كتاب : الفصل في الملل والأهواء والنحل
المؤلف : علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري

الكلام في سميع بصير وفي قديم
قال أبو محمد وأجمع المسلمون على القول بما جاء به نص القرآن من أن الله تعالى سميع بصير ثم اختلفوا فقالت طائفة من أهل السنة والأشعرية وجعفر بن حرب من المعتزلة وهشام ابن الحكم وجميع المجسمة نقطع أن الله سميع بسمع بصير ببصر وذهبت طوائف من أهل السنة منهم الشافعي وداود بن علي وعبد العزيز بن مسلم الكناني رضي الله عنهم وغيرهم إلى أن الله تعالى سميع بصير ولا نقول بسمع ولا يبصر لأن الله تعالى لم يقله ولكن سميع بذاته وبصير بذاته
قال أبو محمد وبهذا نقول ولا يجوز إطلاق سمع ولا بصر حيث لم يأت به نص لما ذكرنا آنفا من أنه لا يجوز أن يخبر عنه تعالى ما لم يخبر عن نفسه واحتج من أطلق على الله تعالى السمع والبصر بأن قال لا يعقل السميع إلا بسمع ولا يعقل البصير إلا ببصر ولا يجوز أن يسمى بصير إلا من له بصر ولا يسمى سميعا إلا من له سمع واحتجوا أيضا في هذا وما ذهبوا إليه من أن الصفات متغايرة بأنه لا يجوز أن يقال أنه تعالى يسمع المبصرات ولا أنه يبصر المسموعات من الأصوات وقالوا هذا لا يعقل
قال أبو محمد وكل هذين الدليلين شغبي فاسد أما قولهم لا يعقل السميع إلا بسمع ولا يعقل البصير إلا ببصر فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق أما فيما بيننا فنعم وكذلك أصلا لم نجد قط في شيء من العالم الذي نحن فيه سميعا إلا بسمع ولا وجد فيه بصيرا إلا ببصر فإنه لم يوجد قط أيضا فيه سميع إلا بجارحة يسمع بها ولا وجد قط فيه عالم إلا بضمير فلزمهم أن يجرو على الله تعالى هذه الأوصاف وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهم لا يقولن هذا ولا يستجيزونه وأما المجسمة فإنهم أطلقوا هذه وجوزوه وقد مضى نقض قولهم بعون الله وتأييده ويلزم الطائفتين كلتيهما إذا قطعوا بالله تعالى سمعا وبصرا لأنه سميع بصير ولا يمكن أن يكون سميع بصير إلا إذا سمع وبصر لا سيما وقد صح النص بأن له تعالى عينا وأعينا أن يقولوا أنه ذو حدقة وناظر وطباق في العين وذو أشفار وأهداب لأننا نشاهد

في العالم ولا يمكن البتة أن تكون عين الذي عين يرى بها ويبصر الا هكذا وإلا فهي عين ذات عاهة أو كعيون بعض الحيوان التي لا يطبقها وكذلك لا يكون في المعهود ولا يمكن البتة أن يكون سميع في العالم إلا بإذن ذات صماخ فيلزمهم أن يثبتوا هذا كله وإلا فقد أبطلوا استدلالهم وزودوا استشهادهم بالمعهود والمعقول فإن أطلقوا هذا كله تركوا مذهبهم وخرجوا إلى أقبح قول المجسمة وقد ذكرنا فساد قولهم قبل والحمد لله رب العالمين فإذا جوزوا أن يكون الباري تعالى سميعا بصيرا بغير جارحة وهذا خلاف ما عهدوا في العالم وجوزا أن يكون له تعالى عين بلا حدقة ولا ناظر ولا إطباق ولا أهداب ولا أشفار وهذا أيضا خلاف ما عهدوا في العالم فلا ينكروا قول من قال أنه سميع لا بسمع بصير لا ببصر وإن كان ذلك خلاف ما عهدوا واما عهدوا في العالم على أن بين القولين فرقا حرام واضحا وهو أننا نحن لم نلتزم أن نحل تسميته عز و جل قياسا على ما عهدنا بل ذلك حرام لا يجوز ولا يحل لأنه ليس في العالم شيء يشبهه عز و جل فيقاس عليه قال الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقلنا نعم أنه سميع بصير لا كشيء من البصراء ولا السامعين مما في العالم وكل سميع وبصير في العالم فهو ذو سمع وبصر فالله تعالى بخلاف ذلك بنص القرآن فهو سميع كما قال لا يسمع كالسامعين وبصير كما قال لا يبصر كالمبصرين لا يسمى ربنا تعالى إلا بما سمى به نفسه ولا يخبر عنه إلا بما أخبر به عن نفسه فقط كما قال الله تعالى هو السميع البصير فقلنا نعم هو السميع البصير ولم يقل تعالى أن له سمعا وبصرا فلا يحل لأحد أن يقول أن له سمعا وبصرا فيكون قائلا على الله تعالى بلا علم وهذا لا يحل وبالله تعالى نعتصم وأما خصومنا فإنهم أطلقوا أنه لا يكون إلا كما عهدوا من كل سميع وبصير في أنه ذو سمع وبصر فيلزمهم ضرورة أن لا يكون إلا كما عهدوا من كل سميع وبصير في أنه ذو جارحة يسمع بها ويبصر بها ولا بد ولولا تلك الجارحة ما سمى أحد من العالم سميعا ولا بصيرا ولا أبصر أحد شيئا فإن ذكروا قول الله تعالى لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون قلنا لهم وبالله التوفيق هذه الآية أعظم حجة عليكم لأن الله تعالى نص فيها على أنهم لم يروا بعيونهم ما يتعظون به ولا سمعوا بآذانهم ما يقبلونه من الهدى فلما كانت العيون والآذان لا ينتفع بها استحق الذم والنكال فلولا أن العين والأذن بهما يكون السمع والبصر ضرورة ولا بد لا بشيء دونهما ما استحق الذم من رزق إذنا وعينا سالمتين فلم يسمع بهما ويبصر ما يهتدى به بعون الله عز و جل له وما كان يكون معنى لذكر الله عز و جل العين والأذن في السمع والبصر بها لو جاز أن يكون سمع وبصر دونهما فبطل قولهم بالقرآن ضرورة وبالحس وبديهة العقل والحمد لله رب العالمين

أما مان وموهوا به من قولهم أنه لولا أنه له سمعا وبصرا لجاز أن يقال أنه تعالى يسمع الألوان ويرى الأصوات فهذا كلام لا يطلق في كل شيء على عمومه لأننا إنما خوطبنا بلغة العرب فلا يجوز أن نستعمل غيرها فيما خوطبنا به والذي ذكرتم من رواية الأصوات وسماع الألوان لا يطلق في اللغة التي خوطبنا فيما بيننا فليس لنا أن ندخل في اللغة ما ليس فيها إلا أن يأتي بذلك نص فنقلبه على اللغة ثم نقول أنه لو قال قائل أنه تعالى سميع للألوان بصير بالأصوات بمعنى عالم بها لكان ذلك جائزا ولما منع من ذلك برهان فنحن نقول سمعت الله عز و جل يقول كذا وكذا ورأينا الله تعالى يقول كذا وكذا ويأمر بكذا ويفعل كذا بمعنى علمنا فهذا لا ينكره أحد ولا فرق بين هذا وبين ما سألوا عنه وأيضا فإن الله عز و جل يقول أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكوهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير وهذا عموم لكل شيء كما قلنا فلا يجوز أن يخص به شيء دون شيء إلا بنص آخر أو إجماع أو ضرورة ولا سبيل إلى شيء من هذا فصح ما قلنا وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى يعلم السر وأخفى فصح أني بصيرا وسميعا وعليما بمعنى واحد ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أنه تعالى بإجماع منا ومنكم هو السميع البصير وهو أحد غير متكئن ولا نقول أنه السميع للألوان البصير بالأصوات إلا على الوجه الذي قلنا وليس ذلك يوجب أن السميع غير البصير فالذي أردتم إلزامه ساقطة وإنما اختلفت معلوماته وإنما هو تعالى واحد وعلمه بها كلها واحد يعلمها كلها بذاته لا يعلم هو غيره البتة وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أتقولون أن الله عز و جل لم يزل سميعا بصيرا قلنا نعم لم يزل الله تعالى سميعا بصيرا عفوا غفورا عزيزا قديرا رحيما وهذا كله ما جاء في القرآن لكان الله كما جاء كان الله سميعا بصيرا ونحو ذلك لأن قوله كان إخبار عما لم يزل إذا أخبر بذلك عن نفسه لا عمن سواه فإن قالوا أتقولون لم يزل الله خالقا خلاقا رازقا قلنا لا نقول هذا لأن الله تعالى لم ينص على أنه كان خالقا خلاقا رازقا لكنا نقول لم يزل الخلاق الرزاق ولم يزل الله تعالى لا يخلق ولا يرزق ثم خلق ورزق من خلق وهذا يوجب ضرورة أنها أسماء أعلام لا مشتقة لأنه لو كان خالق ورازق مشتقين من خلق ورزق لكان لم يزل ذا خلق يخلقه ويرزقه فإن قيل فإن السميع والبصير والرحمن والرحيم والعفو والملك كل ذلك يقتضي مسموعا ومبصرا ومرحوما ومغفورا له وعفوا عنه عدو مملوكا قلنا المعنى في سميع وبصير عن الله تعالى هو المعنى في عليم ولا فرق وليس ما يظن أهل العلم من أن له تعالى

سمعا وبصرا مختصين بالمسموع والمبصر تشبيها بخلقه سوى عمه لأن الله تعالى لم ينص على ذلك فلزمنا أن نقوله ولا يجوز أن يخبر عن الله بغير ما أخبر عن نفسه لأن الله تعالى يقول ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فصح أنه تعالى سميع ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فصح أنه تعالى سميع ليس كمثله من السامعين بصير فصح أنه تعالى سميع ليس كمثله من السامعين بصير لا كمثله شيء من البصراء فإن قال قائل أتقولون أن الله عز و جل لم يزل يسمع ويرى ويدر قلنا نعم لأن الله عز و جل قال إنني معكما أسمع وأرى وقال تعالى وهو يدرك الأبصار وقال تعالى والله يسمع تحاوركما وصح الإجماع بقول سمع الله لمن حمده وصح النص فما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن فنقول أن يسمع ويرى وأسمع وأرى ويدرك كل ذلك بمعنى واحد وهو معنى يعلم ولا فرق وأما الاذن لنبي حسن الصوت فهي من الأذن بمعنى القبول كما يأذن الحاجب لمأذون له في الدخول وليس من الأذن التي هي الجارحة ولو كان كما تظنون لكان يبصره للمبصرات وسمعه للمسموعات محدثا ولكان غير سميع حتى سمع وغير بصير حتى أبصر ولم يدرك وحاشا له تعالى من هذا فكل هذا بمعنى العلم ولا مزيد فإن قيل فإن الله تعالى يقول وربك يخلق ما يشاء ويختار قلنا نعم وخلق الله تعالى فعل له محدث واختياره تعالى هو خلقه لا غيره وليس هذا من يسمع ويبصر ويرى ويدرك في شيء لأن معنى كل هذا ومعنى العلم سواء ولا يجوز أن يكون معنى يخلق ويختار معنى العلم وأما العفو والغفور والرحيم والحليم والملك فلا يقتضي شيء من هذا وجود مرحوم معه ولا معفو عنه مغفور له معه ولا مملوك محلوم عنه معه بل هو تعالى رحيم بذاته عفو بذاته غفور بذاته ملك بذاته مع النص الوارد بأنه تعالى كان كذلك وهي أسماء أعلام له عز و جل فإن ذكروا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بينهم وبين أن يروه الاداء الكبرياء على وجهه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره ففي هذا الخبر إبطال لقولهم لأن فيه أن البصر منه ذو نهاية وكل ذي نهاية محدود محدث وهم لا يقولون هذا لكن معناه أن البصر قد يستعمل في اللغة بمعنى الحفظ قال النابغة ... رأيتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حراسا علي وناظرا ...
فمعنى هذا الخبر لو كشف تعالى الستر الذي جعل دون سطوته لأحرقت عظمته ما انتهى إليه حفظه ورعايته من خلقه وكذلك قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات إنما هو بمعنى أن علمه وسع كل ذلك يعلم السر وأخفى ثم نزيد بيانا بعون الله تعالى فنقول أن قولكم لا يعقل سميع إلا بسمع ولا بصير إلا ببصر فإن كل هذا صحيحا يوجب أن يقال أن لله سمعا وبصرا فإنه لا يعقل من له مكر إلا وهو ماكر ولا من كان

من الماكرين إلا وهو ماكر ولا يعقل أحد ممن يستهزئ إلا وهو مستهزئ ولا يعقل أحد ممن يكيد إلا وهو كياد ولا يعقل من له كيد ومكر إلا وهو كياد ومكار ولا يكون خادع إلا يسمى الخادع الخداع وذو خدائع ولا يعقل من نسي إلا وهو ناس وذو نسيان هذا هو الذي لا سبيل إلى أن يوجد في العالم خلافه وقد قال تعالى وأكيد كيدا وقال تعالى الله يستهزئ بهم وقال تعالى وهو خادعهم وقال تعالى أفأمنوا مكر الله وقال تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقال تعالى قل لله المكر جميعا وقال تعالى نسوا الله فنسيهم وقال تعالى سخر الله منهم فيلزمهم إذا سمعوا ربهم تعالى ووصفوا من طريق استدلالهم قياسهم وما شاهدوه في الحاضر عندهم أن يسموه ماكرا فيقولوا يا ماكر ارحمنا ويسموا بينهم عبد الماكر وكذلك القول في الكياد والمستهزئ والخداع والناسي والساخر وإلا فقد تناقضوا وتلاعبوا بصفات ربهم تعالى وبدينهم فإن قالوا أن هذه الصفات ذم وعيب وإنما نصفه تعالى بصفات المدح لزمهم مصيبتان عظيمتان أحدهما إطلاقهم أن الله عز و جل أخبر عن نفسه في هذه الآيات بصفات الذم والعيب وهذا كفر والثانية أن يصفوا ربهم بكل صفة مدح وحمد فيما بينهم وإن لم يأت بها نص وإلا فقد تناقضوا وقصروا فيصفوه بأنه عاقل وأنه شجاع جلد سخي حسن الأخلاق نزيه النفس تام المروءة كامل الفضائل ذو هيئة نبيل نعم المرء ويقولوا أنه تياه قياسا على أنه تعالى جبار متكبر ويقولوا أنه مستكبر فهو والمتكبر في اللغة سواء وذو تيه وعجب وذي هو ولا فرق بين هذا وبين المكر والكبرياء فيما بيننا فإن فعلوا هذا خرجوا عن الإسلام بالإجماع إلا أن يعذروا بشدة الجهل وظلمته وعماه وأن يفروا عن ذلك تركوا ما قد دانوا به من تسمية الله تعالى ووصفه بأن له سمعا وبصرا وسائر ما وصفوه تعالى به بآرائهم الفاسدة مما لم يأت به نص كقولهم قديم ومتكلم ومريد وأن له إرادة لم تزل وسائر ما اجترؤا عليه بغير برهان من الله عز و جل وأيضا فإن هذه الصفات التي منعوا منها لأنها بزعمهم صفات ذم فإن السمع والبصر والحياة أيضا صفات نقص لأنها أعراض دالة على الحدوث فيمن هي فيه فإن قالوا ليست لله تعالى كذلك قيل لهم ولا تلك الصفات أيضا إذا أطلقتموها عليه أيضا صفات ذم ولا فرق ولقد قال لي بعضهم إنما قلنا أن الله تعالى يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى وهو خادعهم على معنى أنه تعالى يقارضهم على هذه الأفعال منهم بجزاء يسمى بأسمائها فقلت لهم نعم هكذا نقول ولم ننازعك في هذا فتستريح إليه بل قلنا لكم سموه تعالى مستهزئا وكيادا وخداعا وماكرا وناسيا وساخرا على معنى أنه مقارض لهم على هذه الأفعال منهم بجزاء يسمى بأسمائها كما قلتم في يكيد ويستهزئ وينسى وهو خادعهم سواء بسواء ولا فرق وقد قلتم أن الأفعال توجب لفاعلها أسماء فعلها فسكت خاسئا وهذا ما لا إنفكاك منه وبهذا وبما ذكرنا يعارض كل من قال أننا سمينا الله تعالى عالما لنفي الجهل وقادرا لنفي العجز ومتكلما لنفي الخرس وحيا

لنفي الموت فإنهم لا ينفكون من هذا البتة وأما نحن فلولا النص الوارد بعليم وقدير وعالم الغيب والشهادة وقادر على أن يخلق مثلهم والحي لما جاز أن يسمى الله تعالى بشيء من هذا أصلا ولا يجوز أن يقال حي بحياة البتة فإن قالوا كيف يكون حي بلا حياة قلنا لهم وكيف يكون حي غير حساس ولا متحرك بإرادة ولا ساكن بإرادة هذا مالا يعقل البتة ولا يعرف ولا يتوهم وهم يجرون عليه تعالى الحس ولا الحركة ولا السكون فإن قالوا إن تسميتنا إياه حكيما يغني عن عاقل وكريما يغني عن سخي وجبارا متكبرا يغني عن متجبر ومستكبر وتياه وزاه وقويا يغني عن شجاع وجلد قلنا هذا ترك منكم لما أصلتموه من إطلاق السمع والبصر والحياة والإرادة وأنه متكلم واحتجاجكم بأن من كان سميعا فلا بد له من سمع ومن كان بصيرا فلا بد له من بصر ومن كان حيا فلا بد له من حياة ومن كان مريدا فلا بد له من إرادة ومن كان له كلام فهو متكلم فأطلقتم كل هذا على الله عز و جل بلا برهان فإن ناب عندكم ما ورد به النص من حكيم وقوي وكريم ومتكبر وجبار عن عاقل وشجاع وسخي ومتجبر ومستكبر وتياه وزاه فلم تجيزوا أن تسموا الباري عز و جل بشيء من هذا فكذلك فقولوا كما قلنا نحن أن سمعيا وبصيرا وحيا وله كلام ويريد يغني عن تجويز ذكر السمع والبصر والإرادة ومتكلم ولا فرق هذا على أن قولكم أن قويا يغني عن شجاع خطأ فرب قوي غير شجاع وشجاع غير قوي وكذلك أيضا كان الرحمن يغني عن رحيم والخالق يغني عن الباري وعن المصور فإن قالوا لا يجوز الاقتصار على بعض ما أتى به النص ولا يجوز التعدي إلى ما لم يأت به النص قلنا لهم قد اهتديتم و وفقتم لرشدكم ولقيتم ربكم تعالى بحجة ظاهرة في أنكم لم تتعدوا حدوده ولا ألحدتم في أسمائه ولا حالفتم ما أمركم به وبالله تعالى التوفيق مع أن الذي ألزمناهم هو ألزم لهم مما التزموه لأن بالضرورة نعلم نحن وهم أن الفعل لا يقوم بنفسه ولا بد له ضرورة من أن يضاف إلى فاعله فلا بد أيضا من إضافة الفاعل إليه على معنى وصفة بأن فعله هذا ما لا يقوم في العقل وجود شئ في العالم بخلاف هذه الرتبة وقد وجدنا في العالم أشياء كثيرة لا تحتاج إلى وصفها بصفة لتنفى عنها ضد تلك الصفة كالسماء والأرض لا يجوز أن يوصف منها شئ بالبصر لنفى العمى ولا بالعمي لنفى البصر فإذا لم نضطر إلى ذلك في وصف الأشياء فيما بيننا بطل قياسهم الباري تعالى على بعض ما في العالم وكان إطلاق شئ من جميع الصفات على خالق الصفات والموصوفين أبعد وأشد امتناعا إلا بما سمى به نفسه فنقر بذلك وندرى أنه حق ولا نتعداه إلى ما سواه فلا يستحي من التزم إذا وجد أشياء من العالم توصف بالحياة لنفى الموت وبالبصر لنفى العمى ولم يجر علي قياسه هذا الفاسد من أن يأتي بتسميته مستهزئا وكيادا وقد قال تعالى أنه يستهزئ ويكيد فهلا إذ وفقه الله تعالى للامساك عن تصريف الفعل هاهنا جرى علي ذلك التوفيق فلم يزد علي نص الله تعالى من سميع وبصير وحي شيئا أصلا ولكن التناقض سهل من لم يعتصم

بكتاب الله عز و جل وسنة رسوله صلى الله عليه وأستعمل رأيه وقياسه في دينه وفيما يجريه على الله تعالى نعوذ بالله من الضلال والخذلان وبهذا يبطل إلزام من أراد من المعتزلة إلزامنا أن نسمى الله تعالى مسياه لخلقه السيئات وشرير الشرور لخلقه
قال أبو محمد وقد شغب بعضهم فيما ادعوه من أن كل صفة أضافوها إلى الله تعالى فهو غير سائر صفاته بأن الله تعالى موصوف بأنه يعلم نفسه ولا يوصف بالقدرة على نفسه قالوا فلو كان العلم والقدرة واحدا لجريا في الأطلاق واحدا
قال أبو محمد وقد بينا بطلان هذا في كلامنا قبل بعون الله عز و جل ونزيد بعون الله عز و جل بيانا فنقول وبه نتأيد التغاير إنما يقع في المعلومات والمقدورات لا في القادر ولا في العالم ولا شك عندنا وعندهم في أن العلم والقدير واحد وهو تعالى عليم بنفسه ولا يقال عندهم قدير على نفسه فإذا لم يوجب هذا الحكم أن يكون القدير غير العليم فهو غير موجب أن يكون العلم غير القدرة بلا شك ثم نقول لهم أخبرونا عن علم الله تعالى بحياة زيد قبل موته وبإيمانه قبل كفره هل هو العلم بكفره وموته أو هو غير العلم بذلك فإن قالوا أن العلم بموت زيد هو غير العلم بحياته وعلمه بإيمانه هو غير علمه بكفره لزمهم تغاير العلم والقول بحدوثه وهم لا يقولون هذا وإن قالوا علمه تعالى بإيمان زيد هو علمه بكفره وعلمه بحياة زيد هو علمه بموته قيل فإذا تغاير المعلوم تحت العلم لا يوجب تغاير العلم في ذاته عندكم فمن أين أوحيتم أن تغاير المعلوم والمقدور موجب لتغاير العلم والقدرة والحقيقة من كل ذلك أنه لا حقيقة أصلا إلا الخالق تعالى وخلقه وإن كل ما لم ينص الله تعالى عليه من وصفه لنفسه ومن أسمائه فلا يحل لأحد أن يخبر عنه تعالى وإن كل ما نص الله عز و جل عليه من أسمائه وما أخبر به تعالى عن نفسه فهو حق ندين الله تعالى بالإقرار به ونعلم أن المراد بكل ذلك هو الله لا شريك له وأنها كلها أسماء يعبر بها عنه تعالى ولا يرجع منها شئ إلى غير الله تعالى البتة تعالى الله أن يكون معه شئ آخر غيره وأقر بعضهم بحضرتي أن مع الله تعالى سبعة عشر شيئا متغايرة كلها قديم لم تزل وكلها غير الله تعالى ورأيت في كتاب لبعضهم أنها خمسة عشر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وذكروا أن تلك الأشياء هي السمع والبصر والعين واليد والوجه والكلام والعلم والقدرة والإرادة والعزة والرحمة والأمر والعدل والحياة والصدق
قال أبو محمد لقد قصروا من طريق النص ومن طريق العقل أيضا عن أصولهم فأين هم عن النفس والجلال والإكرام والجبروت والكبرياء واليدين والأعين والأيدي والقدم والحمد والقوة فهذه كلها منصوص عليها كالعلم والقدوة وأين هم عن الحلم من حليم والكرم من كريم والعظمة من عظيم والتوبة من تواب والهبة من وهاب والقرب من قريب

واللطف من لطيف والسعة من واسع والشكر من شاكر و المجد من مجيد والود من ودود والقيام من قيوم وهذا كثير جدا ويتجاوز أضعاف الأعداد التي اقتصروا عليها بتحكيمهم بالضلال والإلحاد في أسمائه عز و جل وقد زاد بعضهم فيما ادعوه من صفات الذات الأستوى والتكليم والقدم والبقاء ورأيت للأشعري في كتابه المعروف بالموجز أن الله تعالى إذ قال أنك بأعيننا إنما أراد عينين وبالجملة فكل من لم يخف الله عز و جل فيما يقول ولم يستحي من الباطل لم يبال بما يقول وقد قلنا أنه لم يأت نص بلفظ الصفة قط بوجه من الوجوه لكن الله تعالى أخبرنا بأن له علما وقوة وكلاما وقدرة فقلنا هذا كله حق لا يرجع منه شيء إلى غير الله تعالى أصلا وبه تعالى نتأيد
قال أبو محمد ويقال لمن قال إنما سمي الله تعالى عليما لأنه له علما وحكيما لأن له حكمة وهكذا في سائر أسمائه وادعى أن الضرورة توجب أنه لا يسمى عالما إلا من له علم وهكذا في سائر الصفات إذا قسم الغائب بزعمكم تريدون الله عز و جل على الحاضر منكم فبالضرورة ندري أنه لا علم عندنا إلا ما كان في ضمير ذي خواطر وفكر تعرف به الأشياء على ما هي عليه فإن وصفتم ربكم تعالى بذلك الحد تم ولا خلاف في هذا من أحد وتركتم أقوالكم وأن منعتم من ذلك تركتم أصلكم في اشتقاق أسمائه تعالى من صفات فيه وأيضا فإن عليما وحكيما ورحيما وقديرا و سائر ما جرى هذا المجرى لا يسمى في اللغة إلا نعوتا وأوصافا ولا تسمى أسماء البتة وإما إذا سمى الإنسان حليما أو حكيما أو رحيما أو حيا وكان ذلك اسما له فهو حينئذ أسماء أعلام غير مشتقة بلا خلاف من أحد وكل هذه فإنما هي لله عز و جل أسماء بنص القرآن ونص السنة والاجماع من جميع أهل الاسلام قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون وقال قل ادعوا الله أو ادع الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقال تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق الباريء المصور له الأسماء الحسنى وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر ولم يختلف أحد من أهل الإسلام في أنها أسماء لله تعالى ولا في أنها لا يقال أنها نعوت له عز و جل ولا أوصاف الله ولو وجد في المتأخرين من يقول ذلك لكان قولا باطلا ومخالفة لقول الله تعالى ولا حجة لأحد في الدين دون رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا لا شك فيما قلنا فليست مشتقة من صفة أصلا ويقال لهم إذا قلتم أنها مشتقة فقولوا لنا من اشتقها فإن قالوا أن الله تعالى اشتقها لنفسه قلنا لهم هذا هو القول على الله تعالى بالكذب الذي لم يخبر به عن نفسه وقفوتم في ذلك ما لم يأتكم به علم وإن قالوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اشتقها قلنا كذبتم على رسول الله صلى الله عليه و سلم

ولقد سمى الله بها نفسه قبل أن يخلق رسوله صلى الله عليه و سلم أوحى بها إليه فقط فصح يقينا أن القول بأنها مشتقة فرية على الله تعالى وكذب عليه ونعوذ بالله من ذلك وصح بهذا البرهان الواضح أنه لا يدل حينئذ عليم على علم ولا قدير على قدرة ولا حي على حياة وهكذا في سائر ذلك وإنما قلنا بالعلم والقدرة والقوة والعزة بنصوص أخر يجب الطاعة لها والقول بها ووجدنا المتأخرين من الأشعرية كالباقلاني وابن فورك وغيرهما قالوا أن هذه الأسماء ليست لله تعالى ولكنها تسميات له وأنه ليس لله إلا اسم واحد لكنه قول إلحاد ومعارضة لله عز و جل بالتكذيب بالآيات التي تلونا و مخالفة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيما نص عليه من عدد الأسماء وهتك لإجماع أهل الإسلام عامهم وخاصهم قبل أن تحدث هذه الفرقة ومما حدثه أهل الإسلام في أسماء الله عز و جل القديم
قال أبو محمد وهذا لا يجوز البتة لأنه لم يصح به نص البتة ولا يجوز أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه وقد قال تعالى والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم فصح أن القديم من صفات المخلوقين فلا يجوز أن يسمى الله تعالى بذلك وإنما يعرف القديم في اللغة من القدمية الزمانية أي أن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة وهذا منفي عن الله عز و جل وقد أغنى الله عز و جل عن هذه التسمية بلفظة أول فهذا هو الاسم الذي لا يشاركه تعالى فيه غيره وهو معنى أنه لم يزل وقد قلنا بالبرهان أن الله تعالى لا يجوز أن يسمى بالاستدلال ولا فرق بين من قال أنه يسمي ربه جسما إثباتا للوجود ونفيا للعدم وبين من سماه قديما إثباتا لأنه لم يزل ونفيا للحدوث لأن كلا اللفظتين لم يأت به نص فإن قال من سماه جسما ألحد لأنه جعله كالأجسام قيل له ومن سماه قديما قد ألحد في أسمائه لأنه جعله كالقدماء فإن قال ليس في العالم قدماء أكذبه القرآن بما ذكرنا وأكذبته اللغة التي بها نزل القرآن إذ يقول كل قائل في اللغة هذا الشيء أقدم من هذا وهذا أمر قديم وزمان قديم وشيخ قديم وبناء قديم وهكذا في كل شيء وأما نفي خلق الإيمان فهذا أعجب ما أتوا به وهل الإيمان إلا فعل المؤمن الظاهر منه يزيد وينقص ويذهب البتة وهو خلق الله تعالى وهذه صفات الحدوث نفسها فإن قالوا أن الله هو المؤمن قلنا لهم نعم هو المؤمن المهيمن المصور فأسماؤه بذلك أعلام لا مشتقة من صفات محمولة فيه عز و جل تعالى الله عن ذلك إلا ما كان مسمى له عز و جل لفعل فعله فهذا ظاهر كالخالق والمصور فإن قلتم في هذا أيضا أنها صفات لم تزل لزمكم أنه تعالى المصور بتصوير لم يزل وهذا قول أهل الدهر المجرد وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقال بعضهم أن قولنا سميع بصير يسمع بصير ببصر حي بحياة لا يوجب تشابها ولا

يكون الشئ شبها للشيئ الا إذا ناب منا به وسد مسده
قال أبو محمد وهذا كلام في غاية السخافة لأنه دعوى بلا برهان لا من شريعة ولا من طبيعة وما اختلفت قط اللغات والطبائع والأمم في أن النسبة بين المشبهات إنما هو بصفاتها في الأجسام وبذوابها في الأعراض وقد قال الله تعالى وما من دابة في الأرض ولاطائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم فليت شعري هل قال ذو مسكة من عقل أن الحمير والكلاب والخنافس تنوب منابنا أو تسدنا وقال تعالى حاكيا عن الأنبياء عليهم السلام أنهم قالوا إن نحن إلا بشر مثلكم فهل قال قط مسلم أن الكفار ينوبنا عن الأنبياء ويسدون مسدهم وقال تعالى كأنهن الياقوت والمرجان فهل قال ذو مسكة من عقل أن الياقوت ينوب مناب الحور العين ويسد مسدهن ومثل هذا في القرآن كثير جدا وفي كلام كل أمة والعجب أنهم بعد أن أتوا بهذه العظيمة نسوا نفسهم فجعلوا التشابه في بعض الأحوال يوجب شرع الشرائع قياسا وهذا دين لم يأذن به الله تعالى فهم أبدا في الشيء وضده والبناء والهدم ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وحقيقة التماثل والتشابه هو أن كل جسمين اشتبها فإنما يشتبهان بصفة محمولة فيهما وكل عرضين فإنما يشتبهان بوقوعهما تحت نوع واحد كالحمرة والحمرة أو الحمرة والخضرة وهذا أمر يدرك بالعيان وأول الحس والعقل وبالله التوفيق

الكلام في الحياة
قال أبو محمد وقالوا أن الدليل أوجب أن الباري تعالى حي لأن أفعال الحكمة لا تقع إلا من الحي وأيضا فإنه لا يعقل إلا حي أو ميت قلنا إمكان وقوع الفعل من الميت صح وقوعه من الحي ولا بد ثم انقسم هؤلاء قسمين فطائفة قالت هو تعالى حي لا بحياة وطائفة قالت بل هو تعالى حي بحياة واحتجت أنه لا يعقل أحد حيا إلا بحياة ولم يكن الحي حيا إلا لأن له حياة ولولا ذلك لم يكن حيا قالوا ولو جاز أن يكون حي لا بحياة لجاز أن يكون حياة لا بحي وقالت الطائفة الأولى لم يكن الحي حيا لأن له حياة لكن لأنه فاعل فقط عالم قادر ولا يكون العالم القادر الفاعل إلا حيا
قال أبو محمد وكلا القولين في غاية الفساد لاتفاق الطائفتين على أن سموا ربهم تعالى حيا من طريق الاستدلال أما لنفي الموت والجمادية عنه وأما لأنه فاعل قادر عالم ولا يكون الفاعل القادر العالم إلا حيا يلزمهم أن يطردوا استدلالهم هذا وإلا فهم متناقضون وإذا طردوا استدلالهم هذا لزمهم ولا بد أن يقولوا أنه تعالى جسم لأنهم لم يعقلوا قط فاعلا ولا حكيما ولا عالما ولا قادرا إلا جسما فإذا لم يكن هذا دليلا على أنه جسم فليس دليلا على أنه حي وأيضا فإن اتفاقهم على ما ذكرنا موجب على الطائفة الأولى أن يطردوا أيضا استدلالهم وإلا فهو فاسد فنقول أنه لا يكون القادر العالم

فيما بيننا إلا ذا حياة ولا يكون حيا إلا بحياة لا يعقل غير هذا أصلا ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال إذا كان الحي لا يجب أن يقال أن له حياة من أجل أنه حي ولا أنه إذا كان حيا وجب أن يكون له حياة ولا أنه سمى الحي حيا لأن له حياة فكذلك لم يجب أن يكون الفاعل فاعلا لأنه حي لكن لأن له فعلا فقط ولا وجب أن يكون الفعل فاعلا لأنه عالم قادر لكن لأن له فعلا وكذلك المؤلف لم يسم مؤلفا لأن فيه تأليفا ولا سمى الحكيم حكيما لأحكامه الفعل ولا وجب المؤلف أن يكون محدثا للتأليف الذي فيه على أن من قال بعض هذه القضايا فهو أصح قولا ممن قال أن يكون الحي حيا لا يقتضي بذلك الاستدلال أن يكون له حياة لأننا لم نجد قط حيا الا بحياة ولا توهمنا ذلك الإ بالعقل ولا يتشكل في العقل البتة ولا يدخل في الممكن بدليل وقد وجدنا العنكبوت والنحل والخطاف تحكم أفعالها وبنائها بالطين وبالشمع مسدسا علي رتبة واحدة وبالنسج ثم لا يجوز أن يسمى شئ منها حكيما فإن قال إنما أقول أنه حي استدلالا بأنه لا يموت فقط كان قد أتى بأسخف قول وذلك يلزمه أن يقول أننا لسنا أحياء لأننا نموت وأنه لا حي في العالم لأن من قول هذا القائل أن الملائكة تموت فليس في العالم حي على قوله وقد أتى بعضهم بهذيان ظريف فقال قد وجدنا شيئا فيه حياة وليس حيا هو يد الإنسان ورجله
قال أبو محمد ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم أما علم لجاهل أن الحياة إنما هي للنفس لا للجسد وإن الحي إنما هي النفس لا الجسد اما سمع قول الله عز و جل فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وليت شعري لو عكس عليه هذا السخف فقيل له بل يد الإنسان حية ولا حياة فيها بماذا كان ينفصل من هذا الجنون المطابق لجنونه ثم إذ قد بطل قول هؤلاء فنقول بحول الله تعالى وقوته للطائفة الأخرى التي قالت انه تعالى حي بحياة استدلالا بالشاهد ما الفرق بينكم وبين من قال هو تعالى جسم لأن الأفعال لا تقع إلا من جسم وعرض فلما بطل إمكان الفعل من العرض صح وقوعه من الجسم فقط ولا بد ولما صح أن العالم لا يكون إلا جسما ذا ضمير صح أنه تعالى جسم ذو ضمير ولما صح أنه قادر والقادر لا يكون إلا جسما صح أنه جسم فبأي شيء راموا الانفصال به عكس عليهم مثله سواء بسواء في استدلالهم وما التزموه لزمهم فإن قالوا أنه تعالى اخبر أنه حي ولم يخبر أنه جسم قلنا لهم وبالله التوفيق وان الله تعالى لم يخبر بأن له حياة فإن قالوا أن الحي يقتضي أن له حياة قلنا لهم والحي يقتضي أنه جسم وهكذا أبدا فإن قالوا أنه تعالى قال وتوكل على الحي الذي لا يموت فوجب أن يكون حيا بحياة قيل لهم وإن وجب هذا فقال تعالى لا نأخذه سنة ولا نوم فقولوا أنه تعالى يقظان فإن قالوا لم ينص تعالى على أنه يقظان قيل لهم ولا نص تعالى على

أن له حياة فإن قالوا الحي يقتضي حياة قيل لهم ومن ليس نائما ولا وسنان فهو يقظان ولا فرق ويقال لهم اخبرونا ماذا نفيتم عنه تعالى بإيجاب الحياة له أنفيتم عنه بذلك الموت المعهود والمواتية المعهودة أم موتا غير معهود ومواتية غير معهودة ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا نفينا عنه الموت المعهود والمواتية المعهودة قلنا لهم أن الموت المعهود والمواتية المعهودة لا ينتفيان البتة إلا لحياة المعهودة التي هي الحس والحركة والسكون الإراديان وهذا خلاف قولكم ولو قلتموه لأبطلنا قولكم بما أبطلنا به قول المجسمة وإن قالوا ما نفينا عنه تعالى إلا موتا غير معهود ومواتية غير معهودة قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق هذا لا يعقل ولا يتوهم ولا قام به دليل ولا يجوز أن ينتفي ما ذكرتم بحياة يقتضيها اسم الحي المعقول وهكذا نقول في قولهم سميناه تعالى سميعا لنفي الصمم وبصيرا لنفي العمى ومتكلما لنفي الخرس فنسألهم هل نفيتم بذلك كله الخرس المعهود والصمم المعهود والعمى المعهود أم صمما لا يعهد وعمي غير المعهود وخرسا غير المعهود فإن قالوا نفينا المعهود من كل ذلك قلنا أن الصمم المعهود لا ينفي إلا بالسمع المعهود الذي هو بإذن سالمة والعمى المعهود لا ينتفي إلا بالبصر المعهود الذي هو حدقه سالمة والخرس المعهود لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو صوت من لسان وحنك وشفتين فإن قالوا بل نفينا من كل ذلك غير المعهود قلنا هذا لا يعقل ولا يتوهم ولا يصح به دليل ولا ينتفي بما أردتم نفيه به وأيضا فإن الباري تعالى لو كان حيا بحياة لم يزل وهي غيره لوجب ضرورة أن يكون تعالى مؤلفا مركبا من ذاته وحياته وسائر صفاته ولكان كثير إلا واحدا وهذا إبطال الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وأما قولهم إنما خاطبنا الله بما نعقل ودعواهم أن في بديهة العقول أن الفاعل لا يكون إلا عالما بعلم هو غيره حيا بحياة هي غيره قادرا بقدرة هي غيره متكلما بكلام هو غيره سميعا بسمع هو غيره بصيرا ببصر هو غيره فأنا نقول وبالله تعالى نتايدان هذه القضية كما ذكروا ما لم برهان على خلاف ذلك ثم نسألهم هل عقلتم قسط أو توهمتم نارا محرقة تنبت في الشجر المثمر وهذه صفة جهنم التي إن أنكرتموها كفرتم وهل عقلتم قط طيرا حيا يؤكل دون أن يموت أو يعاني بنار وهذه صفة الجنة التي إن أنكرتموها كفرتم ومثل هذا كثير وإنما الحق أن لا نخرج عما عهدناه وما عقلناه إلا أن يأتي برهان فإن قنعوا بهذا القدر من الدعوى فليقنعوا بمثل هذا من المجسمة إذ قالوا إنما خاطبنا الله تعالى بما نفهم ونعقل لا بما لا يعقل وقد أخبرنا الله تعالى أن له عينا ويدا ووجها وأنه ينزل ويجيء في ظلل من الغمام قالوا فكل هذا محمول على ما عقلنا من أنها جوارح وحركات وأنها جسم وأقنعوا به منهم أيضا إذ قالوا ببديهة العقل وأوله عرفنا ووجب أنه لا يكون الفاعل إلا جسما في مكان وبضرورة العقل علمنا أنه لا شيء إلا بجسم أو عرض وما لم يكن كذلك فهو عدم وإن ما لم يكن

عرضا فهو جسم والباري تعالى ليس عرضا فهو جسم ولا بد وأقنعوا بمثل هذا من المعتزلة إذ قالوا في إبطال الرؤية بضرورة العقل عرفنا أنه لا يرى إلا جسم ملون وما كان في حيز وإذ قالوا بضرورته وبديهته علمنا أن كل من فعل شيئا فإنما يوصف به وينسب إليه فلو أنه تعالى خلق الشر والظلم المنسب إليه ووصف بهما وأقنعوا بهذا من الدهرية إذ قالوا بضرورة العقل علمنا أنه لا يكون شيئا إلا من شيء أو في شيء
قال أبو محمد فكل طائفة من هذه الطوائف تدعي الباطل على العقول والحقيقة في هذا هو أن كل من ادعى في شيء ما أنه يعرف ببديهة العقل وضرورته وأوله أن ينظر في تلك الدعوى فإن كانت مما ترجع إلى الحواس المشاهدة فهي دعوى كاذبة فاسدة لأن العقول توجب أشياء لا تشكل في الحواس كالألوان التي لا يتوهمها الأعمى ولا يتشكلها بحاسة وهو موقن بها بضرورة عقله لصحة الخبر وتواتره عليه بوجودها وكالصوت الذي لا يتوهمه البتة ولا يشكله من ولد أصم أصلع وهو موقن بعقله بصحة الأصوات لتواتر الخبر عليه بصحتها وإن كانت تلك الدعوى ترجع إلى مجرد العقل دون توسط لحواس فهي دعوى صادقة وهذه الدعاوي التي ذكرنا عن الأشعرية والمجسمة والمعتزلة والدهرية فإنما غلطوا فيها لأنهم نسبوا إلى أول العقل ما أدركوه بحواسهم وقد قلنا أن العقل يوجب ولا بد معرفة أشياء لا تدرك بالحواس ولا سيما دعوى الدهرية فإنها تعارض ممثلها من أن بضرورة العقل وأوله علمنا أنه لا يمكن وجود جسم وعرض في زمان لا أول له وهذا هو الحق لا دعواهم التي عولوا فيها علي ما شاهدوا بحواسهم فقط وبالله تعالى التوفيق وأيضا فيقال لهم إذا سميتموه حيا لنفي الموت والمواتية عنه تعالى وقادرا لنفي العجز وعالما لنفي الجهل فيلزمكم ولا بد أن تسموه حساسا لنفي الخدر عنه وسماما لنفي الجسم عنه ومتحركا لنفي السكون والجمادية عنه وعاقلا لنفي ضد العقل عنه وشجاعا لنفي الجبن عنه فإن امتنعوا من ذلك كانوا قد ناقضوا في استدلالهم في تسميتهم إياه حيا عالما قادرا جوادا فإن قالوا إنه لا يجوز أن يسمي بشئ مما ذكرنا لأنه لم يأت به نص قيل لهم وكذلك لم يأت نص بأن له تعالى حين ولا بأنه إنما سمى حيا عالما قادرا لنفي أضداد هذه الصفات عنه لكن لما جاء النص بأنه تعالى يسمي الحي العالم القدير سميناه بذلك ولولا النص ما جاز لأحد أن يسمي الله تعالى بشئ من ذلك لأنه كان يكون مشبها له بخلقه لا سيما ولفظة الحي تقع في اللغة على العالم المميز بالحقائق قال تعالى لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأراد بالحي هاهنا العلم المميز بالإيمان المقر به وأيضا منهم يدعون أنهم ينكرون التشبيه ثم يركبونه أتم ركوب فيقولون لما لم يكن الفعال عندنا الا حيا عالما قادرا وجب أن يكون الباري الفاعل للأشياء حيا عالما وهذا نص قياسهم له على المخلوقات وتشبيهه تعالى بهم ولا يجوز عند القائلين

بالقياس أن يقاس الشيء إلا على نظيره وأما أن يقاس الشيء على خلافه من كل جهة وعلى ما لا يشبهه في شيء البتة فهذا ما لا يجوز أصلا عند أحد فكيف والقياس كله باطل لا يجوز وأيضا فإن الحياة التي لا يعرف أحد بالعقل حياة غيرها إنما هي الحس والبركة الإرادية ولا يعرف أحد الحي إلا بالإحساس المتحرك بإرادة وهذا أمر يعرف بالضرورة فمن أنكر ذلك فقد أنكر الحس والمشاهدة والضرورة وخرج عن أن يكلم فإن قال قائل منهم إن الموات قد يتحرك فلم يزد على أن أبان عن قوة جهله لأنه إنما قلنا الحركة الإرادية فإذا لم يفرق هذا الجاهل بين الحركة الإرادية والإضطرارية فينبغي له أن يتعلم قبل أن يتكلم وكل حركة ظهرت من غير حي فليست حركة إرادية له لكنها تحريك المحرك له أما الباري تعالى وأما من دونه ومما يبطل قولهم ضرورة أنه إنما سمى تعالى حيا لأنه عالم فأراد وجودنا أحياء كثيرة ليسوا علماء ولا قادرين كالأطفال حين ولادتهم وكالنائم المستقل وكالمخدور من المجانين وكضعاف الدود والصوداب وما لا ينتقل عن محله كالوصل وغيره وكالمريض من سائر الحيوان فهذه كلها أحياء ليس شيء منها عالما ولا قادرا فصح ضرورة أنه لا معنى للحياة يرتبط بالعلم والقدرة لمن الحق في ذلك أن بعض الأحياء عالم قادر وليس كل حي عالما قادرا ولا سبيل إلى وجود حي غير حساس ولا متحرك بإرادة فإن ذكروا المعنى عليه فذلك عائد عليهم لأنه ليس عالما ولا قادرا وأما الحس ففيه بالضرورة ولو جش جشا قويا لتألم ولأخبر بذلك عند انتباهه وكذلك الحس والحركة الإرادية باقيان لا بد في بعض أعضاء المخدور والمغمى عليه ولا بد وقد بينا الواجب في هذا وهو أنه لا يسمى الله عز و جل ولا نخبر عنه من طريق الإستدلال بإسم يشاركه فيه شيء من خلقه ولا بخبر يشاركه فيه شيء من خلقه ولكنا نقول أنه تعالى لا يجهل شيئا أصلا وهذه صفة لا يستحقها أحد دونه تعالى ونقول لا يغفل البتة ولا يضل ولا يسهو ولا ينام ولا يتحير ولا ينحل ولا يخفى عليه متوهم ولا يعجز عن مسئول عنه ولا ينسى وكل هذا فلا يستحقه مخلوق دونه تعالى أصلا ثم نفر بما جاء به القرآن والسنن كما جاء لا نزيد ولا ننقص منه ولا نحيله فنؤمن بأنه بخلاف المعهود فيما يقع عليه ذلك اللفظ من خلقه وأما لفظ الصفة في اللغة العربية وفي جميع اللغات فإنما هو عبارة عن معنى محمول في الموصوف بها لا معنى للصفة غير هذا البتة وهذا أمر لا يجوز إضافته إلى الله تعالى البتة إلا أن يأتي نص بشيء أخبر الله تعالى به عن نفسه فيؤمن به وندري حينئذ أنه اسم علم لا مشتق من صفة أصلا وأنه خبر عنه تعالى لا يراد به غيره عز و جل ولا يرجع منه إلى سواه البتة والعجب كل العجب لهم يسمون الله حيا لأنهم لم يجدوا الفعل يقع إلا من حي ثم يقولون أنه لا كالأحياء فعادوا إلى دليلهم فأفسدوه لأنهم إذا أوجبوا وقوع الفعل من حي ليس كالأحياء الذين لا تقع الأفعال إلا منهم فقد أبطلوا أن يكون ظهور الأفعال دليلا على أنها من حي كما عهدوه

وقد علمنا يقينا أن القدرة من كل قادر في العالم فإنما هي عرض فيه وأن الحياة في الحي المعهود بضرورة العقل عرض فيه أيضا وأن العلم في كل عالم في العالم كذلك وقد وافقونا على أن الباري تعالى بخلاف ذلك فإذ قد بطل أن يكون هذا موصوفا بصفة القادر فيما بيننا والعالم منا التي لولاها لم يكن العالم عالما والقادر قادرا فإن الفعل فيما بيننا لا يقع إلا من أهل تلك الصفة فقد بطل ضرورة أن يسمى الباري تعالى بإسم قادرا وعالم أو حي استدلالا بأن الفعل فيما بيننا لا يقع إلا من عالم قادر وإذ قد جوزوا وجود علم ليس عرضا وحياة ليست عرضا وهذا أمر غير معقول أصلا فلا ينكروا وجود حي لا بحياة وسميع لا بسمع وبصير لا ببصر وكل هذا خروج عن المعهود ولا فرق وإنما يستجاز الخروج عن المعهود إذا جاء به نص من الخالق عز و جل أو قام به برهان ضروري وإلا فلا ولم يأت نص قط بلفظ الحياة ولا الإرادة ولا السمع ولا البصر واحتج بعضهم في معارضة من قال أن الحي لا يكون إلا حساسا متحركا بإرادة لأننا لم نشاهد قط حيا إلا حساسا متحركا بإرادة فقال هذا المعترض أن من اتفق له أن لا يرى نباتا إلا أخضر ولا أخضر إلا نباتا فقطع بأن كل أخضر فهو نبات فقد أخطأ
قال أبو محمد فأول ما يقال له قل هذا لنفسك في استدلالك بأنك لم تر قط فعالا إلا حيا عالما قادرا ولا فرق ثم نعود بعون الله تعالى إلى بيان ما شغبوا به مما لا يعرفون الفرق بينه وبين ما يقع عليه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الأعراض تنقسم إلى قسمين أحدهما ذاتي لا يتوهم بطلانه ببطلان حامله كالحس والحركة الإرادية للحي وكذلك احتمال الموت للإنسان مع امكانية التمييز للعلوم والتصرف في الصناعات وما أشبه هذا ومن هذه الأعراض تقوم فصول الأشياء وحدودها التي تفرق بينها وبين غيرها من الأنواع التي تقع معها تحت جنس واحد فهذا القسم مقطوع على وجوده في كل ما وقع اسم حامله عليه والقسم الثاني غيري وهو ما يتوهم بطلانه ولا يبطل بذلك ما هو فيه كاجترار البعير وحلاوة العسل وسواد الغراب فإن وجد عسل مر وقد وجدناه لم يبطل بذلك أن يكون عسلا وكذلك لو وجد غراب أبيض وقد وجد لم يبطل بذلك أن يكون غرابا فمثل هذا القسم لا يقطع على أنه موجود ولا بد أبدا فهذا الفرق بين ما شغب به من النبات لأنه إن توهم النبات أحمر أو أصفر لم يبطل أن يسمى نباتا ولكنه إن توهم أن يكون النبات غير نام من الأرض ولا متغذ برطوباتها منجذبا بحر الهواء ورطوبته فإنه لا يكون نباتا أصلا وأيضا فقد قال بعضهم أنه قد يعرفه الباري حيا من لا يعرفه حساسا متحركا بإرادة قيل له وقد يعرفه حيا من لا يعرف أن له حياة وقد يعرفه جسما من لا يعرفه مؤلفا ولا محدثا وليس توهم الجهال لما توهموه من الحماقات حجة على أهل العقول والعلوم والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وبرهان ضروري وهو أن كل صفة في العالم فهي ضرورة ولا بد عرض

بين الطرفين أو أحد أذينك الطرفين وأما ذات ضد فحاملها بالضرورة قابل للأضداد فلا عالم في العالم إلا والجهل منه متوهم ولا قادر في العالم إلا والعجز منه متوهم ولا حي في العالم إلا والسكون والحركة والحس والحذر متوهمات كلها منه وقد علمنا أن الله تعالى أرحم الراحمين حقا لا مجاز من أنكر هذا فهو كافر حلال دمه وماله وهو تعالى يبتلي الأطفال بالجدري واواكل والجن والذبحة والأوجاع حتى يموتوا وبالجوع حتى يموتوا كذلك ويفجع الآباء بالأبناء وكذلك الأمهات والأحباء بعضهم ببعض حتى يهلكوا ثكلا ووجدا وكذلك الطير بألاودها وليست هذه صفة الرحمة بيننا فصح يقينا أنها أسماء الله تعالى سمى الله تعالى بها نفسه غير مشتقة من صفة محمولة فيه تعالى حاشا له من ذلك فإن قالوا أن العالم القادر الحي الأول الرحيم بخلاف هذا قيل لهم صدقتم وهذا إبطال منكم لأستدلالكم بالشاهد بينكم على تسمية الباري وصفاته
قال أبو محمد أما وصفنا الباري تعالى بأنه الواحد الأول الحق الخالق من طريق الإستدلال فإنه لا يلزمنا في ذلك شيء مما ألزمناه خصومنا لأنه قد قام البرهان بأنه خالق ما سواه وليس في العالم خالق البتة بوجه من الوجوه وقد قام البرهان على أنه تعالى واحد لا واحد في العالم غيره البتة بوجه من الوجوه وكل ما في العالم فمتكثر بإحتمال القسمة والتحري وقد قام البرهان على أنه تعالى الأول والأول في العالم البتة بوجه من الوجوه كل ما في العالم ينافي الأمل وقام البرهان بأنه تعالى الحق بذاته وأن كل ما في العالم فإنما هو محقق له تعالى وإنما كان حقا بالباري جل وعز لولاه لم يكن حقا فهذا هو البرهان الصحيح الثابت الذي لا يعارض ببرهان البتة وهذا هو نفي التشبيه ثم أننا ننفي عن الباري تعالى جميع صفات العالم فنقول أنه تعالى لا يجهل أصلا ولا يغفل البتة ولا يسهو ولا ينام ولا يحس ولا يخفى عليه متوهم ولا يعجز عن مسئول عنه لأننا قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا أن الله تعالى بخلاف خلقه من كل وجه فإذ ذلك كذلك فواجب نفي كل ما يوصف به شيء مما في العالم عنه تعالى على العموم وأما إثبات الوصف أو التسمية له تعالى فلا يجوز إلا بنص ونخبر عنه تعالى بأفعاله عز و جل فنقول أنه تعالى محي الموتى ومميت الأحياء إلا أن لا يثبت إجماع في إباحة شيء من ذلك ولولا الإجماع على إباحة إطلاق بعض ذلك ها هنا لما أجزناه ونقول أنه تعالى بكل شيء عليم لم يزل كذلك والمعنى في هذا أنه لم يزل يعلم أنه سيخلق الأشياء على حسب هيئة كل مخلوق منها لا على أن الأشياء لم تزل موجودة في علمه معاذ الله من هذا ولكن نقول لم يزل تعالى يعلم أنه سيحدث كل ما يكون شيئا إذا أحدثه على ما يكون عليه إذا كان وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ونجمع إن شاء الله تعالى ها هنا بيان الرد على من أقدم أن يسمى الله تعالى

بغير نص لكن بما دله عليه عقله وظنه أنه حسن ومدح أو استدلالا بما سمى به تعالى نفسه أو تصريفا من ذلك أو قياسا على ما شاهد من خلقه فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى سمى نفسه الرحمن الرحيم فسمه أنت الرقيق من رقة النفس التي هي الرحمة فإن قال الرحيم يغني عن ذلك قيل له نقصت أصلك لأن الحي يغني عن هذا عن أن يقال له حياة وأيضا فإن الرحمن يغني عن الرحيم فإن قال قد ورد النص به قيل له صدقت ولا تتعد ما جاء به النص وامنع ما سواه وسمى نفسه العليم فسمه الداري الحبر الفهم الذكي العارف النبيل فكل هذا مدح ومعناه في اللغة بمعنى عليم ولا فرق وسمى نفسه الكريم فسمه السخي والجواد وسمى نفسه الحكيم فسمه الناقد العاقل وسمى نفسه العظيم فسمه الفخم الضخم وسمى نفسه الحليم فسمه المحتمل الصابر الصبور الصبار وأخبر أنه قريب فسمه الداني المجاور المباشر وسمى نفسه الواسع فسمه الرحب العريض وسمى نفسه العزيز فسمه الرئيس وأخبر أنه شاكر وشكور فسمه الحامد الحماد وسمى نفسه القهار فسمه الظافر وسمى نفسه الآخر فسمه الثاني والتالي والخاتم وسمى نفسه الظاهر فسمه العارف والداري وسمى نفسه الكبير فسمه الرئيس والمتقدم وسمى نفسه القدير فسمه المطيق والمستطيع وسمى نفسه العلي فسمه العالي والرفيع والسامي وسمى نفسه البصير فسمه المعاين وسمى نفسه الجبار فسمه المتجبر الزاهي التياه وسمى نفسه المتكبر فسمه المستكبر المتعاظم المتنحي وسمى نفسه البر الزاكي المتواصل وسمى نفسه المتعالي فسمه المتعظم المترفع وسمى نفسه الغني فسمه الموسر الملي المكثر الوافر وسمى نفسه الولي فسمه الصديق المصادق الوالي الحبيب وسمى نفسه القوي فسمه الجلد النجد الشجاع الجليد الشديد الباطش وسمى نفسه الحي وأخبر أن له نفسا فسمه المتحرك الحساس واقطع له روحا بمعنى النفس وسمى نفسه السميع البصير فسمه الشمام الذواق وسمى نفسه المجيد فسمه الشريف الماجد وسمى نفسه الحميد فسمه المحمد المحمود والممدوح وسمى نفسه الودود فسمه الواد المحب الحبيب الوديد وسمى نفسه الصمد فسمه المصمت وسمى نفسه الحق فسمه الصحيح الثابت وسمى نفسه اللطيف فسمه الخفيف وذكر تعالى أن له مكرا وكيدا فقل أن له دهاء ونكرا وحسا تحليلا وخدائع فهذا كله في اللغة وفيما بيننا سواء وسمى نفسه المبين فسمه الواضح البين اللائح البادي وسمى نفسه المؤمن فسمه المسلم المصدق وسمى نفسه الباطن فسمه الخفي الغائب المتغيب وسمى نفسه الملك والمليك فسمه السلطان وصح بالسنة أنه يسمى جميلا فسمه الصبيح الحسن
قال أبو محمد فإن أبى من كل هذا نقص أصله وكذلك إن قال أن بعض ذلك يغني عن بعض لزمه إسقاط الحياة لأن الحي يغني عن ذكر الحياة على هذا الأصل ولزمه أن لا يقول أنه

متكلم لأن الكلام مغن عن ذلك ولزمه أيضا إسقاط السمع والبصر لأنه استغنى بالسميع والبصير ولزمه أيضا إسقاط ما جاء به النص إذا كان بعضه يغني عن بعض والملك يغني عن مليك أو أحد يغني عن واحد وجبار يغني عن متكبر وخالق يغني عن الباري وهكذا يسمى الله عز و جل القديم ولا الحنان ولا المنان ولا الفرد ولا الدايم ولا الباقي ولا الخالد العالم ولا الداني ولا الرائي ولا السامع ولا المعتلي ولا العالي ولا المتبارك ولا الطالب ولا الغالب ولا الضار ولا النافع ولا المدرك ولا المبدىء ولا المعيد ولا الناطق ولا القادر ولا الوارث ولا الباعث ولا القاهر ولا الجليل ولا المعطي ولا المنعم ولا المحسن ولا الحكم ولا الحاكم ولا الواهب ولا الغفار ولا المضل ولا الهادي ولا العدل ولا الرضى ولا الصادق ولا المتطول ولا المتفضل ولا المنان ولا الخبير ولا الحافظ ولا البديع ولا إلا له ولا المجمل ولا المحي ولا المميت ولا المنصف ولا بشيء لم يسم به نفسه أصلا وإن كان في غاية المدح عندنا أو كان متصرفا من أفعاله تعالى إلى أن نخبر عنه بكل هذا الذي ذكرنا بالإضافة إلى ما نذكر مع الوصف حينئذ والإخبار عن فعله تعالى فهذا جائز حينئذ فيجوز أن يقال عالم الخفيات عالم بكل شيء عالم الغيب والشهادة غالب على أمره غالب على كل من طغى ونحو هذا القادر على ما يشاء القاهر للملوك وارث الأرض ومن عليها المعطي لكل ما بأيدينا الواهب لنا كل ما عندنا المنعم على خلقه المحسن إلى أوليائه الحاكم بالحق المبدي لخلقه المعيد له المضل لأعدائه الهادي لأوليائه العدل في حكمه الصادق في قوله الراضي عمن أطاعه الغضبان على من عصاه الساخط على أعدائه الكاره لما نهى عنه بديع السموات والأرض إله الخلق محي الأحياء والموتى مميت الأحياء والموتى المنصف ممن ظلم باني الدنيا وداحيها ومسويها ونحو هذا لأن كل هذا إخبار عن فعله تعالى وهذا مباح لنا بالإجماع وهو من تعظيمه تعالى ومن دعائه عز و جل وليس لنا أن نسميه إلا بنص وكذلك نقول أن لله تعالى كيدا ومكرا وكبرياء وليس هذا من المدح فيما بيننا بل هو فيما بيننا ذم ولا يحل أن نقول أن لله تعالى عقلا وشجاعا وعفة ودهاء وفهما وذكاء وهذا غاية المدح فيما بيننا فبطل أن يراعى فيما يخبر به عن الله تعالى ما هو مدح عندنا أو ما هو ذم عندنا بل النص فقط وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على هذا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن لله تسعة وتسعين اسما مائه غير واحدة من أحصاها دخل الجنة فلو كانت هذه الأسماء التي منعنا منها جائزا أن تطلق لكانت أسماء الله تعالى أكثر من مائة ونيف وهذا باطل لأن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم مائة غير واحد مانع من أن يكون له أكثر من ذلك ولو

جاز ذلك لكان قوله عليه السلام كذبا وهذا كفر ممن أجازه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها فأسماؤه بلا شك كما هي داخلة فيما علمه آدم عليه السلام وتخصيص كلامه عليه السلام لا يحل فإذ ذلك كذلك فمن هو الذي اشتقها من الصفات فإن قالوا هو اشتقها كذبوا على الله تعالى جهارا إذ أخبروا عنه بما لم يخبر به تعالى عن نفسه وهذا عظيم نعوذ بالله منه وهذه كلها براهين كافية لمن عقل وبالله تعال التوفيق والحمد لله رب العالمين

الكلام في الوجه واليد والعين والجنب والقدم والتنزل والعزة والرحمة
والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع
قال أبو محمد قال الله عز و جل ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فذهبت المجسمة إلى الإحتجاج بهذا في مذهبهم وقال الآخرون وجه الله تعالى إنما يراد به الله عز و جل
قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته لما قدمنا من إبطال القول بالتجسيم وقال أبو الهذيل وجه الله هو الله
قال أبو محمد وهذا لا ينبغي أن يطلق لأنه تسمية وتسمية الله تعالى لا يجوز إلا بنص ولكنا نقول وجه الله ليس هو غير الله تعالى ولا نرجع منه إلى شيء سوى لله تعالى برهان ذلك قول الله تعالى حاكيا عمن رضي قوله إنما نطعمكم لوجه الله فصح يقينا أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى وقوله عز و جل أينما تولوا فثم وجه الله إنما معناه ثم الله تعالى بعلمه وقبوله لمن توجه إليه وقال تعالى يد الله فوق أيديهم وقال تعالى لما خلقت بيدي وقال تعالى مما عملت أيدينا أنعاما وقال بل يداه مبسوطتان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عن يمبن الرحمن وكلتا يديه يمين فذهبت المجسمة إلى ما ذكرنا مما قد سلف من بطلان قولهم فيه وذهبت المعتزلة إلى أن اليد النعمة وهو أيضا لا معنى له لأنها دعوى بلا برهان وقال الأشعري أن المراد بقول الله تعالى أيدينا إنما معناه اليدان وإن ذكر الأعين إنما معناه عينان وهذا باطل مدخل في قول المجسمة بل نقول إن هذا إخبار عن الله تعالى لا يرجع من ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى ونقر أن لله تعالى كما قال يدا ويدين وأيدي وعين وأعينا كما قال عز و جل لتصنع على عيني وقال تعالى فإنك بأعيننا ولا يجوز لأحد أن يصف الله عز و جل بل له

عينين لأن النص لم يأت بذلك ونقول أن المراد بكل ما ذكرنا الله عز و جل لا شيء غيره وقال تعالى حاكيا عن قول قائل قال يا حسرنا على ما فرطت في جنب الله وهذا معناه فيما يقصد به إلى الله عز وفي حنب عبادته وصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلنا يديه يمين وعن يمين الرحمن فهو مثل قوله وما ملكت أيمانكم يريد وما ملكتم ولما كانت اليمين في لغة العرب يراد بها الحظ للأفضل كما قال الشماخ ... إذا مارية رفعت لمحمد ... تلقاها عرابه باليمين ...
يريد أن يتلقاها بالسعي إلا على كان قوله وكلتا يديه يمين أي كل ما يكون منه تعالى من الفصل فهو إلا علي وكذلك صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال أن جهنم لا تملأ حتى يضع فيها قدمه وصح أيضا في الحديث حتى يضع فيها رجله ومعنى هذا ما قد بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث آخر صحيح أخبر فيه أن الله تعالى بعد يوم القيامة يخلق خلقا يدخلهم الجنة وأنه يقول للجنة والنار لكل واحدة منكما ملؤها فمعنى القدم في الحديث المذكور إنما هو كما قال تعالى إن لهم قدم صدق عند ربهم يريد سالف صدق معناه الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم ومعنى رجله نحو ذلك لأن الرجل الجماعة في اللغة أي يضع فيها الجماعة التي قد سبق في علمه تعالى أنه يملأ جهنم بها وكذلك الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عز و جل أي بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عز و جل ونعمه إما كفاية تسره وإما بلاء يأجره عليه وبالأصح في اللغة النعمة وقلب كل أحد بين توفيق الله وجلاله وكلاهما حكمة عز و جل وأخبر عليه السلام أن الله يبدو له مؤمن يوم القيامة في غير الصورة التي عرفوها وهذا ظاهر بين وهو أنهم يرون صورة الحال من الهول والمخافة غير التي يظنون في الدنيا وبرهان صحة هذا القول قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث المذكور غير الذي عرفتموه بها وبالضرورة نعلم أننا لم نعلم لله عز و جل في الدنيا صورة أصلا فصح ما ذكرناه يقينا وكذلك القول في الحديث الثابت خلق الله آدم على صورته فهذه إضافة ملك يريد الصورة التي تخيره الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصورا عليها وكل فاضل في طبقته فإنه ينسب إلى الله عز و جل كما يقول بيت الله تعالى عن الكعبة والبيوت كلها بيوت الله تعالى ولكن لا يطلق على شيء منها هذا الإسم كما يطبق على المسجد الحرام وكما نقول في جبريل وعيسى عليهما السلام روح لله والأرواح كلها لله عز و جل ملك له وكالقول في ناقة صالح عليه السلام بأنه لله والنوق كلها لله عزوجل فعلى هذا المعنى قيل على صورة الرحمن والصور كلها لله تعالى هي ملك له وخلق له وقد رأيت لابن فورك وعيره من لا أشعرية في الكلام في هذا الحديث أنهم قالوا في معنى قوله عليه السلام أن الله خلق

آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه واسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله كل ذلك
قال أبو محمد هذا نص كلام أبي جعفر السمعاني عن شيوخه حرفا حرفا وهذا كفر مجرد لا مرية فيه لأنه سوى 1 بين الله عز و جل وآدم في الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيهما والله يقول ليس كمثله شيء ثم لم يقنعوا بها حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز و جل ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن سجودهم لله تعالى سجود عبادة ولآدم سجود تحية وإكرام ومن قال أن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عز و جل فقد أشرك ثم زاد في الأمر والنهي لآدم على ذريته كما هو الله تعالى وهذا شرك لا خفاء به ولوددنا آن نعرف ما هي صفات الكمال التي ذكر هذا الإنسان أنها اجتمعت في آدم كما اجتمعت في الله عز و جل أن هذا الإلحاد والاستخفاف بالله تعالى لا ندري كيف تكلم وأنطق لسانه من يعرف أن الله تعالى لم يكن له كفوا أحد ووالله أن صفات الكمال في الملائكة لأكثر منها في آدم وأن صفات الاثنين التي شاركوا فيها آدم عليه السلام كصفات الجن ولا فرق بين الحياة والعلم والقوة والتناسل وغير ذلك فالكل على هذا على صورة الله تعالى هذا القول الملعون قائله ونعوذ بالله من الضلال وكذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم عن يوم القيامة أن الله عز جل يكشف عن ساق فيخرون سجدا فهذا كما قال الله عز و جل في القرآن
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود وإنما هو إخبار عن شدة الأمر وهو الموقوف كما تقول العرب قد شمرت الحرب عن ساقها قال جرير ... الأدب سامي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا ... والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصاح وإنما جات بما جاء به القرآن نصا ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به وقد عاب الله هذا فقال
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله
واختلف الناس في الأمر والرحمة والعزة فقال قوم هي صفات ذات لم تزل وقال آخرون لم يزل الله تعالى الله العزيز لرحمن الرحيم بذاته وأما الرحمة والأمر فمخلوقان

قال أبو محمد والرجوع عند الاختلاف إنما هو إلى القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ففعلنا فوجدنا الله تعالى يقول وكان أمر الله مفعولا والمفعول مخلوق بلا خلاف وقال تعالى والله غالب على أمره وبلا شك في أن المغلوب عليه مخلوق وأنه غير الغالب عليه وقال تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وهذا بيان جلي لا إشكال فيه على أن الأمر محدث وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله يحدث من أمره ما شاء فصح بيقين أن أمر الله تعالى محدث مخلوق وقال الأشعرية لم يزل الله تعالى آمر الكل من أمره بما يأمره به إذا وجد
قال أبو محمد وهذا باطل متيقن لأنه لو كان كذلك لكان الله تعالى لم يزل آمرا لنا بالصلاة إلى بيت المقدس لم يزل آمرنا بأن لا نصلي إلى بيت المقدس لكن إلى الكعبة فيكون آمر بالفعل للشيء والترك له معا وهذا تخليط جل الله تعالى عنه وأيضا فإنه يلزمهم في نهي الله تعالى عما نهى عنه أنه لم يزل لأنه لا فرق بين أمره تعالى وبين نهيه فإن قالوا بل نهيه محدث وأمره قديم قلنا لهم ما قولكم فيمن عكس عليكم فقال بل نهيه لم يزل وأما أمره فمحدث وكلا القولين تخليط وأيضا فإنهم مقرون بأن القديم لا يتغير ولا يبطل وقد صح أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس ثم قد بطل الأمر بذلك وعدم وانقطع فلو كان أمره تعالى لم يزل لوجب أن لا يبطل ولا يعدم وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإن قالوا أن أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس باق أبدا لم يسقط ولا نسخ ولا بطل ولا احاله تعالى بأمر آخر كفروا بلا خلاف والذي يدخل على هذا القول الفاسد أكثر من هذا وقال تعالى قل الروح من أمر ربي فلو كان الأمر غير مخلوق ولم يزل لكان الروح كذلك لأنه منه ومعاذ الله من هذا ولا خلاف بين المسلمين في أن أرواحهم مخلوقة وكيف لا يكون كذلك وهي معذبة في النار أو منعمة في الجنة وقال يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا وصح عن رسول الله صلى الله عليهوسلم سبوح قدوس رب الملائكة والروح
قال ابو محمد والمربوب مخلوق بلا شك فإن اعترض معترض بقول الله عز و جل ألا له الخلق والأمر ورام بهذا إثبات أن الخلق غير الأمر فلا حجة له في هذا لأن الله عز و جل قال يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك فقد فرق الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بين الخلق والتسوية والتعديل والتصوير ولا خلاف في أن كل هذا خلق مخلوق وقال تعالى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم فعطف تعالى الرزق والأمانة والأحياء على الخلق بلفظة ثم فلو كل عطف الأمر على الخلق دليلا على أن الأمر غير الخلق لوجب ولا بد أن يكون الرزق والأمانة والإحياء والتصوير كلها غير الخلق وغير

مخلوقات وهذا لا يقوله مسلم فبطل استدلالهم على أن الأمر غير مخلوق لعطفه على الخلق وقد عطف تعالى جبريل على الملائكة فليس العطف على الشيء مخرجا له عنه إذا قام برهان على أنه داخل فيه وقد قام برهان النص بأن أمر لله تعالى مخلوق وأنه قدر مقدور مفعول وأما إذا لم يأت برهان يدخل المعطوف في المعطوف عليه فهو غيره بلا شك هذا حكم اللغة وبالله تعالى التوفيق وأما العزة فقد قال الله تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون
قال أبو محمد والمربوب مخلوق بلا شك وليس قوله تعالى فلله العزة جميعا بموجب أن العزة لن تزل لأنه تعالى قال فلله المكر جميعا وقال تعالى قل لله الشفاعة جميعا وليس هذان النصان بلا خلاف موجبين أن الشفاعة غير مخلوق إلا أن ها هنا عزة ليست غير الله تعالى فهي غير مخلوقة وهي التي صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن جبريل عليه السلام حلف بها فقال وعزتك في حديث خلق الجنة والنار
قال أبو محمد ومن الباطل أن يحلف جبريل بغير الله عز و جل وأما الرحمة فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله خلق مائة رحمة فقسم في عباده رحمة واحدة فيها يتراحمون ورفع التسعة وتسعين ليوم القيامة يرحم بها عباده أو كما قال عليه السلام وهذا رفع للأشكال جملة في أن الرحمة مخلوقة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن إدخال الله عز و جل الجنة من أدخله فيها برحمته تعالى وأن بعثته محمدا صلى الله عليه و سلم رحمة لمن آمن به وكل ذلك مخلوق بلا شك وأما القدرة والقوة فقد قال عز و جل ألم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمذاني حدثنا إبراهيم بن أحمد البلخي حدثنا الفربري حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن بن عيسى حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن قال أخبرني جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم أصحابه الاستخارة فذكر الحديث وفيه اللهم أني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك
قال أبو محمد والقول في القدرة والقوة كالقول في العلم سواء بسواء في اختلاف الناس على تلك الأقوال وتلك الحجاج ولا فرق وقولنا في هذا هو ما قلناه هنالك من أن القدرة والقوة لله تعالى حقا وليستا غير الله تعالى ولا يقال هما الله تعالى وقال تعالى كتب على نفسه الرحمة وقال تعالى يحذركم الله نفسه فنفس الله تعالى أخبار عنه لا عن شيء غيره أصلا فإن ذكر ذاكر قول الله عز و جل حكاية عن عيسى عليه السلام أنه يقول لربه تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب قلنا هذا على ظاهره وعلى الحقيقة لأن كل غيب فهو معلوم في علم الله العليم بكل شيء فجرى الكلام على ما يتخاطب به الناس مما لا يتوصلون

إلى العبارة عما يريدون إلا به وهذا معهود من القول أن يقول القائل نفس الشيء وحقيقته يراد بذلك الشيء لا ما سواه وكذلك القول في الذات ولا فرق فقوله عليه السلام ولا أعلم ما في نفسك إنما معناه بلا شك ولا أعلم ما عندك وما في عليك وصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أخبر أن الله تعالى ينزل كل ليلة إذا بقي ثلث الليل إلى سماء الدنيا
قال أبو محمد وهذا إنما هو فعل يفعله الله تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وان تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين وهذا معهود في اللغة تقول نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علق التنزل المذكور بوقت محدد فصح أنه فعل محدث في ذلك مفعول حينئذ وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقا بزمان البتة وقد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أنه ذكر عليه السلام أن الله يأمر مالكا ينادي في ذلك الوقت بذلك وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصح ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق وأما من جعل ذلك نقلة فقد قدمنا بطلان قوله في أبطال القول بالجسم بعون الله وتأييده ولو انتقل تعالي لكان محدودا مخلوقا مؤلفا شاغلا لمكان وهذه صفة المخلوقين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقد حمد الله إبراهيم خليله ورسوله وعبده صلى الله عليه و سلم إذ بين لقومه بنقلة القمر أنه ليس ربا فقال فلما أفل قال لا أحب الآفلين وكل منتقل عن مكان فهو آفل عنه تعالى الله عن هذا وكذلك القول في قوله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وقوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر فهذا كله علي ما بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله تعالى في ذلك اليوم يسمى ذلك الفعل مجيئا وإتيانا وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال وجاء ربك إنما معناه وجاء أمر ربك
قال أبو محمد لا تعقل الصفة والصفات في اللغة التي بها نزل بها القرآن وفي سائر اللغات وفي وجود العقل وفي ضرورة الحس إلا أعراضا محمولة في الموصوفين فإذا جوزوها غير أعراض بخلاف المعهود فقد تحكموا بلا دليل إذ إنما يصار إلى مثل هذا فيما ورد به نص ولم يرد قط نص بلفظ الصفات ولا بلفظ الصفة فمن المحال أن يؤتى بلفظ لا نص فيه يعبر به عن خلاف المعهود وقال تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ثم قال تعالى فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون فلو ذكروا الأمثال مكان الصفات لذكر الله تعالى لفظة المثل لكان أولى ثم قد بين الله تعالى غاية البيان فقال فلا تضربوا لله الأمثال وقد أخبر الله تعالى بأن له المثل الأعلى فصح ضرورة انه لا يضرب له مثل إلا ما أخبر به تعالى فقط ولا يحل أن يزاد على ذلك سيء أصلا وبالله تعالى التوفيق

الكلام في المائية
قال أبو محمد ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو إلى أن لله تعالى مائية قال ضرار لا يعلمها غيره

قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن له مائية هي أنيته نفسها وأنه لا جواب لمن سأل ما هو الباري إلا ما أجاب به موسى عليه السلام إذ سأله فرعونة وما رب العالمين ونقول أنه لا جواب ها هنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا إلا ما أجاب به موسى عليه السلام لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه ولو لم يكن جوابا صحيحا تاما لا نقص فيه لما حمده الله واحتج من أنكر المائية بأن قال لا تخلو المائية من أن تكون هي الله أو تكون غيره فإن كانت غيره والمائية لم يزل فلم يزل مع الله تعالى غيره وهذا شرك وكفر قالوا وإن كانت هو هي وكنا لا نعلمها فقد صرنا لا نعلم الله عز و جل وهذا اقرار بأننا نجهله والجهل بالله تعالى كفر به وقالوا لو امكن أن تكون له مائية لكانت له كيفة
قال أبو محمد وهذا من جهلهم بحدود الكلام وبمواقع الأسماء على المسميات إذ مائية الشيء إنما هي الجواب في سؤال السائل بما هو وهذا سؤال عن حقيقة الشيء وذاته فمن أبطل المائية فقد أبطل حقيقة الشيء المسئول عنه بما هو لكن أول مراتب الإثبات فيما بيننا هي الآنية وهي إثبات وجود الشيء فقط وهذا أمر قد علمناه وأحطنا به ولا يتبعض العلم بذلك فيعلم بعضه ويجهل بعضه ثم يتلو الآنية التي هي جواب السائل فهل فيما بيننا السؤال بما هو وأما في الباري تعالى فالسؤال بما هو هو السؤال بهل وهو والجواب في كليهما واحد فنقول هو حق واحد أول خالق لا يشبهه شيء من خلقه وإنما اختلفت الآنية والمائية في غير الله تعالى لإختلاف الأعراض في المسئول عنه وليس الله تعالى كذلك ولا هو حامل أعراضا أصلا هاهنا نقف ولا نعلم أكثر ولا هاهنا أيضا شيء غير هذا إلا ما علمنا ربنا تعالى من سائر أسمائه كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه وقد أخبر تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم أن له تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد قال تعالى ولا يحيطون به علما
قال أبو محمد وهذا كلام صحيح على ظاهره إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفي عن الله عز و جل وواجب في غيره لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له فصح يقينا أننا نعلم الله عز و جل حقا ولا نحيط به علما كما قال تعالى
قال أبو محمد فالآنية في الله تعالى هي المائية التي أنكرها أهل الجهل بحقائق الأمور وبالقرآن وبالسنن نحمد الله عز و جل على ما من به علينا من تيسير الإتباع كتابة وتدبره وطلب سنن نبينا محمد صلى الله عليه و سلم والوقوف عندهما ومعرفتهما بأن العقل لا يحكم به على خالقه لكن يفهم به أوامره تعالى ويميز به حقائق ما خلق فقط وما توفيقنا إلا بالله وأما قولهم لو كانت له مائية لكانت له كيفية فكلام قوم جهال بالحقائق وقد بينا وبان لكل ذي عقل أن السؤال بما هو الشيء غير السؤال يكيف هو الشيء وأن المسؤل عنه بإحدى اللفظتين المذكورتين غير المسؤل عنه بالأخرى وأن الجواب عن إحداهما غير الجواب عن الأخرى وبيان ذلك أن السؤال بما هو إنما هو سؤال عن ذاته واسمه وأن السؤال بكيف هو إنما سؤال عن حاله وإعراضه وهذا لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى فلاح الفرق ظاهرا وبالله تعالى التوفيق

مسائل في السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم وما يخبر عنه تعالى بالقدرة عليه وكيف يصح السؤال في ذلك كله
قال أبو محمد نقول لم يزل الله تعالى عالما بأنه سيسخط على الكفار وسيرضى على المؤمنين وسيعذب بالنار من عصاه وسينعم بالجنة من أطاعه وسيعدل إذا حكم وسيصدق إذا أخبر ولم يزل عالما بأنه سيخلق ما يخلق وأنه رب ما يخلق من العالمين ومالك كل شيء ويوم الدين وأن له ملك كل ما يخلق لأن كل ما ذكرنا يقتضي وجود كل ما علق به وكل ما علق به محدث لم يكن ثم كان ولم يزل تعالى عليما بكل ذلك وأنه سيكون كل ما يكون على ما هو كائن عليه إذا كونه وأما الإرادة فقد أثبتها قوم من صفات الذات وقالوا لم تزل الإرادة ولم يزل الله تعالى
قال أبو محمد وهذا خطأ لبرهانين ضرورين أحدهما أن الله تعالى لم ينص على أنه مريد ولا على أن له إرادة وقد قدمنا البرهان فيما سلف من كتابنا على أنه لا يجوز أن يشتق لله أسماء ولا صفات وأوردنا من ذلك أنه لا يقال أنه تعالى متبارك ويقال تبارك الله ولا يقال أنه مستهزئ ويقال الله يستهزئ بهم ولا أنه عافل وكذلك لا يجوز أن يقال أنه تعالى باق ولا دائم ولا ثابت ولا سخي ولا جواد لأنه تعالى لم يسم به نفسه لكن يقال المتعالى كما قال تعالى ويقال هو الكريم الغني ولا يقال الموسر ويقال هو القوي ولا يقال الجلد ويقال لم يزل ولا زال هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولا يقال هو الخفي ولا الغائب ولا البارز ولا المشتهر ويقال هو الغالب على أمره ولا يقال هو الظافر والمعنى في كل ما ذكرنا من اللغة واحد فمن أطلق عليه تعالى بعض هذه الصفات والأسماء ومنع من بعضها فقد ألحد في أسمائه عز و جل وأقدم إقداما عظيما نعوذ بالله من ذلك وأيضا فإن الإرادة من الله تعالى 1 لو كانت لم تزل لكان المراد لم يزل بنص القرآن لأ الله عز و جل قال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فأخبر تعالى أنه إذا أراد الشيء كان وأجمع المسلمون على تصويب قول من قال ما شاء الله كان والمشيئة هي الإرادة فصح بما ذكرنا صحة لا شك فيها أن الواجب أن يقال أراد الله كما قال تعالى إذا أراد شيئا ونقول أنه تعالى يريد ما أراد ولا يريد ما لم يرد كما قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريدكم العسر وقال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وإذا أراد الله بقوم سواء وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا فنحن نقول كما قال الله تعالى أراد ويريد ولم يرد ولا يريد ولا نقول أن له إرادة ولا أنه مريد لأنه لم يأت نص من الله تعالى بذلك ولا من رسوله صلى الله عليه و سلم ولا جاء قط من أحد من السلف رضي الله عنهم وإنما أطلق هذا الإطلاق الفاحش قوم من الخوالف المسمين بالمتكلمين الخوف عليهم أقوى من رجاء

السلامة لهم لا قدم صدق لهم في الاسلام ولا في الورع ولا في الاجتهاد في الخير ولا في العلم بالقرآن ولا بسنن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا بما أجمع عليه المسلمون ولا بما اختلفوا فيه ولا بأقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ولا بحدود الكلام وحقائق مائيات المخلوقات وكيفياتها فهم يتبعون ما ترآى لهم ويقتحمون المهالك بلا هدى من الله عز و جل نعوذ بالله من ذلك وقد قال تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فنص تعالى على أن من لم يرد ما اختلف فيه إلى كتابه وإلى كلام رسوله صلى الله عليه و سلم وإلى إجماع العلماء من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجميعن ولا من سلك سبيلهم بعدهم فلم يعلم ما استنبطه بظنه ورأيه وليس ننكر الحاجة على القصد إلى تبيين الحق وتبيينه بل هذا هو العمل الفضل الحسن وإنما ننكر الإقدام في الدين بغير برهان من قرآن أو سنة أو أجماع بعد أن أوجبه برهان الحس وأول بديهه العقل والنتائج الثابتة من مقدماته الصحيحة من صحة التوحيد والنبوة فإذا ثبتا بما ذكرنا فضرورة العقل توجب الوقوف عند جميع ما قاله الرسول الذي بعثه الله تعالى إلينا وأمرنا بطاعته وأن لا يعترض عليه بالظنون الكاذبة والآراء الفاسدة والقياسات السخيفة والتقليد المهلك فإن قال قائل وما الذي يمنع من أن نقول لم يزل الله مريدا لما أراد كونه إذا كونه قلنا وبالله تعالى التوفيق يمنع من ذلك أن الله عز و جل أخبر نصا بأنه إذا أراد شيئا كونه فكان فلو كان تعالى لم يزل مريدا لكان لم يزل ما يريد وهذا إلحاد ويقال لهم أيضا وما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال لم يزل الله تعالى غير مريد لأن يخلق حتى خلق وهذا لا انفكاك منه
قال أبو محمد ولو أن قائلا يقول أن الخلق هو المراد كونه من الله تعالى فهو مراد الله تعالى وهو الإرادة نفسها وأنه لا إرادة له إلا ما خلق لما أنكرنا ذلك وإنما ننكر قول من يجعل الإرادة صفة ذات لم تزل لأنه يصف الله تعالى بما لم يصف الله تعالى به نفسه وقول من يجعلها صفة فعل وأنها غير الخلق لأنه يلزمه أن تلك الإرادة إما مرادة مخلوقة وإما غير مرادة ولا مخلوقة فإن قال هي مرادة مخلوقة قيل له أهي مرادة بإرادة هي غيرها ومخلوقة بخلق هو غيرها أم لا بإرادة ولا بخلق فإن قال هي مرادة بلا إرادة أتى بالمحال الذي يبطله العقل ولم يأت به نص فيلزمه الوقوف عنده وكذلك قوله مخلوقة بغير خلق وإن قال هي مرادة بإرادة هي غيرها ومخلوقة بخلق هو غيرها لزمه في إرادة الإرادة وخلق خلقها ما ألزمناه في الإرادة وفي خلقها وهكذا أبدا وهذا يوجب وجود محدثات لا نهاية لعددها وهذا هو قول الدهرية الذي أبطله الله تعالى بضرورة العقل والنص على ما بينا في صدر كتابنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال أن الإرادة ليست مرادة ولا مخلوقة أتي بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير مرادة محال غير موجودة لا بحس فيما بيننا ولا بدليل فيما غاب عنا فهو قول بمجرد الدعوى فهو باطل ضرورة وكذلك يلزمه أن قال أنها محدثة غير مخلوقة ما يلزم من قال أن العالم محدث لا محدث له وقد تقدم بطلان هذا القول بالبراهين الضرورية وبالله تعالى التوفيق وأما تسمية الله عز و جل جوادا سخيا أو صفته تعالى بأن له تعالى جودا وسخاء فلا يحل ذلك البتة ولو أن المعتزلة المقدمين على تسمية ربهم جوادا يكون لهم علم بلغة العرب أو يحقيقة الأسماء ووقوعها على المسميات أو بمعاني الأسماء والصفات ما أقدموا على هذه العظيمة ولا وقعوا في الائتساء

بالكفار القائلين أن علة خلق الله تعالى لما خلق إنما هي جودة حتى أوقعهم ذلك في القول بأن العالم لم يزل ولكن المعتزلة معذورون بالجهل عزرا يبعدهم عن الكفر ولا يخرجهم عن الإيمان لا عرزا يسقط عنهم الملامة لأن التعلم لهم معروض ممكن ولكن لا هادي لمن أضل الله تعالى ونعوذ الله من الخذلان
قال أبو محمد والمانع من ذلك وجهان أحدهما أنه تعالى لم يسم بذلك ولا رصف به نفسه ولا يحل لأحد أن يتعدى حدود الله لا سيما فيما لا دليل فيه إلا النص فقط والوجه الثاني أن الجود والسخاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم مرادنا إنما هما لفظان واقعان على بذل الفضل عن الحاجة لا يعبر بلفظ الجود والسخاء إلا عن هذا المعنى وهذا المعنى مبعد عن الله عز و جل لأنه تعالى لا يحتاج إلى شيء فيكون له فضل يبذله فيسمى ببذله له سخيا وجودا ويوصف من أجل بذله بجود وسخاء أو يكون بمنعه بخيلا أو شحيحا أو موصوفا ببخل أو شح
قال أبو محمد ولا يختلف اثنان من كل من في العالم في أن أمره له ماء عذب حاضر لا يحتاج إليه وطعام عظيم فاضل لا حاجة به إليه ورأى رجلا من عرض الناس أو عبدا من عبيده يموت جوعا وعطشا فلم يسقه ولا أطعمه فإنه في غاية البخل والشح والقسوة والظلم والله تعالى يرى كثيرا من عباده وأطفالا من أطفالهم لا ذنب لهم وهم يموتون جوعا وعطشا وعنده مخادع السماوات وخزائن الأرض ولا يرحمهم بنقطة ماء ولا لقمة طعام حتى يموتوا كذلك ولا يوصف من أجل ذلك بشح ولا بخل ولا ظلم ولا قسوة بل هو أرحم الراحمين والرحيم الكريم والذي لا يظلم ولا يجور كما سمى نفسه فبطل قياسهم الفاسد في الصفات الغائب عندهم على الشاهد وبطل أن يوصف الله عز و جل بشيء من ذلك وليس لأحد أن يحيل الأسماء اللغوية عن موضعها في اللغة إلا أن يأتي نص بإحالة شيء من ذلك فيوقف عنده ومن تعدى هذا الحكم فإنه مبطل للتفاهم كله نعم وللحقائق بأسرها إلا أنه لا يعجز أحد عن أن يسمى الباطل حقا والحق باطلا وأن يحيل الأسماء كلها عن مواضعها وهذا خروج عن الشرائع والمعقول ولكننا نقول أنه كريم كما قال تعالى ولا يبعد عنا أن تسمى نعم الله على عباده كرما وأن الله تعالى كريما نستحسن إطلاق ذلك ونسميها أيضا فضلا
قال الله تعالى ذلك فضل الله وقد ثبت النص بأن له تعالى كرما وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أنا إبراهيم بن أحمد أنبأنا الفربري أنا البخاري قال لي خليفة بن خياط أنا يزيد بن زريع أنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك وعن معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يزال يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قد قد بعزتك وكرمك
قال أبو محمد وقد اضطرب الناس في السؤل عن أشياء ذكروها وسألوا هل يقدر الله تعالى عليها أم لا واضطربوا أيضا في الجواب عن ذلك
قال أبو محمد ونحن مينوم بحول الله وقوته وجه تحقيق السؤال عن ذلك وتحقيق الجواب فيه دون تخليط ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى التوفيق أن السؤال إذا حقق

بلفظ يفهم السائل منه مراد نفسه ويفهم المسؤل مراد السائل عنه فهو سؤال صحيح والجواب عنه لازم ومن أجاب عنه بأن هذا سؤال فاسد وأنه محال فإنما هو جاهل بالجواب منقطع متسلل عنه وأما السؤال الذي يفسد بعضه بعضا وينقص آخره أوله فهو سؤال فاسد لم يحقق بعد وما لم يحقق السؤال عنه فلم يسائل عنه وما لم يسأل عنه فلا يلزم عنه جواب على مثله فهاتان قضيتان جامعتان وكافيتان في هذا المعنى لا يشد عنهما شيء منه إلا أنه لا بد من جواب بيان حوالته لا على تحقيقه ولا على تشكله ولا على توهمه وبالله تعالى التوفيق
ثم نحد المسؤل عنه في هذا الباب بحد جامح بحول الله تعالى وقوته فيرتفع الأشكال في هذه المسألة إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد إن الشيء المسئول عنه في هذا الباب إن كان إنما سأل السائل عن القدرة على إحداث فعل مبتدأ أو على إعدام فعل مبتدأ فالمسئول عنه مقدور عليه ولا تحاشى شيئا والسؤال صحيح والجواب عنه بنعم لازم وان كان المسؤل عنه ما لا ابتداء له فالسؤال عن تغييره أو إحداثه أو عدامه سؤال متفاسد لا يمكن السائل عنه فهم معنى سؤاله ولا تحقيق سؤاله وما كان هكذا لا يلزم الجواب عنه على تحقيقه ولا على تشكله لأن الجواب عن التشكل لا يكون إلا عن سؤال وليس ها هنا سؤال أصلا ثم نقول وبالله تعالى نتأيد إن من الواجب أن نبين بحول الله تعالى وقوته ما المحال وعلى أي معنى تقع هذه اللفظة وعماذا يعبر بها عنه فإن من قام بشيء ولم يعرف تحقيق معناه فهو في غمرات من الجهل فنقول وبالله تعالى نتأيد أن المحال ينقسم أربعة أقسام لا خامس لها أحدها محال بالإضافة والثاني محال في الوجود والثالث محال فيما بيننا في بنية العقل عندنا والرابع محال مطلق فالمحال بالإضافة مثل نبات اللحية لإبن ثلاث سنين وإحباله إمرأة وكلام الأبله الغبي في دقائق المنطق وصوغه الشعر العجيب وما أشبه هذا فهذه المعاني موجودة في العالم ممن هي ممكنة منه ممتنعة من غيرهم وأما المحال في الوجود فكا نقلاب الجماد حيوانا والحيوان جمادا أو حيوانا آخر وكنطق الحجر واختراع الأجسام وما أشبه هذا فإن هذا كله ليس ممكنا عندنا البتة ولا موجودا ولكنه متوهم في العقل متشكل في النفس كيف كان يكون لو كان وبهذين القسمين تأتي الأنبياء عليهم السلام في معجزاتهم الدالة على صدقهم في النبوة وأما المحال فيما بيننا في بنية العقل فكون المرء قائما قاعدا معا في حين واحد وكسؤال السائل هل يقدر الله تعالى علي أن يجعل المرء قاعدا لا قاعدا معا وسائر ما لا يتشكل في العقل فيما يقع فيه التأثير لو أمكن فيما دون الباري عز و جل فهذه الوجوه الثلاثة من سأل عنها أيقدر الله تعالى عليها فهو سؤال صحيح مفهوم معروف وجهه يلزم الجواب عنه بنعم إن الله قادر على ذلك كله إلا أن المحال في بنية العقل فيما بيننا لا يكون البتة في هذا العالم لا معجزة لنبي ولا بغير ذلك البتة هذا واقع في النفس بالضرورة ولا يبعد أن يكون الله تعالى يفعل هذا في عالم له آخر وأما المحال المطلق فهو كل سؤال أوجب علي ذات الباري تغييرا فهذا هو المحال لعينه الذي ينقض بعضه بعضا ويفسد آخره أوله وهذا النوع لم يزل محالا في علم الله تعالى ولا هو ممكن فهمه لا حد وما كان هكذا فليس سؤالا ولا سأل سائله عن معنى أصلا وإذا لم يسأل فلا يقتضي جوابا علي تحقيقه أو توهمه لكن يقتضي جوابا بنعم أو لا لئلا ينسب بذلك إلى وصقه تعالى بعدم القدرة الذي هو العجز بوجه أصلا وإن كنا موقنين بضرورة العقل بأن الله تعالى لم يفعله

قط ولا يفعله أبدا وهذا مثل من سأل أيقدر الله تعالى على نفسه أو على أن يجهل أو على أن يعجز أو على أن يحدث مثله أو على إحداث مالا أول له فهذه سؤالات تفسد بعضها بعضا تشبه كلام الممرورين والمجانين وكلام من لا يفهم وهذا النوع لم يزل الله تعالى يعلمه محالا ممتنعا باطلا قبل حدوث العقل وبعد حدوثه أبدا وأما المحال في العقل وهو القسم الثالث الذي ذكرنا قبل فإن العقل مخلوق محدث خلقه الله تعالى بعد أن لم يكن وإنما هو قوة من قوى النفس عرض محمول فيها أحدثه الله تعالى وأحدث رتبة على ما هي عليه مختارا لذلك تعالى وبضرورة العقل نعلم أن من اخترع شيئا لم يكن قط لا على مثال سلف ولا عن ضرورة أوجبت عليه اختراعه لكن اختار أن يفعله فإنه قادر على ترك اختراعه قادر على اختراع غيره مثله أو خلافه ولا فرق بين قدرته على بعض ذلك وبين قدرته على سائره فكل ما خلقه الله تعالى محالا في العقل فقط فإنما كان محالا مذ جعله الله تعالى محالا وحين أحدث صورة العقل لا قبل ذلك فلو شاء تعالى أن لا يجعله محالا لما كان محالا وكذلك من سأل هل يقدر الله تعالى على أن يجعل شيئا موجودا معدوما معا في وقت واحد أو جسما في مكانين أو جسمين في مكان وكل ما أشبه هذا فهو سؤال صحيح والله تعالى قادر على كل ذلك لو شاء أن يكونه لكونه ومن البرهان على ذلك ما نراه في منامنا مما لا شك فيه أنه محال في حل اليقظة ممتنع يقينا ونراه في منامنا ممكنا محسوسا مرئيا ببصر النفس مسموعا بسمعها فبالضرورة يدري كل ذي حس أن الذي حعل المحال ممكنا في النوم كان قادرا على أن يوجده ممكنا في اليقظة وكذلك من سأل هل الله تعالى قادر على أن يتخذ ولدا فالجواب أنه تعالى قادر على ذلك 1 وقد نص عز و جل على ذلك في القرآن قال الله تعالى لو أراد الله أن يتخذ ولدا اصطفى مما يخلق ما شاء وكذلك قال تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ان كنا فاعلين
قال أبو محمد ومن لم يطلق أن الله عز و جل يقدر على ذلك وحسن قوله بأن قال لا يوصف الله بالقدرة على ذلك فقد قطع بأن الله عز و جل لا يقدر اذ لا واسطة فيمن يوصف بالقدرة على شيء ما ثم وصف في شيء آخر بأنه لا يقدر عليه فقد خرج من أنه لا يقدر عليه وإذا وجب أن لا يقدر فقد ثبت أنه عاجز ضرورة عما لا يقدر عليه ولا بد ومن وصف الله تعالى بالعجز فقد كفر وأيضا فإن من قال لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال فقد جعل قدرته سبحانه وتعالى متناهية وجعل قوته عز و جل منقطعة محدودة وملزومة بذلك ضرورة أن قوته تعالى متناهية عرض وأنه تعالى فاعل بطبيعة فيه متناهية وهذا تحديد للباري عز و جل وكفر به مجرد وإدخال له في جملة المخلوقين ومعنى قولنا أن لله تعالى يقدر على المعدوم وعلى المحال إنما هو ما نبينه إن شاء الله تعالى وهو أن سؤال السائل عن المحال وعن المعدوم هو بلا شك سؤال موجود مسموع ملفوظ به فجوابنا

هو أنا حققنا أن الله تعالى قادر على أن يخلق لذلك اللفظ معنى يوجده وهذا جواب صحيح معقول وهذا قولنا وليس إلا هذا القول وقول علي الأسواري الذي يقول أن الله تعالى لا يقدر على غير ما علم أنه يفعله جملة وأما من خالفنا وخالف الأسواري فلا بد له من الرجوع إلى قولنا أو الوقوع في قول الأسواري وإن زعم لأنه متى ما وصف الله تعالى بالقدرة على شيء لم يفعله من إبراء مريض أو خلق شيء أو تحريك شيء ساكن فإنه قدر وصفه بالقدرة على إحالة علمه وتكذيب حكمه وهذا هو المحال فقد قال بقولنا ولا بد أو يقول الأسواري ولا بد وأمل كل سؤال أدى إلى القول في ذاته عز و جل فإننا نقول ن كل ما سأل عنه سائل لا نحاشى شيئا فإن الله تعالى قادر عليه غير عاجز عنه إلا أن من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها ولا يستحل النطق بها ولا يحل الجلوس حيث يلفظ بها وهي كل ما فيها كفر بالباري تعالى واستخفاف به أو بنبي من أنبيائه أو بملك من ملائكته أو بآية من آياته عز و جل قال عز و جل إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره غيره إنكم إذا مثلهم وقال عز و جل قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم
قال أبو محمد ولو أن سائلا سألنا هل الله قادر على أن يمسخ هذا الكافر قردا وكلبا لقلنا نعم ولو أنه أراد أن يسألنا هذا السؤال فيمن يلزمنا تعظيه من ملك أو نبي أو صاحب نبي أو مسلم فاضل لم يحل لنا الاستماع إليه ولكنا قد اجبناه جوابا كافيا لأن الله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشي شيئا فمن تمادى بعد هذا الجواب الكافي فإنما غرضه التشنيع فقط والتمويه وهذان من دلائل العجز عن المناظرة والانقطاع والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد والناس في هذا الباب على أقسام فمبدؤها قول من قال لا يوصف الله تعالى بالقدرة على غير ما يفعل وهو قول علي الأسواري أحد شيوخ المعتزلة واعلموا أنه لا بد لكل من منع من أن يقدر الله تعالى على محال أو على شيء بما يسأل عنه السائل فلا بد ضرورة من المصير إلى هذا القول أو ظهور تناقضه وتفاسد قوله وخروجه إلى المحال البحت الذي فر عنه بزعمه على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد وقد قالت طائفة بمعنى هذا القول إلا أنها استشنعت عبارة الأسواري فقالت أن الله تعالى قادر على كل شيء ولكن إن سألنا سائل فقال أيقدر الله تعاى على أمر كذا مع تقدم علمه بانه لا يكون قالوا فالجواب أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك
قال أبو محمد وهذا لإخفاء لأنهم أوجبوا قدرته وأعدموها على شيء واحد وهو الباطل بلا خفاء وقالت طائفة أن الله تعالى قادر على غير ما فعل إلا أنه لا يوصف بالقدرة على أصلح مما فعل بعباده وهو قول جمهور المعتزلة وقالت طائفة أن الله تعالى قادر على غير ما فعل إلا أنه لا يقدر على الظلم ولا على الجور ولا على اتخاذ الولد ولا على إظهار معجزة على يد كذاب ولا على شيء من المحال ولا على نسخ التوحيد وهذا قول النظام وأصحابه والأشعرية وإن كانوا مختلفين في مائية الظلم وقالت طائفة أن الله تعالى قادر على غير ما فعل وعلى الجور والظلم والكذب إلا أنه لا يقدر على المحال مثل أن يجعل الشيء

معدوما موجودا معا وقائما قاعدا معا أو في مكانين معا وهذا قول البلخي وطوائف من المعتزلة
قال أبو محمد والذي عليه أهل الإسلام كلهم ومن سلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قبل أن تحدث هذه الضلالات وهذا الإقدام الشنيع الذي لولا ضلال من ضل به ما انطلقت ألسنتنا به ولا سمحت أيدينا بكتابته ولكنا نحكيه حكاية الله ضلال من ضل فقال المسيح ابن الله والعزيز إبن الوليد ويد الله مغلولة والله فقير ونحن أغنياء وإذ قال للإنسان أكفر وكما أنذر رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن الناس لا يزالون يتساءلون فيما بينهم حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فقول أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم قبل ما ذكرنا هو أن الله تعالى فعال لما يشاء وعلى كل شيء قدير وبهذا جاء القرآن وكل مسئول عنه وإن بلغ الغاية من المحال فهم أو لم يفهم فالله تعالى قادر عليه
قال أبو محمد وقال لي بعضهم أن القرآن نما جاء بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ونحن لا ننكر هذا وإنما نمنع من أن يوصف الله تعالى بالقدرة على ما لا يشاء وبالقدرة على ما ليس بشيء فقلت له قد قال الله تعالى يرزق من يشاء ويقدر فعم عز و جل ولم يخص فلا يحل لأحد تخصيص قدرته تعالى أصلا وقال تعالى قل إن الله قادر على أن ينزل آية وقال تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين وقال تعالى إنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون وقال تعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون وقال تعالى أوليس الذي خلق السوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وقال تعالى عن نوح النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا مع قوله تعالى إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن قال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم وقال تعالى عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجا خير منكن فهذا نص على أن يفعل خلاف ما سبق علمه من هدى من علم أن لا يهديه ومن تعذيب من علم أنه لا يعذب أبدا وتبديل أزواج قد علم أنه لا يبدلهن أبدا وكل هذا نص على قدرته على إبطال علمه الذي لم يزل وعلى تكذيب قوله الذي لا يكذب ابدا ومثل هذا في القرآن كثير فمن أعجب قولا وأتم ضلالة ممن يوجب بقوله أن الله تعالى كذب وأنه تعالى مع ذلك غير قادر على الكذب مع قوله تعالى عند مليك مقتدر وقال تعالى هو العليم القدير وقوله تعالى وكان الله عليما قديرا فأطلق تعالى لنفسه القدرة وعم ولم يخص فلا يجوز تخصيص قدرته بوحه من الوجوه قال أبو محمد فإن قال قائل فما يؤمنكم إذ هو تعالى قادر علىالظلم والكذب والمحال من أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ولا تصح ويكون كل ما أخبرنا به كذبا
قال أبو محمد وجوابنا في هذا هو أن الذي أمننا من ذلك ضرورة المعرفة التي قد وصفها الله تعالى في نفوسنا كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من اثنين وأم المميز مميز والأحمق أحمق وأن النحل لا يحمل زيتونا

وأن الحمير لا تحمل جمالا وأن البغال لا تتكلم في النحو والشعر والفلسفة وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورة وإلا فليخبرونا ما الذي أمنهم ما ذكرنا ولعله قد كان أو سيكون ولا فرق فإذ قد صح إطباق كل من يقر بالله من جميع الملل أن هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه مع موافقته أكثر المخالفين لنا على أن هذا كله فإن الله تعالى قادر عليه ولكن لا يفعله فالذي أمنهم من أنه تعالى يفعله هو الذي أمننا من أن نفعل ما قالوا لنا فيه لعله قد فعله أو سيفعله ولا فرق وأن هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه وأنه تعالى لا يجور ولا يكذب وبالضرورة الموجبة علمنا القول بحدوث العالم وبأن له صانعا لا يشبهه لم يزل وبأن ما ظهر من الأنبياء عليهم السلام فمن عنده تعالى وأن تلك المعجزات موجبة تصديقهم وهم أخبرونا أن الله تعالى لا يكذب ولا يظلم وأنه تعالى قد أخبرنا بأنه قد تمت كلماته صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وأنه تعالى قادر وليس كل ما يقدر عليه يفعله فإن كان السائل من هذا متدينا بدين الإسلام أو النصارى أو اليهود أو المجوس أو الصابئين أو البراهمة أو كل من يدين بأن الله حق فإنهم مجمعون على أنه تعالى لا يكذب ولا يظلم وكل من نفى الخالق فليس فيهم أحد يقول أنه يظلم أو يكذب فقد صح إطباق جميع سكان الأرض قديما وحديثا لا نحاشى أحدا على أن الله تعالى لا يظلم ولا يكذب فلو لم يكونوا مضطرين إلى القول بهذا لوجد فيهم ولو واحد يقول بخلاف ذلك ومن المحال أن تجتمع طبائعهم كلهم على هذا الا لضرورة وضعها الله عز و جل في نفوسهم كضرورتهم إلى معرفة ما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وأيضا فنقول لمن سأل هذا السؤال أيمكن أن يكون إنسان في الناس قد توسوس وأوهمته ظنونه الكاذبة وتخيله الفاسد وهوسه أن الأشياء على خلاف ما هي عليه وأن الناس على خلاف ما هم عليه ويتصور عنده هذا الظن الفاسد أنه حق لا يشك فيه أم ليس يمكن أن يكون هذا في العالم فإن قالوا لا يمكن أن يكون هذا العالم أتوا بالمحال البحت وكابروا وإن قالوا بل هو ممكن موجود في الناس كثير من هذه صفته قيل لهم فما يؤمنكم من أن تكونوا بهذه الصفة ونقول لمن يؤمن بالله العظيم منهم أيقدر الله تعالى على أن يحيل حواسك كما فعل بصاحب الصفراء الذي يجد العسل مرا كالعلقم وبصاحب ابتداء الماء النازل في عينيه فيرى خيالات لا حقيقة لما وكمن في سمعه آفة فهو يسمع طنينا لا حقيقة له أم لا يقدر فإن قالوا يقدر له فما يؤمنك من أنك بهذه الصفة فإن قال أن كل من يحضرني يخبرني بأن لست من أهل هذه الصفة قيل له وهكذا يظن ذلك الموسوس ولا فرق فإنه لا بد أن يقول إني أرى أني بخلاف هذه الصفة ضرورة علما يقينا قلنا له بمثل هذا سواء بسواء أمنا أن يكون الله يظلم أو يكذب أو يحيل طبيعة لغير نبي يفعل المحال مع قدرته على ذلك ولا فرق
قال أبو محمد ويقال لجميع هذه الفرق حاشا من قال بقول على الأسوارى هل شنعتم على الأسواري لأنه إذا وصف الله تعالى بأنه لا يقدر على غير ما فعل فقد وصفه تعالى بالعجز ولا بد فلا بد من نعم فيقال لهم فإن هذا نفسه لازم لكم في قولكم بأنه لا يقدر على الظلم والكذب ولا على المحال ولا على نفسه أولا أصلح مما فعل بعباده ضرورة لا ينفكون من ذلك فإن قلتم أن هذا لا يلزمنا قيل لكم ولا يعجز على الأسواري عن أن يقول أيضا أن هذا لا يلزمني وهذا لا انفكاك منه ويقال لهم إذا أخبر الله عز و جل أنه سيقيم الساعة وسيميت زايدا يوم

كذا يقدر أن لا يميته في ذلك اليوم وعلى أن يميته قبل ذلك اليوم أم لا فإن قالوا لا لحقوا بقول الأسواري وإن قالوا نعم أقروا أنه يقدر على تكذيب قوله وهذا هو القدرة على الكذب التي أبطلوا ونسائهم أيضا إذ أمرنا الله تعالى بالدعاء ومنه ما قد علم أنه لا يجيب الداعي به هل أمرنا بالدعاء من ذلك فيما لا يستطيع ولا يقدر عليه أم فيما يقدر عليه فإن قالوا فيما لا يقدر عليه لحقوا بالأسواري وأوجبوا على الله تعالى القول بالمحال إذ زعموا انه أمرنا بأن نرغب إليه في أن يفعل ما لا يقدر عليه تعالى الله عن ذلك وإن قالوا بل فيما يقدر عليه أقروا أنه يقدر على إبطال علمه والذي يدخل هذا الذي هو الكفر المجرد من إبطال دلائل التوحيد وإبطال حدوثه العالم وخلاف الإجماع غير قليل فإن قال على الأسواري لا يلزمني إثبات العجز بنفي القدرة بل أنفى عنه الأمرين جميعا كما قلتم أنتم إن نفيكم عنه تعالى الحركة لا يلزمه السكون ونفي السكون لا يلزمه الحركة كما تنفون عنه الضدين جميعا من الشجاعة والجبن وسائر الصفات التي نفيتموها وأضدادها
قال أبو محمد فنقول وبالله التوفيق أن هذا تمويه ضعيف لأننا نحن في نفي هذه الصفات عنه تعالى جارون على سنن واحد في نفي جميع صفات المخلوقين عنه كلها وأنتم قد أثبتم له قدرة على أشياء ونفيتم عنه قدرة على غيرها فوجب ضرورة إثبات العجز عنه في الأشياء التي وصفتموه بعدم القدرة عليها وأما نحن فلو وصفناه بالشجاعة في شيء أو بالحركة في وجه ما أو وصفناه بالعقل في شيء ما ثم نفينا عنه الصفات في وجه آخر للزمنا حيث وصفناه بشيء منها نفى ضدها وللزمنا حيث نفينا عنه ضدها أن نثبتها له ولا بد كما فعلنا في الرحمة والسخط فإننا إذا وصفناه بالرحمة لأبي بكر الصديق فقد نفينا عنه عز و جل السخط عليه وإذا نفينا عنه الرحمة لأبي جهل فقد أثبتنا له بذلك السخط عليه وهذا برهان ضروري فإن موه مموه فقال ألستم تقولون أن الله تعالى لا يعلم الحي ميتا فهل تثبتون له بنفي العلم ها هنا الجهل قلنا له وهذا أيضا تمويه آخر بل أوجبنا له بذلك العلم حقا لأننا إذا نفينا عنه العلم ما الأشياء فقد أثبتنا له تعالى العلم بحقيقة ما الأشياء وهل ها هنا شيء يجهل أصلا وإنما الجهل بشيء حق الجاهل به فقط
قال أبو محمد وقد قلنا لمن ناظرنا منهم أنكم تنسبون لله تعالى علما لم يزل فأخبرونا هل يقدر الله تعالى على أن يميت اليوم من علم أنه لا يميته إلا غدا وهل يقدر ربكم على أن يزيل الآن بنية عن مكان قد علم أنها لا تزول عنه إلا غدا وعلى رحمة من مات مشركا مع قوله تعالى أنه لا يرحمه أصلا أم لا يقدر على ذلك فقال لنا منهم قائل أن الله تعالى قادر على ذلك فقلنا له قد أقررتم أنه يقدر على إحاطة علمه الذي لم يزل وعلى تكذيب كلامه وهذا إبطال قولكم صراحا وقال منهم قائلون أنه تعالى قادر على ذلك ولو فعله لكان قد سبق في علمه أنه سيكون كما فعل فقلنا لهم لم نسألكم إلا هل يقدر على ذلك مع تقدم علمه أنه لا يكون فضجروا ها هنا وانقطعوا ولجأ بعضهم إلى القطع بقول على الأسواري في أنه لا يقدر على ذلك فقلنا لهم إذا كان تعالى لا يقدر على شيء غير ما فعل ولا على نقل بنية عن موضعها فهو إذا مضطر مجبر أو ذو طبيعة جارية على سنن واحد نعم ويلزم الأسواري ومن قال بقوله ان استطاعة الله ليست قبل فعله البتة وإنما هي مع فعله ولا بد لأنه لو كان مستطيعا قبل الفعل لكان قادرا على أن يفعل في الوقت الذي علم أنه لا يفعل فيه وهذا خلاف قوله نصا وهو يقول أن الإنسان

مستطيع قبل الفعل فهو أتم طاقة وقدرة من الله تعالى ويلزمه أيضا القول بحدوث قدرة الله تعالى ولا بد إذ لو كانت قدرته لم تزل لكان قادرا على الفعل قبل أن يفعل ولا بد وهذا خلاف قوله وهذا كفر مجرد إذ يقول أن الإنسان قادر على غير ما علم الله تعالى أن يفعله والله تعالى لا يقدر على ذلك فإن هؤلاء جمعوا إلى تعجيز ربهم القول بأنهم أقوى منه وهذا على أشد ما يكون من الكفر والشرك والحماقة
قال أبو محمد وكلهم يقول بهذا المعنى لأن جميعهم يقول أن كل مخلوق فهو قادر على كل ما يفعله من اتخاذ ولد وحركة وسكون وغير ذلك وأن الباري لا يقدر على شيء من ذلك وهذا كفر وحش جدا
قال أبو محمد وسألناهم أيضا فقلنا لهم أتقرون أن الله تعالى لم يزل قادرا على أن يخلق أم تقولون أنه لم يزل غير قادر على أن يخلق ثم قدر فقول كل من لقينا منهم وقول جميع اهل الإسلام أن الله عز و جل لم يزل قادرا على أن يخلق
قال أبو محمد وهم وجميع أهل الإسلام منكرون على من قال من أهل الإلحاد أن الله تعالى لم يزل خالقا قاطعون بأن لم يزل يخلق محال متفاسد
قال أبو محمد صدقوا في ذلك إلا أنهم إذ أقروا أن قول من قال أنه لم يزل يخلق محال وأقروا أنه لم يزل قادرا على ذلك فقد أفروا بصحة قولنا وأنه تعالى قادر على المحال ولا بد من هذا والكفر والقول بأنه تعالى لم يزل غير قادر والحمد لله على هداه لنا إلى الحق
قال أبو محمد وسألناهم أيضا فقلنا لهم هل يجوز عندكم أن يدعى الله تعالى في أن يفعل ما لا يقدر على سواه أو في أن لا يفعل ما لا يقدر على فعله فإن قالوا نعم أتوا بالمحال وإن قالوا لا يجوز ذلك قيل لهم فقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه فنقول رب احكم بالحق ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وهو عندكم لا يقدر على الحكم بغير الحق ولا أن يحملنا ما لا طاقة لنا به
قال أبو محمد ومن عجائب الدنيا أنهم يسمعون الله تعالى يقول وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله وأن الله ثالث ثلاثة وأن الله هو المسيح بن مريم والله فقير ونحن أغنياء ويد الله مغلولة وكمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ولا يشك مسلم في أن هذا كله كذب فأي حماقة أشنع من قول من قال أن الله قادر على أن يقول كل ذلك حاكيا ولا يقدر أن يقوله من غير أن يقول ما قيل هذه الأقوال من إضافتها إلى غيره وهذا قول يعني ذكره وسخافته عن تكلف الرد عليه
قال أبو محمد ثم سالناهم فقلنا لهم من أين علمتم أن الله تعالى لا يقدر على الكذب أو المحال أو الظلم أو غير ما فعل فلم تكن لهم حجة أصلا إلىأن قالوا لو قدر على شيء من ذلك لما أمنا أن يكون فعله أو لعله سيفعله فقلنا لهم ومن أين أمنتم أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فلم تكن لهم حجة أصلا إلا أن قالوا لأنه لا يقدر على فعله
قال أبو محمد فحصل من هذا أن حجتهم أنه تعالى لا يقدر على الظلم والكذب والمحال وغير ما فعل أنه لا يقدر على شيء من ذلك فاستدلوا على قولهم بذلك القول نفسه وهذه سفسطة تامة وحماقة ظاهرة وجهل قوي لا يرضى به لنفسه إلا سخيف العقل ضعيف الدين فلا ضرورة من أن يرجعوا إلى قولنا في أنه بالضرورة علمنا أنه تعالى لا يفعل شيئا من ذلك كما

علمناأن زريعة العنب لا يخرج منها الجوز وأن ماء الفرس لا يتولد منها جمل
قال أبو محمد وأما نحن فإن برهاننا على صحة قولنا أن البرهان قد قام على أنه تعالى لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء والخلق عاجزون عن شيء كثير من الأمور والعجز من صفة المخلوقين فهو منفي عن الله عز و جل حملة وليس في الخلق قادر بذاته على كل مسئول عنه فوجب أن الباري تعالى هو الذي يقدر على كل مسئول عنه وكذلك الكذب والظلم من صفات المخلوقين فوجب يقينا أنهما منفيان عن الباري تعالى فهذا هو الذي آمننا من أن يظلم أو يكذب أو يفعل غير ما علم أنه يفعله وإن كان تعالى قادرا على ذلك وقلنا لهم أيضا إذا كان عز و جل لا يوصف بالقدرة على إبطال علمه فكان لا يوصف بالقدرة على إماتته اليوم من علم أنه لا يميته إلا غدا لأنه لا قدرة له على ذلك ولو كان له على ذلك قدرة لوصف بها فإذا جاء غد فأماته فله قدرة على إماتته حينئذ فقد حدثت له قدرة بعد أن لم تكن وهذا يوجب آن قدرته تعالى حادثة 1 وهذا خلاف قولهم
قال أبو محمد وفي هذا أيضا محال آخر وهو أنه إذا حدثت له قدرة بعد أن لم تكن فمن أحدثها له أهو أحدثها لنفسه ام غيره أحدثها له أم حدثت بلا محدث فإن قالوا هوأحدثها لنفسه سئلوا بلا قدرة وأحدث لنفسه القدرة أم بقدرة أخرى فإن قالوا أحدث لنفسه قدرة بلا قدرة أتو بالمحال وإن قالوا بل بقدرة أثبتوا قدرة لم تزل بخلاف قولهم وإن قالوا غيره أحدثها له أو حدثت بلا محدث لحقوا بقول الدهرية وكفروا وفي قولهم هذا من خلاف المعقول وخلاف القرآن وخلاف البرهان ما يضيق به نفوس المؤمنين والحمد لله علىمعافاته لنا مما ابتلاهم به وقالوا لو فعل تعالى كل ذلك كيف كان يسمى فقلنا هذا سؤال سخيف عما لا يكون أبدا وهو كمن سأل لو طار الإنسان كم ريشة كانت تكون له وماأشبه هذا من الحماقة المأمون كونها ونسمية الباري تعالىإليه لا إلينا وبالله تعالى التوفيق وقال أبو الهذيل العلاف أن لما يقدر الله تعالى عليه كلا وآخرا كما له أول فلو خرج آخره إلى الفعل ولا يخرج لم يكن الله تعالى قادرا على شيء أصلا ولا على فعل شيء بوجه من الوجوه وقال عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ما نعلم أحدا يعتقد هذا اليوم إلا يحي بن بشر الإرجاني وادعى أن أبا الهذيل تاب عن هذا القول
قال أبو محمد وهذا كفر مجرد لا خفاء به لأنه يجوز على ربه تعالى الكون في صفة الجماد أو المحذور المفلوج مع صحة الإجماع

على خلاف هذا القول الفاسد مع خلافه للقرآن ولموجب العقل وبديهته كذا عنده وأظنه لقد شبهه تعالى بالمخلوقين
قال أبو محمد وأما الأسواري فجعل ربه تعالى مضطرا بمنزلة الجماد ولا فرق لا قدرة له على غير ما فعل وهذه حال دون حال البق والبراغيث واما ابو الهذيل فجعل قدرة ربه تعالى متناهية بمنزلة المختارين من خلقه وهذا من التشبيه حقا وأما النظام والأشعرية فكذلك أيضا وجعلوا قدرة ربهم تعالى متناهية يقدر على شيء ولا يقدر على آخر وهذه صفة أهل النقص وأما سائر المعتزلة فوصفوه تعالى بأنه لا نهاية لما يقدر عليه من الشر وإن قدرته على الخير متانهية وهذه صفة شر وطبيعة خبيثة جدا نعوذ بالله منها إلا بشر بن المعتمر فقوله في هذا كقول أهل الحق وهو أن لا تتناهي قدرته أصلا والحمد لله رب العالمين

بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في الرؤية
قال أبو محمد ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان إلى أن الله تعالى لا يرى في الآخرة وقد روينا هذا القول عن مجاهد وعذرة في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه وروينا هذا القول أيضا عن الحسن البصري وعكرمة وقد روى عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا والآخرة وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا أصلا وقال الحسن بن محمد النجار هو جائز ولم يقطع به
قال أبو محمد اما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين وعمدة من أنكر أن الرؤيا المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عز و جل وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منهم لأننا لم نقل قط يتجويز هذه الرؤية على الباري عز و جل وإنما قلنا أنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله تعالى وقد سماها بعض القائلين بهذا القول الحاسة السادسة وبيان ذلك أننا نعلم الله عز و جل بقلوبنا علما صحيحا هذا ما لا شك فيه فيضع الله تعالى في الإبصار قوة تشاهد بها الله وترى بها كالتي وضع في الدنيا في القلب وكالتي وضعها الله عز و جل في أذن موسى صلى الله عليه و سلم حتى شاهد الله وسمعه مكلما له واحتجت المعتزلة بقول الله عز و جل لا تدركه الأبصار
قال ابو محمد هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك والإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة وليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة برهان ذلك قول الله عز و جل فلما ترآى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين
ففرق الله عز و جل بين الإدراك والرؤية فرقا جليا لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله فلما ترآى الجمعان وأخبر تعالىأنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤيا لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم كلا إن معي ربي سيهدين فأخبر الله تعالى أنه رأى أصحاب

فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا شك في أن ما نفاه الله تعالى عز و جل فهو غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي فقال أن إلى ها هنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة
قال أبو محمد وهذا بعيد لوجهين أحدهما ان الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت لها النضرة وهي النعمة والنعمة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها وإنما ينتظر ما لم يقع بعد والثاني تواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون وقال بعضهم أن معناها إلى ثواب ربها ناظرة أي منتظرة
قال أبو محمد هذا فاسد جدا لأنه لا يقال في اللغة نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته
قال أبو محمد وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله فإن قال قائل أن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود قيل له الأولى في ذلك حمل الأمور علىمعهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضرورة لم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير وأنه لا فعال إلا بمعاناة ولا رحيم إلا برقة قلب ثم أجمعوا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير وأنه عز و جل فعال بلا معاناة ورحيم بلا رقة فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرنا وبين تجويزهم رؤية ونظرا بقوة غير القوة المعهودة لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك وقد قال بعض المعتزلة أخبرونا إذا رؤى الباري أكله يرى أم بعضه
قال أبو محمد وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذ سألونا نحن والمعتزلة فقالوا إذا علمتم الباري تعالى أكله تعلمونه أم بعضه
قال أبو محمد وهذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلا وبعضا حيث لا كل ولا بعض والكل والبعض لا يقعان إلا في ذي نهاية والباري تعالى خالق النهاية والمتناهي فهو عز و جل لا متناه ولا نهاية فلا كل له ولا بعض
قال أبو محمد والآية المذكورة والأحاديث الصحاح مأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباع ديا الناقلين لها ورؤية الله عز و جل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا أحرمنا الله ذلك بفضله ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك فإن قال قائل إنما أخبر تعالى بالرؤية عن الوجه قيل وبالله تعالى التوفيق معروف في اللغة التي بها خوطبنا أن تنسب الرؤية إلى الوجه والمراد بها العين قال بعض الأعراب ... أنافس من ناجاك مقدار لفظة ... وتعتاد نفسي إن نات عنك معينها ... وإن وجوها يصطحبن بنظرة ... إليك لمحسود عليك عيونها ...
الكلام في القرآن وهو القول في كلام الله تعالى

قال أبو محمد واختلفو في كلام الله عز و جل بعد أن أجمع أهل الإسلام كلهم أن لله تعالى كلاما وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف فكل هذا لا اختلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام ثم قالت المعتزلة أن كلام الله تعالى صفة فعل مخلوق وقالوا أن الله عز و جل كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة وقال أهل السنة أن كلام الله عز و جل هو علمه لم يزل وأنه غير مخلوق وهو قول الإمام أحمد بن حنبل وغيره رحمهم الله وقالت الأشعرية كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد
قال أبو محمد واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا أن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلوا من أن يكون جسما أو عرضا فلو كان جسما لكان في مكان واحد ولو كان ذلك لكنا لم يبلغ إلينا كلام الله عز و جل ولا كان يكون مجموعا عندنا في كل بلد كذلك وهذا كفر ولو كان عرضا لاقتضى حاملا ولكان كلام الله تعالى الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا وهذا محال ولكان أيضا يغني بغناء حامله وهذا لا يقولونه وبالله تعالى التوفيق قالوا ولو سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى من غير الله تعالى لما كان له عليه السلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عز و جل من غيره فصح أن لموسى عليه السلام مزية على من سواه وهوأنه عليه السلام سمع كلام الله بخلاف من سواه وأيضا فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء في خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقا وجب ضرورة أن يكون كلام الله تعالى ليس مخلوقا وليس غير الله تعالى كما قلنا في العلم سواء بسواء
قال أبو محمد وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم أن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواه سواء مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام لأن الله عز و جل يقول قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله
قال أبو محمد ولا ضلال أضل ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم ولا تكذيب لله أعظم ممن سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأن لله كلمات لا تنفد ثم يقول هو من رأيه الخسيس أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد 1 فإن ادعوا أنهم فروا من أن يكثروا مع الله أكذبهم قولهم أن ها هنا خمسة عشر شيئا كلها متغايرة وكلها غير الله وخلاف الله وكلها لم تزل مع الله تعالى عما يقول الظالمون علو كبيرا

قال أبو محمد وقالت أيضا هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعرية ان كلام الله تعالى عز و جل لم ينزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه و سلم وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى وإن الذي نقرأ في المصاحف ويكتب فيها ليس شيء منها كلام الله وإن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن الله تعالى لا يزايل الباري ولا يقوم بغيره ولا يحل في الأماكن ولا ينتقل ولا هو حروف موصلة ولا بعضه خير من بعض ولا أفضل ولا أعظم من بعض وقالوا لم يزل الله تعالى قائلا لجهنم هل امتلأت وقائلا للكفار اخسئوا فيها ولا تكلمون ولم يزل تعالى قائلا لكل ما أراد تكوينه كن
قال أبو محمد وهذا كفر مجرد بلا تأويل وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا فإن قال ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد وقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام
قال أبو محمد وقال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون أن الصوت غير مخلوق والخط غير مخلوق
قال ابو محمد وهذا باطل وما قال قط مسلم أن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق وأن الخط غير مخلوق
قال ابو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق هو ما قاله الله عز و جل ونبينا محمد صلى الله عليه و سلم لا نزيد على ذلك شيئا وهو أن قول القائل القرآن وقوله كلام الله كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان والقرآن هو كلام الله عز و جل على الحقيقة بلا مجاز ونكفر من لم يقل ذلك ونقول أن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد صلى الله عليه و سلم كما قال تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ثم نقول أن قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآنا ونقول انه كلام الله تعالى على الحقيقة وبرهان ذلك هو قول الله عز و جل وأن أحدا من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله تعالى وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وقوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن وأنكر على الكفار وصدق مؤمني الجن في قولهم إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فصح أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به هو القرآن حقيقة وهو كلام الله تعالى حقيقة من خالف هذا فقد عاند القرآن ويسمى المفهوم من ذلك الصوت قرآنا وكلام الله على الحقيقة فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا كلام الله هو القرآن ونسمي المصحف كله قرآنا وكلام الله وبرهاننا على ذلك قول الله عز و جل إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب لئلا يناله العدو وقوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة فقد سمى

رسول الله صلى الله عليه و سلم المصحف قرآنا والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة فالمصحف كلام الله تعالى برهاننا على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أمر بتعاهد القرآن وقال عليه السلام أنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها وقال الله تعالى بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم فالذي في الصدور هو القرآن وهو كلام الله على الحقيقة لا مجازا ونقول كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان آية الكرسي أعظم آية في القرآن وأن أم القرآن فاتحة الكتاب لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل مثلها وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقال الله عز و جل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فإن قالوا إنما يتفاضل الأجر على قراءة ذلك قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في شيء مما يكون فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض في الموصوف بها وأما في الذوات فلا ونقول أيضا أن القرآن هو كلام الله تعالى وهو علمه وليس شيئا غير الباري تعالى برهان ذلك قول الله عز و جل ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وقال تعالى وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وباليقين يدري كل ذي فهم أنه تعالى إنما عنى سابق علمه الذي سلف بما ينفذه ويقضيه
قال أبو محمد فهذه خمسة معان يعبر عن كل معنى منها بأنه قرآن وانه كلام الله ويخبر عن كل واحد منها أخبارا صحيحا بانه القرآن وأنه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة للذين اجمع عليهما جميع الأمة وأما الصوت فهو هواء مندفع من الحلق والصدر والحك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين وهو حروف الهجاء والهواء وحروف الهجاء والهواء كل ذلك مخلوق بلا خلاف قال الله عز و جل وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وقال تعالى بلسان عربي مبين واللسان العربي ولسان كل قوم هي لغتهم واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة إنما هي الله تعالى والملائكة والنبيون وسموات وأرضون وما فيهما من الأشياء وصلاة وزكاة وذكر أمم خالية والجنة والنار وسائر الطاعات وسائر أعمال الدين وكل ذلك مخلوق حاشا لله وحده لا شريك له خالق كل ما دونه وأما المصحف فإنما هو ورق من جلود الحيوان ومركب منها من مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وماء وكل ذلك مخلوق وكذلك حركة اليد في حطه وحركة اللسان في قراءته واستقرار كل ذلك في النفوس هذه كلها اعراض مخلوقة وكذلك عيسى عليه السلام هو كلمة لله وهو مخلوق بلا شك قال الله تعالى كلمة منه اسمه المسح وأما علم الله تعالى فلم يزل وهو كلام الله تعالى وهو القرآن وهو غير مخلوق ليس هو غير الله تعالى أصلا ومن قال أن شيئا غير الله تعالى لم يزل مع الله عز و جل فقد جعل لله عز و جل شريكا ونقول أن لله عز و جل كلاما حقيقة وأنه تعالى كلم موسى ومن كلم من الأنبياء والملائكة عليهم السلام تكليما حقيقة لا مجازا ولا يجوز آن يقال البتة أن الله تعالى متكلم لأنه لم يسم بذلك نفسه ومن قال أن الله تعالى مكلم موسى لم ينكره لأنه يخبر عن فعله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله تعالى كلاما لنفى الخرس عنه لما ذكرنا قبل من أنه أن كان يعني الخرس المعهود فإنه لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو حركة اللسان والشفتين وإن كان إنما ينفي خرسا غير معهود فهذا لا يعقل أصلا ولا يفهم

وأيضا فيلزمه أن يسميه تعالى شماما لنفى الخشم عنه ومتحركا لنفي الخدر وهذا كله الحاد في أسمائه عز و جل لكن لما قال الله تعالى أن له كلا ما قلناه وأقررنا به ولو لم يقله عز و جل لم يحل لأحد أن بقوله وبالله تعالىالتوفيق
قال أبو محمد ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعا مستويا صحيحا منها أربعة مخلوقة وواحد غير مخلوق لم يجز البتة لأحد أن يقول أن القرآن مخلوق ولا أن يقال أن كلام الله مخلوق لأن قائل هذا كاذب إذ أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه مما يقع عليه اسم قرآن واسم كلام الله عز و جل ووجب ضرورة أن يقال إن القرآن لا خالق له ولا مخلوق وأن كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق لأن الأربعة المسميات منه ليست خالقة ولا يجوز أن نطلق على القرآن ولا على كلام الله تعالى اسم خالق ولأن المعنى الخامس غير مخلوق ولا يجوز أن توضع صفة البعض على الكل الذي لا تعمه تلك الصفة بل واجب أن يطلق نفي تلك الصفة التي للبعض على الكل وكذاك لو قال قائل أن الأشياء كلها مخلوقة أو قال للحق مخلوق أو قال كل موجود مخلوق لقال الباطل لأن الله تعالى شيء موجود حق ليس مخلوقا لكن إذا قال الله تعالى خالق كل شيء جاز ذلك لأنه قد أخرج بذكر الله تعالى أن المخلوق في كلامه الأشكال ومثال ذلك فيما بيننا أن ثيابا خمسة الأربعة منها حمر والخامس غير أحمر لكان من قال هذه الثياب حمر كاذبا ولكان من قال هذه الثياب ليست حمرا صادقا وكذلك من قال الإنسان طبيب يعني كل إنسان لكان كاذبا ولو قال ليس الإنسان طبيبا يعني كل إنسان لكان صادقا وكذلك لا يجوز أن يطلق أن الحق مخلوق ولا أن العلم مخلوق لأن اسم الحق يقع على الله تعالى وعلى كل موجود واسم العلم يقع على كل علم وعلى علم الله عز و جل وهو غير مخلوق لكن يقال الحق غير مخلوق والعلم غير مخلوق هكذا جملة وإذا بين فقيل كل حق دون الله تعالى فهو مخلوق وكل علم دون الله تعالى فهو مخلوق فهو كلام صحيح وهكذا ألا يجوز أن يقال أن كلام الله مخلوق ولا أن القرآن مخلوق ولكن يقال علم الله غير مخلوق وكلام الله غير مخلوق والقرآن غير مخلوق ولو أن قائلا قال إن الله مخلوق وهو يعني صوته المسموع أو الألف واللام والهاء أو الحبر الذي كتبت هذه الكلمة به لكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافرا ما لم يبين فيقول صوتي أو هذا الخط مخلوق
قال أبو محمد فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعهد فيه ما قاله الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم وأجمعت الأمة كلها على جملته وأوجبته الضرورة والحمد لله رب العالمين فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ المسموع هو غير القرآن وهذا باطل بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه وهو كلام الله عز و جل نفسه كما قال تعالى حتى يسمع كلام الله وكلام الله تعالى غير مخلوق لما ذكرنا وأما من أفرد السؤال عن الصوت وحروف الهجا والحبر فكل ذلك مخلوق بلا شك
قال أبو محمد ونقول أن الله تعالى قد قال ما أخبرنا انه قاله وأنه تعالى لم يقل بعد ما أخبرنا أنه سيقول في المستأنف ولكن سيقوله ومن تعدى هذا فقد كذب الله جهلا وأما من قال أن الله تعالى لم يزل قائلا كن لكل ما كونه أو يريد تكوينه فإن هذا قول فاحش موجب أن العالم لم يزل لأن الله تعالى أخبرنا أنه تعالى إذا أراه شيئا فإنما أمره أن يقول له كن

فيكون فصح أن كل مكون فهو كائن أثر قول الله تعالى له كن بلا مهلة فلو كان الله تعالى لم يزل قائلا كن لكان كل مكون لم يزل وهذا قول من قال أن العالم لم يزل وله مدبر خالق لم يزل وهكذا كفر مجرد نعوذ بالله منه وقول الله تعالى هو غير تكليمه لأن تكليم الله تعالى من كلم فضيلة عظيمة
قال أبو محمد قال الله تعالى منهم من كلم الله وأما قوله فقد يكون سخطا قال تعالى أنه قال لأهل النار اخسئوا فيها ولا تكلمون وقال لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي قال اخرج منها ولا يجوز أن يقال إبليس كليم الله ولا أن أهل النار كلماء الله فقول الله عز و جل محدث بالنص وبرهان ذلك أيضا قول الله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ثم قال تعالى أنه قال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون وقال تعالى أنهم قالوا ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون فنص تعالى على أنه لا يكلمهم وأنه يقول لهم فثبت يقينا أن قول الله تعالى هو غير كلامه وغير تكليمه لكن يقول كل كلام وتكليم فهما قول وليس كل قول منه تعالى كلاما ولا تكليما بنص القرآن ثم نقول وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى أخبرنا أنه كلم موسى وكلم الملائكة عليهم السلام وثبت يقينا أنه كلم محمد صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله فخص تعالى بتكليمه بعضهم دون بعض كما ترى وقال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء ففي هذه الآيات والحمد لله أكبر نص على تصحيح كل ما قلناه في هذه المسألة وما توفيقنا إلا بالله وأخبرنا تعالى في هذه الآية أنه لا يتكلم بشر إلا بأحد هذه الوجوه الثلاثة فقط فنظرنا فيها فوجدناه تعالى قد سمى ما تأتينا به الرسل عليهم السلام تكليما انتقل منه للبشر فصح بذلك أن الذي أتتنا به رسله عليهم السلام هو كلام الله وأنه تعالى قد كلمنا بوحيه الذي أتتنا به رسله عليهم السلام وأننا قد سمعنا كلام الله عز و جل الذي هو القرآن الموحى إلى النبي بلا شك والحمد لله رب العالمين ووجدناه تعالى قد سمى وحيه إلى أنبيائه عليهم السلام تكليما لهم ووجدناه عز و جل قد ذكر وجها ثالثا وهو التكليم الذي يكون من وراء حجاب وهو الذي فضل به بعض النبيين على بعض وهو الذي يطلق عليه تكليم الله عز و جل دون صلة كما كلم موسى عليه السلام من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وأما القسمان الأولان فإنما يطلق عليهما تكليم الله عز و جل بصلة لا مجردا فنقول كلم الله جميع الأنبياء بالوحي إليهم ونقول في القسم الثاني كلمنا الله تعالى في القرآن على لسان نبيه عليه السلام بوحيه إليه ونقول قال لنا الله عز و جل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونقول أخبرنا الله تعالى عن موسى وعن الجنة والنار في القرآن وفيما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه و سلم ولو قال قائل حدثنا الله تعالى عن الأمم السالفة وعن الجنة والنار في القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم لكان قولا صحيحا لا مدفع له لأن الله تعالى يقول ومن أصدق من الله حديثا وكذلك

يقول قص الله علينا أخبار الامم في القرآن قال تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص بماأوحينا إليك هذا القرآن ونقول سمعنا كلام الله تعالى في القرآن على التحقيق لا مجازا وفضل علينا الملائكة والأنبياء عليهم السلام في هذا بالوجه الثاني الذي هو تكليمهم بالوحي إليهم في النوم واليقظة دون وسيطة وبتوسط الملك أيضا وفضل جميع الملائكة وبعض الرسل على جميعهم عليهم السلام بالوجه الثالث الذي هو تكليم في اليقظة من وراء حجاب دون وسيطة ملك لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى وهذا هو الوجه الذي خص به موسى عليه السلام من الشجرة ومحمد صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء من المستوى الذي سمع فيه صريف الإفلام وسائر من كلم الله تعالى كذلك من النبيين والملائكة عليهم السلام قال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وقال تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل ولا يجوز أن يكون شيء من هذا بصوت أصلا لأنه كان يكون حينئذ يفيد بوسيطة مكلم غير الله تعالى وكان ذلك الصوت بمنزلة الرعد الحادث في الجو والقرع الحادث في الأجسام والوحي أعلى من هذه منزلة والتكليم من وراء حجاب أعلى من سائر الوحي بنص القرآن لأن الله تعالى سمى ذلك تفضيلا كما تلونا وكل ما ذكرنا وأن كان يسمى تكليما فالتكليم المطلق أعلى في الفضيلة من التكليم الموصل كما أن كل روح فهو روح الله تعالى على الملك لكن إذا قلنا روح الله على الإطلاق يعني بذلك جبريل أو عيسى عليهم السلام كان ذلك فضيلة عظيمة لهما
قال أبو محمد وإذا قرأنا القرآن قلنا كلامنا هذا هو كلام الله تعالى حقيقة لا مجازا ولا يحل حينئذ لأحد أن يقول ليس كلامي هذا كلام الله تعالى وقد أنكر الله عز و جل هذا على من قاله إذ يقول تعالى سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر إلى قوله تعالى فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر
قال أبو محمد وكذلك يقول أحدنا ديني دين محمد صلى الله عليه و سلم وإذا عمل عملا أوجبته سنة قال عملي هذا عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يحل لأحد من المسلمين أن يقول ديني غير دين رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو قال ذلك لوجب قتله بالردة وكذلك ليس له أن يقول إذا عمل عملا جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا غير عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو قاله لأدب ولكان كاذبا وكذلك يقول أحدنا ديني هو دين الله عز و جل يريد الذي أمر به عز و جل ولو قال ديني غير دين الله عز و جل لوجب قتله بالردة وكذلك يقول إذا حدث أحدنا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم صحيحا كلام هذا هو نفس كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو قال إن كلامي هذا هو غير كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم لكان كاذبا وهذه أسماء وأوجبتها ملة الله عز و جل وأجمع عليها أهل الإسلام ولم يخف علينا ولا على من سلف من المسلمين أن حركة لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم غير حركة ألسنتنا وكذلك حركة أجسامنا في العمل وكذلك ما توصف به النفوس من العلم ولكن التسمية في الشريعة ليست إلينا إنما هي لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم فمن خالف هذا كان كمن قال فرعون وأبو جهل

مؤمنان وموسى ومحمد كافران فإذا قيل له في ذلك قال أو ليس أبو جهل وفرعون مؤمنين بالكفر ومحمد وموسى كافران بالطاغوت فهذا وإن كان لكلامه مخرج فهو عند أهل الإسلام كافر لتعديه ما أوجبته الشريعة من التسمية وقد شهدت العقول بوجوب الوقوف عند ما أوجبه الله تعالى في دينه فمن عد عن ذلك وزعم أنه اتبع دليل عقله في خلاف ذلك فليعلم أنه فارق قضية العقل الصادقة الموجبة للوقوف عند حكم الشريعة وخالف المؤمنين واتبع غير سبيلهم قال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا نعوذ بالله من ذلك
قال أبو محمد قال بعضهم فإذا سمعنا نحن كلام الله تعالى وسمعه موسى عليه السلام فأي فرق بينه وبيننا قلنا أعظم الفرق وهو أن موسى والملائكة عليهم السلام سمعوا الله تعالى يكلمهم ونحن سمعنا كلام الله تعالى من غيره وقد قال رسول الله ص لابن مسعود إذ أمره أن يقرأ عليه القرآن فقال له ابن مسعود يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فصح يقينا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى نفسه فسمعه من غيره وقالوا فكلام الله تعالى إذا يحل فينا قلنا هذا تهويل بارد ونعم إذا سمى الله تعالى كلامنا إذا قرأنا كلاما له تعالى فنحن نقول بذلك ونقول أن كلام الله في صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر في مصاحفنا ونبرأ ممن أنكر ذلك بقوله الفاسد المخرج له عن الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان

الكلام في إعجاز القرآن
قال أبو محمد قد ذكرنا قيام البرهان عن أن القرآن معجز قد أعجز الله عن مثله نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله صلى الله عليه و سلم كل من ذكرنا عن أن يأتوا بمثله وتبكيتهم بذلك في محافلهم وهذا أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر وأجمع المسلمون على ذلك ثم اختلف أهل الكلام في خمسة أنحاء من هذه المسألة فالنحو الأول قول روى عن الأشعري وهو أن المعجز الذي تحدى الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان إذا من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل لما لم يعرفه قط ولا سمعه وأيضا فيلزمه ولا بديل هو نفس قوله أنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلو عندنا ليس معجزا بل مقدورا على مثله وهذا كفر مجرد لا خلاف فيه لأحد فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سورا ولا كثيرا بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين وله قول كقول جميع المسلمين أن هذا المتلو هو المعجز والنحو الثاني هل الإعجاز متماد ام قد ارتفع بتمام قيام الحجة به في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال بعض أهل الكلام أن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن معارضته ولو عورض الآن لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت كما أن عصى موسى إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ولا أسقط حجته عودها عصا كما كانت وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت وكذلك سائر الآيات وقال جمهور أهل الإسلام أن الإعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبدا كما كانت
قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه نص قول الله تعالى إذ

يقول قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
قال أبو محمد فهذا نص جرى علىأنه لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقينا أن ذلك على التأييد وفي المستأنف أبدا ومن ادعى أن المراد بذلك الماضي فقد كذب لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص آخر جلي وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولا سبيل في هذه المسألة إلى شيء من هذه الوجوه وكذلك قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا عموم لكل إنس وجن أبدا لا يجوز تخصيص شيء من ذلك أصلا بغير ضرورة ولا إجماع
قال أبو محمد ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر فلا حجة ها هنا تقوم له على الطائفة المذكورة فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين والنحو الثالث ما المعجز منه أنظمة أم ما في نصه من الإنذار بالغيوب فقال بعض أهل الكلام أن نظمه ليس معجزا وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجزا وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجز نظمه وما فيه من الأخبار بالغيوب وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو ضلال وبرهان ذلك قول الله تعالى فأتوا بسورة من مثله فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره وأكثر سوره ليس فيها أخبار بغيب فكان من جعل المعجز الأخبار الذي فيه بالغيوب مخالفا لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت هذه الأقاويل الفاسدة والحمد لله رب العالمين والنحو الرابع ما وجه إعجازه فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى ولكم في القصاص حياة ونحو هذا وموه بعضهم بأن قال لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ
قال أبو محمد ما نعلم لهم شغبا غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه أما قولهم لو كان كما قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقا لوجوه أحدها أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله بنفسه فيقال له بل لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم وثانيها أنه لا يسأل الله تعالى عما يفعل ولا يقال له لم عجزت بهذا النظم دون غيره ولم أرسلت هذا الرسول دون غيره ولم قبت عصا موسى حية دون أن تقلبها أسدا وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط وثالثها أنهم حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلا كان هذا الإعجاز في كلام بجمع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون إعجاز القرآن إلا بأخبار

العرب فقط فبطل هذا الشغب الغث والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وأما ذكرهم ولكم في القصاص حياة وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ويقال لهم إن كان كما تقولون ومعاذ الله من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة وأما سائره فلا وهذا كفر لا يقوله مسلم فإن قالوا جميع القرآن مثل هذا الآيات في الإعجاز قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذا وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزا وغير معجز ثم نقول لهم قول الله تعالى وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا أمعجزا هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزا فإن قالوا ليس معجزا كفروا وإن قالوا أنه معجز صدقوا وسئلوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا نعم كابروا وكفوا مؤنتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطهم في البلاغة وأيضا فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هارون والجاحظ وشعر امرئ القيس ومعاذ الله من هذا لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن أن يأتي من يماثله ضرورة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط وأيضا فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا قلنا وبالله تعالى التوفيق أن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين فلا لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجا عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار انهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى آتانا اليقين وحكى تعالى عن كافر قال إن هذا إلا سحر يؤثران هذا إلا قول البشر وحكى عن آخرين أنهم قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز و جل غير معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاما له أصاره معجزا ومنع من مماثلته وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره والحمد لله
والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه فقالت الأشعرية ومن وافقهم أن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو إنا أعطيناك الكوثر فصاعدا وإن ما دون ذلك ليس معجزا واحتجوا في

