوراة
ففعلوا وعلمهم ما شاء الله ثم أغلق الباب دونه فأطافوا به وقالوا نخشى أن يكون رأى شيئا يكرهه ثم فتحه بعد يوم فقالوا أرأيت شيئا تكرهه قال لا ولكني رأيت رأيا وأعرضه عليكم فإن كان صوابا فخذوه وإن كان خطأ فردوني عنه قالوا هات قال هل رأيتم سارحة تسرح إلا من عند ربها وتخرج إلا من حيث تؤمر به قالوا لا قال فإني رأيت الصبح والليل والشمس والقمر والبروج إنما تجيء من ها هنا وما أوجب ذلك إلا وهو أحق الوجوه أن يصل إليه قالوا صدقت فردهم عن قبلتهم
ثم أغلق الباب بعد ذلك بيومين ففزعوا أشر من الأول وأطافوا به ففتحه فقالوا أرايت شيئا تكرهه قال لا ولكني رأيت رأيا قالوا هات قال ألستم تزعمون أن الرجل إذا أهدى إلى الرجل الهدية وأكرمه بالكرامة فردها شق ذلك عليه وأن الله تعالى سخر لكم ما في الأرض وجعل ما في السماء لكم كرامة فالله أحق أن لا ترد عليه كرامته
فما بال بعض الأشياء حلال وبعضها حرام ما بين البقة إلى الفيل حلال قالوا صدقت
ثم أغلق بعد ذلك ثلاثا ففزعوا أمثل من الثانية فلما فتح لهم قال لهم إني رأيت رأيا قالوا هات قال لنخرج كل من في البيت إلا يعقوب ونسطور وملكون والمؤمن
ففعلوا فقال هل علمتم أحدا من الإنس خلق من الطين خلقا فجعله فصار نفسا قالوا لا قال فهل علمتم أن أحدا من الإنس

أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى قالوا لا قال هل علمتم أن أحدا من الإنس ينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم قالوا لا قال فإني أزعم أن الله تعالى تجلى لنا ثم احتجب
فقال بعضهم صدقت وقال بعضهم لا ولكنه ثلاثة والد وولد وروح القدس وقال بعضهم الله وولده وقال بعضهم هو الله تجسم لنا
فافترقوا على أربع فرق فأما يعقوب فأخذ بقول بولش إن الله هو المسيح وأنه كان ثم تجسم وبه أخذت شيعته وهم اليعقوبية وأما نسطور فقال المسيح ابن الله على جهة الرحمه وبه أخذت شيعته وهم النسطورية إلا أن شيعته لم تعتقد أنه سمى إبنا على جهة الرحمة بل على ما تقدم وأما ملكون فقال إن الله ثلاثة وبه أخذت شيعته وهم الملكية الذين قالوا إن الله ثلاثة أقانيم فقام المؤمن وقال لهم عليكم لعنة الله والله ما حاول هذا إلا إفسادكم ونحن أصحاب المسيح قبله وقد رأينا عيسى وسمعنا منه ونقلنا عنه والله ما حاول هذا إلا ضلالتكم وفسادكم
فقال بولش للذين اتبعوه قوموا بنا نقاتل هذا المؤمن ونقتله هو وأصحابه وإلا أفسد عليكم دينكم فخرج المؤمن إلى قومه وقال أليس تعلمون أن المسيح عبد الله ورسوله وكذا قال لكم قالوا بلى قال فإن هذا الملعون قد أضل هؤلاء القوم فركبوا في أثرهم
فقاتلوهم فهزم المؤمن وأصحابه وكان أقلهم تبعا فخرج مع قومه إلى الشام فأسرتهم اليهود فأخبروهم الخبر وقالوا إنما

خرجنا إليكم لنأمن في بلادكم ومالنا في الدنيا من حاجة إنما نلزم الكهوف والصوامع ونسيح في الأرض فخلوا عنهم
ثم إن قوما من أولئك الذين كفروا فعلوا مثل ما فعل قوم المؤمن اتخذوا الصوامع وساحوا وأظهروا البدعة فهو قول الله عز و جل ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا إبتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها يعني التوحيد اختلفوا فيه إلا فرقة المؤمن وفيهم نزلت فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين بالجهة وظهور محمد صلى الله عليه و سلم
وكان هرب المؤمنين منهم إلى جزيرة العرب فأدرك النبي صلى الله عليه و سلم منهم ثلاثون راهبا فآمنوا به وصدقوه وتوفاهم الله على الإسلام
كان هذا والله أعلم بعد المسيح بأربعين سنة أو نحوها ثم لم يزل أمر المؤمن وأصحابه خفيا وغيرهم من الفرق مختلفون ويتهارجون ولم يستقر لهم قدم إلى مدة قسطنطين قيصر الملك ابن هيلانة وذلك بعد رفع المسيح بمائتين وثلاثة وثلاثين سنة
وذلك انه كثر عدوه وكاد ملكه يذهب بإختلاف رعاياه عليه وضعفهم وكسلهم عن نصرته فرام حملهم على شريعة ينظم بها سلكهم ويؤلف بها متفرقهم فاستشار من لديه من أهل النظر فوقع اختيارهم على أن يتعبد القوم بطلب دم ليكون ذلك أقوى لارتباطهم معه وأوكد لجدهم في نصره فوجدوا اليهود يزعمون أن في بعض تواريخهم خبرا عن رجل منهم هم أن ينسخ حكم التوراة وينفرد بالتأويل فيها فعمدوا إليه وهو في نفر ممن اتبعه وظفروا بواحد

منهم وشهد لديهم رجل واحد أنه ذلك المطلوب فصلبوه وما عندهم تحقيق لكونه ذلك المطلوب بعينه إلا فقدهم إياه من حينئذ
فعند ذلك عمد قسطنطين إلى من ينسب إلى دين المسيح فوجدهم قد اختلفت آراؤهم ومزجت أديانهم فاستخرج ما بقى من رسم الشريعة المنسوبة للمسيح وجمع عليها وزراءه فأثبت ما شاء منها وتحكم فيها بإختياره حسب ما رآه موافقا له بالصلوبية لتعبد قومه بطلب دم والقول بترك الختان لأنه شأن قومه ثم أكد ذلك وشده بمنامة إختلقها وادعى أنه أوحى إليه فيها
وذلك أول شيء أظهره من هذا الأمر فجمع أنصاره ورعاياه من الروم وذلك على رأس سبع سنين من مدة ملكه وقال لهم إنه كان يرى في منامه آتيا أتاه فقال له بهذا الرسم تغلب وعرض عليه هيئة الصليب فأعظمت ذلك العامة وإنفعلت لما سمعت منه ثم بعث إلى إمرأة في ذلك الزمان يقال لها الأنه كاهنة وكانت ذات جأش وقوة فشهدت له أنها رأت مثل ما رأى فقوى تصديق العامة لذلك
وفي هذا كله لا يعلمون لذلك الرسم تأويلا ولا كان قسطنطين كشف لهم شيئا من أمره فخرج بهم إلى عدوه ووعظ قومه وهول عليهم أمر الرسم فحصل له كل ما أراده من جد القوم وإجتهادهم معه فلما عادوا إلى أوطانهم بعد الظفر بعدوهم سألوه عن تأويل ذلك الرسم وألحوا عليه فيه فقال لهم قد أوحى إلى في نومي أنه كأن الله تبارك وتعالى هبط من السماء إلى الأرض فصلبته اليهود فهالهم ذلك كثيرا مع ما حصل عندهم من تصديقه وعظم عليهم الخطب فيه فإنقادوا إلى قسطنطين إنقيادا حسنا وصح له منهم ما أراده وشرع لهم هذه الشرائع التي بأيديهم اليوم أو أكثرها

وقد ظهر لجماعة من أهل العلم بأحوال الأمم وبنوازل الأزمان أن هذا الشخص الذي تعظمه النصارى وتصفه بالإلهية لم يكن له وجود في العالم ولكن قسطنطين إبتدع ذلك كله واتفق مع نفر من اليهود من أحبارهم على أن يبذل لهم من متاع الدنيا ما شاءوا ويشهدون له عند قومه بأن ذلك الشخص كان عند اليهود فصلبته ففعلوا وكتبوا من أخباره شيئا فتلقت ذلك النصارى وقبلوه ودانوا به ولعله أكثر الإنجيل الذي بأيديهم اليوم
ولتعلم أن هذه الأخبار التي ذكرناها لا يمكنهم إنكار جملتها وإن أنكروا بعض تفاصيلها لكون هذه القصص معروفة على الجملة عندهم فإنهم لا يقدرون على جحد محاربة بولش اليهودي وإجلاؤهم من الشام ودخول بولش في دينهم وكذلك ملك قسطنطين مما لا ينكرون أشهاره لكتبهم ثم لو قدرنا أن هذه الوقائع لم تعلم صحتها ولا كذبها فشرعهم قابل لأمثالها فإن معظم معتمدهم في أمور دياناتهم إنما هو الإنجيل ونقله غير متواتر لا سيما والأحداث عندهم في أكثر الأحيان بمنامات يدعونها يجعلونها أصولا يعولون عليها وبمحافل يجتمعون فيها فيتحكمون بآرائهم

ولا يستندون لشيء من كتبهم ولا لشيء من كلام أنبيائهم وإن شئت أن ترى هذا عيانا فانظر كتب إجتماعاتهم ومحافلهم فإنهم ينحشدون لمواضع مخصوصة في أحيان مخصوصة ويخترعون فيها أحكاما وأمورا لا مستند لهم ولا أصل إلا بالتحريم على المآكل والتحكم في العامة بفارغ الأقاويل وسنبين ذلك إذا ذكرنا جملا من أحكامهم وإذا كان هذا مبنى شريعتهم فكيف يوثق بشيء من ترهاتهم
فإذا تقرر ذلك فلتعلم أن أتخاذهم المسيح إلها إنما سببه ما سبق ذكره ولا يقدرون على أن ينسبوا شيئا من ذلك إلى عيسى عليه السلام بل قد نقلوا عنه في إنجيلهم ما يدل دلالة قاطعة من حيث اللفظ على أنه إنما ادعى النبوة وعليها استدل بمعجزاته وفي دعواه النبوة كذبته اليهود
ونحن الآن نسرد بعض ما وقع في إنجيلهم من دعواه الرسالة بحول الله سبحانه
من ذلك
ما جاء في الإنجيل عنه أنه قال حين خرج من السامرية ولحق بجلجال أنه لم يكرم أحدا من الأنبياء في وطنه
وفي إنجيل لوقا أنه لم يقبل أحد من الأنبياء في وطنه فكيف تقبلونني وهذا نص لا يقبل التأويل في أنه إنما ادعى النبوة المعلومة
وفي إنجيل ماركش أن رجلا أقبل إلى المسيح وقال له أيها المعلم الصالح أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة فقال له المسيح لم قلت لي صالحا إنما الصالح الله وحده وقد عرفت الشروط وذلك ألا تسرق ولا تزنى ولا تشهد بالزور ولا تخون وأكرم أباك وأمك

وفي إنجيل يوحنا أن اليهود لما أرادت القبض عليه وعلم بذلك رفع بصره إلى السماء وقال قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك وإجعل لي سبيلا إلى أن أملك كل من ملكتني الحياة الباقية وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلها واحدا وبالمسيح الذي بعثت فقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت ما أمرتني به فشرفني لديك
وفي إنجيل متى أنه قال لتلاميذه لا تنسبوا أباكم على الأرض فإن أباكم الذي في السماء وحده ولا تدعوا معلمين فإن معلمكم المسيح وحده
فقوله لا تنسبوا أباكم على الأرض أي لا تقولوا أنه على الأرض ولكنه في السماء ثم أنزل نفسه حيث أنزله الله تعالى فقال ولا تدعوا معلمين فإن معلمكم المسيح وحده فها هو قد سمى نفسه معلما في الأرض وشهد أن الههم في السماء واحد ونهاهم أن ينسبوه لإلهية
وفي إنجيل لوقا أنه حين أحيا الميت بباب مدينة نايين حين أشفق لأمه لشدة حزنها عليه قالوا إن هذا النبي لعظيم وإن الله قد تفقد أمته ولم يقولوا إن هذا إله عظيم
وفي إنجيل يوحنا أن عيسى قال لليهود لست أقدر أن أفعل من ذاتي شيئا لكني أحكم بما أسمع لأني لست أنفذ إرادتي بل إرادة الذي بعثني
وفي إنجيله أيضا أنه أعلن صوته في البيت وقال لليهود قد عرفتموني موضعي فلم آت من ذاتي ولكن بعثني الحق وأنتم تجهلونه فإن قلت إني أجهله كنت كاذبا مثلكم وأنا أعلم أني منه وهو بعثني

فانظر كيف أخبر عن نفسه أنه معلوم عند اليهود وأخبر عن الله أن اليهود لا تعرفه وقال إنه لم يأت من ذاته ولكن الله بعثه وهكذا كانت دعوة من قبله من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم أن ينتسبوا إلى ما ينفرد به ذو الجلال والإكرام
وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود بعد خطاب طويل مذكور في الإنجيل حين قالوا له إنما أبونا إبراهيم فقال إن كنتم بني إبراهيم فاقفوا أثره ولا تريدوا قتلي
على أني رجل أديت إليكم الحق الذي سمعه من الله غير أنكم تقفون أثر آبائكم قالوا لسنا أولاد زنا إنما نحن أبناء الله فقال لو كان الله أباكم لحفظتموني لأني رسول منه خرجت مقبلا ولم أقبل من ذاتي وهو بعثني لكنكم لا تقبلون وصيتي وتعجزون عن سماع كلامي إنما أنتم أبناء الشيطان وتريدون إتمام شهواته إلى كلام كثير
وفيه أيضا أنه كان يمشي يوما فأحاطت به اليهود وقالوا إلى متى تخفى أمرك إن كنت المسيح المنتظر فأعلمنا بذلك
ولم تقل له إن كنت إلها لأنه لم تعلم من دعواه ذلك ولا إختلاف عند اليهود أن الذي ينتظرونه إنما هو إنسان نبي ليس بإنسان إله كما تزعمون
وفي الإنجيل أيضا عنه أن اليهود أرادوا القبض عليه فبعثوا لذلك الأعوان وأن رجعوا إلى قوادهم فقالوا لهم لم لم تأخذوه قالوا ما سمعنا آدميا أنصف منه فقالت اليهود وأنتم أيضا مخدوعون أترون أنه آمن به أحد من القواد أو من رؤساء أهل الكتاب إنما آمن به من الجماعة من يجهل الكتاب فقال لهم نيقوديموس أترون أن كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه فقالو له اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء نبي من جلجال

فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل لهم نفسه منزلة نبي فقط ولو علمت من دعواه الإلهية لقاتلته يومئذ
ومثل هذا كثير في إنجيلهم لو ذهبت أذكره لطال أمره
وقد تقدم من كلام أشعياء أن الله تعالى قال في المسيح هذا غلامي المصطفى وحبيبي الذي ارتضت به نفسي
ومن كلام عاموس النبي أن الله قال على لسانه ثلاثة ذنوب أقيل لبني إسرائيل والرابعة لا أقيلها بيعهم الرجل الصالح
ولم يقل بيعهم إياي ولا قال بيعهم إلها متساويا معي فهذا المبيع لا يخلو أما أن يكون هو المسيح كما تزعمون فقولوا فيه كما قال الله أنه رجل صالح ولا تقولوا إنه إله معبود وأما أن يكون المبيع غيره فهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه ويلزمكم إنكار صلوبية المسيح وهو كفر عندكم وقد كررنا هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا لكون النصارى على إختلاف فرقهم يعتقدون له الإلهية على إختلاف في كيفية ذلك كما تقدم
وحتى لقد ذهبت طائفة منهم إلى مقالة لم يسمع قط في أكناف العالم وأطرافه من اجترأ على التفوه بها ونحن نستغفر الله قبل حكايتها ونتبرأ إلى الله من مذاهبهم الفاسدة ومن القائل بها وذلك أنى وقفت على رسالة بعض الأقسة كان بطليطلة نسبه من القوط قال فيها هبط الله بذاته من السماء والتحم ببطن مريم
ثم قال وهو الإله التام والإنسان التام ومن تمام رحمته على الناس أنه رضى بهرق دمه عليهم في خشبة الصليب فمكن اليهود أعداءه من نفسه ليتم سخطه عليهم فأخذوه وصلبوه وغار دمه في إصبعه لأنه لو وقع منه شيء في الأرض ليبست إلا شي وقع فيها فيبست في موضعه النوار

لأنه لم يمكن في الحكمة الأزلة أن ينتقم الله من عبده العاصي آدم الذي ظلمه واستهان بقدره فلم يرد الله الإنتقام منه لإعتلاء منزلة السيد وسقوط منزلة العبد أراد أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو معه
فانظره تواقح هذا القائل وإستخفافه بحق الله تعالى وجهله وتناقضه وحمقه فوالله لو حكى مثل هذا القول السخيف عن مجنون أو موسوس لما كان يعذر بقوله ولبودر بضربه وقتله حتى لا يجترئ على مثله ونحن نربأ بأكثر المجانين والموسوسين أن يتقولوا بهذا المذهب الغث الهجين أو ينتحلوا ركاكة هذا الدين السقيم إلا أن يكون مستغرقا في الوسوسة والجنون فالحمق أنواع والجنون فنون
وعند الوقوف على هذا المذاهب القبيحة والأوهام يتبين فضل دين الإسلام ويتحقق معنى قول النبي عليه السلام إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتى ينفذه فيهم
وفي مثل هذا الضرب المثل إذا جاء البين صم الأذن وعمى العين والحمدلله الذي أعاذنا من هذه الرذائل وتفضل علينا بدين الحنيفية الذي خص بكل الفضائل التي يقبلها بفطرته الأولى كل عاقل ويستحسنها كل ذكي فاضل
فقد تحصل من هاتين المقدمتين معنى النبوة وبيان شروطها وأن عيسى عليه السلام نبي ورسول إذ قد كملت فيه شروط الرسالة وأنه ليس باله وأن النصارى ليسوا عالمين بشيء من أحوال المسيح ولا من معجزاته على اليقين والتفصيل
وغايتهم أن يعلموا أمورا جملية لكثر ة تكرار هذا المعنى عليهم
ثم تلك الأخبار التي يتحدثون بها عن المسيح وتتكرر عليهم لو كلفوا أن يسندوا شيئا منها لغير الإنجيل كما ينقل متواترا لما استطاعوا شيئا من ذلك ولا وجدوا إليه سبيلا
ومما يؤيد هذا المعنى ويوضحه أن اليهود كانوا رهطه وكفلته

وعندهم نشأ وهم يخالفونكم في كثير مما تنسبون إليه ولا يوافقونكم على نقلها
ومن ذلك أن اليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعين يوما وقالوا ما كان ينبغي لنا أن نحبسه أكثر من ثلاثة أيام إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم لأنه كان يداخله بصناعة الطب
وفي إنجيلكم أنه أخذ صبح يوم الجمعة وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه
وكذلك تزعم اليهود كلهم أنه لم يظهر له معجزة ولا بدت لهم منه آية غير أنه طار يوما وقد هما بأخذه فطار على أثره أحد منهم فعلاه في طيرانه وتوله فسقط إلى الأرض بزعمهم
ومواضع كثيرة من إنجيلكم تدل على ما قالته اليهود من أنه لم يأت بآية
فمن ذلك أن اليهود قالت له ما آيتك التي ترينا ونؤمن بك وأنت تعلم أن آباءنا قد أكلوا المن والسلوى في المفاز فقال إن كان أطعمكم موسى خبزا بالمفاز فأنا أطعمكم خبزا سماويا يريد نعيم الآخرة فلو عرفت اليهود له معجزة لما قالت ذلك ثم لم يجبهم على قولهم بمعجزة ولا آية
وفي إنجيلكم أن اليهود جاءوا يسألونه آية فقذفهم وقال إن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية ولا تعطى ذلك
وفيه أيضا أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم إن كنت المسيح فأنزل نفسك نؤمن بك يطلبون منه بذلك آية فلم يفعل

ومثل هذا كثير فيه
ثم إن اليهود عندهم من الإختلاف في أمره ما يدل على عدم يقينهم بشيء من أخباره فمنهم من يقول إنه كان رجلا منهم يعرفون أباه وأمه وينسبونه لزانية وحاشى لله كذبوا ويسمون أباه للزنية البندير الرومي وأمه مرم الماشطة كذبوا لعنهم الله ويزعمون أن زوجها يوسف لما رأى البندير عنها على فراشها وتشعر بذلك فهجرها وأنكر إبنها ومنهم من يقول أنه لم يتولد من غير أب وينكره ويقول إنما أبوه يوسف بن يهوذا الذي كان زوجا لمريم
ثم إن اليهود لعنهم الله أطبقت على إطلاق الذم عليه ثم اختلفوا في سبه فمنهم من قال ما تقدم ومنهم من ذكر سبا آخر وهو أنهم زعموا أنه كان يوما مع معلمه يهوشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا وجاءت إمرأة من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم فقال يهوشوع ما أحسن هذه المرأة يريد فعلها فقال عيسى بزعمهم لعنهم الله لولا عمش في عينيها فصاح يهوشوع وقال له ما ممزار ترجمته يا زنيم أتزنى بالنظر وغضب عليه عضبا شديدا وعاد إلى بيت المقدس وحرم باسمه ولعنه في أربع مائة قرن قالوا فحينئذ لحق بزعمهم ببعض قواد الروم وداخله بصناعة الطب فقوى لذلك بزعمهم على اليهود وهم يومئذ في ذمة قيصر تباريوش وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويعرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان
ومنهم من يقول إن ذلك إنما أطلق عليه لأنه كان يوما يلاعب الصبيان في صغره بالكرة فوقعت له بين جماعة من مشايخ اليهود فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشائخ فقوى عيسى وتخطى رقابهم وأخذها فقالوا له ما نظنك إلا زنيما فأمضيت عليه هذه الشتيمة
وكذلك يختلف في صنعة أبيه الذي تقولون أنتم فيه خطيب

أمه فمنهم من يقول يوسف النجار وبعضهم يقول إنما هو الحداد وكذلك تختلفون أنتم في إسم أبيه فبعضكم يقول يوسف بن يعقوب وبعضكم يقول يوسف بن هالى وكذلك اختلفتم أنتم في آبائه وفي عدده فمنكم من يقلل ومنكم من يكثر على ما تقدم فهذا الإختلاف الكثير والإضطراب البين الشهير يدل على أنكم واليهود في شك منه وأنه لم يثبت عندكم خبر متواتر عنه وإنما هي ظنون كاذبة وأوهام راتبة وسنبين مداخل الشك والأوهام عليهم في قولهم بصلوبيته ونبين أن اليهود والنصارى في قولهم بصلبه كاذبون وأنهم في ريبهم يترددون فلولا أن من الله علينا بفضله علينا وعليكم معاشر النصارى بأن بعث إلى الجميع سيد المرسلين لبقى الجميع من أمر عيسى حيارى
فنزه الله المسيح وأمه على لسان نبيه مما قالته اليهود فيهما من الأقوال الوخيمة ونسبوه لها من الهجاء والشتيمة وكما شهد ببراءة المسيح وأمه مما نسبته اليهود إليهما كذلك شهد ببراءتهما مما نسبتموهما أنتم إليه وتقولتموه عليهما
وذلك أن منكم طائفة يقولون إن مريم إله وقد أطبقتم على أن المسيح إله وإبن الإله ونبينا عليه السلام يقول مخبرا عن الله سبحانه وتعالى ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة
فإذا سمع القائل قوله فيهما علم بعقله أن ذلك القول هو الحق وإن كان ممن طالع الزبور علم أن دعاء داوود مستجاب ومقاله صدق وذلك أن في الزبور أن الله تعالى قال لداوود سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي إبنا فقال

اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه بشر
فاعتبر قول داوود حين أفزعه ذلك وراعه كيف دعا إلى الله أن يبعث جاعل السنة الذي يعلم الناس أن ذلك الولد المدعو إنما هو بشر
وكذلك قال المسيح على ما حكاه إنجيلكم اللهم ابعث البارقليط ليعلم الناس أن ابن الإنسان بشر
والبارقليط بالرومية هو محمد بالعربية
فلما ضللتم وتفوهتم بذلك وراغمتم أدلة العقول وكلام الأنبياء المنقول بعث الله جاعل السنة وكاشف الغمة محمدا صلى الله عليه و سلم فأعلم الناس أنه بشر ليس بإلاه ولا ابن إله فقال مبلغا عن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وقال تعالى وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا أن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا
ونذكر الآن هنا خبر النجاشي ليكون منبهة للعاقل ومردعة للجاهل
وذلك أن الله تعالى لما بعث محمدا صلى الله عليه و سلم اتبعه جماعة ممن نور الله قلبه وشرح للإسلام صدره وذلك في أول الأمر فآمنوا به والتزموا شرعه وأحكامه فكان كفار قريش والمخالفون لهم في أديانهم يؤذونهم ويعذبونهم يرومون بذلك ردهم عن دينهم كما قد فعل بأتباع الأنبياء قبلهم فلما أشتد عليهم الأمر شكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرهم أن يهاجروا إلى أرض الحبشة ووعدهم بأن يجعل الله من أمرهم فرجا وأخبرهم أن بها ملكا عظيما لا يظلم عنده أحد ففعلوا فقدموا على النجاشي وإسمه أصحمة وكان على صميم دين النصرانية

فلما قدموا عليه استقر بهم المنزل ووجدوه خير منزل فأقاموا هنالك دينهم واغتبط النجاشي بصحبتهم وهم بجواره فلما رأى كفار قريش أن قد وجدوا بأرض النجاشي أمنا ودعة وجهوا إثنين منهم وأصحبوهما هدايا جليلة إلى النجاشي وأقسته وطلبوا منه ومن أساقفته أن يسلمهم لهما
فلما قدما أرض النجاشي دفعا لأقسته هداياهم وطلبا منهم أن يعينوهما على ردهم معهما وإسلامهم لقومهما ثم دفعا للنجاشي هديته وقالا له أيها الملك قد ضوا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين ابتدعوه لانعرفه نحن ولا أنت وقد بعث 4 نا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم
فهم أعل بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهم فغضب النجاشي ثم قال لا والله لا أسلمهم إليهما أبدا ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي لا أسلمهم حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الملل كافة
فكلمه جعفر بن أبي طالب فقال أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي الضعيف فكنا على هذا حتى بعث الله إلينا رسولا نعرفه ونعرف نسبه وأمانته وصدقه وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان
وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات

وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام
وعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به وإتبعناه على ما جاء به عن الله فعدى علينا قومنا وعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث
فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلادك وإخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك
فقال النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء فقال له جعفر نعم فقال اقرأه
فقرأ عليه جعفر صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضوا لحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة
انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا أكاد
فلما خرجا من عنده وقد يئسا من مرادهما قال أحدهما وهو عمرو بن العاص لآتينه عنهم غدا بما يهلكهم لأجله ثم غدا عليه من الغد فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم ليسألهم قالوا ولم ينزل بنا مثلها فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم قالوا نقول والله ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما كان
فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى ابن مريم فقال له جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاءنا به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول
قال فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم ثم ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود
فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم شيوم ترجتمه آمنون

فهذا قول أهل العلم من قبلكم العارفين بشريعتكم وما عدا ذلك فشجرته عثاء وأوضار اجتثت من قول الأرض ما لها من قرار
وسيأتي إن شاء الله تعالى قول هرقل اثر هذا الباب إن شاء الله تعالى
كمل الجزء الثاني والحمدلله وحده
انتهى الجزء الثاني من كتاب الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة السلام ويليله الجزء الثالث بإذن الله وأوله أنواع القسم الثاني في إثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة و السلام

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة و السلام
تأليف الإمام القرطبي
تقديم وتحقيق وتعليق الدكتور أحمد حجازي السقا

الجزء الثالث
أنواع القسم الثاني

في إثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة و السلام
نقول
إن محمد بن عبدالله العربي القرشي الهاشمي الإسماعيلي رسول الله صلى الله عليه و سلم صادق في كل ما أخبر به عن الله تعالى ولا يجوز عليه شيء من الكذب
ونستدل على ذلك بأدلة صادعة وبراهين قاطعة أصولها أربعة
الأول أنواع أخبار الأنبياء قبله ووصفهم له في كتبهم
الثاني النظر في قوانين أحواله
الثالث الكتاب العزيز
الرابع ما ظهر على يديه من خوارق العادات
فهذه أربعة أنواع
النوع الأول

من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم
إخبار الأنبياء به قبله
وإنما قدمنا هذا النوع وإن كان غيره أولى بالتقديم لكون الأنبياء الخبيرين بعلاماته متقدمين عليه في الزمان ولكون هذه البشائر كانت معروفة قبل مجيئه ولكون السائل الذي كتبنا هذا الكتاب جوابه لم يطلب منا بجهله إلا الإستدلال بما جاء في كتب الأنبياء وليكون هذا الباب مؤنسا له وباعثا على النظر فيما بعده ولتعلم أن الإستدلال بهذا النوع لا ينتفع به إلا من صدق بتلك الكتب وتواترت عنده
ومن خلى عن شيء من ذلك لا ينتفع بشيء منها ولا يستدل بها عليه وأما ما بعد هذا النوع فيستدل به على كل من أنكر نبوته من سائر الفرق فأما هذا النوع فإنما هو حجة على اليهود والنصارى لإدعائهم أن تلك الكتب تواترت عندهم
وهذا النوع عندنا على التحقيق إنما هو داخل في باب الإلزامات لهم ليظهر عنادهم وإفحامهم ثم لتعلم أنا إنما نذكر أخبار الأنبياء المبشرة بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم من كتبهم التي بأيديهم وعلى ما ترجمها مترجموهم من غير زيادة ولا نقصان
فمن ذلك
ما جاء في التوراة أن الله قال لموسى بن عمران إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك أجعل كلامي على فيه فمن عصاه انتقمت منه
فإن قلت إن ذلك إنما هو يشوع بن نون قلنا لا