ذلك بقول الله تعالى قل فأتوا بسورة من مثله قالوا ولم يتحد تعالى بأقل من ذلك وذهب سائر أهل الإسلام إلىأن القرآن كله قليله وكثيره معجز وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قوله تعالى فأتوا بسورة من مثله لأنه تعالى لم يقل أن ما دون السورة ليس معجزا بل قد قال تعالى على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولا يختلف إثنان في أن كل شيء من القرآن قرآن فكل شيء من القرآن معجز ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم أن المعجز مقدار سورة أسورة كاملة لا أقل أم مقدار الكوثر في الآيات أم مقدارها في الكلمات أم مقدارها في الحروف ولا سبيل إلى وجه خامس فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها أو من آخرها لمقدور على مثلها وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن والفجر وليال عشر والشفع والوتر معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضا أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كلمة غير معجزة ولزمهم أيضا أن والضحى والفجر والعصر هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات فإن قالوا هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية متفرقة وإمكان المجيء بمثلها ومن جعل هذا ممكنا فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الاعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ولزمهم أيضا أن ولكم في القصاص حياة ليس معجزا وهذا نقض لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول وإن قالوا بل في عدد الكلمات أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهما إبطال احتجاجهم بقوله تعالى بسورة من مثله لأنهم جعلوا معجزا ما ليس سورة ولم يقل تعالى بمقدار فلاح تمويههم والثاني أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفا وقد قال الله تعالى وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفا وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشرة كلمات اثنين وستين حرفا فهذا أكثر كلمات وحروفا من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزا عندكم ويكون ولكم في القصاص حياة غير معجز فإن قالوا أن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضا أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجزا فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده وأيضا فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غير معجزة وكانت مقدورا على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدور على مثله وهذا كفر فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى

قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبدا لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال أن آية النبوة أن الله تعالى يطلقني على المشي في هذه الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبدا أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وأن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآنا فهي غير معجزة وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعماية عام وأربعين عاما ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب العالمين

الكلام في القدرة
قال أبو محمد اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا استطاعة له أصلا وهو قول جهم بن صفوان وطائفة من الأزارقة وذهبت طائفة أخرى إلى أن الانسان ليس مجبرا وأثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله ثم افترقت هذه الطائفة على فرقتين فقالت إحداهما الاستطاعة التي يكون بها الفعل لا تكون إلا مع الفعل ولا يتقدمه البتة وهذا قول طوائف من أهل الكلام ومن وافقهم كالنجار والأشعري ومحمد بن عيسى برعوت الكاتب وبشر بن غياث المريسي وأبي عبد الرحمن العطوي وجماعة من المرجئة والخوارج وهشام بن الحكم وسليمان بن جرير وأصحابهما وقالت الأخرى أن الاستطاعة التي يكون بها الفعل هي قبل الفعل موجوده في الإنسان وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمران وصالح فيه والناسي وجماعة من الخوارج والشيعة ثم افترق هؤلاء على فرق فقالت طائفة أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضا للفعل ولتركه وهو قول بشر بن المعتمر البغدادي وضرار بن عمرو والكوفي وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمر والعطار البصري وغيرهم من المعتزلة وقال أبو الهزيل محمد بن الهزيل العبدي البصري العلاف لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ولا تكون إلا قبله ولا بد وتفنى مع أول وجود الفعل وقال أبو إسحاق بن إبراهيم بن سيار النظام وعلي الأسواري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ليست الاستطاعة شيئا غير نفس المستطيع وكذلك ايضا قالوا في العجز انه ليس شيئا غير العاجز إلا النظام فإنه قال هو آفة دخلت على المستطيع
قال أبو محمد فأما من قال بالأجبار فإنهم احتجوا فقالوا لما كان الله تعالى فعالا وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالا غيره وقالوا أيضا معى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما تقول مات زيد وإنما أماته الله تعالى وقام البناء وإنما إقامة الله تعالى
قال أبو محمد وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم فأما النص فإن الله عز و جل قال في غير موضع من القرآن جزاء بما كنتم تعملون لم تقولون ما لا تفعلون وهملوا الصالحات ! فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وأما الحس فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهة علمنا يقينا علما لا يخالج فيه الشك أن

بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقا لائحا لجوارحه لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا لها دون مانع والذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلا ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبرا وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة ووجب أن لنا حولا وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهب إليه الجهمية لكان القول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له وكذلك قول تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله كونها وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممتنع والممكن أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح وغير صحيحا لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية وأن الفعل الاختياري من ذي الجوارح المؤوفة ممتنع وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن وأننا بالضرورة نعلم أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقينا أنه لا يقوم وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعدا أيقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذلك منه ممكن وأما من طريق اللغة فإن الإجبار والإكراه والاضطرار والغلبة أسماء مترادفة وكلها واقع على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا يختاره ولا يتوهم منه خلافة البتة وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار لكنه مختار والفعل منه مراد متعمد مقصود ونحو هذه العبارات عن هذا المعنى في اللغة العربية التي نتفاهم بها فإن قال قائل فلم أبيتم ها هنا من إطلاق لفظه الاضطرار وأطلقتموها في المعارف فقلتم أنها باضطرار وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في الإنسان فالجواب أن بين الأمرين فرقا بينا وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله وممكن ذلك منه وليس كذلك ما عرفه يقينا ببرهان لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ولا يمكنه ذلك أصلا فصح أنه مضطر إليها وأيضا فقد أثنى الله عز و جل على قوم دعوه فقالوا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة كلها واقع على معنى واحد وهذه صفة من يمكن عنه الفعل باختياره أو تركه باختياره ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيا من الطاعات والأعمال واجتناب المعاصي فلو لا أن ها هنا اشياء لهم بها طاقة لكان هذا الدعاء حمقا لأنهم كانوا يصيرون داعين الله عز و جل في أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وهم لا طاقة لهم بشيء من الأشياء فيصير دعاؤهم في أن لا يكلفوا ما قد كلفوه وهذا محال من الكلام والله تعالى لا يثني على المحال فصح بهذا أن ها هنا طاقة موجودة على الأفعال وبالله تعالى التوفيق
وأما احتجاجهم بأن الله تعالى لما كان فعالا وجب أن لا يكون فعال غيره فخطا من القول لوجوه أحدها أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالا وأعمالا قال تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون فأثبت

الله لهم الفعل وكذلك نقول أن الإنسان يصنع لأن النص قد جاء بذلك ولولا النص ما أطلقنا شيئا من هذا وكذلك لما قال الله تعالى وفاكهة مما يتخيرون علمنا أن للإنسان إختيارا لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع على أن الله تبارك وتعالى قال وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة فعلمنا أن الإختيار الذي هو فعل الله تعالى وهو منفي عن سواه هو غير الإختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به ووجدنا هذا أيضا حسا لأن الاخنبار الذي توحد الله تعالى به هو أن يفعل ما يشاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه وأما الإختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى شيء ما والإيثار له على غيره فقط وهنا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق ومنها أن الإشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى أنك تقول الله الحي والإنسان حي والإنسان حليم كريم عليم والله تعالى حكيم كريم عليم فليس هذا يوجب اشتباها بلا خلاف وإنما يقع الإشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين والفرق بين الفعل الواقع من الله عز و جل والفعل الواقع منا هو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسما أو عرضا أو حركة أو سكونا أو معرفة أو إرادة أو كراهية وفعل عز و جل كل ذلك فينا بغير معاناة منه وفعل تعالى لغيره علة وأما نحن فإنما كان فعلا لنا لأنه عز و جل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز و جل فينا محمولا لإكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه نحن وأما من قال بالإستطاعة قبل الفعل فعمدة حجتهم أن قالوا لا يخلو الكافر من أحد أمرين أما أن يكون مأمورا بالإيمان أو لا يكون مأمورا به فإن قلتم أنه غير مأمور بالإيمان فهذا كفر مجرد وخلاف للقرآن والإجماع وإن قلتم هو مأمور بإيمان وهكذا تقولون فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون أمر وهو يستطيع ما أمر به فهذا قولنا لا قولكم أو يكون أمر وهو لا يستطيع ما أمر به فقد نسبتم إلى الله عز و جل تكليف ما لا يستطاع ولزمكم أن تجيزوا تكليف الأعمى أن يرى والمقعد أن يجري أو يطلع إلى السماء وهذا كله جور وظلم والجور والظلم منفيان عن الله عز و جل وقالوا إذ لا يفعل المرء فعلا إلا بإستطاعة موهوبة من الله عز و جل ولا تخلو تلك الإستطاعة من أن يكون المرء أعطيها والفعل موجود أو أعطيها والفعل غير موجود فإن كان أعطيها والفعل موجود فلا حاجة به إليها إذ قد وجد الفعل منه الذي يحتاج إلى الإستطاعة ليكون ذلك الفعل بها وإن كان أعطيها والفعل غير موجود فهذا قولنا أن الإستطاعة قبل الفعل قالوا والله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من إستطاع إليه سبيلا قالوا فلو لم تتقدم الإستطاعة الفعل لكان الحج لا يلزم أحدا قبل أن يحج وقال تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين وقال تعالى فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فلو كانت الإستطاعة للصوم لا تتقدم الصوم ما لزمت أحدا الكفارة به وقال تعالى يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون فصح أن إستطاعة الخروج موجودة مع عدم الخروج وقال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم ولهم أيضا في خلق الأفعال اعتراض نذكره إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين

باب ما الإستطاعة
قال أبو محمد أن الكلام على حكم لفظه قبل تحقيق معناها ومعرفة المراد بها وعن أي شيء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حقيقتها فينبغي أولا أن نوقف على معنى الإستطاعة فإذا تكلمنا عليه وقررناه بحول الله تعالى وقوته سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله تعالى وتأييده فنقول وبالله تعالى نتأيد أن من قال أن الإستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد ولو كان لقائله أقل علم باللغة العربية ثم بحقائق الأسماء والمسميات ثم بماهية الجواهر والإعراض لم يقل هذا السخف أما اللغة فإن الإستطاعة إنما هي مصدر إستطاع يستطيع إستطاعة والمصدر هو فعل الفاعل وصفته كالضرب الذي هو فعل الضارب والحمرة التي هي صفة الأحمر والإحمرار الذي هو صفة المحمر وما أشبه هذا والصفة والفعل عرضان بلا شك في الفاعل منا وفي الموصوف والمصادر هي إحداث المسمين بالأسماء بإجماع من أهل كل لسان فإذا كانت الإستطاعة في اللغة التي بها نتكلم نحن وهم إنما هي صفة في المستطيع فبالضرورة نعلم أن الصفة هي غير الموصوف لأن الصفات تتعاقب عليه فتمضي صفة وتأتي أخرى فلو كانت الصفة هي الموصوف لكان الماضي من هذه الصفات هو الموصوف الباقي ولا سبيل إلى غير هذا البتة فإذ لا شك في أن الماضي هو غير الباقي فالصفات هي غير الموصوف بها وما عدا هذا فهو من المحال والتخليط فإن قالوا أن الإستطاعة ليست مصدر إستطاعة ولا صفة المستطيع كابروا وأتوا بلغة جديدة غير اللغة الذي نزل بها القرآن والتي لفظة الإستطاعة التي فيها نتنازع إنما هي كلمة من تلك اللغة ومن أحال شيئا من الألفاظ اللغوية عن وضوعها في اللغة بغير نص محيل لها ولا بإجماع من أهل الشريعة فقد فارق حكم أهل العقول والحياء وصار في نصاب من لا يتكلم معه ولا يعجز أحد أن يقول الصلاة ليست ما تعنون بها وإنما هي أمر كذا والماء هو الخمر وفي هذا بطلان الحقائق كلها وأيضا فإننا نجد المرء مستطيعا ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه أو لتكتيف وضبط أو لإغماء وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء فصح بالضرورة أن الذي عدم من الإستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم هذا أمر يعرف بالمشاهدة والحس وبهذا أيقنا أن الإستطاعة عرض من الأعراض تقبل الأشد والأضعف فنقول إستطاعة أشد من إستطاعة وإستطاعة أضعف من إستطاعة وأيضا فإن الإستطاعة لها ضد وهو العجز والأضداد لا تكون إلا أعراضا تقتسم طرفي البعد كالخضرة والبياض والعلم والجهل والذكر والنسيان وما أشبه هذا وهذا كله أمر يعرف بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ومعاند مكابر للضرورة والمستطيع جوهر والجوهر لا ضد له فصح بالضرورة أن الإستطاعة هي غير المستطيع بلا شك وأيضا فلو كانت الإستطاعة هي المستطيع لكان العجز أيضا هو العاجز والعاجز هو المستطيع بالأمس فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع فإن تمادوا على هذا لزمهم أن العجز عن الأمر هو الإستطاعة عليه وهذا محال ظاهر فإن قالوا أن العجز غير المستطيع وهو آفة دخلت على المستطيع سئلوا عن الفرق الذي من أجله

قالوا إن الإستطاعة هي المستطيع ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز ولا سبيل إلى وجود فرق في ذلك وبهذا نفسه يبطل قول من قال أن الإستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء لأن العرض لا يكون بعضا للجسم وأما من قال أن الإستطاعة كل ما توصل به إلى الفعل كالإبرة والدلو والحبل وما أشبه ذلك فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد توجد هذه الالات وتعدم صحة الجوارح لا يمكن الفعل فإن قالوا قد تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح ولا يمكن الفعل قلنا صدقتم وبوجود هذه الآلات تم الفعل إلا أن لفظة الإستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع فليس لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ولو جاز هذا لبطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبدا وقد علمنا يقينا أن لفظة الإستطاعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا على مهماز ولا على إبرة فإن قالوا قد صح عن أئمة اللسان كإبن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن الإستطاعة زاد وراحلة قيل لهم نعم وقد صح هذا ولا خلاف بين أحد له فهم باللغة أنهما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة وبرهان ذلك أن الزاد والرواحل كثير في العالم وليس كونهما عنيا في العالم موجبا عندهما فرض الحج على ما لا يجدهما فصح ضرورة أنهما عنيا بذلك القوة على إحضار زاد وراحلة والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول أيضا أن ذكروا قول الله عز و جل وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم لأن هذا هو نص قولنا أن القوة عرض ورباط الخيل عرض فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين فإذ قد سقطت هذه الأقوال كلها وصح أن الإستطاعة عرض من الأعراض فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض فنظرنا ذلك بعون الله عز و جل وتأييده فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع باختيار إلا من صحيح الجوارح التي يكون بها ذلك الفعل فصح يقينا أن سلامة الجوارح وإرتفاع الموانع إستطاعة ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختارا إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة الفعل فعلمنا أن الإرادة أيضا محركة للإستطاعة ولا نقول أن الإرادة إستطاعة لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع وقد علمنا ضرورة أن العاجز عن الفعل فليس فيه إستطاعة للفعل لأنهما ضدان والضدان لا يجتمعان معا ولا يمكن أيضا أن تكون الإرادة بعض الإستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في تعاجز المريد إستطاعة ما لأن بعض الإستطاعة إستطاعة وبعض العجز عجز ومحال أن يكون في العاجز عن الفعل إستطاعة له البتة فالإستطاعة ليست عجزا فمن إستطاع على شيء وعجز عن أكثر منه ففيه إستطاعة على ما يستطيع عليه هي غير الإستطاعة التي فيه على ما إستطاع عليه وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه على الفعل أصلا فعلمنا أن هاهنا شيئا آخر به تتم الإستطاعة ولا بد وبه يوجد الفعل فعلمنا ضرورة أن هذا الشيء إذ هو تمام الإستطاعة ولا تصح الإستطاعة إلا به فهو باليقين قوة إذ الإستطاعة قوة وأن ذلك الشيء قوة بلا شك فقد علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى إذ لا يمكن ذلك لأحد دونه عز و جل فصح ضرورة أن الإستطاعة صحة الجوارح مع إرتفاع الموانع

وهذان الوجهان قبل الفعل وقوة أخرى من عند الله عز و جل وهذا الوجه مع الفعل بإجتماعهما يكون الفعل وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله تعالى التوفيق والإستعاذة به من الخذلان فالقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى بالإجماع توفيقا وعصمه وتأييدا والقوة التي ترد من الله تعالى فيفعل العبد بها الشر تسمى بالإجماع خذلانا والقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عونا أو قوة أو حولا وتبين من صحة هذا صحة قول المسلمين لا حول ولا قوة إلا بالله والقوة لا تكون لأحد البتة فعل إلا بها فصح أنه لا حول ولا قوة لأحد إلا بالله العلي العظيم وكذلك يسمى تيسيرا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل ميسر لما خلق له وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الإستطاعة فعل الله عز و جل وأنه لا يفعل أحد خيرا ولا شرا إلا بقوة أعطاه الله تعالى إياها إلا أنهم قالوا يصلح بها الخير والشر معا
قال أبو محمد فجملة القول في هذا بأن عناصر الإخبار ثلاثة وهو ممتنع أو واجب أو ممكن بينهما هذا أمر بضرورة الحس والتمييز فإذا الأمر كذلك فإن عدمت صحة الجوارح كان له مانع إلى الفعل وأما الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون منه الفعل وقد لا يكون فهذه هي الإستطاعة الموجودة قبل الفعل برهان ذلك قول الله عز و جل حكاية عن القائلين لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون فأكذبهم الله في إنكارهم إستطاعة الخروج قبل الخروج وقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من إستطاع إليه سبيلا فلو لم تكن هنا إستطاعة قبل فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا من حج فقط ولما كان أحد عاصيا بترك الحج لأنه إن لم يكن مستطيعا للحج حتى يحج فلا حج عليه ولا هو مخاطب بالحج وقوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله إستطاعة على الصيام قبل ان يصوم لما كان مخاطبا بوجوب الصوم عليه إذا لم يجد الرقبة أصلا ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط وهذا باطل وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لمن بايعه فمن لم يستطع فقاعدا فمن لم يستطع فعلى جنب وهذا إجماع متيقن لا شك فيه فلو لم يكن الناس مستطعين للقيام قبل القيام لما كان أحد مأمور بالصلاة قبل أن يصليها كذلك ولكان معذورا إن صلى قاعدا وعلى جنب بكل وجه لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعا للقيام وهذا باطل وقوله صلى الله عليه و سلم إذا أمرتكم بشيء فأتو به ما استطعتم فلو لم يكن ها هنا إستطاعة لشيء مما أمرنا به أن نفعله لما لزمنا شيء مما أمرنا به مما لم نفعله ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا وقوله صلى الله عليه و سلم أتستطيع أن تصوم شهرين قال فلو لم يكن أحد مستطيعا للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه عليه السلام محالا وحاشا له من ذلك ومما يتبين صحة هذا وأن المراد في كل ما ذكرنا صحة الجوارح وإرتفاع الموانع قول الله تعالى ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الإستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك فصح أن سلامة الجوارح إستطاعة وإذا صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده والعمل وتركه والطاعة والمعصية لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح فإن قال قائل فإن

سلامة الجوارح عرض والعرض لا يبقى وقتين قيل له هذه دعوى بلا برهان والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة إن هذه الاستطاعة من سلامة الجوارح وارتفاع الموانع موجوده قبل الفعل ثم لو كان ما ذكرتم ما كان فيه دفع لما قاله عز و جل من ذلك ثم وجدنا الله تعالى قد قال وكانوا لا يستطيعون سمعا وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليه السلام إنك لن تستطيع معي صبرا وقال ذلك تاويل ما لم تستطع عليه صبرا وعلمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف قال الله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فتيقنا أن الاستطاعة التي أثبتها الله تعالى قبل الفعل هي غير الاستطاعة الت نفاها مع الفعل ولا يجوز غير ذلك البتة فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان أحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني لا يكون إلا مع الفعل وهو القوة الواردة من الله تعالى بالعون والخذلان وهو خلق الله تعالى للفعل فيمن ظهر منه وسمى من أجل ذلك فاعلا لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجود معنى غير هذا البتة فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والاجماع وضرورة الحس وبديهة العقل فعلى هذا التقسيم دينا الكلام في هذا الباب فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجبا ولا بد وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله وإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح وارتفاع الموانع التي يكون الفعل بها ممكنا متوهما لا واجبا ولا ممتنعا وبها يكون المرء مخاطبا مكلفا مأمورا منهيا وبعد مهما يسقط عنه الخطاب والتكليف وبصير الفعل منه ممتنعا ويكون عاجزا عن الفعل
قال أبو محمد فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عز و جل فيما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد فنقول وبالله تعالى التوفيق أنهم قالوا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع فجوابنا وبالله تعالى نتأيد أننا قد بينا آنفا أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه وغير مستطيع ما لم يفعل الله عز و جل فيه ما به يكون تمام استطاعته ووجود الفعل فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر وهذا مع أنه نص القرآن كما اوردنا فهو أيضا مشاهد كالبناء المجيد فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء غير مستطيع للآلات التي لا يوجد البناء إلا بها وهكذا في جميع الأعمال وأيضا فقد يكون المرء عاصيا لله تعالى في وجه مطيعا له في آخر مؤمنا بالله كافرا بالطاغوت فإن قالوا فقد نسبتم لله تكليف ما لا يستطاع قلنا هذا باطل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحدا إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى لأن الاستطاعة التي بها يكون الفعل ليست فيه بعد ولا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر وأما قولهم أن هذا كتكليف المقعد الجري أو الأعمى النظر وإدراك الألوان والارتفاع إلى السماء فإن هذا باطل لأن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمي الاستطاعة فلا استطاعة لهم أصلا وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمي الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ولولا أن الله عز و جل آمننا بقوله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج

لكان غير منكر أن يكلف الله تعالى الأعمى إدراك الألوان والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ولله تعالى أن يعذب من شاء دون أن يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من شاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان وجعل عيسى بن مريم نبيا في المهد حين ولادته وشد على قلب فرعون فلم يؤمن قال تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وليس في بداية العقول حسن ولا قبيح لعينه البتة وقالت المعتزلة متى أعطى الإنسان الاستطاعة أقبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا فهذا قولنا وإن كان حين وجود الفعل فما حاجتنا إليها فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الاستطاعة قسمان كما قلنا فأحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني مع الفعل وهو خلق الله للفعل في فاعله ولولاهما لم يقع الفعل كما قال الله عز و جل ولو كانت الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل ولا بد ولا تكون مع الفعل أصلا كما زعم أبو الهزيل لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة وفاعلا فعلا لا استطاعة له على فعله حين فعله وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه فهو فاعل عاجز عما يفعل معا وهذا تناقض ومحال ظاهر
قال أبو محمد ولهم الزامات سخيفة هي لازمة لهم كما تلزم غيرهم سواء بسواء منها قولهم متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته أم وهو غير محترق فإن كانت أحرقته في حال سلامته فهو إذا محرق غير محرق وإن كانت أحرقته وهو محرق فما الذي فعلت فيه وكسؤالهم متى كسر المرء العود أكسره وهو صحيح فهو إذا مكسور صحيح أو كسره وهو مكسور فما الذي أحدث فيه وكسؤالهم متى أعتق المرء عبده في حال رقة فهو حر عبد معا أو في حال عتقه فأي معنى لعتقه أياه ومتى طلق المرء زوجته أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة لا مطلقة معا أم طلقها وهي مطلقة فما الذي أثر فيها طلاقة ومتى مات المرء في حياته مات أم وهو ميت ومثل هذا كثير
قال أبو محمد وكل هذه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة والحق فيهاأن تفريق النار إزاء ما عملت فيه هو المسمى إحراقا وليس للإحراق شيء غير ذلك فقولهم هل أحرقت وهو محرق تخليط لأن فيه أيها ما أن الإحراق غير الإحراق وهذه سخافة وكذلك كسر العود إنما هو إخراجه عن حال الصحة والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد من الرق إلى عتقه هو عتقه ولا مزيد ليست له حال أخرى وكذلك خروج المرأة من الزوجية إلى الطلاق هو تطليقها نفسه وكذلك فراق الروح للجسد وهو الإماتة والموت نفسه ولا مزيد وليست ها هنا حال أخرى وقع الفعل فيها وبالله تعالى التوفيق

الكلام في أن اتمام الاستطاعة لا يكون إلا مع الفعل لا قبله
قال أبو محمد يقال لمن قال أن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل وأنها قبل الفعل بتمامها وتكون ايضا مع الفعل أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على الإيمان قدرة تامة أم لا وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال تركه وعن الزاني هل يقدر في حال زناه على ترك الزنا بأن لا يكون منه زنا أصلا أم لا وبالجملة فإلا وأمر كلها إنما هي امره بحركة أوامر بسكون أوامر باعتقاد إثبات شيء ما أو

أمر باعتقاد إبطال شيء ما وهذا كله يجمعه فعل أو ترك فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور بالحركة على الحركة حال السكون أو يقدر المتحرك المأمور بالسكون على السكون في حال الحركة وعن معتقد إبطال شيء ما وهو مأمور باعتقاد إثباته هل يقدر في حال اعتقاده إبطاله على اعتقاد إثباته ام لا وعن معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على اعتقاد إبطاله ام لا وعن المأمور بالترك وهو فاعل ما أمر يتركه أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلا لشيء تاركا لذلك الشيء معا ام لا فإن قالوا نعم هو قادر على ذلك كابروا العيان وخالفوا المعقول والحس وأجازوا كل طاعة من كون المرء قاعدا قائما معا ومؤمنا بالله كافرا به معا وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع وإن قالوا أنه لا يقدر قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافة قالوا الحق ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله وكل جواب أجابوا به ها هنا فإنما هو إيهام ولو أذو مدافعة بالروح لأنه إلزام ضروري حسي متيقن لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا لسنا نقول أنه يقدر على أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ولكننا قلنا أنه قادر على أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به قيل لهم هذا هو نفسه الذي اردنا منكم وهو انه لا يقدر قدرة تامة ولا يستطيع استطاعة تامة على فعل ما دام فاعلا لما يمانعه فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به فحينئذ تمت قدرته واستطاعته لا بد من ذلك وهذا هو نفس ما موهوا به في سؤالهم لنا هل أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعله وهذا لهم لازم لأنهم شنعوه وعظموه وأنكروه ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاما صحيحا فقبحه عائد عليهم وإنما يلزمم الشيء من يصححه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي أحد رؤساء الأصلح من العتزلة بأن قال أننا لا نختلف في أن الله عز و جل قادر على تسكين المتحرك وتحريك الساكن وليس يوصف بالقدرة على آن يجعله ساكنا متحركا معا
قال أبو محمد وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف الله تعالى به بل الله تعالى قادر على أن يجعل الشيء ساكنا متحركا معا في وقت واحد من وجه واحد ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن التزم هذه الكفرة الصلعاء 1 من أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ويقال لهم لم لا يوصف بالقدرة على ذلك لأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها أم لأنه لا قدرة له على ذلك ولا محيد لهم عن هذا وهذه طائفة جعلت قدرة الله تعالى متناهية بل قطعوا قطعا بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله وهذا كفر مجرد لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد ويقال للمعتزلة أيضا انتم مقرون ايضا معنا بأن الله تعالى لم يزل عليما بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا كان ولم يزل الله تعالى يعلم أن فلانا سيطا فلانه في وقت كذا فتحمل منه بولد يخلقه الله تعالى من منيهما الخارج منهما عند جماعه إياها وأنه يعيش

ثمانين سنة ويملك ويفعل ويصنع فإذا قلتم أن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك ذلك الوطء الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون وأنه يخلق ذلك الولد منه فقد قطعتم بأنه قادر على أن يمنع الله من خلق ما قد علم أنه سيخلقه وأنه قادر قدرة تامة على إبطال علم الله عز و جل وهذا كفر ممن أجازه فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم قلنا هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلا بل قلنا أنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ومعنى قولنا أنه مستطيع بصحة جوارحه اي أنه متوهم منه ذلك لو كان ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله عز و جل فإن قالوا إن الله تعالى قادر على كل ذلك ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل قلنا وهذا أيضا مما تكلمنا فيه آنفا بل الله تعالى قادر على كل ذلك بخلاف خلقه على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عز و جل سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون إلى قوله ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فأكذبهم الله تعالى في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ثم نص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا أمر تكوين لا أمر بالقعود لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم وقد نص تعالى على أنه إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فقد ثبت يقينا انهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح وارتفاع الموانع وأن الله تعالى كون فيهم قعودهم فبطل أن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الذي ظهر منهم وقال عزو جل من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا فبين عز و جل بيانا جليا أن من أعطاه الهدى اهتدى ومن أضله فلا يهتدي فصح يقينا أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتديا وأن بوقوع الإضلال من الله تعالى وهو الخذلان وخلق ضلال العبد يفعل المرء ما يكون به ضالا فإن قال قائل معنى هذا من سماه الله مهتديا ومن سماه ضالا قيل له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضله الله فلن تجد له وليا مرشدا فلو أراد الله تسميته كما زعمتم لكان هذا القول منه عز و جل كذبا لأن كل ضال فله أولياء على ضلاله يسمونه مهتديا وراشدا وحاشا الله من الكذب فبطل تأويلهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وقال الله تعالى مخبرا عن الخضر الذي أتاه الله تعالى العلم والحكمة والنبوة حاكيا عن موسى عليه السلام وفتاه فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما وقال تعالى مخبرا عنه ومصدقا عنه وما فعلته عن أمري فصح أن كل ما قال الخضر عليه السلام فمن وحي الله عز و جل ثم أخبر عز و جل بأن الخضر قال لموسى عليه السلام إنك لن تستطيع معي صبرا فلم ينكر الله تعالى كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليه السلام لكن أجابه بقوله ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا فلم يقل له موسى عليه السلام أني مستطيع للصبر بل صدق قوله في ذلك إذ أقره ولم ينكره ورجا أن يجد الله له استطاعة على الصبر فيصبر ولم يوجبه موسى عليه السلام أيضا لنفسه إلا أن يشاء الله تعالى ثم كرر عليه الخضر بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر فلم ينكر ذلك موسى عليه السلام فهذه شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر صلى الله عليه و سلم وأكبر من شهادتهم شهادة الله عز و جل

بتصديقهم في ذلك إذ قد نصه الله تعالى علينا غير منكر له بل مصدقا لهم وهذا لا يرده إلا مخذول وقال عز و جل وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا فنص تعالى نصا جليا على أنهم كانوا لا يستطيعون السمع الذي أمروا به وأنهم مع ذلك كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله عزو جل ومع ذلك استحقوا على ذلك جهنم وكانوا في ظاهر الأمر مستطيعون بصحة جوارحهم وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لا إله إلا هو وقال تعالى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فنفى الله عز و جل عنهم استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده وفي هذا كفاية لمن عقل وقال تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله فنص تعالى على أن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن وأن من أذن له في الإيمان آمن وهذا الإذن هو التوفيق الذي ذكرنا فيكون به الإيمان ولا بد وعدم الإذن هو الخذلان الذي ذكرنا نعوذ بالله منه وقال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام ومصدقا له إذ يقول وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن فنص تعالى على أن رسوله صلى الله عليه و سلم أن لم يعنه بصرف الكيد عنه صبا وجهل وأنه تعالى صرف الكيد عنه فسلم وهذا نص جلي على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم خليله ورسوله صلى الله عليه و سلم ومصدقا له لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فهذا نص على أن من أعطاه الله عز و جل قوة الإيمان آمن واهتدى وأن من منعه تلك القوة كان من الضالين وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وقال تعالى واصبر وما صبرك إلا بالله فنص تعالى على أنه أمره بالصبر ثم أخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله تعالى فإذا أعانه بالصبر صبر وقال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهذا نص جلي على أن من أضله الله تعالى بالخذلان له فلا يكون مهتديا وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا فهذا نص لا إشكال فيه على أن الله عز و جل منعهم أن يفقهوه فإن قال قائل إنما قال تعالى أنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ولذلك قال تعالى وما يضل به إلا الفاسقين وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين قيل له وبالله تعالى التوفيق لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم للتوفيق وسلط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على ما تأولت ولكن الآيات ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف هو أن الله تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم وكذلك إنما صاروا لا يؤمنون حين جعل بينهم وبينه حجابا وحين جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم الوقر لا قبل ذلك وإنما صارا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك وقال تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا فنص تعالى على أنه لولا أن ثبت نبيه صلى الله عليه و سلم بالتوفيق لركن إليهم فإنما يثبت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ثبته الله عز و جل لا قبل ذلك ولو لم يعطه التثبيت وخذله لركن إليهم وضل واستحق العذاب على ذلك ضعف الحياة وضعف الممات فتبا لكل مخذول يظن في نفسه الخسيسة أنه مستغن عما افتقر إليه محمد صلى الله عليه و سلم من توفيق الله وتثبيته وأنه قد استوفى من الهدى مالا مزيد عليه وأنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أكثر وقد

أمرنا عز و جل أن نقول إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فنص تعالى على أمرنا بطلب العون منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين فلو لم يكن ها هنا عون خاص من آتاه الله إياه اهتدى ومن حرمه إياه اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل لما كان لهذا الدعاء معنى لأن الناس كلهم كانوا يكونون معانين منعما عليهم مهديين وهذا بخلاف النص المذكور وقال تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم فنص تعالى على أنه ختم على قلوب الكافرين وان على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قول الحق فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم عز و جل وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ونعوذ بالله منه وهذا نص على أنهم لا يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم على قلوبهم والغشاوة على أبصارهم وأسماعهم فلو أزالها تعالى لآمنوا ألا إن يعجزوا ربهم عز و جل عن إزالة ذلك فهذا خروج عن الإسلام وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته لأتبعتم الشيطان إلا قليلا فنص تعالى كما ترى على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة فصح أن التوفيق به يكون الإيمان وأن الخذلان به يكون الكفر والعصيان وهو اتباع الشيطان ومعنى قوله تعالى إلا قليلا على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم يتبعوا الشيطان برحمة الله تعالى لهم آي لاتبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشيطان إذ رحمكم أنتم فلم تتبعوه وهذا نص قولنا ولله تعالى الحمد وقال تعالى فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا وهذا نص ما قلنا أن من أضله الله تعالى لا سبيل له إلى الهدى وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق وقال تعالى ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده فأخبر تعالى أن عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتديا وهذا تخصيص ظاهر كما ترى وقال تعالى فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء فهذا نص ما قلنا وأن الله تعالى قد نص قائلا لنا أن من أراد هذا شرح صدره للإسلام فآمن بلا شك وأن من أراد ضلاله ولم يرد هداه ضيق صدره وأحرجه حتى يكون كمريد الصعود إلى السماء فهذا لا يؤمن البتة ولا يستطيع وهو في ظاهره مستطيع بصحة جوارحه
قال أبو محمد أن الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلا ومن شهادة خمسة من الأنبياء إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم السلام بأنهم لا يستطيعون فعلا لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم وأنهم إن لم يوفقهم ضلوا جميعا مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل
قال أبو محمد ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عز و جل فيه فتجد الحافظ لا يقدر على تأخر الحفظ والبليد لا يقدر على الحفظ والفهيم لا يقدر على الغباوة والغبي لا يستطيع ذكاء الفهم والحسود لا يقدر على ترك الحسد والنزيه النفس لا يقدر على الحسد والحريص لا يقدر على ترك الحرص والبخيل لا يقدر على البذل والجبان لا يقدر على الشجاعة والكذاب لا يقدر على ضبط نفسه عن الكذب

كذلك يوجدون من طفوليتهم والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحي لا يقدر على القحة والوقح لا يقدر على الحياء والعي لا يقدر على البيان والطيوش لا يقدر على الصبر والغضوب لا يقدر على الحلم والصبور لا يقدر على الطيش والحليم لا يقدر على الغضب والعزيز النفس لا يقدر على المهانة والمهين لا يقدر على عزة النفس وهكذا في كل شيء فصح انه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله تعالى فيهم القوة على فعله وإن كان خلاف ذلك متوهما منهم بصحة البنية وعدم المانع
قال أبو محمد والملائكة والحور العين والجن وجميع الحيوان كله في الإستطاعة سواء كما ذكرنا ولا فرق بين شيء في ذلك كله وكلهم قد خلق الله عز و جل فيهم الإستطاعة الظاهرة بصحة الجوارح ولا يكون منهم فعل إلا بعون وارد من الله تعالى إذا ورد كان الفعل معه ولا بد قد خلق الله عز و جل فيهم اختيارا وإرادة وحركة وسكونا هم أفعالهم على غيرها والملائكة وحور العين معصومون لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلا لا طاعة ولا معصية وأما الذي يقدر على كل ما يفعل ومالا يفعل ولم يزل قادرا على كل ما يخطر بالقلب فهو واحد لا شريك له وهو الله عز و جل ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد وبالله تعالى التوفيق

الكلام في الهدى والتوفيق
قال أبو محمد احتجت المعتزلة بقول الله عز و جل وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وبقوله تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا
قال أبو محمد وهذا حق وقد قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوث فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فأخبر تعالى أن الذين هجى بعض الناس لا كلهم وقال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهي قراءة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من يهدي وكسر الدال فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده وقال تعالى من يضلل الله فلا هادي له فأخبر تعالى أن الذين أضل فلم يهدهم وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذي أضل ومثل هذا كثير وكل ذلك كلام الله عز و جل وكله حق لا يتعارض ولا يبطل بعضه بعضا قال الله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فصح يقينا أن كل ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا مختلف فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا وهدى الناس كلهم السبيل ثم هم بعد إما شاكرا وإما كفورا وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوما فاهتدوا ولم يهد أخرين فلم يهتدوا فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله عز و جل جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه هذا

أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة وهي التي يقع الإسم منها على مسمين مختلفين بنوعهما فصاعدا فالهدى يكون بمعنى الدلالة تقول هديت فلانا الطريق بمعنى أربته إياه ووقفته عليه وأعلمته إياه سواء سلكه أو تركه وتقول فلان هاد بالطريق أي دليل فيه فهذا الهدى الذي هداه الله ثمود وجميع الجن والملائكة وجميع الإنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي فهذا معنى ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز و جل الملائكة كلهم والمهتدين من الإنس والجن ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا قوله تعالى في الآيات المذكورة إنا هديناه السبيل فبين تعالى أن الذي هداهم له فهو الطريق فقط وكذلك أيضا قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقوله تعالى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى وهذا بلا شك غير ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل
قال أبو محمد وقوله تعالى إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم
قال أبو محمد فهذا نص جلي على ما قلنا وبيان أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون فيه إليها هدى لهم إلى تلك الطريق ونفى عنهم تعالى في الآخرة كل هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم ونعوذ بالله من الضلال
قال أبو محمد وقال بعض من يتعسف القول بلا علم أن قول الله عز و جل وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقوله تعالى إنا هديناه السبيل وقوله تعالى وهديناه النجدين إنما أراد تعالى بكل ذلك المؤمنين خاصة
قال أبو محمد وهذا باطل لوجهين أحدهما تخصيص الآيات بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل والثاني أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد وهو أن الله تعالى قال وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فرد تعالى الضمير فاستحبوا العمى على الهدى إلى المهديين أنفسهم فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا وأيضا فإن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه و سلم ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وقال له تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فصح يقينا أن الهدى الواجب على النبي صلى الله عليه و سلم هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده فإن ذكر ذاكر قول الله عز و جل ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فليس هذا على ما أظنه من لا ينعم النظر من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظاهر الآية مبطل لهذا الظن لأنه تعالى قال ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم فصح يقينا أن من علم الله تعالى فيه خيرا أسمعه وثبت أن فيه خيرا ثم قال تعالى ولو أسمعهم لتولوا

وهم معرضون فصح يقينا أنه أراد بلا شك أنه لو أسمعهم لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا أصلا لأنه تعالى قد نص على أن أسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيرا ومن المحال الباطل أن يكون من علم الله تعالى فيه خيرا يتولى عن الخير ويعرض عنه فبطل ما حرفوه بظنونهم من كلام الله عز و جل وكذلك قوله تعالى إنا هديناه السبيلا إما شاكرا وإما كفورا فإنه تعالى قسم من هدى السبيل قسمين كفورا وشاكرا فصح أن الكفور أيضا هدى السبيل فبطل ما توهموه من الباطل ولله تعالى الحمد وصح ما قلنا

الكلام في الإضلال
قال أبو محمد وقد تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي فبله متصلا به نصوصا كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه وجعل صدورهم ضيقة حرجة فإن اعترضوا بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا وما أضلنا إلا المجرمون فلا حجة لهم في هذه الوجوه أحدها أنه قول كفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى حينئذ والله ربنا ما كنا مشركين أنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون فإن أبوا إلا الإحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض والوجه الثاني أننا لا ننكر إضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ولكنه إضلال آخر ليس إضلال الله تعالى لهم والثالث أنه لا عذر لأحد في أن الله تعالى أضله ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك وأما من أضل آخر من دون الله تعالى فهو ملوم وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وفسر تعالى ذلك الإضلال تفسيرا أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشي وما هنالك من الأحزاب ومن تبعهم من الجهال فبين تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيق صدره عن قبول الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ولا يصبر عليه ويوعر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء وفسر ذلك أيضا عز و جل في آية أخرى قد تلوناها آنفا بأنه يجعل أكنة على قلوب الكافرين يحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاغة لبيانه وهداه وأن يفقهوه وأنه جعل تعالى بينهم وبين قول الرسول صلى الله عليه و سلم حجابا مانعا لهم من الهدى وفسره أيضا تعالى بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها فأمتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها وفسر تعالى إضلال من دونه فقال تعالى أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار وفسر تعالى أيضا القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبيت على قبول الحق وأنه تعالى يشرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده والعمل به وأنه صرف لكيد الشيطان ولفتنته عنهم نسأل الله أن يمدنا بهذه العطية وأن يصرف عنا الإضلال بمنه وأن لا يكلنا إلى أنفسنا فقد خاب وخسر من ظن في نفسه أنه قد استكمل القوى حتى استغنى عن أن يزيده الله تعالى توفيقا وعصمة ولم يحتج إلى خالقه في أن يصرف عنه فتنته ولا كيده لا سيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ولم يجعل عند خالقه قوة يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ونبرأ إلى الله خالقنا تعالى من الحول والقوة كلها إلا ما أتانا منها متفضلا علينا وأما كل ما جاء في القرآن من إضلال الشياطين للناس وأنسائهم إياهم ذكر الله تعالى وتزينهم لهم

ووسوستهم وفعل بعض الناس ذلك ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف وهذا كله القاء لما ذكرنا في قلوب الناس وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس وكذلك قوله تعالى حسدا من عند أنفسهم لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها وهو خلق الله تعالى فيها فإن ذكروا قول الله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهو كما قال الله عز و جل وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوما حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم وصدق الله عز و جل لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل أصلا فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالا بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله التوفيق فصح بهذه الآية أنه تعالى يضلهم بعد أن يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط
قال أبو محمد ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زائد أعطاه الله للكفار والعصاة وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وأكنانها عن أن يفقهوا الحق فإن قالوا إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يمدها الله تعالى بتوفيق قلنا لهم من خلقها هذه الخلقة المفسدة فإن لم يؤيدها بالتوفيق فإن قالوا الله تعالى هو خلقها كذلك أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية وركب فيها هذه الصفة المهلكة فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ أن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وقلنا لهم فمن خلق النفس وخلق فيها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل فإن قالوا الله سبحانه وتعالى أقروا بأن الله أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يمدها بلطف وتوفيق وكذلك إن قالوا أن النفس هي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول محيلين أيضا محالا ظاهرا لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لفعلها وإما مضطرة إلى فعلها على ما هي عليها فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مرارا بخلاف ما لا توجد إلا عليه وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى هذا الفعل فلا بد من أنه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى ان الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين أن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضا قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل
قال أبو محمد وأما القائلو بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا ها هنا وقالوا لا ندري ما معنى الإضلال ولا معنى الختم على قلوبهم ولا الطبع عليها وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم أنهم ضالون وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول ضللت بعيري وهذه كلها دعاوى بلا برهان
قال أبو محمد لم نجد لهم تأويلا اصلا في قول الله عز و جل حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء
قال أبو محمد وهذا هو الضلال حقا وهو أن يحملهم اللجاج والعمي في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الإضلال والختم

والطبع والأكنة على القلوب وقد فسر الله كل ذلك تفسيرا جليا وأيضا فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره أو يوجب صرفها ضرورة حس أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عندما جاء من ذلك ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلهم الله تعالى فيها وخيرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضعها في اللغة بل قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل ميسر لما خلق له فبين عليه السلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى للخير الذي له خلقه وأن الخذلان تيسيره الفاسق للشر الذي له خلقه وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعامة المسلمين حاشا من أضله الله على علم من أتباع العيارين الخلفاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ
قال أبو محمد ونبين هذا أيضا بيانا طبيعيا ضروريا لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها وقدرة الله تعالى في اختراعها فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الله عز و جل خلق نفس الإنسان مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمة بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على أثار النفس فالتمييز هو الذي خص نفس الإنسان والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف والذي ليس ناطقا والهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقا من حب اللذات والغلبة
قال أبو محمد وهذه القوة في كل الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلا بوجه من الوجوه فإذا عصم الله النفس غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز و جل في تمييزها من فعل الطاعات وهذا هو الذي يسمى العقل وإذا خذل جل وعز النفس أمد الهوى بقوة هي الإضلال فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز و جل في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد وسائر الأخلاق الرذلة والمعاصي وقد قامت البراهين على أن النفس مخلوقة وكذلك جميع قواها المنتجة عو قوتيها الأولتين التمييز والهوى كل ذلك مخلوق مركب في النفس مرتب على ما هو عليه فيها كل جار على طبيعته المخلوق لجري كيفياته بها على ما هي عليه فإذا قد صح أن كل ذلك خلق الله تعالى فلا مغلب لبعض ذلك على بعض إلا خالق الكل وحده لا شريك له وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة إلا من رحمها الله تعالى وعصمها قال جل وعز إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي فأخبر عز و جل بنص ما قلنا فصح أن المرحومة المستثناه لا تأمر بسوء وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وذم الله تعالى الهوى في غير ما موضع من كتابه وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل

الكلام في القضاء والقدر
قال أبو محمد ذهب بعض الناس لكثرة إستعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى الإكراه والإجبار وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ولذلك يقولون القاضي بمعنى الحاكم وقضى الله عز و جل بكذا أي حكم به ويكون أيضا بمعنى أمر قال تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه إنما معناه بلا خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ويكون أيضا بمعنى أخبر قال الله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين بمعنى أخبرناه أن دابرهم مقطوع بالصباح وقال تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا أي أخبرناهم بذلك ويكون أيضا بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم قال الله تعالى إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ومعنى ذلك حكم بكونه فكونه ومعنى القدر في اللغة العربيه الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء تقول قدرت البناء تقديرا إذا رتبته وحددته قال تعالى وقدر فيها أقواتها بمعنى رتب أقواتها وحددها وقال تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر يريد تعالى برتية وحد فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كذا وإلى وقت كذا فقط وبالله تعالى التوفيق
الكلام في البدل
قال أبو محمد قال بعض القائلين بالإستطاعة مع الفعل إذا سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيعه فأجاب أن الكافر مستطيع للإيمان على البدل بمعنى أن لا يتمادى في الكفر لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان
قال أبو محمد والذي يجب أن يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في الإستطاعة وهو أن تقول هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافرا وما دام لا يؤتيه الله جل وعز العون فإذا آتاه إياه تمت الإستطاعة وفعل ولا بد فإن قيل فهو مكلف مأمور قلنا نعم فإن قيل أهو عاجز عما هو مأمور به ومكلف أن يفعله قلنا وبالله التوفيق هو غير عاجز بظاهر بنيته لسلامة جوارحه وإرتفاع الموانع وهو عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ما لم ينزل الله تعالى له العون فيتم إرتفاع العجز عنه ويوجد الفعل ولا بد وتقول أن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة على الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس والمأمور بالفعل ليس في ظاهر أمره عاجزا إذ لا آفة في جوارحه ولا مانع له ظاهرا وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده وبين الفعل وتركه وعن فعل ما لم يؤته الله عونا عليه وعن تكذيب علم الله تعالى الذي لم يزل بأنه لم يفعل إلا ما سبق علمه تعالى فيه هذه الحقيقة الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين فإن قيل فهو ختار لما يفعل قلنا نعم إختيارا صحيحا لا مجازا لأنه مريد لكونه منه محب له مؤثر على تركه وهذا معنى لفظة الإختيار على الحقيقة وليس مضطرا ولا مجبرا ولا مكرها لأن هذه ألفاظ في اللغة لا تقع إلا على الكاره لما يكون منه في هذه الحال وقد يكون المرء مضطرا مختارا مكرها في حالة واحدة كإنسان في رجله أكلة لا دواء له إلا بقطعها

فيأمر اعوانه مختارا لأمره إياهم بقطعها وبحسمها بالنار بعد القطع ويأمرهم بإمساكه وضبطه وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم ويتوعدهم على التقصير في ذلك بالضرب والنكال الشديد فيفعلون به ذلك فهو مختار لقطع رجله إذ لو كره ذلك كراهة تامة لم يكرهه أحد على ذلك وهو بلا شك كاره لقطعها مضطر إليه إذ لو وجد سبيلا بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها ولم يقطعها وهو مجبر مكره بالضبط من أعوانه حتى يتم القطع والحسم إذ لو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يمكن من قطعها البتة وإنما أتينا بهذا لئلا ينكر الجاهلون أن يكون أحد يوجد مختارا من وجه مكرها من وجه آخر عاجزا من وجه مستطيعا من آخر قادرا من وجه ممنوعا من آخر وبالله تعالى نتأيد
الكلام في خلق الله عز و جل لأفعال خلقه
قال أبو محمد اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده فذهب أهل السنة كلهم وكل من قال بالإستطاعة مع الفعل كالمريسى وابن عون والنجارية والأشعرية والجهمية وطوائف من الخوارج والمرجئة والشيعة إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز و جل في الفاعلين لها ووافقهم على هذا موافقة صحيحة من المعتزلة ضرار بن عمرو وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد وذهب سائر المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من المرجئة والخوارج والشيعة إلى أن أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عز و جل على تخليط منهم في مائية أفعال النفس إلا بشر بن المعتمر عطف فقال إلا أنه ليس شيء من أفعال العباد إلا ولله تعالى فيه فعل من طريق الإسم والحكم يريد بذلك أنه ليس للناس فعل إلا ولله تعالى فيه حكم بأنه صواب أو خطأ ونسميه بأنه حسن أو قبيح طاعة أو معصية
قال أبو محمد وقد أدى هذا القول الفاحش الملعون رجلا من كبار المعتزلة وهو عباد بن سلمان تلميذ هشام بن عمرو الفوطي إلى أن قال أن الله تعالى لم يخلق الكفار لأنهم ناس وكفر معا لكن خلق أجسامهم دون كفرهم
قال أبو محمد ويلزمه مثل هذا نفسه في المؤمنين وفي جميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن وكافر والمؤمن إنسان وإيمانه أو ملك وإيمانه أو جني وإيمانه وكفره فعلى قول هذا البائس السخيف لا يجوز أن يقال أن لله تعالى خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيد بل يكون القول بهذا كذبا وحسبك بهذا القول خلافا للقرآن وللمسلمين وقال معمر والجاحظ أن أفعال العباد كلها لا فعل لهم فيها وإنما نسب إليهم مجازا لظهورها منهم وأنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة فقط فإنه لا فعل للإنسان غيرها البتة
قال أبو محمد ومن تدبر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال العباد طبيعة إضطرارية كفعل النار للإحراق بطبعها وفعل الثلج للتبريد بطبعه وفعل السقمونيا في أحدارها الصفراء بطبعها وهذه صفة الأموات لا صفة الأحياء المختارين وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل الا الإرادة فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا إحالتها ولا على تبديلها بوجه من الوجوه وإنما يظهر من المرء تبديل حركاته وسكونه واما إرادته فلا حيلة له فيها ونحن نجد كل قوى الآلة من الرجال

يحب وطء كل جميلة يستمتع بها لولا التقوى ويحب النوم عن الصلاة في الليالي القاهرة والهواجر الحارة ويحب الأكل في أيام الصوم ويحب إمساك ماله عن الزكاة وإنما يأتي خلاف ما يريد مغالبة لإرادته وقهرا لها وأما صرفا لها فلا سبيل له إليه فقد تم الإخبار صحيحا على قول هذين الرجلين وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال أبو محمد والبرهان على صحة قول من قال أن الله تعالى خلق أعمال العباد كلها نصوص من القرآن وبراهين ضرورية منتجة من بديهة العقل والحس لا يغيب عنها إلا جاهل وبالله تعالى التوفيق فمن النصوص قول الله عز و جل هل من خالق غير الله
قال أبو محمد هذا كاف لمن عقل واتقى الله وقد قال لي بعضهم إنما أنكر الله تعالى أن يكون هاهنا خالق غيره يرزقنا كما في نص الآية
قال أبو محمد وجواب هذا أنه ليس كما ظن هذا القائل بل القضية قد تمت في قوله غير الله ثم ابتدأ عز و جل بتعديد نعمه علينا فأخبرنا أنه يرزقنا من السماء والأرض وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم وهذا برهان جلي على أن الدين مخلوق لله عز و جل وقال تعالى والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا
قال أبو محمد ومنهم من يعبد المسيح وقالت الملائكة وصدقوا بل كانوا يعبدون الجن فصح أن كل ما عبدوه ومنهم المسيح والجن لا يخلقون شيئا ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فثبت يقينا أنهم مصرفون مدبرون وأن أفعالهم مخلوقة لغيرهم وقال تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون
قال أبو محمد وهذا نص جلي على إبطال أن يخلق أحد دون الله تعالى شيئا لأنه لو كان هاهنا أحد غيره تعالى يخلق لكان من يخلق موجودا جنسا في حيز ومن لا يخلق جنسا آخر وكان الشبه بين من يخلق موجودا وكان من لا يخلق لا يشبه من يخلق وهذا إلحاد عظيم فصح بنص هذه الآية أن الله تعالى هو يخلق وحده وكل من عداه لا يخلق شيئا فليس أحد مثله تعالى فليس من يخلق وهو الله تعالى كمن لا يخلق وهو كل من سواه وقال تعالى ولكل وجهة هو موليها وهذا نص جلي من كذبه كفر وقد علمنا أنه تعالى لم يأمر بتلك الوجهات كلها بل فيها كفر قد نهى الله عز و جل عنه فلم يبق إذ هو مولى كل وجهة إلا أنه خالق كل وجهة لا أحدا من الناس وهذا كاف لمن عقل ونصح نفسه ومنها قول الله عز و جل هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وهذا إيجاب لأن الله تعالى خلق كل ما في العالم وأن كل من دونه لا يخلق شيئا أصلا ولو كان ههنا خالق لشيء من الأشياء غير الله تعالى لكان جواب هؤلاء المقررين جوابا قاطعا ولقالوا له نعم نريك أفعالنا خلقها من دونك ونعم هاهنا خالقون كثير وهم نحن لأفعالنا وقوله عز و جل أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهذا بيان واضح لا خفاء به لأن الخلق كله جواهر وإعراض ولا شك في أنه لا يفعل الجواهر أحد دون الله تعالى وإنما يفعله الله عز و جل وحده فلم تبق إلا الأعراض فلو كان الله عز و جل خالقا لبعض الأعراض ويكون الناس خالقين

لبعضها لكانوا شركاء في الخلق ولكانوا قد خلقوا كخلقة خلق أعراضا وخلقوا أعراضا وهذا تكذيب لله تعالى ورد للقرآن مجردا فصح أنه لا يخلق شيئا غير الله عز و جل وحده والخلق هو الإختراع فالله مخترع أفعالنا كسائر الأعراض ولا فرق فإن نفورا خلق الله تعالى لجميع الأعراض لزمهم أن يقولوا أنها أفعال لغير فاعل أو أنها فعل لمن ظهرت منه من الأجرام الجمادية وغيرها فإن قالوا هي أفعال لغير فاعل فهذا قول أهل الدهر نصا ويكلمون حينئذ بما يكلم به أهل الدهر وإن قالوا أنها أفعال الأجرام كانوا قد جعلوا الجمادات فاعلة مخترعة وهذا باطل محال وهو أيضا غير قولهم فالطبيعة لا تفعل شيئا مخترعة له وإنما الفاعل لما ظهر منها خالق الطبيعة المظهر منها ما ظهر فهو خالق الكل ولا بد ولله الحمد ومنها قوله تعالى أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون إنه خلقنا وخلق العيدان والمعادن التي تعمل وهذا نص جلي على أنه تعالى خلق أعمالنا وقد فسر بعضهم قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون منها الأوثان
قال أبو محمد وهذا كلام سخيف دل على جهل قائله وعناده وانقطاعه لأنه لا يقول أحد في اللغة التي بها خوطبنا في القرآن وبها نتفاهم فيما بيننا أن الإنسان يعمل العود أو الحجر هذا ما لا يجوز في اللغة أصلا ولا في المعقول وإنما يستعمل ذلك موصولا فنقول عملت هذا العود صنما وهذا الحجر وثنا فإنما بين تعالى خلقه الصنمية التي هي شكل الصنم ونص تعالى على ذلك بقوله تعالى أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون فإنما عملنا النحت بنص الآية وبضرورة المشاهدة فهي التي عملنا وهي التي أخبرنا تعالى أنه خلقها
قال أبو محمد وقد ذكر عن كبير منهم وهو محمد بن عبد الله الإسكافي أنه كان يقول أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير ولقد يلزم المعتزلة أن توافقه على هذا لأن الخشبة لا تسمى عودا ولا طنبورا ولو حلف إنسان لا يشتري طنبورا فاشترى خشبا لم يحنث وكذلك لو حلف أن لا يشتري خشبا فاشترى طنبورا لم يحنث ولا يقع في اللغة على الطنبور اسم خشبة وقال تعالى خلق السموات والأرض فهي مخلوقة بنص القرآن وقد قال بعضهم إنما قال تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام فكانت أعمال الناس مخلوقة في تلك الأيام
قال أبو محمد لم ينف الله عز و جل أن يخلق شيئا بعد الستة أيام بل قد قال عز و جل يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق وقال تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين فكان هذا كله في غير تلك الستة الأيام فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبدا ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبدا بلا نهاية إلا أن عموم خلقه تعالى للسموات والأرض وما بينهما باق على كل موجود وقال بعضهم لا نقول أن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض
قال أبو محمد وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك وقد قال تعالى والسحاب المسخر بين السماء والأرض فصح أن السحاب ليست مماسة للسماء

ولا للأرض فهي إذا على قول هذا الجاهل غير مخلوقة ويلزمه أيضا أن يقول بقول معمر والجاحظ في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الموت ولا الحياة لأن كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض
قال أبو محمد وأما قول معمر والجاحظ أن كل هذا فعل الطبيعة فغباوه شديد وجهل بالطبيعة ومعنى لفظ الطبيعة إنما هي قوة الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه وبالضرورة نعلم أن تلك القوة عرض لا يعقل وكل ما كان مما لا إختيار له من جسم أو عرض كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر منها أنها أفعالها مخترعة لها فهو في غاية الجهل وبالضرورة نعلم أن تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق هاهنا إلا خالق الكل وهو الله لا إله إلا هو
قال أبو محمد ومن بلغ ههنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في موافقته أهل الدهر وتكذيبه القرآن إذ يقول الله تبارك وتعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله تعالى تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عز و جل نعوذ بالله مما ابتلاهم به وأقحمهم فيه وقال معمر معنى قوله تعالى خلق الموت والحياة إنما معناه الإماتة والإحياء
قال أبو محمد فما زاد على أنه أبدى تمام جهله بوجهين بينين أحدهما إحالته النص من كلام ربه تعالى بلا دليل والثاني أنه لم يزل عما لزمه لأن الموت والحياة هما الأمانه والإحياء بلا شك لأن الحياة والإحياء هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي والموت والإماتة شيء واحد وهو التفريق بين النفس والجسد المذكور فقط فإذا كان جمع النفس والجسد وتفريقهما مخلوقين لله تعالى فقد صح أن الموت والحياة مخلوقان له تعالى يقينا وبطل تمويه هذا المجنون
قال أبو محمد ومن النصوص القاطعة في هذا قول الله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر فلجأ بعضهم إلى دعوى الخصوص وذكروا قول الله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وقوله تعالى وأوتيت من كل شيء وقوله ففتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها بيان جلي على أنها إنما دمرت كل شيء أمرها الله تعالى بتدميره لا ما لم يأمرها فهو عموم لكل شيء أمرها به وقوله تعالى وأوتيت من كل شيء فمن للتبعيض فمن أتاه الله شيئا من الأشياء فقد أتاه من كل شيء لأنه قد أتاه بعض الأشياء وأما قوله تعالى ففتحنا عليهم أبواب كل شيء فحق ونحن لاندري كيفية ذلك الفتح إلا أننا ندري أن الله تعالى صدق فيما قال وأنه تعالى إنما أتاهم بعض الأشياء التي فتح عليهم أبوابها ثم لو صح برهان في بعض هذا العموم أنه ليس على ظاهره وإنما أريد به الخصوص لما وجب من ذلك أن يحمل كل عموم على خلاف ظاهره بل كل عموم فعلى ظاهره حتى يقوم برهان بأنه مخصوص أو أنه منسوخ فيوقف عنده ولا يتعدى بالتخصيص وبالنسخ إلى ما لم يقم برهان بأنه منسوخ أو مخصوص ولو كان غير هذا لما صحت

حقيقة في شيء من أخبار الله تعالى ولا صحت شريعة أبدا لأنه لا يعجز أحد في أمر من أوامر الله تعالى وفي كل خبر من أخباره عز و جل أن يحمله على غير ظاهره وعلى بعض ما يقتضيه عمومه وهذا عين السفسطة والكفر والحماقة ونعوذ بالله من الخذلان ولم يقم برهان على تخصيص قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر
قال أبو محمد ومن ذلك قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم
قال أبو محمد فنص الله على أنه برأ المصائب كلها فهو باريء لها والباريء هو الخالق نفسه بلا شك فصح يقينا أن الله تعالى خالق كل شيء إذ هو خالق كل ما أصاب في الأرض وفي النفوس ثم زاد تعالى بيانا برفع الإشكال جملة بقوله تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم فبين تعالى ان ما أصاب الأموال والنفوس من المصائب فهو خالقها وقد تكون تلك المصائب أفعال الظالمين بإتلاف الأموال وأذى النفوس فنص تعالى على أن كل ذلك خلق له تعالى وبه عز و جل التوفيق وأما من طريق النظر فإن الحركة نوع واحد وكلما يقال على جملة النوع فهو يقال مقول على أشخاص ذلك النوع ولا بد فإن كان النوع لمخلوقا فأشاصه مخلوقة وأيضا فلو كان في العالم شيء غير مخلوق لله عز و جل لكان من قال العالم مخلوق والأشياء مخلوقة وما دون الله تعالى مخلوق كاذب لأن في كل ذلك عندهم ما ليس بمخلوق ولكان من قال العالم غير مخلوق ولم يخلق الله تعالى الأشياء صادقا ونعوذ بالله تعالى من كل قول أدى إلى هذا ونسألهم هل لله تعالى إله العالم ورب كل شيء أم لا فإن قالوا نعم سئلوا أعموما أم خصوصا فإن قالوا بل عموما صدقوا ولزمهم ترك قولهم إذ من المحال أن يكون تعالى إلها لما لم يخلق وإن قالوا بل خصوصا قيل لهم ففي العالم إذا ما ليس الله إلها له ومالا رب له وإن كان هذا فإن من قال أن الله تعالى رب العالمين كاذب وكان من قال ليس الله إلها للعالمين ولا برب للعالمين صادقا وهذا خروج عن الإسلام وتكذيب لله تعالى في قوله أنه رب العالمين وخالق كل شيء وقد وافقونا على أن الله تعالى خالق حركات المختارين من سائر الحيوان غير الملائكة والإنس والجن وبالضرورة ندري الحركات الإختيارية كلها نوع واحد فمن المحال الباطل أن يكون بعض النوع مخلوقا وبعضه غير مخلوق
قال أبو محمد واعترضوا بأشياء من القرآن وهي أنهم قالوا قال الله عز و جل فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا وقال تعالى لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله وقال تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين وقوله تعالى وتخلقون إفكا وقوله تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء وقوله الذي أحسن كل شيء خلقه وقوله ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت واعترضوا بأشياء من طريق النظر وهي أن قالوا إن كان الله تعالى خلق أعمال العباد فهو إذا يغضب مما خلق ويكره ما فعل ويسخط فعله ولا يرضى ما فعل ولا ما دبر وقالوا أيضا كل من فعل شيئا فهو مسمى به ومنسوب إليه لا يعقل غير ذلك فلو خلق الله الخطاء والكذب والظلم والكفر لنسب كل ذلك إليه تعالى الله عن ذلك وقالوا أيضا لا يعقل فعل واحد من فاعلين

هذا فعله كله أو هذا فعله كله وقالوا أيضا أنتم تقولون أن الله تعالى خلق الفعل وأن العبد اكتسبه فأخبرونا عن هذا الإكتساب الذي انفرد به العبد أهو خلق أم هو غيره فإن قلتم هو خلق الله لزمكم أنه تعالى اكتسبه وأنه مكتسب له إذا لكسب هو الخلق وإن قلتم أن الكسب هو غير الخلق وليس خلقا لله تعالى تركتم قولكم ورجعتم إلى قولنا وقالوا أيضا إذا كانت أفعالكم مخلوقة لله تعالى وأنتم تقولون انكم مستطيعون على فعلها وعلى تركها فقد أوجبتم أنكم مستطيعون على أن لا يخلق الله تعالى بعض خلقه وقالوا أيضا إذا كان فعلكم خلقا لله تعالى وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على ما خلق وقالوا أيضا قد فرض الله علينا الرضا بما خلق فإن كان الظلم والكفر والكذب مما خلق ففرض علينا الرضا بالكفر والظلم والكذب
قال أبو محمد هذه عمدة اعتراضاتهم التي لا يشذ عنها شيء من تفريعاتهم وكل ما ذكروا لا حجة لهم فيه على ما نبين إن شاء الله تعالى بعونه وتأييده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى نستعين أما قول الله تعالى ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله فلا حجة لهم في هذا لأن أول الآية في قوم كتبوا كتابا وقالوا هذا من عند الله فأكذبهم الله تعالى في ذلك وأخبر أنه ليس منزلا من عنده ولا مما أمر به عز و جل ولم يقل هؤلاء القوم أن هذا الكتاب مخلوق فأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال تعالى أن ذلك الكتاب ليس مخلوقا لله تعالى فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة ولا شك عند المعتزلة وعندنا في أن ذلك الكتاب مخلوق لله تعالى لأنه قرطاس أو أديم ومداد وكل ذلك مخلوق بلا شك وأما قوله تبارك وتعالى الله أحسن الخالقين فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يتدانع وقال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فإذا لا شك في هذا فقد وجدناه تعالى أنكر على الكافرين فقال تعالى أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار فهذه الآية بينت ما تعلق به المعتزلة وذلك أن قوما جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فجعلوهم خالقين فأنكر الله تعالى ذلك فعلى هذا خرج قوله تعالى تبارك الله أحسن الخالقين كما قال تعالى يكيدون كيدا وأكيد كيدا وقال ومكروا ومكر الله ويبين بطلان ظنون المعتزلة في هذه الآية قول الله تعالى ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد أفيكون مسلما من أوجب لله تعالى شركاء من أجل قول الله تعالى للكفار الذين جعلوا له شركاء أين شركائي ولا شك في أن هذا الخطاب إنما خرج جوابا عن إيجابهم له الشركاء تعالى الله عن ذلك وكذلك قوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم وقد علمنا أن كلام الله تعالى كله هو على حكم ذلك المعذب لنفسه في الدنيا أنه العزيز الكريم وقد علمنا بضرورة العقل والنص أنه ليس لله تعالى شركاء وأنه لا خالق غيره عز و جل وأنه خالق كل شيء في العالم من عرض أو جوهر وبهذا خرج قوله تعالى أحسن الخالقين مع قوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق فلو أمكن أن يكون في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئا لما أنكر ذلك عز و جل إذ هو عز و جل لا ينكر وجود الموجودات وإنما ينكر الباطل فصح ضرورة لا شك فيها أنه لا خالق غير الله تعالى فإذ لا شك في هذا فليس في قول الله تعالى أحسن الخالقين إثبات لأن في العالم خالقا غير الله تعالى يخلق شيئا وبالله تعالى التوفيق وأما قوله وتخلقون إفكا وقوله تعالى عن المسيح عليه السلام

أنه قال إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير وقول زهير بن أبي سلمى المزني وأراك تخلق ما فريت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى فقد قلنا أن كلام الله تعالى لا يختلف وقد قال تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون وبيقين علم كل ذي عقل أن من جملة أولئك الآلهة الذين اتخذهم الكفار الملائكة والجن والمسيح عليه السلام قال تعالى لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم وقال الله تعالى حاكيا عن الملائكة أنهم قالوا عن الكفار بل كانوا يعبدون الجن فقد صح يقينا بنص هذه الآية أن الملائكة والجن والمسيح عليه السلام لا يخلقون شيئا أصلا ولا يختلف اثنان في أن جميع الإنس في فعلهم كمن ذكرنا أن كاوا هؤلاء يخلفون أفعالهم فسائر الناس يخلقون أفعالهم وإن كان هؤلاء لا يخلقون شيئا من أفعالهم فسائر الناس لا يخلقون شيئا من أفعالهم فإن ذلك وكلام الله عزوجل لا يختلف فإذ لا شك في هذا فإذ الخلق الذي أثبته الله عز و جل للمسيح عليه السلام في الطير وللكفار في الإفك هو غير الخلق الذي نفاه عنهم وعن جميع الخلق لا يجوز البتة غير هذا فإذ هذا هو الحق بيقين فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفسه ونفاه عن غيره هو الاختراع والابداع وإحداث الشيء من لا شيء بمعنى من عدم إلى وجود وأما الخلق الذي أوجبه الله تعالى فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط وانفرادهم به والله تعالى خالقه فيهم وبرهان ذلك أن العرب تسمى الكذب اختلاقا والقول الكاذب مختلفا وذلك القول بلا شك إنما هو لفظ ومعنى واللفظ مركب من حروف الهجاء وقد كان كل ذلك موجود النوع قبل وجود أشخاص هؤلاء المختلفين وهذا كقوله عز و جل أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون وكقوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت لكن الله رمى فبيقين يدري كل ذي حس يؤمن بالله تعالى وبالقرآن أن الزرع والقتل والرمي الذي نفاه عن الناس وعن المؤمنين وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو غير الزرع والقتل والرمي الذي أضافه إليهم لا يمكنه البتة غير ذلك لأنه تعالى لا يقول إلا الحق فإذ ذلك قال الذي نفاه عمن ذكرنا هو خلق كل شيء واختراعه وابداعه وتكوينه وإخراجه من عدم إلى وجود والذي أوجب لهم منه ظهوره فيهم ونسبة ذلك كله إليهم كذلك فقط وبالله التوفيق وقول زهير وأراك تخلق ما فريت لا يشك من له أقل فهم بالعربية أنه لم يعن الابداع ولا إخراج الخلق من عدم إلى وجود وإنما أراد النفاذ في الأمور فقط فقد وضح أن لفظة الخلق مشتركة تقع على معنيين أحدهما لله تعالى لا لأحد دونه وهو الإبداع من عدم إلى وجود والثاني الكذب فيما لم يكن أو ظهور فعل لم يتقدم لغيره أو نفاذ فيما حاول وهذا كله موجود من الحيوان ولله تعالى خالق كل ذلك وبالله تعالى التوفيق وبهذا تتألف النصوص كلها واما قوله تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء فهو عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أن بصنعه أتقن كل شيء وهذا على عمومه وظاهره فالله تعالى صانع كل شيء وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا جاريين على رتبة واحدة أبدا وهذا عين الإتقان وأما قوله تعالى أحسن كل شيء خلقه فإنهما قراءتان مشهورتان من قراآت المسلمين إحداهما أحسن كل شيء خلقه بإسكان اللام فيكون

خلقه بدلا من كل شيء بدل البيان فهذه القراءة حجة عليهم لأن معناها أن الله تعالى أحسن خلقه لكل شيء وصدق الله عزو جل وهكذا نقول آن خلق الله تعالى لكل شيء حسن والله تعالى محسن في كل شيء والقراءة الأخرى خلقه بفته اللام وهذا أيضا لا حجة لهم فيها لأنه ليس فيها إيجاب لأن ها هنا شيئا لم يخلق الله عز و جل ومن ادعى أن هذا في اقتضاء الآية فقد كذب وإنما يقتضي لفظة الآية أن كل شيء فالله خلقه كما في سائر الآيات والله تعالى أحسنه إذ خلقه وهذا قولنا وكذا نقول أن لإنسان لا يفعل شيئا إلا الحركة أو السكون والاعتقاد والإرادة والفكر وكل هذه كيفيات وأعراض حسن خلقها من الله عز و جل قد حسن رتبتها وإيقاعها في النفوس والأجساد وإنما قبح ما قبح من ذلك من الإنسان لأن الله تعالى سمى وقوع ذلك أو بعضها ممن وقعت منه قبيحا وسمى بعض ذلك حسنا كما كانت الصلاة إلى بيت المقدس حركة حسنة إيمانا ثم سماها تعالى قبيحة كفرا وهذه تلك الحركة نفسها فصح أنه ليس في العالم شيء حسن لعينه ولا شيء قبيح لعينه لكن ما سماه الله تعالى حسنا فهو حسن وفاعله محسن قال الله تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وقال تعالى هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وما سماه الله تعالى قبيحا فهو حركة قبيحة وقد سمى الله تعالى خلقه لكل شيء في العالم حسنا فهو كله من الله تعالى حسن وسمى ما وقع من ذلك من عباده كما شاء فبعض ذلك قبحه فهو قبيح وبعض ذلك حسنه فهو حسن وبعد ذلك قبحه ثم حسنه فكان قبيحا ثم حسنا وبعض ذلك حسنه ثم قبحه فكان حسنا ثم قبح كما صارت الصلاة إلى الكعبة حسنة بعد أن كانت قبيحة كذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله تعالى فيهم كالوطء قبل النكاح وبعده وكسبي من نقض الذمة وسائر الشريعة كلها وقد اتفقت المعتزلة معنا على أن خلق الله تعالى للخمر والخنازير والحجارة المعبودة من دونه حسن بلا شك وهو سماه قبائح وأرجاسا وحراما ونجسا وسيئا وخبيثا وهكذا القول في خلقه للأعراض في عباده ولا فرق وكذلك وافقنا أكثرهم على أنه تعالى خلق فساد الدماغ والجنون المتولد منه والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة وكل هذا من خلق الله تعالى له حسن وكله فيما بيننا قبيح رديء جدا يستعاذ بالله منه وقد نص الله تعالى على أنه خلق المصائب كلها فقال عزو جل ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في انفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أن ذلك على الله يسير فنص تعالى على أنه برأ المصائب كلها وبرأ هو خلق بلا خلاف من أحد ولا فرق بين إلزامهم إيانا أن الله تعالى أحسن الكفر والظلم والجور والكذب والقبائح إذ خلق كل ذلك وبين إقرارهم معنا أن الله تعالى قد أحسن الخمر والخنازير والدم والميتة والعذرة وإبليس وكل ما قال إنا إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دون الله تعالى والمصايب كلها والأمراض والعاهات إذ خلق كل ذلك فأي شيء قالوه في هذه الأشياء فهو قولنا في خلق الله تعالى للكفر به ولشتمه والظلم والكذب ولا فرق كل ذلك قد أحسن الله خلقه إذ حركه أو سكونا أو ضميرا في النفس وسمى ظهوره من العبد قبيحا موصوفا به الإنسان وأما قوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فلا حجة لهم في هذا أيضا لأن التفاوت المعهود هو مانافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا فليس ذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإذ ليس هو هذا

الذي يسميه الناس تفاوتا فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوتا لكذب قول الله عزو جل ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يكذب الله تعالى إلا كافر فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز و جل مرئي فيه مشاهد بالعيان فيه فبطل احتجاجهم والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز و جل أنه لا يرى في خلقه قيل لهم نعم وبالله التوفيق هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلا بل هو معدوم جملة إذ لو كان شيئا موجودا في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ثم نقول وبالله تعالى التوفيق أن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى أجسامه وأعراضه كلها لا تحاشي شيئا منها ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وانواع أجسامه جرت القسمة جريا مستويا في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة وهيئة واحدة إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ولا تخالف في شيء منه أصلا ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معا تحت نوع الشكل والتخطيط ثم تحت نوع الكيفية ثم تحت اسم العرض وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ثم تحت فعل النفس ثم تحت الكيفية والعرض وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم وكذلك أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية وتحت اسم العرض وقوعا حقا مستويا لا تفاوت فيه ولا اختلاف وهكذا القول في الظلم والانصاف وفي العدل والجور وفي الصدق والكذب وفي الزنا والوطء الحلال وكذلك كل ما في العالم حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرؤس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة على ما بينا في كتاب التقريب والحمد لله رب العالمين فانتقى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ضرورة لا منفك لهم عنها وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتا كما زعموا لكان التفاوت موجودا في خلق الرحمن وقد كذب الله تعالى ذلك ونفى أن يرى في خلقه تفاوت وأما اعتراضهم من طريق النظر بأن قالوا أنه تعالى إن كان خلق الكفر والمعاصي فهو إذا يغضب مما فعل ويغضب مما خلق ولا يرضى ما صنع ويسخط ما فعل ويكره ما يفعل وأنه يغضب ويسخط من تدبيره وتقديره فهذا تمويه ضعيف ونحن لا ننكر ذلك إذ أخبرنا الله عز و جل بذلك وهو تعالى قد أخبرنا أنه يسخط الكفر والظلم والكذب ولا يرضاه وأنه يكره كل ذلك ويغضب منه فليس إلا التسليم لقول الله تعالى نعم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم أليس الله خلق إبليس وفرعون والخمر والكفار فلا بد من نعم فنقول لهم أيرضى عز و جل عن هؤلاء كلهم أم ساخط لهم فلا بد من نعم فنقول لهم أيرضى عز و جل عن هؤلاء كلهم أم هو ساخط لهم فلا بد من أنه ساخط لهم كاره لهم غضبان عليهم غير راض

عنهم فنقول لهم هذا نفس ماأنكرتم من أنه تعالى سخط تدبيره وغضب من فعله وكره ما خلق ولعنه فإن قالوا لم يكره عين الكافر ولا سخط شخص إبليس ولا كره عين الخمر لم نسلم لهم ذلك لأنه تعالى قد نص علىأنه تعالى لعن إبليس والكفار وأنهم مسخوطون ملعونون مكروهون من الله تعالى مغضوب عليهم وكذا الخمر والأوثان وقال إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه وقال تعالى ولحم الخنزير فإنه رجس وقد سمى الله تعالى كل ذلك رجسا ثم أمر بعد ذلك باجتنابه وأضاف كل ذلك إلى عمل الشيطان ولا خلاف في أنه عز و جل خالق كل ذلك فهو خلق الرجس بالنص ولا فرق في المعقول بين خلق الرجس وخلق الكفر والظلم والكذب وقوله تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها فعلى قول هؤلاء المخاذيل أنه تعالى يغضب مما ألهم ويكرهه وإلهامه فعله بلا شك ضرورة فقد صح عليهم ما شنعوا به من أنه يغضب من فعله أيضا فيقال لهم هل الله تعالى قادر على منع الظالم من المظلوم وعلى منع الذين قتلوا رسل الله صلى الله عليه و سلم وعلى أن يحول بين الكافر وكفره وأن يميته قبل أن يبلغ وبين الزاني وزناه بأضعاف جارحته أو بشيء يشغله به أو تيسير إنسان يطل عليهما أم هو عاجز عن ذلك كله قادر على شيء منه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا هو غير قادر على شيء من ذلك عجزوا ربهم وكفروا وبطلت أداتهم على إحداث العالم إذا أضعفوا قدرته عن هذا اليسير السهل وإن قالوا بل هو قادر على ذلك كله فقد اقروا ايضا على أنه تعالى رأى المنكر والكفر والزنا والظلم فأقره ولم يغيره وأطلق أيدي الكفار على قتل رسله وضربهم ومع إقراره لكل ذلك فلم يكتفي بكل ذلك إلا حتى قواهم بجوارحهم وآلاتهم وكف كل مانع وهذا على قولهم أنه رضا منه تعالى بالكفر واختيارا منه تعالى لكل ذلك وهذا كفر مجرد وأما أنه يغضب مما أقر ويسخط مما أعان عليه ويكره ما فعل من إقرارهم على كل ذلك وهذا هو الذي شنعوا به لا بد من أحد الوجهين ضرورة وكلاهما خلاف قولهم إلا أن هذا لازم لهم على أصولهم ولا يلزمنا نحن شيء منه لأننا لا نقبح إلا ما قبح الله تعالى ولا نحسن إلا ما حسن الله تعالى فإن قالوا إنما أقره لينتقم منه وإنما يكون سفها وعبثا لواقره أبدا قيل لهم أي فرق بين إقراره تعالى الكفر والظلم والكذب ساعة وبين إبقائه إياه ساعة بعد ساعة وهكذا أبدا بلا نهاية أو بنهاية في الحسن والقبح وإلا فعرفونا الأمد الذي يكون إقرار الكفر والكذب والظلم إليه حكمة وحسنا وإذا تجاوزه صار عبثا وعيبا وسفها فإن تكلفوا أن يحدوا في ذلك حدا أتوا بالجنون والسخف والكذب والدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا لا ندري وردوا الأمر في ذلك إلى الله عزو جل صدقوا وهذا هو قولنا أن كل ما فعله الله تعالى من تكليف ما لا يطاق وتعذيبه عليها وخلقه الكفر والظلم في الكافر والظالم وإقراره كل ذلك ثم تعذيبهما عليه وخلقه الكفر وغضبه منه وسخطه إياه كل ذلك من الله تعالى حكمه وعدل وحق وممن دونه تعالى سفه وظلم وباطل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأما قولهم أن من فعل شيئا وجب أن ينسب إليه ويسمى به نفسه وأنه لا يعقل ولا يوجد غير هذا وإيجابهم بهذا الاستدلال أن يسمى الله تعالى ظالما لأنه خلق الظلم وكذلك من الكفر والكذب فهذا ينتقض عليهم من وجهين أحدهما أن هذا تشبيه محض لأنهم يريدون أن يحكموا على الباري تعالى بالحكم الموجود الجاري على

خلقه ويقال لهم إذ لم تجدوا فاعلا في الشاهد إلا جسما ولا عالما إلا بعلم هو غيره ولا حيا إلا بحياة هي عرض فيه ولا مخبرا عنه إلا جسما أو عرضا وما لم يكن كذلك فهو معدوم ولا يتوهم ولا يعقل ثم رأيتم الباري تعالى بخلاف ذلك كله ولم تحكموا عليه بالحكم فيما وجدتم فقد وجب ضرورة أن لا يحكم عليه تعالى بالحكم علينا في أن يسمى من افعاله ولا في أن ينسب إليه كما ينسب إلينا بلا خلاف ذلك بالبرهان الضروري وهو أن الله عز و جل خلق كل ما خلق من ذلك مخترعا له كيفية مركبة في غيره فهكذا هو فعل الله تعالى فيما خلق وأما فعل عباده لما فعلوا فإنما معناه أنه ظهر ذلك الفعل عرضا محمولا في فاعله لأنه إما حركة في متحرك وإما سكون في ساكن إو اعتقاد في معتقد أو فكر في متفكر أو إرادة في مريد ولا مزيد فبين الأمرين بون بائن لا يخفى على من له أقل فهم وأما المدح والذم واشتقاق اسم الفاعل من فعله فليس كما ظنوا لكن الحق هو أنه لا يستحق أحد مدحا ولا ذما إلا من مدحه الله تعالى أو ذمه وقد أمرنا الله تعالى بحمده والثناء عليه فهو عز و جل محمود على كل ما فعله محبوب لذلك وأما من دونه تعالى فمن حمد الله تعالى فعله الذي أظهره فيه فهو ممدوح محمود ومن ذم عز و جل فعله الذي أظهره فيه فهو مذموم ولا مزيد وبرهان هذا إجماع أهل الإسلام على أنه لا يستحق الحمد والمدح إلا من أطاع الله عز و جل ولا يستحق الذم إلا من عصاه وقد يكون المرء مطيعا محمودا اليوم ممدوحا بفعله أن فعله اليوم وكافرا مذموما به أن فعله غدا كالحج في أشهر الحج وفي غير أشهر الحج ولصوم يوم الفطر والأضحى وصوم رمضان وكالصلاة في الوقت وقبل الوقت وبعد الوقت وكسائر الشرائع كلها وقد وجدنا فاعلا للكذب قائلا له وفاعلا للكفر قائلا به وهما غير مذمومين ولا يسمى واحد منهما كاذبا ولا كافرا وهما الحاكي والمكره فبطل ما ظنت المعتزلة من أنه كل من فعل الكذب فهو كاذب ومن فعل الكفر فهو كافر ومن فعل الظلم فهو ظالم وصح أنه لا يكون كاذبا ولا كافرا ولا ظالما إلا من سماه الله تعالى كافرا وكاذبا وظالما وأنه لا كفر ولا ظلم ولا كذب إلا ما سماه الله كفرا وكذبا وظلما وصح بالضرورة التي لا محيد عنها أنه ليس في العالم شيء محمود ممدوح لعينه ولا مذموم لعينه ولا كفر لعينه ولا ظلم لعينه وأما ما لا يقع عليه اسم طاعة ولا معصية ولا حكمها وهو الله تعالى فلا يجوز أن يوقع عليه مدح ولا حمد ولا ذم إلا بنص من قبله فنحمده كما أمرنا أن نقول الحمد لله رب العالمين وأما من دونه ممن لا طاعة تلزمه ولا معصية كالحيوان من غير الملائكة وكالحور العين والإنس والجن وكالجمادات فلا يستحق حمدا ولا ذما لأن الله لم يأمر بذلك فيها فإن وجد له تعالى أمر بمدح شيء منها أو ذمه وجب الوقوف عند أمره تعالى كأمره تعالى بمدح الكعبة والمدينة والحجر الأسود وشهر رمضان والصلاة وغير ذلك وكأمره تعالى بذم الخمر والخنزير والميتة والكنيسة والكفر والكذب وما أشبه ذلك وأما ما عدا هذين القسمين فلا حمد ولا ذم وأما اشتقاق اسم الفاعل من فعله فكذلك أيضا ولا فرق وليس لأحد أن يسمى شيئا إلا بما اباحه الله تعالى في الشريعة أو في اللغة التي أمرنا بالتخاطب بها وقد وجدناه تعالى أخبرنا بأن له كيدا ومكرا ويمكر ويكيد ويستهزئ وينسى من نسيه وهذا لا تدفعه المعتزلة ولو دفعته لكفرت لردها نص القرآن وهم مجمعون معنا على أنه لا يسمى باسم مشتق

من ذلك فلا يقال ماكر من أجل أن له مكرا ولاأنه كياد من أجل أنه يكيد وأن له كيدا ولا يسمى مستهزئا من أجل أنه يستهزئ بهم فقد أبطل ما أصلوه من أن كل فعل فإنه يسمى منه وينسب إليه ولا يشغب ها هنا مشغب مع من لا يحسن المناظرة فيقول إنما قلنا أنه يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى على المعارضة بذلك فإنا نقول له صدقت ولم نخالفك في هذا لكن ألزمناك أن تسميه تعالى كيادا وماكرا ومستهزئا وناسيا على معنى المعارضة كما تقول فإن أبي من ذلك وقال أن الله تعالى لم يسم بشيء من ذلك نفسه فقد رجع إلى الحق ووافقنا في أن الله تعالى لا يسمى ظالما ولا كافرا ولا كاذبا من أجل خلقه الظلم والكفر والكذب لأنه تعالى لم يسم بذلك نفسه وإن أنكر ذلك تناقض وظهر بطلان مذهبه
قال أبو محمد وقد وافقونا على أن الله تعالى خلق الخمر وحبل النساء ولا يجوز أن يسمى خمارا ولا محبلا وأنه تعالى خلق أصباغ القمارى والهداهد والحجل وسائر الألوان ولا يسمى صباغا وأنه تعالى بنى السماء والأرض ولا يسمى بناء وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقيا وأنه تعالى خلق الخمر والخنازير وإبليس ومردة الشياطين وكذلك كل سوء وسيء وخبيث ورجس وشر ولا يسمى من أجل ذلك مسيئا ولا شريرا فأي فرق بين هذا كله وبين أن يخلق الشر والظلم والكفر والكذب ومعاصي عباده ولا يسمى بذلك مسيئا ولا ظالما ولاكافرا ولا كاذبا ولا شريرا ولا فاحشا والحمد لله على ما من به من الهدى والتوفيق وهو المستزاد من فضله لا إله إلا هو ويقال لهم أيضا أنتم تقرون بأنه خلق القوة التي بها يكون الكفر والظلم والكذب وهيأها لعباده ولا يسمونه من أجل ذلك يغريا على الكفر ولا معينا للكافر في كفره ولا مسببا للكفر ولا واهبا للكفر وهذا بعينه هو الذي عبتم وأنكرتم يقال لهم أيضا أخبر عن تعذيبه أهل جهنم في النيران أمحسن هو بذلك إليهم أم مسيء فإن قالوا بل محسن إليهم قالوا الباطل وخالفوا أصلهم وسألناهم أن يسألوا الله عز و جل لأنفسهم ذلك الإحسان نفسه وإن قالوا أنه مسيء إليهم كفروا به وإن قالوا ليس مسيئا إليهم قلنا لهم فهم في إساءة أو في إحسان فإن قالوا ليسوا في إساءة كابروا العيان وإن قالوا بل هم في إساءة قلنا لهم هذا الذي أنكرتم ان يكون منه تعالى إليهم حال هي غاية الإساءة ولا يسمى بذلك مسيئا وأما نحن فنقول لهم انهم في غاية المساءة والإساءة والسخط إليهم وعليهم وليس السخط إحسانا إلى المسخوط عليه وكذلك اللعنة للملعون وأنه تعالى محسن على الإطلاق ولا نقول أنه مسيء أصلا وبالله تعالى التوفيق والأصل في ذلك ما قلناه من أنه لا يجوز أنه يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ولا يخبر عنه إلا بما أخبر به عن نفسه ولا مزيد فإن قالوا إذا جوزتم أن يفعل الله تعالى فعلا ما هو ظلم بيننا ولا يكون بذلك ظالما فجوزنا أن نخبر بالشيء على خلاف ما هو ولا يكون بذلك كاذبا وأن لا يعلم ما يكون ولا يكون بذلك جاهلا وأن لا يقدر على الشيء ولا يكون بذلك عاجزا قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال من وجهين أحدهما اننا قد أوصحنا أنه ليس في العالم ظلم لعينه ولا بذاته البتة وإنما الظلم بالإضافة فيكون قتل زيد إذا نهى الله عنه ظلما وقتله إذا أمر الله بقتله عدلا وأما الكذب فهو كذب لعينه وبذاته فكل من أخبر بخبر بخلاف ما هو فهو كاذب إلا أنه لا يكون ذلك إثما ولا مذموما إلا حيث أوجب الله تعالى فيه الإثم والذم فقط

وكذلك القول في الجهل والعجز أنهما جعل لعينه وعجز لعينه فكل من لم يعلم شيئا فهو جاهل به ولا بد وكل من لم يقدر على شيء فهو عاجز عنه ولا بد والوجه الثاني أن بالضرورة التي بها علمنا من نواة التمر لا يخرج منها زيتونة وأن الفرس لا ينتج جملا بها عرفنا أن الله تعالى لا يكذب ولا يعجز ولا يجهل لأن كل هذه من صفات المخلوقين عنه تعالى منفية إلا ما جاء نص بأن يطلق الاسم خاصة من أسمائها عليه تعالى فيقف عنده وأيضا فإن أكثر المعتزلة يحقق قدرة الباري تعالى على الظلم والكذب ولا يجيزون وقوعهما منه تعالى وليس وصفهم إياه عز و جل بالقدرة على ذلك بموجب إمكان وقوعه منه تعالى فلا ينكروا علينا أن نقول أن الله عز و جل فعل أفعالا هي منه تعالى عدل وحكمة وهي منا ظلم وعبث وليس يلزمنا مع ذلك أن نقول أنه يقول الكذب ويجهل فبطل هذا الإلزام والحمد لله رب العالمين وأيضا فإننا لم نقل أنه تعالى يظلم ولا يكون ظالما ولا قلنا أنه يكفر ولا يسمى كافرا ولا قلنا إنه يكذب و يسمى كاذبا فيلزمنا ما أرادوا وإلزامنا إياه وإنما قلنا أنه خلق الظلم والكذب والكفر والشر والحركة والطول والعرض والسكون إعراضا في خلقه فوجب أن يسمى خالقا لكل ذلك كما خلق الجوع والعطش والشبع والري والسمن والهزال واللغات ولم يجر أن يسمى ظالما ولا كاذبا ولا كافرا ولا شريرا كما لم يجز عندنا وعندهم أن يسمى من أجل خلقه لكل ما ذكرناه متحركا ولا ساكنا ولا طويلا ولا عريضا ولا عطشان ولا ريان ولا جائعا ولا شابعا ولا سمينا ولا هزيلا ولا لغويا وهكذا كل ما خلق الله تبارك وتعالى فإنما يخبر عنه بأنه تعالى خالق له فقط ولا يوصف بشيء مما ذكرنا إلا من خلقه الله تعالى عرضا فيه وأما قولهم لا يفعل فعل من فاعلين هذا فعله كله وهذا فعله فإن هذا تحكم ونقصان من القسمة أوقعهم فيها جهلهم وتناقضهم وقولهم إنما يستدل بالشاهد على الغايب وهذا قول قد افسدناه في كتابنا في الأحكام في أصول الأحكام بحمد الله تعالى ونبين ها هنا فساده بايجاز فنقول وبالله تعالى التوفيق إنه ليس عن العقل الذي هو التمييز شيء غائب أصلا وإنما يغيب بعض الأشياء من الحواس وكل ما في العالم فهو مشاهده في العقل المذكور لأن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول فيه وكلاهما يقتضي خالقا أو لا واحدا لا يشبهه شيء من خلقه في وجه من الوجوه فإن كانوا يعنون بالغائب الباري عز و جل فقد لزمه تشبيهه بخلقه إذ حكموا بتشبيه الغائب بالحاضر وفي هذا كفاية بل ما دل الشاهد كله إلا أن الله تعالى بخلاف كل من خلق من جميع الوجوه وحاشا الله أن يكون جل وعز غائبا بل هو شاهد بالعقل كما نشاهد بالحواس كل حاضر ولا فرق بين صحة معرفتنا عز و جل بالمشاهدة بضرورة العقل وبين صحة معرفتنا لسائر ما نشاهده ثم نرجع إن شاء الله تعالى إلى إنكارهم فعلا واحدا من فاعلين فنقول وبالله تعالى التوفيق إنما امتنع ذلك فيما بيننا في الأكثر لا على العموم لما شاهدناه من أنه لا تكون حركة واحدة في الأغلب لمتحركين ولا اعتقاد واحد لمعتقدين ولا إرادة واحدة لمريدين ولا فكرة واحدة لمفتكرين ولكن لو أخذ اثنان سيفا واحدا أو رمحا واحدا فضربا به إنسانا فقطعاه أو طعناه به لكانت حركة واحدة غير منقسمة لمتحركين بها وفعلا واحدا غير منقسم لفاعلين هذا أمر يشاهد بالحس والضرورة وهذا منصوص في القرآن من أنكره كفر وهو أن القراءة المشهورة عند المسلمين إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا وليهب لك غلاما زكيا كلا القراءتين

بنقل الكواف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن جبريل صلى الله عليه و سلم فإذا قرئت بالهمز فهو إخبار جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم الروح الأمين أنه هو الواهب لها عيسى عليه السلام وإذا قرئت بالياء فهو من أخبار جبريل عن الله عز و جل بان الله تعالى هو الواهب لها عيسى عليه السلام فهذا فعل من فاعلين نسب إلى الله عز و جل الهبة لأنه تعالى هو الخالق لتلك الهبة ونسبت الهبة أيضا إلى جبريل لأنه منه ظهرت إذ أتى بها وكذلك قوله عز و جل وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبر تعالى انه رمى وأن نبيه رمى فأثبت تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم الرمي ونفاة عنه معا وبالضرورة ندري أن كلام الله عز و جل لا يتناقض فعلمنا أن الرمي الذي نفاه الله عز و جل عن نبيه صلى الله عليه و سلم هو غير الرمي الذي أثبته له لا يظن غير هذا مسلم البتة فصح ضرورة أن نسبة الرمي إلى الله عز و جل لأنه خلقه وهو تعالى خالق الحركة التي هي الرمي وممض الرمية وخالق مسير الرمي وهذا هو المنفي عن الرامي وهو النبي صلى الله عليه و سلم وصح أن الرمي للذي أثبته الله عز و جل لنبيه صلى الله عليه و سلم هو ظهور حركة الرمي منه فقط وهذا هو نص قولنا دون تكلف وكذلك قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم والقول في هذا كالقول في الرمي ولا فرق وكذلك قوله تعالى زينا لكل أمة عملهم وقوله تعالى فزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ضررة أن تزيين الله لكل أمة عملها إنما هو خلقه لمحبة أعمالهم في نفوسهم وأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم إنما هو بظهور الدعاء إليها وبوسوسة وقال تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام أنه قال إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله أفليس هذا فعلا من فاعلين من الله تعالى ومن المسيح عليه السلام بنص الآية وهل خالق الطير ومبرئ الأكمة والأبرص ألا الله وقد أخبر عيسى إذ يخلق ويبرئ فهو فعل من فاعلين بلا شك وقال عز و جل مخبرا عن نفسه أنه يحيي ويميت وقال عيسى عليه السلام عن نفسه وأحي الموتى بإذن الله فبالضرورة نعلم أن الميت الذي أحياه عليه السلام والطير الذي خلق ينص القرآن فإن الله تعالى أحياه وخلقه وعيسى عليه الصلاة و السلام أحياه وخلقه بنص القرآن فهذا كله فعل من فاعلين بلا شك وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول في قوله تعالى وأحلوا قومهم دار البور جهنم وقد علمنا يقينا أن الله تعالى هو الذي أحلهم فيها بلا شك لكن لما ظهر منهم السبب الذي حلوا به دار البوار أضيف ذلك إليهم كما قال تعالى عن إبليس كما أخرج أبويكم من الجنة وقد علمنا أن الله تعالى هو أخرجهما وأخرج إبليس معهما ولكن لما ظهر من إبليس السبب في خروجهما أضيف ذلك إليه وكما قال تعالى لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فنقول أن محمدا صلى الله عليه و سلم أخرجنا من الظلمات إلى النور وقد علمنا أن المخرج له عليه السلام ولنا هو الله تعالى لكن لما ظهر السبب في ذلك منه عليه السلام أضيف الفعل إليه فهذا كله لا يوجب الشركة بينهم وبين الله تعالى كما تموه المعتزلة وكل هذا فعل من فاعلين وكذلك سائر الأفعال الظاهرة من الناس ولا فرق وقال تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقال تعالى وأملي لهم أن كيدي متين وقال تعالى الشيطان سول لهم وأملى لهم فعلمنا ضرورة أن إملاء الله تعالى إنما هو تركه إياهم دون تعجيل عقاب بل بسط لهم من الدنيا ومد لهم من العمر

ما كان لهم عونا على الكفر والمعاصي وعلمنا أن إملاء الشيطان إنما هو بالوسوسة وإنساء العقاب والحض لهم على المعاصي وقال تعالى أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون فهذا فعل من فاعلين ضرورة نسب إلى الله تعالى لأنه اخترعه وخلقه وإنما نسب إلينا لأننا تحركنا في زرعه فظهرت الحركة المخلوقة فينا فهذه كلها افعال خلقها الله تعالى وأظهرها في عباده فقط وبالله تعالى نتأيد
قال أبو محمد وتحقيق هذا القول في الأفعال هو أن الله سبحانه وتعالى خلق كل ما خلق قسمين فقط جوهرا حاملا وعرضا محمولا ناطقا وغير ناطق فغير الحي هو الجماد كله والناطق هو الملائكة وحور العين والجن والإنس فقط غير الناطق هو كل ما عدا ذلك من الحيوان ثم خلق تعالى في الجمادات وفي الحي غير الناطق وفي الحي الناطق حركة وسكونا وتأثيرا قد ذكرناه آنفا فالفلك يتحرك والمطر ينزل والوادي يسيل والجبل يسكن والنار تحرق والثلج يبرد وهكذا في كل شيء بهذا جاء القرآن وجميع اللغات قال تعالى تلفح وجوههم النار وقال تعالى فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا وقال تعالى فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى والفلك تجري في البحر بأمره والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس ومثل هذا كثير جدا وبهذا جاءت اللغات في نسبة الأفعال الظاهرة في الجمادات إليها لظهورها فيها فقط لا يختلف لغة في ذلك وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال أجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب انهن أضللن كثيرا من الناس فأخبر أن الأصنام تضل وقال تعالى تذروه الرياح وهذا أكثر من أن يحصى والإعراض أيضا تفعل كما ذكرنا قال عز و جل والعمل الصالح يرفعه وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فالظن يردي والعمل يرفع ولم تختلف أمة في صحة القول أعجبني عمل فلان وسرني خلق فلان ومثل هذا كثير جدا وقد وجدنا الحر يحلل ويصعد والبرد يجمد ومثل هذا كثير جدا وقد بيناه والكل خلق الله عز و جل وأما حركة الحي غير الناطق والحي الناطق وسكونهما وتأثيرهما فظاهر أيضا ثم خلق الله سبحانه وتعالى في الحي غير الناطق وفي الحي الناطق قصدا ومشيئة لم يخلق ذلك في الجماد كإرادة الحيوان الرعي وتركه والمشي وتركه والأكل وتركه وما أشبه هذا ثم خلق تعالى في الحي الناطق تمييزا لم يخلقه في الحي غير الناطق ولا في الجماد وهو التصرف في العلوم والمعارف هذا كله أمر مشاهد وكل ذلك خلق الله تعالى فيما خلقه فيه ونسب الفعل في كل ذلك إلى من أظهره الله تعالى منه فقط فخلق تعالى كما ذكرنا في الحي الناطق الفعل والاختيار والتمييز وخلق في الحي غيرالناطق الفعل والاختيار فقط وخلق في الجماد الفعل فقط وهو الحركة والسكون والتأثير كما ذكرنا وبالجملة فلا فرق بين من كابر وجاهر فأنكر فعل المطبوع بطبعه وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وبين آخر جاهر وكابر فأنكر فعل المختار باختياره وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وكلا الأمرين محسوس بالحس معلوم بأول العقل وضرورته أنه فعل لما ظهر منه ومعلوم كل ذلك بالبرهان الضروري أنه خلق الله تعالى في المطبوع وفي المختار فإن فروا إلى القول بأن الله تعالى لم يخلق فعل المختار وانه فعل المختار فقط قلنا قد بينا بطلان هذا قبل ولكن نعارضكم ها هنا بأن منكم من يقول بأن الله تعالى أيضا لم يخلق فعل المطبوع وأنه فعل المطبوع

فقط كمعمر وغيره من كبار المعتزلة فإن قالوا أخطأ من قال هذا وكفر قلنا لهم وأخطأ أيضا وكفر من قال أن أفعال المختار لم يخلقها الله تعالى ولا فرق فإن قالوا أن الله تعالى هو خالق الطبيعة والمطبوع الذين ينسبون الفعل إليهما فهو خالق ذلك الفعل قلنا لهم والله عز و جل أيضا هو خالق المختار وخالق اختياره وخالق قوته وهم الذين ينسبون الفعل إليهم فهو عز و جل خالق ذلك الفعل ولا فرق
قال أبو محمد وهذا الذي ذكرنا من إضافة التأثير وجميع الأفعال إلى كل من ظهرت منه من جماد أو عرض أو حي أو ناطق أو غير ناطق فهو الذي تشهد به الشريعة وبه جاء القرآن والسنن كلها وبه تشهد البينة لأنه أمر محسوس مشاهد وبه تشهد جميع اللغات من جميع أهل الأرض قاطبة لا نقول لغة العرب فقط بل كل لغة لا نحاشى شيئا منها وما كان هكذا فلا شيء أصح منه فإن قالوا تسمون الجماد والعرض كسبا قلنا لا لأنا لا نتعدى ما جاءت به اللغة من أحال اللغة التي بها نزل القرآن برأيه فقد دخل في جملة من قال الله تعالى فيه يحرفون الكلم عن مواضعه ولحق بالسوفسطائية في إبطالهم التفاهم ولو جاءت اللغة بذلك لقلناه كما نقول أن الله عز و جل فاعل ذلك ولا نسميه كاسبا فإن قيل أتقولون أن الجمادات والعرض عامل قلنا نعم لأن اللغة جاءت بذلك وبه نقول الحديد يعمل والحر يعمل في الأجسام وهكذا في غير ذلك فإن قيل أتقولون للجماد والعرض استطاعة وقوة وطاقة وقدرة قلنا إنما نتبع اللغة فقط فنقول أن الجمادات والأعراض قوى يظهر بها ما خلق الله تعالى فيها من الأفعال وفيها طاقة لها ولا نقول فيها قدرة ولا نمنع من أن نقول فيها طاقة قال الله تعالى وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد فنقول الحديد ذو بأس شديد وذو قوة عظيمة وذو طاقة وقد قلنا لكم لا نتعدى في التسمية والعبارة جملة ما جاءت به اللغة ولا نتعدى في تسمية الله تعالى والخبر عنه ما جاء به القرآن ونص عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا هو الذي صح به البرهان وما عداه فباطل وضلال وبالله تعالى التوفيق وأما اعتراضهم بهل الخلق هو الكسب أو غيره فنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن وكل صنعنا وجميع أعمالنا وأفعالنا لذلك هو خلق الله عز و جل فينا كما ذكرنا لأن كل ذلك شيء وقال تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر ولكننا لا نتعدى باسم الكسب حيث اوقعه الله تعالىمخبرا لنا بأننا نجزي بما كسبت أيدينا وبما كسبنا في غير موضع من كتابة ولا يحل أن يقال أنه كسب لله تعالى لأنه تعالى لم يقله ولا أذن في قوله ولا يحل أن يقال أنها خلق لنا لأن الله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله لكن نقول هي خلق لله كما نص على انه خالق كل شيء ونقول هي كسب لنا كما قال تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ولا نسميه في الشريعة ولا فيما يخبر به عن الله عز و جل لأن الله خالق الألسنة الناطقة بالأسماء وخالق الاسماء وخالق المسميات حاشاه تعالى وخالق الهواء الذي ينقسم على حروف الهجاء فتتركب منها الأسماء فإذا كانت الأسماء مخلوقة لله والمسميات دونه تعالى مخلوقة لله عز و جل والمسمون الناطقون بالاتهم مخلوقين لله عز و جل فليس لأحد إيقاع اسم على مسمى لم يوقعه الله تعالى عليه في الشريعة أو أباح إيقاعه عليه بإباحته الكلام باللغة التي أمرنا الله عز و جل بالتفاهم بها وبأن نتعلم بها ديننا ونعلمه

بها وقد نص تعالى على هذا القول منكرا على قوم أوقعوا اسما على مسميات لم يأذن الله تعالى بها ولا بإيقاعها عليه إن هي إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فأخبر عز و جل أن من أوقع اسما على مسمى لم يأت به نص بإيجابه أو بالإذن فيه بالشريعة أو بجملة اللغة فإنما يتبع الظن والظن أكذب الحديث وإنما يتبع هواه وقد حرم الله تعالى اتباع الهوى وأخبر تعالى أن الهدى قد جاء من عنده وقال تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة فليس لأحد أن يتعدى القرآن والسنة اللذين هما هدي الله عز و جل وبه التوفيق فصح ضرورة أنه ليس لأحد أن يقول إن أفعالنا خلق لنا ولا أنها كسب لله عز و جل ولكن الحق الذي لا يجوز خلافه هو أنها خلق لله تعالى كسب لنا كما جاء في هدي الله الذي هو القرآن وقد بينا أيضا أن الخلق هو الإبداع والاختراع وليس هذا لنا أصلا فأفعالنا ليست خلقا لنا والكسب إنما هو استضافة الشيء إلى جاعله أو جامعه بمشيئة له وليس يوصف الله تعالى بهذا في أفعالنا فلا يجوز أن يقال هي كسب له تعالى وبه نتأيد وأيضا فقد وافقونا كلهم على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأجسام وكلهم حاشا معمر أو عمرو بن بحر الجاحظ موافقون لنا على تسمية البارئ تعالى بأنه خالق للأعراس كلها حاشا أفعال المختارين وكلهم ومعمر والجاحظ أيضا موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق الإماتة والأحياء وكلهم موافقون لنا على أنه تعالى إنما سمى خالقا لكل ما خلق لإبداعه إياه وكم يكن قبل ذلك فإذا ثبت بالبرهان اختراعه تعالى لسائر الأعراض التي خالفونا فيها وجب أن يسمى خلقا له عز و جل ويسمى هو تعالى خالقا لها وأما اعتراضهم بأنه إذا كانت أفعالنا خلقا لله تعالى وكان متوهما منا ومستطاعا عليه في ظاهر أمرنا بسلامة جوارحنا أن لا تكون تلك الأفعال فقد ادعينا اننا مستطيعون في ظاهر الأمر بسلامة الجوارح وأنه متوهم منا منع الله من أن يخلقها وهذا كفر مجرد ممن أجازه
قال أبو محمد وهذا لازم للمعتزلة على الحقيقة لا لنا لأنهم القائلون أنهم يقدرون ويستطيعون على الحقيقة على ترك أفعالهم وعلى ترك الوطء الذي قد علم الله تعالى انه لا بد أن يكون وأن يخلق منه الولد وعلى ترك الضرب الذي قد علم الله أنه لا بد أن يكون وأنه يكون منه الموت وانقضاء الأجل المسمى عنده وعلى ترك الحرث والزرع الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يكون منه النبات الذي تكون منه الأقوات والمعاش فيلزمهم ولا بد أنهم قادرون على منع الله تعالى مما قد علم وقال أنه سيفعل
قال أبو محمد ومن بلغ ههنا فلا بد أن يرجع إما تائبا محسنا إلى نفسه أو خاسئا غاويا مقلدا منقطعا أو يتمادى على طرد قوله فيكفر ولا بد مع خلافه لضرورة الحس والمشاهدة وضرورة العقل والقرآن وبالله تعالى التوفيق وأما نحن فجوابنا ها هنا أننا لم نستطع قط على فعل ما لم يعلم الله أننا سنفعله ولا على ترك ما علم أننا نفعله ولا على فسخ علم الله تعالى أصلا ولا على تكذيبه عز و جل في فعل ما أمر تعالى به وإن كنا في ظاهر الأمر نطلق ما أطلق الله تعالى من الاستطاعة التي لا يكون بها إلا ما علم الله تعالى أنه يكون ولا مزيد وهي استطاعة بإضافة لا استطاعة على الإطلاق لكن نقول هو مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم كون الفعل منه فقط فإن قالوا أفأمركم الله تعالى بأن تكذبوا قوله وتبطلوا علمه إذ أمركم بفعل ما علم أنه لا تفعلونه قلنا عند

تحقيق الأمر فإن أمره عز و جل لمن علم أنه لا يفعل ما أمر به أمر تعجيز كقوله قل كونوا حجارة أو حديدا وكقوله من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ
قال أبو محمد وقد تحيرت المعتزلة ها هنا حتى قال بعضهم لو لم يقتل زيد لعاش وقال أبو الهذيل لو لم يقتل لمات وشغب القائلون بأنه لو لم يقتل لعاش بقول الله عز و جل وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب وبقول رسول الله صلى الله عليه و سلم من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم فيه بل هو بظاهره حجة عليهم لأن النقص في اللغة التي بها نزل القرآن إنما هو من باب الإضافة وبالضرورة علمنا أن من عمر مائة عام وعمر آخر ثمانين سنة فإن الذي عمر ثمانين نقص من عدد عمر الآخر عشرين عاما فهذا هو ظاهر الآية ومقتضاها على الحقيقة لا ما يظنه من لا عقل له من أن الله تعالى جار تحت أحكام عباده أن ضربوا زيدا أماته وإن لم يضربوه لم يمته ومن أن علمه غير محقق فربما أعاش زيدا ماية سنة وربما أعاشه أقل وهذا هو البداء بعينه ومعاذ الله تعالى من هذا القول بل الخلق كله مصرف تحت أمر الله عز و جل وعلمه فلا يقدر أحد على تعدي ما علم الله تعالى أنه يكون ولا يكون البتة إلا ما سبق في علمه أن يكون والقتل نوع من أنواع الموت فمن سأل عن المقتول لو لم يقتل لكان يموت أو يعيش فسؤاله سخيف لأنه إنما يسأل لو لم يمت هذا الميت أكان يموت أو كان لايموت وهذه حماقة جدا لأن القتل علة لموت المقتول كما أن الحمى القاتلة والبطن القاتل وسائر الأمراض القاتلة علل للموت الحادث عنها ولا فرق وأما قول رسول الله صلى الله عليه و سلم من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه فصحيح موافق للقرآن ولما توجبه المشاهدة وإنما معناه أن الله عز و جل لم يزل يعلم أن زيدا سيصل رحمه وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا وكذا كل حي في الدنيا لأن من علم الله تعالى أن سيعمره كذا وكذا من الدهر فإنه تعالى قد علم وقدر أنه سيتغذى بالطعام والشراب ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لا بد من استيفائها والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز و جل كما هو لا يبدل قال تعالى ما يبدل القول لدي ولو كان على غير هذا لوجب البداء ضرورة ولكان غير عليم بما يكون متشككا فيه لا يكون أم لا يكون جاهلا به جملة وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق وهذا كفر ممن قال به وهم لا يقولون بهذا
قال أبو محمد ونص القرآن يشهد بصحة ما قلنا قال الله تعالى عز و جل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وقال تعالى قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وقال تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وقال تعالى منكر القول قوم جرت المعتزلة في ميدانهم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت وقال تعالى كان لنفس أن تموت إلا بإذا الله كتابا مؤجلا

قال أبو محمد وهذه نصوص لا يبعد من ردها بعد أن سمعها عن الكفر نعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وموه بعضهم بأن ذكر قول الله تعالى ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده
قال أبو محمد وهذه الآية حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه قضى أجلا ولم يقل لشيء دون شيء لكن على الجملة ثم قال تعالى وأجل مسمى عنده فهذا الأجل المسمى عنده هو الذي قضى بلا شك إذ لو كان غيره لكان أحدهما ليس أجلا إذا أمكن التقصير عنه أو مجاوزته ولكن الباري تعالى مبطلا إذ سماه اجلا وهذا كفر لا يقوله مسلم وأجل الشيء هو معياده الذي لا يتعداه وإلا فليس يسمى أجلا البتة ولم يقل تعالى أن الأجل المسمى عنده هو غير الأجل الذي قضى فأجل كل شيء منقضي أمره بالضرورة نعلم ذلك ويبين ذلك قوله تعالى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها وقد أخبرنا تعالى بذلك أيضا فقال وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا فتظاهرت الآيات كلها بالحق الذي هو قولنا وبتكذيب من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق وأما الأرزاق فإن الله تعالى أخبرنا فقال الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم وقال تعالى وخلقناكم أزواجا فكل مال حلال فإنما نقول أنه تعالى رزقنا إياه وكل امرأة حلال فإنا نقول أن الله تعالى زوجنا إياها أو ملكنا إياها وأما من أخذ مالا بغير حق أو امرأة بغير حق فلا يجوز أن نقول أنه تعالى رزقنا إياه ولا أن الله تعالى ملكنا إياه ولا أن الله أعطانا إياه ولا أن الله تعالى زوجنا إياها ولا أن الله تعالى ملكنا إياها ولا أنكحنا إياها لأن الله تعالى لم يطلق لنا أن نقول ذلك وقد قلنا أن الله تعالى له التسمية لا لنا لكن نقول أن الله ابتلانا بهذا المال وبهذه المرأة وامتحنا بهما وأضلنا بهما وخلق تملكنا إياهما ونكاهما لنا واستعمالنا إياهما ولا نقول أنه أطعمنا الحرام ولا أباح لنا الحرام ولا وهب لنا الحرام ولا آتانا الحرام كما ذكرنا من التسمية وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وأما قولهم أليس إذا كانت أفعالكم لكم ولله تعالى فقد وجب أنكم شركاؤه فيها فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا من أبرد ماموهوا به وهو عايد عليهم لأنهم يقولون أنهم يخترعون أفعالهم ويخلقونها وهي بعض الأعراض وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض ويخلقها ويخترعها فهذا هو عين الإشراك والتشبيه في حقيقة المعنى وهو الاختراع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأما نحن فلا يلزمنا إيجاب الشركة لله تعالى فيما قلنا لأن الإشراك لا يجب بين المستركين إلا باتفاقهما فيما اشتركا فيه وبرهان ذلك أن أموالنا ملك لنا وملك لله عز و جل بإجماع منا ومنهم وليس ذلك بموجب أن تكون شركاؤه فيها لاختلاف جهات الملك لأن الله تعالى إنما هو مالك لها لأنها مخلوقة له تعالى وهو مصرفنا فيها وناقلها عنا وناقلنا عنها كيف شاء الله تعالى وهي ملكنا لأنها كسب وملزمون أحكامها ومباح لنا التصرف فيها بالوجوه التي أباحها الله تعالى لنا وأيضا فنحن عالمون بأن محمدا رسول الله والله تعالى عالم بذلك وليس ذلك موجبا لأن نكون شركاءه في ذلك العلم لاختلاف الأمر في ذلك لأن علمنا عرض محمول فينا وهو غيرنا وعلم الله تعالى ليس هو غيره ومثل هذا كثير جدا لا يحصى في دهر طويل بل لا يحصيه مفصلا إلا الله وحده لا شريك له

فكيف لم يجب الاشتراك البتة بين الله تعالى وبيننا عندهم في هذه الوجوه كلها ووجب أن يكون شركاؤه في شيء ليس للاشتراك البتة فيه مدخل وهو خلقه تعالى لأفعال لنا هو فاعل لها بمعنى مخترع لها ونحن فاعلون لها بمعنى ظهورها محمولة فينا وهذا خلاف فعل الله تعالى لها وقد قال بعض أصحابنا بأن الأفعال لله تعالى من جهة الخلق وهي لنا من جهة الكسب
قال أبو محمد وقد تذاكرت هذا مع شيخ طرابلسي يكنى أبا الحسن معتزلي فقال لي وللأفعال جهات وزاد بعضهم فقال أو ليست إعراضا والعرض لا يحمل العرض والصفة لا تحمل الصفة
قال أبو محمد وهذا جهل من قائله وقضية فاسدة من إهذار المتكلمين ومشاغبهم وقول يرده القرآن والمعقول والإجماع من جميع اللغات والمشاهدة فأما القرآن فإن الله تعالى يقول عذاب عظيم وعذاب أليم ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر وقال تعالى وأنبتها نباتا حسنا وقال تعالى إن كيد الشيطان كان ضعيفا وقال تعالى ومكروا مكرا كبارا وقال تعالى إن كيدكن عظيم وقال تعالى وجاؤا بسحر عظيم وقال تعالى صفراء فاقع لونها وقال تعالى قد بدت البغضاء من أفواههم وقال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال تعالى وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وقال تعالى اتبعوا ما أسخط الله وقال تعالى فلما أضاءت ما حوله وقال تعالى تلفح وجوههم النار وقال تعالى فأخذتكم الصاعقة وقال تعالى ومما تنبت الأرض وقال تعالى لما يتفجر منه الأنهار وقال تعالى فيخرج منه الماء وقال تعالى فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس
قال أبو محمد فوصف الله تعالى العذاب بالعظم بالإيلام وبأن فيه أكبر وأدنى ووصف النبات بالحسن وكيد الشيطان بالضعف وكيد النساء بالعظم والمكر بالكبر والسحر بالعظم واللون بالفقوع وذكر أن البغضاء تبدو وأن الكلام الطيب يصعد إليه تعالى وأن الأعمال الصالحة ترفع الكلام الطيب وأن الظن يردي وأن العمل الرديء يسخط الله تعالى ومثل هذا في القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر من أن يجمع إلا في جزء ضخم فكيف يساعد أمرأ مسلما لسانه على إنكار شيء من هذا بعد شهادة الله عز و جل بما ذكرنا وأما إجماع اللغات فكل لغة لا ينكر أحد فيها القول بصورة حسنة وصورة قبيحة وحمرة مشرقة وحمرة مضيئة وحمرة كدرة ولا يختلف أحد من أهل الأرض في أن يقول صف لي عمل فلان وهذا موصوف وصفة عمل كذا وكذا وهذا هو الذي أنكروا بعينه وهو أكثر من أن يحصى وأما الحس والعقل والمعقول فبيقين يدري كل ذي فهم أن الكيفيات تقبل الأشد والأضعف هذه خاصة الكيفية التي توجد في غيرها وكل هذا عرض يحمل عرضا وصفة تحمل صفة
قال أبو محمد وقد عارضني بعضهم في هذا فقال لو أن العرض يحمل العرض لحمل ذلك العرض عرضا آخر وهكذا أبدا وهذا يوجب وجود أعراض لا نهاية لها وهذا باطل
قال أبو محمد فقلت أن المشاهدات لا تدفع بهذه الدعوى الفاسدة وهذا الذي ذكرت

لا يلزم لأننا لم نقل كل عرض فواجب أن يحمل أبدا لكننا نقول أن من الأعراض ما يحمل الأعراض كالذي ذكرنا ومنها ما لايحمل الأعراض وكل ذلك جار على ما رتبه الله عز و جل وعلى ما خلقه وكل ذلك له نهاية تقف عندها ولا يزيد ونحن إذا وجد فيما بيننا جسم يزيد على جسم آخر زيادة ما في طوله أو عرضه فليس يجب من ذلك ان الزيادة موجودة إلى مالا نهاية له لكن تنتهي الزيادة إلى حيث رتبها الله عز و جل وتقف وإنما العلم كله معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط ونقول لهم أتخالف حمرة التفاحة حمرة الخوخة أم لا فلا بد لهم من أن يقولوا بأنها قد تخالفها في صفة ما ألا أن ينكروا العيان فنقول لهم أتخالف الحمرة والصفرة أم لا فلا بد أيضا من نعم فنقول لهم أخلاف الحمرة للحمرة هو خلاف الحمرة للصفرة أم لا فلا بد من لا ولو قالوا نعم للزمهم أن الصفرة هي الحمرة إذ كانت الصفرة لا تخالفها الحمرة إلا بما تخالف فيه الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فإذا في الحمرة والصفرة صفتان بهما يختلفان غير الصفة التي بها تخالف الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فقد صح يقينا أن الصفة قد تحمل الصفة وأن العرض قد يحمل العرض بضرورة المشاهدة على حسب ما رتبه الله تعالى وكل ذلك ذو نهاية ولا بد وتحقيق الكلام في هذه المعاني وتناهيها هو أن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد والجوهر أجناس وأنواع والعرض أجناس وأنواع والاجناس محصورة ببراهين قد ذكرناها في كتاب التقريب عمدتها أن الأجناس أقل عددا من الأنواع المنقسمة تحتها بلا شك والأنواع أكثر عددا من الأجناس إذ لا بد من أن يكون تحت كل جنس نوعان أو أكثر من نوعين والكثرة والقلة لا يقعان ضرورة إلا في ذي نهاية من مبدئه ومنتهاه لأن ما لا نهاية له فلا يمكن ان يكون شيء أكثر منه ولا أقل منه ولا مساويا له لأن هذا يوجب النهاية ولا بد فالعالم إذا ذو نهاية لانه ليس شيئا غير الأجناس والأنواع التي للجواهر والأعراض فقط والمعاني إنما هي للأشياء المعبر عنها بالألفاظ فقط فإذ هذا كما ذكرنا فإنما نقيس الأشياء بصفاتها التي تقوم منها حدودها مثل أن نقول ما الإنسان فنقول جسم ملون ونفس فيه تمكن أن تكون متصرفة في العلوم والصناعات يقبل الحياة والموت فيقال ما الجسم وما النفس وما اللون وما الصناعات وما العلوم وما الحياة وما الموت فإذا فسرت جميع هذه الألفاظ ورسمت كل ما يقع عليه وفعلت كذلك في جميع الأجناس والأنواع فقد انتهت المعاني وانقطعت ولا سبيل إلى التمادي بلا نهاية أصلا لأن كل ما ينطبق به أو يعقل فإنه لا يعدو الأجناس والأنواع البتة والأنواع والأجناس محصورة كما بينا وكل ما خرج من الأشخاص إلى حد الفعل فقد حصره العدد لأنه ذو مبدأ وكل ما حصره العدد فمتناه ضرورة فجميع المعاني من الأعراض وغيرها محصورة بما ذكرنا من البرهان الصحيح الذي ذكرنا أن كل ما في العالم مما خرج إلى الوجود في الدهر مذ كان العالم من جنس أو عرض فهو كله محصور عدده متناه أمده ذو غاية في ذاته في مبدئه ومنتهاه وبالله تعالى التوفيق وقد نعجز نحن عن عد شعور أجسامنا ونوقن أنها ذات عدد متناه بلا شك فليس قصور قولنا عن إحصاء عدد ما في العالم بمعترض على وجوب وجود النهاية في جميع أشخاص جواهره وأعراضه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وأما قولهم إذا كان فعلنا خلقا لله عز و جل ثم عذبنا عليه فإنما عذبنا على خلقه فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا لا يلزم ولو لزمنا للزمهم إذا كان تعالى يعذبنا على إرادتنا

وحركتنا الواقعتين منا أن يعذبنا على كل حركة لنا أو على كل إرادة لنا بل على كل حركة في العالم وعلى كل إرادة فإن قالوا لا يعذبنا إلا على حركتنا وارادتنا الواقعين منا بخلاف أمره عز و جل وكذلك نقول نحن أنه لا يعذبنا إلا على خلقه فينا الذي هو ظاهر منا بخلاف أمره وهو منسوب إلينا ومكتسب لنا لإيثارنا إياه المخلوق فينا فقط لا على كل ما خلق فينا أو في غيرنا ولا فرق ولو أخبرنا تعالى أنه يعذبنا على ما خلق في غيرنا لقلنا به ولصدقناه كما نقر أنه يعذب أقواما على ما لم يفعلوه قط ولا أمروا به لكن على ما يفعله غيرهم ممن جاء بعدهم بألف عام لأن أولئك كانوا أول من فعل مثل ذلك الفعل قال الله تعالى وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقال تعالى حاكيا عن أحد ابني آدم عليه السلام أنه قال إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وقال تعالى ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون وليس هذا معارضا لقوله تعالى وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء بل كلا الآيتين متفقة مع الأخرى لأن الخطايا التي نفى الله عز و جل أن يحملها أحد عن أحد هي بمعنى أن يحط حمل هذا لها من عذاب العامل بها شيئا فهذا لا يكون لأن الله عز و جل نفاه وأما الحمل لمثل عقاب العامل للخطيئة مضاعفا زائدا إلى عقابه غير حاط من عقاب الآخر شيئا فهو واجب موجود وكذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن من سن سنة في الإسلام سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها أبدا لا يحط ذلك من أوزار العاملين لها شيئا ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذبنا على فعل غيرنا دون أن نسنه وأنه يعذبنا على غير فعل فعلناه أو على الطاعة لكان كل ذلك حقا وعدلا ولوجب التسليم له ولكن الله تعالى وله الحمد قد آمننا من ذلك بقوله تعالى لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ولحكمه تعالى أننا لا نجزي إلا بما عملنا أو كنا مبتدئين له فأمنا ذلك ولله تعالى الحمد وقد أيقنا أيضا أنه تعالى يأجرنا على ما خلق فينا من المرض والمصائب وعلى فعل غيرنا الذي لا أثر لنا فيه كضرب غيرنا لنا ظلما وتعذيبهم لنا وعلى قتل القاتل لمن قتل ظلما وليس ها هنا من المقتول صبر ولا عمل أصلا فإنما أجر على فعل غيره مجردا إذا أحدثه فيه وكذلك من أخذ غيره ماله والمأخوذ ماله لا يعلم بذلك إلى أن مات فأي فرق بين أن يأجرنا على فعل غيرنا وعلى فعله تعالى في إحراق مال من لم يعمل بإحتراق ماله وبين أن يعذبنا على ذلك لو شاء عز و جل وأما قولهم فرض الله عز و جل الرضا بما قضى وبما خلق فإن كان الكفر والزنا والظلم مما خلق ففرض علينا الرضا بذلك فجوابنا أن الله عز و جل لم يلزمنا قط الرضا بما خلق وقضى بكل ما ذكر بل فرض الرضا بما قضى علينا من مصيبة في نفس أو في مال مظهر تمويههم بهذه الشبهة
قال أبو محمد فإن احتجوا بقول الله عز و جل ماأصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فالجواب أن يقال لهم وبالله تعالى التوفيق أن هذه الآية أعظم حجة على أصحاب ألا صلح وهم جمهور المعتزلة في ثلاثة أوجه وهي حجة على جميع المعتزلة في وجهين لأن في هذه الآية أن ما أصاب الإنسان من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه وهم كلهم لا يفرقون بين الأمرين بل الحسن والقبيح من أفعال المرء كل ذلك عندهم من نفس المرء لا خلق الله تعالى في شيء من فعله لا حسنه ولا قبيحه فهذه الآية مبطلة لقول جميعهم في هذا الباب والوجه الثاني أنهم كلهم قائلون أنه لا يفعل المرء حسنا ولا قبيحا البتة إلا بقوة موهوبة

من الله تعالى مكنه بها من فعل الخير والشر والطاعة والمعصية تمكينا مستويا وهي الاستطاعة على اختلافهم فيها فهم متفقون على أن الباري تعالى خالقها وواهبها كانت نفس المستطيع أو بعضها أوعر ضافية وفي هذه الآية فرق بين الحسن والسيء كما ترى وأما الوجه الثالث الذي خالف فيه القائلون بالأصلح خاصة هذه الآية فإنهم يقولون أن الله تعالى لم يؤيد فاعل الحسنة بشيء من عنده تعالى ولم يؤثر فاعل السيئة والآية مخبرة بخلاف ذلك فصارت الآية حجة عليهم ظاهرة مبطلة لقولهم وأما قولنا نحن فيها فهو ما قاله الله عز و جل إذ يقول متصلا بهذه الآية دون فصل قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ثم قال تعالى بأثر ذلك بعد كلام يسير أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فصح بما ذكرنا أن كل هذا الكلام متفق لا مختلف فقدم الله تعالى أن كل شيء من عنده فصح بالنص أنه تعالى خالق الخير والشر وخالق كل ما أصاب الإنسان ثم أخبر تعالى أن ما أصابنا من حسنة فمن عنده وهذا هو الحق لأنه لا يجب لنا تعالى عليه شيء فالحسنات الواقعة منا فضل مجرد منه لا شيء لنا فيه وإحسان منه إلينا لن نستحقه قط عليه وأخبر عز و جل أن ما أصابنا من مصيبة فمن انفسنا بعد أن قال أن الكل من عند الله تعالى فصح أننا مستحقون بالنكال لظهور السيئة منا وأننا عاصون بذلك كما حكم علينا تعالى فحكمه الحق والعدل ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا فإذا كان الله خالقكم وخالق أفعالكم فأنتم والجمادات سواء قلنا كلا لأن الله تعالى خلق فينا علما نعرف به أنفسنا الأشياء على ما هي عليه وخلق فينا مشيئة لكل ما خلق فينا يسمى فعلا لنا فخلق فيه استحسان ما يستحسنه واستقباح ما يستقبحه وخلق تصرفا في الصناعات والعلوم ولم يخلق في الجمادات شيئا من ذلك فنحن مختارون قاصدون مريدون مستحسنون أو كارهون متصرفون علما بخلاف الجمادات فإن قيل فأنتم مالكون لأموركم مفوض إليكم أعمالكم مخترعون لأفعالكم قلنا لا لأن الملك والاختراع ليس هو لأحد غير الله تعالى إذ الكل مما في العالم مخترع له وملك له عز و جل والتفويض فيه معنى من الاستغناء ولا غنى بأحد عن الله عز و جل وبه نتأيد
قال أبو محمد فإذ قد أبطلنا بحول الله تعالى وقوته كل ما شغب به المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى فلنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول بأنها مخلوقة لله تعالى فنقول وبه عز و جل نتأيد أن العالم كله ما دون الله تعالى ينقسم قسمين جوهر وعرض لا ثالث لهما ثم ينقسم الجوهر إلى أجناس وأنواع ولكل نوع منها فصل يتميز به مما سواه من الأنواع التي يجمعها وإياه جنس واحد وبالضرورة نعلم أن ما لزم الجنس الأعلى لزم كل ما تحته إذ محال أن تكون نار غير حارة أو هواء راسب بطبعه أو إنسان صهال بطبعه وما أشبه هذا ثم بالضرورة نعلم أن الإنسان لا يفعل شيئا إلا الحركة والسكون والفكر والإرادة وهذه كلها كيفيات يجمعها مع اللون والطعم والمحبة والأشكال جنس الكيفية فمن المحال الممتنع أن يكون بعض ما تحت النوع الواحد والجنس الواحد مخلوقا وبعضه غير مخلوق وهذا أمر يعلمه باطلا من له أدنى علم بحدود العالم وانقسامه وحركتنا وسكوننا يجمع كل ذلك مع كل حركة في العالم وكل سكون في العالم نوع من الحركة ونوع من السكون ثم ينقسم كل ذلك قسمين ولا مريد حركة

اضطرارية وحركة اختيارية وسكونا اختياريا وسكونا اضطراريا وكل ذلك حركة تحد بحد الحركة وسكون يحد بحد السكون ومن المحال أن يكون بعض الحركات مخلوقا لله تعالى وبعضها غير مخلوق وكذلك السكون أيضا فإن لجؤا إلى قول معمر في أن هذه الأعراض كلها فعل ما ظهرت فيه بطباع ذلك الشيء سهل أمرهم بعون الله تعالى وذلك أنهم إذا أقروا أن الله تعالى خالق المطبوعات ومرتب الطبيعة على ما هي عليه فهو تعالى خالق ما ظهر منها لأنه تعالى هو رتب كونه وظهوره على ما هو عليه رتبه لا يوجد بخلافها وهذا هو الخلق بعينه ولكنهم قوم لا يعلمون كالمتكسع في الظلمات وكما قال تعالى كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا نعوذ بالله من الخذلان وأيضا فإن نوع الحركات موجود قبل خلق الناس فمن المحال البين أن يخلق المرء ما قد كان نوعه موجودا قبله وأيضا فإن عمدتهم في الاحتجاج على القائلين بأن العالم لم يزل إنما هي مقارنة الأعراض للجواهر وظهور الحركات ملازمة للمتحرك بها فإذا كان ذلك دليلا باهرا على حدوث الجواهر وأن الله تعالى خلقها فما المانع من أن يكون ذلك دليلا باهرا أيضا على حدوث الأعراض وأن الله تعالى خلقها لولا ضعف عقول القدرية وقلة علمهم نعوذ بالله مما امتحنهم به ونسأله التوفيق لا إله إلا هو وأيضا فإن الله تعالى قال إذا لذهب كل إله بما خلق فأثبت تعالى أن من خلق شيئا فهو له إله فيلزمهم بالضرورة أنهم آلهة لأفعالهم التي خلقوها وهذا كفر مجرد أن طردوه وإلا لزمهم الانقطاع وترك قولهم الفاسد وأيضا فإن من خلق شيئا لم يعنه غيره عليه لكن انفرد بخلقه فبالضرورة يعلم أنه يصرف ما خلق كما يفعله إذا شاء ويتركه إذا شاء ويفعله حسنا إذا شاء وقبيحا إذا شاء فإذ هم خلقوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إلى أبصارنا حتى نراها أو نلمسها أو ليزيدوا في قدرها وليخالفوها عن رتبتها فإن قالوا لا نقدر على ذلك فليعلموا أنهم كاذبون في دعاويهم خلقها لأنفسهم فإن قالوا إنما نفعلها كما قوانا الله على فعلها فليعلمون أن الله تعالى إذا هو المقوى على فعل الخير والشر فإن به عز و جل كان الخير والشر وإذ لولا هو لم يكن خير ولا شر وبه كانا فهو كونهما واعان عليهما وأظهرهما واخترعهما وهذا معنى خلقه تعالى لهما وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان أن الله تعالى خالق أفعال خلقه قوله تعالى حاكيا عن سحرة فرعون مصدقا لهم ومثنيا عليهم في قولهم ربنا أفرغ علينا صبرا فصح أنه خالق ما يفرغه من الصبر الذي لو لم يفرغه على الصابر لم يكن له صبر وأيضا فإن جنس الحركات كلها والسكون كله والمعارف كلها جنس واحد وكل ما قيل على الكل قيل على جميع أجزائه وعلى كل بعض من أبعاضه فنسألهم عن حركات الحيوان غير الناطق وسكونه ومعرفته بما يعرف من مضاره ومنافعه في أكله وشربه وغير ذلك أكل ذلك مخلوق لله تعالى أم هو غير مخلوق فإن قالوا كل ذلك مخلوق كانوا قد نقضوا هذه المقدمات التي يشهد العقل والحس بتصديقها وظهر فساد قولهم في التفريق بين معرفتنا ومعرفة سائر الحيوان بما عرفه وبين حركاتنا وبين حركات سائر الحيوان وبين سكوننا وسكونه وهذه مكابرة ظاهرة ودعوى بلا برهان وإن قالوا بل كل ذلك غير مخلوق ألزمناهم مثل ذلك في سائر الأعضاء كلها فإن تناقضوا كفونا أنفسهم وإن تمادوا لزمهم أنه تعالى لم يخلق شيئا من الأعراض وهذا الحاد ظاهر وإبطال للخلق وكفى بهذا إضلالا ونعوذ بالله من الخذلان ويكفي من هذا أن

الأعراض تجري على صفات الفاعل ونحن نجد الحكيم لا يقدر على الطيش والبذاء وأن الطياش البذي لا يقدر على الحياء والصبر والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحليم لا يقدر على النرق والسخي لا يقدر على المنع والشحيح لا يقدر على الجود وقال تعالى ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فصح آن من الناس موقي شح نفسه مفلحا وغير موقي ولا مفلح وكذلك الزكي لا يقدر على البلادة والبليد لا يقدر على الزكا والحافظ لا يقدر على النسيان والناسي لا يقدر على ثبات الحفظ والشجاع لا يقدر على الجبن والجبان لا يقدر على الشجاعة هكذا في جميع الأخلاق التي عنها تكون الأفعال فصح أن ذلك خلق لله تعالى لا يقدر المرء على إحاطة شيء من ذلك أصلا حتى أن مخرج صوت أحدنا وصفة كلامه لا يقدر البتة على صرفه كما خلق عليه من الجهارة والخفاء أو الطيب والسماحة وكذلك خطه لا يمكنه صرفه عما رتبه الله تعالى عليه ولو جهد وهكذا جميع حركات المرء حتى وقع قدميه ومشيه فلو كان هو خالق كل ذلك لصرفه كما يشاء فإذا ليس فيه قوة على صرف شيء من ذلك عن هيئته فقد ثبت ضرورة انه خلق الله تعالى فيمن نسب في اللغة إلى أنه فاعله وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وأكثرت المعتزلة في التولد وتحيرت فيه حيرة شديدة فقالت طائفة ما يتولد عن فعل المرء مثل القتل والألم المتولد عن رمي السهم وما أشبه ذلك فإنه فعل الله عز و جل وقال بعضهم بل هو فعل الطبيعة وقال بعضهم بل هو فعل الذي فعل الفعل الذي عنه تولد وقال بعضهم هو فعل لا فاعل له وقال جميع أهل الحق أنه فعل الله عز و جل وخلقه فالبرهان في ذلك هو البرهان الذي ذكرنا في خلق الأفعال من أن الله تعالى خالق كل شيء وبالله تعالى التوفيق الكلام في التعديل والتجوير قال أبو محمد رحمه الله هذا الباب هو أصل ضلالة المعتزلة نعوذ بالله من ذلك على أننا رأينا منهم من لا يرضى عن قولهم فيه
قال أبو محمد وذلك أن جمهورهم قالوا وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان جائرا ومن فعل الظلم كان ظالما ومن أعان فاعلا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرا عابثا قالوا والعدل من صفات الله تعالى والظلم والجور منفيان عنه قال تعالى وما ربك بظلام للعبيد وقال تعالى وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقال تعالى فما كان الله ليظلمهم وقال تعالى لا ظلم اليوم
قال أبو محمد وقد علم المسلمون أن الله تعالى عدل لا يجور ولا يظلم ومن وصفه عز و جل بالظلم والجور فهو كافر ولكن ليس هذا على ما ظنه الجهال من أن عقولهم حاكمة على الله تعالى في أن لا يحسن منه إلا ما حسنت عقولهم وأنه يقبح منه تعالى ما قبحت عقولهم وهذا هو تشبيه مجرد لله تعالى بخلقه إذ حكموا عليه بأنه تعالى يحسن منه ما حسن منا ويقبح منه ما قبح منا ويحكم عليه في العقل بما يحكم علينا
قال أبو محمد وهذا مذهب يلزم كل من قال لما كان الحي في الشاهد لا يكون إلا بحياة وجب أن يكون الباري تعالى حيا بحياة وليس بين القولين فرق وكلاهما لازم لمن التزم

أحدهما وكلاهما إضلال وخطأ وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله عز و جل أي شيء كان فهو منه عز و جل حق وعدل وحكمة وإن كان بعض ذلك منا جورا وسفها وكل ما لم يفعله الله عز و جل فهو الظلم والباطل والعبث والتفاوت وأما أجراؤهم الحكم على الباري تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض فضلال بين وقول سبق له أصل عند الدهرية وعند المنانية وعند البراهمة وهو أن الدهرية قالت لما وجدنا الحليم فيما بيننا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة او لدفع مضرة ووجدنا من فعله ما لا فائدة فيه فهو عابث هذا الذي لا يعقل غيره قالوا ولما وجدنا في العالم ضرا وشرا وعبثا وأقذارا ودودا وذبابا ومفسدين انتفى بذلك أن يكون له فاعل حكيم وقالت طائفة منهم مثل هذا سواء بسواء إلا أنهم زادوا فقالوا علمنا بذلك أن للعالم فاعلا سفيها غير الباري تعالى وهو النفس وأن الباري الحكيم خلاها تفعل ذلك ليريها فساد ما تخيلته فإذا استبان ذلك لها أفسده الباري الحكيم تعالى حينئذ وأبطله ولم تعد النفس إلى فعل شيء بعدها
قال أبو محمد وأبطال هذا القول يثبت بما يبطل به قول المعتزلة سواء بسواء ولا فرق وقالت المنانية بمثل ما قالت به الدهرية سواء بسواء إلا أنها قالت ومن خلق خلقا ثم خلق من يضل ذلك الخلق فهو ظالم عابث ومن خلق خلقا ثم سلط بعضهم على بعض واغرى بين طالع خلقه فهو ظالم عابث قالوا فعلمنا أن خالق الشر وفاعله هو غير خالق الخير
قال أبو محمد وهذا نص قول المعتزلة ألا إنها زادت قبحا بأن قالت أن الله تعالى لم يخلق من أفعال العباد لا خيرا ولا شرا وأن خالق الأفعال الحسنة والقبيحة هو غير الله تعالى لكن كل واحد يخلق فعل نفسه ثم زادت تناقضا فقالت أن خالق عنصر الشر هو إبليس ومردة الشياطين وفعله كل شر وخالق طباعهم على تضادها هو الله تعالى وقالت البراهمة أن من العبث وخلاف الحكمة ومن الجور البين أن يعرض الله تعالى عباده لما يعلم أنهم يعطبون عنده ويستحقون العذاب أن وقعوا فيه يريدون بذلك إبطال الرسالة والنبوات كلها
قال أبو محمد وبالضرورة نعلم أنه لا فرق بين خلق الشر وبين خلق القوة التي لا يكون الشر إلا بها ولا بين ذلك وبين خلق من علم الله عز و جل أنه لا يفعل إلا الشر وبين خلق إبليس وأنظاره إلى يوم القيامة وتسليطه على إغواء العباد وإضلالهم وتقويته على ذلك وتركه يضلهم إلا من عصم الله منهم فإن قالوا أن خلق الله تعالى إبليس وقوى الشر وفاعل الشر خير وعدل وحسن صدقوا وتركوا أصلهم الفاسد ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه تعالى للشر والخير ولجميع أفعال عباده وتعذيبه من شاء منهم ممن لم يهده وإضلاله من أضل وهداه من هدى كل ذلك حق وعدل وحسن وأن أحكامنا غير جارية عليه لكن أحكامه جارية علينا وهذا هو الحق الذي لا يخفى إلا على من أضله الله تعالى نعوذ بالله من إضلاله لنا ولا فرق بين شيء مما ذكرناه في العقل البتة وبرهان ضروري
قال أبو محمد يقال لمن قال لا يجوز أن يفعل الله تعالى إلا ما هو حسن في العقل منا ولا أن يخلق ويفعل ما هو قبيح في العقل فيما بينا منا يا هؤلاء إنكم أخذتم الامر من عند أنفسكم ثم عكستموه فعظم غلطكم وإنما الواجب أنتم مقرون بأن الله تعالى لم يزل واحدا وحده ليس معه خلق أصلا ولا شيء موجود لا جسم ولا عرض ولا جوهر ولا عقل ولا معقول ولا سفه ولا غير

ذلك ثم أقررتم بلا خلاف منكم أنه خلق النفوس وأحدثها بعد أن لم تكن وخلق لها العقول وركبها في النفوس بعد أن لم تكن العقول البتة أن لا تحدثوا على الباري تعالى حكما لازما له من قبل بعض خلقه فليس في الجنون أفحش من هذا البتة ثم أخبرونا إذا كان الله وحده لا شيء موجود معه ففي أي شيء كانت صورة الحسن حسنة وصورة القبيح قبيحة وليس هنالك عقل أصلا يكون فيه الحسن حسنا والقبيح قبيحا ولا كانت هنالك نفس عاقلة أو غير عاقلة فيقبح عندها القبيح ويحسن الحسن فأي شيء قال تحسين الحسن وتقبيح القبيح وهما عرضان لا بد لهما من حامل ولا حامل أصلا ولا محمول ولا شيء حسن ولا شيء قبيح حتى أحدث الله تعالى النفوس وركب فيها العقول المخلوقة وقبح فيها على قولكم ما قبح وحسن فيها على قولكم ما حسن فإذ لا سبيل إلى أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيء موجود أصلا قبيح ولا حسن ولا عقل يقبح فيه شيء أو يحسن فقد وجب يقينا أن لا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيء يحدثه لقبح فيه ووجب أن لا يلزمه تعالى شيء لحسنه إذ لا قبح ولا حسن البتة فيما لم يزل فبالضرورة وجب أن ما هو الآن عندنا قبيح فإنه لم يقبح بلا أول بل كان لقبحه أول لم يكن موجودا قبله فكيف أن يكون قبيحا قبله وكذلك القول في الحسن ولا فرق ومن المحال الممتنع جملة أن يكون ممكنا آن يفعل الباري تعالى حينئذ شيئا ثم يمتنع منه فعله بعد ذلك لأن هذا يوجب أما تبدل طبيعة والله تعالى منزه عن ذلك وأما حدوث حكم عليه فيكون تعالى متعبدا وهذا هو الكفر السخيف نعوذ بالله منه فإن قالوا لم يزل القبيح قبيحا في علم الله عز و جل ولم يزل الحسن حسنا في علمه تعالى قلنا لهم هبكم أن هذا كما قلتم فعليكم في هذا حكمان مبطلان لقولكم الفاسد احدهما أنكم جعلتم الحكم في ذلك لما في المعقول لا لما سبق في علم الله عز و جل فلم تجعلوا المنع من فعل ما هوقبيح عندكم إلا لأن العقول قبحته فأحطتم في هذا والثاني أنه تعالى أيضا لم يزل يعلم أن الذي يموت مؤمنا فإنه لا يكفر ولم يزل تعالىيعلم ان الذي يموت كافرا لا يؤمن فلم جوزتم قدرته على إحالة ما علم من ذلك وتبديله ولم تجوزوا قدرته تعالى على إحالة ما علم حسنا إلى القبح وإحالة ما علم قبيحا إلى الحسن ولا فرق بين الأمرين أصلا فإذا ثبت ضرورة أنه لا قبيح لعينه ولا حسن لعينه البتة وأنه لا قبيح إلا ما حكم الله تعالى بأنه قبيح ولا حسن إلا ما حكم بأنه حسن ولا مزيد وايضا فإن دعواكم أن القبيح لم يزل قبيحا في علم الله تعالى ما دليلكم على هذا بل لعله تعالى لم يزل عليما بأن أمر كذا يكون حسنا برهة من الدهر ثم يقبحه قيصير قبيحا إذا قبحه لا قبل ذلك كما فعل تعالى بجميع الملل المنسوخة وهذا أصح من قولكم لظهور براهين هذا القول وبالله التوفيق ولم يزل سبحانه وتعالى عليما أن عقد الكفر والقول به قبيح من العبد إذا فعلهما معتقدا لهما لأن الله قبحهما لا لأنهما حركة أو عرض في النفس وهذا هو الحق لظهور براهين هذا أيضا لا لأن ذلك قبيح لعينه ويقال لهم أيضا أخبرونا من حسن الحسن في العقول ومن قبح القبح في العقول فإن قالوا الله عز و جل قلنا لهم أفكان الله تعالى قادر على عكس تلك الرتبة إذ رتبها على أن يرتبها بخلاف ما رتبها عليه فيحسن فيها القبيح ويقبح فيها الحسن فإن قالوا نعم أوجبوا أنه لم يقبح شيء إلا بعد أن حكم الله تعالى بقبحه ولم يحسن شيء إلا بعد أن حكم الله تعالى بحسنه وأنه كان له تعالى أن يفعل بخلاف ما فعل وله