فقد قال في آخر التوراة لا يخلف من بني إسرائيل نبي مثل موسى فلا محالة أن ذلك الذي بشرت به التوراة لا يكون من بني إسرائيل لكن من إخوة بني إسرائيل فلننظر من هم إخوة بني إسرائيل فلا محالة أنهم العرب أو الروم
فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى بزمان فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة فلم يبق إلا العرب فهو إذن محمد عليه السلام وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب أنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته فكنى عن بني إسرائيل بإخوة إسماعيل كما كنى عن العرب بإخوة بني إسرائيل في قوله إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك ويدل على ذلك أيضا قوله أجعل كلامي على فيه فإن هذا تصريح بالقرآن إذ هو كلام الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وتلقيناه من فلق فيه ويدل أيضا على ذلك قوله من عصاه انتقمت منه إذ قد فعل الله ذلك بصناديد قريش وعظماء ملوك الروم وغيرهم فهم بين أسير وقتيل ومعطى الجزية على وجه الصغار والذلة ولعذاب الآخرة أشق
ومن ذلك
ما جاء فيها أنه قال وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبار فاران ومعه جماعة من الصالحين

فمجيئه من جبل سيناء أن الله أنزل فيه التوراة وكلم عليه موسى وإشراقه من جبل ساعير أن دين المسيح إنما أشرق من جبال ساعير وهي جبال الروم من أدوم وإستعلانه من جبال فاران أن الله تعالى بعث منها محمدا صلى الله عليه و سلم وأوحى إليه فيها
ولا اختلاف أن فاران مكة وقد قال في التوراة إن الله أسكن هاجر وإبنها إسماعيل فاران
وفي بعض التراجم أقبل السيد من سيناء ومن شعير تراءى لنا وأقبل من جبال فاران ومعه آلاف من الصالحين ومعه كتاب ناري وهو ختم الأجناس وجميع الصالحين في قبضته ومن تدانى من قدميه يصب من علمه
ففكر على إنصاف وتثبت من الجائي المقبل من جبال فاران مع الآلاف من الصالحين ومن جاء بالكتاب الذي ما منه سورة لا وفيها الوعيد على المخالف بالنار وعذابها وأنكالها وأغلالها
ومن ذلك
ما جاء فيها أيضا أن الله قال لإبراهيم قد استجبتك في إسماعيل وباركته وكثرته وأنميته جدا جدا يولد له اثنا عشر عظيما وأجعله لشعب عظيم ولا يشك في أن الشعب العظيم هو محمد عليه السلام وأمته إذ لم يكن في ولد إسماعيل أعظم منهم
وقد تفطن بعض النبهاء ممن نشأ على لسان اليهود وقرأ بعض كتبهم فقال في التوراة موضعان يخرج منهما إسم محمد بالعدد على ما تستعمله اليهود فيما بينهم
ثم ذكر ما قدمته من قول الله لإبراهيم قد استجبتك في إسماعيل

فأما قوله جدا جدا فهو بتلك اللغة بمأد ماد وعدد هذه الحروف إثنان وتسعون وذلك أن الباء عندهم إثنان والميم أربعون والألف واحد والدال أربعة والميم الثانية أربعون والألف واحد والدال أربعون وكذلك الميم من محمد أربعون والحاء ثمانية والميم أربعون والدال أربعة
وأما قوله لشعب عظيم فهو بتلك اللغة لغوي غدول فاللام عندهم ثلاثون والغين ثلاثة وهي عندهم مقام الجيم إذ ليس في لغتهم جيم ولا ضاد والواو ستة والياء عشرة والغين أيضا ثلاثة والدال أربعة والواو ستة واللام ثلاثون فمجموع هذه أيضا إثنان وتسعون
وهذا من رشيق الفهم وملح البحث وغرائب العلم
وفي التوراة
ايضا أن ملاك الرب قال لهاجر ستلدين إبنا وتدعين إسمه إسماعيل يده على كل ويد كل به وسيحل على جميع حدود إخوته
ولا محالة أن إسماعيل وولده لم تكن أيديهم إلا تحت يد إسحق لأن النبوة والملك إنما كانا في ولد إسحق فلما بعث الله تعالى محمدا جعل يد بني إسماعيل فوق أيدي الجميع ورد النبوة والملك فيهم وأنماهم وعظمهم وبارك عليهم جدا جدا
ومن ذلك ما جاء في الزبور
الذي بأيديكم أنه قال سبحوا الرب تسبيحا حديثا سبحوا الذي هيكله الصالحون ليفرح إسرائيل بخالقه وبنو صهيون من أجل أن الله اصطفى لهم أمة وأعطاهم النصر وسدد الصالحين منهم بالكرامة يسبحون الله على مضاجعهم ويكبرونه بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقم الله بهم من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال

أخبرونا
يا هؤلاء الجاحدون للحق المعرضون عن أخبار الصدق من هذه الأمة التي سيوفها سيوف ذوات شفرتين ينتقم الله بهم من الأمم الذين لا يعبدونه ومن المبعوث بالسيف من الأنبياء ومن الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة في الأذان هذه أوصاف محمد صلى الله عليه و سلم وأوصاف أمته بلا ريب ولا رجم غيب
وفي الزبور أيضا
ذكر صفة محمد صلى الله عليه و سلم فقال ويجوز من البحر إلى البحر ومن منقطع الأنهار إلى منقطع الأنهار وأنه يخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم ويلحس أعداؤه بالتراب وتأتيه ملوك بالقرابين وتسجد له وتدين له الأمم بالطاعة والإنقياد لأنه يخلص المضطهد البائس من الأقوى منه وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ويرأف بالضعفاء والمساكين وأنه يعطى من ذهب بلاد سبأ ويصلي عليه في كل وقت ويدوم أمره إلى آخر الدهر
تأمل أوصاف النبي صلى الله عليه و سلم فهي على ما ذكر ما غادر منها واحدا ولم تجتمع هذه الصفات والعلامات لأحد قبله على ما هو معروف من أحوال الأنبياء المتقدمين عند العلماء المنصفين غير الجاهلين المتعصبين
وفي الزبور أيضا
أن الله تعالى أظهر من صهيون أكليلا محمودا
فالأكليل ضرب مثل لرياسته ومحمود هو محمد صلى الله عليه و سلم وقد بلغ دينه صهيون غيره
وفيه أيضا
تقلد أيها الجبار سيفك فإن ناموسك وشريعتك مقرونة بيمينك وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك
تأمل من الجبار الآتي بشرائع يظهرها بالسيف والسهام فإنك إذا تأملت ذلك لم تجد على هذه الصفات أحدا من عهد داوود إلا

النبي محمد عليه الصلاة و السلام فهو المبشر به لا محالة
وقد تقدم قول داوود
اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه بشر
فلينظر هنالك فإنه نص على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فإنه جاعل السنة وهو أخبر بأن المسيح بشر وليس باله
وفي الزبور
ترجمة وهب بن منبه يقول الله تعالى لداوود عليه السلام في المزمور الخامس إسمع ما أقول ومر سليمان فليقله للناس من بعدك إن الأرض لي أورثها محمدا وأمته فهم خلافكم لم تكن صلاتهم بالطنابير ولا قدسوني بالأوتار
وهذا تصريح بإسمه وتأييد شريعته وبصفات أمته وزبور وهب بن منبه هذا الذي نقلت منه أصح ما يوجد من كتاب الزبور فإنه أوثق وأعلم من كل ترجمة في سالف الدهور ولكن النصارى مع ذلك يكذبون إذ هم جاهلون ومعاندون
ومن ذلك ماجاء في الإنجيل الذي بأيديكم أن المسيح قال إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وسأرغب إلى الآب في أن يبعث إليكم البرقليط ليكون معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا تقبله الدنيا لأنها لا تراه ولا تعرفه وأنتم تعرفونه لأنه نازك عليك وعندكم لابث ولست أدعكم أيتاما
وفيه أيضا عن يوحنا
أن المسيح قال سينفعكم ذهابي لأني إن لم أذهب لم يأتكم البرقليط وإن ذهبت سأبعثه إليكم وإذا قدم سيعرف الدنيا بالمأثم والعدل والحكم فأما المأثم فتركهم الإيمان بي وأما العدل فذهابي إلى الآب ولا تروني بعدها وأما الذي يحكم بي فيها فإنه يحكم على صاحب الدنيا ويقهر

وقد بقيت لي أشياء كثيرة أعلمكم بها إلا أنكم لا تحملونها الآن فإذا قدم الروح الصادق فهو يعرفكم بالصواب وليس يعلمكم من ذاته إلا بما يسمع وسيعلمكم بما يكون وسيعظمني لأنه يصيب مني ويعلمكم
وفيه أيضا
أن المسيح قال للحواريين الذي يبغضني يبغض أبي فلو لم أطلع عندهم من العجائب ما لم يطلع غيري لم يكن قبلهم ذنب ولكنهم الآن قد عابوا وكرهوني ليتم ما كتب في كتبهم حيث قال أنهم كرهوني بلا ذنب فإذا أقبل البرقليط الذي أبعث إليكم من عند الآب الروح الصادق المنبثق من الآب هو يؤدي الشهادة عني وأنتم تستشهدون لأنكم كنتم معي من أول الأمر وإنما أقول لكم هذا لئلا يواقعكم التشكيك
فالبرقليط بالرومية المنحمنا بالسريانية وهو محمد بالعربية
فتأمل هذه البشائر التي لا ينكرها إلا معاند مجاهر فقد أخبر به المسيح بالعين والإسم والأفعال فماذا بعد الحق إلا الضلال
وفيه أيضا
أنه قال لليهود وتقولون لو كنا في أيام آبائنا لم نساعدهم على قتل الأنبياء فأتموا كيل آبائكم يا ثعابين بني الأفاعي كيف لكم والنجاة من عذاب النار وسأبعث إليكم أنبياء وعلماء وستقتلون منهم وتصلبون وتجلدونهم في جماعتكم وتطلبونهم من مدينة إلى أخرى لتتكامل عليكم دماء المؤمنين المهراقة على الأرض من دم هابيل الصالح إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين المذبح والهيكل آمين آمين أقول أنه سيأتي جميع ما وصفت على هذه الأمة يرشالم يرشالم التي تقتل الأنبياء وترجم من بعث إليها قد أردت أن أجمع بنيك جمع الدجاجة فراريجها تحت جناحيها وكرهت أنت ذلك

سأقفر عليكم بيتكم وأنا أقول لكم لا تروني الآن حتى يأتي من تقولون له مبارك الآتي على اسم الله
تأمل بشارته بالنبي محمد عليه السلام وتوعده لهم بالإنتقام منهم على يديه
فإذا تأملت هذا على جهة الإنصاف لاح الحق لك وإلا فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
وقوله سأبعث في الموضعين تحريف بدليل قوله فيما تقدم سأرغب إلى الآب في أن يبعث إليكم البرقليط فقد صرح هنا بأن الباعث له هو الله لا هو وهو الحق إذ قد تبين أن المسيح لا يفعل شيئا من ذاته وإنما يفعل ما يريده الله تعالى وقد تقدم قوله لست أنفذ إرادتي وإنما أنفذ إرادة الرب
وفيه أيضا
أن المسيح قال إن التوراة وكتب الأنبياء يتلو بعضها بعضا بالنبوة والوحي حتى جاء يحيى وأما الآن فإن شئتم فاقبلوا فإن أيل مزمع أن يأتي فمن كانت له أذنان سامعتان فليسمع
أيل هو الله تعالى ومجيئه هو مجئ رسوله بكتابه وأمره كما قال في التوراة جاء الله من سيناء وما أشبه ذلك
فإن قلت قوله فإن أيل مزمع أن يأتي وقوله حتى يأتي

من تقولون له مبارك الآتي إنما أراد من كان بعده من الأنبياء مثل بارنابا وشمعون وليوقيوش ومناين هؤلاء أنبياء أنطاكية ومن بيت المقدس أعفانوس ومن فلسطين جرجيس
فالجواب
أنه لا يصح لكم أن تعترفوا بنبوة واحد من هؤلاء بل ينبغي لكم أن تكفروا بهم لأنكم ترون أنه لا نبي بعد المسيح وتسندون ذلك إلى كتبكم فأما أن تكذبوا بقولكم لا نبي بعد المسيح أو تنكروا نبوة من ذكرتم
ثم لو سلمنا أنهم أنبياء فليسوا المرادين بما ذكر لأنهم لم يأتوا بكتب من الله ولا بأوامر أخر
وغايتهم أن يحكموا بكتب الأنبياء قبلهم
وإتيان الله فيما ذكر إنما هو عبارة عن إتيان نبي من أنبيائه بكلامه وكتابه كما قال جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران وهذا واضح للمنصف
وقد زعم بعض المعاندين الجاهلين من ينتمي إلى دينكم أن المبشر به في ذينك الموضعين إنما المراد به رجوع بعض ما مضى من الرسل وعودهم إلى الأرض وإلى الناس وهذا قول باطل صدر عن معاند جاهل إذ لم يثبت شيء من ذلك على لسان نبي فاضل إلا ما صح على لسان نبينا من رجوع عيسى ابن مريم صلوات الله

عليهم وسلامه إذ أخرج الدجال وقتله له وفي إنجيلكم إشارة إلى هذا وهذا عندنا مبنى على أن الله تعالى رفع المسيح إليه ولم يقتل ولا مات بل رفعه الله إليه على ما يأتي عند ذكر الصلوبية وإنما يموت إذا قتل الدجال عند باب لد وبعد أن يهلك الله يأجوج ومأجوج على يديه
وفي الإنجيل أيضا
أنه ضرب مثلا للدنيا فقال مثل الدنيا كمثل رجل اغترس كرما وسبخ حوله وجعل فيه معصرة وشيد فيه قصرا ووكل به أعوانا وتغرب عنه فلما دنا أوان قطافه بعث عبيده إلى أعوانه بالموكلين بالكرم
فضرب المسيح عليه السلام مثلا للأنبياء ثم لنفسه ثم قال سيزاح عنكم ملك الله وتعطاه الأمة المطيعة
فتأمله ثم ذكر في المثل صخرة وقال من سقط على هذه الصخرة سينكسر ومن سقطت عليه يتهشم يريد بذلك محمدا صلى الله عليه و سلم من ناوأه وحاربه أظهره الله عليه وكذلك قد أزاح الله ملككم وأزاله عنكم وأعطاه أمة محمد حيث افتتحوا عليكم بلاد الشام وبلاد الغرب وردوكم في أكثر الأرض أهل ذلة وصغار وأخذوا منكم الجزية بعد القتل الذريع والإسترقاق الشديد بعد أن كان ملككم راسخا وجبله شامخا فهد الله بنبيه قواعده ولينفذ به الله مواعده وأعظم شاهد على أن الله أزاح ملككم عنكم كما قال المسيح إن الله تعالى أعطانا بيت المقدس وأظهرنا عليه وإن كرهتم والحج إليه عندكم من أعظم شرائعكم وشرائع اليهود ثم الواحد منكم لا يصل إليه حتى يلحقه من الذلة والصغار ما لا يخفى عليكم والله متم نوره ولو كره الكافرون

وفي صحف أشعياء النبي
الذي بأيديكم قال ستمتلئ البادية والقصور التي سكنها قيدار يسبحون ومن رؤوس الجبال ينادون هم الذين يجعلون لله الكرامة ويبثون تسبيحه في البر والبحر
وفي صحف حزقيال النبي
عن الله يقول إني مؤيد قيدار بالملائكة
وقيدار ولد إسماعيل بلا شك فانظر أي بادية هذه البادية التي انتقلت من قصور إلى قيدار والذين ينادون بالأذان والتلبية من رؤوس الجبال ويجعلون لله الكرامة بالصلاة والحج والصوم والزكاة وغير ذلك وقد ثبت أن الملائكة قاتلت مع النبي صلى الله عليه و سلم في مواطن على ما يأتي إن شاء الله تعالى
وقال أشعياء
عن الله عبدي الذي سرت به نفسي أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي يوصي الأمم بالوصايا لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق يفتح العيون العور ويسمع الآذان الصم ويحيى القلوب الغلف وما أعطيه لا أعطيه غيره
أحمد يحمد الله حمدا كثيرا يأتي من أقصى الأرض تفرح البرية وسكانها يهللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى ولا يسمع في الأسواق صوته ولا يذل الصالحين الذين هم كالعصفة الضعيفة بل يقوى الصديقين وهو ركن للمتواضعين وهو نور الله الذي لا يطفئ ولا يخاصم حتى تثبت في الأرض حجتي وينقطع العذر به وإلى توراته ينقاد الحق
فاعتبر هذا التصريح باسم محمد وصفاته وإن هذه العلامات المذكورات على لسان هذا النبي لا يصح بحال أن توجد لغيره ولم يكن إلا له
فإن قلت هو المسيح قيل لك تفهم لفظ الكلام ومساقه وحينئذ تحكم بأنه محمد قطعا وذلك أنه قال فيه يوصى الأمم

وهذا التصريح ببعثه للناس كافة وعيسى إنما بعث للأجناس من بني إسرائيل خاصة بدليل قوله في الإنجيل إني لم أبعث إلى الأجناس وإنما بعثت إلى الغنم الرابضة من نسل إسرائيل
وكذلك قال للحواريين لا تسلكوا في سبيل الأجناس ولكن اختصروا بالضرورة إلى الغنم الرابضة من بني إسرائيل
ثم قال أحمد يحمد الله وهذا تصريح بإسمه فإن أسمائه كثيرة منها محمد وأحمد ثم قال يثللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية وهذا إخبار بآذانهم وتلبيتهم وليس هذا لأحد غيره ثم قال لا يضعف ولا يغلب وأنتم تزعمون أن المسيح غلب على نفسه وحمل على خشبة وسمرت يداه فيها وقتل عليها بعد صفع وإهانة عظيمة ولا درجة في الغلبة والضعف والذلة تزيد على هذا
وأما نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فقد فتح الله عليه فتحا مبينا ونصره نصرا وأظهره على كل عدو معاند حتى أعلى الله دينه وأفشى توحيده وعصمه من كل الشرور ووقاه كل مخوف وكل محذور ومن أدل ما في كلامه أن نبينا محمد هو المراد والمبشر به قوله لا يخاصم حتى تثبت في الأرض حجتي فإن هذا تصريح بالقرآن الذي جاء به إذ قد عجز عن الإتيان بمثله أو بسورة مثله جميع البشر وإن كان فيهم اللد الفصحاء والمهرة الحكماء فثبتت في الأرض حجة الله وعلم أنه من عند الله وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله عز و جل
وفي صحف حبقوق النبي التي بأيديكم
قال جاء الله من التيمن والقدوس من جبل فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه وملأ الأرض بهيبته
وقال أيضا تضئ لنوره الأرض وستنزع في قسيك إغراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد إرتواء

فيا معشر العقلاء انظروا عناد هؤلاء الجاحدين وإنكار هؤلاء المباهتي وتواقح هؤلاء الجاهلين كيف خالفوا هذه النصوص القاطعة والبشارات الصادعة محكمين في ذلك أهوائهم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وفي صحف أشعياء النبي قال
قيل لي قم ناظرا فانظر فما ترى تخبر به قلت أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل يقول أحدهما لصاحبه سقطت بابل وأصنامها النخرة
فصاحب الجمل هو محمد صلى الله عليه و سلم وصاحب الحمار بإتفاق منا ومنكم هو المسيح وليس محمد بركوب الجمل أشهر من عيسى بركوب الحمار وإنما سقطت عبادة الأصنام ببابل من دون الله وهدت أوثانها بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم وأمته لا بعيسى ولا بغيره فما زالت ملوك بابل يعبدون الأوثان من كون إبراهيم إلى زمان النبي صلى الله عليه و سلم وأمته
وفي صحفه أيضا
لتفرح أرض البادية العطشى ولتبتهج البراري والفلوات لأنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان كمثل حسن الدساكير والرياض
هذا ينص على اسمه ووصفه وبلده بحيث لا ينكره إلا وقاح مجاهر بالباطل الصراح
وفي صحف أشعياء النبي
أتت أيام الإفتقاد أتت أيام

الكمال ثم قال لتعلموا يا بني إسرائيل الجاهلين أن الذي تسمونه ضالا هو صاحب النبوة تفترون ذلك على كثرة ذنوبكم وعظم فجوركم
وفي الصحف المنسوبة للإثنى عشر نبيا
أن الله سيتجلى من القبلة وتظهر كلمة القدس من جبال فاران ظهورا أبديا ويحمد الله على ذلك في السموات والأرض وكلمة أحمد تملأ الأرض
وفي صحف حزقيال النبي
التي بأيديكم يقول عن الله بعد ما ذكر معاصي بني إسرائيل وشبههم بكرمة غذاها وقال لم تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة ورمى بها على الأرض وأحرقت السمائم حرها فعند ذلك غرس غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى وخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت تلك حتى لم يوجد فيها عصن قوي ولا قضيب
اعتبر أيها العاقل هذا المثل على جهة الإنصاف يجانبك الخطأ والزلل فإن الكرمة مثل لدين المسيح ورسالته وذلك أن مقامه كان في قومه زمانا يسيرا ورفعه الله عن أتباع يسيرين أحد عشر على ما زعموا ثم أتباعهم على شرعهم المستقيم يسيرون
ثم بعد ذلك بنحو الأربعين سنة إعتراهم التبديل الكثير والتغيير العظيم حتى أحرقت ديار الكفر تلك الكرمة فلما لم يبق منهم إلا بقايا قليل عددهم وخفى موضعهم بعث الله نبيه في أرض البدو التي هي أرض إسماعيل ومنشأه ووصفه لها بالعطشى تصريح بوصفها فإنه صحراء وكونها مهملة إنما هو من النبوة فإنه لم يكن بها نبي من عهد إسماعيل إلى عهد محمد صلى الله عليه و سلم ثم أنه شبه ما نصر به النبي عليه والسلام من الحرب والرعب بالنار التي تأتي على كل شيء فكذلك دين نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أظهره الله بالحجة والسيف على الدين كله ولو كره المشركون

وقد قدمت أن في صحف دانيال النبي وقد نعت الكذابين وقال لا تمتد دعوتهم ولا يتم قربانهم وأقسم الرب بساعده ألا يظهر الباطل ولا يقوم لمدع كاذب دعوة أكثر من ثلاثين سنة
وهذا دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه السلام له ست مائة سنة ونيف من الأعوام وهو باق إلى آخر الأيام والحمدلله على ما أولى من الفضل والأنعام
وقال دانيال النبي
وقد سأله الملك نبوخذناصر عن رؤيا رآها وطلب أن يخبر بها ثم بتفسيرها فقال أيها الملك رأيت صنما بارع الجمال أعلاه من ذهب ووسطه من فضة وأسفله من نحاس وساقاه من حديد ورجلاه من فخار فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك إذ دقه الله بحجر من السماء فضرب رأس الصنم فطحنه حتى اختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره
ثم إن الحجر ربا وعظم حتى ملأ الأرض كلها قال له نبوخذناصر صدقت فأخبرني بتأويلها
قال دانيال أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي آخره فالرأس من الذهب أنت والفضة إبنك من بعدك والنحاس الروم والحديد الفرس والفخار أمتان ضعيفتان تملكهما إمرأتان باليمن والشام والحجر هو دين نبي وملك أبدي في آخر الزمان يغلب الأمم كلها ثم يعظم حتى يملأ الأرض كلها كما ملأها ذلك الحجر
قلت ولا يصح لك يا أيها المخدوع أن تدعي أنه المسيح فإنه لم يغلب الأمم كلها بل غلب بزعمكم فإنه استضعف فأهين وصلب ولم يبعث إلى الأمم كلها عامة بل إلى قوم بأعيانهم خاصة وإنا محمد الذي غلب كل الأمم العرب منها والعجم على اختلاف أصنافها وشتى ضروبها وأوصافها فجعل الكل جنسا واحدا

وألزمهم دينا واحدا وصيرهم أمة واحدة وجعلهم على اختلاف لغاتهم يتكلمون بلغة واحدة أعنى إذا قرأوا القرآن إذ لا يمكن أن ينتقل عن لسان العرب إلى لسان غيرهم فإن ترجم بلسان آخر فليس ذلك هو القرآن وإنما هو تفسير القرآن
يا أيها الجاهل الناكث عن الحق العادل قد كنت ذكرت في كلامك أن المسلم إن أقام شاهدا من كتب الأنبياء أن فيها محمدا منتظرا فدينه حق ودين النصارى باطل وقد أقمنا والحمدلله الشواهد من كتب الأنبياء الأوائل على الذي طلبت على نحو ما رسمت بل هذه الشواهد في دلالتها على نبوة محمد أوضح وأقص مما استدللت أنت بها على نبوة المسيح
وقد وكلت العاقل المنصف للنظر في أي الدلالات أبين وأوضح أدلاتنا أم دلالتكم وعند الوصول إلى هذا القدر والوقوف على تلك الشواهد الغر تتبين أن دين النصارى واليهود باطل وأنهم إما معاندو وإما جاهل
ولقد جاء في كتاب أشعياء النبي من نعوته وأوصافه وذكر مكة بلده وحج الناس إليها ما لا يبقى معه ريب ولا أشكال
فمن ذلك قال حاكيا عن الله تعالى سأبعث قوما فيأتون من المشرق أفواجا كالصعيد كثرة ومثل الطيان الذي يدوس برجليه
ومن ذلك أنه قال أبشري واهتزي يا أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح وافرحي أن لم تحبلي فإن أهلك سيكونون أكثر من أهلي
هذه من الله مخاطبة لمكة على ما يقتضيه مساق كلامه ثم شبهها بالعاقر من النساء التي لم تلد من حيث أن مكة لم يبعث منها نبي من بعد إسماعيل إلا محمدا صلى الله عيله وسلم ولا يجوز أن

يكون العاقر بيت المقدس لأنها كانت مقر الأنبياء وقوله فإن أهلك سيكونون أكثر من أهلي يعني بأهله بيت المقدس
وفي نفس النص
أنه قال حاكيا عن الله قد أقسمت بنفسي كقسمي أيام الطوفان أن أغرق الأرض بالطوفان كذلك أقسمت ألا أسخط عليك ولا أرفضك فإن الجبال تزول والقلاع تنحط ورحمتي عليك لا تزول
ثم قال
في النص نفسه يا مسكينة يا مضطهدة ها أنذا بان بالجص حجارتك ومزينك بالجواهر ومكلل باللؤلؤ سقفك وبالزبرجد أبوابك وتبعدين من الظلم فلا تخافي ومن الضعف فلا تضعفي وكل سلاح يعمله صانع لا يعمل فيك وكل لسان ذلق يقوم معك بالخصومة تفلجين ويسميك الله إسما جديدا
وكذلك كان إسمها الكعبة فسماها الله المسجد الحرام وكذلك قوله بالخصومة تفلجين إنما هو إشارة إلى كتاب الله الذي جاء به محمد رسول الله الذي أفحم كل خصم وأسكت
وفي صحف أشعياء
أيضا فقومي واشرفي فإنه قد ورى زندك ووقار الله عليك انظري بنيك حولك فإنهم مجتمعون يأتيك بنوك وبناتك على الأيدي فحينئذ تنظرين وتزهرين ويخفق قلبك ويتسع وكل غنم قيدار تجتمع إليك وسادت نبايوت يخدمونك وتفتح أبوابك الليل والنهار فلا تغلق ويتخذونك قبلة وتدعين بعد ذلك مدينة الرب
فهاهو عليه السلام قد وصف مكة بأوصافها التي لا تصح أن توجد في غيرها
ومن أبين ذلك وأدله قوله وكل غنم قيدار تجتمع إليك وسادات بنايوت يخدمونك وقيدار ونبايوت ولدا إسماعيل وأغنامهم هي التي تساق إلى مكة هديا وهم أهل مكة وخدام البيت وليس بعد هذا بيان وكذلك قوله ويتخذونك قبلة وهذا بشارة بالنبي عليه الصلاة و السلام فإنها لم تتخذ قبلة إلا على عهده صلى الله عليه و سلم

وقول أشعياء
هذا في بعض التراجم هكذا ارفعي إلى ما حولك بصرك فستبتهجين وتفرحين من أجل أنه تميل إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم حتى تعمرك قطار الإبل المؤبلة تضيق أرضك عن القطارات التي تجمع إليك وتساق إليك كباش مدين ويسير إليك أهل سبأ وتسير إليك أعلام قيدار ويخدمك رجال نبايوت
فاعتبر هذه الأوصاف البينة والأعلام المتصلة الظاهرة التي لا توجد في بلد إلا في مكة ولا يصح شيء منها أن يوجد في بيت المقدس ولا في غيرها
وقال أيضا عن الله
أعطى البادية كرامات لبنان وبهاء جبل الكرمل فالبادية مكة ولبنان الشام وبيت المقدس
وقال على أثر ذلك
وتشق في البادية مياه وسواق في أرض الفلاة وتكون الفيافي والأماكن العطاش ينابيع وتصير هناك محجة وطريق الحرم لا تمر به أنجاس الأمم والجاهل لا يضل هناك ولا يكون به سباع ولا أسد ويكون هناك ممر المخلصين
وقال أشعياء أيضا عن الله
ها أنذا مؤسس بصهيون وهو بيت الله حجرا مقره في زاوية مكة فمن كان مؤمنا فلا يتعجل
وهذا أخبار منه عن الحجر المقدس الأسود الذي في الركن اليماني وهو الحجر الذي أنزله الله من الجنة وكان أبيض فاسود لأجل خطايا بني آدم وصهيون الجبل بلسانهم فهذه دلائل واضحة وشواهد راجحة لا يعدل عنها إلا من حرم التوفيق فاستدبر الطريق ولا يتدبرها ويتفهم معانيها إلا من رافقه التوفيق وساعده الفهم والتحقيق
فهذا ما رأينا أن نثبته هنا من شواهد نبوته صلى الله عليه و سلم من الكتب المتقدمة وفيها من الشواهد ما هو أكثر من هذا ومن وقف بفهم على ما في تلك الكتب قضى من عناد المخالفين العجب