ذلك الآن وابدا وبطل أن يكون تعالى متعبدا لنفسه وموجبا عليه ما يكون ظالما مذموما إن خالفه وإن قالوا لا يوصف تعالى بالقدرة على ذلك عجزوا ربهم تعالى ولزمهم القول بمثل قول على الأسوارى من أنه تعالى لا يقدر على غير ما فعل فحكم هذا الردى الدين والعقل بأنه أقدر من ربه تعالى وأقوى لانه عد نفسه الخسيسة يقدر على ما فعل وعلى ما لم يفعل وربه تعالى لا يقدر الاعلى ما فعل ولو علم المجنون انه جعل ربه من الجمادات المضطرة الي ما يبدو منها ولا يمكن ان يظهر منها غير ما يظهر لسخنت عينه ولطال عويله على عظيم مصيبته نعوذ بالله من الخذلان ومن عظم ما حل بالقدرية المتنطعين بالجهل والعمى والحمد لله على توفيقه ايانا حمدا كثيرا كما هو اهله
قال ابو محمد ويقال لهم هكم ! شنعتم في قبيح انه قبيح فلم نفيتم عن الله عز و جل خلق الخير كله وخلق الحسن كله فقلتم لم يخلق الله تعالى الأيمان ولا الأسلام ولا الصلاة ولا الزكاة ولا النية الحسنة ولا إعتقاد الخير ولا إيتاء الزكاة ولا الصدقة ولاالبر لان خلق هذا قبيح أم كيف الامر فبان تمويهكم بذكر خلق الشر وأنتم قد استوى عندكم الخير والشر في أن الله تعالى لم يخلق شيئا من ذلك كله فدعو التمويه الضعيف
قال أبو محمد وقرأت في مسائل لأبي هاشم عبد السلام ابن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجائي رئيس المعتزلة وابن رئيسهم كلاما لم يردد فيه كثيرا دون حياء ولا رقبة يجب على الله أن بفعل كذا كأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس فليت شعري أما كان له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول ليت شعري من أوجب على الله تعالى هذا الذي قضى بووجوبه عليه ولا بد لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة وإلا كان يكون فعلا لا فاعل له وهذا كفر مما أجازه فمن هذا الموجب على الله تعالى حكما ما وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أما أن يكون أوجبه تعالى عليه بعض خلقه أما العقل وأما العاقل فإن كان هذا فقد رفع القلم عنه وأف لكل عقل يقوم فيه أنه حاكم على خالقه ومحدثه بعد أن لم يكن ومرتبه على ما هو عليه ومصرفه على ما يشاء وأما أن يكون تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب له على نفسه فإن قال بهذا قيل له فقد كان غير واجب عليه حتى أوجبه فإذ هو كذلك فقد كان مباحا له أن يعذب من لم يقدره على ترك ما عذبه عليه وعلى خلاف سائر ما ذكرت أنه أوجبه على نفسه وإذا وجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن واجبا عليه فممكن له أن يسقط ذلك الوجوب عن نفسه وإما أن يكون تعالى لم يزل موجبا ذلك على نفسه فإن قال بهذا لزمته عظيمتان مخرجتان له عن الإسلام وعن جميع الشرائع وهما أن الباري تعالى لم يزل فاعلا ولم يزل فعله معه لأن الإيجاب فعل ومن لم يزل موجبا فلم يزل فاعلا وهذا قول أهل الدهر نفسه
قال أبو محمد ولا يمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون من أنه يجب على الله أن يفعل كذا ويلزمه أن يفعل كذا فأعجبوا لهذا الكفر المحض وبهذا يلوح بطلان ما يتأولونه في قول الله تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وقوله تعالى كتب على نفسه الرحمة وقوله عليه السلام حق العباد على الله أن لا يعذبهم يعني إذا قالوا لا إله إلا الله وحق على الله أن يسقيه من طينه الخبال يعني عن شارب الخمر وأن كل هذا إنما هو أن الله تعالى قضى بذلك وجعله حتما واجبا وكونه حقا فوجب ذلك منه

تعالى لا عليه فأبدلت من من على وحروف الجر يبدل بعضها من بعض ثم نقول لهم من خلق إبليس ومرده الشياطين والخمر والخنازير والحجارة المعبودة والميسر والأصنام والأزلام وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب فمن قولهم وقول كل مسلم أن الله تعالىخالق هذا كله فلنسألهم أشيء حسن هو كل ذلك أم رجس وقبيح وشر فإن قالوا بل رجس وقبيح ونجس وشر وفسق صدقوا واقروا أنه تعالى خلق الأنجاس والرجس والشر والفسق وما ليس حسنا فإن قالوا بل هي حسان في إضافة خلقها إلى الله تعالى وهي رجس ونجس وشر وفسق تسمية الله تعالى لها بذلك قلنا صدقتم وهكذا نقول أن الكفر والمعاصي هي في أنها أعراض وحركات خلق لله تعالى حسن من خلق الله تعالى كل ذلك وهي من العصاة بإضافتها إليهم قبايح ورجس وقال عز و جل إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان وقال تعالى ولحم الخنزير فإنه رجس فليخبرونا بأي ذنب كان من هذه الأشياء وجب أن يسخطها الله تعالى وأن يرجسها ويجعل غيرها طيبات هل ها هنا إلا أنه تعالى فعل ما يشاء وأي فرق بين أن يسخط ما شاء فيلعنه مما لا يعقل ويرضى عما شاء من ذلك فيعلي قدره ويأمر بتعظيمه كناقة صالح والبيت الحرام وبين أن يفعل ذلك أيضا فيمن يعقل فيقرب بعضا كما شاء ويبعد بعضا كما شاء وهذا ما لا سبيل إلى وجود الفرق فيه أبدا ثم نسألهم هل حابى الله تعالى من خلقه في أرض الإسلام بحيث لا يلقى إلا داعيا إلى الدين ومحسنا له على من خلقه في أرض الزنج والصين والروم بحيث لا يسمع إلا ذاما لدين المسلمين مبطلا له وصادا عنه وهل رأوا فظا وسمعوا بمن خرج من هذه البلاد طالبا لصحة البرهان على الدين فمن أنكر هذا كابر العيان والحس ومن أذعن لها ترك قول المعتزلة الفاسد
قال أبو محمد والقول الصحيح هو أن العقل الصحيح يعرف بصحته ضرورة أن الله تعالى حاكم على كل ما دونه وأنه تعالى غير محكوم عليه وأن كل ما سواه تعالى فمخلوق له عز و جل سواء كان جوهرا حاملا أو عرضا محمولا لا خالق سواه وأنه يعذب من يشاء أن يعذبه ويرحم من يشاء أن يرحمه وأنه لا يلزم أحدا إلا ما ألزمه الله عز و جل ولا قبيح إلا ما قبح الله ولا حسن إلا ما حسن الله وأنه لا يلزم لأحد على الله تعالى حق ولا حجة ولله تعالى على كل من دونه وما دونه الحق الواجب والحجة البالغة لو عذب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار مخلدين لكان ذلك له ولكان عدلا وحقا منه ولو نعم إبليس والكفار في الجنة مخلدين كان ذلك له وكان حقا وعدلا منه وأن كل ذلك إذ أباه الله تعالى وأخبر أنه لا يفعله صار باطلا وجورا وظلما وأنه لا يهتدي أحد إلا من هداه الله عز و جل ولا يضل أحد إلا أضله الله عز و جل ولا يكون في العالم إلا ما أراد الله عز و جل كونه من خيرا أو شر وغير ذلك وما لم يرد عز و جل كونه فلا يكون البتة وبالله تعالى التوفيق ونحن نجد الحيوان لا يسمى عدوان بعضها على بعض قبيحا ولا ظلما ولا يلام على ذلك ولا يلام على من ربي شيئا منها على العدوان عليها فلو كان هذا النوع قبيحا لعينه وظلما لعينه لقبح متى وجد فلما لم يكن كذلك صح أنه لا يقبح شيء لعينه البتة لكن إذا قبحه الله عز و جل فقط فإذ قد بطل قولهم بالبرهان الكلي الجامع لأصلهم الفاسد فلنقل بحول الله تعالى وقوته إبطال أجزاء مسائلهم وبالله تعالى نستعين فأول ذلك أن نسألهم فنقول عرفونا

ما هذا القبيح في العقل أعلى الاطلاق فقال قائلون من زعمائهم منهم الحارث بن علي الوراق البغدادي وعبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي وغيرهما أن كل شيء حسن بوجه ما قلت يمتنع وقوع مثله من الله تعالى لأنه حينئذ يكون حسنا إذ ليس قبيحا البتة على كل حال وأما ما كان قبيحا على كل حال فلا يحسن البتة فهذا منفي عن الله عز و جل أبدا قالوا ومن القبيح على كل حال أن تفعل بغيرك ما لا تريد أن يفعل بك وتكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه
قال أبو محمد وظن هؤلاء المبطلون إذ أتوا بهذه الحماقة أنهم أغربوا وقرطسوا وهم بالحقيقة قد هذوا وهدروا وهذا عين الخطاء وإنما قبح بعض هذا النوع إذ قبحه الله عز و جل وحسن بعضه إذ حسنه الله عز و جل والعجب من مباهتتهم في دعواهم أن المحاباة فيما بيننا ظلم ولا ندري في أي شريعة أم في أي عقل وجدوا إن المحاباة ظلم وأن الله تعالى قد أباحها إلا حيث شاء وذلك أن للرجال أن ينكح امرأتين وثلاثا وأربعا من الزوجات وذلك له مباح حسن وأن يطأ من أمائه اي عدد أحب وذلك له مباح حسن ولا يحل للمرأة أن تنكح غير واحد ولا يكون عبدها وهذا منه حسن وبالضرورة ندري أن في قلوبهن من الغيرة كما في قلوبنا وهذا محظور في شريعة غيرنا والنفار منه موجود في بعض الحيوان بالطبع والحر المسلم ملكه أن يستعبد أخاه المسلم ولعله عند الله تعالى خير من سيده في دينه وفي أخلاقه وقنوته ويبيعه ويهبه ويستخدمه ولا يجوز أن يستعبده هوأحد لا عبده ذلك ولا غيره وهذا منه حسن وقد أحب رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفسه المقدسة ماأكرمه الله تعالى به من أن لاينكح أحد من بعده من نسائه أمهاتنا رضوان الله عليهن واحب هو عليه السلام نكاح من نكح من النساء بعد أزواجهن وكل ذلك حسن جميل صواب ولو أحب ذلك غيره كان مخطئ الإرادة قبيحا ظالما ومثل هذا أن تتبع كثير جدا إذ هو فاش في العالم وفي أكثر الشريعة فبطل هذا القول الفاسد منهم وقد نص الله تعالى على إباحة ما ليس عدلا عند المعتزلة بل على الإطلاق وعلى المحاباة حيث شاء وكل ذلك عدل منه قال عز و جل ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل وقال تعالى فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم فأباح تعالى لنا أن لا نعدل بين ما ملكت أيماننا وأباح لنا محاباة من شئنا منهن فصح أن لا عدل إلا ما سماه الله عدلا فقط وإن كل شيء فعله الله فهو العدل فقط لا عدل سوى ذلك وكذلك وجدنا الله تعالى قد أعطى الابن الذكر من الميراث حظين وإن كان غنيا مكتسبا وأعطى البنت حظا واحدا وإن كانت صغيرة فقيرة فبطل قول المعتزلة وصح أن الله تعالى يحابي من يشاء ويمنع من يشاء وأن هذا هو العدل لا ما تظنه المعتزلة عدلا بجهلها وضعف عقولها وأما تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه فإنما قبح ذلك فيما بيننا لأن الله تعالى حرم ذلك علينا فقط وقد علمت المعتزلة كثرة عدد من يخالفهم في أن هذا لا يقبح من الله تعالى الذي لا أمر فوقه ولا يلزمه حكم عقولنا وما دعواهم على مخالفيهم في هذه المسألة أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إلا كدعوى المجسم عليهم أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إذ أجازوا وجود الفعل مما ليس جسما وإذ أجاز واحيا بلا حياة وعالما لا بعلم
قال أبو محمد وكلتا الدعويين على العقول كاذبة وقد بينا فيما سلف من كتابنا هذا غلط من ادعى في العقل ما ليس فيه وبينا أن العقل لا يحكم به على الله الذي خلق العقل ورتبه على ماهو

به ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق وقال بعض المعتزلة أن من القبيح بكل حال والمحظور في العقل بكل وجه كفر نعمة المنعم وعقوق الأب
قال أبو محمد وهذا غاية الخطأ لأن العاقل المميز بالأمور إذا تدبرها علم يقينا أنه لا منعم على أحد إلا الله وحده لا شريك له الذي أوجده من عدم ثم جعل له الحواس والتمييز وسخر له ما في الأرض وكثيرا مما في السماء وخوله المال وأن كل منعم دون الله عز و جل فإن كان منعما بمال فإنما أعطى من مال الله عز و جل فالنعمة لله عز و جل دونه وإن كان ممرضا أو معتقا أو خائفا من مكروه فإنما صرف في ذلك كلما وهبه الله عز و جل من الكلام والقوة والحواس والأعضاء وإنما تصرف بكل ذلك في ملك الله عز و جل وفيما هو تعالى أولى به منه فالنعمة لله عز و جل دونه فالله تعالى هو ولي كل نعمة فإذ لا شك في ذلك فلا منعم إلا من سماه الله تعالى منعما ولا يجب شكر منعم إلا بعد أن يوجب الله تعالى شكره فحينئذ يجب وإلا فلا ويكون حينئذ من لم يشكره عاصيا فاسقا أتى كبيرة لخلاف أمرالله تعالى بذلك فقط ولا فرق بين تولدنا من منى أبوينا وبين تولدنا من التراب والأرض ولا خلاف في أنه لا يلزمنا بر التراب ولا له علينا حق ليس ذلك إلا لأن الله تعالى لم يجعل له علينا حقا وقد يرضع الصغير شاة فلا يجب لها عليه حق لأن الله تعالى لم يجعله لها وجعله للأبوين وإن كانا كافرين مجنونين ولم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عنا بلذاتهما ليس ههنا إلا أمر الله تعالى فقط وبرهان آخر أن امرأ لو زنى بامرأة عالما بتحريم ذلك أو غير ذلك عالم إلا أنه ممن لا يلحق به الولد المخلوق من نطفته النازلة من ذلك الوطء فإن بره لا يلزم ذلك الولد أصلا ويلزمه بر أمه لأن الله تعالى أمره بذلك لها ولم يأمره بذلك في الذي تولد من نطفته فقط ولا فرق في العقل بين الرجل والمرأة في ذلك ولا فرق في المعقول وفي الولادة تولد الجنين من نطفة الواطئ لامه بين أولاد الزنا وأولاد الرشدة لكن لما ألزم الله تعالى أولاد الرشدة المتولدين عن عقد نكاح أو ملك يمين فاسدين أو صحيحين برآماتهم وشكرهم وجعل عقوقهم من الكبائر لزمنا ذلك ولما لم يلزم ذلك أولاد الزانية لم يلزمهم وقد علمنا نحن وهم يقينا أن رجلين مسلمين لو خرجا في سفر فأغار أحدهما على قرية من قرى دار الحرب فقتل كل رجل بالغ فيها وأخذ جميع أموالهم وسبى ذراريهم ثم خمس ذلك بحكم الامام العدل ووقع في حظه أطفال قد تولى هو قتل أبائهم وسبى أمهاتهم ووقعن أيضا بالقسمة الصحيحة في حصته فنكحهن وصرف أولادهن في كنس حشوشة وخدمة دوابه وحرثه وحصاده ولم يكلفهم من ذلك إلا ما يطيقون وكساهم وأنفق عليهم بالمعروف كما أمر الله تعالى فإن حقه واجب عليهم بلا خلاف ولو أعتقهم فإنه منعم عليهم وشكره فرض عليهم وكذلك لو فعل ذلك بمن اشتراه وهومسلم بعد وأغار الثاني على قرية للمسلمين فأخذ صبيانا من صبيانهم فاسترقهم فقط ولم يقتل أحدا ولا سبى لهم حرمه فربى الصبيان أحسن تربية وكانوا في قرية شقاء وجهد وتعب وشظف عيش وسوء حال فرفه معايشهم وعلمهم العلم والإسلام وخولهم المال ثم أعتقهم فلا خلاف في أنه لا حق له عليهم وأن ذمه وعداوته فرض عليهم وأنه لو وطئ امرأة منهن وهو محصن وكان أحدهم قد ولى حكما للزمه شدخ رأسه بالحجارة حتى يموت أفلا يتبين لكل ذي عقل من أهل الإسلام أنه لا محسن ولا منعم إلا الله تعالى وحده لا شريك له إلا من سماه الله تعالى محسنا أو منعما ولا شكر لازما لأحد على

أحد إلا من ألزمه الله تعالى شكره ولا حق لأحد على أحد إلا من جعل الله تعالى له حقا فيجب كل ذلك إذ أوجبه الله تعالى وإلا فلا وقد أجمعوا معنا على أن من أفاض إحسان الدنيا على إنسان أفاضه بوجه حرمه الله تعالى فإنه لا يلزمه شكره وأن من أحسن إلى آخر غاية الإحسان فشكره بأن اعانه في دنياه بما لا يجوز في الدين فإنه مسيء إليه ظالم فصح يقينا أنه لا يجب شيء ولا يحسن شيء ولا يقبح شيء إلا ما أوجبه الله تعالى في الدين أو حسنة الله في الدين او قبحه الله في الدين فقط وبالله تعالى نتأيد وقال بعضهم الكذب قبيح على كل حال
قال أبو محمد وهذا كالأول وقد أجمعوا معنا على بطلان هذا القول وعلى تحسين الكذب في مواضع خمسة إذ حسنه الله تعالى وذلك نحو إنسان مسلم مستتر من إمام ظالم يظلمه ويطلبه فسأل ذلك الظالم هذا الذي استتر عنده المطلوب وسأل أيضا كل من عنده خبره وعن ماله فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه ان صدقه ودله على موضعه وعلى ما له فإنه عاص لله عز و جل فاسق ظالم فاعل فعلا قبيحا وأنه لو كذبه وقال له لا أدري مكانه ولا مكان ماله فإنه مأجور محسن فاعله فعلا حسنا وكذلك كذب الرجل لامرأته فيما يستجر به مودتها وحسن صحبتها والكذب في حرب المشركين فيما يوجد به السبيل إلى إهلاكهم وتخليص المسلمين منهم فصح أنه إنما قبح الكذب حيث قبحه الله عز و جل ولولا ذلك ما كان قبيحا بالعقل أصلا إذ ما وجب بضرورة العقل فمحال أن يستحيل في هذا العالم البتة عما رتبه الله عز و جل في وجود العقل إياه كذلك فصح كذبهم على العقول وقال بعضهم الظلم قبيح
قال أبو محمد وهذا كالاول ونسألهم ما معنى الظلم فلا يجدون إلا أن يقولوا أنه قتل الناس وأخذ أموالهم وأذاهم وقتل المرء نفسه أو التشويه بها أو إباحة حرمه للناس ينكحونهن وكل هذا فليس شيء منه قبيحا لعينه وقد أباح الله عز و جل أخذ أموال قوم بخراسان من أجل ابن عمهم قتل بالأندلس رجلا خطأ لم يرد قتله لكن رمى صيدا مباحا له أو رمى كافرا في الحرب فصادف المسلم السهم وهو خارج من خلف جبل فمات ووجدناه تعالى قد أباح دم من زنى وهو محصن ولم يطأ امرأة قط إلا زوجة له عجوزا شعرها سوداء وطئها مرة ثم ماتت ولا يجد من أن ينكح ولا من أن يتسرى وهو شاب محتاج إلى النساء وحرم دم شيخ زنى وله ماية جارية كالنجوم حسنا إلا أنه لم يكن له قط زوجة وأما قتل المرء نفسه فقد حسن الله تعالى تعريض المرء نفسه للقتل في سبيل الله عز و جل وصدمه الجموع التي يوقن أنه مقتول في فعله ذلك وقد أمر عز و جل من قبلنا بقتل نفسه قال تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ولو أمرنا عز و جل بمثل ذلك لكان حسنا كما كان حسنا أمره عز و جل بذلك بني إسرائيل وأما التشويه بالنفس فإن الختان والإحرام والركوع والسجود لولا أمر الله تعالى بذلك وتحسينه إياه لكان لا معنى له ولكان على أصولهم تشويها ودليل ذلك أن أمر أمن الناس لو قام ثم وضع رأسه في الأرض في غير صلاة بحضرة الناس لكان عابثا بلا شك مقطوعا عليه بالهوس وكذلك لو تجرد المرء من ثيابه أمام الجموع في غير حج ولا عمرة وكشف رأسه ورمى بالحصى وطاف ببيت مهر ولا مستديرا به لكان مجنونا بلا شك لا سيما أن امتنع من قبل قملة ومن فلى رأسه ومن قص أظفاره وشاربه لكن لما أمر الله عز و جل بما أمر به من ذلك كان فرضا واجبا

وحسنا وكان تركه قبيحا وإنكاره كفرا وأما إباحة المرء حرمه للنكاح فهذا أعجب ما أتوا به أما علموا أن الله تعالى خلى بين عبده وأمائه يفجر بعضهم ببعض وهو قادر على منعهم من ذلك فلم بفعل بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم على ذلك بإقرار المعتزلة فهذا من الله حسن ومن عباده قبيح لأن الله قبحه ولا مزيد ولو حسنه تعالى لحسن أما شاهدوا انكاح الرجال بناتهممن رجال ثم يطلق الرجل منهم المرأة فمن آخر ثم آخر وهكذا ما أمكنهم وكذلك إن مات عنها فأي فرق في العقول بين إباحة وطئها بلفظ زوجتك أو أنكحتك وبين حظر وطئها بالإطلاق عليه بلفظة قم فطاها فهل ها هنا قبيح إلا ما قبحه الله عز و جل أو حسن إلا ما حسن الله عز و جل وقال بعضهم الكفر قبيح على كل حال
قال ابو محمد وهذا كالأول وما قبح الكفر إلا لأن الله قبحه ونهى عنه ولولا ذلك ما قبح وقد أباح الله عز و جل كلمة الكفر عند التقية وأباح بها الدم في غير التقية ولو أن امرأ اعتقد أن الخمر حرام قبل أن ينزل تحريمها لكان كافرا أو لكان ذلك منه كفرا أن كان عالما بإباحة الرسول صلى الله عليه و سلم ثم صار ذلك الكفر إيمانا وصار الآن من اعتقد تحليلها كافرا وصار اعتقاد تحليلها كفر أفصح أن لا كفر إلا ما سماه الله عز و جل كفرا ولا إيمانا إلا ما سماه إيمانا وأن الكفر لا يقبح إلا بعد أن قبحه الله عز و جل ولا يحسن الإيمان إلا بعد أن حسنة الله عز و جل فبطل كل ما قالوه في الجور والكفر والظلم وصح أنه لا ظلم إلا ما نهى الله عنه ولا جور إلا ما كان كذلك ولا عدل إلا ما أمر الله تعالى به أو إباحه أي شيء كان وبالله تعالى التوفيق فإذا هذا كما ذكرنا فقد صح أنه لا ظلم في شيء من فعل الباري تعالى ولو أنه تعالى عذب من لم يقدره على ما أمر به من طاعته لما كان ذلك ظلما إذ لم يسمه تعالى ظلما وكذلك ليس ظلما خلقه تعالى للأفعال التي هي من عباده عز و جل كفر وظلم وجور لأنه لا آمر عليه تعالى ولا ناهيا بل الأمر أمره والملك ملكه وقالوا تكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه قبيح في العقول جملة لا يحسن بوجه من الوجوه فيما بيننا فلا يحسن من الباري تعالى أصلا
قال أبو محمد نسي هؤلاء القوم ما لا يجب أن ينسى ويقال لهم أليس قول القائل فيما بيننا اعبدوني أسجدوا إلى قبحا لا يحسن بوجه من الوجوه ولا على حال من الأحوال فلا بد من نعم فيقال لهم أو ليس هذا القول من الله تعالى حسنا وحقا فلا بد من نعم فإن قالوا إنما قبح ذلك منا لأننا لا نستحقه قيل لهم وكذلك إنما قبح منا تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه لأننا لا نستحق هذه الصفة وأي شيء أتوا به من الفرق فهو راجع عليهم في تكليف ما لا يطاق ولا فرق وكذلك الممتن بإحسانه الجبار المتكبر ذو الكبرياء قبيح فيما بيننا على كل حال وهو من الله تعالى حسن وحق وقد سمى نفسه الجبار النتكبر وأخبر أن له كبرياء وهو تعالى يمن بإحسانه فإن قالوا حسن ذلك منه لأن الكل خلقه قيل لهم وكذلك حسن منه تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه لأن الكل خلقه وكذلك فيما بيننا من عذب حيوانا بالتف والضرب ثم أحسن علفه ورفهه فهو قبيح على كل وجه وفاعله عابث وهم يقولون أن الباري تعالى أباح ذلك في الحيوان من أكلها وذبحها ثم يعوضها على ذلك وهذا منه عز و جل حسن إلا أن يلجؤا إلى أنه تعالى لا يقدر على تعويض الحيوان إلا بعد إيلامها وتعذيبها فهذا أقبح قول وأبينه كذبا وأوضحه نخبة وأتمة كفر أو ذمه للباري تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا أن إيلام الحيوان قد يحسن فيما

بيننا مثل أن يسقي الإنسان من يحب ماء الادوية الكريهة ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إلى منافع لولا هذا المكروه لم يكن ليصل إليها
قال أبو محمد وهذا تمويه لم ينفكوا به مما سألهم عنه أصحابنا في هذه المسألة ونحن لم نسألهم عمن لا يقدر على نفعه إلا بعد الأذى الذي هو أقل من النفع الذي يصل إليه بعد ذلك الأذى إنما سألناهم عمن يقدر على نفعه دون أن يبتديه بالأذى ثم لا ينفعه إلا حتى يؤذيه
قال أبو محمد وكذلك تكليف من يدري المرء أنه لا يطيقه وأنه إذا لم يطقه عذبه قبيح فيما بيننا فقال قائل منهم أن هذا قد يحسن فيما بيننا وذلك أن يكون المرء يريد أن يقرر عند صديقه معصية عبده له فيأمره وهو يدري أنه لا يطيعه فإن نهيه له حسن
قال أبو محمد وهذا كالأول ولا فرق ولم نسألهم عمن لم يقدر على تعريف صديقه معصية غلامه له إلا بتكليفه أمامه ما لا يطيعه فيه ولا عمن لا يقدر على منع العاصي له بأكثر من النهي وإنما نسألهم عمن لا منفعة له في أن يعلم زيدا معصية غلامه له وعمن يقدر على أن يعرف زيدا بذلك ويقرره عنده بغير أن يأمر من لا يطيعه وعمن يقدر على منعه من المعصية فلا يفعل ذلك إلا أن يعجزوا ربهم كما ذكرنا فهذا مع أنه كفر فهو أيضا كذب ظاهر لأنه تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فتقرر هذا عندنا تقررا لو رأينا ذلك عيانا ما زادنا علما بصحته وكذلك قد شاهدنا قوما آخرين أرادوا ضروبا من المعاصي فحال الله تعالى بينهم وبينها بضروب من الحوايل وأطلق آخرين ولم يحل بينهم وبينها بل قوى الدواعي لها ورفع الموانع عنها جملة حتى ارتكبوها فلاح كذب المعتزلة وعظيم أقدامهم على الافتراء على الله تعالى وشدة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وقوة جهلهم وتناقضهم نعوذ بالله من الخذلان ثم بعد هذا كله فأي منفعة لنا في تعريفنا أن فرعون يعصي ولا يؤمن وما الذي ضر الأطفال إذا ماتوا قبل أن يعرفوا من أطاع ومن عصى ونسألهم أيضا عمن أعطى آخر سيوفا وخناجر وعتلا للنقب وكل ذلك يصلح للجهاد ولقطع الطريق والتلصص وهو يدري أنه لا يستعمل شيئا من ذلك في الجهاد إلا في قطع الطريق والتلصص وعمن مكن آخر من خمر وامرأة عاهرة وبغاء وأخلى له منزلا مع كل ذلك أليس عابثا ظالما بلا خلاف فلا بد من نعم ونحن وهم نعلم أن الله عز و جل وهب لجميع الناس القوى التي بها عصوا وهو يدري أنهم يعصونه بها وخلق الخمر وبثها بين أيديهم ولم يحل بينهم وبينها وليس ظالما ولا عابثا فإن عجزوه تعالى إلى عن المنع من ذلك بلغو العاية من الكفر فإن عجز نفسه منا عن منع الخمر من شاربها وهو يقدر على ذلك لفي غاية الضعف والمهانة أو مريد لكون ذلك كما شاء لا معقب لحكمه وهذا قولنا لا قولهم
قال أبو محمد فانقطعوا عند هذه ولم يكن لهم جواب إلا أن بعضهم قال إنما قبح ذلك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عن التعويض ولأن ذلك محظور وهذا محظور علينا ولو أن امرأ له منا عبيد وقد صح عنده بأخبار النبي صلى الله عليه و سلم أنهم لا يؤمنون أبدا فإن كسوتهم وإطعامهم مباح له
قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم وإقرار منهم بأنه إنما قبح ذلك منا لأنه محرم علينا وكذلك كسوة العبيد الذين يوقن أنهم لا يؤمنون وإنما حسن ذلك لأننا مأمورون بالإحسان إلى العبيد وإن كانوا كفارا ولو فعلنا ذلك بأهل دار الحرب لكنا عصاة لأننا نهينا عن ذلك ليس ها هنا شيء يقبح ولا يحسن إلا ما أمر الله تعالى فقط وأما قولهم أن ذلك قبح منا لجهلنا بالمصالح

فليقنعوا بهذافمن أجابهم بهذا بعينه في الفرق بين حسن تكليف الله تعالى ما لا يطاق وتعذيبه عليه منه وقبح ذلك منا وأنه إنما قبح منا لجهلنا بالمصالح
قال أبو محمد وأما نحن فكلا الجوابين عندنا فاسد ولا مصلحة فيما أدى إلى النار والخلود فيها بلا نهاية ولكنا نقول قبح منا ما نهانا الله عنه وحسن منا ماأمرنا به وكل ما فعله ربنا تعالى الذي لا آمر فوقه فهو عدل وحسن وبالله تعالى التوفيق وسألهم أصحابنا فقالوا أن المعهود بيننا أن الحكيم لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ومن فعل لغير ذلك فهو سفيه والباري تعالى يفعل لغير اجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة وهو حكيم فقالت طائفة من المعتزلة أن الباري تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم وقالت طائفة منهم لم يكن الحكيم فيما بيننا حكيما لأنه يفعل لاجتلاب المنافع ودفع المضار لأنه قد يفعل ذلك كل ملتذ وكل متشف وإن لم يكن حكيما وإنما سمى الحكيم حكيما لإحكامه عمله
قال أبو محمد وكل هذا ليس بشيء لأن الحيوان ما يحكم عمله مثل الخطاف والعنكبوت والنحل ودود القز ولا يسمى بشيء من ذلك حكيما ولكن إنما سمي الحكيم حكيما على الحقيقة لالتزامه الفضائل واجتنابه الرزائل فهذا هو العقل والحكمة المسمى فاعله حكيما عاقلا وهكذا هو في الشريعة لأن جميع الفضائل إنما هي طاعات الله عز و جل والرذائل إنما هي معاصيه فلا حكيم إلامن أطاع لله عز و جل واجتنب معاصيه وعمل ما أمره ربه عز و جل وليس من أجل هذا يسمى الباري حكيما إنما سمي حكيما لأنه سمى نفسه حكيما فقط ولو لم يسم نفسه حكيما ما سميناه حكيما كما لم نسمه عاقلا إذ لم يسم بذلك ثم نقول لهم وأما قولكم إنما سمى الله حكيما لفعله الحكمة فأنتم مقرون أنه أعطى الكفار قوة الكفر ولا يسمى مع ذلك مقويا على الكفر وأما من قال منهم أنه تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم فكلام فاسد إذا قيل على عمومه لأن كل مستضر يفعله في دنياه وأخراه لم يصرف الله تعالى عنه تلك المضرة وقد كان قادرا على صرفها عنه إلا أن يعجزوه عن ذلك فيكفروا وسألهم أصحابنا فقالوا إذا كان الله عز و جل لا يفعل إلا ما هو عدل بيننا فلم حلق من يدري أنه يكفر به وأنه سيخلده بين أطباق النيران أبدا فأجابوا عن هذا بأجوبة فمن أظرفها أن كثيرا منهم قالوا لو لم يخلق من يكفر به ويخلده في نار جهنم لما استحق العذاب أحد ولا دخل النار أحدا
قال أبو محمد وتكفي من الدلالة على ضعف عقل هذا الجاهل هذا الجواب ونقول له ذلك ما كنا نبغي وهل الخير كله على ما بيننا ألا أن لا يعذب أحد بالنار وهل الحكمة المعهودة بيننا والعدل الذي لا عدل عندنا سواه إلا نجاه الناس كلهم من الأذى واجتماعهم في النعيم الدائم ولكن المعتزلة قوم لا يعقلون وأجاب بعضهم في هذا بأن قال لو كان هذا السلم الجميع من اللوم ولكان لا شيء أوضع ولا أخس من العقل لأن الذي لا عقل له سالم من العذاب واللوم والأمم كلها مجمعة على فضل العقل
قال أبو محمد لو عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذاا لسخف لأن العقل على الحقيقة إنما هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي وما عدا هذا فليس عقلا بل هو سخيف وحمق قال الله عز و جل حكاية عن الكفار أنهم قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ثم صدقهم الله عز و جل في هذا فقال فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير فصدق الله من عصاه أنه لا يعقل ثم نقول لهم نعم لا منزلة أخس ولا أوضع ولا أسقط من منزلة وموهبة أدت إلى الخلود

في النيران عقلا كانت أو غير عقل قولكم في العقل لو كان كون الإنسان حشرة أو دودة أو كلبا كان أحظى له وأسلم وأفضل عاجلا وآجلا وأحب إلى كل ذي عقل صحيح وتمييز غير مدخول وإذا كان عند هؤلاء القوم العقل الموهوب وبالأعلى صاحبه وسببا إلى تكليفه أمورا لم يأت بها فاستحق النار فلا شك عند كل ذي حس سليم في أن عدمه خير من وجوده فإن قالوا أن التكليف لم يوجب عليه دخول النار قلنا نعم ولكنه كان سببا إلى ذلك ولولا التكليف لم يدخل النار أصلا وقد شهد الله عز و جل بصحة هذا القول شهادة ولا تخفى على مسلم وهي قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا فحمد الله تعالى أباءة الجماعات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع وذم عز و جل اختيار الانسان لتحملها وسمى ذلك منه ظلما وجهلا وجورا وهذا معروف في بنية العقل والتميز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير المؤدي إلى الهلاك إو إلى النعيم وقال بعضهم خلق الله عز و جل من يكفر ومن يعلم أنه يخلد في النار ليعظ بذلك الملائكة وحو رالعين
قال أبو محمد وهذا خبط لا عهد لنا بمثله وهذا غاية السخف والعبث والظلم فأما العبث فإن في العقول منا أن من عذب واحدا ليعظ به آخر فغاية العبث والسخف وأما الجور فأي جور أعظم فيما بيننا من أن يخلق قوما قد علم أنه يعذبهم ليعظ بهم آخرين من خلقه مخلدين في النعيم فهلا عذب الملائكة وحور العين ليعظ بهم الجن والإنس وهل هذا على أصولهم إلا غاية المحاباة والظلم والعبث تعالى الله عن ذلك يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وسألهم أصحابنا عن إيلام الله عز و جل الصغار والحيوان وإباحته تعالى ذبحها فوجموا عند هذه وقال بعضهم لأن الله تعالى يعوضهم على ذلك
قال أبو محمد وهذا غاية العبث فيما بيننا ولا شيء أتم في العبث والظلم ممن يعذب صغيرا ليحسن بعد ذلك إليه فقالوا أن تعويضه بعد العذاب بالجدري والأمراض أتم وألذ من تنعيمه دون تعذيب
قال أبو محمد وفي هذا عليهم جوابان أحدهما أن يقول لهم أكان الله تعالى قادرا على أن يوفى الأطفال والحيوان ذلك النعيم دون إيلام أو كان غير قادر على ذلك فإن قالوا كان غير قادر جمعوا مع الكفر الجنون لأن ضرورة العقل يعلم بها أنه إذا قدر على أن يعطيهم مقدارا ما من النعيم بعد الإيلام فلا شك في أنه قادر على ذلك المقدار نفسه دون إيلام يتقدمه ليس في العقل غير هذا أصلا إذ ليس ها هنا منزلة زائدة في القدرة ولا فعلان مختلفان وإنما هو عطاء واحد في كلا الوجهين وان قالوا أنه قادر على ذلك فقد وجب العبث على أصولهم إذ كان قادرا على أن يعطيهم دون إيلام ما لم يعطهم إلا بعد غاية الإيلام والجواب الثاني أن نريهم صبيانا وحيوانا أماتهم في خير دون إيلام وهذه محاباة وظلم للمؤلم منهم فقالوا أن المؤلم لم يزدد في نعيمه لأجل إيلامه فقلنا لهم فهذه محاباة بزيادة النعيم للمؤلم فهلا آلم الجميع ليسوى بينهم في النعيم أو هلا يسوي بينهم في النعيم بأن لا يؤلم منهم أحدا وهذا ما لا انفكاك منه البتة وقال بعضهم فعل ذلك ليعظ بهم غيرهم
قال أبو محمد وهذا غاية الجور بيننا ولا عبث أعظم من أن يعذب إنسانا لا ذنب له ليوعظ بذلك آخرون مذنبون وغير مذنبين والله تعالى قد أنكر هذا بقوله تعالى

ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى
فقد انتفى عن الله عز و جل هذا الظلم حقا ولقد كان على أصولهم الفاسدة تعذيبه الطغاة وايلامه البغاة ليعظ بذلك غيرهم أدخل في العدل والحكمة من أن يؤلم طفلا أو حيوانا لا ذنب لهما ليعظ بذلك آخرين بل لعل هذا الوجه قد صار سبيلا إلى كفر كثير من الناس وأجاب بعضهم في ذلك بأن قال إنما فعل ذلك عز و جل بالأطفال ليؤجر آباءهم
قال أبو محمد وهذا كالذي قبله في الجور سواء بسواء أن يؤذي من لا ذنب له لياجر بذلك مذنبا أو غير مذنب حاشا لله من هذا إلا أن في هذا مزية من التناقض لأن هذا التعليل ينقض عليهم في أولاد الكفار وأولاد الزنا ممن قد ماتت أمه وفي اليتامى من آبائهم وأمهاتهم ورب طفل قد قتل الكفار أو الفساق أباه وأمه وترك هو بدار مضيعة حتى مات هزلا أو أكلته السباع فليت شعري من وعظ بهذا أو من أوجز به مع أن هذا مما لم يجدوه يحسن بيننا البتة بوجه من الوجوه يعني أن نؤذي إنسان لا نب له لينتفع بذلك آخرون وهم يقولون أن الله تعالى فعل هذا فكان حسنا وحكمة ولجأ بعضهم إلى أن قال أن الله عز و جل في هذا سرا من الحكمة والعدل يوقن به وإن كنا لا نعلم لما هو ولا كيف هو
قال أبو محمد وإذ قد بلغوا ها هنا فقد قرب أمرهم بعون الله تعالى وهو أنه يلزمهم تصديق من يقول لهم ولله تعالى في تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه عليه سر من الحكمة يوقن به ولا نعلمه
قال أبو محمد وأما نحن فلا نقول بهذا بل نقول أنه لا سر هاهنا أصلا بل كل ذلك كما هو عدل من الله عز و جل لا من غيره ولله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
قال أبو محمد ولجأت طائفتان منهم إلى أمرين أحدهما قول بكر بن أخت عبد الواحد بن يزيد فإنه قال أن الأطفال لا يألمون البتة
قال أبو محمد ولا ندري لعله يقول مثل ذلك في الحيوان
قال أبو محمد وهذا انقطاع سمج ولجاج في الباطل قبيح ودفع للعيان والحس وكل أحد منا قد كان صغيرا ويوقن أننا كنا نألم الألم الشديد الذي لا طاقة لنا بالصبر عليه والثانية أحمد بن حابظ البصري والفضل الحربي وكلاهما من تلاميذ النظام فإنهما قالا أن أرواح الأطفال وأرواح الحيوان كانت في أجساد قوم عصاة فعوقبت بأن ركبت في أجساد الأطفال والحيوان لتؤلم عقوبة لها
قال أبو محمد ومن هرب عن الإذعان للحق أو عن الإقرار بالإنقطاع إلى الكفر والخروج عن الإسلام فقد بلغ إلى حالة ما كنا نريد أن يبلغها لكن إذا آثر الكفر فإلى لعنة الله وحر سعيره ونعوذ بالله من الخذلان وإنما كلامنا هذا مع من يتقي مخالفة الإسلام فأما أهل الكفر فقد تم والله الحمد إبطالنا لقولهم وقد أبطلنا قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله فأغنى عن إعادته وإذا بلغ خصمنا إلى مكابرة الحس أو إلى مفارقة الإسلام فقد انقطع وظهر باطل قوله ولله تعالى الحمد
قال أبو محمد فإن لجؤا إلى قول معمر والجاحظ وقالوا أن آلام الأطفال هي فعل الطبيعة لا فعل الله تعالى لم يتخلصوا بذلك من الإنقطاع بل نقول لهم هل الله عز و جل قادر على معارضة

هذه الطبيعة المقطعة لحم هذا الصبي بالجدري والاكلة والخنازير المعدية له ووجع الحصاة واحتباس البول أو الغائط أو انطلاق البطن حتى يموت والعدو القاسي القلب يرحمه ويتقطع له لعظيم ما يرى به من التضرر والأوجاع بقوة من عنده تعالى يفرج بها عن هذا الطفل المسكين المعذب أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا هو غير قادر على ذلك فما في العالم أعجز ممن تغلبه طبيعة هو خلقها وطبعها ووضعها فيمن هي فيه وربما غلها طبيب ضعيف من خلقه بعقار ضعيف من خلقه فهل في الجنون والكفر أكثر من هذا القول أن يكون هو خلق الطبيعة ووضعها فيمن هي فيه ثم لا يقدر على كف عملها الذي هو وضعه فيها وإن قالوا بل هو قادر على صرف الطبيعة وكفها ولم يفعل دخل في نفس ما أنكر وأقر على ربه على أصله الفاسد بالظلم والعبث وبالضرورة ندري أن من رأى طفلا في نار أو ماء وهو قادر على استنقاذة بلا مؤنة ولم يفعل فهو عابث ظالم ولكن الله تعالى يفعل ذلك وهو الحكم العدل في حكمه لا العابث ولا الظالم وهذا هو الذي اعظموا من أن يكون قادر على هدي الكفار ولا يفعل ولجأ بعضهم إلى أن قال لو عاش هذا الطفل لكان طاغيا قلنا لهم لم نسئلكم بعد عمن مات طفلا إنما سألناكم عن إيلامه قبل بلوغه ثم نجيبهم عن قولهم فيمن مات من الأطفال أنه لو عاش لكان طاغيا فنقول لهم هذا أشد في الظلم أن يعذبه على ما لم يفعل بعد
قال أبو محمد قد وجدنا الله عز و جل قد حرم ذبح بعض الحيوان وأكله وأباح ذبح بعضه وأوجب ذبح بعضه إذا نذر الناذر بذبحه قربانا فنقول للمعتزلة أخبرونا ما كان ذنب الذي ابيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنار وأكله وما كان ذنب الذي حرم كل ذلك فيه حتى حرم العوض الذي تدعونه وما كان بخت الذي حرم إيلامه ووجدناه عز و جل قد أباح ذبح صغار الحيوان مع ما يحدث لأمهاتها من الحنين والوله كالإبل والبقر فأي فرق بين ذبحنا لمصالحنا أو لتعوض هي وبين ما حرم من ذبح أطفالنا وصغار أولاد أعدائنا لمصالحنا أو ليعوضوا فإن طردوا دعواهم في المصلحة لربهم إن كل من له مصلحة في قتل غيره كان له قتله فإن قالوا لا يجوز ذلك الاحيث أباحه الله عز و جل تركوا قولهم ووفقوا للحق
قال أبو محمد وجدناه تعالى قد حرم قتل قوم مشركين يجعلون له الصاحبة والولد ويهود ومجوس إذا أعطونا دينارا أو أربعة دنانير في العام وهم يكفرون بالله تعالى وأباح قتل مسلم فاضل قد تاب وأصلح لزنا سلف منه وهو محصن ولم يبح لنا إستبقاء مشركى العرب من عباد الأوثان الا بأن يسلموا ولا بد فأى فرق بين هؤلاء الكفار وبين الكفار الذين افترض علينا ابقاؤهم لذهب نأخذه منهم في العام
قال أبو محمد وقالوا لنا هل في أفعال الله تعالى عبث وضلال ونقص ومذموم فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إما أن يكون في أفعاله تعالى عبث يوصف به أو عيب مضاف اليه أو ضلال يوصف به أو نقص ينسب اليه أو جور منه أو ظلم منه أو مذموم منه فلا يكون ذلك أصلا بل كل أفعاله عدل وحكمة وخير وصواب وكلها حسن منه تعالى ومحمود منه ولكن فيها عيب على من ظهر منه ذلك الفعل وعبث منه وضلال منه وظلم منه ومذموم منه ثم نسألهم فنقول لهم هل في أفعاله تعالى سخف وجنون وحمق وفضائح ومصائب وقبح وسخام وأقذار وأنتان ونجس وسخنه للعين وسواد الوجه فإن قالوا لا أكذبهم الله عز و جل بقوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض

ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها وموت الأنبياء وفرعون وإبليس وكل ذلك مخلوق وإن قالوا إن الله تعالى خالق كل ذلك ولكن لا يضاف شئ منه إلى الله عز و جل على الوجه المذموم ولكن على الوجه المحمود قلنا هذا قولنا فيما سألتمونا عنه ولا فرق فإن قالوا أترضون بأفعال الله عز و جل وقضائه قلنا نعم بمعنى أننا مسلمون لفعله وقضائه ومن الرضى بفعله وقضائه أن نكره ما كره إلينا قال تعالى وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ثم نسألهم عن هذا بعينه فنقول لهم أترضون بفعل الله تعالى وقضائه فإن قالوا نعم لزمهم الرضى بقتل من قتل من الأنبياء والخمور والأنصاب والأزلام وبابليس ويلزمهم أن يرضى منهم بالخلود في النار من خلد فيها وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وسأل بعض أصحابنا بعض العتزلة فقال إذا كان عندكم إنما خلق الله تعالى الكفار وهو يعلم أنهم لا يؤمنون وأنه سيعذبهم بين أطباق النيران أبدا ليعط بهم الملائكة وحور العين فقد كان يكفى من ذلك خلق واحد منهم فقال له المعتزلة أن المؤمنين الذين يدخلون الجنة والملائكة وحور العين وجميع من لاعذاب عليه ومن الأطفال أكثر من الكفار بكثير جدا
قال أبو محمد ولم يخرج بهذا الموت مما ألزمه السائل لأن الموعظة كانت تتم بخلق واحد هذا لو كان يخلق من يعذب ليوعظ به آخر وجه في الحكمة بيننا وأيضا فلولا ذكره الملائكة لكان كاذبا في ظنه إن عدد الداخلين في الجنة من الناس أكثر من الداخلين النار لأن الأمر بخلاف ذلك لأن الله عز و جل يقول فأبى أكثر الناس الا كفورا وقال تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال تعالى وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله وقال تعالى الا الذين عملوا الصالحات وقليل ماهم فليت شعري في أي حكمة وجدوا فيما بينهم أو بيننا أو في أى عدل خلق من يكون أكثرهم مخلدين في جهنم على أصول هؤلاء الجهال وأما نحن فإنه لو عذب أهل السموات كلهم وجميع من عمر الأرض لكان عدلا منه وحقا منه وحكمة منه ولو لم يخلق النار وأدخل كل من خلق الجنة لكان حقا منه وعدلا وحكمة منه لا عدل ولا حكمة ولا حق الا ما فعل وما أمر به
قال أبو محمد ولجأ قوم منهم إلى أن قالوا إن الله تعالى لم يعلم من يكفر ومن يؤمن وأقروا أنه لو علم من يموت كافرا لكان خلقه له جورا وظلما
قال أبو محمد وهؤلاء أيضا مع عظيم ما أتوا به من الكفر في تجهيل ربهم تعالى فلم يتخلصوا مما ألزمهم أصحابنا لأنه ليس من الحكمة خلق من لا يدري أيموت كافر أفيعذبه أم لا وهذا هو التغرير بمن خلق وتعريضهم للهلكة على جهله وهذا ليس من الحكمة ولا من العدل فيما بيننا لمن يمكنه أن لا يغرر وقد كان البارى تعالى قادرا على أن لا يخلق كما قد كان لم يزل لا يخلق ثم خلق إلا أن يلجأ إلى أنه تعالى لا يقدر على أن لا يخلق فيجعلوه مضطرا ذا طبيعة غالبة وهذا كفر مجرد محض ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وإذا قرأت المعتزلة إن أطفال بنى آدم كلهم أولاد المشركين وأولاد المسلمين في الجنة دون عذاب ولا تقرير تكليف فقد نسوا قولهم الفاسد إن العقل أفضل من عدمه بل ما نرى السلامة على قولهم وضمانها والحصول على النعيم الدائم في الآخرة بلا تقرير الا في عدم العقل فكيف فارقوا هذا الاستدلال وأما نحن فنقول

إن من أسعده الله تعالى من الملائكة فلم يعرضهم لشئ من الفتن أعلى حالا من كل خلق غيرهم ثم بعدهم الذين عصم الله تعالى من النبيين عليهم الصلاة والسلام وآمنهم من المعاصى ثم من سبقت لهم من الله تعالى الحسنى من مؤمنى الجن والإنس الذين لا يدخلون النار والحور العين اللآتى خلقن لأهل الجنة على أن لهؤلاء المذكورين حاشا الحور العين حالة من الخوف طول بقائهم في الدنيا يوم الحشر في هول المطلع وشنعة ذلك الموقف الذى لا يقى به شئ الا السلامة منه ولا يهنا معه عيش حتى يخلص منه وقد تمنى كثير من الصالحين العقلاء الفضلاء إن لو كانوا نسيا منسيا في الدنيا ولا يعرضوا لما عرضوا له على أنهم قد آمنوا بالضمان التام الذي لا ينجس ولقد أصابوا في ذلك إذ السلامة لا يعد لها شئ الا عند المعتزلة القائلين بأن الثواب والنعيم بعد الضرب بالسياط والضغط بأنواع العذاب والتعريض لكل بلية أطيب وألذ وأفضل من النعيم السالم من أن يتقدمه بلاء ثم الأطفال الذين يدخلون الجنة دون تكليف ولا عذاب ومن بلغ ولا تمييز له ثم منزلة من دخل النار ثم أخرج منها بعد أن دخل فيها على ما فيهامن البلاء نعوذ بالله منه وأما من يخلد في النار فكل ذى حس سليم توقن نفسه يقين ضرورة إن الكلب والدود والقرد وجميع الحشرات أحسن حالا في الدنيا والآخرة منه وأعلى مرتبة وأتم سعدا وأفضل صفة وأكرم عناية من عند البارى تعالى ويكفى من هذا إخبار الله تعالى إذ يقول ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا فنص تعالى على أن حال الجمادية أحسن منه حالة فأعجبوا للمعتزلة القائلين إن الله تعالى أعطى من يتمنى يوم القيامة أن يكون ترابا أفضل عطية عنده ولم يترك في قدرته أصلح مما عمل به وإن خلقه له كان خيرا له من أن لا يخلقه ونحن نعوذ بالله لأنفسنا من أن يعمل بنا ما عمل بهم
قال أبو محمد ومن عجائبهم قولهم إن الله تعالى لم يخلق شيئا لا يعتبر به أحد من المكلفين
قال أبو محمد فنقول لهم ما دليلكم على هذا وقد علمنا بضرورة الحس إن لله تعالى في قعور البحار وأعماق الأرض أشياء كثيرة لم يرها إنسان قط فلم يبق إلا أن يدعو عوض الملائكة والجن في عمق الجبال وقعور البحور فهذه دعوى مفتقرة إلى دليل وإلا فهى باطله قال عز و جل قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وأيضا فمما تبطل به دعوى هؤلاء القائلين بغير علم على الله إن الله تعالى إذا خلق زيدا له من الطول كذا وكذا فإنه لو خلقه على أقل من ذلك الطول بإصبع لكان الاعتبار بخلقه سواء كما هو الآن ولا مزيد وهكذا كل مقدار من المقادير فإن ادعوا إن الزيادة في العدد زيادة في العبرة لزمهم أن يلزموا ربهم تعالى أن يزيد في مقدار طول كل ما خلق لأنه كان زيادة في الإعتبار والا فقد قصر وبالجملة فهو سهم لا يحصيه الا الذى خلقهم نعوذ بالله مما ابتلاهم به
قال أبو محمد وهم مقرون أن العقول معطاة من عند الله عز و جل فنسألهم أفاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقول أم لا فإن قالوا الأكابر والحس ولزمهم مع ذلك إن عقل النبي صلى الله عليه و سلم وتميزه وعقل عيسى وابراهيم وموسى وأيوب وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتميزهم وعقل مريم بنت عمران وتمييزها بل تمييز جبريل وميكائيل وسائر الملائكة ثم تمييز أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وعقولهم وتمييز أمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه و سلم

ورضوان الله على جميع من ذكرنا وعقولهن ثم تميز سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وعقولهم ليس شئ من ذلك أفضل من العقل والتمييز المعطيين لهذا المخنث اللغاء الرقان ولهذه الزانية الخليقة المتبرجة السحاقة ولهذا الشيخ الذى يلعب مع الصبيان بالكعاب في الخابات ويعجفهم إذا قدر ومن بلغ هذا المبلغ وساوى بين من أعطى الله عز و جل كل من ذكرنا من العقل والتمييز فقد كفى خصمه مؤنته وإن قالوا بل الله تعالى فاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقل والتمييز قيل لهم صدقتم وهذا هو المحباة والجور على أصولكم ولا محاباة على الحقيقة أكثر من هذا وهي عندنا حق وعدل منه تعالى لا يسأل عما يفعل ولعمري أن فيهم لعجبا إذ يقولون أن الله تعالى لم يعط أحدا من خلقه إلا ما أعطى سائرهم فهلا إن كانوا صادقين ساوى جميعهم إبراهيم النظام وأبا لهذيل العلاف وبشر بن المعتمر والجبائي في دقة نظرهم وقوتهم على الجدال إذ كلهم فيما منحهم الله عز و جل من ذلك سواء فإذ لا شك في عجزهم عن بلوغ ذلك فلا شك في أن كل أحد لا يقدر أن يزيد فيما منحه الله تعالى به وليس يمكنهم أصلا أن يدعواها هنا أنهم كلهم قادرن على ذكاء الدهن وحدة النظر وقوة الفطنة وجودة الحفظ والبتة لدقيق الحجة وإن لم يظهر وكما ادعوا ذلك في الأعمال الصالحة فصحت المحاباة من الله تعالى يقينا عيانا لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قروا أن العقول والذكاء وقبول العلم ذكاء الخاطر ودقة الفهم غير موهوبة من الله تعالى عز و جل قلنا لهم فمن خلقها فإن قالوا هي فعل الطبيعة قلنا لهم ومن خلق الطبيعة التي فعلت العقول وكل ذلك بذلتها متفاضلة فمن قولهم أن الله تعالى خلقها فيقال لهم فهو موجب المحاباة إذ رتب الطبيعة رتبة المحاباة ولا بد وأن قالوا لم تخلق الطبيعة ولا العقول لحقوا بالدهرية وصاروا إلى ما لم يرد لهم المصير إليه وهذا لا مخلص لهم منه أصلا وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة ندري أن من كان تميزه أتم كان اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم وهذا هو المحاباة التي أنكروها وسموها ظلما وجورا
قال أبو محمد ومهما أمكنهم من الدفاع والقحة في شيء فإنه لا يمكنهم اعتراض أصلا في أن فضل الله تعالى على المسيح ابن مريم عليه الصلاة و السلام وعلى يحيى بن زكريا إذ جعل عيسى نبيا ناطقا عاقلا في المهد رسولا حين سقوطه من بطن أمه وإذ آتى يحيالحكم صبيا أتم وأعلا وأكثر من فضله على من ولد في أقاصي بلاد الخز والزنج حيث لم يستمع قط ذكر محمد صلى الله عليه و سلم إلا متبعا أقبح الذكر من التكذيب وأنه كان متخيلا وأكثر من فضله بلا شك على فرعون إذ دعا موسى عليه الصلاة و السلام فقال ربنا أنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما
قال أبو محمد أن من ضل بعد هذا لضال وأن من قال أن فضل الله عز و جل وعطاءه لموسى وعيسى ويحيى ومحمد صلى الله عليه و سلم وعصمته لهم كفضله وعطائه على فرعون وملئه وعصمته لهم الذين نص عز و جل على أنه شد على قلوبهم شدا منعهم الإيمان حتى يروا العذاب الأليم فلا ينفعهم إيمانهم حينئذ لضعيف العقل قليل العلم مهلهل اليقين ولا ابين من هذه الآية في تفضيل الله عز و جل بعض خلقه على بعض خلقه واختصاص بعضهم بالهدى والرحمة دون بعض ومحاباته من شاء منهم واضلالهم من ضل منهم وأيضا فإنهم لا

يستطيعون أن الله عز و جل فضل بني آدم على كثير ممن خلق قال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وقال تعالى ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقال تعالى ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا وهو المحاباة بعينها التي هي عند المعتزلة جور وظلم فيقال لهم على أصلكم الفاسد هلا رزق الله العقل سائر الحيوان فيعرضهم بذلك للمراتب السنية التي عرض لها بني آدم وهلا ساوى بين الحيوان وبيننا في أن لا يعرضنا كلنا للمهالك والفتن فهل هذا إلا محاباة مجردة وفعل لما يشاء لا معقب لحكمه لا يسأل عما يفعل
قال أبو محمد وقد ذكر بعضهم أن الله تعالى قبح في عقول بني آدم أكل ما يعطيهم وأكل أموال غيرهم ولم يقبح ذلك في عقول الحيوان
قال أبو محمد فأقر هذا الجاهل لأن الله تعالى هو المقبح والمحسن فإذ ذلك كذلك فلا قبيح إلا ما قبح الله ولا محسن إلا ما حسن وهذا قولنا ولم يقبح الله تعالى قط خلقه لما خلق وإنما قبح منا كون ذلك الذي خلق من المعاصي فينا فقط وبالله تعالى التوفيق وإن الأمر لا بين من ذلك ألم تروا أن الله خلق الحيوان فجعل بعضه أفضل من بعض بلا عمل أصلا ففضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق نعم وعلى نوق الأنبياء الذين هم أفضل من صالح وإنما أتينا بهذا لئلا يقولوا أنه تعالى إنما فضلها تفضيلا لصالح عليه السلام وجعل تعالى الكلب مضروبا به المثل في الخساسة والرزالة وجعل القردة والخنازير معذبا بعض من عصاه بتصويره في صورتها فلولا أن صورتها عذاب ونكال ما جعل القلب في صورتها أشد ما يكون من عذاب الدنيا ونكالها وجعل بعض الحيوان متقربا إلى الله عز و جل بذبحه وبعضه محرما ذبحه وبعضه مأواه الرياض والأشجار والخضر وبعضه مأواه الحشوش والرداع والدبر وبعضه قويا وبعضه ضعيفا منتفعا به في الأودية وبعضه سما قاتلا وبعضه قويا على الخلاص ممن أراد بطير انه وعدوه أو قوته وبعضه مهينا لا مخلص عنده وبعضه خيلا في نواصيها الخير يجاهد عليها العدو وبعضه سباعا ضارية مسلطة في سائر الحيوان ذاعرة لها قاتلة لها آكلة لها وجعل سائر الحيوان لا ينقصر منها وبعضها حياة عادية مهلكة وبعضه مأكولا على كل حال فأي ذنب كان لبعضه حتى سلط عليه غيره فأكله وقتله وأبيح ذبحه وقتله وإن لم يؤكل كالقمل والبراغيث والبق والوزغ وسائر الهوام ونهى عن قتل النحل وعن قتل الصيد في الحرمين والإحرام وأباحه في غير الحرمين والإحرام فإن قالوا إن الله تعالى يعوض ما أباح ذبحه وقتله منها قيل له فهلا أباح ذلك فيما حرم قتله ليعوضه أيضا وهذه محاباة لا شك فيها مع أنه في المعهود من المعقول عين العبث إلا أن يقولوا أنه تعالى لا يقدر على نعيمها إلا بتقديم الأذى فإنهم لا ينفكون بهذا من المحاباة لها على من لم يبح ذلك فيها من سائر الحيوان مع أنه تعجيز لله عز و جل ويقال لهم مالذي عجزه عن ذلك وأقدره على تنعيم من تقدم له الأذى في الدنيا أطبيعة فيه جارية على بنيتها أم فوقه واهب له تلك القدرة ولا بد من أحد هذين القولين كلاهما كفر مجرد وأيضا فإن قولهم يبطل بتنعيم الله عز و جل الأطفال الذين ولدوا احياء وماتوا من وقتهم دون ألم سلف لهم ولا تعذيب فهلا فعل بجميع الحيوان كذلك على أصولكم

وأيضا فقد كان عز و جل قادرا على أن يجعل غذاءنا في غير الحيوان لكن في النبات والثمار كعيش كثير من الناس في الدنيا لا يأكلون لحما فما ضرهم ذلك في عيشهم شيئا فهل هاهنا إلا أن الله تعالى لا يجوز الحكم على أفعاله بما يحكم به على أفعالنا لأننا مأمورون منهيون وهو تعالى أمرنا لا مأمور ولا منهي فكل ما فعل فهو عدل وحكمة وحق وكل ما فعلناه فإنه وافق أمره عز و جل كان عدلا وحقا وإن خالف أمره عز و جل كان جورا وظلما
قال أبو محمد وأما الحيوان فإن قولنا فيه هو نص ما قاله الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم إذ يقول عز و جل وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون وقال عز و جل وإذا الوحوش حشرت فنحن موقنون أن الوحوش كلها وجميع الدواب والطير تحشر كلها يوم القيامة كما شاء الله تعالى ولما شاء عز و جل وأما نحن فلا ندري لماذا والله أعلم بكل شيء وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء فنحن نقر بهذا وبأنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء ولا ندري ما يفعل الله بهما بعد ذلك إلا أنا ندري يقينا أنها لا تعذب بالنار لأن الله تعالى قال لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وبيقين ندري أن هذه الصفة ليست إلا في الجن والإنس خاصة ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى وقد أيقنا أن سائر الحيوان الذي في هذا العالم ما عدا الملائكة والحور والإنس والجن فإنه غير متعبد بشريعته وأما الجنة فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة والحيوان حاشى من ذكرنا لا يقع عليهم اسم مسلمين لان المسلم هو المتعبد بالاسلام والحيوان المذكور غير متعبد بشرع فان قال قائل انكم تقولون ان اطفال المسلمين واطفال المشركين كلهم في الجنة فهل يقع على هؤلاء اسم مسلمين فجوابنا وبالله تعالى التوفيق ان نقول نعم كلهم مسلمون بلاشك لقول الله تعالى واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم واشهدهم على انفسهم ألست بربكم قالوا بلى وقوله تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة وروى على الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه ولقوله صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل اني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم فصح لهم كلهم اسم الاسلام والحمد لله رب العالمين وقد نص عليه السلام على انه رأى كل من مات طفلا من أولاد المشركين وغيرهم في روضة مع ابراهيم خليل الله صلى الله عليه و سلم وأما المجانين ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة نبي ومن إدركه الاسلام وقد هرم أو أصم لا يسمع فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه تبعث لهم يوم القيامة نار موقدة ويؤمرون بدخولها فمن دخلها كانت عليه برد أو دخل الجنة أو كلا ما هذا معناه فنحن نؤمن بهذا ونقر به ولا علم لنا الا ما علمنا الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وإذ بلغ الكلام ها هنا فلنصله إن شاء الله تعالى راغبين في الأجر من الله عز و جل على بيان الحق فنقول وبالله تعالى نتأيد أن الله تعالى قد نص كما ذكرنا أنه آخذ من بنى آدم من ظهورهم ذرياتهم وهذا نص جلى على إنه عز و جل خلق أنفسنا كلها من عهد آدم عليه السلام لأن الأجساد حينئذ بلا شك كانت ترابا وماء وأيضا فإن المكلف المخاطب إنما هو النفس لا الجسد فصح يقينا أن نفوس كل من يكون من بني آدم إلى يوم القيامة كانت موجودة مخلوقة حين خلق آدم بلا شك ولم

يقل الله عز و جل أنه أفنانا بعد ذلك ونص تعالى على أنه خلق الأرض والماء حينئذ بقوله تعالى إنه جعل من الماء كل شئ حي وقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر عز و جل أنه خلقنا من طين والطين هو التراب وإنما خلق تعالى من ذلك أجسامنا فصح إن عنصر أجسامنا مخلوق منذ أول خلقه تعالى السموات وإن أرواحنا وهى أنفسنا مخلوقة منذ أخذ الله تعالى عليها العهد وهكذا قال تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وثم توجب في اللغة التى بها نزل القرآن التعقيب بمهلة ثم يصور الله تعالى من الطين أجسامنا من اللحم والدم والعظام بأن يحيل أعراض التراب والماء وصفاتهما فتصير نباتا وحبا وثمارا يتغذى بها فتستحيل فينا لحما وعظما ودما وعصبا وجلدا وغضاريف وشعرا ودماغا ونخاعا وعروقا وعضلا وشحما ومنيا ولبنا فقط وكذلك تعود أجسامنا بعد الموت ترابا ولا بد وتصعد رطوباتها المائية وأما جمع الله تعالى الأنفس إلى الأجساد فهي الحياة الأولى بعد افتراقها الذي هو الموت الأول فتبقى كذلك في عالم الدنيا الذي هو عالم الإبتلاء ما شاء الله تعالى ثم ينقلنا بالموت الثاني الذي هو فراق الأنفس للأجساد ثانية إلى البرزخ الذي تقيم فيه الأنفس إلى يوم القيامة وتعود أجسامنا ترابا كما قلنا ثم يجمع الله عز و جل يوم القيامة بين أنفسناوأجسادنا التي كانت بعد أن يعيدها وينشرها من القبور وهي المواضع التي استقرت أجزاؤها فيها لا يعلمها غيره ولا يحصيها سواه عز و جل لا إله إلا هو فهذه الحياة الثانية التي لا تبيد أبدا ويخلد الإنس والجن مؤمنهم في الجنة بلا نهاية وكافرهم في النار بلا نهاية وأما الملائكة وحور العين فكلهم في الجنة خلقوا من النور وفيها يبقون أبدا بلا نهاية ولم ينقلوا عنها قطولا ينقلون هذا كله نص قول الله عز و جل إذ يقول كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم وإذ يقول الله تعالى مصدقا للقائلين ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فلا يشذ عن هذا أحد إلا من أبانه الله تعالى بمعجزة ظهرت فيه كمن أحياه الله عز و جل آية لنبي كالمسيح عليه السلام وكالذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم فهؤلاء والذي أماته الله مائة عام ثم أحياه كلهم ماتوا ثلاث موتات وحيوا ثلاث مرات وأما من ظن أن الصعقة التي تكون يوم القيامة موت فقد أخطأ بعض القرآن الذي ذكرنا لأنها كانت تكون حينئذ لكل أحد ثلاث موتات وثلاث إحياآت وهذا كذب وباطل وخلاف للقرآن وقد بين عز و جل هذا نصا فقال تعالى ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فبين تعالى أن تلك الصعقة إنما هي فزع لا موت وبين ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء الآية فبين تعالى أن تلك الصعقة مستثنى منها من شاء الله عز و جل وفسر بها الآية التي ذكرنا قبل وبينت أنها فزعة لا موتة وكذلك فسرها النبي عليه الصلاة و السلام بأنه أول من يقوم فيرى موسى عليه السلام قائما فلا يدري أكان ممن صعق فأفاق أم جوزى بصعقة الطور فسماها إفاقة ولو كانت موتة ما سماها إفاقة بل إحياء فكذلك كانت صعقة موسى عليه الصلاة و السلام يوم الطور فزعة لا موتا قال تعالى وخر

موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك هذا ما لا خلاف فيه
قال أبو محمد فصح بما ذكرنا إن الدور سبع وهى عالمون كل عالم منها قائم بذاته فأولها دار الإبتداء وعالمه وهو الذى خلق عز و جل فيه الأنفس جملة واحدة وأخذ عليها العهد هكذا نص تعالى على إنها الأنفس بقوله عز و جل واشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وهى دار واحدة لأنهم كلهم فيها مسلمون وهى دار طويلة على آخر النفوس جدا الا على أول المخلوقين فهى قصيرة عليهم جدا وثانيها وهى دار الإبتلاء وعالمه وهى التى نحن فيها وهى التى يرسل الله تعالى النفوس إليها من عالم الأبتداء فتقيم فيه في أجسادها متعبدة ما أقامت حتى تفارقه جيلا بعد جيل حتى تستوفى جميع الأنفس المخلوقة بسكناها الموفق لها فيه ثم ينقضى هذا العلم وهى دار قصيرة جدا على كل نفس في ذاتها لأن مدة عمر الإنسان فيها قليل ولو عمر الف عام فكيف بأعمار جمهور الناس التى هى من ساعة إلى حدود المائة عام ثم داران اثنتان للبرزخ وهما اللتان ترجع إليهما النفوس عند خروجها من هذا العالم وفراقها أجسادها وهما عند سماء الدنيا نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر أنه رأى ليلة أسر به عليه الصلاةوالسلام آدم في سماه الدنيا وعن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فسأل عنها فأخبر إنها نسم بنيه وإن الذين عن يمينه أرواح أهل السعادة والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء وقد نص الله تعالى على هذا أيضا فقال تعالى وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين وقال تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما من كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين وقال تعالى ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة
قال أبو محمد رضى الله عنه هكذا نص رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن أرواح الشهداء في الجنة وكذلك الأنبياء بلا شك فمن الباطل أن يفوز الشهداء بفضل يحرمه الأنبياء وهم المقربون الذين ذكر الله تعالى أنهم في الجنة إذ يقول تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم فهاتان داران قائمان لم يدخل أهلهما بعد لا جنة ولا نارا بنص القرآن والسنة وقال تعالى النار يعرضون عليها غدوا عشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب وقال تعالى حاكيا عن الكفار إنهم يقولون يوم البعث يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فصح أنهم لم يعذبوا في النار بعد وهكذا جاءت الأخبار كلها بأن الجميع يوم القيامة يصيرون إلى الجنة وإلى النار لا قبل ذلك حاشى الأنبياء والشهداء فقط ولا ينكر خروجهم من الجنة لحضور الحساب فقد دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم الجنة ثم خرج عنها قال تعالى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وهما داران طويلتان على أول النفوس جدا حاشى آخر المخلوقين فهى قصيرة عليهم جدا وإنما استقصرها الكفار كما قال عز و جل في القرآن لأنهم انتقلوا عنها إلى عذاب النار نعوذ بالله منها فاستقلوا تلك المدة وإن كانت طويلة حتى ظنها بعضهم لشدة ما صاروا اليه يوما أو بعض

يوم وقال بعضهم إن لبثتم الا عشرا ثم الدار الخامسة هى عالم البعث وهو يوم القيامة وهو عالم الحساب ومقداره خمسون ألف سنة قال تعالى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه فصح أنه يوم القيامة وبهذا أيضا جاءت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما الأيام التى قال الله تعالى فيها أن اليوم منها ألف سنة فهى آخر قال تعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون وقال تعالى وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون فهى أيام أخر بنص القرآن ولا يحل إحالة نص عن ظاهره بغير نص آخر أو اجماع بيقين أو ضرورة حس ثم الدار السادسة والسابعة داران للجزاء وهما الجنة والنار وهما داران لا آخر لهما ولا فناء لهما ولا لمن فيهما نعوذ بالله من سخطه الموجب للنار ونسأله الرضى منه الموجب للجنة وما توفيقا الا بالله الرحيم الكريم وأما من قال إن قوله تعالى في يوم القيامة إنما هو مقدار خمسين ألف سنة لو تولى ذلك الحساب غيره فهو مكذب لربه تعالى مخالف للقرآن ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في طول ذلك اليوم وبضرورة العقل ندرى أنه لو كلف جميع أهل الأرض محاسبة أهل حصروا واحد فيما أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذلك ما قاموا به في ألف ألف عام فبطل هذا القول الكاذب بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وإذ قد بينا بطلان قول المعتزلة في تحكمهم على ربهم وايجابهم عليه ما أوجبوا بآرائهم السخيفة وتشبيههم إياه بأنفسهم فيما يحسن منهم ويقبح وتجويزهم أياه فيما فعل وقضى وقدر فلنبين بحول الله وقوته أنهم المجورون له على الحقيقة لا نحن ثم نذكر ما نص الله تعالى عليه مصدقا لقولنا ومكذبا لقولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز و جل نتأيد ان من المحال البين أن يقول المعتزلة أننا نجور الله تعالى ونحن نقول أنه لا يجور البته ولا جار قط وإن كل ما فعل أو يفعل أى شئ كان فهو العدل والحق والحكمة على الحقيقة لا شك في ذلك وأنه لا جور الا ما سماه الله عز و جل جورا وهو ما ظهر في عصاة عبادة من الجن والإنس مما خالف أمره تعالى وهو خالقه فيهم كما شاء فكيف يكون مجور إليه عز و جل من هذه هي مقالته وإنما المجور لربه تعالى من يقول فيما أخبر الله عز و جل أنه خلقه هذا جور وظلم فإن قابل هذا القول لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أما أنه مكذب لربه عز و جل في إخباره في القرآن أنه برأ المصائب كلها وخلقها وإنه تعالى خلقنا وما نعمل وأنه خلق كل شئ بقدر محرف لكلام ربه تعالى الذى هو غاية البيان عن مواضعه مبدل له بعدما سمعه وقد نص الله تعالى فيمن يحرف الكلم عن مواضعه ويبدله بعد ما سمعه ما نص فهذا خطه كفران التزامها والثانية وهى تصديق الله عز و جل في إخباره بذلك وتجويزه في فعله لا بد له من ذلك وهذه أيضا خطة كفران التزامها أو الإنقطاع والتناقض والثبات على اعتقاد الباطل بلا حجة تقليدا للعيارين الشطار الفساق كالنظام والعلاف وبشر نخاس الرقيق ومعمر المتهم عندهم في دينه وثمامة الخليع المشهور بالقبايح والجاحظ وهو من عرف هزلا وعيارة وإنهما لا وهذه اسلم الوجوه لهم ونعوذ بالله من مثلها ثم هم بعد هذا صنفان أصحاب الأصلح وأصحاب اللطف فأما أصحاب اللطف فان اصحاب الأصلح يصفونهم بإنهم مجورون

لله مجهلون له وأصحاب الأصلح يصفهم أصحاب اللطف بأنهم معجزون لله تعالى مشبهون له بخلقه فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقد نص الله تعالى على أنه يفعل ما يشاء بخلاف ما قالت المعتزلة فقال عز و جل كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وأمرنا عز و جل أن ندعوه فنقول ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به
قال أبو محمد وهذه غاية البيان في أنه عز و جل له أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وأنه لو شاء ذلك لكان من حقه ولو لم يكن له ذلك لما أمرنا بالدعاء في أن لا يحملنا ذلك ولكان الدعاء بذلك كالدعاء في أن يكون إلها خالقا على أصولهم ونص تعالى كما تلونا على أنه قد حمل من كان قبلنا الإصر وهو الثقل الذي لا يطاق وأمرنا أن ندعوه بأن لا يحمل ذلك علينا وأيضا فقد أمرنا تعالى في هذه الآية أن ندعوه في أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهذا هو تكليف ما لا يطاق نفسه لأن النسيان لا يقدر أحد على الخلاص منه ولا يتوهم التحفظ منه ولا يمكن أحدا دفعه عن نفسه فلولا أن له تعالى أن يؤاخذ بالنسيان من شاء من عباده لما أمرنا بالدعاء في النجاة منه وقد وجدنا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مؤاخذين بالنسيان منهم أبونا آدم صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي يريد نسيانه عداوة إبليس له الذي حذره الله تعالى منها ثم آخذه على ذلك وأخرجه من الجنة ثم تاب عليه وهذا كله على أصول المعتزلة جور وظلم تعالى الله عن ذلك وقال عز و جل ولو شاء الله ما أشركوا ولو في اللغة التي بها نزل القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقينا أن ترك الشرك من المشركين ممتنع لامتناع مشيئة الله تعالى لتركه وقال تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ومشيئة الله هي تفسير إذن الله وقال تعالى ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله فهذا نص جلي على أنه لا يمكن أحد أن يؤمن إلا بإذن الله عز و جل له في الإيمان فصح يقينا أن كل من آمن فلم يؤمن إلا بإذن الله عز و جل وأنه تعالى شاء أن يؤمن وأن كل من لم يؤمن فلم يأذن الله تعالى له في الإيمان ولا شاء أن يكون منه الإيمان هذا نص هاتين الآيتين اللتين لا يحتملان تأويلا غيره أصلا وليس لأحد أن يقول أنه تعالى عنى الإكراه على الإيمان لأن نص الآيتين مانع من هذا التأويل الفاسد لأنه تعالى أخبر أن كل من آمن فإنما آمن بإذن الله عز و جل وأن من لم يؤمن فإن الله تعالى لم يشاء أن يؤمن فيلزمهم على هذا أن كل مؤمن في العالم فمكره على الإيمان وهذا شر من قول الجهمية وأشد فإن قالوا أن أذن الله تعالى ها هنا إنما هو أمره لزمهم ضرورة أحد وجهين لا بد منهما إماأن يقولوا أن الله تعالى لم يأمر الكفار بالإيمان لأن النص قد جاء بأنه تعالى لو أذن لهم لامنوا وأما أن يقولوا أن كل من في العالم فهم مؤمنون لأنهم عندهم مأذون لهم في الإيمان إذا كان الإذن هو الأمر وكلا القولين كفر مجرد ومكابرة للعيان ونعوذ بالله من الضلال
قال أبو محمد الإذن ها هنا ومشيئته تعالى هو خلق الله تعالى للإيمان فيمن آمن وقوله لإيمانه كن فيكون وعدم إذنه تعالى وعدم مشيئته للإيمان هو أن لا يخلق في المرء الإيمان فلا يؤمن لا يجوز غير هذا البتة إذ قد صح أن الإذن ها هنا ليس هو الأمر وقال عز و جل ولقد

بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فأخبر تعالى أنه هدى بعضهم دون بعض وهذا عند المعتزلة جور وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس فنص على أنه خلقهم ليدخلهم النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء
وأمر تعالى أن ندعوه فنقول ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا فنص تعالى على زيغ قلوب من لم يهدهم من الذين زاغوا إذ أزاغ الله قلوبهم وقال تعالى كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون فقطع تعالى على أن كلماته قد حقت على الفاسقين أنهم لا يؤمنون فمن الذي حقق عليهم أن لايؤمنوا إلا هو عز و جل وهذا جور عند المعتزلة
قال أبو محمد وكل آية ذكرناها في باب الإستطاعة منهن حجة عليهم في هذا الباب وكل آية نتلوها إن شاء الله عز و جل في باب إثبات أن الله عز و جل أراد كون الكفر والفسق بعد هذا الباب منهي أيضا حجة عليهم في هذا الباب وكذلك كل آية نتلوها إن شاء الله عز و جل في إبطال قول من قال ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه الله أبا جهل وفرعون وأبا لهب مما يستدعي إلى الإيمان فإنها حجة عليهم في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد واحتجت المعتزلة بقول الله تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق وبقوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد وبقوله تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وبقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وبقوله تعالى وما ربك بلام للعبيد وبقوله تعالى إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
قال أبو محمد وهذه حجة لنا عليهم لأنه تعالى أخبر أنه قادر على أن يسمعهم والإسماع هاهنا الهدى بلا شك لأن آذانهم كانت صحاحا ومعنى قوله تعالى ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون إنما معناه بلا شك لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا لأنه محال أن يهديهم الله وقد علم من قلوبهم خيرا فلا يهتدوا وهذا تناقض قد تنزه كلامه عز و جل عنه فصح أنه كما ذكرنا يقينا
قال أبو محمد وسائرها حجة لهم في شيء منه بل هو حجة لنا عليهم وهو نص قولنا أنه خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق وأفعال العباد بين السماء والأرض بلا شك فالله تعالى خلقها بالحق الذي هو اختراعه لها وكل ما فعل تعالى حق وإضلاله من أضل حق له ومنه تعالى وهداه من هدى حق منه تعالى ومحاباته من حابى بالنبوة وبالطاعة حق منه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال أن الله تعالى خلق شيئا بغير الحق أو أنه تعالى خلق شيئا لاعبا أو أنه تعالى ظلم أحدا بل فعله عدل وصلاح ولقد ظهر لكل ذي فهم أننا قائلون بهذه الآيات على نصها وظاهرها فأي حجة لهم علينا في هذه النصوص لو عقلوا وأما المعتزلة فيقولون أنه تعالى لم يخلق كثيرا مما بين السموات والأرض لا سيما عباد بن سليمان منهم تلميذ هشام بن عمرو الفوطي القائل أن الله تعالى لم يخلق الجدب ولا الجوع ولا الأمراض ولا الكفار ولا الفساق ومحمد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جعفر بن حرب القائل أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا المزامير ولا الطنابير وكل ذلك ليس يخلق من خلق الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وهم يقولون أن الله عز و جل لو حابى أحدا لكان ظالما لغيره وقد صح أن الله تعالى حابى موسى وإبراهيم

ويحيى ومحمدا صلوات الله عليهم دون غيرهم ودون أبي لهب وأبي جهل وفرعون والذي حاج إبراهيم في ربه فعلى قول المعتزلة يجب أن الله تعالى ظلم هؤلاء الذين حابى غيرهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم منه إلا بترك قولهم الفاسد وأما قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فهكذا نقول ما خلقهم الله تعالى إلا ليكونوا له عبادا مصرفين بحكمه فيهم منقادين لتدبيره إياهم وهذه حقيقة العبادة والطاعة أيضا عباده وقال تعالى حاكيا عن القائلين أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون وقد علم كل أحد أن قوم موسى عليه السلام لم يعبدوا قط فرعون عبادة تدين لكن عبدوه عبادة تذلل فكانوا له عبيدا فهم له عابدون وكذلك قول الملائكة عليهم السلام بل كانوا يعبدون الجن وقد علم كل أحد أنهم لم يعبدوا الجن عبادة تدين لكن عبدوهم عبادة تصرف لأمرهم وإغوائهم فكانوا لهم بذلك عبيدا فصح القول بأنهم يعبدونهم وهذا بين وقال بعض أصحابنا معنى هذه الآية أنه تعالى خلقهم ليأمرهم بعبادته ولسنا نقول بهذا لأن فيهم من لم يأمره الله تعالى قط بعبادته كالأطفال والمجانين فصار تخصيصا للآية بلا برهان والذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه لأنه المشاهد المتيقن العام لكل واحد منهم وأما ظن المعتزلة في هذه الآية فباطل يكذبه إجماعهم معنا أن الله تعالى لم يزل يعلم أن كثيرا منهم لا يعبدونه فكيف يجوز أن يخبر أنه خلقهم لأمر قد علم أنه لا يكون منهم إلا أن يصيروا إلى قول من يقول أنه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون فيتم كفر من لجأ إلى هذا ولا يخلصون مع ذلك من نسبة العبث إلى الخالق تعالى إذ غرر من خلق فيما لا يدري أيعطبون فيه أم يفوزون وتحيرت المعتزلة القائلون بالأصلح وبإبطال المحاباة في وجه العدل في ستة عشر بابا وهي العدل في إدامة العذاب العدل في إيلام الحيوان العدل في تبليغ من في المعلوم أنه يكفر العدل في المخلوق العدل في المخلوق العدل في إعطاء الاستطاعة العدل في الارادة العدل في البدل العدل في الامر العدل في عذاب الأطفال العدل في إستحقاق العذاب العدل في المعرفة العدل في اختلاف أحوال المخلوقين العدل في اللطف العدل في الأصلح العدل في نسخ الشرائع العدل في النبوة
الكلام في هل شاء الله عز و جل كون الكفر والفسق
وإراده تعالى من الكافر والفاسق أم لم يشاء ذلك ولا أراد كونه
قال أبو محمد قالت المعتزلة أن الله تعالى لم يشاء أن يكفر الكافر ولا أن يفسق الفاسق ولا أن يشتم تعالى ولا أن يقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحتجوا بقول الله عز و جل ولا يرضى لعباده الكفر وبقوله تعالى اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم وقالوا من فعل ما أراد الله فهو مأجور محسن فإن كان الله تعالى أراد أن يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق فقد فعلا جميعا ما أراد الله تعالى منهما فهما محسنان مأجوران وذهب أهل السنة أن لفظة شاء وأراد لفظة مشتركة تقع على معنيين أحدهما الرضى والإستحسان فهذا منهي عن الله تعالى أنه أراده أو شاءه في كل ما نهى عنه والثاني أن يقال أراد وشاء بمعنى أراد كونه وشاء وجوده فهذا هو الذي نخبر به عنه الله عز و جل في كل موجود في العالم من خير أو شر فسلكت المعتزلة سبيل السفسطة في التعلق بالألفاظ المشتركة الواقعة على معنيين فصاعدا والتمويه الذي يضمحل إذا فتش ويفتضح إذا بحث

عنه وهذه سبيل الجهال الذين لا حيلة بأيدهم إلا المخرفة وقال أهل السنة ليس من فعل ما أراد الله تعالى وما شاء الله كان محسنا وإنما المحسن من فعل بما أمره الله تعالى به ورضيه منه
قال أبو محمد ونسألهم فنقول لهم أخبرونا أكان الله تعالى قادرا على منع الكفار من الكفر والفاسق من الفسق وعلى منع من شتمه من النطق به ومن إمراره على خاطره وعلى المنع من قتل من قتل من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أم كان عاجزا عن المنع من ذلك فإن قالوا لم يكن قادرا على المنع من شيء من ذلك فقد أثبتوا له معنى العجز ضرورة وهذا كفر مجرد وإبطال لإلهيته تعالى وقطع عليه بالضعف والنقص وتناهي القوة وإنقطاع القدرة مع التناقض الفاحش لأنهم مقرون أنه تعالى هو أعطاهم القوة التي بها كان الكفر والفسق وشتمه تعالى وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن المحال المحض أن يكون تعالى لا يقدر على أن لا يعطيهم الذي أعطاهم وهذه صفة المضطر المجبر وإن قالوا بل هو قادر على منعهم من كل ذلك أفروا ضرورة أنه مريد لبقائهم على الكفر وأنه المبقي للكافر وللكفر وحالف الزمان الذي امتد فيه الكافر على كفره والفاسق على فسقه وهذا نفسه هو قولنا أنه أراد كون الكفر والفسق والشتم له وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يرض عن شيء من ذلك بل سخطه تعالى وغضب على فاعله وقالت المعتزلة إن كان الله تعالى أراد كون كل ذلك فهو إذن يغضب مما أراد
قال أبو محمد ونحن نقر أنه تعالى يغضب على فاعل ما أراد كونه منه ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم فاذ هذا عندكم منكر وأنتم مقرون بأنه قادر على المنع منه فهو عندكم يغضب مما أقر ويسخط ما يقره ولا يغيره ويثبت ما لا يرضى وهذا هو الذي شنعوا فيه ولا يقدرون على دفعه والشاعة عليهم راجعة لأنهم أنكروا ما لزمهم وبالضرورة ندري أن من قدر على المنع من شيء فلم يفعل ولا منع منه فقد أراد وجود كونه ولو لم يرد كونه لغيره ولمنع منه ولما تركه يفعل فإن قالوا أنه حكيم وخلاهم دون منع لسر من الحكمة له في ذلك قيل لهم فاقنعوا بمثل هذا الجواب ممن قال لكم أنه أراد كونه لأنه حكيم كريم عزيز وله في ذلك سر من الحكمة
قال أبو محمد وأما نحن فنقول أنه تعالى أراد كون كل ذلك ولا سر هاهنا وأن كل ما فعل فهو حكمة وحق وأن قولهم هذا هادم لمقدمتهم الفاسدة أنه يقبح من الباري تعالى ما يقبح منا وفيما بيننا وما علم قط ذو عقل أن من خلى من عدوه منطلق اليد على وليه وأحب الناس إليه يقتله ويعذبه ويلطمه ويهينه ويتركه ينطلق على عبيده وإمائه يفجر بهم وبهن طوعا وكرها والسيد حاضر يرى ويسمع وهو قادر على المنع من ذلك فلا يفعل بل لا يقنع بتركهم إلا حتى يعطي عدوه القوة على كل ذلك والآلات المعينة له ويمده بالقوى شيئا بعد شيء فليس حكيما ولا حليما ولكنه عابث ظالم جائر فيلزمهم على أصلهم الفاسد أن يحكموا على الله تعالى بكل هذا لأنهم معترفون بأنه تعالى فعل كل هذا وهذا لا يلزمنا لأننا نقول أن الله تعالى يفعل ما يشاء وأن كل ما فعل مما ذكرنا وغيره فهو كله منه تعالى حكمة وحق وعدل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فبطل بضرورة المشاهدة قولهم أن الله تعالى لم يرد كون الكفر أو كون الفسق أو كون شتمه تعالى وقتل أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولو

لم يرد كونه لمنع من ذلك كما منع من كون كل ما لم يرد أن يكون
قال أبو محمد ويكفي من هذا كله إجتماع الأمة على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهذا على عمومه موجب أن كل ما في العالم كان أو يكون أي شيء كان فقد شاءه الله تعالى وكل ما لم يكن ولا يكون فلم يشأه الله تعالى نصا لا يحتمل تأويلا على أنه أراد كون كل ذلك فمن ذلك قوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين فنص تعالى نصا جليا على أنه لا يشاء أحد استقامة على طاعته تعالى إلا إن شاء الله تعالى أن يستقيم فلو صح قول المعتزلة أن الله تعالى شاء أن يستقيم كل ملكف لكان بنص القرآن كل مكلف مستقيم لأن الله تعالى عندهم قد شاء ذلك وهذا تكذيب مجرد لله تعالى نعوذ بالله من مثله فصح يقينا لا مدخل للشك في صحته أنه تعالى شاء خلاف الإستقامة منهم ولم يشأ أن يستقيموا بنص القرآن وقال تعالى وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء
قال أبو محمد وهذه الآية غاية في البيان في أن الله تعالى جعل عدة ملائكة النار فتنة للذين كفروا وليقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلا فأخبر تعالى أنه أراد أن يفتن الذين كفروا وأن يضلهم فيضلوا وأنه تعالى قصد اضلالهم وحكم بذلك كما قصد هدى المؤمنين وأراده وكذلك قال تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمي
قال أبو محمد فنص تعالى على أنه أنزل القرآن هدى للمؤمنين وعمى للكفار وبيقين ندري أنه تعالى إذا نزل القرآن أراد أن يقول كما قال تعالى عمى للكفار وهدى للمؤمنين وقال تعالى ولو شاء ربك لآمن في في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون هكذا هي الآية كلها موصولة بعضها ببعض فنص تعالى على أنه لو شاء لآمن الناس والجن وهم أهل الأرض كلهم ولو في لغة العرب التي بها خاطبنا الله عز و جل ليفهمنا حرف يدل على امتناع الشيء لإمتناع غيره فصح يقينا أن الله تعالى لم يشأ أن يؤمن كل من في الأرض وإذ لا شك في ذلك فباليقين ندري أنه شاء منهم خلاف الإيمان وهو الكفر والفسق لا بد ولو كان الله تعالى اذن للكافرين في الإيمان على قول المعتزلة لكان كل من في الأرض قد آمن لأنه تعالى قد نص على أنه لا يؤمن أحد إلا بإذنه وهذا أمر من المعتزلة يكذبه العيان فصح أن المعتزلة كذبت وأن الله تعالى صدق وأنه لم يأذن قط لمن مات كافرا في الإيمان وأن من عمي عن هذه لأعمى القلب وكيف لا يكون أعمى ا لقلب من أعمى الله قلبه عن الهدى وبالضرورة ندري أن قول الله تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله حق وأن من لم يأذن الله تعالى له في الإيمان فإنه تعالى لم يشأ أن يؤمن وإذا لم يشأ أن يؤمن فبلا شك أنه تعالى شاء أن يكفر هذا ما لا إنفكاك منه وقال تعالى ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيءقبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله فبين تعالى أتم بيان على أن الآيات لا تغني شيئا ولا النذر وهم الرسل وأنه لا يؤمن شيء

من ذلك إلا من شاء الله عز و جل أن يؤمن فصح يقينا أنه لا يؤمن إلا من شاء الله إيمانه ولا يكفر إلا من شاء الله كفره فقال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام أنه قال وأن لا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن فبالضرورة نعلم أن من صبا وجهل فإن الله تعالى لم يصرف عنه الكيد الذي صرفه برحمته عمن لم يصب ولم يجهل وإذ صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض فقد أراد تعالى إضلال من حبا وجهل وقال تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا فليت شعري إذ قال تعالى إنه جعل قلوب الكافرين في أكنة أن يفقهوا القرآن وجعل الوقر في آذانهم أتراه أراد أن يفقهوه أو أراد أن لا يفقهوه وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى أنه فعل عز و جل شيئا لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه ولا شاء إيجاده وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل فصح يقينا أن الله تعالى أراد كون الوقر في آذانهم وكون الآكنة على قلوبهم وقال تعالى ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء فنص تعالى على أنه لم يرد أن يجعلنا أمة واحدة ولكن شاء أن يضل قوما ويهدي قوما فصح يقينا أنه تعالى شاء إضلال من ضل وقال تعالى مثنيا على قوم ومصدقا لهم في قولهم قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا فقال النبيون عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم قول الحق الذي شهد الله عز و جل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم منه ولم ينج الكافرين منه وأن الله تعالى ان شاء أن يعودوا في الكفر عادوا فيه فصح يقينا أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر وقد قالت المعتزلة في هذه الآية معنى هذا إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة
قال أبو محمد وهذا في غاية الفساد لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عودا في ملة الكفر بل كان يكون ثابتا على الإيمان وتزايدا فيه وقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا فليت شعري إذ زادهم الله مرضا أتراه لم يشاء ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم وهو الشك والكفر وكيف يفعل الله مالا يريد أن يفعل وهل هذا إلا إلحاد مجرد ممن قاله وقال تعالى ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد فنص تعالى على أنه لو شاء لم يقتتلوا فوجب ضرورة أنه شاء وأراد أن يقتتلوا وفي اقتتال المقتتلين ضلال بلا شك فقد شاء الله تعالى كون الضلال ووجوده بنص كلامه تعالى وقال عز و جل ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا فنص تعالى على أنه أراد فتنة المفتتنين وهم الكفار وكفرهم الذين لم يملك لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم من الله شيئا فهذا نص على أن الله تعالى أراد كون الكفر من الكفار وقال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
قال أبو محمد وهذا غاية البيان في أنه تعالى لم يرد أن يطهر قلوبهم وبالضرورة ندري أن من لم يرد الله أن يطهر قلبه فقد أراد فساد دينه الذي هو ضد طهارة القلب وقال تعالى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى وهذا غاية البيان في أن الله تعالى لم يرد هدى الجميع وإذا لم يرد هداهم فقد

أراد كون كفرهم الذي هو ضد الهدى وقال تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة الناس أجمعين
قال أبو محمد هذا غاية البيان في أنه تعالى لم يشأ هدى الكفار لكن حق قوله بأنهم لا بد من أن يكفروا فيكونوا من أهل جهنم وقال تعالى من يشأ الله يضلله ومن لم يشأ يجعله على صراط مستقيم فأخبر تعالى أنه شاء أن يضل من أضله وشاء أن يهدي من جعله على صراط مستقيم وهم بلا شك غير الذين لم يجعلهم على صراط مستقيم وأراد فتنتهم وأن لا يطهر قلوبهم وأن يكونوا من أصحاب النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه الصلاة و السلام أنه قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فشهد الخليل عليه السلام أن من لم يهده الله تعالى ضل وصح أن من ضل فلم يهده الله عز و جل ومن لم يهده الله وهو قادر على هداه فقد أراد ضلاله وإضلاله ولم يرد هداه وقال تعالى ولو شاء الله ما أشركوا فصح يقينالا اشكال فيه ان الله تعالى شاء ان يشركوا اذنص على انه لو شاء ان لا يشركوا ما اشركوا أو قال تعالى يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرور و لو شاء ربك ما فعلوه وهذا نص على انه تعالى شاء ان يفعلوه اذ أخبر انه لو شاء ان لا يفعلوه ما فعلوه وقال تعالى وكذلك زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركاؤهم ليردهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فنص تعالى على انه لو لم يشا ان يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ما اوحوه ولو شاء ان لا يلبس بعضهم دين بعض وان لا يقتلوا اولادهم ما لبس عليهم دينهم ولا قتلوا اولادهم فصح ضرورة انه تعالى شاء ان يلبس دين من التبس دينه واراد كون قتلهم أولادهم وان يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا وقال تعالى ولو شاء الله لسلطهم عليهم فصح يقينا انه تعالى سلط ايدي الكفار على من قتلوه من الانبياء والصالحين وقال تعالى فمن يرد الله ان يهدية يشرح صدرة للاسلام ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء فنص على انه يريد هدى قوم فيهديهم ويشرح صدورهم للايمان ويريد ضلال آخرين فيضلهم بان يضيق صدورهم ويحرجها فكأنهم كلفوا الصعود الي السماء فيكفروا وقال تعالى وأصبر وما صبرك الا بالله فنص تعالى على ان من صبر فصبره ليس الا بالله فصح ان من صبر فان الله أتاه الصبر ومن لم يصبر فان الله عزوجل لم يؤته الصبر وقال تعالى ولا تنازعوا فنهانا عن الاختلاف وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم فنص تعالى انه خلقهم للاختلاف الا من رحم الله منهم ولو شاء لم يختلفوا فصح يقينا ان الله خلقهم لما نهاهم عنه من الاختلاف واراد كون الاختلاف منهم وقال عزوجل تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شئ قدير وقال تعالى بعثنا عليكم عبادا لنا أولى باس شديد فجاسوا اخلال الديار وكان وعدا مفعولا الى قوله تعالى وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة فنص تعالى على انه اغرى الكفار وسلب المؤمنين في الملك وانه بعث اولئك الذين دخلوا المسجد ودخوله مسخط لله تعالى بلاشك فصح يقينا انه تعالى خلق كل ذلك وأراد كونه وقال عزوجل الم اتر الى الذي حاج ابراهيم في ربه ان آتاه الله الملك فهذا نص جلى على ان الله اتي ذلك الكافر فصح يقينا ان الله

تعالى فعل تمليكه وملكه على أهل الأيمان ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك يسخط الله عزوجل ويغضبه ولا يرضاه وهو نفس الذي أنكرته المعتزلة وشنعت به
قال ابو محمد ونسالهم عما مضت الدنيا عليه مذ كانت من أولها الى يومنا هذا من النصر النازل على ملوك أهل الشرك والملوك الجورة والظلمة والغلبة المعطاة لهم على من ناوأهم من أهل الاسلام وأهل الفضل واحترام من أرادهم بالموت أو باضطراب الكلمة ويانى النصر لهم بوجوه الظفر الذي لا شك في أنه الله تعالى فاعله من أماته أعدائهم من أهل الفضل وتاييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى أراد كونه وقال عزوجل ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فنص تعالى نصاجليا لا يحتمل تاويلا على أنه كره ان يخرجوا في الجهاد الذي افترض عليهم الخروج فيه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد كره تعالى كون ما أراد ونص على أنه ثبطهم عن الخروج في الجهاد ثم عذبهم على التثبيط الذي أخبر تعالى أنه فعله ونص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا يقين ليس بأمر الزام لان الله تعالى لم يأمرهم بالقعود عن الجهاد مع رسوله صلى الله عليه و سلم بل لعنهم وسخط عليهم اذ قعدوا فاذ لا شك في هذا فهو ضرورة امر تكوين فصح ان الله تعالى خلق قعودهم المغضب له الموجب لسخطه واذا نص تعالى على امر فلا اعتراض لاحد عليه وقال عزوجل فلا تعجبك اموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا وتزهق انفسهم وهم كافرون وهذا نص جلى على أنه عزوجل اراد ان يموتوا وهو كافرون وانه تعالى اراد كفرهم والقاف من تزهق مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء معطوفة على ما اراد الله عزوجل من أن يعذبهم بها في الدنيا والواو تدخل المعطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى
قال ابو محمد فان قال قائل فان الله عزوجل قال في الذين قعدوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم فلهذا ثبطهم قلنا لا عليكم أكانوا مامورين بالخروج معه عليه السلام متوعدين بالنار ان قعدوا لغير عذرأم كانو غير مأمورين بذلك فاذ لا شك في أنهم كانوا مأمورين فقد ثبطهم الله عزوجل عما أمرهم به وعذبهم على ذلك وخلق قعودهم عما أمرهم به ثم نقول لهم أكان تعالى قادرا على أن يكف عن أهل الاسلام خبالهم وفتنتهم لو خرجوا معهم أم لا فان قالوا لم يكن قادرا على ذلك عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا أنه تعالى كان قادرا على ذلك رجعوا إلى الحق وأقروا ان الله تعالى ثبطهم وكره كون ما أفترض عليهم وخلق قعودهم الذي عذبهم عليه ولا مهم عليه كما شاء لا معقب لحكمة وبالله تعالى التوفيق
قال ابو محمد فاذ جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلا بأنه عزوجل أراد ضلال من ضل وشاء كفر من كفر فقد علمنا ضرورة ان كلام الله تعالى لا يتعارض فلما اخبر عزوجل انه لا يرضى لعباده الكفر فبالضرورة علمنا ان الذي نفى عز و جل هو غير الذي أثبت فإذ لا شك في ذلك فالذي نفى تعالى هو الرضى بالكفر والذي أثبت هو الارادة لكونه والشيئة لوجوده وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة فان أبت المعتزلة من قبول كلام ربهم وكلام نبيهم صلى الله عليه و سلم وكلام ابراهيم ويوسف وشعيب وسائر الانبياء صلى الله عليهم وسلم وأبت

أيضا من قبول اللغة وما أوجبته البراهين الضرورية مما شهدت به الحواس والعقول من الله تعالى لو لم يرد كون ما هو موجود كائن لمنع منه وقد قال تعالى الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فشهد الله تعالى بتكذيبهم واستعاضته من ذلك بأصول المنانية أن الحكيم لا يريد كون الظلم ولا يخلقه فلبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولقد لجأ بعضهم إلى أن قال ان لله تعالى في هذه الآيات معنى ومراد لا نعلمه
قال أبو محمد وهذا تجاهل ظاهر وراجع لنا عليهم سواه بسواء في خلق الله تعالى أفعال عباده ثم يعذبهم عليها ولا فرق فكيف وهذا كله لا معنى له بل الآيات كلها حق على ظاهرها لا يحل صرفها عنه لأن الله تعالى قال أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وقال تعالى قرآنا عربيا وقال تعالى تبيانا لكل شيء وقال تعالى أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فأخبر تعالى أن القرآن تبيان لكل شيء فقالت المعتزلة أنه لا يفهمه أحد وأنه ليس بيانا نعوذ بالله من مخالفة الله عز و جل ومخالفة رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد ولا فرق بين ما تلونا من الآيات في أن الله تعالى شاء كون الكفر والضلال وبين قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير وقوله تعالى أن الله يفعل ما يشاء وقال تعالى يجتبي من رسله من يشاء وقوله يرزق من يشاء وقوله تعالى يختص برحمته من يشاء وقوله تعالى فعال لما يريد فهذا العموم جامع لمعاني هذه الآيات ونص القرآن وإجماع لأمة على أن الله عز و جل حكم بأن من حلف فقال إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله على أي شيء حلف فإنه إن فعل ما حلف عليه أن لا يفعله فلا حنث عليه ولا كفارة تلزمه لأن الله تعالى لو شاء لا نفذه وقال عز و جل ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله
قال أبو محمد فإن اعترضوا بقول الله عز و جل وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم ألا يخرصون فلا حجة لهم في هذه الآية لأن الله عز و جل لا يتناقض كلامه بل يصدق بعضه بعضا وقد أخبر تعالى أنه لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وأنه لو لم يشاء أن يشركوا ما أشركوا وأنه شاء إضلالهم وأنه لا يريد ان يطهر قلوبهم فمن المحال الممتنع أن يكذب الله عز و جل قوله الذي أخبر به وصدقه فإذ لا شك في هذا فإن في الآية التي ذكروا بيان نقض اعتراضهم بها بأوضح برهان وهو أنه لم يقل تعالى أنهم كذبوا في قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم فكان يكون لهم حينئذ في الآية متعلق وإنما أخبر تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم عندهم لكن تخرصا ليس في هذه الآية معنى غير هذا أصلا وهذا حق وهو قولنا أن الله تعالى لم ينكر قط فيها ولا في غيرها معنى قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم بل صدقه في الآيات الأخر وإنما أنكر عز و جل أن قالوا ذلك بغير علم لكن بالتخرص وقد أكذب الله عز و جل من قال الحق الذي لا حق احق منه إذ قاله غير معتقد له قال عز و جل إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون
قال أبو محمد فلما قالوا أصدق الكلام وهو الشهادة لمحمد صلى الله عليه و سلم بأنه رسول غير معتقدين لذلك سماهم الله تعالى كاذبين وهكذا فعل عز و جل في قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم

ما لهم بذلك من علم لما قالوا هذا الكلام الذي هو الحق غير عالمين بصحته أنكر تعالى عليهم أن يقولوه متخرصين وبرهان هذا قول الله تعالى أثر هذه الآية نفسها أم أتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون فبين تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم من كتاب أتاهم وأن الذين قالوا معتقدين له إنما هو أنهم اهتدوا باتباع آثار آبائهم فهذا هو الذي عقدوا عليه وهذا الذي أنكر تعالى عليهم لا قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا والحمد لله رب العالمين فإن اعترضوا بقول الله عز و جل وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين
قال أبو محمد فإن سكتوا ها هنا لم يهنهم التمويه وقلنا لهم صلوا القراءة وأتموا معنى الآية فإن بعد قوله تعالى فهل على الرسل إلى البلاغ المبين متصلا به ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليهم الضلالة
قال أبو محمد فآخر الآية يبين أولها وذلك أن الله تعالى أيضا لم يكذبهم فيما قالوه من ذلك بل حكي عز و جل أنهم قالوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ولم يكذبهم في ذلك أصلا بل حكى هذا القول عنهم كما حكى تعالى أيضا قولهم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ولو أنكر عزو جل قولهم ذلك لأكذبهم فإذ لم يكذبهم فلقد صدقهم في ذلك والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد فإن اعترضوا بقول الله عز و جل سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم ألا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا الذين بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا
قال أبو محمد إنما تلونا جميع الآيات على نسقها في القرآن واتصالها خوف أن يعترضوا بالآية ويسكتوا عند قوله يخرصون فكثيرا ما احتجنا إلى بيان مثل هذا من الاقتصار على بعض الآية دون بعضها من تمويه من لا يتقي الله عز و جل
قال أبو محمد وهذه الآية من أعظم حجة على القدرية لأنه تعالى لم ينكر عليهم قولهم ولو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ولو أنكره لكذبهم فيه وإنما أنكر تعالى قولهم ذلك بغير علم وإن وافقوا الصدق والحق كما قدمنا آنفا وقد بين تعالى أنه إنما أنكر عليهم ذلك بقوله عز و جل في الآية نفسها أن تتبعون إلا الظن وإن أنتم ألا تخرصون ثم لم يدعنا تعالى في لبس من ذلك بل واتبع ذلك نسقا واحدا بأن قال فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين نصدقهم عز و جل في قولهم أنه لو شاء ما أشركوا ولا آباؤهم ولا حرموا ما حرموا وأخبر تعالى أنه لو شاء لهداهم فاهتدوا وبين تعالى أن له الحجة عليهم في ذلك ولا حجة لأحد عليه تعالى وأنكر عز و جل إن أخرجوا ذلك فخرج العذر لأنفسهم أو فخرج الاحتجاج على الرسل عليهم السلام كما تفعل المعتزلة ثم بين تعالى أنه إنما أنكر أيضا تكذيبهم رسله

بقوله تعالى كذلك كذب الذين من قبلهم بالذال المشددة بلا خلاف من القراء ودعواهم أن الله تعالى حرم ما أدعوا تحريمه وهم كاذبون بقوله تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فوضح بكل ما ذكرنا بطلان قول المعتزلة الجهال وبأن صحة قولنا أن الله تعالى شاء كون كل ما في العالم من إيمان وشرك وهدى وضلال وأن الله تعالى أراد كون ذلك كله وكيف يمكن أن ينكر تعالى قولهم لو شاء الله ما أشركنا وقد أخبرنا عز و جل بهذا نصا في قوله في السورة نفسها أتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا فلاح يقينا صدق ما قلنا من أنه تعالى لم يكذبهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وهذا مثل ما ذكره الله تعالى من قولهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه فلم يورد الله عز و جل قولهم هذا تكذيبا بل صدقوا في ذلك بلا شك ولو شاء الله لأطعم الفقراء والمجاويع وما أرى المعتزلة تنكر هذا وإنما أورد الله تعالى قولهم هذا لإحتجاجهم به في الإمتناع من الصدقة وإطعام الجائع وبهذا نفسه احتجت المعتزلة على ربها إذ قالت يكلفنا مالا يقدرنا عليه ثم يعذبنا بعد ذلك على ما أراد كونه منا فسلكوا مسلك القائلين لم كلفنا الله عز و جل إطعام هذا الجائع ولو أراد إطعامه لأطعمه
قال أبو محمد تبا لمن عارض أمر ربه واحتج عليه بل لله الحجة البالغة ولو شاء لأطعم من ألزمنا إطعامه ولو شاء لهدى الكافرين فآمنوا ولكنه تعالى لم يرد ذلك بل أراد أن يعذب من لا يطعم المسكين ومن أضله من الكافرين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وحسبنا الله ونعم الوكيل وقالت المعتزلة معنى قوله تعالى لو شاء الله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض وسائر الآيات التي تلوتهم إنما هو لو شاء عز و جل لأضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين فكانوا لا يستحقون الجزاء بالجنة
قال أبو محمد وهذا تأويل جمعوا فيه بلايا جمة أولها أنه قول بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو ساقط ويقال لهم ما صفة الإيمان الضروري الذي لا يستحق عليه الثواب عندكم وما صفة الإيمان غير الضروري الذي يستحق به الثواب عندكم فإنهم لا يقدرون على فرق أصلا إلا أن يقولوا هو مثل ما قال الله عز و جل إذ يقول تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ومثل قوله تعالى ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ومثل حالة المحتضر عند المعاينة التي لا يقبل فيها إيمانه وكما قيل لفرعون آلآن وقد عصيت قبل
قال أبو محمد فيقال لهم كل هذه الآيات حق وقد شاهدت الملائكة تلك الآيات وتلك الأحوال ولم يبطل بذلك قبول إيمانهم فهلا على أصولكم صار إيمانهم إيمان أضطرار لا يستحقون عليه جزاء في الجنة أم صار جزاؤهم عليه أفضل من جزاء كل مؤمن دونهم وهذا لا مخلص لهم منه أصلا ثم نقول لهم أخبرونا عن إيمان المؤمنين إذ صح عندهم صدق النبي بمشاهدة المعجزات من شق القمر وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير ونبعان الماء الغزير من بين الأصابع وشق البحر وإحياء الموتى وأوضح كل ذلك مما يصير فيه من بلغه كمن شاهده ولا

فرق في صحة اليقين لكونه هل ايمانهم الا ايمان يقين قدصح عندهم وانه حق ولم يتخالجهم فيه شك فان علمهم به كعلمهم ان ثلاثة اكثر من اثنين وكعلمهم ما شاهدوه بحواسهم في انه كله حق وعلموه ضرورة ام ايمانهم ذلك ليس يقينا مقطوعا بصحة ما آمنوا به عنده كقطعهم على صحة ما علموه بحواسهم ولا سبيل الى قسم ثالث فان قالوا بل هو الان يقين قد صح علمهم بانه حق لا مدخل للشك فيه عندهم كتيقنهم صحة ما علموه بمشاهدة حواسهم قلنا لهم نعم هذا هو الايمان الاضطرارى بعينه والاففرقوا وهذا الذي موهتم بانه لا يستحق عليه من الجزاء كالذي يستحق على غيره وبكل تمويهكم بحمد الله تعالى اذ قلتم ان معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى ولآمن من في الارض انه كان يضطرهم الى الايمان فان قالوا بل ليس ايمان المؤمنين هكذا ولا علمهم بصحة التوحيد والنبوة على يقين وضرورة قيل لهم قد اوجبتم ان المؤمنين على شك في ايمانهم وعلى عدم يقين في اعتقادهم وليس هذا ايمانا بل كفر مجرد ممن كان دينه هكذا فان كان هذا صفة ايمان المعتزلة فهم اعلم بانفسهم واما نحن فايماننا ولله الحمد ايمان ضروري لا مدخل للشك فيه كعلمنا ان ثلاثة اكبر من اثنين وان كل بناء فمبني وكل من اتي بمعجزة فمحق في نبوته ولا نبالي إن كان ابتداء علمنا استدلالا ام مدركا بالحواس اذ كانت نتيجة كل ذلك سواء في تيقن صحة الشيء المعتقدو بالله تعالى التوفيق ثم نسالهم عن الذين يرون بعض آيات ربنا يوم لا ينفع نفسا ايمانها أكان الله تعالى قادا على ان ينفهم بذلك الايمان ويجزيهم عليه جزاءه لسائر المؤمنين ام هو تعالى غير قادر على ذلك فان قالوا بل هو قادر على ذلك رجعوا الى الحق والتسليم لله عز و جل وانه تعالى منع من شاء واعطى من شاء وانه تعالى ابطل ايمان بعض من آمن عند رؤية آية من آياته ولم يبطل ايمان من آمن عند رؤية آية اخرى وكلها سواء في باب الاعجاز وهذا هو المحاباة والمحضة والجور البين عند المعتزلة فان عجزوا ربهم تعالى عن ذلك احالوا وكفروا وجعلوه تعالى مضطرا مطبوعا محكوما عليه تعالى الله عن ذلك قال ابو محمد وقد قال عز و جل فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين فهؤلاء قوم يونس لما رأواالعذاب آمنوا فقبل الله عز و جل منهم ايمانهم وآمن فرعون وسائر الامم المعذبة لما رأوا العذاب فلم يقبل الله عز و جل منهم ففعل الله تعالى ما شاء لا معقب لحكمه فظهر فساد قولهم في ان الايمان الاضطراري لا يستحق عليه جزاء جملة وصح ان الله تعالى يقبل ايمان من شاء ولا يقبل ايمان من شاء ولا مزيد ثم يقال لهم وبالله تعالى التوفيق هبكم لو صح لكم هذا الباطل الغث الذي هديتم به من ان معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى انما هو لاضطرهم الى الايمان فاخبرونا لو كان ذلك فاي ضرر كان يكون في ذلك على الناس والجن بل كان يكون في ذلك الخير كله وماذا ضر الاطفال اذ لم يكن لهم ايمان اختياري كما تزعمون وقد حصلوا على أفضل المواهب من السلامة من النار بالجملة ومن هول المطلع وصعوبة الحساب وفظاعة تلك المواقف كلها ودخل الجنة جميعهم بسلام آمنين منعمين لم يروا فزعا رآه غيرهم وأيضا فان دعواهم هذه التي كذبوا فيها على الله عز و جل اذ وصفوا عن مراد الله تعالى ما لم يقله تعالى فقد خالفوا فيها القرآن واللغة لان اسم الهدى والايمان لا يقعان البتة على معنى غير المعنى المعهود في القرآن واللغة وهما طاعات الله عز و جل والعمل بها والقول بها والتصديق بجميعها الموجب كل ذلك بنص القرآن رضى الله عز و جل وجنته ولا يسمى الجماد والحيوان غيرالناطق ولا المجنون ولا الطفل

مؤمنا ولا مهتديا الاعلى معنى جرى احكام الإيمان على المجنون والطفل خاصة وبرهان ما قلنا قول الله تعالى ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لاملان جهنم من الجنة والناس اجمعين فصح أن الهدى الذي لو أراد الله تعالى جمع الناس عليه هو المنقذ من النار والذي لا يملا جهنم من أهله وكذلك قوله تعالى وما كان لنفس ان تؤمن إلا باذن الله فصح ان الايمان جملة شيء واحد وهو المنقذ من النار الموجب للجنة وأيضا فإن الله عز و جل يقول من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ويقول انك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء ويقول تعالى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء فهذه الآيات مبنية على ان الهدى المذكور هو الاختيارى عند المعتزلة لانه تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه و سلم ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وقال تعالى لا اكراه في الدين فصح يقينا ان الله تعالى لم يرد قط بقوله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض ايمانا فيه اكراه فبطل هذرهم والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لنا فأذا أراد الله تعالى كون الكفر والضلال فأريدوا ما أراد الله تعالى من ذلك قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق ليس لنا ان نفعل ما لم نؤمر به أولا يحل لنا أن نريد ما لم يأمرنا الله تعالى بأرادته وإنما علينا ما أمرنا به فنكره ما أمرنا بكراهيته ونحب ما أمرنا بمحبته ونريد ما أمرنا بإرادته ثم نسألهم هل أراد الله تعالى إمراض النبي صلى الله عليه و سلم إذ أمرضه وموته صلى الله عليه و سلم إذ أماته وموت إبراهيم إبنه إذ أماته أو لم يرد الله شيئا من ذلك فلا بد من أن الله تعالى أراد كون كل ذلك فيلزم ان يريدوا موت النبي صلى الله عليه و سلم ومرضه وموت ابنه إبراهيم لأن الله تعالى أراد كل ذلك فأن أجابوا الى ذلك ألحدوا بلا خلاف وعصوا الله ورسوله وإن أبوا من ذلك بطل ما أرادوا الزامنا اياه الا إنه لازم الهم على أصولهم الفاسدة لا لنا لأنهم صححوا هذه المسألة ونحن لم نصححها ومن صحح شيئا لزمه ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق لسنا ننكر في حال ما يباح لنا فيه إرادة الكفر من بعض الناس فقد أثنى الله عز و جل على ابن آدم في قوله لأخيه إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فهذا ابن آدم الفاضل قد أراد أن يكون أخوه من أصحاب النار وأن يبوء بإثمه مع إثم نفسه وقد صوب الله عز و جل قول موسى وهارون عليهما السلام ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فهذا موسى وهارون عليهما السلام قد أرادا وأحبا أن لا يؤمن فرعون وأن يموت كافرا الى النار وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه دعا على عتبة بن أبي وقاص أن يموت كافرا الى النار فكان كذلك قال ابو محمد واصدق الله عز و جل أنا عن نفسي التي هو أعلم بما فيها منى أن الله تعالى يعلم أني لاسر بموت عقبة بن أبي معيط كافرا وكذلك أمر أبي لهب لاذاهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ولتتم كلمة العذاب عليهما وإن المرء ليسر بموت من استبلغ في أذاه ظلما بأن يموت على أقبح طريقة وقد روينا هذا عن بعض الصالحين في بعض الظلمة ولا حرج على من ائتسى بمحمد وبموسى وبأفضل أبني آدم صلى الله عليه و سلم وليت شعري أي فرق بين لعن الكافر والظالم والدعاء عليه بالعذاب في النار وبين الدعاء عليه بأن يموت غير متوب عليه والمسرة بكلا الأمرين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال عز و جل ولو شاء الله

لسلطهم عليكم وقال تعالى وما النصر الا من عند الله وقال تعالى إذهم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف إيديهم عنكم وقال تعالى هو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة فصح يقينا أن الله تعالى سلط الكفار على من سلطهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة ويوم أحد ونصرهم أملاه لهم وابتلاه للمؤمنين والا فيقال لمن انكر هذا أتراه تعالى كان عاجزا عن منعهم فان قالوا نعم كفروا وناقضوا لأن الله تعالى قد نص على أنه كف أيدي الكفار عن المؤمنين إذشاء وسلط أيديهم على المؤمنين ولم يكفها إذشاء قال ابو محمد وقال بعض شيوخ المعتزلة أن اسلام الله تعالى من أسلم من الأنبياء الى أعدائه فقتلوهم وجرحوهم واسلام من أسلم من الصبيان الى أعدائه يحضونهم ويغلبونهم على أنفسهم بركوب الفاحشة إذا كان ليعوضهم أفضل الثواب فليس خذلانا فقلنا دعونا من لفظة الخذلان فلسنا نجيزها لأن الله تعالى لم يذكرها في هذا الباب لكنا نقول لكم إذا كان قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم ما يكون من الكفر والظلم وكان الله عز و جل بقولكم قد أسلم أنبياءه صلوات الله عليهم إلى أعدائهم ليعوضهم أجل عوض فقد أقررتم بزعمكم أن الله عز و جل أراد إسلامهم إلى أعدائهم وإذا أراد الله عز و جل ذلك بإقراركم فقد أراد بإقراركم كون أعظم ما يكون من الكفر وشاء وقوع أعظم الضلال ورضي ذلك لأنبيائه عليهم السلام على الوجه الذي تقولون كاينا ما كان وهذا ما لا مخلص لهم منه وأيضا فنقول لهذا القائل إذا كان إسلام الأنبياء إلى أعداء الله عز و جل يقتلونهم ليس ظلما وعبثا على توجيهكم المناقض لا صولكم في أنه أدى إلى أجزل الجزاء فليس خذلانا وكذلك إسلام المسلم إلى عدوه يحضه ويرتكب فيه الفاحشة فهو على أصولكم خير وعدل فيلزمكم أن تتمنوا ذلك وأن تسروا بما نيل من الأنبياء عليهم السلام في ذلك وأن تدعوا فيه إلى الله تعالى وهذا خلاف قولكم وخلاف إجماع أهل الإسلام وهذا ما لا مخلص لهم منه ولا يلزمنا نحن ذلك لأننا لا نسر إلا بما أمرنا الله تعالى بالسرور به ولا نتمنى إلا ما قد أباح لنا تعالى أن ندعوه فيه وكل فعله عز و جل وإن كان عدلا منه وخيرا فقد افترض تعالى علينا أن ننكر من ذلك ما سماه من غير ظلم وأن نبرأ منه ولا نتمناه لمسلم فإنما نتبع ما جاءت به النصوص فقط وبالله تعالى التوفيق وقال قائل من المعتزلة إذا حملتم قوله تعالى والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى فما يدريكم لعله عليكم عمى
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى قد نص على أنه لا يكون عمي إلا على الذين لا يؤمنون ونحن مؤمنون ولله تعالى الحمد فقد أمنا ذلك وقد ذم الله تعالى قوما حملوا القرآن على غير ظاهره فقال تعالى يحرفون الكلم عن مواضعه فهذه صفتكم على الحقيقة الموجودة فيكم حسا فمن حمل القرآن على ما خوطب به من اللغة العربية واتبع بيان الرسول صلى الله عليه و سلم فالقرآن له هدي وشفاء ومن بدل كلمه عن مواضعه وادعى فيه دعاوي برأيه وكهانات بطنه وأسرار وأعرض عن بيان الرسول صلى الله عليه و سلم المبين عن الله تعالى بأمره ومال إلى قول المنانية فهو الذي عليه القرآن عمى وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ومن نوادر المعتزلة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أنهم قالوا أن الشهادة

التي غبط الله تعالى بها الشهداء وأوجب لهم بها أفضل الجزاء وتمناها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وفضلاء المسلمين ليس هي قتل الكافر للمؤمن ولا قتل الظالم للمسلم البريء
قال أبو محمد وجنون المعتزلة وجهلهم وإهذارهم ووساوسهم لا قياس عليها وحق لمن استغنى عن الله عز و جل وقال أنه يقدر على ما لا يقدر عليه ربه تعالى وقال أن عقله كعقول الأنبياء عليهم السلام سواء بسواء أن يخذله الله عز و جل مثل هذا الخذلان نعوذ بالله من خذلانه ونسئله العصمة فلا عاصم سواه أما سمعوا قول الله عز و جل إن اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا وقوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل فس سبيل الله أموات بل أحياء ثم أنهم فسروا الشهادة بعقولهم فقالوا إنما الشهادة الصبر على الجراح المؤدية إلى القتل والعزم على التقدم إلى الحرب
قال أبو محمد وفي هذا الكلام من الجنون ثلاثة أضرب أحدهما أنه كلام مبتدع لم يقبله أحد قبل متأخريهم المنسلخين من الخير جملة والثاني أنه لو وضح ما ذكروا لكانت الشهادة في الحياة لا بالموت لأن الصبر على الجراح والعزم على التقدم لا يكونان إلا في الحياة والشهادة في سبيل الله لا تكون بنص القرآن وصحيح الأخبار وإجماع الأمة إلا بالقتل والثالث أن الذي منه هربوا فيه وقعوا بعينه وهو أن الشهاده التي تمنى المسلمون بها إن كانت العزم على التقدم إلى الحرب والصبر على الجراح المودية إلى القتل فقد حصل تمنى قتل الكفار للمسلمين وتمنى أن يجرحوا المسلمين جراحا تؤدي إلى القتل وتمنى ثبات الكفار على الكفر حتى يجرحوا أهل الإسلام جراحا قاتلة وحرب الكفار للمسلمين وثباتهم لهم وجراحهم إياهم معاص وكفر بلا شك فقد حصلوا على تمني المعاصي وهو الذي به شنعوا وبالله تعالى التوفيق فبطل كل ما شنعت به المعتزلة والحمد لله رب العالمين

الكلام في اللطف والأصلح
قال أبو محمد وضل جمهور المعتزلة في فصل من القدر ضلالا بعيدا فقالوا بأجمعهم حاشا ضرار بن عمرو وحفصا الفرد وبشر بن المعتمر ويسيرا ممن اتبعهم أنه ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه جميع الناس كافرهم ومؤمنهم ولا عنده هدى أهدى مما قد هدى به الكافر والمؤمن هذا مستويا وأنه ليس يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بالكفار والمؤمنين ثم اختلف هؤلاء فقال جمهورهم أنه تعالى قادر على أمثال ما فعل من الصلاح بلا نهاية وقال الأقل منهم وهم عباد ومن وافقه هذا باطل لأنه لا يجوز أن يترك الله تعالى شيئا يقدر عليه من الصلاح من أجل فعله لصلاح ما وحجتهم في هذا الكفر الذي أتوا به أنه لو كان عنده أصلح أو أفضل مما فعل بالناس ومنعهم إياه لكان بخيلا ظالما لهم ولو أعطى شيئا من فضله بعض الناس دون بعض لكان محابيا ظالما والمحاباة جور ولو كان عنده ما يؤمن به الكفار إذ أعطاهم إياه ثم منعهم إياه لكان ظالما لهم غاية الظلم قالوا وقد علمنا أن إنسانا لو ملك أموالا عظيمة تفضل عنه ولا يحتاج إليها فقصده جار فقير له تحل له الصدقة فسأله درهما يحي به نفسه وهو يعلم فقره إليه ويعلم أنه يتدارك به رمقه فمنعه لا لمعنى فإنه بخيل قالوا فلو علم أنه إذ أعطاه الدرهم سهلت عليه أفعال كلفه إياها فمنعه من ذلك لكان بخيلا ظالما فلو علم أنه لا يصل إلى

ما كلفه إلا بذلك الدرهم فمنعه لكان بخيلا ظالما سفيها فهذا كل ما احتجوا به لا حجة لهم غير هذه البتة وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد وبشر بن المعتمر ومن وافقهم وهم قليل منهم إلى أن عند الله عز و جل ألطافا كثيرة لا نهاية لها لو أعطاها الكفار لآمنوا إيمانا إختياريا يستحقون به الثواب بالجنة وقد أشار إلى نحو هذا ولم يحققه أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وكان بشر بن المعتمر يكفر من قال بالأصلح والمعتزلة اليوم تدعي أن بشرا تاب عن القول باللطف ورجع إلى القول بالأصلح
قال أبو محمد وحجة هؤلاء أنه تعالى قد فعل بهم ما يؤمنون عنده ولو شاؤا فليس لهم عليه غير ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك فعارضهم أصحاب الأصلح بأن قالوا أن الإختيار هو ما يمكن فعله ويمكن تركه فلو كان الكفار عند إتيان الله تعالى بتلك الألطاف يختارون الإيمان لأمكن أن يفعلوه وأن لا يفعلوه أيضا فعادت الحال إلى ما هي عليه إلا أن يقولوا أنهم كانوا يؤمنون ولا بد فهذا إ ضطرار من الله تعالى لهم إلى الإيمان لا إختيار قالوا ونحن لا ننكر هذا بل الله تعالى قادر على أن يضطرهم إلى الإيمان كما قال تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل قالوا فالذي فعل تعالى بهم أفضل وأصلح
قال أبو محمد هذا لازم لمن لم يقل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لزوما لا ينفكون عنه وأما نحن فلا يلزمنا وإنما سألناهم هل الله تعالى قادر على أن يأتي الكفار بألطاف يكون منهم الإيمان عندها بإختيار ولا بد ويثيبهم على ذلك أتم ثواب يثيبه عبدا من عباده أم لا فقالوا لا
قال أبو محمد كأن أصحاب الأصلح غيب عن العالم أو كأنهم إذا حضروا فيه سلبت عقولهم وطمست حواسهم وصدق الله فقد نبه على مثل هذا إذ يقول تعالى لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أترى هؤلاء القوم ما شاهدوا أن الله عز و جل منع الأموال قوما وأعطاها آخرين ونبأ قوما وأرسلهم إلى عباده وخلق قوما آخرين في أقاصي أرض الزنج يعبدون الأوثان وأمات قوما من أوليائه ومن أعدائه عطشا وعنده مجادح السموات وسقى آخرين الماء العذب أما هذه محاباة ظاهرة فإن قالوا أن كل ما فعل من ذلك فهو أصلح بمن فعله به سألناهم عن إماتته تعالى الكفار وهم يصيرون إلى النار وأعطائه تعالى قوما مالا ورياسة فبطروا وأهلكوا وكانوا مع القلة والخمول صالحين وأفقر أقواما فسرقوا وقتلوا كانوا في حال الغنى صالحين وأصح أقواما وجمل صورهم فكان ذلك سببا لكون المعاصي منهم وتركوها إذ أسنوا وأمرض أقواما فتركوا الصلاة عمدا وضجروا وثربوا وتكلموا بما هو الكفر أو قريب منه وكانوا في صحتهم شاكرين لله يصلون ويصومون أهذا الذي فعل الله بهم كان أصلح لهم فإن قالوا نعم كابروا المحسوس وإن قالوا لو عاشوا لزادوا قلنا لهم فإنما كان أصلح لهم أن يخترمنهم الله عز و جل قبل البلوغ أو أن يطيل أعمارهم في الكفر ويملكهم الجيوش فيهلكوا بها أرض الإسلام ويقوي أجسادهم وأذهانهم فيضل بهم جماعة كما فعل لسعيد الفيومي اليهودي وأباريطا اليعقوبي النصراني والمحققين بالكلام من اليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية أما كان أصلح لهم ولمن ضل منهم أن يميتهم صغارا
قال أبو محمد فانقطعوا فلجأ بعضهم إلى أن قال لعله قد سبق في علم الله تعالى أنه لو أماتهم صغارا لكفر خلق من المؤمنين

قال أبو محمد وفي هذا الجواب من السخافة وجوه جمة أولها أنه دعوى بالدليل والثاني أنهم لا ينفكون به مما ألزمناهم ونقول لهم كان الله عز و جل قادرا على أن يميتهم ولا يوجب موتهم كفر أحد فإن قالوا لأعجزوا ربهم تعالى وإن قالوا بل كان قادرا على ذلك ألزموه الجور والظلم على أصولهم ولا بد من أحد الأمرين والثالث أنه ما يسمع في العالم أسخف من قول من قال أن إنسانا مؤمنا يكفر من أجل صغير مات فهذا أمر ما شوهد قط في العالم ولا توهم ولا يدخل في الإمكان ولا في العقل وكم طفل يموت كل يوم مذ خلق الله تعالى الدنيا إلى يوم القيامة فهل كفر أحد قط من أجل موت ذلك الطفل وإنما عهدنا الناس يكفرون عندما يقع لهم من الغضب الذي يخلقه الله عز و جل في طبائعهم وبالعصبية التي أتاهم الله عز و جل أسبابها وبالملك الذي أتاهم الله إياه إذا عارضهم فيه عارض والرابع أنه ليس في الجور ولا في العبث ولا في الظلم ولا في المحاباة أعظم من أن يبقى طفلا حتى يكفر فيستحق الخلود في النار ولا يميته طفلا فينجوا من النار من أجل صلاح قوم لولا كفر هذا المنحوس لكفر أولئك وما في الظلم والمحاباة أقبح من هذا وهل هذا إلا كمن وقف إنسانا للقتل فأخذ هو آخر من عرض الطريق فقتله مكانه كأنه يظهر فساد هذا القول السخيف الملعون
قال أبو محمد وقال بعضهم قد يخرج من صلبه مؤمن
قال أبو محمد وقد يموت الكافر عن غير عقب وقد يلد الكافر كفارا أضر على الإسلام منه ومع هذا فكل ما ذكرنا يلزم أيضا في هذا الجواب السخيف وأيضا فقد يخرج من صلب المؤمن كافر طاغ وظالم باغ يفسد الحرث والنسل ويثير الظلم ويميت الحق ويؤسس القتالات والمنكرات حتى يضل بها خلق كثير حتى يظنوا أنها حق وسنة فأي وجه لخلق هؤلاء على أصول المعتزلة الضلال نعم وأي معنى وأي صلاح في خلق إبليس ومردة الشياطين وإعطائهم القوة على إضلال الناس من الحكمة المعهودة بيننا وبالضرورة نعلم أن من نصب المصايد للناس في الطرقات وطرح الشوك في ممشاهم فإنه عائب سفيه فيما بيننا والله تعالى خلق كل ما ذكرنا بإقرارهم وهو الحكيم العليم ثم وجدناه تعالى قد شهد للذين بايعوا تحت الشجرة بأنه علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ثم أمات منهم من ولي منهم أمور المسلمين سريعا ووهن قوى بعضهم وملك عليهم زيادا والحجاج وبغاة الخوارج فأي مصلحة في هذا للحجاج ولقطري أو لسائر المسلمين لو عقلت المعتزلة ولكن الحق هو قولنا وهو أن كل ذلك عدل من الله وحق وحكمة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج المسلط ولقطري ونظايرهما أراد الله تعالى بذلك هلاكهم في الآخرة ونعوذ بالله من الخذلان ثم نسألهم ماذا تقولون إذا أمر الله عز و جل بجلد الحرة في الزناماية وبجلد الأمة نصف ذلك أليس هذا محاباة للأمة وإذ خول الله عز و جل قوما ما أموالا جمة فعاثوا فيها وحرم آخرين أما هذا عين المحاباة والجور على أصلهم الفاسد فيمن منع جاره الفقير إلا أن يطردوا قولهم فيصيروا إلى قول من ذكر أن الواجب يواسي الناس في الأموال والنساء على السواء وبالجملة فإن القوم يدعون نفي التشبيه ويكفرن من شبه الله تعالى بخلقه ثم لا نعلم أحد أشد تشبيها لله تعالى بخلقه منه قيلزمونه الحكم ويحرون عليه الأمر والنهي ويشبهونه بخلقه تعالى فيما يحسن منه ويقبح ثم نقضوا أصولهم إذ من قولهم أن ما صلح بيننا بوجه من الوجوه فلسنا نعبده عن الباري تعالى ونحن نجد فيما بيننا من يحابي

أحد عبيده على الآخر فيجعل أحدهم مشرفا على ماله وعياله وحاضنا لولده ويرتضيه لذلك من صغره بأن يعلمه الكتاب والحساب ويجعل الآخر رائضا لدابته وجامعا للزبل لبستانه ومنقيا لحشه ويرتضيه لذلك من صغره وكذلك الإماء فيجعل إحداهن محل إزاره ومطلبا لولده ويجعل الثانية خادما لهذه في الطبخ والغسل وهذا عدل بإجماع المسلمين كلهم فلم أنكروا أن يحابي الباري عز و جل من شاء من عباده بما أحب من التفضيل ووجدوا في الشاهد من يعطي المحاويج من ماله فيعطي أحدهم ما يغنيه ويخرجه من الفقر وذلك نحو ألف دينار ثم يعطي آخر مثله ألف دينار ويزيده ألف دينار فإنه وإن حابى فمحسن غير ملوم فلم منعوا ربهم من ذلك وجوره إذا فعله وهو تعالى بلا شك أتم ملكا لكل ما في العالم من أحدنا لما خوله عز و جل من الأملاك ونقضوا أصلهم في أن ما حسن في الشاهد بوجه من الوجوه لم يمنعوا وقوعه من الباري عز و جل ووجدوا في الشاهد من يدخر أموالا عظيمة فيؤدي جميع الحقوق اللازمة له حتى لا يبقى بحضرته محتاج ثم يمنع سائر ذلك فلا يسمى بخيلا فلأي شيء منعوا ربهم عز و جل من مثل ذلك وجوروه وبخلوه إذا لم يعط أفضل ما عنده وهذا كله بين لا إشكال فيه
قال أبو محمد ونسألهم عن قول لهم عجيب وهو أنهم أجازوا أن يخلق الله عز و جل أضعف الأشياء ثم لا يكون قادر على أضعف منه فهكذا هو قادر فاعل أصلح الأشياء ثم لا يكون قادر علىأصلح منه وعلى أصغر الأشياء وهو الجزء الذي لا يتجزأ ولا يقدر على أصغر منه
قال أبو محمد هذا إيجاب منهم لتناهي قدرة الله عز و جل وتعجيز له تعالى وإيجاب لحدوثه وإبطال إلهيته إذ التناهي في القوة صفة المحدث المخلوق لا صفة الخالق الذي لم يزل وهذا خلاف القرآن وإجماع المسلمين وتشبيه الله تعالى بخله في تناهي قدرتهم
قال أبو محمد ولكنه لازم لكل من قال بالجزء الذي لا يتجزأ وبالقياس لزوما صحيحا لا إنفكاك لهم منه ونعوذ بالله من هذه المقالات المهلكة بل نقول أن الله تعالى كل ما خلق شيئا صغيرا أو ضعيفا أو كبيرا أو قويا أو مصلحة فإنه أبدا بلا نهاية قادر على خلق أصغر منه وأضعف وأقوى وأصلح
قال أبو مجمد ونسألهم أيقدر الله تعالى على ما لو فعله لكفر الناس كلهم فإن قالوا لا لحقوا بعلي الأسواري وهم لا يقولون بهذا ولو قالوه لأكذبهم الله تعالى إذ يقول ولو بسط الله الرزق لعباد ه لبغوا في الأرض وبقوله تعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة وإن قالوا نعم هو قادر على ذلك قلنا لهم فقد قطعتم بأنه تعالى يقدر على الشر ولا يقدر على الخير هذه مصيبة على أصولهم ولزمهم أيضا فساد أصلهم في قولهم أن من يقدر على شيء قدر على ضده لأنهم يقولون أن الله تعالى يقدر على ما يكفر الناس كلهم عنده ولا يقدر على ما يؤمن جميعهم عنده
قال أبو محمد ونسأل من قال منهم أنه تعالى يقدر على مثل ما فعل من الصلاح بلا نهاية لا على أكثر من ذلك فنقول لهم أن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الباري عز و جل لأن بضرورة الحس ندري أنه إذا استضافت المصالح بعضها إلى بعض كانت أصلح من إنفراد كل مصلحة عن الأخرى فإذا هو قادر عندكم على ذلك ولم يفعله بعباده فقد لزمه ما ألزمتموه لو كان قادرا على أصلح مما فعل ولم يفعله فقالوا هذا كالدواء والطعام والشراب لكل

ذلك مقدار يصلح به من أعطيه فإذا استضافت إليه أمثاله كان ضرورا قال علي رضي الله عنه ولم يقل قط ذو عقل ومعرفة بحقائق الأمور إن غفار كذا مصلحة جملة وعلى كل حال ولا أن الآكل مصلحة أبدا وعلى الجملة ولا أن الشراب مصلحة بكل وجه أبدا وإنما الحق أن مقدارا من الدواء مصلحة لعلة كذا فقط فإن زاد أو نقص أو تعدى به تلك العلة كان ضررا وكذلك الطعام والشراب هما مصلحة في حال ما وبقدر ما فما راد أو تعدى به وقته كان ضررا وما نقص عن الكفاية كان ضررا ليس إطلاق إسم الصلاح في شيء من ذلك أولى من إطلاق إسم الضرر لأن كلا الأمرين موجود في ذلك كما ذكرنا وليس الصلاح من الله عز و جل للعبد والهدى له والخير من قبله عز و جل كذلك بل على الإطلاق والجملة وعلى كل حال بل كلما زاد الصلاح وكثروا زاد الهدى وكبر وزاد الخير وكبر فهو أفضل فإن قالوا نجد الصلاة والصيام إثما في وقت ما وأجرا في آخر قلنا ما كان من هذا منهيا عنه فليس صلاحا البتة ولا هو هدى ولا خير بل هو إثم وخذلان وضلال وليس في هذا كلمناكم لكن فيما هو صلاح حقيقة و هدى حقيقة وخير حقيقة وهذا ما لا مخلص لهم منه
قال أبو محمد وقال أصحاب الأصلح منهم أن من علم الله تعالى أنه يؤمن من الأطفال إن عاش أو يسلم من الكفار إن عاش أو يتوب من الفساق إن عاش فإنه لا يجوز البتة أن يميته الله قبل ذلك قالوا وكذلك من علم الله تعالى أنه إن عاش فعل خيرا فلا يجوز البتة أن يميته الله قبل فعله قالوا ولا يميت الله تعالى أحدا ألا وهو يدري أنه إن أبقاه طرفة عين فما زاد فإنه لا يفعل شيئا من الخير أصلا بل يكفر أو يفسق ولا بد
قال أبو محمد وهذا من طوامهم التي جمعت الكفر والسحق ولم ينفكوا بها فما فروا عنه من تجوير الباري تعالى بزعمهم وأما الكفر فإنه يلزمهم أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو بلغ لكفر أو فسق وليت شعري إذ هذا عندهم كما زعموا فلم أمات بعضهم أثر ولادته ثم آخر بعد ساعة ثم يوم ثم يومين وهكذا شهرا بعد شهر وعاما بعد عام إلى أن أمات بعضهم قبل بلوغه بيسير وكلهم عندهم سواء في أنهم لو عاشوا لكفروا أو فسقوا كلهم وإذ عنى بهم هذه العناية فلم أبقى من الأطفال من درى أنه يكفر ويفسق ونعم ويؤتيهم القوى والتدقيق في الفهم كالفيومي سعيد بن يوسف والمعمس داود بن قزوان وإبراهيم البغدادي وأبي كثير الطبراني متكلمي اليهود وأبي ربطة اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النصارى وقردان بخت المثاني حتى أضلوا كثيرا بشبههم وتمويهاتهم ومخارفتهم ولا سبيل إلى وجود فرق أصلا وهذا محاباة وجور على أصولهم ثم نجده تعالى قد عذب بعض هؤلاء الأطفال باليتم والقمل والعري والبرد والجوع وسوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حتى يموتوا كذلك وبعضهم مرفه مخدوم منعم حتى يموت كذلك ولعلهما الأب وأم وكذلك يلزمهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسائر الصحابة رضي الله عنهم نعم ومحمد صلى الله عليه و سلم وموسى وعيسى وإبراهيم وسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام أن كل واحد منهم لو عاش طرفة عين على الوقت الذي مات فيه لكفر أو فسق ولزمهم مثل هذا في جبريل ومكائيل وحملة العرش عليهم السلام إن كانوا يقولون بأنهم يموتون فإن تمادوا على هذا كفروا وقد صرح بعضهم بذلك جهارا وإن أبوا تناقضوا ولزمهم أن الله تعالى يميت من يدري أنه يزداد خيرا ويبقي من يدري أنه يكفر وهذا

عندهم على أصولهم عين الظلم والعبث
قال أبو محمد وأجاب بعضهم في هذا السؤال بأن قال أن النبي صلى الله عليه و سلم امتحنه الله عز و جل قبل موته بما بلغ ثوابه على طاعته فيه مبلغ ثوابه على كل طاعة تكون منا لو عاش إلى يوم القيامة
قال أبو محمد وهذا جنون ناهيك به لوجوه أولها أنه محاباة مجردة له عليه السلام على غيره وهلا فعل ذلك بغيره وعجل راحتهم من الدنيا ونكدها وثانيها أن هذا القول كذب بحت وذلك أن المحن في العالم معروفة وهي أما في الجسم بالعلل وأما في المال بالإتلاف وأما في النفوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة والقطع دون الأمل لا محنة في العالم تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدين فقط نعوذ بالله من ذلك فأما المحنة في الجسم فكذبوا وما مات عليه السلام إلا سليم الأعضاء سويها معافى من مثل محنة أيوب عليه السلام وسائر أهل البلاء نعوذ بالله منه وأما في المال فما شغله الله عز و جل منه بما يقتضي محنته في فضوله ولا أحوجه إلى أحد بل أقامه على حد الغنى بالقوت ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقربه من ربه عز و جل وأما النفس فأي محنة لمن قال الله عز و جل له والله يعصمك من الناس ولمن رفع ذكره وضمن له إظهار دينه على الدين كله ولو كره أعداؤه وجعل شائنه الأبتر وأعزه بالنصر على كل عدو فأي خوف وأي هوان يتوقعه عليه السلام وأما أهله وأحبته فاحترم بعضهم فاجره فيهم كإبراهيم ابنه وخديجة وحمزة وجعفر وزينب وأم كلثوم ورقية بناته رضي الله عنهم وأقر عينه ببقاء بعضهم وصلاحه كعائشة وسائر أمهات المؤمنين وفاطمة ابنته وعلى والعباس والحسن والحسين وأولاد العباس وعبد الله بن جعفر وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عن جميعهم فأي محنة هاهنا أليس قد أعاذ الله تعالى من مثل محنة حبيب بن عدي سمية أم عمار رضي الله عنهم أليس من قتل من الأنبياء عليهم السلام ومن أنشر بالمنشار وأحرق بالنيران أعظم محنة ومن خالفه قومه فلم يتبعه منهم إلا اليسير وعذب الجمهور كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم أعظم محنة وهل هذه إلا مكابرة وحماقة وقحة وأي محنة تكون لمن أوجب الله عز و جل على الجن والإنس طاعته وأكرمه برسالته وأمنه من كل الناس وأكب عدوه لوجهه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهل هذه إلا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مجردة له على جميع الإنس والجن وهل استحق عليه السلام هذا قط على ربه تعالى حتى ابتدأ بهذه النعمة الجليلة وقد تحنث قبله زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى العدوى وقيس بن ساعدة ألأبادي وغيرهما فما اكرموا بشيء من هذا ولكن نوك المعتزلة ليس عليه قياس قال أبو محمد ومما سئلوا عنه أن قيل لهم أليس قد علم الله أن فرعون والكفار إن أعاشهم كفروا فمن قولهم نعم فيقال لهم أبقاهم حتى كفروا واخترم على قولهم من علم أنه إن عاش كفر وهذا تخليط لا يعقل ونقول لهم أيضا أيما كان اصلح للجميع لا سيما لأهل النار خاصة ان يخترعنا الله تعالى كلنا في الجنة كما فعل بالملائكة وحور العين أم ما فعل بنا من خلقنا في الدنيا والتعريض للبلاء فيها وللخلود في النار قال أبو محمد فلحوا عند هذه فقال بعضهم لم يخلق الجنة بعد فقلنا لهم هبكم أن ألأمر كما قلتم فأنما كان أصلح للجميع أن يعجل الله عز و جل خلقها ثم يخلقنا فيها او يؤخر خلقنا

حتى يخلقها ثم يخلقنا منها أم خلقه لنا حيث خلقنا فأن عجزوا ربهم جعلوه ذا طبيعة متناهى القدرة ومشبها لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه محيزا ضعيفا وهذا كفر مجرد ونفي السؤال أيضا مع ذلك يحسبه في أن يجعلنا كالملائكة وأن يجعلنا كلنا أنبياء كما فعل بعيسى ويحيى عليهما السلام وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقال بعضهم ليس جهلنا بوجه المصلحة في ذلك مما يخرج هذا الأمر عن الحكمة فقلنا لهم فاقنعوا بمثل هذا بعينه فمن قال لكم ليس جهلنا بوجه المصلحة والحكمة في خلق الله تعالى لأفعال عباده وفي تكليفه الكافر والفاسق مالا يطيق ثم يعذبهما على ذلك مما يخرجه عن الحكمة وهذا لا مخلص لهم منه قال ابو محمد وأما نحن فلا نرضى بهذا بل ما جهلنا ذلك لكن نقطع على أن كل ما فعله الله تعالى فهو عين الحكمة والعدل وإن من أراد إجراء أفعاله تعالى على الحكمة المعهودة بيننا والعدل المعهود بيننا فقد الحدوا حظارضل وشبه الله عز و جل بخلقه لأن الحكمة والعدل بيننا إنما هما طاعة الله عز و جل فقط لاحكمة ولا عدل غير ذلك إلا ما أمرنا به أي شيء كان فقط وأما الله تعالى فلا طاعة لأحد عليه فبطل أن تكون أفعاله جارية على أحكام العبيد المأمورين المربوبين المسؤلين عما يفعلون لكن أفعاله تعالى جارية على العزة والقدرة والجبروت والكبرياء والتسليم له وإن لا يسأل عما يفعل ولا مزيد كما قال تعالى وقد خاب من خالف ما قال الله عز و جل ومع هذا كله فلم يتخلصوا من رجوع وجوب التجوير والعبث على أصولهم على ربهم تعالى عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك وكنا أيضا نكون غير مستحقين لذلك النعيم بعمل عملناه وأدخالنا الجنة بعد استحقاقنا لهم أتم في النعمة وأبلغ في اللذة وأيضا فلو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد على ما حظر علينا وليست الجنة دار توعد وأيضا فأن الله تعالى قد علم أن بعضهم كان يكفر فيجب عليه الخروج من الجنة قال أبو محمد هذا كل ما قدروا عليه من السخف وهذا كله عائد عليهم بحول الله تعالى وقوته وعونه لنا فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك فأننا نقول وبالله تعالى نتأيد أكان الله تعالى قادر على أن يخلقنا فيها ويخلق فينا قوة وطبيعة نعلم بها قدر النعمة علينا في ذلك أكثر من علمنا بذلك بعد دخولنا فيها يوم القيامة أو كعلمنا ذلك أم كان غير قادر على ذلك فأن قالوا كان غير قادر على ذلك عجزوا ربهم تعالى وجعلوا قوته متناهية يقدر على أمرنا ولا يقدر على غيره وهذا لا يكون إلا لعرض داخل أو لبنيه متناهية القوة وهذا كفر مجرد وإن قالوا كان الله قادرا على ذلك أقروا بأنه عز و جل لم يفعل بهم اصلح ما عنده وإن عنده أصلح مما فعل بهم وأيضا فأن كانوا أرادوا بذلك إن اللذة تعقب البلاء والتعب أشد سرورا وأبلغ لزمهم ان يبطلوا نعم الجنة جملة لأنه ليس نعيمها البتة مشوبا بالم ولا تعب وكل الم بعد العهد به فأنه ينسى كما قال القائل ... كان الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يفتقر يوما إذا ما تمولا ...
فلزم على هذا الأصل أن يحدد الله تعالى لأهل الجنة آلا ما فيها ليتجدد لهم بذلك وجود اللذة وهذا خروج عن الأسلام ويلزمهم أيضا أن يدخل النبيين والصالحين النار ثم يخرجهم منها الى الجنة فتضاعف اللذة والسرور أضعافا بذلك ويقال لهم كنا نكون

كالملائكة والحور العين فإن كانوا عالمين بمقدار ما هم فيه من نعيم ولذة فكنا نحن كذلك وإن كانوا غير عالمين بمقدار ما هم فيه من اللذة والنعيم فهلا أعطاهم هذه المصلحة ولاي شيء منعهم هذه الفضيلة التي أعطاها لنا وهم أهل طاعته التي لم تشب بمعصية فأن قالوا إن ألملائكة وحور العين قد شاهدوا عذاب الكفار في النار فقام لهم مقام الترهيب قلنا لهم وهل المحاباة والجور الا ان يعرض قوما للمعاطب ويبقيهم حتى يكفروا فيخلدوا في النار ليوعظ بهم قوم آخرون خلقوا في الجنة والرفاهية سرمدا ابدا لا بد وهل عين الظلم إلا هذا فيما بيننا على اصول المعتزلة وكمن يقول من الطغاة قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح وهل في الشاهد عبث وسفه أعظم من عبث من يقول لآخر هات أضربك بالسياط وأردك من جبل وأصفع في قفاك وأنتف سبالك وأمشيك في طريق ذات شوك دون راحة في ذلك ولا منفعة ولكن لأعطيك بعد ذلك ملكا عظيما ولعلك في خلال ضربي إياك أن تتضرر فتقع في بئر منتنة لا يخرج منها أبدا فأي مصلحة عند ذي عقل في هذا الحال لا سيما وهو قادر على أن يعطيه ذلك الملك دون أن يعرضه لشيء من هذا البلاء فهذه صفة الله عز و جل عند المعتزلة لا يستحقون من أن يصفوا أنفسهم بأن يصفوا الله تعالى بالعدل والحكمة قال أبو محمد وأما نحن فنقول لو أن الله تعالى أخبرنا أنه يفعل هذا كله بعينه ما أنكرناه ولعلمنا أنه منه تعالى حق وعدل وحكمة قال أبو محمد ومن العجب أن يكون الله تعالى يخلقنا يوم القيامة خلقا لا نجوع فيه أبدا ولا نعطش ولا نبول ولا نمرض ولا نموت وينزع ما في صدورنا من غل ثم لا يقدر على ان يخلقنا فيها ولا على أن يخلقنا خلقا نلتذ معه بأبتدائنا فيها كالتذاذنا بدخولها بعد طول النكد فهل يفرق بين شيءمن هذا إلا من لا عقل له او مستخف بالباري تعالى وبالدي وأما قولهم لو خلقنا الله تعالى في الجنة لكنا غير مستحقين لذلك النعيم فإنا نقول لهم أخبرونا عن الأعمال التي أستحققتم بها الجنة عند أنفسكم أفبضرورة العقل علمتم أن من عملها فقد أستحق الجنة دينا واجبا على ربه تعالى ام لم تعلموا ذلك ولا وجب ذلك إلا حتى أعلمنا الله عز و جل أنه يفعل وجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال فأن قالوا بالعقل عرفنا إستحقاق الجنة على هذه الأعمال كابروا وكذبوا على العقل وكفروا لأنهم بهذا القول يوجبون الأستغناء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام ولزمهم أن الله تعالى لم يجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال لكن وجب ذلك عليه حتما لا بأختياره ولا بأنه لو شاء غير ذلك لكان له وهذا كفر مجرد وأيضا فأن شريعة موسى عليه السلام في السبت وتحريم الشحوم وغير ذلك قد كان الجنة جزاء على العمل بها ثم صارت ألآن جهنم جزاء على العمل بها فهل ها هنا الا أن الله تعالى أراد ذلك فقط ولو لم يرد ذلك لم يجب من ذلك شيء فأن قالوا بل ما علمنا أستحقاق الجنة بذلك إلا بخبر الله تعالى أنه حكم بذلك فقط قيل لهم فقد كان الله تعالى قادرا على أن يخبرنا أنه جعل الجنة حقا لنا يختر عنا فيها كما فعل بالملائكة وحور العين وأيضا فقد كذبوا في دعواهم إستحقاق الجنة بأعمالهم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما من أحد ينجيه عمله أو يدخله الجنة عمله قيل لا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه أو كلاما هذا معناه وأيضا فبضرورة العقل ندري أن ما زاد على المماثلة في الجزاء فيما بيننا فإنه تفضل مجرد في الإحسان وجور في الإساءة هذا حكم المعهود

في العقل فعل أصول المعتزلة يلزمهم أن بقاء أحدنا في الجنة أو في النار أكثر من إحسانه أو إساءته جزاء على ما سلف منه فضل مجرد وعقاب زايد على مقدار الجرم وقد فعله الله عز و جل بلا شك وهو عدل وحكمة وحق
قال أبو محمد وأما قولهم أن دخول الجنة على وجه الجزاء على العمل أعلى درجة أسنى رتبة من دخولها بالتفضل المجرد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق هذا خطأ محض لا نناقد علمنا إن هذا الحكم إنما يقع بين الأكفاء والمتماثلين وأما الله تعالى فليس له كفوا أحد ومن كان عبدا لآخر فإن إقبال السيد عليه بالتفضل عليه المجرد والإختصاص والمحاباة أسنى له وأعلى وأشرف لرتبته وأرفع لدرجته من أن لا يعطيه شيئا بمقدار ما يستحقه لخدمته ويستخبره إياه هذا ما ينكره إلا معاند فكيف وليس لأحد على الله حق وحينئذ كل ما وهبه الله تعالى لأحد بين أنبيائه وملائكته عليهم السلام وكل ما أخبر تعالى أنه أوجبه وكتبه على نفسه وجعله حقا لعباده فكل ذلك تفضل مجرد من الله عز و جل واختصاص مبدأ لو لم ينعم به عز و جل لم يجب عليه شيء منه لا يقول غير هذا إلا مدخول الدين فاسد العقل
قال أبو محمد وهم يقرون أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم جميعهم السلام وصدقوا في هذا ثم نقضوا هذا الأصل بأصلهم هذا السخيف من قولهم أن من دخل الجنة بعد التعريض للبلاء فهو أفضل من ابتداء النعمة والتقريب فنحن على قولهم أفضل من الملائكة على جميعهم السلام وقد قالوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فعلى هذا التقريب أن يكون نحن أفضل من الملائكة بدرجة وأفضل من النبيين بدرجتين وهذا كفر مجرد وتناقض ظاهر وأما قولهم أننا لو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد والتحذر فإننا نقول لهم وبالله تعالى ا لتوفيق حتى لو كان ما يقولون لما منع من ذلك أن يخلقوا في الجنة ثم يطلعوا منها فيروا النار ويعاينوا وحشتها وهو لها وقبحها ونفار النفوس عنها كالذي يعرض لنا عند الإطلاع على الغيران العقيمة المظلمة وإن كنا قط لم نقع فيها ولا شاهدنا من وقع فيها أبل ذلك كأن يكون أبلغ في التحذير من وصفها دون رؤية لكن كما فعل بالملائكة وحور العين فيكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر والحمد والإغتباط بمكانهم واجتناب ما نهو عنه خوف مفارقة ما قد حصلوا عليه ثم نقول لهم أيضا قولوا هذا فهم بعد دخولهم الجنة أمباح لهم الكفر والشتم والضرب فيما بينهم أم محظور عليهم لزمهم تمادي التوعد والتحذير هنالك قلنا نكون لو اخترعنا فيها على الحال التي تكون فيها يوم القيامة ولا فرق وكان يكون أصلح لجميعنا بلا شك فإن قالوا قد سبقت الطاعة في الدنيا قيل لهم وكذلك كانت تسبق منهم في الجنة كالملائكة سواء بسواء وهم لا يقولون أن المعاصي والتضارب والتلاطم والتراكض والتشاتم مباح لهم في الجنة ولا يقولون هذا أحد فيحتاج إلى كسر هذا القول فإن لجؤا إلى قول أبي الهذيل أن أهل الجنة مضطرون لا مختارون قيل لهم وكنا نكون فيها كذلك أيضا كما نكون يوم القيامة فيها فهذا أكان أصلح للجميع بلا شك وهذا ما لا إنفكاك لهم منه
قال أبو محمد وأما قولهم أن الله علم أن بعضهم يكفر ولا بد فيجب عليه الخروج من الجنة قلنا لهم أيقدر الله على خلاف ما علم أم لا فإن قالوا نعم يقدر ولكن لا يفعل أقروا أنه فعل من ترك ابتدائنا في الجنة إمضاء لما سبق في علمه غير ما كان أصلح لنا بلا شك ورجعوا إلى الحق الذي هو

قولنا أنه تعالى فعل ما سبق في علمه من تكليف مالا يطاق ومن خلقه تعالى الكفر والظلم وأنعامه على من شاء وحده لا شريك له وتركوا قولهم في الأصلح وإن قالوا لا يقدر على غير ما علم أن يفعله جعلوه محيرا مضطرا عاجزا متناهي القوة ضعيف القدرة محدثا في أسوأ حالة منهم وهكذا كفر وخلاف للقرآن ولإجماع المسلمين نعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد ونسألهم أي مصلحة للحشرات والكلاب والبق والدود في خلقها حشرات ولم يخلقها ناسا مكلفين معرضين لدخول الجنة فإن قالوا لو جعلها ناسا لكفروا قيل لهم فقد جعل الكفار ناسا فكفروا فهلا نظر لهم كما نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لئلا يكفروا فكان أصلح لهم على قولكم وهذا ما لا مخلص منه
قال أبو محمد ونسألهم فنقول لهم إذا قلتم أن الله تعالى لا يقدر على لطف لو أتي به الكفار لأمنوا إيمانا يستحقون معه الجنة لكنه قادر على أن لا يضطرهم إلى الإيمان أخبرونا عن إيمانكم الذي تستحقون به الثواب هل يشوبه عندكم شك أم يمكن بوجه من الوجوه أن يكون عندكم باطلا فإن قالوا نعم يشوبه شك ويمكن أن يكون باطلا أقروا على أنفسهم بالكفر وكفونا مؤنتهم وإن قالوا لا يشوبه شك ولا يمكن البتة أن يكون باطلا قلنا لهم هذا هو الإضطرار بعينه ليست الضرورة في العلم شيئا غير هذا إنما هو معرفة لا يشوبها شك لا يمكن اختلاف ما عرف بها فهذا هو علم الضرورة نفسه وما عدا هذا فهو ظن وشك فإن قالوا أن الإضطرار ما علم بالحواس أو بأول العقل وما عداه فهو ما عرف بالإستدلال قلنا هذه دعوى فاسدة لأنها بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل وتقسيمنا هو الحق الذي يعرف ضرورة وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ونسألهم أيما كان أصلح للعالم أن يكون بريا من السباع والأفاعي والدواب العادية أو أن يكون فيه كما هي مسلطة على الناس وعلى سائر الحيوان وعلى الأطفال فإن قالوا خلق الله الأفاعي والسباع كخلق الحفر والحرث ومزجرة للكفار
قال أبو محمد وهذا من ظريف الجنون ولقد ضل بخلقتها جمع من المخذولين ممن جرى مجرى المعتزلة في أن يتعقبوا على الله عز و جل فعله كالمنانية والمجوس اللذين جعلوا الها خالقا غير الحكيم العدل ثم نقول للمعتزلة إن كانت كما تقولون مصلحة فكان الإستكثار من المصلحة أصلح وأبلغ في الزجر والتحريف وكل هذه الدعاوي منهم حماقات ومكابرات بلا برهان ليست أجوبتهم فيها بأصلح من أجوبة المنانية والمجوس وأصحاب التناسخ بل كلها جارية في ميدان واحد من أنها كلها دعوى فاسدة بلا برهان بل البرهان ينقضها وكلها راجعة إلى أصل واحد وهو تعليل أفعال الله عز و جل الذي لا علة لها أصلا والحكم عليه بمثل الحكم على خلقه فيم يحسن منه ويقبح تعالى الله عن ذلك
قال أبو محمد ويقال لأصحاب الأصلح خاصة ما معنى دعائكم في العصمة وأنتم تقولون أن الله تعالى قد عصم الكفار كما عصم المؤمنين فلم يعتصموا وما معنى دعائكم في الإعادة من الخذلان وفي الرغبة في التوفيق وأنتم تقولون أنه ليس عنده أفضل مما قد أعطاكموه ولا في قدرته زيادة على ما قد فعله بكم وأي معنى لدعائكم في التوبة وأنتم تقطعون على أنه لا يقدر على أن يعينكم في ذلك بمقدار شعرة زائدة على ما قد أعطاكموه فهل دعاؤكم في ذلك الإضلال وهزل وهزء كمن دعا إلى الله أن يجعله من بني آدم أو أن يجعل النبي

نبيا والحجر حجرا وهل بين الأمرين فرق فإن الدعاء عمل أمرنا الله تعالى به فقيل لهم أن أوامره تعالى من جملة أفعاله بلا شك وأفعاله عندكم تجري على ما يحسن في العقل ويقبح فيه في المعهود وفيما بيننا وعلى الحكمة عندكم وقد علمنا أنه لا يحسن في الشاهد بوجه من الوجوه أن يأمر أحدا يرغب إليه فيما ليس بيده ولا فيما قد أعطاه إياه وكلا هذين الوجهين عبث وسفه وهم مقرون بأجمعهم أن الله تعالى حكم بهذا وفعله وهو أمره لهم بالدعاء إليه أما فيما لا توصف عندهم بالقدرة عليه وأما فيما قد أعطاهم إياه وهو عندهم عدل وحكمة فنقضوا أصلهم الفاسد بلا شك وأما نحن فإننا نقول أن الدعاء عمل أمرنا الله عز و جل به فيما يقدر عليه ثم إن شاء أعطانا وإن شاء منعنا إياه لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل
قال أبو محمد وإن في إبتداء الله عز و جل كتابة المنزل إلينا بقوله تعالى آمرا لنا أن نقوله راضيا منا أن نقوله إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ثم ختمه تعالى كتابه آمرا لنا أن نقوله راضيا بقوله قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس لا بين بيان في تكذيب القائلين بأنه ليس عند الله تعالى أصلح مما فعل وأنه غير قادر على كف وسوسة الشيطان ولا على هدى الكفار هدى يستحقون به الثواب كما وعد المهتدين لأنه عز و جل نص على أنه هو المطلوب منه العون لنا والهدى إلى صراط من خصه بالنعمة عليه تعالى وضل فولا أنه تعالى قادرا على الهدى المذكور وأن عنده عونا على ذلك لا يؤتيه إلا من شاء دون من لم يشأ وأنه تعالى أنعم على قوم بالهدى ولم ينعم به على آخرين لما أمرنا أن نسأله من ذلك ما ليس يقدر عليه أو ما قد أعطاه إياه ونص تعالى على أنه قادر على صرف وسوسة الشيطان فلولا أنه تعالى يصرفها عمن يشاء لما أمرنا عز و جل أن نستعيذ مما لا يقدر على الإعاذة منه أو مما قد أعاذنا بعد منه
قال أبو محمد ولا مخلص لهم من هذا أصلا ثم نسألهم أي مصلحة للعصاة في أن جعل بعض حركاتهم وسكونهم كبائر يستحقون عليها النار وجعل بعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة ولقد كان أصلح أن يجعلها كلها صغائر مغفورة ولقد أصلح أن يجعلها كلها صغائر مغفورة فإن قالوا هذا أزجر عن المعاصي وأصلح قيل لهم فهلا إذ هو كما تقولون جعلها جميعها كبائر زاجرة فهو أبلغ في الزجر
قال أبو محمد وقد نص الله تعالى في القرآن آيات كثيرة لا يحتمل تأويلا بتكذيب المعجزين لربهم تعالى وليس يمكنهم وجود آية ولا سنة يتعلقون بها أصلا فمنها قوله تعالى إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أفلم يكن عنده أصلح من فتنة يضل بها بعض خلقه حاشى لله من هذا الكفر والتعجيز وقال تعالى حاكيا عن الذين أثنى عليهم من مؤمني الجن أنهم قالوا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا
قال أبو محمد وصدقهم الله عز و جل في ذلك إذ لو أنكره لما أورده مثنيا عليهم بذلك وهذا في غاية البيان الذي قد هلك من خالفه وبطل به قول الضلال الملحدين القائلين أن الله تعالى أراد رشد فرعون وإبليس وأنه ليس عنده أصلح ولا يقدر لهما على هدى

أصلا وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس فليت شعري أي مصلحة لهم في أن يذرأهم لجهنم نعوذ بالله من هذه المصلحة وقال تعالى وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته فصح أنه تعالى هو الذي يقي السيئات وأن الذي رحمه هو الذي وقاه السيئات لأن من لم يقه السيئات فلم يرحمه وبلا شك أن من وقاه السيئات فقد فعل به أصلح مما فعل بمن لم يقه إياها هذا مع قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا ولا يشك من لدماغه أقل سلامة أو في وجهه من برد الحياء شيء في أن هذا كان أصلح بالكفار من إدخالهم النار بأن لا يؤتهم ذلك الهدى وإن كانوا كما يقولون من دخولهم الجنة بغير إستحقاق وقال تعالى وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم فليت شعري أين فعله تعالى بهؤلاء نسأل الله أن يجعلنا منهم من فعله بالذين قال فيهم أنه ختم على قلوبهم وزين لهم سوء أعمالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجة أن من ساوى بين الأمرين وقال أن الله تعالى لم يعط هؤلاء إلا ما أعطى هؤلاء ولا أعطى من الهدى والإختصاص محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى والملائكة عليهم السلام إلا ما أعطى إبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب والذي حاج إبراهيم في ربه واليهود والنصارى والمجوس والمتقيلين والشرط والبغائيين والعوهر وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد بل سوى في التوفيق بين جميعهم ولم يقدر لهم على مزيد من الصلاح لقليل الحياء عديم الدين وما جوابه إلا قوله تعالى إن ربك لبالمرصاد وقال عز و جل كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين
قال أبو محمد فأيما كان أصلح للكفار المخلدين في النار أن يكونوا مع المؤمنين أمة واحدة لا عذاب عليهم أم بعثة الرسل إليهم وهو عز و جل يدري أنهم لا يؤمنون فيكون ذلك سببا إلى تخليدهم في جهنم وقال تعالى وأملي لهم أن كيدي متين وقال تعالى ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرا لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وقال تعالى أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
قال أبو محمد وهذا غاية البيان في أن الله عز و جل أراد بهم وفعل بهم ما فيه فساد أديانهم وهلاكهم الذي هو ضد الصلاح وإلا فأي مصلحة لهم في أن يستدرجوا إلى البلاد من حيث لا يعلمون وفي الإملاء لهم ليزدادوا إثما ونص تعالى أن كل ذلك الذي فعله ليس مسارعة لهم في الخير فبطل قول هؤلاء الهلكى جملة والحمد لله رب العالمين وقال تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا فهل بعد هذا بيان في أن الله عز و جل أراد هلاكهم ودمارهم ولم يرد صلاحهم فأمر مترفيها بأوامر خالفوها ففسقوا فدمروا تدميرا فأيما كان أصلح لهم أن لا يؤمروا فيسلموا أو أن يؤمروا وهو تعالى يدري أنهم لا يأتمرون فيدخلون النار فإن قالوا فاحملوا قوله تعالى أمرنا مترفيها على ظاهره قلنا نعم هكذا نقول ولم يقل تعالى أنه أمرهم بالفسق وإنما قال تعالى أمرناهم فقط وقد نص تعالى

على أنه لا يأمر بالفحشاء فصح قولنا أيضا وقال عز و جل وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم فنص تعالى على أن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لو تولوا لا يدل قوما غيرهم لا يكونون أمثالهم وبالضرورة نعلم أنه عز و جل إنما أراد خيرا منهم فقد صح أنه عز و جل قادر على أن يخلق اصلح منهم وقال تعالى إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وفي هذا كفاية وقال تعالى عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فهل في البيان أن الله تعالى قادر على أن يفعل أصلح مما فعل وأن عنده تعالى أصلح مما أعطى خلقه أبين أو أوضح أو أصح من إخباره تعالى أنه قادر على أن يبدل نبيه صلى الله عليه و سلم الذي هو أحب الناس إليه خيرا من الأزواج اللواتي أعطاه واللواتي هن خير الناس بعد الأنبياء عليهم السلام
قال أبو محمد فبطل قول البقر الشاذة أصحاب الأصلح في أنه تعالى لا يقدر على أصلح ما فعل بعباده
قال أبو محمد نسأل الله العافية مما ابتلاهم به ونسأله الهدى الذي حرمهم إياه وكان قادرا على أن يتفضل عليهم به فلم يرد وما توفيقنا إلا بالله عز و جل وهو حسبنا ونعم الوكيل
قال أبو محمد كل من منع قدرة الله عز و جل عن شيء مما ذكرنا فلا شك في كفره لأنه عجز ربه تعالى وخالف جميع أهل الإسلام
قال أبو محمد وقالوا إذا كان عنده أصلح مما فعل بنا ولم يؤتنا إياه وليس بخيلا وخلق أفعال عباده وعذبهم عليها ولم يكن ظالما فلا تنكروا على من قال أنه جسم ولا يشبه خلقه وأنه يقول غير الحق ولا يكون كاذبا
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه تعالى لم يقل أنه جسم ولو قاله لقلناه ولم يكن ذلك تشبيها له بخلقه ولم يقل تعالى أن يقول غير الحق بل قد أبطل ذلك وقطع بأن قوله الحق فمن قال على الله ما لم يقله فهو ملحد كاذب على الله عز و جل وقد قال تعالى أنه خلق كل شيء وخلقنا وما نعمل وأنه لو شاء لهدى كل كافر وأنه غير ظالم ولا بخيل ولا ممسك فقلنا ما قال من كل ذلك ولم نقل ما لم يقل وقلنا ما قام به البرهان العقلي من أنه تعالى خالق كل موجود دونه وأنه تعالى قادر على كل من يسأل عنه وأنه لا يوصف بشيء من صفات العباد لا ظلم ولا بخل ولا غير ذلك ولم نقل ما قد قام البرهان العقلي على أنه باطل من أنه جسم أو أنه يقول غير الحق وقال بعض أصحاب الأصلح وهو ابن بدد الغزال تلميذ محمد بن شبيب تلميذ النظام بلى إن عند الله الطافا لو أتى بها الكفار لأمنوا إيمانا يستحقون معه الثواب إلا أن الثواب الذي يستحقونه على ما فعل بهم أعظم وأجل فلهذا منعهم تلك الألطاف
قال أبو محمد وهذا تمويه ضعيف لأننا إنما سألناهم هل يقدر الله تعالى على ألطاف إذا أتى بها أهل الكفر آمنوا إيمانا يستحقون به مثل هذا الثواب الذي يؤتيهم على الإيمان اليوم أو أكثر من ذلك الثواب فلا بد له من ترك قوله أو يعجز ربه تعالى
قال أبو محمد ونسأل جميع أصحاب الأصلح فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن كل من شاهد براهين الأنبياء عليهم السلام ممن لم لا يؤمن به وصحت عنده بنقل التواتر هل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها أنها شواهد موجبة صدق نبوتهم أم لم يصح ذلك عندهم إلا بغالب الظن وبصفة أنها مما يمكن أن يكون تخييلا أو سحرا أو نفلا مدخولا ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا بل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها وثبت ذلك في عقولهم بلا شك

قلنا لهم هذا هو الإضطرار نفسه الذي لا إضطرار في العالم غيره وهذه صفة كل من ثبت عنده شيء ثباتا متيقنا كمن يتيقن بالخبر الموجب للعلم موت فلان وكون صفين والجمل وكسائر ما لم يشاهد المرء بحواسه فالكل على هذا مضطرون إلى الإيمان لا مختارون له وإن قالوا لم يصح عندهم شيء من ذلك هذه الصحة قلنا لهم فما قامت عليهم حجة النبوة قط ولا صحت لله تعالى عليهم حجة ومن كان هكذا فاختياره للإيمان إنما هو استحباب وتقليد وإتباع لما مالت إليه نفسه وغلب ظنه فقط وفي هذا بطلان جميع الشرائع وسقوط حجة الله تعالى وهذا كفر مجرد

الكلام في هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا
قال أبو محمد اختلف المتكلمون في هذه المسألة فقالت المعتزلة أن نعم الله تعالى على الكفار في الدين والدنيا كنعمه على المؤمنين ولا فرق وهذا قول فاسد قد نقضناه آنفا ولله الحمد وقالت طائفة أخرى أن الله تعالى لا نعمة له على كافر أصلا لا في دين ولا دنيا وقالت طائفة له تعالى عليهم نعم في الدنيا فأما في الدين فلا نعمة له عليهم فيه أصلا
قال أبو محمد قال الله عز و جل فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
قال أبو محمد فوجدنا الله عز و جل يقول الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون وقال تعالى الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم
قال أبو محمد فهذا عموم بالخطاب بأنعام الله تعالى على كل من خلق الله تعالى وعموم لمن يشكر من الناس والكفار من جملة ما خلق الله تعالى بلا شك وأما أهل الإسلام فكلهم شاكر لله تعالى بالإقرار به ثم يتفاضلون في الشكر وليس أحد من الخلق يبلغ كل ما عليه من شكر الله تعالى فصح أن نعم الله تعالى في الدنيا على الكفار كهي على المؤمنين وربما أكثر في بعضهم في بعض الأوقات قال تعالى بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وهذا نص جلي على نعم الله تعالى على الكفار وأنهم بدلوها كفرا فلا يحل لأحد أن يعارض كلام ربه تعالى برأيه الفاسد وأما نعمة الله في الدين فإن الله تعالى أرسل إليهم الرسل هادين لهم إلى ما يرضي الله تعالى وهذه نعمة عامة بلا شك فلما كفروا وجحدوا نعم الله تعالى في ذلك أعقبهم البلاء وزوال النعمة كما قال عز و جل إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وبالله تعالى نتأيد وهو حسبنا ونعم الوكيل -
كتاب الإيمان
والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد
قال أبو محمد اختلف الناس في ماهية الإيمان فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان وأبي

الحسن الأشعري البصري وأصحابهما وذهب قوم إلى أن الإيمان هو إقرار باللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه ذهب قوم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معا فإذا عرف المرء الدين بقلبه وأقر بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام وأن الأعمال لا تسمى إيمانا ولكنها شرائع الإيمان وهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من الفقهاء ذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح وأن كل طاعة وعمل خير فرضا كان أو نافلة فهي إيمان وكل ما ازداد الإنسان خيرا ازداد إيمانه وكلما عصى نقص إيمانه وقال محمد بن زياد الحريري الكوفي من آمن بالله عز و جل وكذب برسول الله صلى الله عليه و سلم فليس مؤمنا على الإطلاق ولا كافرا على الإطلاق ولكنه مؤمن كافر لأنه آمن بالله تعالى فهو مؤمن وكافر بالرسول صلى الله عليه و سلم فهو كافر
قال أبو محمد فحجة الجهمية والكرامية والأشعرية ومن ذهب مذهب أبي حنيفة حجة واحدة وهي أنهم قالوا إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين وبلغة العرب خاطبنا الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه و سلم والإيمان في اللغة هو التصديق فقط والعمل بالجوارح لا يسمى في اللغة تصديقا فليس إيمانا قالوا والإيمان هو التوحيد والأعمال لا تسمى توحيدا فليست إيمانا قالوا ولو كانت الأعمال توحيدا وإيمانا لكان من ضيع شيئا منا قد ضيع الإيمان وفارق الإيمان فوجب أن لا يكون مؤمنا قالوا وهذه الحجة إنما تلزم أصحاب الحديث خاصة لا تلزم الخوارج ولا المعتزلة لأنهم يقولون بذهاب الإيمان جملة بإضاعة الأعمال
قال أبو محمد ما لهم حجة غير ما ذكرنا وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلا لما نذكره إن شاء الله عز و جل
قال أبو محمد أن الإيمان هو التصديق في اللغة فهذا حجة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة لأقوالهم إبطالا تاما كافيا لا يحتاج معه إلى غيره وذلك قولهم أن الإيمان في اللغة التي بها نزل القرآن هو التصديق فليس كما قالوا على الإطلاق وما سمى قط التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيمانا في لغة العرب وما قال قط عربي أن من صدق شيئا بقلبه فأعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنه لا يسمى مصدقا به أصلا ولا مؤمنا به البتة وكذلك ما سمي قط التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيمانا في لغة العرب أصلا على الإطلاق ولا يسمى تصديقا في لغة العرب ولا إيمانا مطلقا إلا من صدق بالشيء بقلبه ولسانه معا فبطل تعلق الجهمية والأشعرية باللغة جملة ثم نقول لمن ذهب مذهب أبي حنيفة في أن الإيمان إنما هو التصديق باللسان والقلب معا وتعلق في ذلك باللغة إن تعلقكم باللغة لا حجة لكم فيه أصلا لأن اللغة يجب فيها ضرورة أن كل من صدق بشيء فإنه مؤمن به وأنتم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكم توقعون إسم الإيمان ولا تطلقونه على كل من صدق بشيء ما ولا تطلقونه إلا على صفة محدودة دون سائر الصفات وهي من صدق بالله عز و جل وبرسوله صلى الله عليه و سلم وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة وغير ذلك مما قد أجمعت الأمة على أنه لا يكون مؤمنا من لم يصدق به وهذا خلاف

اللغة مجرد فإن قالوا إن الشريعة أوجبت علينا هذا قلنا صدقتم فلا تتعلقوا باللغة حيث جاءت الشريعة بنقل إسم منها عن موضوعه في اللغة كما فعلتم آنفا سواء بسواء ولا فرق
قال أبو محمد ولو كان ما قالوه صحيحا لوجب أن يطلق إسم الإيمان لكل من صدق بشيء ما ولكان من صدق بالأهية الحلاج وبالأهية المسيح وبالأهية الأوثان مؤمنين لأنهم مصدقون بما صدقوا به وهذا لا يقوله أحد ممن ينتمي إلى الإسلام بل قاله كافر عند جميعهم ونص القرآن يكفر من قال بهذا قال الله تعالى ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا فهذا الله عز و جل شهد بأن قوما يؤمنون ببعض الرسل وبالله تعالى ويكفرون ببعض فلم يجز مع ذلك أن يطلق عليهم إسم الإيمان أصلا با أوجب لهم إسم الكفر بنص القرآن
قال أبو محمد وقول محمد بن زياد الحريري لازم لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة وموجبها وهو قول لم يختلف مسلمان في أنه كفر مجرد وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا
قال أبو محمد فبطل تعلق هذه الطوائف باللغة جملة وأما قولهم أنه لو كان العمل يسمى إيمانا لكان من ضيع منه شيئا فقد أضاع الإيمان ووجب أن لا يكون مؤمنا فإني قلت لبعضهم وقد ألزمني هذا الإلزام كلاما تفسيره وبسطه أننا لا نسمي في الشريعة إسما إلا بأن يأمرنا الله تعالى أن نسميه أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه لأننا لا ندري من أراد الله عز و جل منا إلا بوحي وارد من عنده علينا ومع هذا فإن الله عز و جل يقول منكرا لمن سمى في الشريعة شيئا بغير إذنه عز و جل إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى وقال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لأنسي دون الله تعالى ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز و جل الكذب وخالف القرآن فنحن لا نسمي مؤمنا إلا من سماه الله عز و جل مؤمنا ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلآ عمن أسقطه الله عز و جل عنه ووجدنا بعض الأعمال التي سماها الله عز و جل إيمانا لم يسقط الله عز و جل إسم الإيمان عن تاركها فلم يجز لنا أن نسقطه عنه لذلك لكن نقول أنه ضيع بعض الإيمان ولم يضيع كله كما جاء النص على ما نبين إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها ولم يبق لهم حجة أصلا فلنقل بعون الله عز و جل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان عقد وقول وعمل وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معا بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء البتة إلا أن الله عز و جل على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة على على العقد لكل شيء وأوقعها أيضا تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها وأوقعها أيضا على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به و هو تعالى خالق اللغة وأهلها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء ولا عجب أعجب ممن أوجد لأمريء القيس أو لزهير أو

لجرير أو الحطيئة والطرماح أو لأعرابي أسدي بن سلمى أو تميمي أو من سائر أبناء العرب بوال على عقبيه لفظا في شعر أو نثر جملة في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاما لم يلتفت إليه ولا جعله حجة وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه وإذا وجد لرسول الله صلى الله عليه و سلم كلاما فعل به مثل ذلك وتالله لقد كان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة وأيام كونه فتى بمكة بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل أعلم بلغة قومه وأفصح فيها وأولى بأن يكون ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفى وقيسي وربيعي وأيادي وتميمي وقضاعي وحميري فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارةواجتباه للوساطة بينه وبين خلقه وأجى على لسانه كلامه وضمن حفظه وحفظ ما يأتي به فأي ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يقول ... فعلت فروع إلا يهقان وأطفلت ... لجلهتين ظباؤها ونعامها ...
فجعله حجة وأبو زياد الكلابي يقول ما عرفت العرب قط إلا يهقان وإنما هو اللهق بيت معروف ويسمع قول ابن أحمر كناه نقلق عن مأموسة الحجر وعلماء اللغة يقولون أنه لم يعرف قط لأحد من العرب أنه سمى النار مأموسى إلا ابن أحمر فيجعله حجة ويجيز قول من قال من الأعراب هذا حجر من خرب وسائر الشواذ من معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره ونحتج بكل ذلك ثم يمتنع من إيقاع إسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم محمد بن عبد الله القرشي المسترضع في بني سعد بن بكر ويكابر في ذلك بكل باطل وبكل حماقة وبكل دفع للمشاهدة ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد فمن الآيات التي أوقع الله تعالى فيها إسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز و جل هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم
قال أبو محمد والتصديق بالشيء أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص لأنه لا يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقر أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن يصدق بما اعتقد وأقر وإما أن يكذب بما اعتقد وأما منزلة بينهما وهي الشك فمن المحال أن يكون إنسان مكذبا بما يصدق به ومن المحال أن يشك أحد فيما يصدق به فلم يبق إلا أنه مصدق بما اعتقد بلا شك ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر لأن أحد التصديقين إذا دخلته داخلة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا بد وحصل في الشك لأن معنى التصديق إنما هو أن يقع ويوقن بصحة وجود ما صدق به ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه فليس مصدقا به وإذا لم يكن مصدقا به فليس مؤمنا به فصح أن الزيادة التي ذكر الله عز و جل في الإيمان ليست في التصديق أصلا ولا في الإعتقاد البتة فهي ضرورة في غير التصديق وليس هاهنا إلا الأعمال فقط فصح يقينا أن أعمال البر إيمان بنص القرآن وكذلك قول الله عز و جل فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وقوله تعالى الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا فإن قال قائل معنى زيادة الإيمان هاهنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا بها فزادهم بنزولها إيمانا تصديقا بشيء وارد لم يكن عندهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال لأنه

قد أعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة و السلام في المستأنف فلم يزدهم نزول الآية تصديقا لم يكونوا إعتقدوه فصح أن الأيمان الذي زادتهم الآيات إنما هوألعمل بها ألذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قط ولا كان جائزا لهم أن يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضا عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه ولا عدد للأعتقاد ولا كمية وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط فأن قالوا أن تلاوتهم لها زيادة إيمان قلنا صدقتم وهذا هو قولنا والتلاوة عمل بجارحه اللسان ليس إقرارا بالمعتقد و لكنه من نوع الذكر بالتسبيح والتهليل وقال تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم ولم يزل أهل الأسلام قبل الجهمية والأشعرية والكرامية وسائر المرجئة مجمعين على انه تعالى إنما عني بذلك صلاتهم الى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة الى الكعبة وقال عز و جل اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا وقال عز و جل وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة فنص تعالى على أن عبادة الله تعالى في حال إخلاص الدين له تعالىوإقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواردتين في الشريعة كله دين القيمة وقال تعالى إن الدين عند الله الأسلام وقال تعالى ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين فنص تعالى على أن الدين هو الأسلام ونص قبل على أن العبادات كلها والصلاة والزكاة هي الدين فأنتج ذلك يقينا أن العبادات هي الدين والدين هو الأسلام فالعبادات كلها هن ألأسلام وقال عز و جل يمنون عليك إن أسلموا وقل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للأيمان إن كنتم صادقين وقال تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين فهذا نص جلى على إن الأسلام هو الأيمان وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البر كلها هي الأسلام والأسلام هو الأيمان فأعمال البر كلها إيمان وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فنص تعالى وأقسم بفسه أن لا يكون مؤمنا إلا بتحكيم النبي صلى الله عليه و سلم في كل ماعن ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب وأنه هو الأيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به فصح يقينا إن الايمان اسم واقع على الأعمال في كل ما في ألشريعة وقال تعالى ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا فصح أن لا يكون ألتصديق مطلقا إيمانا إلا حتى يستضيف إليه ما نص الله تعالى عليه ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام قول الله تعالى ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن ان تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا الى قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحدا فأثبت الله له الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى إذ شك في البعث وقال تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فصح أن من آمن ببعض الدين وكفر بشيء منه فهو كافر مع صحة تصديقه لما صدق من ذلك
قال أبو محمد وأكثر الأسماء الشرعية فإنها موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض فمن يدري اللغة العربية ويدري الأسماء

الشرعية كالصلاة فإن موضوع هذه اللفظة في لغة العرب الدعاء فقط فأوقعها الله عز و جل على حركات محدودة معدودة من قيام موصوف إلى جهة موصوفة لا تتعدى وركوع كذلك وسجود كذلك وقعود كذلك وذكر كذلك وقراءة كذلك وذكر كذلك في أوقات محدودة وبطهارة محدودة وبلباس محدود متى لم تكن على ذلك بطلت ولم تكن صلاة وما عرفت العرب قط شيئا من هذا كله فضلا عن أن تسميه حتى أتانا بهذا كله رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قال بعضهم أن في الصلاة دعاء فلم يخرج الإسم بذلك عن موضوعه في اللغة
قال أبو محمد وهذا باطل لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من أتى بعدد الركعات وقرأ أم القرآن وقرآنا معها في كل ركعة وأتى بعد بالركوع والسجود والجلوس والقيام والتشهد وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم وسلم بتسليمتين فقد صلى كما أمر وإن لم يدع بشيء أصلا وفي الفقهاء من يقول أن من صلى خلف الإمام فلم يقرأ أصلا ولا تشهد ولا دعا أصلا فقد صلى كما أمر وأيضا فإن ذلك الدعاء في الصلاة لا يختلف أحد من الأمة في أنه ليس شيئا ولا يسمى صلاة أصلا عند أحد من أهل الإسلام فعلى كل قد أوقع الله عز و جل إسم الصلاة على أعمال غير الدعاء ولا بد وعلى دعاء محدود لم تعرفه العرب قط ولا عرفت إيقاع الصلاة على دعاء بعينه دون سائر الدعاء ومنها الزكاة وهي موضوع في اللغة للنماء والزيادة فأوقعها الله تعالى على إعطاء مال محدود معدود من جملة أموال ما موصوفة محدودة معدودة معينة دون سائر الأموال لقوم محدودين في أوقات محدودة فإن هو تعدى شيئا من ذلك لم يقع على فعله إسم زكاة ولم تعرف العرب قط هذه الصفات والصيام في لغة العرب الوقوف تقول صام النهار إذا طال حتى صار كأنه واقف لطوله قال امرؤ القيس إذا صام النهار وهجرا وقال آخر وهو النابغة الذبياني ... خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما ...
فأوقع الله تعالى إسم الصيام على الإمتناع من الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء من وقت محدود وهو تبين الفجر الثاني إلى غروب الشمس في أوقات من السنة محدودة فإن تعدى ذلك لم يسم صياما وهذا أمر لم تعرفه العرب قط فظهر فساد قول من قال أن الأسماء لا تنتقل في الشريعة عن موضوعها في اللغة وصح أن قولهم هذا مجاهرة سمجة قبيحة
قال أبو محمد فإذا قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال أنه التصديق فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد لأن معنى الزيادة إنما هي عدد مضاف إلى عدد وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة فيه وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله صلى الله عليه و سلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للرجل الحازم منكن قلن يا رسول الله وما نقصان ديننا قال عليه السلام أليس تقيم المرأة العدد من الأيام والليالي لا تصوم ولا تصلي فهذا نقصان دينها
قال أبو محمد ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقا لأن التصديق لا يتبعض أصلا ولصار شكا وبالله تعالى التوفيق وهم مقرون بأن أمرا لو لم يصدق بأية من القرآن أو بسورة منه وصدق بسائره لبطل إيمانه فصح أن التصديق لا يتبعض أصلا
قال أبو محمد وقد نص الله عز و جل على أن اليهود يعرفون النبي صلى الله عليه و سلم كما يعرفون أبناءهم وأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى فإنهم لا يكذبونك

ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون وأخبر تعالى عن الكفار فقال ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأخبر تعالى أنهم يعرفون صدقة ولا يكذبونه وهم اليهود والنصارى وهم كفار بلا خلاف من أحد من الأمة ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه عن الإسلام ونص تعالى عن إبليس أنه عارف بالله تعالى وبملائكته وبرسله وبالبعث وأنه قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون وقال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون وقال خلقتني من نار وخلقته من طين وكيف لا يكون مصدقا بكل ذلك وهو قد شاهد ابتداء خلق الله تعالى لآدم وخاطبه الله تعالى خطابا كثيرا أو سأله ما منعك أن تسجد وأمره بالخروج من الجنة وأخبره أنه منظر إلى يوم الدين وأنه ممنوع من إغواء من سبقت له الهداية وهو مع ذلك كله كافر بلا خلاف إما بقوله عن آدم أنا خير منه وإما بإمتناعه للسجود لا يشك أحد في ذلك ولو كان الإيمان هو بالتصديق والإقرار فقط لكان جميع المخلدين في النار مع اليهود والنصارى وسائر الكفار مؤمنين لأنهم كلهم مصدقون بكل ما كذبوا به في الدنيا مقرون بكل ذلك لكان إبليس واليهود والنصارى في الدنيا مؤمنين ضرورة وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإنما كفر أهل النار بمنعهم من الأعمال قال تعالى يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون
قال أبو محمد فلجأ هؤلاء المخاذيل إلى أن قالوا أن اليهود والنصارى لم يعرفوا قط أن محمدا رسول الله ومعنى قول الله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي أنهم يميزون صورته ويعرفون أن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي فقط وأن معنى قوله تعالى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إنما هو أنهم يجدون سوادا في بياض لا يدرون ما هو ولا يفهمون معناه وإن إبليس لم يقل شيئا مما ذكر الله عز و جل عنه أنه قال مجدا بل قاله هازلا وقال هؤلاء أيضا أنه ليس على ظهر الأرض ولا كان قط كافر يدري أن الله حق وأن فرعون قط لم يتبين له أن موسى نبي بالآيات التي عمل
قال أبو محمد وقالوا إذا كان الكافر يصدق أن الله حق والتصديق إيمان في اللغة فهو مؤمن إذا أوفيه إيمان ليس به مؤمنا وكلا القولين محال
قال أبو محمد هذه نصوص أقوالهم التي رأيناها في كتبهم وسمعناهم منهم وكان مما احتجوا به لهذا الكفر المجرد إن قالوا أن الله عز و جل سمى كل من ذكرنا كفارا ومشركين فدل ذلك على أنه علم أن في قلوبهم كفرا وشركا وجحدا وقال هؤلاء إن شئتم الله عز و جل وشئتم رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس كفرا لكنه دليل على أن في قلبه كفرا
قال أبو محمد أما قولهم في إخبار الله تعالى عن اليهود أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يعرفون أبناءهم وعن اليهود والنصارى أنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فباطل بحت ومجاهرة لا حياء معها لأنه لو كان كما ذكروا لما كان في ذلك حجة لله تعالى عليهم وأي معنى أو أي فائدة في أن يجيزوا صورته ويعرفوا أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقط أو في أن يجدوا كتابا لا يفقهون معناه فكيف ونص الآية نفسها مكذبة لهم لأنه تعالى يقول الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون فنص تعالى أنهم يعلمون الحق في نبوته وقال في الآية الأخرى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف

وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وإنما أورد تعالى معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم محتجا عليهم بذلك لا أنه أتى من ذلك بكلام لا فائدة فيه وأما قولهم في إبليس فكلام داخل في الإستخفاف بالله عز و جل وبالقرآن لا وجه له غير هذا إذ من المحال الممتنع في العقل وفي الإمكان غاية الإمتناع أن يكون إبليس يوافق في هزله عين الحقيقة في أن الله تعالى كرم آدم عليه السلام وأنه تعالى أمره بالسجود فامتنع وفي أن الله تعالى خلق آدم من طين وخلقه من نار وفي أخباره آدم أن الله تعالى نهاه عن الشجرة وفي دخوله الجنة وخروجه عنها إذا خرجه الله تعالى وفي سؤاله الله تعالى النظرة وفي ذكره يوم يبعث العباد وفي إخباره أن الله تعالى أغواه وفي تهديده ذرية آدم قبل أن يكونوا وقد شاهد الملائكة والجنة وابتداء خلق آدم ولا سبيل إلى موافقة هازل معنيين صحيحين لا يعلمها فكيف بهذه الأمور العظيمة وأخرى أن الله تعالى حاشى له من أن يجيب هازلا بما يقتضيه معنى هزله فإنه تعالى أمره بالسجود ثم سأله عما منعه من السجود ثم أجابه إلى النظرة التي سأل ثم أخرجه عن الجنة وأخبره أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ولحق بالمجانين الوقحاء وأما قولهم أن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلا على أن في قلوبهم كفرا وإن شتم الله تعالى ليس كفر ولكنه دليل على أن في القلب كفرا وأن كان كافرا لم يعرف الله تعالى قط فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراه لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلا ولا من أجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فأما القرآن فإن الله عز و جل يقول ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فأخبر تعالى بأنهم يصدقون بالله تعالى وهم مع ذلك مشركون وقال تعالى وأن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم
قال أبو محمد هذه شهادة من الله مكذبة لقول هؤلاء الضلال لا يردها مسلم أصلا
قال أبو محمد وبلغنا عن بعضهم أنه قال في قول الله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم إن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظن منهم
قال أبو محمد وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ويرد ما شئت منه
قال أبو محمد فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال والنساء من الذين أوتوا الكتاب لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء فيكون من فعل ذلك مفتريا على الله تعالى وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال والخطاب بلفظ الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال وقد علمنا أن النساء يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين والوجه الثاني هو أن الله تعالى لم يقل كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم فكان يسوغ لهذا الجاهل حينئذ هذا التمويه البارد بإستكراه أيضا وإنما قال

قال تعالى كما يعرفون أبنائهم فأضاف تعالى النبوة إليهم فمن لم يقل أنهم أبناءهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذب الله تعالى وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة الرجل يكون ابنه فولد الزنا مخلوق من نطفة إنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلا وإنما أبناؤنا من جعلهم الله أبناءنا فقط كما أن الله تعالى جعل أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم أمهات المؤمنين منهن أمهاتنا وإن لم يلدننا ونحن أبناؤهن وإن لم نخرج من بطونهن فمن أنكر هذا فنحن نصدقه لأنه حينئذ ليس مؤمنا فلسن أمهاته ولا هو ابن لهن والوجه الثالث هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكتا للذين أوتوا الكتاب لا معتذرا عنهم لكن مخبرا بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي صلى الله عليه و سلم بآياته وبما وجدوا في التوراة والأنجيل معرفة قاطعة لا شك فيها كما يعرفون أبناءهم ثم اتبع ذلك تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به فبطل هذر هذا الجاهل المخذول والحمد لله رب العالمين وقال عز و جل لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فنص تعالى على أن الرشد قد تبين من الغي عموما وقال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وهذا نص جلي من خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة وقد تبين له الحق فبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه مصدق بلا شك بقلبه وقال تعالى فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا
قال أبو محمد وهذا أيضا نص جلي لا يحتمل تأويلا على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق ولم يجحدوا قط أنها كانت وإنما جحدوا أنها من عند الله فصح أن الذي استيقنوا منها هو الذي جحدوا وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة أنهم إنما استيقنوا كونها وهي عندهم حيل لا حقائق إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من ا لله تعالى كذبا تعالى الله عن ذلك لأنهم لم يجحدوا كونها وإنما جحدوا أنها من عند الله وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر قال أن فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى فقد كذب ربه تعالى وهذا كفر مجرد وقد شغب بعضهم بأن هذه الآي قرئت لقد علمت بضم التاء
قال أبو محمد وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء فنعم موسى عليه السلام علم ذلك وفرعون علم ذلك فهذه نصوص القرآن وأما من طريق المعقول والمشاهدة والنظر فإنا نقول لهم هل قامت حجة الله تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبين براهينه عز و جل لهم أم لم تقم حجة الله تعالى عليهم قط إذ لم يتبين الحق قط لكافر فإن قالوا أن حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار كفروا بلا خلاف من أحد وعذروا الكفار وخالفوا الإجماع وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على الكفار بأن الحق تبين لهم صدقوا ورجعوا إلى الحق وإلى قول أهل الإسلام وبرهان آخر أن كان أحد منا مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين

بالله تعالى وبنبوة موسى عليه السلام وأن الله تعالى حرم على اليهود العمل في السبت والتحوم فمن الباطل أن يتواطؤا كلهم في شرق الأرض وغربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى ذلك وبرهان آخر وهو أنا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم أسلموا وحسن إسلامهم وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله تعالى حق وأن نبوة موسى وهارون حق كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا فرق ومن أنكر هذا فقد كابر عقله وحسه ولحق بمن لا يستحق أن يكلم وبرهان آخر وهو أنهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري فوجب من هذين الحكمين أن اليهود والنصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليه السلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة نبوته من أجلها وهذا لا محيد لهم عنه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم إن شئتم الله تعالى كفرا وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو دعوى لأن الله تعالى قال يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر وقال تعالى وإذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع وقال تعالى قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فنص تعالى على أن الإستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر فخرج عن الإيمان ولم يقل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبكم كفرا بل جعلهم كفارا بنفس الإستهزاء ومن أدعى غير هذا فقد قول ا لله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى وقال عز و جل إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليوطؤا عدة ما حرم الله
قال أبو محمد وبحكم اللغة التي بها نزل القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره فصح أن النسيء كفر وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز و جل لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى أو جحد رسوله صلى الله عليه و سلم فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعا أما القتل واما أخذ الجزية وسائر أحكام الكفر وما شك قط أحد في هل هم في باطن امرهم منؤمنين أم لا ولا فكروا في هذا ولا رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أحد من أصحابه ولا أحد بعدهم وأما قولهم أن الكفار إذا كانوا مصدقين بالله تعالى ونبيه بقلوبهم والتصديق في اللغة التي بها نزل القرآن هو الأيمان ففيهم بلا شك أيمان فالواجب أن يكونوا بأيمانهم ذلك مؤمنين أو أن يكون فيهم إيمان ليسوا بكونه فيهم مؤمنين ولابد من أحد الأمرين قال أبو محمد وهذا تمويه فاسد لأن التسمية كما قد منا الله تعالى لا دونه وقد أوضحنا البراهين على أن الله تعالى نقل إسم الإيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وحرم في الديانة إيقاع إسم الإيمان على التصديق المطلق ولولا نقل الله تعالى للفظة الإيمان كما ذكرنا

لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمنا وأن يخبر عنهم بأن فيهم إيمانا لأنهم مؤمنون ولا بد بأشياء كثيرة مما في العالم يصدقون بها هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل فلما صح إجماعنا وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على أنهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا يحل لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق ولا أن يقول أن لهم إيمانا مطلقا أصلا لم يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حق والمصدق بقلبه أن محمدا رسول الله أنه مؤمن ولا أن فيه إيمانا أصلا إلا حتى يأتي بما نقل الله تعالى إليه إسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دينه ثم يتمادى بإقراره على ما لا يتم إيمان إلا بالإقرار به حتى يموت لكنا نقول أن في الكافر تصديقا بالله تعالى هو به مصدق بالله تعالى وليس بذلك مؤمنا ولا فيه إيمان كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري
قال أبو محمد فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله وقد نص على تكفيرهم أبو عبيد القاسم في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره ولنا كتاب كبير نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان افريقية وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وأما من قال أن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان فإنهم احتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم وجميع أصحابه رضي الله عنهم وكل من بعدهم قد صح إجماعهم على أن من أعلن بلسانه بشهادة الإسلام فإنه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام وبقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في السوداء أعتقها فإنها مؤمنة وبقوله صلى الله عليه و سلم لعمه أبو طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله عز و جل
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم فيه إما بالإجماع المذكور فصحيح وإنما حكمنا لهم بحكم الإيمان في الظاهر ولم نقطع على أنه عند الله تعالى مؤمن وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما أرسلت به فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقال عليه السلام من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه وأما قوله عليه السلام في السوداء أنها مؤمنة فظاهر الأمر كما قال عليه السلام إذ قال له خالد بن الوليد رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال عليه السلام إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس وأما قوله لعمه أحاج لك بها عند الله فنعم يحاج بها على ظاهر الأمر وحسابه على الله تعالى فبطل كل ما موهوا به ثم نبين بطلان قولهم إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى نتأيد أنه يبين بطلان قول هؤلاء قول الله عز و جل ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وقوله عز و جل يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وقوله

قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقال تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا
قال أبو محمد فإن قالوا إنما هذه الآية بمعنى أن هذه الأفعال تدل على أن في القلب إيمانا قلنا لهم لو كان ما قلتم لوجب ولا بد أن يكون ترك من ترك شيئا من هذه الأفعال دليلا على أنه ليس في قلبه إيمان وأنتم لا تقولون هذا أصلا مع أن هذا صرف للآية عن وجهها وهذا لا يجوز إلا ببرهان وقولهم هذا دعوى بلا برهان وقال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون وقال تعالى والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فأثبت عز و جل لهم الإيمان الذي هو التصديق ثم أسقط عنا ولايتهم إذ لم يهاجروا فأبطل إيمانهم المطلق ثم قال تعالى والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا فصح يقينا أن هذه الأعمال إيمان حق وعدمها ليس إيمانا وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق
وقال تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون فنص عز و جل في هذه الآية على أن من أمن بلسانه ولم يعتقد الإيمان بقلبه فإنه كافر ثم أخبرنا تعالى بالمؤمنين من هم وأنهم الذين آمنوا وأيقنوا بألسنتهم وقلوبهم معا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون
قال أبو محمد ويلزمهم أن المنافقين مؤمنون لإقراهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام وقد قال تعالى إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا وقال تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أ نك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون اتخذوا إيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله أنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فقطع الله تعالى عليهم بالكفر كما ترى لأنهم أبطنوا الكفر
قال أبو محمد وبرهان آخر وهو أن الإقرار باللسان دون عقد القلب لأحكم له عند الله عز و جل لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكيا وقارئا له في القرآن فلا يكون بذلك كافرا حتى يقر أنه عقده
قال أبو محمد فإن احتج بهذا أهل المقالة الأولى وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفرا قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية ليست لنا وإنما هي لله تعالى فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر خرج القاريء للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز و جل والإيمان بحكايته ما نص الله تعالى بأداء الشهادة بالحق فقال تعالى ألا من شبهه بالحق وهم يعلمون خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافر إلى رضى الله عز و جل والإيمان ولما قال تعالى إلا من إكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا أخرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافر إلى رخصة الله تعالى والثبات على الإيمان وبقي من أظهر الكفر لا قاريا ولا شاهدا ولا حاكيا ولا مكرها على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك وبنص القرآن

على من قال كلمة الكفر أنه كافر وليس قول الله عز و جل ولكن من شرح بالكفر صدرا على ما ظنوه من إعتقاد الكفر فقط بل كل من نطق بالكلام الذي يحكم لقائله عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قاريا ولا شاهدا ولا حاكيا ولا مكرها فقد شرح بالكفر صدرا بمعنى أنه شرح صدره لقبول الكفر المحرم على أهل الإسلام وعلى أهل الكفر أن يقولوه وسواء اعتقده أو لم يعتقده لأن هذا العمل من إعلان الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به فبطل تمويههم بهذه الآية وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون فنص الله تعالى على الإيمان أنه شيء قبل نفي الإرتياب ونفي الإرتياب لا يكون ضرورة إلا بالقلب وحده فصح أن الإيمان إذ هو قبل نفي الإرتياب شيء آخر غير نفي الإرتياب والذي قبل نفي الإرتياب هو القول باللسان ثم التصديق بالقلب والجهاد مع ذلك بالبدن والنفس والمال فلا يتم الإيمان بنص كلام الله عز و جل إلا بهذه الأقسام كلها فبطل بهذا النص قول من زعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو القول باللسان وحده أو كلاهما فقط دون العمل بالبدن وبرهان آخر وهو أن نقول لهم أخبرونا عن أهل النار المخلدين فيها الذين ماتوا على الكفر أهم حين كونهم في النار عارفون بقلوبهم صحة التوحيد والنبوة الذي بجحدهم لكل ذلك أدخلوا النار وهل هم حيئذ مقرون بذلك بألسنتهم أم لا ولا بد من أحدهما فإن قالوا هم عارفون بكل ذلك مقرون به بألسنتهم وقلوبهم قلنا أهم مؤمنون أم غير مؤمنين فإن قالوا هم غير مؤمنين قلنا قد تركتم قولكم إن الإيمان هو المعرفة بالقلب أو الإقرار باللسان فقط أو كلاهما فقط فإن قالوا هذا حكم الآخرة قلنا لهم فإذا جوزتم نقل الأسماء عن موضوعها في اللغة في الآخرة فمن أين منعتم من ذلك في الدنيا ولم تجوزوه لله عز و جل فيها وليس في الحماقة أكثر من هذا وإن قالوا بل هم مؤمنون قلنا لهم فالنار إذن أعدت للمؤمنين لا للكافرين وهي دار المؤمنين وهذا خلاف القرآن والسنن وإجماع أهل الإسلام المتقين وإن قالوا بل هم غير عارفين بالتوحيد ولا بصحة النبوة في حال كونهم في النار أكذبهم نصوص القرآن وكذبوا ربهم عز و جل في إخباره أنهم عارفون بكل ذلك هاتفون به بألسنتهم راغبون في الرجعة وإلا قاله نادمون على ما سلف منهم وكذبوا نصوص المعقول وجاهروا بالمحال إذ جعلوا من شاهد القيامة والحساب والجزاء غير عارف بصحة ذلك فصح بهذا أن لا إيمان ولا كفر إلا ما سماه الله تعالى إيمانا وكفرا وشركا فقط ولا مؤمن ولا كافر ولا مشرك إلا من سماه الله تعالى بشيء من ذلك أما في القرآن وأما على لسان النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وأما من قال أن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللسان دون العمل بالجوارح فلا نكفر من قال بهذه المقاله وإن كانت خطأ وبدعة واحتجوا بأن قالوا أخبرونا عمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وبريء من كل دين حاشا الإسلام وصدق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم واعتقد ذلك بقلبه ومات أثر ذلك أمؤمن هو أم لا فإن جوابنا أنه مؤمن بلا شك عند الله عز و جل وعندنا قالوا فأخبرونا أناقص الإيمان هو أم كامل الإيمان قالوا فإن قلتم أنه كامل الإيمان فهذا قولنا وإن قلتم أنه ناقص الإيمان سألناكم ماذا نقصه

من الإيمان وماذا معه مع الإيمان
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان زائد بأعمال لم يعملها وهذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل أعمالا منه حتى يبلغ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا أحد أتم إيمانا منه بمعنى أحسن أعمالا منه وأما قوله ما الذي نقصه من الإيمان فإنه نقصه الأعمال التي عملها غيره والتي ربنا عز و جل أعلم بمقاديرها
قال أبو محمد ومما يبين أن إسم الإيمان في الشريعة منقول عن موضوعه في اللغة وإن الكفر أيضا كذلك فإن الكفر في اللغة التغطية وسمى الزراع كافرا لتغطيته الحب وسمى الليل كافرا لتغطيته كل شيء قال الله عز و جل فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع وقال تعالى كزرع أعجب الكفار نباته يعني الزراع وقال لبيد بن ربيعة يمينها ألقت زكاة في كافر يعني الليل ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن أو جحد شيء مما أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم مما صح عند جاحده بنقل الكافة أو عمل شيء قام البرهان بأن العمل به كفر مما قد بيناه في كتاب الإيصال والحمد لله رب العالمين فلو أن إنسانا قال أن محمدا عليه الصلاة و السلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها ولما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وكذلك لو قال أن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وهو يريد مؤمنون بدين الكفر فصح عند كل ذي مسكة من يتحيز أن إسم الإيمان والكفر منقولان في الشريعة عن موضوعهما في اللغة بيقين لا شك فيه وأنه لا يجوز إيقاع إسم الإيمان المطلق على معنى التصديق بأي شيء صدق به المرء ولا يجوز إيقاع اسم الكفر على معنى التغطية لأي شيء غطاه المرء لكن على ما أوقع الله تعالى عليه اسم الإيمان واسم الكفر ولا مزيد وثبت يقينا أن ما عدا هذا ضلال مخالف للقرآن وللسنن ولإجماع أهل الإسلام أولهم عن آخرهم وبالله تعالى التوفيق وبقي حكم التصديق على حالة في اللغة لا يختلف في ذلك إنسي ولا جني ولا كافر ولا مؤمن فكل من صدق بشيء فهو مصدق به فمن صدق بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه و سلم ولم يصدق بما لا يتم الإيمان إلا به فهو مصدق بالله تعالى أو برسوله صلى الله عليه و سلم وليس مؤمنا ولا مسلما لكنه كافر مشرك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين

اعترافات للمرجئية الطبقات الثلاث المذكورة
قال أبو محمد إن قال قائل أليس الكفر ضد الإيمان قلنا وبالله تعالى التوفيق إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان إسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا فمن تلك المعاني شيء يكون الكفر ضدا له ومنها ما يكون الفسق ضدا له لا الكفر ومنها ما يكون الترك ضدا له لا الكفر ولا الفسق فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضدا له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضدا له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضا فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لا كفر وأما الإيمان الذي يكون الترك له

ضدا فهو كل ما كان من الأعمال تطوعا فإن تركه ضد العمل به وليس فسقا ولا كفرا برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النصوص بتسمية الله عز و جل أعمال البر كلها إيمانا وتسميته تعالى ما سمى كفرا وما سمى فسقا وما سمى معصية وما سمى إباحة لا معصيه ولا كفرا ولا إيمانا و قد قلنا أن التسمية لله عز و جل لا لأحد غيره فإن قال قائل منهم أليس جحد الله عز و جل بالقلب فقط لا باللسان كفرا فلا بد من نعم قال فيجب على هذا أن يكون التصديق باللسان وحده أيمانا فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا كان يصح لكم لو كان التصديق بالقلب وحده أو باللسان وحده إيمانا وقد أوضحنا آنفا أنه ليس شيء من ذلك على إنفراده إيمانا وأنه ليس إيمانا إلا ما سماه الله عز و جل إيمانا وليس الكفر إلا ما سماه الله عز و جل كفرا فقط فإن قال قائل من أهل الطائفة الثالثة أليس جحد الله تعالى بالقلب وباللسان هو الكفر كله فكذلك يجب أن يكون الإقرار بالله تعالى باللسان والقلب هو الإيمان كله وبالله تعالى نتأيد ليس شيء مما قلتم بل الجحد لشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفر كفر والعمل بشيء مما قام البرهان بأنه كفر كفر فالكفر يزيد وكلما زاد فيه فهو كفر والكفر ينقص وكله مع ذلك ما بقي منه وما نقص فكله كفر وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض وكله كفر وقد أخبر تعالى عن بعض الكفر أنه تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وقال عز و جل هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ثم قال إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقال تعالى أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فأخبر تعالى أن قوما يضاعف لهم العذاب فإذ كل هذا قول الله عز و جل وقوله الحق فالجزاء على قدر الكفر بالنص وبعض الجزاء أشد من بعض بالنصوص ضرورة والإيمان أيضا يتفاضل بنصوص صحاح وردت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والجزاء عليه في الجنة بتفاضل بلا خلاف فإن قال من الطبقتين الأوليتين أليس من قولكم من عرف الله عز و جل والنبي صلى الله عليه و سلم وأقر بهما بقلبه فقط إلا أنه منكر بلسانه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر وكذلك من قولكم أن من أقر بالله عز و جل وبرسوله صلى الله عليه و سلم بلسانه فقط إلا أنه منكر بقلبه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر
قال أبو محمد فجوابنا نعم هكذا نقول قالوا فقد وجب من قولكم إذا كان بما ذكرنا كافرا أن يكون فعله ذلك كفرا ولا بد أذ لا يكون كافرا إلا بكفره فيجب على قولكم أن الإقرار بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه و سلم بالقلب كفر ولا بد ويكون الإقرار بالله تعالى أيضا وبرسوله صلى الله عليه و سلم باللسان أيضا كفر ولا بد وأنتم تقولون أنهما إيما فقد وجب على قولكم أن يكونا كفرا إيمانا وفاعلهما كافرا مؤمنا معا وهذا كما ترون
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا شغب ضعيف وإلزام كاذب سموه لأننا لم نقل قط أن من أعتقد وصدق بقلبه فقط وبالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه و سلم وأنكر بلسانه ذلك أو بعضه فإن إعتقاده لتصديق ذلك كفر ولا أنه كان بذلك كافرا وإنما قلنا أنه كفر بترك إقراره بذلك بلسانه فهذا هو الكفر وبه صار كافرا وبه أباح الله تعالى دمه أو أخذ الجزية منه بإجماعكم معنا وإجماع أهل الإسلام وكان تصديقه بقلبه فقط بكل ذلك لغوا محبطا كأنه لم يكن ليس إيمانا ولا كفرا ولا طاعة ولا معصية قال تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي

ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وبالضرورة يدري كل مسلم أن من حبط عمله وبطل فقد سقط حكمه وتأثيره ولم يبق له رسم وكذلك لم نقل أن من أقر بلسانه وحده بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه و سلم وجحد بقلبه أن أقراره بذلك بلسانه كفر ولا أنه كان به كافرا لكنه كان كافرا بجحده بقلبه لما جحد من ذلك وجحده لذلك هو الكفر وكان إقراره بكل ذلك بلسانه لغوا محبطا كما ذكرنا لا إيمانا ولا كفرا ولا طاعة ولا معصية وبالله تعالى التوفيق فسقط هذا الإيهام الفاسد فإن قال قائل منهم أليس بعض الإيمان إيمانا وبعض الكفر كفرا وأراد أن يلزمنا من هذا أن العقد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح إذا كان ذلك إيمانا فإبعاضه إذا إنفردت إيمانا أو أن نقول أن أبعاض الإيمان ليست إيمانا فيموه بهذا
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا نقول ونصرح أنه ليس بعض الإيمان إيمانا أصلا بل الإيمان متركب من أشياء إذا أجتمعت صارت إيمان كالبلق ليس السواد وحده بلقا ولا البياض وحده بلقا فإذا أجتمعا صارا بلقا وكالباب ليس الخشب وحده بابا ولا المسامير وحدها بابا فإذا إجتمعا على شكل سمي حينئذ بابا وكالصلاة فإن القيام وحده ليس صلاة ولا الركوع وحده صلاة ولا الجلوس وحده صلاة ولا القراءة وحدها صلاة ولا الذكر وحده صلاة ولا إستقبال القبلة وحده صلاة أصلا فإذا إجتمع كل ذلك سمي المجتمع حينئذ صلاة وكذلك الصيام المفترض والمندوب إليه ليس صيام كل ساعة من النهار على إنفرادها صياما فإذا إجتمع صيامها كلها يسمى صياما وقد يقع في اليوم الأكل والجماع والشراب سهوا فلا يمنع ذلك من أن يكون صيامه صحيحا والتسمية لله عز و جل كما قدمنا لا لأحد دونه بل من الإيمان شيء إذا إنفردكان كفرا كمن قال مصدقا بقلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله فهذا إيمان فلو أفرد لا إله وسكت وسكوت قطع كفر بلا خلاف من أحد ثم نسألهم فنقول لهم فإذا انفرد صيامه أو صلاته دون إيمان أهي طاعة فمن قولهم لا فقد صاروا فيما أرادوا أن يموهوا به علينا من أن أبعاض الطاعات إذا أنفردت لم تكن طاعة بل كانت معصية وإذا اجتمعت كانت طاعة
قال أبو محمد فإن قالوا إذا كان النطق باللسان عندكم إيمانا فيجب إذا عدم النطق بأن يسكت الإنسان بعد إقراره أن يكون سكوته كفرا فيكون بسكوته كافرا قلنا أن هذا يلزمنا عندكم فما تقولون إن سألكم أصحاب محمد بن كرام فقالوا لكم إذا كان الإعتقاد بالقلب هو الإيمان عندكم فيجب إذا سها عن الإعتقاد وإحضاره ذكره أما في حال حديثه مع من يتحدث أو في حال فكره أو نومه أن يكون كافرا وأن يكون ذلك السهو كفرا فجوابهم أنه محمول على ما صح منه من الإقرار باللسان
قال أبو محمد ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم إن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلى الله عليه و سلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفرا لكنه دليل على أن في القلب كفرا أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به فتثبتونه يقينا ولا تشكون في أن في قلبه جحدا للربوبية وللنبوة أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر ولا بد من أحدهما فإن قالوا أنه دليل لا نقطع به قطعا ولا نثبته يقينا قلنا لهم فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من

الحق شيئا واعجب من هذا انكم انما قلتم إن إعلان الكفر إنما قلنا أنه دليل على أن في القلب كفرا لأن الله تعالى سماهم كفارا فلا يمكننا رد شهادة الله تعالى فعاد هذا البلاء عليكم لأنكم قطعتم أنها شهادة الله عز و جل ثم لم تصدقوا شهادته ولا قطعتم بها بل شككتم فيها وهذا تكذيب من لإخفاء به وأما نحن فمعاذ الله من أن نقول او نعتقد أن الله تعالى شهد بهذا قط بل من إدعى أن الله شهد بأن من أعلن الكفر فأنه جاحد بقلبه كذب على الله عز و جل وافترى عليه بل هذه شهادة الشيطان التي أضل بها أولياءه وما شهد الله تعالى إلا بضد هذا وبأنهم يعرفون الحق ويكتمونه ويعرفون أن الله تعالى حق وإن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم حقا ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك وما سماهم الله عز و جل قط كفارا إلا بما ظهر منهم بالسنتهم وأفعالهم كما فعل بإبليس وأهل الكتاب وغيرهم وإن قالوا بل يثبت بهذا الدليل ونقطع به ونوقن أن كل من أعلن بما يوجب إطلاق اسم الكفر عليه في الشريعة فإنه جاحد بقلبه قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق هذا باطل من وجوه اولها أنه دعوى بلا برهان وثانيها أنه علم غيب لا يعلمه إلا الله عز و جل والذي يضمره وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس فمدعى هذا معدي علم غيب ومدعي علم الغيب كاذب وثالثها إن القرآن والسنن كما ذكرنا قد جاءت النصوص فيهما بخلاف هذا كما تلونا قبل ورابعها إن كان الأمر كما تقولون فمن أين اقتصرتم بالإيمان على عقد القلب فقط ولم تراعوا إقرار اللسان وكلاهما عندكم مرتبط بالآخر لا يمكن انفرادهما وهذا يبطل قولكم إنه إذا اعتقد الإيمان بقلبه لم يكن كافرا باعلانه الكفر فجوزتم أن يكون يعلن الكفر من يبطن الإيمان فظهر تناقض مذهبهم وعظيم فساده وخامسها أنه كان اعلان الكفر باللسان دليلا على الجحد بالقلب والكفر به ولا بد فإن اعلان الإيمان باللسان يجب أيضا أن يكون دليلا قاطعا باتا ولا بد على أن في القلب إيمانا وتصديقا لا شك فيه لأن الله تعالى سمي هؤلاء مؤمنين كما سمى أؤلئك كفارا ولا فرق بين الشهادتين فإن قالوا إن الله تعالى قد أخبر عن المنافقين المعلنين بالإيمان المبطنين للكفر والجحد قيل لهم وكذلك أعلمنا الله تعالى وأخبرنا ان إبليس وأهل الكتاب والكفار بالنبوة أنهم يعلنون الكفر ويبطنون التصديق ويؤمنون بأن الله تعالى حق وإن رسوله حق يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولا فرق وكل ما موهتم به من الباطل والكذب في هؤلاء امكن للمرامية مثله سواء بسواء في المنافقين وقالوا لم يكفروا قط بإبطانهم الكفر لكن لما سماهم الله بأنهم آمنوا ثم كفروا علمنا أنهم نطقوا بعد ذلك بالكفر والجحد بشهادة الله تعالى بذلك كما إدعيتم أنتم شهادته تعالى على ما في نفوس الكفار ولا فرق
قال أبو محمد وكلتا الشهادتين من هاتين الطائفتين كذب على الله عز و جل تعالى وما شهد الله عز و جل قط على إبليس وأولى الكتاب بالكفر إلا بما أعلنوه من الإستخفاف بالنبوة وبآدم وبالنبي صلى الله عليه و سلم فقط ولا شهد تعالى قط على المنافقين بالكفر إلا بما بطنوه من الكفر فقط وأما هذا فتحريف للكلم عن مواضعه وافك مفترى ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد ونظروا قولهم قالوا مثل هذا أن نقول رسول الله ص - لا يدخل

هذه الدار اليوم إلا كافر أو يقول كل من دخل هذه الدار اليوم فهو كافر قالوا فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر لا أن دخول الدار كفر
قال أبو محمد وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقا بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه و سلم الا إن تصديقه ذلك قد حبط بدخوله الدار وبرهان ذلك أنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار لا يحل البتة لعائشة ولا لأبي بكر ولا لعلي ولا لأحد من ازواج النبي صلى الله عليه و سلم ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم كما أن الله تعالى قد نص على أنه علم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفارا بلا شك بنفس دخولهم فيها ولحبط إيمانهم فإن قالوا فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا كانوا هم قد كفروا لأنهم بهذا القول قاطعون بأن كلامه صلى الله عليه و سلم كذب في قوله لا يدخلها إلا كافرا واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول ... إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا ...
قال أبو محمد فجوابنا على هذا الإحتجاج أن نقول ملعون ملعون قائل هذا البيت وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز و جل وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافرا وإنما هي قضية عقلية فالعقل والحس يكذب بأن هذا البيت وقضية شرعية فالله عز و جل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز و جل يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم فقد أخبر عز و جل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله أن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد فأما نحن فنصدق الله عز و جل ونكذب الأخطل ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه الله وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا أن ا لله عز و جل قال ولتعرفهم في لحن القول قلنا لولا أن الله عز و جل عرفه بهم ولده عليهم بلحن القول ما كان لحن قولهم دليلا عليهم ولم يطلق الله تعالى على هذا على كل أحد بل على أولئك خاصة بل قد نص تعالى على آخرين بخلاف ذلك إذ يقول وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم فهؤلاء من أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق لم يعلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بلحن قولهم ولو أن الناس لم يضربوا قط كلام ربهم تعالى بعضه ببعض وأخذوه كله على مقتضاه لأهتدوا ولكن من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وقد قال عز و جل إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم ا لهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم أسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم فجعلهم تعالى مرتدين كفرا بعد علمهم الحق وبعد أن تبين لهم الهدى بقوله للكفار ما قالوا فقط وأخبرنا تعالى أنه يعرف أسرارهم ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق بل قد صح أن في سرهم التصديق لأن الهدى قد تبين لهم ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلا وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم بإتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا

لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه و سلم دون جحد كان منهم أصلا ولو كان منهم جحدا لشعروا له والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفرا مبطلا لإيمان فاعله جملة ومنه ما لا يكون كفرا لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد
قال أبو محمد فإن قال قائل من أين قلتم أن التصديق لا يتفاضل ونحن نجد خضرة أشد خضرة وشجاعة أشد من شجاعة لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيات من صفات النفس معا فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن كل ما قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما يقبلها بمزاج يدخله من كيفية أخرى ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده منها وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين أو فيما جاز امتزاج الضدين فيه كما نجد بين الخضرة والبياض وسائط من حمرة وصفرة تمازجهما فتولد حينئذ بالممازجة الشدة والضعف وكالصحة التي هي اعتدال مزاج العفو فإذا مازج ذلك الإعتدال فضل ما كان مرضه بحسب ما ما زجه في الشدة والضعف والشجاعة إنما هي استسهال النفس للثبات والإقدام عند المعارضة في اللقاء فإذا ثبت الإثنان فإثباتا واحدا وأقداما إقداما مستويا فهما في الشجاعة سواء وإذا ثبت أحدهما أو أقدم فوق ثبات الآخر وإقدامه كان أشجع منه وكان الآخر قد مازج ثباته أو إقدامه جبن وأما ما كان من الكيفيات لا يقبل المزاج أصلا فلا سبيل إلى وجود التفاضل فيه وكان ذلك على حسن ما خلقه الله عز و جل من كل ذلك ولا مزيد كاللون فإنه لا سبيل إلى أن يكون لون أشد دخولا في أنه لون من لون آخر إذ لو مازج التصديق غيره لصار كذبا في الوقت ولو مازج التصديق شيئا غيره لصار شكا في الوقت وبطل التصديق جملة وبالله تعالى التوفيق والإيمان قد قلنا أنه ليس هو التصديق وحده بل أشياء مع التصديق كثيرة فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها وفي كيفية إيرادها وبالله تعالى التوفيق وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ثم من في قلبه مثقال برة من إيمان ثم من في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى أدنى أدنى من ذلك إنما أراد عليه السلام من قصد إلى عمل شيء من الخير أو هم به ولم يعمله بعد أن يكون مصدقا بقلبه بالإسلام مقرا بلسانه كما في الحديث المذكور من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال كذا
قال أبو محمد ومن النصوص على أن الأعمال إيمان قول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فنص تعالى نصا جليا لا يحتمل تأويلا و أقسم تعالى بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما شجر بينه وبين غيره ثم يسلم لما حكم به عليه السلام ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى وهذه كلها أعمال باللسان وبالجوارح غير التصديق بلا شك وفي هذه كفاية لمن عقل
قال أبو محمد ومن العجب قولهم أن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيمانا لكنها شرائع الإيمان
قال أبو محمد هذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه و سلم ولا أحدا من

الصحابة رضي الله عنهم بل الإسلام هو الإيمان وهو الشرائع الشرائع هي الإيمان والإسلام وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد واختلف الناس في الكفر والشرك فقالت طائفة هي اسمان واقعان على معنيين وإن كل شرك كفر وليس كل كفر شركا وقال هؤلاء لا شرك إلا قول من جعل لله شريكا قال هؤلاء اليهود والنصارى كفارا لا مشركون وسائر الملل كفار مشركون وهو قول أبي حنيفة وغيره وقال آخرون الكفر والشرك سواء وكل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر وهو قول الشافعي وغيره
قال أبو محمد واحتجت الطائفة الأولى بقول الله عزو جل لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين قالوا ففرق الله تعالى بين الكفار والمشركين وقالوا لفظة الشرك مأخوذة من الشريك فمن لم يجعل لله شريكا فليس شركا
قال أبو محمد هذه عمدة حجتهم ما نعلم لهم حجة غير هاتين
قال أبو محمد أما إحتجاجهم بقول الله عز و جل لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فلو لم يأت في هذا المعنى غير هذا المعنى غير هذه الآية لكانت حجتهم ظاهرة لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا وقال تعالى يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقال تعالى عنهم أنهم قالوا أن الله ثالث ثلاثة وهذا كله تشريك ظاهر لاخفائه فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى فقد صح أنهم مشركون وأن الشرك والكفر إسمان لمعنى واحد وقد قلنا أن التسمية لله عز و جل لا لنا فإذ ذلك كذلك فقد صح أن قوله تعالى الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كقوله تعالى إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار وكقوله تعالى قل من كان عدو ا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة وكقوله تعالى فيها فاكهة ونخل ورمان الرمان من الفاكهة والقرآن نزل بلغة العرب والعرب تعيد الشيء بإسمه وإن كانت قد أجملت ذكره تأكيدا لأمره فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين الكفار والمشركين في اللفظ وبالله تعالى التوفيق وأما إحتجاجهم بأن لفظ الشرك مأخوذ من الشريك فقد قلنا أن التسمية لله عز و جل لا لأحد دونه وله تعالى أن يوقع أي إسم شاء على أي مسمى شاء برهان ذلك أن من أشرك بين عبيدين له في عمل ما أو بين اثنين في هبة وهبها لهما فإنه لا يطلق عليه إسم مشرك ولا يحل أن يقال أن فلانا أشرك ولا أن عمله شرك فصح أنها لفظة منقولة أيضا عن موضوعها في اللغة كما أن الكفر لفظة منقولة أيضا عن موضوعها إلى ما أوقعها الله تعالى عليه والتعجب من أهل هذه المقالة وقولهم أن النصارى ليسوا مشركين وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد لأنهم يقولون كلهم بعبادة الأب والإبن وروح القدس وأن المسيح إله حق ثم يجعلون البراهمة مشركين وهم لا يقرون إلا بالله وحده ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا يجعلوا كافرا إلا من جحد الله تعالى فقط فإن قال قائل كيف اتخذ اليهود والنصارى

أربابا من دون الله وهم ينكرون هذا وقلنا وبالله تعالى التوفيق أن التسميه لله عز و جل فلما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم ويحلون ما أحلوا كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة قد دانوا بها وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أربابا من دون الله وعبادة وهذا هو الشرك بلا خلاف كما سمى كفرهم بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم نبي ناسخ لما هم عليه كفر بالله عز و جل وإن كانوا مصدقين به تعالى لكن لما أحبط الله تعالى تصديقهم سقط حكمه جملة فإن قالوا كيف تقولون أن الكفار مصدقون بالله تعالى والله تعالى يقول لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ويقول تعالى وأما من كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم قلنا وبالله تعالى نتأيد أن كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه فلا بد له من أن يكون مكذبا بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به أو رد أمرا من أمرو الله عز و جل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو كذب به ولم يقل الله تعالى الذي كذب بالله عز و جل لكن قال كذب وتولى ولا قال تعالى وأما من كان من المكذبين بالله وإنما قال من المكذبين الضالين فقط فمن كذب بأمر من أمور الله عز و جل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب على الإطلاق كما سماه الله تعالى وإن كان مصدقا بالله تعالى وبما صدق به
قال أبو محمد فإن قالوا كيف تقولون أن اليهود عارفون بالله تعالى والنصارى والله تعالى يقول قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب قلنا وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية إلى الله عز و جل لا لأحد دونه وقلنا أن إسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة عن التصديق المجرد إلى معنى آخر زائد مع التصديق فلما لم يستوفوا تلك المعاني بطل تصديقهم جملة واستحقوا ببطلانه أن يسموا غير مؤمنين وبالله ولا باليوم الآخر فإن قيل فهل هم مصدقون بالله وباليوم الآخر قلنا نعم فإن قيل ففيهم موحدون لله تعالى قلنا نعم فإن قيل فيهم مؤمنون بالله وبالرسول وباليوم الآخر قلنا لا لأن الله تعالى نص على كل ما قلنا فأخبر تعالى أنهم يعرفونه ويقرون به ويعرفون نبيه صلى الله عليه و سلم وأنه نبي فأقررنا بذلك وأسقط تعالى عنهم إسم الإيمان فأسقطناه عنهم ومن تعدى هذه الطريقة فقد كذب ربه تعالى وخالف القرآن وعاند الرسول وخرق إجماع أهل الإسلام وكابر حسه وعقله مع ذلك وبالله تعالى التوفيق وهكذا نقول فيمن كان مسلما ثم أطلق واعتقد ما يوجب الخروج عن الإسلام كالقول بنبوة إنسان بعد النبي صلى الله عليه و سلم أو تحليل الخمر أو غير ذلك فإنه مصدق بالله عز و جل وبرسوله صلى الله عليه و سلم موحد عالم بكل ذلك وليس مؤمنا مطلقا ولا مؤمنا بالله تعالى ولا بالرسول صلى الله عليه و سلم ولا باليوم الآخر لما ذكرنا آنفا ولا فرق لإجماع الأمة كلها على إستحقاق إسم الكفر على من ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله رب العالمين

الكلام في تسمية المؤمن بالمسلم والمسلم بالمؤمن وهل الإيمان والإسلام
إسمان لمسمى واحد ومعنى واحد أو لمسميين ومعنيين
قال أبو محمد ذهب قوم إلى أن الإسلام والإيمان إسمان واقعان على معنيين وأنه قد يكون مسلم غير مؤمن واحتجوا بقول الله عز و جل قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا

ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وبالحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قال له سعد هل لك يا رسول الله في فلان فإنه مؤمن فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أو مسلم وبالحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أتاه جبريل صلى الله عليه و سلم في صورة فتى غير معروف العين فسأله عن الإسلام فأجابه بأشياء في جملتها أقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال أخر مذكورة في ذلك الحديث وسأله عن الإيمان فأجابه بأشياء من جملتها أن تؤمن بالله وملائكته وبحديث لا يصح من أن المرء يخرج عن الإيمان إلى الإسلام وذهب آخرون إلى أن الإيمان والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد واحتجوا بقول الله عز و جل فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وبقوله تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين
قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الإيمان أصله في اللغة التصديق على الصفة التي ذكرنا قبل ثم أوقعه الله عز و جل في الشريعة على جميع الطاعات واجتناب المعاصي إذا قصد بكل ذلك من عمل أو ترك وجه الله عز و جل وأن الإسلام أصله في اللغة التبرؤ تقول أسلمت أمر كذا إلى فلان إذا تبرأت منه إليه فسمي المسلم مسلما لأنه تبرأ من كل شيء إلى الله عز و جل ثم نقل الله تعالى إسم الإسلام أيضا إلى جميع الطاعات وأيضا فإن التبرؤ إلى الله من كل شيء هو معنى التصديق لأنه لا يبرأ إلى الله تعالى من كل شيء حتى يصدق به فإذا أريد بالإسلام المعنى الذي هو خلاف الكفر وخلاف الفسق فهو والإيمان شيء واحد كما قال تعالى لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقد يكون الإسلام أيضا بمعنى الإستسلام أي أنه استسلم للملة خوف القتل وهو غير معتقد لها فإذا أريد بالإسلام هذا المعنى فهو غير الإيمان وهو الذي أراد الله تعالى بقوله لم تؤمنوا ولكن قولا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وبهذا تتألف النصوص المذكورة من القرآن والسنن وقد قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة فهذا هو الإسلام الذي هو الإيمان فصح أن الإسلام لفظة مشتركة كما ذكرنا ومن البرهان على أنها لفظة منقولة عن موضعها في اللغة أن الإسلام في اللغة هو التبرؤ فأي شيء تبرأ منه المرء فقد أسلم من ذلك الشيء وهو مسلم كما أن من صدق بشيء فقد آمن به وهو مؤمن به وبيقين لا شك فيه يدري كل واحد أن كل كافر على وجه الأرض فإنه مصدق بأشياء كثيرة من أمور دنياه ومتبرىء من أشياء كثيرة ولا يختلف اثنين من أهل الإسلام في أنه لا يحل لأحد أن يطلق على الكافر من أجل ذلك أنه مؤمن ولا أنه مسلم فصح يقينا أن لفظة الإسلام والإيمان منقولة عن موضوعها في اللغة إلى معان محدودة معروفة لم تعرفها العرب قط حتى أنزل الله عز و جل بها الوحي على رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه من أتى بها استحق إسم الإيمان والإسلام وسمي مؤمنا مسلما ومن يأت بها لم يسم مؤمنا ولا مسلما وإن صدق بكل شيء غيرها أو تبرأ من كل شيء حاشى ما أوجبت الشريعة التبرأ منه وكذلك الكفر والشرك لفظتان منقولتان عن موضوعهما في اللغة لأن الكفر في اللغة التغطية والشرك أن تشرك شيئا مع آخر في أي معنى

جمع بينهما ولا خلاف بين أحد من أهل التمييز في أن كل مؤمن في الأرض في أنه يغطي أشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز أن يطلق عليه من أجل ذلك الكفر ولا الشرك ولا أن يسمى كافرا ولا مشركا وصح يقينا أن الله تعالى نقل إسم الكفر والشرك إلى إنكار أشياء لم تعرفها العرب وإلى أعمال لم تعرفها العرب قط كمن جحد الصلاة أو صوم رمضان أو غير ذلك من الشرائع التي لم تعرفها العرب قط حتى أنزل الله تعالى بها وحيه أو كمن عبد وثنا فمن أتى بشيء من تلك الأشياء سمي كافرا أو مشركا ومن لم يأت بشيء من تلك الأشياء لم يسم كافرا ولا مشركا ومن خالف هذا فقد كابر الحس وجحد العيان وخالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم والقرآن والسنن وإجماع المسلمين وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد واختلف الناس في قول المسلم أنا مؤمن فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء أنه كره ذلك وكان يقول أنا مؤمن إن شاء الله وقال بعضهم آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وكانوا يقولون من قال أنا مؤمن فليقل أنه من أهل الجنة
قال أبو محمد فهذا ابن مسعود وأصحابه حجج في اللغة فأين جهال المرجئة المموهون في نصر بدعتهم
قال أبو محمد والقول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز و جل وبمحمد صلى الله عليه و سلم وبكل ما أتى به عليه السلام وأنه يقر بلسانه بكل ذلك فواجب عليه أن يعترف بذلك كما أمر تعالى إذ قال تعالى وأما بنعمة ربك فحدث ولا نعمة أوكد ولا أفضل ولا أولى بالشكر من نعمة الإسلام فواجب عليه أن يقول أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى في وقتي هذا ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها وليس هذا من باب الإمتداح والعجب في شيء لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد قال تعالى وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقول ابن مسعود عندنا صحيح لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة إلى جميع البر والطاعات فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات وهذا صحيح ومن أدعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء إني مؤمن بمعنى مصدق كيف وهو يقول قل آمنت بالله ورسله أي صدقت وأما من قال فقل أنك في الجنة فالجواب أننا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن فلا بد لنا من الجنة بلا شك وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه و سلم وبكل ما جاء به أو لم يأت بما هو كفر فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ولا نأمن مكر الله تعالى ولا إضلاله ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غدا ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد أختلف الناس في تسمية المذنب من أهل ملتنا فقالت المرجئة هو مؤمن كامل الإيمان وإن لم يعمل خيرا قط ولا كف عن شر قط وقال بكر بن أخت

عبد الواحد بن زيد هو كافر مشرك كعابد الوثن بأي ذنب كان منه صغيرا أو كبيرا ولو فعله على سبيل المزاح وقالت الصغرية إن كان الذنب من الكبائر فهو مشرك كعابد الوثن وإن كان الذنب صغيرا فليس كافرا وقالت الأباضية إن كان الذنب من الكبائر فهو كافر نعمة تحل موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته وليس مؤمنا ولا كافرا على الإطلاق وروى عن الحسن البصري وقتادة رضي الله عنهما أن صاحب الكبير منافق وقالت المعتزلة إن كان الذنب من الكبائر فهو فاسق ليس مؤمنا ولا كافرا ولا منافقا وأجازوا مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته قالوا وإن كان من الصغائر فهو مؤمن لا شيء عليه فيها وهب أهل السنة من أصحاب الحديث والفقهاء إلى أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان وقالوا الإيمان إسم معتقده وإقراره وعلمه الصالح والفسق إسم عمله السيء إلا أن بين السلف منهم والخلف اختلافا في تارك الصلاة عمدا حتى يخرج وقتها وتارك الصوم لو مضى كذلك وتارك الزكاة وتارك الحج كذلك وفي قاتل المسلم عمدا وفي شارب الخمر وفيمن سب نبيا من الأنبياء عليهم السلام وفيمن رد حديثا قد صح عنده عن النبي ص - فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك وأحمد بن حنبل واسحاق ابن راهويه رحمة الله عليهم وعن تمام سبعة عشر رجلا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض عامدا ذاكرا حتى يخرج وقتها فإنه كافر مرتد وبهذا يقول عبد الله بن الماجشون صاحب مالك وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره وروينا عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في تارك الحج وعن ابن عباس وغير مثل ذلك في تارك الزكاة والصيام وفي قاتل المسلم عمدا وعن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص في شارب الخمر وعن إسحق بن راهويه أن من رد صحيحا عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم فقد كفر
قال أبو محمد واحتج من كفر من المذنبين بقول الله عز و جل ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وبقوله تعالى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى فصح أن من لم يكذب ولا تولى ألا يصلاها قالوا ووجدنا هؤلاء كلهم لم يكذبوا ولا تولوا بل هم مصدقون معترفون بالإيمان فصح أنهم لا يصلونها وأن المراد بالوعيد المذكور في الآيات المنصوصة إنما هو فعل تلك الأفاعيل من الكفار خاصة
قال أبو محمد واحتج أيضا من كفر من ذكرنا بأحاديث كثيرة منها سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شر حين ينهبها وهو مؤمن وترك الصلاة شرك وإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ومثل هذا كثير
قال أبو محمد وما نعلم لمن قال وهو منافق حجة أصلا ولا لمن قال أنه كافر نعمة إلا أنهم نزعوا بقول الله عز و جل ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار

قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن كفر النعمة عمل يقع من المؤمن والكافر وليس هو ملة ولا إسم دين فمن ادعى إسم دين وملة غير الإيمان المطلق والكفر المطلق فقد أتى بما لا دليل عليه وأما من قال هو فاسق لا مؤمن ولا كافر فما لهم حجة أصلا إلا أنهم قالوا قد صح الإجماع على أنه فاسق لأن الخوارج قالوا هو كافر فاسق وقال غيرهم هو مؤمن فاسق فاتفقوا على الفسق فوجب القول بذلك ولم يتفقوا على إيمانه ولا على كفره فلم يجز القول بذلك
قال أبو محمد وهذا خلاف لإجماع من ذكر لأنه ليس منهم أحد جعل الفسق اسم دينه وإنما سموا بذلك عمله والإجماع والنصوص قد صح كل ذلك على أنه لا دين إلا الإسلام أو الكفر من خرج من أحدهما دخل في الآخر ولا بد إذ ليس بينهما وسيطة وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وهذا حديث قد أطبق جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام على صحته وعلى القول به فلم يجعل عليه السلام دينا غير الكفر والإسلام ولم يجعل هاهنا دينا ثالثا أصلا
قال أبو محمد واحتجت المعتزلة أيضا بأن قالت الله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى قال أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون فصح أن هؤلاء الذين سماهم الله تعالى مجرمين وفساقا وأخرجهم عن المؤمنين نصا فإنهم ليسوا على دين الإسلام وإذا لم يكونوا على دين الإسلام فهم كفار بلا شك إذ لا دين ها هنا غيرهما أصلا برهان هذا قوله تعالى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وقد علمنا ضرورة أنه لا دار إلا الجنة أو النار وأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المسلمون فقط ونص الله تعالى على أن النار لا يدخلها إلا المكذب المتولي والمتولي المكذب كافر بلا خلاف فلا يخلد في النار إلا كافر ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فصح أنه لا دين إلا الإيمان والكفر فقط وإذ ذلك كذلك فهؤلاء الذين سماهم الله عز و جل مجرمين وفاسقين وأخرجهم عن المؤمنين فهم كفار مشركون لا يجوز غير ذلك وقال المؤمن محمود محسن ولي الله عز و جل والمذنب مذموم مسيء عدو لله قالوا ومن المحال أن يكون إنسان واحد محمودا مذموما محسنا مسيئا عدوا لله وليا له معا
قال أبو محمد وهذا الذي أنكروه لا نكرة فيه بل هو أمر موجود مشاهد فمن أحسن من وجه وأساء من وجه آخر كمن صلى ثم زنى فهو محسن محمود ولي الله فيما أحسن فيه من صلاة وهو مسيء مذموم عدو لله فيما أساء فيه من الزنا قال عز و جل وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فبالضرورة ندري أن العمل الذي شهد الله عز و جل أنه سيء فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى ثم يقال لهم ما تقولون إن عارضتكم المرجئة بكلامكم نفسه فقالوا من المحال أن يكون إنسان واحد محمودا مذموما محسنا مسيئا عدو لله وليا له معا ثم أرادوا تغليب الحمد والإحسان والولاية وإسقاط الذم والإساءة والعداوة كما أردتم أنتم بهذه القضية نفسها تغليب الذم والإساءة والعداوة وإسقاط الحمد والإحسان والولاية بما ينفصلون عنهم فإن قالت المعتزلة أن الشرط في حمده وإحسانه وولايته أن تجتنب الكبائر قلنا لهم فإن عارضتكم المرجئة فقالت أن الشرط في ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شهادة التوحيد فإن قالت المعتزلة

إن الله قد ذم المعاصي وتوعد عليها قيل لهم فإن المرجئة تقول لكم أن الله تعالى قد حمد الحسنات ووعد عليها وأراد بذلك تغليب الحمد كما أردتم تغليب الذم فإن ذكرتم آيات الوعيد ذكروا آيات الرحمة
قال أبو محمد وهذا ما لا مخلص للمعتزلة منه ولا للمرجئة أيضا فوضح بهذا أن كلا الطائفتين مخطئة وأن الحق هو جمع كل ما تعلقت به كلتا الطائفتين من النصوص التي في القرآن والسنن ويكفي من هذا كله قول الله عز و جل إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وقوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت وقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وقال تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين فصح بهذا كله أنه لا يخرجه عن إسم الإيمان إلا الكفر ولا يخرجه عن إسم الكفر إلا الإيمان وأن الأعمال حسنها حسن إيمان وقبيحها قبيح ليس إيمانا والموازنة تقضي على كل ذلك ولا يحبط الأعمال إلا الشرك قال تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك إذا أقررتم أن أعمال البر كلها إيمانا وأن المعاصي ليست إيمانا فهو عندكم مؤمن غير مؤمن قلنا نعم ولا نكرة في ذلك وهو مؤمن بالعمل الصالح غير مؤمن بالعمل السيء كما نقول محسن بما أحسن فيه مسيء غير محسن معا بما أساء فيه وليس وليس الإيمان عندنا التصديق وحده فيلزمنا التناقض وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي ليس مطيعا في زناه ذلك وهو مؤمن بسائر حسناته واحتجوا بقول الله تعالى وكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ففرق تعالى بين الفسق والإيمان
قال أبو محمد نعم وقد أوضحنا أن الإيمان هو كل عمل صالح فبيقين ندري أن الفسق ليس إيمانا فمن فسق فلم يؤمن بذلك العمل الذي هو الفسق ولم يقل عز و جل أنه لا يؤمن في شيء من سائر أعماله وقد قال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم قدشهد الله تعالى لهم بالايمان فاذا وقع منهم فسق ليس إيمانا فمن المحال أن يبطل فسقه إيمانه في سائر أعماله وأن يبطل إيمانه في سائر الأعمال فسقه بل شهادة الله تعالى له بالإيمان في جهاده حق وبأنه لم يؤمن في فسقه حق أيضا فإن الله عز و جل قال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص وظالم وفاسق لأن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله
قال أبو محمد وأما نحن فنقول أن كل من كفر فهو فاسق ظالم عاص وليس كل فاسق ظالم عاص كافرا بل يكون مؤمنا وبالله تعالى الوفيق وقد قال تعالى وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم فبعض الظلم مغفور بنص القرآن
قال أبو محمد وقالوا قد وجب لعن الفساق والظالمين وقال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين والمؤمن يجب ولايته والدعاء له بالرحمة وقد لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم السارق ومن

لعن أباه ومن غير منار الأرض فيلزمكم أن تدعوا على المرء الواحد باللعنة والمغفرة معا
قال أبو محمد فنقول أن المؤمن الفاسق يتولى دينه وملته وعقده واقراره ويتبرأ من عمله الذي هو الفسق والبلاء والولاية ليست من عين الإنسان مجردة فقط وإنما هي له أو منه بعمله الصالح أو الفاسد فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن المحسن في بعض أفعاله من المؤمنين نتولاه من أجل ما أحسن فيه ونبرأ من عمله السيء فقط وأما الله تعالى فإنه يتولى عمله الصالح عنده ويعادي علمه الفاسد وأما الدعاء باللعنة والرحمة معا فلسنا ننكره بل هو معنى صحيح وما جاء عن الله تعالى قط ولا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يلعن العاصي على معصيته ويترحم عليه لإحسانه ولو أن أمرأ زنى أو سرق وحال الحول على ماله وجاهد لوجب أن يحد للزنا والسرقة ولو لعن لأحسن لا عنه ويعطي نصيبه من المغنم ونقبض زكاة ماله ونصلي عليه عند ذلك لقول الله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وبيقين ندري أنه قد كان في أولئك الذين كان عليه السلام يقبض صدقاتهم ويصلي عليهم مذنبون عصاة لا يمكن البتة أن يخلو جميع جزيرة العرب من عاص وكذلك كل من مات في عصره عليه السلام وصلى عليه هو عليه السلام والمسلمون معه وبعده فبيقين ندري أنه قد كان فيهم مذنب بلا شك وإذا صلى عليه ودعا له بالرحمة وإن ذكر عمله القبيح ولعن وذم
قال أبو محمد ونعكس عليهم هذا السؤال نفسه في أصحاب الصغائر الذين يوقع عليهم المعتزلة اسم الإيمان فهذه السؤالات كلها لازمة لهم إذ الصغائر ذنوب ومعاص بلا شك إلا أننا لا نوقع عليها اسم فسق ولا ظلم إذا انفردت عن الكبائر لأن الله تعالى ضمن غفرانها لمن اجتنب الكبائر ومن غفر له ذنبه فمن المحال أن يوقع عليه اسم فاسق أو اسم ظالم لأن هذين اسمان يسقطان قبول الشهادة مجتنب الكبائر وأن تستر بالصغاير فشهادته مقبولة لأنه لا ذنب له وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ولنا على المعتزلة إلزامات أيضا تعمهم والخوارج المكفرة ننبه عليها عند نقضنا أقوال المكفرة إن شاء الله تعالى وبه نتأيد
قال أبو محمد ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة كافر قال الله عز و جل يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم فابتدأ الله عز و جل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول ونص تعالى على أن القاتل عمدا وولي المقتول إخوان وقد قال تعالى إنما المؤمنون أخوة فصح أن القاتل عمدا مؤمن بنص القرآن وحكمه له بأخوة الإيمان ولا يكون للكافر مع المؤمن بتلك الأخوة وقال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى أن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالها حتى تفيء إلى أمر الله تعالى أخوة للمؤمنين المقاتلين

وهذا أمر لا يضل عنه إلا ضال وهاتان الآيتان حجة قاطعة أيضا على المعتزلة أيضا المسقطة اسم الإيمان عن القاتل وعلى كل من أسقط عن صاحب الكبائر اسم الإيمان وليس لأحد أن يقول أنه تعالى إنما جعلهم أخواننا إذا تابوا لأن نص الآية أنهم إخوان في حال البغي وقبل الفئة إلى الحق
قال أبو محمد وقال بعضهم أن هذا الإقتتال إنما هو التضارب
قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أنه دعوى بلا برهان وتخصيص الآية بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل بلا شك والثاني أن ضرب المسلم للمسلم ظلما وبغيا فسق ومعصية ووجه ثالث وهو أن الله تعالى لو لم يرد القتال المعهود لما أمرنا بقتال من لا يزيد على الملاطمة وقد عم تعالى فيها بإسم البغي بكل بغي فهو داخل تحت هذا الحكم
قال أبو محمد وقد ذكروا قول الله عز و جل وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ
قال أبو محمد فهذه الآية بظاهرها دون تأويل حجة لنا عليهم لأنه ليس فيها أن القاتل العامد ليس مؤمنا وإنما فيها نهي المؤمن عن قتل المؤمن عمدا فقط لأنه تعالى قال وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا وهكذا نقول ليس للمؤمن من قتل المؤمن عمدا ثم قال تعالى إلا خطأ فاستثنى عز و جل الخطأ في القتل من جملة ما حرم من قتل المؤمن للمؤمن لأنه لا يجوز النهي عما لا يمكن الإنتهاء عنه ولا يقدر عليه لأن الله تعالى أمننا من أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وكل فعل خطأ فلم ننه عنه بل قال تعالى ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم فبطل تعلقهم بهذه الآية وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فهو أيضا على ظاهره وإنما في هذا اللفظ النهي عن أن يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط وليس في هذا اللفظ أن القاتل كافر ولا فيه أيضا النهي عن القتل المجرد أصلا وإنما نهى عنه في نصوص أخر من القرآن والسنن كما ليس في هذا اللفظ أيضا نهي عن الزنا ولا عن السرقة وليس في كل حديث حكم كل شريعة فبطل تعلقهم بهذا الخبر وكذلك قوله عليه السلام سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر فهو أيضا على عمومه لأن قوله عليه السلام المسلم هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر برهان هذا هو ما ذكرنا من قبل من نص القرآن في أن القاتل عمدا والمقاتل مؤمنان وكلامه عليه السلام لا يتعارض ولا يختلف وكذلك قوله عليه السلام لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر لكم أن ترغبوا عن آبائكم فإنه عليه السلام لم يقل كفر منكم ولم يقل أنه كفر بالله تعالى نعم ونحن نقر أن من رغب عن أبيه فقد كفر بأبيه وجحده ويقال لمن قال أن صاحب الكبير ليس مؤمنا ولكنه كافر أو فاسق ألم يقل الله عز و جل ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم وقال تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم لهم ولا هم يحلون لهن وقال تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر وقال تعالى اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين

وفي سورة النساء محصنات غير مصافحات فهذه آيات في غاية البيان في أنه ليس في الأرض إلا مؤمن أو كافر أو مؤمنة أو كافرة ولا يوجد دين ثالث وأن المؤمنة حلال نكاحها للمؤمن وحرام نكاحها على الكافر وأن الكتابية حلال للمؤمن بالزواج وللكافر فخبرونا أذا زنت المرأة وهي غير محصنة أو وهي محصنة أو إذا سرقت أو شربت الخمر أو قذفت أو أكلت مال يتيم أو تعمدت ترك الغسل حتى خروج وقت الصلاة وهي عالمة بذلك أو لم تخرج زكاة مالها فكانت عندكم بذلك كافرة أو بريئة من الإسلام خارجة عن الإيمان وخارجة من جملة المؤمنين أيحل للمؤمن الفاضل ابتداء نكاحها والبقاء معها على الزوجية إن كان قد تزوجها قبل ذلك أو يحرم على أبيها الفاضل أو أخيها البر أن يكونا لها وليين في تزويجها وأخبرونا إذا زنى الرجل او سرق أو قذف أو أكل مال يتيم أو فر من الزحف أو سحر أو ترك صلاة عمدا حتى خرج وقتها أو لم يخرج زكاة ماله فصار بذلك عندكم كافرا أو بريئا من الإسلام وخرج عن الإيمان وعن جملة المؤمنين أيحرم عليه ابتداء نكاح امرأة مؤمنة أو وطؤها بملك اليمين أو تحرم عليه امرأته المؤمنة التي في عصمته فينفسخ نكاحها منه أو يحرم عليه أن يكون وليا لإبنته المؤمنة أو أخته المؤمنة في تزويجها وهل يحرم على التي ذكرنا والرجل الذي ذكرنا ميراث وليهما المؤمن أو يحرم على وليهما المؤمن ميراثهما أو يحرم أكل ذبيحته لأنه قد فارق الإسلام في زعمكم وخرج عن جملة المؤمنين فإنهم كلهم لا يقولون بشيء من هذا فمن الخلاف المجرد منهم لله تعالى أن يحرم الله تعالى المؤمنة على من ليس بمؤمن فيحلونها هم ويحرم الله تعالى التي ليست مؤمنة على المؤمن إلا أن تكون كتابية فيحلونها هم ويقطع الله تعالى الولاية بين المؤمن ومن ليس مؤمنا فيبقونها في الإنكاح ويحرم تعالى ذبائح من ليس مؤمنا إلا أن يكون كتابيا فيحلونها هم ويقطع عز و جل الموارثة بين المؤمن ومن ليس مؤمنا فيثبتونها هم ومن خالف القرآن وثبت على ذلك بعد قيام الحجة عليه فنحن نبرأ إلى الله تعالى منه
قال أبو محمد وأكثر هذه الأمور التي ذكرنا فإنه لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيها ولا بين فرقة من الفرق المنتمية إلى الإسلام وفي بعضها خلاف نشير إليه لئلا يظن ظان أننا أغفلناه فمن ذلك الخلاف في الزاني والزانية فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسخ النكاح قبل الدخول بوقوعه من أحدهما والحسن البصري وغيره من السلف لا يجيزون للزاني ابتداء نكاح مع مسلمة البتة ولا للزانية أيضا إلا أن يتوبا وبهذا نقول نحن ليس لأنهما ليسا مسلمين بل هما مسلمان ولكنها شريعة من الله تعالى واردة في القرآن في ذلك كما يحرم على المحرم النكاح ما دام محرما وبالله تعالى التوفيق وذلك قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين
قال أبو محمد وفي هذه الآية أيضا نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين لأن الله تعالى فرق بينهما فرقا لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد بل على أنهما صفتان مختلفتان وإذا لم مشركين فهما ضرورة مسلمان لما قد بينا قبل من أن كل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر وكل من لم يكن كافرا مشركا فهو مؤمن إذ لا سبيل إلى دين ثالث وبالله تعالى التوفيق ومن الخلاف في بعض ما ذكرنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإبراهيم النخعي أن المسلم إذا ارتد والمسلمة إذا لم يسلم زوجها فهي امرأته كما كانت إلا أنه لا يطؤها وروي عن عمر أيضا أنها تخير في البقاء معه أو فراقه وكل هذا لا حجة فيه ولا حجة إلا في نص القرآن أو سنة واردة عن رسول الله

صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وأيضا فإن الله عز و جل قد أمر بقتل المشركين جملة ولم يستثن منهم أحدا إلا كتابيا يغرم الجزية مع الصغار أو رسولا حتى يؤدي رسالته ويرجع لي ماء منه مستجيرا ليسمع كلام الله تعالى ثم يبلغ إلى مأمنه وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل من بدل دينه فنسأل كل من قال بأن صاحب الكبيرة قد خرج من الإيمان وبطل إسلامه وصار في دين آخر أما الكفر وأما الفسق إذا كان الزاني والقاتل السارق والشارب للخمر والقاذف والفار من الزحف وآكل مال اليتيم قد خرج عن الإسلام وترك دينه أيقتلونه كما آمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أم لا يقتلونه ويخالفون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ومن قولهم كلهم خوارجهم ومعتزليهم أنهم لا يقتلونه وأما في بعض ذلك حدود معروفة من قطع يدا وجلد مائة أو ثمانين وفي بعض ذلك أدب فقط وأنه لا يحل الدم بشيء من ذلك وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم لا خفاء به
قال أبو محمد وبعض شاذة الخوارج جسر فقال تقام الحدود عليهم ثم يستتابون فيقتلون
قال أبو محمد وهذا خلاف الإجماع المتيقن وخلاف للقرآن مجرد لأن الله تعالى يقول والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فقد حرم الله تعالى قتلهم وافترض استبقاءهم مع إصرارهم ولم يجعل فيهم إلا رد شهادتهم فقط ولو جاز قتلهم فكيف كانوا يؤدون شهادة لا تقبل بعد قتلهم
قال أبو محمد وقال الله عز و جل لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها
قال أبو محمد لا خلاف بيننا وبينهم ولا بين أحد من الأمة في أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فإنه مؤمن مسلم فلو كان الفاسق غير مؤمن لكان كافرا ولا بد ولو كان كافرا لكان مرتدا يجب قتله وبالله تعالى التوفيق قال الله عز و جل ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت اعمالهم وقال تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين فوجب يقينا بأمر الله عز و جل أن لا يترك يعمر مساجد الله بالصلاة فيها إلا المؤمنون وكلهم متفق معنا على أن الفاسق صاحب الكبائر مدعو ملزم عمارة المساجد بالصلاة مجبر على ذلك وفي إجماع الأمة كلها على ذلك وعلى تركهم يصلون معنا وإلزامهم أداء الزكاة وأخذها منهم والزامهم صيام رمضان وحج البيت برهان واضح لا إشكال فيه على أنه لم يخرج عن دين المؤمنين وأنه مسلم مؤمن وقال عز و جل يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى إلى قوله تعال اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فخاطب تعالى المؤمنين بأياس الكافرين عن دينهم ولا سبيل إلى قسم ثالث وقال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فصح أن لا دين إلا دين الإسلام وما عداه شيء غير مقبول وصاحبه يوم القيامة خاسر وبالله تعالى التوفيق وقال عز و جل المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقال تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض وقال تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقال تعالى هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير فصح يقينا أنه ليس في الناس ولا في الجن إلا مؤمن أو كافر

فمن خرج عن أحدهما دخل في الآخرة فنسألهم عن رجل من المسلمين فسق وجاهر بالكبائر وله أختان إحداهما نصرانية والثانية مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هذا الفاسق وليا في النكاح ووارثا وعن امرأة سرقت وزنت ولها ابنا عم أحدهما يهودي والآخر مسلم فاضل أيهما يحل له نكاحها وهذا ما لا خلاف فيه ولا خفاء به فصح أن صاحب الكبائر مؤمن وقال الله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقال تعالى إنما يتقبل الله من المتقين فأخبرونا أتأمرون الزاني والسارق والقاذف والقاتل بالصلاة وتؤدبونه إن لم يصل أم لا فمن قولهم نعم ولو قالوا لخالفوا الإجماع المتيقن فنقول لهم أفتأمرونه بما هو عليه أم بما ليس عليه وبما يمكن أن يقبله الله تعالى أم بما يوقن أنه لا يقبله فإن قالوا نأمره ليس عليه بما ظهر تناقضهم إذ لا يجوز أن يلزم أحد ما لا يلزمه وإن قالوا بل بما عليه قطعوا بأنه مؤمن لأن الله تعالى أخبر أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وإن قالوا نأمره بما لا يمكن آن يقبل منه أحالوا إذ من المحال أن يؤمر أحد بعمل هو على يقين من أنه لا يقبل منه وإن قالوا بل نأمره بما نرجو أن يقبل منه قلنا صدقتم وقد صح بهذا أن الفاسق من المتقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من المعاصي ونسألهم أيأمرون صاحب الكبيرة بتمتيع المطلقة أن طلقها أم لا فإن قالوا نأمره بذلك لزمهم أنه من المحسنين المتقين لأن الله تعالى يقول في المتعة حقا على المحسنين وحقا على المتقين فصح أن الفاسق محسن فيما عمل من صالح ومسيء فيما عمل من سيئ فإن قالوا أن الصلاة عليه كما هي عندكم على الكفار أجمعين قلنا لا سواء لأنها وإن كان الكافر وغير المتوضئ والجنب مأمورين بالصلاة معذبين على تركها فإنا لا نتركهم يقيمونها أصلا بل نمنعهم منها حتى يسلم الكافر ويتوضأ المحدث ويغتسل الجنب ويتوضأ أو يتيمم وليس كذلك الفاسق بل تجبره على إقامتها
قال أبو محمد وهذا لا خلاف فيه من أحد إلا أن الجبائي المعتزلي ومحمد بن الطيب الباقلاني ذهبا من بين جميع الأمة إلى أن من كانت له ذنوب فإنه لا تقبل له توبة من شيء منها حتى يتوب من الجميع واتبعهما على ذلك قوم وقد ناظرنا بعضهم في ذلك ولزمناهم أن يوجبوا على كل من أذنب ذنبا واحدا أن يترك الصلاة الفرض والزكاة وصوم رمضان والجمعة والحج والجهاد لأن إقامة كل ذلك توبة إلى الله من تركها فإذا كانت توبته لا تقبل من شيء حتى يتوب من كل ذنب له فإنه لا يقبل له توبة من ترك صلاة ولا من ترك صوم ولا من ترك زكاة حتى يتوب من كل ذنب له وهذا خلاف لجميع الأمة إن قالوه آو تناقض إن لم يقولوه مع أنه قول لا دليل لهم على تصحيحه أصلا وما كان هذا فهو باطل قال الله تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وقال تعالى واشهدوا ذوي عدل منكم وقال تعالى وصالح لمؤمنين فصح يقينا بهذا اللفظ أن فينا غير عدل وغير صالح وهما منا ونحن مؤمنون فهو مؤمن بلا شك وقال تعالى فإن تابوا يعني من الشرك وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين وهذا نص جلي على أن من صلى من أهل شهادة الإسلام وزكى فهو أخونا في الدين ولم يقل تعالى ما لم يأت بكبيرة فصح أنه منا وإن أتى بالكبائر
قال أبو محمد فإن ذكروا قول الله تعالى مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وقوله تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم وراموا بذلك إثبات أنه لا مؤمن ولا كافر فهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما وصف بذلك المنافقين المبطنين للكفر المظهرين

للإسلام فهم لا مع الكفار ولا منهم ولا إليهم لأن هؤلاء يظهرون الإسلام وأولئك لا يظهرونه ولا هم مع المسلمين ولا منهم ولا إليهم لأبطانهم الكفر وليس في هاتين الآيتين انهم ليسوا كفارا وقد قال عز و جل ومن يتولهم منكم فإنه منهم فصح يقينا أنهم كفار لا مؤمنون أصلا وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة منافق ما معنى هذه الكلمة فجوابهم الذي لا جواب لأحد في هذه المسألة غيره هو أن المنافق من كان النفاق صفته ومعنى النفاق في الشريعة هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر فيقال له وبالله تعالى التوفيق لا يعلم ما في النفس إلا الله تعالى ثم تلك النفس التي ذلك الشيء فيها فقط ولا يجوز أن نقطع على اعتقاد أحد الكفر إلا بإقراره بلسانه بالكفر وبوحي من عند الله تعالى ومن تعاطى علم ما في النفوس فقد تعاطى علم الغيب وهذا خطأ متيقن يعلم بالضرورة وحسبك من القول سقوطا أن يؤدي إلى المحال المتيقن وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال عليه السلام إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس وقد ذكر الله تعالى المنافقين فقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم وممن حولكم من الأعراب منافقون لا تعلمهم نحن نعلمهم فإذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعرف المنافقين وهم معه وهو يراهم ويشاهد أفعالهم فمن بعده أحرى أن لا يعلمهم ولقد كان الزناة على عهده صلى الله عليه و سلم والسرقة وشراب الخمر ومضيعوا فرض الصلاة في الجماعة والقاتلون عمدا والقذفة فما سمي عليه السلام قط أحدا منهم منافقين بل أقام الحدود في ذلك وتوعد بحرق المنازل وأمر لديه والعفو وأبقاهم في جملة المؤمنين وأبقى عليهم حكم الإيمان واسعة وقد قلنا أن التسمية في الشريعة لله عز و جل لا لأحد دونه ولم يأت قط عن الله عز و جل تسمية صاحب الكبيرة منافقا فإن قالوا قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال وقد ذكر خصالا من كن فيه كان منافقا خالصا وإن صام وصلى وقال أني مسلم وذكر عليه السلام تلك الخصال فمنها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وذكر عليه السلام أن من كانت به خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها قلنا له وبالله تعالى التوفيق صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أخبرناك أن المنافق هو من أظهر شيئا وأبطن خلافه مأخوذ في أصل اللغة من نافقاء اليربوع وهو باب في جانب جحره مفتوح قد غطاه بشيء من تراب وهذه الخلال كلها التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه و سلم كلها باطن صاحبها بخلاف ما يظهر فهو منافق هذا النوع من النفاق وليس هو النفاق الذي يظن صاحبه الكفر بالله برهان ذلك ما ذكرناه آنفا من إجماع الأمة على أخذ زكاة مال كل من وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالنفاق وعلى إنكاحه ونكاحها أن كانت امرأة وموارثته وأكل ذبيحته وتركه يصلي مع المسلمين وعلى تحريم دمه وماله ولو تيقنا أنه يبطن الكفر لوجب قتله وحرم إنكاحه ونكاحها وموارثته وأكل ذبيحته ولم نتركه يصلي مع المسلمين ولكن تسمية النبي صلى الله عليه و سلم من ذكر منافقا كتسمية الله عز و جل الذراع كفارا إذ يقول تعالى كمثل غيث أعجب الكفار نباته لأن أصل الكفر في اللغة التغطية فمن ستر شيئا فهو كافر وأصل النفاق في اللغة سترشيء وإظهار خلافه فمن ستر شيئا وأظهر خلافه فهو منافق فيه وليس هذان من الكفر الديني ولا من النفاق الشرعي في شيء وبهذا تتألف الآيات والاحاديث كلها وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لمن قال بهذا القول هل أتيت بكبيرة قط فإن قال لا قيل له هذا القول كبيرة

لأنه تزكية وقد نهى الله عز و جل عن ذلك فقال تعالى فلا تزكوا أنفسكم وقد علمنا أنه لا يعرى أحد من ذنب إلا الملائكة والنبيين صلى الله عليهم وسلم وأما من دونهم فغير معصوم بل قد اختلف الناس في عصمة الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام وإن كنا قاطعين على خطأ من جوز على أحد من الملائكة ذنبا صغيرا أو كبيرا بعمد أو خطأ من جوز على أحد من النبيين ذنبا بعمد صغيرا أو كبيرا لكنا أعلمنا انه لم يتفق على ذلك قط وإن قال بلى قد كان لي كبيرة قيل له هل كنت في حال مواقفك الكبيرة شاكا في الله عز و جل أو في رسوله صلى الله عليه و سلم أو كافرا بهما أم كنت موقنا بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه و سلم وبما أتى به موقنا بأنك مسيء مخطئ في ذنبك فإن قال كنت كافرا أو شاكا فهو أعلم بنفسه ويلزمه أن يفارق امرأته وأمته المسلمتين ولا يرث من مات له من المسلمين ثم بعد ذلك لا يجوز له أن يقطع على غيره من المذنبين بمثل اعتقاده في الجحد ونحن نعلم بالضرورة كذب دعواه وندري أننا في حين ما كان منا ذنب مؤمنون بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه و سلم وأن قال بل كنت مؤمنا بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه و سلم في حال ذنبي قيل له هذا إبطال منك للقول بالنفاق والقطع به على المذنبين
قال أبو محمد ففي إجماع الأمة كلها دون مختلف من أحد منهم على أن صاحب الكبيرة مأمور بالصلاة مع المسلمين وبصوم شهر رمضان والحج وبأخذ زكاة ماله وإباحة مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته وبتركه يتزوج المرأة المسلمة الفاضلة ويبتاع الأمة المسلمة الفاضلة ويطأها وتحريم دمه وماله وأن لا يؤخذ منه جزية ولا يصغر برهان صحيح على أنه مسلم مؤمن وفي إجماع الامه كلها دون مخالف على تحريم قبول شهادته وخبره برهان على انه فاسق فصح يقينا أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان عن المؤمن الذي ليس بفاسق قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين فأما من قال أنه كافر نعمة فما لهم حجة أصلا ألا آن بعضهم نزع بقول الله تعالى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن نص الآية مبطل لقولهم لأن الله تعالى يقول متصلا بقوله وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله فصح أن الآية في المشركين بلا شك وأيضا فقد يكفر المرء نعمة الله ولا يكون كافرا بل مؤمنا بالله تعالى كافرا لا نعمة بمعاصيه لا كافرا على الإطلاق وبالله تعالى التوفيق

الكلام فيمن يكفر ولا يكفر
قال أبو محمد اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا فهو كافر وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك فاسق غير كافر في بعضه على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم وذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر وأن من خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافرا ولا فاسقا ولكنه مجتهد معذور إن أخطأ مأجور بنيته وقالت طائفة بمثل هذا فيمن خالفهم في مسائل العبادات وقالوا فيمن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كل الخلاف

في صفات الله عز و جل فهو كافر وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عن جميعهم وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافا أصلا إلا ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمدا حتى خرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك صيام رمضان أو شرب الخمر واحتج من كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز و جل
قال أبو محمد ذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن القدرية والمرجئية مجوس بهذه الأمة وحديثا آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار حاشى واحدة فهي في الجنة
قال أبو محمد هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال لأخيه يا كافر فقد باء بالكفر أحدهما
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن لفظه يقتضي أنه يلثم برميه للكفر ولم يقل عليه السلام أنه بذلك كافر
قال أبو محمد والجمهور من المحتجين بهذا الخبر لا يكفرون من قال لمسلم يا كافر في مشاتمة تجري بينهما وبهذا خالفوا الخبر الذي احتجوا به
قال أبو محمد والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع وأما بالدعوى والافتراء فلا فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بان يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة و السلام وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم منقولا نقل إجماع تواتروا أو نقل آحاد إلا أن من خالف الإجماع المتيقن المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته ووجوب تكفيره لاتفاق الجميع على معرفة الإجماع وعلى تكفير مخالفته برهان صحة قولنا قول الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
قالت أبو محمد هذه الآية نص بتكفير من فعل ذلك فإن قال قائل أن من اتبع غير سبيل المؤمنين فليس من المؤمنين قلنا له وبالله تعالى التوفيق ليس كل من أتبع غير سبيل المؤمنين كافرا لأن الزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل ليست من سبيل المؤمنين وقد علمنا أن من اتبعها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وليس مع ذلك كافرا ولكن البرهان في هذا قول الله عز و جل فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
قال أبو محمد فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلا ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا

ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان
قال أبو محمد وأماما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان فلا يكون كافرا إلا أن يأتي نص بتكفيره فيوقف عنده كمن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فقط فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر فإن قال قائل فما تقولون فيمن قال أنا أشهد أن محمدا رسول الله ولا أدري اهو قرشي أم تميمي أم فارسي ولا هل كان بالحجاز أو بخراسان ولا أدري أحي هو أو ميت ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره قيل له إن كان جاهلا لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم يضره ذلك شيئا ووجب تعليمه فإذا علم وصح عنده الحق فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله محكوم عليه بحكم المرتد وقد علمنا أن كثيرا ممن يتعاطى الفتيا في دين الله عز و جل نعم وكثيرا من الصالحين لا يدري كم لموت النبي صلى الله عليه و سلم ولا أين كان ولا في أي بلد كان ويكفيه من كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلا اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين
قال أبو محمد وكذلك من قال أن ربه جسم فإنه إن كان جاهلا أو متا ولا فهو معذور لا شيء عليه ويجب تعليمه فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عنادا فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد وأما من قال أن الله عز و جل هو فلان لإنسان بعينه أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه أو أن بعد محمد صلى الله عليه و سلم نبيا غير عيسى بن مريم فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم الحجة عليه
قال أبو محمد وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطا لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ فر من الكفر وأيضا فإنه ليس للناس قول إلا ومخالف ذلك القول يلزم خصمه الكفر في فساد قوله وطرده فالمعتزلة تنسب إلينا تجوير الله عز و جل وتشبيهه بخلقه ونحن ننسب إليهم مثل ذلك سواء بسواء ونلزمهم أيضا تعجيز الله عز و جل وأنهم يزعمون أنهم يخلقون كخلقه وأن له شركاء في الخلق وأنهم مستغنون عن الله عز و جل ومن أثبت الصفات يسمى من نفاها باقية لأنهم قالوا تعبدون غير الله تعالى لأن الله تعالى له صفات وأنتم تعبدون من لا صفة له ولا نفي الصفات يقول لمن أثبتها أنتم تجعلون مع الله عز و جل أشياء لم تزل وتشركون به غيره وتعبدون غير الله لأن الله تعالى لا أحد معه ولا شيء معه في الأزل وأنتم تعبدون شيا من جملة أشياء لم تزل وهكذا في كل ما اختلف فيه حتى في الكون والجزء وحتى في مسائل الأحكام والعبادات فأصحاب القياس يدعون علينا خلاف الإجماع وأصحابنا يثبتون عليهم خلاف الإجماع وأحداث شرائع لم يأذن الله عز و جل بها وكل فرقة فهي تنتقي بما تسميها به الأخرى وتكفر من قال شيئا من ذلك فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونص معتقده ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط وأما الأحاديث الواردة في أن ترك الصلاة شرك فلا تصح من طريق الإسناد وأما الأخبار التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقد جاءت أحاديث أخر بزيادة على هذا الخبر لا يجوز ترك تلك الزيادة وهي قوله عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى

يقولوا لا إله إلا الله وأنى رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فهذا هو الذي لا إيمان لأحد بدونه
قال أبو محمد واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة رضي الله عنهم بقول الله عز و جل محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى قوله ليغيظ بهم الكفار قال فكل من أغاظه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر
قال أبو محمد وقد أخطأ من حمل الآية على هذا لأن الله عز و جل لم يقل قط أن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر وإنما أخبر تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط ونعم هذا حق لا ينكره مسلم وكل مسلم فهو يغيظ الكفار وأيضا فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن عليا قد غاظ معاوية وأن معاوية وعمرو بن العاص غاظا عليا وأن عمار أغاظ أبا العادية وكلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد غاظ بعضهم بعضا فيلزم على هذا تكفير من ذكرنا وحاشى لله من هذا
قال أبو محمد ونقول لمن كفر إنسانا بنفس مقالته دون أن تقوم عليه الحجة فيعاند رسول الله صلى الله عليه و سلم ويجد في نفسه الحرج مما أتى به أخبرنا هل ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به إلا وقد بينه ودعا إليه الناس كافة فلا بد من نعم ومن أنكر هذا كافر بلا خلاف فإذا أقر بذلك سئل هل جاء قط عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لم يقبل إيمان أهل قرية أوأهل محلة أو إنسان أتاه من حر أو عبدا لو امرأة إلا حتى يقر أن الاستطاعة قبل الفعل أو مع الفعل أو أن القرآن مخلوق أو أن الله تعالى يري أو لا يرى أو أن له سمعا أو بصرا أو حياة أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان بينهم ليوقع بينهم العداوة والبغضاء فإن ادعى أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدع أحدا يسلم إلا حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض وقال ما يدري أنه فيه كاذب وادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطؤا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام وهذا المحال ممتنع في الطبيعة ثم فيه نسبة الكفر إليهم إذ كتموا ما لا يتم إسلام احد إلا به وإن قالوا أنه صلى الله عليه و سلم لم يدع قط أحد إلى شيء من هذا ولكنه مودع في القرآن وفي كلامه صلى الله عليه و سلم قيل له صدقت وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله كفرا لما ضيع رسول الله ص - بيان ذلك للحره والعبد والحر والأمة ومن جوز هذا فقد قال أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يبلغ كما أمر وهذا كفر مجرد ممن أجازه فصح ضرورة أن الجهل بكل ذلك لا يضر شيئا وإنما يلزم الكلام منها إذا خاض فيها الناس فيلزم حينئذ بيان الحق من القرآن والسنة لقول الله عز و جل كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولقول الله عز جل لتبيننه للناس ولا تكتمونه فمن عند حينئذ بعد بيان الحق فهو كافر لأنه لم يحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا سلم لما قضى به وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رجلا لم يعمل خيرا قط فلما حضره الموت قال لأهله إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح نصفه في البحر ونصفه في البر فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من خلقه وأن الله عز جل جمع رماده فأحياه وسأله ما حملك على ذلك قال خوفك يا رب وأن الله تعالى غفر له لهذا القول
قال أبو محمد فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز و جل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله على إنما هو لئن ضيق الله على كما قال تعالى وأما إذا ما ابتلاه فقد عليه رزقه

قال أبو محمد وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن على وأيضا فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى ولا شك في أنه إنما أمره بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى
قال أبو محمد وأبين من شيء في هذا قول الله تعالى وإذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء إلى قوله ونعلم أن قد صدقتنا فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز و جل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا ما لا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيينهم لها
قال أبو محمد وبرهان ضروري لا خلاف فيه وهو ان الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامدا وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك وأسقط كلمة عمدا كذلك أو زاد فيها كلمة عامدا فإنه كافر بإجماع الأمة كلها ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ويبدل كلامه جاهلا مقدرا أنه مصيب ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا ولا فاسقا ولا آثما فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإن تمادى على خطاه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة
قال أبو محمد واحتج بعضهم بأن قال الله تعالى قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
قال أبو محمد وآخر هذه الآية مبطل لتأويلهم لأن الله عز و جل وصل قوله يحسنون صنعا بقوله أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا فهذا يبين أن أول الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة ثم نقول لهم لو نزلت هذه الآية في المتأولين من جملة أهل الإسلام كما تزعمون لدخل في جملتها كل متأول مخطئ في تأويل في فتيا لزمه تكفير جميع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم قد اختلفوا وبيقين ندري أن كل امرء منهم فقد يصيب ويخطئ بل يلزمه تكفير جميع الأمة لأنهم كلهم لا بد من أن يصيب كل امرئ منهم ويخطئ بل يلزمه تكفير نفسه لأنه لا بد لكل من تكلم في شيء من الديانة من أن يرجع عن قول قاله إلى قول آخر يتبين أنه أصح إلا أن يكون مقلدا فهذه أسوأ لأن التقليد خطا كله لا يصح ومن بلغ إلى ها هنا فقد لاح غوامر قوله وبالله تعالى التوفيق وقد أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لم يفهم آية الكلالة فما كفره بذلك ولا فسقه ولا أخبره أنه آثم بذلك لكن أغلظ له في كثرة تكراره السؤال عنها فقط وكذلك أخطأ جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفتيا فبلغه عليه السلام ذلك فما كفر بذلك أحد منهم ولا فسقه ولا جعله بذلك آثما لأنه لم يعانده عليه السلام أحد منهم وهذا كفتيا أبي السنابل بن بعكعك في آخر الأجلين والذين أفتوا على الزاني غير المحصن الرجم وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب الأحكام في أصول الأحكام هذا وأيضا فإن الآية المذكورة

لا تخرج على قول أحد ممن خالفنا ألا بحذف وذلك أنهم يقولون أن الذين في قوله تعالى الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا هو خبرا ابتداء مضمر ولا يكون ذلك إلا بحذف الابتداء كأنه قال هم الذين ولا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذفا إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك أو إجماع على ذلك أو ضرورة حس فبطل قولهم وصار دعوى بلا دليل وأما نحن فإن لفظة الدين عندنا على موضوعها دون حذف وهو نعت للأخسرين ويكون خبرا لابتداء قوله تعالى أولئك الذين كفروا وكذلك قوله تعالى ويحسبون أنهم على شيء إلا أنهم هم الكاذبون فنعم هذه صفة القوم الذين وصفهم الله تعالى بهذا في أول الآية ورد الضمير إليهم وهم الكفار بنص آول الآية وقال قائلهم فإذا عذرتم للمجتهدين إذا اخطأوا فاعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل فإنهم أيضا مجتهدون قاصدون الخير فجوابنا والله تعالى التوفيق أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا ولا كفرنا من كفرنا بظننا وهو أنا وهذه خطة لم يؤتها الله عز و جل أحد دونه ولا يدخل الجنة والنار أحدا بل الله تعالى يدخلها من شاء فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به كل ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ولا يختلف اثنان من أهل الأرض لا نقول من المسلمين بل من كل ملة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذين تبرأ أهله من كل ملة حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط فوقفنا عند ذلك ولا يختلف أيضا اثنان في أنه عليه السلام قطع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوي ذلك فوقفنا أيضا عند ذلك ولا مزيد فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه سواء أجمع على خروجه منه أو لم يجمع وكذلك من أجمع أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له ولا إجماع في خروجه أيضا عنه فلا يجوز إخراجه عما قد صح يقينا حصوله فيه وقد نص الله تعالى على ما قلنا فقال ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال تعالى ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون تؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وقال تعالى قل أبالله وآياته ورسله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم فهؤلاء كلهم كفار بالنص وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئا صح عندنا بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى به فقد كفر وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة و السلام أو جحد شيئا صح عنده بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاله فهو كافر لأنه لم يحكم النبي صلى الله عليه و سلم فيما شجر بينه وبين خصمه
قال أبو محمد وقد شقق أصحاب الكلام فقالوا ما تقولون فيمن قال له النبي صلى الله عليه و سلم قم صل فقال لا أفعل أو قال له النبي صلى الله عليه و سلم ناولني ذلك السيف أدفع به عن نفسي فقال له لا أفعل
قال أبو محمد وهذا أمر قد كفوا وقوعه ولا فضول أعظم من فضول من اشتغل بشيء

قد أيقن أنه لا يكون أبدا ولكن الذي كان ووقع فإننا نتكلم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال أبو محمد قد أمر زيادة النبي صلى الله عليه و سلم أفضل أهل الأرض وهم أهل الحديبية بأن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حتى أمرهم ثلاثا وغضب عليه السلام وشكا ذلك إلى أم سلمة فما كفروا بذلك ولكن كانت معصية تداركهم الله بالتوبة منها وما قال مسلم قط أنهم كفروا بذلك لأنهم لم يعاندوه ولا كذبوه وقد قال سعد بن عبادة والله يا رسول الله لأن وجدت لكاع يتفخذها رجل ادعهما حتى آتي بأربعة شهداء قال نعم قال إذن والله يقضي اربه والله لا تجللنهما للسيف فلم يكن بذلك كافرا إذ لم يكن عاندا ولا مكذبا بل أقر أنه يدري أن الله تعالى أمر بخلاف ذلك وسألوا أيضا عما قال أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض ولكن لا أدري أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس وأنا أدري أن الخنزير حرام ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به
قال أبو محمد وجوابنا هو أن من قال هذا فإن كان جاهلا علم ولا شيء عليه فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا وأن كان عالما فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى فهو كافر مرتد حلال الدم والمال ومن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا لأنهما لم يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفر وأما من سب أحدا من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان جاهلا فمعذور وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى وسرق وأن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله صلى الله عليه و سلم فهو كافر وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم عن حاطب وحاطب مهاجر يدري دعني أضرب عنق هذا المنافق فما كان عمر بتكفيره حاطبا كافرا بل كان مخطئا متاولا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم آية النفاق بغض الأنصار وقال لعلي لا يبغضك إلا منافق
قال أبو محمد ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه و سلم فهو كافر لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم من إظهار الإيمان بأيديهم ومن عادى عليا لمثل ذلك فهو أيضا كافر وكذلك من عادى من ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك وقد فرق بعضهم بين الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد بأن قال قد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفتيا فلم يكفر بعضهم بعضا ولا فسق بعضهم بعضا
قال أبو محمد وهذا ليس بشيء فقد حدث إنكار القدر في أيامهم فما كفرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم وقد اختلفوا في الفتيا على ذلك وسفكت الدماء كاختلافهم في تقديم بيعة على علي النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم وقد قال ابن عباس رضي الله عنه من شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفا ونصفا وثلثا
قال أبو محمد وهنا أقوال غريبة جدا فاسدة منها أن أقواما من الخوارج قالوا كل معصية فيها حد فليست كفرا وكل معصية لاحد فيها فهي كفر
قال أبو محمد وهذا تحكم بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل قال تعالى

قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فصح أن من لا برهان له على قوله فليس صادقا فيه
قال أبو محمد فصح بما قلنا أن كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق فهو معذور مأجور أجرا واحدا لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه إذ لم يعتمده لقول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وإن كان مصيبا فله أجران أجر لإصابته وأجر آخر لطلبه إياه وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه و سلم فهو فاسق لجراءته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام فإن عند عن الحق معارضا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان على ما بينا قبل
قال أبو محمد ونحن نختصر ها هنا إن شاء الله تعالى ونوضح كل ما أطلنا فيه قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى لأنذركم به ومن بلغ وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه و سلم فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم حكم بخلاف ما اعتقدوا قال أو عمل فلا شيء عليه أصلا حتى يبلغه فإن بلغه وصح عنده فإن خالفه مجتهدا فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة كما قال عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء وإن خالفه بعمله معاندا للحق معتقدا بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق وإن خالفه معاندا بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا وهو قول إسحاق بن راهويه وغيره وبه نقول وبالله تعالى التوفيق

الكلام في تعبد الملائكة
وتعبد الحور العين والخلق المستأنف وهل يعصى ملك أو لا
قال أبو محمد قد نص الله عز و جل على أن الملائكة متعبدون قال تعالى ويفعلون ما يؤمرون ونص تعالى على أنه امرهم بالسجود لآدم وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولد سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إلى قوله ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين وقال تعالى ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون
قال أبو محمد فنص الله تعالى على أنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرمون موعودون بإيصال الكرامة أبدا مصرفون في كتاب الأعمال وقبض الأرواح وأدار الرسالة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتوكل بما في العالم الأعلى والأدنى وغير ذلك كما خالقهم عز و جل به عليم وقوله تعالى أنه لقول رسول كريم ذي قوة عند العرش مكين مطاع ثم أمين فأخبر عز و جل أن جبريل عليه السلام مطاع في السماوات وأمين هنالك فصح أن هنالك أوامر وتدبير

وأمانات وطاعة ومراتب ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون بقوله عز و جل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وبقوله ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وبقوله فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون فنص تعالى على أنهم كلهم لا يسأمون من العبادة ولا يفترون من التسبيح والطاعة لا ساعة ولا وقتا ولا يستحسرون من ذلك وهذا خبر عن التأييد لا يستحيل أبدا ووجب أنهم متنعمون بذلك مكرمون به مفضلون بتلك الحال وبالتذاذهم بذلك ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون قد حقت لهم ولاية ربهم عز و جل ابدا إلا بد بلا نهابة فقال تعالى من كان عدو الله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين فكفر تعالى من عادى أحدا منهم فإن قال قائل كيف لا يعصون والله تعالى يقول ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم قلنا نعم هم متوعدون على المعاصي لما توعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ يقول له ربه عز و جل لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين وقد علم عز و جل أنه عليه السلام لا يشرك أبدا وأن الملائكة لا يقول أحد منهم أبدا إني إله من دون الله وكذلك قوله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وهو تعالى قد برأهن وعلم أنه لا يأتي أحد منهن بفاحشة أبدا بقوله تعالى والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لكن الله تعالى يقول ما شاء ويشرع ما شاء ويفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فأخبر عز و جل بحكم هذه الأمور لو كانت وقد علم أنها لا تكون كما قال تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إنا كنا فاعلين وكما قال لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء وكما قال تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وكما قال تعالى قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وكل هذا قد علم الله تعالى أنه لا يكون أبدا وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أن الملائكة مأمورون لا منهيون قلنا هذا باطل لأن كل مأمور بشيء فهو منهي عن تركه وقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم يدل على أنهم منهيون عن أشياء يخافون من فعلها وقال عز و جل وما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذن منظرين
قال أبو محمد وهذا مبطل ظن من ظن أن هاروت وماروت كانا ملكين فعصيا بشرب الخمر والزنا والقتل وقد أعاذ الله عز و جل الملائكة من مثل هذه الصفة بما ذكرنا آنفا أنهم لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون وبإخباره تعالى أنهم لا يسأمون ولا يفترون ولا يستحسرون عن طاعته عز و جل فوجب يقينا أنه ليس في الملائكة البتة عاص لا بعمد ولا بخطأ ولا بنسيان وقال عز و جل جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع فكل الملائكة رسل الله عز و جل بنص القرآن والرسل معصومون فصح أن هاروت وماروت المذكورين في القرآن لا يخلو أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما أما أن يكونا جنين من أحياء الجن كما روينا عن خالد بن أبي عمران وغيره وموضعهما حينئذ في الجو بدل من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت ويكون الوقوف على قوله ما أنزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا وأما أن يكونا ملكين أنزل الله عز و جل عليهما شريعة حق ثم مسخها فصارت كفرا كما فعل بشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمهما

وهي بعد كفر كأنه قال تعالى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ثم ذكر عز و جل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضاربين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق
قال أبو محمد فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قول صحيح ونهى عن المنكر وأما الفتنة فقد تكون ضلالا وتكون هدي قال الله عز و جل حاكيا عن موسى عليه السلام أنه قال لربه أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فصدق الله عز و جل قوله وصح أن يهدي بالفتنة من يشاء ويضل بها من يشاء وقال تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة وليس كل أحد يضل بماله وولده فقد كان للنبي صلى الله عليه و سلم أولاد ومال وكذلك لكثير من الرسل عليهم السلام وقال تعالى وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا وقال تعالى وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه فهذه سقيا الماء التي هي جزاء على الاستقامة قد سماها تعالى فتنة فصح أن من الفتنة خير أو هدى ومنا إضلالا وكفرا والملكان المذكورات كذلك كانا فتنة يهتدي من اتبع أمرهما في أن لا يكفر ويضل من عصاهما في ذلك وقوله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه حق لأن اتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفتهم يؤمن الزوج فيفرق إيمانه بينه وين امرأته التي لم تؤمن وتؤمن هي فيفرق إيمانها بينها وبين زوجها الذي لم يؤمن في الدنيا والآخرة وفي الولاية ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عز و جل وما هم بضاربين به من أحد إلا بإذن الله وهذا حق لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عز و جل وأبطله ضارون من إذن الله تعالى باستضراره به وهكذا إلى آخر الآية وما قال عز و جل قط أن هاروت وماروت علما سحرا ولا كفرا ولا أنهما عصيا وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة لا نصح من طريق الإسناد أصلا ولا هي أيضا مع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما هي موقوفة على من قال من دونه عليه السلام فسقط التعلق بها و صح ما قلناه والحمد لله رب العالمين وهذا التفسير الأخير هو نص الآية دون تكلف تأويل ولا تقديم ولا تأخير ولا زيادة في الآية ولا نقص منها بل هو ظاهرها والحق المقطوع به عند الله تعالى يقينا وبالله تعالى التوفيق فإن قيل كيف تصح هذه الترجمة أو الأخرى وأنتم تقولون أن الملائكة لا يمكن أن يراهم إلا نبي وكذلك الشياطين ولا فرق فكيف تعلم الملائكة الناس أو كيف تعلم الجن الناس قلنا وبالله تعالى التوفيق أما الملائكة فيعلمون من أرسلوا إليه من الأنبياء خاصة وينهونهم عن الكفر كما نهى النبي عليه الصلاة و السلام عن الكفر في نص القرآن وأما الشياطين فتعلم الناس بالوسوسة في الصدور وتزيين الباطل أو يتمثل في صورة إنسان كما تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعثم قال تعالى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم ليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله وأما الحور العين فنسو أن مكرمات مخلوقات في الجنة لأولياء الله عز و جل عافلات مميزات مطيعات لله تعالى في النعيم خلقن فيه ويخلدن بلا نهاية لا يعصين البتة والجنة إذ دخلها أهلها المخلدون فليست دار

معصية وكذلك أهل الجنة لا يعصون فيها أصلا بل هم في نعيم وحمد لله تعالى وذكر له والتذاذ بأكل وشرب ولباس ووطء لا يختلف في ذلك من أهل الإسلام اثنان وبذلك جاء القرآن والحمد لله رب العالمين وأما الولدان المخلدون فهم أولاد الناس الذين ماتوا قبل البلوغ كما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى يخلق خلقا يملأ الجنة بهم فنحن نقر بهذا ولا ندري أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون في الجنة والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وأما الجن فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إليهم بدين الإسلام هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة فكافرهم في النار مع كافرنا وأما مؤمنهم فقد اختلف الناس فيهم فقال ابو حنيفة لا ثواب لهم وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وجمهور الناس أنهم والجنة وبهذا نقول لقول الله عز و جل أعدت للمتقين ولقوله تعالى حاكيا عنهم ومصدقا لمن قال ذلك منهم وإنا لما سمعنا الهدى ءامنا به وقوله تعالى حاكيا عنهم قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به وقوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار 6 إلى آخر السورة وهذه صفة تعم الجن والإنس عموما لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين فيكون فاعل ذلك قائلا على الله ما لا يعلم وهذا حرام ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين ذلك لنا هذا هو ضد البيان الذي ضمنه عز و جل لنا فكيف وقد نص عز و جل على أنهم آمنوا فوجب أنهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة ولا بد
قال أبو محمد وإذا الجن متعبدون فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فضلت على الأنبياء بست فذكر فيها أنه عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وكان من قبله من الأنبياء إنما يبعث إلى قومه خاصه وقد نص عليه السلام على أنه بعث إلى الجن وقال عز و جل قل أوحي إلي أنه أستمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به إلى قوله تعالى وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وإذا الأمر كما ذكرنا فلم يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد صلى الله عليه و سلم لأنه ليس الجن من قوم أنسي وباليقين ندري أنهم قد أنذروا فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وبالله تعالى التوفيق
1 - تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله هل تعصي الأنبياء

شركة النبطيون الفصل في الملل والأهواء والنحل للأمام إبن حزم
الظاهري الأندلسي المتوفى 456