النوع الثاني

الإستدلال على نبوته بقرائن أحواله صلى الله عليه و سلم
فأول ذلك ما ظهر على أبيه عبدالله بن عبد المطلب
وذلك أنه لما أراد الله خلقه وقرب وقته وحان خروج نطفته من صلب أبيه حمل بين عيني أبيه نور فكان يراه الرائي كغرة الفرس وقد ثبت في كتب نبوته على ألسنة النقلة الثقات العدول الأثبات الذين يدينون بتحريم الكذب ويعتقدون وجوب الصدق ولا تأخذهم في الله لومة لائم أن عبدالله بن عبدالمطلب والد رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت له امرأتان احداهما آمنة أم رسول الله صلى الله عليه و سلم وامرأة أخرى فحمل يوما في طين لبناء بيته فتعلقت به آثار من الطين فمر بتلك المرأة فدعاها لنفسه فأبت لما كان عليه من الطين فخرج من عندها فاغتسل وغسل ما به من أثر الطين فدعته تلك المرأة إلى نفسها فأبى عليها ثم خرج عامدا إلى آمنة فدخل عليها فأصابها فحملت بمحمد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم مر بامرأته تلك فقال لها هل لك قالت لا إنك مررت بي وبين عينيك غرة مثل غرة الفرس فدعوتك رجاء أن يكون لي فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها
ثم لما حملت به آمنة أمه أتيت فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا
ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام
ولقد قالت أم عثمان الثقفية حضرت ولادة رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأيت البيت حين وضع قد امتلأ نورا ورأيت

النجوم تدنو حتىظننت أنها ستقع على وولد صلى الله عليه و سلم مختونا
وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجد الحوامل من ثقل وألم ولا غير ذلك ولما وضعته أمه وقع على الأرض مقبوضة أصابع يديه مشيرا بالسبابة كالمسبح بها
وذكر ابن دريد أنه ألقت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه
ثم لم يلبث عبدالله بن عبدالملطلب أبوه أن توفى وأم رسول الله صلى الله عليه و سلم حامل به فكفله جده عبدالمطلب وقيل لجده لم سميت إبنك محمدا وليس هذا الإسم لأحد من آبائك وقومك فقال إني لأرجو أن تحمده أهل الأرض كلهم
وذلك أنه كان يرى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يعتلقون بها فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء وأهل الأرض فلذلك سماه محمدا
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين أعقل كل ما سمعته إذ سمعت يهوديا على أطم يثرب يصرخ بأعلى صوته يقول يا معشر يهود فلما اجتمعوا له قالوا له ويلك مالك قال طلع الليلة نجم أحمد
ثم التمس له المراضع فاسترضع له امراة من بني سعد بن بكر إسمها حليمة بنت أبي ذؤيب قالت حليمة خرجت من بلدي مع زوجي وابن لي في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء قالت وفي سنة شهباء لم تبق لنا شيئا قالت فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تفيض بقطرة وما ننام ليلنا مع صبينا من بكائه من الجوع وما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغديه ولكنا نرجو الغيث والفرج فلقد حيست الركب حتى

شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد بن عبدالله فتأباه إذا قيل لها أنه يتيم
وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم فما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلى أخذت رضيعا غيري فلما أجمعنا الإنطلاق قلت لصاحبي إني والله أكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلأخذنه فقال افعلي عسى الله أن يجعل فيه بركة قالت فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره
قالت فلما أخذته رجعت به إلى رجلي فلما وضعته في حجري أقبل على ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك
وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا أنها لحافل فحلب منها ماشرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة قالت يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله إني لأرجو ذلك قالت ثم خرجنا فركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما يقدر على شيء من حمرهم حتى أن صواحبي ليقلن لي يا إبنة أبي ذؤيت ويحك أربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى والله فيقلن لي والله أن لها لشأنا
قال ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يجلب إنسان قطرة ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعاتهم ويحكم أسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا

قالت فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه وقلت لها لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة قالت فلم نزل بها حتى ردته لنا قالت فرجعنا به فوالله أنه بعد مقدمنا بشهر مع أخيه لفى بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه يعنى يخلطانه قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقحا وجهه قالت فألتزمته وألتزمه أبوه فقلنا له مالك يا بني قال جاءني رجلان عليها ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا شيئا لا أدري ما هو قالت فرجعنا به إلى خبائنا
قالت وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به قالت
فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك قالت فقلت قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فاديته إليك كما تحبين قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك قالت فلم تدعني حتى أخبرتها قالت أفتخوفت عليه الشيطان قالت قلت نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل وإن لبني لشأنا أفلا أخبرك خبره قالت قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وأنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء دعيه عنك وانصرفي راشدة
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبدالمطلب بن هاشم في كلأة الله تعالى وحفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ست سنين توفيت أمه آمنة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم

مع جده عبدالمطلب وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له قال فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبدالمطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني فوالله أن له لشأنا ثم يجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثماني سنين هلك عبدالمطلب جده فكان مع عمه أبي طالب فكان يحنو عليه ويحفظه فبينما هو عنده يوما إذ قدم مكة رجل عائف من أزد شنوءة وكان ذلك الرجل إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم ويتفرس وكان ماهرا في ذلك معروفا به مجربا عليه الإصابة في ذلك
فأتاه أبو طالب به وهو غلام قال فنظر العائف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم شغله عنه شيء فلما فرغ قال أين الغلام على به فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه فجعل يقول ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكونن له شأن
ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام فلما تهيأ للرحيل ضبث به رسول الله صلى الله عليه و سلم فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا وكان يحبه حبا شديدا فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بخيرا في صومعة له وكان إليه علم النصرانية ولم ينزل في تلك الصومعة منذ قط راهب يصير إليه علم النصرانية لأجل كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكان كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يعرض لهم ولا يكلمهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا

وذلك عن شيء رآه في صومعته وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من صومعته وهو في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما فقال له رجل والله يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا فما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم
فقال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده قال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي فقالوا له يا بحيرا ما تخلف عنكم أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم قال لا تفعلوا دعوه فليحضر هذا الطعام معكم
فجاء وقد احتضنه رجل من القوم فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا وقال له يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه كان يسمع قومه يحلفون بهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما
فقال له بحيرا فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه قال له سل عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده وكان مثل أثر المحجم ثم أقبل على

عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بإبنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا
قال فإنه ابن أخي قال ما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبلغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته فزعموا فيما يروي الناس أن زريرا وتماما ودريسا وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرا وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركون وانصرفوا
فشب رسول الله صلى الله عليه و سلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسا وعشرين سنة وعرفت أمانته وصدق حديثه وظهرت بركته عرضت عليه خديجة بنت خويلد ما لا يخرج به مسافرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله صلى الله عليه و سلم منها وخرج في ذلك المال وخرج معه ميسرة حتى قدما الشام فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان فاطلع الراهب

إلى ميسرة وقال من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة قال له ميسرة هذا رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي
ثم باع رسول الله صلى الله عليه و سلم سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره
فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به بأضعف أو قريبا
وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعن ما كان يرى من إظلال الملكين إياه وكانت خديجة رضي الله عنها امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت له يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك ووسطك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها
وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها
وقد كانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه فقال ورقة لئن كان هذا حقا يا خديجة فإن محمدا لنبي هذه الأمة وقد عرفت أنه كان لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول حتى متى فلما تقارب زمان مبعثه كثرت أحاديث الكهان عن نبوته والأخبار بذلك فبشر بقرب ظهوره جماعة من الكهان

وأما اليهود فكانت تكون بينها وبين العرب شرور وحروب فربما أصابت العرب منهم فكانت اليهود تقول قد قرب زمان نبي سيبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وارم ثم لم يلبثوا حتى ظهر وعرفوه كما يعرفون أبناءهم
فلما بعث منهم من آمن به ومنهم من كفر به حسدا وعنادا كما فعلتم أنتم
ولقد قدم المدينة نفر من اليهود يلتمسون هجرته إليها وكونه فيها من ذلك ما يحكى عن ابن الهيبان حبر من أحبار يهود وممن كان ينتهي إليه علمهم وكان فاضلا في دينه مجاب الدعوة ممن علم ذلك منه بكثرة تجربة ذلك فقال لليهود يوما ما ترونه أخرجني من الشام أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع قالوا له أنت أعلم قال فإني قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبى الذرارى والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم وحاصر بني قريظة قال نفر من اليهود يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته فنزلوا وأسلموا ومثل هذا كثير
ومن أوضح ذلك وأبينه
قصة سلمان الفارسي وذلك أنه كان تنصر وقرأ كتبكم وبحث عن جماعة من أهل دينكم أعنى الذين كانوا متمسكين بدين المسيح فلم يزل يبحث عنهم واحدا بعد واحد ويخدمهم حتى يحضرهم الوفاة فكان الواحد منهم إذا حضرته الوفاة وصاه بأن يلحق بمن هو على مثل دينه وحاله ويعينه له ويدله عليه إلى أن وصل إلى عمورية إلى أرض الروم إلى راهب نصراني كان هنالك
قال سلمان فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم يعني الدين كانوا دلوا عليه إلى أن حضرته الوفاة

فقلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ثم أوصاني فلان إلى فلان ثم أوصاني فلان إليك فإلى من توصى بي أنت وبم تأمرني
قال أي بني والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي وهو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل
قال ثم مات وغيب ولحق سلمان بالمدينة بالأرض التي عينت له فأقام هنالك حتى قدم عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرا فبحث عن تلك العلامات التي رسمت له فوجدها كما رسمت له فآمن به وأتبعه وصدقه وكان معه وعلى دينه إلى أن توفاه الله تعالى رضي الله عنه
ولو ذهبت إلى استقصاء مثل هذا لطال الكتاب
فلما بلغ محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا
فكان أول ما ابتدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب الله إليه الخلوة فكان ينقطع إلى الكهوف والجبال ويأوى إليها
فكان يخلو بغار حراء وكان في ذلك لا يمر بحجر ولا شجرة إلا قال السلام عليك يا رسول الله فيلتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة تكلمه
فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث ثم جاء جبريل صلى الله عليه و سلم بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في رمضان ومن ذلك الوقت ظهرت آياته وعمت

بركاته وتنوقلت رسالته ومعجزاته وإذ ذاك جمع الله له كل خصال الكمال وخصه بصفات الشرف والجلال فلقد جمع الله له الكمال الظاهر والباطن بما جعل فيه من الفضائل والمحاسن
وينبغي الآن أن يعرف الجاحد والجاهل بعض ما خص به من صفات الكمال والفضائل
اعلم
أن الكمال البشري ضربنا ظاهر وباطن وكل واحد من هذين الضربين ضربان ضرب يكون الإنسان مجبولا عليه ولا اكتساب له فيه وضرب يكون مكتسبا للإنسان يحصل له بسعيه وتكسبه فقد انحصرت صفات الكمال في أربعة أقسام كمال ظاهر ضروري وكمال ظاهر مكتسب وكمال باطن ضروري وكمال باطن مكتسب
وقد جمع الله هذه الأربعة الأصناف للنبي محمد صلى الله عليه و سلم ونحن نذكرها جملة ثم نشرع بعد في التفصيل إن شاء الله تعالى
اعلم أنا
إنما نذكر من صفات كماله وجلاله المشهور بشرط الإختصار خوفا من التطويل والإكثار ولو ذهبنا إلى الإستقصاء لعجزنا عن ذلك
فمن ذلك
كمال خلقته وجمال صورته وفصاحة لسانه وشرف نسبه وعزة قومه وكرم أرضه وقوة عقله وصحة فهمه ومتين علمه وجميل صبره وعظيم حلمه وحسن تواضعه وعدله وجزيل زهده وفضله وعميم جوده وكرمه ووثيق عهوده وذممه ورائق سمته وأدبه وطهارة ذاته ونسبه وعظيم شجاعته ونجدته وكثير حيائه ومروءته
وجملة أمره صلى الله عليه و سلم أنه أكمل الناس خلالا وأفضلهم حالا وأعلمهم بحدود الله وأخوفهم من الله
فأما كمال خلقته وجمال صورته فشيء معلوم لم يذهب

أحد من أعدائه إلى خلاف ذلك ولا استطاع أن ينسب إليه نقصا ولا شينا في شيء من ذلك لقد اعترف الكل أنه كان أزهر اللون أدعج العينين أشكل أهدب الأشفار أفلج أزج أقنى مدور الوجه واسع الجبين كث اللحية تملأ صدره موصول ما بين اللبة والسرة بشعر واسع الصدر عظيم المنكبين ضخم العظام والعضدين والذراعين والأسافل رحب الكفين والقدمين سائل الأطراف أنور المتجرد دقيق المسربة مربوع القد ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طاله رجل الشعر إذا افتر ضاحكا عن جمان افتر عن مثل سنا البرق وعن مثل حب الغمام إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه أحسن الناس عنقا ليس بمطهم ولا بمكلثم متماسك اللحم
قال ناعته
ما رأيت أحدا في حلة حمراء مرجلا أحسن منه صلى الله عليه و سلم كأن الشمس تجرى في وجهه وإذا ضحك يتلألأ في الجد وأجمل الناس من بعيد وأحسنهم من قريب من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه
يقول ناعته
لم أر قبله ولا بعده مثله طيب الرائحة والعرف ولقد كان صلى الله عليه و سلم يعرف برائحته وإن لم ير ولقد كان يتطيب برائحته ويوضع في الطيب فينم أكثر منه
ولقد كان يضع يده على رأس الطفل رحمة له فكانت تنم عليه رائحة طيبة صلى الله عليه و سلم ولقد اشتهر وصح أنه صلى الله عليه و سلم بعد موته طال مكثه في البيت قبل أن يدفن بيومين وليلة في المشهور وكان موته في شهر أيلول ومع ذلك فلم يتغير له ريح

ولا ظهر عليه شيء مما يظهر على الموتى حتى كانت الصحابة رضي الله عنهم تقول له طبت حيا وميتا
ولقد روى أن أم سلمة قالت وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ميت فمرت على جمع لا آكل ولا أتوضأ إلا وجدت ريح المسك من يدي
فإن قيل نسلم أنه كما وصفت لكن أي فضيلة لحسن الصورة الظاهرة وأي مزية لها على غيرها إذ رب قبيح المنظر حسن الفعل والمخبر ورب حسن الظاهر والمنظر قبيح الفعل والمخبر
فنقول هذا الذي ذكرت يندر ويقل بل لا يبعد أن يقول قائل لا يوجد كامل الصورة الظاهرة ألا وهو كامل الصورة الباطنة إذ كلاهما إنما سببه بحسب ما أجرى الله العادة مزاج معتدل فهما ثمرتا مثمر واحد ولأجل هذا والله أعلم لم نسمع قط عن نبي من أنبياء الله تعالى أن الله تعالى خلقه ناقص الخلقة أو مشوهها اللهم ألا قد طرأت علىبعضهم آفات لأسباب شاءها الله تعالى مثل أيوب وغيره وليس الكلام في الطارئ وإنما الكلام في أصل الخلقة ثم إن الحكماء والعلماء قد استدلوا بحسن الخلق على حسن الخلق حتى أن الحكماء قالوا أقصدوا بحوائجكم سماح الوجوه فإنه أنجح لها أو فإنه أحرى أن تقضى
وأيضا فإن الجمال والحسن محبوب بالطبع ومرغوب فيه والقبح منفور عنه ومقصود الله تعالى أن يحب الأنبياء وأن لا ينفر منهم والحسن موجب لذلك وأيضا فإن صفة نبينا هذه هي صفة جده إبراهيم خليل الرحمن حتى كأنه هو على ما ثبت من صفة إبراهيم في كتب الأنبياء عليهم السلام
وأما فصاحة لسانه
فلقد أطل من الفصاحة على كل نهاية وبلغ من البلاغة كل غاية فلقد أوتين صلى الله عليه و سلم سلامة الطبع وبراعة المنزع وعذوبة اللفظ وحسن الإيراد وجزالة القول وصحة المعاني مع أيجاز اللفظ وقلة التكلف
أوتى صلى الله عليه و سلم جوامع الكلم وبدائع الحكم فلقد كان يخاطب كل حي من أحياء العرب بلغتهم ولم يكن يقتصر على لغة واحدة مع أنه إنما نشأ على لغة بني سعد وقريش وكان يعرف لغات

غيرهم حتى كانوا يتعجبون منه ويقولون ما رأينا بالذي هو أفصح منه وهذا معلوم عند الفصحاء العرب العرباء
ويقف على معرفة ذلك بالذوق والمشاهدة من كان عارفا بلسان العرب ولغتهم ووقف على شيء من كلامه معهم ومجاوبتهم
وأما نسبه
فمعلوم لا يجهل ومشهود لا ينكر جده الأعلى إبراهيم والأقرب عبد المطلب كابرا عن كابر وشريفا عن شريف فهم بين أنبيائه فضلاء وبين شرفاء حكماء وهذا كله مسلم لا يمنع ومقبول لا يدفع فهو صلى الله عليه و سلم من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا وذلك أن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل كما قد شهدت التوراة وغيرها بذلك واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاه صلى الله عليه و سلم من بني هاشم فهو خيار من خيار من خيار وكذلك الرسل صلى الله عليهم وسلم تبعث في أشرف أنساب قومها صلى الله عليهم ذلك ليكون أميل لقلوب الخلق إليهم والله أعلم
وأما عزة قومه
فقد كانوا في جاهليتهم لم ينلهم سباء ولا ظفرت بهم أعداء ولا دخلوا في أغلب أزمانهم تحت قهر غيرهم بل كانوا قد حازوا الشرف الباهر والمفاخر والمآثر هم أوفر الناس عقولا وأقلهم فضولا وأفصح الناس مقالا وأكرمهم فعالا الشجعان الكرماء والحكماء الأدباء
أما سفساف الأخلاق ودنيها
فهم مبرأون عنها وأما حسنها وعليها فهم أحرص الناس عليها والموصوفون بها وكفى دليلا على ذلك ما علم من حسن جوابهم وكريم عمودهم وعميم بذلهم وجودهم وكل هذا من أوصافه معروف والغالب منهم بذلك موصوف وحق لقائلهم أن يقول ... لنا الشرف الذي يطأالثريا ... مع الفجر الذي بهر العباد ...
وأما أرضه
فناهيك من أرض أسس بقيتها إبراهيم الخليل وأمره بأن بدعو الناس إليها الملك الجليل وتولى عمارتها والمقام بها النبي إسماعيل وتوارثها الأشراف جيلا بعد جيل وكفى بلدته شرفا ما فعل الله بملك الحبشة الذي جاء لهدمها فلما قرب منها وعزم

على هدمها ووجه فيله عليها أرسل الله عليهم طيرا أشباه الخطاطيف مع كل واحد منها ثلاثة أحجار حجر في منقاره وحجران في رجليه فرمت الطير ذلك الجيش بتلك الجهات فكل من أصابه من تلك الحجارة شيء هلك مكانه وأصاب ملكهم منها حجر فهلك بعد أن تناثر لحمه وتساقط أنملة أنملة
فتفرقوا في كل وجه وأهلكهم الله كل هلاك وبدد شملهم أي تبديد وكل هذا معروف لا ينكر ومشهور لا يجهل فهذه الأرض علىمحلها وجدبها وشظف عيش أهلها خير البلاد عند ربها دل على ذلك كلام الأنبياء والرسل وما جاء من ذلك في متقدمي الكتب ولا يظن الجاهل أن خير بلاد الدنيا عند الله أكثرها خصبا وأعظمها فاكهة وأبا فإن هذا ظن من ليس له نطق ولا فهم وهمته ما يجعل في بطنه كالبهم بل خير البلاد عند الله ما كوبدت فيه المشقات التي توصل إلى ما عند الله من الدرجات وكانت مع ذلك مما قدس وانتشرت منه الديانات
وكل ذلك في حق أرضه معلوم من جهة النبوات وسيأتي ما ذكر الله تعالى في مكة بلده عليه السلام على لسان أشعياء عليه السلام
وأما قوة عقله وعلمه
فلقد أوتى منهما ما لم يؤته أحد وأعطى منها ما لم يعطه والد ولا ولد وكفى دليلا على ذلك ما ظهر عليه من حسن السياسة وأحكام أمور الرياسة والأخذ في العلوم العقليات من غير اكتساب شيء مما يحتاج إليه من المقدمات حتى إتخذ أرباب كل علم كلامه في ذلك العلم أصلا يرجع إليه ويعول في صناعته عليه فتارة يكون كلامه في بعض العلوم منشئا ممهدا وأخرى متمما ومؤيدا وإن أردت أن تعلم ذلك علم اليقين فتأمل تأمل اليقظين ما تضمنه من ذلك الكتاب والسنة فبهما كثرت الخيرات وعظمت المنة فإنك تجدها قد جمع له منهما علوم الأولين والآخرين على اختلاف علوم العالمين من الرياضيات على اختلاف أوصافها والإلهيات مع تعذرها على أكثر الأفهام واعتياصها والسياسات على تشتت أوصافها
أما الأمور المصلحية
التي يعبر عنها بالقوانين الشرعية فيقضي العقلاء منها العجب فإنه أطل منها على أعلى المراتب والرتب وذلك

أن أعمال شريعته صلى الله عليه و سلم انقسمت إلى أمور تعبدية مثل الصوم والصلاة والحج وغير ذلك مما لا يدرك معانيها وحكمها إلا من أمده الله بتوفيق خاص فنور بالمعارف باطنه وزين بالأعمال ظاهره وإلى أمور مصلحية يدرك معانيها الجفلى والجمهور من أهل الديانة الحنيفية
ثم أنه اعتبر أصول مصالح العالم فأوجبها واعتبر أصول مفاسد العالم وحرمها وأصول المصالح إنما هي خمسة المحافظة على صيانة الدماء في أهبها والأموال على ملاكها والأنساب على أهليها والعقول على المتصفين بها والأديان التي بها عيش النفوس وزكاتها
فأصول الشريعة وإن تعددت صورها فهي راجعة إلى هذه الخمسة
فأما بمرتبة واحدة أو بمراتب على ما يعرف في موضعه
وأما الدماء
فحقنها بأن شرع أن من قتل يقتل ومن جرح يجرح ومن فقأ عين إنسان فقئت عينه وهكذا
فإذا علم القاتل أن يفعل به مثل ما يفعل انكف عن القتل فحصلت حياة النفوس وصيانة الدماء ولأجل ذلك قال الله تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب
ثم سوى في القصاص بين الكبير والصغير والشريف والمشروف إشعارا بأن مزايا الدنيا وفضائلها لا مبالاة بها عند الله أن الشرف إنما هو بالدين والتقوى ولأجل هذا قال الله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال عليه السلام الناس كأسنان المشط يريد بذلك أن الأحكام متساوية بينهم وأنهم فيما شرع سواء
وأما الأموال
فصانها على ملاكها بأن شرع قطع يد السارق للنصاب وقتل المحارب وغرم مثل المتلف أو المغصوب إن كان مما له مثل فاذا علم السارق والمحارب أنهما يعاقبان بما يناسب جنايتهما ارتدعا وانكفا فانحفظت الأموال

وأما العقول
فحرم استعمال ما يؤدي إلى تلفها وذهابها كالخمر وذلك أن مناط التكليف العقل وهو الذي به يعرف الله تعالى وهو الذي ينتظم مصالح الدنيا والدين فإذا أذهبه الإنسان بالخمر وما في معناه فقد تعرض لإسقاط التكليف وللكفر بالله تعالى بل لكل المفاسد ولأجل هذا قال عليه السلام الخمر جماع الإثم وأم الخبائث والكبائر ولأجل هذا قال الله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون
ثم أكد الكف عن الخمر بأن شرع على شربه حدا هو ضرب بالسوط ليكون ذلك أبلغ في الردع والزجر
وأما حفظ الأنساب وصيانة إختلاط المياه في الأرحام
فشرع النكاح وحرم السفاح لينتسب كل ولد لوالده ويتميز الولي عن مضادده ولينضاف كل إلى شيعته ويتحقق نسبته بقبيلته ولأجل هذا قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
ولم لم يكن ذلك لارتفع التعارف ولم يسمع ولاتسع خرق لا يرقع
وأما المحافظة على الأديان وصيانتها
فهو المقصود الأعظم والمستند الأعصم فحرم الكفر والفسوق والعصيان وأوجب الطاعات والإيمان وأوجب قتل الكافر وتوعده بالعذاب الدائم والهوان ولا يخفى على من معه أدنى مسكة إذا تأمل بأدنى فكرة أن الإيمان

بالله رأس المصالح والخيرات والكفر رأس المقابح والهلكات ولأجل وجوب الإيمان وتحريم الكفران أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ولأجل ذلك قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
فهذه الأصول الخمسة بها يتم نظام العالم وبأضدادها يخرب العالم وبنظام العالم يتم نظام الأديان وبنظام الأديان يحصل النجاة من عذاب النيران والفوز بنعيم الجنان مع رضى الرحمن
فهذا بيان أنموذج من أصول السياسات الشرعيات وأما الرياضات
فيكفيك منها مثال واحد من الطيبات وذلك أنه عليه السلام قال المعدة بيت الداء والحمية أصل الدواء وأصل كل داء البرد ولقد سمع بعض أطباء الهند هذا الكلام فقال لم يترك نبيكم من الطب لأحد شيئا أو كلاما هذا معناه
وتتبع ما استفيد من جهته من العلوم بحر لا ساحل له وليس هذا موضع استيفائه ومقصود هذا الكلام أن النبي الرفيع عند الله العظيم القدر لديه كان أميا منسوبا إلى ولادة الأم ومعنى هذه النسبة أنه بقى على ما كان عليه أي لم يتعلم علما من أحد ولا اكتسبه ولا خط كتابا بيمينه وهذا معروف من حاله عند الموافق والمخالف وربما كان إذا أراد أن يحسب شيئا عدده بأصابعه فكان يقول أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يشير بيديه ثلاثا والشهر هكذا وهكذا ويخنس بإحدى أصابعه يعني في الثالثة ومع ذلك فقد أوتى جوامع الكلم وبدائع الحكم وعلوم الأولين فأخبر عن القرون الماضية والأمم السالفة بأخبار هي حق عند أرباب العلوم ولا ينازعه أحد منهم فيها بل إذا سمعوها أذعنوا للتصديق بها ولم يكذبوه في شيء منها وكذلك أخبر عن الأمم الآتية والوقائع المنتظرة أخبارا لا يتوصل إليها بإكتساب وإنما ذلك بإعلام العليم الوهاب فجاءت على نحو ما أخبر وما به بشر وأنذر
وسيأتي من ذلك مواضع يتبين فيها ذلك إن شاء الله تعالى

وهذا دليل من أدلة نبوته لا يخفى على متأمل وبالله التوفيق بل نقول أنه ليس في القوة البشرية والجبلة الإنسانيه الوصول من العلوم والمعقولات إلى مثل ما وصل هو إليه إذ قد علم أمورا لا يستقل العقل بدركها وأخبر بها وعند هذا يعلم أن ذلك بتوفيق إلهي ونور رباني ولأجل هذا قال الله له وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
وأما صبره وحلمه
فيكفيك من ذلك أنه كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجه فشق ذلك على أصحابه فقالوا له لو دعوت الله عليهم فقال إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ثم قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون
فأنظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم إذ لم يقصر على السكوت عنهم حتى عفى ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله لقومي ثم اعتذر عنهم لجهلهم فقال فإنهم لا يعلمون وكذلك جاء أعرابي جلف جاف وكان على النبي صلى الله عليه و سلم برد غليظ الحاشية فجذبه الأعرابي بردائيه جبذا شديدا حتى أثر حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال يا محمد احملني على بعير من مال الله الذي بيدك فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك فسكت النبي صلى الله عليه و سلم وقال المال مال الله وأنا عبده ثم قال له لم فعلت بي ما فعلت قال كأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى آخر تمر
وكذلك قال له آخر اعدل يا محمد فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم ويلك إن لم أعدل أنا فمن يعدل أيأمنني الله على خزائنه ولا تأمنوني وكذلك سحره

لبيد بن الأعصم اليهودي فأعلمه الله بسحره وحيث هو فاستخرجه الله فبرئ فقيل له ألا تقتله فقال أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا
وكذلك قدمت إليه يهودية ذراع شاة مسمومة فأكل منه النبي عليه السلام فعافاه الله في ذلك الوقت من ضرر ذلك السم فاستحضر المرأة وقال لها ما الذي حملك على ذلك قالت أردت إن كنت كاذبا أرحت منك وإن كنت صادقا لا يضرك فعفى عنها
وقد قال بعض أصحابه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم متصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله وما ضرب خادما ولا أمرأة
وجئ إليه برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك فقال له صلى الله عليه و سلم لن ترع لن ترع ولو أردت ذلك لم تسلط علي
وجاءه زيد بن سعية يتقاضاه دينا له عليه فجبذ ثوبه عن منكبيه وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له فانتهره عمر وشدد له في القول والنبي صلى الله عليه و سلم يتبسم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي ثم قال لقد بقى من أجله ثلاثة وأمر عمر يقتضيه ما له ويزيده عشرين صاعا فكان سبب إسلامه
والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن يأتي على حصرها هذا الكتاب
وعلى الجملة فقد تواتر صبره على أذى قريش وسبه وإخراجه من بلده ونيل الأذى حتى بلغوا منه مبلغا لا يصبر عليه إلا من هو مثله فلما أظفره الله بهم قال لهم ما تقولون أني فاعل بكم قالوا خيرا أخ كريم وأبن كريم فقال أقول كما قال أخي

يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين أذهبوا فأنتم الطلقاء
ولقد ثبت عنه أنه لما كذبه قومه جاءه جبريل عليهما السلام فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال مرني بما شئت إن شئت أطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا
ولقد هبط ثمانون رجلا من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذوا فأعتقهم
ومثل هذا كثير
وعند هذا يتبين أنه صلى الله عليه و سلم أحلم الناس عند مقدرته وأصبرهم على مكرهته وأنه امتثل أمر الله حيث قال له خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وحيث قال له تعالى فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين
وأما تواضعه
صلى الله عليه و سلم على علو منصبه ورفعة رتبته فكان أشد الناس تواضعا وأبعدهم عن كبر وحسبك أن الله خيره بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا فاختار أن يكون نبيا عبدا فقال له إسرافيل عليه السلام عند ذلك فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق الأرض عنه وأول شافع
وقال أبو أمامة خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم متوكأ على عصا فقمنا له فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا وقال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد وكان يركب الحمار ويردف خلفه ويعود المساكين ويجالس الفقراء ويجيب دعوة العبيد ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم حيث ما انتهى به المجلس جلس

وقال عليه السلام لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
وجاءته امرأة فقالت إن لي إليك حاجة قال لها اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضى حاجتك فجلس إليها حتى فرغت من حاجتها وكان يوم بني قريظة على حمار ومخطوم بحبل من ليف عليه أكاف
وكان يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب
وقد حج وكان عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم هذا كله وقد أقبلت عليه الدنيا بحذافيرها وألقت إليه أفلاذ كبدها فلم يلتفت إليها ولا عبأ بها وكان صلى الله عليه و سلم في بيته في مهنة أهله يفلى ثوبه ويحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه ويقم البيت ويعقل البعير ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق وكانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت من المدينة حتى يقضى حاجتها
ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له هون عليك فاني لست بملك انما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد وقال أبو هريرة دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه و سلم فاشترى سراويل وقال للوازن زن وارجح وذكر قصته فقال فوثب إلى يد النبي صلى الله عليه و سلم يقبلها فجذب يده وقال هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم ثم أخذ السراويل فذهبت لأحمله فقال صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله
وأما عدله وصدقه صلى الله عليه و سلم وأمانته وصدق لهجته
فكان صلى الله عليه و سلم آمن الناس وأعدل الناس وأعف الناس وأصدقهم لهجة منذ كان
اعترف بذلك محادوه وعداته وكان يسمى قبل النبوة الأمين وذلك لما جعل الله فيه من الأخلاق الصالحة

ومما يدل على ذلك أن قريشا لما بنيت الكعبة اختلفت فيمن يضع الحجر الأسود موضعه فحكموا بينهم أول داخل عليهم فإذا بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم داخلا فقالوا هذا محمد هذا الأمين قد رضينا به وذلك قبل أن يبعث
ولقد اجتمع الأخنس بن شريق مع أبي جهل يوم بدر وكلاهما مخالف وعدو له قد أجمع على قتله وقتاله فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا فأخبرني عن محمد أصادق أم كاذب فقال أبو جهل والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط
ولقد سأل هرقل أبا سفيان وهو على شركه ومخالفته فقال له هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قال لا قال هرقل قد أعلم أنه لم يكن يدع الكذب على الناس ويكذب على الله
وقال النضر بن الحارث لقريش وهو عدوه ومخالفه قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاء به قلتم أنه كذاب وأنه ساحر
لا والله ما هو بساحر ولا بكذاب
فهذا كان حاله فاعترف أعداؤه بمناقبه ولا يقدرون على إنكار شيء من فضائله
من أدل دليل على عدله وعظيم تواضعه وفضله أنه كان قد انتهى به الأمر إلى أن تهابه الملوك وتفرق منه الجبابرة ومع ذلك فإنه كان يوفي لكل ذي حق حقه ويعرف لذي الفضل فضله حتى كان يقول إني أريد أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة في أهل ولا مال ولأجل ذلك أقاد عكاشة بن محصن من نفسه وذلك أنه صلى الله عليه و سلم ضربه بقضيب في ظهره غير قاصد لضربه فقال له عكاشة إنك قد أوجعتني فأقدني معناه مكني منك حتى أضربك مثلما ضربتني فكشف له عن ظهره وناوله القضيب وقال اضرب فأكب عكاشة على ظهره يقبله وقال إنما أردت أن يمس جلدي جلدك

والأخبار في هذا أكثر من أن يحيط بها هذا الكتاب
وأما زهده
صلى الله عليه و سلم فلقد كان أزهد الناس وأورعهم وحسبك شاهدا على ذلك ما علم من حاله صلى الله عليه و سلم وذلك أنه أعرض عن الدنيا وزهرتها ولم يلتفت إلى شيء منها مع إقبالها عليه وسياقتها إليه وذلك أن الدنيا سيقت إليه بحذافيرها وترادفت عليه فتوحها وهو مع ذلك لا يعرج عليها ولا يلتفت إليها إلى أن مات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله وهو يدعو ويقول اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ويقول اللهم أحييني مسكينا وأمتني مسكينا وأحشرني في جملة المساكين ولقد صحت الأخبار عنه أنه ما شبع ثلاثا تباعا حتى مضى لسبيله ولقد روى أنه ما شبع من خبز الشعير يومين متواليين وما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا وما ترك إلا بغلته وسلاحه وأرضا جعلها صدقة وكان يقول ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي ثالثة وعندي منه دينارا إلا شيئا أرصده لدين ولقد قال صلى الله عليه و سلم عرض على ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب بل أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ولقد حكى عنه جماعة من أصحابه أنه كان يبيت هو وعياله الليالي المتتابعة طاويا لا يجدون عشاء وقال أنس خادمه ما أكل رسول الله صلى الله عليه و سلم على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق ولا رأى شاة عبيطا قط
ودخل عليه عمر بن الخطاب فوجده مضطجعا على رمل حصير قد أثر في جنبه قال عمر فنظرت في بيته فلم أر فيه شيئا فبكيت لما رأيت برسول الله صلى الله عليه و سلم من الحاجة والفاقة فقال ما شأنك يا ابن الخطاب فقلت يا رسول الله ذكرت كسرى وقيصر وما أعطاهما الله تعالى فقال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة وقالت عائشة لم يمتلئ جوف نبي الله شبعا قط ولم يبث شكوى إلى أحد وكانت الفاقة أحب إليه من الغناء وإن كان ليظل جائعا يلتوي طول ليله من الجوع فلا يمنعه صيام يومه ولو شاء سأل ربه كنوز جميع الأرض وثمارها ورغد عيشها

ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع وأقول نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بما قوتك فيقول يا عائشة مالي وللدنيا إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرمهم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي أن ترفهت في معيشتي أن يقصرني غدا دونهم وما شيء هو أحب إلى من اللحوق بإخواني وأخلاني قالت فما أقام بعد ذلك إلا شهرا حتى توفى صلوات الله عليه
ولقد شكى إليه بعض أصحابه الجوع وكشف له عن بطنه عن حجر فكشف له رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بطنه عن حجرين صلى الله عليه و سلم تسليما وهذا معلوم قطعا من أحواله لا يقدر على جحده أحد من أعدائه ولا أوليائه
وأما كثرة جوده وكرمه
فشيء معروف من شيمه فلقد تواتر أنه كان أكرم الناس وأجودهم حتى أنه ما سئل قط شيئا فمنعه إذا كان ذلك الشيء المسئول مما لا يمنع شرعا
قال ابن عباس رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه و سلم أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان وكان أجود بالخير من الريح المرسلة
ولقد سأله رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع ذلك الرجل إلى قومه فقال أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى فاقة وأعطى أناسا كثيرين مائة مائة من الإبل وأعطى صفوان مائة ثم مائة وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله وسيق له صلى الله عليه و سلم تسعون ألفا فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه
وكان صلى الله عليه و سلم لا يرد سائلا جاءه وربما كان السائل لا يجد عنده شيئا فيأخذ له بالدين ويعطيه السائل حتى يقضيه النبي صلى الله عليه و سلم ولقد جاءه رجل فسأله فقال ما عندي شيء ولكن أبتع على بدين فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر ما كلفك الله مالا تقدر عليه فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم

ما قاله عمر فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا فتبسم وعرف بشر ذلك القول في وجهه وقال بهذا أمرت
ولقد كان صلى الله عليه و سلم يقبل الهدية وإن لم يحتج إليها ويثيب عليها بأضعافها روى أن معاذ بن عفراء أهدى للنبي صلى الله عليه و سلم طبقا فيه رطب وقثاء فأعطاه النبي صلى الله عليه و سلم ملء كفه ذهبا وحليا وكان صلى الله عليه و سلم لا يدخر شيئا لغده لنفسه وقد ثبت عنه أنه كان يقول ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمضي على ثالثة وعندي منه دينارا إلا شيئا أرصده لدين وما سيق له قط شيء يقسم ذهبا كان أو غيره إلا أمر بقسمه ولم يبت عنده
وهكذا كان المعروف من خلقه قبل مبعثه وكان هذا معروفا عند قومه الذين نشأ فيهم حتى لقد قال له ورقة بن نوفل وكان امرءا تنصر وقرأ الكتب العبرانية وكان قد تفطن واستشعر بنبوته عليه السلام لما رأى من العلامات التي علمها من الكتب المتقدم فقال له إنك لتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق
وهذا كله من أخلاقه معروف حاصل لا يتمارى فيه منصف عاقل
وأما وفاؤه بالعهد
فلا يتمارى فيه إلا خسيس وغد فقد كان صلى الله عليه و سلم أحفظ الناس بعهد وأوفاهم بميثاق ووعد وأحسنهم جوارا وأصدقهم قولا وأخبارا روى عن عبدالله ابن أبي الحمساء أنه قال بايعت النبي صلى الله عليه و سلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك وذلك للميعاد الذي كان بينهما وكان المعلوم من سيرته صلى الله عليه و سلم أنه كان يعقد العهود والمواثيق بينه وبين عداته وغيرهم فيفي بها ويؤذنهم بإنقضائها عند تمامها ولم يغدر قط في شيء منها ولقد كان هذا معروفا عند أعدائه كما هو معروفا عند أوليائه

ولقد روى أن هرقل ملك النصارى لما سأل كفار قريش عن صفات النبي صلى الله عليه و سلم قال فهل يغدر قالوا له لا فقال لهم كذلك الرسل لا تغدر وكيف يغدر صلى الله عليه و سلم وهو قال ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان ولقد جاءه المغيرة بن شعبة مسلما وجاء معه بمال قوم من الجاهلية كان قد صحبهم ثم قتلهم وأخذ أموالهم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء وقال صلى الله عليه و سلم وقد عرض له بعض أصحابه بغدر المشركين دعني لهم ونستعين الله عليهم
وفي خبر الجلندي ملك عمان لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام فقال الجلندي والله لقد دلني على أن هذا نبي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ويفي بالعهود وينجز الموعود أشهد أنه نبي
يا هذا تأمل بعقلك
أين هذا مما يحكى اليهود والنصارى عن موسى عليه السلام في كتبهم من أن موسى عليه السلام لما أراد الخروج من مصر استعار حلى بني إسرائيل ثم فر به ليلا
وعند الإنتهاء إلى هذا المقام يعلم العاقل ما في كتب القوم من الأباطل والأوهام وموسى عليه السلام مبرأ عن النقائص والآثام ومن وفائه بالعهد وقيامه في حفظه بالحد أنه قدم عليه وفد النجاشي فقام صلى الله عليه و سلم يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه نحن نكفيك فقال إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم وقال صلى الله عليه و سلم حسن العهد من الإيمان
وحقيقة الوفاء بالعهد تتميم ما ربط من العقد ومراعاة ما تقدم من الود ومكافأة من له يد وقد كانت هذه الخصال اجتمعت فيه لا ينازع في ذلك أحد وإن كان يناوئه
وأما حسن سمته وتؤدته وكثير حيائه ومروءته
فشيء لا يجحد ولا يجهل ولا يلحقه في شيء من ذلك أحد وإن بدل غاية جده ولم يكسل فهو بالحقيقة كما قال الشاعر الأول

سعى بعدهم قوم لكي يدركونهم ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا ...
كان صلى الله عليه و سلم كثير الصمت والوقار طويل الإطراق والإعتبار تكسو هيبة وقاره جسائه حتى إذا جلسوا بين يديه كأن على رؤوسهم الطير إعظاما له وهيبة منه
مجلسه أوفر المجالس لا يسمع فيه ضحت الأصوات ولا اختلاط اللغات ليس فيه مراء ولا جدال ولا للهجر والفحش فيه مجال لا توبن في مجلسه الحرم ولا يغض فيه من الأقدار والقيم بل كان مجلس علم
وأصحابه يعظمون في مجلسهم معه حرمات الله ويتعلمون منه أحكام الله فتارة يعلمهم بأمور الآخرة كأنهم ينظرون إليها وأخرى يعلمهم أحكام شريعته كي يعملوا بها
قال ابن أبي هالة كان سكوته على أربع على الحكم والحذر والتقوى والتفكر يعلم الجاهل المسترشد ويدنيه ويطرد المعاند المتكبر ويقصيه يتواضع للفقراء ويتواضع لديه الأمراء
كان صلى الله عليه و سلم أشد حياء من العذراء في خدرها الرفيعة الشريفة في قومها كان إذا سمع ما يستحيى منه ظهر نور الخفر على وجهه ولذلك مر صلى الله عليه و سلم على رجل وهو يعتب أخاه على الحياء فقال صلى الله عليه و سلم دعه فإن الحياء من الإيمان وقال الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير وقال استحيوا من الله حق الحياء وكان صلى الله عليه و سلم ضحكه تبسما ولم ير قط في ضحكه مقهقها ولا مترنما
كان كلامه فصلا يفهمه كل من سمعه وربما تكلم بالكلمة ثلاثا حتى تفهم عنه وكان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه وكان إذا مر بقوم يسلم عليهم ثلاثا وكان صلى الله عليه و سلم يحافظ على مروءته وعلى إستقامة حالته وتحسين هيئته يمشي هونا كأنما ينحط من صبب إذا مشى مشى مجتمعا وإذا جلس جلس محتبيا وقرب إليه طعام ومتكأ فقال لا أتكئ إنما آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد

كان صلى الله عليه و سلم يحب الطيب والرائحة الحسنة ويستعملها ويحض عليهما ويقول إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويأمر بالسواك وغسل البراجم والدواجب وإستعمال خصال الفطرة ويأخذ بذلك ويعمل به
وكان صلى الله عليه و سلم لكثرة محافظته على جلال مروءته إذا عطس غطا وجهه وخفض بها صوته
وما عسى أن يقول القاص فيمن جمعت فيه كل الفضائل والمآثر بل غاية الفصيح الأثر أن ينتهي إلى ما قاله الشاعر ... ماذا أقول وقولي فيك ذو حصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا ... إن قلت ما زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك دى فهو قد فعلا ...
وأما شجاعته ونجدته
فكان منها صلى الله عليه و سلم بالمكان الذي لا يجهل وحظه منها الحظ الأوفى الأفضل قد كان مارس الضراب ووقف مواقف الصعاب لا يبالي بكثرة العدد ولم يفر قط أمام أحد وما من شجاع إلا وقد أحصيت له فرة وإن كان له بعدها كرة إلا هو صلى الله عليه و سلم فلم يدبر قط منهزما ولا فارق مكرها ملتزما
وكان علي بن أبي طالب يقول كنا إذا اشتد البأس وحميت الحرب اتقينا برسول الله صلى الله عليه و سلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتنا يوم بدر نلوذ برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أقربنا إلى العدو ولقد كانت الصحابة تقول إن الشجاع منا للذي يقوم بجانبه يستتر به
وقيل ل أنس أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفر
ثم قال رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذا بلجامها والنبي صلى الله عليه و سلم يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
قيل فما رؤى يومئذ أحد كان أجرأ منه ولا أشد وقد روى عنه أنه نزل عن بغلته متوجها نحو العدو وقال العباس

ابن عبد المطلب لما التقى المسلمون والكفار يوم حنين ولى المسلمون مدبرين فطفق النبي صلى الله عليه و سلم يركض بغلته نحو الكفار
قال العباس وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه ثم نادى بالمسلمين وذكر الحديث
وقال أنس كان النبي صلى الله عليه و سلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق أناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت وقد استبرا الخبر على فرس عرى لأبي طلحة وفي عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا لن تراعوا وإنا وجدناه ليجرا يعنى القوس لكثرة جرية
وقال ابن حصين ما لقى رسول الله صلى الله عليه و سلم كتيبة إلا كان أول ضارب ولما رآه أبي بن خلف يوم أحد وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجا
وقد كان قال للنبي صلى الله عليه و سلم حين افتدى يوم بدر عندي فرس أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها فقال له النبي صلى الله عليه و سلم بل أنا أقتلك إن شاء الله فلما رآه أبي يوم أحد شد أبي فرسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعترضه رجال من المسلمين فقال النبي صلى الله عليه و سلم دعوه خلوا طريقه وتناول النبي صلى الله عليه و سلم الحربة من الحارث ابن الصمة فانتفض بها انتفاضة فتطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض ثم استقبله النبي صلى الله عليه و سلم ثم طعنه بها طعنة تدأدأ منها على فرسه وقيل بل كسر ضلعا من أضلاعه فرجع إلى قريش يقول قتلني محمد وهم يقولون لا بأس بك فقال لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم أليس قد قال لي أنا أقتلك إن شاء الله والله لو بصق على لقتلني فمات ب سرف في قفولهم إلى مكة
ومما يدلك على عظيم شجاعته
أنه يوم أحد فر عنه الناس فاستقبل العدو في نفر قليل من أصحابه فكسر عتبة بن أبي وقاص رباعيته اليمنى وجرح شفته السفلى وشجه في جبهته عبدالله

ابن شهاب الزهري وضرب عمرو بن قمئة وجنته فأدخل حلقتين من حلق المغفر في وجنته وهو في ذلك كله لا يزول عن موضعه ولا يولي ظهره ولم يزل كذلك حتى أنزل الله عليه نصره حين رأى صبره
وفي ذلك الموضع وفي تلك الحال نهض نفر من أصحابه لقتال العدو فوافقوهم وقاوموهم مع كثرة عدوهم فانفدت مقاتل واحد منهم فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم خد ذلك الرجل على قدمه حتى مات وهذا يدلك على غاية شجاعته وكثرة الجلد وقلة المبالاة بالعدو ولقد كانت غزوة أحد هذه التي جرى فيها ما ذكر من أول الشواهد على نبوته صلى الله عليه و سلم وذلك أنه لما التقى هو والمشركون قال النبي صلى الله عليه و سلم لبعض أصحابه وكانوا رماة انضحوا عنا الخيل بالنبل لا يأتونا ما خلفنا واثبتوا مكانكم كانت لنا أو علينا
وقد كان أمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم التقى هو والمشركون فهزموا المشركين وولوا أدبارهم حتى سقط لواءهم صريعا فلما رأى أصحاب عبد الله الهزيمة قالوا الهزيمة الهزيمة تعالوا بنا نصيب مما تصيبه الناس فقال لهم عبدالله ألم يقل لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تبرحوا من مواضعكم فقالوا له قد هزم الله العدو فلم يلتفتوا كلامه فزالوا عن مواضعهم فلما زالوا عن مواضعهم عاقهم الله بأن رجع العدو عليهم فقتل منهم من قتل لمخالفتم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ومحص الله في تلك الغزوة المؤمنين ومحن الكافرين والمنافقين
وفي تلك الغزوة فقئت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت أحسن عينيه وسيأتي ذكر هذا وماشاكله بعد هذا إن شاء الله تعالى
وأما خوفه من الله تعالى وإجتهاده في عبادته
فقد بلغ من ذلك إلى حد لم يبلغه أحد من الخليقة وذلك أن الله تعالى كلفه من وظائف العبادات مالم يكلف أحدا على الحقيقة وهو مع ذلك لا يقصر في شيء منها بل كان يبذل غاية إجتهاده ووسعه في أدائها فمن العبادات التي كلفها الله له تحمل أعباء الوحي ومشقة ثقله فلقد كان ينزل عليه

الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا
ولأجل هذا قال الله تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقال له فإذا قرأناه فاتبع قرآنه
وهذه مشقة لا يعرفها على التحقيق إلا الرسل ولأجل عظم هذا الأمر جاءه جبريل عليه السلام وهو يتعبد بغار حراء وذلك قبل أن يوحى إليه فقال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال اقرأ فقال ما أنا بقارئ ففعل به مثل ذلك مرتين فقال له في الثالثة اقرأ باسم ربك الذي خلق الآيات فقرأها ثم رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال زملوني فدثروه فأنزل الله عليه وهو على تلك الحال يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر الآيات
ثم بعد قبول الوحي أمر بتبليغه وتبيينه للناس والصبر على ما يصيبه من أذى قومه فكان صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه ودينه على قبائل العرب وعلى وفودها إذا قدموا مكة لمواسم الحج فيعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم ويظهر خلافهم ويوبخهم على جهالاتهم فيردون عليه قوله ويكذبونه ويسبونه ويؤذونه بأقصى ممكنهم من أنواع الأذى فيصبر على ذلك ويحتسب ما يلقاه على الله
فلسان الحال ينشد والأنفاس خوفا من التقصير في أمر الله تتصعد ... لا أبالي إذا رضيت إلهي ... أي أمر من الأمور دهاني ...
فلم يزل راضيا صابرا على أنواع البلاء حتى كان لسان حاله يقول ... عذب التعذيب عندي وحلا ...
فأقام على ذلك بمكة ثنتي عشرة سنة يدعو الناس من غير قتل

ولا قتال وذلك كله ليظهر الإسلام وتنتشر دعوته لئلا يكون لأحد حجة على الله ورسوله
وبعد ذلك أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة فقارق أهله وعشيرته وحاله وماله وولده وبلده ولم يعظم عليه مفارقة شيء من ذلك في ذات الله فترك كل ذلك إلى الله فوقع أجره على الله
فلما حل بالمدينة افترض الله عليه القتال فقاتل في ذات الله جميع من كفر بالله غير مقصر في ذلك ولا مفرط بل جادا مجتهدا حتى أظهر الله دينه وإن رغمت أنوف الجاحدين وفي كل ذلك الزمان كان يقوم بوظائف الشريعة وعباداتها عبادة عبادة فصلى حتى تورمت قدماه وانتفخت وصام حتى كان القائل يقول لا يفطر لكثرة ما كان يرى من صومه ووصاله وكان يذكر الله ويعظمه ويمجده ويشكره على كل أحواله من غير تقصير ولا فتور ولا تشغله عبادة عن عبادة ولا عمل زمان عن عمل زمان آخر
كان عمله دائما وكذلك كان يقول صلى الله عليه و سلم خير العمل أدومه فكان يراعي أنفاسه مع الله ولا يضيع شيئا مما كلفه خوفا من الله فكان ربما يتفكر في عظيم أمر الله وعزة سلطانه فيستعظم ما يعرف من هول المطلع فكان يقول والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية وكان يقول يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله وما تلذذتم بالنساء على الفرش لوددت أني شجرة تعضد ولذلك كان يقول إني أرى مالا ترون وأسمع مالا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله
وهذا كله يدل على كثرة معرفته بالله تعالى وشدة خوفه منه ورهبته له وكذلك كان يبكي ويسمع لخوفه صوت كصوت المرجل من البكاء وكذلك صح النقل عنه بأنه كان متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة وكان يقول يا أيها الذين آمنوا توبوا فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة مائة مرة
وروى عن علي بن أبي طالب أنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ستة فقال المعرفة راس مالي والعمل رأس

ديني والحب أساسي والشوق مركبي وذكر الله مجدي والزهد حرفتي واليقين قوتي والصدق شفيعي والطاعة حسبي والصبر هادي خلقي وقرة عيني في الصلاة
وفي حديث آخر وثمرة فؤادي في ذكره وغمى لأجل أمتي وشوقي إلى ذي الجلال
ووصف خوفه يطول ومعرفة ذلك من حاله لا ينكره عليم ولا جهول إذا كان من أهل الإنصاف والعقول
وعلى الجملة فمناقبه الشريفة لا تحصى وما خص به من الأخلاق الكريمة عديد الحصى كيف لا وقد قال الله تعالى له وإنك لعلى خلق عظيم وما عظمه العظيم فهو عظيم وكيف لا يكون ذلك وقد بعثه الله تعالى متمما لمكارم أخلاق الأولين وقد خصه بصفات جميع النبيين فلو جاز أو تصور أن يعبد أحد من البشر لكمال أخلاقه وكرم أوصافه وطيب أعرافه لكان هو إذ قد أعطى من ذلك ما لم يعطه أحد من البشر ولا دخل لهم تحت كسب ولا قدر

خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته
وذلك أن أبا سفيان وكفار قريش قدموا الشام تجارا فأرسل إليهم هرقل وكان ملك النصارى وعظيمهم وإليه ينتهي علمهم فجاءوه ودخلوا عليه في مجلسه وحوله عظماء الروم فقال لترجمانه قل لهم أيكم أقرب نسبا بهذا االرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان أنا أقرب نسبا منه فقال ادنوه مني وقربوا أصحابه واجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لأصحابه إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذب فكذبون
قال أبو سفيان فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عني كذبا لكذبت عليه قال أبو سفيان فكان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله قلت لا قال فهل كان في آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها يعني صلحا
قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة
قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال ماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة
فقال هرقل لترجمانه قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد

قال هذا القول قبله لقلت رجل يقتدي يقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل
وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان قد بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين يعني المقتدين به و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام
وكان ابن الناظور صاحب إيلياء يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال له بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك
قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن من هذه الأمة إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود فبينا هم على ذلك أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمحتتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب أيختتنون فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه و سلم وأنه نبي فأذن هرقل عظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى االأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وآيس من إيمانهم قال ردوهم على وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه
فكان هذا آخر شأن هرقل
فتأمل أيها القس إن كنت من أهل العقل والحدس كيف كان العلماء منكم يعرفونه بعلاماته ويستدلون على صحة نبوته بحسن

أوصافه وهيئاته وهكذا فعل جماعة من عقلاء أهل الكتاب وغير واحد من ذوي الألباب مثل عبدالله بن سلام والفارسي سلمان ونصارى الحبشة وأساقفة نجران
ولا تشك إن كنت منصفا أنهم كانوا أعلم بالكتب منك وأعرف برسل الله وعلاماتهم من عثرتك ولعلمهم بكتب الله وما جاء فيها من علامات محمد رسول لله لما جاءهم ما عرفوا وحققوا آمنوا وصدقوا فقالوا ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
ولجهلهم بكتب الله وبعلامات رسول الله لما جاءكم الحق كفرتم به فلعنة الله على الكافرين
ومن أعظم آياته وأوضح دلالاته ما جرى له مع قومه وذلك أنه صلى الله عليه و سلم لما جاهر قومه بتبليغ ما أمره الله من الرسالة وصدع بأمره فسفه أحلامهم وعاب آلهتهم وبين ليهم فساد ما هم عليه شق ذلك عليهم وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام كانوا إذا ذاك قليلا مستخفين فأرادت قريش قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقتل من معه والوثوب عليهم فحدب على رسول الله صلى الله عليه و سلم عمه أبو طالب ومنعه منهم لشرفه في قومه وعزته فلم يقدروا أن يصلوا إليه بشيء مما أرادوه فلما رأوا أنهم لا يقدرون أن يصلوا إلى ضره لمنع عمه له منهم اجتمعوا وقالوا لأبي طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وظل آباءنا فأما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا
ثم قال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا للذي قالوا له فابق با ابن أخي على وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك القول منه ظن أنه سيسلمه إليهم وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس

في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب عمه وقال له أقبل يا ابن أخي واذهب فقل ما أحببت فوالله ما أسلمك لشيء أبدا
فلما رأت قريش أن أبا طالب لا يسلمه عزمت على حرب أبي طالب وقتاله فتهيأ أبو طالب لقتالهم وجمع قومه وعشيرته لذلك ثم إنهم تصالحوا فيما بينهم وأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم على حاله ذلك من عيب دينهم وتسفيه عقولهم وذم آلهتهم لا يرده عن ذلك راد ولا يصده عما يريده صاد
فاجتمع أشراف قريش يوما فقالوا ما رأينا مثل صبرنا على ما نلقى من أمر هذا الرجل أنه قد سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صرنا منه على أمر عظيم فبينما هم يقولون ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لهم أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح قال فأخذت القوم كلمته وهيبته حتى ما منهم رجل إلا ناكس رأسه كأن على رأسه طائرا واقفا حتى إن أشدهم عليه وطأة ليلين له بالقول ويقول له أحسن ما يجده من الكلام حتى أنه ليقول إنصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم حتى إذا كان الغد اجتمعوا فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا أسمعكم ما تكرهون تركتموه فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم
فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تعيب آلهتنا وديننا فيقول نعم أنا الذي أقول ذلك فأخذوا بمجمع ردائه وجبذوه جبذا شديدا وهو في ذلك يقول لهم أنا الذي أعيب ما أنتم عليه لم يفزعه ما رأى منهم ولا هاله ذلك بل صبر على ما ناله حتى نصره الله عليهم وأظهر دينه على دينهم

فتأمل أيها العاقل إن كنت منصفا فرق ما بين نبينا محمد عليه السلام وبين ما تحكيه النصارى عن المسيح في إنجيلهم وذلك أنها تحكي فيه أن المسيح لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول يا أبتاه فسلمني من هذا الوقت وأنه حين رفع في الخشبة صاح صياحا عظيما وقال إلى إلى لم غريتناني وترجمته إلهي إلهي لم أسلمتني
وهذا غاية الجزع والخور ينزه عنه عيسى بل هو من أكاذيبهم عليه
وكذلك ذكرت في إنجيلها أن عيسى لما أخذته اليهود وحملته إلى قائد القسيسين قال له أستحلفك بالله الحي أن تصدقنا إن كنت المسيح ابن الله فقال له المسيح أنت قلته وهذا كلام يدل على أنه كتم نفسه وسترها ضعفا وجبنا ثم إن كفار قريش لما أكربهم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وغاظهم شأنه تشاوروا في أمره فقال لهم عتبة بن ربيعة يا معشر قريش ألا أقو م لمحمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك لما لم يقدروا أن يصلوا إليه بمكروه فقالوا له بلى فقام إليه عتبة فقال له يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم
فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل منا بعضها فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم قل أسمع فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان

هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فلما فرغ له النبي صلى الله عليه و سلم أقد فرغت قال نعم فاسمع مني قال أفعل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ السورة حتى إذا بلغ السجدة فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض أحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس اليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد
قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوا فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به
قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه فقال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
فانظر إن كنت عاقلا كيف بذلوا له أموالهم فلم يلتفتها وعرضوا عليه ملك الدينا فلم يعرج عليها بل صدع بأمر الله وبلغ ما أمره به الله
وكذلك اجتمع كفار قريش أشرافهم وسادتهم فعرضوا عليه مثل الذي عرض عليه عتبة وقالوا له مثل قوله فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بي مما تقولون شيئا وما جئتكم أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا التملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل على كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا

فبلغتكم رسالات الله ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
والأخبار في هذا النوع كثيرة ومن أوضح آياته وأشهر علاماته
ما أكرمه الله به بعد وفاته وذلك أنه قد اشتهر أنه صلى الله عليه و سلم لما توفاه الله تعالى اختلف غاسلوه في تجريده القميص فلما اختلفوا في ذلك ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو ولا يرون أحدا أن أغسلوا النبي وعليه ثيابه
وكذلك روى أن عليا والفضل حين انتهيا في الغسل إلى أسفله سمعوا مناديا يقول لا تكشفوا عورة نبيكم صلى الله عليه و سلم
وكذلك روى في طرق صحاح أن أهل بيته سمعوا وهو مسجى بينهم قائلا يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت أن في الله عوضا عن كل تالف وخلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة فاصبروا واحتسبوا أن الله مع الصابرين وهو حسبنا ونعم الوكيل قال فكانوا يرون أنه الخضر
وقد آن أن نمسك العنان إذ قد حصل البيان على أن قرائن أحوال نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وعلاماته مما لا يحصيها لسان ولا يحيط بإجملها إنسان
وقد نجز القول في النوع الثاني من أدلة نبوته والحمدلله ونشرع الآن في النوع الثالث

النوع الثالث

الإستدلال على نبوته صلى الله عليه و سلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
ولقد كان ينبغي أن نقدم الإستدلال بهذا النوع لكونه أعظم المعجزات وأوضحها وأشهرها لكن قدمنا النوع تسكيتا للنصارى واليهود وتأسيسا
وقدمنا النوع الثاني بناء وتأسيسا
فنقول أيضا محمد بن عبدالله رسول صادق فيما يقوله عن الله والدليل على ذلك أنه قد جاء بالمعجزات وكل من جاء بها فهو صادق فمحمد إذن رسول من الله صادق فإن قيل لم قلتم أنه قد جاء بالمعجزات قلنا قد نقل إلينا نقلا متواترا بحيث لا يشك فيه أنه جاء بالقرآن وبمعجزات كثيرة فإذن هو صادق
ونبدأ الآن بالكلام على القرآن وبعد الفراغ منه نشرع في الكلام على غيره من المعجزات إن شاء الله تعالى
فإن أنكر منكر أن يكون جاء بالقرآن فقد تبين عناده وسقط استرشاده ويقال له قد حصل بذلك لك الأمم واستوى في ذلك العرب والعجم وسبيلك إن كنت منصفا أن تعاشر المتشرعين وتسألهم عن أخبار الماضين حتى يحصل لك العلم اليقين ولن ينازع في ذلك عاقل منصف بل إما معتوه أو متعسف
فإن قيل سلمنا أنه جاء بالقرآن قلم قلتم أنه معجزة قلنا لأنه قد تحدى به كافة الفصحاء البلغاء ومدة مقامه بينهم فلم يقدروا على معارضة شيء منه فإذن هو معجزة بيان ذلك
أنه صلى الله عليه و سلم بعثه الله إلى قوم كان معظم علمهم الكلام الفصيح البليغ المليح فلقد خصوا من البلاغة والحكم بما

لم يخص به غيرهم من الأمم وأوتوا من دراية اللسان ما لم يؤته إنسان ومن فصل الخطاب ما يتعجب منه أولوا الألباب جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقه فيهم غريزة ووضعا فيأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب فيخطبون بدلها في المقامات وشديد الخطب ويرتجزون به بين الطعن والضرب فربما مدحوا شيئا وضيعا فرفع وربما ذموا شريفا فوضع فيصيرون بمدحهم الناقص كاملا والنبيه خاملا وذلك لفصاحتهم الرائقة وبلاغتهم الفائقة فكانوا يأتون من ذلك بالسحر الحلال ويوردونه أعذب من الماء الزلال
فيخدعون بذلك الألباب ويذللون الصعاب ويذهبون الأحن ويهيجون الفتن ويجرءون الجبان ويبسطون يد الجعد البنان فهم يعرفون أصناف الكلام ما كان منه نثرا وما كان ذا نظام قد عمروا بذلك أزمانهم وجعلوا ذلك مهمتهم وشأنهم حتى بلغوا منه أعلى الرتب وأطلوا منه على كل غابة وسب لا ينازعهم في ذلك منازع ولا يدافعهم عن ذلك مدافع فبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول كريم بقرآن حكيم فعرضه عليهم وأسمعهم إياه واستدل على صدقه بذلك
وقال لهم إن كنتم في شك من صدقي فائتوا بقرآن مثله وعند سماعهم له راعهم ما سمعوا وعلموا أنهم دون معارضته قد انقطعوا فلم يقدروا على ذلك ثم إنه طلب منهم أن يأتو بعشر سور مثله فعجزوا ولم يقدروا ثم طلب منهم أن يأتوا بسورة مثله فلم يستطيعوا وعند ذلك أخبرهم وقال لهم لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا يعنى عونا فعند ذلك ظهر عجزهم وتبلدهم وإن كانوا هم اللسن الفصحاء اللد البلغاء
وعند ظهور عجزهم تبينت حجته ووضحت محجته وهكذا حال غير واحد من الرسل ألا ترى أن الله تعالى أرسل موسى بن عمران إلى قوم كان معظم علمهم وعملهم السحر فأيده بقلب العصى حية

تسعى فرام السحرة معارضته ومقاومته فلم يقدروا من ذلك على شيء وعند عجزهم تبين صدقه وأنه رسول من عند الله وكذلك عيسى عليه السلام بعثه الله في زمان كان معظم علم أهله الطب فأيده بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وعند عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك تبين صدقه وأنه رسول من عند الله فعلم بهذا البرهان الذي يتطرق إليه خلل أن محمدا رسول الله قد خلت من قبله الرسل
فإن قيل لا نسلم أنه لم يعارض بل لعله عورض ولم ينقل أو نقل فأخفى
والجواب من وجهين
أحدهما
أنا نقول لليهود والنصارى هذا السؤال ينقلب عليكم في معجزات موسى وعيسى إذ يمكن أن يقال إن ساحرا من السحرة عارض موسى عليه السلام وأنه أتى بعصا فقلبها ثعبانا أعظم من ثعبان موسى والتقم ثعبان موسى
ويمكن أن يقال للنصارى أن عيسى عليه السلام عورض في إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولم ينقل إلينا أو نقل فأخفى
وكذلك نقول لغير اليهود والنصارى من الأمم في معجزات أنبيائهم فبالذي ينفصلون عن معجزات أنبيائهم به بعينه ننفصل عن معجزات نبينا عليه السلام
وجملة ما قيل في جواب هذا لو عورض لنقل إذ العادات تقتضي ذلك فإن هذا الأمر مهم عظيم تكثر العناية به فيكثر نقله لا سيما في شريعتنا فإنهم قيل لهم إذ لم تصدقوا ولم تعارضوا فأذنوا بحرب فلما لم يؤمنوا ولم يعارضوا قاتلهم فقتلهم وسبى ذراريهم وانتقم منهم غاية الإنتقام فلو قدروا على المعارضة لعارضوا ولو عارضوا لنقل نقلا متواترا فإن هذا الأمر من أهم المهمات عند العقلاء

الوجه الثاني من الجواب

وهو الإنفصال الحق والكلام الصدق أن نقول من وقف على القرآن وسمعه وفهم معانيه وكان عارفا

بأصناف كلامهم علم عجز الخلائق عن الإتيان بمثله ضرورة كما يعلم عجز الأطباء عن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بنفس العلم بهذه الأمور والوقوف عليها وكذلك من شاهد قلب العصى ثعبانا مبينا يتلقف ما جاءوا به من السحر والتخييلات حصل له العلم القطعي بأن قلب العصى ثعبانا يعجز عنه الخلائق أجمعون إذ ذاك خارج عن مقدورهم
فإن قيل
إحياء الموتى وقلب العصى وما ينزل منزلتها جلي لا يشك فيه من شاهده عام بالإضافة إلى كل العقلاء لا يبقى معه ريب لأحدهم بل يحصل لهم العلم القطعي بذلك وليس كذلك ما ادعاه نبيكم من إعجاز القرآن إذ لا يحصل العلم بإعجازه لكل أحد بل إنما يحصل العلم بذلك عندكم وعلى زعمكم للفصحاء من العرب وأما من ليس فصيحا أو أعجميا لا يفقه لسان العرب فلا يحصل له العلم بإعجازه فإن الأعجمي لو كلف أن يتكلم بكلمة واحدة من لسان العرب لم يقدر على ذلك فعدم قدرته على ذلك لا يدل على صدق المتحدى به وكذلك من ليس فصيحا من العرب لو كلف أن يأتي بكلام فصيح لم يقدر عليه فلا يكون ذلك معجزا في حقه
الجواب
أن نقول سنبين إن شاء الله وجوه إعجازه وأنها متعددة وإن منها ما يدركه الجفلا ويشترك في معرفة إعجازه أهل الحضارة والفلا
فيكون هذا النوع كقلب العصى وإحياء الموتى ولو سلمنا جدلا أنه معجز من حيث بلاغته وأسلوبه المخالف لأساليب كلامهم فقط لقلنا إن العلم بإعجازه وإحياء الموتى وقلب العصى لا يحصل لكل العقلاء على حد سواء ولا في زمان واحد بل يحصل ذلك لمن علم وجه إعجاز ذلك الشيء المعجز حين يعرف أنه مما ليس يدرك بجبلة بشرية ولا يتوصل إلى ذلك بالإطلاع على خاصية
وقد لا يبعد أن تقوم شبهة عند جاهل بصناعة الطب والسحر تمنعه من تحصيل العلم بالإعجاز فيقول لعل موسى اطلع من السحر على شيء لم يعلمه السحرة ولا اطلعت عليه وكذلك عيسى لعله وقع على خاصية بعض الأحجار أو بعض الموجودات فكان يفعل بها ما يظهر على يديه وهذه الشبهة إنما ممكن أن تظهر للجاهل بالطب

والسحر وأما العالم بالطب وبالسحر فلا تكون هذه شبهة في حقه لعلمه الذي حصل له بالذوق والممارسه بأن الذي جاء به هذا مما ليس يدرك بحيلة صناعية ولا بالوقوف على خاصية بل هو صنع خالق البرية وأنه أراد به التصديق لهذا المدعي والشهادة واليقينية فحصل من هذا أن العلم بإعجاز إحياء الموتى وقلب العصى إنما يحصل أولا للسحرة والأطباء ولا يحصل لكثير من الجهال بالطب والسحر الأغبياء فكذلك إعجاز القرآن ولا فرق
حصل العلم به لمن يعلم لسان العرب بالذوق بضرورة الفرق الذي بينه وبين لسان العرب فعلم أنه ليس داخلا تحت مقدور العرب وإذا عجز عنه العرب الفصحاء واللد البلغاء فغيرهم أعجز كما أنا نقول إذا عجز الأطباء عن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فغير الأطباء أولى وإذا عجز السحرة عن قلب العصى ثعبانا فغير السحرة أعجز وأعجز
وقولهم
إنما يعجز عنه العرب لا العجم
معارض
بأن يقال لهم إنما يعجز عن إحياء الموتى الأطباء لا غيرهم وإنما يعجز عن قلب العصى السحرة لا غيرهم فبالذي ينفصلون به ننفصل بل نزيد عليهم في الإنفصال بوجوه ترفع الأشكال فإنا سنبدي وجوها في إعجاز القرآن يدركها كل إنسان عجميا كان أو عربيا مجوسيا كان أو كتابيا وسنبينها إن شاء الله أثر هذا
فقد حصل من هذا الكلام كله العلم بأن محمدا صلى الله عيله وسلم جاء بالقرآن وتحدى به وهو معجزة وكل من جاء بالمعجزة وتحدى بها فهو صادق فالنتيجة معلومة وهي أن محمدا صلى الله عليه و سلم صادق
فإن قيل
فبينوا لنا وجوه إعجاز القرآن وهل هو من جنس ما يقدر عليه البشر فصرفوا عنه أو ليس من جنس ما يقدرون عليه
فالجواب
أن نقول ذهب بعض علمائنا إلى أن وجه إعجازه إنما هو من جهة أن صرفوا عن الإتيان به وأنه من جنس مقدور البشر لكن لم يقدروا عليه وهذا إن كان فهو بليغ في الإعجاز وذلك أن المعجزات ضربان ضرب خارج عن مقدور البشر كإنفلاق

البحر وإنشقاق القمر ونبع الماء من بين الأصابع وضرب يكون من جنس مقدور البشر إلا أنهم يمنعون من فعله ولا يقدرون عليه
فلو أن نبيا ادعى أنه رسول الله واستدل على صدقه بأن قال لقومه آيتي ألا تقدروا اليوم على القيام فكان ذلك فهذا دليل صدقه وهو معجزة جلية أبلغ في الإعجاز من الإتيان بما ليس بمقدور ولا يبعد أن يكون إعجاز القرآن من هذا القبيل فإن البشر قد صرفوا عن الإتيان بمثله بل عن الإتيان بآية طويلة من آياته ومن تنازع في ذلك فعليه بأن يأتى بقرآن مثله أو بسورة من مثله وهذا من خصائص نبينا صلى الله عيه وسلم
وذلك أن معجزته موجودة بعده وحاضرة مشاهدة في كل وقت لم تنقطع بإنقطاع وجوده ولا ماتت بموته بل هي موجودة مستمرة إلى قيام الساعة فكل من أبدى نكيرا في نبوته أو قدحا في رسالته قلنا له إن كنت صادقا في تكذيبك له فعارض قرآنه ومنزله فإن لم تفعل تبين العقلاء منه أنه متواقح مبطل
ثم نقول والذي ذهب إليه أكثر علمائنا أن القرآن خارج عن مقدور البشر وليس من جنس مقدورهم وأن القرآن وإن كان كلاما فليس بينه وبين كلام العرب من المناسبة والإلتقاء إلا ما كان بين الحية التي انقلبت عصى موسى عنها وبين حيات السحرة التي كانت تخيل للناظر إليها أنها حيات تسعى
ووجوه إعجازه كثيرة لكنا نبدي منها أربعة ونقتصر عليها لبيانها وظهورها

الوجه الأول

فنقول
أن لسان العرب مباين للسان غيرهم
ومتميزون عنهم بأمور يعلمها العارفون بالألسنة واللغات ولا يشكون فيها
ومن غالط في ذلك وأنكره فعليه أن يتعلم لسان العرب وألسنة غيرهم حتى يحصل له الفرق بينه وبينها ذوقا ومشاهدة ضرورية وتلك الأمور التي باين بها غيره من الألسنة خفة اللفظ على اللسان وعذوبته وسهولة المخارج والتعبير عن المعنى الدائر في الضمير بأبلغ عبارة وأوضح تفسير وكما تميز لسان العرب عن لسان غيرهم كذلك غير لسان العرب فكذلك تمييز لسان محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم بأساليب أخر ومناهج لم تكن العرب قبله تستعملها على نحو ما استعملها هو حتى أن من لم يعرف كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمعه وكان عربيا يفرق بينه وبين كلام غيره من الفصحاء فإنه يرز على بلاغة البلغاء وينف في حكمته على جميع الحكماء
وكذلك كانت العرب تقول له ما رأينا بالذي هو أفصح منك وهذه المناهج المعروفة في كلامه إنما يعرفها على التحقيق من باشر كلامه وتتبعه وتفهمه وكان عارفا بلسان العرب وكما تميز كلامه عن كلام العرب وزاد عليهم فكذلك تميز كلام الله عن كلامه بأساليب أخر حتى أنه كان إذا تكلم بكلامه أدرك الفرق بينه وبين كلام الله حين يتلوه ويتكلم به حتى كان العاقل الفصيح إذا سمعه قال ليس هذا من كلام البشر ولا مما تقدرون عليه وسنذكر ما نقل إلينا عن فصحائهم لما سمعوا بالقرآن
فمن الوجوه الذي به مايز القرآن كلام النبي صلى الله عليه و سلم وكلام العرب فصاحته الرائقة وبلاغته الموفقة وجزالته الفائقة حتى تسمع الكلمة الواحدة منه تجمع معاني كثيرة مع عذوبة إيرادها وجزالة مساقها وصحة معانيها مثل قوله خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين

ولما نزلت هذه الآية قال أبو جهل وكان من أشد الأعداء على محمد خير الأنبياء إن رب محمد لفصيح وهذه الآية بما تضمنت من الأحكام وتفسير الحلال والحرام والإعراض عن أهل الجهل والإجترام والأمر بالتزام أخلاق الكرام تدل دلالة قاطعة على أنها كلام العزيز العلام مع ما هي عليه من اللفظ الجزل الرصين الذي يروع قلوب العارفين ويثلج قلوب القارئين والسامعين
وكذلك قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون
ولما سمع المغيرة هذه الآية وكان من أعدائه الذين يريدون إطفاء نوره وإذهاب بهائه قال والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر مورق وما يقول هذا بشر وهذه الآية قد تضمنت بحكم عمومها وصحة مفهومها معاني كتب المتقدمين وشرائع الماضين وتذكره الحاضرين وتخويف المقصرين وترغيب المجتهدين مع ما هي عليه من قلة الكلمات ومع عذوبة المساق والجزالات
وكذلك قوله تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون حكى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينما هو يوما نائم في المسجد إذ وقف على رأسه رجل يتشهد بشهادة الحق فاستخبره فقال إني كنت من بطارقة الروم وكنت ممن يحسن كلام العرب وغيرهم فسمعت أسيرا من المسلمين يقرأ آية من القرآن فتأملتها فإذا هي قد جمع فيها ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة ثم قرأ عليه ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه الآية المتقدمة وكذلك قوله تعالى وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني أنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين

حكى أن الأصمعي سمع جارية من العرب فتعجب من فصاحتها فقالت وهل بعد قول الله تعالى فصاحة حيث قال وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فإنه جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين
وكذلك قوله تعالى فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين حكى أن أعرابيا لما سمعها سجد فقيل له لم سجدت فقال سجدت لفصاحته ولا يظن الجاهل أنا نستدل على فصاحته بكلام هؤلاء الأعراب كلا لو كان ذلك لكانت الحجة أضعف من السراب بل نعلم أنه معجز بفصاحته علم ضرورة تحصل لنا عند سماعه وقراءته والبلغاء إذا وقفوا عليه وسمعوه لذلك العلم مضطرون بحيث لا يرتابون ولا يشكون
كيف والعربي الفصيح إذا سمع قوله تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وقوله تعالى ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقوله تعالى ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وقوله تعالى وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين وقوله تعالى فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومثل هذا كثير قضى من هذه البلاغة والجزالة ومتانة هذه المعاني العجب وعلم أن مثل هذا لا يقدر عليه أحد من العجم ولا من العرب

وما عسى أن يقال في كلام ذي الجلال إذ هو أصدق الكتب ومصدق خير الرسل ولو كانت البحار مدادا وجميع الجن والإنس كتابا ما بلغوا معشاره ولا قدروا مقداره
قال الله تعالى العظيم في كتابه الكريم قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنقد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
فهذا هو الوجه الأول

الوجه الثاني

من وجوه إعجاز القرآن نظمه العجيب وأسلوبه الغريب الذي خالف به جميع أسلوب كلام العرب حتى كأنه ليس بينه وبينه نسب ولا سبب فلا هو كمنظوم كلامها فيكون شعرا موزونا ولا كمنثوره فيكون نثرا عريا عن الفواصل محروما بل تشبه رؤوس آيه وفواصله قوافي النظم ولا تدانيها وتخالف آيه متفرقات النثر وتناويها فصار لذلك أسلوبا خارجا عن كلامهم ومنهاجا خارقا لعادة خطابهم وذلك أن كلام بلغاء العرب لا يخلو
أما أن يكون موزونا منظوما أو غير موزون ولا منظوم فالأول هو الشعر وهو أصناف وأنواع بحسب اختلاف أعاريضه والثاني هو النثر والقرآن العزيز خارج عن الصنفين مفارق للنوعين فارق الشعر بأنه ليس موزونا وزنه فتكسره لفظة زائدة ولا مرتبطا ربطه حتى تفسده مخالفة قافية واحدة في الوقوف عليه وأوضح شاهد وأقطع لشبهة كل معاند
وها أنا أتلوا عليكم معشر النصارى بعض آياته ليتحقق المنصف صدق شهاداته
وقال الله العظيم في محكم كتابه الكريم واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله أية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا

فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط رطبا جنيا فكلي وأشربي وقرى عينا فأما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم أنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
ثم بعد ذلك أخذ في أسلوب مخالف هذا فقال تعالى
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
هكذا إلى أن فرغ من هذا النمط ثم شرع في نمط آخر على ما يعرفه من وقف عليه وتدبره وإنما تلونا هذه الآيات على الخصوص في هذا المقام لما تضمنه من الأخبار عن عيسى ومريم عليهما السلام حتى يعلم النصارى بطلان ما يقولوه عليهما من الكذب والأوهام
فانظر إن كنت عاقلا منصفا كيفية هذا النظم الشريف البديع المنيف كيف عادل بين رؤوس الآي بحروف تشبه القوافي وليس بها والتزمها ثم عدل عنها إلى غيرها مع أن السورة واحدة بخلاف ما يفعل الناثر فإنه لا يلتزم قوافي ولا فواصل
والقرآن العزيز ذو آيات لها فواصل ومقاطع ورؤوس تشبه القوافي فقد عرفت أنه خالف نظم كلام العرب ونثرها فهو منهاج آخر وأسلوب لم تكن العرب تعرفه ولما سمعته العرب ووعته لم يتحدث قط واحد منهم بأنه يقدر على معارضة آية منه بل حارت

فيه عقولهم وتدلهت دونه أحلامهم ولذلك قال الوليد بن المغيرة لملأ قريش يا معشر قريش أنه قد حضر موسم الحج وإن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم ولا بد أن يسألوكم عنه فماذا تقولون لهم فأجمعوا فيه رأيا واحدا لئلا تكذبكم العرب إذا اختلفتم فيه قالوا نقول إنه كاهن فقال لهم والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا فنقول أنه مجنون قال والله ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون وعرفناه والله ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول إنه شاعر قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول إنه ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السحر وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده وما أنتم قائلون شيئا من هذا إلا كذبتكم العرب وعرفت أنه باطل قالوا فما تقول أنت قال والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لمثمر وإن أقرب القول فيه أن تقولوا إنه ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وإبنه وبين المرء وأخيه يعنى أن هذا تقبله العرب فإنها لاتعرف السحر فعولوا على أن يقولوا إنه سحر ففعلوا وفي الوليد أنزل الله تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا
فانظر كيف عرفوا أنه ليس من جنس كلامهم ولا من جنس كلام الكهنة ولا السحرة ولم يمنعهم من الإيمان به إلا ما سبق لهم من الشقاوة والعناد والحسد والجفوة
وكذلك قال لهم عتبة بن ربيعة لما سمع حم تنزيل من الرحمن الرحيم قال والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة فقد تقدم بكماله فلينظر هناك
وكذلك قال أنيس أخو أبي ذر الغفاري وكان شاعرا مفلقا يناقض الشعراء ويعارضهم فلما سمع القرآن قال لأخيه أبي ذر لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعته على أقراء

الشعر فلم يلتئم وما يلتئم على لسان أحد يدعى أنه شعر والله أنه لصادق وأنهم لكاذبون
والأخبار الصحاح في هذا المعنى أكثرب من أن يحيط بها هذا الكتاب
فقد اتضح من هذا الوجه ومن الذي قبله أن القرآن العزيز معجز بمجموع فصاحته ونظمه وقد تبين أنهما وجهان متغايران
ثم هل كل واحد من هذين الوجهين معجز بإنفراده أو إنما يكون معجزا بإجتماعهما هذا فيه نظر
ولعلمائنا فيه قولان ليس هذا موضع استيعابهما ولا حاجة بنا في هذا الكتاب إلى بيانهما إذ قد عرف وتحقق أنه بفصاحته ونظمه معجز ومن تشكك في ذلك أو أبدى فيه أمرا بعد الوقوف على القرآن فهو منكر لما هو ضروري والذي يبطل عناده ويظهر صميم جهله أن يقال له أئت بسورة من مثله
والله ولي التوفيق وهو بتنوير قلوب أوليائه حقيق

الوجه الثالث

من وجوه إعجاز القرآن ما تضمنه من الأخبار بالمغيبات قبل أن يحيط أحد من البشر بعلمها وبوقوع كائنات قبل وجودها وذلك أمر لا يتوصل إلى العلم به إلا من جهة الصادقين الذي يخبرون عن الله تعالى
ونحن نذكر منها مواضع على شرط التقريب والإختصار تغني عن التطويل والإكثار
فمن ذلك قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون
فهذه الآية من أوضح معجزاته صلى الله عليه و سلم وذلك أن الله تعالى وعده بأن يدخله المسجد الحرام هو وقومه في حالة أمن ويفتح عليهم مكة على أحسن حال فما زالوا ينتظرون ذلك حى بلغ وقته وصدق وعده فدخلوا كما وعدهم وفتحوه على ما أخبرهم
ومن ذلك قوله تعالى ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنين بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون
وهذه الآية أيضا من أعظم معجزاته وذلك أن هذه الآية لما نزلت كانت فارس غالبي الروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس لكون الروم أهل كتاب وكانت قريش يحبون ظهور فارس على الروم لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان فلما أنزل الله تعالى هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في الناس وفي نواحي مكة بهذه الآية ويقرأها على مشركي

قريش فقال ناس من قريش زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك فقال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر كم نجعل البضع البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه قال فسموا بينهم ست سنين فمضت الست سنين قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين لأن الله تعالى قال في بضع سنين
قال وأسلم عند ذلك ناس كثير
ومن ذلك قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا
وقد فعل الله ذلك بمحمد وأمته ملكهم الأرض واستخلفهم فيها وأذل لهم ملوكا تحت سيف القهر بعد أن كانوا أهل عز وكبر وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ومنحهم رقابهم وعد الله أن الله لا يخلف الميعاد
ومن ذلك قوله تعالى يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
فإن قيل كيف يصح لكم قوله ليظهره على الدين كله ومعلوم أن ملك النصارى لم ينقطع في حياته ولا بعد موته وهذا ملكهم قائم فلم يظهر دينكم على دينهم فلا معنى لقوله ليظهره على الدين كله

الجواب أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم إلى الناس كافة وإلى جميع أهل الملل عامة نصرانيهم ويهوديهم وغير ذلك فبلغهم ما أمره الله فكلمهم فناصبوه العداة وأبدوا له صفحة الخلاف وهموا بإبطال دعوته وإطفاء كلمته وبذلوا في ذلك غاية جدهم واستفرغوا أقصى جهدهم فنصبوا لحربه وعزموا على قتله ونهبه ومرسله يقول له بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
فأول من حاربه كفار قريش فأظفره الله بهم وأظهره عليهم ثم حاربته يهود فأمكنه الله منهم وملكه أرضهم وديارهم فقتل وسبأ وأسر فعلا عليهم وظهر ثم حاربته النصارى فغزاهم بتبوك ودخل عليهم بلادهم وافتتح في طريقه حصونا لهم ولغيرهم وأظهره الله عليهم وضرب على كثير من ملوكهم الجزية
ثم إن أصحابه بعده لم يزالوا على مثل حاله يقاتلون كل من كفر بالله ولا يخافون لومة لائم في الله فلقد صيروا ملوك الروم وغيرهم أذلة أهل صغار وجزية وذلة ثم لم يزل دين الإسلام مع مرور الأيام ينتشر بكل مكان ويظهر وغيره من الأديان يقل ويصغر
وحسبك شاهدا على ذلك فتح هذه الجزيرة الأندلسية