بسم الله الرحمن الرحيم
هل تعصى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قال أبو محمد اختلف الناس في هل تعصي الأنبياء عليهم السلام أم لا فذهبت طائفة إلى أن رسل الله صلى الله عليهم وسلم يعصون الله في جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشي الكذب في التبليغ فقط وهذا قول الكرامية من المرجئة وقول إبن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه وهو قول اليهود والنصارى وسمعت من يحكي عن بعض الكرامية أنهم يجرزون على الرسل عليهم السلام الكذب في التبليغ أيضا وأما هذا الباقلاني فإنا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السمناني قاضي الموصل أنه كان يقول أن كل ذنب دق أوجل فإنه جائز على الرسل حاشى الكذب في التبليغ فقط قال وجائز عليهم أن يكفروا قال وإذا نهى النبي عليه السلام عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلا على أن ذلك النهي قد نسخ لأنه قد يفعله عاصيا لله عز و جل قال وليس لأصحابه أن ينكروا ذلك عليه وجوز أن يكون في أمة محمد عليه السلام من هو أفضل من محمد عليه الصلاة و السلام مذ بعث إلى أن مات
قال أبو محمد وهذا كله كفر مجرد وسرك محض ورده عن الإسلام قاطعة للولاية مبيحة دم من دان بها وماله موجبة للبراءة منه في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا وجوزوا عليهم الصغائر بالعمد وهو قول إبن فورك الأشعري وذهبت جميع أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلا معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة وهو قول إبن مجاهد الأشعري شيخ إبن فورك والباقلاني المذكورين قال أبو محمد وهذا القول الذي ندين الله تعالى به ولا يحل لأحد أن يدين بسواه ونقول أنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب منه فيوافق خلاف مراد الله تعالى إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا بل ينبههم على ذلك ولا يداثر وقوعه منهم ويظهر عز و جل ذلك لعباده ويبين لهم كما فعل نبيه صلى الله عليه و سلم في سلامة من إثنتين وقيامه من إثنتين وربما عاتبهم على ذلك بالكلام كما فعل نبيه عليه السلام في أمر زينب أم المؤمنين وطلاق زيد لها رضي الله عنهما

عنهما وفي قصة إبن مكنوم رضي الله عنه وربما يبغض المكروه في الدنيا كالذي أصاب آدم ويونس عليهما الصلاة والسلام والأنبياء عليهم السلام بخلافنا في هذا فإننا غير مؤآخذين بما سهونا فيه ولا بما قصدنا به وجه الله عز و جل فلم يصادف مراده تعالى بل نحن ماجورون على هذا الوجه أجرا واحدا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى قرن بكل أحد شيطانا وأن الله تعالى أعانه على شيطانه فاسلم فلا يأمره إلا بخير وأما الملائكة فبرآء من كل هذا لأنهم خلقوا من نور محض لا شوب فيه والنور خير كله لا كدر فيه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف
قال أبو محمد واحتجت الطائفة الأولى بآيات من القرآن وأخبار وردت ونحن إن شاء الله عز و جل نذكرها ونبين غلطهم فيها بالبراهين الواضحة الضرورية وبالله تعالى التوفيق

الكلام في آدم عليه السلام
قال أبو محمد فمما احتجوا به قول الله عز و جل وعصي آدم ربه فغوى وقوله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين قالوا فقر بها آدم فكان من الظالمين وقد عصى وغوى وقال تعالى فتاب عليه والمتاب لا يكون إلا من ذنب وقال تعالى فأزلهما الشيطان وإزلال الشيطان معصية وذكروا قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعل له شركاء فيما آتاهما هذا كل ما ذكروا في آدم عليه السلام
قال أبو محمد وهذا كله بخلاف ما ظنوا أما قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى فقد علمنا أن كل خلاف لأمر آمر فصورته صورة المعصية فيسمى معصية لذلك وغواية ألا أنه منه ما يكون عن عن عمد وذكر فهذه معصية علي الحقيقة لأن فاعلها قاصد إلى المعصية وهو يدري أنها معصية وهذا هو الذي نزهها عنه الأنبياء عليهم السلام ومنه ما يكون عن قصد إلى خلاف ماأمر به وهو يتأول في ذلك الخير ولا يدري أنه عاص بذلك بل يظن أنه مطيع لله تعالى أو أن ذلك مباح له لأنه يتأول أن الأمر الوارد عليه ليس على معنى الإيجاب ولا على التحريم لكن أما على الندب أن كان بلفظ الأمر أو الكراهية أن كان بلفظ النهي وهذا شيء يقع فيه العلماء والفقهاء الأفاضل كثيرا وهذا هو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام ويؤاخذون به إذا وقع منهم وعلى هذا السبيل أكل آدم من الشجرة ومعنى قوله تعالى فتكونا من الظالمين أي ظالمين لأنفسكما والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فمن وضع الأمر أو النهي في موضع الندب أو الكراهية فقد وضع الشيء في غير موضعه وهذا الظلم من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد وليس معصية لا الظلم الذي هو القصد إلى المعصية وهو يدري أنها معصية وبرهان هذا ما قد نصه الله تعالى من أن آدم عليه السلام لم يأكل من الشجرة إلا بعد أن أقسم له إبليس أن نهى الله عز و جل لهما عن أكل الشجرة ليس على التحريم وأنهما لا يستحقان بذلك عقوبة أصلا بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن وفوز الأبد قال تعالى حاكيا عن إبليس أنه
قال لهما مانا ربكما هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين

أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما لغرور
وقد قال عز و جل ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما
قال أبو محمد فما نسي آدم عليه السلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له أحسن الظن بيمينه قال أبو محمد ولا سلامة ولا براءة من القصد إلى المعصية ولا أبعد من الجراءة علي الذنوب أعظم من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا وهكذا فعل آدم عليه عليه السلام فإنه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا بنص القرآن ومتاولا وقاصدا إلى الخير لأنه قدر أنه يزداد خظوة عند الله تعالى فيكون ملكا مقربا أو خالدا فيما هو فيه أبدا فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عز و جل به وكان الواجب أن يحمل أمر ربه عز و جل على ظاهره لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا ولكن آدم عليه السلام لما فعله ووجد به إخراجه عن الجنة إلى نكد الدنيا كان بذلك ظالما لنفسه وقد سمى الله عز و جل قاتل الخطأ قاتلا كما سمى العامد والمخطئ لم يتعمد معصية وجعل في الخطأ في ذلك كفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة وهو لم يتعمد ذنبا وأما قوله عز و جل لئن أتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فهذا تكفير لآدم عليه السلام ومن نسب لآدم عليه السلام الشرك والكفر كفرا مجردا بلا خلاف من أحد من الأمة ونحن ننكر على من كفر المسلمين العصاة العشارين القتالين والشرط الفاسقين فكيف من كفر الأنبياء عليهم السلام وهذا الذي نسبوه إلى آدم عليه السلام من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة مكذوبة من تأليف من لا دين له ولا حياء لم يصح سندها قط وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها وحتى لو صح أنها نزلت في آدم وهذا لا يصح أصلا لما كانت فيه للمخالف حجة لأنه كان يكون الشرك أو الشركاء المذكورون في الآية حينئذ على غير الشرك الذي هو الكفر لكن يمعنى أنهما جعلا مع توكلهما شركة من حفظه ومعناه كما قال يعقوب عليه السلام يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وأنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون فأخبرنا عز و جل أن يعقوب عليه السلام أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة أشفاقا عليهم إما من إصابة العين وإما من تعرض عدو أو مستريب بإجماعهم أو ببعض ما يخوفه عليهم وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا يريده عز و جل بهم ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام وفي سائر الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى حاكيا عن الرسل أنهم قالوا إن نحن إلا بشر مثلكم حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزاعها وتوقها إلى سلامة من يجب وإن كان ذلك لا يغني شيئا كما كان عليه السلام يحب الفال الحسن فكان يكون على هذا معنى الشرك والشركاء أن يكون عوذة أو تميمة أو نحو هذا فكيف ولم تنزل الآية قط إلا في الكفار لا في آدم عليه السلام

الكلام في نوح عليه السلام
قال أبو محمد ذكروا قول الله عز و جل لنوح فلا نسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين

قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن نوحا عليه السلام تاول وعد الله تعالى أن يخلصه وأهله فظن أن ابنه من أهله على ظاهر القرابة وهذا لو فعله أحد لكان مأجورا ولم يسأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله فتفرع على ذلك نهي عن أن يكون من الجاهلين فتندم عليه السلام من ذلك ونزع وليس ها هنا عمد للمعصية البتة وبالله تعالى التوفيق

الكلام في إبراهيم عليه السلام
قال أبو محمد ذكروا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات وأنه قال إذ نظر في النجوم أني سقيم وبقوله في الكواكب والشمس والقمر وهذا ربي بقوله في سارة هذه أختي وبقوله في الأصنام إذ كسرها بل فعله كبيرهم هذا وبطلبه إذ طلب رؤية إحياء الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
قال أبو محمد وهذا كله ليس على ما ظنوه بل هوحجة لنا والحمد لله رب العالمين أما الحديث أنه عليه السلام كذب ثلاث كذبات فليس كل كذب معصية بل منه ما يكون طاعة لله عز و جل وفرضا واجبا يعصى من تركه صح ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا وقد أباح عليه السلام كذب الرجل لامرأته فيما يستجلب به مودتها وكذلك الكذب في الحرب وقد أجمع أهل الاسلام على أن انسانا لو سمع مظلوما قد ظلمه سلطان وطلبه ليقتله بغير حق ويأخذ ماله غصبا فاستتر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصدا بذلك السلطان بذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر أن يكون سمعه أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله فإنه محسن مأجور مطيع لله عز و جل وأنه أن صدقه فأخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله كان فاسقا عاصيا لله عز و جل فاعل كبيرة مذموما تماما وقد أبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية وكل ما روى عن إبراهيم عليه السلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة لا في الكذب الذي نهى عنه وأما عن قوله عن سارة هي أختي فصدق هي أخته من وجهين قال الله تعالى إنما المؤمنون أخوة وقال عليه السلام لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه والوجه الثاني القرابة وأنها من قومه ومن مستجيبيه قال عز و جل وإلى مدين أخاهم شعيبا فمن عد هذا كذبا مذموما من إبراهيم عليه السلام فليسعده كذبا من ربه عز و جل وهذا كفر مجرد فصح أنه عليه السلام صادق في قوله سارة أخته وأما قوله فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فليس هذا كذبا ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما يحدث في العالم كدلالة البرق على نعول البحر وكدلالة الرعد على تولد الكماة وكتولد المد والجزر على طلوع القمر وغروبه وأعذار وارتفاعه وامتلائه ونقصه وإنما المنكر قول من قال أن الكواكب هي الفاعلة المدبرة لذلك دون الله تعالى أو مشتركة معه فهذا كفر من قائله وأما قوله عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى ذق نك أنت العزيز الكريم وهو في الحقيقة مهان ذليل معذب في النار فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله إذا كذب إنما هو الأخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصد إلى تحقيق ذلك وأما قوله عليه السلام إذ رأى الشمس والقمر هذا ربي فقال قوم أن إبراهيم عليه السلام

قال ذلك محققا أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة مكذوبة ظاهرة الافتعال ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التميز والكلام بمثل هذا وهو لم ير قط شمسا ولا قمرا ولا كوكبا وقد اكذب الله هذا الظن الكاذب بقوله الصادق ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين فمحال أن يكون من أتاه الله رشده من قبل يدخل في عقله أن الكواكب ربه أو أن الشمس ربه من أجل أنها أكبر قرصا من القمر هذا ما لا يظنه إلا مجنون العقل والصحيح من ذلك أنه عليه السلام إنما قال ذلك موبخا لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام ولا فرق لأنهم كانوا على دبن الصابئين يعبدون الكواكب ويصورون الأصنام على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لعا الذبائح ويقربون لها القرب والقرابين والدخن ويقولون أنها تعقل وتدبر وتضر وتنفع ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة فوبخهم الخليل عليه السلام على ذلك وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها كما قال تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخرة الجمادية وبين لهمأنهم مخطئون وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه السلام أشرك قط بربه أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك بل صدقه تعالى بقوله وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء فصح هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد الله عز و جل بما قال من ذلك وبما فعل وأما قوله عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطوئن قلبي فلم يقرره ربنا عز و جل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليه السلام تعالى الله عن ذلك ولكن تقرير الإيمان في قلبه وأن لم ير كيفية إحياء الموتى فأخبر عليه السلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك وما شك إبراهيم عليه السلام في أن الله تعالى يحيي الموتى وإنما أراد أن يرى الهيئة كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل والتمساح والكسوف وزيادة النهر والخليفة ثم يرغب من لم ير لك منافي أن يرى كل ذلك ولا يشك في أنه حق لكن ليرى العجب الذي يتمثله ولم تقع عليه حاسة بصره فقط وأما ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم نحن أحق بالشك من إبراهيم فمن ظن أن النبي صلى الله عليه و سلم شك قط في قدرة ربه عز و جل على إحياء الموتى فقد كفر وهذا الحديث حجة لنا على نفي الشك عن إبراهيم أي لو كان الكلام من إبراهيم عليه السلام شكا لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه السلام أحق بالشك فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك فإبراهيم عليه السلام أبعد من الشك
قال أبو محمد ومن نسب ها هنا إلى الخليل عليه السلام الشك فقد نسب إليه الكفر ومن كفر نبيا فقد كفر وأيضا فإن كان ذلك شكا من إبراهيم عليه السلام وكنا نحن أحق بالشك منه فنحن إذا شكاك جاحدون كفار وهذا كلام نعلم والحمد لله بطلانه من أنفسنا بل نحن ولله الحمد مؤمنون مصدقون بالله تعالى وقدرته على كل شيء يسأل عنه السائل وذكروا قول إبراهيم عليه السلام لأبيه واستغفاره له وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن نهى عن ذلك قال تعالى فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه فائنى الله تعالى عليه بذلك فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان مدة حياته راجيا إيمانه فلما مات كافرا تبرأ منه ولم يستغفر له بعدها تم الكلام في إبراهيم عليه السلام

الكلام في لوط عليه السلام
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى في لوط عليه السلام أنه قال
لو أن لي بكم قوة أو أرى إلى ركن شديد
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد فظنوا أن هذا القول منه عليه السلام إنكار على لوط عليه السلام أيضا
هؤلاء بناتي هن أطهر لكم
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه أما قوله عليه السلام لو أن لي بكم قوة أو أوى إلى ركن شديد فليس مخالفا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد بل كلا القولين منهما عليهما السلام حق متفق عليه لأن لوطا عليه السلام إنما أراد منعه عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش من قرابة وأو عشيرة أو اتباع مؤمنين وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة وأشد ركن ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس فقد قال تعالى لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض فهذا الذي طلب لوط عليه السلام وقد طلب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله عليه السلام تالله ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما أخبر عليه السلام أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني من نصر الله له بالملائكة ولم يكن لوط علم بذلك ومن اعتقد أن لوطا كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر وهذا أيضا ظن سيخف إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات وهو دائبا يدعو إليه هذا الظن وأما قوله عليه السلام هؤلاء بناتي هن فإنما أراد الترويج والوطء في المكان المباح فصح ما قلنا إذ من المحال أن يدعوهم إلى منكر وهو ينهاهم عن المنكر انقضى الكلام في لوط عليه السلام
الكلام في أخوه يوسف عليهم السلام
قال أبو محمد واحتجوا بفعل أخوه يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم وهذا لا حجة لهم فيه لأن اخوة يوسف عليه السلام لم يكونوا أنبياء ولا جاء قط في أنهم أنبياء نص لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم وأما يوسف صلى الله عليه و سلم فرسول الله بنص القرآن قال عز و جل ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به إلى قوله من بعده رسولا وأما إخوته فأفعالهم تشهد أنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم فكيف أن يكونوا أنبياء ولكن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم وبرهان ما ذكرنا من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم عليه السلام أنه قال لهم أنتم شر مكانا ولا يجوز البتة أن يقوله نبي من الأنبياء نعم ولا لقوم صالحين إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس لأن الصالحين ليسوا شرا مكانا وقد عق ابن نوح أباه أكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم إلا أن أخوه يوسف لم يكفروا ولا يحل لمسلم ان يدخل في الانبياء من لم يات نص ولا اجماع أو نقل كافة بصحة نبوته ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبيا وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم فان ذكروا في ذلك ماروى عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم انمامات ابراهيم بن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه لا نبي بعد رسول الله عليه وسلم واولاد الانبياء انبياء فهذه

غفلة شديدة وزلة عالم من وجوه أولها أنه دعوى لا دليل علي صحتها وثانيها انه لو كان ما ذكر لأمكن ان ينبأ ابراهيم في المهد كما نبىء عيسى عليه السلام وكما اوتي يحي الحكم صبيا فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبياوقد عاش عامين غير شهرين وحاشا لله من هذا وثالثها ان ولد نوح كان كافرابنص القرآن عمل عملا غير صالح فلو كان أولاد الانبياء انبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبيا وحاشا لله من هذا ورابعها لو كان ذلك لوجب ولابد ان تكون اليهود كلهم انبياء الى اليوم بل جميع اهل الارض انبياء لانه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه انبياءلان اباهم نبي واولاده انبياء أيضا لان آباءهم انبياء وهم أولاد انبياء وهكذا أبدا حتى يبلغ الامر الينا وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه مالا خفاء به وبالله تعالى التوفيق
قال ابو محمد ولعل من جهل مرتين يقول عنا هذا ينكر نبوة اخوة يوسف ويثبت نبوة نبي المجوس ونبوة ام موسى وام عيسى وام اسحاق عليهم السلام فنحن نقول وبالله تعالى التوفيق وبه نعتصم لسنا نقر بنبوة من لم يخبر الله عز و جل بنبوته ولم ينص رسول الله صلى الله عليه و سلم علي نبوته ولا نقلت الكواف عن امثالها نقلا متصلا منه الينا معجزات النبوة عنه ممن كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه و سلم بل ندفع نبوة من قام البرهان على بطلان نبوته لان تصديق نبوة من هذه صفته افتراء على الله تعالى لا يقدم عليه مسلم ولا ندفع نبوة من جاء القرآن بأن الله تعالى نباه فأما أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق فالقرآن قد جاء بمخاطبة الملائكة لبعضهن بالوحي وإلى بعض منهن عن الله عز و جل بالأنباء بما يكون قبل أن يكون وهذه النبوة نفسها التي لا نبوة غيرها فصحت نبوتهن بنص القرآن وأما نبي المجوس فقد صح أنهم اهل كتاب يأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الجزية منهم ولم يبح الله تعالى له أخذ الجزية إلا من أهل الكتاب فقط فمن نسب إلى محمد صلى الله عليه و سلم أنه أخذ الجزية من غير أهل الكتاب فقد نسب إليه أنه خالف ربه تعالى وأقدم على عظيمة تقشعر منها جلود المؤمنين فإذ نحن على يقين من أنهم أهل كتاب فلا سبيل البتة إلى نزول كتاب من عند الله تعالى على غير نبي مرسل بتبليغ ذلك الكتاب فقد صح بالبرهان الضروري أنهم قد كان لهم نبي مرسل يقينا بلا شك ومع هذا فقد نقلت عنه كواف عظيمة معجزات الأنبياء عليهم السلام وكل ما نقلته كافة على شرط عدم التواطئ فواجب قبوله ولا فرق بين ما نقلته كواف الكافرين أو كواف المسلمين فيما شاهدته حواسهم ومن قال لا أصدق إلا ما نقلته كواف المسلمين فإنا نسأله بأي شيء يصح عنده موت ملوك الروم ولم يحضرهم مسلم أصلا وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى ومثل هذا كثير فإن كذب هذا غالط نفسه وعقله وكابر حسه وأيضا فإن المسلمين إنما علمنا أنهم محقون لتحقيق نقل الكافة لصحة ما بأيديهم فبنقل الكافة علمنا هدى المسلمين ولا تعلم بالإسلام صحة نقل الكافة بل هو معلوم بالبينة وضرورة العقل وقد أخبر تعالى أن الأولين زبر وقال تعالى ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق الكلام في يوسف عليه السلام
وذكروا أيضا أخذ يوسف عليه السلام أخاه وإيحاشه أباه عليه اسلام منه وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه فلم بفعل وليس بينه

بينه وبينه إلا عشر ليال وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائراخوته ثم أمر من هتف أيتها العير إنكم لسارقون وهم لم يسرقوا شيئا وبقول الله تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وبخدمته لفرعون وبقوله للذي كان معه في السجن أذكرني عند ربك
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد إما أخذه أخاه وايحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود اخوته إليه ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك وليكون ذلك سببا لإجتماعه وجمع شمل جميعهم ولا سبيل إلى أن يظن برسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه فكيف برسول الله صلى الله عليه و سلم وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها علي ويتعف أبيه خبره ولم يفعل فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى كالذي بيننا اليوم وبين من يضافينا من بلاد النصارى كفاليش وغيرها أو كصحراء البربر فلم يكن عند يوسف عليه السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ولا حي هو أو ميت أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ولا وجد أحدا يثق به فيرسل إليه للإختلاف الذي ذكرنا وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ولسانا واحدا وأمة واحدة والطريق سابل والتجار ذاهبون وراجعون والرفاق سائرة ومقبلة والبرد ناهضة وراجعة فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ولكن كما قدمنا دليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه انقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض وامتيازهم من عنده فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل آن يأتوه ورب رئيس جليل شاهدنا من أبناء البشاكس والافرنج لو قدر علي أن يستجلب أبويه لكان أشد الناس بدارا إلى ذلك ولكن الأمر تعذر عليهم تعذرا أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع فهذا كان أمر يوسف عليه السلام وأما قول يوسف لإخوته أنكم لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ولم يقل عليه السلام أنكم سرقتم الصواع وإنما قال تفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقد له بلا شك وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمة تقية وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنة غير ذلك ولا مرية في أن ذلك كان مباحا في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا قال الله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وأما سجود أبويه فلم يكن محظورا في شريعتهما بل كان فعلا حسنا وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام إلا أن الذي

لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن اذكرني عند ربك فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز و جل لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه وهذا فرض من وجهين أحدهما وجوب السعي في كف الظلم عنه والثاني دعاؤه إلى الخير والحسنات واما قوله تعالى فأنساه الشيطان ذكر ربه فالضمير الذي في أنساه وهو الهاء راجع إلى الفتي الذي كان معه في السجن أي ان الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام ويحتمل أيضا أن يكون انساه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عز و جل لذكر حاجة يوسف عليه السلام وبرهان ذلك قول الله عز و جل وادكر بعد أمة فصح يقينا أن المذكور بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر وحتى لو صح أن الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليه السلام لما كان في ذلك نقص ولا ذنب اذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الانبياء وأما قوله همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال انه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم فكيف برسول الله صلى الله عليه و سلم فقط فإن قيل ان هذا قد روى عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الاسناد قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقط والوهم في تلك الرواية انما هي بلا شك عمن دون ابن عباس أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لانه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين أما انه هم بالايقاع بها وضربها كما قال تعالى وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وكما يقول القائل لقد همت بك لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله اياه استغنى به عن ضربها وعلم ان الفرار أجدى عليه واظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر القد من القميص والوجه الثاني أن الكلام تم عند قوله ولقد همت به ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل وبهذا نقول حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي حدثنا ابن عون الله أنبأنا إبراهيم ابن احمد بن فراس حدثنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري انا اسحق بن راهويه أنا المؤمل ابن اسماعيل الحميري حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قالها يوسف عليه السلام قال له جبريل يا يوسف اذكر همك

فقال يوسف وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ولكنه فيه أنه بأمرها وهذا حق كما قلنا فسقط هذا الإعتراض وصح الوجه الأول والثاني معا إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهي خيانة لسيده إذ هم بضرب امرأته وبرهان ربه ها هنا هو النبوة وعصمة الله عز و جل إياه ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة وهذا لا شك فيه ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسه الرذله عن مثل المقام فيهلك وقد خشي النبي صلى الله عليه و سلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن إذ قال للأنصاريين حين لقيهما هذذه صفية
قال أبو محمد ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء فلا بد أنه سوء ولو قال أنه ليس بسوء لعاند الإجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين وأيضا فإنها قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق إن كان قمصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فصح أنها كذبت بنص القرآن وإذا كذبت بنص القرآن فما أراد بها سوء فما هم بالزنا قط ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين وهذا بين جدا وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن فصح عنه أنه قط لم يصب إليها وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في يوسف عليه السلام

الكلام في موسى عليه السلام وأمه
قال أبو محمد ذكروا قول الله تعالى وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها فمعناه فارغا من الهم بموسى جملة لأن الله عز و جل قد وعدها برده إليها إذ قال لها تعالى إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فمن الباطل المحض أن يكون اله تعالى ضمن لها رده إليها ثم يصبح قلبها مشغولا بالهم بأمره هذا مالا يظن بذي عقل أصلا وإنما معنى قوله تعالى أن كادت لتبدي به أي سرورا بما أتاه الله عز و جل من الفضل وقولها لأخته قصية إنما هو لترى أخته كيفية قدرة الله تعالى في تخليصه من يدي فرعون عدوه بعد وقوعه فيهما وليتم بها ما وعدها الله تعالى من رده إليها فبعثت أخته لترده بالوحي ذكروا قول الله تعالى عن موسى عليه السلام فأخذ برأس أخيه يجره إليه قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ورأسي قالوا وهذه معصية أن يأخذ بلحية أخيه وشعره

وهو نبي مثله وأسن منه ولا ذنب له
قال أبو محمد وهذا ليس كما طنوا وهو خارج على وجهين أحدهما أن أخذه برأس أخيه ليقبل بوجهه عليه ويسمع عتابه له إذ تأخر عن اتباعه إذ رآهم ضلوا ولم ياخذ بشعر أخيه قط إذ ليس ذلك في الآية أصلا ومن زاد ذلك فيها فقد كذب على الله تعالى لكن هارون عليه السلام خشيى بادرة من موسى عليه السلام وسطوة إذ رآه قد اشتد غضبه فأراد توقيفه بهذا الكلام عما تخوفه منه وليس في هذه الآية ما يوجب غير ما قلناه ولا أنه مد يده إلى أخيه أصلا وبالله تعالى التوفيق والثاني أن يكون هارون عليه السلام قد يكون استحق في نظر موسى عليه السلام النكير لتأخيره عن لحاقه إذ رآهم ضلوا فأخذ برأسه منكرا عليه ولو كان هذا لكان إنما فعله موسى عليه السلام غضبا لربه عز و جل وقاصدا بذلك رضاء الله تعالى ولسنا نبعد هذا من الأنبياء عليهم السلام وإنما نبعد القصد إلى المعصية وهم يعلمون أنها معصية وهذا هو معني ما ذكره الله تعالى عن ابراهيم خليله صلى الله عليه و سلم إذ قال والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر إنما الخطيئة المذكورة والذنوب المغفورة ما وقع بنسيان أو بقصد إلى الله تعالى إرادة الخير فلم يوافق رضا الله عز و جل بذلك فقط وذكروا قول موسى عليه السلام للخضر عليه السلام أقتلت نفسا زكية بغير نفس فأنكر موسى عليه السلام الشيء وهو لا يعلمه وقد كان أخذ عليه العهد أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا فهذا أيضا لا حجة لهم فيه لأن ذلك كان على سبيل النسيان وقد بين موسى عليه السلام ذلك بقوله لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فرغب إليه أنه لا يؤاخذه بنسيانه ومؤاخذة الخضر له بالنسيان دليل على صحة ما قلنا من أنهم عليهم السلام مؤاخذون بالنسيان وبما قصدوا به الله عز و جل فلم يصادفوا بذلك مراد الله عز و جل وتكلم موسى عليه السلام على ظاهر الأمر وقدر أن الغلام زكى إذ لم يعلم له ذنبا وكان عند الخضر العلم الجلي بكفر ذلك الغلام واستحقاقه القتل فقصد موسى عليه السلام بكلامة في ذلك وجه الله تعالى والرحمة وإنكار ما لم يعلم وجهه وذكروا قول موسى عليه السلام فعلتها إذا وأنا من الضالين فقول صحيح وهو حاله قبل النبوة فإنه كان ضالا عما اهتدى له بعد النبوة وضلال الغيب عن العلم كما تقول أضللت بعيري لا ضلال القصد إلى الإثم وهكذا قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم ووجدك ضالا فهدى أي ضالا عن المعرفة وبالله تعالى التوفيق وذكروا قول الله عز و جل عن بني إسرائيل فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم قالوا وموسى قد سأل ربه مثل ذلك فقال رب أرني أنظر إليك قال

لن تراني قالوا فقد سأل موسى عليه السلام أمرا عوقب سائلوه قبله
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لانه خارج على وجهين أحدهما أن موسى عليه السلام سال ذلك قبل سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى وقبل أن يعلم أن سؤال ذلك لا يجوز فهذا لا مكروه فيه لأنه سأل فضيلة عظيمة أراد بها علو المنزلة عند ربه تعالى والثاني أن بني إسرائيل سألوا ذلك متعنتين وشكاكا في الله عز و جل وموسى سأل ذلك على الوجه الحسن الذي ذكرنا آنفا .

الكلام على يونس عليه السلام
قال أبو محمد وذكروا أمر يونس عليه السلام وقول الله تعالى عنه وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقوله تعالى فلولا انه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون وقوله لنبيه عليه السلام فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم وقوله تعالى فالتقمه الحوت وهو مليم قالوا ولا ذنب أعظم من المغاضبة لله عز و جل ومن أكبر ذنبا ممن ظن أن الله لا يقدر عليه وقد أخبر الله تعالى أنه استحق الذم لولا أن تداركه نعمة الله عز و جل وانه استحق الملامة وانه اقر على نفسه أنه كان من الظالمين ونهى الله تعالى نبيه أن يكون مثله قال أبو محمد هذا كله لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا على صحة قولنا والحمد لله رب العالمين أما أخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا فلم يغاضب ربه قط ولا قال الله تعالى أنه غاضب ربه فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب وزائدا في القرآن ما ليس فيه هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل ذلك نبي من الانبياء فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عز و جل فعوقب بذلك وان كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضا الله عز و جل وأما قوله تعالى فظن أن لن نقدر عليه فليس علي ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال الا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل فكيف بنبي مفصل على الناس في العلم ومن المحال المتيقن ان يكون نبي يظن ان الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه وهو يرى ان آدميا مثله يقدر عليه ولا شك في ان من نسب هذا للنبي صلى الله عليه و سلم الفاضل فانه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه فكيف إلى يونس عليه السلام الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تفضلوني على يونس بن متى فقد بطل ظنهم بلا شك وصح أن معنى قوله فظن أن لن

نقدر عليه أي لن نضيق عليه كما قال تعالى وأما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه أي ضيق عليه فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه اذ ظن انه محسن في فعله ذلك وإنما نهى الله عز و جل لمحمد صلى الله عليه و سلم عن أن يكون كصاحب الحوت فنعم نهاه الله عز و جل عن مغاضبته قومه وأمره بالصبر على اذاهم وبالمطاولة لهم واما قول الله تعالى انه استحق الذم والملامة لولا النعمة التي تداركه بها للبث معاقبا في بطن الحوت فهذا نفس ما قلناه من أن الانبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيرا وقربة إلى الله عز و جل إذا لم يوافق مراد ربهم وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين والظلم وضع الشيء في غير موضعه فلما وضع النبي صلى الله عليه و سلم المغاضبة في غير موضعها اعترف في ذلك بالظلم لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم انقضى الكلام في يونس عليه السلام وبالله تعالى التوفيق .

الكلام في داود عليه السلام
وذكروا أيضا قول الله تعالى حاكيا عن داود عليه السلام وهل أتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان إلى قوله فغفرنا له ذلك قال أبو محمد وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولدها اليهود وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم بلا شك مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم بغى أحدهما على الآخر على نص الآية ومن قال أنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عز و جل وقوله ما لم يقل وزاد في القرآن ما ليس فيه وكذب الله عز و جل وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة لأن الله تعالى يقول هل أتاك نبأ الخصم فقال هو لم يكونوا قط خصمين ولا بغى بعضهم على بعض ولا كان قط لاحدهما تسع وتسعون نعجة ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا لم يقحمون فيه أهل الباطل أنفسهم ونعوذ بالله من الخذلان ثم كل ذلك بلا دليل بل الدعوى المجردة وتالله ان كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ثم يعرض زوجها للقتل عمدا ليتزوجها وعن أن يترك صلاته لطائر يراه هذه أفعال السفهاء المتهوكين الفساق المتمردين لا أفعال أهل البر والتقوى فكيف برسول الله داود صلى الله عليه و سلم الذي أوحي إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه لقد نزهه الله عز و جل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله فكيف أن يستضيف إلى أفعاله وأما استغفاره وخروره ساجدا ومغفرة الله تعالى له فالانبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من

نبي ولا من مذنب ولا من غير مذنب فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام وظن داود إنما فتناه وقوله تعالى فغفرنا له ذلك فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما أتاه الله عز و جل من سعة الملك العظيم فتنة فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه فاستغفر الله تعالى من هذا الظن فغفر الله تعالى له هذا الظن إذ لم يكن ما أتاه الله تعالى من ذلك فتنة .

الكلام في سليمان عليه السلام
وذكروا قول الله عز و جل عن سليمان عليه السلام ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا اذ معنى قوله تعالى فتنا سليمان أي أتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته كما قال تعالى مصدقا لموسى عليه السلام في قوله تعالى إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء إن من الفتنة من يهدي الله من يشاء وقال تعالى ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط وما عدا هذا فخرافات ولدها زنادقة اليهود وأشباههم وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد نؤمن بهذا كما هو ونقول صدق الله عز و جل كل من عند الله ربنا ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بتفسير هذا الجسد ما هو لقلنا به فاذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح فلا يحل لاحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك فيكون كاذبا على الله عز و جل الا اننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال انه كان جنيا تصور بصورته بل نقطع على أنه كذب والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلى الله عليه و سلم هذا الهتك وكذلك نبعد قول من قال انه كان ولدا له أرسله إلى السحاب ليربيه فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز و جل بنية البشر عليه من اللبن والطعام وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح اسنادها قط وذكروا أيضا قول الله عز و جل عن سليمان عليه السلام إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق وتأولوا ذلك على ما قد نزه الله عنه من له أدنى مسكة من عقل

من أهل زماننا وغيره فكيف بنبي معصوم مفضل في أنه قتل الخيل اذا اشتغل بها عن الصلاة قال أبو محمد وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت افانين من القول والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك لان فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها واتلاف مال منتفع به بلا معنى ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين فكيف بنبي مرسل ومعنى هذه الآية ظاهر بين وهو أنه عليه السلام أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابها ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده برا بها واكراما لها هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره وليس فيها اشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكروا أيضا الحديث الثابت من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أن سليمان عليه السلام قال لاطوفن الليلة علي كذا وكذا امرأة كل امرأة منهن تلد فارسا يقاتل في سبيل الله ولم يقل ان شاء الله
قال أبو محمد وهذا ما لا حجة لهم فيه فإن من قصد تكثير المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عز و جل فقد أحسن ولا يجوز أن يظن به أنه يجهل أن ذلك لا يكون إلا أن يشاء الله عز و جل وقد جاء في نص الحديث المذكور أنه إنما ترك إن شاء الله نسيانا فأوخذ بالنسيان في ذلك وقد قصد الخير وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين تم الكلام في سليمان عليه الصلاة و السلام
فصل وذكروا قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين
قال أبو محمد وهذا ما لا حجة لهم فيه لأنه ليس في نص الآية ولا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن هذا المذكور كان نبيا وقد يكون انباء الله تعالى لهذا المذكور آياته أنه أرسل إليه رسولا بآياته كما فعل بفرعون وغيره فانسلخ منها بالتكذيب فكان من الغاوين وإذا صح أن نبيا لا يعصي الله عز و جل تعمدا فمن المحال أن يعاقبه الله تعالى على ما لا يفعل ولا عقوبة أعظم من الحط عن النبوة ولا يجوز أن يعاقب بذلك نبي البتة لأنه لا يكون منه ما يستحق به هذا العقاب وبالله تعالى التوفيق فصح يقينا أن هذا المنسلخ لم يكن قط نبيا وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ما من أحد إلا من ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو كلاما هذا معناه
قال أبو محمد وهذا صحيح وليس خلافا لقولنا إذ قد بينا أن الأنبياء عليهم السلام

يقع منهم النسيان وقصد الشيء يظنونه قربة إلى الله تعالى فأخبر عليه السلام أنه لم ينج من هذا أحد إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فيقول من هذا إن يحيى لم ينس شيئا واجبا عليه قط ولا فعل إلا ما وافق فيه مراد ربه عز و جل الكلام في محمد صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقوله تعالى عسى وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فانت له تصدى وما عليك الا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى وبالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في والنجم إذا هوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم وانها لهي الغرانيق العلي وأن شفاعتها لترتجى وذكروا قول الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وبقوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله وأن الوحي امتسك عنه عليه السلام لتركه الاستثناء إذ سأله اليهود عن الروح وعن ذي القرنين وأصحاب الكهف وبقوله تعالى وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وبما روي من قوله عليه السلام لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة إذ قبل الفداء وترك قتل الأسرى ببدر وبما روي من قوله عليه السلام لو نزل عذاب ما نجى منه إلا عمر لأن عمر أشار بقتلهم وذكروا أنه عليه السلام مال إلى رأي أبي بكر في الفدا والاستبقاء وبقوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر قالوا فان لم يكن له ذنب فماذا غفر له وبأي شيء أمتن الله عليه في ذلك وبقوله صلى الله عليه و سلم لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت فإنما هذا اذ دعي إلى الخروج من السجن فلم يجب إلى الخروج حتى قال للرسول ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهم أن ربي بكيدهن عليم فأمسك عن الخروج من السجن وقد دعي إلى الخروج عنه حتى اعترف النسوة بذنبهن وبراءته وتيقن بذلك ما كان شك فيه فأخبر محمد ص - أنه لو دعي الى الخروج من السجن لأجاب وهذا التفسير منصوص في الحديث نفسه كما ذكرنا من كلامه عليه السلام لو لبثت في السجن ما لبث يوسف عليه السلام ثم دعيت لاجبت الداعي أو كلاما هذا معناه واما قول الله عز و جل ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقد بينا ان ذنوب الانبياء عليهم السلام ليست الا ما وقع بنسيان او بقصد الى ما يظنون خيرا مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم فهذان لوجهان هما اللذان غفر الله عز و جل له وأما قوله لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فإنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين المتشتنين عليه يبين ذلك

قوله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم وقوله تعالى في هذه السورة نفسها النازلة في هذا المعنى يجادلونك في الحق بعدما تبين كانما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وقوله تعالى قبل ذكره الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا تريدون عرض الدينا والله يريد الآخرة فهذا نص القرآن وقد رد الله عز و جل الامر في الأنفال المأخوذة يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما الخبر المذكور الذي فيه لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة ولو نزل عذاب ما نجي منه إلا عمر فهذا خبر لا يصح لأن المنفرد بروايته عكرمة بن عمار اليمامي وهو ممن قد صح عليه وضع الحديث أو سوء الحفظ أو الخطأ الذي لا يجوز معهما الرواية عنه ثم لو صح لكان القول فيه كما قلنا من أنه قصد الخير بذلك وأما قوله عبس وتولى الايات فانه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ورجا اسلامه وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم باسلامه ناس كثير وأظهر الدين وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه فاشتغل عنه عليه السلام بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته وهذا غاية النظر للدين والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الامر ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر فعاتبه الله عز و جل على ذلك إذ كان الاولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي وهذا نفس ما قلناه وكما سهى عليه السلام من اثنتين ومن ثلاث وقام من اثنتين ولا سبيل إلى أن يفعل من ذلك شيئا تعمدا أصلا نعم ولا يفعل ذلك تعمدا إنسان منا فيه خير وأما الحديث الذي فيه وأنهن الغرانيق العلى وأن شفاعتها لترتجى فكذب بحت موضوع لأنه لم يصح قط من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد وأما قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى القى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان الآية فلا حجة لهم فيها لأن الاماني الواقعة في النفس لا معنى لها وقد تمنى النبي صلى الله عليه و سلم اسلام عمه أبي طالب ولم يرد الله عز و جل كون ذلك فهذه الأماني التي ذكرها الله عز و جل لا سواها وحاشا لله أن يتمنى نبي معصية وبالله تعالى التوفيق وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق وأما قوله ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت فقد كفى الله عز و جل الكلام في ذلك ببيانه في آخر الآية أن ذلك كان نسيانا فعوتب عليه السلام في ذلك وأما قوله تعالى وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله احق أن تخشاه فقد أنفنا من ذلك إذ لم يكن فيه معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به وإنما كان اراد زواج مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له إظهاره وإنما

خشي النبي صلى الله عليه و سلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا قولا ويظنوا ظنا فيهلكوا كما قال عليه السلام للانصار بين أنها صفية فاستعظما ذلك فأخبرهما النبي صلى الله عليه و سلم أنه إنما أخشى أن يلقى الشيطان في قلوبهما شيئا وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم بظن يظنونه به عليه السلام هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم تعمد المعاصي فهلكت أديانهم وضلوا ونعوذ بالله من الخذلان وكان مراد الله عز و جل أن يبدي ما في نفسه لما كان سلف في علمه من السعادة لامنا زينب رضي الله عنها
قال أبو محمد فإن قال قائل أنكم تحتجون كثيرا بقول الله عز و جل وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وبقوله فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وبقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكروا الله كثيرا وبقوله عليه السلام إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وأذر وتقولن من أجل هذه النصوص أن كل قول قاله عليه السلام فبوحي من الله قاله وكل عمل عمله فبإذن من الله تعالى ورضي منه عمله فأخبرونا عن سلامه صلى الله عليه و سلم من ركعتين ومن ثلاث وقيامه من اثنتين وصلاته الظهر خمسا واخباره بأنه يحكم بالحق في الظاهر لمن لا يحل له أخذه ممن يعلم أنه في باطن الأمر بخلاف ما حكم له به من ذلك أبوحي من الله تعالى وبرضاه فعل كل ذلك أم كيف تقولون وهل يلزم المحكوم عليه والمحكوم له الرضا بحكمه ذلك وهما يعلمان أن الأمر بخلاف ذلك أم لا
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن كل ما ذكر ها هنا فبوحي من الله تعالى فعله وكل من قدر ولم يشك في أنه قد أتم صلاته فالله تعالى أمره بأن يسلم فاذا علم بعد ذلك أنه سهي فقد لزمته شريعة الاتمام وسجود السهو برهان ذلك أنه لو تمادى ولم يسلم قاصدا إلى الزيادة في صلاته على تقدير أنه قد أتمها لبطلت صلاته كلها بلا شك باطنا وظاهرا ولاستحق اسم الفسق والمعصية وكذلك من قدر أنه لم يصل إلا ركعة واحدة وأنه لم يتم صلاته فان الله أمره بالزيادة في صلاته يقينا حتى لا يشك في الاتمام وبأن يقوم إلى ثانية عنده فمتى علم بأن الأمر كان بخلاف ذلك فصلاته تامة ولزمته حينئذ شريعة سجود السهو وبرهان ذلك أنه لو قعد من واحدة عنده متعمدا مستهزئا أو سلم من ثلاث عنده معتمدا لبطلت صلاته جملة ولاستحق اسم الفسق والمعصية لأنه فعل خلاف ما أمره الله تعالى به وكذلك أمره الله وأمرنا بالحكم بالبينة العدلة عندنا وباليمين من المنكر وباقرار المقر وإن كانت البينة عامدة للكذب في غير علمنا وكانت اليمين والإقرار كاذبين في الباطن وافترض الله علينا بذلك سفك الدماء التي لو علمنا الباطن لحرمت علينا وهكذا

في الفروج والأموال برهان ذلك أن حاكما لو شهد عنده بينة عدل عنده فلم يقض بها وقضى باليمين على المنكر الذي لا بينة عليه فحلف ثم قضى عليه لكان القاضي فاسقا بلا خلاف عاصيا لله عز و جل لخلافه ما أمره الله سبحانه وتعالى به وان وافق حقا لم يكن علم به وفرض على المحكوم عليه والمحكوم له أن يرضيا بالحكم بالبينة واليمين وأن يصيرا في أنفسهما إلى حقيقة علمهما في أخذ الحق وإعطائه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا بتخفيف الذال وليس هذا على ما ظنه الجهال وإنما معناه أن الرسل عليهم السلام ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوا فيما وعدوهم من نصرهم ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بالله عز و جل ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر ومن أجاز إلى نبي الكفر فهو الكافر المرتد بلا شك والذي قلنا هو ظاهر الآية وليس فيها أن الله تعالى كذبهم حاشا لله من هذا وذكروا أيضا قول الله تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك قال أبو محمد إنما عهدنا هذا الإعتراض من أهل الكتاب وغيرهم وأما من يدعي أنه مسلم فلا ولا يمكن البتة أن يكون مسلم يظن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان شاكا في صحة الوحي إليه ولنا في هذه الآية رسالة مشهورة وجملة حل هذا الشك أن إن في هذه الآية المذكورة بمعنى ما التي للجحد بمعنى وما كنت في شك مما أنزلنا إليك ثم أمره أن يسأل أهل الكتاب تقريرا لهم على أنهم يعلمون أنه نبي مرسل مذكور عندهم في التوراة والإنجيل وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد هذا كل ما هو به قد تقصيناه وبيناه وأرينا أنه موافق لقولنا ولا يشهد شيء منه لقول مخالفنا وبالله التوفيق ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في الاتيان بالبراهين الضرورية الواضحة على صحة قولنا وبطلان قول مخالفنا قال الله تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة وقال تعالى وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فوجدنا الله تعالى وهو أصدق القائلين قد نفى عن الأنبياء عليهم السلام الغلول والكفر والتجبر ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم الغلول كحكم سائر الذنوب قد صح الإجماع بذلك وأن من جوز على الأنبياء عليهم السلام شيئا من تعمدا لذنوب جوز عليهم الغلول ومن نفى عنهم الغلول نفى عنهم سائر الذنوب وقد صح نفي الغلول عنهم بكلام الله تعالى فوجب انتفاء تعمد الذنوب عنهم بصحة الإجماع على أنها سواء الغلول وقال عز و جل

أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون
قال أبو محمد فلا يخلوا مخالفنا الذي يجيز أن يكون الأنبياء عليهم السلام قد اجترحوا السيئات من أحد وجهين لا ثالث لهما أما أن يقول أن في سائر الناس من لم يعص ولا اجترح سيئة قيل له فمن هؤلاء الذين نفى الله عنهم أن يكون الذين اجترحوا السيئات مثلهم إذا كانوا غير موجودين في العالم فلا بد من أن يجعل كلام الله عز و جل هذا فارغا لا معنى له وهذا كفر من قائله أو يقول هم الملائكة فإن قال ذلك رد قوله هذا قول الله تعالى في الآية نفسها سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون ولا نص ولا إجماع على أن الملائكة تموت ولو جاء بذلك نص لقلنا به بل البرهان موجب أن لا يموتوا لأن الجنة دار لا موت فيها والملائكة سكان الجنان فيها خلقوا وفيها يخلدون أبدا وكذلك الحور العين وأيضا فإن الموت إنما هو فراق النفس للجسد المركب وقد نص رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن الملائكة خلقوا من نور فليس فيهم شيء يفارق شيئا فيسمى موتا فإن اعترض معترض بقوله كل نفس ذائقة الموت لزمه أن حمل هذه الآية على عمومها أن الحور العين يمتن فيجعل الجنة دار موت وقد أبعدها الله تعالى عنه قال الله تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فعلمنا بهذا النص أن قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت إنما عني به من كان في غير الجنة من الجن والإنس وسائر الحيوان المركب الذي يفارق روحه جسده وبالله تعالى التوفيق ويرد أيضا قوله أن قال بهذا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من أحد إلا وقد ألم أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو يقول إن في الناس من لم يجترح سيئة قط وإن من اجترح السيئات لا يساويهم كما قال عز و جل فإن قال ذلك فإن الأنبياء عليهم السلام عنده يجترجون السيئات وفي سائر الناس من لا يجترحها فوجب أن يكون في الناس من هو أفضل من الأنبياء عليهم السلام وهذا كفر وما قدرنا أن أحدا ممن ينتمي إلى أهل الإسلام ولا إلى أهل الكتاب ينطلق لسانه بهذا حتى رأينا المعروف بابن الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي صلى الله عليه و سلم من هو أفضل من النبي صلى الله عليه و سلم من حيث يبعث إلى حين يموت فاستعظمنا ذلك وهذا شرك مجرد وقدح في النبوة لاخفاء به وقد كنا نسمع عن قوم من الصوفية أنهم يقولون أن الولي أفضل من النبي وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام إلى أن وجدنا هذا الكلام كما أوردنا فنعوذ بالله من الإرتداد
قال أبو محمد ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة أفضل ويدري فضيلة النبوة لما انطلق لسانه بهذا الكفر وهذا التكذيب للنبي صلى الله عليه و سلم إذ يقول إني لأتقاكم

لله واني لست كهيئتكم واني لست مثلكم فإذ قد صح بالنص أن في الناس من لم يجترح السيئة وأن من اجترح السيآت لا يساويهم عند الله عز و جل فالأنبياء عليهم السلام أحق بهذه الدرجة وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام بقول الله عز و جل الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فأخبر تعالى أن الرسل صفوته من خلقه وقد اعترض علينا بعض المخالفين بأن قال فما تقول فيمن بلغ فآمن وذكر الله مرات ومات أثر ذلك أو في كافر أسلم وقاتل مجاهدا وقتل فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن نقول أما من كان كافرا ثم أسلم فقد اجترح من السيئات بكفره ما هو أعظم من السماوات والأرض وإن كان قد غفر له بإيمانه ولكن قد حصل بلا شك من جملة من قد اجترح السيئات وأما من بلغ فآمن وذكر الله تعالى ثم مات فقد كان هذا ممكنا في طبيعة العالم وفي بنيته لولا قول الله عز و جل أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فان الله تعالى قطع قطعا لا يرده إلا كافر بأنه لا يجعل من اجترح السيئات كمن لم يجترحها ونحن نوقن أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ليس منهم أحد إلا وقد اجترح سيئة فكان يلزم على هذا أن يكون من أسلم أثر بلوغه ومات أفضل من الصحابة رضي الله عنهم وهذا خلاف قول النبي صلى الله عليه و سلم أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فانفقه لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه فإذا هذا كما قلنا فقول الله عز و جل وقول رسوله صلى الله عليه و سلم أحق بالتصديق لا سيما مع قوله عليه السلام ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا فنحن نقطع قطعا بما ذكرنا أنه لا سبيل إلى أن يبلغ أحد حد التكليف إلا ولا بد له من أن يجترح سيئآت الله أعلم بها وبالله التوفيق
قال أبو محمد ومن البرهان على أنه لم يكن البتة أن يعصي نبي قوله صلى الله عليه و سلم ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين لما قال له الأنصاري هلا أومأت إلي في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفى عليه السلام عن جميع الأنبياء عليهم السلام أن تكون لهم خائنة الأعين وهو أخف ما يكون من الذنوب ومن خلاف الباطن للظاهر فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها أو كبيرها سرها وجهرها
قال أبو محمد وأيضا فإننا مندوبون إلى الإقتداء بالأنبياء عليهم السلام وإلى الايتساء بهم في أفعالهم كلها قال الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وقال تعالى اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فصح يقينا أنه لو جاز أن يقع من أحد من الأنبياء عليهم السلام ذنب تعمدا صغيرا وكبيرا كان الله عز و جل قد حضنا على المعاصي وندبنا إلى الذنوب وهذا كفر مجرد ممن أجازه فقد صح يقينا أن جميع أفعال الأنبياء التي يقصدونها خير وحق

قال أبو محمد وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم عظيم انكاره على ذي الخويصرة لعنة الله ولعن أمثاله إذ قال الكافر اعدل يا محمد ان هذا لقسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحك من يعدل إذا أنا لم أعدل يأمنني الله ولا تأمنوني وقوله عليه السلام لأم سلمة أم المؤمنين إذ سألته عن الذي قبل امرأته في رمضان إلا أخبرتها أني فعلت ذلك وغضب عليه السلام إذ قال له لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فانكر عليه السلام إذ جعل له ذنبا بعمد وإن صغر وقال عليه السلام اني والله لاعلمكم بالله واتقاكم الله أو كلاما هذا معناه فان قال قائل فهلا نفيتم عنهم عليهم السلام السهو بدليل الندب إلى الايتساء بهم عليهم السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق انكار ما ثبت كاجازة ما لم يثبت سواء ولا فرق والسهو منهم قد ثبت بيقين وايضا فإن ندب الله تعالى لنا إلى الايتساء بهم عليهم السلام لا يمنع من وقوع السهو منهم لأن الايتساء بالسهو لا يمكن إلا بسهو منا ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف لسهو لأننا لو قصدنا إليه لم يكن حينئذ سهوا ولا يجوز أيضا أن ننهى عن السهو لأن الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا وقد قال تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ونقول أيضا اننا مأمورون اذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سها وأيضا فإن الله تعالى لا يقر الانبياء عليهم السلام على السهو بل ينبههم في الوقت ولم يفعل ذلك تعالى لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين وهذا تكذيب لله عز و جل إذ يقول تعالى تبيانا لكل شيء وإذ يقول اليوم أكملت لكم دينكم وقوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم
قال أبو محمد فسقط قول من نسب إلى الأنبياء عليهم السلام شيئا من الذنوب بالعمد صغيرها وكبيرها إذا لم يبق لهم شبهة يموهون بها أصلا وإذ قد قامت البراهين على بطلانها ولحقوا بذي الخويصرة
قال أبو محمد ولو كان من الانبياء عليهم السلام شيء من المعاصي وقد ندبنا إلى الايتساء بهم وبافعالهم لكنا قد أبيحت لنا المعاصي وكنا لا ندري لعل جميع ديننا ضلال وكفر ولعل كل ما عمله عليه السلام معاص ولقد قلت يوما لبعضهم ممن كان يجيز عليهم الصغائر بالعمد أليس من الصغائر تقبيل المرأة الأجنبية وقرصها فقال نعم قلت تجوز أنه يظن بالنبي صلى الله عليه و سلم أنه يقبل امرأة غيره متعمدا فقال معاذ الله من هذا ورجع إلى الحق من حينه والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد قال الله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما

تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما
قال أبو محمد ومن الباطل المحال أن يتم الله نعمته على عبد ويعصي الله بما كبر وما صغر إذ لو كان ذلك لما كانت نعمة الله تعالى عليه تامة بل ناقصة إذ خذله فيما عصي فيه وقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وقال الله تعالى قل أبالله وآياته ورسوله ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم
قال أبو محمد وما وقر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولقد بلغ الغاية القصوى في الاستهزاء برسل الله صلى الله عليهم وسلم من جوز أن يكونوا سراقا زناة ولاطة وبغائين ووالله ما نعلم كفرا اعظم من هذا ولا استهزاء بالله تعالى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هذه المقالة وليت شعري ما الذي أمنهم من كذبهم في التبليغ لانا لا ندري لعلهم بلغوا إلينا الكذب عن الله تعالى
قال أبو محمد فنقول لهم ولعل أفعاله التي نأتسي بها تبديل للدين ومعاص لله عز و جل ولا فرق قال أبو محمد وما نعلم أهل قرية أشد سعيا في إفساد الاسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه المقالة فإن كلتا الطائفتين الملعونتين اجازتا تبديل الدين وتحريفه وصرحت هذه الفئة مع ما أطلقت على الانبياء من المعاصي بأن الله تعالى إنما تعبدنا في دينه بغالب ظنوننا وأنه لا حكم لله إلا ما غلب عليه ظن المرء منا وإن كان مختلفا متناقضا وما نمتري في أنهم ساعون في إفساد أغمار المسلمين المحسنين بهم الظن نعوذ بالله من الضلال
قال أبو محمد فإن قال قائل إنكم تقولون أن الأنبياء عليهم السلام مؤاخذون بما أتوا على سبيل السهو والقصد إلى الخير إذا لم يوافق مراد الله تعالى فهلا أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم سهوه في الصلاة قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهذه فضيلة مما فضل به على جميع النبيين عليهم السلام وهكذا نص عليه السلام في حديث الشفاعة يوم القيامة ومصير الناس من نبي إلى نبي فكل ذكر خطيئة أو سكت فلما ذكروا النبي صلى الله عليه و سلم قال قائلهم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فبطل أن يؤاخذ بما غفره الله وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد فإن قال قائل أيجوز أن يكون نبي من الأنبياء عليهم السلام يأتي معصية قبل أن يتنبأ قلنا لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما أما أن يكون متعبدا بشريعة نبي أتى قبله كما كان عيسى عليه السلام وأما أن يكون قد نشأ في قوم قد درست شريعتهم ودثرت ونسيت كما في بعثة محمد صلى الله عليه و سلم في قوم قد نسوا شريعة إسماعيل وابراهيم عليهما السلام قال تعالى ووجدك ضالا فهدى وقال تعالى لتنذر قوما ما أنذر آبائهم فإن

كان النبي متعبدا بشريعة ما فقد أبطلنا آنفا أن يكون نبي يعصي ربه أصلا وإن كان نشأ في قوم دثرت شريعتهم فهو غير متعبد ولا ماءمور بما لم يأته أمر الله تعالى به بعد فليس عاصيا لله تعالى في شئ يفعله أو يتركه الإ أننا ندري أن الله عز و جل قد طهر أنبياء وصانهم من كل ما يعابون به لأن العيب أذى وقد حرم الله عز و جل أن يؤذى رسوله قال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا
قال أبو محمد فبيقين ندري أن الله تعالى صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغية أو من أولاد بغى أو من بغايا بل بعثهم الله تعالى في حسب قومهم فإذا لا شك في هذا فبيقين ندري أن اله تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة فدخل في ذلك السرقة والعدوان والقسوة والزنا واللياطة والبغي وأذىالناس في حريمهم وأموالهم وأنفسهم وكل ما يعاب به المرء ويتشكى منه ويؤذى بذكره وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذا ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكى أنا إبن فرج أنا ابراهيم بن أحمد فراس أنبانا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحاق بن راهويه أنا وهب بن جرير بن حازم أنا أبي أنبانا محمدبن أسحاق حدثنى محمد بن عبدالله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبى طالب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به الا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمنى الله منها قلت لفتى كان معي من قريش باعلي مكة في أغنام لها ترعى أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم فلما خرجت فجئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف وزمير فقلت ما هذا قالوا فلان تزوج فلانه لرجل من قريش فلهوث بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتنى عينى فما أيقظني ألامس الشمس فرجعت إلى صاحبى فقال لى ما فعلت فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت قلت ما فعلت شيئا فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته
قال أبو محمد فصح أنه عليه السلام لم يعص قط بكبيرة ولا بصغيرة لا قبل النبوة ولا بعدها ولا هم قط بمعصية صغرت أو كبرت لا قبل النبوة ولا بعدها إلا مرتين بالسمر حيث ربما كان بعض ما لم يكن نهى عنه بعد والهم حينئذ بالسمر ليس هما بزنا ولكنه بما يحذو إليه طبع البرية من استحسان منظر حسن فقط وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في الأنبياء عليهم السلام

الكلام في الملائكة عليهم السلام
قال أبو محمد قد ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت ونزيدها هنا بيانا في ذلك وبالله تعالى التوفيق أن قوما نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به وإنما هو

كذب مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر وحكما بالزور وقتلا النفس وزنيا وعلما زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة وأنهما عذبا في غار ببابل وأنهما يعلمان الناس السحر وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول مرة يقال له النخعي ومرة يقال له الحنفي ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة وليس أيضا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكنه أوقفها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكذبة أخرى في أن حد الخمر ليس سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما هو شيء فعلوه وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا
قال أبو محمد ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين فقطع الله عز و جل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق وليس شرب الخمر ولا الزنا ولا قتل النفس المحرمة ولا تعليم العواهر أسماءه عز و جل التي يرتفع بها إلى السماء ولا السحر من الحق بل كل ذلك من الباطل ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل وإذا لم تنزل به فقد بطل أن تفعله لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به وهذا باطل وشهد عز و جل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما نظرنا فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا للنبي بالوحي فقط وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وكذلك قوله تعالى ولو جعلنا ملكا لجعلناه رجلا فأبطل عز و جل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس وقال تعالى ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون فكذب الله عز و جل كل من قال أن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق من عند الله عز و جل فقط وقال عز و جل وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية فرفع الله تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسألة وقرن عز و جل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز و جل فيها فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز وأن من قال ذلك فقد قال حجرا محجورا أي ممتنعا وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر وقد استعظم الله عز و جل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس وسمى هذا الفعل استكبارا وعتوا وأخبر عز و جل أننا لا نرى الملائكة أبدا إلى يوم القيامة فقط وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قبل أما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن ما في قوله وما أنزل على الملكين نفي لأن

ينزل على الملكين ويكون هاروت وماروت حيئذ بدلا من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الجن كانتا يعلمان الناس السحر وقد روينا هذا القول عن خالد ابن أبي عمران وغيره وروى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام وكان يقول أن هاروت وماروت علجان من أهل بابل إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين وقد اعترض بعض الجهال فقال لي أبلغ من رفق الشيطان أن يقول للذي يتعلم السحر لا تكفر فقلت له هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات أحدهما أن نقول لك وما المانع من أن يقول الشيطان ذلك إما سخريا وإما لما شاء الله فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا والثاني أنه قد نص الله عز و جل على أن الشيطان قال أني أخاف الله فقال تعالى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم إلى قوله تعالى إني أخاف الله والله شديد العقاب وقال تعالى كمثل الشيطان إذ فال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إتي أخاف الله رب العالمين فقد أمر الشيطان الإنسان بالكفر ثم تبرأ منه وأخبره أنه يخلف الله وغر الكفار ثم تبرأ منهم وقال إني أخاف الله بين أن يقول الشيطان للإنسان اكفر ويغره ثم يتبرأ منه ويقول إني أخاف اله وبين أن يعلمه السحر ويقول له لا تكفر والثالث أن معلم السحر بنص الآية قد قال للذي يتعلم منه لا تكفر فسواء كان ملكا أو شيطانا قد علمه على قولك ما لا يحل وقال له لا تكفر فلم تنكر هذا من الشيطان ولا تنكره بزعمك من الملك وأنت تنسب إليه أن يعلم السحر الذي عندك ضلال وكفر وأما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق بعلم ما على أنبياء فعلماهم الدين وقالا لهم لا تكفروا نهيا عن الكفر بحق وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما أتيا به من كفر به ويهدي بهما من آمن به قال تعالى عن موسى أنه قال له إن هي ألا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وكما قال تعالى ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ثم نسخ ذلك الذي أنزل علي الملكين فصار كفرا بعد أن كان إيمانا كما نسخ تعالى شرائع التوراة والإنجيل فتمادت الجن على تعلم ذلك المنسوخ وبالجملة فما في الآية من نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر وإنما هو اقحام أقحم بالآية بالكذب والافك بل وفيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل ولا يجوز أن يجعل المعطوف والمعطوف عليه شيئا واحدا إلا ببرهان من نص أو اجماع أو ضرورة وإلا فلا أصلا وأيضا فإن بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربها محدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة موضوعة إذ لو كان لك لما خفي مكانهما على أهل الكوفة فبطل التعلق بهاروت وماروت والحمد لله رب العالمين

قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن ابليس كان ملكا فعصى وحاشا لله من هذا لأن الله تعالى قد كذب هذا القول بقوله تعالى إلا ابليس كان من الجن وبقوله افتتخذونه وذريته أولياء من دوني ولا ذرية للملائكة وبقوله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم وبإخباره أنه خلق ابليس من نار السموم وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خلقت الملائكة من نور والنور غير النار بلا شك فصح أن الجن غير الملائكة والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن والجن والإنس فيهما مذموم ومحمود فإن قال قائل أن الله عز و جل ذكر أنهم قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وهذا تزكية لأنفسهم وقد قال تعالى ولا تزكوا أنفسكم قلنا وبالله تعالى التوفيق مدح المرء نفسه ينقسم قسمين أحدهما ما قصد به المرء افتخارا بغيا وانتقاصا لغيره فهذه هي التزكية وهو مذموم جدا والآخر ما خرج مخرج الإخبار بالحق كقول رسول الله صلى اله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفضلت على الأنبياء وكقول يوسف عليه السلام إجعلني على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم ولا يسمي هذا تزكية ومن هذا الباب قول الملائكة ههنا برهان هذا إنه لو كان قولهم مذموما لأنكره الله عز و جل عليهم فإذا لم ينكره الله تعالى فهو صدق ومن هذا الباب قولنا نحن السلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس وكقول الحواريين نحن أنصار الله فكل هذا إذا قصد به الحض على الخير لا الفخر فهو خير فإن قال قائل إن الله تعالى قال لهم إني أعلم ما لاتعلمون قلنا نعم وما شك الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون وليس هذا إنكارا وأما الجن فقد قلنا أنهم متعبدون بملة الإسلام وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الروث والعظام طعام إخواننا من الجن وهذا بخلاف حكمنا فقد يخصهم الله عز و جل بأوامر خلاف أوامرنا كما للنساء شرائع ليست للرجال من الحيض وقطع الصلاة وغير ذلك وكما لقريش الإمامة وليست لغيرهم وكل ذلك دين الإسلام وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل
هل يكون مؤمنا من إعتقد الإسلام دون إستدلال
أم لا يكون مؤمنا مسلما الإمن إستدل
قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمنانى إلى أنه لا يكون مسلما الإ من إستدل والإ فليس مسلما وقال الطبرى من بلغ الإحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز و جل بجميع أسمائه وصفاته من الطريق الإستدلال فهو كافر حلال الدم والمال وقال أنه بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمها وتدريبهما على الإستدلال على ذلك وقالت الأشعرية لا يلزمها الأستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ

قال أبو محمد وقال سائر أهل الإسلام كل من إعتقد بقلبه إعتقاد الا يشك فيه وقال بلسانه لا إله الإ الله وأن محمد رسول الله وإن كل ما جاء به حق وبرئ من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه و سلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك
قال أبو محمد فاحتجت الطائفة الأولى بأن قالت قد إتفق الجميع على أن التقليد مذموم وما لم يكن يعرف بإستدلال فإنما هو تقليد لا واسطة بينهما وذكروا قول الله عز و جل إ نا وجدنا آبائنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون وقال تعالى قل أو لو جئنكم بالهدى مما وجدتم عليه آبائكم وقال تعالى أو لو كان أباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وقال تعالى وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا وقالوا فذم الله تعالى أتباع الأباء والرؤساء قالوا وبيقين ندرى أنه لا يعلم أحد أى الأمرين أهدى ولا هل يعلم الاباء شيا أو لايعلمون الإ بالدليل وقالوا كل ما لم يكن يصح بدليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما لكن بالدليل قال الله عز و جل قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قالوا فمن لا برهان له فليس صادقا في قوله وقالوا ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو إعتقاد الشئ على ما هو به عن ضرورة أو إستدلال قالوا والديانات لا يعرف صحة الصحيح منها من بطلان الباطل منها بالحواس أصلا فصح أنه لا يعلم ذلك الإ من طريق الإستدلال فإذا لم يكن الإستدلال فليس المرء عالما بما لم يستدل عليه وإذا لم يكن عالما فهو شاك ضال وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسألة الملك في القبر ما تقول في ها الرجل فأما المؤمن أو الموقن فإنه يقول هو محمد رسول الله قال وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقول لا أدرى سمعت الناس يقولون شيئا فقلته قالوا وقد ذكر الله عز و جل الأستدلال على الربوبية والنبوة في غير موضع من كثابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون الإ عن دليل كما قلنا
قال أبو محمد هذا كلما موهوا به قد تقصيناه لهم غاية التقصي وكل هذا لا حجة لهم في شئ منه على ما نبين بحول الله وقوته إن شاء الله تعالى لا إله الإ هو بعد أن نقول قولا تصححه المشاهدة أن جمهور هذه الفرقة أبعد من كل من يتمنى إلى البحث والإستدلال عن المعرفة بصحة الدلائل فاعجبوا لهذا وشهدوا على أنفسهم إنهم كانوا كافرين
قال أبو محمد أما قولهم قد أجمع الجميع على أن التقليد مذموم وإن ما لا يعرف باستدلال فإنما هو أخذ تقليد إذ لا واسطة بينهما فإنهم شغبوا في هذا الإمكان وولبوا فتركوا التقسيم الصحيح ونعم أن التقليد لا يحل البته وإنما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله صلى الله عليه و سلم ممن لم يأمرنا الله عز و جل باتباعه قط ولا يأخذ قوله بل حرم علينا ذلك ونهانا عنه وأما أخذ المرء قول رسول الله صلى الله عليه و سلم الذى إفترض علينا طاعته وإلزمنا إتباعه وتصديقه وحذرنا عن مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد فليس تقليدا بل هو إيمان

وتصديق وإتباع للحق وطاعة لله عز و جل وأداء للمفترض فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق الذى هو إتباع الحق إسم التقليد الذى هو باطل وبرهان ما ذكرنا أن أمرءا لو إتبع أحدا دون رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول قاله لأن فلانا قاله فقط وأعتقد أنه لو لم يقل ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضا فإن فاعل هذا القول مقلد مخطى عاص لله تعالى ولرسوله ظالم آثم سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذى قاله الله ورسوله أو خالفه وأنما فسق لأنه إتبع من لم يؤمر بإتباعه وفعل غير ما أمره الله عز و جل أن يفعله ولو إن إمرءا إتبع قول الله عزوجل وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لكان مطيعا محسنا مأجورا غير مقلد وسواء وافق الحق أو وهم فأخطأ وإنما ذكرنا هذا لنبين أن الذى أمرنا به وإفترض علينا هو إتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقط وإن الذى حرم علينا هو إتباع من دونه أو إختراع قول لم يأذن به الله تعالى فقط وقد صح أن التقليد باطل لا يحل فمن الباطل الممتنع أن يكون الحق باطلا معا والمحسن مسيئا من وجه واحد معا فإذ ذلك كذلك فمتبع من أمر الله تعالى بإتباعه ليس مقلدا ولا فعله تقليدا وإنما المقلد من إتبع من لم يأمره الله تعالى فسقط تمويههم بذم التقليد وصح أنهم وضعوه في غير موضعه وأوقعوا إسم التقليد على ما ليس تقليدا وبالله تعالى التوفيق وأما إحتجاجهم بذم الله إتباع الأباء ةالكبراء فهو مما قلنا آنفا سواء بسوء لأن إتباع الأباء والكبراء وكل من دون رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو من التقليد المحرم المذموم فاعله فقط قال الله عز و جل إتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء فهذا نص ما قلنا ولله الحمد
قال أبو محمد وأما احتجاجهم إنه لا يعرف أى الأمرين أهدى ولا هل يعلم الأباء شيئا أم لا إلا بالدلايل وإن كل ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما وذكرهم قول الله تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يسمع الدلايل فهذا فرض عليه طلب الدلايل لأنه إن مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافرا وهو مخلد في النار وهو بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رأى المعجزات فهذا أيضا لو مات مات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر قال الله عز و جل قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة فقد إفترض الله عز و جل على كل أحد أن يقى نفسه النار فهؤلاء قسم وهم الأقل من الناس والقسم الثاني من إستقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب

دليل توفيقا من الله عز و جل له وتيسيرا لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا تكليف إستدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكرة والعباد وأصحاب الحديث الأيمة الذين يذمون الكلام والجدل والمرآء في الدين
قال أبو محمد هم الذين قال لهم الله فيهم ولكن حبب اليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق وا لعصيان أولئك هم الراشدون فضلامن الله ونعمة والله عليم حكيم تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء
قال أبو محمد قد سمى الله عز و جل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم الكفر والمعاصى فضلا منه ونعمه وهذا هو خلق الله تعالى للايمان في قلوبهم إبتداه وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله تعالى في ذلك إستدلالا أصلا وبالله تعالى التوفيق وليس هؤلاء مقلدين لابائهم ولالكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم إن أباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل أبائهم ورؤسائهم والبرأة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل ما سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا فلقد بقينا سنين كثيرة ولا نعرف الإستدلال ولا وجوهه ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الاسلام وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم نجد أنفسنا في غاية السكون إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا إستبشاعا لهما كما أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سئل عن ذلك فقالوا له أن أحدنا ليحدث نفسه بالشئ ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحب إليه أن يتكلم به فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان وأمر صلى الله عليه و سلم في ذلك بما أمر به من التعوذ والقراءة والتفل عن اليسار ثم تعلمنا طرق الإستدلال وأحكمناها ولله تعالى الحمد فما زادنا يقينا على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وقد أيقن بأن الفيل موجود سماعها ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقينا بصحة نيته أصلا لكن أرانا صحيح الإستدلال رفض بعض الاراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس وعلمنا أنا كنا مقتدين بالخطأ في ذلك ولله تعالى الحمد وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل إستدلالهم ولا بد فصح بما قلنا إن كل من امحض إعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون وليسوا مقلدين أصلا وإنما كانوا مقلدين لو إنهم قالوا وإعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ولو أن

أباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه و سلم لتركناه فلو قالوا هذا وإعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير مؤمنين لأنهم إنما إتبعوا آبائهم وكبراءهم الذذين نهوا عن إتباعهم ولم يتبعوا النبي صلى الله عليه و سلم الذين أمروا بإتباعه وبالله تعالى التوفيق وإنما كلف الله تعالى الأتيان بالبرهان إن كانوا صادقين يعنى الكفار المخالفين لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم هذا نص لآية ولم يكلف قط المسلمين الأتيان بالبراهين والأسقط إتباعهم حتى يأتوا بالبرهان أو الفرق بين الأمرين واضح وهو إن كل من خالف النبي صلى الله عليه و سلم فلا برهان له أصلا فكلف المجئ بالبرهان تبكيتا وتعجيزا إن كانوا صادقين وليسوا صادقين بلا برهان لهم وإما من أتبع ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد إتبع الحق الذى قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذى قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك البرهان أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذى صح بالبرهان ولا برهان على ما سواه فهو محق والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالما فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر
قال أبو محمد فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي اقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال فهذه زيادة فاسدة لا نوافقهم هعليها ولا جاء بصحتها قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئا على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز و جل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسألة الملك فلا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم كما هو لمجرده لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما قال فيه فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول الله ولم يقل عليه الصلاة و السلام فأما المستدل فحسبنا فوز المؤمن المؤقن الموقن كيف كان أبمانه ويقينه وقال عليه الصلاة و السلام وأما المنافق أو المرتاب ولم يقل غير المستدل فيقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فنعم هذا قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا صفة منه مقلد للناس لا محقق فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم كافية وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الله عز و جل قد ذكر الإستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وواجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذذه أيضا زيادة أقحموها وهي قولهم وأمر به فهذا لا يجدونه أبدا ولكن الله تعالى ذكر

الإستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الإستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه لأنه تزود من الخير وهو فرض علي كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق نعوذ بالله عز و جل من البلا وإنما ننكر كونه فرضا على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه هذا هو الباطل المحض وأما قولهم إن الله تعالى أوجب العلم به فنعم وأما قولهم والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هي الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفا وأول بطلانها أنها دعوى بلا برهان وبالله تعالى العزيز الحكيو نتأيد
قال أبو محمد هذا كلما شنعوا به قد نقضناه والحمد لله رب العالمين فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراة لم يأت بها نص قط ولا إجماع وبالله التوفيق
قال أبو محمد ونحن الآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده البراهين على بطلان قولهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال أبو محمد يقال لمن قال لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الإستدلال أقبل البلوغ أم بعده ولا بد من أحد الأمرين فإما الطبرى فإنه أجاب بأن ذلك واجب قبل البلوغ
قال أبو محمد وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفا ولا مخاطبا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصغير حتى يحتلم فبطل جواب الطبرى رحمة الله واما الاشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الإسلام وتصطك منها المسامع ويقطع ما بين قائلها وما بين الله عز و جل وهي انهم قالوا لا يلزم طلب الأدلة الإ بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤنة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكما غير مصدق
قال أبو محمد ما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء

القوم أنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز و جل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صلى اله عليه وسلم صادق أم كاذب ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق فاقبح من قول هؤلاء أنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضاء الله عز و جل إلا بالشك فيه وإن من اعتقد موقنا بقلبه ولسانه إن الله تعالى ربه لا إله إلا هو وإن محمدا رسول الله وإن دين الإسلام دين إلى الذى لا دين غيره فإنه كافر مشرك اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان فو الله لولا خذلان الله تعالى الذى هو غالب على أمره ما إنطلق لسان ذى مسكة بهذه العظيمة وهذا يكفى من تكلف النقص لهذه المقالة الملعونة ومن بلغ هذا المبلغ حسن السكوت عنه ونعوذ بالله من الضلال ثم نقول لهم إخبرونا عن هذا الذى أوجبتم عليه الشك في فرض أو الشك في صحة النبوة والرسالة كم تكون هذه المدة التى أوجبتم عليه فيه البقاء شاكا مستدلا طالبا للدلائل وكيف إن لم يجد في قريته أو مدينته ولا في أقليمة محسنا للدلائل فرحل طالبا للدلائل فاعترضته أهوال ومخاوف وتعذر من بحر أو مرض فاتصل له ذلك ساعات وأياما وجمعا وشهورا وسنين ما قولكم في ذلك فإن حدوا في المدة يوما أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك كانوا متحكمين بلا دليل وقائلين بلا هدى من الله تعالى ولم يعجز أحد عن أن يقول في تحديد تلك المدة بزيادة أو نقصان ومن بلغ ها هنا فقد ظهر فساد قوله وإن قالوا لا نحد في ذلك حدا قلنا لهم فإن إمتد كذلك حتى فنى عمره ومات في مدة إستدلاله التى حددتم له وهو شاك فى الله تعالى وفي النبوة أيموت مؤمنا ويحب له الجنة أم يموت كافرا وتجب له النار فإن قالوا يموت مؤمنا تجب له الجنة أتو بأعظم الطو أم وجعلوا الشكاك في الله الذين هم عندهم شكاك مؤمنين من أهل الجنة وهذا كفر محض وتناقض لاخفاء به وكانوا مع ذلك قد سمعوا في أن يبقى المرء دهره كله شاكا في الله عز و جل وفي النبوة والرسالة فإن قالوا بل يموت كافرا تجب له النار قلنا لهم لقد أمر تموه بما فيه هلاكه وأوجبتم عليه ما فيه دماره وما يفعل الشيطان الإهذا في أمره بما يؤدى إلى الخلود في النار بل هو في حكم أهل الفترة قلنا لهم هذا باطل لأن أهل الفترة لم تأتهم النذارة ولا بلغهم خبر النبوة والنص إنما جاء فى أهل الفترة ومن زاد في الخبر ما ليس فيه فقد كذب على الله عز و جل ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ما حد الإستدلال الموجب لاسم الإيمان عندكم وقد يسمع دليلا عليه اعتراض أيجزيه ذلك لدليل أم لا فإن قالوا يجزيه قلنالهم ومن أين وجب أن يجزيه وهو دليل معترض فيه وليس هذه الصفة من الدلائل المخرجة عن الجهل إلى العلم بل هي مؤدية إلى الجهل الذي كان عليه

قبل الاستدلال فإن قالوا بل لا يجزيه إلا حتى يوقن أنه قد وقع على دليل لا يمكن الاعتراض فيه تكلفوا ما ليس في وسع أكثرهم وما لا يبلغه إلا قليل من الناس في طويل من الدهر وكثير من البحث ولقد درى الله تعالى أنهم أصفار من العلم بذلك يعني أهل هذه المقالة الملعونة الخبيثة
قال أبو محمد ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمانية و الدهرية في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجماء الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أني به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبى نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وأصغاره ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام وفيهم المرأة البدوية والراعي الراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبيء والزمجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام أني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه
قال أبو محمد لسنا نقول أنه لم يبلغنا أنه عليه السلام قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض قطعا كقطعنا على ما شهدناه أنه عليه السلام لم يقل قط هذا لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين الناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الأسلام ويبينه لهم هؤلاء الاشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خلاف للاجماع وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم وجميع أهل الإسلام قاطبة فإن قالوا فما كانت حاجة الناس إلى الآيات المعجزات وإلى احتجاج الله عز و جل عليهم بالقرآن واعجازه به وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر قلنا و بالله تعالى التوفيق أن الناس قسمان قسم لم تسكن قلوبهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الاستدلال فرضا ولا بد كما قلنا وقسم آخر وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق

عز و جل في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان أن كنتم صادقين فهؤلاء آمنوا به عليه السلام بلا تكليف
قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار لا الأقل وقد قال بعضهم أنهم مستدلون
قال أبو محمد وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لا يدري ما معنى الاستدلال فكيف أن يستعمله
قال أبو محمد ويلزم من قال بهذه المقالة ان لا يأكل من اللحم إلا ما ذبحه هو أو من يدرى إنه مستدل وأن لا يطأ إلا زوجة يدري أنها مستدلة ويلزم أن يشهد على نفسه بالكفر ضرورة قبل إستدلاله ومدة إستدلاله وأن يفارق إمراته التى تزوج في تلك المدة وأن لا يرث أخاه ولا أباه ولا أمه إلا أن يكونوا مستدلين وأن يعمل عمل الخوارج الذين يقتلون غيلة وعمل المغيرية المنصورة في ذبح كل من أمكنهم وقتله وأن يستحلوا أموال أهل الأرض بل لا يحل لهم الكف عن شيء من هذا كله لأن جهاد الكفار فرض وهذا كله إن التزموا طرد أصولهم وكفروا أنفسهم وإن لم يقولوا بذلك تناقضوا وفصح إن كل من اعتقد الأسلام بقلبه ونطق به لسانه فهو مؤمن عند الله عز و جل ومن أهل الجنة سواء كان ذلك عن قبول أو نشأة أو عن إستدلال وبالله تعالى التوفيق وأيضا فنقول لهم هل إستدل من مخالفيكم في أقوالكم التي تدينون بها أحد أم لم يستدل قط أحد غيركم فلا بد من اقرارهم بأن مخالفيهم أيضا قد استدلوا وهم عندكم مخطئون كمن لم يستدل وأنتم عندهم أيضا مخطئون فإن قالوا إن الأدلة أمنتنا من أن نكون مخطئين قلنا لهم وهذا نفسه هو قول خصومكم فإنهم يدعون إن أدلتهم على صواب قولهم وخطأ قولكم ولا فرق ما زالوا على هذه الدعوى مذ كانوا إلى يومنا هذا فما نراكم حصلتم من استدلا لكم الا على ما حصل عليه من لم يستدل سواء بسواء ولا فرق فإن قالوا لنا فعلى قولكم هذا يبطل الاستدلال جملة ويبطل الدليل كافة قلنا معاذ الله من هذا لكن أريناك أنه قد يستدل من يخطئ وقد يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى فقط وقد لا يستدل من يخطئ وقد لا يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى وكل ميسر لما خلق له والبرهان والدلائل الصحاح غير المموهة فمن وافق الحق الذى قامت عند غيره البراهين الصحاح بصحته فهو مصيب محق مؤمن استدل أو لم يستدل ومن يسر للباطن الذى قام البرهان عند غيره ببطلانه فهو مبطل مخطئ أو كافر سواء استدل أو لم يستدل وهذا هو الذي قام البرهان بصحته والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى التوفيق

الكلام في الوعد والوعيد
قال أبو محمد اختلف الناس في الوعد والوعيد فذهبت كل طائفة لقول منهم من قال

إن صاحب الكبيرة ليس مؤمنا ولا كافرا ولكنه فاسق 1 وأن كل من مات مصرا على كبيرة من الكبائر فلم يمت مسلما وإذا لم يمت مسلما فهو مخلد في النار أبدا وإن من مات ولا كبيرة له أو تاب عن كبائره قبل موته فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلا ومنهم من قال بأن كل ذنب صغير أو كبير فهو مخرج عن الإيمان والإسلام فإن مات عليه فهو غير مسلم وغير المسلم مخلد في النار وهذه مقالات الخوارج والمعتزلة إلا أن ابن بكر أخت عبد الواحد بن زيد قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما كافران من أهل الجنة لأنهما من أهل بدر وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال فأهل بدران كفروا فمغفور لهم لأنهم بخلاف غيرهم وقال بعض المرجئة 2 لا تضر مع الإسلام سيئة كما لا ينفع مع الكفر حسنة قالوا فكل مسلم ولو بلغ على معصية فهو من أهل الجنة لا يرى نارا وإنما النار للكفار وكلتا هاتين الطائفيتين تقربان أحد ألا يدخل النار ثم يخرج عنها بل من دخل النار فهو مخلد فيها أبدا ومن كان من أهل الجنة فهو لا يدخل النار

وقال أهل السنة والحسين النجار وأصحابه وبشر ابن غياث المريسي وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن كيسان الأصم البصري وغيلان ابن مروان الدمشقي القدري ومحمد بن شبيب ويونس بن عمران وأبو العباس الناشي والأشعري وأصحابه ومحمد بن كرام وأصحابه أن الكفار مخلدون في النار وأن المؤمنين كلهم في الجنة وإن كانوا أصحاب كبائر ماتوا مصرين عليها وأنهم طائفتان طائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها أي من النار إلى الجنة وطائفة لا تدخل النار إلا أن كل من ذكرنا قالوا لله عز و جل أن يعذب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر بالنار ثم يدخلهم الجنة وله أن يغفر لهم ويدخلهم الجنة بدون أن يعذبهم ثم افترقوا فقالت طائفة منهم وهو محمد بن شبيب ويونس والناشي أن عذب الله تعالى واحدا من أصحاب الكبائر عذب جميعهم ولا بد ثم أدخلهم الجنة وأن عفر لواحد منهم غفر لجميعهم ولا بد وقالت طائفة بل يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية وقد يغفر لمن هو أعظم جرما ويعذب من هو أقل جرما وقال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يغفر لمن يشاء من أصحاب الكبائر ويعذب من يشاء منهم إلا القاتل عندا فإنه مخلد في النار أبدا وقالت طائفة منهم من لقي الله عز و جل مسلما نائبا من كل كبيرة أو لم يكن عمل كبيرة قط فسيئآته كلها مغفورة وهو من أهل الجنة لا يدخل النار ولو بلغت سيئاته ما شاء الله أن تبلغ ومن لقي الله عز و جل وله كبيرة لم يتب منها فأكثر فالحكم في ذلك الموازنة فمن فمن رجحت حسناته على كبائره وسيئاته فإن كبائره كلها تسقط وهو من أهل الجنة لا يدخل النار وإن استوت حسناته مع كبائره وسيئآته فهؤلاء أهل الأعراف ولهم وقفة ولا يدخلون النار ثم يدخلون الجنة ومن رجحت كبائره وسيئاته بحسناته فهؤلاء مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبرحمة الله تعالى وكل من ذكرنا يجازون في الجنة بعد بما فضل لهم من الحسنات وأما من يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم وكل من خرج النار بالشفاعة وبرحمة الله تعالى فهم كلهم سواء في الجنة ممن رجحت له حسنة فصاعدا
قال أبو محمد فأما من قال صاحب الكبيرة يخلد وصاحب الذنب كذلك فإن حجتهم قول الله عز و جل
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وقوله تعالى من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار وقوله تعالى والذين كسبوا السيآت جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وبقوله تعالى ومن

يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وقوله ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا إلا من تاب وآمن وقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا وقوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة الآية وقوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير وقوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا إلى قوله تعالى ولهم في الآخرة عذاب عظيم وقوله تعالى الذين يأكلون الربا الآية وذكروا أحاديث صحت عن النبي صلى الله عليه و سلم في وعيد شارب الخمر وقاتل الهرة ومن قتل نفسه بسم أو حديد أو تردي من جبل فإنه يفعل ذلك به في جهنم خالدا ومن قتل نفسه حرام الله عليه الجنة وأوجب له النار وذكروا أن الكبيرة تزيل اسم الإيمان فبعضهم قال إلى شرك وبعضهم قال إلى كفر نعمة وبعضهم قال إلى نفاق وبعضهم قال إلى فسق قالوا فإذا ليس مؤمنا فلا يدخل الجنة لأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنين هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا واما من خص القاتل بالتخليد فإنهم احتجوا بقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فقط وأما من قطع بإسقاط الوعيد عن كل مسلم فاحتجوا بقول الله تعالى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى قالوا وهذه الآية مثبتة أن كل من توعده الله عز و جل على قتل أوزنا أو ربا أو غير ذلك فإنما هم : الكفار خاصة لا غيرهم واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة وإن سرق وإن شرب الخمر علي رغم أنفه أبي ذر وقول الله عز و جل
أن رحمة الله قريب من المحسنين
قالوا ومن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد أحسن فهو محسن فرحمة الله قريب منه ومن رحمة الله فلا يعذب وقالوا كما أن الكفر محبط لكل حسنة فإن الإيمان يكفر كل سيئة والرحمة والعفو أولى بالله عز و جل
قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا أو يدخل فيما ذكرنا ولا يخرج عنه وبالله تعالى التوفيق وأما من قال أن الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقد يعذب من هو أقل ذنوبا ممن يغفر له فإنهم احتجوا بقول الله عز و جل أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وبعموم قوله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وبقول رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس صلوات كتبهن الله على العبد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئا كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد أن شاء عذبه وإن شاء غفر له وجعلوا الآيتيتن اللتين ذكرنا

قاضيتين على جميع الآيات التي تعلقت بها سائر الطوائف وقالوا لله الأمر كله لا معقب لحكمه فهو يفعل ما يشاء ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا
قال أبو محمد وأما من قال بمثل هذا ألا إنه قال الله تعالى أن عذب واحدا منهم عذب الجميع وإن عفر لواحد منهم غفر للجميع فإنهم قدرية جنحوا بهذا القول نحو العدل ورأوا أن المغفرة لواحد وتعذيب من له ذنوبه جور ومحاباة ولا يوصف الله عز و جل بذلك وأما من قال بالموازنة فإنهم احتجوا فقالوا أن آيات الوعيد وأخبار الوعيد التي احتج بها من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج فإنها لا يجوزان أن تخص بالتعليق بها دون آيات العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط في الوعيد وهي لا يجوز التعلق بها دون الآيات التي حتج بها من اثبت الوعيد بل الواجب جمع جميع تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها حق وكلها من عند الله وكلها مجمل تفسيرها بآيات الموازنة وأحاديث الشفاعة التي هي بيان لعموم تلك إلا آيات وتلك الأخبار وكلها من عند الله قالوا ووجدنا الله عز و جل قد قال يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وقال تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل الآية وقال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى وما كان الله ليضيع ايمانكم وقال تعالى فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا الآية أو قال تعالى ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب وقال تعالى وتوفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وقال تعالى لتجزى كل نفس بما تسعى وقال تعالى وإن ليس للانسان إلا ما سعى إلى قوله الجزاء الإ وفى وقال تعالى وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك وقال تعالى ليجزى الذين أساؤا بما عملوا الآية وقال تعالى هنالك تبلو كل نفس ما أسفلت وقال تعالى وإن كلا لما ليوفيهم ربك أعمالهم وقال تعالى وما تقدموا الإنفسكم من خير تجدوه عند الله الاية وقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني اهل الكتاب من يعمل سوءا يجزية ولا يجدل الاية وقال تعالى وما تفعلوا من خير فلن تكفروه وقال تعالى ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تلك حسنة تضاعفها ويوتي من لدنه اجرا عظيما وقال تعالى اني لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر او انثى وقال تعالى وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد الى قوله تعالى قال قرينه ربنا ما اطغيته ولكن كان في ضلال بعيد إلى قوله تعالى وما أنا بظلام للعبيد وقال تعالى فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه الى آخر السورة وقال تعالى ان الحسنات يذهبن السيئات وقال تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاؤلئك حبطت أعمالهم وقال تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة

فلا يجزى إلا مثلها وقال تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم هذا نص كلامه يوم القيامة وهو القاضي على كل مجمل قالوا فنص الله عز و جل أنه يضع الموازين القسط وأنه لا يظلم احدا شيئا ولامثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة من خير ومن شر فصح أن السيئة لا تحبط الحسنة وأن ألإيمان لا يسقط الكبائر ونص الله تعالى انه تجزي كل نفس بما كسبت وما عملت وما سعت وأنه ليس لاحد الاما سعى وأنه سيجري بذلك من أساء بما عمل ومن أحسن بالحسنى وانه تعالى يوفى الناس أعمالهم فدخل في ذلك الخير والشر وأنه تعالى يجازي بكل خير وبكل سوء وعمل وهذا كله يبطل قول من قال بالتخليد ضرورة وقول من قال باسقاط الوعيد جملة لان المعتزلة تقول أن ألايمان يضيع ويحبط وهذا خلاف قول الله تعالى انه لا يضيع ليماتناولا عمل عامل منا وقالوا هم ان الخير ساقط بسيئه واحدة وقال تعالى ان الحسنات يذهبن السيآت فقالوا هم ان السيآت يذهن الحسنات وقد نص تعالى أن الاعمال لا يحبطها الا الشرك والموت عليه وقال تعالى من جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها فلو كانت كل سيئة أو كبيرة توجب الخلود في جهنم ويحبط الأعمال الحسنة لكانت كل سيئة أو كل كبيرة كفرا ولتساوت السيئات كلها وهذا خلاف النصوص وعلمنا بما ذكرنا أن الذين قال الله تعالى فيهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم الذين رجحت حسناتهم على سيئاتهم فسقط كل سيئة قدموها وصح أن قوله تعالى ومن جاء بالسيئة 2تكبت وجوههم في النار هو فيمن رجحت كبائرهم حسناتهم وإن السيئة الموجبة هى للخلود وهى الكفر لأن النصوص جاءت بتقسيم السيئات فقال تعالى أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فهذه سيئات مغفورة باجتناب الكبائر وقال تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقال تعالى ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فاخبر تعالى أن من السيئات المجازى لها ما هو مقدارذرة ومنها ما هو أكبر ولا شك أن الكفر أكبر السيئات فلو كانت كل كبيرة جزاءها الخلود لكانت كلها ولكانت كلها سواء وليست كذلك بالنص وأما وعيد الله بالخلود في القاتل وغيره فلو لم يأت الإ هذه النصوص لوجب الوقوف عندها لكنه قد قال تعالى لا يصلاها الإ الأشقى الذى كذب وتولى وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض وقد صح أن القاتل ليس كافرا وأن الزاني ليس كافرا وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفارا بما ذكرنا قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات إنهم مأمورون بالصلات وإن زكاة أموالهم مقبوضة وإنهم لا يقتلون وإنه إن عفى عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل به وإنه يرث ويورث وتؤكل ذبيحته فإذ ليس كافرا فبيقين يدرى أن خلوده إنما هو مقام مدة ما وإن الصلا 1 الى نماء الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلى الخلود لا يجوز البته غير هذذا وبهذا تتألف

النصوص وتتفق ومن المعهود في المخاطبة أن وفد من بلد إلى بلد محبس فيه لامر أوجب احتباسه فيه مدة ما فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذى حبس فيه فمن دخل في النار ثم أخرج منها فقد انقطع عنه صليها فليس من أهلها وأهل صليها على الإطلاق والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبدا فهكذا جاء في الحديث الصحيح فقد ذكر عليه السلام فيه من يدخل النار بذنوبه ثم يخرج منها ثم قال صلى الله عليه و سلم وأما أهل النار الذين هم أهلها يعنى الكفار المخلدين فيها وقد قال عز و جل وإن منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا فقد بين عليه السلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فبالقرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم صح أن ممر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط جهنم وينجى الله أولياء من حرها وهم الذين لا كبائر لهم أو لهم كبائر تابوا عنها ورجحب حسناوتهم بكبائرهم أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم وأنه تعالى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته ثم يخرجهم عنها إلى الجنة بايمانهم ويمحق الكفار بتخليدهم في النار كما قال تعالى وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين وأيضا فإن كل آية وعيد وخبر وعيد تعلق به من قال بتخليد المذذنبين فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها لأنهم يقولون إن من يأتى بتلك الكبائر ثم تاب سقط عنه الوعيد فقد تركوا ظاهر تلك النصوص فإن قالوا إنما قلنا بنصوص أخر أو جبت ذلك قيل لهم نعم وكذلك فعلنا بنصوص آخر وهى آيات الموازنة وإنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق ويقال لمن أسقط آيات الوعيد جملة وقال إنها كلها إنما جاءت في الكفار إن هذا باطل لأن نص القرآن بالوعيد على الفار من الزحف ليس الإ على المؤمن بيقين بنص الآية في قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره ولا يمكن أن يكون هذا في كافر أصلا فسقط قول من قال بالتخليد وقول من قال باسقاط الوعيد ولم يبق الإ فول من أجمل جواز المغفرة وجوز العقاب
قال أبو محمد فوجدنا هذا القول مجملا قد فسرته آيات الموازنة وقوله تعالى الذى تعلقوا به إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء حق على ظاهرها وعلى عمومها وقد فسرتها بإقرارهم آيات أخر لأنه لا يختلف في أن الله تعالى يغفر أن يشرك به لمن تاب من الشرك بلا شك وكذلك قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهذاكله حق إلا أنه قد بين من هم الذين شاء أن يغفر لهم فإن صرتم إلى بيان الله تعالى فهو الحق وإن أبيتم الا الثبات علي الإجمال فاخبرونا عن قول الله تعالى ياعبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا وقوله تعالى بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء أترون أن هذا العموم تقولون به فتجيزون أنه يغفر الكفر لأنه

ذنب من الذنوب أم لا واخبرونا عن قول الله عز و جل حاكيا عن عيسى عليه السلام أنه يقول له تعالى يوم القيامة يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إلى قوله وأنت على كل شئ شهيد إلى قوله تجرى من تحتها الأنهار أيدخل النصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه الهين من دون الله تعالى في جواز المغفرة لهم لصدق قول الله تعالى في هذا القول من التخيير بين المغفرة لهم أو تعذينهم وأخبرونا عن قوله تعالى قال عذابى أصيب به من اشاء ورحمتي وسعت كل شئ فساكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة فمن قولهم إن المغفرة لا تكون البتة لمن كفر ومات كافرا وأنهم خارجون من هذا العموم ومن هذه الجملة بقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قيل لهم ولم خصصتم هذه الجملة بهذا النص ولم تخصوا قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بقوله فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وبقوله تعالى هل تجزون الا ما كنتم تعملون وبقوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت وهذا خبر لا نسخ فيه فإن قالوا نعم الا أن يشاء أن يغفر لهم قيل لهم قد أخبر الله تعالى أنه لا يشاء ذلك بإخباره تعالى أنه في ذلك اليوم يجزى كل نفس ما كسبت ولا فرق
قال أبو محمد وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الرجل يأتى يوم القيامة وله صدقة وصيام وصلاة فيوجد قد سفك دم هذا وشتم هذا فتؤخذ حسناته كلها فيقتص لهم منها فإذا لم يبق له حسنة قذف من سيآتهم عليه ورمى في النار وهكذا أخبر عليه السلام في قوم يخرجون من النار حتى اذا نقوا وهذبوا ادخلوا الجنة وقد بين عليه السلام ذلك بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من شعير من خير ثم من في قلبه مثقال برة من خير ثم من في قلبه مثقال حبة من خردل ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدني أدني أدنى من ذلك ثم من لم يعمل خيرا قط لال شهادة السلام فوجب الوقوف عند هذه النصوص كلها المفسرة للنص المجمل ثم يقال أخبرونا عمن لم يعمل شرا قط الا اللمم ومن هم بالشر فلم يفعله فمن قول أهل الحق أنه مغفور له جملة بقوله تعالى الا اللمم وبقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تجاوز لا متى عما حدثت به أنفسها ما لم تخرجه بقول أو عمل
قال أبومحمد وهذا ينقسم أقساما احدها من هم بسيئة اى شئ كانت من السيئات ثم تركها مختار الله تعالى فهذا تكتب له حسنة فإن تركها مغلوبا لا مختارا لم تكتب له حسنة ولا سيئة تفضلا من الله عز و جل ولو عملها كتبت له سيئة واحدة ولو هم بحسنة ولو يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات وهذا كله نص رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا فذهب إلى أن الهم بالسيئة اصرار عليها فقلت له

هذا خطأ لإن الاصرار لا يكون الا على ما قد فعله المرء بعد تماد عليه أن يفعله وإما من هم بما لم يفعل بعد فليس اصرارا قال الله تعالى ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ثم نسألهم عمن عمل بالسيئات حاشا الكبائر عددا عظيما ولم يأت كبيرة قط ومات على ذلك أيجزون أن يعذبه الله تعالى على ما عمل من السيئات أم يقولون أنها مغفورة له ولا بد فإن قالوا أنها مغفورة ولابد صدقوا وكانوا قد خصوا قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وتركوا حمل هذه الآية على عمومها فلا ينكروا ذلك على من خصها أيضا بنص آخر وإن قالوا بل جائز أن يعبهم الله تعالى على ذلك أكذبهم الله تعالى بقوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ونعوذ بالله من تكذيب اله عز و جل ثم نسألهم عمن عمل من الكبائر ومات عليها وعمل حسنات رجحت بكبائره عند الموازنة أيجوز أن يعذبه الله تعالى بما عمل من تلك الكبائر أم مغفورة له ساقطة عنه فإن قالوا بل هي مغفورة وساقطة عنه صدقوا أو كانوا قد خصوا عموم قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وجعلوا هؤلاء ممن شاء ولا بد أن يغفر لهم وإن قالوا بل جايز أن يعذبهم أكذبهم الله تعالى بقوله فإما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وبقوله إن الحسنات يذهبن السيئات
قال أبو محمد وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلا فقد صح يقينا أن هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك فبقي الذين لم يشاء الله تعالى أن يغفر لهم ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في الموازنة على حسناته فهم الذين يجاوزون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة وبرحمة الله عز و جل فقالوا من هؤلاء من يغفر الله تعالى ومنهم من يعذبه قلنا لهم أعندكم بهذا البيان نص وهم لا يجدونه أبدا فظهر تحكمهم بلا برهان وخلافهم لجميع الآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة لأن الله تعالى قال أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولا خلاف في أنه تعالى يغفر الشرك لمن آمن فصح أنها مجملة تفسرها سائر الآيات والأخبار وكذلك حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئا كان له الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد أن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإنهم متفقون على أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئا إلا أنه قتل وزني وسرق فإنه قد يعذب ويقولون أن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأبيد بل يعذب ثم يخرج عن النار
قال أبو محمد هذا ترك منهم أيضا لظاهر هذا الخبر
قال أبو محمد ولا فرق بين قول الله تعالى فإما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وبين قوله وأما من خفت موازينه فأمه هاوية كلاهما خبر أن جازإبطال أحدهما جاز إبطال ت الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك فبقي الذين لم يشاء الله تعالى أن يغفر لهم

الآخر ومعاذ الله من هذا القول وكذذلك قد منع الله تعالى من هذا القول بقوله تعالى لا تختصوا لدى وقد قدمت اليكم بالوعيد ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد ونحن نقول إن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن كل أحد فهو في مشيئة الله تعالى الا أننا نقول أنه تعالى قد بين من يغفر له ومن يعذب وإن الموازين حق الموازنة حق الشفاعة حق وبالله تعالى التوفيق حدثنا محمد بن سعيد بن بيان حدثنا أحمد بن عيد النصير حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الختنى حدثنا كحمد بن المثنى حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله تعالى وأنا لمورفهم نصيبهم غير منقوص قال ما وعدوا فيه من خير وشر وهذا هو نص قولنا وقد ادعى قوم أن خلاف الوعيد حسن عند العرب وانشدوا ... وأني وإن واعدته وأوعدته ... لمخلف ميعادي ومنجزه موعدي ...
قال أبو محمد وهذا لا شيء قد جعل فخر صبي أحمق كافر حجة على الله تعالى والعرب تفخر بالظلم قال الراجز ... أحيا أباه هاشم بن حر مله ... ترى الملوك حوله مغر له ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له وقد جعلت العرب مخلف الوعد كاذبا قال الشاعر أنشده أبو عبيدة معمر بن المثنى ... أتوعدني وراء بني رباح ... كذبت لتقصرن يداك دوني ...
فإن قالوا خصوا وعيد الشرك بالموازنة قلنا لا يجوز لأن الله تعالى مع من ذلك قال تعالى ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فؤلئك حبطت أعمالهم فلا خير له
قال أبو محمد وأهل النار متناضلون في عذاب النار فأقلهم عذابا أبوطالب فإنه توضع جمرتان من نار في أخمصيه إلى أن يبلغ الأمر إللى قوله تعالى ادخلوا آل فرعون أشد العذاب وقوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولا يكون الأشد إلا إلى جنب إلا دون وقال تعالى ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر
قال أبو محمد والكفار معذذبون على المعاصي التي عملوا من غير الكفر برهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نكن من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فنص تعالى على أن الكفار يعذبون على ترك الصلاة وعلى ترك الطعام للمسكين
قال أبو محمد وأما من عمل منهم العتق والصدقة أو نحو ذلك من أعمال البر فحابط كل ذلك لأن الله عز و جل قال أنه من مات وهو كافر حبط عمله لكن لا يعذب الله أحدا إلا على ما عمل لا على ما لم يعمل قال الله تعالى هل تجزون إلا ما كنتم تعملون فلما كان من لا يطعم المسكين من الكفار يعذب على ذلك عذابا زائدا فالذي أطعم المسكين مع كفره لا

يعذب ذلك العذاب الزائد فهو أقل عذابا لأنه لم يعمل من الشر ما عمل من هو أشد عذابا أنه عمل خيرا
قال أبو محمد وكل كافر عمل خيرا وشرا ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير مكتوب مجازى به في الجنة وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادي عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه برهان ذلك حديث حكم بن حزام عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أسلمت على ما سلف لك من خير فاخبر إنه خير وإنه له إذا أسلم وقالت له عائشة رضى الله عنها يا رسول الله ارأيت ابن جدعان فإنه كان يصل الرحم ويقرى الضيف أينفع ذلك قال لا لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين فأخبر عليه السلام أنه لم ينتفع بذلك لأنه لم يسلم فأتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك وأما مؤاخذته بما عمل فحديث ابن مسعود رضى الله عنه بنص ما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قلناه فإن اعترض معترض بقول الله تعالى لئن اشركت ليحبطن عملك قلنا إنما هذا لمن مات مشر كافقط برهان ذلك أن الله تعالى قال لئن اشركت ليحبطن عملك ومن أسلم فليس من الخاسرين وقد بين ذلك بقوله ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم وإن أعترضوا فيما قلنا من المؤاخذة بما عمل في الكفر بقوله تعالى قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف قلنا لهم هذا حجة لنا لأن من إنتهى عن الكفر غفر له وإن انتهى عن الزنا غفر له وإن لم ينته عن الزنا لم يغفر له فإنما يغفر له عما انتهى عنه ولم يغفر له ما لم ينته عنه ولم يقل تعالى إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم سائر ذنوبهم والزيادة على الآية كذب الله تعالى وهى أعمال متغايرة كما ترى ليست التوبة عن بعضها توبة عن سائرها فلكل واحد منها حكم فإن ذكروا حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم الإسلام يجب ما قبله فقد قلنا أن الاسلام اسم لجميع الطاعات فمن أصر على المعصية فليس فعله في المعصية التى يتمادى عليها إسلاما ولا إيمانا كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فصح أن الاسلام والايمان هو جميع الطاعات فإذا أسلم من الكفر وتاب من جميع معاصيه فهو الاسلام الذي يجب ما قبله وإذا لم يتب من معاصيه فلم يحسن في الاسلام فهو مأخوذ بألاول والاآخر كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وبهذا تتفق الأحاديث وكذلك قوله عليه السلام والهجرة تجب ما قبلها فقد صح عنه عليه السلام أن المهاجر من هجر ما نهاه الله عنه فمن تاب من جميع المعاصي التي سلفت منه فقد هجر ما نهاه الله عنه فهذه هى الحجرة التي تجب ما قبلها وأما قوله عليه السلام والحج يجب ما قبله فقد جاء أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء الا

الجنة فهذا على الموازنة التى ربنا عز و جل عالم بمراتبها ومقاديرها وإنما تقف حيث وقفنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد واستدركنا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في قاتل نفسه حرم عليه الجنة وأوجب له النار مع قوله من قال لا اله الا الله مخلصا من قلبه حرم عليه النار وأوجب له الجنة
قال أبو محمد قال الله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى فصح أن كلامه صلى الله عليه و سلم كله وحي من عند الله تعالى وقال عز و جل ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فصح أن ما قاله رسول صلى الله عليه و سلم فمن عند الله تعالى وأنه لا اختلاف في شئ منه وأنه كله متفق عليه فإذ ذلك كذلك فواجب ضم هذه الأخبار بعضها إلى بعض فيلوح الحق حينئذ بحول الله وقوته فمعنى قوله صلى الله عليه و سلم في القاتل حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار مبنى على الموازنة فإن رجحت كبيرة قتله نفسه على حسناته حرم الله عيله الجنة حتى يقتص منه بالنار التى أوجبها الله تعالى جزاء على فعله وبرهان هذا الحديث الذى أسلم وهاجر مع عمرو بن الحممة الدوسى ثم قتل نفسه لجراح جرح به فتألم به فقطع عروق يده فنزف حتى مات فرآه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في حال حسنة الا يده وذكرا قيل له لن يصلح منك ما افسدت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم وليديه فاغفر ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهرة منفردا لكن يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد صلى الله عليه و سلم والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام ومعناه حينئذ أن الله عز و جل أوجب له الجنة ولا بد إما بعد الاقتصاص وأما دون الاقتصاص علي ما توجبه الموازنة وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها القاطنين فيها على ما بيننا قبل من قوله تعالى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ومن يعمل سوؤا يجزيه وما كان الله ليضيع إيمانكم وما تفعلوا من خير فلن تكفروا وقوله تعالى يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها فنص الآية أنها في الكفار هكذا في نص الآية
قال أبو محمد وأما الكفارة فإن الله تعالى قال أن تجتذبوا كبائر ما تنهون عنه تكفر عنكم سيآتكم وندخلكم مدخلا كريما
قال أبو محمد ومن المحال أن يحرم الله تعالى علينا أمرا ويفرق بين أحكامه ويجعل بعضه مغفورا باجتناب بعض ومؤاخذا به أن لم يجتنب البعض الآخر ثم لا يبين لنا المهلكات من غيرعا فنظرنا في ذلك فوجدنا قوما يقولون أن كل ذنب فهو كبيرة
قال أبو محمد وهذا خطأ لأن نص القرآن مفرق كما قلنا بين الكبائر وغيرها وبالضرورة

ندري أنه لا يقال كبيرة إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها والكبائر أيضا تتفاضل فالشرك أكبر مما دونه والقتل أكبر من غيره وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهما لا يعذبان وما يعذبان في كبير وأنه لكبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فأخبر عليه السلام أنهما كبير وما هما بكبير وهذا بين لأنهما كبيران بالإضافة إلى الصفائر المغفورة باجتناب الكبائر ولبسا بكبيرين بالإضافة إلى الكفر والقتل
قال أبو محمد فبطل القول المذكور فنظرنا في ذلك فوجدنا معرفة الكبير من الذنوب مما ليس بكبير منها لا يعلم البتة إلا بنص وأراد فيها إذ هذا من أحكام الله تعالى التي لا تعرف إلا من عنده تعالى فبحثنا عن ذلك فوجدنا الله تعالى قد نص بالوعيد على ذنوب في القرآن وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجدنا ذنوبا آخر لم ينص عليها بوعيد فعلمنا يقينا أن كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار أو توعد عليه رسوله صلى الله عليه و سلم بالنار فهو كبير وكل ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم باستعظامه فهو كبير كقوله عليه السلام اتقوا السبع الموبقات الشرك والسحر والقتل والزنا وذكر الحديث وكقوله عليه السلام عقوق الوالدين من الكبائر وكل ما لم يأت نص باستعظامه ولا جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير ولا يمكن أن يكون الوعيد بالنار على الصغائر على انفرادها لأنها مغمورة باجتناب الكبائر فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق

الموافاة
قال أبو محمد اختلف المتكلمون في معنى عبروا عنه بلفظ الموافاة وهم أنهم قالوا في إنسان مؤمن صالح مجتهد في العبادة ثم مات مرتدا كافرا وآخر كافر متمردا وفاسق ثم مات مسلما نائبا كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله تعالى فذهب هشام ابن عمرو والفوطي وجميع الأشعرية إلى أن الله عز و جل لم يزل راضيا عن الذي مات مسلما تائبا ولم يزل ساخط على الذي مات كافرا أو فاسقا واحتجوا في ذلك بأن الله عز و جل لا يتغير علمه ولا يرضى ما سخط ولا يسخط ما رضي وقالت الأشعرية الرضا من الله عز و جل لا يتغير منه تعالى صفات الذات لا يزولان ولا يتغيران وذهب سائر المسلمين إلى أن الله عز و جل كان ساخطا على الكافر والفاسق ثم رضي الله عنهما إذا أسلم الكافر وتاب الفاسق وأنه كان تعالى راضيا عن المسلم وعن الصالح ثم سخط عليهما إذا كفر المسلم وفسق الصالح
قال أبو محمد احتجاج الأشعر به هاهنا هو احتجاج اليهود في إبطال النسخ ولا فرق ونحن نبين بطلان احتجاجهم وبطلان قولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز و جل نتأيد أما قولهم عن علم الله عز و جل لا يتغير فصحيح ولكن معلوماته تتغير ولم نقل أن علمه يتغير ومعاذ الله من هذا ولم يزل علمه تعالى واحدا يعلم كل شيء على تصرفه في جميع حالاته فلم

يزل يعلم أن زيدا سيكون صغيرا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم ميتا ثم مبعوثا ثم في الجنة أو في النار ولم يزل يعلم أنه سيؤمن ثم يكفر أو أنه يكفر ثم يؤمن أو أنه يكفر ولا يؤمن أو أنه يؤمن ولا يكفر وكذلك القول في الفسق والصلاح ومعلوماته تعالى في ذلك متغيرة مختلفة ومن كابر هذا فقد كابر العيان والمشاهدات وأما قولهم أن الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبقاء بلا صلاة وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كما قال تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه ثم فرض علينا الصلاة والصوم وحرم علينا الخمر فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر ورضي لنا خلاف ذلك وهذا لا ينكره مسلم ولم يزل الله تعالى عليما أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ثم أنه سيحرمه ويسخطه وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم أنه يحله ويرضاه كما علم عز و جل أنه سيحي من أحياه مدة كذا وأنه يعز من أعزه مدة ثم يذله وهكذا جميع ما في العالم من آثار صنعته عز و جل لا يخفى ذلك على من له أدنى حس وهكذا المؤمن يموت مرتدا والكافر يموت مسلما فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافرا ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق ونص القرآن يشهد بذلك قال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر وأن تشكروا يرضه لكم فصح يقينا أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انتقال هذه الأحوال من الإنسان الواحد وقوله تعالى ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم فالبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط ومن المحال أن يحبط عمل لم يكن محسوبا قط فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم مات كافر أنه كان محسوبا ثم حبط إذا ارتد وكذلك قال تعالى يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فصح أنه لا يمحو إلا ما كان قد كتبه ومن المحال أن يمحي ما لم يكن مكتوبا وهذا بطلان قولهم يقينا ولله الحمد وكذلك نص قوله تعالى أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات فهذا نص قولنا وبطلان قولهم لأن الله تعالى سمى أفعالهم الماضية سيئات والسيئات مذمومة عنده تعالى بلا شك ثم أخبر تعالى أنه أحالها وبدلها حسنات مرضية فمن أنكر هذا فهو مكذب لله تعالى والله تعالى مكذب له وكذلك قال الله تعالى أنه سخط أكل آدم من الشجرة وذهاب يونس مغاضبا ثم أخبر عز و جل أنه تاب عليهما واجتبى يونس بعد أن لامه ولا يشك كل ذي عقل أن اللائمة غير الإجتباء

قال أبو محمد ثم نقول لهم أفي الكافر كفر إذا كان كافر قبل أن يؤمن وفي الفاسق فسق قبل أن يتوب وفي المؤمن إيمان قبل أن يرتد أم لا فإن قالوا لا كابروا وأحالوا وإن قالوا نعم قلنا لهم فهل يسخط الله الكفر والفسق أو يرضى عنهما فإن قالوا بل يسخطهما تركوا قولهم وإن قالوا بل يرضى عن الكفر والفسق كفروا ونسألهم عن قتل وحشي حمزة رضي الله عنه إرضاء كان لله تعالى فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا بل ما كان إلا سخطا سألناهم يؤاخذه الله تعالى به إذا أسلم فمن قولهم لا وهكذا في كل حسنة وسيئة فظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الكلام في من لم تبلغه الدعوة ومن تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه
قال أبو محمد قال الله عز و جل لا نذركم به ومن بلغ وقال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فنص تعالى ذلك على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من تبلغه وأنه تعالى لا يعذب أحدا حتى يأتيه رسول من عند الله عز و جل فصح بذلك أن من يبلغه الإسلام أصلا فإنه لا عذاب عليه وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يؤتي يوم القيامة بالشيخ الخرف والأصلح الأصم ومن كان في الفترة والمجنون فيقول المجنون يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ويقول الخرف والأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها فيوقد لهم نارا ويقال لهم ادخلوها فمن دخلها وجدها بردا وسلاما وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلا لإنقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة وبقوله كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في ديتهم شيئا إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض
قال أبو محمد ورأيت قوما يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلا بها ولا من لم تبلغه
قال أبو محمد وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إلى الإنس كلهم وإلى الجن كلهم وإلى كل من يولد إذ بلغ بعد الولادة
قال أبو محمد قال تعالى آمرا نبيه أن يقول إني رسول الله إليكم جميعا وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحد وقال تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدى فأبطل سبحانه أن يكون أحد سدى والسدى هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فأبطل عز و جل هذا الأمر ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط وأن من بلغه ذكر النبي صلى الله عليه و سلم حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه فإذا بلغته عنه نذارته ففرض عليه التصديق به واتباعه وطلب الدين اللازم له والخروج عن وطنه لذلك وإلا فقد استحق الكفر والخلود في النار والعذاب بنص والقرآن وكل ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أن في حين بعث النبي

صلى الله عليه و سلم يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ومعرفة شرائعه فإن ماتوا في ذلك الحال ماتوا كفارا إلى النار ويبطل هذا قول الله عز و جل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وليس في وسع أحد علم الغيب فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة أنه لا يلزم أحد شيء من الشرائع حتى تبلغه قلنا لا حجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم واحتمال بنيتهم إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفا يعذبون به إن لم يفعلوه وإنما كلفوه تكليف من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن له أمرا من الحكم مجملا ولم يبلغه نصه ففرض عليه اجتهاد نفسه في طلب ذلك الأمر وإلا فهو عاص لله عز و جل قال الله تعالى فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وبقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وأما من تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع إلى ما تاب عنه فإنه إن كان توبته تلك وهو معتقد للعودة فهو عابث مستهزئ مخادع لله تعالى قال الله تعالى يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم إلى قوله عذاب أليم بما كانوا يكذبون وأما من كانت توبته نصوحا ثابت العزيمة في أن لا يعود فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة لكل من تاب عنه بالنص قال عز و جل وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا فإن عاد بعد ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد عفره الله أبدا فإن ارتد ومات كافرا فقد سقط عمله والتوبة عمل فقد حبطت فهذا يعود عليه ما عمل خاصة وأما من راجع الإسلام ومات عليه فقد سقط عنه الكفر وغيره
قال أبو محمد ولا تكون التوبة إلا بالندم والإستغفار وترك المعاودة والعزيمة على ذلك والخروج من مظلمة أن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن يفجور المعروف بابن الإخشيد وهو أحد أركان المعتزلة وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة من الأتراك وولي أبوه الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي فرأيت له في بعض كتبه بقول أن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك الكبيرة
قال أبو محمد هذا أشنع ما يكون من قول المراجعة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله عالما بأنه مسيء فيه مستفر منه ومن كان بخلاف هذه الصفة وكان مستحسنا لما فعل غير نادم عليه فليس مسلما فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن الأخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها وهذا خلاف الوعيد فإن قال قائل فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن أفتقطعون علي قبول توبة التائب وعمل العامل للخير إن كل ذلك مقبول وهل تقطعون على المكثر من السيئات أنه في النار قلنا وبالله تعالى التوفيق أن الأعمال لها شروط من توفية النية حقها وتوفية العمل حقه فلو أيقنا أن العمل وقع كاملا كما أمر الله

تعالى لقطعنا قبول الله عز و جل له وأما التوبه فإذا وقعت نصوحا فنحن نقطع بقبولها وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في التفوس ولعل المظهر لخير مبطن للكفر أو مبطن على كبائر لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء وكذلك المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن فاستحق الجنة أو لعل له حسنات في باطن أمره تفيء علي سيئآته فيكون من أهل الجنة فلهذا وجب أن لا نقطع على أحد بعينه بجنة ولا نار حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم في الجنة وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأهل بدر وأهل السوابق فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم حاشا من مات معلنا للكفر فإنا نقطع عليه بالنار ونقف فيمن عدا هؤلاء إلا أننا نقطع على الصفات فنقول من مات معلنا الكفر أو مبطنا له فهو في النار خادلا فيها ومن لقي الله تعالى راجح الحسنات على السيئات والكبائر أو متساويهما فهو في الجنة لا يعذب بالنار ومن لقي الله تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال وهو أن من كان مظهر الشيء من الديانات متحملا للأذى فيه غير مستجلب بما يلقى من ذلك حالا فإنه مقطوع على باطنة وظاهره قطعا لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو معهم أو بعدهم فإن هؤلاء رضي الله عنهم رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئا واحتملوا من المضض ما لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح ذلك فيهم عند أحد فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله عز و جل وعلى خيرهم وفضلهم وكذلك نقطع على أن عمر بن عبيد كان يدين بإبطال القدر بلا شك في باطن أمره وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كانا في باطن أمرهما يدينان لله تعالى بالقياس وأن داود بن علي كان في باطن الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك وأن أحمد بن حنبل رضي اله عنه كان يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك بأن القرآن غير مخلوق بلا شك وهكذا كل من تناصرت أحواله وظهر جده في معتقد وترك المسامحة فيه واحتمل الأذى والمضض من أجله
قال أبو محمد وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل ذي عقد من أن يتبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه أو صبر عليه وأما من كان بغير الصفة فلا نقطع عقده وبالله تعالى التوفيق

الكلام في الشفاعة والميزان والحوض وعذاب القبر والكتبة
قال أبو محمد اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم وهو المعتزلة والخوارج وكل من تبع أن لا يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها وذهب أهل السنة والأشعرية والكرامية وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة واحتج المانعون بقول الله عز و جل فما تنفعهم شفاعة الشافعين وبقوله عز و جل يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله وبقوله تعالى قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا وبقوله تعالى واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة وبقوله تعالى من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة وبقوله تعالى فما لنا من شافعين ولا صديق حميم وبقوله تعالى ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون
قال أبو محمد قول من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الإقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض السنن دون بعض ولا على القرآن دون بيان رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي قال له ربه عز و جل لتبين للناس ما نزل إليهم وقد نص الله تعالى على صحة الشفاعة في القرآن فقال تعالى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فأوجب عز و جل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهدا بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة بنقل الكواف لها قال تعالى يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قوله وقال تعالى ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا وقال تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عز و جل ممن أذن له فيها ورضي قوله ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد صلى الله عليه و سلم لأنه أفضل ولد آدم عليه السلام وقال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى وقال تعالى ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال تعالى ما من شفيع إلا من بعد إذنه فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقينا أن الشفاعة التي أبطلها الله عز و جل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز و جل وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطل عز و جل هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار قال تعالى لا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا نعوذ بالله منها فإذ لا شك فيه فقد صح يقينا أن الشفاعة التي أوجب الله عز و جل لمن أذن له واتخذه عنده عهدا ورضي قوله فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت
قال أبو محمد وهما شفاعتان أحدهما الموقف وهو المقام المحمود الذي جاء النص في القرآن به في قوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وهكذا جاء الخبر الثابت نصا

والشفاعة الثانية في إخراج أهل الكبائر من النار طبقة طبقية على ما صح في ذلك الخبر وأما قول الله تعالى قل لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ولا تملك نفس لنفس شيئا فما خالفناهم في هذا أصلا وليس هذا من الشفاعة في شيء فنعم لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا ولا رشدا ولا هدى وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى وضراعة ودعاء وقال بعض منكري الشفاعة أن الشفاعة ليس إلا في المحسنين فقط واحتجوا بقوله تعالى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن من أذن الله في إخراجه من النار وأدخله الجنة وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه وهذا حق وفضل لله تعالى على من قد غفر له ذنوبه بأن رجحت حسناته على كبائره أو بأن لم تكن له كبيرة أو بأن تاب عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر به إلى الجنة ففيماذا يشفع له وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره حسناته فأدخل النار ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة وكذلك الخلق في كونهم في الموقف هم أيضا في مقام شنيع فهم أيضا محتاجون إلى الشفاعة وبالله تعالى التوفيق وبما صحت الأخبار من ذلك نقول
وأما الميزان فقد أنكروه قوم فخالفوا كلام الله تعالى جرأة واقداما وتنطع آخرون فقالوا هو ميزان بكفتين من ذهب وهذا إقدام آخر لا يحل قال الله عز و جل وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
قال أبو محمد وأمور الأخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن أو بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يأت عنه عليه والسلام شيء يصح في صفة الميزان ولو صح عنه عليه السلام في ذلك شيء لقلناه به فإذ لا يصح عليه السلام في ذلك شيء فلا يحل لأحد أن يقول على الله عز و جل ما لم يخبرنا به لكن نقول كما قال الله عز و جل ونضع الموازين القسط ليوم القيامة إلى قوله وكفى بنا حاسبين وقال تعالى والوزن يومئذ الحق وقال تعالى فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية واما من خفت موازينه فأمه هاوية فنقطع على الموازين أن توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد قال تعالى عن الكفارة فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا وليس هذا على أن لا توزن أعمالهم بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف قد نص الله تعالى على ذلك إ يقول ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون إلى قوله فكنتم بها تكذبون فأخبر عز و جل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيات الله عز و جل كفار بلا شك ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عز و جل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر من مقدار الذرة التي لا تحس وزنها في موازيننا أصلا فما زاد ولا ندري كيف تلك الموازين إلا أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثقل ممن تصدق بكذانة

وليس هذا وزنا وندري أن أثم القاتل أعظم من اثم اللاطم وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي التطوع بل بعض الفرائض أعظم من بعض فقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن من صلى الصبح في جماعة كمن قام ليلة ومن صلى العتمة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال فإنما يوزن عمل العبد خيره مع شره ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل وأما من قال بما لا يدري أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قاله قياسا على موازين الدنيا وقد أخطأ في قياسه إذ في موازين الدنيا مالا كفة له كالقرسطون وأما نحن فإنما اتبعنا النصوص الواردة في ذلك فقط ولا نقول إلا بما جاء به قرآن أو سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ولا نكذب إلا بما فيهما إبطاله وبالله تعالى التوفيق
وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي صلى الله عليه و سلم ولمن ورد عليه من أمته ولا ندري لمن أنكره متعلقا ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق
وأما الصراط فقد ذكرناه في الباب الأول الذي قبل هذا وأنه كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوضع الصراط بين ظهراني جهنم ويمر عليه الناس فمخدوش وناج ومكردس في نار جهنم وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون لك إلى من يقع في النار وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى السماء وهو معنى قول الله تعالى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جيثا وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين وقال تعالى إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون وقال تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك وقال تعالى إ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
قال أبو محمد وكل هذا ما لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام إلا أنه لا يعلم أحد من الناس كيفية ذلك الكتاب
عذاب القبر قال أبو محمد ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار

عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم به
قال أبو محمد وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وبقوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية
قال أبو محمد وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمسألة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد أثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا عذاب القبر وقال إنما توفون أجوركم يوم القيامة وقال لي تعالى في آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب فهذا العرض المكور هو عذاب القبر وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع والغريق تأكله دواب البحر والمحرق والمصلوب والمعلق فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لاعذاب إلا في القبر المعهود لما كان هؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مسألة ونعوذ بالله من هذا بل كل ميت فلا بد من فتنة وسؤال وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم وينقلبون إلى الجنة أو النار وأيضا فإن جسد كل إنسان فلا بد من العود إلى التراب يوما ما كما قال اله تعالى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى فكل من ذكرنا من مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رمادا أو رجيعا أو يتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس أثر خروجها من الجسد فهو قبر لها إلى يوم اليقيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا وأحيانا ثلاثا وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال إنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه وكذلك الله قوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها إلى قوله إلى أجل مسمى فصح بنص القرآن أن روح من مات لا يرجع إلى جسده إلا إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أرواح أهل الشقاء وأخبر عليه السلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقا قبل أن يكون لهم قبور فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا فقال عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم فلم ينكر عليه السلام على المسلمين قولهم أنهم قد جيفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له

قال أبو محمد ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة ولو صح ذلك عنه عليه السلام لقلنا به فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقوله وإنما أنفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوي تركه شعبة وغيره وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة رضي الله عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن بيان حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا عيسى بن حبيب حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ابن محمد عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان بن عيينه عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مرطوحا قبل أن يصلب فقيل له هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق فمال إليها فعزاها وقال إن هذه الجثث ليست بشيء وإن الأرواح عند الله فقالت أسماء وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وحدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني ثنا أبو موسى محمد بن المثنى الزمن ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود في قول الله عز و جل ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال ابن مسعود هي التي في البقرة وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخالف من الصحابة رضي الله عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان والوفاة كذلك وهذا قولنا وبالله التوفيق
قال أبو محمد وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى موسى عليه السلام قائما في قبره يصلي ليلة الإسراء وأخبر أنه رآه في السماء السادسة أو السابعة وبلا شك إنما رأى روحه وأما جسده فتوارى بالتراب بلا شك فعلى هذا أن موضع كل روح يسمى قبرا فتعذب الأرواح حينئذ ولا تسأل حيث كانت وبالله تعالى التوفيق
مستقر الأرواح قال أبو محمد اختلف الناس في مستقر الأرواح وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببرهوت وهو بئر بحضرموت وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية وهذا قول فاسد لأنه لا دليل عليه أصلا وما لا دليل عليه فهو ساقط ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكانا آخر غير ما ادعاه هؤلاء وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول وبالله تعالى التوفيق وذهب عوام أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها وهذا قول لا حجة له أصلا تصححه إلا خبر ضعيف لا يحتج بمثله لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث وما كان هكذا فهو ساقط أيضا وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية

إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلا ومن عجائب أصحاب هذه المقالة الفاسدة قولهم أن روح الإنسان الأن غير روحه قبل ذلك وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفنى ثم روح ثم تفنى وهكذا أبدا وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام وزاد بعضهم فقال إن صحت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب وهذا أيضا حمق آخر ودعاوي في غاية الفساد وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذب أو ينعم وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب
قال أبو محمد وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ولا أنه يركب فيه حياة ولا أنه يعذب ولا ينتقم وهذا كله مفحم في كلام النبي صلى الله عليه و سلم وإنما في الحديث أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب فلا يحول ترابا وأنه منه ابتدآء خلق المرء ومنه يبتدأ انشاؤه ثانية فقط وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره وإن عجب الذنب خاصة تتبدد أجزاؤه وهي عظام تحسها لا تحول ترابا وأن الله تعالى بيتدىء الإنشاء الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان ثم ركب عليه سائره وإذ هذا ممكن لو لم يأت به نص فخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق بالتصديق من كل خبر لأنه عن الله عز و جل قال تعالى هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم وقال تعالى ما أشهدتم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وقال أبو بكر بن كيسان الأصم لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد
قال أبو محمد وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين المقالتين في باب الكلام في الروح والنفس من كتابنا هذا بحول الله وقوته والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله تعالى ونبيه صلى الله عليه و سلم لا يتعداه فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا فصح أن الله عز و جل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
قال أبو محمد وهي العاقلة الحساسة وأخذ عز و جل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء ثم أقرها تعالى حيث شاء لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظه ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها عز و جل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند

الموت لا تزال يبعث منهاجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المني المتحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء كما قال تعالى ألم يك من نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى وقال عز و جل ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما الآية وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وهذا نص قولنا والحمد لله فيبلوهم الله عز و جل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسرى به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة و السلام وأرواح أهل الشقاوة وعن يساره عليه السلام وذلك عند منقطع العناصر وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهوية أنه ذكر هذا القول الذي قلناه بعينه وقال علي هذا أجمع أهل العلم
قال أبو محمد وهو قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا وهذا هو قول الله عز و جل وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم وقوله تعالى فأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمن وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين ولا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور فتقوم الساعة ويعيد عز و جل الأرواح ثانية إلى الأجساد وهي الحياة الثانية ويحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين أبدا
قال أبو محمد قول بعض الأشعرية معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم في العهد المأخوذ في قول الله عز و جل وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم إن إذ هاهنا بمعنى إذا فقول في غاية السقوط لوجوده خمسة أولها أنه دعوى بلا دليل والثانية أن إذا بمعنى إذا لا يعرف في اللغة وثالثها أنه لو صح له تأويله هذا الفاسد وهو لا يصح لكان كلاما لا يعقل ولا يفهم وإنما أورده عز و جل حجة علينا ولا يحتج الله عز و جل إلا بما يفهم لا بما لا يفهم لأن الله تعالى قد تطول علينا بإسقاط الإصر عنا ولا إصر أعظم من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ورابعها أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن والعيان يبطل هذا لأننا نشاهد كثيرا من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولدت عليه إلى أن مات وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين وخامسها أن الله عز و جل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا على أن الذكر يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام علينا الحجة بذلك الإشهاد

دليلا كراهية أن نقول يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي عن ذلك الإشهاد المذكور فصح أن ذلك الإشهاد قبل هذه الدار التي نحن فيها التي أخبرنا الله عز و جل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضا فبطل بذلك قول بعض الأشعرية وغيرها وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم إليها وهذا هو الباطل الذي لا يحل ونحن ولله الحمد إنما أتينا إلى ما قاله الله عز و جل وما صح عن رسوله صلى الله عليه و سلم فقلنا به ولم نحكم في ذلك بطرا ولا هوى ولا رددنا هما إلى قول أحد بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن والحمد لله رب العالمين كثيرا و هذا هو الحق الذي لا يحل تعديه
قال أبو محمد وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم وأنهم غير أصحاب اليمين وكذلك أخبر عليهم السلام أنه رآهم في السموات ليلة أسرى به في سماء سماء وكذلك الشهداء أيضا هم في الجنة لقول الله عز و جل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وهذا الرزق للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة وقد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحديث الذي روى نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش وروينا هذا الحديث مبينا من طريق ابن مسعود رضي الله عنه وأنهم الشهداء وبهذا تتألف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل كيف تخرج الأنبياء عليهم السلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة قيل له وبالله تعالى التوفيق لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة والخروج عنها قبل يوم القيامة فقد خلق الله عز و جل فيها آدم عليه السلام وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا والملائكة في الجنة ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا وكل ما جاء به نص قرآن أو سنة فلا ينكره الأجاهل أو مغفل أو رديء الدين وأما الذي ينكر ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار فالمنع من هذا إجماع من جميع الأمة من مقطوع به وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء وتفضلا من الله عز و جل فلا سبيل إلى خروجه منها أبدا بالنص وبالله تعالى التوفيق

الكلام على من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ
قال أبو محمد اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم فقالت الأزارقة من الخووارج أما أطفال المشركين ففي النار وذهبت طائفة إلى أنه يوقد لهم يوم القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ومن لم يدخلها منهم أدخل النار وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم وذهب الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول

قال أبو محمد فأما الأزارقة فأحتجوا بقول الله تعالى حاكيا عن نوع نوح عليه السلام أنه قال رب لا على الأرض من الكافرين ديارا أنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ويقول روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت يا رسول الله أين أطفالي منك قال في الجنة قالت فأطفالي من غيرك قال في النار فأعادت عليه فقال لها إن شئت أسمعتك تضاغيهم وبحديث آخر فيه الوائدة والموؤدة في النار وقالوا إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنين لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين وإن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجا عن الأسلام والكفر وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه من المسلمين قال أبو محمد هذا كل ما احتجرا به ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلا وكله لا حجة لهم فيه البتة اما قول نوح عليه السلام فلم يقل ذلك على كفار قومه خاصة لأن الله تعالى قال له إنه لن يؤمن من فومك إلا من قد آمن فأيقن نوح عليه السلام بهذا الوحي أنه لا يحدث فيهم مؤمن أبدا وإن كل من ولدوه إن ولدوه لم يكن إلا كافرا ولا بد وهذا هو نص الآية لأنه تعالى حكى أنه قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وإنما أراد كفار وقته الذين كانوا على الأرض حينئذ فقط ولو كان للازارقة أدنى علم وفقه لعلموا أن هذا من كلام نوح عليه السلام ليس على كل كافر لكن على قوم نوح خاصة لأن إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم كان أبواهما كافرين مشركين وقد ولدا خير الإنس والجن قد من المؤمنين وأكمل الناس إيمانا ولكن الأزارقة كانوا أعرابا جهالا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق الأسود بن سريع التميمي أنه عليه السلام قال أو ليس خياركم أولاد المشركين
قال أبو محمد وهل كان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم الذين يتولاهم الأزارقة كابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وخديجة أم المؤمنين وغيرهم رضي الله عنهم إلا أولاد الكفار فهل ولد أباؤهم كفارا أو هل ولدوا إلا أ هل الإيمان الصريح ثم آباء الأزارقة أنفسهم كوالد نافع ابن الأزرق وغيرهم من شيوخهم هل كانوا إلا أولاد المشركين ولكن من يضل الله فلا هادي له وأما حديث خديجة رضي الله عنها فساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير وأما حديث الوائدة فإنه جاء كما نذكره حدثنا يوسف بن عبد البر أنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التميمي قال سمعت داود بن أبي هند يحدث عن عامر الشعبي عن علقمة ابن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال

أتيت أنا وأخي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا له أن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم فهل ينفعها من عملها ذلك شيء قال لا قلنا فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم
قال أبو محمد وهذه اللفظة يعني لم تبلغ الحنث ليس بلا شك من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه فلما أخبر عليه السلام بأن تلك المؤودة في النار كان ذلك إنكارا وإبطالا لقولهما أنها تبلغ الحنث وتصحيحها لأنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظنها لا يجوز إلا هذا القول لأن كلامه عليه السلام لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه عز و جل بل كلامه عليه السلام يصدق بعضه بعضا ويوافق لما أخبر به عز و جل ومعاذ الله من غير ذلك وقد صح إخبار النبي صلى الله عليه و سلم بأن أطفال المشركين في الجنة قال الله تعالى وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت فنص تعالى على أنه لا ذنب للموؤدة فكان هذا مبين لأن إخبار النبي صلى الله عليه و سلم بأن تلك المؤودة في النار إخبار عن أنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظن أخويها وقد روى هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه لم تبلغ الحنث ورواه أيضا عن داود بن أبي عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر فأما حديث عبيدة فحدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال أنا وهب بن ميسرة قال حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيدة ابن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم أنا وأخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا كانت تقري الضيف وتصل الرحم في الجاهلية فهل ينفعها ذلك الشيء قال لا قال فإنها وأدت اختا لنا في الجاهلية فهل ينفع ذلك اختنا شيئا قال لا الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الإسلام فيعفوا الله عنها وأما حديث بن أبي عدي فحدثناه أحمد ابن عمر بن أنس العذري حدثنا أبو بدر عبد بن أحمد الهروي الأنصاري حدثنا أبو سعيد الخليل بن أحمد السجستاني حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن العشبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال انطلقت أنا وأخي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقلنا يا رسول الله أن مليكه كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئا قال لا قال فإنها وأدت اختا لها في الجاهلية فهل ذلك ينفع أختها قال لا الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفوا الله عنها
قال أبو محمد هكذا رويناه لها بالهاء على أنها أخت الوائد

قال أبو محمد وهذا حديث قد رويناه مختصرا كما حدثاه عبد الله بن ربيع التميمي حدثنا عمر ابن عبد الملك الخولاني حدثنا محمد بن بكر الوراق البصري حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر الشعبي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الوائدة والمؤودة في النار قال بن زكريا ياابن أبي زائدة قال ابي فحدثني أبو إسحاق بن عامر حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وهذا مختصر وهو على ما ذكرنا أنه عليه السلام إنما عني بذلك التي بلغت لا يجوز غير هذا لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم هم من آبائهم فإنما قاله عليه السلام في الحكم لا في الدين ولله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وأيضا فلا متعلق لهم بهذا اللفظ أصلا لأنه إنما فيه أنهم من آبائهم وهذا لا شك فيه أنهم توالدوا من آبائهم ولم يقل عليه السلام أنهم على دين آبائهم وأما قولهم ينبغي أن تصلوا على أطفال المشركين وتورثوهم وترثوهم وأن لا تتركوهم يلتزموا دين آبائهم إذا بلغوا فإنها ردة فليس لهم أن يعترضوا على الله تعالى فليس تركنا لصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلي عليهم وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين فإن العبد مؤمن فاضل ولا يورث وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات وكثير من الفقهاء يورثون الكافر مال العبد من عبيدة يسلم ثم يموت قبل أن يباع عليه وكثير من الفقهاء يورثون المسلمين مال المرتد إذا مات كافرا مرتدا أو قتل على الردة وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسرق بن الأجدع وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا ولله تعالى أن يفرق بين أحكام من شاء من عباده وإنما نقف حيث أوقفنا النص ولا مزيد وكذلك دفنهم في مقابر آبائهم أيضا وكذلك تركهم يخرجون إلى أديان آبائهم إذا بلغوا فإن الله تعالى أوجب علينا أن نتركهم وذلك ولا نعترض على أحكام الله عز و جل ولا يسأل عما يفعل وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الملة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه
قال أبو محمد فبطل أن يكون لهم في شيء مما ذكرنا متعلق وإنما هو تشغيب موهوا به لأن كل ما ذكرنا فإنما هي أحكام مجردة فقط وليس في شيء من هذه الاستدلالات تنص على أن أطفال المشركين كفار ولا على أنهم غير كفار وهذه النكتتان هما اللتان قصدنا بالكلام فقط وبالله تعالى التوفيق وأما من قال فيهم بالوقف فإنهم احتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سئل عن الأطفال يموتون فقال عليه السلام أعلم بما كانوا عاملين وبقوله صلى الله عليه و سلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذا مات صبي من أبناء الأنصار فقالت

عصفور من عصافير الجنة فقال لها عليه السلام وما يدريك يا عائشة أن الله خلق خلقا للنار وهم في أصلاب آبائهم
قال أبو محمد وهذان الخبران لا حجة لهم في شيء منهما إلا أنهما إنما قالهما رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يوحي إليه أنهم في الجنة وقد قال تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول وما أدري ما يفعل بي ولا بكم قبل ان يخبره الله عز و جل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي وكان هذا قبل أن يخبره الله عز و جل بأنه لا يدخل النار من شهد بدرا وهو عليه السلام لا يقول إلا ما جاء به الوحي كما أمر الله عز و جل أن يقول إن أتبع إلا ما يوحى إلى فحكم كل شيء من الدين لم يأت به الوحي أن يتوقف فيه المرء فإذا جاء للبيان فلا يحل التوقف عن القول بما جاء به النص وقد صح الإجماع على أن ما عملت الأطفال قبل بلوغها من قتل أو وطئ أجنبية أو شرب خمر أو قذف أو تعطيل صلاة أو صوم فإنهم غير مؤاخذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخذ الله عز و جل أخذا بما لم يفعله بل قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فمن المحال المنفي أن يكون الله عز و جل يؤاخذ الأطفال بما لم يعملوا مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بما عملوا ولا يختلف اثنان في أن إنسانا بالغامات ولو عاش لزنا أنه لا يؤاخذ بالزنا الذي لم يعمله وقد كذب الله عز و جل من ظن هذا بقوله الصادق اليوم تجزى كل نفس ما عملت وبقوله تعالى هل تجزون إلا ما كنتم تعملون فصح أنه لا يجزي أحد بما لم يعمل ولا مما لم يسن فصح أن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم بما كانوا عاملين ليس فيه أنهم كفار ولا أنهم في النار ولا أنهم مؤاخذين بما لو عاشوا لكانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد وفي هذا اختلفنا لا فيما عداه وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو كان كيف كان يكون فقط ونعم هذا حق لا يشك فيه مسلم فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة في شيء من هذين الخبرين إذ لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه المسألة بيان وأما من قال أنهم يعذبون بعذاب آبائهم فباطل لأن الله تعالى يقول ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وأما من قال أنهم توقد لهم نار فباطل لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين وفيمن لا يبلغه ذكر الإسلام من البالغين على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد فلما بطلت هذه الأقاويل كلها أوجب النظر فيما صح من النصوص من حكم هذه المسألة ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم وقال عز و جل قولوا آمنا بالله وما أنزل

إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط إلى قوله لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون إلى قوله صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون فنص عز و جل على أن فطر الناس على الإيمان وأن الإيمان هو صبغة الله تعالى وقال عز و جل وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فصح يقينا أن كل نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم عقلا مميزون فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم حاشا من بدل هذا العهد وهذه الفطرة وهذه الصبغة وخرج عنها إلى غيرها ومات على التبديل وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيروا شيئا من ذلك فهم من أهل الجنة وصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وروى عنه عليه السلام أنه قال على الملة فأباه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه كما تنتج البهيمة يهيمه جمعا وهل يجدونفيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم الذي تجدعونها وهذا تفسير الآيات المذكورات حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق السكن حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحجاج بن المنهال قال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ الله العهد عليهم في أصلاب آبائهم حيث قال ألست بربكم قالوا بلى وقد صح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من طريق عياض بن حمار المجاشعي قال عن الله تعالى أنه قال خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالهم الشياطين عن دينهم فصح يقينا أنه كل من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفا وهذا حديث تدخل فيه الملائكة والجن والأنس عباد له عز و جل مخلوقين وأيضا فإن الله عز و جل أخبر بقول إبليس له تعالى أن يغوي الناس فقال تعالى أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من ابتعك من الغاوين فصح يقينا أن الغواية داخلة على الإيمان وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان وكل مؤمن ففي الجنة وأيضا فإن الله تعالى قال فأنذرتكم نار ا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وليست هذه صفة الصبيان فصح أنهم لا يدخلون النار ولا دار إلا الجنة أو النار فإذا لم يدخلوا النار فهم بلا شك في الجنة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرؤيا الكبيرة التي رآها أنه رأى إبراهيم عليه السلام في روضة خضراء مفتخر وفيها من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وأكثرهم فسأل عليه السلام عنهم فأخبر أنهم من مات من أولاد الناس قبل أن يبلغوا فقيل له يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين فارتفع الإشكال وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة ولا يحل لأحد تعدي ما صح بالقرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم أن النار دار جزاء فالجنة كذلك ولا جزاء للصبيان قلنا

وبالله تعالى التوفيق إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة قد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط وأن الجنة دار جزاء وتفضل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم ولمن لا عمل له دار تفضل من الله تعالى مجرد وقد قال قوم أن الصبيان هم خدم أهل الجنة وقد ذكر الله تعالى الوالدان المخلدين في غير موضع من كتابه وأنهم خدم أهل الجنة فلعلهم هؤلاء والله أعلم
قال أبو محمد وأما المجانين الذين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حنفاء مؤمنين ولم يغيروا ولا بدلوا فماتوا مؤمنين فهم في الجنة حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي بالثغرى قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن المفرج القاضي حدثنا محمد بن أيوب السموط البرقي أنبأنا محمد بن عمر بن عبد الخالق البزاز حدثنا محمد بن المئني أبو موسى الزمن حدثنا معاذ بن هشام الدستواي حدثنا أبي عن قتادة عن الأسود بن سريع التيمي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يعرض على الله الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا ويقول الأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا ويقول الأحمق جاء الإسلام وما أعقل شيئا ويقول الذي مات في الفترة ما أتانا لك من رسول قال البزاز وذهب عني ما قال الرابع قال فيأخذ مواثيقهم ليطعنه فيرسل الله إليهم ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما

الكلام في القيامة وتغيير الأجساد
اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيمة وعلى تكفير من أنكر ذلك ومعنى هذا القول أن لمكث الناس في دار الإبتلاء التي هي الدنيا أمدا يعلمه الله تعالى فإذا انتهى ذلك الأمد مات كل من في الأرض ثم يحيي الله عز و جل كل من مات مذ خلق الله عز و جل الحيوان إلى انقضاء الأجل المذكور ورد أرواحهم التي كانت بأعيانها وجمعهم في موقف واحد وحاسبهم عن جميع أعمالهم ووفاهم جزاءهم ففريق من الجن والإنس في الجنة وفريق في السعير وبهذا جاء القرآن والسنن قال تعالى من يحيي العظام وهي رميم قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم وقال تعالى وإن الله يبعث من في القبور وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي إلى آخر الآية وقال تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر لموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وقال تعالى فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام إلى قوله وأنظروا إلى العظام كيف ننشزها نكسوها لحما الآية وقال تعالى عن المسيح عليه السلام وأحيى الموتى بإن الله ولا يمكن البتة أن يكون الأحياء المذكور في جميع هذه الآيات

إلا رد الروح إلى الجسد ورجوع الحس والحركة الإرادية التي بعد عدمها منه لم يكن غير هذه ا لبتة إلا أن أبا العاص حكم بن المنذر بن سعيد القاضي أخبرني عن إسماعيل بن عبد الله الرعيني أنه كان ينكر بعث الأجساد ويقول أن النفس حال فراقها الجسد تصير إلى معادها في الجنة أو النار ووقفت على هذا ويقول أن النفس حال فراقها الجسد تصير إلى معادها في الجنة أو النار ووقفت على هذا القول بعض العارفين بإسماعيل فذكر لي ثقاة منهم أنهم سمعوه يقول أن الله تعالى يأخذ من الأجساد جزء الحياة منها
قال أبو محمد وهذا تلبيس من القول لم يخرج به عما حكى لي عنه حكم بن المنذر لأنه ليس في الأجساد جزء الحياة إلا النفس وحدها
قال أبو محمد ولم ألق إسماعيل الرعيني قط على إني قد أدركته وكان ساكنا معي في مدينة من مداين الأندلس تسمى نجاية مدة ولكنه كان مختفيا وكان له اجتهاد عظيم ونسك وعبادة وصلاة وصيام والله أعلم وحكم بن المنذر ثقة في قوله بعيد من الكذب وتبرأ منه حكم بن المنذر وكان قبل ذلك يجمعهما مذهب بن مسرة في القدر وتبرأ منه أيضا إبراهيم بن سهل الإريواني وكان من رؤوس المرية وتبرأ منه أيضا صهره أحمد الطبيب وجماعة من المرية وتولته جماعة منهم وبلغني عنه أنه كان يحتج لقوله هذا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا وقف على ميت فقال أما هذا فقد قامت قيامته وبأنه عليه السلام كانت الأعراب تسأله عن الساعة ... فينظر إلى أصغرهم فيخبرهم أنه استوفى عن يمت حتى تقوم قيامتهم أو ساعتهم
قال أبو محمد وإنما عنى رسول ا لله صلى الله عليه و سلم بهذا القيام الموت فقط بعد ذلك إلى يوم البعث كما قال عز و جل ثم إنكم يوم القيامة تبعثون فنص تعالى على أن البعث يوم القيامة بعد الموت بلفظة ثم التي هي للمهله وهكذا أخبر عز و جل عن قولهم يوم القيامة يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا وأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة وأنه يحيي العظام ويبعث من في القبور في مواضع كثيرة من القرآن وبرهان ضروري وهو أن الجنة والنار موضعان ومكانان وكل موضع ومكان ومساحة متناهية بحدوده وبالبرهان الذي قدمناه على وجوب تناهي الأجسام وتناهي كل ما له عدد ويقول الله تعالى جنة عرضها السموات والأرض فلو لم يكن لتولد الخلق نهاية لكانوا أبدا يحدثون بلا آخر وقد علمنا أن مصيرهم الجنة أو النار ومحال ممتنع غير ممكن أن يسع ما لا نهاية له فيماله نهاية من الماكن فوجب ضرورة أن للخلق نهاية فإذا ذلك واجب فقد وجب تناهي عالم الذر والتناسل ضرورة وإنما كلامنا هذا مع من يؤمن بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وادعى الإسلام وأما من أنكر الإسلام فكلامنا معه على ما رتبناه في ديواننا هذا من النقض على أهل الإلحاد حتى تثبت نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وصحة ما جاء به فنرجع إليه بعد التنازع وبالله تعالى التوفيق وقد نص الله تعالى على أن العظام يعيدها ويحيها كما كانت أول مرة وأما اللحم فإنما هو كسوة كما قال ولقد خلقنا الإنسان

من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين إلى قوله فكسونا العظام لحما ثم أنشاناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين فأخبر عز و جل أن عنصر الإنسان إنما هو العظام الذي انتقلت عن السلالة التي من طين إلى النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام وأن اللحم كسوة العظام وهذا أمر مشاهد لأن اللحم يذهب بالمرض حتى لا يبقى منه ما لا قدر له ثم يكثر عليه لحم آخر إذا خصب الجسم وكذلك أخبرنا عز و جل أنه يبدل الخلق في الآخرة فقال كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب وفي الآثار الثابتة أن جلود الكفار تغلظ حتى تكون نيفا وسبعين ذراعا وأن ضرسه في النار كأحد وكذلك نجد اللحم الذي في جسد الإنسان يتغذى به حيوان آخر فيستحيل لحما لذلك الحيوان إذ ينقلب دودا فصح بنص القرآن العظام هي التي تحيى يوم القيامة ومن أنكر ما جاء به القرآن فلا حظ له في الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان

الكلام في خلق الجنة والنار
ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد وذهب جمهور المسلمين إلى أنهما قد خلقتا وما نعلم لمن قال أنهما لم يخلقا بعد حجة أصلا أكثر من أن بعضهم قال قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر من عملها غرس له في الجنة كذا وكذا شجرة وبقول الله تعالى حاكيا عن امرأة فرعون أنها قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة قالوا ولو كانت مخلوقة لم يكن في الدعاء في استئناف البناء والغرس معنى
قال أبو محمد وإنما قلنا أنهما مخلوقتان على الجملة كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى فيها ما يشاء من البنيان
قال أبو محمد والبرهان على أنهما مخلوقتان بعد إخبار النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى الجنة ليلة الإسراء وأخبر عليه السلام أنه رأى سدرة المنتهى في السماء السادسة وقال تعالى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى فصح أن جنة المأوى هي السماء السادسة وقد أخبر الله عز و جل أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة قال تعالى لهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون فليس لأحد بعد هذا أن يقول أنها جنة غير جنة الخلد وأخبر عليه السلام أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في السموات سماء سماء ولا شك في أن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الجنة فصح أن الجنات هي السموات وكذلك أخبر عليه السلام أن الفردوس الأعلى من الجنة التي أمرنا الله تعالى أن نسأله إياها فوقها عرش الرحمن والعرش مخلوق بعد الجنة فالجنة مخلوقة وكذلك أخبر عليه السلام أن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها بنفسين وأن ذلك أشد ما نجده من الحر والبرد وكان القاضي منذر بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول أنها ليست التي كان فيها آدم عليه السلام وامرأته واحتج في ذلك

بأشياء منها أنه لو كانت جنة الخلد لما أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين واحتج أيضا بأن جنة الخلد لا كذب فيها وقد كذب فيها ابليس وقال من دخل الجنة لم يخرج منها وآدم وامرأته عليهما السلام قد خرجا منها
قال أبو محمد كل هذا لا دليل له فيه أما قوله أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين فقد علمنا أن أكله من الشجرة لم يكن ظنه فيه صوابا ولا أكله لها صوابا وإنما ظنا ولا حجة فيما كان هذه صفته والله عز و جل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة بل قد كان في علم الله تعالى أنه سيخرجه منها فأكل عليه السلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن ولا تيقن به لنفسه وأما قوله أن الجنة لا كذب فيها وأن من دخلها لم يخرج منها آدم وامرأته فهذا لا حجة له فيه وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عز و جل عنها حيث يقول لا تسمع فيها لاغية فإنما هذا على المستأنف لا على ما سلف ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع واحتج أيضا بقول الله عز و جل لآدم عليه السلام إن لك ألا تجوع فيها ولا تعري قال وقد عرى فيها آدم عليه السلام
قال أبو محمد وهذا لا حجة فيها بل هو حجة عليه لأن الله عز و جل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحي وهذه صفة الجنة بلا شك وليس في شيء ممادون السماء مكان هذه صفته بلا شك بل كل موضع دون السماء فإنه لا بد أن يجاع فيه ويعرى ويظمأ ويضحي ولا بد من ذلك ضرورة فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته وليس هذا غير الجنة البتة وأنما عرى آدم حين أكل من الشجرة فاهبط عقوبة وقال الله عز و جل لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا وأخبر آدم أنه لا يضحي
قال أبو محمد وهذا أعظم حجة عليه لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لا ضحى فيه ولا بد فصح أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها فهي جنة الخلد بلا شك وأيضا فإن قوله عز و جل أسكن أنت وزوجك الجنة إشارة بالآلف واللام ولا يكون ذلك إلا على معهود ولا تنطلق الجنة هكذا إلا على جنة الخلد ولا ينطلق هذا الإسم على غيرها إلا بالإضافة وأيضا فلو أسكن آدم عليه السلام جنة في الأرض لما كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض عقوبة بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى أهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فصح يقينا بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض فصح أنها لم تكن في الأرض البتة وبالله تعالى التوفيق

الكلام في بقاء أهل الجنة والنار أبدا
قال أبو محمد اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ولا للنار ولا لعذابها

الأجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوما من الروافض فأما جهم فقال أن الجنة والنار بفنيان ويفنى أهلهما وقال أبو الهذيل أن الجنة والنار لا يفنيان ولا يفنى أهلها إلا أن رحكاتهم تفنى ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون وقالت تلك الطائفة من الروافض أن أهل الجنة يخرجون من الجنة وكذا أهل النار من النار إلى حيث شاء الله
قال أبو محمد أما هذه المقالة ففي غاية الغثاثة والتعري من شيء يشغب به فكيف من إقناع أو برهان وما كان هكذا فهو ساقط وأما قول أبي الهذيل فإنه لا حجة له إلا أنه قال كلما أحصاه العدد فهو ذو نهاية ولا بد والحركات ذات عدد فهي متناهية
قال أبو محمد فظن أبو الهذيل لجهله بحدود الكلام وطبائع الموجودات أن ما لم يخرج إلى الفعل فإنه يقع عليه العدد وهذا خطأ فاحش لأن ما لم يخرج إلى الفعل فليس شيئا ولا يجوز أن يقع العدد إلا على شيء وإنما يقع العدد على ما خرج إلى الفعل من حركات أهل النار والجنة متى ما خرج فهو محدود متناه وهكذا أبدا وقد أحكمنا هذا المعنى في أول هذا الكتاب في باب إيجاب حدوث العالم وتناهي الموجودات فأغنى عن إعادته وبالله تعالى التوفيق فبطل ما موه به أبو ا لهذيل ولله الحمد ثم نقول أن قوله هذا خلاف للإجماع المتيقن وأيضا فإن الذي فر منه في الحركات فإنه لازم له في مدد سكونهم وتنعمهم وتأملهم لأنه مقر بأنهم يبقون ساكنين متنعمين متألمين بالعذاب وبالضرورة ندري أن للسكون والنعيم والعذاب مددا يعد كل ذلك كما تعد الحركة ومددها ولا فرق وأيضا فلو كان ما قاله أبو الهذيل صحيحا لكان أهل الجنة في عذاب واصب وفي صفة المخدور والمفلوج ومن أخذه الكابوس ومن سقى البنج وهذا في غاية النكد والشقاء ونعوذ بالله من هذا الحال وأما جهم بن صفوان فإنه احتج بقول الله تعالى وأحصى كل شيء عددا وبقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وقال كما لا يجوز أن يوجد شيء لم يزل غير الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يوجد شيء لا يزال غير الله تعالى
قال أبو محمد ما نعلم له حجة غير هذا أصلا وكل هذا لا حجة له فيه أما قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه فإنما عنى تعالى الاستحالة من شيء إلى شيء ومن حال إلى حال وهذا عام لجميع المخلوقات دون الله تعالى وكذلك مدد النعيم في الجنة والعذاب في النار كلما فنيت مدة أحدث الله عز و جل أخرى وهكذا أبدا بلا نهاية ولا آخر يدل على هذا ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى من الدلائل على خلود الجنة والنار وأهلها وأما قوله تعالى وأحصى كل شيء عددا فإن اسم الشيء لا يقع إلا على موجود والإحصاء لا يقع على ما ذكرنا لا على ما خرج إلى الفعل ووجد بعد وإذا لم يخرج من الفعل فهو لا شيء بعد ولا يجوز أن يعد لا شيء وكل ما خرج إلى الفعل من مدة بقاء الجنة والنار وأهلهما فمحصي بلا شك ثم يحدث الله تعالى لهم مددا آخر وهكذا أبدا بلا نهاية ولا آخر وقالوا هل أحاط الله تعالى علما بجميع مدة الجنة والنار أم لا فإن قلتم لا جهلتم الله وإن قلتم نعم جعلتم مدتها محاطا بها وهذا هو التناهي نفسه

قال أبو محمد إن الله تعالى إنما يعلم بالأشياء على ما هي عليه لأن من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فهو جاهل به مخطئ في اعتقاده ظان للباطل وليس علما ولا حقا ولا عالم به وهذا ما لا شك فيه وعلم الله عز و جل هو الحق اليقين على ما هي عليه فكل ما كان ذا نهاية فهو في علم الله تعالى ذو نهاية ولا سبيل إلى غير هذا البتة وليس للجنة والنار مدد غير متناهية محاط بها وإنما لهما مدد كل ما خرج منها إلى الفعل فهو محصي محاط بعدده وما لم يخرج إلى الفعل فليس بمحصي لكن علم الله تعالى أحاط أنه لا نهاية لهما وأما قوله كما لا يجوز أن يوجد شيء غير الله تعالى لا نهاية له لم يزل فإن هذه القضية فاسدة وقياس فاسد لا يصح والفرق بينهما أن أشياء ذوات عدد لا أول لها ولم تزل لا يمكن أن نتوهم البتة ولا يشكك بل هي محال في الوجود كما ذكرنا في الرد على من قال بأن العالم لم يزل فأغنى عن إعادته وليس كذلك قولنا لا يزال لأن أحداث الله تعالى بعد شيء أبدا بلا غاية متوهم ممكن لا حوالة فيه فقياس الممكن المتوهم على الممتنع المستحيل الذي لا يتوهم باطل عند القائلين بالقياس فكيف عند من لا يقول به فإن قال قائل أن كل ما له أول فله آخر هذه قضية فاسدة ودعوى مجردة وما وجب هذا قط لا بقضية عقل ولا بخبر لأن كون الموجودات لها أوائل معلوم بالضرورة لأن ما وجد بعد فقد حصره عدد زمان وجوده وكل ما حصره عدد فلذلك العدد أول ضرورة وهو قولنا واحد ثم يتمادى العدد أبدا فيمكن الزيادة بلا نهاية وتمادي ا لموجود بخلاف المبدأ لأنه إذا أبقى وقتا جاز أن يبقى وقتين وهكذا أبدا بلا نهاية وكل ما خرج من مدد البقاء إلى حد الفعل فذو نهاية بلا شك كذلك من العدد أيضا ولم نقل أن بقاء الناس في هذه الدنيا له نهاية إلا من طريق النص ولو أخبر الله تعالى بذلك لأمكن وجاز أن تبقى الدنيا أبدا بلا نهاية ولكن الله تعالى قادرا على ذلك ولكن النص لا يحل خلافه وكذلك لو لا إخبار الله تعالى لحل احتارمها وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد والبرهان على بقاء الجنة والنار بلا نهاية قول الله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ وقوله تعالى في غير موضع من القرآن خالدين فيها أبدا وقوله تعالى لا يذقون فيها الموت إلا الموتة الأولى مع صحة الإجماع بذلك وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص لو أقام أهل النار في النار ما شاء الله أن يبقوا لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه منها
قال أبو محمد وهذا إنما هو في أهل الإسلام الداخلين في النار بكبائرهم ثم يخرجون منهم بالشفاعة ويبقى ذلك المكان خاليا ولا يحل لأحد أن يظن في الصالحين الفاضلين خلاف القرآن وحاشا لهما من ذلك وبالله تعالى التوفيق ثم كتاب الإيمان والوعيد وتوابعه بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله عدة للقائه
الكلام في الإمامة والمفاضلة بي الصحابة
قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الامة واجب عليها الإنقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي آتى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يشاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة
قال أبو محمد وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه والقرآن والسنة قد ورد بإيجاب الإمام من ذلك قول الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة وأيضا فإن الله عز و جل يقول لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام ا لناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم انسان ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم أما لأنها ترى في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافا مجردا عليهم وهذا الذي لا بد منه ضرورة وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعدا بينهما ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا لإسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الإثنين فصاعدا وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك

وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ولا يجوز إلا إمام واحد إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد واحتج هؤلاء بقول الأنصار ومن قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير واحتجوا أيضا بأمر علي والحسن مع معاوية رضي الله عنهم
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضي الله عنهم ما ذكرنا لم يكن صوابا بل كان خطأ إذ اداهم إليها الإجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون ولا بد إذ اختلف القائلان على قولين متنافين من أن يكون أحدهما حقا والآخر خطأ وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز و جل الرد إليه عند التنازع إذ يقول الله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم الآخر فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قال إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا وقال تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم فحرم الله عز و جل التفرق والتنازع وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا وأما من طريق النظر والمصلحة فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة وأكثر فإن منع من ذلك مانع كان متحكما بلا برهان ومدعيا بلا دليل وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في العالم إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية إمام أو يكون كل أحد وخليفة في منزله وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا فصح أن قول الأنصار رضي الله عنهم وهلة وخطار رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادي عليه وأما أمر علي والحسن ومعاوية فقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أنذر بخارجة تخرج من طائفتين من أمة يقتلها أولى الطائفتين بالحق فكان قاتل تلك الطائفة علي رضي الله عنهم فهو صاحب الحق بلا شك وكذلك أنذر عليه السلام بأن عمارا تقتله الفئة الباغية فصح أن عليا هو صاحب الحق وكان علي السابق إلى الإمامة فصح بعد أن صاحبها وإن من نازعه فيها فمخطئ فمعاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد ولا حجة في خطأ المخطئ فبطل قول هذه الطائفة وأيضا فإن قول الأنصار رضي الله عنهم منا أمير ومنكم أمير يخرج على أنهم إنما أرادوا أن يلي وال منهم فإذا مات ولي من المهاجرين آخر وهكذا أبدالا على أن يكون إمامان في وقت وهذا هو الأظهر من كلامهم وأما علي ومعوية رضي الله عنهما فما سلم قط أحدهما للآخر بل كل واحد منهما يزعم أنه المحق وكذلك كان الحسن رضي الله عنه إلى أن

أسلم الأمر إلى معاوية فإذا هذا كذلك فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبي الصباح وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلا وبالله تعالى التوفيق ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على قريش فذهب أهل السنة وجميع أهل الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان من ولد فهر بن مالك وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك وإن كانت أمه من قريش ولا في حليف ولا في مولى وهبت الخوارج كلها و جمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشيا كان أو عربيا أو ابن عبد وقال ضرار بن عمرو الغطفاني إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة قالوا وجب أن يقدم الحبشي لأنه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة
قال أبو محمد وبوجوب الإمامة في ولد فهر ابن مالك خاصة نقول بنص رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن الأئمة من قريش وعلى أن الإمامة في قريش وهذه رواية جاءت مجيء ا لتواتر ورواها أنس بن مالك وعبد الله ابن عمر بن الخطاب ومعوية وروى جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار رضي الله عنم يوم السقيفة وهم أهل الدار والمنعة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن الحق لغيرهم في ذلك فإن قال قائل أن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم الأئمة من قريش يدخل في لك الحليف والمولى وابن الأخت لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم مولى القوم منهم ومن أنفسهم وابن أخت القوم منهم فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الإجماع قد تيقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء جوزها في هؤلاء ومن منعها من غير قريش منعها من الحيف والمولى وابن الأخت فإذا صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا فيمن ليس قرشيا صح بالإجماع أن حليف قريش مولاهم وابن أختهم كحكم من ليس قرشيا وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقال قوم إن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه العالم وعلى متولى الصلاة بأهل مسجد ما قلنا نعم لا يقع على هؤلاء إلا بالإضافة لا بالإطلاق فيقال فلان إمام في الدين وإمام بني فلان فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأمة إلا على المتولى لأمور أهل الإسلام فإن قال قائل بأن اسم الإمارة واقع بلا خلاف على من ولي جهة من جهات المسلمين وقد سمى بالإمارة كل من ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم جهة من الجهات أو سرية أو جيشا وولاه مؤمنون فما المانع من أن يوقع على كل واحد إسم أمير المؤمنين فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الكذب محرم بلا خلاف وكل ما ذكرنا قائما فهو أمير لبعض

المؤمنين لا لكلهم فلو سمى أمير المؤمنين لكان مسميه بذلك كاذبا لأن هذه اللفظة تقتضى عموم جميع المؤمنين وهو ليس كذلك وإنما هو أمير بعض المؤمنين فصح أنه ليس بحوز البتة أن يوقع إسم الأمامة مطلقا ولا إسم أمير المؤمنين إلا على القرشى المتولي لجميع أمور المؤمنين كلهم أو الواجب له ذلك وإن عصاه كثير من المؤمنين وخرجوا عن الواجب عليهم من طاعته والمفترض عليهم من بيعته فكانوا بذلك فئة باغية حلالا قتالهم وحربهم وكذلك إسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضا إلا لمن هذه صفته وبالله التوفيق وأختلف القائلون بأن الآمامة لا تجوز إلا في صلبة قريش فقالت طائفة هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس بن عبد المطلب وهو قول الرلوندية وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد على إبن أبي طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والحارث والعباس وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس وكان له في ذلك تأليف مجموع وروبنا كتابا مؤلفا الرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال أبو محمد فأما هذه الفرق الأرع فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوى كاذبة لا وجه لها وإنما الكلام مع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد على فقط لكثرة عددهم قال أبو محمد احتج من ذهب الى ان الخلافة لا تجوز إلا في ولد العباس فقط على أن الخلفاء من ولده وكل من له حظ من علم من غير الخلفاء منهم لا يرضون بهذا ولا يقولون به لكن تلك الطائفة قالت كان العباس عصب رسول الله صلى الله عليه و سلم ووارثه فإذا كان ذلك كذلك فقد ورث مكانه قال أبو محمد وهذا ليس بشيء لأن ميراث العباس رضي الله عنه لو وجب له لكان ذلك في المال خاصة وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات إنها تورث فبطل هذا التمويه جملة ولله الحمد ولو جاز ان تورث المراتب لكان من رسول الله صلى الله عليه و سلم مكانا ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبة ووارثة وهذا مالا يقولونه فكيف وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة حاشا الروافض أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا نورث ما تركناه صدقة فإن إعترض معترض بقول الله عز و جل وورث سليمان داود وبقوله تعالى

حاكيا عن زكريا عليه السلام أنه قال فهب من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب وأجعله رب رضيا
قال أبو محمد وهذا لا حجة فيه لأن الرواة حملة الأخبار وجميع التواريخ القديمة كلها وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم إن داود عليه السلام كان له بنون غير سليمان عليه السلام فصح أنه ورث النبوة وبرهان ذلك أنهم كلهم مجمعون على أنه عليه السلام ولي مكان أبيه عليهما السلام وليس له إلا إثنتي عشرة سنة ولداود أربعة وعشرون إبنا كبارا وصغارا وهكذا القول في ميراث يحي بن زكريا عليهما السلام وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قوله عليه السلام يرثني ويرث من آل يعقوب وهم مئوا الوف يرث عنه النبوة فقط وأيضا فمن المحال أن يرغب زكريا عليه السلام في ولد يحجب عصبته عم ميراث فإنما يرغب في هذه الخطة ذو الحرص على الدنيا وحطامها وقد نزه الله عز و جل مريم عليها السلام التي كانت في كفالته من المعجزات قال تعالى كلما دخل عليه زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن ا لله يرزق من يشاء بغير حساب إلى قوله إنك سميع الدعاء وعلى هذا المعنى دعا فقال هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب وأجعله رب رضيا وأما من اغتر بقوله تعالى حاكيا عنه عليه السلام أنه قال وإني خفت الموالي من ورائي قيل له بطلان هذا الظن أن الله تعالى لم يعطه ولدا يكون له عقب فيتصل الميراث لهم بل أعطاه ولدا حصورا لا يقرب ا لنساء قال تعالى وسيدا وحصورا ونبيا من الصاحلين فصح ضرورة أنه عليه السلام إنما طلب ولدا نبيا لا ولد يرث المال وأيضا فلم يكن العباس محيطا بميراث النبي صلى الله عليه و سلم وإنما كان يكون له ثلاثة أثمانه فقط وأما ميراث المكانة فقد كان العباس رضي الله عنه حيا قائما إذ مات النبي صلى الله عليه و سلم فما أدعى العباس لنفسه فقط في ذلك حقا لا حينئذ ولا بعد ذلك وجاءت الشورى فما ذكر فيها ولا أنكر هو ولا غيره ترك ذكره فيها فصح أنه رأى محدث فاسد لا وجه له للاشتغال به والخلفاء من ولده والأفاضل منهم من غير الخلفاء لا يرون لأنفسهم بهذه الدعوة ترفعا عن سقوطها ووهيها وبالله تعالى التوفيق وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي رضي الله عنه فإنهم انقسموا قسمين فطائفة قالت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نص على علي بن أبي طالب أنه الخليفة وأن الصحابة بعده عليه السلام اتفقوا على ظلمه وعلى كتمان نص النبي صلى الله عليه و سلم وهؤلاء المسلمون الروافض وطائفة قالت لم ينص النبي صلى الله عليه و سلم علي على لكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأحقهم بالأمر وهؤلاء هم الزيدية نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثم اختلف الزيدية فرقا فقالت طائفة أن الصحابة ظلموه وكفروا من خالفه

من الصحابة وهم الجارودية وقالت أخرى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يظلموه لكنه طربت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنه إماما وهدى ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم وذكر طائفة أن هذا مذهب الفقيه الحسن بن صالح بن حي الهمداني
قال أبو محمد وهذا خطأ وقد رأيت الهشام ابن الحكم الرافضي الكوفي في كتابه المعروف بالميزان وقد ذكر الحسن ابن حي وأن مذهبه كان أن الإمامة في جميع ولد فهر ابن مالك
قال أبو محمد وهذا الذي لا يليق بالحسن بن حي غيره فإنه كان أحد أئمة الدين وهشام ابن الحكم أعلم به ممن نسب إليه غير ذلك لأن هشاما كان جاره بالكوفة وأعرف الناس به وأدركه وشاهده والحسن بن حي رحمه الله يحتج بمعاوية رضي الله عنهم وبإبن الزبير رضي الله عنهما وهذا مشهور عنه في كتبه ورواياته من روى عنه وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع ولد علي بن أبي طالب من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وجب سل السيف معه وقالت الروافض الإمامة في علي وحده بالنص عليه ثم في الحسن ثم في الحسين وادعوا نصا آخر من النبي صلى الله عليه و سلم عليهما بعد أبيهما ثم على ابن الحسين لقول الله عز و جل وأولوا الأرحام بعضهم أولى بعض في كتاب الله قالوا فولد الحسين أحق من أخيه ثم محمد بن علي بن الحسين ثم جعفر بن علي ابن الحسين وهذا مذهب جميع متكلميهم كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وداود الحواري وداود الرقي وعلي بن منصور وعلي بن هيثم وأبي علي السكاك تلميذ هشام بن الحكم ومحمد بن جعفر بن النعمان شيطان الطاق وأبي ملك الحضرمي وغيرهم ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد فقالت طائفة بإمامة بن إسماعيل بن جعفر وقالت طائفة ابنه محمد بن جعفر وهم قليل وقالت طائفة جعفر حي لم يمت وقال جمهور الرافضة بإمامة ابنه موسى بن جعفر ثم علي ابن موسى ثم محمد بن علي بن موسى ثم علي بن محمد بن موسى ثم الحسن بن علي ثم مات الحسن غير معقب فافترقوا فرقا وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن بن علي ولد فأخفاه وقيل بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل وهو الأشهر وقال بعضهم بل من جارية له اسمها نرجس وقال بعضهم من جارية له اسمها سوسن والأظهر أن اسمها صقيل هذه ادعت الحمل بعد الحسن بن علي سيدها فوقف ميراثه لذلك سبع سنين ونازعهل في لك أخوه جعفر ابن علي وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة وتعصب لجعفر آخرون ثم انفش ذلك الحمل وبطل أخذ الميراث جعفر أخوه وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين وزادت فتنة الروافض بصقيل هذه ودعواها إلى أن حبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها وقد عير بها أنها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي

الكاتب فوجدت فيه وحملت إلى قصر المعتضد فبقيت هنالك إلى أن ماتت في القصر في أيام المقتدر فهم إلى اليوم ينتظرون ضالة من مائة عام وثمانين عاما وكانت طائفة قديمة قد بادت كان رئيسهم المختار بن عبيد وكيسان أبا عمرة وغيرهما يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين محمد أخوه المعروف بابن الحنيفة ومن هذه الطائفة كان السيد الحميري وكثير عزة الشاعر أن وكانوا يقولون أن محمدا بن الحنفية حي بجبل رضوى ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف
وقال أبو محمد وعمدة هذه الطوائف كلها في الإحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء
قال أبو محمد لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونا ولا معنى لاحتجاجهم علينا بروياتهم فنحن لا نصدقها وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه لأن من صدق بشيء ملزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري فيصير الخصم يومئذ مكابرا منقطعا أن ثبت على ما كان عليه إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها منها قول رسول ا لله صلى الله عليه و سلم لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
قال أبو محمد وهذا لا يوجب له فضلا على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه السلام لأن هارون لم يل أمر نبي إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة وإذا لم يكن علي نبيا كما كان هارون نبيا نبيا ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل فقد صح أن كونه رضي الله عنه صلى الله عليه و سلم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط وأيضا فإنما قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا القول إذا استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون استقله فخلفه فلحق علي برسول الله صلى الله عليه و سلم فشكى ذلك إليه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ أنت مني بمنزلة هارون من موسى يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختارا استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام هارون عليه السلام أيضا مختار الإستخلافة ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالا سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلا على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين
قال أبو محمد وعمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا لا بد من أن يكون إمام معصوم عنده جميع علم الشريعة ترجع الناس إليه في أحكام الدين ليكونوا مما تعبدوا به علي يقين

قال أبو محمد هذا لا شك فيه وذلك معروف ببراهينة الواضحة وإعلامه المعجزة وآياته الباهرة وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلينا تبيان دينه الذي ألزمنا إياه صلى الله عليه و سلم فكان كلامه وعهوده وما بلغ من كلام الله تعالى حجة نافذة معصومة من كل آفة أتى بحضرته وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته وإلى كل من يأتي بعد موته صلى الله عليه و سلم إلى يوم القيامة من جن وأنس قال عز و جل اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء فهذا نص ما قلنا اتباع أحد دون رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لتنفيذ الإمام عهود الله تعالى الواردة إلينا على من عنده فقط لا لأن يأتي الناس ما لا يشاؤنه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجدنا عليا رضي الله عنه إذ دعي إلى التحاكم إلى القرآن أجاب وأخبر أن ا لتحاكم إلى القرآن حق فإن كان على صواب في لك فهو قولنا وإن كان أجاب وأخبر أن التحاكم إلى القرآن فإن كان على أصاب في ذلك فهو قولنا وإن كان أجاب إلى الباطل فهذه غير صفته رضي الله عنه ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإمام لقال علي حينئذ كيف تطلبون تحكيم القرآن وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن قالوا إذ مات رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا بد من إمام يبلغ الدين قلنا هذا باطل ودعوى بلا برهان وقول لا دليل على صحته وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله صلى الله عليه و سلم ببيانه وتبليغه فقط سواء في ذلك من كان بحضرته ومن غاب عنه ومن جاء بعده إذ ليس في شخصه صلى الله عليه و سلم إذا لم يتكلم بيان عن شيء من الدين فالمراد منه عليه السلام كلام باق أبدا مبلغ إلى كل من في الأرض وأيضا فلوا كان ما قال أمن الحاجة إلى إمام موجودا بدا لا ننقض ذلك عليهم بمن كان غائبا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض إذ لا سبيل إلى أن يشاهد الإمام جميع أهل الأرض الذين في ا لمشرق والمغرب من فقير وضعيف وامرأة ومرسض ومشغول بمعاشه الذي يضيع أن أغفله فلا بد من التبليغ عن الإمام فالتبيلغ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى بالإتباع من التبليغ عمن هو دونه وهذا ما لا إنفكاك لهم منه
قال أبو محمد لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ما أمروا قط في غير منازل سكناهم وما حكموا على قرية فما فوقها بحكم فما الحاجة إليهم لا سيما مذ مائة عام وثمانين عاما فإنهم يدعون إماما ضالا لم يخلق كعنقاء مغرب وهم أولو فحش وقحة وبهتان ودعوى كاذبة لم يعجز عن مثلها أحد وأيضا فإن الإمام المعصوم لا يعرف أنه معصوم إلا بمعجزة ظاهرة عليه أو بنص تنقله العلماء عن النبي صلى الله عليه و سلم على كل إمام بعينه واسمه ونسبه وإلا فهي دعوى لا يعجز عن مثلها أحد لنفسه أو لمن شاء ولقد يلزم كل ذي عقل سليم أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الجهل الغث البارد السخيف الذي ترتفع عقول الصبيان عنه وما توفيقنا إلا بالله عز و جل وبرهان آخر ضروري وهو أن رسول الله

صلى الله عليه و سلم مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين فما منهم أحد أشار إلى علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نص عليه ولا أدعي ذلك علي قط لا في ذلك الوقت ولا بعده ولا إدعاء له أحد في ذلك الوقت ولا بعده ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت ولا بعده ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنا بذي الهمم والنيات والأنساب أكثرهم موتور في صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي على عهد عاهده رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعي إلا رواية واحدة واهية عن مجهولين إلى مجهول يكنى بالحمراء لا يعرف من هو في الخلق ووجدنا عليا رضي الله عنه تأخر عن البيعة ستة أشهر فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعا مراجعا غير مكره فكيف حل لعي رضي الله عنه عند هؤلاء النوكي أن يبايع طائعا رجلا أما كافرا وأما فاسقا جاحدا لنص رسول الله صلى الله عليه و سلم ويعينه على أمره ويجالسه في مجالسه ويواليه إلى أن مات ثم يبايع بعده عمر بن الخطاب مبادرا غير متاردد ساعة فما فوقها غير مركه بل طائعا وصحبه وأعانه على أمره وأنكحه من ابنته فاطمة رضي الله عنها ثم قبل ادخاله في الشورى أحد ستة رجال فكيف حل لعلي عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضالة وكفر ويغر الأمة هذا الغرور وهذا الأمر أدى أبا كامل إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه في زعمه أعان الكفار على كفرهم وأيدهم على كتمان الديانة وعلى ما لا يتم الدين إلا به
قال أبو محمد ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت وهو الأسد شجاعة قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم مرات ثم يوم الجمل وصفين فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي ومنعه ما هو أحق به مذ مات رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا إلى نفسه فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة وبذلوا دماءهم دونه ورأوه حينئذ صاحب الأمر والأولى بالحق ممن نازعه فما الذي منعه ومنعهم من الكلام وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام أو يوم السقيفة وأظرف من هذا بقاؤه ممسكا عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر فما سألها ولا أجبر عليها ولا كلفها وهو يتصرف بينهم في أموره فلولا أنه رأى أحق فيها واستدرك أمره فبايع طالبا حفظه نفسه في دينه راجعا إلى الحق لما بايع فإن قالت الروافض أنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع إلى الباطل فهذا هو الباطل حقا لا ما فعل علي رضي الله عنه ثم ولي علي رضي الله عنه فما غير حكما من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان ولا أبطل عهدا من عهودهم ولو كان ذلك عنده باطلا لما كان في

سعة من أن يمضي الباطل وينفذه وقد ارتفعت التقية عنه وأيضا فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنهم ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عن جميعهم وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ليس معه أحد غير الزبير بن العوام ثم استبان الحق للزبير رضي الله عنه فبايع سريعا وبقي علي وحده لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس ولا يمنع من لقائه فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون عن غلبة أو عن ظهور حقه إليهم فأوجب ذلك الإنقياد لبيعته أو فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه فإن قالوا بايعوه بغلبة كذبوا لأنه لم يكن هنالك قتال لا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا وقت طويل ينفسخ للوعيد ولا سلاح مأخوذ ومحال أن يترك أزيد من ألفي فارس انجاد أبطال كلهم عشيرة واحدة قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه وهو أنهم بقو ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم موطنين على الموت متعرضين مع ذلك للحرب مع قيصر والروم بمؤنة وغيرها ولكسرى والفرس ببصرى من يخاطبهم يدعوه إلى إتباعه وأن يكون كأحد من بين يديه هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب فمن المحال الممتنع أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ولا إلى موال ولا إلى عصبة ولا مال فرجعوا إليه وهو عندهم مبطل وبايعوه بلا تردد ولا تطويل وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا خوف ولا ظهور الحق إليهم فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه بل فيما فيه ترك العز والدنيا والرياسة وتسليم كل ذلك إلى رجل لا عشيرة له ولا منعة ولا حاجب ولا حرس على بابه ولا قصر ممتنع فيه ولا موالي ولا مال فأين كان على وهو الذي لا نظير له في الشجاعة ومعه جماعة من بني هاشم وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالما وعن منعه وزجره بل قد علم والله علي رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وأن من خالفه على الباطل فإذ عن للحق بعد أن عرضت له فيه كبوة كذلك الأنصار رضي الله عنهم وإذ قد بطل كل هذا فلم يبق إلا أن عليا والأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنهم لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه و سلم لا لاجتهاد كاجتهادهم ولا لظن كظنونهم فإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار وزالت الرياسة عنهم فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي صلى الله عليه و سلم علي أماة على ومن المحال أن تتفق آرائهم كلهم على معونة من ظلمهم وغصبهم حقهم إلا أن تدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نيسان فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة ثم لو أمكنت لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان وإن الناس كفهم نسوه وفي هذا ابطال الحقائق كلهم وأيضا فإن كان جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فمن أين وقع الروافض أمره ومن بلغه إليهم وكل هذا عن هوس ومحال فبطل أمر النص على علي رضي الله عنه بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة ولذلك انحرفوا عنه قيل له هذا تمويه

ضعيف كاذب لأنه إن ساغ لكم ذلك في بني عبد شمس وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني عامر لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلا أو رجالا فقتل من بني عامر بن لؤي رجلا واحدا وهو عمرو بن ود وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالا وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عقبة والعاص بن سهل بن العاص بلا شك وشارك في قتل عتبة بن ربيعة وقيل قتل عقبة بن أبي معيط وقيل قتله غيره وهو عاصم بن ثابت الأنصاري ولا مزيد فقد علم كل من له أقل من علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل ولا لأحد منها يوم السقيفة حل ولا عقد ولا رأي ولا أمر اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان ماثلا إلى علي في ذلك الوقت عصبية للقرابة لا تدينا وكان ابنه يزيد وخالد بن سعيد بن العاص والحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي مائلين إلى الأنصار تدينا والأنصار قتلوا أبا جهل بن هشام أخاه وقد كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي حين قصه عثمان وبعدها حتى قبله معاوية على ذلك فعرفونا من قتل على من بني تيم بن مرة أو من عدي بن كعب حتى يظن أهل القحة أنهما حقدا عليه ثم أخبرونا من قتل من الأنصار أو من جرح منهم أو من أذى منهم ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها بعضهم متقدم وبعضهم مساو له وبعضهم متأخر عنه فأي حقد كان له في قلوب الأنصار حتى يتفقوا كلهم على جحد النص عليه وعلى إبطال حقه وعلى ترك كر اسمه جملة واينار سعد بن عبادة عليه ثم على إيثار أبي بكر وعمر عليه والمسارعة إلى بيعته بالخلافة دونه وهو معهم وبين أظهرهم يورنه غدوا وعشيا لا يحول بينهم وبينه أحد ثم أخبرونا من قتل على من أقارب أولا المهاجرين من العرب من مضر وربيعة واليمين وقضاعة حتى يصفقوا 1 كلهم على كراهية ولا يته ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه إن هذه لعجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلا ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له دونهم لو كان للروافض حياء أو عقل ولقد كان لأبي بكر رحمه الله ورضي عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي فما منعهم ذلك من بيعته وهو أسوأ الناس أثرا عند كفارهم ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي رضي الله عنه فليت شعري ما الذي أوجب أن ينسى آثارها هؤلاء كلهم ويعادوا عليا من بينهم كلهم لولا قلة حياء الروافض وصفاته وجهودهم حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم ورافع بن خديج الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري وأبي هريرة وأبي الدرداء وجماعة غير هؤلاء من المهاجرين لم يبايعوا عليا إذ ولى الخلافة ثم بايعوا معاوية ويزيد ابنه من أدركه وادعوا أن تلك الأحقاد حملنهم على ذلك
قال أبو محمد حمق الرافضة وشدة ظلمة جهلهم وقلة حياتهم هورهم في الدمار والبوار والعار والنار وقلة المبالاة بالفضائح وليت شعري أي حماسة وأي كلمة حسنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو أحد منهم وإنما كان هؤلاء ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة فلما اتفق المسلمون على ما اتفقوا عليه كائنا من كان دخلوا في الجماعة وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير رضي الله عنه ومروان فإنهم قعدوا عنهما فلما انفرد عبد الملك بن

مروان بايعه من أدركه منهم لأرضا عنه ولا عداوة لإبن زبير ولا تفصيلا لعبد الملك على ابن الزبير لكن لما ذكرنا وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية فلاحت لوكة هؤلاء المجانين والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وهذا زيد بن حارثة قتل يوم بدر حنظلة بن أبي سفيان وهذا الزبير العوام قتل يوم بدرا أيضا عبيدة بن سعيد بن العاص وهذا عمر بن الخطاب قتل يومئذ العاص بن هشام بن المغيرة فهلا عاداهم أهل هؤلاء المقتولين وما إلى خص عليا أولياء من قتل دون سائر من قلنا لولا جنون الرافضة وعدم الحياء من وجوههم ثم لو كان على ما ذكروه حقا فما الذي كان دعا عمر إلى إدخاله في الشورى مع من أدخله فيها ولو أخرجه منها كما أخرج سعيد بن زيد أو قصد إلى رجل غيره فولاه ما اعترض عليه أحد في ذلك بكلمة فصح ضرورة بكل ما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير عالين ولا مقصرين رضي الله عنهم أجمعين وأنهم قدموا الأحق فالحق والأفضل فالأفضل وساوه بنظرائه منهم ثم أوضح برهان وأبين بيان في بطلان أكاذيب الرافضة أن عليا رضي الله عنه لما ادعى إلى نفسه بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف المهاجرين والأنصار إلى بيعته فهل كر أحد من الناس أنت أحدا منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أو هل تاب أحد منهم من جحده للنص على إمامته أو قال أحد منهم لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر هذا الرجل أن عقولا خفي عليها هذا الظاهر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أن يهديها ثم مات عمر رضي الله عنه وترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة على أحدهم ولم يكن في تلك الأيام الثلاثة سلطان يخاف ولا رئيس يتوقى ولا مخافة من أحد ولا جند معد للتغلب افترى لو كان لعلي رضي الله عنه حق ظاهر يختص به ومن نص عليه من رسول الله صلى الله عليه و سلم أو من فضل بائن على من معه ينفرد به عنهم أما كان الواجب على علي أن يقول أيها الناس كم هذا الظلم لي وكم هذا الكتمان بحقي وكم هذا الجحد لنص رسول الله صلى الله عليه و سلم وكم هذا الإعراض عن فضلي البائن على هؤلاء المقرونين بي فإذا لم يفعل لا يدري لماذا أما كان في بني هاشم أحد له دين يقول هذا الكلام أما العباس عمه وجميع العالمين على توقيره وتعظيمه حتى أن عمر نوسل به إلى الله تعالى بحضرة الناس في الاستسقاء وأما أحد بنيه وأما عقيل أخوه وأما أحد بني جعفر أخيه أو غيرهم فإذا لم يكن في بني هاشم أحد يتقي الله عز و جل ولا يأخذه في قول الحق مداهنة أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار وغيرهم واحد يقول يا معشر المسلمين قد زالت الرقبة وهذا علي له حق واجب بالنص وله فضل بائن ظاهر لا يمتري فيه فبايعوه فأمر وبين أن اتفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ومن الجزيرة إلى أقصى اليمين إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه وليس هناك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع وفيهم إلى بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه وقتلوا أنفسهم دونه فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الإنذال ثم العجب إذ كان غيظهم عليه هذا الغيظ واتفاقهم على جحده حقه هذا الاتفاق كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه أم كيف أكرموه وبروه وأدخلوه في الشورى وقا لهشام بن الحكم كيف يحسن الظن بالصحابة أن لا يكتموا النص على علي وهم قد اقتتلوا وقتل بعضهم بعضا فهل يحسن بهم الظن في هذا

قال أبو محمد ولو علم الفاسق أن هذا القول أعظم حجة عليه لم ينطق بهذا السخف لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من قاتل حين افترق الناس فكل ما لحق المقتتلين منهم من حسن الظن بهم أو من سوء الظن بهم فهو لا حق لعلي في قتاله ولا فرق بينه وبين سائر الصحابة في لك كله وبالله تعالى التوفيق فإن خصه متحكم كان كمن خصه غيره منهم متحكما ولا فرق وأيضا فإن اقتتالهم رضي الله عنهم أو كد برهان على أنهم لم يغاروا على ما رأوه باطلا بل قاتل كل فريق منهم على ما رأوه حقا ورضي بالموت دون الصبر على خلاف ما عنده وطائفة منهم قعدت إذ لم تر الحق في القتال فدل علي بأنه لو كان عندهم نص على علي أو عند واحد منهم لأظهروه أو لأظهره كما أظهروا ما رأوا أن يبدلوا أنفسهم للقتال والموت دونه فإن قالوا قد أقررتم أنه لا بد من إمام فبأي شيء يعرف الإمام لا سيما وأنتم خاصة معشر أهل الظاهر لا تأخذون إلا بنص قرآن أو خبر صحيح وهذا أيضا مما سألنا عنه أصحاب القياس والرأي
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نص على وجوب الإمامة وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة وافترض علينا بنص قوله الطاعة للقرشي إماما واحد ألا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عز و جل فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته كما صح النص على صفة الإمام الواجب طاعته كما صح النص على صفة الشهود في الأحكام وصفة المساكين والفقراء الواجب لهم الزكاة وصفة من يؤم في الصلاة وصفة من يجوز نكاحها من النساء وكذلك سائر الشريعة كلها ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء إذ لم يكلفنا الله عز و جل ذلك فكل قرشي بالغ عاقل بادر أثر موت الإمام الذي لم يعهد إلى أحد فبايعه واحد فصاعدا فهو الإمام الواجب طاعته مما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أمر الكتاب بإتباعها فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم الحد والحق فإن لم يؤثر أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره ومنهم فإن قالوا قد اختلف الناس في تأويل القرآن والسنة ومنع من تأويلهما بغير نص آخر قلنا أن التأويل الذي لم يقم عليه برهان تحريف الكلم عن مواضعه وقد جاء النص بالمنع من ذلك وليس الاختلاف حجة وإنما الحجة في نص القرآن والسنن وما اقتضاه لفظهما العربي الذي خوطبنا به وبه ألزمتنا الشريعة
قال أبو محمد ثم نسألهم فنقول لهم أن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم إنما هي وجهان فقط أحدهما النص الذي عليه باسمه والثاني شدة الفاقة إليه في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره ولا مزيد فأخبروني بأي شيء صار محمد بن علي بن الحسين أولى بالإمامة من إخوته زيد وعمرو وعبد ا لله وعلي والحسين فإن ادعوا نصا من أبيه عليه أو من النبي صلى الله عليه و سلم أنه الباقر لم يكن ذلك ببدع من كذبهم ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على ابن حنيفة وإن ادعوا أنه كان أفضل من اخوته كانت أيضا دعوى بلا برهان والفضل لا يقطع على ما عند الله عز و جل فيه بما يبدو من الإنسان فقد يكون باطنه خلاف ظاهر وكذلك يسألون أيضا ما الذي جعل موسى بن جعفر أولى بالإمامة من أخيه محمد وإسحاق أو علي فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلا وكذلك أيضا يسألون ما إلى خص علي بن موسى بالإمامة دون اخوته وهم سبعة عشر ذكرا فلا يجدون شيئا غير الدعوى وكذلك يسألون ما الذي جعل محمد بن علي بن موسى أولى بالإمامة من أخيه علي بن علي وما إلى جعل علي بن محمد أولى بالإمامة من أخيه موسى بن محمد وما

الذي جعل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى أحق بالإمامة من أخيه جعفر بن علي فهل ها هنا شيء غير الدعوى الكاذبة التي لا حياء لصاحبها والتي لو ادعى مثلها مدع للحسن ابن الحسن ولعبد الله بن الحسن أو لأخيه الحسن بن الحسن أو لإبن علي بن الحسن أو لمحمد بن عبد الله القائم بالمدينة أو لأخيه إبراهيم أو لرجل من ولد العباس أو من بني أمية أو من أي قوم من الناس كان لساواهم في الحماقة ومثل هذا لا يشتغل به من له مسكة من عقل أو منحة من دين ولو قلت أو رقعة من الحياء فبطل وجه النص وأما وجه الحاجة إليه في بيان الشريعة فما ظهر قط من أكثر أئمتهم بيان لشيء مما اختلف فيه الناس وما بأيدهم من ذلك شيء إلا دعاوى مفتعلة قد اختلفوا أيضا فيها كما اختلف غيرهم من الفرق بسواء سواء إلا أنهم أسوأ حالا من غيرهم لأن كل من قلد إنسانا كأصحاب أبي حنيفة لأبي حنيفة وأصحاب مالك لمالك وأصحاب الشافعي للشافعي وأصحاب أحمد لأحمد فإن لهؤلاء المذكورين أصحابا مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ونقلوها هم عنه ولا سبيل إلى اتصال خبر عندهم ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى أن هذا قول موسى بن جعفر ولا أنه قول علي بن موسى ولا أنه قول محمد بن موسى ولا أنه قول علي بن محمد وأنه قول الحسن بن علي وأما من بعد الحسن بن علي فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة وأما من قبل موسى ابن جعفر فلو جمع كل ما روي في الفقة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما لما أبلغ أوراق فما ترى المصلحة التي يدعونها في إمامهم ظهرت ولا نفع الله تعالى بها قط في علم ولا عمل لا عندهم ولا عند غيرهم ولا ظهر منهم بعد الحسين رضي الله عنه من هؤلاء الذين سموا واحدا ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن وقد قرأنا صفة هؤلاء المخالين المنتمين إلى الإمامية القائلين بأن الدين عند أئمتهم فما رأينا إلا دعاوى باردة وآراء فاسدة كأسخف ما يكون من الأقوال ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت أو مفسوحا لهم فيه فإن يكونا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الضلال وسقطت الحجة في الديانة عن جميع الناس وبطل الدين ولم يلزم فرض الإسلام وهذا كفر مجرد وهم لا يقولون بهذا أو يكونوا مأمورين بالكلام والبيان فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن صحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإلهام في ذلك فإذ قد صاروا إلى هذا الشغب فإنه لا يضيق عن أحد من الناس ولا يعجز خصومهم عن أن سدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم قال هشام بن الحكم لا بد أن يكون في أخوة افمام آفات يبين بها أنهم لا يستحقون الإمامة
قال أبو محمد وهذه دعوى مردودة تزيد في الحماقة ولا ندري في زيد وعمرو وعبد الله والحسن وعلي بن علي بن الحسين آفات تمنع إلا أن الحسن أخا زيد ومحمد كان أعرج وما علمنا أن العرج عيب يمنع من الإمامة إنما هو عيب في العبيد المتخين للمشي وما يعجز خصومهم أن يدعوا في محمد بن علي وفي جعفر بن محمد وفي سائر أئمتهم تلك الآفات التي ادعاها هشام لإخوتهم ثم أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين فنسألهم من أين علم هذا الصغير جمع علم الشريعة وقد عدم توقيف أبيه له عليها لصغره فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحي فهذه نبوة وكفر صريح وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة وأن يدعوا له معجزة تصحح قوله فهذه دعوى باطلة ما ظهر منها في شيء أو يدعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى

لكل أمة عملها إلا وجود من يعتقد هذا الأقوال السخيفة لكان أقوى حجة وأوضح برهان وإلا فما خلق الله عقلا يسع فيه مثل هذه الحماقات والحمد لله على عظيم منه علينا وهو المسؤول منه دوامها بمنه آمين
قال أبو محمد وأيضا فلو كان الأمر في الإمامة على ما يقول هؤلاء السخفاء لما كان الحسن رضي الله عنه في سعة من أن يسلمها لمعاوية رضي الله عنه فيعينه على الضلال وعلى إبطال الحق وهدم الدين فيكون شريكه في كل مظلمة ويبطل عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ويوافقه على ذلك الحسين أخوه رضي الله عنهما فما نقض قط بيعة معاوية إلى أن مات فكيف استحل الحسن والحسين رضي الله عنهما إبطال عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهما طائعين غير مكرهين فلما مات معاوية قام الحسين يطلب حقه إذ رأى أنها بيعة ضلالة فلو لا أنه رأى بيعة معاوية حقا لما سلمها له ولفعل كما فعل بيزيد إذ ولى يزيد هذا ما لا يمترى فيه ذو إنصاف هذا ومع الحسن أزيد من مائة ألف عنان يموتون دون فتالله لولا أن الحسن رضي الله عنه علم أنه في سعة من إسلامها إلى معاوية وفي سعة من أن لا يسلمها لما جمع بين الأمرين فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي حقه وسلمها بعد ذلك لغير ضرورة وذلك له مباح بل هو الأفضل بلا شك لأن جده رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خطب بذلك على المنبر بحضرة المسلمين وأراهم الحسن معه على المنبر وقال أن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين رويناه من طريق البخاري حدثنا صدقة أنبأنا ابن عيينة أنا موسى أنا الحسن سمع أبا بكرة يقول أنه سمع ذلك وشهده من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا من أعلامه صلى الله عليه و سلم وإنذاره بالغيوب التي لا تعلم البتة إلا بالوحي ولقد امتنع زياد وهو فقعة 1 القاع لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة حتى أرضاه وولاه فإن ادعوا أنه قد كان في ذلك عند الحسن عهد فقد كفروا لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يأمر أحدا بالعيون على إطفاء نور الإسلام بالكفر وعلى نقض عهود الله تعالى بالباطل عن غير ضرورة ولا إكراه وهذه صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما عند الروافض واحتج بعض الإمامية وجميع الزيدية بأن عليا كان أحق الناس بالإمامة لبينونة فضله على جميعهم ولكثرة فضائله دونهم
قال أبو محمد وهذا يقع الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الكلام في المفاضلة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن الكلام هاهنا في الإمامة فقط فنقول وبالله تعالى التوفيق هبكم أنكم وجدتم لعلي رضي الله عنه فضائل معلومة كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وسعة العلم والزهد فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضي الله عنهما حتى أوجبتهم لهما بذلك فضلا في شيء مما ذكرنا على سعد بن أبي وقاص وسيد بن زيد

وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس هذا ما لا يقدر احد على أن يدعي لهما فيه كلمة فما فوقها يعني مما يكونان به فوق من قد ذكرنا في شيء من هذه الفضائل فلم يبق إلا دعوى النص عليهما وهذا مالا يعجز عن مثله أحد لو استجازت الخوارج التوقح بالكذب في دعوى النص على عبد الله بن وهب الراسي لما كانوا الأمثل الرافضة في ذلك سواء بسواء ولو استحلت الأموية أن تجاهر بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر ا لرافضة لقوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل أنه كان منصورا ولكن كل أمة ما عدا الرافضة والنصارى فإنها تستحي وتصون أنفسها عما لا تصون النصارى والروافض أنفسهم عنه من الكذب الفاضح البارد وقلة الحياء فيما يأتون به ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وكذلك لا يجدون لعلي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل على سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمرو وعروة بن الزبير ولا على أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ولا على ابن عمه الحسن بن الحسن وكذلك لا يجدون لمحمد بن علي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل ولا ورع على عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ولا على محمد بن عمرو وبن أبي بكر بن المنكدر ولا على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ولا على أخيه زيد بن علي ولا على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ولا على عمر بن عبد العزيز وكذلك لا يجدون لحعفر بن محمد بسوقا في علم ولا في دين ولا في عمل على محمد بن مسلم الزهري ولا على ابن أبي ذؤيب ولا على عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ولا على عبيد الله بن عمر وبن حفص بن عاصم بن عمر ولا على ابني عمه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وعلي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بل كل ما ذكرنا فوقه في العلم والزهد وكلهم أرفع محلا في الفتيا والحديث لا يمنع أحد منهم من شيء من ذلك وهذا ابن عباس رضي الله عنه قد جمع فقهه في عشرين كتابا ويبلغ حديثه نحو ذلك إذا تقصى ولا تبلغ فتيا الحسن والحسين ورقتين ويبلغ حديثهما ورقة أو روقتين وكذلك علي بن الحسين إلا أن محمد بن علي يبلغ حديثه وفيتاه جزأ صغيرا وكذلك جعفر بن محمد وهم يقولون أن الإمام عنده جميع علم الشريعة فما بال من ذكرنا أظهروا بعض ذلك وهو الأقل إلا نقص وكتموا سائره وهو الأكثر الأعظم فإن كان فرضهم الكتمان فقد خالفوا الحق إذ أعلنوا ما أعلنوا وإن كان فرضهم البيان فقد خالفوا الحق إذ كتموا ما كتموا وأما من بعده جعفر بن محمد مما عرفنا لهم علما أصلا لا من رواية ولا من فتيا على قرب عهدهم منا ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حدث الناس عنه فبطلت دعواهم الظاهرة الكاذبة اللائحة السخيفة التي هي من خرافات السمر ومضاحك السخفاء فإن رجعوا إلى إدعاء المعجزات لهم قلنا لهم أن ا لمعجزات لا تثبت إلا بنقل التواتر لا بنقل الأحاد الثقات فكيف بولد الوقحاء الكذابين الذين لا يدري من هم وقد وجدنا من يروي لبشر الحافي وشيبان الراعي ورابعة العدوية أضعاف ما يدعونه من الكذب لأئمتهم وأظهر وأفشى وكل لك حماقة لا يشتغل ذو دين لا ذو عقل بها ونحمد الله على السلامة فإذا قد بطل كل ما يدعونه ولله تعالى الحمد فلنقل على الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبرهان وبالله تعالى نتأيد
قال أبو محمد قد اختلف الناس في هذا فقالت طائفة أن ا لنبي صلى الله عليه و سلم لم يستخلف أحدا ثم اختلفوا فقال بعضهم لكن لما استخلف أبا بكر رضي الله عنه على الصلاة كان ذلك

دليلا على أنه ألاوهم بالإمامة والخلافة على الأمور وقال بعضهم لا ولكن كان أبينهم فضلا فقدموه لذلك وقالت طائفة بل نص رسول الله صلى الله عليه و سلم على استخلاف أبي بكر بعده على أمور ا لناس نصا جليا
قال أبو محمد وبهذا نقول لبراهين أحدها أطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون فقد أصفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع اخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف تقول استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه فإن قام مكانه دون أن يستخلفه هو لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضرورين أحدهما أنه لا يستحق أبو بكر هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقينا أن خلافته المسمى هو بها هي غير خلافته على الصلاة والثاني أن كل من استخلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم في حياته كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمي خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإطلاق فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها للخلافة بعده على أمته ومن الممتنع أن يجمعوا على ذلك وهو عليه السلام لم يستخلفه نصا ولو لم يكن ها هنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر أولى بهذه التسمية من غيره ممن ذكرنا وهذا برهان ضروري نعارض به جميع الخصوم وأيضا فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت أن رجعت ولم أجدك كأنها تريد الموت قال فات أبا بكر وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر وايضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي توفي فيه عليه السلام لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فاكتب كتابا واعهد عهدا لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وروي أيضا ويأبى الله والببون إلا أبا بكر فهذا نص جلي علي استخلافه عليه الصلاة و السلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده
قال أبو محمد ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحا أو أبلسوا أسفا لاحتججنا بما روي افتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر
قال أبو محمد ولكنه لم يصح ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح
قال أبو محمد واحتج من قال لم يستخلف رسول الله صلى الله علبه وسلم بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال ان استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن لا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أمن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخلفا لو استخلف فمن المحال أن يعارض الإجماع من الصحابة الذي ذكرنا والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من لفظة بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما

مما لا يقوم به حجة ممالة وجه ظاهر من أن هذا الأثر خفي على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم كالاستئذان وغيره أو أنه أراد استخلافا بعد مكتوب ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بكتاب مكتوب واما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك نصا وقد يخرج كلامها على سؤال سائل وانما الحجة في روايتها لا في قولها وأما من ادعى أنه إنما قدم قياسا على تقديمه إلى الصالة فباطل بيقين لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصالة يستحق الإمامة في الخلافة إذ يستحق الإمامة في الصلاة اقرأ القوم وإن كان أعجميا او عربيا ولا يستحق الخلافة إلا فرشى فكيف والقياس كله باطل
قال أبو محمد في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله تعالى قال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه و سلم في الأعراب فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك التي لا تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ولم يغز عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى ان مات صلى الله عليه و سلم وقال تعالى أيضا سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد تبوك لهذا ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وغلق باب التوبة فقال تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما فأخبر تعالى أنهم سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه و سلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم
قال أبو محمد وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاع وطليحة والروم والفرس وغيرهم ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلا وإذ قد وجبت طاعتهم فرضا فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم وليس هذا بموجب تقليدهم في غير ما أمر ا لله تعالى بطاعتهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر بذلك إلا في دعائهم إلى قتال هؤلاء القوم وفيما يجب الطاعة فيه للأئمة جملة وبالله تعالى التوفيق وأما ما أفتوا به بإجتهادهم فما أوجبوهم قط اتباع أقوالهم فيه فكيف أن يوجب ذلك غيرهم وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن هذا إجماع الأئمة كلها إذ ليس أحد من أهل العلم إلا وقد خالف بعض فتاوى هؤلاء الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم فصح ما ذكرنا والحمد لله رب العالمين
فصل قال أبو محمد وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة ولا إمامة صبي لم يبلغ إلا الرافضة فإنها تجيز إمامة الصغير الذي لم يبلغ والحمل في بطن أمه وهذا خطأ لأن من لم يبلغ فهو غير مخاطب والإمام مخاطب بإقامة الدين وبالله تعالى التوفيق وقال الباقلاني واجب أن يكون الإمام أفضل الأمة

قال أبو محمد وهذا هو خطأ متيقن لبرهانين أحدهما أنه لا يمكن أن يعرف الأفضل إلا بالظن في ظاهر أمره وقد قال تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا والثاني أن قريشا قد كثرت وطبقت الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال ولا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلا ثم يكفي من بطلان هذا القول إجماع الأمة على بطلانه فإن جميع من أدرك من الصحابة رضي الله عنه من جميع المسلمين في ذلك العصر قد أجمعوا على صحة إمامة الحسن أو معاوية وقد كان في الناس أفضل منهم بلا شك كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وابن عمرو وغيرهم فلو كان ما قاله الباقلاني حقا لكانت إمامة الحسن ومعاوية باطله وحاشا لله عز و جل من ذلك وأيضا فإن هذا القول الذي قاله هذا المذكور دعوى فاسدة ولا على صحتها دليل لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من قول صاحب ولا من قياس والعجب كله أن يقول أنه جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم من حيث بعث إلى أن مات ثم لا يجيز أن يكون أحد أفضل من الإمام
قال أبو محمد وهذا القول منه في النبي صلى الله عليه و سلم كفر مجرد ولا خفاء به وفيه خلاف لأهل الإسلام وإنما يجب أن يكون الإمام قرشيا بالغا ذكرا مميزا بريئا من المعاصي الظاهرة حاكما بالقرآن والسنة فقط ولا يجوز خلعه ما دام يمكن منعه من الظلم فإن لم يمكن إلا بإزالته ففرض أن يقام كل ما يوصل به إلى دفع الظلم لقول الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وبالله تعالى التوفيق

الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة
قال أبو محمد اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام فذهب بعض أهل السنة وبعض أهل المعتزلة وبعض المرجئة وجميع الشيعة إلى أن أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب وقد روينا هذا القول نصا عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين والفقهاء وذهبت الخوارج كلها وبعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة إلى أن أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر وعمر وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم جعفر بن أبي طالب وبهذا قال عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد وعيسى بن حاضر قال عيسى وبعد جعفر حمزة رضي الله عنه وروينا عن نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وثلاث رجال لا يعد أحد عليهم بفضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر وروينا عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها تذكرت الفضل ومن هو خير فقالت ومن هو خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وروينا عن مسروق بن الأجدع أو تميم بن حذلم وإبراهيم النخعي وغيرهم أنأفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن مسعود قال تميم وهو من كبار التابعين رأيت أبا بكر وعمر فلما رأيت مثل عبد الله بن مسعود وروينا عن بعض من أدرك النبي صلى الله عليه و سلم أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر بن الخطاب وأنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما وبلغني عن محمد بن

عبد الله الحاكم النيسابوري أنه كان يذهب إلى هذا القول قال داود بن علي الفقيه رضي الله عنه أفضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأفضل الصحابة الأولون من المهاجرين ثم الأولون من الأنصار ثم من بعدهم منهم ولا نقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته ولقد رأينا من متقدمي أهل العلم ممن يذهب إلى هذا القول وقال لي يوسف بن عبد الله بن عبد البر النميري غير ما مرة أن هذا هو قوله ومعتقده
قال أبو محمد والذي نقول به وندين الله تعالى عليه ونقطع على أنه الحق عند الله عز و جل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أبو بكر ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أن أمة محمد صلى الله عليه و سلم أفضل الأمم لقول الله عز و جل كنتم خير أمة أخرجت للناس وإن هذه قاضية على قوله تعالى لبني إسرائيل وفضلناكم على العالمين وإنها مبينة لأن مراد الله تعالى من ذلك عالم الإمم حاشا هذه الأمة
قال أبو محمد ثم نقول وبالله تعالى التوفيق أن ا لكلام المهمل دون تحقيق المعنى المارد بذلك الكلام فإنه طمس للمعاني وصد عن إدراك الصواب وتعريج عن الحق وإبعاد عن الفهم وتخليط عمي فلنبدأ بعون الله تعالى وتأييد بتقسيم وجوه الفضل التي بها يستحق التفاضل فإذا استبان معنى الفضل وعلى ماذا تقع هذه اللفظة فبالضرورة نعلم حينئذ أن من وجدت فيه هذه الصفات أكثر فهو بلا شك فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أن ا لفضل ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما فضل اختصاص من الله عز و جل بلا عمل وفضل مجازاة من الله تعالى بعمل فأما فضل الاختصاص دون عمل فإنه يشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق والجمادات كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الخلق وكفضل الأنبياء على سائر الجن والإنس وكفضل إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه و سلم على سائر الأطفال وكفضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق وكفضل ذبيحة إبراهيم عليه السلام على سائر الذبائح وكفضل مكة على سائر البلاد وكفضل المدينة بعد مكة على غيرها من البلاد وكفضل المساجد على سائر البقاع وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة وكفضل شهر رمضان على سائر الشهور وكفضل يوم الجمعة عرفة وعاشوراء والعشر على سائر الأيام وكفضل ليلة القدر على سائر الليالي وكفضل صلاة الفرض على النافلة وكفضل صلاة العصر وصلاة ا لصبح على سائر الصلوات وكفضل السجود على القعود وكفضل بعض الذكر على بعض فهذا فضل الاختصاص المجرد بلا عمل فأما فضل المجازاة بالعمل فلا يكون البتة إلا للحي الناطق من الملائكة والإنس والجن فقط وهذا هو القسم الذي تنازع فيه في هذا الباب الذي نتكلم فيه الأن من أحق به فوجب أن ننظر أيضا في أقسام هذا القسم التي بها يستحق الفضل فيه والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله وقوته ثم ننظر حينئذ من هو أحق به وأسعد بالبسوق فيه فيكون بلا شك أفضل ممن هو أقل حظا فيها بلا شك وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله تعالى نستعين أن العامل في عمله بسبعة أوجه لا ثامن لها وهي المائية وهي عين العمل وذاته والكمية وهي العرض في العمل والكيفية والكم والزمان والمكان والإضافة فأما المائية فهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موفاة كلها ويكون الأخر يضيع بعض فروضه وله نوافل أو يكون كلاهما وفي جميع فرضه ويعملان نوافل زائدة إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل

الآخر كأن يكون أحدهما يكثر الذكر في الصلاة والآخر يكثر الذكر في حال جلوسه وما أشبه هذا وكإنسانين قاتل أحدهما في المعركة والموضع المخوف وقاتل الآخر في الردة أو جاهد أحدهما واشتغل الآخر بصيام وصلاة تطوع أو يجتهدان فيصادف أحدهما ويحرمه الآخر فيفضل أحدهما الآخر في هذه الوجوه بنفس عمله أو بأن ذات عمله أفضل من ذات عمل الآخر فهذا هو التفاضل في المائية من العمل وأما الكمية وهي العرض فأن يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله تعالى لا يمزج به شيئا البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله إلا أنه ربما مزج بعمله شيئا من حب البر في الدنيا وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه وربما مزجه بشيء من الرياء ففضله الأول بعرضه في عمله وأما الكيفية فأن يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقوقه ورتبه لا منتقصا ولا متزيدا ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسنته وإن لم يعطل منه فرضا أو يكون أحدهما يصفي يصفي عمله من الكبائر وربما بما أتى الآخر ببعض الكبائر ففضله الآخر بكيفية عمله وأما لكم فإن يستوا في أداء الفرض ويكون أحدهما أكثر نوافل ففضله هذا بكثرة عدد نوافله كما روى في رجلين أسلما وهاجرا أيام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استشهد أحدهما وعاش الآخر بعده سنة ثم مات على فراشه فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما في النوم وهو آخرهما موتا في أفضل من حال الشهيد فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عليه السلام كلام معناه فأين صلاته وصيامه بعده ففضل أحدهما الآخر بالزيادة التي زادها عليه في عدد أعماله وأما الزمان فكمن عمل في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين وعمل غيره بعد قوة الإسلام وفي زمن رخاء وأمن فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في لك الوقت تعدل إجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوا إلى أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نيصفه فكان نصف مد شعيرا وتمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهبا ننفقه نحن في سبيل الله عز و جل بعد ذلك قال الله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى
قال أبو محمد هذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين
قال أبو محمد وهذا يكذب قول أبي هاشم محمد بن علي الجبائي وقول محمد بن الطيب الباقلاني فإن الجبائي قال جائز أن طال عمر امرئ يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء وقال الباقلاني جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم من حيث بعث بالنبوة إلى أن مات
قال أبو محمد وهذا كفر مجرد وردة وخروج عن دين الإسلام بلا مرية وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه و سلم في إخباره أنا لا ندرك أحد من اصحابه وفي إخباره عليه السلام عن أصحابه رضي الله عنهم بأنه ليس مثلهم وأنه اتقاهم لله واعلمهم بما يأتي وما يذر وكذلك قالت الخوارج والشيعة فإن الشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله عز و جل على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا عليا والحسن والحسين وعمار بن ياسر والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى وكلاب النار على عثمان

وعلى طلحة والزبير ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وكذلك القليل من الجهاد والصدقة في زمان الشدائد أفضل من كثيرهما في وقت القوة والسعة وكذلك صدقة المرء بدرهم في زمان فقر وصحته يرجو الحياة ويخاف الفقر أفضل من الكبير يتصدق به في عرض غناه وفيه وصيته بعد موته وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبق درهم مائة ألف وهو إنسان كان له درهمان تصدق بأحدهما والآخر عمد إلى عرض ماله تصدق منه بمائة ألف وكلك صبر المرء على أداء الفرائض في حال خوفه ومرضه وقليل تنفله في زمان مرضه وخوفه أفضل من عمله وكثير تنفله في زمان صحته وأمنه ففضل من ذكرنا غيرهم بزمان عملهم وكذلك من وفق لعمل الخير في زمان آخر أجله هو أفضل ممن خلط في زمان آخر أحله وأما المكان فكصلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما وتفضل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بمائة درجة وكصيام في بلد العدو أو في الجهاد على صيام في غير الجهاد ففضل من عمل في المكان الفاضل غيره ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله وأن تساوى العملان وأما الإضافة فركعة من نبي أو ركعة مع نبي أو صدقة من نبي أو صدقة معه أو ذكر منه أو ذكر معه وسائر أعمال البر منه أو معه فقليل من ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفا من قول الله عز و جل لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل وإخباره عليه السلام أن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ نصف مد من أحد من الصحابة رضي الله عنهم
قال أبو محمد وبهذا قطعنا على أن كل عمل عملوه بأنفسهم بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم لا يوازي شيئا من البر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي صلى الله عليه و سلم ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي صلى الله عليه و سلم ولو كان غير ما نقول لجاز أن يكون أنس وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن بسر وعبد الله بن الحارث بن حزم وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وسائر السابقين من المهاجرين والأنصار المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين لأن بعض أولئك عبدوا الله عز و جل بعد موت أولئك بعضهم بعد موت بعض بتسعين عاما فما بين ذلك إلى خمسين عاما وهذا مالا يقوله أحد يعتد به
قال أبو محمد وبهذا قطعنا على أن من كان من الصحابة حين موت رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من آخر منهم فإن ذلك المفضول لا يلحق درجة الفاضل له حينئذ أبدا وأن طال عمر المفضول وتعجل موت الفاضل وبهذا أيضا لم نقطع على فضل أحد منهم رضي الله عنهم حاشا من ورد فيه النص من النبي صلى الله عليه و سلم ممن مات منهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم بل نقف في هؤلاء على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد فهذه وجوه الفضائل بالأعمال التي لا يفضل ذو عمل ذا عمل فيما سواها البتة ثم نتيجة هذه الوجوه كلها وثمرتها ونتيجة فضل الإختصاص المجرد دون عمل أيضا لا ثالث لهما البتة أحدهما إيجاب لاله تعالى تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول فهذا الوجه يشترك فيه كل فاضل بعمل أو إختصاص مجرد بلا عمل من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق

وقد أمرنا الله تعالى بتعظيم الكعبة والمساجد ويوم الجمعة والشهر الحارم وشهر رمضان وناقة صالح وإبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر الله والملائكة والنبيين على جميعهم صلوات الله وسلامه والصحابة أكثر من تعظيمنا وتوقيرنا غير ما ذكرنا ومن ذكرنا من المواضع والأيام والنوق والأطفال والكلام والناس هذا ما لا شك فيه وهذا خاصة كل فاضل لا يخلو منها فاضل أصلا ولا يكون البتة إلا الفاضل والوجه الثاني هو إيجاب الله تعالى لفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول إذ لا يجوز عند أحد من خلق الله تعالى أن يأمر بإجلال المفضول أكثر من إجلال الفاضل ولا أن يكون المفضول إلى درجة في الجنة من الفاضل ولو جاز ذلك لبطل معنى الفضل جملة ولكان لفظا لا حقيقة له ولا معنى تحية وهذا الوجه الثاني الذي هو علو الدرجة في الجنة هو خاصة لكل فاضل يعمل فقط من الملائكة والإنس والجن وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد فكل ما هو مأمور بتعظيمه فاضل وكل فاضل فمأمور بتعظيمه وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهبن كإحسان المرء إلى جاره وغلامه وأجيره ولا يكون ذلك تعظيما وقد يبر الإنسان جاره والشيخ من أكرته 1 ولا يسمى ذلك تعظيما وقد يوفر الإنسان من يخاف ضره ولا يسمى ذلك تعظيما وقد يتذذلل الإنسان للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيما وفرض على كل مسلم البراءة من أبويه الكافرين وعداوتهما في الله عز و جل قال الله عز و جل لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو أخوانهم أو عشريتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيديهم بروح منه وقال عز و جل قد كانت لكم اسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم أنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال عز و جل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرء منه أن إبراهيم لأواه حليم فقد صح بيقين أن ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عز و جل لأن التعظيم الواجب لمن فضله الله عز و جل هو مودة في الله ومحبة فيه وولاية له وأما البر الواجب للأبوين الكافرين والتذلل لهما والإحسان إليهما فكل ذلك مرتبط بالعداوة ولله تعالى وللبراءة منه وإسقاط المودة كما قاله تعالى في نص القرآن وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقد يكون دخول الجنة اختصاص مجردا دون عمل وذلك للأطفال كما ذكرنا قبل فإذ قد صح ما ذكرنا قبل يقينا بلا خلاف من أحد في شيء منه فبيقين ندري أنه لا تعظيم يستحقه أحد من الناس في الدنيا بإيجاب الله تعالى علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم السلام أوجب ولا أوكد مما ألزمناه الله تعالى من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي صلى الله عليه و سلم بقول الله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهامتهم فأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مسلم هذا سوى حق إعظامهن بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلهن رضي الله تعالى عنهن مع ذلك حق الصحبة له كسائر الصحابة إلا أن لهن من الإختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه السلام ولطيف المنزلة عنده عليه السلام والقرب منه والحظوة لديه ما ليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم فمن أعلى

درجة في الصحبة من جميع الصحابة ثم فضلهن سائر الصحابة بحق زائد وهو حق الأمومة الواجب لهن كلهن بنص القرآن لهن كلهن بنص القرآن فوجدنا الحق الذي به استحق الصحابة الفضل قد شاركنهم فيه وفضلهم فيه أيضا ثم فضلنهم بحق زائد و هو حق الأمومة ثم وجدناهن لا عمل من الصلاة والصدقة والصيام والحج وحضور الجهاد يسبق فيه صاحب من الصحابة إلا كان فيهن فقد كن يجهدن أنفسهن في ضيق عيشهن على الكد في العمل بالصدقة والعتق ويشهدن الجهاد معه عليه السلام وفي هذا كفاية بينة في أنهن أفضل من كل صاحب ثم لا شك عند كل مسلم وبشهادة نص القرآن إذ لا خيره الله عز و جل بين الدنيا وبين الدار الآخرة والله ورسوله فاخترن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم والدار الآخرة فهن أزواجه في الآخرة بيقين فإذا هن كذلك معه صلى الله عليه و سلم بلا شك في درجة واحدة في الجنة في قصوره وعلى سرره إذ لا يمكن البتة أن يحال بينه وبينهن في الجنة ولا أن ينحط عليه السلام إلى درجة يسفل فيها عن أحد من الصحابة هذا ما لا يظنه مسلم فإذا لا شك في حصولهن على هذه المنزلة فالبعض والإجماع علمنا أنهن لم يؤتين ذلك اختصاصا مجردا دون عمل بل باستحقاقهن لذلك باختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة إذ أمره الله عز و جل أن يخيرهن فاخترن الله عز و جل ونبيه صلى الله عليه و سلم وهو أفضل الناس ثم قد حصل لهن أفضل الأعمال في جميع الوجوه السبعة التي قدمنا أنفا أنه لا يكون التفاضل إلا بها في الأعمال خاصة ثم قد حصل لهن على ذلك أوكد التعظيم في الدنيا ثم قد حصل لهن أرفع الدرجات في الآخرة فلا وجه من وجوه الفضل إلا ولهن فيه أعلى الحظوظ كلها بلا شك ومارية أم إبراهيم داخلة معهن في ذلك لأنها معه عليه السلام في الجنة ومع ابنها منه بلا شك فإذ قد ثبت كل ذلك على رغم الأبي فقد وجب ضرورة أن يشهد لهن كلهن بأنهن أفضل من جميع الحلق كلهن بعد الملائكة والنبيين عليهم السلام وكيف ومعنا نص النبي صلى الله عليه و سلم كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقي الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق الزار ثنا أحمد بن عمر وحدثنا المعتمر بن سليمان التميمي ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك قال عائشة قال من الرجال قال فأبوها حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي قال حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن قيس حدثنا أحمد بن محمد الأشقر حدثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى بن خالد بن عبد الله هو الطلحان عن خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه إلى جيش ذات السلاسل قال فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك فقال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر فعد رجالا فهذان عدلان أنس وعمر ويشهدان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر بأن عائشة أحب الناس إليه ثم أبوها وقد قال عز و جل عليه السلام وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فصح أن كلامه عليه السلام أحب الناس إليه وحي أوحاه الله تعالى إليه ليكون كذلك ويخبر بذلك لا عن هوى له ومن ظن ذلك فقد كذب الله تعالى لكن لاستحقاقها لذلك الفضل في الدين والتقديم فيه على جميع الناس الموجب لأن يحبها رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر من محبته لجميع الناس فقد فضلها رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبيها وعلى عمرو وعلى علي وعلى فاطمة تفضيلا ظاهرا بلا شك فإن قال قائل فقل أن إبراهيم ابن

رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لكونه مع أبيه عليه السلام في الجنة في درجة واحدة قلنا له وبالله تعالى التوفيق أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما إستحق تلك المنزلة بعمل كان منه وإنما هو اختصاص مجرد وإنما تقع المفاضلة بين الفاضلين إذا كان فضلهما واحدا من وجه واحد فتفاضلا فيه وأما إن كان الفضل من المفاضلة بين الفاضلين إذا كان فضلهما واحدا من وجه واحد فتفاضلا فيه وأما إن كان الفضل من وجهين اثنين فلا سبيل إلى المفاضلة بينهما لأن معنى قول القائل أي هذين أفضل إنما هو أي هذين أكثر أوصافا في الباب الذي اشتركا فيه ألا ترى أنه لا يقال أيهما أفضل رمضان أو ناقة صالح ولا أيهما أفضل الكعبة أو الصلاة بل نقول أيهما أفضل مكة أو المدينة وأيهما أفضل رمضان أو ذو الحجة وأيهما أفضل الزكاة أم الصلاة وأيهما أفضل ناقة صالح أو ناقة غيره من الأنبياء فقد صح أن التفاضل إنما يكون في وجه اشتراك فيه المسؤل عنهما فسبق أحدهما فيه فاستحق أن يكون أفضل وفضل إبراهيم ليس على عمل أصلا وإنما هو اختصاص مجرد وإكرام لأبيه صلى الله عليه و سلم وأما نساؤه عليه السلام فكونهن وكون سائر أصحابه عليهم السلام في الجنة إنما هو جزاء لهن ولهم على أعمالهن و أعمالهم قال الله بعد ذكر الصحا رضي الله عنهم جزاء بما كانوا يعملون وقال بعد ذكر الصحابة وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما وقال تعالى مخاطبا لنسائه عليه السلام ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا يؤتها أجرها مرتين وهذا نص قولنا ولله الحمد وقال تعالى وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون وقال تعالى غرف من فوقها غرف مبنية وقال تعالى وإن ليس للإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى فإن قال قائل فكيف تقولون في قوله عليه السلام لن يدخل الجنة أحد بعمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل قلنا نعم هذا حق موافق للآيات المذكورة وهكذا نقول أنه لو عمل الإنسان دهره كله ما استحق على الله تعالى شيئا لأنه لا يجب على الله تعالى شيء إذ لا موجب للأشياء الواجبة غيره تعالى لأنه المبتدئ لكل ما في العالم والخالق له فلولا أن الله تعالى رحم عباده فحكم بأن طاعتهم له يعطيهم بها الجنة لما وجب ذلك عليه فصح أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله مجردا دون رحمة الله تعالى لكن يدخلها برحمة لله تعالى التي جعل بها الجنة جزاء على أعمالهم التي أطاعوه بها ما اتفقت الآيات مع هذا الحديث والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد فإذا لا شك في هذا كله فقد امتنع يقينا أن يجازى بالأفضل من كان أنقص فضلا وأن يجارى بالأنقص من كان أتم فضلا وصح ضرورة أنه لا يجزى أحد من أهل الأعمال في الجنة إلا بم استحقه برحمة الله تعالى جزاء على عمله ولله تعالى أن يتفضل على من شاء بما شاء وجائز أن يقدم على ذوي الأعمال الرفيعة قال تعالى يختص برحمته من يشاء وقال تعالى ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلا يجوز خلاف هذه النصوص لأحد لأن من خالفها كذب القرآن ولولا هذه النصوص لما أبعدنا أن يعذب الله تعالى على الطاعة له وأن ينعم على معصيته وأن يجازي الأفضل بالأنقص والأنقص بالأفضل لأن كل شيء ملكه وخلقه لا مالك لشيء سواه ولا معقب لحكمه ولا حق لأحد عليه لكن قد أمنا ذلك كله بإخبار الله تعالى أنه لا يجازى ذا عمل إلا بعمله وأنه يتفضل على من يشاء فلزم الإقرار بكل ذلك وبالله تعالى التوفيق فلو قال قائل إنما فضل في الجنة وأعلى قدرا مكان إبراهيم ابن رسول

الله عليه وسلم أو مكان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قلنا مكان إبراهيم أعلى بلا شك ولكن ذلك المكان اختصاص مجرد لإبراهيم المذكور لم يستحقه بعمل ولا استحق أيضا أن يقصر به عنه ومواضيع هؤلاء المذكورين جزآء لهم على قدر فضلهم وسوابقهم وكذلك نساؤه صلى الله عليه و سلم مكانهم جزاء لهن على قدر فضلهن وسوابقهن فلا يقال أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من أبي بكر أو عمر ولا يقال أيضا أن أبا بكر وعمر أفضل من إبراهيم والمفاضلة واقعة بين الصحابة وبين نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن أعمالهم وسوابقهم لها مراتب متناسبة بلا شك فإن قال قائل أنهن لولا رسول الله صلى الله عليه و سلم ما حصلن تلك الدرجة وإنما تلك الدرجة له عليه السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق نعم ولا شك أيضا في أن جميع الصحابة لولا رسول الله صلى الله عليه و سلم ما حصلوا على الدرج التي لهم فيها فإنما هي إذ على قولكم لرسول الله صلى الله عليه و سلم كما قلتم ولا فرق وبقي الفضل والتقدم لهن كما كان في كل ذلك ولا فرق
قال أبو محمد وأما فضلهن على بنات النبي صلى الله عليه و سلم فبين بنص القرآن لا شك فيه قال الله عز و جل يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فهذا بيان قاطع لا يسع أحدا جهله فإن عارضنا معارض يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم خير نسائها فاطمة بنت محمد قلنا له وبالله تعالى التوفيق في هذا الحديث بيان جلي لما قلنا وهو أنه عليه السلام لم يقل خير النساء فاطمة وإنما قال خير نسائها فخص ولم يعم وتفضيل الله عز و جل النساء النبي صلى الله عليه و سلم على النساء على عموم ولا خصوص لا يجوز أن يستثنى منه أحدا من استثناء نص آخر فصح أنه عليه السلام إنما فضل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه صلى الله عليه و سلم فاتفقت الآية مع الحديث وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فهذا أيضا عموم موفق الآية ووجب أن يستثنى ما خصه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله نسائها من هذا العموم فصح أن نساءه عليه السلام ما خصه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله نسائها من هذا العموم فصح أن نساءه عليه السلام أفضل النساء جملة حاشا اللواتي خصهن الله تعالى بالنبوة كأم إسحاق وأم موسى وأم عيسى عليهم السلام وقد نص الله تعالى على هذا بقوله الصادق يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ولا خلاف بين المسلمين في أن جميع الأنبياء كل نبي منهم أفضل ممن ليس نبي من سائر الناس ومن خالف هذا فقد كفر وكذلك أخبر عليه السلام فاطمة أنها سيدة نساء المؤمنين ولم يدخل نفسه صلى الله عليه و سلم في هذه الجملة بل أخبر عمن سواه وبرهان آخر وهو قول الله تعالى مخاطبا لهن ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين
قال أبو محمد فهذا فضل ظاهر وبيان لائح في أنهن أفضل من جميع الصحابة رضي الله عنهم وبهذه الآية صحة متيقنة لا يمتري فيها مسلم فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة وسائر الصحابة رضي الله عنهم إذا عمل الواحد منهم عملا يستحق عليه مقدارا ما من الأجر وعملت امرأة من نساء النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك العمل بعينه كان لها مثل ذلك المقدار من الأجر فإذا كان نصيف الصحابي وفاطمة رضي الله عنهم بفي بأكثر من مثل جبل أحد ذهبا ممن بعده كان للمرأة من نسائه عليه السلام في نصيفها أكثر من مليء جبلين اثنين مثل جبل أحد ذهبا وهذه فضيلة ليست لأحد بعد الأنبياء عليهم السلام إلا هن وقد صح عن النبي صلى

الله عليه وسلم أنه يوعك كوعك رجلين من أصحابه لأن له 1 على ذلك كفاين من الأجر
قال أبو محمد وليس بعد هذا بيان في فضلهن على كل أحد من الصحابة إلا من أعمى الله قلبه من الحق ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وقد اعترض علينا بعض أصحابنا في هذا المكان بقول الله تعالى عن أهل الكتاب إذا آمنوا أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا قال فيلزم أنهم أفضل منا فقلت له إن هذه الآية والخبر الذي فيه ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر مؤمن أهل الكتاب والعبد الناصح معتق أمته ثم يتزوجها فيهما بيان الوجه الذي أجروا به مرتين وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه و سلم وبالنبي الأول المبعوث بالكتاب الأول ونحن نؤمن بهذا كله كما آمنوا فنحن شركاء ذلك المؤمن منهم في ذينك الإيمانين وكذلك العبد الناصح يؤجر لطاعة سيده أجرا ولطاعة الله أجرا وكذلك معتق أمته ثم يتزوجها يؤجر على عتقه أجرا ثم يتزوجها يؤجر على عنقه أجرا ثم على نكاحه إذا أراد به وجه الله تعالى أجرا ثانيا فصح يقينا أن هؤلاء إنما يؤتون أجرهم مرتين في خاص من أعمالهم لا في جميع أعمالهم وليس في هذا ما يمنع من أن يؤجر غيرهم في غير هذه الأعمال أكثر من أجورهم وأيضا فإنما يضاعف لهؤلاء على ما عمله أهل طبقتهم وليست المضاعفة لأجور نساء النبي صلى الله عليه و سلم مرتين من هذا في ورد ولا صدر لأن المضاعفة لهن إنما هي في كل عمل عملته بنص القرآن إذ يقول القرآن يقول الله تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين فكل عمل عمله صاحب من الصحابة له فيه أجر فلكل امرأة منهن في مثل ذلك العمل أجران والمضاعفة لهن إنما تكون على ما عمله طبقتهن من الصحابة وقد علمنا أن بين الصاحب وعمل غير أعظم مما بين أحد ذهبا ونصف مد شعير فيقع لكل واحدة منهن مثلا ذلك مرتين وهذا لا يخفى على ذي حس سليم فبطأت المعارضة التي ذكرنا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد واعترض علينا أيضا بعض الناس في الحديث الذي فيه أن عائشة أحب الناس إليه ومن الرجال أبوها بأن قال قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأسامة بن زيد أن أباه كان أحب الناس إلي وأن هذا أحب الناس إلي بعده وصح أنه عليه السلام قال للأنصار أنكم أحب الناس إلي
قال أبو محمد وأما هذا اللفظ الذي في حديث أسامة بن زيد أنه أحب الناس إليه عليه الصلاة و السلام فقد روي من طريق حماد بن سلمة عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه وأما الذي فيه ذكر أسامة وزيد رضي الله عنهما فإنما رواه عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله عن أبيه وعمر وحمزة هذا ضعيف والصحيح من هذا الخبر هو ما رواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم بإسناد لا مغمز فيه فذكر فيه أنه صلى الله عليه و سلم قال بعني ليزيد بن حارثة وأيم الله أن كان لخليق بالإمارة وأن كان لمن أحب الناس إلي وأن هذا من أحب الناس إلي بعده وهذا يقضي على حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه لأنه مختصر من حديث عبد الله بن دينار وبهذا ينتفي التعارض بين الروايتين عن ابن عمر وعن أنس وعمر وإلا فليس أحدهما أولى من الآخر وأما حديث الأنصار فرووه كما ذكره هشام بن زيد عن أنس ورواه عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم أنه قال أنتم من أحب الناس إلي وهو حديث واحد وزيادة العدل مقبولة فصح بزيادة من في الحديث من طريق العدول أن الأنصار وزيدا وأسامة رضي الله عنهم من جملة قوم هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا حق لا يشك فيه لأنهم من أصحابه وأصحابه أحب الناس إليه بلا شك وليس هكذا جوابه في عائشة رضي الله عنها إذ سئل في أحب الناس إليك فقال عائشة فقيل من الرجال قال أبوها لأن هذا قطع على بيان ما سأل عنه السائل من معرفة من المنفرد البائن عن الناس بمحبته عليه السلام واعترض علينا بعض الأشعرية بأن قال أن الله تعالى يقول إنك لا تهتدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء فصح أن محبته عليه السلام لمن أحب ليس فضولا لأنه قد أحب عمه وهو كافر
قال أبو محمد فقلنا أن هذه الآية ليست على ما ظن وإنما مراد الله تعالى إنك لا تهتدي من أحببت أي أحييت هداه برهان ذلك قوله تعالى ولكن الله يهدي من يشاء أي من يشاء هداه وفرض على النبي صلى الله عليه و سلم وعلينا أن نحب الهدى لكل كافر لا أن نحب الكافر وأيضا فلو صح أن معنى الآية من أحببت كما ظن هذا المعترض لما كان علينا بذلك حجة لأن هذه أية مكية نزلت في أبي طالب ثم أنزل الله تعالى في المدينة لا تجد قوما يؤمنون بالله وباليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم وأنزل الله تعالى في المدينة لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم أنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وإن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب أبا طالب فقد حرم الله تعالى عليه بعد ذلك ونهاه عن محبته وافترض عليه عداوته وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن العداوة والمحبة لا يجتمعان أصلا والمودة هي المحبة في اللغة التي بها نزل القرآن بلا خلاف من أحد من أهل اللغة فقد بطل أن يحب النبي صلى الله عليه و سلم أحدا غير مؤمن ومن قد صحت النصوص والإجماع على أن محبة رسول الله صلى الله عليه و سلم لمن أحب فضيلة وذلك كقوله عليه السلام لعلي لأعطين الرابة غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فإذ لا شك ولا خلاف في أن محبة رسول الله صلى الله عليه و سلم بخلاف ما قال أهل الجهل والكذب فقد صح يقينا أن كان أتم حظا في الفضيلة فهو فضل ممن هو أقل حظا في تلك الفضيلة هذا شيء يعلم ضرورة فإذا كانت عائشة أتم حظا في المحبة التي هي أتم فضيلة فهي أفضل ممن حظه في ذلك أقل من حظها ولذلك لما قيل له عليه السلام من الرجال قال أبوها ثم عمر فكان ذلك موجبا لفضل أبي بكر ثم عمر على سائر الصحابة رضي الله عنهم فالحكم بالباطل لا يجوز في أن يكون يقدم أبو بكر ثم عمر في الفضل من أجل تقدمها في المحبة عليهما وما نعلم نصا في وجوب القول بتقديم أبي بكر ثم عمر على سائر الصحابة إلا هذا الخبر وحده
قال أبو محمد وقد نص النبي صلى الله عليه و سلم على ما ينكح له من النساء فذكر الحسب والمال والجمال والدين ونهى صلى الله عليه و سلم عن كل ذلك بقوله فعليك بذات الدين تربت يداك فمن المحال الممتنع أن يكون يحض على نكاح النساء واختيارهن للدين فقط ثم يكون هو عليه السلام يخالف ذلك فيحب عائشة لغير الدين وكذلك قوله عليه السلام فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام لا يحل لمسلم أن يظن في ذلك شيئا غير الفضل عند الله تعالى في الدين فوصف الرجل امرأته للرجال لا يرضى به إلا خسيس نذل ساقط ولا

يحل لمن له أدنى مسكة من عقل أن يمر هذا في باله عن فاضل من الناس فكيف عن المقدس المطهر البائن فضله على جميع الناس صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد ولولا أنه بلغنا عن بعض من تصدر لنشر العلم من زماننا وهو المهلب بن أبي صفرة التميمي صاحب عبد الله بن إبراهيم الأصيل أنه أشار إلى هذا المعنى القبيح وصرح به ما انطلق لنا بالإيماء إليه لسان ولكن المنكر إذا ظهر وجب على المسلمين تغييره فرضا على حسب طاقتهم وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال أبو محمد وكذلك عرض الملك لها رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ولادتها في سرعة من حرير يقول له هذه زوجتك فيقول عليه السلام أن يكن من عند الله يمضيه فهل بعد هذا في الفضل غاية
قال أبو محمد واعترض علينا مكي بن أبي طالب المقري بأن قال يلزم على هذا أن تكون امرأة أبي بكر أفضل من علي لأن امرأة أبي بكر مع أبي بكر في الجنة في درجة واحدة وهي أعلى من درجة علي فمنزلة امرأة أبي برك أعلى من منزلة علي فهي أفضل من علي
قال أبو محمد فأجبناه بأن قلنا له وبالله تعالى نتأيد أن هذا الاعتراض ليس بشيء لوجوه أحدها أن ما بين درجة أبي بكر ودرجة علي في الفضل الموجب لعلو درجته في الجنة لعلو درجته في الجنة على درجة علي ليست من التباين بحيث ما هو بين درجة النبي صلى الله عليه و سلم وبين درجة أبي بكر في الفضل الموجب لعلو درجته عليه السلام على درجات سائر الصحابة رضي الله عنهم بل قد أيقنا أن درجة أقل رجل منا في الفضل أقرب نسبة من أعلى درجة لأعلى رجل من الصحابة من نسبة درجة أفضل الصحابة إلى درجة النبي صلى الله عليه و سلم وأيضا فليس بين أبي بكر وعلي في المباينة في الفضل ما يوجب أن تكون امرأة أبي بكر التابعة له أفضل من علي بل منازل المهاجرين الأولين الذين أوذوا في سبيل الله عز و جل متقاربة وإن تفاضلت ثم كذلك أهل السوابق مشهدا مشهدا درجهم في الفضل متقاربة وإن تفاضلت ثم منازل الأنصار الأولين متقاربة وإن تفاضلت ثم كذلك أهل السابق بعد الهجرة مشهدا مشهدا درجهم متقاربة في الفضل ثم كذلك من أسلم بعد الفتح أيضا ويزداد الأفضل فالأفضل من المشركين في المشاهد جزاء علي على ذلك فنقول أن امرأة أبي برك المستحقة بعملها الكون معه في درجته مثل أم رومان لسنا ندري أهي أفضل أم علي لأنا لا نص معنا في ذلك والتفضيل لا يعرف إلا بنص وقد قال عليه السلام حيركم القرن الذي بعثت فيه قم الذين يلونهم أو كما قال عليه السلام فجعلهم طبقات في الخير والفضل فلا شك هم كذلك في الجزاء في الجنة وإلا فكان يكون الفضل لا معنى له وقال عز و جل هل تجزون إلا ما كنتم تعملون وأيضا فلسنا نشك أن المهاجرات الأوليات من نساء الصحابة رضي الله عنهم يشاركن الصحابة في الفضل ففاضلة ومفضولة وفاضل ومفضول ففيهن من يفضل كثيرا من الرجال وفي الرجال من يفل كثيرا منهن وما ذكر الله تعالى منزلة من الفضل إلا وقرن النساء مع الرجال فيها كقوله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية حاشا الجهاد فإنه فرض على الرجال دون ولسنا ننكر أن يكون لأبي بكر رضي الله عنه قصور ومنازل مقدمة على جميع الصحابة ثم يكون لمن لم تستاهل من نسائه تلك المنزلة في الجنة دون منازل من هو أفضل منهن من الصحابة فقد نكح الصحابة رضي الله

عنهم التابعيات بعد الصاحبات وعليهن فتكون تلك المنازل زائدة في فضل أزواجهن من الصحابة فينزلون إليهن ثم ينصرفون إلى منازلهن العالية بل قد صح هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم وأنه قال كلاما معناه وأكثر نصه أنه عليه السلام زعيم بيت في ربض الجنة في وسط الجنة وفي أعلى الجنة لمن فعل كذا أمرا وصفه رسول الله صلى الله عليه و سلم فصح نص ما قلنا من أن لمن دونه عليه السلام منازل عالية وأخر مسفلة عن تلك المنازل ينزلون إليها ثم يصعدون إلى الأعالي وهذا مبعد عن النبي صلى الله عليه و سلم لوجهين أحدهما أن جميع نسائه عليه السلام لهن حق الصحبة التي يشتركن فيها جميع الصحابة ويفضلنهم فيها بقرب الخاصة فليس في نسائه عليه السلام ولا واحدة يفضلها بالصحبة التي هي فضيلتهم التي بها بانوا عمن سواهم فقط وقد كفينا الباب والوجه الثاني أن تأخر بعض الصحابة عن بعضهم في بعض الأماكن موجودة وإن كان ذلك المتأخر في بعض الأماكن متقدما في مكان آخر فقد علمنا أن بلالا عذب في الله عز و جل ما لم يعذب علي وأن عليا قاتل ما لم يقاتل بلال وأن عثمان أنفق ما لم ينفق بلال ولا علي فيكون المفضول منهم في الجملة متقدما للذي فضله في بعض فضائله ولا سبيل أن يوجد هذا فيما بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجوز أن يتقدمه أحد من ولد آدم في شيء من الفضائل أولها عن آخرها ولا إلى أن يلحقه لاحق في شيء من الفضائل من بني آدم فلا سبيل إلى ينسفل النبي صلى الله عليه و سلم إلى درجة يوازيها فيها صاحب من الصحابة فكيف أن يعلو عليه الصاحب هذا أمر تقشعر منه جلود المؤمنين وقد استعظم أبو أيوب رضي الله عنه أن يسكن في غرفة على بيت يسكنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يظن بأن هذا يكون في دار الجزاء فإذا كان العالي من الصحابة في أكثر منازله ينسفل أيضا في بعضها عن صاحب آخر قد علاه في منازل أخر على قدر تفاضلهم في أعمالهم كما ذكرنا آنفا فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الصائمين يدعون من باب الريان وأن المجاهدين يدعون من باب الجهاد وأن المتصدقين يدعون من باب الصدقة وأن أبا بكر يرجو له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدعى من جميع تلك الأبواب وقد يجوز أن يفضل أبا بكر رضي الله عنه غيره من الصحابة في بعض تلك الوجوه مما انفرد بباب منها ولا يجوز أن يفضل أحد رسول الله صلى الله عليه و سلم في شيء من أبواب البر فبطل هذا الاعتراض جملة والحمد لله رب العالمين واعترض أيضا علينا مكي بن أبي طالب بأن قال إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من موسى عليه السلام ومن كل واحد من الأنبياء عليهم السلام وكان عليه السلام أعلى درجة في الجنة من جميع الأنبياء عليهم السلام وكان نساؤه عليه السلام معه في درجته في الجنة فدرجتهن فيها أعلى من درجة موسى عليه السلام ومن درج سائر الأنبياء عليهم السلام فهن على هذا الحكم أفضل من موسى وسائر الأنبياء عليهم السلام
قال أبو محمد فأجبناه بأن هذا الإعتراض أيضا لا يلزمنا ولله الحمد لأن الجنة دار ملك وطاعة وعلو منزلة ورياسة واتباع من التابع للمتبوع كما قال عز و جل وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا وقال تعالى عن موسى عليه السلام وكان عند الله وجيها وأخبر عز و جل عن جبريل صلى الله عليه و سلم فقال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فقد علمنا أن ملك الدنيا غرور وأن ملك الآخرة و الحقيقة وقد أخبر عليه السلام أنه رأى الأنبياء عليهم السلام مع إتباعهم فالنبي معه الواحد والإثنان والثلاثة والنفر والجماعة فأخبر عز و جل

أن هنالك الملك الكبير والطاعة والوجاهة والإتباع والإستثمار وإنما عرض الله تعالى علينا في الدنيا من الملك طرفا لنعلم به مقدار الملك الذي في دار الجزاء كما عرض علينا من اللذات والحرير والديباج والخمر والذهب والفضة والمسك والجواري والحلي وأعلمنا أن هذا كله خالصة لنا هنالك وكما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن آخر من يدخل الجنة يزكو على أعظم ملك عرفه في الدنيا فيتمنى مثل ملكه فيعطيه الله تعالى مثل الدنيا عشر مرات
قال أبو محمد فلما صح ما ذكرنا وكانت الملائكة طبقة واحدة إلا أنهم يتعاضلون فيها وكانت طبقة المرسلين النبيين طبقة واحدة لنهما أيضا يتفاضلون فيها وكل الصحابة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها فوجب بلا شك أن لا يكون اتباع الرسل من النساء والأصحاب كالمتبوعين الذين هم الرسل لأن بالضرورة نعلم أن تابع الأعلى ليس لاحقا نظير متبوعه فكيف أن يكون أعلى منه كما أن التابعيات من نساء الصحابة رضي الله عنهم لا يلحقن نظراء أزواجهن من الصحابة إذ ليس هن معهم في طبقة وإنما ينظر بين أهل كل طبقة ومن هو في طبقته ونساء النبي صلى الله عليه و سلم طبقة واحدة مع الصحابة فصح التفاضل بينهم وليس واحدة منهن ولا منهم مع الأنبياء في طبقة فلم يجز أن ينظر بينهم وقد أخبر عليه السلام أنه رأى ليلة الإسراء الأنبياء عليهم السلام في السموات سماء سماء وبالضرورة نعلم أن منزلة النبي الذي هو متبوع في سماء الدنيا أمره هناك مطاع أعلى من منزلة التابع في السماء السابعة للنبي الذي هنالك وإذ قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن كل نبي يأتي مع أمته فنحن مع نبينا صلى الله عليه و سلم فإن كل ما ألزمناه مكي لازما لنا فيلزمه مثل ذلك فينا أيضا أن نكون أفضل من الأنبياء وهذا غير لازم لما ذكرنا من أنه لا ينظر في الفضل إلا بين من كان من أهل طبقة واحدة فمن كان منهم أعلى منزلة من الآخر كان أفضل منه بلا شك وليس ذلك في الطباق المختلفة ألا ترى أن كون مالك خازن النار في مكان غير مكان خازن الجنة وغير مكان جبرائيل لا تحط درجته عن درجة من في الجنة من الناس الذين الملائكة جملة أفضل منهم لأن مالكا متبوع للنار ومقدم مطاع مفضل بذلك على التابعين والخدمة في الجنة بلا شك فبطل هذا الشعب ويجمع هذا الجواب بإختصار وهو أن الرؤساء والمتبوعين في كل طبقة في الجنة أعلى من التابعين لهم ونساء النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه كلهم أتباع له عليه السلام وجميع الأنبياء متبوعون فإنما ينظر بين المتبوعين أيهم أفضل وينظر بين الأتباع أيهم أفضل ويعلم الفضل بعلو درجة كل فاضل من دونه في الفضل ولا يجوز أن ينظر بين الأتباع والمتبوعين لأن المتبوعين لا يكونون البتة أحط درجة من التابعين وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فكيف يقولون في الحور العين أهن أفضل من الناس ومن الأنبياء كما قلتم في الملائكة فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الفضل لا يعرف إلا ببرهان مسموع من الله تعالى في القرآن أو من كلام الرسول صلى الله عليه و سلم ولم نجد الله تعالى نص على فضل الحور العين كما نص على فضل الملائكة وإنما نص على أنهن مطهرات حسان عرب أتراب يجامعن ويشاركن أزواجهن في اللذات كلها وأنهن خلقن ليلتذ بهن المؤمنون فإذا الأمر هكذا فإنما محل الحور العين محل من هن له فقط أن ذلك اختصاص لهن بلا عمل وتكليف فهن خلاف الملائكة في ذلك وبالله الله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ومما يؤكد قولنا قول الله تعالى أن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون وهذا النص إذ قد صح فقد وجب الإقرار به

فلو عجزنا عن تفضيل بعض أقسام هذه الإعتراضات لما ألزمنا في ذلك نقصا إذ لا يجوز الإعتراض على هذا النص وكلما صح بيقين فلا يجوز أن يعارض بيقين آخر والبرهان لا يبطله برهان وقد أوضحنا أن الجنة دار جزاء على أعمال المكلفين فأعلاهم درجة أعلاهم فضلا ونساء النبي صلى الله عليه و سلم أعلا درجة في الجنة من جميع الصحابة فهن أفضل منهن فمن أبى هذا فليخبرنا ما معنى الفضل عنده إذ لا بد أن يكون لهذه الكلمة معنى فإن قال لا معنى لها فقد كفانا مؤنته وإن قال لها معنى سألناه ما هو فإنه لا يجد غير ما قلناه وبالله تعالى التوفيق فكيف وقد أتينا بتأييد الله عز و جل لنا على كل ما اعترض علينا به في هذا الباب ولاح وجه في ذلك بيننا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد واستدركنا بيانا زائدة في قول النبي صلى الله عليه و سلم في أن فاطمة سيدة نساء المؤمنين أو نساء هذه الأمة فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الواجب مراعاة ألفاظ الحديث وإ نما ذكر عليه السلام في هذا الحديث السيادة ولم يذكر الفضل وذكر عليه السلام في حديث عائشة الفضل نصا بقوله عليه السلام فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
قال أبو محمد والسيادة غير الفضل ولا شك أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء العالمين بولادة النبي صلى الله عليه و سلم لها فالسيادة من باب الشرف لا من باب الفضل فلا تعارض بين الحديث البتة والحمد لله رب العالمين وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما هو حجة في اللغة العربية كان أبو بكر خير وأفضل من معاوية وكان معاوية أسود من أبي بكر ففرق ابن عمر كما ترى بين السادة وبين الفضل والخير وقد علمنا أن الفضل هو الخير نفسه لأن الشيء إذا كان خيرا من شيء آخر فهو أفضل منه بلا شك
قال أبو محمد وقد قال قائل ممن يخالفنا في هذا قال الله عز و جل وليس الذكر كالأنثى فقلنا وبالله تعالى التوفيق فأنت إذا عند نفسك أفضل من مريم وعائشة وفاطمة لأنك ذكر وهؤلاء أناث فإن قال هذا الحق بالنوكي وكفر بأن سئل عن معنى الآية قيل له الآية على ظاهرها ولا شك في أن الذكر ليس كالأنثى لأنه لو كان كالأنثى والأنثى أيضا ليست كالذكر لأن هذه أنثى وهذا ذكر وليس هذا من الفضل في شيء البتة وكذلك الحمرة غير الخضرة والخضرة ليست كالحمرة وليس هذا من باب الفضل فإن اعترض معترض بقول الله تعالى وللرجال عليهن درجة قيل له إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي وكل مجوسي وكل فاسق من الرجال أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام ومن نساء النبي صلى الله عليه و سلم وبناته وهذ1 كفر ممن قاله بإجماع الأمة وكذلك قوله تعالى أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين إنما لك في تقصيرهن في الأغلب عن المحاجة لقلة ذريتهن وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن فإن اعترض معترض فقال الذي أمرنا بطاعتهم من خلفاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل من نساء النبي صلى الله عليه و سلم بقوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا خطأ من جهات إحداها أن نساء النبي صلى الله عليه و سلم من جملة أولى الأمر منا الذين أمرنا بطاعتهم فيما بلغن الينا عن النبي صلى الله عليه و سلم كالأئمة من الصحابة سواء

ولا فرق والوجه الثاني أن الخلافة ليست من قبل فضل الواحد في دينه فقط وجبت لمن وجبت له وكذلك الإمارة لأن الإمارة قد تجوز لمن غيره أفضل منه وقد كان عمر رضي الله عنه مأمور بطاعة عمرو بن العاص إذ أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة ذات السلاسل فبطل أن تكون الطاعة إنما تجب للأفضل فالأفضل وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيرا ولم يأمر أبا ذر أفضل وأبو ذر أفضل خيرا منهما بلا شك وأيضا فإنما وجبت طاعة الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم في أموامر هم مذ ولوا لا قبل ذلك ولا خلاف في أن الولاية لم تزدهم فضلا على ما كانوا عليه وإنما زادهم فضلا عدلهم في الولاية لا الولاية نفسها وعدلهم داخل في جملة أعمالهم التي يستحقون والفضل بها ألا ترى أن معاوية والحسن إذ وليا كانت طاعتهما واجبة على سعد بن أبي وقاص وسعد أفضل منهما ببون بعيد جدا وهي حي معهما مأمور بطاعتهما وكذلك القول في جابر وأنس بن مالك وابن عمر رضي الله عنهم في وجوب طاعة عبد الملك بن مروان والذي بين جابر وأنس وابن عمرو بين عبد الملك في الفضل كالذي بين النور والظلمة فليس في وجوب طاعة الولاة ما يوجب فضلا في الجنة فإن اعترض معترض بقول الله تعالى والذين أمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين فبيان اعتراضه ظاهر في آخر الآية وهو أن إلحاق الذرية بالآباء لا يقتضي كونهم معهم في درجة ولا هذا مفهوم من نص الآية بل إنما فيها إلحاقهم بهم فيما ساورهم فيه بنص الآية ثم بين تعالى ذلك ولم يدعنا في شك بقوله كل امريء بما كسب رهين فصح أن كل واحد من الآباء والأبناء يجازى حسب ما كسب فقط وليس حكم الأزواج كذلك بل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم معه في قصوره وعلى سرره ملتذ بهن ومعهن جزاء لهن بما عملن من الخبر وبصبرهن واختبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم والدار الآخرة وهذه منزلة لا يحلها أحد بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فهن أفضل من كل واحد دون الأنبياء عليهم السلام فإن شغب مشغب بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن قلنا وبالله تعالى التوفيق إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول أنك أتم عقلا ودينا من مريم وأم موسى وأم إسحاق ومن عائشة وفاطمة فإن تمادى على هذا سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر وإن قال لا سقط اعتراضه واعترض بأن من الرجال من هو أنقص دينا وعلاقلا من كثير من النساء فإن سأل عن معنى هذا الحديث قيل له قد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وجه لك النقص وهو كون شهادة على المرأة على النصف من شهادة الرجل وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم دينا وعقلا غير الوجوه التي ذكر النبي صلى الله عليه و سلم وهو عليه السلام لا يقول إلا حقا فصح يقينا أنه إنما عبر عليه السلام ما قد بينه في الحديث نفسه من الشهادة والحيض فقط وليس ذلك مما ينقص الفضل فقد علمنا أن أبا بكر وعليا لو شهدوا في زنا لم يحكم بشهادتهم ولو شهد به أربعة منا عدول في الظاهر حكم بشهادتهم وليس ذلك بموجب أننا أفضل من هؤلاء المذكورين وكذلك القول في شهادة النساء فليست الشهادة

من باب التفاضل في ورد ولا صدر لكن نقف فيها عندما حده النص فقط ولا شك عند كل مسلم في أن صواحبه من نسائه وبناته عليهم السلام كخديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة أفضل دينا ومنزلة عند الله تعالى من كل تابع أتى بعدهن ومن كل رجل يأتي في هذه الأمة إلى يوم القيامة فبطل الإعتراض بالحديث المذكور وصح أنه على ما فسرناه وبيناه والحمد لله رب العالمين وأيضا فقول الله تعالى يا نساء النبي لستن كأحد من النساء مخرج لهن عن سائر النساء في كل ما اعترض به معترض مما ذكرناه وشبهه
قال أبو محمد فإن اعترض معترض بقول النبي صلى الله عليه و سلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وامرأة فرعون فإن هذا الكمال إنما هو الرسالة والبوة التي انفرد بها الرجال وشاركهم بعض النساء في النبوة وقد يتفاضلون أيضا فيها فيكون بعض الأنبياء أكمل بعض ويكون بعض الرسل أكمل من بعض قال الله عز و جل تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فإنما ذكر في هذا الخبر من بلغ غاية الكمال في طبقته ولم يتقدمه منهم أحد وبالله تعالى التوفيق فإن اعترض معترض بقوله عليه السلام لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة فلا حاجة له في ذلك لأنه ليس امتناع الولاية فيهن بموجب لهن نقص الفضل فقد علمنا أن ابن مسعود وبلالا وزيد ابن حارثة رضي الله عنهم لم يكن لهم حظ في الخلافة وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك ومنهم في الفضل ما لا يجهله المسلم
قال أبو محمد وأما أفضل نسائه فعائشة وخديجة رضي الله عنهما لعظم فضائلهما وإخباره عليه السلام أن عائشة أحب الناس اليه وأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وقد ذكر عليه السلام خديجة بنت خويلد فقال أفضل نسائهما مريم بنت عمران وأفضل نسائها خديجة بنت خويلد مع سابقة خديجة في الإسلام وثباتها رضي الله عنها ولأم سلمة وسودة وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وحفصة سوابق في الإسلام عظيمة وأحمال للمشقات في الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم والهجرة والغربة عن الوطن والدعاء إلى الإسلام والبلاء في الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم ولكهن بعد ذلك الفضل المبين رضوان الله عليهن أجمعين
قال أبو محمد وهذه مسألة نقطع فيها أننا المحققون عند الله عز و جل وأن من خالفنا فيها مخطيء عند الله عز و جل بلا شك وليست مما يسع الشك فيه أصلا
قال أبو محمد فإن قال قائل هل قال هذا أحكم قبلكم قلنا له وبالله تعالى التوفيق وهل قال غير هذا أحد قبل من يخالفنا الآن وقد علمنا ضرورة أن لنساء النبي صلى الله عليه و سلم منزلة من الفضل بلا شك فلا بد من البحث عنها فليقل مخالفنا في أي منزلة نضعهن أبعد جميع الصحابة كلهم فهذا مالا يقوله أحد أم بعد طائفة منهم فعليه الدليل وهذا ما لا سبيل له إلى وجوده وإذ قد بطل هذان القولان أحدهما بالإجماع على أنه باطل والثاني لأنه دعوى لا دليل عليها ولا برهان فلم يبق إلا قولنا والحمد لله رب العالمين الموفق للصواب بفضله ثم نقول وبالله تعالى نستعين قد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس حين ولي بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أيها الناس إني وليتكم ولست بخيركم فقد صح

عنه رضي الله عنه أنه أعلن بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم أنه ليس بخيرهم ولم ينكر هذا القول منهم أحد فدل على متابعتهم له ولا خلاف أنه ليس في أحد من الحاضرين لخطبته إنسان يقول فيه أحد من الناس أنه خير من أبي بكر إلا علي وابن مسعود وعمر وأما جمهور الحاضرين من مخالفينا في هذه المسألة من أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والخوارج فإنهم لا يختلفون في أن أبا بكر أفضل من علي وعمر وابن مسعود وخير منهم فصح أنه لم يبق إلا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فإن قال قائل إنما قال أبو بكر هذا تواضعا قلنا له هذا هو الباطل المتيقن لأن الصديق الذي سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا الإسم لا يجوز أن يكذب وحاشا له من ذلك ولا يقول إلا الحق والصدق فصح أن الصحابة متفقون في الأغلب على تصديقه في ذلك فإذ ذلك كذلك وسقط بالبرهان الواضح أن يكون أحد من الصحابة رضي الله عنهم خيرا من أبي بكر ولم يبق إلا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ونساؤه ووضح أننا لو قلنا أنه إجماع من جمهور الصحابة لم يبعد من الصدق
قال أبو محمد وأيضا فإن يوسف ابن عبد الله النمري حدثنا قال حدثنا خلف بن قاسم ثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي الكندي حدثنا محمد بن العباس البغدادي ثنا إبراهيم بن محمد البصري ثنا أبو أيوب سليمان بن داود الشاذ كوني قال كان عمار بن ياسر والحسن ابن علي يفضلان علي بن أبي طالب على أبي بكر الصديق وعمر حدثنا أحمد بن محمد الخوزي ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري أن علي بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة فلما أتياها اجتمع اليهما الناس في المسجد فخطبهم عمار وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم إني لملول لكم والله إني لا أعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنة كما هي زوجته في الدنيا ولكن الله ابتلاكم بها لتطيعوها أو لتطيعوه فقال له مسروق أو أبو الأسود يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له فسكت عمار وقال له الحسن أعن نفسك عنا فهذا عمار والحسن وكل من حضر من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والكوفة يومئذ مملؤة منهم يسمعون تفضيل عائشة على علي وهو عند عمار والحسن أفضل من أبي بكر وعمر فلا ينكرون ذلك ولا يعترضونه أحوج ما كانوا إلى إنكاره فصح أنهم متفقون على أنها وأزواجه عليه السلام أفضل من كل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ومما يبين أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقل وليتكم ولست بخيركم إلا محقا صادقا لا تواضعا يقول فيه الباطل وحاشا له من ذلك ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي قال حدثنا أحمد بن محمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت الرفي أنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البر أن ثنا عبد الملك بن سعد ثنا عقبة بن خالد ثنا شعبة بن الحجاج ثنا الحريري عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ألست أحق الناس بها أو لست أول من أسلم ألست صاحب كداء
قال أبو محمد فهذا أبو بكر رضي الله عنه يذكر فضائل نفسه إذا كان صادقا فيها فلو كان أفضلهم لصرح به وما كتمه وقد نزهه الله تعالى عن الكذب فصح قولنا نصا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد ثم وجب القول فيمن هو أفضل الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه و سلم

فلم نجد لمن فضل ابن مسعود أو عمر أو جعفر بن أبي طالب أو أبا سلمة والثلاثة الأسهليين على جميع الصحابة حجة يعتمد عليها ووجدنا من يوقف لم يزد على أنه لم يلح له البرهان أنهم أفضل ولو لاح له لقال به ووجدنا العدد والمعارضة في القائلين بأن عليا أفضل أكثر فوجب أن آتي بما شغبوا به ليلوح الحق في ذلك وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار وضربا والجهاد أفضل الأعمال
قال أبو محمد هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله عز و جل باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير والثالث الجهاد باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد في اللسان لا يلحق فيه أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر وعمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحابة رضي الله عنهم أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله تعالى بمكة جهرا وجاهد المشركين بمكة بيديه فضرب وضرب حتى ملوه فتركوه فعبد الله تعالى علانية وهذا أعظم الجهاد فقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين الذين لا نظير لهما ولاحظ لعلي في هذا أصلا وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصا لأبي بكر ثم لعمرو بقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل من مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا شك عند كل مسلم أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده عليه السلام إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز و جل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله صلى الله عليه و سلم الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان عليه السلام أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأفعال فيقدمه عليه السلام ويشتغل به ووجدناه عليه السلام يوم بدر وغيره وكان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثارا من رسول الله صلى الله عليه و سلم له بذلك واستظهارا برأيه في الحرب وأنسا بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك أيضا وقد انفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا عليا رضي الله عنه لم ينفرد بالبسوق فيه بل قد شاركه في ذلك غيره شركة العنان كطلحة والزبير وسعد وممن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرسة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله صلى الله عليه و سلم وموازنة في حين الحرب وقد بعثهما رسول الله صلى الله عليه و سلم على البعوث أكثر مما بعث عليا وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه وقد بعث قبله أبا بكر وعمر فلم يفتحاه فحصل أربع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا عليا في أقل انواع الجهاد مع جماعة غيرهم قل عمله صلى الله عليه و سلم الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان عليه السلام أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأفعال فيقدمه عليه السلام ويشتغل به ووجدناه عليه السلام يوم بدر وغيره وكان أبو بكر رضي الله عنها معه لا يفارقه إيثارا من رسول الله صلى الله عليه و سلم له بذلك واستظهارا برأيه في الحرب وأنسا بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك أيضا وقد انفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا عليا رضي الله عنه لم ينفرد بالبسوق فيه بل قد شاركه في لك غيره شركة العنان كطلحة والزبير وسعد وممن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرسة وغيرهما ووجدنا أبا برك وعمر قد شاركاه في لك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله صلى الله عليه و سلم وموازنة في حين الحرب وقد بعثهما رسول الله صلى الله عليه و سلم على البعوث أكثر مما بعث عليا وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه وقد بعث قبله أبا بكر وعمر فلم يفتحاه فحصل أربع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا عليا في أقل انواع الجهاد مع جماعة غيرهم
قال أبو محمد واحتج أيضا من قال بأن عليا كان أكثرهم علما
قال أبو محمد كذب هذا القائل وإنما يعرف علم الصحابي لأحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي صلى الله عليه و سلم له فمن المحال

الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه و سلم من لا علم له وهذه أكبر شهادات على العلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه و سلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعلي وعمر وابن مسعود وأبي وغيرهم فأثره بذلك على جميعهم وهذا خلاف استخلافه عليه السلام إذا غزا لأن المستخلف في الغزوة لم يتسخلف إلا على النساء وذوي الأعذار فقط فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعهما وأعلم المذكورين بها وهي عمود الدين ووجدناه صلى الله عليه و سلم قد استعمله على الصدقات فوجب ضرورة أن عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل وربما كان أكثر إذ قد استعمل عليه السلام أيضا عليها غيره وهو عليه السلام لا يستعمل إلا عالما بما استعمله عليه والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة وبرهان ما قلنا من تمام علم أبي بكر رضي الله عنه بالصدقات إن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العلم به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر وأما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه ووجدنا عليه السلام قد استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج وهذه دعائم الإسلام ثم وجدناه عليه السلام قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله صلى الله عليه و سلم على البعوث في الجهاد إذ لا يستعمل عليه السلام على العمل إلا عالما به فعند أبي بكر من الجهاد من العلم به كالذي عند علي وسائر امراء البعوث لا أكثر ولا أقل فإذ قد صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في علم الصلاة والزكاة والحج وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم ثم وجدناه عليه السلام قد ألزم نفسه في جلوسه ومرآته وظعنه واقامته أبا بكر مشاهد أحكامه عليه السلام وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة أنه أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المتقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين وأما الرواية والفتوى فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا سنتين وستة أشهر ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه و سلم وعلى ذلك كله فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم مائة حديث واثنان وأربعون حديثا مستندة ولم يرو عن على إلا خمس مائة وست وثمانون حديثا مسندة يصح منها نحو خمسين وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أزيد من ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده لذهاب جمهور الصحابة رضي الله عنهم وكثر سماع أهل الآفاق منه مرة بصفين وأعواما بالكوفة ومرة بالبصرة والمدينة فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقري 1 على البلاد بلدا بلدا وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديث من عدد حديث وفتاوى من فتاوى علم كل ذي حظ من العلم أن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه وبرهان على ذلك أن من عمر من

أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرا قليلا قل النقل عنهم ومن طال عمره منهم كثر النقل عنهم إلا اليسير من اكتفا بنيابة غيره عنه في تعليم الناس وقد عاش علي بعد عمر بن الخطاب سبعة عشر عاما غير أشهر ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء بسواء فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعين حديثا في هذه المدة الطويلة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديثا أو حديثين وفتاوى عمر موازنة لفتاوى علي في أبواب الفقه فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديث إلى حديث وفتاوى إلى فتاوى علم كل ذي حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي من العلم ثم وجدنا الامر كل ما أطال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريره خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند وأربع وسبعين مسندا ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر ابن عبد الله وعبد الله بان عباس لكل واحد منهما أزيد من ألف وخمسمائة ووجدنا لإبن مسعود ثمان ماية مسند ونيف ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوى أكثر من فتاوى علي أو نحوها فبطل قول هذه الطائفة الوقاح الجهال فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحياء لاح كذبه وجهله فإنا غير مهتمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعته فوق مرتبته لاننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج وقد نزهنا الله عز و جل عن هذا الضلال في التعصب ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الإفك في التعصب فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالبين فيه هم المتهمون فيه أما له وأما عليه وبعد هذا كله ليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الإستدلال على كثرة العلم بإستعمال النبي صلى الله عليه و سلم بمن استعمله منهم على ما استعمله عليه من أمور الدين فإن قالوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد استعمل عليا على الأخماس وعلى القضاءء باليمين قلنا لهم نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لا قضية رسول الله صلى الله عليه و سلم أقوى في العلم وأثبت مما عنده على وهو باليمين وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالما بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو عليه السلام يعلم ذلك ومحال ذلك أن يبيح لهما ذلك ألا وهما أعلم ممن دونهما وقد استعمل عليه السلام أيضا على القضاء باليمين مع علي معاذا بن جبل وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم قد انفرد أبو بكر بالجمهور الأغلب من العلم على ما كرنا وقال هذا القائل أن عليا كان أقرأ الصحابة
قال أبو محمد وهذه القصة المتجردة والبهتان لوجوه أولها أنه رد على رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه عليه السلام قال يؤم القوم أقرؤهم فإن استووا فاقههم فإن استووا فاقدمهم هجرة ثم وجدنا عليه السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فيها وعلي بالحضرة يراه النبي صلى الله عليه و سلم غدوة وعشية فما رأى لها عليه السلام أحد أحق من أبي بكر بها فصح أنه كان أقرأهم وافقههم وأقدمهم هجرة وقد يكون من لم يجمع حفظ

القرآن كله على ظهر قلب أقرأن ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلا هذا على أن أبا بكر وعمر وعلي لم يستكمل أحد منهم حظ سور القرآن كله ظاهرا إلا أنه قد وجب يقينا بتقديم النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر على الصلاة وعلي حاضر أن أبا بكر أقرأ من علي وما كان النبي صلى الله عليه و سلم ليقدم إلى الإمامة الأقل علما بالقراءة على الأقرأ أو الأقل فقها على الأفقه فبطل أيضا شغبهم في هذا الباب والحمد لله رب العالمين وقال قائلهم أن عليا كان أتقاهم
قال أبو محمد كذب هذا الأفاك ولقد كان علي رضي الله عنه تقيا إلا أن الفضائل يتفاضل فيها أهلها وما كان أتقاهم لله إلا أبو بكر والبرهان على ذلك أنه لم يسوء قط أبو بكر رسول الله صلى الله عليه و سلم في كلمة ولا خالف ارادته عليه السلام في شيء قط ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الإتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد وقد تظلم رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر إذ أراد نكاح ابنه أبي جهل بما قد عرف وما وجدنا قط لأبي بكر توقفا عن شيء أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا مرة واحدة عذره فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجاز له فعله وهي إذا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبا فوجده يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر تأخر فأشار اليه النبي صلى الله عليه و سلم أن أقم مكانك فحمد الله تعالى أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بالناس فلما سلم قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منعك أن تثبت حين أمرتك فقال أبو بكر ما كان لإبن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله صلى الله عليه و سلم وما أنكر عليه السلام ذلك عليه وإذ قد صح بالبرهان الضروري الذي ذكرنا أن أبا بكر أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد وجب أنه أخشاهم لله عز و جل قال الله عز و جل إنما يخشى الله من عباده العلماء والتقى هو الخشية لله عز و جل وقال قائلون علي كان أزهدهم
قال أبو محمد كذب هو الجاهل وبرهان ذلك أن الزاهد إنما هو عزوب 1 النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية ليس الزاهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فإما عزوب النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية ان أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألف درهم فأنفقها كلها في ذات الله تعالى وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز و جل ولم يعتق عبيدا جلدا يمنعونه 2 لكن كل معذب ومعذبة في الله عز و جل حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبق لأبي بكر من جميع ما له إلا ستة ألف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبق لبنيه منها درهم ثم أنفقها كلها في سبيل الله عز و جل حتى لم يبق له شيء سوى عباءة له قد خللها بعود إذا نزل افترشها وإذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة رضي الله عن جميعهم واقتنوا الرباع 3 الواسعة والضياع العظيمة من حلها وحقها إلا أن من آثر بذلك

سبيل الله عز و جل أزهد ممن أنفقت وأمسك ثم ولى الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال وعد عند موته وما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز و جل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصله من شهامة المغازي والمقاسم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم وتوسع من سواهم من الصحابة رضي الله عنهم في المباح الذي أحله الله عز و جل لهم إلا من آثر سبيل الله على نفسه أفضل ولولا أن أبا ذر لم يكن له سابقة غيره لما تقدمه إلا من كان مثله فهذا هو الزهد في المال واللذات ولقد تلا أبا بكر عمر رضي الله عنهما في هذا الزهد فكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وانثى وترك لهم من العقار والضياع هما ما كانوا به من أغنياء قومهم ومياسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ومن جملة عقاره التي تصدق بها ضبعة كانت تغل ألف وسق تمر أسوى زرعها فأين هذا من هذا وأما حب الولد والميل اليهم وإلى الحاشية فالآمر في هذا ابين من أن يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضل في الإسلام ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي صلى الله عليه و سلم صحبة قديمة وهجرة سابقة وفضل ظاهر فما استعمل أبو بكر رضي الله منهم أحدا على شيء من الجهات وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة استعمالها وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطائف ومكة وخيبر وسائر أعمال الحجاز ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلا ولكن خشيء المحاباة وتوقع أن يميله اليهم شيء من الهوى ثم جرى عمر على مجراه في ذلك فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحدا على سعة البلاد وكثرتها وقد فتح الشام ومصر وجميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع إلى عزله وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من اتخاذ قريش لأن بني عدي لم يبق أحد منهم بمكة إلا هاجر وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذوي السوابق وأبي الجهم ابن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وابنه عبد الله بن عمر ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو صاحب من الصحابة ولا استعمل عمر ابنه عبد الله على الخلافة وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم وقد رضي به الناس وكان لذلك أهلا ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل ووجدنا عليا رضي الله عنه إذا ولي قد استعمل أقاربه عبد الملك بن عباس على البصرة وعبد الله بن عباس على اليمن وخثعم ومعبدا ابني العباس على مكة والمدينة وجعدة بن نميرة وهو ابن أخته أم هانيء بنت أبي طالب على خراسان ومحمد بن أبي بكر وهو ابن امرأة وأخو ولده على مصر ورضي ببيعة الناس الحسن ابنه بالخلافة ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ولا إستحقاق عبد الله بن العباس للخلافة فكيف إمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه وفي تأمير مثل طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد فلا شك في أنه أتم زهدا وأعرب 1 عن جميع

معاني الدنيا نفسا ممن أخذ منها ما أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أوهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده وقال هذا القائل وكان علي أكثرهم صدقة
قال أبو محمد وهذه مجاهرة بالباطل لأنه لم يحفظ لعلي مشاركة ظاهرة بالمال وأما أمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق ماله في سبيل الله عز و جل فأشهر من أن تخفى على اليهود والنصارى فكيف على المسلمين ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا المعنى من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة وغناء 2 في الإسلام بماله من علي رضي الله عنه وقالوا علي هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد قط وثنا
قال أبو محمد أما السابقة فلم يقل قط أحد يعتد به أن عليا مات وله أكثر من ثلاث وستين سنة ومات بلا شك سنة أربعين من الهجرة فصح أنه كان حين هاجر النبي صلى الله عليه و سلم ابن ثلاث وعشرين سنة وكانت مدة النبي صلى الله عليه و سلم بمكة في النبوة ثلاث عشرة سنة فبعث عليه السلام ولعلي عشرة أعوام فإسلام ابن عشرة أعوام ودعاؤه اليه إنما هو كتدريب المرء ولده الصغير على الدين لا أن عنده غناء ولا أن عليه إثما إن أبى فإن أخذ الأمر على قول من قال أن عليا مات وله ثمان وخمسون سنة فإنه كان إذ بعث النبي صلى الله عليه و سلم ابن خمسة أعوام وكان إسلام أبي بكر بن ثمان وثلاثين سنة وهو الإسلام المأمور به من عند الله عز و جل وأما من لم يبلغ الحلم فغير مكلف ولا مخاطب فسابقة أبي بكر وعمر بلا شك أسبق من سابقة علي وأما عمر فإنه كان إسلامه تأخر بعد البعث بستة أعوام فإن غنآءه كان أكثر من غنآء أكثر من أسلم قبله ولم يبلغ علي حد التكليف إلا بعد أعوام من مبعث النبي صلى الله عليه و سلم وبعد أن أسلم كثير من ا لصحابة رجال ونساء بعد أن عذبوا في الله تعالى ولقوا فيه الالاقي 3 وأما كونه لم يعبد وثنا فنحن وكل مولود في لإسلام لم يعبد قط وثنا وعمار والمقداد وسلمان وأبو ذر وحمزة وجعفر رضي الله عنهم قد عبدوا الأوثان أفترانا أفضل منهم من أجل ذلك معاذ الله من هذا فإنه لا يقوله مسلم فبطل أن يكون هذا يوجب لعلي فضلا زائدا وإلا لكانت عائشة سابقة لعلي رضي الله عنهما في هذا الفضل لأنها كانت إذ هاجر النبي صلى الله عليه و سلم بنت ثماني سنين وأشهر ولم تولد إلا بعد إسلام أبيها بسنين وعلى ولد وأبوه عابد وثن قبل مبعث النبي صلى الله عليه و سلم بسنين وعبد الله بن عمر أيضا أسلم أبوه وله أربع سنين ولم يعبد قط وثنا فهو شريك لعلي في هذه الفضيلة وقال بعضهم علي كان أسوسهم
قال أبو محمد وهذا باطل لا خفاء به على مؤمن ولا كافر فقد دري القريب والبعيد والعالم والجاهل والمؤمن والكافر من سائر الإسلام إذ كفر من كفر من أهل الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم وإذ عن الجميع للبقية وقبول ما دعت اليه العرب حاشا أبا بكر فهل ثبت أحد ثبات أبي بكر على كلب العدو وشدة الخوف حتى دخلوا في الإسلام أفواجا كما خرجوا منه أفواجا واعطوا الزكاة طائعين وكارهين ولم تهله جموعهم ولا تضافرهم ولا قلة أهل الإسلام حتى أنار الله الإسلام وأظهره ثم هل ناطح كسرى وقيصر على أسرة

ملكها حتى أخضع حدود فارس والروم وصرع جنودهم ونكس راياتهم وظهر الإسلام في أقطار الأرض وذل الكفر وأهله وشبع جائع المسلمين وعز ذليلهم واستغنى فقيرهم وصاروا أخوة لا إختلاف بينهم وقرؤا القرآن وتفقهوا في الدين إلا أبو بكر ثم ثنى عمر ثم ثنى عمر ثم ثلث عثمان ثم لاقدر أي الناس خلاف ذلك كله وافتراق كلمة المؤمنين وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف وشكت بعضهم قلوب بعض بالرماح وقتل بعضهم من بعض عشرات الالوف وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية أو يذعر لهم سرب أو يجاهد منهم أحد حتى ارتجع أهل الكفر كثيرا مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة فأين سياسة من سياسة
قال أبو محمد فإذ قد بطل كل ما ادعاه هؤلاء الجهال ولم يحصلوا إلى على دعاوى ظاهرة الكذب لا دليل على صحة شيء منها وصح بالبرهان كما أوردنا أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى والمسبق المبرز والحظ الأسني في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة فهذه وجوه الفضل كلها فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد ولم يحتج عليهم بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا نصدق أحاديثهم إنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل الكواف فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم يقينا فكيف والنص على خلافته صحيح وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه فوجبت أمامة عمر فرضا بما ذكرنا وبإجماع أهل الإسلام عليهما دون خلاف من أحد قطعا ثم أجمعت الأمة كلها أيضا بلا خلاف من أحد منهم على صحة أمامة عثمان والدينونة بها وأما خلافة علي فحق لا بنص ولا بإجماع لكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه
قال أبو محمد ومن فضائل أبا بكر المشهورة قوله عز و جل إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في أنه خصه بإسم الصحبة له وبأنه ثانية في الغار وأعظم من ذلك كله أن الله معهما وهذا ما لا يلحقه فيه أحد
قال أبو محمد فاعترض في هذا بعض أهل القحة فقال قد قال الله عز و جل إذ قال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا قال وقد حزن أبو بكر فنهاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فلو كان حزنه رضا لله عز و جل لما نهاه رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وهذه مجاهرة بالباطل أما قوله تعالى في الآية لصاحبه وهو يحاوره قد أخبر الله تعالى بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر وبأنهما مختلفان فإنما سماه صاحبه في المحاورة والمجالسة فقط كما قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيبا فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب فليس هكذا قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا بل جعله صاحبه في الدين والهجرة وفي الإخراج وفي الغار وفي نصرة الله لهما أخافة الكفار لهما وفي كونه تعالى معهما فهذه الصحبة غاية الفضل وتلك الأخرى غاية النقص بنص القرآن وأما حزن أبي

بكر رضي ا لله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه و سلم كان غاية الرضا لله لأنه كان اشفاقا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولذلك كان الله معه وهو تعالى لا يكون مع العصاة بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الحزن ولكان ذلك على محمد وموسى رسول الله صلى الله عليه و سلم لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا اذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان عيبا لأن الله عز و جل قال لموسى عليه السلام سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ثم قال تعالى عن السحرة أنهم قالوا لموسى أما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى بل القوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل اليهم من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف أنك أنت الأعلى فهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم وكليمه قد كان أخبره الله عز و جل بأن فرعون وملأه لا يصلون اليه وأن موسى ومن اتبعه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عز و جل اليه لا تخف فهذا أمر أشد من أمر أبي بكر وإذا لزم ما يقول هؤلاء الفساق أبا بكر وحاشا لله أن يلزمه من أن حزنه لو كان لما نهاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لزم أشد منه لموسى عليه السلام وأن إيجاسه الخيفة في نفسه لو كان رضا لله تعالى ما نهاه الله تعالى عنه ومعاذ الله من هذا بل إيجاس موسى الخيفة في نفسه لم يكن إلا نسيان الوعد المتقدم وحزن أبي بكر رضي الله عنه رضا لله تعالى قبل أن ينهي عنه ولم يكن تقدم اليه نهى عن الحزن وأما محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله عز و جل قال ومن كفر فلا يحزنك كفره وقال تعالى ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق وقال تعالى ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا وقال تعالى ولا تذهب نفسك عليهم حسرات وقال تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ووجدناه عز و جل قد قال ولقد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون وقال أيضا في الأنعام فهذا الله تعالى أخبرنا أنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يحزنه الذي يقولون ونهاه الله عز و جل عن ذلك نصا فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي نهاه الله تعالى عنه كالذي أراد في حزن أبي بكر سواء بسواء ونعم أن حزن رسول الله صلى الله عليه و سلم بما كانوا يقولن من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه الله عز و جل وما حزن عليه السلام بعد أن نهاه ربه تعالى عن الحزن كما كان حزن أبي بكر طاعة لله عز و جل قبل أن ينهاه الله عز و جل عن الحزن وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه عليه السلام عن الحزن فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يومئذ لكن نهاه عليه السلام عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه عليه السلام ولا تطع منهم آثما أو كفورا فنهاه عن أن يطيعهم ولم تكن منه طاعة لهم وهذا إنما يعترض به أهل الجهل والسخافة ونعوذ بالله من الضلال
قال أبو محمد واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنه عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ براءة من أبي بكر وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقرأئتها عليهم
قال أبو محمد وهذا من أعظم فضائل أبي بكر لأنه كان أميرا على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه ولا يقفون إلا بوقوفه ولا يصلون إلا بصلاته

وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك وسورة براءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره في أمر الغار وخروجه مع النبي صلى الله عليه و سلم وكون الله تعالى معها فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى وسواه وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد إلا أن ترجع الروافض إلى إنكار القرآن والنقص منه والزيادة فيه فهذا أمر يظهر فيه قحتهم وجهلهم وسخفهم إلى كل عالم وجاهل فإنه لا يمتري كافر ولا مؤمن في أن هذا الذي بين اللوحين من الكتاب هو الذي أتي به محمد صلى الله عليه و سلم وأخبرنا بأنه أوحاه لله تعالى إليه فمن تعرض هذا فقد أقر بعين عدوه
قال أبو محمد وما يعترض إمامة أبي بكر إلا زار 1 على رسول الله صلى الله عليه و سلم راد لأمره في تقديمه أبا بكر إلى الصلاة بأهل الإسلام مريد لإزالته عن مقام إقامة فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد ولسنا من كذبهم في تأويلهم ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وإن المراد بذلك علي رضي الله عنه بل هذا لا يصح لأن الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك
قال أبو محمد فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي صلى الله عليه و سلم بالبراهين المذكورة وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة كقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في أبي بكر دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت وقوله صلى الله عليه و سلم لو كنت متخذا خليلا لأتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وهذا الذي لا يصح غيره وأما أخوة علي فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف ومنها أمره صلى الله عليه و سلم بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر وهذا هو الذي لا يصح غيره ومنها غضبه صلى الله عليه و سلم على من خارج أبا بكر وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة ومنها قوله صلى الله عليه و سلم أن أمن الناس على علي في ماله أبو بكر وعمدتنا في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه و سلم هو قول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سئل من أحب الناس اليك يا رسول الله قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها قيل ثم من يا رسول الله قال عمر
قال أبو محمد فقطعنا بهذا ثم وقفنا ولو زادنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بيانا لزدنا لكنا لا نقول في شيء من الدين إلا بما جاء به النص
قال أبو محمد واختلف الناس فيمن أفضل أعثمان أم علي رضي الله عنهما
قال أبو محمد والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نخطيء من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من علي والله أعلم لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر فكان عثمان أقرأ وكان علي أكثر فتيا ورواية ولعلي أيضا حظ قوي في القراءة ولعثمان أيضا حظ قوي في الفتيا والرواية ولعلي مقامات عظيمة في الجهاد بنفسه ولعثمان مثل ذلك بماله ثم انفرد عثمان بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم بايع ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان وله هجرتان وسابقة قديمة وصهر مكرم محمود ولم يحضر بدرا فألحقه الله عز و جل فيه بأجره التام وسهمه فألحقه

بمن حضرها فهو معدود فيهم ثم كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة لم تكن لعلي وسيرة في الإسلام هادية ولم يتسبب بسفك دم مسلم وجاءت فيه آثار صحاح وأن الملائكة تستحي منه وأنه ومن اتبعه على الحق والذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه و سلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله عليه السلام لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذه صفة واجبة لكل مؤمن وفاضل وعهده علي السلام أن عليا لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقد صح مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه لا يبغضهم من مؤمن بالله وباليوم الآخر وأما من كنت مولاه فعلى مولاه فلا يصح من طريق الثقات أصلا وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها
قال أبو محمد ونقول بفضل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب قطعا إلا أننا لا نقطع بفضل أحد منهم على صاحبه كعثمان بن عفان وعثمان بن مظغون وعلي وجعفر وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وسعد وزيد بن حارثة وأبي عبيدة وبلال وسعيد بن زيد وعمار بن ياسر وأبي سلمة وعبد الله بن جحش وغيرهم من نظرائهم ثم بعد هؤلاء أهل العقبة ثم أهل بدر ثم أهل المشاهد كلها مشهدا مشهدا فأهل كل مشهد أفضل من اهل المشهد الذي بعده حتى بلغ الأمر إلى الحديبية فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإننا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ماتوا على الإيمان والهدى والبر كلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم وكقوله عز و جل لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم
قال أبو محمد فمن أخبرنا الله عز و جل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر ولإخباره عليه السلام أنه لا يدخل النار أحد شهد بدرا ثم تقطع على أن كل من صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم بنية صادقة ولو ساعة فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح وذلك لقول الله عز و جل لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى وقال تعالى وعد الله لا يخلف الله وعده وقال تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون فصح بالضرورة أن كل اتفق قبل الفتح وقاتل فهو مقطوع على غيبه لتفضيل الله تعالى إياهم والله تعالى لا يفضل إلا مؤمنا فاضلا وأما من أتفق بعد الفتح وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف نحن قال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردودا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتي ثم يردون إلى عذاب عظيم
قال أبو محمد فلهذا لم نقطع على كل امريء منهم بعينه لكن نقول كل من لم يكن منههم

من المنافقين فهو من أهل الجنة يقينا لأنه قد وعدهم الله تعالى الحسنى كلهم وأخبر أنه لا يخلف وعده وأن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها ولا يحزنه الفزع الأكبر وهو فيما اشتهى خالد وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد لقد خاب وخسر من رد قول ربه عز و جل أنه رضي عن المبايعين تحت الشجرة وعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وعمار والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة والخوارج والروافض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البريئة منهم خلافا لله عز و جل وعنادا له ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد فهذا قولنا في الصحابة رضي الله عنهم فأما التابعون ومن بعدهم فلا نقطع على غيبهم واحدا واحدا الأمر بأن منه احتمال المشقة في الصبر للدين ورفض الدنيا لغير غرض استعجله إلا أننا لا ندري على ماذا مات وإن بلغنا الغاية في تعظيمهم وتوقيرهم والدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان لهم لكن نتولاهم جملة قطعا ونتولى كل إنسان منهم بظاهره ولا نقطع على أحد منهم بجنة ولا نار لكن نرجو لهم ونخاف عليهم إذ لا نص في إنسان منهم بعينه ولا يحل الإخبار عن الله عز و جل إلا بنص من عنده لكن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم ومعنى هذا الحديث إنما هو كل قرن من هذه القرون التي ذكر عليه السلام أكثر فضلا بالجملة من القرن الذي بعده لا يجوز غير هذا البتة وبرهان ذلك أن قد كان في عصر التابعين من هو أفسق الفاسقين كمسلم بن عقبة المري وحبيش بن دلحة القبني والحجاج بن يوسف الثقفي وقتلة عثمان وقتلة ابن الزبير وقتلة الحسين رضي الله عنهم ولعن قتلتهم ومن بعثهم فمن خالف قولنا في هذا الخبر لزمه أن يقول أن هؤلاء الفساق الأخابث أفضل من كل فاضل في القرن الثالث ومن بعده كسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومسعر بن كدام وشعبة ومنصور بن المعتمر ومالك والأوزاعي والليث وسفيان بن عيينة ووكيع وابن مبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وداود بن علي رضي الله عنهم وهذا ما لا يقوله أحد وما يبعد أن يكون في زماننا وفيمن يأتي بعدنا من هو أفضل رجل من التابعين عند الله عز و جل إذ لم يأت في المنع من ذلك نص ولا دليل أصلا والحديث المأثور في أويس الفرني لا يصح لأن مداره على أسيد بن جابر وليس بالقوي وقد ذكر شعبة أنه سأل عمرو بن مرة وهو كوفي قرني مرادي من أشرف مرادا وأعلمهم عن أويس القرني فلم يعرفه في قومه وأما الصحابة رضي الله عنهم فبخلاف هذا ولا سبيل إلى أن يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وذهب بعض الروافض إلى أن لذوي قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم فضلا بالقرابة فقط واحتج بقوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض وبقوله عز و جل قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي وبقوله تعالى وابعث فيهم رسولا منهم
قال أبو محمد وهذا كله لا حجة فيه أما إخباره تعالى بأنه اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما أما أن يعني كل مؤمن فقد قال ذلك بعض العلماء أو يعني مؤمن أهل بيت إبراهيم وعمر أن لا يجوز غير هذا لأن آزر والد إبراهيم