على يدي جماعة من العرب قليل عددهم وعددهم كثير دينهم ومددهم على أعداد من النصارى لا تحصى وجنود لا تستقى ولكن صدق الله عبده وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده فأمكنهم الله منكم وأظهرهم عليكم فأجدادكم عندهم بين أسير وقتيل وتحت صغار الجزية ذليل وأصدق شاهد على ظهور دين الإسلام على دينكم وجميع الأديان غلبتهم على بيت حجكم وموضع قرابينكم المعظم والمسجد المكرم بيت المقدس حيث أراد الله أن يطهره من رذائلكم وينزهه عن جهالاتكم وخبائثكم فافتتحه المسلمون وظهر دين الله على الدين كله ولو كره الكافرون
ومن ذلك قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
وقوله في الآفاق يريد بذلك فتح الأمصار وقوله وفي أنفسهم يعني به فتح مكة وقوله سنريهم يرجع إلى كفار قريش ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله زوى

لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوى منها ومعنى زوى جمع
ومن ذلك قوله تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر
يريد بذلك والله أعلم جمع كفار قريش وكذلك فعل بهم وذلك أنهم خرجوا إلى حربه صلى الله عليه و سلم في غير موطن فهزمهم الله وولوا الأدبار وكانت عاقبتهم الخسار والبوار
وكذلك قال تعالى في آيات أخر قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد
وفي آية أخرى ان يضروكم إلا أذى وان يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون
فهذه الآية اقتضت بشارتين
أحداهما أنهم لن يصلوا إلى أصحاب النبي بضر أكثر من السب
والثانية أنهم يغلبون ويولون الأدبار وكذلك كان على نحو ما أنزله ذو العزة والسلطان
والآيات في القرآن لهذا النوع كثيرة ومن ذلك قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون يعني بالذكر القرآن العزيز
أخبرنا الله تعالى في هذه الآية أنه أنزله وأنه تولى حفظه وهذا كتاب الله محفوظ بحفظه لا يقدر أحد على تغيير كلمة واحدة من لفظه على كثرة من سعى في تغييره فأطفأ نوره لا سيما القرامطة فإنهم كانوا قد أجمعوا كيدهم واستنفدوا في تغييره وتحريفه جهدهم ولم يزل كذلك دأبهم ودأب غيرهم من أعداء الدين وعتاة الملحدين ويأبى الله إلا أن تعلى كلمته وتظهر شريعته
وقد قدمنا أسباب حفظ القرآن فلا معنى لاعادتها مع الأحيان

ومن ذلك قوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر
وكان هؤلاء المستهزئون نفرا من الكفار معروفون بأعيانهم وأسمائهم ينفرون الناس عنه ويؤذونه ويهزأون به فأنزل الله على نبيه هذه الآية يبشره بإهلاكهم وهم أحياء فكان سبب أهلاكهم من أعجب آيات النبي صلى الله عليه و سلم وذلك أنه كان منهم الأسود بن عبدالمطلب رمى في وجهه النبي صلى الله عليه و سلم بورقة خضراء فعمى ومنهم الأسود بن عبد يغوث أشار إليه النبي صلى الله عليه و سلم فاستسقى بطنه فمات حبنا ومنه الوليد بن المغيرة أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى أثر جرح كان بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنتين وكان قد برأ فتجدد حتى قتله الله به ومنه العاص بن وائل أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فرماه حماره على الأرض فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته ومنه الحارث بن الطلالة أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى رأسه فاستحال دمه قيحا فقتله
فانظر بعقلك هذه الأمور العجيبة وهذه الأحوال الغريبة التي لا تلحق بالأفكار ويحار فيها أولى الأبصار بل تشهد عندها العقول أن المقصود بها تصديق الرسول فوالله لو لم يكن له من المعجزات إلا هذه الآية لكان فيها أعظم كفاية ولحصل من تصديقه على أبعد غاية
وفي كتاب الله تعالى من هذا القبيل ما يحتاج استقصائه إلى تكثير وتطويل وحسبك ما تضمنه من كشف أسرار المنافقين وفضيحة اليهود الضالين فلقد يقضي الناظر فيها من ذلك العجب العجاب ويتحقق انه من عند الله من غير شك ولا ارتياب

الوجه الرابع

في وجوه إعجاز القرآن ما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة والقرون السالفة والشرائع الداثرة والقصص الغابرة التي لا يعلم منها بعضها إلا الآحاد من علماء ذلك الشأن الذين قد انقضبت لهم في تعلم تلك العلوم أزمان فيورده النبي صلى الله عليه و سلم في القرآن على وجهه ويأتي به على نصه فيعترف العالم بصحته وتصديق قصته مع العلم بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينل ذلك بتعليم ولا اكتسب ذلك بواسطة معلم ولا حكيم بل حصل له ذلك بإعلام العزيز العليم
وإلا فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتفقه ولا يحسب ومع ذلك فقد حصلت له علوم الأولين والآخرين وصار كتابه وكلامه منبع علوم العالمين فلقد كان أهل الكتاب يجتمعون إليه ويلحون بالأسئلة عليه فينزل عليه بأجوبتهم القرآن فما ينكر شيئا من ذلك منهم إنسان بل يعترف بذلك ولا ينكر شيئا مما يسمع هنالك
هذا مع شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وهو مع ذلك يحتج عليهم بما في كتبهم ويقرعهم بما انطوت عليه مصاحفهم ويبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون من شرائع كتبهم ووصايا رسلهم وهم مع ذلك يرومون تعنيته ويقصدون بأسئلتهم تبكيته مثل سؤالهم عن الروح وعن ذي القرنين وعن أصحاب الكهف وعن عيسى ابن مريم وعن حكم الرجم وعن ما حرم إسرائيل على نفسه وعما حرم علهيم من الأنعام ومن طيبات أحلت لهم فحرمت عليهم ببغيهم وغير ذلك من أمورهم التي نزل القرآن جوابا عنها فلم ينكروا شيئا منها حين ذكرها لهم على وجهها

ونحن نذكر بعض ذلك على ما يقتضيه الإقتصار ونقتصر على ما صح من الآثار وتناقله الجمع الكثير من رواة الأخبار
فمن ذلك ما استفاض ذكره واشتهر نقله أن قريشا لما أهمهم شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكربهم أمره بعثوا النضر بن الحارث وكان من شياطين قريش وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة يسألاهم عن أمره فجاءا المدينةمن مكة وقالالأحبار اليهود إنا جئناكم نسألكم عن شأن هذا الرجل فإنكم أهل الكتاب وعندكم من العلم ما ليس عندنا ووصفا لهم أمره وأخبرهم ببعض قوله فقالت لهما أحبار يهود سلوه عن ثلاثة نأمركم بهن فإن أخبر بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف في الأرض قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هو فإن أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو متقول فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فأعلماهم بما قالت لهم أحبار يهود فجاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوه عما أخبرت أحبار يهود فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه و سلم سورة أصحاب الكهف وأخبره فيها بقصتهم واختلاف الناس في عددهم ومدة لبثهم في كهفهم حتى أتى على آخر قصتهم وأخبرهم أيضا عن قصة ذي القرنين إلى آخرها وعن قصة الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام وكيف سأل موسى السبيل إلى لقائه وذكر فيها جوابهم عن الروح
وذلك كله مع اللفظ الوجيز الفصيح والكلام الجزل الصحيح الذي لا يمله سامع ولا يطمع في معارضته طامع
ومن ذلك قصة أهل نجران وكانوا نصارى سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عيسى عليه السلام فأنزل الله تعالى في القرآن ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون

ومن ذلك أن نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا محمد أخبرنا عن أربع نسألك عنهن فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أخبرتكم لتصدقنني قالوا نعم قال فاسألوا عما بدا لكم قالوا أخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل فقال لهم أنشدكم الله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون نطفة الرجل بيضاء غليظة ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما غلبت كان لها الشبه قالوا اللهم نعم قالوا فأخبرنا عن نومك كيف هو قال أنشدكم بالله وبأيامه هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان قالوا اللهم نعم قال وكذلك نومي تنام عيني وقلبي يقظان قالوا فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه قال أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها قالوا اللهم نعم قالوا أخبرنا عن الروح قال أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبريل وهو الذي يأتيني قالوا اللهم نعم ولكنه يا محمد لنا عدو هو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتبعناك
فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه و سلم قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين

ومن ذلك أن يهوديين بالمدينة زنيا فأمرت أحبار يهود بهما فحمما فمروا بهما على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهما ما هذا أهكذا تجدون في كتابكم قالوا نعم فكذبهم وقال فأئتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فجاءوا بالتوراة فتلوها فإذا فيها آية الرجم فوضع الذي كان يقرؤها يده علها وقرأ ما بعدها وما قبلها فقال له عبدالله بن سلام ارفع يدك فرفعها فإذا بآية الرجم فاعترفوا بذلك فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ثم قال لليهود ما حملكم على هذا فقالوا كنا إذا زنى الشريف منا عندنا لم نقم عليه الحد وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد فعظم علينا هذا فرأينا أن نجتمع على حد يشمل الضعيف والشريف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الحمد لله الذي جعلني أول من أحيا أمر الله نقلته بالمعنى
فأنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و الظالمون و الفاسقون الآيات
وفي هذا المعنى وما قاربه نزل قوله تعالى يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب
والأخبار في هذا كثيرة ليس هذا موضع استيفائها وفيما ذكرناه كفاية لمن كان ذلك عقل ودراية وهذان وجهان لا يتصور أن ينكر عاقل أنها غير داخلين تحت مقدور البشر بل هما خارقان للعادة اقترنا بتحدي محمد صلى الله عليه و سلم وعجز الخلائق عن معارضتهما فهو نبي صادق فيما أخبر به عن الله مصدق من جهة الله ومما أخبر به عن الله أن الله تعالى بعثه إلى الناس كافة يهوديهم ونصرانيهم ومجوسيهم فهو رسول إليهم وإلى كافة وعامة ومن كذبه فقد استحق العذاب الأبدي والعقاب السرمدي أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار

ولا يظن ظان أن إعجاز القرآن إنما هو من هذه الوجوه الأربعة فقط بل وجوه إعجازه أكثر من أن يحصيها عدد أو يحيط بها أحد ولو شئنا لذكرنا منها وجوها كثيرة لكن شرط الإختصار منع من الإكثار ومن لم ينفعه الكلام المفيد القليل فهو معرض كسل عن الكثير
وعلى الجملة فأنا نقول لمن كذب محمدا صلى الله عليه و سلم أو شك في رسالته ما قال الله تعالى في كتابه محتجا على من أصر على تكذيبه وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين

النوع الرابع

في الإستدلال على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم بجملة من الآيات الخارقة للعادات
نذكر في هذا النوع إن شاء الله جملة كثيرة من آياته الواضحة وبراهينه المصدقة الراجحة فنقول وبالله التوفيق
إن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم أوتى من المعجزات وجمع له من الآيات ما لم يجمع لأحد من الأنبياء قبله ولم يعط أحد مثله فكان لذلك أوضحهم دلالة وأعمهم رسالة ولذلك لم يعط الله نبيا من الأنبياء معجزة إلا أعطى نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم مثلها أو أوضح منها أو ما يقاربها وسترى ذلك عيانا إن شاء الله تعالى ولكنا إن ذهبنا نذكر ما نقل إلينا من آياته وأوضح معجزاته طال الكتاب وفي القليل الواضح كفاية لذوى الألباب فلنقتصر من ذلك على ما تناقله علماء الأمصار والعدول من نقلة الأخبار مما صح نقله وأشتهر ذكره وجمله
ونحن نذكر ذلك في فصول
الفصل الأول في إنشقاق القمر

آية له صلى الله عليه و سلم فنقول نقل خلفنا عن سلفنا النقل الذي لا يشك فيه أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أبة وهو بمنى فأراهم إنشقاق القمر فصار فرقتين حتى رأوا حبلى حراء بينهما وقال ابن مسعود صار فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة تحته فقال النبي صلى الله عليه و سلم اشهدوا فآمن وصدق من أراد الله نجاته وقال كفار قريش هذا سحر مستمر فقال أبو جهل هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ننظر أرأوا ذلك أم لا فأخبر أهل مكة أنهم رأوه منشقا

فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم اقتربت الساعة وانشق القمر وأن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر وهذا الحديث قد نقله الجم الغفير والعدد الكثير منهم من الصحابة عبد الله بن مسعود وأنس وابن عباس وأبن عمر وحذيفة وعلى وجبير بن مطعم وغيرهم رضي الله عنهم
وقد نقل إلينا في القرآن نقلا متواترا محصلا للعلم يخبر عن ذلك المعنى من الإنشقاق كما تلوناه آنفا فصحت الآية وعلمت المعجزة والحمدلله
فإن قال غبي جاهل أو معاند مجادل كيف يصح هذا ولو كان هذا لم يخف على أهل الأرض إذه هو شيء ظاهر لجميعه ولو ظهر إليهم انتقل عنهم ولكان مشهورا منقولا على التواتر
فالجواب أن نقول هذا الإستبعاد الوهمي يندفع بأيسر أمر وذلك أن هذه الآية كانت آية ليلية والناس على عادتهم المستمرة الغالب عليهم النوم ومن كان منهم منتبها كان منهم من قد انصرف عن ذلك ببعض أشغالهم وكان منهم أيضا من رآه على ما حكيناه عن أهل آفاق مكة وأيضا فلعله إنما كان ذلك في أول طلوع القمر ولا شك أن الناس تختلف رؤيتهم للقمر وغيره من الكواكب بحسب اختلاف ارتفاع البلاد والأقاليم وإنخفاضها فليس كل من في معمور الأرض يراه في وقت واحد بل يختلف ذلك في حقهم فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين وقد يطلع على قوم لا يشاهده الآخرون وقد يحول بين قوم وبينه سحاب أو جبال
ولهذا تجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض ويكون في بعضها جزئية وفي بعضها كلية وفي بعضها لا يعرفها إلا المشتغلون بعلم ذلك ولا يحس بها غيرهم لا سيما وهذه آية كانت بالليل والعادة من الناس ما تقدم من الهدوء والسكون وإيجاق الأبواب وقطع التصرف ولا يكاد يعرف شيئا من آيات السماء إلا من رصد وأهتبل

وكثيرا ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار وشهب ونجوم طوالع عظام تظهر في أحيان من السماء ولا علم عند أحد غيرهم منها
وإنشقاق القمر من هذا القبيل إذ لم يكن دائما وإنما كان يسيرا في زمن قريب ثم لا يبعد أن يكون الله تعالى صرف الناس في تلك الساعة عن النظر إليه لتختص هذه الآية بمشاهدة أهل مكة ومن جاورها من أهل آفاقها فيكون صرف الناس عن ذلك من قبيل خوارق العادات وذلك أوضح في المعجزات فقد صح ما رمناه وانفصلنا عما ألزمناه والحمدلله
وعند الوقوف على هذه المعجزة الطاهرة والآية الباهرة تعلم أنها أعظم من إنشقاق البحر الذي خص الله تعالى به موسى عليه السلام وان كان عظيما اذ انشقاق البحر لم يكن قطعا في معظم البحر من احدى ضفتيه إلى الأخرى وإنما كان قطع طريق من بحر القلزم إلى مفارشود والقمر انقسم فرقتين وصار شطرين
الفصل الثاني في حبس الشمس آية له صلى الله عليه و سلم
روى أئمتنا وأهل العدالة منا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوحي إليه ورأسه في حجر على فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فلما ارتفع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له يا علي أصليت العصر قال لا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم أنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد قال الراوي فرأيتها غربت ووقفت على الجبال والأرض وذلك بالصهباء في خيبر
ذكر هذا الحديث الطحاوي من طريقين قال عياض وهذان الطريقان ثابتان رواتهما ثقاة حكاه البكري
ومن هذا القبيل ما ذكره يونس بن بكير في زيادة المغازي روايته عن ابن اسحق لما أسرى برسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير التي رأى في سراه قالوا له متى تجيء فقال لهم يوم الأربعاء فلما كان يوم الأربعاء الموعود به أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم

تجيء فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس
وهذه الآية أعظم من آية يشوع بن نون فإنكم تقولون إن يشوع استوقف الشمس فوقفت وفي بعض كتبكم إنما استوقف ضياها ونبينا عليه السلام استرجعها فرجعت واستزاد ساعة في النهار فزيدت ذلك تقدير العزيز العليم
فإن اعترض معترض على معجزة نبينا بشيء فإن كان كتابيا عارضناه بمعجزة يشوع فبالذي ينفصل عن معجزة يشوع بمثله ننفصل عما اعترض به وإن كان طبيعيا غير متشرع انتقل الكلام معه إلى مواضع أخر ليس هذا موضع ذكرها
الفصل الثالث نبع الماء وتكثيره معجزة له صلى الله عليه و سلم
وهذا الفصل نوعان نوع نبع له الماء من بين أصابعه ونوع آخر نبع له الماء من غير أصابعه
فلنبدأ بالأول فنقول روى الجم الغفير والعدد الكثير أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج في بعض أسفاره وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل من أحد منكم ماء فأتى بماء في إناء فوضع يده في ذلك الإناء وسمى الله قالت الصحابة فرأينا الماء يخرج من بين أصابعه فتوضأ الناس حتى توضأوا كلهم قيل لأنس كم تراهم قال نحوا من سبعين وقد اتفق له مثل هذا مرة أخرى وكانوا نحوا من ثلاثة مائة
وكذلك عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه ركوة فتوضأ منها وأقبل الناس نحوه وقالوا ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك فوضع النبي صلى الله

عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون وكانوا خمس عشرة مائة قالوا ولو كنا مائة ألف لكفانا
فهذه ثلاثة مواطن وقد روى عنه نحو هذا من طرق كثيرة لا يتطرق لها الكذب ولم يردها أحد من أهل العقل والأدب لكونها وقعت في جموع كثيرة وتناقلها جماعات عديدة يدينون تحريم الكذب ويرونه أقبح شبهة وأشنع سبب بل يبادرون إلى ذم الكاذب وإظهار فضيحته ولا يقرون شيئا من الكذب بحال عند معرفته فهذا هو النوع الأول
وأما النوع الثاني فهو ما تواردت به الروايات عن الأئمة الأثبات من ذلك ما اتفق له في غزوة تبوك وذلك أنهم وردوا عينا بتبوك وهي تبض بشيء من ماء مثل الشراك فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع منه شيء قليل ثم غسل النبي صلى الله عليه و سلم فيه وجهه ويديه وأعاده فيها فجرت بماء كثير فاستقى الناس هذا حديث معاذ
وقال ابن إسحاق فانخرق من الماء ماله حس كحس الصواعق ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا وكذلك صنع ذلك الموضع جنانا بعده صلى الله عليه و سلم وهذا من باب الأخبار عن الغيب
ومن ذلك ما اتفق له بالحديبية أيضا وذلك أنهم أتوا الحديبية وهم أربع عشرة مائة وبئرها لا تروي خمسين شاة
قال البراء وسلمة بن الأكوع فنزحناها فلم نترك فيها شيئا فقعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على بئرها فبصق ودعا وأخرج سهما من كنانته فوضعه في البئر فجاشت العين بماء كثير فأرووا أنفسهم وركابهم وهم ألف وأربع مائة
ومن ذلك ما روى قتادة صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الناس شكوا إليه العطش في بعض أسفاره فدعا بالمبيضأة فجعلها في ضبنه ثم التقم فمها فالله أعلم نفث فيها أم لا فشرب الناس حتى رووا وملأوا كل إناء معهم وكانوا إثنين وسبعين رجلا

ومن ذلك الحديث المشهور عن عمران بن حصين وذلك أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره فأصابهم عطش شديد فوجه رجلين من أصحابه وأعلمهم أنهم يجدون امرأة بمكان كذا لمكان معين عنيه لهم معها بعير عليه مزادتا ماء فوجداها بالموضع الذي عين لهم على الصفة التى ذكر لهم فجاءا بها الى النبي صلى الله عليه و سلم فأخذ من ماء المزادتين وقال فيه ماشاء الله أن يقول ثم أعاد الماء في المزادتين ثم فتحهما وأمر الناس فملأوا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئا إلا ملأوه قال عمران ونحيل لي أنهما لم يزدادا إلا إمتلاء ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها ثم قال لها اذهبي فانا ما نقصناك من مائك شيئا ولكن الله سقانا
ومن ذلك حديث عمر في حيش العسرة وذكر ما أصابهم من العطش حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصبر فرثه فيشربه فرغب أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية ولم يجاوز ذلك المطر العسكر
ومن ذلك حديث عمرو بن شعيب أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه و سلم وهو ردفه بذي المجاز عطشت وليس عندي ماء فنزل النبي صلى الله عليه و سلم فضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال له اشرب
والحديث في هذا النوع كثير وفيما ذكرناه كفاية وإذا تأمل العاقل المنصف هذا الباب علم أن نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أوتى مثل معجزة موسى التي هي نبع الماء من الحجر كما ذكرنا في هذا النوع الثاني وزاد عليه نبع الماء من بين أصابعه كما ذكرناه في النوع الأول كان إنفجار الماء من اللحم أعجب من إنفجاره من الحجارة فإن رام اليهودي أو النصراني تشكيكا في شيء من معجزات نبينا محمد عليه السلام أو إلحادا أو ادعى أن هذا من قبيل السحر عارضناه بمثل مقالته في معجزة موسى فبالذي ينفصل به بعينه ننفصل

بل نقول إن طرق المطرق الجاهل شيئا من هذه الأوهام والتهم إلى هذه المعجزات لمعجزة موسى في إنشقاق الحجر أقبل للتهم في حق الجاهل على ما روت اليهود
وذلك أنهم رووا أن الحجر الذي كان تنفجر منه الأنهار إنما كان حجرا واحدا عمله موسى حيث صار وهذا محل تهمة للجاهل وأما العالم فلا يبالي بهذه الأوهام ولا يطرق إلى العلم التهم
ومعجزات نبينا محمد صلى الله عليه و سلم إنما كان يقول إئتوني بإناء أي إناء وبماء أي ماء كان كما قدمنا ولسنا ننكر إعجاز ما أتى به موسى بل نحن أولى وأحق بموسى منكم وأعرف بقدره وبمحله عند ربه وإنما هذا لهم على جهة الإلزام حتى يزعنوا بصحة معجزات نبينا محمد عليه السلام
الفصل الرابع تكثير الطعام معجزة له صلى الله عليه و سلم
من ذلك ما تضافرت به الروايات واشتهر عند أهل الديانات ونقله العدول الثقات من حديث أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه و سلم أطم ثمانين أو سبعين من أقراص شعير جاء بها أنس تحت ابطه وذلك أنه صلى الله عليه و سلم أمر بها ففتت وقال فيها ما شاء الله أن يقول
وكذلك أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع من شعير وعناق
قال جابر بن عبدالله فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق في العجين والبرمة ودعا بالبركة وكذلك صنع أبو أيوب الأنصاري لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولأبي بكر من الطعام زهاء ما يكفيهما فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ادع ثلاثين من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوه ثم قال ادع ستين فأكلوا حتى شبعوا ثم قال ادع سبعين فأكلوا حتى تركوه وما خرج منهم أحد حتى أسلم
قال أبو أيوب فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلا

وكذلك حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون
ومن ذلك حديث عبدالرحمن بن أبي بكر قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثين ومائة وذكر في الحديث أنه عجن صاع من طعام وصنعت شاة فشوى سواد بطنها قال وايم الله ما من الثلاثين والمائة إلا وقد حز له حزة من سواد بطنها ثم جعل منها قصعتين فأكلنا أجمعين وفضل في القصعتين وحملته على البعير
ومن ذلك الخبر المشهور في غزاة تبوك وذلك أنهم أصابتهم مجاعة شديدة حتى هموا بنحر حمائلهم فجمع النبي صلى الله عليه و سلم ما بقى من أزواد القوم فكان الرجل يجيء بكف ذرة وبكف تمر وبسط نطعا حتى أجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعى عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبركة قال خذوا في أوعيتكم فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة
ومن ذلك خبره في تزويج زينب وذلك أنه أمر خادمه أنسا أن يدعو له الناس فدعاهم فاجتمعوا حتى امتلأ البيت والحجرة وقدم إليهم تورا من حجارة فيه حيس أهدته له أم سليم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه قال فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ودخلت طائفة أخرى حتى أكلوا كلهم وكنت قال أنس لم أدع إنسانا إلا دعوته قال أنس ثم قال لي ارفع التور فرفعته فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت
ومثل هذا تقوله في قدح لبن أهدى له
ومن هسذا حديث مزود أبي هريرة وذلك أن الناس أصابتهم مجاعة شديدة في بعض أسفاره فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة هل من شيء قال قلت نعم شيء من تمر في المزود قال فآتى به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة

ثم قال ادع عشرة فدعوتهم فأكلوا حتى شبعوا ثم لم يزل كذلك حتى أطعم الجيش كله وقال لي خذ ما جئت به فأخذت فأكلت منه وأطعمت حياته وحياة أبي بكر وعمر إلى أن قتل عثمان فانتهب مني فذهب قد قيل أن ذلك التمر إنما كان بضع عشرة تمرة
والأخبار في هذا الباب كثيرة يطول الكتاب بنقلها على أنه لا يجهل شيء منها بل هي عندنا معروفة منقوله مشهورة موصوفة
وهذا النوع من المعجزات هو من قبيل ما نقلت النصارى عن عيسى عليه السلام في الإنجيل وذلك أنهم زعموا أنه أطعم من خمس خبز وحوتين خمسة آلاف رجل سوى النساء وهذا أيضا من قبيل ما ثبت أن موسى عليه السلام أطعم بني إسرائيل بالمفاز المن والسلوى
فإن اعترضت اليهود أو النصارى على هذا النوع من معجزات نبينا عليه السلام عارضناهم بذلك في معجزات أنبيائهم وبالذي ينفصلون عن ذلك به بعينه ننفصل عن معجزات نبينا
وعند الوقوف على هذه الفصول تعلم أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم أعطاه الله عز و جل من المعجزات مثل ما كان أعطى الأنبياء قبله وزاده على ذلك وسنزيد هذا وضوحا حتى يتبين كون المعاند الجاحد جاهلا وقيحا

الفصل الخامس في كلام الشجر وكثير من الجمادات وشهادتها له بالنبوة

وهذا الفصل بكثر حكاياته وتتسع رواياته لكثرة عدد ماروى في ذلك وصحة ما اتفق هنالك وهذا الفصل نوعان
النوع الأول

قد وردت الأخبار ونقل عن الأئمة العدول الأخيار أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في بعض غزواته فدنى منه أعرابي فقال له يا أعرابي أين تريد فقال أهلي فقال له هل لك في خير منهم قال ما هو قال تشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال

ومن يشهد لك على صحة ما تقول قال هذه الشجرة لشجرة بشاطئ الوادي فادعها فإنها تجيبك قال فدعوتها فأقبلت تخد الأرض حتى وقفت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال ثم رجعت إلى مكانها
وقد روى هذا الحديث عن بريدة وزاد قال فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها ثم جاءت تجر عروقها مغبرة حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال السلام عليك يا رسول الله فقال الأعرابي مرها فلترجع إلى هيئتها فأمرها فرجعت فدلت عروقها حيث كانت واستوت فآمن الأعرابي وقال ائذن لي اسجد لك فقال له عليه السلام لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها قال فائذن لي أن أقبل يديك ورجليك فأذن له
وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه ظهرت على يديه مثل هذه المعجزة مرات وطرقها صحاح بل منها ما هو متواتر على ما حكاه أهل النقل فقد روى أنه طافت به شجرة ثم رجعت إلى منبتها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنها استأذنت أن تسلم
وكذلك سأل ربه أن يجعل له آية فقال انظلق إلى موضع كذا فإن به شجرة فادع منها غصنا فإنه يأتيك ففعل فجاء يخط الأرض حتى انتصب بين يديه فحبسه ما شاء الله أن يحبسه ثم قال له ارجع كما كنت فرجع
وكذلك روى عنه من طرق صحاح أنه خرج يوما ليقضى حاجته فلم يجد بما يستتر وإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ بغصن من أغصانها وقال لها انقادي على بإذن الله فانقادت معه كالبعير المذلل ثم فعل بالأخرى مثل ذلك وقال التئما على فالتئما فلما قضى حاجته قال جابر فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبل والشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساقها

وكذلك روى أسامة بن زيد مثل هذا في النخيل وقال فيه قال لي انطلق إلى هذه النخلات وقل لهن إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركن أن تأتين لحاجة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقل للحجارة مثل ذلك
فقلت ذلك لهن فوالذي بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن ويجتمعن والحجارة يتعاقدن ويتراكمن حتى صرن ركاما خلفه فلما قضى حاجته قال لي قل لهن يفترقن فوالذي نفسي بيده لقد رأيت النخلات والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن
وقد حكى الأئمة منهم أبو بكر بن فورك رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في غزوة الطائف ليلا وهو يسير فاخذته سنة فاعترضته سدره فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا وهي هنالك معروفة معظمة

النوع الثاني

نقل خلفنا عن سلفنا فاشيا مشهورا بحيث لا يشك فيه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الطعام وهم يسمعون تسبيحه وقال أنس أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم كفا من حصى فسبحت في يده حتى سمعنا تسبيحها ثم صبهن رسول الله صلى الله عليه و سلم في يد أبي بكر فسبحت كذلك ثم صبها في أيدينا فلم تسبح
ورواه أبو ذر قال إنما سبحت في كف عثمان وقد تواردت الروايات عن الثقات عن علي أنه قال كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله
وقد وقد روى العباس أن النبي صلى الله عليه و سلم غطاه وبنيه بملحفة ودعا لهم بالستر من النار كستره إياهم بملحفته فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت آمين آمين
وقد صحت الأخبار بل تواترت أن النبي صلى الله عليه و سلم لما اتخذ منبره وصعد وترك الجذع الذي كان يخطب عليه حن