عليه السلام كان كافرا عدو الله لم يصطفه الله تعالى إلا لدخول النار فإن أراد الوجه الذي ذكرنا لم نمانعه ولا تنازعه في أن موسى وهارون من آل عمران وآل إسماعيل وإسحاق ويوسف ويعقوب من آل إبراهيم مصطفون على العالمين فأي حجة ها هنا لبني هاشم فإن ذكروا الدعاء المأمور به وهو اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى محمد فالقول في هذا كما قلنا ولا فرق وهذا دعاء لكل مؤمن وقد قال تعالى خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم صلي على آل أبي أوفي فهذا هو الدعاء لهم بالصلاة على كل مؤمن ومؤمنة بلا خلاف وكذلك الدعاء في التشهد المفترض في كل صلاة من قول المصطفى السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهذا السلام على كل مؤمن ومؤمنة فاستوى بنو هاشم وغيرهم في إطلاق الدعاء بالصلاة عليهم وبالسلام عليهم ولا فرق وقال تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا الذيه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون فوجبت صلوات الله تعالى على كل مؤمن صابر فاستوى كله بنو هاشم وقريش والعرب والعجم ومن كان جميعهم بهذه الصفة وأيضا فيلزم من احتج بقوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين أن يقول أن من أسلم من الهارونيين من اليهود أفضل من بني هاشم وأشرف وأولى بالتقديم لأنه من آل عمران ومن آل إبراهيم وفيهم ورد النص
قال أبو محمد فصح يقينا أن الله عز و جل إنما أراد بذلك الأنبياء عليهم السلام فقط وبين هذا بيان جليا قول الله عز و جل حاكيا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ومن ذرية إبراهيم عليه السلام الظالمين من ذرية غيره وقال عز و جل أن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا فخص الله تعالى بولاية إبراهيم عليه السلام من اتبع إبراهيم كائنا من كان فدخل في هذا كل مؤمن ومؤمنة ولا فضل وأما قول الله عز و جل قل لا أسألكم عليه أجر إلا المودة في القربى فهذا حق على ظاهره وإنما أراد عليه السلام من قريش أن يودوه لقرابته منهم ولا يختلف أحد من الأمة في أنه عليه السلام لم يرد قط من المسلمين أن يودوا أبا لهب وهو عمه ولا شك في أنه عليه السلام أراد من المسلمين مودة بلال وعمار وصهيب وسليمان وسالم مولى أبي حذيفة وأما قوله عز و جل عن إبراهيم عليه السلام وابعث فيهم رسولا منهم فقد قال عز و جل وإن من أمةإلا خلا فيها نذير وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فاستوت الأمم كلها في هذه الدعوة بأن يبعث فيهم رسولا منهم ممن هم قومه فإن احتج محتج بالحديث الثابت الذي فيه أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بين هاشم فمعناه ظاهر وهو أنه تعالى اختار كونه عليه الصلاة و السلام من بني هاشم وكون بني هاشم من قريش وكون قريش من كنانة وكون كنانة من بني إسماعيل كما اصطفى أن يكون موسى من بني لاوى وأن يكون بنو لاوى من بني إسحاق عليه السلام وكل نبي من عشيرته التي هو منها ولا يجوز غير هذا البتة ونسأل من أراد حمل ها الحديث على غير هذا لمعنى أيدخل أحد من بني هاشم أو من قريش أو من كنانة أو من إسماعيل النار أم لا فإن أنكروا هذا

كفروا وخالفوا الإجماع والقرآن والسنن وقد قال عليه السلام أبي وأبوك في النار وإن أبا طالب في النار وجاء القرآن بأن أبا لهب في النار وسائر كفار قريش في النار كلك قال الله تعالى تبت يد أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب فإذا أقر بأنه قد يدخل الار منهم من يستحق أن يدخلها صحت المساواة بينهم وبين سائر الناس
قال أبو محمد و يكذب الظن الفاسد قول رسول الله صلى الله عليه و سلم يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا وأبين من هذا كله قول الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقوله تعالى لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم وقوله تعالى وأخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وقال تعالى وذكر عاد وثمودا وقوم نوح وقوم لوط ثم قال أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر فصح ضرورة أنه لا ينتفع أحد بقرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من نبي من الأنبياء والرسل عليهم السلام ولو أن النبي ابنه أو أبوه وأمه نبية وقد نص الله تعالى في ابن نوح ووالد إبراهيم وعم محمد على رسل الله الصلاة والسلام ما فيه الكفاية وقد نص الله تعالى على أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا فصح ضرورة أن بلالا وصهيبا والمقداد وعمارا وسالما وسلمان أفضل من العباس وبنيه عبد الله والفضل وقثم وعبيد الله وعقيل بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عن جميعهم بشهادة الله تعالى فإذ هذا لا شك فيه ولا جزاء في الآخرة إلا على عمل ولا ينتفع عند الله تعالى بالأرحام ولا بالولادات وليست الدنيا دار جزاء فلا فرق بين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وحبشي وابن زنجية والكرم والفوز لمن اتقى الله عز و جل حدثنا محمد بن سعيد بن بيان أنبأنا أحمد بن عبد الله البصير حدثنا قاسم بن أصبع حدثنا عبد السلام بن الخثن حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حسان بن قايد العبسي قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كرم الرجل دينه وحسبه وخلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا

الكلام في حرب علي من حاربه من الصحابة رضي الله عنهم
قال أبو محمد اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة أن عليا كان المصيب في حربه وكل من خالفه على خطأ وقال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل وطوائف من المعتزلة أن عليا مصيبا في قتاله مع معاوية وأهل النهر ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل وقالوا احدى الطائفتين مخطئة ولا نعرف أيهما هي وقالت الخوارج علي المصيب في قتاله أهل الجمل وأهل صفين وهو مخطيء في قتاله أهل النهر وذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجمهور الصحابة إلى الوقوف في علي وأهل الجمل وأهل صفين وبه يقول جمهور أهل السنة وأبو بكر بن كيسان وذهب جماعة من الصحابة وخيار التابعين وطوائف ممن بعدهم إلى تصويب محاربي علي من أصحاب الجمل وأصحاب صفين وهم الحاضرون لقتاله في اليومين المذكورين وقد أشار إلى هذا أيضا أبو بكر بن كيسان

قال أبو محمد أما الخوارج فقد أوضحنا خطأهم وخطأ أسلافهم فيما سلف من كتابنا هذا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم على الحكمين فسنتكلم في ذلك إن شاء الله تعالى كما تكلمنا في سائر أحكامهم والحمد له رب العالمين وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناطرته بأكثر من ان نبين له وجه الحق حتى يراه وذكروا أيضا أحاديث في ترك القتال في الإختلاف سنذكر لكم جملتها إن شاء الله تعالى فلم يبق إلا الطائفة المصوبة لعلي في جميع حروبه والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الجمل وأهل صفين
قال أبو محمد احتج من ذهب إلى تصويب محاربي علي يوم الجمل ويوم صفين بأن قال إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما فالطلب بأخذ القود من قاتليه فرض قال عز و جل ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان قالوا ومن آوى الظالمين فهو إما مشارك لهم وإما ضعيف عن أخذ الحق منهم قالوا وكلا الأمرين حجة في إسقاط إمامته على من فعل ذلك ووجوب حربه قالوا وما أنكروا على عثمان إلا أقل من هذا من جواز إنفاذ أشياء بغير علمه فقد ينفذ مثلها سر أو لا يعلمها أحد إلا بعد ظهورها قالوا وحتى لو أن كل ما أنكر على عثمان أن يصح ما حل بذلك قتله بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام لأنهم إنما أنكروا عليه استئثار بشيء يسير من فضلات الأموال لم يجب لأحد بعينه فمنعها وتولية أقاربه فلما شكوا اليه عزلهم وأقام الحد على من استحقه وأنه صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ونفى رسول الله صلى الله عليه و سلم للحكم لم يكن حدا واجبا ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة وأنه ضرب عمارا خمسة أسواط ونفي أبا ذر إلى الربذة وهذا كله لا يبيح الدم قالوا وإيواء على المحدثين أعظم الأحداث من سفك الدم الحرام في حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم لا سيما دم الإمام وصاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أعظم والمنع من إنفاذ الحق عليهم أشد من كل ما ذكرنا بلا شك قالوا وامتناع معاوية من بيعة علي كإمتناع علي من بيعة أبي بكر فما حاربه أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكر أقدر على علي من علي على معاوية ومعاوية في تأخيره عن بيعة علي أعذر وأفسح مقالا من علي في تأخيره عن بيعة أبي بكر لأن عليا لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها أما عليه وأما لا له ولا عليه وما تابعه فيهم إلا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك وأيضا فإن بيعة علي لم تكن على عهد من النبي صلى الله عليه و سلم كما كانت بيعة أبي بكر ولا عن إجماع من الأمة كما كانت بيعة عثمان ولا عن عهد من خليفة واجب الطاعة كما كانت بيعة عمر ولا بسوق بائن 1 في الفضل على غيره لا يختلف فيه أحد ولا عن شورى فالقا عدون عنها بلا شك ومعاوية من جملتهم أعذر من علي في قعوده عن بيعة أبي بكر ستة أشهر حتى رأى البصيرة وراجع الحق عليه في ذلك قالوا فإن قلتم خفي على علي نص رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي بكر قلنا لكم لم يخف عليه بلا شك تقديم رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر إلى الصلاة وأمره عليا بأن يصلي وراءه في جماعة المسلمين فتأخر عن بيعة

أبي بكر سعى منه في حطه عن مكان جعله رسول الله صلى الله عليه و سلم حقا لأبي بكر وسعي منه في فسخ نص رسول الله صلى الله عليه و سلم على تقديمه إلى الصلاة وهذا أشد من رد إنسان نفاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لذنب ثم تاب منه وأيضا فإن عليا قد تاب واعترف بالخطأ لأنه إذا بايع أبا بكر بعد ستة أشهر تأخر فيها عن بيعته لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون مصيبا في تأخره فقد أخطأ إذ بايع أو يكون مصيبا في بيعته فقد أخطأ إذا تأخر عنها قالوا والممتنعون من بيعة علي لم يعترفوا قط بالخطأ على أنفسهم في تأخرهم عن بيعته قالوا فإن كان فعلهم خطأ فهو أخف من الخطأ في تأخر علي عن بيعة أبي بكر وإن كان فعلهم صوابا فقد برئوا من الخطأ جملة قالوا والبون بين طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي خفي جدا فقد كانوا في الشورى معه لا يبدو له فضل تفوق عليهم ولا على واحد منهم وأما البون بين علي وأبي بكر فأبين وأظهر فهم من امتناعهم عن بيعته أعذر لخفاء التفاضل قالوا وهلا فعل علي في قتله عثمان كما فعل بقتله عبد الله بن خباب بن الأرث فإن القصتين استويا في التحريم فالمصيبة في قتل عثمان في الإسلام وعند الله عز و جل وعلى المسلمين أعظم جرما وأوسع خرقا وأشنع إثما وأهول فسقا من المصيبة في قتل عبد الله بن خباب قالوا وفعله في طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجة من تأول على علي أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد
قال أبو محمد هذا كل ما يمكن أن تحتج به هذه الطائفة قد تقصيناه ونحن إن شاء الله تعالى متكلمون على ما ذهبت اليه كل طائفة من هذه الطوائف حتى يلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى وتأييده
قال أبو محمد نبدأ بعون الله عز و جل بإنكار الخوارج للتحكيم
قال أبو محمد قالوا حكم على الرجال في دين الله تعالى والله عز و جل قد حرم ذلك بقوله إن الحكم إلا لله وبقوله تعالى وما أختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله
قال أبو محمد ما حكم علي رضي الله عنه قط رجلا في دين الله وحاشاه من ذلك وإنما حكم كلام الله عز و جل كما افترض الله تعالى عليه وإنما اتفق القوم كلهم إذا رفعت المصاحف على الرماح وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عز و جل في القرآن وهذا وهو الحق الذي لا يحل لأحد غيره لأن الله تعالى يقول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرو رضي الله عنهما ليكون كل واحد منهما مدليا بحجة من قدمه وليكونا متخاصمين عن الطائفتين ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن الذي لا يفهم لغط العسكرين أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم فصح يقينا لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن وهذا الذي لا يجوز غيره ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعرابا قرؤا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمرو ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل ولا أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سلمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم وأنهم أنكروا

ما قام البرهان الذي أوردنا بأنه حق ولو لم يكن من جهلهم لأقرب عهدهم بخبر الأنصار يوم السقيفة وإذعانهم رضي الله عنهم من جميع المهاجرين لوجب الأمر في قريش دون الأنصار وغيرهم وإن عهدهم بذلك قريب منذ خمسة وعشرين عاما وأشهر وجمهورهم أدرك ذلك بسنة وثبت عند جميعهم كثبات أمر النبي صلى الله عليه و سلم ولا فرق لأن الذين نقلوا اليهم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ونقلوا اليهم القرآن والشرائع فدانوا بكل ذلك هم بأعيانهم لا زيادة فيهم ولا نقص نقلوا اليهم خبر السقيفة ورجوع الأنصار إلى أن الأمر لا يكون إلا في قريش وهم يقرؤن قوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى وقوله تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا الآية وقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأنابهم فتحا قريبا ثم أعماهم الشيطان وأضلهم الله تعالى على علم فحلوا بينه مثل علي وأعرضوا عن مثل سعيد بن زيد وسعد وابن عمر وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل وأعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ووعدهم الله الحسنى وتركوا من يقرون بأن الله تعالى عز و جل علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ورضي عنهم وبايعوا الله وتركوا جميع الصحابة وهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد المبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود المثني عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عز و جل الذين غظ الله بهم الكفار المقطوع على أن باطنهم في الخير كظاهرهم لأن الله عز و جل شهد بذلك فلم يبايعوا أحدا منهم وبايعوا شيث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم حتى تداركه الله عز و جل فر عنهم وتبين لهم ضلالتهم فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي وآل علي عقيبة لا سابقة لاه ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط فمن أضل ممن هذه سيرته واختياره ولكن حق لمن كان أحدا يمينه ذو خو يصره الذي بلغه ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله صلى الله عليه و سلم في حكمه والإستدارك ورأى نفسه أورع من رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا وهو يقر أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم اليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ولولاه لكان حمارا أو أضل ونعوذ بالله من الخذلان وأما الطائفة المصوبة للقاعدين فإن من لم يلح له الحق منهم فإنما يكلم حتى يبين له الحق فيلزمه المصير الذيه فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا قبل في إيجاب الإمامة وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض وإذ ذلك كلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإمام فرض واجب وقد ذكرنا وجوب الإئتمام بالإمام فإذ هذا كله كما كرنا فإذ مات عثمان رضي الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام يأتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام فإذا فإذ بادر علي فبايعه واحد من المسلمين فصاعدا فهو إمام قائم ففرض طاعته لا سيما ولم يتقدم ببيعته بيعة ولم ينازعه الإمامة أحد فهذا أوضح وواجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم أمرته للمؤمنين فهو الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى كما لو سبقت بيعة طلحة أو الزبير أو سعد أو سعيدا أو من يستحق الإمامة لكانت أيضا بيعة حق لازمة لعلي ولغيره ولا فرق فعلى مصيب في الدعاء إلى نفسه وإلى

الدخول تحت إمامته وهذا برهان لا محيد عنه وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل لك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه ولا نقضا لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلما وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتله عثمان إلا أن الأراغة والتدبير عليهم فبينوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطا لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شن الحرب وأضر أمه فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الإختلاط فصادف جرحا في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدري رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنصرف ومات من وقته رضي الله عنه وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة فهكذا كان الأمر وكذلك كان قتل عثمان رضي الله عنه إنما حاصره المصريون ومن لف لفهم يديرونه على إسلام مروان اليهم وهو رضي الله عنه يأبى من ذلك ويعلم أنه إن أسلمه قتل دون تثبت فهو على ذلك وجماعات من الصحابة فيهم الحسن والحسين ابنا علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم في نحو سبعمائة من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه وينفلتون إلى القتال فيردعهم تشتا إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم النصارى جاره غيلة فقتلوه ولا خبر من ذلك عند أحد لعن الله من قتله والراضين بقتله فما رضي أحد منهم قط بقتله ولا علموا أنه يراد قتله لأنه لم يأت منه شيء يبيح الدم الحرام وأما قوله من قال أنه رضي الله عنه أقام مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت وإفك موضوع وتوليد من لا حياء في وجهه بل قتل عشية ودفن من ليلته رضي الله عنه شهد دفنه طائفة من الصحابة وهم جبير بن مطعم وأبو الجهم بن حيفة وعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وجماعة غيرهم هذا مما لا يتمادى فيه أحد ممن له علم بالأخبار ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم يرمي أجساد قتلى الكفار من قريش يوم بدر في القليب وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة وهم شر من وارته الأرض فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين فكيف يجوز لذلك حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلا ميتا ملقى بين أظهرهم على مزبلة لا يوارونه ولا نبالي مؤمنا كان أو كافرا ولكن الله يأبى إلا أن يفضح الكذابين بألسنتهم ولو فعل هذا علي لكانت جرحه لأنه لا يخلوا أن يكون عثمان كافرا أو فاسقا أو مؤمنا فإن كان كافرا أو فاسقا عنده فقد كان فرضا على علي أن يفسخ أحكامه في المسلمين فإذا لم يفعل فقد صح أنه كان مؤمنا عنده فكيف يجوز ان ينسب ذو حياء إلى علي أنه ترك مؤمنا مطروحا ميتا على مزبلة لا يأمر بموارته

أم كيف يجوز أن يظنه به أنه أنفذ أحكام كافر أو فاسق على أهل الإسلام ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة
قال أبو محمد ومن البرهان على صحة ما قلناه أن من الجهل الفاضح أن يظن ظان أن عليا رضي الله عنه بلغ من ا لتناقض في أحكامه وإتباع الهوى في دينه والجهل أن يترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت بن حسان ورافع بن خديج ومحمد بن مسلمة وكعب بن مالك وسائر الصحابة الذين لم يبايعوه فلا يجهزهم عليا وهم معه في المدينة وغيرها نعم والخوارج وهو يصيحون في نواحي المسجد بأعلى أصواتهم بحضرته وهو على المنبر في مسجد الكوفة لا حكم إلا الله لا حكم إلا الله فيقول لهم رضي الله عنه لكم علينا ثلاث لا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم حقكم من الفيء ولا نبدوكم بقتال أو لم يبدأ بحرب حتى قتلوا عبد الله بن خباب ثم لم يقاتلهم بعد ذلك حتى دعاهم إلى أن يسلموا الذيه قتلة عبد الله بن خباب فلما قالوا كلنا قتله قاتلهم حينئذ ثم يظن به مع هذا كله أنه يقاتل أهل الجهل لإمتناعهم من بيعته هذا إفك وجنون مختلق بحت بلا شك
قال أبو محمد وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لإمتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لإمتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلى المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي وإستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم ابن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وعبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له كبر كبر وروى الكبر الكبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود وهما أبنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الإجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لهم أجرا واحدا وللمصيب أجرين ولا عجب أعجب ممن يجيز الإجتهاد في الدماء وفي الفروج والأنساب والأموال والشرائع التي يدان الله بها من تحريم و إيجاب ويعذر المخطئين في ذلك ويرى لك مباحا لليث والبتي أبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وداود وإسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزني وغيرهم فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل أو عمل عمل قوم لوط وغير هذا كثير وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكرا نكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها وغير هذا كثير وكذلك في الشرائع والأوامر والأنساب وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم والإجتهاد كمعاوية وعمروا ومن معهما من الصحابة رضي الله عنه وإنما اجتهد في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون وفي المفتين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى

قتل الحر بالعبد وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر وفيهم من لا يراه فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا الجهل والعمى والتخليط بغير علم وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فانه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله ولا بمحب له فبالمقابل هو مأجور لإجهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عه وصحة أمانته وانه صاحب الحق وان له اجرين اجر الاجتهاد واجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا وأيضا في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه أخبر عن مارقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولى الطائفتين بالحق فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج من أصحاب علي و أصحاب معاوية فقتلهم علي وأصحابه فصح انهم أولى الطائفتين بالحق وأيضا الخبر الصحيح من رسول الله صلى الله عليه و سلم تقتل عمارا الفئة الباغية
قال أبو محمد المجتهد المخطئ إذا قاتل على ما يرى انه الحق قاصدا إلى الله تعالى نيته غير عالم بأنه مخطئ فهو باعثه وان كان مأجور أو لا حد عليه إذا ترك القاتل ولا قود وأما إذا قاتل وهو يدري انه مخطئ فهذا المحارب تلزمه المحاربة والقود وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطئ وبيان ذلك قول الله تعالى وان طائفتان من المؤمنين اقتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله إلى قوله إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية وقد سماهم الله عز و جل مؤمنين باغين بعضهم اخوة بعض في حين تقاتلهم وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم ولم يصفهم عز و جل بفسق من اجل ذلك التقاتل ولا ينقص إيمان وإنما هم مخطئون باغون ولا يريد واحدا منهم قتل آخر وعمر رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار ابن سبع السلمي شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وانزل السكينة عليه ورضي عنه فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجرا واحدا وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنى بعد إحسان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل بل هم فساق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم فساق ملعون
قال أبو محمد فإذ قد بطل هذا الأمر وصح أن عليا هو صاحب الحق فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هو بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو وهكذا نقول فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن وكذلك ان كانتا معا باغيتين فقتالهما واجب لان كلام الله عز و جل لا يعارض كلام نبيه صلى الله عليه و سلم لأنه كله من عند الله عز و جل قال الله عز و جل وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وقال عز و جل ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فصح يقينا إن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو وحي من عند الله عز و جل وإذ هو كذلك فليس شئ مما عند الله تعالى مختلفا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه

قال أبو محمد فنقول وبالله التوفيق إما قولهم أن اخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه المحار بين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم الساعين في الأرض بالفساد والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والأمانة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة فنعم وما خالفهم قط على في ذلك ولا في البراءة منهم ولكنهم كانوا عددا ضخما جمالا طاقه له عليهم فقد سقط عن علي رضي الله عنه مالا يستطيع عليه كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ولو أن معاوية بايع عليا لقوى به على احذ الحق من قتلة عثمان فصح أن الاختلاف هو الذي اضعف يد علي عن إنقاذ الحق عليهم ولولا ذلك لأنقذ الحق عليهم كما أنقذه علي قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته وإما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبى بكر فليس في الخطأ أسوة وعلى استقال ورجع وبايع بعد يسير فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من اجل الفرقة وأما تقارب ما بين علي وطلحه والزبير وسعد فنعم ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق والخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عز و جل سواء كان هنالك من هو مثله أو افضل كما سبقت بيعة عثمان فوجبت طاعته وإمامته علي غيره ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي أو طلحه أو الزبير أو عبد الرحمن أو سعد لكان الإمام وللزمت عثمان طاعته ولا فرق فصح إن عليا هو صاحب الحق والإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين و أوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع إذ استبان له وربما لم يستبن له حق يموت عليه وما توفيقنا إلا بالله عز و جل وهو المسئول العصمة والهداية لا اله إلا هو
قال أبو محمد نطلب على حقه نقاتل عليه وقد كان تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما فكأن له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قال ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به طائفتين عظيمتين من أمتي فغبطه رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء ولا لوم عليه بل هو مصيب في ذلك وبالله تعالى التوفيق

الكلام في أمامه المفضول
قال أبو محمد ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب ألبا فلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى انه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس افضل منه وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من الممتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره افضل منه
قال أبو محمد وأما الرافضة فقالوا أن الإمام واجد معروف بعينه في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم الذي قد تقدم إفسادنا لها والحمد لله رب العالمين وما نعلم لمن قال أن الإمام لا تجوز إلا لأفضل من يوجد حجه أصلا لا من قرآن ولا من سنه ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح وقد قال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة قد رضيت لكم أحدا هذين الرجلين يعني أبا عبيده وعمر وأبو

بكر أفضل منهما بلا شك فما قال أحد من المسلمين أنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفي المسلمين عدد كثير كلهم أفضل منه بلا شك فصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضي الله عنهم على جواز إمامة المفضول ثم عبدهم عمر رضي الله عنه إلى ستة رجال ولا بد أن لبعضهم على بعض فضلا وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته وفي هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول ثم مات علي رضي الله عنه فهو فبويع الحسن ثم سلم الأمر إلى معوية وفي بقايا الصحابة من هو افضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل بيقين لا شك فيه إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإجماع بآرائهم الفاسدة بلا دليل ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد والعجب كله كيف يجتمع قول الباقلاني أنه لا تجوز الإمامة لمن غيره من الناس أفضل منه وهو قد جوز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه فإنه صرح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمناني الاعمى قاضي الموصل بأنه جائز أن يكون في الإمامة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم من حيث بعث إلى أن مات
قال أبو محمد ما في خذلان الله عز و جل أحق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترننا والحمد لله على الإسلام فإن قال قائل كيف يحتجون هنا بقول الأنصار رضي الله عنهم في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكيف تحتجون في هذا أيضا بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذين وخلافه أبي بكر عندكم نص من رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن أين له أن يترك ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا وبالله تعالى التوفيق أن فعل الأنصار رضي الله عنهم انتظم حكمين أحدهما تقديم من ليس قرشيا وهذا خطأ وقد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية والثاني جواز تقديم من غيره أفضل منه وهذا صواب وأفقهم عليه أبو بكر وغيره فصاروا جماعا فقامت به الحجة وليس خطأ من أخطأ وخالفه في قول وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب أن لا يحتج بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق وهذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق وأما أمر أبي بكر فإن الحق كان له بالنص وللمرء أن يترك حقه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين منزلة صبرها رسول الله صلى الله عليه و سلم لإنسان فكان له أن يتحافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وبرهان صحة قول من قال بأن الأمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلا بنص إو إجماع أو معجزة تظهر فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف وكذلك الإجماع وكذلك النص وبرهان آخر وهو أن الذي كلفوا به من معرفة الأفضل ممتنع حال لن قريشا مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن وصحارى البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد فمعرفة أسمائهم ممتنع فكيف معرفة أحوالهم فكيف معرفة أفضلهم وبرهان آخر وهو أنا بالحس والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن

بعد الصحابة رضي الله عنهم إلا بالظن والحكم بالظن لا يحل قال الله تعالى ذاما لقوم إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستبقين وقال تعالى ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرسون وقال تعالى قتل الخراصون وقال تعالى إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى وقال تعالى إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وأيضا فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل فيكون الواحد أزهد ويكون الواحد أورع ويكون الآخر أسوس ويكون الرابع أشجع ويكون الخامس أعلم وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم فبطل معرفة الأفضل وصح أن هذا القول فاسد وتكليف ما لا يطاق وإلزام ما لا يستطاع وهذا باطل لا يحل والحمد لله رب العالمين ثم قد وجدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قلد النواحي وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى وخالد بن الوليد وعلى عمان عمرو بن العاص وعلى نجران أبا سفيان وعلى مكة عتاب ابن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي ولا خلاف في أن أبا بكر وعمرو وعثمان وعلي وطلحة والزبير بن عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة وابن مسعود و بلال وأبا ذر أفضل ممن ذكرنا فصح يقينا أن الصفات التي يستحق بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدم في الفضل وأيضا فإن الفضائل كثيرة جدا منها الورع والزهد والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة والصبر والصرامة وغير ذلك ولا يوجد أحد يبين في جميعها بل يكون بائنا في بعضها ومتأخرا في بعضها ففي أيها يراعى الفضل من لا يجيز إمامة المفضول فإن اقتصر على بعضها كان مدعيا بلا دليل وإن عم جميعها كلف من لا سبيل إلى وجوده أبدا في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذ لا شك في ذلك فقد صح القول في إمامة المفضول وبطل قول من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وذكر الباقلاني في شروط الإمامة أنها أحد عشر شرطا وهذا أيضا دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه فوجدناها أن يكون صليبة من قريش لإخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الإمامة فيهم وأن يكون بالغا مميزا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق وأن يكون رجلا لقول رسول ا لله صلى الله عليه و سلم لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة وأن يكون مسلما لأن الله تعالى يقول ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا والخلافة أعظم السبيل ولأمره تعالى بإصغار أهل الكتاب وأخذهم بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا وأن يكون متقدما لأمره عالما بما يلزمه من فرائض الدين متقيا لله تعالى بالجملة غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان لأن من قدم من لا يتقي الله عز و جل ولا في شيء من الأشياء معلنا بالفساد في الأرض غير مأمون أو من لا ينفذ أمرا من لا يدري شيئا من دينه فقد أعان على الإثم والعدوان ولم يعن على البر والتقوى وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو ورد وقال عليه السلام يا أبا ذر إنك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقال تعالى

فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا الآية فصح أن السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلا بد له من ولي ومن لا بد له من ولي فلا يجوز أن يكون وليا للمسلمين فصح أن ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلا ثم يستحب أن يكون عالما بما يخصه أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام مؤديا لفرائض كلها لا يخل بشيء منها مجتنبا لجميع الكبائر سرا وجهرا مستترا بالصغائر إن كانت منه فهذه أربع صفات يكره المرء أن يلي الأمة من لم ينتظمها فإن ولى فولايته صحيحة ونكرهها وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب والغاية المأهولة فيه أن يكون رفيقا بالناس في غير ضعف شديدا في إنكار المنكر من غير عف ولا تجاوز للواجب مستيقظا غير غافل شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ولا مبذر لبه في غير حقه ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائما بأحكام القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا يجمع كل فضيلة
قال أبو محمد ولا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والذي لا يدان له ولا رجلان ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام ومن يعرض له الصرع ثم يفيق ومن بويع أثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلا بل قال تعالى كونوا قوامين بالقسط فمن قام بالقسط فقد أدى ما أمر به ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة وبالله تعالى نتأيد

الكلام في عقد الأمامة بماذا تصح
قال أبو محمد ذهب قوم إلى أن الأمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد وذهب آخرون إلى أن الأمامة أنما تصح بعقد أهل حضرة الإمام والموضع الذي فيه قرار الأئمة وذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي إلى أن الإمام لا تصح بأقل من عقد خمس رجال ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوي وقد ذكر في فساد قول الروافض وقول الكيسانية ومن ادعى إمامة رجل بعينه وأنبأ أن كل ذلك دعا ولا يعجز عنها ذو لسان إذا لم يتق الله ولا استحياء من الناس إذ لا دليل على شيء منها
قال أبو محمد أما من قال أن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع وما هو أعظم الحرج والله تعالى لا يكلف نفسا وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج
قال أبو محمد ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة إلى بلاد مهرة إلى عدن إلى أقاصي المصامدة بل طنجة إلى الأشبونة إلى جزائر البحر إلى سواحل الشام إلى أرمينية وجبل القبج إلى اسينجاب وفرغانة وأسروسنة إلى أقاصي خراسان إلى الجوز جان إلى كابل المولتان فما بين ذلك من المدن والقرى ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد فبطل هذا القول الفاسد مع أنه لو كان ممكنا لما لزم لأنه دعوى بلا برهان وإنما قال تعالى تعاونوا على البر

والتقوى وكونوا قوامين بالقسط فهذان الأمران متوجهان أحدهما إلى كل إنسان في ذاته ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك وأما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصعدا لأن التعاون فعل من فاعلين وليس فعل واحد ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البر والتقوى انتظار ثالث إذ لو كان ذلك لما لزم أحدا قيام بقسط ولا تعاون على بر وتقوى إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبدا لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عن ذلك لعذر أو على وجه المعصية ولو كان هذا لكان أمر الله تعالى بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلا فارغا وهذا خروج عن الإسلام فسقط القول المذكور وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة فإن أهل الشام كانوا قد دعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام
قال أبو محمد وهو قول فاسد لا حجة لأهله وكل قول في الدين عري عن ذلك من القرآن أو من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين قال الله تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقا فيه فسقط هذا القول أيضا وأما القول الجبائي فإنه تعلق فيه بفعل عمر رضي الله عنه في الشورى إذ قلدها ستة رجال وأمرهم أن يختاروا واحدا منهم فصار الإختيار منهم بخمسة فقط
قال أبو محمد وهذا ليس بشيء لوجوه أولها أن عمر لم يقل أن تقليد الإختيار أقل من خمسة لا يجوز بل قد جاء عنه أنه قال أن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف فقد أجاز عقد ثلاثة ووجه ثان وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم والثالث أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرؤا من الإختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلا للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بواحد فإن قال قائل إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه قيل له أن كان هذا عندك اعتراضا فالتزم مثله سواء بسواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك ولولا ذلك لم يجز عقدهم وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الإختيار منهم لا من غيرهم لما لزم الإنقياد لهم فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم وهذا مما لا مخلص منه أصلا فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها قالوا أجب النظر في ذلك على ما أجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز و جل إذ يقول وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم الآخر فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره أما بعد موته

وساء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من إتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الإختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع
قال أبو محمد إنما أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته والوجه الثاني أن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعو إلى نفسه ولا منازع له ففرض اتباعه والإنقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته كما فعل علي إذ قتل عثمان رضي الله عنهما وكما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما وقد فعل خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فأخذ خالد الراية عن غيره أمره وصوب ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ بلغه فعلة وساعد خالدا جميع المسلمين رضي الله عنهم وأن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ولا يجوز التأخر عنه لأن ذلك معاونة على الإثم والعدوان وقد قال عز و جل وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان كما فعل يزيد بن الوليد ومحمد بن هارون المهدي رحمهم الله والوجه الثالث أن يصير الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر رضي الله عنه عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ولا يجوز التردد في الإختيار أكثر من ثلاث ليال للثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من قوله من بات ليلة ليس في عنقه بيعة ولأن المسلمين لم يجتمعوا على ذلك أكثر من ذلك والزيادة على ذلك باطل لا يحل على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر رضي الله عنه قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لازمة لأحد أولئك الستة بلا شك فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة فبأحد هذه الوجوه تصح الإمامة ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة
قال أبو محمد فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده فالحق حق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم قوا بيعة الأول فالأول من جاء ينازعه فأضربوا عنقه كائنا من كان فلو قام اثنان فصاعدا معا في وقت واحد ويئس من معرفة أيهما بيعته نظر أفضلهما وأسوسهما فالحق له ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومن البر تقليد الأسوس وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها فإن استويا في الفضل قدم الأسوس نعم وإن كان أقل فضلا إذا كان مؤديا للفرائض والسنن مجتنبا للكبائر ومستترا بالصغائر لأن الغرض من الإمامة حسن السياسة والقوة على القيام بالأمور فإن استويا في الفضل والسياسة أقرع بينهما أو نظر في غيرهما والله عز و جل لا يضيق على عباده هذا الضيق ولا يوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وهذا أعظم الحرج وبالله تعالى التوفيق

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال أبو محمد أتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بدأ وباللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلا وهو قول أبي بكر ابن كيسان الأصم وبه قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلا فإن كان عدلا وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل وقد روينا عن ابن عمرانة قال لا أدري من هي الفئة الباغية ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها
قال أبو محمد وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعد وحنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن السخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز ابن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر ومن أخرج مع إبراهيم بن عبد الله وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حيي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث أما ناطق بذلك في فتواه وأما الفاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رآه منكرا
قال أبو محمد احتجت الطائفة المذكورة أولا بأحاديث فيها أنقاتلهم يا رسول الله قال لا ما وصلوا وفي بعضها إلا أن نر كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان وفي بعضها وجوب

الضرب وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله وفي بعضها فإن خشيت أن يسهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وفي بعضها كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وبقوله تعالى وأتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر الآية
قال أبو محمد كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي خبرا خبرا بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بالإتصال إلى فهم معرفة الخصال ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملا كافية وبالله تعالى نتأيد أما أمره صلى الله عليه و سلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى وأما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصبر على ذلك برهان هذا قول الله عز و جل وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله عز و جل وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي وقال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فصح أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو وحي من عند الله عز و جل ولا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين فالمسلم ماله للآخذ ظلما وظهره للضرب ظلما وهو يقدر على الإمتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابني آدم فلا حجة في شيء منها أما قصة ابني آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا قال الله عز و جل لكل جعالنا منكم شرعة ومنهاجا وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان شيء وصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وأنه عليه السلام قال من قتل دون ماله فهو شهيد والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد وقال عليه السلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده فكان ظاهر هذه الأخبار معارضا للآخر فصح أن احدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ولما كانت الحال فيه في أول الإسلام بلا شك وكانت هذه الأحاديث الأخر واردة بشريعة زائدة وهي القتال هذا ما لا شك فيه فقد صح نسخ معتن تلك الحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه السلام بهذه الأخر بلا شك فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين ومن ادعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادعى الباطل وقفا ما لا علم له به فقال على الله ما لم يعلم وهذا

لا يحل ولو كان هذا لما أخلا الله عز و جل هذا الحكم عن دليل وبرهان يبين به رجوع المنسوخ ناسخا لقوله تعالى في القرآن تبيانا لكل شيء وبرهان أخر وهو أن الله عز و جل قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحدهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقا لهذه الآية فهو الناسخ الثابت وما كان مخالفا لها فهو المنسوخ المرفوع وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان
قال أبو محمد وهذا باطل متيقن لأنه قول بلا برهان وما يعجز مدع أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم وفي زمان دون زمان والدعوى دون برهان لا تصح وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن سائلا سأله عن من طلب ماله بغير حق فقال عليه السلام لا تعطه قال فإن قاتلني قال قاتله فإن قتله قال إلى النار قال فإن قتلني قال فأنت في الجنة أو كلاما هذا معناه وصح عنه عليه السلام أنه قال المسلم أخو المسلم لا يسلبه ولا يظلمه وقد صح أنه عليه السلام قال في الزكاة من سألها على وجهها فليعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا يبطل تأويل من تأويل أحاديث القتال عن المال على اللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبه السلطان فاقتصر عليه السلام معها إذا سألها على غير ما أمر به عليه السلام ولو اجتمع أهل الحق ما قاواهم أهل الباطل نسأل الله المعونة والتوفيق
قال أبو محمد وما اعترضوا به من فعل عثمان فما علم قط أنه يقتل وإنما كان يراهم يحاصرون فقط وهو لا يرون هذا اليوم للإمام العدل بل يرون القتال معه ودونه فرضا فلا حجة لهم في أمر عثمان رضي الله عنه وقال بعضهم أن في القيام إباحة الحريم وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الأستار وانتشار الأمر فقال لهم الآخرون كلا لأنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يهتك حريما ولا أن يأخذ مالا بغير حق ولا أن يتعرض لمن لا يقاتله فإن فعل شيئا من هذا فهو الذي فعل ما ينبغي أن يغير عليه واما قتله أهل المنكر قالوا أو كثروا فهذا فرض عليه وأما قتل أهل المنكر الناس وأخذهم أموالهم وهتكهم حريمهم كله من المنكر الذي يلزم الناس تغييره وأيضا فلو كان خوف ما ذكروا مانعا من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف لكان هذا بعينه مانعا من جهاد أهل الحرب وهذا مالا يقوله مسلم وإن ادعى ذلك إلى سبي النصارى نساء المؤمنين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود هذا كله ولا فرق بين الأمرين وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة
قال أبو محمد ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلنا به لا يدع الصلاة فإن قالوا لا يجوز القيام عليه بل قيل لهم أنه لا يدع مسلما إلا قتله جمله وهذا إن ترك أوجب ضرورة إلا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه فإن أجازوا الصبر

على هذا خالفوا الاسلام جملة وانسلخوا منه وان قالوا بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم قلنا لهم فان قتل تسعة اعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحد منهم وسبى من نسائهم كذلك واخذ من اموالهم كذلك فان منعوا من القيام عليه تناقضوا وان اوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحيطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحدا او على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك بشرة بظلم فان فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا مالا يجوز وان أوجبوا انكار كل ذلك رجعوا إلى الحق ونسالهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من اسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من اراد ذلك منهم فان قالوا فرض عليه اسلام نفسه واهله اتوا بعظيمة لا يقولها مسلم وان قالوا بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك
قال أبو محمد والواجب أن وقع شيء من الجور وان قل ان يكلم الامام في ذلك ويمنع منه فان امتنع وراجع الحق واذعن للقود من البشرة أو من الاعضاء ولاقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو أمام كما كان لا يحل خلعه فان امتنع من انفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه واقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع وبالله تعالى التوفيق
الكلام في الصلاة خلف الفاسق
والجهاد معه والحج ودفع الزكاة إليه ونفاذ احكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك قال أبو محمد ذهبت طائفة الى أنه لا يجوز الصلاة إلا خلف الفاضل وهو قول الخوارج والزيدية والروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة وقال آخرون الا الجمعة والعيدين وهو قول بعض أهل السنة وذهب طائفة الصحابة كلهم دون خلاف من احد منهم وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من احد منهم واكثر من بعدهم وجمهور اصحاب الحديث وهو قول احمد والشافعي وأبي حنيفة وداود وغيرهم الى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها وبهذا نقول وخلاف هذا القول بدعة محدثة فما تاخر قط أحد من الصحابة الذين ادركوا المختار بن عبيد والحجاج وعبيد الله بن زياد وحبيش بن دلجة وغيرهم عن الصلاة خلفهم وهؤلاء افسق الفساق واما المختار فكان متهما في دينه مظنونا به الكفر
قال أبو محمد احتج من يقول بمنع الصلاة خلفهم بقول الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين قال أبو محمد فيقال لهم كل فاسق اذا نوى بصلاته رحمه الله تعالى فهو في ذلك من المتقين فصلاته متقبلة ولو لم يكن من المتيقن الا من لا ذنب له ماستحق احد هذا الاسم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله عز و جل ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولايجوز القطع على الفاسق بانه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى ومن قطع بهذا فقد قفا ما لا علم له به وقال مالا يعلم وهذا حرام وقال تعالى ولا تقف ما ليس بك به علم وقال عز و جل وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم وقال بعضهم ان صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الامام
قال أبو محمد وهذا غاية الفساد لانه قول بلا دليل بل البرهان يبطله لقوله تعالى ولا

تكسب كل نفس إلا عليها وقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى ودعوى الارتباط هاهنا قول بلا برهان لامن قرآن ولا من سنة ولا من اجماع ولا من معقول وهم قد أجمعوا على أن طهارة الامام لا تنوب عن طهارة المأموم ولا قيامه ولا قعوده عن قعوده ولا سجوده عن سجوده ولا ركوعه عن ركوعه ولا نيته عن نيته فما معنى هذا الارتباط الذي تدعونه اذا وأيضا فان القطع عن سريرة الذي ظاهره الفضل لا يجوز وانما هو ظن فاستوى الأمر في ذلك في الفاضل والفاسق وصح انه لا يصلي احد عن احد وان كان احد يصلي عن نفسه وقال تعالى أجيبوا داعي الله فوجب بذلك ضرورة ان كل داع دعا الى خير من صلاة أو حج أو جهاد أو تعاون على بر وتقوى ففرض اجابته وعمل ذلك الخير معه لقول الله تعالى تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وان كل داع دعى الى شر فلا يجوز اجابته بل فرض دفاعه ومنعه وبالله تعالى نتأيد
قال أبو محمد وايضا فان الفسق منزلة نقص عمن هو أفضل منه والذي لا شك فيه أن النسبة بين أفجر فاجر من المسلمين وبين أفضل الصحابة رضي الله عنهم أقرب من النسبة بين افضل الصحابة رضي الله عنهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم وما عرى أحد من تعمد ذنب وتقصير بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وانما تفاضل المسلمون في كثرة الذنوب وقلتها وفي اجتناب الكبائر ومواقعتها واما الصغائر فما نجاأحد بعد الأنبياء عليهم السلام وقد صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم خلف أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وبهذا صح ان أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله فان استووا فافقههم ندب لا فرض فليس لفاضل بعد هذا أن يمتنع من الصلاة خلف من هو دونه في القصوى من الغايات
قال أبو محمد وأما دفع الزكاة الى الامام فان كان الامام القرشي الفاضل أو الفاسق لم ينازعه فاضل فهي جارية لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ارضوا مصدقيكم ولا يكون مصدقا كل من سمى نفسه مصدقا لكن من قام البرهان بانه مصدق بارسال الامام الواجبة طاعته له واما من سألها من هو غير الامام المذكور أو غير مصدقه فهو عابر سبيل لا حق في قبضها فلا يجزي دفعها إليه لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها اليه وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد وهكذا القول في الاحكام كلها من الحدود وغيرها ان اقامها الامام الواجبة طاعته والذي لا بد منه فان وافقت القرآن والسنة نفذت والا فهي مردودة لما ذكرنا وان اقامها غير الامام أوواليه فهي كلها مردودة ولا يحتسب بها لانه اقامها من لم يؤمر باقامتها فان لم يقدر عليها الامام فكل من قام بشيء من الحق حينئذ نفذ لامر الله تعالى لنا بان نكون قوامين بالقسط ولا خلاف بين أحد من الأمة اذا كان الامام حاضرا متمكنا أو أميره أو واليه فان من بادر الى تنفيذ حكم هو إلى الامام فانه اما مظلمة ترد واما عزل لا ينفذ علي هذا جرى عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم جميع عماله في البلاد بنقل جميع المسلمين عصرا بعد عصر ثم عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم واما الجهاد فهو واجب مع كل امام وكل متغلب وكل باغ وكل محارب من المسلمين لانه تعاون علىالبر والتقوى وفرض على كل أحد دعا الى الله تعالى والى دين الاسلام ومنع المسلمين ممن ارادهم قال تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد

الآية فهذا عموم لكل مسلم بنص الآية في كل مكان وكل زمان وبالله تعالى التوفيق ثم كتاب الامامةوالمفاضلة بحمد الله تعالى وشكره
ذكر العظائم المخرجة الى الكفر
والمحال من أقوال أهل البدع المعتزلة والخوارج والمرجئة والشيع
قال أبو محمد قد كتبنا في ديواننا هذا من فضائح الملل المخالفة لدين الاسلام الذي في كتبهم من اليهود والنصارى والمجوس مالا بقية لهم بعدها ولا يمترى أحد وقف عليها انهم في ضلال وباطل ونكتب ان شاء الله تعالى على هذه الفرق الاربع من فواحش أقوالهم ما لا يخفى على أحد قرأه انهم في ضلال وباطل ليكون ذلك زاجرا لمن أراد الله توفيقه عن مضامتهم واما التمادي فيهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وليعلم من قرأ كتابنا هذا اننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد مالم يقله نصا وان آل قوله اليه اذ قد لا يلزم ما ينتجه قوله فيتناقض فاعلموا ان تقويل القائل كافرا كان أو مبتدعا أو مخطئا مالا يقوله نصا كذب عليه ولا يحل الكذب على أحد لكن ربما دلسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ليسهلوه على أهل الجهل ويحسن النظر بهم من اتباعهم وليبعد فهم تلك العظيمة على العامة من مخالفتهم كقول طوائف من أهل البدعة والضلالة لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال ولا على الظلم ولا على الكذب ولاعلى غير ما علم انه يكون فاخفوا أعظم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تانيس الاغمار من اتباعهم وتسكين الدهماء من مخالفيهم فرارا عن كشف معتقدهم صراحا الذي هو انه تعالى لا يقدر على الظلم ولا له قوة على الكذب ولا به طاقة على المحال ولا بد لنا من ايضاح ما موهوه هكذا وايراده باظهر عباراته كشفا لتمويهم تقربا الى الله تعالى بهتك أستارهم كشف أسرارهم وحسبنا الله ونعم الوكيل
ذكر شنع الشيعة
قال أب و محمد اهل الشنع من هذه الفرقة ثلاث طوائف أولها الجارودية من الزيدية ثم الامامية من الرافضة ثم الغالية فأما الجارودية فان طائفة منهم قالت ان محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن علي بن أبي طالب القائم بالمدينة على أبي جعفر المنصور فوجه اليه المنصور عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فقتل محمد بن عبد الله بن الحسن رحمه الله فقالت هذه الطائفة ان محمد المذكور حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وقالت طائفة أخرى منهم أنه يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القائم بالكوفة أيام المستعين فوجه اليه محمد بن عبد الله بن طاهر ابن الحسين بامر المستعين ابن عمة الحسن بن اسماعيل ابن الحسين وهو ابن أخي طاهر بن الحسين فقتل يحيىبن عمر رحمه الله فقالت الطائفة المذكورة ان يحيى بن عمر هذا حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأالأرض عدلا كما ملئت جورا وقالت طائفة منهم ان محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القائم بالطالقان ايام المعتصم حي لم يمت ولا قتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وقالت الكيسانية وهم اصحاب المختار بن أبي عبيد وهم عندنا شيعة من الزيدية في سبيلهم ان محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية حي بجبال رضوى عن يمينه اسد وعن يساره نمر تحدثه الملائكة يأتيه رزقه غدوا وعشيا لم يمت ولا يموت حتى يملأ

الأرض عدلا كما ملئت جورا وقال بعض الروافض الامامية وهي الفرقة التي تدعى الممطورة ان موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يملأالأرض عدلا كما ملئت جورا وقالت طائفة منهم وهم الناووسية اصحاب ناوس المصري مثل ذلك في أبيه جعفر بن محمد وقالت طائفة منهم مثل ذلك في اخيه اسماعيل بن جعفر وقالت السباية اصحاب عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي مثل ذلك في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزادوا انه في السحاب فليت شعري في اي سحابة هو من السحاب والسحاب كثير في اقطار الهواء مسخر بين السماء والأرض كما قال الله تعالى وقال عبد الله ابن سبا إذ بلغه قتل علي رضي الله عنه لو اتيتمونا بدماغه سبعين مرة ما صدقنا موته ولا يموت حتى يملأ الارض عدلا كما ملئت جورا وقال بعض الكيسانية بان ابا مسلم السراج حي لم يمت وسيظهر ولا بد وقال بعض الكيسانية بانه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حي بجبال أصبهان الى اليوم ولا بد له من ان يظهر وعبد الله هذا هو القائم بفارس ايام مروان بن محمد وقتله ابو مسلم بعد ان سجنه دهرا وكان عبد الله هذا ردي الدين معطلا مستصحبا للدهرية
قال أبو محمد فصار هؤلاءفي سبيل اليهود القائلين بأن ملكصيدق بن عامر بن ارفخشد بن سام ابن نوح والعبد الذي وجهه ابراهيم عليه السلام ليخطب ريقا بنت بنؤال بن ناخور بن تارخ على اسحاق ابنه عليه السلام والياس عليه السلام وفنحاس بن العازار بن هارون عليه السلام احياء الى اليوم وسلك هذا السبيل بعض تركي الصوفية فزعموا أن الخضر والياس عليهما السلام حيان الى اليوم وادعى بعضهم انه يلقى الياس في الفلوات والخضر في المروج والرياض وانه متى ذكر حضر على ذكراه
قال أبو محمد فان ذكر في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وفي الف موضع في دقيقة واحدة كيف يصنع ولقد لقينا من يذهب الى هذا خلقا وكلمناهم منهم المعروف بابن شق الليل المحدث بطلبيره وهو مع ذلك من أهل العناية وسعة الرواية ومنهم محمد بن عبد الله الكاتب واخبرني انه جالس الخضر وكلمه مرارا او غيره كثير هذا مع سماعهم قول الله تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نبي بعدي فكيف يستجيزه مسلم ان يثبت بعده عليه السلام نبيا في الارض حاشا ما استثناه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الآثار المسندة الثابتة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان وكفار برغواطه الى اليوم ينتظرون صالح بن طريف الذي شرع لهم دينهم وقالت القطيعية من الامامية الرافضة كلهم وهم جمهور الشيعة ومنهم المتكلمون والنظارون والعدد العظيم بان محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يخرج فيملأالأرض عدلا كما ملئت جورا وهو عندهم المهدي المنتظر وبقول طائفة منهم ان مولد هذا الذي لم يخلق قط في سنة سنتين ومائتين سنة موت أبيه وقالت طائفة منهم بل بعد موت أبيه بمدة وقالت طائفة منهم بل في حياة أبيه ورووا ذلك عن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى وانها شهدت ولادته وسمعته يتكلم حين سقط من بطن أمه يقرأالقرآن وان امه نرجس وانها كانت هي القابلة وقال جمهور بل امه صقيل وقالت طائفة منهم بل امه سوسن وكل هذا هوس ولم يعقب الحسن المذكور لا ذكرا

ولا أنثى فهذا أول نوك الشيعة ومفتاح عظيماتهم واخفها وان كانت مهلكة ثم قالوا كلهم اذ سئلوا عن الحجة فيما يقولون حجتنا الالهام وان من خالفنا ليس لرشدة فكان هذا طريفا جدا ليت شعري ما الفرق بينهم وبين عيار مثلهم يدعي في ابطال قولهم الالهام وان الشيعة ليسوا لرشدة أو انهم نوكة او انهم جملة ذوو شعبة من جنون في رؤسهم وما قولهم فيمن كان منهم ثم صار في غيرهم او من كان في غيرهم فصار فيهم اتراه ينتقل من ولادة الغية الى ولادة الرشدة ومن ولادة الرشدة الى ولادة الغية فان قالوا حكمه لما يموت عليه قيل لهم فلعلكم اولاد غية اذ لا يؤمن رجوع الواحد فالواحد منكم الى خلاف ما هو عليه اليوم والقوم بالجملة ذوو اديان فاسدة وعقول مدخولة وعديمو حياء ونعوذ بالله من الضلال وذكر عمرو ابن خولة الجاحظ وهو وان كان احد المجان ومن غلب عليه الهزل واحد الضلال المضلين فاننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتا لها وان كان كثيرا لا يراد كذب غيره قال أخبرني ابو اسحاق ابراهيم النظام وبشر بن خالد انهما قالا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق ويحك اما استحييت من الله ان تقول في كتابك في الامامة ان الله تعالى لم يقل قط في القرآن ثاني اثنين إذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا قالا فضحك والله شيطان الطاق ضحكا طويلا حتى كانا نحن الذين أذنبنا قال النظام وكنا نكلم علي ابن ميتم الصابوني وكل من شيوخ الرافضة ومتكلميهم فنسأله أرأي أم سماع عن الأئمة فينكران يقوله برأي فتخبره بقوله فيها قبل ذلك قال فوالله ما رأيته خجل من ذلك ولا استحيا لفعله هذا قط ومن قول الامامية كلها قديما وحديثا ان القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير وبدل منه كثير حاشا علي ابن الحسن ابن موسى بن محمد بن ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن ابن علي بن أبي طالب وكان أماميا يظاهر بالاعتزال مع ذلك فانه كان ينكر هذا القول ويكفر من قاله وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي وأبوالقاسم الرازي
قال أبو محمد القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صحيح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقالت طائفة من الكيسانية بتناسخ الارواح وبهذا يقول السيد الحميري الشاعر لعنه الله ويبلغ الأمر بمن يذهب الى هذا الى أن يأخذ أحدهم البغل او الحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على ان روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه فاعجبوا لهذا الحمق الذي لا نظير له وما الذي خص هذا البغل الشقي او الحمار المسكين بنقله الروح اليه سائر البغال والحمير وكذلك يفعلون بالعنز على ان روح ام المؤمنين رضي الله عنها فيها وجمهور متكلميهم كهشام ابن الحكم الكوفي وتلميذه ابي علي الصكاك وغيرهما يقول ان علم الله تعالى محدث وانه لم يكن يعلم شيئا حتى أحدث لنفسه علما وهذا كفر صحيح وقد قال هشام هذا في حين مناظرته لأبي الهذيل العلاف ان ربه سبعة اشبار بشبر نفسه وهذا كفر صحيح وكان داود الجوازي من كبار متكلميهم يزعم أن ربه لحم ودم على صورة الانسان ولا يختلفون في ان الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين أفيكون في صفاقة الوجه وصلابة الخد وعدم الحياء والجرأة علي الكذب أكثر من هذا على قرب العهد وكثرة الخلق وطائفة منهم تقول ان الله تعالى يريد الشيء ويعزم عليه ثم يبدوا له فلا يفعله وهذا مشهور للكيسانية ومن الامامية من يجيز نكاح تسع نسوة ومنهم من يحرم الكرنب لانه انما نبت على دم الحسين ولم يكن قبل ذلك وهذا في قلة الحياء قريب مما قبله وكما يزعم كثير منهم أن عليا لم يكن له سمي قبله

وهذا جهل عظيم بل كان في العرب كثير يسمون هذا الاسم كعلي بن بكر بن وائل اليه يرجع كل بكري في العالم في نسبه وفي الازد على وفى بجيله على وغيرها كل ذلك في الجاهلية مشهور وأقرب من ذلك عامر بن الطفيل يكنى أبا علي ومجاهراتهم اكثر مما ذكرنا ومنهم طائفة تقول بفناء الجنة والنار وفي الكيسانية من يقول أن الدنيا لا تفنى ابدا ومنهم طائفة تسمى النحلية نسبوا إلى الحسن بن علي بن ورصند النحلي كان من أهل نفطة من عمل قفصة وقسطيلية من كور افريقية ثم نهض هذا الكافر الى السوس في أقاصي بلاد المصامدة فاضلهم واضل امير السوس احمد بن ادريس بن يحيى ابن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب فهم هنالك كثير سكان في ربض مدينة السوس معلنون بكفرهم وصلاتهم خلاف صلاة المسلمين لا يأكلون شيئا من الثمار زبل أصله ويقولون أن الأمامة في ولد الحسن دون ولد الحسين ومنهم أصحاب أبي كامل ومن قولهم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم كفروا بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم اذ جحدوا امامة علي وان عليا كفر اذا سلم الأمر الى أبي بكر ثم عمر بن عثمان ثم قال جمهورهم ان عليا ومن اتبعه رجعوا الى الاسلام اذ دعى الى نفسه بعد قتل عثمان واذ كشف وجهه وسل سيفه وانه واياهم كانوا قبل ذلك مرتدين عن الاسلام كفارا مشركين ومنهم من يرد الذنب في ذلك الى النبي صلى الله عليه و سلم اذ لم يبين الامر بيانا رافعا للاشكال
قال أبو محمد وكل هذا كفر صريح لا خفاء به فهذه مذاهب الامامية وهي المتوسطة في الغلو من فرق الشيعة واما الغالبة من الشيعة فهم قسمان قسم أوجبت النبوة بعد النبي صلى الله عليه و سلم لغيره والقسم الثاني اوجبوا الالهية لغير الله عز و جل فلحقوا بالنصارى واليهود وكفروا اشنع الكفر فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي صلى الله عليه و سلم فرق فمنهم الغرابة وقولهم ان محمدا صلى الله عليه و سلم كان اشبه بعلي من الغراب بالغراب وان الله عز و جل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل بمحمد ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط وقالت طائفة منهم بل تعمد ذلك جبريل وكفروه ولعنوه لعنهم الله
قال أبو محمد فهل سمع بأضعف عقولا واتم رقاعة من قوم يقولون ان محمدا صلى الله عليه و سلم كان يشبه علي بن أبي طالب فياللناس أين يقع شبه ابن اربعين سنة من صبي ابن احدى عشرة سنة حتى يغلط به جبريل عليه السلام ثم محمد عليه السلام فوق الربعة الى الطول قويم القناة كث اللحية ادعج العينين ممتلئ الساقين صلى الله عليه و سلم قليل شعر الجسد افرع وعلى دون الربعة الى القصر منكب شديد الانكباب كانه كسر ثم جبر عظيم اللحية قد ملئت صدره من منكب إلى منكب اذ التحى ثقيل العينين دقيق الساقين اصلع عظيم الصلع ليس في رأسه شعر الا في مؤخره يسير شعر اللحية فاعجبوا لحمق هذه الطبقة ثم لو جاز أن يغلط جبريل وحاشا للروح القدس الأمين كيف غفل الله عز و جل عن تقويمه وتنبيهه وتركه على غلطه ثلاثا وعشرين سنة ثم اظرف من هذا كله من اخبرهم بهذا الخبر ومن خرفهم بهذه الخرافة وهذا لا يعرفه الا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل عليه السلام ثم شاهد خلافه فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة الناس أجمعين ما دام لله في علامه خلق
وفرقة قالت بنبوة علي وفرقة قالت بان علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم وعلي بن الحسين ومحمد ابن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن

موسى ومحمد بن علي والحسن بن محمد والمنتظر ابن الحسن أنبياء كلهم وفرقة قالت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط وهم طائفة من القرامطة وفرقة قالت بنبوة علي وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط وهم طائفة من الكيسانية وقد حام المختار حول أن يدعي النبوة لنفسه وسجع اسجاعا وانذر بالعيوب عن الله واتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة وقال بامامة محمد بن الحنفية وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة وهو الذي احرقه خالد بن عبد الله القسري بالنار وكان لعنه الله يقول ان معبوده صورة رجل على رأسه تاج وان أعضاؤه على عدد حرف الهجا الالف للساقين ونحو ذلك مما لا ينطق لسان ذي شيعة من دين به تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا وكان لعنه الله يقول ان معبوده لما اراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الاكبر فوقع على تاجه ثم كتب باصبعه أعمال العباد من المعاصي والطاعات فلما رأى المعاصي ارفض به عرقا فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثاني نير عذب ثم اطلع في البحر فرأى ظلمة فذهب ليأخذه فطار فاخذه فقلع عيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس وشمسا أخرى وخلق الكفار من البحر المالح وخلق المؤمنين من البحر العذب في تخليط لهم كثير وكان مما يقول ان الانبياء لم يختلفوا قط في شيء من الشرائع وقد قيل ان جابر بن يزيد الجعفي الذي يروي عن الشعبي كان خليفة المغيرة بن سعيد اذ حرقه خالد بن عبد الله القسري فلما مات جابر خلفه بكر الاعور الهجري فلما مات فوضوا أمرهم إلى عبد الله بن المغيرة رئيسهم المذكور وكان لهم عدد ضخم بالكوفة وآخر ما وقف عليه المغيره ابن سعيد القول بامامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وتحريم ماء الفرات وكل ماء نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة فبرئت منه عند ذلك القائلون بالامامة في ولد الحسين
وفرقة قالت بنبوة بيان بن سمعان التميمي صلبه واحرقه خالد بن عبد الله القسري مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد وجبن المغيرة بن سعيد عن اعتناق حزمة الحطب جبنا شديدا حتى ضم اليها قهرا وبادر بيان بن سمعان الى الحزمة فاعتنقها من غير اكراه ولم يظهر منه جزع فقال خالد لاصحابهما في كل شيء أنتم مجانين هذا كان ينبغي أن يكون رئيسكم لا هذا الفسل وكان بيان لعنه الله يقول ان الله تعالى يفنى كله حاشا وجهه فقط وظن المجنون انه تعلق في كفره هذا بقوله تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ولو كان له ادنى عقل او فهم لعلم أن الله تعالى إنما أخبر بالفناء عما على الأرض فقط بنص قوله الصادق كل من عليها فان ولم يصف عز و جل بالفناء غير ما على الأرض ووجه الله تعالى هو الله وليس هو شيئا غيره وحاشا لله من ان يوصف بالتبعيض والتجزي هذه صفة المخلوقين المحدودين لا صفة من لا يحد ولا له مثل وكان لعنه الله يقول انه المعنى بقول الله تعالى هذا بيان للناس وكان يذهب الى ان الامام هو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية ثم هي في سائر ولد علي كلهم وقالت فرقة منهم بنبوة منصور المستير العجلي وهو الملقب بالكسف وكان يقال انه المراد بقول الله عز و جل وان يرو كسفا من السماء ساقطا وصلبه يوسف بن عمر بالكوفة وكان لعنه الله يقول انه عرج به الى السماء وان الله تعالى مسح رأسه بيده وقال له ابني اذهب فبلغ عني وكان يمين أصحابه لا والكلة وكان لعنه الله يقول بان اول من خلق الله تعالى عيسى بن مريم ثم علي بن أبي طالب وكان يقول بتواتر الرسل واباح المحرمات من الزنا والخمر والميتة والخنازير والدم وقال انما هم أسماء رجال وجمهور

الرافضة اليوم على هذا واسقط الصلاة والزكاة والصيام والحج واصحابه كلهم خناقون رضاخون وكذلك اصحاب المغيرة بن سعيد ومعناهم في ذلك انهم لا يستحلون حمل السلاح حتى يخرج الذي ينتظرونه فهم يقتلون الناس بالخنق وبالحجارة والخشبية بالخشب فقط وذكر هشام بن الحكم الرافضي في كتابه المعروف بالميزان وهو اعلم الناس به لانه جارهم بالكوفة وجارهم في المذهب ان الكسفية خاصة يقتلون من كان منهم ومن خالفهم ويقولون نعجل المؤمن الى الجنة والكافر الى النار وكانوا بعد موت أبي منصور يؤدون الخمس مما يأخذون ممن خنقوه الى الحسن بن أبي منصور وأصحابه فرقتان فرقت قالت ان الامام بعد محمد بن علي بن الحسن صارت الى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وفرقة قالت بل الى أبي المنصور الكسف ولا تعود في ولد علي ابدا وقالت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بالكوفة وان وقع هذه الدعوة لهم في حائك لظريفة وفرقة قالت بنبوة معمر بائع الحنطة بالكوفة وقالت فرقة بنبوة عمر التبان بالكوفة لعنه الله يقول لاصحابه لو شئت ان أعيد هذا التبن تبرا لفعلت وقدم الى خالد بن عبد الله القسري بالكوفة فتجلد وسب خالدا فامر خالد بضرب عنقه فقتل الى لعنة الله وهذه الفرق الخمس كلها من فرق الخطابية وقالت فرقة من أولئك شيعة بني العباس بنبوة عمار الملقب بخداش فظفر بن أسد بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري فقتله الىلعنة الله
والقسم الثاني من فرق الغالية الذين يقولون بالالهية لغير الله عز و جل فاولهم قوم من اصحاب عبد الله بن سبأ الحميري لعنه الله اتوا إلى علي بن أبي طالب فقالوا مشافهة انت هو فقال لهم ومن هو قالوا انت الله فاستعظم الامر وامر بنار فأججت واحقهم بالنار فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار الان ص ح عندنا انه الله لانه لا يعذب بالنار الا الله وفي ذلك يقول رضي الله عنه ... لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أججت نارا ودعوت قنبرا ... يريد قنبرا مولاه وهو الذي تولى طرحهم في النار نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جل او دق فان محنة ابي الحسن رضي الله عنه من بين اصحابه رضي الله عنهم كمحنة عيسى صلى الله عليه و سلم بين أصحابه من الرسل عليهم السلام وهذه الفرقة باقية الى اليوم فاشية عظيمة العدد يسمون العليانية منهم كان اسحاق بن محمد المخعي الاحمر الكوفي وكان من متكلميهم وله في ذلك كتاب سماه الصراط نقض عليه البهنكي والفياض لما ذكرنا ويقولون ان محمدا رسول علي وقالت طائفة من الشيعة يعرفون بالمحمدية ان محمدا عليه السلام هو الله تعالى عن كفرهم ومن هؤلاء كان البهنكي والفياض بن علي وله في هذا المعنى كتاب سماه القسطاس وابوه الكاتب المشهور الذي كتب لاسحاق بن كنداج ايام ولايته ثم لامير المؤمنين المعتضد وفيه يقول البحتري القصيدة المشهورة التي أولها ... شط من مساكن الغرير مراره ... وطوته البلاد والله حاره ...
والفياض هذا لعنه الله قتله القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب لكونه من جملة من سعى به ايام المعتضد والقصة مشهورة وفرقة قالت بالاهية ادم عليه السلام والنبيين بعده نبيا نبيا إلى محمد عليه السلام ثم بالاهية علي ثم بالاهية الحسن ثم الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ووقفوا هاهنا واعلنت الخطابية بذلك نهارا بالكوفة في ولاية عيسى بن موسى بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس فخرجوا صدر النهار في جموع عظيمة في أزر وأردية محرمين

ينادون بأعلى أصواتهم لبيك جعفر لبيك جعفر قال ابن عياش وغيره كاني انظر اليهم يومئذ فخرج اليهم عيسى بن موسى فقاتلوه فقتلهم واصطلمهم ثم زادت فرقة على ما ذكرنا فقالت بالاهية محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد وهم القرامطة وفيهم من قال بالاهية ابي سعيد الحسن بن بهرام الجبائي وأبنائه بعده ومنهم من قال بالاهية أبي سعيد الحسن بن بهرام الجبائي وأبنائه بعده ومنهم من قال بالاهية عبيد الله ثم الولاة من ولده الى يومنا هذا وقالت طائفة بالاهية أبي الخطاب محمد بن ابي زينب مولى بني أسد بالكوفة وكثر عددهم بها حتى تجاوزوا الالوف وقالوا هو اله وجعفر بن محمد اله الا ان ابا الخطاب اكبر منه وكانوا يقولون جميع أولاد الحسن ابناء الله وأحباؤه وكانوا يقولون انهم لا يموتون ولكنهم يرفعون الى السماء واشبه على الناس بهذا الشيخ الذي ترون ثم قالت طائفة منهم بالاهية معمر بائع الحنطة بالكوفة وعبدوه وكان من أصحاب أبي الخطاب لعنهم الله اجمعين وقالت طائفة بالاهية الحسن بن منصور حلاج القطن المصلوب ببغداد بسعي الوزير ابن حامد بن العباس رحمه الله ايام المقتدر وقالت طائفة بالاهية محمد بن علي ابن السلمان الكاتب المقتول ببغداد ايام الراضي وكان امر اصحابه ان يفسق الارفع قدرا منهم به ليولج فيه النور وكل هذه الفرق ترى الاشتراك في النساء وقالت طائفة منهم بالاهية شباس المغيم في وقتنا هذا حيا بالبصرة وقالت طائفة منهم بالاهية أبي مسلم السراج ثم قالت طائفة من هؤلاء بالاهية المقنع الأعور القصار القائم بثار أبي مسلم واسم هذا القصار هاشم وقتل لعنه الله ايام المنصور واعلنوا بذلك فخرج المنصور فقتلهم وافناهم الى لعنة الله وقالت الرنودية بالاهية أبي جعفر المنصور وقالت طائفة منهم بالاهية عبد الله بن الخرب الكندي الكوفي وعبده وكان يقول بتناسخ الارواح وفرض عليهم تسعة عشر صلاة في اليوم والليلة في كل صلاة خمس عشر ركعة الى أن ناظره رجل من متكلمي الصفرية واوضح له براهين الدين فاسلم وصح اسلامه وتبرأ من كل ما كان عليه واعلم أصحابه بذلك واظهر التوبة فتبرأ منه جميع أصحابه الذين كانوا يعبدونه ويقولون بالاهيته ولعنوه وفارقوه ورجعوا لكهم الى القول بامامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وبقي عبد الله بن الخرب على الاسلام وعلى مذهب الصفرية الى أن مات وطائفته الى اليوم تعرف بالحزبية وهي من السباية القائلين بالاهية علي وطائفة تدعي النصرية غلبوا في وقتنا هذا على جند الاردن بالشام وعلى مدينة طبرية خاصة ومن قولهم لعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ولعن الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم وسبهم باقذع السب وقذفهم بكل بلية والقطع بانها وابنيها رضي الله عنهم ولعن مبغضيهم شياطين تصوروا في صورة الانسان وقولهم في عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي رضي الله عنه على علي لعنه الله ورضي عن أبي ملجم فيقول هؤلاء ان عبد الرحمن بن ملجم المرادي افضل اهل الارض واكرمهم في الآخرة لانه خلص روح اللاهوت مما كان يتشبث فيه من ظلمة الجسد وكدره فاعجبوا لهذا الجنون واسألوا الله العافية من بلاء الدنيا والآخرة فهي بيده لا بيد أحد سواه جعل الله حظنا منها الاوفى واعلموا ان كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي الى الاسلام فانما عنصرهم الشيعة والصوفية فان من الصوفية من يقول ان من عرف الله تعالى سقطت عنه الشرائع وزاد بعضهم واتصل بالله تعالى وبلغنا أن بنيسابور اليوم في عصرنا

هذا رجلا يكنى ابا سعيد ابا الخير هكذا معا من الصوفية مرة يلبس الصوف ومرة يلبس الحرير المحرم على الرجال ومرة يصلي في اليوم ألف ركعة ومرة لا يصلى لا فريضة ولا نافلة وهذا كفر محض ونعوذ بالله من الضلال
ذكر شنع الخوارج
ذكر بعض من جمع مقالات المنتمين الى الاسلام ان فرقة من الاباضية رئيسهم رجل يدعى زيد بن أبي أبيسه وهو غير المحدث المشهور كان يقول ان في هذه الأمة شاهدين عليها هو احدهما والآخر لا يدري من هو ولا متى هو ولا يدري لعله قد كان قبله وان من كان من اليهود والنصارى لا يقول لا اله الا الله محمد رسول الله الى العرب لا الينا كما تقول العيسوية من اليهود قال فانهم مؤمنون اولياء الله تعالى وان ماتوا على هذا العقد وعلى التزام شرائع اليهود والنصارى وان دين الاسلام سينسخ بنبي من العجم ياتي بدين الصابئين وبقرآن آخر ينزل عليه جملة واحدة
قال أبو محمد الا ان جميع الاباضية يكفرون من قال بشيء من هذه المقالات ويبرؤن منه ويستحلون دمه وماله وقالت طائفة من اصحاب الحرث الاباضي أن من زنا أو سرق أو قذف فانه يقام عليه الحد ثم يستتاب مما فعل فان تاب ترك وإن أن أبى التوبة قتل على الردة
قال أبو محمد وشاهدنا الاباضية عندنا بالاندلس يحرمون طعام أهل الكتب ويحرمون اكل قضيب التيس والثور والكبش ويوجبون القضاء على من نام نهارا في رمضان فاحتلم ويتيممون وهم على الآبار التي يشربون منها الا قليلا منهم وقال ابو اسماعيل البطيحي واصحابه وهم من الخوارج ان لا صلاة واجبة الا ركعة واحدة بالغداة وركعة أخرى بالعشي فقط ويرون الحج في جميع شهور السنة ويحرمون أكل السمك حتى يذبح ولا يرون اخذ الجزية من المجوس ويكفرون من خطب في الفطرة والأضحى ويقولون ان أهل النار في النار في لذة ونعيم واهل الجنة كذلك
قال أبو محمد واصل أبي اسماعيل هذا من الازارقة الا انه غلا عن سائر الازارقة وزاد عليهم وقالت سائر الأزارفة وهم أصحاب نافع بن الأزرق بابطال رجم من زنى وهو محصن وقطعوا يد السارق من المنكب واوجبوا على الحائض الصلاة والصيام في حيضها وقال بعضهم لا ولكن تقضي الصلاة اذا طهرت كما تقتضي الصيام واباحوا دم الاطفال ممن لم يكن في عسكرهم وقتل النساء أيضا ممن ليس في عسكرهم وبرئت الازارقة ممن قعد عن الخروج لضعف او غيره وكفروا من خالف هذا القول بعد موت اول من قال به منهم ولم يكفروا من خالفه فيه في حياته وقالوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عسكرهم ويقتلونه اذا قال انا مسلم ويحرمون قتل من انتمى الىاليهود والى النصارى أو الى المجوس وبهذا شهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية اذ قال عليه السلام انهم يقتلون اهل الاسلام ويتركون اهل الاوثان وهذا من اعلام نبوته صلى الله عليه و سلم اذ انذر بذلك وهو من جزئيات الغيب فخرج نصا كما قال
قال أبو محمد وقد بادت الازارقة انما كانوا اهل عسكر واحد اولهم نافع بن الازرق وآخرهم عبدة بن هلال العسكري واتصل امرهم بضعا وعشرين سنة الا اني أشك في صبيح مولى سوار بن الاسعر المازني مازن تميم اخرج برأي الازارفة أيام هشام بن عبد الملك أم

برأي الصفرية لأن أمره لم يطل اسر اثر خروجه وقتل وقالت النجدات وهم أصحاب نجدة بن عويم الحنفي ليس على الناس أن يتخذوا اماما انما هم عليهم ان يتعاطوا الحق بينهم وقالوا من ضعف عن الهجرة الى عسكرهم فهو منافق واستحلوا دم العقدة واموالهم وقالوا من كذب كذبة صغيرة أو عمل عملا صغيرا فاصر على ذلك فهو كافر مشرك وكذلك ايضا في الكبائر وان من عمل من الكبائر غير مصر عليها فهو مسلم وقال جائز أن يعذب الله المؤمنين بذنوبهم لكن في غير النار واما النار فلا وقالوا اصحاب الكبائر منهم ليسوا كفارا وأصحاب الكبائر من غيرهم كفار وقد بادت النجدات وقالت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر وكانوا يؤلون الحق بالباطل وقد بادت هذه الطائفة وقالت الميمونية وهم فرقة من العجاردة والعجاردة فرقة من الصفرية باجازة نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات بني الاخوة والاخوات وذكر ذلك عنهم الحسين بن علي الكراسي وهو احد الأئمة في الدين والحديث ولم يبق اليوم من فرق الخوارج الا الاباضية والصفرية فقط وقالت طائفة من أصحاب البيهسية وهم أصحاب أبي بيهس وهم من فرق الصفرية ان كان صاحب كبيرة فيها حد فانه لا يكفر حتى يرفع الى الامام فاذا اقام عليه الحد فحينئذ يكفر وقالت الرشيدية وهم من فرق الثعالبة والثعالبة من فرق الصفرية ان الواجب في الزكاة نصف العشر مما سقي بالانهار والعيون وقالت العونية وهم طائفة من البيهسية التي ذكرنا آنفا ان الامام اذا قضى قضية جور وهو بخراسان أو بغيرها حيث كان من البلاد ففي ذلك الحين نفسه يكفر هو وجميع رعيته حيث كانوا من شرق الارض وغربها ولو بالاندلس واليمن فما بين ذلك من البلاد وقالوا ايضا لو وقعت قطرة خمر في جب ماء بفلاة من الارض فان كل من خطر على ذلك الجب فشرب منه وهو لا يدري ما وقع فيه كافر بالله تعالى قالوا الا ان الله تعالى يوفق المؤمن لاجتنابه وقالت الفضيلية من الصفرية من قال لا اله الا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه بل اعتقد الكفر اوالدهرية اواليهودية او النصرانية فهو مسلم عند الله مؤمن ولا يضره اذا قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه وقالت طائفة من الصفرية ان النبي صلى الله عليه و سلم اذا بعث ففي حين بعثه في ذلك الوقت من ذلك اليوم لزم جميع اهل المشرق والمغرب الايمان به وان لم يعرفوا جميع ما جاء به من الشرائع فمن مات منهم قبل أن يبلغه شيء من ذلك مات كافرا وقالت العجاردة اصحاب عبد الكريم بن عجرد من الصفرية ان من بلغ الحلم من الوادهم وبناتهم فهم برآء منه ومن دينه حتى يقر بالاسلام فيتولوه حينئذ
قال أبو محمد فعلى هذا ان قتله قاتل قبل أن يلفظ بالاسلام فلا قود ولا دية وان مات لم يرث ولم يورث وقالت طائفة من العجاردة لا نتولى الاطفال قبل البلوغ ولا نبرأ منهم لكن نقف فيهم حتى يلفظوا بالاسلام بعد البلوغ
قال ابو محمد والعجاردة هم الغالبون على خوارج خراسان كما ان النكار من الاباضية هم الغالبون على خوارج الاندلس وقالت المكرومية وهم أصحاب أبي مكرم وهم من الثعالبة اصحاب ثعلبة وهو من الصفرية والى قول الثعالبة رجع عبد الله بن باض فبرئ منه اصحابه فهم لا يعرفونه اليوم ولقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنهم فما عرفه احد منهم وكان من قول المكرمية هؤلاء ان من أتى كبيرة فقد جهل الله تعالى فهو كافر ليس من أجل الكبيرة كفر لكن لانه جهل الله عزوجل فهو كافر بجهله بالله تعالى وقالت طائفة من الخوارج

ما كان من المعاصي فيه حد كالزنا والسرقة والقذف فليس فاعله كافرا ولا مؤمنا ولا منافقا واما ما كان من المعاصي لا حد فيه فهو كافر وفاعله وقالت الحفصية وهم أصحاب حفص بن أبي المقدام من الاباضية من عرف الله تعالى وكفر بالنبي صلى الله عليه و سلم فهوكافر وليس بمشرك وان جهل الله تعالى أو جحده فهو حينئذ مشرك وقال بعض أصحاب الحرث الاباضي المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم انما كانوا موحدين لله تعالى اصحاب كبائر ومن حماقاتهم قول بكر بن اخت عبد الواحد بن زيد فانه كان يقول كل ذنب صغير أو كبير ولو كان اخذ حبة خردل بغير حق أو كذبة خفيفة على سبيل المزاح فهي شرك بالله وفاعلها كافر مشرك مخلد في النار الا ان يكون من أهل الجنة وهذا حكم طلحة والزبير رضي الله عنهما عندهم ومن حماقاتهم قول عبد الله بن عيسى تلميذ بكر بن اخت عبد الواحد بن زيد المذكور فانه كان يقول ان المجانين والبهايم والاطفال مالم يبلغوا الحلم فانهم لا يالمون البتة لشيء مما ينزل بهم من العلل وحجته في ذلك أن الله تعالى لا يظلم أحدا
قال أبو محمد لعمري لقد طرد أصل المعتزلة وان من خالفه في هذه المتلوث في الحماقة متكسع في التناقض
ذكر شنع المعتزلة
قال أبو محمد قالت المعتزلة باسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه ان جميع افعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز و جل ثم اختلفوا فقالت طائفة خلقها فاعلوها دون الله تعالى وقالت طائفة هي أفعال موجودةلا خالق لها أصلا وقالت طائفة هي أفعال الطبيعة وهذا قول أهل الدهر بلا تكلف وقالت المعتزلة كلهاحاشا ضرار بن عمرو المذكور وحاشا أبا سهل بشر بن العمير البغدادي النخاس بالرقيق ان الله عز و جل لا يقدر البتة على لطف يلطف به الكافر حتى يؤمن إيمانايستحق به الجنة والله عز و جل ليس في قوته احسن مما فعل بنا وان هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر
قال أبو محمد هذا تعجيز مجرد للباري تعالى ووصف له بالنقص وكلهم لا نحاشي أحدا يقول انه لا يقدر على المحال ولا على ان يجعل الجسم ساكنا متحركا معا في حال واحدة ولا علي أن يجعل انسانا واحدا في مكانين معا
قال أبو محمد وهذا تعجيز مجرد لله تعالى وإيجاب النهاية والانقضاء لقدرته تعالى الله عن ذلك وقال أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولى عبد القيس بصري أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم ان لما يقدر الله تعالى عليه آخر او لقدرته نهاية لو خرج إلى الفعل لم يقدر الله تعالى بعد ذلك على شيء أصلا ولا على خلق ذرة فما فوقها ولا احياء بعوضة ميتة ولا على تحريك ورقة فما فوقها ولا على أن يفعل شيئا أصلا
قال أبو محمد وهذه حالة من الضعف والمهانة والعجز قد ارتفعت البق والبراغيث والدود مدة حياتها عنها وعن أن توصف بها وهذا كفر مجرد لا خفاء به وزعم أبو الهذيل ايضا ان اهل الجنة واهل النار تفنى حركاتهم حتى يصيروا جمادا لا يقدرون على تحريك شيء من أعضائهم ولا على البراح من مواضعهم وهم في تلك الحال متلذذون ومتألمون الا انهم

لا يأكلون ولا يشربون ولا يطئون بعد هذا أبدا وكان يزعم أيضا لما يعلمه عز و جل آخر أو نهاية وكلا لا يعلم الله شيئا سواه وأدعى قوم من المعتزلة أنه تاب عن هذه الطوام الثلاث
قال أبو محمد وهذا لا يصح وإنما دعوا ذلك حياء من هذه الكفرات الصلح لإمامهم إمام الضلالة وذكر عن أبي الهذيل أيضا أنه قال أن الله عز و جل ليس خلافا لخلقه والعجب أنه مع هذه الأقدام العظيم بنكر النشبية وهذا عين النشبية لأنه ليس إلا خلاف أو مثل أو ضد فإذا بطل أن يكون خلافا وضد فهو مثل ولا بد تعالى الله عن هذا علوا كبيرا أو كان أبو الهذيل يقول إن الله لم يزل عليما وكان ينكر أن يقال أن الله لم يزل سميعا بصيرا
قال أبو محمد وهذا خلاف القرآن لآن الله عز و جل قال وكان الله سميعا بصيرا كما قال وكان الله عليما حكيما وكلهم قال أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من مات كافرا فإنه لا يؤمن أبدا وأنه تعالى حكم وقال أن أبا لهب وامرأته سيصليان النار كافرين ثم قطعوا كلهم بأن أبا لهب وامرأته كانا قادرين على الإيمان على أن لا تمسهما النار وأنهما كان ممكنا لها تكذيب الله عز و جل إنهما كانا قادرين على إبطال علم الله عز و جل وعلى أن يجعلاه كاذبا في قوله هذا نص قولهم بلا تأويل قال وكان إبراهيم بن سيار النظام أو إسحاق البصري مولى بني بحير بن الحارث بن عباد الضبعي أكبر شيوخ المعتزلة ومقدمة علمائهم يقول أن الله تعالى لا يقدر على ظلم أحد أصلا ولا على شيء من الشر وأن الناس يقدرون على كل ذلك وأنه تعالى لو كان قادرا على ذلك لكنا لا نأمن أن يفعله أو أنه قد فعله فكان الناس عنده أتم قدرة من الله تعالى وكان يصرح بأن الله تعالى لا يقدر على إخراج أحد من جهنم ولا إخراج أحد من أهل الجنة عنها ولا على طرح طفل من جهنم وأن الناس وكل واحد من الجن والملائكة يقدرون على ذلك فكان الله عز و جل عنده أعجز من كل ضعيف من خلقه وكان كل أحد من الخلق أتم قدرة من الله تعالى وهذا الكفر المجرد الذي نعوذ بالله منه ومن العجب إتفاق النظام والعلاف شيخي المعتزلة على أنه ليس يقدر الله تعالى من الخير على أصلح ما عمل فاتفقا على أن قدرته على الخير متناهية ثم قال النظام أنه تعالى لا يقدر على الشر جملة فجعله عديم قدرة على الشر عاجزا عنه وقال العلاف بل هو قادر على الشر جملة فجعل ربه متناهي القدرة على الخير وغير متناهي القدرة على الشر فهل سمع بأخبث صفة من الصفة التي وصف بها العلاف ربه وهل في الموصوفين أخبث طبيعة من الموصوف الذي ادعى العلاف أنه ربه ونعوذ بالله مما ابتلاهم به وأما أبو المعتمر معمر بن عمر والعطار البصري مولى بني سليم أحد شيوخهم وأثمنهم فكان يقول بأن في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ولا يحصيها الباري تعالى ولا أحد أيضا غيره ولا لها عنده مقدار ولا عدد وذلك أنه كان يقول أن الأشياء تختلف بمعان فيها وأن تلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وتلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وهكذا بلا نهاية أيضا تكذيب واضح لله تعالى في قوله وكل شيء عنده بمقدار وفي قوله تعالى وأحصى كل شيء عددا ووافقه الدهرية في قولهم بوجود أشياء لا نهاية لها وعلى هذا طلبته المعتزلة وبالبصرة عند السلطان حتى فر إلى بغداد ومات بها مختفيا عند إبراهيم بن السيد بن شاهك بو وكان معمر أيضا يزعم أن الله عز و جل لم يخلق شيئا من الألوان ولا طولا و لا عرضا ولا طعما ولا رائحة ولا خشونة ولا إملاسا ولا حسنا ولا قبيحا ولا صوتا ولا قوة ولا ضعفا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ولا مرضا ولا صحة ولا عافية ولا سقما ولا عمى ولا بكما ولا بصرا

ولا سمعا ولا فصاحة ولا فساد للثمار ولا صلاحها وإن كل ذلك فعل الأجسام التي وجدت فيها هذه الأعراض بطباعها فأعملوا أن هذا الفاسق قد أخرج نصف العالم عن خلق الله تعالى لأنه ليس للعالم شيء إلا الجواهر الحاملة والأعراض المحمولة فقط فالنصف الواحد عنده غير مخلوق لعنه الله من مكذب لله تعالى في نص قوله تعالى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقد عورض معمر بهذه الآية فقال إنما أراد انه خلق الأماتة والأحياء وذكر عنه أنه كان ينكر أن يكون الله عز و جل عالما بنفسه وذلك لأن العالم إنما يعلم غير مولا يعلم نفسه وكان يزعم أن النفس ليست جسما ولا عرضا ولا هي في مكان أصلا ولا تماس شيئا ولا تباينه ولا تتحرك ولا تسكن
قال أبو محمد وهذا قول أهل الإلحاد محضا بلا تأويل بعني القائلين منهم بقدم النفس وأنها الخالقة للإنسان نعوذ بالله من الضلال وكان يقول أن الله تعالى لا يعلم نفسه ولا يجهلها لأن العالم غير المعلوم ومحال أن يقدر على الموجودات أو أن يعلمها وأن يجهلها وقال أبو العباس عبد الله بن محمد الأنباري المعروف بالناشيء ولقبه شرسير في كتابه في المقالات وأن الله تعالى عن كفره لا يقدر على أن يسوي بنان الإنسان بعد أن سبق في علمه أنه لا يسويها
قال أبو محمد وهذا تكذيب محض لله تعالى في قوله أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه ورأيت للجاحظ في كتابه البرهان لو أن سائلا سأله وقال أيقدر الله على أن يخلق قبل الدنيا دنيا أخرى فجوابه نعم بمعنى أنه يخلق تلك الدنيا حين خلق هذه فتكون مثل هذه
قال أبو محمد هذا تعجيز منه للباري تعالى كما قدمنا إذ لم تحصل له تعالى قدرة على خلق دنيا قبل هذه إلا على الوجه الذي ذكره وأما على غيره فلا فإن قيل كيف تجيبون قلنا جوابنا نعم على الإطلاق فإن قيل لنا كيف يصح هذا السؤال وأنتم تقولون أنه لا يجوز أن يقال أن قبل العالم شيئا لأن قيل وبعده من الزمان ولا زمان هنالك قلنا معنى قولنا نعم أي أنه تعالى لم يزل قادرا على أن يخلق عالما ولو خلقه لكان له زمان قبل زمان هذا العالم وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق وأما ضرارا بن عمر فإنه كان يقول أن ممكنا أن يكون جميع من في الأرض ممن يظهر الإسلام كفارا كلهم في باطن أمرهم لأن كل ذلك جائز على كل واحد منهم في ذاته ومن حماقات ضرار أنه كان يقول أن الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة وإن النار ليس فيها حر ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في المعروف دم وإن كان ذلك إنما يخلقه الله عز و جل عند القطع والذوق والعصر واللمس فقط وأما أبو عثمان عمرو بن الجاحظ القصري الكناني صليبة وقيل بل هو مولى وهو تلميذ النظام وأحد شيوخ المعتزلة فإنه كان يقول أن الله تعالى لا يقدر على إفناء الأجسام البتة إلا أن يرفقها ويفرق أجزائها فقط وأما إعدامها فلا يقدر على ذلك أصلا وأما أبو معمر وثمامة بن أشرس النميري صليبة بصرى أحد شيوخ المعتزلة وعلمائهم فذكر عنه أنه كان يقول أن العالم فعل الله عز و جل بطباعه تعالى الله عن هذا الكفر الشنيع علوا كبيرا وكان يزعم أن المقلدين من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان لا يدخلون النار يوم القيامة لكن يصيرون ترابا وإن كل من مات من أهل الإسلام والإيمان المحض والإجتهاد في العبادة مصرا على كبيرة من الكبائر كشرب ا لخمر ونحوها وإن كان لم يواقع ذلك إلا مرة

في الدهر فإنه مخلد بين أطباق النيران أبدا مع فرعون وأب وأبي جهل
قال أبو محمد فأي كفر أعجب من قول من يقول أن كثيرا من الكفار لا يدخلون النار وأن كثيرا من المسلمين لا يدخلون الجنة وكان ثمامة يقول أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم وجميع أولا د المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وجميع مجانين الإسلام لا يدخلون الجنة أبدا لكن يصيرون ترابا وأما هشام بن عمرو الفوطي أحد شيوخ المعتزلة فكان يقول إذا خلق الله تعالى شيئا فإنه لا يقدر على أن يخلق مثل ذلك الشيء أبدا لكن الله يقدر على أن يخلق غيره والغير أن عنده لا يكونان مثلين وكان لا يجيز لأحد أن يقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا أن الله يعذب الكفار بالنار ولا أنه يحيي الأرض بالمطر ويروي هذا القول والقول بأن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ضلالا وإلحادا
قال أبو محمد وهذا رد على الله جهارا وكان يقول لا يحل القول بشيء من هذا إلا عند قراءة القرآن فقط وكان يقول قولوا حسبنا الله ونعم المتوكل عليه وكان يقول أن الله يعذب الكفار في النار ويحي الأرض عند نزول المطر وكان لا يجيز القول بأن الله ألف بين قلوب المؤمنين ولا أن ا لقرآن عما على الكافرين وكان يقول أن من هو الآن مؤمن عابد إلا أن في علم الله أنه يموت كافر فإنه الآن عند الله كافر وإن من كان كافرا مجوسيا أو نصرانيا أو دهريا أو زنديقا إلا أن في علم الله عز و جل أنه يموت مؤمنا فإنه الآن عند الله مؤمن وأما عباد بن سليمان تلميذ الفوطي المذكور فكان يزعم أن الله تعالى لا يقدر على غير ما فعل من الصلاح ولا يجوز أن يقال أن الله تعالى خلق المؤمنين ولا أنه خلق الكافرين ولكن يقال خلق الناس وذلك زعم لأن المؤمن عنده إنسان وإيمان والكافر إنسان وكفر وإن الله تعالى إنما خلق عنده الإنسان فقط ولم يخلق الإيمان ولا الكفر وكان يقول أن الله تعالى لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق وأنه تعالى لم يخلق المجاعة ولا القحط وكلهم بزعم أن الله تعالى لم يأمر الكفار قط بأن يؤمنوا في حال كفرهم ولا نهى المؤمنين قط عن الكفر في حال إيمانهم لأنه لا يقدر أحد قط على الجمع بين الفعلين المتضادين
قال أبو محمد وهم مقرون أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من يؤمن بعد كفره فإنه لا يزال في كفره إلى أن يؤمن وأن من يكفر بعد إيمانه فإنه لا يزال في إيمانه حتى يكفروا وإن من لا يؤمن من الكفار أبدا فإنه لا يزال في كفره إلى أن يموت وأن من لا يكفر من المؤمنين فإنه لا يزال في إيمانه إلى أن يموت وليس أحد من المأمورين يخرج عن أحد هذه الوجوه الأربعة ضرورة فإذا كان عندهم لم يؤمر قط كافر بالإيمان في حال كفره ولا نهى مؤمن عن الكفر في حال إيمانه فإنه من لم يزل مؤمنا إلى أن مات لم ينهه الله عز و جل عن الكفر قط وإن من لم يزل كافرا إلى أن مات فإن الله لم يأمره قط بالإيمان وأن الله تعالى لم يأمر قط بالإيمان ومن لم يزل كافرا إلى أن مات فإن الله تعالى لم يأمره قط بالإيمان وأن الله تعالى لم يأمر قط بالإيمان من آمن بعد كفره إلا حين آمن ولا نهي قط عن الكفر من كفر بعد إيمانه إلا حين كفر وهذا تكذيب مجرد لله تعالى في أمره الكفار وأهل الكتاب بالإيمان ونهبه المؤمنين عن الكفر وكان بشر بن المعتمر أيضا يقول أن الله تعالى لم يخلق قط لونا ولا طعما ولا رائحة ولا مجسة ولا شدة ولا ضعفا ولا عما ولا بصرا ولا سمعا ولا جبنا ولا شجاعة ولا كشفا ولا عجزا ولا صحة ولا مرضا وأن الناس يفعلون كل ذلك فقط وأما جعفر القصبي

بايع القصب والأشج وهما من رؤسائهم فكانا يقولان أن القرآن ليس هو في المصاحف وإنما في المصاحف شيء آخر وهو حكاية القرآن
قال أبو محمد وهذا كفر مجرد وخلاف جميع أهل الإسلام قديما وحديثا وكان علي الأسواري البصري أحد شيوخ المعتزلة يقول أن الله عز و جل لا يقدر على غير فعل ما فعل وأن من علم الله تعالى أنه يموت ابن ثمانين سنة فإن الله لا يقدر على أن يميته قبل ذلك ولا أن يبقيه طرفة عين بعد ذلك وأن من علم الله تعالى من مرضه يوم الخميس مع الزوال مثلا فإن الله تعالى لا يقدر على أن يبريه قبل ذلك لا بما قرب ولا بما بعد ولا على أن يزيد في مرضه طرفة عين فما فوقها وأن الناس يقدرون كل حين على إماته من علم الله أن لا يموت إلا وقت كذا وأن الله لا يقدر على ذلك وهذا كفر ما سمع قط بأفظع منه وأما أبو غفار أحد شيوخ المعتزلة فكان يزعم أن شحم الخنزير ودماغه حلال
قال أبو محمد وهذا كفر صريح لا خفاء به وكان يزعم أن تفخيذ الرجال الذكور حلال وقد ذكر هذا عن ثمامة أيضا وكل هذا كفر محض وأما أحمد ابن خابط والفضل الحربي النصريان وكانا تلميذين لإبراهيم النظام فكانا يزعمان أن للعالم خالقين أحدهما قديم وهو الله تعالى والآخر حادث وهو كلمة الله عز و جل المسيح عيس ابن مريم التي بها خلق العالم وكانا لعنهما الله يطعنان على النبي صلى الله عليه و سلم بالتزويج وأن أبا ذر كان أزهد منه وكان أحمد بن خابط يزعم أن الذي يجيء به يوم القيامة مع الملائكة صفا صفا في ظلل من الغمام إنما هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأن الذي خلق آدم على صورته إنما هو المسيح عيس ابن مريم عليه السلام وأن المسيح هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة وكان أحمد بن خابط لعنه الله يقول أن في كل نوع من أنواع الطير والسمك وسائر حيوان البر حتى البق والبراغيث والقمل والقرود والكلاب والفيران والتيوس والحمير والدود والوزغ والجعلان أنبياء الله تعالى رسالة إلى أنواعهم مما ذكرنا من سائر الأنواع وكان لعنه الله يقول بالتناسخ والكرور وأن الله تعالى ابتدأ جميع الخلق فخلقهم كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أمرهم ونهاهم فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة فالعتال يبتلى بالريح كالغنم والإبل والبقر والدجاج وغير ذلك من البراغيث وكل ما يقتل في الأغلب وأن من كان منهم في فسقه وقتله للناس عفيفا كوفي بالقوة على السفناد كالتيس والعصفور والكبش وغير ذلك ومن كان زانيا وزانية كوفيا بالمنع من الجماع كالبغال والبغلات ومن كان جبارا كوفي بالمهانة كالدود والقمل ولا يزالون كذلك حتى يقتص منهم ثم يردون فمن عصى منهم كرر أيضا كذلك هكذا أبدا حتى يطيع طاعة لا معصية معها فينتقل إلى الجنة من وقته أو يعصي معصية لا طاعة معها فينتقل إلى جهنم من وقته وإنما حمله على القول بكل هذا لزومه أصل المعتزلة في العدل وطرده إياه مشيه معه واعلموا أن كل من لم يقل من المعتزلة بهذا القول فإنه متناقض تارك لا صلهم في العدل وكان لعنه الله يقول أن للثواب دارين أحداهما لا أكل فيها ولا شرب وهي أرفع قدرا من الثانية والثانية فيها أكل وشرب وهي أنقص قدرا
قال أبو محمد هذا كله كفر محض وكان لهذا الكافر أحمد بن خابط تلميذ على مذهبه يقال له أحمد بن سابوس كان يقول بقول معلمه في التناسخ ثم ادعى النبوة وقال أنه المراد بقول الله عز و جل ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد وكان محمد بن عبد الله بن مرة

بن نجيح الأندلسي يوافق المعتزلة في القدر وكان يقول أن علم الله وقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وأن لله تعالى علمين أحدهما أحدثه جملة وهو علم الكتاب وهو علم الغيب كعلمه أنه سيكون كفار ومؤمنون والقيامة والجزاء ونحو ذلك والثاني علم الجزئيات وهو علم الشهادة وهو كفر زيد وإيمان عمر ونحو ذلك فإنه لا يعلم الله تعالى من ذلك شيئا حتى يكون وذكر قول الله تعالى عالم الغيب والشهادة
قال أبو محمد وهذا ليس كما ظن بل على ظاهره أنه يعلم ما تفعلون وإن أخفيتم ويعلم ما غاب عنكم مما كان أو يكون أو هو كائن
قال أبو محمد وإنما حمله على هذا القول طرده لأصول المعتزلة حقا فإن من قال منهم أن الله تعالى لم يزل يعلم أن فلانا لا يؤمن أبدا وأن فلانا لا يكفر أبدا ثم جعل الناس قادرين على تكذيب كلام ربهم وعلى إبطال ما لم يزل وهذا تناقض فاحش لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان وكان من أصحابه جماعة يكفرون من قال أنه عز و جل لم يزل يعلم كل ما يكون قبل أن يكون وكان من أصحاب مذهبه رجل يقال له إسماعيل ابن عبد الله الرعيني متأخر الوقت وكان من المجتهدين في العبادة المنقطعين في الزهد وأدركته إلا أبى لم ألقه ثم أحدث أقوالا سبعة فبريء منه سائر المربة وكفروه إلا من أتبعه منهم فما أحدث قوله أن الأجساد لا تبعث أبدا وإنما تبعث الأرواح صح هذا عندنا عنه وذكر عنه أنه كان يقول أنه حين موت الإنسان وفراق روحه لجسده تلقى روحه الحساب ويصير إما إلى الجنة أو إلى النار وأنه كان لا يقر بالبعث إلا على هذا الوجه وأنه كان يقول أن العالم لا يفنى أبدا بل هكذا يكون الأمر بلا نهاية وحدثني الفقيه أبو أحمد المعار في الطليطلي صاحبنا أحسن الله ذكره قال أخبرني يحيي بن أحمد الطبيب وهو ابن أبنة إسماعيل الرعيني المذكور قال أن جدي كان يقول أن العرش هو المدبر للعالم وأن الله تعالى أجل من أن يوصف بفعل شيء أصلا وكان ينسب هذا القول إلى محمد بن عبد الله بن مسرة ويحتج بألفاظ في كتبه ليس فيها لعمري دليل على هذا القول وكان يقول لسائر المرية أنكم لن تفهموا عن الشيخ فبرئت منه المرية أيضا على هذا القول وكان أحمد الطبيب صهره ممن بريء منه وتثبت ابنته على هذه الأقوال متبعة لأبيها مخالفة لزوجها وابنها وكانت متكلمة ناسكة مجتهدة ووافقت أبا هارون بن إسماعيل الرعيني على هذا القول فأنكره وبريء من قائله وكذب ابن أخيه فيما ذكر عن أبيه وكان مخالفوه من المرية وكثير من موافقيه ينسبون اليه القول بإكتساب النبوة وأن من بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس أدرك النبوة وأنها ليست اختصاصا أصلا وقد رأينا منهم من ينسب هذا القول إلى ابن مرة ويستدل على ذلك بألفاظ كثيرة في كتبه هي لعمري لتشير إلى ذلك ورأينا سائرهم ينكر هذا فالله أعلم ورأيت أنا من أصحاب إسماعيل الرعيني المذكور من يصفه بفهم منطق الطير وبأنه كان ينذر بأشياء قبل أن تكون فتكون وأما الذي لا شك فيه فإنه كان عند فرقته إماما واجبة طاعته يؤدون اليه زكاة أموالهم وكان يذهب إلى أن الحرام قد عم الأرض وأنه لا فرق بين ما يكتسبه المرء من صناعة أو تجارة أو ميراث أو بين ما يكتسبه من الرفاق وأن الذي يحل للمسلم من كل ذلك قوته كيف ما أخذه هذا أمر صحيح عندنا عنه يقينا وأخبرنا عنه بعض من عرف باطن أمورهم أنه كان يرى الدار دار كفر مباحة دماؤهم وأموالهم إلا أصحابه فقط وصح عندنا عنه كان يقول بنكاح المتعة وهذا لا يقدح في إيمانه ولا في عدالته لو قاله مجتهدا

ولم تقم عليه الحجة بنسخه ولو سلم من الكفرات الصلع التي ذكرنا وإنما ذكرنا عنه ما جرى لنا من ذكره ولغرابة هذا القول اليوم وقلة القائلين به من الناس ورأيت لأبي هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي كبير المعتزلة وابن كبيرهم القطع بأن لله تعالى أحوالا مختصة به وهذه عظيمة جدا إذ جعله حاملا للأعراض تعالى عن هذا الإفك ورأيت له القطع في كتبه كثيرا يردد القول بأنه يجب على الله أن يزيح علل العباد في كل ما أمرهم به ولا يزال يقول في كتبه أن أمر كذا لم يزل واجبا على الله
قال أبو محمد وهذا كلام تقشعر منه ذوائب المؤمن ليت شعري من الموجب ذلك على الله تعالى والحاكم عليه بذلك والملزم له ما ذكر هذا النذل لزومه للباري تعالى ووجوبه عليه فيا لله لمن قال أن الفعل أوجب ذلك على الله تعالى أو ذكر شيئا دونه تعالى ليصرحن بأن الله تعالى متعبد للذي أوجب عليه ما أوجب محكوم عليه مدبر وأنه للكفر الصراح ولئن قال أنه تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه فالإيجاب فعل فاعل لا شك فإن كان الله لم يزل موجبا ذلك على نفسه فلم يزل فاعلا فالأفعال قديمة ولا بد لم تزل وهذه دهرية محضة وإن كان تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن موجبا له فقد بطل انتفاعه بهذا القول في أصله الفاسد لأنه قد كان تعالى غير واجب عليه ما ذكر ورأيت لبعض المعتزلة سؤالا سائل عنه أبا هاشم المذكور يقول فيه ما بال كل من بعثه النبي صلى الله عليه و سلم داعيا إلى الإسلام إلى اليمن والبحرين وعمان والملوك وسائر البلاد وكل من يدعو إلى مثل ذلك إلى يوم البعث لا يسمى رسول الله كما سمي محمد عليه السلام إذ أمره الملك عن الله عز و جل بالدعاء إلى الإسلام والأمر واحد والعمل سواء
قال أبو محمد فأعجبوا لتلاعب إبليس بهذه الفرقة الملعونة وسلوا الله العافية من أن يكلكم إلى أنفسكم فحق لمن دينه أن ربه لا يقدر على أن يهديه ولا على أن يضله أن يتمكن الشيطان منه هذا التمكن ولعمري أن هذا السؤال لقد لزم أصل المعتزلة المضل لهم ولمن التزمه والمورد لجميعهم نار جهنم وهو قولهم أن التسمية موكولة الينا لا إلى الله عز و جل ورأيت لهذا الكافر أبي هاشم كلاما رد فيه بزعمه على من يقول أنه ليس لأحد أن يسمي الله عز و جل إلا بما سمى به نفسه فقال هذا النذل لو كان هذا ولم يجز لأحد أن يسمي الله تعالى عز و جل إلا بما سمى به نفسه لكان غير جائز لله أن يسمى به نفسه بإسم حتى يسميه به غيره
قال أبو محمد فهل يأتي المرور بأقبح من هذا الإستدلال وهل في التسمية أكثر من هذا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من أن يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك وكان أبو هاشم أيضا يقول أنه لو طال عمر المسلم المحسن لجاز أن يعمل من الحسنات والخير أكثر مما عمل النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد لا والله ولا كرامة ولو عمر أحدنا الدهر كله في طاعات متصلة ما وازى عمل امريء صحب النبي صلى الله عليه و سلم من غير المنافقين والكفار المجاهرين ساعة واحدة فما فوقها مع قوله صلى الله عليه و سلم أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فمتى يطمع ذو عقل أن يدرك أحدا من الصحابة مع هذا القون الممتنع إدراكه قطعا وكان أبو هاشم المذكور يقول أنه لا يقبل توبة أحد من ذنب عمله أي ذنب كان حتى يتوب من جميع الذنوب

قال أبو محمد وحقا أقول لقد طرد أصل المعتزلة الذي أطبقوا عليه من إخراج المرء عن الإسلام جملة بذنب واحد عمله يصر عليه وإيجابهم الخلود في النار عليه بذلك الذنب وحده فلو كان هذا لكان أبو هاشم صادقا إذ لا منفعة له عندهم في تركه كل ذنب وهو بذنب واحد يصر عليه خارج عن الإيمان مخلد بين أطباق النيران وما ينكر هذا عليه من المعتزلة إلا جاهل بأصولهم أو عامد للتناقض وكان يقول أن تارك الصلاة وتارك الزكاة عامدا لكل لك لم يفعل شيئا ولا أنب ولا عصي وأنه مخلد بل أطباق النيران أبدا على غير فعل فعله ولا على شيء أرتكبه
قال أبو محمد فهل في التجويز لله على أصولهم وهل في مخالفة الإسلام جهارا أكثر من هذا القول السخيف وكان الذي حمله على قوله هذا قوله أنه ترك الفعل ليس فعلا وجميع المعتزلة إلا هشام بن عمر والفوطي يزعمون أن المعدودات أشياء على الحقيقة وأنها لم تزل وأنها لا نهاية لها
قال أبو محمد وهذه دهرية بلا مطل وأشياء لا نهاية لها لم تزل غير مخلوقة وكان عبد الرحيم بم محمد بن عثمان الخياط من أكابر المعتزلة ببغداد ممن يقول أن الأجسام المعدومة لم تزل أجساما بلا نهاية لها لا في عدد ولا في زمان غير مخلوقة وقال أبو محمد عبد الله الأسكافي أحد رؤساء المعتزلة أن الله تعالى لم يخلق الطنابير ولا المزامير ولا المعازف
قال أبو محمد كان من تمام هذا الكفر أن يقول أن ا لله لم يخلق الخمر ولا الخنازير ولا مردة الشياطين وقالت المعتزلة بأسرها حاشا بشر بن المعتمر وضرار ابن عمر وأنه لا يحل لأحد تمنى الشهادة ولا أن يريدها ولا أن يرضاها لأنها تغليب كافر على مسلم وإنما يجب على المسلم أن يحب الصبر على ألم الجراح فقط إذا أصابته
قال أبو محمد وهذا خلاف دين الإسلام والقرآن والسنن والإجماع المتيقن وقالوا كلهم حاشا ضررا وبشرا أن الله لم يمت رسولا ولا نبيا ولا صاحب نبي ولا أمهات المؤمنين وهو يدري أنهم لو عاشوا فعلوا خيرا لكن أمات كل من أمات منهم إذ علم أنه لو أبقاه طرفة عين لكفروا أو فسق ولا بد هذا قولهم في أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وعائشة وخديجة نعم وفي رسول الله صلى الله عليه و سلم موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام فأعجبوا لهذه ا لضلالات الوحشية وكان الجعد وهو من شيوخهم يقول إذا كان الجماع يتولد منه الولد فأنا صانع ولدي ومدبره وفاعله لا فاعل له غيرى وإنما يقال أن الله خلقه مجازا لا حقيقة فأخذ أبو علي محمد بن عبد ا لوهاب الجبائي الطرف الثاني من الكفر فقال أن تعالى خلق الحبل والموت وكل من فعل شيئا فهو منسوب اليه فإن الله تعالى هو محبل النساء وهو أحبل مريم بنت عمران
قال أبو محمد يلزم ولا بد إذا كان أولادنا خلقا لله عز و جل أن يضيفهم اليه فيقول هم أبنا الله والمسيح ابن الله ولا بد وقال أبو عمر وأحمد بن موسى بن أحدير صاحب السكة وهو من شيوخ المعتزلة في بعض رسائله التي جرت بينه وبين القاضي منذر بن سعيد رحمه الله أن الله عاقل وأطلق عليه هذا الإسم وقال بعض شيوخ المعتزلة أن العبد إذا عصى الله عز و جل طبع على قلبه فيصير غير مأمور ولا منهي وأما حماقاتهم فإن أبا الهذيل العلاف قال

من سرق خمسة دراهم أو قيمتها فهو فاسق منسلخ من الإسلام مخلد أبدا في النيران إلا أن يتوب وقال بشر بن المعتمر أن من سرق عشرة دراهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد فإن سرق عشرة دراهم خرج عن الإسلام ووجب عليه الخلود إلا أن يتوب وقال النظام أن سرق ماتي درهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد وإن سرق ماتي درهم خرج عن الإسلام ولزمه الخلود إلا أن يتوب وقال أبو بكر أحمد بن علي بن أحور بن الإخشيد وهو أحد رؤسائهم الثلاثة الذين انتهت رياستهم اليهم وافترقت المعتزلة على مذاهبهم والثاني منهم أبو هاشم الجبائي والثالث عبد الله بن محمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي وكان والد أحمد بن علي المذكور أحد قواد الفراعنة وولي الثغور للمعتضد وللمكتفي فكان من قول أحمد المذكور أن من ارتكب كل ذنب في الدنيا وهكذا أبدا متى عاد لذلك الذنب أو لغيره من القتل فما دونه إلا أنه ندم أثر فعله له فقد صحت توبته وسقط عنه ذلك الذنب أبدا وهكذا أبدا متى عاد لذلك الذنب أو لغيره
قال أبو محمد هذا قول لم يبلغه جماهير المرجئة وهو مع ذلك يدعي أن القول بإنفاذ الوعد والوعيد وما على أديم الأرض مسلم لا يندم على ذنبه وقال عبد الرحمن تلميذ أبي الهذيل أن الحجة لا تقوم في الإخبار إلا بنقل خمسة يكون فيهم ولي لله لا أعرفه بعينه وعن كل واحد من أولئك الخمسة خمسة مثلهم وهكذا أبدا وقال صالح تلميذ النظام أن من رأى رؤيا أنه بالهند أو أنه قتل أو أنه أي شيء رأى فإنه حق يقين كما رأى كما لو كان ذلك في اليقظة وقال عباد بن سليمان الحواس سبع وقال النظام الألوان جسم وقد يكون جسمان في مكان واحد وكان النظام يقول لا تعرف الأجسام بالإخبار أصلا لكن كل من رأى جسما سواء كان المرئي إنسانا أو غير إنسان فإن الناظر اليه اقتطع منه قطعة اختلطت بجسم الرائي ثم كل من أخبره ذلك الرائي عن ذلك الجسم فإن المخبر أيضا أخذ من تلك القطعة قطعة وهكذا أبدا
قال أبو محمد وهذه قصة لولا أننا وجدناها عنه من طريق تلامذته المعظمين له ذكروها في كتبهم عنه ما عرفناه على ذي مسكة من عقل فألزمه خصومه على هذا أن قطعا من جبريل وميكائيل ومن النبي صلى الله عليه و سلم ومن موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام في نار جهنم وإن قطعا من فرعون وإبليس وأبي لهب وأبي جهل في الجنة وكان يزعم أنه لا سكون في شيء من العالم أصلا وأن كل سكون يعلم بتوسط البصر فهو حركة بلا شك وكان معمر يزعم أنه لا حركة في شيء من العالم وأن كل ما يسميه الناس حركة فهو سكون وكان عباد بن سليمان يقول أن الأمة إذا اجتمعت وصلحت ولم تتظالم أحتاجت حينئذ إلى إمام يسوسها ويدبرها وإن عصت وفجرت وظلمت استغنت عن الإمام وكان أبو الهذيل يقول أن الإنسان لا يفعل شيئا في حال استطاعته وإنما يفعل بالإستطاعة بعد ذهابها فألزمه خصومه أن الإنسان إنما يفعل إذا لم يكن مستطيعا وأما إذا كان مستطيعا فلا وأن الميت يفعل كل فعل في العالم
قال أبو محمد وحماقاتهم أكثر من ذلك ونعوذ بالله من الخذلان

شنع المرجئة
قال أبو محمد غلاة المرجئية طائفتان أحدهما الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان وأن

اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز و جل ولي له عز و جل من أهل الجنة وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وهو بخراسان وبيت المقدس والثانية الطائفة القائلة أن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا نقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن الثتليث في دار الإسلام ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز و جل ولي لله عز و جل من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه على نصرين سيار بخراسان وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما فأما الجهمية فبخراسان وأما الأشعرية فكانوا ببغداد والبصرة ثم قامت له سوق بصقلية والقيروان وبالأندلس ثم رق أمرهم والحمد لله رب العالمين فمن فضايح الجهمية وشنعهم قولهم بأن علم الله محدث مخلوق وأنه تعالى لم يكن يعلم شيئا حتى أحدث لنفسه علما علم به وكذلك قولهم في القدرة وقال أيضا أن الجنة والنار يفنيان ويفنى كل من فيهما و هذا خلاف القرآن والثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلاف إجماع أهل الإسلام المتيقن وقال بعض الكرامية المنافقون مؤمنون من أهل الجنة وقد أطلق ذلك بالمربة محمد بن عيسى الصوفي الالبيري وكانت ألفاظه تدل على أنه يذهب مذهبهم في التجسيم وغيره وكان ناسكا متقللا من الدنيا واعظا مفوها مهذارا قليل الصواب كثير الخطأ رأيته مرة وسمعته يقول أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يلزمه زكاة مال لأنه اختار أن يكون نبيا عبدا والعبد لا زكاة عليه ولذلك لم يورث ولا ورث فأمسكت عن معارضته لأن العامة كانت تحضره فخشيت لغطهم وتشنيعهم بالباطل ولم يكن معي أحد إلا يحيى بن عبد الكثير بن وافد كنت أتيت أنا وهو معي متنكرين لنسمع كلامه وبلغتني عنه شنع منها القول بحلول الله فيما شاء من خلقه أخبرني عنه بهذا أبو أحمد الفقيه المعافري عن أبي علي المقري وكان على بنت محمد بن عيسى المذكور وغير هذا أيضا نعوذ بالله من الضلال وقالت طائفة الكرامية المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار وقالت طائفة منهم أيضا من آمن بالله وكفر بالنبي صلى الله عليه و سلم فهو مؤمن كافر معا ليس مؤمنا على الإطلاق ولا كافرا على الإطلاق وقال مقاتل ابن سليمان وكان من كبار المرجئة لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا وكان مقاتل هذا مع جهم بخراسان في وقت واحد وكان يخالفه في التجسيم كان جهم يقول ليس الله تعالى ولا هو أيضا لا شيء لأنه تعالى خالق كل شيء فلا شيء إلا مخلوق وكان مقاتل يقول أن الله جسم ولحم ودم على صورة الإنسان وقالت الكرامية الأنبياء يجوز منهم كبائر المعاصي كلها حاشا الكذب في البلاغ فقط فإنهم معصومون منه وذكر لي سليمان بن خلف الباجي وهو من رؤس الأشعرية أن فيهم من يقول أيضا أن الكذب في البلاغ أيضا جائز من الأنبياء والرسل عليهم السلام
قال أبو محمد وكل هذا كفر محض وذكر عنهم محمد بن الحسن بن فورك الأشعري أنهم يقولون أن الله تعالى يفعل كلما يفعل في اته وأنه لا يقدر على إفناء خلقه كله حتى يبقى وحده كما كان قبل أن يخلق وقالوا أيضا أن كلام الله تعالى أصوات وحروف هجاء وجتمعة كلها أبدا لم تزل ولا تزال وقالوا أيضا لا يقدر الله على غير ما فعل وقالوا أيضا أنه متحرك

أبيض اللون ذكر عنهم أنهم يقولون أنه تعالى لا يقدر على إعادة الأجسام بعد بلائها لكن يقدر على أن يخلق مثلها ومن حماقاتهم أنهم يجيزون كون إمامين وأكثر في وقت واحد وأما الأشعرية فقالوا إن شئتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بها باللسان بلا تقية ولا حكاية والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في قلبه كفر فقلنا لهم وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل فقالوا لا وقالت الأشعرية أن إبليس قد كفر ثم أعلن بعصيان الله تعالى في السجود لآدم عليه السلام فإن إبليس من حينئذ لم يعرف أن الله تعالى حقا ولا أنه خلقه من نار ولا أنه خلق آدم من تراب وطين ولا عرف أن الله أمره بالسجود لآدم بعدها قط ولا عرف بعد هذا قط أن الله كرم آدم ومن قولهم بأجمعهم أن إبليس لم يسأل الله قط أن ينظره إلى يوم البعث فقلنا لهم ويلكم إن هذا تكذيب لله عز و جل ولرسوله صلى الله عليه و سلم ورد للقرآن قالوا لنا أن إبليس إنما قال كل ذلك هازئا مستهزئا بلا معرفة ولا إعتقاد كان هذا أشنع كفروا برده بعد كفر الغالية من الرافضة وقالوا أن إبليس لم يكفر بمعصيته الله في ترك السجود لآدم ولا بقوله عن آدم أنا خير منه وإنما كفر بجحد الله تعالى كان في قلبه
قال أبو محمد هذا خلاف للقرآن وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه على ان الشيخ غير ثقة فيما يحدث به وقالت الأشعرية أيضا أن فرعون لم يعرف قط أن موسى إنما جاء بتلك الآيات من عند الله حقا وأن اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم لم يعرفوا قط أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم حقا ولا عرفوا أنه مكتوب في التوراة والإنجيل وأن من عرف ذلك منهم وكتمه وتمادى على إعلان الكفر ومحاربة النبي صلى الله عليه و سلم بخيبر ومن بني قريظة وغيرهم فإنهم كانوا مؤمنين عند الله عز و جل أولياء لله من أهل الجنة فقلنا لهم ويلكم هذا تكذيب لله عز و جل إذ يقول يجحدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و فإنهم لا يكذبونك فقالوا لنا معنى أنهم وجدوا خطأ مكتوبا عندهم لم يفهموا معناه ولا دروا ما هو ونعم عرفوا صورته فقط ودرو أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب كما يعرف الإنسان جاره فقط فكان هذا كفرا باردا أو تحريفا لكلام الله تعالى عن مواضعه ومكابره سمجة وحماقة ودفعا للضرورة وقد تقصينا الرد على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا رسمه كتاب اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين تقصيا فيه كلام رجل من كبارهم من أهل القيروان اسمه عطاف بن دوتاس في كتاب ألفه في نصر هذه المقالة وكان لشيخهم الأشعري في إعجاز القرآن قولان أحدهما كما يقول المسلمون أنه معجز النظم والآخر إنما هو المعجز الذي لم يفارق الله عز و جل قط والذي لم يزل غير مخلوق ولا نزل الينا ولا سمعناه قط ولا سمعه جبريل ولا محمد عليهما السلام قط وأما الذي يقرأ في المصاحف ونسمعه فليس معجزا بل مقدور على مثله وهذا كفر صحيح وخلاف لله تعالى ولجميع أهل الإسلام وقال كبيرهم وهو محمد بن الطيب الباقلاني أن لله تعالى خمسة عشر صفة كلها قديمة لم تزل مع الله تعالى وكلها غير الله وخلاف لله تعالى وكل واحدة منهن غير الأخرى منهن وخلاف لسائرها وأن الله تعالى غيرهن وخلافهن

قال أبو محمد هذا والله أعظم من قول النصارى وأدخل في الكفر والشرك لأن النصارى لم يجعلوا مع الله تعالى إلا إثنين هو ثالثهما وهؤلاء جعلوا معه تعالى خمسة عشر هو السادس عشر لهم وقد صرح الاشعري في كتابه المعروف بالمجالس بأن مع الله تعالى أشياء سواه لم تزل كما يزل
قال أبو محمد وهذا إبطال التوحيد علانية وإنما حملهم على هذا الضلال ظنهم أن إثبات علم الله تعالى وقدرته وعزته وكلامه لا يثبت إلا بهذه الطريقة الملعونة ومعاذ الله من هذا بل كل ذلك حق لم يزل غير مخلوق ليس شيء من ذلك غير الله تعالى ولا يقال في شيء من ذلك هو الله تعالى لأن هذه تسمية له عز و جل وتسميته لا تجوز إلا بنص وقد تقصينا الكلام في هذا في صدر ديواننا هذا والحمد لله رب العالمين إنما جعلنا هاهنا شنع أهل البدع تنفيرا عنهم وإيحاشا للأغمار من المسلمين من الإنس بهم ومن حسن الظن بكلامهم الفاسد ولقد قلت لبعضهم إذا قلتم أن مع الله تعالى خمسة عشر صفة كلها غيره وكلها لم تزل فما الذي أنكرتم على النصارى إذ قالوا أن الله ثالث ثلاثة فقال لي إنما أنكرنا عليهم إذ جعلوا معه شيئين فقط ولم يجعلوا معه أكثر ولقد قال لي بعضهم اسم الله تعالى وهو قولنا الله عبارة تقع على ذات الباري وجميع صفاته لا على ذاته دون صفاته فقلت له أتعبد الله أم لا فقال لي نعم فقلت له فإنما تعبد إذا بإقرارك الخالق وغيره معه فيكفيك فنفر نفرة وقال معاذ الله من هذا ما عبد إلا الخالق وحده فقلت له فإنما تعبد إذا بإقرارك بعض ما يسمى به الله فنفر أخرى وقال معاذ الله من هذا وأنا واقف في هذه المسألة وقال شيخ لهم قديم وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري أن صفات الله تعالى ليست باقية ولا فانية ولا قديمة ولا حديثة لكنها لم تزل غير مخلوقة هذا مع تصريحه بأن الله قديم باق ومن حماقات الأشعرية قولهم أن للناس أحوالا ومعاني لا معدومة ولا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة ولا مخلوقة ولا غير ومخلوقة ولا أزلية ولا محدثة ولا حق ولا باطل وهي علم العالم بأن له علما ووجود الواجد لوجدوه كلما يجد هذا أمر سمعناه منهم نصا ورأيناه في كتبهم فهل في الرعونة أكثر من هذا وهل يمكن الموسوس والمبرسم أن يأتي بأكثر من هذا ولقد حاورني سليمان بن خلف الباجي كبيرهم هذه المسألة في مجلس حافل فقلت له هذا كما تقول العامة عندنا عنب لا من كرم ولا من دالية ومن هوسهم قولهم أن الحق غير الحقيقة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا أم في أي شرع وارد أم في أي طبيعة ظفروا به فقالوا إن الكفر حقيقة وليس بحق وقلنا كلا بل وجوده عن حقيقة ومعناه باطل لا حق ولا حقيقة وقالوا كلهم أن الله حامل لصفاته في ذاته هذا نص قول أبي جعفر السمناتي المكفوف قاضي الموصل وهو أكبر أصحاب الباقلاني ومقدم الأشعرية في وقتنا هذا وقال هذا السمناني أيضا إن من سمى الله تعالى جسما من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى وأخطأ في التسمية فقط وقال هذا السمناني إن الله تعالى مشارك للعالم في الوجود وفي قيامه بنفسه كقيام الجواهر والأجسام وفي أنه ذو صفات قائمة به موجودة بذاته كما ثبت ذلك فيما هو موصوف بهذه الصفات من جملة أجسام العالم وجواهر هذا نص كلام السمناني حرفا حرفا
قال أبو محمد ما أعلم أحد من غلاة المشبهة أقدم على أن يطلق ما أطلق هذا المبتدع

الجاهل الملحد المتهور من أن الله تعالى مشارك للعالم حاشا لله من هذا وقال السمناني عن شيوخه من الأشعرية أن معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم أن الله خلق آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار وإجماع صفات الكمال فيه واسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله تعالى كل ذلك
قال أبو محمد هذا نص كلامه حرفا حرفا وهذا كفر صريح وشرك بواح إذ صرح بأن آدم على صفة الرحمن من اجتماع صفات الكمال فيهما فالله تعالى وآدم عنده مثلان مشتبهان في أجتمع صفات الكمال فيهما ثم لم يقنع بهذه السوءة حتى صرح بأن سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز و جل وحاشا لله من هذا لأن سجود الملائكة لله تعالى سجود عبادة وديانة لخالقهم وسجودهم لآدم سجود سلام وتحية وتشريف منهم لآدم وإكرام له بذلك كسجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام فقط ثم زاد اللعين كفرا على كفر بنصه أن الله تعالى جعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله تعالى ذلك وهذا شرك لا خفاء به كشرك النصارى في المسيح ولا فرق ونسأل الله تعالى العافية وقال هذا السمناني أن مذهب شيوخه أنهم لا يقولون أن الأمر بالشيء دال على كونه مرادا للآمر قديما كان أو محدثا ولا يدل النهي على كونه مكروها وهذا نص كلامه وهذا خلاف الإسلام والإجماع والمعقول وتصريح بأن الله تعالى إذا أمر بالصلاة والزكاة والحج والصيام والجهاد وشهادة الإسلام فليس في ذلك دليل على أنه يريد شيئا من ذلك وإذ نهى عن الكفر والزنا والبغي والسرقة وقتل النفس ظلما فليس ذلك دليلا على أنه يكره شيئا من ذلك وما في الأقوال أنتن من هذا القول وقال السمناني أنه لا يصح القول بأن علم الله تعالى مخالف للعلوم كلها ولا أن قدرته مخالفة للقدر كلها لأنها كلها داخلة تحت قولنا ووصفنا للقدر والعلوم هذا نص كلامه وهذا بيان بأن دينهم أن علم الله تعالى وقدرته من نوع علمنا وقدرتنا وإذ الأمر كذلك عنده فعلمنا وقدرتنا عرضان فينا مخلوقان فوجب ضرورة أن علم الله تعالى وقدرته عرضان في الله مخلوقان إذ من الممتنع وقوع ما لم يزل مع المحدث المخلوق تحت حد واحد ونوع واحد ونص هذا السمناني ومحمد بن الحسن بن فورك في صدر كلامه في كتاب الأصول أن الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث قالوا ذلك في كلامهم في علم الله تعالى في تحديدهم لمعنى العلم بصفة يقع تحتها علم الله تعالى وعلوم الناس وهذا نص منهم على أن الله تعالى محدود واقع معنا تحت الحدود وهو علمه وقدرته وهو شر من قول جهم شيخهم في الحقيقة وأبين من قول كل مشبه في الأرض ونص هذا السمناني على أن العالم والقادر والمريد من الله تعالى وخلقه إنما كان محتاجا إلى هذه الصفات لكونه موصوفا بها لا لجوازها عليه هذا نص كلامه وهذا تصريح منهم بلا تكلف ولا تأويل بأن الله تعالى عن كفر هذا الأرعن محتاج إلى الصفات وهذا كفر ما يدري أن أحدا بلغه ونص هذا السمناني أيضا على أن الله تعالى لما كان حيا عالما كان موصوفا بالحياة والعلم والقدرة والإرادة حتى لا يختلف الحال في ذلك في الشاهد والغائب هذا نص كلامه وهذا تصريح منه على أن الله تعالى حالا لم يخالفه فيها خلقة بل هو وهم فيها سواء ونص هذا السمناني على أنه إذا كانت الصفات الواجبة لله تعالى في كونه عالما قادرا لا يغني وجوبها له عن ما هو مصحح لها من الحياة فيه كما لا يوجب غناه

عما يوجب كونه عالما قادرا عن القدرة والعلم
قال أبو محمد هذا نص جلي على أن الله تعالى غير غني عن شيء هو غيره لأن الصفات عندهم هي غيره تعالى والله تعالى عندهم غير غني عنها تعالى الله وإذا لم يكن غنيا فهو فقير اليها هكذا قالت اليهود أن الله فقير تعالى الله عن هذا بل هو الغني جملة عما سواه وكل من دونه فقير اليه تعالى وقال السمناني إن قال قائل لم أنكرتم أن يكون الله مريدا لنفسه حسب ما قاله النجار والجاحظ قيل له أنكرنا ذلك لما قدمنا ذكره من أن الواحد من الخلق مريدا بإرادة ولا يخلو أن يكون حقيقة المريد من له الإرادة أو كونه مريدا أو جود الإرادة له وأي الأمرين كان وجبت مساواة الغائب الشاهد في هذا الباب
قال أبو محمد وهذا نص جلي على مساواة الله تعالى لخلقه عند هذا الجاهل وهذا أعظم في الكفر من قول كل مجسم لأن جميع المجسمين لم يقدم أحد منهم قط على القول بأن الله تعالى مساو لخلقه قبل هذه الفرقة الملعونة ثم العجب قطعهم بأن الله عز و جل غايب غير شاهد وحاشا لله عن هذا بل هو معنا وهو أقرب الينا من حبل الوريد كما قال عز و جل أنه حاضر في العقول غير غائب وقال الباقلاني ما وجد في الله تعالى من التسميات فإنه يجوز إطلاقها عليه وإن لم يسم بذلك نفسه ما لم يرد شرع يمنع من ذلك
قال أبو محمد هذا نص منه على أن هاهنا معاني توجد في الله تعالى مع الإلحاد في أسمائه إذ جاز تسميته بما لم يسم به عز و جل نفسه تعالى الله عن هذا علوا كبيرا وقالوا كلهم أن الله تعالى ليس له إلا كلام واحد وليس له كلمات كثيرة
قال أبو محمد هذا كفر مجرد لخلافة القرآن وتكذيب لله عز و جل في قوله قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدادا وإذ يقول تعالى ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله مع أن قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد قول أحمق لا يعقل ولا يقوم به برهان شرعي ولا تشكل في هاجس ولا يوجبه عقل إنما هو هذيان محض ويقال لهم لا يخلو القرآن عندهم من أنه كلام الله تعالى أو ليس هو كلام الله تعالى فإن قالوا ليس هو كلام الله تعالى كفروا ومن قرب وكفى الله تعالى مؤنتهم وإن قالوا هو كلام الله تعالى فالقرآن مائة سورة وأربعة عشر سورة فيها ستة آلاف أية ونيف كل سورة منها عند أهل الإسلام غير الأخرى وكل آية غير الأخرى فكيف يقول هؤلاء النوكى أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد أما هذا من الكفر البارد والقحة السمجة ونعوذ بالله من الضلال وقالوا كلهم أن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد عليه الصلاة و السلام وإنما نزل عليه بشيء آخر هو العبارة عن كلام الله وأن القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز وأن نرى في المصاحف ونسمع من القراء ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتة ولا شيء منه كلام الله البتة بل شيء آخر وإن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عز و جل
قال أبو محمد وهذا من أعظم الكفر لأن الله تعالى قال بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ وقال تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك وقال تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وقال تعالى بل آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وقال رسول الله

صلى الله عليه أنى أحب أن أسمعه من غيري يعني القرآن وقال عليه السلام الذي يقرأ القرآن مع السفرة الكرام البررة ونهيه صلى الله عليه و سلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العد والى إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعاملهم على القول حفظ فلان القرآن وقرأ فلان القرآن وكتب فلان القرآن في المصحف وسمعنا القرآن من فلان وكلام الله تعالى ما في المصحف من أول أم القرآن إلى آخر قل أعوذ برب الناس وقال السمناني أيضا إن الباقلاني وشيوخه قالوا إن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أطلق القول بأن ما أنزل الله هو القرآن وهو كلام الله تعالى إنما هو على معنى أنه عبارة عن كلام الله تعالى وأنه يفهم منه أمره ونهيه فقط
قال أبو محمد ويقال لهم أخبرونا عن قولكم إن الكتاب هو المصحف والقراءة المسموعة قي المحارب كل ذلك عبارة عن القرآن ماذا تعنون بذلك وهل هذا منكم إلا تمويه ضعيف وهل كل ما في المصحف إلا عبارة عن معاينة التي أرادها الله تعالى في شرع دينه من الصلاة والصيام والإيمان وغير ذلك وأحبارهم الأمم السالفة وصفة الجنة والنار والبعث وغير ذلك مما لا يختلف من أهل الإسلام أحد في أن المعبر عنه بذلك الكلام ليس هو كلام الله تعالى أصلا لأن ذات الجنة وذات النار وحركات المصلى وعمل الحاج وعمل الصائم وأجسام عاد وأشخاص ثمود ليس شيء من ذلك كلام الله تعالى ولا قرآنا فثيت أن ليس هو القرآن ولا هو كلام الله إلا العبارة المسموعة فقط والكلام المقروء والخط المكتوب في المصحف بلا شك إذ لم يبق غير ذلك أو الكفر وتكذيب الله تعالى وتكذيب رسول الله صلى الله عليه و سلم في أن القرآن أنزل عليه وأننا نسمع كلام الله فأوهمتم الضعفاء أن لذي هو كلام الله والقرآن عند جميع أهل الإسلام ليس هو هو القرآن ولا هو كلام لله ثم أوهمتوهم باستخفافكم إن حركات المتحركين وذات الجنة وذات النار هي كلام الله تعالى وهي بالقرآن فهل في الضلال والسخرية بضعفة المسلمين والهزء بآيات الله تعالى أكثر من هذا ولقد أخبرني علي بن حمزة المراوى الصقلي الصوفي أنه بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله قال فأكبرت ذلك وقلت له ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى فقال لي ويلك وبالله ما فيه إلا السخام والسواد وأما كلام الله بلا ونحو هذا من القول الذي هذا معناه وكتب إلى أبو المرحى بن رزوار المصري أن بعض ثقاة أهل مصر أخبره من طلاب السنن أن رجلا من الأشعرية قال له مشافهة على من يقول أن الله قال قل هو الله أحد الله الصمد ألف لعنة
قال أبو محمد بل على من يقول أن الله عز و جل لم يقلها ألف ألف لعنة نترى وعلى من ينكر أننا نسمع كلام الله ونقرأ كلام الله ونحفظ كلام لله ونكتب كلام الله ألف ألف لعنة نترى من الله تعالى فإن قول هذه الفرقة في هذه المسألة نهاية الكفر بالله عز و جل ومخالفة للقرآن والنبي صلى الله عليه و سلم ومخالفة جميع أهل الإسلام قبل حدوث هذه الطائفة الملعونة
قال أبو محمد وقالت الأشعرية كلها إن الله لم يزل قائلا لكل ما خلق أو يخلق في المستأنف كن إلا أن الأشياء لم تكن إلا حين كونها وهذا تكذيب منهم مكشوف لله عز و جل إذ يقول إنما أمره إذ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فبين الله تعالى أنه لا يقول للشيء كن إلا إذا أراد تكوينه وانه إذا قال له كن كان الشيء في الوقت بلا مهلة لأن هذا هو مقتضى الفاء في لغة العرب التي بها نزل القرآن فجمعوا إلى تكذيب الله عز و جل في

خبريه جميعا إيجاب أزلية العالم لأن الله تعالى إذا كان لم يزل قائلا لما يكون كن فإن التكوين لم يزل وهذه دهرية محضة ثم قال السمناني بعد أسطر لأنه لو وجب وجود ما وجد في الوقت الذي وجد فيه لأجل قول الله تعالى كن لوجب أن يوجد لأجل قول غيره له كن لأن صفة الاقتضاء لا تختلف في ذلك بين القديم والمحدث
قال أبو محمد هذا نص كلام هذا الفاسق الملحد حرفا حرفا وهذا كفر محض وحماقة لإخفاء بها أما الكفر فإبطاله ان وجود الأشياء في الأوقات التي وجدت فيها إنما وجدت لأجل قول الله تعالى لها كن وإيجابه إن الأشياء لم توجد في أحيان وجودها لقول الله تعالى لها كن وهذا تكذيب لله تعالى صرف وخروج عن إجماع أهل الإسلام وكل من يصلي إلى القبلة قبلهم ومن الكفر الصريح أيضا في هذا الكلام الملعون قوله أن صفة الإقتضاء في ذلك لا تختلف بين القديم والمحدث فسوى بين الله تعالى وخلقه وأما الحماقة فقوله لو وجدت الأشياء من أجل قول الله تعالى لها كن لوجب ان يوجد لأجل قول غيره لها كن فيا للمسلمين هل سمع في الحمق والرعونة وقلة الحياء أكثر من قول من سوى بين قول الله تعالى كن للشيء إذ أراد تكوينه وبين قول غيره من الناس كن وهذا أخبث من قول الدهرية ونعوذ بالله من الضلال فلولا الخذلان ما أنطلق بهذا النوك لسان من لا يقذف بالحجارة في الشوارع وما شبهت بهذا الكلام إلا كلام النذل أبي هاشم الجبائي لو لم يجز لنا أن نسمي الله تعالى بإسم حتى يأذن لنا في ذلك لوجب أن لا يجوز لله أن يسمي نفسه حتى يأذن له غيره في ذلك
قال أبو محمد وهذه أقوال لو قالها صبيان يسيل مخاطبهم لآيس من فلاحهم وتالله لقد لعب الشيطان بهم كما شاء فإنا لله وإنا إليه راجعون وقالت الأشعرية كلها إن الله لا يقدر على ظلم أحد البتة ولا يقدر على الكذب ولا على قول أن المسيح إبن الله حتى يقول قبل ذلك وقالت النصارى وأنه لا يقدر على أن يقول عزير إبن الله حتى يقول قبل ذلك وقالت اليهود وأنه لا يقدر على أن يتخذ ولد أو أنه لا يقدر البتة على إظهار معجزة على يدي كذاب يدعي النبوة فإن ادعى الالهية كان الله تعالى قادرا على اظهار المعجزات على يديه وأنه تعالى لا يقدر على شيء من المحال ولا على إحالة الأمور عن حقائقها ولا على قلب الأجناس عن ماهيتها وأنه تعالى لا يقدر البتة على أن يقسم الجزء الذي لا يتجزأ ولا على أن يدعو أحدا إلى غبر التوحيد هذا نص كلامهم وحقيقة معتقدهم فجعلوه تعالى عاجزا متناهي القوة محدود القدرة يقدر مرة ولا يقدر أخرى يقدر على شيء ولا يقدر على آخر وهذه صفة النقص وهم مع هذا يقولون إن الساحر يقدر على قلب الأعيان وعلى أن يمسخ إنسانا فيجعله حمارا على الحقيقة وعلى المشي في الهواء وعلى الماء فكان الساحر عندهم أقوى من الله تعالى
قال أبو محمد وخشوا مبادرة أهل الإسلام لهم بالإصطلام فخنسوا عن أن يصرحوا بأن الله تعالى لا يقدر فقالوا لا يوصف الله بالقدرة على شيء مما ذكرنا
قال أبو محمد ولا راحة لهم في هذا لأننا نقول لهم ولم لا نصفه بالقدرة على ذلك إلا أنه يقدر على شيء من ذلك ولا له قدرة على كل ذلك أم لأنه لا يقدر على كل ذلك ولا له قدرة على شيء من ذلك ولا بد من أحدهما بضرورة العقل وهنا ضلت جبلتهم الضعيفة ولا بد لهم من القطع بأنه لا يقدر وبأنه لا قدرة له على ذلك وإذ قد صرحوا بهذا بالضرورة

فأول العقل ومسموع اللغة كلاهما يوجبان أن من لا يقدر على شيء فهو عاجز عنه وإن من لا قدرة له على شيء فصفة العجز والضعف لاحقة به فلا بد لهم ضرورة من إطلاق إسم العجز على الله تعالى ووصفه بأنه عاجز وهذا حقيقة مذهبهم يقينا إلا أنهم يخافون البوار إن أظهروه وقال هذا الباقلاني لا فرق بين النبي والسحر الكذاب المتنبي فيما يأتينا به إلا التحدي فقط وقول النبي لمن بحضرته هات من يعمل كعملي وهذا إبطال للنبوة مجرد وقال الباقلاني و إبن فورك واشياعهما من أهل الضلالة والجهالة ليس لله تعالى أسماء البتة وإنما له تعالى إسم واحد فقط ليس له إسم غيره وإن قول الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه إنما أراد أن يقول لله التسميات الحسنى فذروا الذين يلحدون في تسمياته فقال لله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه قالوا وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد إنما أراد أن يقول تسعا وتسعين تسمية فقال تسعة وتسعين إسما
قال أبو محمد ما في البرهان على قلة الحياء وفساد الدين واستسهال الكذب أكثر من هذا وليت شعري من أخبرهم عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا الإفك ثم ليت شعري إذا زعموا ان الله تعالى أراد أن يقول التسميات الحسنى فقال الأسماء الحسنى لأي شيء فعل ذلك اللكنة أم غفلة أم تعمد لإضلال عباده ولا سبيل والله إلى رابع فأعجبوا لعظيم ما حل بهؤلاء القوم من الدمار والتبار والكذب على الله جهارا وعلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا رهبة ونعوذ بالله من الضلال مع أن هذا قول ما سبقهم اليه أحد وقالوا كلهم أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ليس هو رسول الله اليوم لكنه كان رسول الله
قال أبو محمد فكذبوا القرآن في قول الله عز و جل محمد رسول الله وكذبوا الآذان وكذبوا الإقامة التي أفترضها الله تعالى خمس مرات كل يوم وليلة على كل جماعة من المسلمين وكذبوا دعوة جميع المسلمين التي الفقوا على دعاء الكفار اليها وعلى أنه لا نجاة من النار لا بها واكذبوا جميع إعصار المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في أطباق جميعهم برهم وفاجرهم على الإعلان بلا اله إلا الله محمد رسول الله ووجب على قولهم هذا الملعون أنه يكذب المؤذنون والمقيمون ودعاة الإسلام في قولهم محمد رسول الله وان الواجب أن تقولوا محمد كان رسول الله وعلى هذه المسألة قتل الأمير محمود بن سبكتكين مولى أمير المؤمنين وصاحب خرا سان رحمه الله إبن فورك شيخ الأشعرية فأحسن الله جزاء محمود على ذلك ولعن إبن فورك وأشياعه وأتباعه
قال أبو محمد إنما حملهم على الكفر الفاحش قول لهم آخر في نهاية الضلال والإنسلاخ من الإسلام وهي قولهم أن الأرواح أعراض تفنى و لا تبقى وقتين وإن روح كل واحد منا الآن هو غير روحه الذي كان له قبل ذلك بطرفه عين وأن كل واحد منا يبدل أزيد من ألف ألف روح في كل ساعة زمانية وإن النفس إنما هو هذا الهواء الخارج بالتنفس حارا بعد دخوله باردا وإن الإنسان إذا مات فني روحه وبطل وإنه ليس لمحمد ولا لأحد من الأنبياء عند الله تعالى روح ثابتة تنعم ولا نفس قائمة تكرم وهذا خروج عن إجماع الإسلام فما قال

بهذا أحد ممن ينتمي إلى الإسلام قبل أبي الهذيل العلاف ثم تلاه هؤلاء وهذا خلاف مجرد للقرآن وتكذيب لله عز و جل إذ يقول أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون وإذ يقول عز و جل ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون وقال عز و جل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ولقوله تعالى ألله يتوف الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى وخلاف السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم المنقولة نقل التواتر من رؤيته صلى الله عليه و سلم الأنبياء عليهم السلام ليلة أسري به في السماء وما جرى له معه موسى عليه السلام في عدد الصلوات المفروضات وأن أرواح الشهداء نسمة تعلق في ثمار الجنة وما يلقى الروح عند خروجه من الفتنة والمسائلة وأخباره عليه السلام أنه رأى عن يمين آدم اسودة نسم بنيه من أهل الجنة وعن يساره أسودة نسم بنيه من أهل النار وسائر السنن المأثورة
قال أبو محمد ثم خجلوا من هذه العظيمة وتبرأ منهم إبليس الذي ورطهم فيها فشلوا فقالوا في كتبهم فإن لم يكن هذا فإن الروح تنتقل عند خروجها من الجسم إلى جسم آخر هكذا نص الباقلاني في أحد كتبه وأظنه الرسالة المعروفة بالحرة وهذا مذهب التناسخ بلا كلفة وقال السمناني في كتابه أن الباقلاني وأصحابه قالوا إن كل ما جاء في الخبر من نقل أرواح الشهداء إلى حواصل طير خضر وأن روح الميت ترتد اليه في قبره وما جرى مجرى ذلك من وصف الروح بالقرب والبعد والحركة والانتقال والسكون والعذاب فكل ذلك محمول على أقل جزء من أجزاء الميت والشهيد أو الكافر وإعادة الحياة في ذلك الجزء
قال أبو محمد وهذا طريق من الهوس جدا وتطايب بالدين ولقد أخبرني ثقة من أصحابي أنه سمع بعض مقدميهم يقول أن الروح إنما تبقى في عجب الذنب لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب
قال أبو محمد وهذا التأويل أقرب إلى الهزل منه إلى أقوال أهل الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان فإنما هذه ستائر دون مذهبهم الخبيث الذي ذكرنا آنفا وقالوا كلهم إن النظر في دلائل الإسلام فرض وأنه لا يكون مسلما حتى ينظر فيها وإن من شرط الناظر فيها أن يكون ولا بد شاكا في الله عز و جل وفي صحة النبوة ولا يصح النظر في دلائل النبوة ودلائل التوحيد لمن يعتقد صحتها
قال أبو محمد والله ما سمع سامع قط بادخل في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى وفي صحة النبوة فرضا على كل متعلم لانجاه له إلا به ولا دين لا حد دونه وإن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى وصحة النبوة باطل لا يحل فحصل من كلامهم إن من لم يشك في الله تعالى ولا في صحة النبوة فهو كافر ومن شك فيهما فهو محسن مؤد ما وجب عليه وهذه فضيحة وحماقة اللهم أنا نبرأ اليك من هذا القول ومن كان قائل به ثم لم يجدوا في أمد الاستدلال حدا فليت شعري على هذا القول الملعون وهو ومعتقده والداعي اليه كيف يكون حال من قبل وصيتهم هذه التي هي وصية الشيطان الرجيم فتبين بالشك في الله تعالى وفي النبوة وامتد به أمد الاستدلال أياما وأشهرا وساعات مات فيها أين مستقره ومصيره إلى النار والله خالدا