الجذع حنين الإبل الفاقدة أولادها حتى تصدع وانشق فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فوضع يده عليه فسكن وفي بعض طرقه قال النبي صلى الله عليه و سلم أن هذا بكاء لما فقد من الذكر وفي بعض طرق هذا الحديث أنه لم يزل يسمع له حنين في أوقات تحزنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قد فزعت المنبر على ما في حديث أبي
فأخذه أبي عنده إلى أن أكلته الأرض وعاد رفاتا
وقد روى هذا الحديث بريدة وزاد فيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم للجذع إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه فتنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد خوصك وثمرك وإن شئت أغرسك في الجنة يأكل منك ومن ثمرك أولياء الله ثم أصغى له النبي صلى الله عليه و سلم يستمع له ما يقول فقال بلى تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله وأكون في مكان لا أبلى فيه يسمعه من يليه فقال له قد فعلت ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اختار دار البقاء على دار الفناء
فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شوقا إليه فأنتم أحق بذلك وأن تشتاقوا إلى لقائه
وكذلك تواتر أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على جبل أحد مع جماعة من اصحابه فتحرك بهم الجبل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد
والأخبار أيضا في هذا النوع كثيرة وفيما ذكرناه كفاية بل فيه الواحد من هذه الأخبار أبلغ غاية

الفصل السادس في كلام ضروب من الحيوان وتسخيرهم آية له صلى الله عليه
و سلم 2
وهذا الفصل أيضا نوعان
النوع الأول

من ذلك ما روى واشتهر عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في محفل من أصحابه إذ جاءه أعرابي قد صاد ضبا فقال ما هذا فقالوا له هذا نبي الله صلى الله عليه و سلم فقال واللات والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن بك هذا الضب وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم يا ضب فأجابه بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعا لبيك وسعديك يا زين من أوفى القيامة قال من تعبد قال الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي البحر سبيله وفي الجنة رحمته وفي النار عقابه قال فمن أنا قال رسول رب العالمين وخاتم النبيين وقد أفلح من صدقك وخاب من كذبك فأسلم الأعرابي
ومن ذلك القصة المشهورة في كلام الذئب من حديث أبي سعيد الخدري قال بينما راع يرعى غنمه عرض الذئب لشاة منها فأخذها الراعي منه فأقعى الذئب وقال للراعي ألا تتقي الله حلت بيني وبين رزقي قال الراعي العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس فقال الذئب ألا أخبرك بأعجب من ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق
فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه و سلم قم فحدثهم ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم صدق
وقد روى هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة منهم أبو هريرة وزاد في هذا الحديث فقال له الذئب أنت أعجب وقفت على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله قط نبيا أعظم منه قدرا عنده قد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها على أصحابه ينتظرون إقبالهم وما بينك وبينه إلا هذا الشعب فتصير في جنود الله فقال الراعي لو كان لي من يرعى الغنم لمشيت إليه فقال الذئب أنا أرعاها حتى ترجع فأسلم الراعي إليه غنمه ومضى وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبي يقاتل فقال له النبي صلى الله عليه و سلم عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك وذبح للذئب منها شاة وكان هذا الراعي اسمه أهبان بن أوس

وقد ذكر مثل هذه القصة عن سلمة بن الأكوع وأنها كانت سبب إسلامه
ومن ذلك ما يحكى أن أبا سفيان بن حرب بينا هو في ملأ من قريش بمكة إذ بظبي يطرده ذئب فدخل الظبي الحرم فرجع الذئب فعجبوا من ذلك فقال الذئب أعجب من ذلك محمد ابن عبدالله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار فقال أبو سفيان بن حرب واللات والعزى لئن ذكرتم هذا بمكة ليتركنها خلوفا
ومن ذلك ما روى عن أم سلمة كان النبي صلى الله عليه و سلم في صحراء فنادته ظبية يا رسول الله قال ماحاجتك قالت صادني هذا الأعرابي ولي خشفان في ذلك الجبل فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع قال وتفعلين قالت نعم فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها وكان ذلك الأعرابي نائما
وقال يا رسول الله ألك حاجة قال تطلق هذه الظبية فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء وتقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله
ومن ذلك ما روى من كلام الحمار الذي أصابه بخيبر وقال اسمي يزيد بن شهاب فسماه النبي صلى الله عليه و سلم يعفور وكان يوجهه إلى دور أصحابه فيضرب عليهم الباب برأسه ويستدعيهم وأنه لما مات النبي صلى الله عليه و سلم تردى في بئر جزعا وحزنا فمات
ومن ذلك حديث الناقة التي شهدت بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم لصاحبها أنه ما سرقها وأنها ملكه

النوع الثاني

ما روى عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنها قالت كان عندنا داجن فإذا كان عندنا النبي صلى الله عليه و سلم قر وثبت مكانه فلم يجئ ولم يذهب وإذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء وذهب

ومن ذلك ما روى جابر بن عبدالله قال جاء رجل فآمن بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو على بعض حصون خيبر وكان في غنم يرعاها لهم يعني لأهل خيبر فقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيف بالغنم فقال احصب وجوهها يعني اضربها بالرمل فإن الله سيؤدي أمانتك ويردها إلى أهلها ففعل فسارت كل شاة منها حتى أتت أهلها
ومن ذلك حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل حائط دجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار وفي الحائط غنم فسجدت له فقال أبو بكر نحن أحق بالسجود لك منها وذكر الحديث
ومن حديث أبي هريرة دخل النبي صلى الله عليه و سلم حائطا فجاء بعير فسجد بين يديه
ومن حديث جابر قال وكان ذلك الحائط لا يدخله أحد إلا شد عليه ذلك الجمل فلما دخل عليه النبي صلى الله عليه و سلم دعاه فوضع مشفره في الأرض وبرك بين يديه فخطمه فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما بين السماء والأرض شيء لا يعلم أنى رسول الله إلا عاصى الجن والإنس
ومن حديث عبدالله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل أهل ذلك الجمل عن شأنه فقالوا له أنهم أرادوا نحره
ومن ذلك ما روى ابن وهب أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة
ومن حديث أنس وزيد بن أرقم و المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه و سلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت تجاه النبي صلى الله عليه و سلم فسترته وأمر حمامتين فوقفتا في فم الغار وأن العنكبوت نسجت على بابه فلما أتى الطالبون له رأوا ذلك فقالوا لو كان فيه أحد لم تكن الحمامات ولا العنكبوت فانصرفوا والنبي صلى الله عليه و سلم يسمع كلامهم
والأخبار في هذا كثيرة شهيرة وفيما ذكرناه كفاية لمن كان ذا عقل وديانة

الفصل السابع في إحياء الموتى وكلام الصبيان والمراضع وشهادتهم له
بالنبوة
من ذلك الخبر المشهور المعلوم المذكور عن غير واحد من الصحابة والأئمة أن يهودية بخيبر أهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم شاة مشوية فسمتها فأكل منها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكل القوم معه فقال ارفعوا فإن هذه الشاة أخبرتني أنها مسمومة ثم قال لليهودية ما حملك على ما صنعت قالت إن كنت نبيا صادقا لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكا أرحت منك فقال ما كان الله ليسلطك على ذلك فقالوا نقتلها قال لا فلم يزل أثر تلك الأكلة في لهوات رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قال في وجعه الذي مات منه مازالت أكلة خيبر تعاودني فالآن قطعت أبهري
قال ابن إسحق إن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة
وروى هذا الحديث من طريق البزار عن أبي سعيد الخدري وزاد فيه فبسط رسول الله صلى الله عليه و سلم يده وقال كلوا بسم الله فأكلنا وذكرنا اسم الله فلم تضر أحد منا إلا ما ذكر من موت بشر بن البراء
وفي هذا الحديث أنواع من دلالات نبوته صلى الله عليه و سلم نطق الميت وذلك أن الشاة كلمته بعد أن شويت وأنهم أكلوا السم ولم يضرهم وفي موت البراء دليل على أن الذي أكلوه سم قاتل وبذلك اعترفت اليهودية وقالت أردت قتلك فأراد الله أن يميت أحدهم ليعلم أن الذي أكلوه سم وأن يحيى جميعهم آية لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومن آياته في هذه القصة تأخر موته بالسم دون علة لزمته منه نحو عشرين سنة وهذه كلها أمور خارقة للعادات فهي من أوضح الدلالات
ومن ذلك ما روى عن فهد بن عطية أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بصبي قد شب لم يتكلم قط فقال له من أنا فقال أنت رسول الله

ومن ذلك حديث معيقيب قال رأيت من النبي صلى الله عليه و سلم عجبا جيء بصبي يوم ولد فقال له من أنا فقال أنت رسول الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم صدقت بارك الله فيك ثم أن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب فكان يدعى مبارك اليمامة وكانت هذه القصة بمكة في حجة الوداع
ومن حديث الحسن قال أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم فذكر أنه طرح بنية له في وادي كذا فانطلق معه إلى ذلك الوادي وناداها بإسمها يا فلانة احيى بإذن الله فخرجت وهي تقول لبيك وسعديك فقال لها إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أن أردك عليهما فقالت لا حاجة لي فيهما وجدت الله خير منهما
ومن ذلك حديث أنس أن شابا من الأنصار توفى وله أم عجوز قال فسجيناه وعزيناه فقالت مات ابني قلنا نعم قالت اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعينني على كل شدة فلا تحملني على هذه المصيبة فما برح أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا
ومن حديث عبد الله بن عبيدالله قال كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن شماس وكان قتل باليمامة فسمعناه حين أدخلناه في القبر يقول محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الشهيد عثمان البر الرحيم فنظرنا فإذا هو ميت
ومن حديث النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خر ميتا في زقاق من أزقة المدينة فرفع وسجى إذ سمعوه بين العشائين والنساء يصرخن حوله يقول أنصتوا أنصتوا فحسر عن وجهه فقال محمد رسول الله النبي الأمي وخاتم النبييين كان ذلك في الكتاب الأول ثم قال صدق صدق
وذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثم قال السلام عليك يارسول الله ورحمة الله وبركاته ثم عاد ميتا كما كان

الفصل الثامن في إبراء النبي صلى الله عليه و سلم المرضى وذوي العاهات
من ذلك ما اشتهر واستفاض من قصة عين قتادة يوم أحد وذلك أنه أصيب في إحدى عينيه حتى وقعت على وجنتيه فردها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت أحسن عينيه
ومن ذلك حديث عثمان بن حنيف أن أعمى قال يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري فقال له انطلق فتوضأ ثم قل اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري اللهم شفعه في قال فرجع الرجل وقد كشف الله عن بصره
من ذلك حبيب بن فديك أن أباه أبيضت عيناه فكان لا يبصر بهما شيئا فنفث رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينيه فأبصر قال فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين
وروى أن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ بيده حثوة من تراب فتفل عليها ثم أعطاها رسوله فأخذها رسوله متعجبا يرى أنه قد هزأ به فأتاه بها وهو على شقاء فشربها فشفاه الله تعالى
ومن ذلك حديث كلثوم بن الحصين وذلك أنه أصيب يوم أحد في نحره فبصق فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فبرأ وتفل عى شجة عبدالله بن أنيس فلم تمد
ومن ذلك حديث علي يوم خيبر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وهو على خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات أصحابه تلك الليلة كلهم يرجو أن يعطاها فلما أصبح دعا عليا فإذا به رمد فتفل في عينيه فبرئ لحينه وفتح الله علي يديه الحصن
وفي تلك الغزاة نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع فبرأت
وكذلك فعل بساق على بن الحكم يوم الخندق وكانت قد

انكسرت فبرأ مكانه ولم ينزل عن فرسه وأصاب عليا وجع فقال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم اشفه أو عافه ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد
وقطع أبو جهل لعنه الله يوم بدر يد معوذ بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم وألصقها فلصقت
وكذلك أصيب في ذلك اليوم حبيب بن يساف فنفث عليها من ريقه فصح وأتته امرأة من خثعم معها صبي به بلاء لا يعقل ولا يتكلم فأتى بماء فمضمض فاه وغسل يديه صلى الله عليه و سلم ثم أعطاها ذلك الماء وأمرها أن تسقيه إياه ففعلت فبرئ الغلام وعقل عقلا يفضل كثير من الناس
وحديث ابن عباس جاءت امرأة بابن لها به جنون فمسح صدره فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود وبرأ
وانكفأت القدر وهي تغلي على ذراع محمد بن خاطب وهو طفل صغير فمسح رسول الله صلى الله عليه و سلم عليه ودعا له وتفل فبرأ لحينه
وكانت في كف شرحبيل الجحفي سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي صلى الله عليه و سلم فما زال يمسحها بكفه حتى رفع كفه وما لها أثر
والأخبار في هذا كثيرة وإذا تأملت هذا الفصل والذي قبله علمت أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم قد أوتي من المعجزات مثل ما أوتى عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء العمى والمجانين وذوي الأسقام والآفات كما تحكي النصارى في إنجيلها وزاد عليه بأمور كما ذكر وستأتي إن شاء الله تعالى
فيلزم النصارى إذ كذبوا بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم مع ما أقمنا عليه من الآيات وأثبتنا من واضح المعجزات أن يكذبوا بنبوة عيسى عليه السلام فإن معجزاته كمعجزاته وإن كذبونا فيما نقلنا عارضناهم فيما نقلوه ولم يقدروا أن يثبتوا نبوة عيسى عليه السلام علينا ولا على غيرنا وكذلك يفعل الله بكل كاذب كفار

الفصل التاسع في إجابة دعائه صلى الله عليه و سلم
اعلم يا هذا أنه لو لم يثبت لرسول الله صلى الله عليه و سلم من الآيات إلا ما ثبت في هذا الفصل لكان فيه أعظم دليل على صدق رسالته وصحة نبوته فإنا نعلم بما روى في هذا الباب من الآيات على القطع والإصرار أن دعاؤه عند الله مسموع وأن مقامه عند الله مقام كريم مرفوع
وذلك أنه صلى الله عليه و سلم كان كلما دعا الله في شيء أجابه فيه وظهرت بركة دعوته على المدعو له وعلى أهله وبنيه حتى كان حذيفة يقول كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دعا لأحد أدركته الدعوة وولد ولده
ونحن نذكر من ذلك طرفا على شرط الإختصار
ومن حديث أنس الصحيح المشهور قال قالت أمي يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له فقال اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه قال أنس حين حدث بهذا الحديث فوالله إن مالي كثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم
وفي رواية أخرى عنه أنه قال وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت ولقد دفنت بيدي هاتين مائة من ولدي لا أقول سقطا ولا ولد ولد
ومن دعائه لعبد الرحمن بن عوف بالبركة قال عبدالرحمن فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا وفتح الله عليه ومات فحفر الذهب من تركته بالفئوس حتى محلت الأيدي وأخذت كل زوجة من زوجاته ثمانون ألفا وكن أربعا وقيل بل صولحت إحداهن لأنه طلقها في مرضه على نيف وثمانين ألفا وأوصى بخمسين ألفا وهذا كله بعد صدقاته الفاشية في حياته وعوارفه العظيمة
أعتق يوما ثلاثين عبدا ووردت له مرة عير له فيها سبع مائة بعير تحمل من كل شيء فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها
ومن ذلك دعاؤه صلى الله عليه و سلم لمعاوية بالتمكين في البلاد فنال الخلافة

ومن ذلك دعاؤه صلى الله عليه و سلم لسعد بن أبي وقاص بأن يجيب الله دعوته فما دعا على أحد أو لأحد إلا استجيب له
ومن ذلك دعاؤه صلى الله عليه و سلم حيث قال اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام فأجاب الله دعوته في عمر بن الخطاب
ولذلك قال ابن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب وأصاب الناس عطش شديد في سفر من أسفاره فدعا الله فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم
وقد تقدم مثل ذلك
ومن ذلك حديث الإستسقاء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما هو يوم الجمعة يخطب إذ دخل عليه رجل فقال يا رسول قد هلكت الأموال وانقطعت السبل وهلكت المواشي فادع الله أن يغثنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم أغثنا الله أغثنا الله أغثنا قال فأنشأت سحابة مثل الترس ثم انتشرت قال راويه فلا والله ما رأينا الشمس سبتا يعني جمعة
ثم دخل أعرابي في الجمعة المقبلة فقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم على الآكام والضراب ومنابت الشجر قال فانجابت السحابة عن المدينة انجياب الثوب فخرجنا نمشي
ومن ذلك أنه صلى الله عليه و سلم قال للنابغة الجعدي لا يفضض الله فاك فما سقطت له سن حتى مات
وفي رواية كان أحسن الناس ثغرا إذا سقطت له سن نبتت له أخرى وعاش عشرين ومائة
وقال لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل فكان بحر الفقه وترجمان القرآن ودعا لعبدالله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما اشترى شيئا إلا ربح فيه ودعا للمقداد بن الأسود بالبركة فكان عنده غراير من المال
ودعا لعروة بن أبي الجعد فقال لقد كنت أقدم بالكياسة سوق لهم فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا

وقال البخاري فكان لو اشترى التراب ربح فيه وندت له ناقة فدعا ربه أن يردها عليه فجاء بها إعصار ريح حتى ردها عليه
ودعا لأم أبي هريرة فأسلمت ودعا لعلى أن يكفى ألم الحر والبرد فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حر ولا برد وسأله الطفيل بن عمرو آية لقومه فقال اللهم نور له فسطع له نور بين عينيه فقال يا رب أخاف أن يقولوا إنما مثلة فتحول إلى طرف سوطه فكان يضئ في الليلة المظلمة فسمى ذا النور
ودعا على مضر بالقحط فأقحطوا سبعا حتى أكلوا الجلود والعظام حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسقوا
ودعا على كسرى حين مزق كتابه بأن يمزق ملكه فلم تبق له باقية
وقال لرجل رآه يأكل بشماله كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال له لا أستطعت فلم يرفعها إلى فيه بعد
وقال لعتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد
وحديثه المشهور مع ملأ قريش وذلك أنه صلى الله عليه و سلم بينما هو ساجد بإزاء الكعبة إذ ألقت قريش على ظهره فرثا ودما وسلا جزور نحرت فقال اللهم عليك بهم ثم سماهم واحدا واحدا فكان من سمى قتل يوم بدر
ودعا على الحكم بن أبي العاصي وكان يختلج بوجهه ويغمز عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذلك فلم يزل يختلج إلى أن مات
ودعا على غلم بن جثامه فلفظته الأرض فوورى فلفظته الأرض ثم وورى فلفظته الأرض مرارا فألقوه بين ضدين يريد جانبي الوادي ورضوا عليه بالحجارة
وباعه رجل فرسا فجحده فقال اللهم إن كان كاذبا

فلا تبارك له فيه فأصبحت شاصية يريد رافعة برجلها يقول ماتت
والأخبار في هذا الباب أكثر من أن يحاط بها
الفصل العاشر في ذكر جمل من بركاته ومعجزاته صلى الله عليه و سلم
ومن ذلك ما اشتهر وصح أنه وقع فزع بالمدينة فركب فرسا لأبي طلحة بطيئا فلما رجع قال لأبي طلحة وجدنا فرسك بحرا يريد كثير الجرى كالبحر قال فكان ذلك الفرس لا يجارى
ونخس جمل جابر وكان قد أعيا فنشط حتى كان ما يملك زمامه
وصنع مثل ذلك بفرس لجميل الأشجعي خفقها بمخفقة معه وترك عليها فلم تملك رأسها نشاطا وباع من بطنها بإثنى عشر ألفا
وكانت شعيرات من شعر رسول الله صلى الله عليه و سلم في قلنسوة خالد بن الوليد فلم يشهد بها قتالا إلا رزق النصر
وكانت جبة رسول الله صلى الله عليه و سلم تغسل للمرضى بعد موته فيستشفى بها
وأخذ جهجاه قضيب رسول الله صلى الله عليه و سلم ليكسره فأخذته في يده أكله فقطعها ومات قبل الحول
وسكب من فضل وضوئه في بئر قباء فما جف ماؤها بعد
وبزق في بئر كانت في دار أنس فلم يكن بالمدينة أعذب منها
ومر على ماء فسأل عنه فقيل اسمه بيسان وماؤه ملح فقال بل هو نعمان وماؤه طيب فطاب
وأوتى بدلو من ماء زمزم فمج فيه فصارت أطيب من المسك
وأعطى الحسن والحسين لسانه فمصاه وكانا يبكيان عطشا فرويا وسكتا
وكانت لأم مالك عكة تهدى فيها للنبي صلى الله عليه و سلم سمنا فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تعصرها ثم دفعها

إليها فإذا هي مملوءة سمنا فيأتيها بنوها يسألونها الأدم وليس عندهم شيء فتعمد إليها فتجد فيها سمنا فكانت تقسم أدمها حتى عصرتها
وكان يتفل في أفواه المراضع فيجزيهم ريقه إلى الليل
ومن ذلك بركة يده فيما لمس أو غرس
غرس لسلمان ثلاثة مائة ودية وكان كاتب مواليه على ثلاث مائة نخلة وعلى أربعين أوقية فغرسها رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده إلا واحدة فأطعمت من عامها إلا تلك الواحدة فقلعها رسول الله صلى الله عليه و سلم وغرسها فأطعمت من عامها
وأعطاه مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن أدارها على لسانه فوزن منها أربعين أوقية لمواليه
وفي حديث حنش بن عقيل قال سقاني رسول الله صلى الله عليه و سلم شربة من سويق شرب أولها وشربت آخرها فما زلت أجد شبعها إذا جعت وريها إذا عطشت وبردها إذا ظمئت
وأعطى قتادة بن النعمان وصلى معه العشاء الأخيرة في ليلة مظلمة مطيرة عرجونا فقال انطلق فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا ومن خلفك عشرا فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه حتى يخرج فإنه الشيطان فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج
ومنها دفعه لعكاشة جذل حطب وقال له اضرب به حين انكسر سيفه يوم بدر فعاد في يده سيفا صارما طويل القامة أبيض شديد المتن فقاتل به ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف إلى أن استشهد في قتال أهل الردة وكان هذا السيف يسمى العون
وكذلك دفع لعبدالله بن جحش يوم أحد وقد ذهب سيفه عسيب نخل فعاد في يده سيفا
ومن ذلك بركته في درور الشياه الحوائل اللبن الكثير كقصة شاة أم معبد وهي قصة مشهورة وكذلك غنم حليمة مرضعته

وقد تقدم ذكره وكذلك قصة شاة عبدالله بن مسعود وكان لم ينز عليها فحل قط وكذلك شاة المقداد ومن ذلك تزويده أصحابه سقاء ماء بعد أن أوكاه ودعا فيه فلما حلاه إذا به لبن طيب وزبده في فمه ومسح على رأس عمير بن سعد وبارك فمات وهو ابن ثمانين فما شاب
وقد روى مثل هذه القصص
ومن ذلك أن عتبة بن فرقد كان يوجد له طيب يغلب طيب نسائه لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم مسح بيده بطنه ويده
وسلت عن وجهه صلى الله عليه و سلم عايذ بن عمرو الدم يوم أحد فدعا له فكانت له غرة كغرة الفرس
ومسح صلى الله عليه و سلم على رأس قيس بن زيد الجذامي ودعا له فهلك ابن مائة سنة ورأسه أبيض وموضع كف النبي صلى الله عليه و سلم أسود فكان يدعى الأغر ومسح وجه رجل آخر فما زال على وجهه نور ومسح وجه قتادة بن ملجان فكان لوجهه بريق حتى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرآة
ووضع صلى الله عليه و سلم يده على رأس حنظلة بن خديم وبارك عليه فكان حنظلة يؤتى بالرجل قد ورم وجهه والشاة قد ورم ضرعها فيوضع على موضع كف النبي صلى الله عليه و سلم فيذهب الورم
ونضح في وجه زينب بنت أم سلمة نضحة من ماء فما كان يعرف في وجه امرأة من الجمال ما كان بها ومسح على رأس صبي به عاهة يعني قرعا فبرأ واستوى شعره وكذلك مسح على غير واحد من الصبيان المرضى والمجانين فبرؤا ولأجل هذا قال طاووس لم يؤت النبي صلى الله عليه و سلم بأحد به جنون فصك في صدره إلا ذهب ذلك الجنون وأتاه رجل آدر فأمره أن ينضحها بماء من عس مج فيه ففعل فبرأ ومن ذلك خبره المشهور عن تراب يوم حنين وذلك أنه لما اشتد القتال بينه وبين الكفار ذلك اليوم أخذ غرفة من تراب ورمى بها وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه فما بقى منهم أحد إلا أصاب من عينيه

من ذلك التراب فهزمهم الله ورجعوا على أعقابهم يمسحون عن أعينهم
ومن ذلك الخبر المشهور عن أبي هريرة أنه كان كثير النسيان فأمره ببسط ثوبه فغرف بيده ثم أمره بضمه ففعل فما نسى شيئا بعد
والأخبار في هذا كثيرة جدا تفوق الحصر

الفصل الحادي عشر في ما أخبر به مما أطلعه الله من الغيب صلى الله عليه
و سلم
هذا الموضوع بحر لا يدرك قعره ولا ينزف غمره وهو من جملة آياته المعلومة على القطع الواصلة إلينا من طريق التواتر لكثرة الحكايات وإنتشار الروايات مع اتفاقها على أنه مطلع على كثير من الغيب فهذا تواتر معنوي يحصل به العلم القطعي وهكذا أكثر الفصول المتقدمة والأخبار المتلقاة عنه صلى الله عليه و سلم في هذا الموضوع قسمان قسم وقع ووجد كما أخبر به وقسم آخر لم يقع لكونه لم يبلغ وقته وسيقع ولا بد ولذلك هو منتظر الوقوع ونحن إنما نذكر في هذا الفصل ما وقع ووجد حسب ما أخبر به إذ به تقع الحجة وعنده يظهر الإعجاز
من ذلك حديث حذيفة قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما فما ترك شيئا في مقامه ذلك يكون إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وأنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه ثم قال لا أدري أنسى أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاث مائة فصاعدا إلا وقد سماه لنا بإسمه واسم أبيه وقبيلته
وقال أبو ذر لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وما من طائر يحرك جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما

وقد خرج أهل الصحيح في كتبهم واشتهر عن الأئمة ما أعلم به أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه وفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله وأن المدينة لا تغزى
وكذلك أعلم بفتح خيبر على يد علي بن أبي طالب في غد يومه وبما فتح الله على أمته من الدنيا ويؤتون من زهرتها وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر وما يحدث بينهم من الفتن والإختلاف والأهواء وسلوك سبيل من قتلهم وإفتراقهم على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة وأنها ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى وتوضع على يديه صحيفة وترفع أخرى ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة وأنهم إذا مشوا المطيطا وجد منهم بنات فارس والروم رد الله بأسهم بينهم وسلط شرارهم على خيارهم
وإخباره على قتال الترك والخزر والروم وذهاب كسرى وفارس حتى لا كسرى بعده وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده وإخباره عن الروم لا تزال ذات أقران حتى تقوم الساعة وإخباره بملك بني أمية وولاية معاوية ووصاه وإتخاذ بني أمية ملك الله دولا وإخباره عن خروج ولد العباس بالرايات السود وملكهم أضعاف ما ملكوا وخروج المهدي وإخباره بما ينال أهل بيته من القتل والشدائد وإخباره عن قتل علي وقوله إن أشقاها الذي يخضب هذه من هذه يريد لحيته من رأسه وإخباره بقتل عثمان وهو يقرأ المصحف وأنه سيقطر دمه على قوله تعالى فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وقوله صلى الله عليه و سلم عسى الله أن يلبسك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه يريد بذلك ما ولاه من الخلافة وما أرادوا من خلعه
ومن ذلك خبر حاطب بن أبي بلتعة وذلك أنه كتب كتابا لأهل مكة يخبرهم فيه بغزو رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم وإخفاء ذلك الكتاب ولم يطلع عليه أحدا ودفعه إلى إمرأة فجعلته في عقاصها

فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه انطلقوا إلى موضع كذا فإن به ظعينة عندها كتاب من حاطب إلى مشركي قريش فانطلقوا ففتشوا فلم يجدوا عندها شيئا فقالوا لها لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فأخرجته من عقاصها
وإخباره لبعض زوجاته أنها ستنبحها كلاب من الحوب وأنها تقتل حولها قتلى كثير فكان ذلك كله كما ذكر صلى الله عليه و سلم
وقوله لعمار تقتلك الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية وقوله يكون في ثقيف كذاب ومبير فرأوهما الحجاج والمختار
وإخباره بأن مسيلمة يعقره الله فكان ذلك
ومن ذلك أن ناقته ضلت فلم يدر أين هي فقالت قريش يزعم محمدا أنه يعرف خبر السماء وهو لا يعرف ناقته فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أما أنا فلا أعلم إلا ما أعلمني الله به وأن الله قد أخبرني أنها بموضع كذا فانطلقوا فوجدت حيث ذكر قد حبستها هناك شجرة
وقوله لفاطمة الزهراء رضي الله عنها ابنته أنك أول أهل بيتي لحوقا بي فكانت أول من مات من أهل بيته
وأخبر بأهل الردة والخوارج وعرف بعلاماتهم فوجد ذلك كما أخبر
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى يضطر الواقف عليها إلى العلم بنبوته صلى الله عليه و سلم

الفصل الثاني عشر في عصمة الله له ممن أراد كيده

وذلك من أبلغ آياته صحت الروايات وثبتت الطرق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يحرس ممن يريد ضره لكثرة أعدائه ولطلبهم غرته حتى نزل والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه من القبة وقال لحارسيه يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني ربي فلم يقدر أحد أن يصيب منه مقتلا مع حرصهم على ذلك

ومن ذلك ما صح أن النبي صلى الله عليه و سلم نزل منزلا في بعض غزواته فقال تحت شجرة فأتاه أعرابي فاخترط سيفه فقال من يمنعك مني فقال الله فرعدت يد الأعرابي وسقط سيفه من يده وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه وقد اتفق مثل هذه القصة لعذرة بن الحارث فأسلم ورجع إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس
وقد روى أن هذه القصة كانت يوم بدر وكذلك وقع مثل هذه القصة بذي أمر لدغشور بن الحرث وكان ذا نجدة وجرأة فأسلم فلما رجع إلى قومه قالوا أين ما كنت تقول وقد أمكنك فقال إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري وسقط السيف من يدي فعرفت أنه ملك وفيه أنزل الله عز و جل يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم الآية
وكانت امرأة أبي لهب وهي حمالة الحطب تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه و سلم فكأنما يطأ كثيبا أهيل يريد سهلا ولما أنزل الله عز و جل فيها وفي زوجها تبت يدا أبي لهب وتب إلى آخر السورة أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر وأخذ الله ببصرها عن نبيه عليه السلام فقالت يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه
ومن ذلك ما حدث به الحكم بن أبي العاصي قال تواعدنا على أن نقتل محمدا حتى جئناه فلما رأيناه سمعنا صوتا خلفنا ما ظننا أنه بقى بتهامة أحدا فوقعنا مغشيا علينا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله ثم تواعدنا ليلة أخرى فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة فحالت بيننا وبينه
ومن ذلك القصة المشهورة التي تؤذن بالكفاية التامة وذلك أن قريشا اجتمعت على قتله وبيتوا ليدخلوا عليه بيته فعلم بهم

فقال لعلي تحول على فراشي ففعل ثم خرج عليهم ودر التراب على رؤوسهم فلم يروه حتى دخلوا البيت فوجدوا عليا على فراشه فقالوا له أين صاحبك فقال لهم قد خرج عليكم وقد جعل التراب على رؤوسكم فمد كل واحد منهم يده على رأسه فوجد التراب على رأسه
وقد قيل أن في هذه القصة نزل قوله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
ومن ذلك ما اتفق لأبي جهل وذلك أنه أخذ ابل رجل من العرب وتعدى عليه فيها فشكى ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فمشى رسول الله صلى الله عليه و سلم لمنزل أبي جهل وصاح به فخرج منتقعا لونه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم رد على هذا إبله فقال نعم ثم دخل مرة أخرى خائفا فصاح به فخرج فزعا متغيرا ذليلا ففعل ذلك ثلاثا ثم خرج فزعا ممتقعا لونه فانصرف الأعرابي وألان القول للنبي صلى الله عليه و سلم فلامته قريش على ذلك فقال لهم إنه عرض لي دونه فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه لفحل قط وأنه هم بي ليأكني فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال ذلك جبريل ولو دنا منه لأخذه
وكذلك أخذ أبو جهل صخرة ليطرحها على النبي صلى الله عليه و سلم وهو ساجد وقريش ينظرون فلزقت بيده ويبست يداه إلى عنقه فرجع القهقري ورآه ثم سأل أن يدعو له ففعل فانطلقت يداه وكذلك تواعد مرة أخرى مع قريش لئن رأى محمدا يصلي ليطأن رقبته فلما دخل النبي صلى الله عليه و سلم في الصلاة أعلموه فأقبل نحوه فلما قرب منه ولى هاربا ناكصا على عقبيه متقيا بيديه فسئل عن ذلك فقال لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء نارا كدت أهوي فيه وأبصرت هولا عظيما وخفق أجنحة قد ملأت الأرض فقال عليه السلام تلك الملائكة لو دنى لاختطفته عضوا عضوا فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه و سلم كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إلى أخر السورة

ومن ذلك حديث شيبة أنه أدرك النبي صلى الله عليه و سلم يوم حنين فقال اليوم أدرك ثأري من محمد وكان حمزة قد قتل أباه وعمه فأتاه من خلفه قال فلما دنوت منه ارتفع إلى شواظ من نار أسرع من البرق فوليت هاربا وأحس بي النبي صلى الله عليه و سلم فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إلى فما رفعها ألا وهو أحب الخلق إلي
ومن ذلك حديث فضالة بن عبيد قال أردت قتل النبي صلى الله عليه و سلم وهو يطوف بالبيت فلما دنوت منه قال أفضالة قلت نعم قال ما كنت تحدث به نفسك قلت لا شيء فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري فسكن قلبي فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه
ومن ذلك خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وذلك أنهما وفدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليقتلاه فقال عامر لأربد أنا أشغل عنك وجه محمد فاضرب أنت فلم يفعل أربد من ذلك شيئا فلما كلمه عامر في ذلك قال له والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني وبينه أفأضربك
ومن ذلك الخبر المشهور خبر سراقة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خرج من مكة مهاجرا للمدينة لم يعلموا بخروجه فبعثت قريش في طلبه في كل وجه حتى جعلت لمن يأتي به جعلا مائة ناقة
قال سراقة فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا على آنفا إني لأراه محمدا وأصحابه قال فأومأت له يعني أن أسكت ثم قلت إنهم بنو فلان يبتغون ضالة لهم قال لعله قلت فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وأمرت بسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي وكنت أرجو أن أرده على قريش وآخذ المائة ناقة قال فركبت في أثره فلما بدا لي القوم فرأيتهم عثر بي فرسي وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه قال ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار قال

فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد امتنع مني وأنه ظاهر قال فناديت القوم أنا سراقة انظروني حتى أكلمكم
فقال له أبو بكر وما تبتغي منا قال قلت كتابا يكون آية بيني وبينكم فكتب له أبو بكر بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمسكه عنده حتى كان يوم الطائف
والأخبار في هذا كثيرة والحكايات صحاح شهيرة لا يمكن جحدها ولا ينكر حصول العلم عندها بل كلها تدل على صحة نبوته وتصديق شريعته وأنه كما قال الله عز و جل وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
ومعجزاته صلى الله عليه و سلم أكثر من أن يحيط بها هذا الكتاب أو تدخل تحت عد وحساب وعند الوقوف على ما تضمنته الفصول المتقدمة والأبواب السابقة يحصل العلم الضروري بصدقه في رسالته وبوجوب اتباع شريعته ومنكر ذلك معاند متواقح جاحد
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وقد نجز غرضنا من هذا الباب
فإن قال قائل من النصارى والمخالفين لنا
ما ذكرتموه من معجزات نبيكم إنما يثبت عندكم من أخبار الآحاد وهي وإن كانت صحاحا فلا يحصل بها العلم كما كنتم قدمتم حيث تكلمتم مع النصارى حين استدلوا على إثبات نبوة مسيحهم
فإنكم قلتم لا نقبل في مثل هذا الموضع خبر من تجوز العادة عليه الكذب والغلط وإنما نقبل فيها خبر من لا تجوز عليهم العادة الكذب والغلط وهو الخبر المتواتر ثم إنكم قبلتم هنا أخبار من تجوز العادة عليهم الغلط والكذب وهي أخبار الآحاد فقد خالفتم ما أصلتم وقبلتم عين ما أنكرتم
قلنا في الجواب عن ذلك
اعلم أيها المعترض أنا لم نقبل في هذا الباب ألا الأخبار المتواترة التي يحصل العلم بها لكن ينبغي أن

تعلم أن المتواتر ضربان ضرب يتواتر لفظه ومعناه وذلك مثل قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين فإن هذا اللفظ نعلم قطعا ويقينا أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم قاله كما تلوناه من غير زيادة ولا نقصان إذ قد نقله عنه الجم الغفير عن الجم الغفير فلا يتطرق إليه وجه من وجوه الشك فلا يقدر أحد أن يتشكك في لفظه ولا في معناه وكثير من معجزات النبي صلى الله عليه و سلم المتقدمة الذكر من هذا القبيل فهذا هو الضرب الأول
وأما الضرب الآخر وهو متواتر معناه دون لفظه فيحصل العلم أيضا بذلك المعنى وذلك مثل أن تتوارد روايات كثيرة من أخبار الآحاد الصحاح على معنى واحد بألفاظ متغايرة وحكايات مختلفة مثال ذلك أنا نجد من أنفسنا علما قطعيا بشجاعة على بن أبي طالب رضي الله عنه فإذا نظرنا في الخبر الذي حصل لنا العلم بشجاعته لم نجده خبرا واحدا متواترا وإنما وجدناه جملة أخبار آحاد تواردت على معنى واحد وهو الشجاعة فتسمع عنه يوما أنه فعل يوم خيبر كذا وفعل يوم حنين كذا ويوم صفين كذا ويوم الجمل كذا فلا تزال أخبار الآحاد تكثر حتى يضطر السامع إلى العلم بمخبرها ولا يقدر على تشكيك نفسه في شيء منها وهذا مسلك في تحصيل العلم إذا تفقده العاقل المنصف من نفسه وجده مفيدا للعلم ومحصلا له ضرورة ومن أنكر حصول العلم منه كان منكرا لما هو ضروري
فإذا ثبت هذا قلنا بعده إن ما نقلناه من معجزات نبينا عليه السلام منها ما تواتر لفظه ومعناه كإنشقاق القمر وغيره ومنها ما تواتر معناه وهو أكثر ما احتوت عليه الفصول المتقدمة وذلك أن كل فصل منها اشتمل على معنى واحد وكثرت الأخبار عن ذلك المعنى حتى أضطر الواقف عليها إلى العلم بمعناها وذلك مثل نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الماء القليل والطعام القليل إلى غير ذلك من الفصول فكل فصل منها قد تواتر معناه وإن لم تتواتر آحاد ألفاظه

ثم هذه الفصول بجملتها يحصل منها العلم القطعي واليقين الضروري بأن محمدا صلى الله عليه و سلم كانت العادات تنخرق على يديه معجزة له إذ قد تواردت جميع أخبار هذه الفصول على هذا المعنى
فحصل من هذا أنا لم نستدل على إثبات نبوة نبينا محمد بأخبار الآحاد وإنما استدللنا على ذلك بالأخبار المتواترة المحصلة للعلم والحمدلله
والنصارى فيما أوردوا لم يستدلوا هكذا ولا عندهم علم من هذا وكفى أنهم في ضلالتهم يعمهون وفي شكهم يترددون
عصمنا الله من الخطأ والزلل في القول والعمل بكرمه وجوده
الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات
أعلم أن غرضنا في إثبات هذا الفصل شيئان
أحدهما أن نبين أن ما ظهر على أصحابه وعلى أهل دينه من الكرامات هو آية لرسول الله صلى الله عليه و سلم من أعظم الآيات وذلك أن الله تعالى إذا أكرم واحدا منهم بأن خرق له عادة فإن ذلك يدل على أنه على الحق وأن دينه حق إذ لو كان مبطلا في دينه متبعا لمبطل في دعواه كاذب في قوله على الله لما أكرمه الله ولا أكرم من اتبع دينه
فعلى هذا نقول إن كل كرامة لولى إنما هي آية للنبي الذي يتبعه ذلك الولي فهذا أحد الغرضين وهو أهمهما
والغرض الثاني
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كانوا قد أكرمهم الله بكرامات خارقة للعادات فلا يعتقد فيهم أنهم أنبياء كما فعلت النصارى بالحواريين بل يعتقد فيهم أنهم أولياء الله وأصحاب رسول الله تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شرعه وبلغوا عنه قوله وفعله فبذلوا في إظهار دين الله أنفسهم وأموالهم حتى أظهر الله على كل الأديان دينهم وإيمانهم

كما قال الله تعالى فيهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود
ونحن الآن نذكر بعض ما أكرمه الله تعالى به
من ذلك ما علمنا من أحوالهم على القطع
وذلك أنهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم تعرضوا لقتال كل من خالفهم من أهل الأرض يهوديهم ونصرانيهم مجوسيهم ووثنيهم عربيهم وعجميهم على قلة عددهم ونزارة عددهم فقارعوا الأبطال وسبوا الذرارى والأموال وأسروا العتاة وقتلوا الرجال وعلى هذا انقرض عصرهم
ومع ذلك فلم يرو قط عنهم أنهم ولوا مدبرين ولا رجعوا منهزمين بل كانوا يرجعون غالبين وبعدوهم ظافرين وعليهم ظاهرين هذا مع كثرة من كان يجتمع عليهم من عدوهم ومن وقف على فتوحات الشام علم أن دين الحق هو دين الإسلام فلقد اجتمع عليهم من عدوهم بالشام ثلاث مائة ألف ونحوها بل قد قال الواقدي ثمان مائة ألف من النصارى المستعربة وغيرهم وهم زهاء ثلاثين ألف خيلهم ورجلهم فقارعوهم مقارعة الكرام وصبروا صبر من صدق ما وعده به نبيه محمد عليه الصلاة و السلام فأظفرهم الله عليهم ومنحهم رقابهم وأورثهم أموالهم وديارهم
وهكذا فعل الله معهم غير ما مرة ولا يشك في أن هذا كرامة من الله لهم وأمر خارق للعادة في حقهم فإن العادة أن من أكثر من مقارعة الشجعان فلا بد له من أن يصاب ولو في وقت من الزمان وما اتفق لهم وإن كان كرامة لهم فهو آية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه قد كان بشرهم بذلك وأخبرهم بكل ما طرأ لهم هنالك
فقد ثبت أنه عليه السلام قال تغزو قيام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم تغزو قيام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون نعم

فيفتح لهم ثم تغزو قيام فيقال لهم هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقال نعم فيفتح لهم
وهذا منه صلى الله عليه و سلم إخبار بنصر أصحابه ونصر تابعيهم وتابعي تابعيهم ثلاثة قرون وهذه الأعصار هكذا انقرضت لم يزل نصر الله لهم وعونه معهم تصديقا لنبيه وإكراما لأصحابه رضي الله عنهم وجازاهم عنا بأفضل ما جازى أحدا عن أحد
ومن ذلك ما ظهر على أحد منهم مما قدمنا ذكره حيث ذكرنا أن طائفة منهم أكلت السم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يضرها وقد ذكرنا حديث المرأة المهاجرة التي مات ابنها فقالت اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك فلا تحملني هذه المصيبة فحيى وأكل معهم وكذلك ذكرنا مقالة ثابت بن قيس بن شماس بعد موته وكلام زيد بن خارجة بعد موته فيما تقدم فلا معنى لاعادته فلتنظر فيما تقدم
ومن ذلك خبر ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في بضع أسفاره فلقى جماعة وقفوا على الطريق خوفا من السبع فطرد السبع عن طريقهم ثم قال إنما يسلط الله على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لم يسلط عليه شيء
ومن ذلك حديث العلاء بن الحضرمي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزاة فحال بينهم وين الموضع الذي يريدونه قطة من البحر فدعا الله بإسمه الأعظم ومشوا على الماء
ومن ذلك أن عباد بن بشيرأوأسد بن خضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأضاء لهما رأس عصا أحدهما كالسراج وقد قدمنا مثل هذا ومن ذلك أن سلمان أو أبا الدرداء كانت بينهما قصعة فسبحت حتى سمعا تسبيحها وقد تظاهرت الأخبار بأن جماعة منهم رأوا الملائكة وكانت تسلم عليهم مثل عمران بن حصين واسيد ابن حضير والأخبار في هذا كثيرة

وأما التابعون
فقد ظهرت لهم من الكرامات والخيرات ما لا يمكن استيفاء ذكره في هذا الكتاب
فقد كان كثير منهم يمشي على الماء ويطير في الهواء وينظر إلى الحصى فيصير جواهر وينظر الآخر إلى الأرض بين يديه فيصير ذهبا وتطوى له الأرض ويتوضأ فيسيل الماء من بين يديه قضبان ذهب ويدعو الله تعالى فيبرئ المرضى والمجانين والزمناء إلى ما لا يحصى كثرة
وقد دون من هذا كثير يقضى منه العجب في كتب كرامات الأولياء ولو لم يكن من هذا إلا قبر معروف الكرخي الكائن ببغداد لكان فيه كفاية وأعظم آية وذلك أن قبره يستشفى به ويدعى الله عنده فيشفى المريض وتقضى الحاجة حتى أن أهل بغداد يقولون قبر معروف الكرخي ترياق مجرب
وبعد هذا
أقول للنصارى وليست هذه الأمور العجيبة والأفعال الغريبة من قبيل الحيل والنيرجات التي تعظمون بها أديانكم وتموهون بها على عوامكم وتضيفونها إلى هذيانكم
فلقد حكى لنا أنكم تمخرقون على ضعفاء العقول منكم بخرافات وترهات مثل ما وصف عن بعض مشاهدكم المعظمة عندكم وذلك أنكم تزعمون أن يد الله المسيح تظهر بها في يوم واحد من السنة من وراء ستر وهذا مشهور عندكم
ولقد حكى لنا من يوثق بحديثه أن رجلا من اليهود كان قد حظى عند أحد رؤسائكم بالأندلس بوصلة كانت بينهما فرام الرئيس أن يخرج اليهودي عن دينه ويدخله في دين النصرانية وقال له ألا ترى هذه الأعجوبة ظهور يد الله المسيح لنا في يوم معلوم من السنة فقال له اليهودي يا مولاي أنا قد رضيت من هذا الأمر بشهادتك وصدقتك عليه فابحث عنه فإن كان ما يزعم هؤلاء القسيسون حقا دخلت في دينك فخالط الرئيس الشك فلما دنا ذلك اليوم مشى ذلك

الرئيس إلى ذلك المشهد وقرب مالا يهديه هنالك فبرز إليه الأساقفة وقربوه لتقبيل اليد فلما ظهر له من وراء الستر وضع يده فيه فصاحوا به وأغلظوا له القول يقولون له أتق الله الآن تخسف بك الأرض الآن تقع عليك السماء الآن ترسل عليك الصواعق فقال لهم دعوا عنكم هذا كله فإن هذه اليد لا أخل يدى عنها حتى أعلم حقا ما تصفون عنها أم باطلا
فلما رأوا الحجة فروا عنه ولم يبق معه إلا إثنان أسرا إليه وقالا له ما تبغى في ذلك أصبوت عن دين آبائك أتريد أن تحل ربطا ربط منذ ألف سنة أو نحوها قال لا ولكني أحب الوقوف على سر هذه اليد فقالا هي يد الأسقف واقف خلف هذا الستر فقل احب أن أراه فقالا أنت وذاك فكشفا له عن قس مجدود الخدين واقف خلف هذا الستر فلما عاينه الرئيس أرسل يده وخرج إلى عسكره فقال له اليهودي يا مولاي ما تأمرني به أدخل في دينك وأخرج عن ديني فقال له رأيك خرجت منه أو فلا خرجت
وكذلك وصف لنا عن صليب في بعض مشاهدكم المعظمة عندكم يمشي إليه الناس ليتعجبوا منه وهو واقف بين السماء والأرض وإن بعض رؤسائكم سأل عن ذلك كاتبا له يهوديا فتفطن اليهودي إلى أن ذلك الصليب حديد تمسكه أحجار المغناطيس فبحث عنه فوجد كذلك
وكذلك وصف عن الثريا التي في كنيسة الغراب وحيلتها حيلة الصليب وكذلك كنتم تذكرون أن هذا الكنيسة ينزل فيها نور يوقد ذبال الثريا المذكورة في ذلك اليوم المشهود فذكر ذلك لأحد ملوك بني أمية بالأندلس فتعجب من ذلك وسأل عن ذلك فأخبره رجل من أهل إفريقية بحيلتها وذكر أنهم مدوا مع الحائط قصبة حديد ضيق جوفها وأبرزوا لها أنبوبا كسم الخياط موضعه موزون مع طرف الثريا
ثم أنهم ذلك اليوم يرسلون نار النفط في القصبة متراكما حتى يخرج في غاية القوة إلى ذبال الثريا الذي هو في زنة واحدة معه

ووصف ذلك الإفريقي مع ذلك حيلا فاحتال ذلك الأمير على الكنيسة في أحد غزواته وقد دنا يومها ذلك فدعى الإفريقي وكان معه فسأله كشف ذلك فعمد الإفريقي فاستخرج منه قناة من الصفر على نحو ما كان ذكر وعمد إلى سماء الثريا فاستخرج منه حجرا من المغناطيس فسقطت فأمر الأمير عند ذلك بمعاقبة القسيس
وكذلك كنتم تزعمون أن مريم نزلت من السماء على دون إذ فنتش المطران بجامع طليطله وكست رأسه بقجيلة وجسمه بثياب مزينة وذلك في ليلة النصف من شهر أغشت فتعظمون تلك الليلة تعظيما شنيعا
وذلك كله إنما يصح عليكم لجهلكم بالأمور كلها حقها وباطلها حتى أنكم تصدقون بالباطل والترهات وتكذبون بالحق كله وباليقينيات فردكم لغير معنى وقبولكم لغير معنى فلذلك لم تعدوا من العقلاء ولم تضربوا بسهم النبلاء
ولقد أورد بعض حذاقنا المجترئين على الكلام على النصارى في كذبهم نزول مريم على دون إذ فنش إلزامات نبهت النصارى ولا محيص لهم عنها
فقال لهم أخبرونا عن نزول مريم الذي تزعمون هل كان بإذن سيدها أو بغير إذنه فإن قلتم كان بإذنه فكيف يجوز عليه أن يمتهن أم ولده بزعمكم في حق عبده وهلا كان يرسل عبدا من عبيده ويصون أم ولده
هذا يدل على عدم الغيرة ولو فعل ذلك الواحد منا لعرض نفسه وزوجته للتهم ولتضاف إليه النقائص وينسب إلى همته الخسة
وإن قلتم كان ذلك بغير إذن منه فكيف ينبغي أن تخونه مع أن الله قد اصطفاها على نساء العالم واتخذها أم ولد بزعمكم فتنزل بغير إذنه إلى رجل من جنسها بكسوة وثياب مزينة في كنيسة خالية وهذا محل خيانة

تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وسبحانه عما ينسب إليه الجاهلون بكرة وأصيلا وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة من حكاية هذه القبائح ومن رواية هذه الفضائح
فالحمد لله الذي أعاذ الإسلام من هذه الرذائل وخصه بكل الفضائل التي يستحسنها كل عاقل ويتدين بها كل فاضل ويتميز عندها الحق من الباطل
انتهى الجزء الثالث من كتاب الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ويليه الجزء الرابع بإذن الله وأوله الباب الرابع في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة و السلام
تأليف الإمام القرطبي

تقديم وتحقيق وتعليق الدكتور أحمد حجازي السقا

الجزء الرابع
الباب الرابع

في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم
وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم
هذا الباب يشتمل على صدر وفنين
الصدر وفيه فصلان

والفن الثاني فيه فصلان
الفصل الأول

ليست النصارى على شيء
اعلم أيها العاقل وفقك الله أن النصارى أضعف الناس عقولا وأقلهم فطنة وتحصيلا فهم لذلك يعتقدون في الله المحالات وينكرون الضروريات ويستندون في أحكامهم إلى الخرافات فتارة يسندون قضاياهم إلى منامة رأوها أو خرافة سمعوها وما وعوها وأخرى تحكم فيهم متقسس جاهل بمحض الجهل والهوى والأباطل من غير أن يستدل على جواز شيء مما يريد أن يفعل من الأفاعيل لا بتوراة ولا بإنجيل بل قد يعرض عن نصوص الكتابين ويتأولهما تأويل منسلخ عن الملين وربما تنزل بهم عظام النوازل فيجتمعون لها في المحافل فيتحكمون بأهوائهم ويقولون فيها بآرائهم فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين
ونحن نبين ذلك ونستدل عليه إن شاء الله تعالى على طريقة الإنصاف من غير اعتساف فأما كونهم يعتقدون في الله المحالات وينكرون الضروريات فقد بيناه فيما تقدم فمن أراد أن يعرف ذلك فليعد نظرا هنالك
وأما كونهم يستندون في أحكامهم إلى الترهات والمنامات فيدل عليه ما حكيناه فيما تقدم من خبر بولش فإنه احتال عليهم حتى صرفهم عن دين المسيح وقولهم من المذاهب والآراء كل قبيح فصرفهم عن قبلتهم وأحل لهم ما حرم عليهم وفرق جماعتهم وشتت كلمتهم فتم له كل مكر على كل غبي غمر وقد قدمت حديثه في باب النبوات على الوفاء وكذلك خبر قسطنطين

ابن هيلانة فإنه لما رأى ملكه يختل ونظامه لا يستقيم ولا يتحصل بإختلاف رعيته عليه وقلة إنقيادهم إليه جمع وزراؤه وشاورهم فاجتمع رأيهم أن يتعبد القوم بطلب دم وأن يشرع لهم شريعة ينسبها للمسيح فكتب لهم ما بأيديهم من الإنجيل أو أكثره وتعبدهم بالصلوبية وشرع لهم ترك الختان وغير ذلك من الأحكام التي وافقته وجاءت على اختياره وأكد ذلك بمنامة رآها ذكر فها أمر الصليب فتم له مراده فيهم وخبره معروف عندهم وعند غيرهم وقد قدمت بعضه في باب النبوات أيضا
وأما كونهم يحكمون بآرائهم وأهوائهم فيدل على ذلك ما أودعوه كتب محافلهم وما عليه الآن معظم عملهم ومن طالع تلك الكتب قضى من جهلهم وجرأتهم على الله كل عجب فإن قالوا إنما نحكم بالمصالح وهي عندنا أصل راجح قلنا لهم إن كانت المصالح عندكم أصلا تعولون عليه وتسندون أحكامكم إليه فمن الذي أصلها لكم فإن كنتم أصلتموها لأنفسكم فقد تحكمتم في الأصل والفرع ثم يلزمكم من هذا القول الإستغناء عن الشرائع وأن ما شرع الله من الأحكام في التوراة عبث لا معنى له ولا فائدة إذا في النظر في المصالح غنى عنها
وإن كان الأنبياء شرعوا لكم أصل المصالح فلا بد من الإستدلال على ذلك من كلامهم وإذا لم تستدلوا على ذلك فدعواكم باطلة وحجتكم داحضة
ثم نقول لهم هب أن الأنبياء شرعوا لكم أصل المصالح فهل شرعوا العمل بالمصالح كيف ما كانت المصلحة مطلقا أو عينوا لكم نوعا من المصالح فإن كانوا قد عينوا فينبغي لكم ألا تتعدوا ما عين لكم الأنبياء فما بالكم تسترسلون استرسال من يحكم بهواه ولا يخاف الله ولا يخشاه وإن كانوا أطلقوا لكم القول بالمصالح وقالوا لكم مهما ظهرت لكم مصلحة كائنة ما كانت فاعملوا بمقتضاها فكان يلزم على هذا اسقاط كثير من أحكام التوراة بالمصالح والرأي كما فعل بولش حيث قال لهم هل رأيتم سارحة تسرح من عند ربها ولا تخرج إلا من حيث تؤمر به قال فإني رأيت الصبح والليل والشمس والقمر والبروج إنما تجيء من ها هنا يعني الشرق وما أوجب ذلك

إلا وهو أحق الوجوه أن يصلى إليه قالوا له صدقت
فردهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال جهة الشرق لهذا الهذيان ثم قال لهم بعد زمان رأيت رأيا فلو قالوا هات قال لهم ألستم تزعمون أن الرجل إذا أهدى إلى الرجل هدية وأكرمه بالكرامة فردها شق ذلك عليه وأن الله سخر لكم ما في الأرض وجعل ما في السماء لكم كرامة فالله أحق ألا ترد عليه كرامته فما بال بعض الأشياء حرام وبعضها حلال ما بين البقة إلى الفيل حلال قالوا صدقت
وهذا محض الجراءة على الله والإفتراء على شرائع الله ولم يصر قط أحد من المتشرعين إلى مثله ويلزم عليه أن يكون كل من أراد أن يشرع شرعا شرعه فيكون العقلاء كلهم شارعين ويستغنى عن رسل رب العالمين وهذا غاية الكفر والضلال وهو لازم على مذهب أولئك الجهال فقد ظهر من هذا الفصل أنهم لا يستندون إلى شيء وأنهم ليسوا على شيء ألا إنهم هم الكاذبون

الفصل الثاني

خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل
أريد أن أبين في هذا الفصل أنهم يخالفون كتبهم ولا يعملون بمقتضاها بل يتركون العمل بها ابتداء ويقولون تأولناها
وذلك أن الله تعالى حرم في التوراة أكل الميتة والدم والخنزير والنطيحة والموقوذة والمنخنقة والقردة والشحوم التي لا تختلط باللحم والأرانب والأسد والدب واللب والفرس والبغل والحمار وكل دابة ليست مشقوقة الحافر ومن الطير البازي والعقاب وكل طير يبغي بالمخالب ومن حيوان المآكل حوت ليس له سفانق
هذا وجدناه في كتبهم التي نقلنا منها سفانق وهو تصحيف منهم وإنما هو سفاسق وهي الطرائق عند العرب ومنه قيل سفاسق السيف وهي طرائقه وفرنده ذكره أبو عبيد في الغريب المصنف
ومنع حرث الثور مع الحمار وحمل الخيل على الحمير والحمير على الخيل وطبخ الجدي في لبن أمه وأخذ الطير في أعشاشها بفراخها وأكل الجزارة المتلصقة رئتها وأكل الخبز المختمر في الفصوح ولا تقرب قربان إلا بخبز فطير ومنع شحوم البقر وشحم الشاة ومنع قربان الحمام واليمام
فهذه المذكورات كلها محرمة بنصوص التوراة التي لا تقبل التأويل إذ قد عملت أنبياء بني إسرائيل على مقتضاها ولم يغيروا شيئا منها
وكذلك عيسى عليه السلام لم يغيرها عن مقتضياتها ولا نسخها بل أقرها بالعمل وأمر بمقتضاها

أقسام الكتاب

1 2 3