مخلدا أبد وبيقين ندري أن قائل هذه الأقوال مطالب للإسلام كأدلة مرصد لأهل داعية إلى الكفر ونعوذ بالله من الضلال وقالوا كلهم أن طعام رسول الله صلى الله عليه و سلم المئين والعشرات من صاع شعير مرة بعد مرة وسقيه الألف والألوف من ماء يسير ينبع من بين أصابعه وحنين الجذع ومجيء الشجرة وتكلم الذراع وشكوى البعير ومجيء الذئب ليس شيء من ذلك دلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم في نبوته لأنه عليه السلام لم يتحد الناس بذلك ولا يكون عندهم آية إلا ما تحدى به الكفار فقط وهذا تكذيب منهم للنبي صلى الله عليه و سلم في قوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله وهذا أيضا قول افتروه خالفوا فيه جميع أهل الإسلام وقالوا كلهم ليس لشيء من الأشياء نصف ولا ثلث ولا ربع ولا سدس ولا ثمن ولا عشر ولا بعض وأنه لا يجوز أن يقال الفرد عشر العشرة ولا أنه بعض الخمسة وحجتهم في ذلك أنه لو جاز أن يقال ذلك لكان عشرا لنفسه وبعض نفسه
قال أبو محمد وهذا جهل شديد لأنه إنما هو بعض من جملة يكون سائرها غيره وعشر جملة يكون سائرها غيره ونسوا أنفسهم فقالوا بالجزء لا يتجزأ ونسوا إلزام أنفسهم أن يكون جزءا لنفسه وهذا تكذيب لله عز و جل إذ يقول في القرآن فلها النصف فلامه الثلث فلامه السدس ولكم الربع ولهن الثمن بعضهم أولياء بعض وهذا عن النبي صلى الله عليه و سلم كثير مع مخالفتهم في ذلك جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم ومخالفة كل لغة والمعقول والطبائع وقالوا كلهم من قال أن النار تحرق أو تفلح أو أن الأرض تهتز أو تنبت شيئا أو أن الخمر يسكر أو أن الخبز يشبع أو أن الماء يروي أو أن الله تعالى ينبت الزرع والشجر بالماء فقد ألحد وافترى وقال الباقلاني من آخر السفر الرابع من كتابه المعروف بالانتصار في القرآن نحن ننكر فعل النار للتسخين والإحراق وننكر فعل الثلج للتبريد وفعل الطعام والشراب للشبع والري والخمر للاسكار كل هذا عندنا باطل محال ننكره أشد الإنكار وكذلك فعل الحجر لجذب شيء أو رده أو حبسه أو إطلاقه من جديد أو غيره هذا نص كلامه
قال أبو محمد وهذا تكذيب منهم لله عز و جل إذ يقول تلفح وجوههم النار ولقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد وقوله تعالى إنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنحرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم الآية وقوله تعالى فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج وقد صككت بهذا وجه بعض مقدميهم في المناظرة فدهش وبلد وهو أيضا تكذيب لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ يقول كل مسكر حرام وكل سراب أسكر حرام مع مخالفتهم لكل لغة ولكل ذي حس من مسلم وكافر ومكابرة العيان وأبطال المشاهدة ثم أظرف شيء احتجاجهم في هذه الطامة بأن الله عز و جل هو الذي خلق ذلك كله فقلنا لهم أوليس فعل كل حي مختار واختياره خلقا لله عز و جل فلا بد من قولهم نعم فيقال لهم فمن أين نسبتم الفعل إلى الأحياء وهي خلق الله تعالى ومنعتم من نسبة الفعل إلى الجمادات لأنه خلق الله تعالى ولا فرق ولكنهم قوم لا يعقلون
قال أبو محمد وسمعت بعض مقدميهم يقول أن من كان على معاصي خمسة من زنا وسرقة وترك صلاة وتضييع زكاة وغير ذلك ثم تاب عن بعضها دون بعض فأن توبته تلك لا تقبل وقد نص السمناني على أن هذا قول الباقلاني وهو قول أبي هاشم الجبائي ثم قال السمناني

هذا قول خارق للاجماع جمله وخلاف لدين الأمة هذا نص قول السمناني في شيخه وشهدوا على أنفسهم وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون
قال أبو محمد هذا القول مخالف للقرآن والسنن لأن الله تعالى يقول فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية وقال تعالى إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وبالضرورة يدري كل ذي مسكة من عقله أن التوبة من الزنا خير كثير فهذا الجاهل يقول أنه لا يراه صاحبه وأنه عمل ضائع عند الله عز و جل من مسلم مؤمن ومعاذ الله من هذا وسر هذا القول الملعون وحقيقته التي لا بد لقائله منه أنه لا معنى لمن أصر على الزنا أو شرب الخمر في أن يصلي ولا أن يزكي فقد صار يأمر بترك الصلاة الخمس والزكاة وصوم رمضان والحج فعلى هذا القول وقائله لعائن الله تتري ما دار الليل والنهار ونص السمناني عن الباقلاني شيخه أنه كان يقول أن الله تعالى لا يغفر الصغائر باجتناب الكبائر
قال أبو محمد وأن سمعت بعض مقدميهم ينكر أن يكون في الذنوب صغائر وناظرته بقول الله تعالى ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم وقلت بالضرورة يدري كل ذي فهم أن لا كبائر إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها وهي السيئات المغفورة باجتناب الكبائر بنص كلام الله تعالى فقولك هذا خلاف للقرآن مجرد فخلط ولجأ إلى الحرد وهذا منهم تكذيب لله عز و جل ورد لحكمه بلا كلفة ومن شنعهم الممزوجة بالهوس وصفافة الوجه قولهم أن لا حر في النار ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة وإنما خلق الله تعالى ذلك عند اللمس والذوق وهذا حمق عتيق قادهم اليه إنكارهم الطبائع وقد ناظرناهم على ذلك هذا مع قول شيخهم الباقلاني أن لقشور العنب رائحة للزجاج والحصا طعما ورائحة وزادوا حتى بلغوا إلى أن قالوا أن للفلك طعما ورائحة فليت شعري متى ذاقوه أو شموه أو من أخبرهم بهذا وهذا لا يعرفه إلا الله ثم الملائكة الذين هنالك وليكن من ذاق طعم الزجاج وشم رائحته فغير منكر أن يدعي مشاهدة الفلك ولمسه وشمه وذوقه ومن شنعهم قولهم أن من كان الآن على دين الإسلام مخلصا بقلبه ولسانه مجتهدا في العبادة إلا أن الله عز و جل يعلم أنه لا يموت إلا كافرا فهو الآن عند الله كافرا وان من كان الآن كافرا يسجد للنار وللصليب أو يهوديا أو زنديقا مصرحين بتكذيب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا إن في علم الله تعالى أنه لا يموت إلا مسلما فإنه الآن عند الله مسلم
قال أبو محمد ما قال هذا مسلم قط قبل هشام الغوطي وهذه مكابرة للعيان وتكذيب لله عز و جل مجرد كأنهم ما سمعوا قط قوله تعالى ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فسماهم مؤمنين ثم أخبر تعالى بأنهم كفروا وقوله تعالى ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فجعل الإسلام دينا لما كان عليه إذ كان عليه وإن ارتد معه ومات كافرا وقوله تعالى مخاطبا للمسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ويلزمهم أن الذي يسلم أبوه ولا يسلم هو لأنه كان بالغا ثم مات أبوه فلم يرثه لكفره ثم أسلم أن يفسخوا حكمهم ويورثوه من أبيه لأنه عندهم كان إذ مات أبوه مؤمنا عند الله تعالى ويلزمهم

إن من كان صبيا ثم عاش حتى شاخ إنه لم يكن عند الله قط إلا شيخا ولو جمع ما يدخل عليهم لقام منه سفر ضخم وقالوا كلهم أنه ليس على ظهر الأرض يهودي ولا نصراني يقر بقلبه إن الله حق
قال أبو محمد هذا تكذيب للقرآن على ما بينا قبل ومكابرة للعيان لأنا لا نحصي كم دخل في الإسلام منهم وصلح إيمانه وصار عدلا وكلهم لا يختلف في أنه كان قبل إسلامه مقرا بالله عز و جل عالما به كما هو بعد إسلامه لم يزد في توحيده شيء فكابر والعيان وكذبوا للقرآن بحمق وقلة حياء لا نظير له وقال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن مني قول الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر وقوله تعالى لا يحب الفساد إنما معناه لا يحب الفساد لأهل الصلاح ولا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا ولم يرد أنه لا يرضاه لأحد من خلقه ولا يحبه لأحد منهم ثم قال وان كان قد أحب ذلك ورضيه لأهل الكفر والفساد
قال أبو محمد وهذا تكذيب لله تعالى مجرد ثم أيضا أخبر بأن الكفار فعلوا من الكفر أمرا رضيه الله تعالى منهم وأحبه منهم فكيف يدخل هذا في عقل مسلم مع قوله تعالى اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم واعجبوا لظلمة جهله إذ لم يفرق بين إرادة الكفر والمشيئة والخلق له وبين الرضا والمحبة وقال أيضا فيه أن أقل من سورة من القرآن ليس بمعجز أصلا بل هو مقدور على مثله وقال أيضا في السفر الخامس من الديوان المذكور ان قيل كيف تقولون أكان يجوز من الله أن يؤلف القرآن تاليفا آخر غير هذا يعجز الخلق عن مقابلته قلنا نعم هو تعالى قادر على ذلك وعلى ما لا غاية له من هذا الباب وعلى أقدار كثيرة وأعداد لا يحصيها غيره إلا أن كان تأليف الكلام ونظم الألفاظ لا بد أن يبلغ إلى غاية وحد لا يحتمل الكلام أكثر منه ولا أوسع ولا يبقى وراء تلك الأعداد نص والأوزان شيء تتناوله القدرة قال ولنا في هذه المسألة نظر في تأليف الكلام ونظم الأجسام وتصوير الأشخاص هل يجب أن يكون نهاية لا يحتمل المؤلف والمنظوم فوقها ولا ما هو أكثر منها أم لا
قال أبو محمد هنا صرح بالشك في قدرة الله تعالى ألها نهاية كما يقول أبو الهذيل أخوه في الضلال والكفر أم لا نهاية لها كما يقول أهل الإسلام ونعوذ بالله من الضلال
قال أبو محمد ولقد أخبرني بعض من كان يداخلهم وكان له فيهم سبب قوي وكان من أهل الفهم والذكاء وكان يزري في باطن أمره عليهم أنهم يقولون أن الله تعالى مذ خلق الأرض فإنه خلق جسما عظيما يمسكها عن أن تهوي هابطة فلما خلق ذلك الجسم أفناه في الوقت بلا زمان وخلق آخر مثله يمسكها أيضا فلما خلقه أفناه أثر خلقه بلا زمان أيضا وخلق آخر وهكذا أبدا أبدا بلا نهاية قال لي وحجتهم في هذا الوسواس والكذب على الله تعالى فيه مما لم يقله أحد قبلهم مما يكذبه الحس والمشاهدة أنه لا بد للأرض من جسم ممسك والاهوت فلو كان ذلك الممسك يبقى وقتين أو مقدار طرفة عين لسقط هو أيضا معها فهو إذا خلق ثم أفنى إثر خلقه ولم يقع لأن الجسم عندهم في ابتداء خلقه لا ساكن ولا متحرك
قال أبو محمد وهذا احتجاج للحمق بالحمق وما عقل أحد قط جسما لا ساكنا ولا متحركا بل الجسم في ابتداه خلق الله تعالى له في مكان محيط به في جهاته ولا شك ساكن في مكانه ثم تحرك وكأنهم لم يسمعوا لقول الله تعالى إن الله يمسك السموات والأرض ان

تزولا فأخبر تعالى أنه يمسكها كما شاء دون تكلف ما لم يخبرنا الله تعالى به ولا جعل في العقول دليلا عليه ولو أن قائل هذا الحمق وقف على الحق وطالع شيئا من براهين الهيئة لحجل مما أتى به من الهوس ومن شنعهم قول هذا الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن إن تقسيم آيات القرآن وترتيب مواضع سورة شيء فعله الناس وليس هو من عند الله ولا من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد فقد كذب هذا الجاهل وافك اتراه ما سمع قول الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في آية الكرسي وآية الكلالة والخبر أنه عليه السلام كان يأمر إذا نزلت الآية أن تجعل في سورة كذا وموضع كذا ولو أن الناس رتبوا سورة لما تعدوا أحد وجوه ثلاثة إما أن يرتبوها على الأول فالأول نزولا أو الأطول فما دونه أو الأقصر فما فوقه فإذ ليس ذلك كذلك فقد صح أنه أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا يعارض عن الله عز و جل لا يجوز غير ذلك أصلا ومن شنعهم قول الباقلاني في كتابه في مذاهب القرامطة قرب آخر الكتاب في باب ترجمته ذكر جمل مقالات الدهرية والفلاسفة والثنوية قال الباقلاني فإما ما يستحيل بقاؤه من أجناس الحوادث وهي الأعراض فإنما يجب عدمها في الثاني من حال حدوثها من غير معدم ولا شيء يفنيها هذا نص كلامه وقال متصلا بهذا الفصل وأما نحن فنقول أنها تفني الجواهر نعني بقطع الأكوان عنها من حيث لا يصح لها وجود لا في مكان ولا فيما يقدر تقدير المكان وإذا لم يلحق فيها شيء من الأكوان فعدم ما كان يخلق فيها منها أوجب عدمها هذا نص كلامه وهذا قول بإفناء الجواهر والأعراض وهو فناء وإعدام لا فاعل لهما وإن الله تعالى لم يفنى الفاني ونعوذ بالله من الضلال والحاد المحض وقالوا بأجمعهم ليس لله تعالى على الكفار نعمة دينية أصلا وقال الأشعري شيخهم ولاله على الكفار نعمة دنيوية أصلا وهذا تكذيب منه ومن اتباعه الضلال لله عز و جل إذ يقول بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وإذ يقول عز و جل يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين وإنما خاطب تعالى بهذا كفارا جحدوا نعمة الله تعالى تبكيتا لهم وأما الدنيوية فكثير قال تعالى قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره إلى قوله فلينظر الإنسان إلى طعامه الآية ومثله من القرآن كثير وقال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن في باب مترجم بباب الدلالة على أن القرآن معجز للنبي صلى الله عليه و سلم وذكروا سؤال الملحدين عن الدليل على صحة ما ادعاه المسلمون من أن القرآن معجز فقال الباقلاني يقال لهم ما معنى وصف القرآن وغيره من آيات الرسول صلى الله عليه و سلم بأنه معجز فإنما معناه أنه مما لا يقدر العباد عليه وأن يكونوا عاجزين على الحقيقة وإنما وصف القرآن وغيره من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام كعصى موسى وخروج الناقة من الصخرة وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بأنه معجز وإن لم يتعلق به عجز عاجز عنه على وجه التسمية بما يعجز عنه العاجز من الأمور التي صح عجزهم عنها وقدرتهم عليها لأنهم لم يقدروا على معارضات آيات الرسل غير عن عدم قدرتهم على ذلك فالعجز عنه تشبيها له بالمعجوز عنه قال الباقلاني ومما يدل على أن العرب لا

يجوز أن تعجز عن مثل القرآن لأنه قد صح وثبت أن العجز لا يكون عجزا إلا عن موجود فلو كانوا على هذا الأصل عاجزين عن مثل القرآن وعصى موسى وإحياء الموتى وخلق الأجسام والأسماع والأبصار وكشف البلوى والعاهات لوجب أن يكون ذلك المثل موجودا فيهم ومنهم كما كانوا قادرين على ذلك لوجب أن يكون ذلك منهم ولما لم يكن ذلك كذلك ثبت أنه لا يجوز عجز العباد على الحقيقة عن مثل القرآن مع عدمه منهم وكونه غير موجود لهم ولا عن قلب عصى موسى حية ولا عن مثل ذلك
قال أبو محمد أينتظر كفر بعد هذا الكفر في تصريحه أن العباد والعرب لا يجوز أن يعجزوا عن مثل القرآن ولا عن قلب العصا حية ولا يغتر ضعيف بقوله أنهم غير قادرين على ذلك فإنما على قوله المعروف من أن الله لا يقدر على غير ما فعل وظهر منه فقط ومن عظيم المحال قوله في هذا الفصل أنه لا يجوز أن يعجز العاجز إلا عما يقدر عليه مع أن هذا الكلام عنه موجب أنهم إن عجزوا عن مثل القرآن وقدروا عليه وما يمترى في أنه كان كائدا للإسلام ملحدا لا شك فيه فهذه الأقوال لا ينطلق بها لسان مسلم ومن أعظم البراهين على كفر الباقلاني وكيده للدين قوله في فصل آخر من الباب المذكور في الكتاب المذكور أنه لا يجب على من سمع القرآن من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه و سلم أن يبادر إلى القطع على أنه له آية أو أنه على يده ظهر ومن قبله نجم حتى يسأل أهل النواحي والأطراف ونقلة الأخبار ويتعرف حال المتكلمين بذلك اللسان في الآفاق فإذا علم بعد التثبت والنظر أنه لم يسبقه إلى ذلك أحد لزمه حينئذ اعتقاد نبوته
قال أبو محمد وهذا إنسان خاف معاجلة الأمة له بالرجم كما يرجم الكلب إن صرح بأن نبوة محمد صلى الله عليه و سلم باطل فصرح لهم بما يودي إلى ذلك من قرب إذا وجب بأن لا يقر أحد بنبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا بأن آتي بالقرآن ولا بأنه آية من آياته على صحة نبوته إلا حتى يسأل أهل النواحي والأطراف وينتظر الأخبار ويتعرف حال المتكلم بالعربية في الآفاق
قال أبو محمد فاحال والله علي عمل لا نهاية له ولو عمر الإنسان عمر نوح عليه الصلاة و السلام لأن سؤال أهل النواحي والأطراف لا ينقضي في ألف عام وانتظار الأخبار ليس له حد وليت شعري متى تصل المخدرة وطالب المعاش إلى طرف من هذا المحال لأن أهل النواحي هم من بين صدر الصين إلى آخر الأندلس إلى بلاد الزنج إلى بلاد الصقالية فما بين ذلك فلاح كفر هذا الجاهل الملحد وكيده للإسلام لكل من له أدنى حس مع ضعف كيده في ذلك قال تعالى إن كيد الشيطان كان ضعيفا ويكفي من كل هزر أتى به هذا الفصل الملعون قائلة ازمن له علم قوى بالعربية ولاخبار في كيفية تيقن عجز العرب عن معارضته فمن بعدهم إلى اليوم وأنه من عنده ضرورة لأنه لم ينزل القرآن جملة فيمكن فيه الدعوى من أحد وإنما نزل مقطعا في كل قصة تنزل فينزل فيها قرآن وهذه ضرورة موجبة أنه عنده عليه الصلاة و السلام ظهر بوحي الله تعالى اليه وبما فيه من الغيوب التي قد ظهر إنذاره بها وأما من لا علم له باللغة والأحبار فكيفية إخبار من يقع له العلم بخبرة بأن العرب عجزت عن مثله وأنه آتي به مفصلا عند حلول القصص التي أنزل الله تعالى فيها الآية والآيتين والكلمة والكلمتين من القرآن والتوراة

حتى تم هو فهذا الحق وذلك الإلحاد المحض والكلام الغث السخيف ومن كفراتهم الصلع قول السمناني إذ نص على أن الباقلاني كان يقول أن جميع المعاصي كلها لا تحاشي شيئا منها مما يجب أن يستغفر الله منه جايز وقوعها من النبي صلى الله عليه و سلم حاشا الكذب في البلاغ فقط وقال الباقلاني وإذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلا على أنه منسوخ إذ قد يفعله عاصيا لله عز و جل قال الباقلاني وليس على أصحابه فرضا أن ينكروا ذلك عليه وقال السمناني في كتابه الإمامة لولا دلالة العقل على وجوب كون النبي صلى الله عليه و سلم معصوما في البلاغ عن الله عز و جل لما وجب كونه معصوما في البلاغ كما لا يجب فيما سواه من أفعاله وأقواله وقال أيضا في مكان آخر منه وكذلك يجوز أن يكفر النبي صلى الله عليه و سلم بعد أداء الرسالة
قال أبو محمد بالله الذي لا إله إلا هو إن كان قال هذا القول ناصرا له وداعيا اليه مسلم قط وما كان قائله لا كافرا ملحدا فاعلموا أيها الناس أنه قد جوز على النبي صلى الله عليه و سلم الكفر والزنا واللياطة والبغاء والسرقة وجميع المعاصي وأي كيد للإسلام الناس أعظم من هذا وأما صاحبه أبن فورك فإنه منع من هذا وأنكره وأجاز على النبي صلى الله عليه و سلم صغار المعاصي كقتل النساء وتعريضهن وتفخيذ الصبيان ونحو ذلك وأما شيخهما ابن مجاهد البصري ليس بالمقري فإنه منع من كل ذلك وحاشا لله أن يجوز النبي صلى الله عليه و سلم ذنب بعمد لا صغير ولا كبير لقول الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ومن المحال أن يأمرنا الله تعالى أن نتأسى بعاص في معصية صغرت أو كبرت وأعجبوا لاستخفاف هذا الملحد بالدين وبالمسلمين إذ يقول هاهنا إنه ليس فرضا على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن ينكروا عليه عصيان ربه ومخالفة أمره الذي أمرهم به وهو يقول في نصرة للقياس أن قياس من قاس من الصحابة وسكوت من سكت منهم عن إنكاره دليل على وجوب الحكم بالقياس لأنهم لا يقرون على منكر فأوجب إقرارهم على المنكر من النبي صلى الله عليه و سلم حاشا لله من هذا وأنكر إقرارهم على القياس لو كان منكر فجمع بين هذا المناقضة والكذب في دعوى القياس على الصحابة ودعوى معرفة جميعهم بقياس من قاس منهم ودعوى انهم لم ينكروه وهذه صفات الكذابين المتلاعبين بالدين ومن طوامهم ما حكاه السمناني عن الباقلاني أنه قال واختلفوا في وجوب كون النبي صلى الله عليه و سلم أفضل أهل وقته في حالة الرسالة وما بعدها إلى حين موته فأوجب ذلك قائلون وأسقطه آخرون وقال الباقلاني وهذا هو الصحيح وبه نقول
قال أبو محمد وهذا والله الكفر الذي لا خفاء به إذ جوز أن يكون أحد ممن في عصر النبي صلى الله عليه و سلم فما بعده أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم وما أنكرنا على أحمد ابن خابط الأدون هذا إذ قال أن أبا ذر كان أزهد من النبي صلى الله عليه و سلم هذا مع قول هذا المستخف الباقلاني الذي ذكره عند السمناني في كتابه الكبير في كتاب الإمامة منه إن من شرط الإمامة أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه
قال أبو محمد يا للعيارة بالدين يجوز عند هذا الكافر أن يكون في الناس غير الرسل أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يجوز عنده أن يلي الإمامة أحد يوجد في الناس

أفضل منه ثم حمقه أيضا في هذا حمق عتيق لأنه تكليف ما لا يطاق ولا سبيل إلى القطع بفضل أحد على أحد إلا بنص من الله عز و جل وكيف يحاط بالأفضل من قريش وهم مبثوثون من أقصى السند وكابل ومكران إلى الأشوتة إلى سواحل البحر المحيط ومن سواحل بحر اليمن إلى ثغور أرمينية وأذربيجان فما بين ذلك اللهم العن من لا يستحي ومن العجب أن هذا النذل الباقلاني قطع بخلاف الإجماع على أبي حنيفة بإجازته للفراة الفارسية وصرح بأن ترتيب الآيات في القرآن اجماع وقد أجاز مالك لمن قرأ عند غروب الشمس وطلوعها فجاءته آية سجدة أن يصل التي قبلها بالتي بعدها فمالك عنده مخالف للإجماع وقطع بأن الشافعي مخالف للإجماع في قوله بسم الله الرحمن الرحيم اية من أم القرآن وان داود خالف الإجماع في قوله بإبطال القياس أفلا يستحي هذا الجاهل من أن ينصف العلماء بصفته مع عظيم جهله بأن عاصما وابن كثير وغيرهما من القراء وطائفة من الصحابة تقول بقول الشافعي الذي جعله خلافا للإجماع وأنه لم يأت قط عن أحد من الصحابة إيجاب الحكم بالقياس من طريق تثبت وأنه قد قال بإنكاره ابن مسعود ومسروق والشعي وغيرهم ولكن من يضلل الله فلا هادي له ومن عجائبه قوله أن المامي إذا نزلت به النازلة ففرضه أن يسأل أفقه أهل بلده فإذا أفتاه فهو فرضة فإن نزلت به تلك النازلة ثانية لم يجز له أن يعمل بتلك الفتيا لكن يسأل ثانية أما إذا كان الفقيه وأما غيره ففرضه أن يعمل بالفتيا الثانية وهكذا أبدا
قال أبو محمد هذا تكليف ما لا يطاق إذا وجب على كل أحد من العامة أن يسأل أبدا عن كل ما ينوبه في صلاته وصيامه وزكاته ونكاحه وبيوعه ويكرر السؤال عن كل ذلك كل يوم بل كل ساعة فهل في الحماقة أكثر من هذا ونعوذ بالله من الخذلان

ذكر شنع لقوم لا تعرف فرقهم
قال أبو محمد إدعت طائفة من الصوفية أن أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل وقالوا من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك وأستباحوا بهذا نساء غيرهم وقالوا إننا نرى الله ونكلمه وكلما قذف في نفوسنا فهو حق ورأيت لرجل منهم يعرف إبن شمعور كلاما نصه إن لله تعالى ماية إسم وإن الموفى ماية هو ستة وثلاثون حرفا ليس مهنا في حروف الهجاء شيء إلا واحد فقط وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق وقال أيضا أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مد رجله يوما فنودي ما هكذا مجالس الملوك فلم يمد رجله بعدها يعني أنه كان مديما لمجالسة الله تعالى وقال أبو حاضر النصيبي من أهل نصيبين وأبو الصباح السمرقندي وأصحابهما أن الخلق لم يزالوا مع الله تعالى وقال أبو الصياح لا تحل ذبائح أهل الكتاب وخطأ فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردة وصوب قول الصحابة الذين رجعوا عنه في حربهم وقال أبو شعيب القلال أن ربه جسم في صورة إنسان لحم ودم ويفرح ويحزن ويمرض ويفيق وقال بعض الصوفية أن ربه يمشي في الأزقة حتى أنه يمشي في صورة مجنون يتبعه الصبيان بالحجارة حتى تدموا عقبة فأعلموا رحمكم الله أن هذه كلها كفرات صلع وأقوال قوم يكيدون الإسلام وصدق القائل ... شهدت بأن إبن المعلم هازل ... بأصحابه والباقلاني أهزل

وما الجمل الملعون في ذاك دونه ... وكلهم في الإفك والكفر المنزل ...
والله ما هم من المغرورين بهم في قبولهم عنهم وحسن الظن بهم إلا كما قال الآخر ... وساع مع السلطان يسمى عليهم ... ومحترس من مثله وهو حارس ...
واعلموا رحمكم الله أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله على أيديهم خيرا ولا فتح بهم من بلاد الكفر قوية ولا رفع للإسلام راية وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين ويفرقون كلمة المؤمنين ويسلون السيف على أهل الدين ويسعون في الأرض مفسدين أما الخوارج والشيعة فأمرهم في هذا الشهر من أن يتكلف ذكره وما توصلت الباطنية إلى كيد الإسلام وإخراج الضعفاء منه أي الكفر الأعلى السنة الشيعية وأما المرجئة فكذلك إلا أن الحارس بن سريح خرج بن عمه منكرا للجور ثم لحق بالترك فقادهم إلى أرض الإسلام فنهب الديار وهتك الأستار والمعتزلة في سبيل ذلك إلا أنه أبتلي بتقليد بعضهم المعتصم والواثق جهلا وظنا أنهم على شيء وكانت للمعتصم فتوحات محمودة كبابل والمازيار وغيرهم فالله الله أيها المسلمون تحفظوا بدينكم ونحن نجمع لكم بعون الله تعالى الكلام في ذلك الزموا القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه و سلم وما مضى عليه الصحابة رضي اله عنهم والتابعون وأصحاب الحديث عصرا عصرا الذين طلبوا الأثر فلزموا الأثر ودعوا كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وبالله تعالى التوفيق ثم الكلام في شنع المبتدعة أهل الأهواء والنحل المضلة والحمد لله رب العالمين

المعاني التي يسميها أهل الكلام اللطائف والكلام في السحر وفي المعجزات التي فيها إحالة الطبائع يجوز واحدها لغير الأنبياء أم لا
قال أبو محمد ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز و جل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام ورأيت لمحمد ابن الطيب الباقلاني أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة وفي الهواء ويقلب الإنسان حمارا على الحقيقة وأن كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلا إلا بالتحدي فإن النبي يتحدى الناس أن يأتوا بمثل ما جاء هو به فلا يقدر أحد على ذلك فقط وإن كل ما لم يتحد به النبي صلى الله عليه و سلم الناس فليست آية له وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبىء كاذب وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عينا ولا يحيل طبيعة إلا الله عز و جل لأنبيائه فقط سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا وكل ذلك آيات لهم عليهم الصلاة والسلام تحدوا بذلك أم لا والتحدي لا معنى له وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لصالح ولا لساحر ولا لأحد غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدعين للنبوة لكنه تعالى لا يفعل كما لا يفعل ما لا يريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه
قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره برهان ذلك قوله عز و جل وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وقال عز و جل وعلم آدم الأسماء كلها وقال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فصح أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله عز و جل الترتيب الذي لا يتبدل وصح أن الله عز و جل أوقع كل اسم على مسماه فلا يجوز أن يوقع اسم من تلك الأسماء على غير مسماه الذي أوقعه الله تعالى عليه لأنه كان يكون تبديلا لكلمات الله تعالى التي أبطل عز و جل أن تبدل ومنع من أن يكون لها مبدل ولو جاز أن تحال صفات مسمى منها التي بوجودها فيه استحق وقوع ذلك الاسم عليه لوجب أن يسقط عنه ذلك الاسم الذي أوقعه الله تعالى عليه فبإذ ذلك كذلك فقد وجب أن كل ما في العالم مما قد رتبه

الله على ما هو عليه من فصوله الذاتية وأنواعه وأجناسه فلا يتبدل شيء منه قطعا إلا حيث قام البرهان على تبدله وليس ذلك إلا على أحد وجهين إما استحالة معهودة جارية على رتبة واحدة وعلى ما بنى الله تعالى عليه العالم من استحالة المني حيوانا والنوى والبزور نباتا وسائر الإستحالات المعهودات وأما إستحالة ما لم تعهد قط ولا بنى الله تعالى العالم عليها ولذلك قد صح للأنبياء عليهم السلام شواهد لهم على صحة نبوتهم وجود ذلك بالمشاهدة ممن شهدهم ونقله إلى من لم يشاهدهم بالتواتر الموجب للعلم الضروري فوجب الإقرار بذلك وبقي ما عدا أمر الأنبياء عليهم السلام على الإمتناع فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح بوجه من الوجوه لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك ولا صح به نقل وهو ممتنع في العقل كما قدمنا ولو كان ذلك ممكنا لاستوى الممتنع والممكن والواجب وبطلت الحقائق كلها ولكن كل ممتنع ومن لحق هاهنا لحق بالسوفسطائية على الحقيقة ونسأل من جوز ذلك للساحر والفاضل هل يجوز لكل أحد غير هذين أم لا يجوز إلا لهذين فقط فإن قال أن ذلك للساحر والفاضل فقط وهذا هو قولهم سألناهم عن الفرق بين هذين وبين سائر الناس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا أن ذلك جائز أيضا لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقا ولم يثبتوا حقيقة وجاز تصديق من يدعي أنه يصعد إلى السماء ويرى الملائكة وأنه يكلم الطير ويجتني من شجر الخروب التمر والعناب وأن رجالا حملوا وولدوا وسائر التخليط الذي من صار إليه وجب أن يعامل بما هو أهله إن أمكن أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حيائه قال أبو محمد لا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي بن أبي طالب مرتين حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال ... فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع ... نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى ... لبهجتها فوق السماء المرجع ... فوالله ما أدري على بدا لنا ... فردت له أم كان في القوم يوشع ...
وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم فإنهم يدعون لهم من قلب الأعيان أضعافا ما يدعيه هؤلاء وكذلك دعوى اليهودي لأحبارهم ورؤوس المثايب عندهم أن رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد وأنه أثبت قرنين في رأس رجل مسلم من بني الإسكندراني كان يسكن بقرطبة عند باب اليهود وهذا كله باطل موضوع وبنو الإسكندراني كانوا أقواما أشرافا معروفين لم يعرف لأحد منه شيء من هذا والحماقة لا حد لها وهذا برهان لمن نصح
نفسه قال أبو محمد وأما السحر فإنه ضروب منه ما هو من قبل الكواكب كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب ومن هذا الباب كانت الطلسمات وليست إحالة طبيعية ولا قلب عين ولكنها قوى ركبها الله عز و جل مدافعة لقوى أخرى كدفع الحر للبرد ودفع البرد للحر وكقتل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا أنفسنا أثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا ندخلها جرادة ولا يقع فيها برد وكسرى قسطة التي لا يدخلها جيش إلا أن يدخل كرها وغير ذلك كثير جدا لا ينكره إلا معاند وهي أعمال قد ذهب من كان يحسنها جملة وانقطع من العالم ولم يبق إلا آثار صناعاتهم فقط ومن هذا الباب كان ما تذكره الأوائل في كتبهم في المويسيقا و أنه كان يؤلف بين الطبائع وينافر به أيضا بينها ونوع آخر

من السحر يكون بالرقي وهو كلام مجموع من حروف مقطعة في طوالع معروفة أيضا يحدث لذلك التركيب قوة تستثار بها الطبائع وتدافع قوى أخر وقد شاهدنا وجربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول ظهوره فييبس يبدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في اليوم الثالث ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها جربنا من ذلك ما لا نحصيه وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد ولا ترقي الثاني فيبس الذي رقت ويتم ظهور الذي لم ترق ويلقى حامله منه الأذى الشديد وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير فيندمل ما يفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ كل ذلك البرء التام كان لا يزال يفعل ذلك في الناس والدواب ومثل هذا كثير جدا وقد أخبرنا من خبره عندنا كمشاهدتنا لثقته وتجريبنا لصدقه وفضله أنه شاهد ما لا يحصى نساء يتكلمن على الذين يمخضون الزبد من اللبن بكلام فلا يخرج من ذلك اللبن زبد ولا فرق بين هذين الوجهين وبين ملاقاة فضله الصفراء بالسقمونيا وملاقاة ضعف القلب بالكندر وكل هذه المعاني جارية على رتبة واحدة من طلب علم ذلك أركه ومنه ما يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وما أشبه ذلك ومنه ما يكون لطف يد كحيل أبي العجائب التي شاهدها الناس وهي أعمال لطيفة لا تحيل طبعا أصلا
قال أبو محمد وكل هذه الوجوه التي ذكرناها ليست من باب معجزات الأنبياء عليهم السلام ولا من باب ما يدعيه أهل الكذب للسحرة والصالحين لأن معجز الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم لا يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر وفلق البحر واختراع طعام وماء وقلب العصا حية و إحياء ميت قد أرم وإخراج ناقة من صخرة ومنع الناس من أن يتكلموا بكلام مذكور أو من أن يأتوا بمثله وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية التي بوجودها تستحق الأسماء ومنها تقوم الحدود وهذا بعينه هو الذي يدعيه المبطلون للساحر والفاضل
قال أبو محمد وإنما يلوح الفرق جدا بين هذين السبيلين لأهل العلم بحدود الأسماء والمسميات وبطبائع العالم وإنقسامه من مبدئه من أجناس إلى أنواعه إلى أشخاصه وما هو عليه من إعراضه ذاتي وما هو منها غيري وما يسرع الاستحالة والزوال من الغيري منها وما يبطيء زواله منها وما يثبت منها ثبات الذاتي وإن لم يكن ذاتيا والفرق بين البرهان وبين ما نظن أنه برهان وليس برهانا والحمد لله على ما وهب وأنعم به علينا لا إله إلا هو
محمد بن سعيد بن بياتي ثنا أحمد بن عبد البصير قال ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن ابن المهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن بشير بن عمر وقال ذكر الغيلاني عند عمر بن الخطاب فقالوا أنهم يتحولون فقال عمر أنه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له ولكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا

فهذا عمر رضي الله عنه يبطل احالة الطبائع وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين كثيرا وقد نص الله عز و جل على ما قلنا فقال تعالى فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا حقيقة له وقال تعالى إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيت أتى فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له فإن قيل قد قال الله عز وحل سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم قلنا نعم إنها حيل عظيمة وإثم عظيم إذ قصدوا بها معارضة معجزات رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنهم كادوا عيون الناس إذ أوهموهم أن تلك الحبال والعصي تسعى فاتفقت الآيات كلها والحمد لله رب العالمين وكان الذي قدر ممن لا يدري حيلهم أنها تسعى ظنا أصله اليقين وذلك أنهم رأوا صفة حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إلى الظن وقدروا أنها ذوات حيات ولو منعوا الظن وفتشوها لوقفوا على الحيلة فيها وأنها ملئت زئبقا ولد فيها تلك الحركات كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينه في جسم إنسان فيظن من رآه ممن لا يدري حيلته أن السكين غاصت في جسد المضروب وليس كذلك بل كان نصاب السكين مثقوبا فقط فغاصت السكين في النصاب وكاد خاله خيطا في حلقة خاتم يمسك إنسان منهم طرفي الخط بيديه ثم يأخذ العجائبي الخاتم الذي فيه الخيط بفيه وفي ذلك المقام أدخله تحت يده وكان في فيه خاتم أخرى يرى من حضر حلقة الخاتم الذي في فيه يوهمهم أنه قد أخرجه من الخيط ثم يرد فمه إلى الخيط ويرفع يديه وفمه فينظر الخاتم الذي كان فيه الخيط وكذلك سائر حيلهم وقد وقفنا عليها جميعها فهذا هو معنى قوله تعالى سحروا أعين الناس أو استرهبوهم أي أنهم أوهموا الناس فيما رأوا ظنونا متوهمة لا حقيقة لها ولو فتشوها للاح لهم الحق وكذلك قوله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه فهذا أمر ممكن يفعله التمام وكذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سحره لبيد بن الأعصم فولد ذلك عليه مرضا حتى كان يظن أنه فعل الشيء وهو لم يفعله فليس في هذا أيضا إحالة طبيعية ولا قلب عين وإنما هو تأثير بقوة لتلك الصناعة كما قلنا في الطلسمات والرقي فلا فرق ونحن نجد الإنسان يسب أو يقابل بحركة يغضب منها فيستحيل من الحلم إلى الطيش ومن السكون إلى الحركة والنزق حتى يقارب حال المجانين أو ربما أمرضه ذلك وقد قال عليه السلام إن من البيان لسحرا لأن من البيان ما يؤثر في النفس فيثيرها أو يسكنها عن ثورانها ويحيلها عن عزماتها وعلى هذا المعنى استعملت الشعراء ذكر سحر العيون لإستمالتها للنفوس فقط قال أبو محمد ويقال لمن قال ان السحر يحيل الأعيان ويقلب الطبائع أخبرونا إذا جاز هذا فأي فرق بين النبي صلى الله عليه و سلم والساحر ولعل جميع الأنبياء كانوا سحرة كما قال فرعون عن موسى عليه السلام إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وإن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها وإذا جاز أن يقلب سحرة موسى عليه السلام عصيهم وأحبالهم حيات وقلب موسى عليه السلام عصاة حية وكان كلا الأمرين حقيقة فقد صدق فرعون بلا شك في أنه ساحر مثلهم إلا أنه أعلم به فقط وحاشا لله من هذا بل ما كان فعل السحرة إلا من حيل أبي العجائب فقط فإن لجؤا إلى ما ذكره الباقلاني من التحدي قيل لهم هذا باطل من وجوه أحدها أن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية دعوى كاذبة سخيفة لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ولا قال بهذا أحد قط قبل هذا الفرقة الضعيفة وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة قال الله عز و جل قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فوجب

ضرورة أن من لا برهان له على صحة قوله فهو كاذب فيها غير صادق وثانيها أنه لو كان ما قالوا لسقطت أكثر آيات رسول الله صلى الله عليه و سلم كنبعان الماء من بين أصابعه وإطعامه المئتين والعشرات من صاع شعير وعناق ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار وكتفله في العين فجاشت بماء غزير إلى اليوم وحنين الجذع وتكليم الذراع وشكوى البعير والذئب والإخبار بالغيوب وتمر جابر وسائر معجزاته العظام لأنه عليه الصلاة و السلام لم يتحد بذلك كله أحد ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه رضي الله عنهم ولم يبق له آية حاشا القرآن ودعاء اليهود إلى تمني الموت وشق القمر فقط وكفى نحسا بقول أدى إلى مثل هذا فإن ادعوا أنه عليه السلام تحدى بها من حضر وغاب كذبوا واخترعوا هذه الدعوى لأنه لم يأت في شيء من تلك الأخبار أنه تحدى بها أحدا وإن تمادوا على أن كل هذه ليست معجزات ولا آيات أكذبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله والثالث وهو البرهان الدافع وهو قول الله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون وقوله وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون فسمى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء عليهم السلام آيات ولم يشترط عز و جل في ذلك تحديا من غيره فصح أن اشتراط التحدي باطل محض وصح أنها إذا ظهرت فهي آية كان هنالك تحد أو لم يكن وقد صح إجماع الأمة المتيقن على الآيات التي لا يأتي بها ساحر ولا غير نبي فصح أن المعجزات إذا هي آيات لا تكون لساحر ولا لأحد ليس نبيا والرابع أنه لو صح حكم التحدي لكان حجة عليه لأن التحدي عندهم يوجب أن لا يقدر على مثل ذلك أحد إذ لو أمكن أن يوجد مثل ذلك من أحد لكان قد بطل تحديه وقيل له قد وجد من يعمل عملك هذا أما صالح وأما ساحر والخامس أنه لو كان ما قالوا وجاز ظهور معجزة من ساحر لا يتحدى بها أو فاضل لا يتحدى بها لأمكن أن يتحدى لهما بها بعد موتهما من ضل فيهما كما فعلت الغلاة بعلي رضي الله عنه فعلى كل حال قولهم ساقط والحمد لله رب العالمين
أبو محمد وأما من ادعى أنه يشبه الساحر على العيون فريهم ما لا يرى فإن هذه الطائفة لم تكتف بالكفر بإبطال النبوات إذ لعل ما أتى به النبي صلى الله عليه و سلم كان تشبيها على العيون لا حقيقة له حتى رامت إبطال الحقائق كلها أولها عن آخرها ولحقت بالسوفسطائية لحاقا صحيحا بلا تكلف ويقال لهم إذا جاز أن يشبه على العيون حتى يرى المشبه عليها ما لا حقيقة له ولا تراه فما يدريكم لعلكم كلكم الآن مشبه على عيونكم ولعل بعض السحرة قد شبه عليكم فأراكم أنكم تتوضؤن وتصلون وأنتم لا تعقلون شيئا من ذلك ولعلكم تظنون أنكم تزوجتم وإنما في بيوتكم ضان ومعز ولعلكم الآن على ظهر البحر ولعل

كل ما تعتقدون من الدين تشبيه عليكم وهذا كله لا مخلص لهم منه وقد عاب الله عز و جل من ذهب إلى هذا فقال ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون فلو جاز أن يكون للسحر حقيقة ويشبه ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام وأمكن أن يشبه على البصر ما ذمهم الله عز و جل بأن قالوا شيئا يمكن كونه لكنهم لما قالوا ما لا يمكن البتة وتعلقوا بذلك في دفع الحقائق عابهم الله تعالى بذلك وأنكره عليهم
قال أبو محمد وليس غلط الحواس في بعض الأوقات من باب التشبيه عليها في شيء لأن أحدنا قد يرى شخصا على بعد لا يشك فيه إلا أن سارع فقطع أنه إنسان أو انه فلان فقطع بظنه ولو أنه لم يعمل ظنه ولا قطع به لكان باقيا على ما أدرك من الحقيقة وهكذا في كل ما حكم فيه المرء بظنه وأما ذو الآفة كمن فيه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها فهو أيضا كما ذكرنا وإنما الماء المطل على حدقته يوهمه أنه رأى شيئا وقطع بذلك فإذا تثبت في كل ذلك لاح له الحق من الظن وكذلك من فسد مكان التخيل من دماغه فإن نفسه تظن ما توهمه به ولو قوي تميزها لفرقت بين الحق والباطل وهكذا القول في إدراك السمع والذوق وهذا كله يجري على رتب مختلفة بمن أعمل ظنه وعلى رتب غير مختلفة في جمل هذه الأوقات بل هي ثابتة عند أهل التحقيق والمعرفة معروفة العلاج حتى يعود منها إلى صلاحه ما لم يستحكم فساده ولا يظن ظان أنه ممكن أن تكون في مثل حال هؤلاء إذ لو كان هذا لم نعرف شيئا من العلوم على رتبه وأحكامه الجارية على سنن واحد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم بأي شيء يعرفون أنه لم يشبه على عيونكم فقد عرفناكم نحن بماذا نعرف أن حواسنا سليمة وإن عقولنا سليمة ما دامت سالمة وبماذا نعرف الحواس المدخولة والعقول المدخولة وغير المدخولة إجراء ما أدرك بالحواس السليمة والعقول السليمة على رتب محدودة معلومة لا تبدل عن حدودها أبدا وإجراء ما أدرك بالحواس الفاسدة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة فإنهم لا يقدرون على فرق أصلا وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وكذلك ما ذكرنا عمن ليس نبيا من قلب عين أو إحالة طبيعة فهو كذب إلا ما وجد من ذلك في عصر نبي فإنه آية كذلك لذلك الشيء وذلك الذي ظهرت عليه آية بمنزلة الجذع الذي ظهرت فيه الحنين والذراع الذي ظهر فيه النطق والعصا التي ظهرت فيها الحياة وسواء كان الذي ظهرت فيه الآية صالحا أو فاسقا وذلك كنحو النور الذي ظهر في سوط عمر بن حمحمة الدوسي وبرهان ذلك أنه لم يظهر فيه بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد فإن قيل إذا أجزتم أن تظهر المعجزة في غير نبي في عصر نبي لتكون آية لذلك النبي فهلا أجزتموه كذلك بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم لتكون آية له أيضا ولا فرق بين الأمرين قلنا إنما أجزنا ذلك الشيء في الجماد وسائر الحيوان وفيمن شاء الله تعالى إظهار ذلك فيه من الناس لا نخص بذلك فاضلا لفضله ولا نمنع فاسق لفسقه أو كافر وإنما ننكر على من خص بذلك الفاضل فجعلها كرامة له فلو جاز ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم لأشكل الأمر ولم تكن في أمن من دعوى من أدعى أنها أية لذلك الفاضل ولذلك الفاسق والإنسان من الناس يدعيها آية له ولو كان ذلك لكان إشكالا في الدين وتلبيسا من الله تعالى على جميع عباده أولهم عن آخرهم وهذا خلاف وعد الله تعالى لنا وإخباره بأنه قد بين علينا الرشد من الغي وليس كذلك ما كان في عصر النبي صلى الله عليه سلم لأنه لا يكون إلا من قبل النبي صلى الله عليه و سلم وبإخباره وإنذاره فبدت بذلك أنها له لا للذي ظهرت منه وهذا في غاية البيان والحمد لله رب العالمين

قال أبو محمد وأما الذي روى في ذلك عن أصحاب الثلاثة الغار وانفراج الصخرة ثلثا ثلثا عند ما ذكروا أعمالهم فلا تعلق لهم به لأن تكسير الصخرة ممن في كل وقت ولكل واحد بلا إعجاز وما كان هكذا فجاز وقوعه بالدعاء وبغير الدعاء لكن وقع وفاقا لتمنيه كمن دعا في موت عدوه أو تفريج همه أو بلوغ أمنيته في دنياه ولقد حدثني حكم بن منذر بن سعيد أن أباه رحمه الله كان في جماعة في سفرة في صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا في ظل جبل ينتظرون الموت قال فأسندت رأسي إلى حجر ناتئ فتأذيت به فقلعته فاندفع الماء العذب من تحته فشربنا وتزودنا ومثل هذا كثير مما يفرج وحتى لو كانت معجزة لوجب بلا شك أن يكونوا أنبياء أو لنبي ممن في زمن نبي لا بد مما قدمناه
قال أبو محمد ولا عجب أعجب من قول من يجيز قلب الأعيان للساحر وهو عندهم فاسق أو كافر ويجيز مثل ذلك للصالح وللنبي فقد جاز عندهم قلب الأعيان للنبي وللصالح وللفاسق وللكافر فوجب أن قلب الأعيان جائز من كل أحد وبؤسا لقول أدى إلى مثل هذا وهو يجيزون للمغيرة بن سعيد وبيان ومنصور الكشف وقلب الأعيان على سبيل السحر وقد جاء بعدهم من يدعي لهم النبوة بها فاستوى عند هؤلاء المخذولين النبي والساحر ونعوذ بالله من الضلان المبين
قال أبو محمد فإن اعترضوا بقول الله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وبقوله تعالى أجيب دعوة الداع إذا دعان فهذا حق وإنما هو بلا شك أنه في الممكنات التي علم الله تعالى أنها تكون لا فيما في علم الله تعالى أنها لا تكون ولا في المحال ونسألهم عمن دعا إلى الله تعالى في أن يجعله نبيا أو في أن ينسخ دين الإسلام أو بأن يجعل القيامة قبل وقتها أو يمسخ الناس كلهم قردة أو بأن يجعل له عينا ثالثة أو بأن يدخل الكفار الجنة والمؤمنين النار وما أشبه هذا فإن أجازوا كل هذا كفروا ولحقوا مع كفرهم بالمجانين وإن منعوا من كل هذا تركوا إستدلالهم بالآيات المذكورة وصح أن الإجابة إنما تكون في خاص من الدعاء لا في العموم وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وصح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأسامة وخالد هلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها متعوذا أم لا
قال أبو محمد فلو جاز ظهور المعجزة على غير نبي على سبيل الكرامة لوجب القطع على ما في قلبه وأنه ولى الله تعالى وهذا لا يعلم من أحد بعد الصحابة رضي الله عنهم الذين ورد فيهم النص وأما قول الباقلاني أن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على يد كذاب فهو في داخل في جملة تعجيزه الباري تعالى وهو أيضا تعجيزه سخيف داخل في جملة المحال وذلك أنه جعل الله تعالى قادرا على إظهار الآيات على كل ساحر فإن علم أنه يقول أنه نبي لم يقدر على أن يظهرها عليه وهذا قول في غاية الفساد لا من قدر على شيء لم يجز أن يبطل قوته عليه علمه بأن ذلك الذي يظهر فيه الفعل يقول أنا نبي ولا يتوهم هذا ولا يتشكل في الفعل ولا يمكن البتة وإنما هم قوم أهملوا حكم الله تعالى عليهم وأطلقوا حكمهم عليه تعالى ما في الكفر أسمج من هذا ولا أطم ولا أبرد
قال أبو محمد ورأيت للباقلاني في فصل من كلامه أن الناس ليسوا عاجزين عن مثل هذا القرآن ولا قادرين عليه ولا هم عاجزون عن الصعود إلى السماء ولا عن إحياء الموتى ولا عن خلق الأجسام ولا اختراعها ولا قادرين على ذلك هذا نص كلامه دون تأويل منا عليه ثم قال أن القدرة لا تقع إلا حيث يقع العجز
قال أبو محمد وكل هذا هوس لا يأتي به إلا الممرور وأطم من ذلك احتجاجه بأن العجز لا يقع إلا

حيث تقع القدرة ولا ندري في أي لغة وجد هذا الكذيب أم في أي عقل وجد هذا السخف وما شك ذو علم باللغة الخاصة والعامة في بطلان قوله وفي أن العجز ضد القدرة وأن ما قدر الإنسان عليه فلم يعجز عنه في حين قدرته عليه وأن ما عجز عنه فلم يقدر عليه في حين عجزه عنه وأن نفي القدرة إثبات للعجز وإن نفي العجز إثبات للقدرة ما يجهل هذا عامي ولا خاصي أصلا وهو أيضا معروف بأول العقل والعجب أن يأتي بمثل هذه الدعاوي السخيفة بغير دليل أصلا لكن حماقات وضلالات يطلقها هذا الجاهل وأمثاله من الفساق في دين الله تعالى فينلنفها عنهم من أضله الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان وقد قال الله تعالى واعلمو أنكم غير معجزي الله فاقتضى هذا أنهم غير مقدور عليهم لله تعالى وقال تعالى ليس بمعجر في الأرض فوجب أنه مقدور عليه وقال تعالى والله على كل شيء قدير فصح أنه غير عاجز وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الكلام في الجن ووسوسة الشيطان وفعله في المصروع
قال أبو محمد لم ندرك بالحواس ولا علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم بضرورة العقل لكن علمنا بضرورة العقل امكان كونهم لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عز و جل يخلق ما يشاء ولا فرق بين أن يخلق خلقا عنصرهم التراب والماء فيسكنهم في الأرض والهواء والماء وبين أن يخلق خلقا عنصرهم النار والهواء فيسكنهم الهواء والنار والأرض بل كل ذلك سواء وممكن في قدرته لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز و جل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز و جل على وجود الجن في العالم وجب ضرورة العلم بخلقهم وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وأجمع المسلمون كلهم على ذلك نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشا السامرة فقط فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال قال تعالى أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني
قال أبو محمد وهم يروننا ولا نراهم قال الله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فصح أن الجن قبيل إبليس قال الله عز و جل إلا إبليس كان من الجن
قال أبو محمد وإذا أخبرنا الله عز و جل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم كما نص رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان ولولا ذلك لأصبح موثقا يراه أهل المدينة أو كما قال عليه السلام وكذلك في رواية عن أبي هريرة الذي رأى إنما هي معجزة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جن بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه
قال أبو محمد وهم أجسام رقاق صافية هوائية لا ألوان لها وعنصرهم النار كما أن عنصرنا التراب وبذلك جاء القرآن قال الله عز و جل والجان خلقناه من قبل من نار السموم والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما وإنما حدث اللون في النار المشتعلة لإمتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ولو لم يكونوا أجساما صافية رقاقا هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس وصح النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فوجب التصديق بكل ذلك حقيقة وعلمنا أن الله عز و جل جعل لهم قوة يتوصلون بها إلى حذف ما يوسوسون به في النفوس برهان ذلك قول الله تعالى من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ونحن نشاهد الإنسان يرى من له عنده ثأر فيضطرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته ويرى من يحب فيثور له حال أخرى ويبتهج وينبسط ويرى من يخاف فتحدث له حال أخرى

من صفرة ورعشة وضعف نفس ويشير إلى إنسان آخر بإشارات بها طبائعه فيغضب مرة ويخجله مرة أخرى ويفزعه ثالثة ويرضيه رابعة وكذلك يحيله أيضا بالكلام إلى جميع هذه الأحوال فعلمنا أن الله عز و جل جعل للجن قوى يتصلون بها إلى تغير النفوس والقذف فيها بما يستدعونها إليه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار الناس وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم كما قال الشاعر ... وقد كنت أجري في حشاهن مرة ... كجري معين الماء في قصب الآس ...
قال أبو محمد وأما الصرع فإن الله عز و جل قال كالذي يتخبطه الشيطان من المس فذكر عز و جل تأثير الشيطان في المصروع فإنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئا ومن زاد على هذا شيئا فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل قال عز و جل ولا تقف ما ليس لك به علم وهذه الأمور لا يمكن أن يعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه صلى الله عليه و سلم ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه مسا كما جاء في القرآن يثير به من طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز و جل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد وأما قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا جنحت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات أو كما قال عليه السلام مما هذا معناه بلا شك فقد قلنا أنه عليه السلام لا يقول إلا الحق وأن كلامه كله على ظاهره إلا أن يأتي نص بأن هذا النص ليس على ظاهره فنسمع ونطيع أو يقوم ذلك برهان من ضرورة حس أو أول عقل فنعلم أنه عليه السلام إنما أراد ما قد قام بصحته البرهان ولا يجوز غير ذلك وقد علمنا يقينا أن الشمس في كل دقيقة طالعة من الآفاق مرتفعة على آخر مستوية على ثالث زائلة عن رابع جانحة للغروب على خامس غرابة على سادس هذا ما لا شك فيه عند كل ذي علم بالهيئة فإذ ذلك كذلك فقد صح يقينا أنه عليه السلام إنما عنى بذلك أفقا ما دون سائر الآفاق لا يجوز غير ذلك إذ لو أراد كل أفقي لكان الإخبار بأنه يفارقها كذبا وحاشا له من ذلك فإذ لا شك في هذا كله فلا مرية أنه عليه الصلاة و السلام إنما عنى به أفق المدينة إذ هو الأفق الذي أخبر أهله بهذا الخبر فأنبأهم بما يقارن الشمس في تلك الأحوال وما يفارقها من الشيطان والله أعلم بذلك القرآن ما هو لا نزيد على هذا إذ لا بيان عندنا فيما بينه

إلا أنه ليس شيء بممتنع أصلا فصح بما ذكرنا أن أول الخبر خاص كما وصفنا وأن نهيه عن الصلاة في الأوقات قصة أخرى وقضية ثانية وحكم غير الأول فهو على عمومه في كل زمان وكل مكان إلا ما قام البرهان على تخصيصه من هذا الحكم بنص آخر كما بينا في غير هذا الكتاب في كتب الصلاة من تأليفنا والحمد لله رب العالمين كثيرا

الكلام في الطبائع
قال أبو محمد ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة وقالوا ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في العالم طبيعة أصلا وقالوا إنما حدث حر النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة قالوا ولا في الخمر طبيعة إسكار ولا في المني قوة يحدث بها حيوان ولكن الله عز و جل يخلق منه ما شاء وقد كان ممكنا أن يحدث من مني الرجال جملا ومن مني الحمار إنسانا ومن زويعة الكزبر نخلا
قال أبو محمد ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلا وقد ناظرت بعضهم في ذلك فقلت له أن اللغة التي نزل بها القرآن تبطل قولكم لأن من لغة العرب القديمة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والنحيزة والغريزة والسجية والسيمة والجبلة بالجيم ولا يشك ذو علم في أن هذه الألفاظ استعملت في الجاهلية وسمعها النبي صلى الله عليه و سلم فلم ينكرها قط ولا أنكرها أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا ولا أحد ممن بعدهم حتى حدث من لا يعتد به وقد قال امرؤ القيس ... وإن كنت قد سائتك مني خليقة
وقال حميد بن ثور الهلالي الكندي ... لكل امرئ يا أم عمرو طبيعة ... وتفرق ما بين الرجال الطبائع ...
وقال النابغة ... لهم سيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب ...
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للجارود إذا أخبره أن فيه الحلم والأناة فقال له الجارود الله جبلني عليهما يا رسول الله أم هما كسب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بل الله جبلك عليهما ومثل هذا كثير وكل هذه الألفاظ أسماء مترادفة بمعنى واحد عندهم وهو قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه فاضطرب ولجأ إلى أن قال أقول بهذا في الناس خاصة فقلت له وأنى لك بالتخصيص وهذا موجود بالحس وببديهة العقل في كل مخلوق في العالم فلم يكن عنده تمويه
قال أبو محمد وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة لأنهم جعلوا امتناع شق القمر وشق البحر وامتناع إحياء الموتى وإخراج ناقة من صخرة وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط
قال أبو محمد معاذ الله من هذا ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز أصلا لأن العادة في لغة العرب والدأب والدين والديدن والهجيري ألفاظ مترادفة على معنى واحد وهي في أكثر استعمال الإنسان لهل ننل لا يؤمن تركه إياه ولا ينكر زواله عنه بل هو ممكن وجود غيره ومثله بخلاف الطبيعة التي الخروج عنها ممتنع فالعادة في استعمال العرب العامة التلحي وحمل القناة تحمل بعض الناس القلنسوة وكاستعمال بعضهم حلق الشعر وبعضهم توفيره

قال الشاعر ... تقول وقد درأت لها وضيني ... أهدأ دينه أبدا وديني ...
وقال آخر ومن عاداته الخلق الكريم
وقال آخر ... قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يصحبنه في كل مرتحل ...
وقال آخر ... عودت كندة عادات فصير لها ...
وقال آخر ... وشديد عادة منتزعة ...
فذكر أن انتزاع العادة يشتد إلا أنه ممكن غير ممتنع بخلاف إزالة الطبيعة التي لا سبيل إليها وربما وضعت العرب لفظة العادة مكان لفظة الطبيعة كما قال حميد بن ثور الهلالي ... سلي الربع أن يمت يا أم سالم ... وهل عادة الربع أن يتكلما ...
قال أبو محمد وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز و جل فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدا ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكنا له التصرف في العلوم والصناعات إن لم يعترضه آفة وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك وكطبيعة البر أن لا ينبت شعيرا ولا جوزا وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت خلا وبطل اسم الخمر عنها وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنها صارت زبلا وسقط اسم الخبز واللحم عنهما وهكذا كل شيء له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة ومن الصفات المحمولة في الموصوف ما لو توهم زواله عنه لم يبطل حامله ولا فارقه اسمه وهذا القسم ينقسم أقساما ثلاثة فأحدها ممتنع الزوال كالفطس والقصر والزرق وسواد الزنجي ونحو ذلك إلا أنه لو توهم زائلا لبقي الإنسان إنسانا بحالة وثانيها بطيء الزوال كالمردوة وسواد الشعر وما أشبه ذلك وثالثها سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وكمدة الهم ونحو ذلك فهذه هي حقيقة الكلام في الصفات وما عدا ذلك فطريق السوفسطائية الذين لا يحققون حقيقة ونعوذ بالله من الخذلان

نبوة النساء
قال أبو محمد هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة وفي زماننا فإن طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة في النساء جملة وبدعت من قال ذلك وذهب طائفة إلى القول بأنه قد كانت في النساء نبوة وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك
قال أبو محمد ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلا إلا أن بعضهم نازع في ذلك بقول الله تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم
قال أبو محمد وهذا أمر لا ينازعون فيه ولم يدع أحد أن الله تعالى أرسل امرأة وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز و جل فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الأنبياء وهو الإعلام فمن أعلمه الله عز و جل بما يكون قبل أن يكون أو أوحى إليه منبئا له بأمر ما فهو نبي بلا شك وليس هذا من باب الإلهام الذي هو طبيعة كقول الله تعالى وأوحى ربك إلى النحل ولا من باب الظن والتوهم الذي لا يقطع بحقيقته إلا مجنون ولا من باب الكهانة التي هي من

إستيراق الشياطين للسمع من السماء فيرمون بالشهب الثاقب وفيه يقول الله عز و جل شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقد انقطعت الكهانة بمجيء رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من باب النجوم التي هي تجارب نتعلم ولا من باب الرؤيا التي لا يدري أصدقت أم كذبت بل الوحي الذي هو النبوة قصد من الله تعالى إلى إعلام من يوحي إليه بما يعلمه به ويكون عند الوحي به إليه حقيقة خارجة عن الوجوه المذكورة يحدث الله عز و جل لمن أوحى به إليه علما ضروريا بصحة ما أوحى به كعلمه بما أدرك بحواسه وبديهة عقله سواء لا مجال للشك في شيء منه أما بمجيء الملك به إليه وأما بخطاب يخاطب به في نفسه وهو تعليم من الله تعالى لمن يعلمه دون وساطة معلم فإن أنكروا أن يكون هذا هو معنى النبوة فليعرفوا ما معناها فإنهم لا يأتون بشيء أصلا فإذ ذلك كذلك فقد جاء القرآن بأن الله عز و جل أرسل الملائكة إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالى قال عز و جل وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا وليتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عز و جل بالبشارة لها بإسحاق ثم يعقوب ثم بقولهم لها أتعجبين من أمر الله ولا يمكن البتة أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي بوجه من الوجوه ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم عيسى عليهما السلام يخاطبها وقال لها إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح ورسالة من الله تعالى إليها وكان زكريا عليه السلام يجد عندها من الله تعالى رزقا وأردا تمنى من أجله ولدا فاضلا ووجدنا أم موسى عليهما الصلاة والسلام قد أوحى الله إليها بإلقاء ولدها في اليم وأعلمها أنه سيرده إليها ويجعله نبيا مرسلا فهذه نبوة لا شك فيها وبضرورة العقل يدري كل ذي تمييز صحيح أنها لو لم تكن واثقة بنبوة الله عز و جل لها لكانت بإلقائها ولدها في اليم برؤيا تراها أو بما يقع في نفسها أو قام في هاجستها في غاية الجنون والمرار الهائج ولو فعل ذلك أحدنا لكان في غاية الفسق أو في غاية الجنون مستحقا لمعاناة دماغه في البيمارستان لا يشك في هذا أحد فصح يقينا أن الوحي الذي ورد لها في إلقاء ولدها في اليم كالوحي الوارد على إبراهيم في الرؤيا في ذبح ولده فإن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لو لم يكن نبيا واثقا بصحة الوحي والنبوة الوارد عليه من ذبح ولده لكنه ذبح ولده لرؤيا رآها أو ظن وقع في نفسه لكان بلا شك فاعل ذلك من غير الأنبياء فاسقا في نهاية الفسق أو مجنونا في غاية الجنون هذا ما لا يشك فيه أحد من الناس فصحت نبوتهن بيقين ووجدنا الله تعالى قد قال وقد ذكر من الأنبياء عليهم السلام في سورة كهيعص ذكر مريم في جملتهم ثم قال عز و جل أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح وهذا هو عموم لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم وليس قوله عز و جل وأمه صديقة بمانع من أن تكون نبية فقد قال تعالى يوسف أيها الصديق وهو مع ذلك نبي رسول وهذا ظاهر وبالله تعالى التوفيق ويلحق بهن عليهن السلام في ذلك امرأة فرعون بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون أو كما قال عليه السلام والكمال في الرجال لا يكون إلا لبعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن من دونهم ناقص عنهم بلا شك وكان تخصيصه صلى الله عليه و سلم مريم وامرأة فرعون تفضيلا لهما على سائر من أوتيت النبوة من النساء بلا شك إذ من نقص عن منزلة آخر ولو بدقيقة فلم يكمل فصح بهذا الخبر أن هاتين المرأتين كملتا كمالا لم يلحقهما فيه امرأة غيرها أصلا وإن كن بنصوص القرآن نبيات وقد قال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض فالكامل في نوعه هو الذي لا يلحقه أحد من أهل نوعه فهم من الرجال الرسل الذين فضلهم الله تعالى على سائر الرسل ومنهم نبينا وإبراهيم عليهما

الصلاة والسلام بلا شك للنصوص الواردة بذلك في فضلها على غيرهما وكمل من النساء من ذكر عليه الصلاة و السلام

الكلام في الرؤيا
قال أبو محمد ذهب صالح تلميذ النظام إلى أن الذي يرى أحدنا في الرؤيا حق كما هو وأنه من رأى أنه بالصين وهو بالأندلس فإن الله عز و جل اخترعه في ذلك الوقت بالصين
قال أبو محمد وهذا القول في غاية الفساد لأن العيان والعقل يضطر إلى كذب هذا القول وبطلانه أما العيان فلأننا نشاهد حينئذ هذا النائم عندنا وهو يرى نفسه في ذلك الوقت بالصين وأما من طريق العقل فهو معرفتنا بما يرى الحالم من المحالات من كونه مقطوع الرأس حيا وما أشبه ذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رجلا قص عليه رؤيا فقال لا تخبر بتلعب الشيطان بك
قال أبو محمد والقول الصحيح في الرؤيا هو أنواع فمنها ما يكون من قبل الشيطان وهو ما كان من الأضغاث والتخليط ومنها ما يكون من حديث النفس وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم من خوف عدو أو لقاء حبيب أو خلاص من خوف أو نحو ذلك ومنها ما يكون من غلبة الطبع كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار والزهر والحمرة والسرور ورؤية من غلب عليه الصفراء للنيران ورؤية صاحب البلغم للثلوج والمياه وكرؤية من غلب عليه السوداء الكهوف والظلم ومنها ما يريه الله عز و جل نفس الحالم إذا صفت من أكدار الجسد وتخلصت من الأفكار الفاسدة فيشرف الله تعالى به على كثير من المغيبات التي لم تأت بعد وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما يراه في الصدق وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لم يبق بعده من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له وأنها جزء من ستة وعشرين جزأ من النبوة إلى جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة إلى جزء من سبعين جزأ من النبوة وهذا نص جلي ما ذكرنا من تفاضلها في الصدق والوضوح والصفاء من كل تخليط وقد تخرج هذه النسب والأقسام على أنه عليه السلام إنما أراد بذلك رؤيا الأنبياء عليهم السلام فمنهم من رؤياه جزء من ستة وعشرين جزء من أجزاء نبوته وخصائصه وفضائله ومنهم من رؤياه جزء من ستة وأربعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله ومنهم من رؤياه جزء من سبعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وهذا هو الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل بتكلف وأما رؤيا غير الأنبياء فقد تكذب وقد تصدق إلا أنه لا يقطع على صحة شيء منه إلا بعد ظهور صحته حاشا رؤيا الأنبياء فإنها كلها وحي مقطوع على صحته كرؤيا إبراهيم عليه السلام ولو رأى ذلك غير نبي في الرؤيا فأنفذه في اليقظة لكان فاسقا عابثا أو مجنونا ذاهب التمييز بلا شك وقد تصدق رؤيا لكافر ولا تكون حينئذ جزأ من النبوة ولا مبشرات ولكن انذارا له أو لغيره ووعظا وبالله تعالى التوفيق
الكلام في أي الخلق أفضل
قال أبو محمد ذهب قوم إلى أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة وذهبت طائفة تنتسب إلى الإسلام أن الصالحين غير النبيين أفضل من الملائكة وذهب بعضهم إلى أن الولي أفضل من النبي وأنه يكون في هذه الأمة من هو أفضل من عيسى بن مريم ورأيت الباقلاني يقول جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم من حين بعث إلى أن مات ورأيت لأبي هاشم الجبائي أنه لو طال عمر إنسان من المسلمين في الأعمال الصالحة لأمكن أن يوازي عمل النبي صلى الله عليه و سلم كذب لعنه الله
قال أبو محمد ولولا أنه استحيا قليلا مما لم يستحي من نظيره الباقلاني لقال ما يوجبه هذا القول من أنه

كان يزيد فضلا على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وهذه الأقوال كفر مجرد لا تردد فيه وحاشا لله تعالى من أن يكون أحد عمر عمر الدهر يلحق فضل صاحب فكيف فضل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو نبي من الأنبياء عليهم السلام فكيف أن يكون أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا مالا تقبله نفس مسلم كأنهم ما سمعوا قول الله عز و جل لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وقول النبي صلى الله عليه و سلم دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
قال أبو محمد فكيف يلحق أبدا من أن تصدق وهو بمثل جبل أحد ذهبا وتصدق الصاحب بنصف مد من شعير كان نصف مد الشعير لا يلحقه في الفضل جبل الذهب فكيف برسول الله صلى الله عليه و سلم قال أهل الحق أن الملائكة أفضل من كل خلق خلقه الله تعالى ثم بعدهم الرسل من النبيين عليهم السلام ثم بعدهم الأنبياء غير الرسل عليهم السلام ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما رتبنا قبل
قال أبو محمد ومن صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الجن له من الفضل ما لسائر الصحابة بعموم قوله صلى الله عليه و سلم دعوا لي أصحابي وأفضل الرسل محمد صلى الله عليه و سلم أما فضل الملائكة على الرسل من غير الملائكة فلبراهين منها قول الله عز و جل أمر الرسول صلى الله عليه و سلم أن يقول قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول اني ملك أن أتبع إلا ما يوحى إلي فلو كان الرسول أرفع من الملك أو مثله ما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم هذا القول الذي إنما قاله منحطا عن الترفع بأن يظن أنه عنده خزائن الله أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك منزل لنفسه المقدسة في مرتبته التي هي دون هذه المراتب بلا شك إذ لا يمكن البتة أن يقول هذا عن مراتب هو أرفع منها وأيضا فإن الله عز و جل ذكر محمدا الذي هو أفضل الرسل بعد الملائكة وذكر جبريل عليهما السلام وكان من التباين من الله عز و جل بينهما تباينا بعيدا وهو أنه عز و جل قال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فهذه صفة جبريل عليهم السلام ثم ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم فقال وما صاحبكم بمجنون ثم زاد تعالى بيانا رافعا للإشكال جملة فقال ولقد رآه بالأفق المبين فعظم الله تعالى من شأن أكرم الأنبياء والرسل بأن رأى جبريل عليه السلام ثم قال ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى فامتن الله تعالى كما ترى على محمد صلى الله عليه و سلم بأن أراه جبريل مرتين وإنما يتفاضل الناس كما قدمنا بوجهين فقط أحدهما الاختصاص المجرد وأعظم الاختصاص الرسالة والتعظيم فقد حصل ذلك للملائكة قال تعالى جاعل الملائكة رسلا فهم كلهم رسل الله اختصهم تعالى بأن ابتدأهم في الجنة وحوالي عرشه في المكان الذي وعد رسله ومن اتبعهم بأن نهاية كرامتهم مصيرهم إليه وهو موضع خلق الملائكة ومحلهم بلا نهاية مذ خلقوا وذكرهم عز و جل في غير موضع من كتابه فأثنى على جميعهم ووصفهم بأنهم لا يفترون ولا يسأمون ولا يعصون الله فنفى عنهم الزلل والفترة الساقة والسهو وهذا أمر لم ينفه عز و جل عن الرسل صلوات الله عليهم بل السهو جائز عليهم وبالضرورة نعلم من عصم من السهو أفضل ممن لم يعصم منه وأن من عصم من العمد كالأنبياء عليهم السلام أفضل ممن لم يعصم ممن سواهم فإن اعترض معترض بقول الله عز و جل الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس قيل له ليس هذا معارضا لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فإن كل آية فإنما لم تحمل على مقتضاها وموجب لفظها ففي هذه الآية أن بعض الملائكة رسل وهذا حق لا شك فيه وليس إخبارا عن سائرهم بشيء لا بأنهم رسل ولا بأنهم ليسوا رسلا فلا يحل لأحد أن يزيد في الآية ما ليس فيها ثم في الآية الأخرى زيادة على ما في هذه الآية والأخبار بأن جميع الملائكة

رسل ففي تلك الآية بعض ما في هذه الآية وفي هذه الآية كل ما في تلك وزيادة ففرض قبول كل ذلك كما أن الله عز و جل إذ ذكر في كهيعص من ذكر من النبيين فقال أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين وقد قال تعالى ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك أفترى الرسل الذين لم يقصصهم الله تعالى عليه جملة أو في هذه السورة خاصة لم ينعم عليهم معاذ الله من هذا فما يقوله مسلم والوجه الثاني من أوجه الفضل هو تفاضل العاملين بتفاضل منازلهم في أعمال الطاعة والعصمة من المعاصي والدنيات وقد نص الله تعالى على أن الملائكة لا يفترون من الطاعة ولا يسأمون منها ولا يعصون البتة في شيء أمروا به فقد صح أن الله عز و جل عصمهم من الطبائع الناقصة الداعية إلى الفتور والكسل كالطعام والتغوط وشهوة الجماع والنوم فصح يقينا أنهم أفضل من الرسل الذين لم يعصموا من الفتور والكسل ودواعيهما
قال أبو محمد احتج بعض المخالفين في هذا بأن قال قال الله عز و جل إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين قالوا فدخل في العالمين الملائكة وغيرهم
قال أبو محمد وهذه الآية قد صح البرهان بأنها ليست على عمومها لأنه تعالى لم يذكر فيها محمدا صلى الله عليه و سلم ولا خلاف في أنه أفضل الناس قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس فإن قال أن آل إبراهيم هم آل محمد قيل له فنحن إذا أفضل من جميع الأنبياء حاشا آل عمران وآدم ونوحا فقط وهذا لا يقوله مسلم فصح يقينا أن هذه الآية ليست على عمومها فإذا لا شك في ذلك فقد صح أن الله عز و جل إنما أراد بها عالمي زمانهم من الناس لا من الرسل ولا من النبيين نعم ولا من عالمي غير زمانهم لأننا بلا شك أفضل من آل عمران فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة وبالله تعالى التوفيق وصح أنها مثل قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ولا شك في أنهم لم يفضلوا على الرسل ولا على النبيين ولا على أمتنا ولا على الصالحين من غيرهم فكيف على الملائكة ونحن لا ننكر إزالة النص عن ظاهره وعمومه ببرهان من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس وإنما ننكر ونمنع من إزالة النص عن ظاهره وعمومه بالدعوى فهذا هو الباطل الذي لا يحل في دين ولا يصح في إمكان العقل وبالله تعلى التوفيق
قال أبو محمد وذكر بعضهم قول الله عز و جل الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية
قال أبو محمد وهذا مما لا حجة لهم فيه اصلا لأن هذه الصفة تعم كل مؤمن صالح من الانس ومن الجن نعم وجميع الملائكة عموما مستويا فانما هذه لاية تفضيل الملائكة والصالحين من الانس والجن على سائر البرية وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد واحتجوا بامر الله عز و جل الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام
قال أبو محمد وهذا أعظم حجة عليهم لأن السجود المأمور به لا يخلو من أن يكون سجود عبادة وهذا كفر ممن قاله ولا يجوز أن يكون الله عز و جل يأمر أحدا من خلقه بعبادة غيره وأما ان يكون سجود تحية وكرامة وهو كذلك بلا خلاف من احد من الناس فاذ هو كذلك فلا دليل ادل على فضل الملائكة على آدم من أن يكون الله تعالى بلغ الغاية في اعظامه وكرامته بان تحييه الملائكة لأنهم لو كانوا دونه لم يكن له كرامة ولا مزية في تحيتهم له وقد أخبر الله عز و جل عن يوسف عليه السلام فقال ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبا هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وكانت رؤياه هي التي ذكر الله عز و جل عنه إذ يقول إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
قال أبو محمد وليس في سجود يعقوب عليه السلام ليوسف ما يوجب ان يوسف أفضل من يعقوب واحتجوا

أيضا بأن الملائكة لم يعلموا أسماء الأشياء حتى أنبأهم بها آدم على جميعهم السلام بتعليم الله عز و جل آدم إياها
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لان الله عز و جل يعلم من هو أنقص فضلا وعلما في الجملة أشياء لا يعلمها من هو أفضل منه واعلم منه بما عدا تلك الأشياء فعلم الملائكة مالا يعلمه آدم وعلم آدم أسماء الأشياء ثم أمره بأن يعلمها الملائكة كما خص الخضر عليه السلام بعلم لم يعلمه موسى عليه السلام حتى اتبعه موسى عليه السلام ليتعلم منه وعلم أيضا موسى عليه السلام علوما لم يعلمها الخضر وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الخضر قال لموسى عليه السلام اني على علم من علم الله لا تعلمه انت وانت على علم من علم الله لا أعلمه أنا
قال أبو محمد وليس في هذا أن الخضر أفضل من موسى عليه السلام
قال أبو محمد وقد قال بعض الجهال أن الله تعالى جعل الملائكة خدام أهل الجنة يأتونهم بالتحف من عند ربهم عز و جل قال تعالى تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون وقال تعالى والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم
قال أبو محمد أما خدمة الملائكة لأهل الجنة وإقبالهم اليهم بالتحف فشيء ما علمناه قط ولا سمعناه إلا من القصاص بالخرافات والتكاذيب وانما الحق من ذلك ما ذكره الله عز و جل في النص الذي أوردنا وهو ولله الحمد من أقوى الحجج في فضل الملائكة على من سواهم ويلزم هذا المحتج اذا كان اقبال الملائكة بالبشارات الى أهل الجنة دليلا على فضل منهم وهذا كفر مجرد ولكن حقيقة هي أن الفضل إذا كان للأنبياء عليهم السلام على الناس بأنهم رسل الله اليهم ووسائط بين ربهم تعالى وبينهم فالفضل واجب للملائكة علي الانبياء والرسل لكونهم رسل الله تعالى اليهم ووسائط بينهم وبين ربهم تعالى واما تفضل الله تعالى على أهل الجنة بالاكل والشرب والجماع واللباس والالات والقصور فانما فضلهم الله عز و جل من ذلك بما يوافق طباعهم وقد نزه الله سبحانه الملائكة عن هذه الطبائع المستدعية لهذه اللذات بل أبانهم وفضلهم بل جعل طبائعهم لا تلتذ بشيء من ذلك الا بذكر الله عز و جل وعبادته وطاعته في تنفيذ أوامره تعالى فلا منزلة أعلى من هذه وعجل لهم سكنى المحل الرفيع الذي جعل تعالى غاية إكرامنا الوصول اليه بعد لقاء الامرين في التعب في عمارة هذه الدنيا النكدة وفي كلف الأعمال ففي ذلك المكان خلق الله عز و جل الملائكة منذ ابتدائهم وفيه خلدهم وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقال بعض السخفاء ان الملائكة بمنزلة الهواء والرياح
قال أبو محمد وهذا كذب وقحة وجنون لان الملائكة بنص القرآن والسنن واجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة عقلا متعبدون منهيون مأمورون وليس كذلك الهواء والرياح لكنها لا تعقل ولا هي متكلفة متعبدة بل هي مسخرة مصرفة لا اختيار لها قال تعالى والسحاب المسخر بين السماء والأرض وقال تعالى سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام وذكر تعالى الملائكة فقال بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وقال تعالى ويستغفرون لمن في الأرض وقال تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين فقرن تعالى نزول الملائكةبرؤيته تعالى وقرن تعالى اتيانه باتيان الملائكة فقال عز و جل هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة واعلم أن اعراب الملائكة هاهنا بالرفع عطفا على الله عز و جل لا على الغمام ونص تعالى على أن آدم عليه الصلاة و السلام انما أكل من الشجرة ليكون ملكا أو ليخلد كما نص تعالى علينا اذ يقول عز و جل ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
قال أبو محمد فبيقين ندري أن آدم عليه السلام لولا يقينه بان الملائكة أفضل منه وطمعه بأن يصير ملكا لما قبل

من إبليس ما غره به من أكل الشجرة التي نها الله عز و جل عنها ولو علم آدم أن الملك مثله أو دونه لما حمل نفسه على مخالفة أمر الله تعالى لينحط عن منزلته الرفيعة إلى الدون هذا ما لا يظنه ذو عقل أصلا
قال أبو محمد وقال الله عز و جل إن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون فقوله عز و جل بعد ذكر المسيح ولا الملائكة المقربون بلوغ الغاية في علو درجتهم على المسيح عليه السلام لأن بنية الكلام ورتبته إنما هي إذا أراد القائل نفي صفة ما عن متواضع عنها أن يبدأ بالأدنى ثم بالأعلى وإذا أراد نفي صفة ما عن مترفع عنها أن يبدأ بالأعلى ثم بالأدنى فنقول في القسم الأول ما يطمع في الجلوس بين يدي الخليفة خازنه ولا وزيره ولا أخوه ونقول في القسم الثاني ما ينحط إلى الأكل في السوق وال ولا ذو مرتبة ولا متصاون من التجار أو الصناع لا يجوز البتة غير هذا وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر بأن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة من نور وخلق الإنسان من طين وخلق الجن من نار
قال أبو محمد ولا يجهل فضل النور على الطين وعلى النار أحد إلا من لم يجعل الله له نورا ومن لم يجعل الله له نوا فما له من نور وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا ربه في أن يجعل في قلبه نورا فالملائكة من جوهر دعا أفضل البشر ربه في أن يجعل في قلبه منه وبالله تعالى التوفيق وفي هذا كفاية لمن عقل
قال أبو محمد وقال عز و جل ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر إلى قوله وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا فإنما فضل الله تعالى بنص كلامه عز و جل بني آدم على كثير ممن خلق لا على كل من خلق وبلا شك أن بني آدم يفضلون على الجن وعلى جميع الحيوان الصامت وعلى ما ليس حيوانا فلم يبق خلق يستثنى من تفضيل الله تعالى بني آدم عليه إلا الملائكة فقط
قال أبو محمد وأما فضل رسول الله صلى الله عليه و سلم على كل رسول قبله فالثابت عنه عليه السلام أنه قال فضلت على الأنبياء بست وروى بخمس وروى بأربع وروى بثلاث رواه جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وبقوله صلى الله عليه و سلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنه عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وأنه عليه السلام أكثر الأنبياء اتباعا وأنه ذو الشفاعة التي يحتاج إليه يوم القيامة فيها النبيون فمن دونهم أماتنا الله على ملته ولا خالف بنا عنه وهو أيضا عليه السلام خليل الله وكليمه

الكلام في الفقر والغنى
قال أبو محمد اختلف قوم في أي الأمرين أفضل الفقر أم الغنى
قال أبو محمد وهذا سؤال فاسد لأن تفاضل العمل والجزاء في الجنة إنما هو للعامل لا لحالة محمولة فيه إلا أن يأتي نص بتفضيل الله عز و جل حالا على حال وليس ها هنا نص في فضل إحدى هاتين الحالتين على الأخرى
قال أبو محمد وإنما الصواب أن يقال أيما أفضل الغني أم الفقير والجواب ها هنا هو ما قاله الله تعالى إذ يقول هل تجزون إلا ما كنتم تعملون فإن كان الغني أفضل عملا من الفقير فالغني أفضل وإن كان الفقير افضل عملا من الغني فالفقير أفضل وإن كان عملهما متساويا فهما سواء قال عز و جل ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره وقد استعاذ النبي صلى الله عليه و سلم من فتنة الفقر وفتنة الغنى وجعل الله عز و جل الشكر بإزاء الغنى والصبر بإزاء الفقر فمن اتقى الله عز و جل فهو الفاضل غنيا كان أو فقيرا وقد اعترض بعضهم ها هنا بالحديث الوارد أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بكذا وكذا خريفا ونزع الآخرون بقول الله عز و جل ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى

قال أبو محمد والغنى نعمة إذا قام بها حاملها بالواجب عليه فيها وأما فقراء المهاجرين فهم كانوا كثر وكان الغنى فيهم قليلا والأمر كله منهم وفي غيرهم راجع إلى العمل بالنص والإجماع على أنه تعالى لا يجزي بالجنة على فقر ليس معه عمل خير ولا على غني ليس معه عمل خير وبالله التوفيق

الكلام في الاسم والمسمى
قال أبو محمد ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمى وقال آخرون الاسم غير المسمى واحتج من قال أن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام ويقرأ أيضا ذو الجلال والإكرام قال لا يجوز أن يقال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن يقال تبارك اسم ربك وبقوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى فقالوا ومن الممتنع أن يأمر الله عز و جل بأن يسبح غيره وبقوله عز و جل ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وقالوا الاسم مستق من السمو وأنكروا على من قال أنه مستق من الوسم وهو العلامة وذكروا قول لبيد ... إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ... وقالوا قال سيبويه الأفعال أمثلة أحدث من لفظ أحداث الأسماء قالوا وإنما أراد المسلمين هذا كل ما احتجوا به قد تقصيناه لهم ولا حجة لهم في شيء منه أما قول الله عز و جل تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام وذو الجلال فحق ومعنى تبارك تفاعل من البركة والبركة واجبة لاسم الله عز و جل الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجله ونكرمه فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى وله الإكرام من الله تعالى ومنا حيثما كان ق رطاس أو في شيء منقوش فيه أو مذكور بالألسنة ومن لم يجل اسم الله عز و جل كذلك ولا أكرمه فهو كافر بلا شك فالآية على ظاهرها دون تأويل فبطل تعلقهم بها جملة ولله تعالى الحمد وكل شيء نص الله تعالى عليه أنه تبارك فذلك حق ولو نص تعالى بذلك على أي شيء كان من خلقه كان ذلك واجبا لذلك الشيء وأما قوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى فهو على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز و جل هو تنزيه الشيء عن السوء وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقا به ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى ومعنى قوله تعالى إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم معنى واحد وهو أن يسبح الله تعالى باسمه ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه فكلا الوجهين صحيح حق وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص ولا فرق بين قوله تعالى فسبح باسم ربك العظيم وبين قوله فسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم والحمد بلا شك هو غير الله وهو تعالى نسبح بحمده كما نسبح باسمه ولا فرق فبطل تعلقهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد أما قوله تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم فقول الله عز و جل حق على ظاهره ولهذه الآية وجهان كلاهما صحيح أحدهما أن معنى قوله عز و جل ما تعبدون من دونه إلا أسماء برهان هذا قوله تعالى أثر ذلك متصلا بها سميتموها انتم وآباؤكم فصح يقينا أنه تعالى لم يعن بالأسماء هاهناذوات المعبودين لأن العابدين لها لم يحدثوا قط ذوات المعبودين بل الله تعالى توحد بأحداثها هذا ما لا شك فيه والوجه الثاني أن أولئك الكفار إنما كانوا يعبدون أوثانا من حجارة اوبعض المعادن أو من خشب وبيقين ندري أنهم قبل ان يسموا تلك الجمل من الحجارة والمعادن ومن الخشب باسم اللات والعزى ومناة هبل وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وبعل قد كانت ذواتها بلا شك موجودات قائمة وهم لا يعبدونها ولا تستحق عندهم عبادة

فلما أوقعوا عليه هذه الأسماء عبدوها حينئذ فصح يقينا أنهم لم يقصدوا بالعبادة إلا الأسماء كما قال الله تعالى لا الذوات المسميات فعادت الآية حجة عليهم وبرهانا على الاسم غير المسمى بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الاسم مستق من السمو وقول بعض من خالفهم أنه مشتق من الوسم فقولان فاسدان كلاهما باطل افتعله أهل النحو لم يصح قط عن العرب شيئا منهما وما اشتق لفظ الاسم قط من شيء بل هو اسم موضوع مثل حجر وجبل وخشبة وسائر الأسماء لا اشتقاق لها وأول ما تبطل به دعواهم هذه الفاسدة أن يقال لهم قال الله عز و جل قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فصح أن من لا برهان له على صحة دعواه فليس صادقا في قوله فهاتوا برهانكم على أن الاسم مشتق من السمو أو من الاسم وإلا فهي كذبة كذبتموها على العرب وافتريتموها عليهم أو على الله تعالى الواضع للغات كلها وقول عليه تعالى أو على العرب بغير علم وإلا فمن أين لكن أن العرب اجتمعوا فقالوا نشتق لفظة اسم من السمو آو من الوسم والكذب لا يستحله مسلم ولا يستسهله فاضل ولا سبيل لهم إلى برهان أصلا بذلك وأيضا فلو كان الاسم مشتقا من السمو كما تزعمون فتسمية العذرة والكلب والجيفة والقذر والشرك والخنزير والخساسة رفعة لها وسمو لهذه المسميات وتبا لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد وأيضا فهبك أنه قد سلم لهم قولهم أن الاسم مشتق من السمو أي حجة على أن الاسم هو المسمى بل هو حجة عليهم لأن ذات المسمى ليست مشتقة أصلا ولا يجوز عليها الاشتقاق من السمو ولا من غيره فصح بلا شك أن ما كان مشتقا فهو غير ما ليس مشتقا والاسم بإقرارهم مشتق والذات المسماة غير مشتقة فالاسم غير الذات المسماة وهذا يليح لكل من نصح نفسه أن المحتج بمثل هذا السفه عيار مستهزئ بالناس متلاعب بكلامه ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وهذا قول يؤدي من اتبعه وطرده إلى الكفر المجرد لأنهم قطعوا أن الاسم مشتق من السمو وقطعوا أن الاسم هو الله نفسه فعلى قولهم المهلك الخبيث أن الله يشتق وأن ذاته مشتقة وهذا ما لا ندري كافرا بلغه والحمد لله على ما من به من الهدى وأيضا فإن الله تعالى يقول وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إلى قوله تعالى قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم
قال أبو محمد فلا يخلو أن يكون الله عز و جل علم آدم الأسماء كلها كما قال عز و جل أما بالعربية وأما بلغة أخرى أو بكل لغة فإن كان عز و جل علمه الأسماء بالعربية فإن لفظة اسم من جملة ما علمه لقوله تعالى الأسماء كلها ولأمر تعالى آدم بأن يقول للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء فلا يجوز أن يخص من هذا العموم شيء أصلا بل هو لفظ موقف عليه كسائر الأسماء ولا فرق وهو من جملة ما علمه الله تعالى آدم عليه السلام إلا أن يدعوا أن الله تعالى اشتقه فالقوم كثيرا ما يستسهلون الكذب على الله تعالى والإخبار عنه بما لا علم لهم به فصح يقينا أن لفظة الإسم لا اشتقاق لها وإنما هي اسم مبتدأ كسائر الأسماء والأنواع والأجناس وإن كان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها بغير العربية فإن اللغة الغربية موضوعة للترجمة عن تلك اللغة بدل كل اسم من تلك اللغة اسم من العربية موضوع للعبارة عن تلك الألفاظ وإذا كان هذا فلا مدخل للاشتقاق في شيء من الأسماء أصلا لا لفظة اسم ولا غيرها وإن كان تعالى علمه الأسماء بالعربية وبغيرها من اللغات العربية فلفظة اسم من جملة ما علمه وبطل أن يكون مشتقا أصلا والحمد لله رب العالمين فبطل قولهم في اشتقاق الاسم وعاد حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وأما بيت لبيد فإنه يخرج على وجهين أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله تعالى قال تعالى الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ولبيد رحمه الله مسلم صحيح الصحبة للنبي صلى الله عليه و سلم ومعناه ثم اسم الله عليكما حافظ لكما والوجه الثاني أنه أراد بالسلام التحية ولبيد لا يقدر هو ولا غيره على إيقاع التحية عليهما وإنما يقدر لبيد وغيره على ايقاع اسم التحية والدعاء بها فقط فأي الأمرين كان فاسم السلام في بيت لبيد هو غير معنى السلام فالاسم في ذلك البيت غير المسمى ولا بد ثم لو صح ما يدعونه على لبيد ولو صح لكان قول عائشة رحمها الله وBها إنما أهجر اسمك بيانا أن الاسم غير المسمى وأن اسمه

عليه السلام غيره لأنها أخبرت أنها لا تهجره وإنما تهجر اسمه رضوان الله وهي ليست الفصاحة في دون لبيد وهي أولى بأن تكون حجة من لبيد فكيف وقول لبيد حجة عليهم لا لهم والحمد لله رب العالمين وقد قال رؤبة باسم الذي في كل صور سمر ورؤية ليس دون لبيد في الفصاحة وذات الباري تعالى ليست في كل صورة وإنما في الصورة اسم الله تعالى فلا شك أن الذي في السورة غير الذي ليس فيها وقال أبو ساسان حصين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي لابنه غياظ ... وسميت غياظا ولست بغايظ ... عدوا ولكن الصديق تغيظ ...
فصرح بأن الاسم غير المسمى تصريحا لا يحتمل التأويل بخلاف ما أدعوه على لبيد وأما قول سيبويه أن الأفعال أمثلة أحدث من لفظا إحداث الأسماء فلا حجة لهم فيه فبيقين ندري أنه أراد إحداث أصحاب الأسماء برهان ذلك قوله في غير ما وضع من كتابه أمثلة الأسماء في الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي والسباعي وقطعه أن السداسي والسباعي من الأسماء مزيدان ولا بد وأن الثلاثي من الأسماء أصلي ولا بد وأن الرباعي والخماسي من الأسماء يكونان أصليين كجعفر وسفرجل ويكونان مزيدين وأن الثنائي من الأسماء منقوص مثل يد ودم ولو تتبعنا على أن الأسماء هي الأبنية المسموعة الموضوعة ليعرف بها المسميات لبلغ أزيد من ثلثمائة موضع أفلا يستحي من يدري هذا من كلام سيبويه إطلاقا لعلمه بأن مراده لا يخفى على أحد قرأ من كتابه ورقتين ونعوذ بالله من قلة الحياء وأول سطر في كتاب سيبويه بعد البسملة هذا باب علم ما الكم من العربية فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فالاسم رجل وفرس فهذا بيان جلي من سيبويه ومن كل من تكلم في النحو قبله وبعده على أن الأسماء هي في بعض الكلام وأن الاسم هو كلمة من الكلم ولا خلاف بين أحد له حس سليم في أن المسمى ليس كلمة ثم قال بعد أسطر يسيرة والرفع والجر والنصب والجزم بحروف الإعراب وحروف الإعراب الأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين وهذا منه بيان لا إشكال فيه أن الأسماء غير الفاعلين وهي التي تضارعها الأفعال التي في أوائلها الزوائد الأربع وما قال قط من يرمي بالحجارة أن الأفعال تضارع المسمين ثم قال والنصب في الأسماء رأيت زيدا والجر مررت بزيد والرفع هذا زيد وليس في الأسماء جزم لتمكنها وإلحاق التنوين وهذا كله بيان أن الأسماء هي الكلمات المؤلفة من الحروف المقطعة لا المسمون بها ولو تتبع هذا في أبواب الجمع وأبواب التصغير والنداء والترخيم وغيرها لكثر جدا وكاد يفوت التحصيل
قال أبو محمد فسقط كل ما شغب به القائلون بأن الاسم هو المسمى وكل قول سقط احتجاج أهله وعرى عن برهان فهو باطل ثم نظرنا فيمن احتج به القائلون أن الاسم غير المسمى فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه قالوا والله عز و جل واحد والأسماء كثيرة وقد تعالى الله عن أن يكون اثنين أو أكثر وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة قالوا ومن قال أن خالقه أو معبوده تسعة وتسعون فهو شر من النصارى الذين لم يجعلوه إلا ثلاثة
قال أبو محمد وهذا برهان ضروري لازم ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني ولمحمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني أنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط
قال أبو محمد وهذا معارضة وتكذيب لله عز و جل وللقرآن ولرسول الله صلى الله عليه و سلم ولجميع العاملين ثم عطفا فقالا معنى قول الله عز و جل ولله الأسماء الحسنى وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لله تسعة وتسعين اسما إنما هو التسمية لا الأسماء

قال أبو محمد وكان هذا التقسيم أدخل في الضلال من ذلك الإجمال ويقال لهم فعلى قولكم هذا أراد الله تعالى أن بقول لله التسميات الحسنى فقال الأسماء الحسنى وأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول أن لله تسعة وتسعين تسمية فقال تسعة وتسعين اسما عن غلط وخطأ قال الله تعالى ذلك ورسوله صلى الله عليه و سلم أم عن عمد ليضل بذلك أهل الإسلام أم عن جهل باللغة التي تنبهتما لها أنتما ولابد من احد هذه الوجوه ضرورة لا محيد عنها وكلها كفر مجرد ولا بد لهم من أحدها أو ترك ما قالوه من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم هذا ودعواهم في ذلك ظاهر الكذب بلا دليل ولا يرضى بهذا لنفسه عاقل
الاسم على المسمى فهي شيء ثالث غير الاسم وغير المسمى فذات الخالق تعالى هي الله المسمى والتسمية هي تحريكنا عضل الصدر واللسان عند نطقنا بهذه الحروف وهي غير الحروف لأن الحروف هي الهواء المندفع بالتحريك فهو المحرك بفتح الراء والإنسان هو المحرك بكسر الراء والحركة هي فعل المحرك في دفع المحرك وهذا أمر معلوم بالحس مشاهد بالضرورة متفق عليه في جميع اللغات واحتجوا أيضا بقول الله تعالى إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا وهذا نص لا يحتمل تأويلا في أن الاسم هو الياء والحاء والياء والألف ولو كان الاسم هو المسمى لما عقل أحد معنى قوله تعالى لم تجعل له من قبل سميا ولا فهم ولكان فارغا حاشا لله من هذا ولا خلاف في أن معناه لم يعلق هذا الاسم على أحد قبله وذكروا أيضا قول الله عز و جل عن نفسه هل تعلم له سميا وهذا نص جلي على أن أسماء الله تعالى التي اختص بها لا تقع على غيره ولو كان ما يدعونه لما عقل هذا اللفظ أحد أيضا حاشا لله من هذا واحتجوا أيضا بقول الله تعالى مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وهذا نص على أن الاسم هو الألف والحاء والميم والدال إذا اجتمعت واحتجوا أيضا بقول الله عز و جل وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال نبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إلى قوله قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم الآية وهذا نص جلي على أن الأسماء كلها غير المسميات لأن المسميات كانت أعيانا قائمة وذوات ثابتة تراها الملائكة وإنما جهلت الأسماء فقط التي علمها الله آدم وعلمها آدم الملائكة وذكروا قول الله تعالى قل ادعوا الله وادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى وهذا ما لا حيلة لهم فيه لأن لفظة الله هي غير لفظة الرحمن بلا شك وهي بنص القرآن أسماء الله تعالى والمسمى واحد لا يتغاير بلا شك وذكروا قول الله عز و جل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وهذا بيان أيضا جلي مجمع عليه من أهل الإسلام أن الذي عنده التذكية فهو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة مثل الله والرحمن الرحيم وسائر أسمائه عز و جل احتجوا من الإجماع بأن جميع أهل الإسلام لا نحاشى منهم أحدا قد أجمعوا على القول بأن من حلف باسم من أسماء الله عز و جل فحنث فعليه الكفارة ولا خلاف في أن ذلك لازم فيمن قال والله أو الرحمن أو الصمد أو أي اسم من أسماء الله عز و جل حلف بها فما أسخف عقولا يدخل فيها تخطئة ما جاء به الله عز و جل في القرآن وما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم وما أجمع عليه أهل الإسلام وما أطبق عليه أهل الأرض قاطبة من أن الاسم هو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة وتصويب الباقلاني وابن فورك في أن ذلك ليس هو الاسم وإنما هو التسمية والحمد لله الذي لم يجعلنا من أهل هذه الصنعة المرذولة ولا من هذه العصابة المخذولة واحتجوا أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أرسلت كلبك فذكرت اسم الله فكل فصح أن اللفظ المذكور هو اسم الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أن له اسما وهي أحمد ومحمد والعاقب والحاشر والماحي فيالله ويا للمسلمين أيجوز أن يظن ذو مسنكة عقل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس ذوات تبارك الذي يخلق ما لا نعلم وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم

عليه وسلم تسموا بأسمى ولا تكنوا بكنيتي فصح أن الاسم هو الميم والحاء والميم والدال بيقين لا شك فيه واحتجوا بقول عائشة رضي الله عنها بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قال لها عليه السلام إذا كنت راضية عني قلت لا ورب محمد وإذا كنت ساخطة قلت لا ورب إبراهيم قالت أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه و سلم عليها ذلك القول فصح أن اسمه غيره بلا شك لأنها لم تهجر ذاته وإنما هجرت اسمه واحتجوا أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب الأسماء إلى الله عز و جل عبد الله وعبد الرحمن وأصدق الأسماء همام والحارث وروى أكذبها خالد ومالك وهذا كله يبين أن الاسم غير المسمى فقد يسمى عبد الله وعبد الرحمن من يبغضه الله عز و جل وقد يسمى من يكون كذابا الحارث وهماما ويسمى الصادق خالدا ومالكا فهم بخلاف أسمائهم واحتجوا أيضا بأن قالوا قد اجتمعت الأمم كلها عل أنه إذا سئل المرء ما اسمك قال فلان وإذا قيل له كيف سميت ابنك وعيدك قال سميته فلانا فصح أن تسميته هي اختياره وإيقاعه ذلك الاسم على المسمى وأن الاسم غير المسمى واحتجوا من طريق النظر بأن قالوا أنتم تقولون أن اسم الله تعالى هو الله نفسه ثم لا تبالون بأن تقولوا أسماء الله تعالى مشتقة من صفاته فعليم مشتق من علم وقدير مشتق من قدرة وحي من حياة فإذا اسم الله هو الله واسم الله مشتق فالله تعالى على قولكم مشتق وهذا كفر بارد وكلام سخيف ولا مخلص لهم منه فصحت البراهين المذكورة من القرآن والسنن والإجماع والعقل واللغة والنحو على أن الاسم غير المسمى بلا شك ولقد احسن أحمد بن جدار ما شاء أن يحسن إذ يقول ... هيهات يا أخت آل بما ... غلطت في الاسم والمسمى ... لو كان هذا وقيل سم ... مات إذا من يقول سما ...
قال أبو محمد وأخبرني أبو عبد الله السائح القطان انه شاهد بعضهم قد كتب الله في سحاة وجعل يصلي إليها قال فقلت له ما هذا قال معبودي قال فنفخت فيها فطارت فقلت له قد طار معبودك قال فضربني
قال أبو محمد وموهوا فقالوا فأسماء الله عز و جل إذا مخلوقة إذ هي كثيرة وإذ هي غير الله تعالى قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق إن كنتم تعنون الأصوات التي هي حروف الهجاء والمداء الخطوط به في الفواطيس فما يختلف مسلمان في كل ذلك مخلوق وإن كنتم تريدون الإيهام والتمويه بإطلاق الخلق على الله تعالى فمن أطلق ذلك فهو كافر بل أن أشار مشير إلى كتاب مكتوب فيه الله أو بعض أسماء الله تعالى أو إلى كلامه إذ قال يا الله أو قال بعض أسمائه عز و جل فقال هذا مخلوق أو هذا ليس ربكم أو تكفرون بهذا لما حل لمسلم إلا أن يقول حاشا لله من أن يكون مخلوقا بل هو ربي وخالقي أؤمن به ولا أكفر به ولو قال غير هذا لكان كافرا حلال الدم لأنه لا يمكن أن يسأل عن ذات الباري تعالى ولا عن الذي هو ربنا عز و جل وخالقنا والذي هو المسمى بهذه الأسماء ولا إلى الذي يخبر عنه ولا إلى الذي يذكر إلا بذكر اسمه ولا بد فلما كان الجواب في هذه المسألة يموه أهل الجهل بإيصال ما لا يجوز إلى ذات الله تعالى لم يجز أن يطلق الجواب في ذلك البتة إلا بتقسيم كما ذكرنا وكذلك لو كتب إنسان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أو نطق بذلك ثم قال لنا هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم أم ليس رسول الله وتؤمنون بهذا أو تكفرون به لكان من قال ليس رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أكفر به كافرا حلال الدم بإجماع أهل الإسلام ولكن نقول بل هو رسول صلى الله عليه و سلم ونحن نؤمن به ولا يختلف اثنان في الصوت المسموع والخط المكتوب ليس هو الله ولا رسول الله صلى الله عليه و سلم وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا أن أحمد بن حنبل وأبا زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الراويين رحمهم الله تعالى يقولون أن الاسم هو المسمى قلنا لهم هؤلاء رضي الله عنهم وإن كانوا من أهل السنة ومن ائمتنا فليسوا معصومين من الخطأ ولا أمرنا الله عز و جل بتقليدهم وأتباعهم في كل ما قالوه وهؤلاء رحمهم الله

أراهم اختيار هذا القول قولهم الصحيح أن القرآن هو المسموع من القرآن المخلوط في المصاحف نفسه وهذا قول صحيح ولا يوجب أن يكون الاسم هو المسمى على ما قد بينا في هذا الباب وفي باب الكلام في القرآن والحمد لله رب العالمين وإنما العجب كله ممن قلب الحق وفارق هؤلاء المذكورين حيث أصابوا وحيت لا يحل خلافهم وتعلق بهم حيث وهموا من هؤلاء المنتمين إلى الأشعري القائلين بأن القرآن لم ينزل قط إلينا ولا سمعناه قط ولا نزل به جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه و سلم وان الذي في المصاحف هو شيء آخر غير القرآن ثم اتبعوا هذه الكفرة الصلعاء بأن قالوا أن اسم الله هو الله وأنه ليس لله إلا اسم واحد وكذبوا الله تعالى ورسوله في أن لله أسماء كثيرة تسعة وتسعين ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد ولو أن إنسانا يشير إلى كتاب مكتوب فيه الله فقال هذا ليس ربي وأنا كافر بهذا لكان كافرا ولو قال هذا المداد ليس ربي وأنا كافر بربوبية هذا الصوت لكان صادقا وهذا لا ينكر وإنما نقف حيث وقفنا قال محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم رحمه الله لم يبعد من الاستخفاف فلو قال اللهم ارحم محمد وآل محمد لكان محسنا ولو أن إنسانا يذكر من أبويه العضو المستور باسمه لكان عاقا أتى كبيرة وإن كان صادقا وبالله تعالى التوفيق

الكلام في قضايا النجوم والكلام في هل يعقل الفلك والنجوم أم لا
قال أبو محمد زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع ولا تذوق ولا تشم وهذه دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مردود عند كل طائفة بأول العقل إذ ليست أصح من دعوى أخرى تضادها وتعارضها وبرهان صحة الحكم بأن الفلك والنجوم لا تعقل أصلا هو أن حركتها أبدا على رتبة واحدة لا تتبدل عنها وهذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له فقالوا الدليل على هذه أن الأفضل لا يختار إلا لأفضل العمل فقلنا لهم ومن أين لكم بأن الحركة أفضل من السكون الاختياري لأننا وجدنا الحركة حركتين اختيارية واضطرارية ووجدنا السكون سكونين واضطراريا فلا دليل على أن الحركة الاختيارية أفضل من السكون الاختياري ثم من لكم بأن الحركة الدورية أفضل من سائر الحركات يمينا ويسارا أوأمام أورواء ثم من لكم بأن الحركة من شرق إلى غرب كما يتحرك الفلك الأكبر أفضل من الحركة من غرب إلى شرق كما تتحرك سائر الأفلاك وجميع الكواكب فلاح أن قولهم مخرفة فاسدة ودعوى كاذبة مموهة وقال بعضهم لما كنا نحن نعقل وكانت الكواكب تدبرنا كانت أولى بالعقل والحياة منا فقلنا هاتان دعوتان مجموعتان في نسق أحدهما القول بأنها تدبرنا فهي دعوى كاذبة بلا برهان على ما ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى والثاني الحكم بأن من تدبرنا أحق بالعقل والحياة منا فقد وجدنا التدبير يكون طبيعيا ويكون اختياريا فلو صح أنها تدبرنا لكان تدبيرا طبيعيا كتدبير الغذاء لنا وكتدبير الهواء والماء لنا وكل ذلك ليس حيا ولا عاقلا بالمشاهدة وقد أبطلنا الآن أن يكون تدبير الكواكب لنا اختياريا بما ذكرنا من جريها على حركة واحدة ورتبة واحدة لا تنقل عنها أصلا وأما القول بقضايا النجوم فإنا نقول في ذلك قولا لائحا ظاهرا أن شاء الله تعالى
قال أبو محمد أما معرفة فطعها في أفلاكها وآناء ذلك ومطالعها وأبعادها وارتفاعاتها واختلاف مراكز أفلاكها فعلم حسن صحيح رفيع يشرف به الناظر فيه على عظيم قدرة الله عز و جل وعلى يقين ناثرة وصنعته واختراعه تعالى للعالم بما فيه وفيه الذي يضطر كل ذلك إلى الإقرار بالخالق ولا يستغني عن ذلك في معرفة القبلة وأوقات الصلاة وينتج من هذا معرفة رؤيا الأهلة لغرض الصوم والفطر ومعرفة الكسوفين برهان ذلك قول الله تعالى ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وقال تعالى والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي

لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وقال تعالى والسماء ذات البروج وقال تعالى لتعلموا عدد السنين والحساب وهذا هو نفس ما قلنا وبالله تعالى التوفيق
وأما القضاء فالقطع به خطأ لما نذكره إن شاء الله تعالى وأهل القضاء ينقسمون قسمين أحدهما القائلون بأنها والفلك عاقلة مميزة فاعلة مدبرة دون الله تعالى أو معه وأنها لم تزل فهذه الطائفة كفار مشركون حلال دماؤهم وأموالهم بإجماع الأمة وهؤلاء عنى رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ يقول أن الله تعالى قال أصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكواكب وفسره رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه القائل فطرنا بنوء كذا وكذا وأما من قال بأنها في المدن التي يمكنهم فيها دعوى أن بناءها كان في طالع كذا ونصه كذا لكن في الأقاليم والقطع من الأرض التي لم يتقدم كون بعضها كون بعض كذبهم فيما عليه بنوا قضاياهم في النجوم وكذلك قسمتهم أعضاء الجسم والفلزات على الدراري أيضا وبرهان سادس أننا نجد نوعا وأنواعا من أنواع الحيوان قد فشا فيها الذبح فلا تكاد يموت شيء منها إلا مذبوحا كالدجاج والحمام والضأن والمعز والبقر التي لا يموت منها حتف أنفه إلا في غاية الشذوذ ونوعا وأنواعا لا تكاد تموت إلا حتف أنوفها كالحمير والبغال وكثير من السباع وبالضرورة يدري كل أحد أنها قد تستوي أوقات ولادتها فبطل قضاؤهم بما يوجب الموت الطبيعي وبما يوجد الكرهي لاستواء جميعها في الولادات واختلافها في أنواع المنايا وبرهان سابع وهو أننا نرى الخصافا شيئا في سكان الإقليم الأول وسكان الإقليم السابع ولا سبيل إلى وجوده البتة في سكان سائر الأقاليم ولا شك ولا مرية في استوائهم في أوقات الولادة فبطل يقينا قضاؤهم بما يوجب الخصا وبما لا يوجبه بما ذكرنا من تساويهم في أوقات التكون والولادة واختلافهم في الحكم ويكفي من هذا أن كلامهم في ذلك دعوى بلا برهان وأما كان هكذا فهو باطل مع اختلافهم فيما يوجبه الحكم عندهم والحق لا يكون في قولين مختلفين وأيضا فإن المشاهدة توجب أننا قادرون على مخالفة أحكامهم متى أخبرونا بها فلو كانت حقا وحتما ما قدر أحد على خلافها وإذا أمكن خلافها فليست حقا فصح أنها تحرص كالطرق بالحصا والصرب بالحب والنظر في الكتف والزجر والطيرة وسائر ما يدعى أهله فيه تقديم المعرفة بلا شك وما يخص ما شاهدناه وما صح عندنا مما حققه حذاقهم من التعديل في الموالد والمناجات وتحاول السنين ثم فضوا فيه فأخطؤا وما نفع إصابتهم من خطئهم إلا في جزء يسير فصح أنه يحرص لا حقيقة فيه لا سيما دعواهم في إخراج الضمير فهو كله كذب لمن تأمله وبالله تعالى التوفيق وكذلك قولهم في القرانات أيضا ولو أمكن تحقيق تلك التجارب في كل ما ذكرنا لصدقناها وما يبدوا منها ولم يكن ذلك علم غيب لأن كل ما قام عليه دليل من خط أو كنف أو زجرا وتطير فليس غيبا لو صح وجه كل ذلك وإنما الغيب وعلمه هو أن يخبر المرء من الكائنات دون صناعة أصلا من شيء مما ذكرنا ولا من غيره فيصيب الجزئي والكلي وهذا لا يكون إلا لنبي وهو معجزة حينئذ وأما الكهانة فقد بطلت بمجيء النبي صلى الله عليه و سلم فكان هذا من إعلامه وآياته وبالله تعالى التوفيق

الكلام في خلق الله تعالى للشيء أهو المخلوق نفسه أم غيره وهل فعل الله
من دون الله تعالى هو المفعول أم غيره
قال أبو محمد ذهب قوم إلى أن خلق الشيء المخلوق واحتج هؤلاء بقول الله عز و جل ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذه الآية لأن الإشهاد ها هنا هو الإحضار بالمعرفة وهذا حق لأن الله تعالى لم يحضرنا عارفين ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء أنفسنا ووجدنا من قال أن خلق الشيء هو الشيء نفسه بقول الله تعالى هذا خلق الله وهذه إشارة إلى جميع المخلوقات فقد سمى الله تعالى جميع

المخلوقات كلها خلقا له وهذا برهان لا يعارض
قال أبو محمد ثم نسأل من قال أن خلق الشيء هو غير الشيء فتقول له أخبرنا عن خلق الله تعالى لما خلق أم مخلوق هو أيضا أن غير مخلوق فلا بد من أحد الأمرين فإن قالوا هو غير مخلوق أوجبوا بإزاء كل مخلوق شيئا موجودا غير مخلوق وهذا مضاهاة لقول الدهرية والبرهان قد قام بخلاف هذا وقال تعالى خلق كل شيء فقدره تقديرا وإن قالوا بل خلقه تعالى لما خلق مخلوق قلنا فخلقه تعالى لذلك الخلق أبخلق أم بغير خلق فإن قالوا بغير خلق قيل لهم من أين قلتم أن خلقه للأشياء بمخلق هو غير المخلوق وقلتم في خلقه لذلك الخلق أنه بغير خلق وهذا تخليط وإن قالوا بل خلقه بخلق سألناهم الخلق هو أم بخلق هو غيره وهكذا أبدا فإن وقفوا في شيء من ذلك فقالوا خلقه هو هو سألناهم عن الفرق بين ما قالوا أن خلقه هو غيره وبين ما قالوا أن خلقه هو هو وأن تماد وأخرجوا إلى وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال مقنع متصلا وقد قطع بهذا معمر بن عمرو العطار أحد رؤساء المعتزلة وسنذكر كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى متصلا بهذا الباب وبالله تعالى نتأيد وأيضا فإن الجميع مطبقون على أن الله عز و جل خلق ما خلق بلا معاياة فإذ لا شك في ذلك فقد صح يقينا أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين ما خلق ولا ثالث في الوجود غير الخالق والمخلوق وخلق الله تعالى ما خلق حق موجود وهو بلا شك مخلوق وهو بلا شك ليس هو الخالق فهو المخلوق نفسه بيقين لا شك فيه إذ لا ثالث ها هنا أصلا وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وكل من دون الله تعالى فعله هو مفعوله نفسه لا غير لأنه لا يفعل أحد دون الله تعالى إلا حركة أو سكونا أو تأثيرا أو معرفة أو فكرة أو إرادة ولا مفعول لشيء دون الله تعالى إلا ما ذكرنا فهي مفعولات الفاعلين وهي أفعال الفاعلين ولا فرق وما عدا هذا فإنما هو مفعول فيه كالمضروب والمقتول أو مفعول به كالسوط والإبرة وما أشبه ذلك أو مفعول له كالمطاع والمخدوم أو مفعول من أجله كالمكسوب والمحلوب فهذه أوجه المفعولات
قال أبو محمد وأما سائر أفعال الله تعالى فبخلاف ما قلنا في الخلق بل هي غير المفعول فيه أو له أو به أو من أجله وذلك كالأحياء فهو غير المحيا بلا شك وكلاهما مخلوق لله تعالى وخلقه تعالى لكل ذلك هو المخلوق نفسه كما قلنا وكالإماته فهي غير الممات ولو كان غير هذا وكان الأحياء هو المحيا والإماتة هي الممات وبيقين ندري أن المحيا هو الممات نفسه لوجب أن يكون الأحياء هو الإماتة وهذا محال وكالا بقاء فهو غير المبقى للبرهان الذي ذكرنا وبيقين ندري أن الشيء غير إعراضه التي هي قائمة به وقتا وفانية عنه تارة وبالله تعالى التوفيق

الكلام في البقاء والفناء والمعاني التي يدعيها معمر
والأحوال التي تدعيها الأشعرية وهل المعدوم شيء أم ليس شيئا ومسألة الأجزاء وهل بتجدد خلق الله للأشياء أم لا يتجدد
قال أبو محمد ذهب قوم إلى أن البقاء والفناء صفتان للباقي والفاني لا هما الباقي ولا الفاني ولا هما غير الباقي والفاني
قال أبو محمد وهذا قول في غاية الفساد لأن القضية الثانية بنقيض الاولى والاولى بنقيض الثانية لأنه إذا قال ليست هي فقد أوجب أنها غيره وإذا قال ليست غيره فقد أوجب أنه هو وهذا تناقض ظاهر وأيضا فإنه لا فرق بين قول القائلين ليس هو هو ولا ين قوله هو هو وهو غيره والمعنى في تلك القضيتين سواء وأيضا فلو كان البقاء ليس هو الباقي ولا هو غيره والفناء ليس هو الفاني ولا هو غيره فالباقي هو الفاني نفسه والباقي ليس هو الباقي ولا غيره وهذا مزيد من الجنون ومن التناقض وذهب معمر إلى أن الفناء صفة قائمة بغير الفاني

قال أبو محمد وهذا تخبيط لا يعقل ولا يتوهم ولا يقوم عليه دليلا أصلا وما كان هكذا فهو باطل والحقيقة في ذلك ظاهرة وهي أن البقاء هو وجود الشيء وكونه ثابتا قائما مدة زمان ما فإذ هو قائما كذلك فهو صفة موجودة في الباقي محمولة فيه قائمة موجودة بوجوده فانية بفنائه وأما الفناء فهو عدم الشيء وبطلانه جملة وليس هو شيئا أصلا والفناء المذكور ليس موجودا البتة في شيء من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت عبر عن المعنى المراد بالأخبار عن ذهابها بلفظة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضا وما أشبه ذلك ولو شاء الله عز و جل أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فيقف عنده فالفناء عدم كما قلنا

الكلام في المعدوم أهو شيء أم لا
قال أبو محمد وقد اختلف الناس في المعدوم أهو شيء أم لإقفال أهل السنة وطوائف من المرجئة كالأشعرية وغيرهم ليس شيئا وبه يقول هشام بن عمرو الغوطي أحد شيوخ المعتزلة وقال سائر المعتزلة المعدوم شيء وقال عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أحد شيوخ المعتزلة أن المعدم جسم في حال عدمه إلا أنه ليس متحركا ولا ساكنا ولا مخلوقا ولا محدثا في حال عدمه
قال أبو محمد واحتج من قال بأن المعدوم شيء بان قالوا قال عز و جل أن زلزلة الساعة شيء عظيم فقالوا فقد أخبر عز و جل بأنها شيء وهي معدومة ومن الدليل على أن المعدوم شيء أنه يخبر عنه ويوصف ويتمنى ومن المحال أن يكون ما هذه صفته ليس شيئا
قال أبو محمد أما قول الله عز و جل أن زلزلة الساعة شيء عظيم فإن هذه القصة موصولة بقوله تعالى يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى فإنما تم الكلام عند قوله يوم ترونها فصح أن زلزلة الساعة يوم ترونها شيء عظيم وهذا هو قولنا ولم يقل تعالى قط أنها الآن شيء عظيم ثم أخبر تعالى بما يكون يومئذ من هول المرضعات ووضع الأحمال وكون الناس سكارى من غير خمر فبطل تعلقهم بالآية وما نعلم أنهم شغبوا بشيء غيرها وأما قولهم أن المعدوم يخبر عنه ويوصف ويتمنى ويسمى فجهل شديد وظن فاسد وذلك أن قولنا في شيء يذكر أنه معدوم ويخبر عنه أنه معدوم ويتمنى به إنما هو أن يذكر اسم ما فذلك الاسم موجود بلا شك يعرف ذلك بالحس كقولنا العنقاء وابن آوى وحبين وعرس ونبوة مسيلمة وما أشبه ذلك ثم كل اسم ينطق به ويوجد ملفوظا أو مكتوبا فإنه ضرورة لا بد له من أحد وجهين إما أن يكون له مسمى وإما أن يكون ليس له مسمى فإن كان له مسمى فهو موجود وهو شيء حينئذ وإن كان ليس له مسمى فإخبارنا بالعدم وتمنينا للمريض الصحة إنما هو إخبار عن ذلك الاسم الموجود أنه ليس له مسمى ولا تحته شيء وتمن منا لأن يكون تحته مسمى فهكذا هو الأمر لا كما ظنه أهل الجهل فصح أن المعدوم لا يخبر عنه ولا يتمنى ونسألهم عمن قال ليت لي ثوبا أحمر وغلاما أسود أخبرونا هل الثوب المتمنى به عندكم أحمر أم لا فإن أثبتوا معنى وهو الثوب أثبتوا عرضا محمولا فيه وهو الحمرة فوجب أن المعدوم يحمل الأعراض وإن قالوا لم يتمن شيئا أصلا صدقوا وصح أن المعدوم لا يتمنى لأنه ليس شيئا ولا فرق بين قول القائل تمنيت لا شيء وبين قوله لم أتمن شيئا بل هما متلائمان بمعنى واحد وهذا أيضا يخرج على وجه آخر وهو أنه لا يتمنى الأشياء موجود في العالم كثوب موجود أو غلام موجود وأما من أخرج لفظة التمني لما ليس في العالم فلم يتمن شيئا وأما قولهم بوصف فطريق عجب جدا لأن معنى قول القائل يوصف أخبار بأن له صفة محمولة فيه موجودة به فليت شعري كيف يحمل المعدوم من الصفات من الحمرة والخضرة والقوة والطول والعرض أن هذا لعجيب جدا فظهر فساد ما موهوا به والحمد لله رب العالمين

قال أبو محمد رضي الله عنه وإذ قد عرا قولهم عن الدليل فقد صح أنه دعوى كاذبة ثم نقول وبالله التوفيق من البرهان على أن المعدوم اسم لا يقع على شيء أصلا قول الله عز و جل وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا وقوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وقوله وخلق كل شيء فقدره تقديرا وقال عز و جل إنا كل شيء خلقناه بقدر فيلزمهم ولا بد إن كان المعدوم شيئا أن يكون مخلوقا بعد وهم لا يختلفون في أن المخلوق موجود وقد وجد وقتا من الدهر فالمعدوم على هذا موجود وقد كان موجودا وهذا خلاف قولهم وهذا غاية البيان في أن المعدوم ليس شيئا
قال أبو محمد رضي الله عنه ونسألهم ما معنى قولنا شيء فلا يجدون بدا من أن يقولوا أنه الموجود أو أن يقولوا هو كل ما يخبر عنه فإن قالوا هو الموجود صاروا إلى الحق وإن قالوا هو كل ما يخبر عنه قلنا لهم أن المشركين يخبرون عن شريك الله عز و جل قال تعالى أين شركائي
قال أبو محمد وهذا معدوم لا مدخل له في الحقيقة واسم لا مسمى تحته فإن قالوا أن شركاء الله تعالى أشياء كانوا قد أفحشوا وأيضا فإنه قد اتفقت جميع الأمم لا تحاشى أن المعدوم ليس شيئا أو لا شيء أو ما يعبر به في كل لغة عن شيء وعن لا شيء إلا أن المعنى واحد فلو كان المعدوم شيئا لكان ما أجمعوا عليه بلا شيء وليس شيئا ولم يكن شيئا باطلا وهذا رد على جميع أهل الأرض مذ كانوا إلى أن يفنى العالم فصح أن الموجود هو الشيء فإذ هو الشيء فبضرورة العقل أن اللاشيء هو المعدوم ثم نسألهم أتقولون أن المعدوم عظيم أو صغير أو حسن أو قبيح أو طويل أو قصير أو ذو لون في حال عدمه فإن أبوا من هذا تناقض قولهم وسئلوا عن الفرق بين قولهم أنه شيء وبين قولهم أنه حسن أو قبيح أو صغير أو كبير وكيف قالوا أنه شيء ثم قالوا انه ليس حسنا ولا قبيحا ولا صغيرا ولا كبيرا فإن قالوا نعم أوجبوا أن المعدوم يحمل الأعراض والصفات وهذا تخليط ناهيك به وسئلوا في ماذا يحمل الصفات أفي ذاته أو في ماذا فإن قالوا في ذاته أوجبوا أن له ذاتا وهذه صفة الموجود ضرورة وإن قالوا بل يحمل الصفات في غيره كان ذلك أيضا عجبا زائدا ومحالا لا خفاء به
قال أبو محمد ونسألهم هل الإيمان موجود من أبي جهل أو معدوم فإن قولهم بلا شك أنه معدوم منه فنسألهم عن إيمان أبي جهل المعدوم حسن هو أم قبيح فإن قالوا لا حسن ولا قبيح قلنا لهم أيكون يعقل إيمان ليس حسنا هذا عظيم جدا وإن قالوا بل هو حسن أوجبوا أنه حامل للحسن وكذلك نسألهم عن الكفر المعدوم من الأنبياء عليهم السلام أقبيح هو أم لا فإن قالوا لا أوجبوا كفرا ليس قبيحا وإن قالوا بل هو قبيح أوجبوا أن المعدوم يحمل الصفات ونسألهم عن ولد العقيم المعدوم منه اصغير هو أم كبير أم عاقل أم أحمق فإن منعوا من وجود شيء من هذه الصفات له كان عجبا أن يكون ولد ولاصغير ولا كبير ولا حي ولا ميت وإن وصفوه بشيء من هذه الصفات أتوا بالزيادة من المحال ونسألهم عن الأشياء المعدومة ألها عدد أم لا عدد لها فإن قالوا لا عدد لها كانوا قد أتوا بالمحال إذ أقروا بأشياء لا عدد لها وإن قالوا بل لها عدد كان ذلك عجبا جدا أو محالا لا خفاء به وسألناهم عن الأولاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عددهم ونسألهم عن الأشياء المعدومة أهي في العالم ومن العالم أم ليست في العالم ولا من العالم فإن قالوا أهي في العالم ومن العالم سألناهم عن مكانها فإن حددوا لها مكانا سخفوا ما شاؤا وإن قالوا لا مكان لها قيل لهم وكيف يكون شيء في العالم لا مكان له فيه ولا حامل
قال أبو محمد ويلزمهم أن المعدومات إذا كانت أشياء لا عدد لها ولا نهاية ولا مبدأ فإنها لم تزل وهذه دهرية محققة وكفر مجرد أن تكون أشياء لا تحصى كثرة لم تزل مع الله تعالى ونعوذ بالله من مثل هذا الهوس
قال أبو محمد وقد ادعوا أن المعدوم يعلم وهذا جهل منهم بحدود الكلام لا سيما ممن أقر بان المعدوم

لا شيء وادعي مع ذلك أنه يعلم فألزمناهم على ذلك أنهم يعلمون لا شيء وأن الله تعالى يعلم لا شيء فجسر بعضهم على ذلك فقلنا له أن قولك علمت لا شيء وعلم الله تعالى لا شيء ملائم لقولك لم أعلم شيئا ولقولك لم يعلم الله تعالى شيئا لا فرق بين معنى القضيتين البتة بل هما واحد وإن اختلفت العبارتان وإذ هو كذلك فقد صح أن المعدوم لا يعلم فإن ألزمنا على هذا وسألنا هل يعلم الله تعالى إلا شيئا قبل كونها أم لا قلنا لم يزل الله تعالى يعلم أن ما يخلقه أبدا إلى ما لا نهاية له فإنه سيخلقه ويرتبه على الصفات التي يخلقها فيها إذا خلقه وأنه سيكون شيئا إذا كونه ولم يزل عز و جل يعلم أن ما لم يخلق بعد فليس هو شيئا حتى يخلقه ولم يزل تعالى يعلم أنه لا شيء معه وأنه ستكون الأشياء أشياء إذا خلقها لأنه تعالى إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علمها على خلاف ما هي عليه فلم يعلمها بل جهلها وليس هذا علما بل هو ظن كاذب وجهل وبرهان هذا قول الله عز و جل ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو في لغة العرب التي خاطبنا الله تعالى بها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح أنه تعالى لم يسمعهم لأنه لم يعلم فيهم خيرا أو لا خير فيهم فصح أن المعدوم لا يعلم أصلا ولو علم لكان موجودا أوإنما يعلم الله تعالى أن لفظة المعدوم لا مسمى لها ولا شيء تحتها ويعلم عز و جل الآن أن الساعة غير قائمة وهو الآن تعالى لا يعلمها قائمة بل يعلم أنه سيقيمها فتقوم فتكون قيامة وساعة ويوم جزاء ويوم بعث وشيئا عظيما حين يخلق كل ذلك لا قبل أن يخلقه فأما علمه تعالى بأنه سيقيمها فتقوم فهو موجود حق فهذا معنى إطلاق العلم على ما لم يكن بعد من المعدومات كما أننا لانعلم الآن الشمس طالعة طلوعها في غد بل نعلم أنها ستطلع غدا وكذلك لا نعلم موت الأحياء الآن بل نعلم أن الله تعالى سيخلق موتهم فنعلمه موتا لهم إذ خلقه لا قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فهذا نص جلي على أن المعدوم لا يعلم لأن الله تعالى أخبر أنه لا يدخل الجنة من لا يعلمه الله تعالى مجاهدا ولا صابرا فصح أن من لم يجاهد ولا صبر فلم يعلمه الله تعالى قط مجاهدا ولا صابرا أو لا علم له جهادا ولا صبرا وإنما علمه غير مجاهد وغير صابر ولم يزل تعالى يعلم أن من كان منهم سيجاهد وسيصبر فإنه لم يزل يعلم أنه سيجاهد وسيصبر فإذا جاهد وصبر علمه حينئذ صابرا مجاهدا والعلم لا يستحيل لأنه ليس شيئا غير الباري تعالى وإنما استحال المعلوم فقط ثم نسألهم هل يعلم الله تعالى لحية الأطلس وقنا الأفطس أم لا يعلم ذلك وهل يعلم الله تعالى أولاد العقيم وإيمان الكافر وكفر المؤمن وكذب الصادق وصدق الكاذب أم لا يعلم شيئا من ذلك فإن قالوا أنه تعالى يعلم كل ذلك كانوا قد وصفوا الله تعالى بالجهل وأنه يعلم الأشياء بخلاف ما هي عليه وإن قالوا أنه تعالى لا يعلم للعقيم أولادا وإنما يعلمه لا ولد له ولا يعلم لحية الأطلس بل يعلمه غير ذي لحية صدقوا وعادوا إلى الحق وبالله تعالى التوفيق

الكلام في المعاني علي معمر
قال أبو محمد وأما معمر ومن اتبعه فقالوا إنا وجدنا المتحرك والساكن فأيقنا آن معنى حدث في المتحرك به فارق الساكن في صفته وإن معنى حدث في الساكن به أيضا فارق المتحرك في صفته وكذلك علمنا أن في الحركة معنى به فارقت السكون وإن في السكون معنى به فارق الحركة وكذلك علمنا في ذلك المعنى الذي به خالفت الحركة السكون معنى به فارق المعنى الذي به فارقه السكون وهكذا أبدا أوجبوا أن في كل شيء في هذا العالم من جوهر أو عرض أي شيء كان معاني فارق كل معنى منها كل ما عداه في العالم وكذلك أيضا في تلك المعاني لأنها أشياء موجودة متغايرة وأوجبوا بهذا وجود أشياء في زمان محدد في العالم لا نهاية لعددها

قال أبو محمد هذه جملة كل ما شغبوا به إلا أنهم فصلوها ومدوها في الكفر والكافر والإيمان والمؤمن وفي غير ذلك مما هو المعنى الذي أوردناه بعينه ولا زيادة فيه أصلا
قال أبو محمد وهذا ليس شيئا لأننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق العالم كله قسمان جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد ولا ثالث في العالم غير هذين القسمين هذا أمر يعرف بضرورة العقل وضرورة الحس فالجواهر مغايرة بعضها لبعض بذواتها التي هي أشخاصها يعني بالغيرية فيها وتختلف أيضا بجنسها وهي أيضا مفترق بعضها من بعض بالعرض المحمول في كل حامل من الجواهر وأما الأعراض فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرة فيها وكذلك هذه أيضا بعضها مغاير لبعض بذواتها وبعضها مفارق لبعض بذواتها وإن كان بعض الأعراض أيضا قد تحمل الأعراض كقولنا حمرة مشرقة وحمرة كدرة وعمل سيئ وعمل صالح وقوة شديدة وقوة دونها في الشدة ومثل هذا كثير الا إن كل هذا يقف في عدد متناه لا يزيد وهذا أمر يعلم بالحس والعقل فالمتحرك يفارق الساكن هذا بحركته وهذا بسكونه والحركة تفارق السكون بذاتها ويفارقها السكون بذاته وبالنوعية والغيرية والحركة إلى الشرق تفارق الحركة إلى الغرب يكون هذه إلى الشرق وكون هذه إلى الغرب بذاته وبالغيرية فقط وهكذا في كل شيء فكل شيئين وقعا تحت نوع واحد مما يلي الأشخاص فإنهما يختلفان بغيرتهما فإن كانا وقعا تحت نوعين فإنهما يختلفان بالغيرية في الشخص وبالغيرية في النوع أيضا والغيرية أيضا لها نوع جامع لجميع أشخاصها الآن ان كل ذلك واقف عند حد من العدد لا يزيد ولا بد ثم نسألهم خبرونا عن المعاني التي تدعونها في حركة واحدة أيما أكثر أهي أم المعاني التي تدعونها في حركتين فإن أثبتوا قلة وكثرة تركوا مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا لنهاية عنها وإن قالوا لا قلة ولا كثرة ها هنا كابروا وأتوا بالمحال الناقض أيضا لأقوالهم لأنهم إذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين وهكذا أبدا فوجبت الكثرة والقلة ضرورة لا محيد عنها
قال أبو محمد فلم يكن لهم جواب أصلا إلا أن بعضهم قال أخبرونا أليس الله تعالى قادرا على آن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها
قال أبو محمد فجواب أهل الإسلام في هذا السؤال نعم وأما من عجزر به فأجابوا بلا فسقط هذا السؤال عنهم وكان سقوط الإسلام عنهم بهذا الجواب أشد من سقوط سؤال أصحاب معمر
قال أبو محمد فتمادى سؤالهم لأهل الحق فقالوا فأخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق الحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد فكان جواب أهل الحق في ذلك أنه لا يقع عدد على معدوم ولا يقع العدد الأعلى موجود معدود والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئا ولا له عدد ولا هو معدود ولا نهاية لقدرة الله تعالى وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله فلا يقال فيه إن له نهاية ولا أنه لا نهاية له وأما كل ما خلق الله تعالى فله نهاية بعد وكذا كل ما يخلق فإذا خلقه حدثت له نهاية حينئذ لا قبل ذلك و أما المعاني التي تدعونها فإنكم تدعون إنها موجودة قائمة فوجب أن يكون لها نهاية فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر وكلمناكم بما كلمناهم به مما قد ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق ثم لو تثبت لكم هذه العبارة من قول القائل إن ما يقدر الله تعالى عليه لا نهاية لعدده وهذا لا يصح بل الحق في هذا أن نقول إن الله تعالى قادر على أن يخلق مالا نهاية له في وقت ذي نهاية ومكان ذي نهاية ولو شاء أن يخلق ذلك في وقت غير ذي نهاية ومكان غير ذي نهاية لكان قادرا على كل ذلك لما وجب من ذلك إثبات ما ادعيتم من وجود معان في وقت واحد لا نهاية لها إذ ليس ها هنا عقل يوجب ذلك ولا خبر يوجب ذلك وإنما هو قياس منكم إذ قلتم لما كان قادرا على أن يخلق مالا نهاية له قلنا أنه قد خلق مالا نهاية له فهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا لأنه بزعمكم

قياس موجود على ومعدوم قياس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على ما لم يخلقه وهذا في غاية الفساد ولا فرق بينكم في هذا القياس الفاسد وبين من يقول أن في بلد كذا قوما ما يشمون من عيونهم ويسمعون من أنوفهم ويذوقون من آذانهم ويبصرون من ألسنتهم فإذا كذب في ذلك وسئل برهانا على دعواه قال أتفرون أن الله قادر على خلق ذلك فقلنا له نعم قال فهذا دليل على صحة دعواي بل أنتم أسوأ حالا لأن هذا أخبر عن متوهم لو كان كيف كان يكون فأنتم تخبرون عن غير متوهم في النفس ولا متشكل في العقل وهو إقراركم بوجود معان لا نهاية لعددها في وقت واحد
قال أبو محمد فبطل هذا القول الفاسد والحمد لله رب العالمين وكان يكفي من بطلانها أنها دعوى لا برهان على صحتها وهي دعوى فاسدة غير ممكنة بل هي محال لا يتوهم ولا ولا يتشكل وبالله تعالى التوفيق

الكلام في الأحوال مع الأشعرية ومن وافقهم
قال أبو محمد وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا أن ها هنا أحوالا ليست حقا ولا باطلا ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي موجودة ولا معدومة ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء وقالوا من هذا علم العالم بأن له علما ووجوده لوجوده ما يجده قالوا فإن قلتم أن لكم علما بأن لكم علما بالباري تعالى وبما تعلمونه وإن لكم وجودا لوجودكم ما تجدونه سألناكم ألكم علم بعلمكم بأن لكم علما وهل لكم وجود لوجودكم ووجودكم ما تجدونه فإن أقررتم بذلك لزمكم أن تسلسلوا هذا أبدا إلى ما لا نهاية له ودخلتم في قول أصحاب معمر والدهرية وإن منعتم من ذلك سئلتم عن صحة الدليل على صحة منعكم ما منعتم من ذلك وصحة إيجابكم ما أوجبتم من ذلك وكذلك قالوا في قدم القديم وحدوث المحدث وبقاء الباقي وفناء الفاني وظهور الظاهر وخفاء الخافي وقصد القاصد ونية الناوي وزمان الزمان وما أشبه ذلك وقالوا لو كان للباقي بقاء ولبقاء الباقي بقاء وهكذا أبدا إلى ما لا نهاية له قالوا فهذا يوجب وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال وهكذا قالوا في قدم القديم وقدم قدمه وقدم قدم قدمه إلى ما لا نهاية له وفي حدوث أحد حدوث حدوثه وحدوث حدوث حدوثه إلى ما لا نهاية له وهكذا قالوا في زمان الزمان وزمان زمان الزمان إلى ما لا نهاية له وفي فناء الفاني فناء فناء فنائه ما لا نهاية له وكذلك ظهور الظاهر وظهور ظهوره وظهور ظهور ظهوره إلى ما لا نهاية له وكذلك القصد والقصد إلى القصد والقصد إلى القصد إلى القصد وهكذا إلى ما لا نهاية وكذلك النية والنية للنية والنية للنية إلى ما لا نهاية له وكذلك تحقيق الحق وتحقيق تحقيق الحق إلى ما لا نهاية له
قال أبو محمد أفكار السوء إذا ظن صاحبها أنه يدفق فيها فهي أضر عليه لأنها تحرجه إلى التخليط الذي ينسبونه إلى السوفسطائية وإلى الهذيان المحض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
قال أبو محمد والكلام في هذا أبين من ان يشكل على عامي فكيف علي فهم 1 فكيف على عالم والحمد لله نحن نتكلم على هذا أن شاء الله عز و جل كلاما ظاهرا لائحا لا يخفى على ذي حس سليم وبالله تعالى نتأيد فنقول وبالله تعالى التوفيق أما القدم فإنه من صفات الزمن ومن فيه تقول ملك أقدم من ملك وزمان أقدم من زمان وشيخ أقدم من شيخ أي أنه متقدم بزمانه عليه والزمان متقدم بذاته على الزمان ليس في العالم قدم قديم الأزمان هذا هو حكم اللغة التي لا يوجد فيها غيره أصلا فالقدم هو التقدم والتقدم متقدم على غيره بنفسه فقط لأن القدم موجود معلوم وهي صفة المتقدم فلا يجوز إنكاره وأما قدم القدم فباطل لأنه لم يأت به نص ولا قام بوجوده دليلا وما كان هكذا فهو باطل وأما وجود الموجود فبضرورة الحس أن الموجود حق وأنه يقتضي واجد وأن الوجد يقتضي وجودا لما وجد هو فعل الواجد وصفته

فهو حق لما ذكرنا ووجود الواجد بذاته لا بوجود هو غيره لأن وجود الوجود لم يأت به نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما الباري عز و جل فإنه يجد نفسه ويعلمها ويجد ما دونه ويعلمه بذاته لا بوجود هو غيره ولا بعلم هو غيره فقط وكذلك العالم منا يقتضي علما ولا بد هو فعل العالم وصفته المحمولة فيه عرضا بيقين ويزيد ويذهب ويثبت أطوارا هذا ما لا شك فيه والعالم منا يعلم أنه يحمل علما بعلمه ذلك لا بعلم هو غير علمه لأن العلم بالعلم لم يوجب وجوده نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وكذلك الباقي مثله بلا شك والبقاء هو اتصال وجوده مدة بعد مدة وهذا معنى صحيح لا يجوزان ينكره عاقل فأما بقاء البقاء فلم يأت بإيجاب وجود نص و لاقام به برهان وما كان هكذا فهو باطل ولا يجوز أن يوصف لله تعالى ببقاء البقاء ولا أنه 1 باق كما لا يوصف بالخلد ولا بأنه خالد ولا بالدوام ولا بأنه دائم ولا بالثبات ولا بأنه ثابت ولا بطول العمر ولا بطول المدة لأن الله عز و جل لم يسم نفسه بشيء من ذلك لا في القرآن ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا قاله قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا قام به برهان بل البرهان قام ببطلان ذلك لأن كل ما ذكرنا من صفات المخلوقين ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين إلا أن يأتي نص بأن يسمى باسم ما فيوقف عنده ولأن كل ما ذكرنا إعراض فيما هو فيه والله تعالى لا يحمل الإعراض وأيضا فإنه عز و جل لا في زمان ولا يمر عليه زمان ولا هو متحرك ولا ساكن لكن يقال لم يزل الله تعالى ولا يزال وأما الفناء فإنه مدة للعدم تعدها أجزاء الحركات والسكون ولا يجوز أن تكون للمدة مدة لكنها مدة في نفسها ولنفسها فالقول بالزمان حق لأنه محسوس معلوم وأما القول بزمان الزمان فهو شيء لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما ظهور الظاهر فهو متيقن معلوم والظهور صفة الظاهر وفعله تقول ظهر يظهر ظهورا والظهور معلوم ظاهر بنفسه ولا يجوز آن يقال أن للظهور ظهورا لأنه لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما خفاء الخافي فهو عدم ظهوره والعدم ليس شيئا كما قدمنا وأما القصد إلى الشيء والنية له فإنما هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشيء والقول بهما واجب لأنهما موجودان بالضرورة يجدهما كل واحد من نفسه وبعلمهما من غيره علما ضروريا وأما القصد إلى القصد والنية للنية فباطل لأنه لم يأت به نص ولا أوجبهما دليل وما كان هكذا فهو باطل والقول به لا يجوز فهذا وجه البيان فيما خفي عليهم حتى أتوا فيه بهذا التخليط والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد ثم نقول لهم أخبرونا إذا قلتم هذه أحوال أهي معان ومسميات مضبوطة محدودة متميز بعضها من بعض أم ليست معاني أصلا ولا لها مسميات ولا هي مضبوطة ولا محدودة متميز بعضها من بعض فإن قالوا ليست معاني ولا محدودة ولا مضبوطة ولا متميزا بعضها من بعض ولا لتلك الأسماء مسميات أصلا قيل لهم فهذا هو معنى العدم حقا فلم قلتم أنها ليست معدومة ثم لم سميتموها أحوالا وهي معدومة ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية وتسميتكم هذه المعاني أحوالا ليست تسمية شرعية ولا لغوية ولا مصطلحا عليها لبيان ما يقع عليه فهي باطل محض بيقين فإن قالوا هي معان مضبوطة ولها مسميات محدودة متميزة بعضها من بعض قيل لهم هذه صفة الموجود ولا بد فلم قلتم أنها ليست موجودة وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ويقال لهم أيضا هذه الأحوال التي تقولون أمعقولة هي أم غير معقولة فإن قالوا هي معقولة كانوا قد اثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت فهي موجودة ولا بد والعدم ليس معقولا لكنه لا معنى لهذه اللفظة أصلا وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أيضا هل الأحوال في اللغة

وفي المعقول إلا صفات لذي حال وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى يقال هذا حال فلان اليوم وكيف كانت حالك بالأمس وكيف يكون الحال غدا فإذا الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حق مخلوقة ولا بد فظهر فساد قولهم وأنه من أسخف الهذيان والمحال الممتنع الذي لا يرضى به عاقل ويقال لهم أيضا قبل كل شيء وبعده فمن أين سميتم هذا الاسم يعني الأحوال ومن أين قلتم لا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا حق ولا باطل ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معدومة ولا موجودة ولا هي أشياء ولا غير أشياء أي دليل حداكم على هذا الحكم أقرآن أم سنة أم إجماع أم قول متقدم أو لغة أم ضرورة عقل أم دليل إقناعي أم قياس فهاتوه ولا سبيل إليه فلم يبق إلا الهذر والهوس وقلة المبالاة بما يكتبه الملكان ويسأل عنه رب العالمين والتهاون باستخفاف أهل العقول لمن قال بهذا الجنون ولا مزيد ونعوذ بالله من الخذلان وما ينبغي لهم بعد هذا أن ينكروا على من أتى بما لا يعقل ككون الجسم في مكانين والجسمين في مكان واحد وكون شيء قائما قاعدا وكون أشياء غير متناهية في وقت واحد فإن قالوا هذا كفر قيل لهم بل الكفر ما جئتم به لأنه إبطال الحقائق كلها والعجب كل العجب أنهم لا يجوزون قدرة الله تعالى على ما هو محال عندهم وقد أتوا في هذا الفصل بعين المحال ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وكلامهم في هذه المسألة كلام ما سمع بأسخف منه ولا قول السوفسطائية ولا قول النصارى ولا قول الغالية على أن هذه الفرق أحمق الفرق أقوالا أما السوفسطائية فإنهم قطعوا على أن الأشياء باطل لا حق أو أنها حق عند من هي عنده حق وباطل عند من هي عنده باطل وأما النصارى والغالية فإن كانت هاتان الفرقتان قد أتتا بالعظائم فإنهم قطعوا بأنها حق وأما هؤلاء المخاذيل فإنهم أتوا بقول حققوه وأبطلوه ولم يحققوه ولا أبطلوه كل ذلك معا في وقت واحد من وجه واحد وهذا لا يأتي به إلا مبرسم 1 أو مجنون أو ماجن يريد أن يضحك من معه
قال أبو محمد ونحن نتكلف بيان هذا التخليط التي أتو به وإن كان مكتفيا بسماعه ولكن التزيد من إبطال الباطل ما أمكن حسن فنقول وبالله تعالى التوفيق إن قولهم لا هي حق ولا هي باطل فإن كل ذي حس سليم يدري أن كل ما لم يكن حقا فهو باطل وما لم يكن باطلا فهو حق هذا لا يعقل غيره فكيف وقد قال الله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال وقال تعالى ليحق الحق ويبطل الباطل وقال تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال تعالى خلق كل شيء فقدره وقال تعالى إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وقال فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم
قال أبو محمد وهؤلاء قوم ينتمون إلى الإسلام ويصدقون القرآن ولولا ذلك ما احتججنا عليهم فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل وليس إلا علم أو جهل وهو عدم العلم وليس إلا وجود أو عدم وليس إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء ولا على مخلوق فقد أكذبهم الله عز و جل في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم آن ما لم يكن باطلا فهو حق وما لم يكن حقا فهو باطل وما لم يكن معلوما فهو مجهول وما لم يكن مجهولا فهو معلوم وما لم يكن شيئا فهو لا شيء وما لم يكن لا شيء فهو شيء وما لم يكن موجودا فهو معدوم وما لم يكن معدوما فهو موجود وما لم يكن مخلوقا فهو غير مخلوق وما لم يكن غير مخلوق فهو مخلوق هذا كله معلوم ضرورة ولا يعقل غيره فإذ هذا كذلك ولا فرق بين ما قالوه في هذه القضية وبين القول اللازم لهم ضرورة وهو ان تلك الأحوال معدومة موجودة معا حق باطل معا معلومة مجهولة معا مخلوقة غير مخلوقة معا شيء لا شيء معا وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه لأنهم إذ قالوا ليست حقا

فقد أوجبوا أنها باطل وإذ قالوا ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق وهكذا في سائر ما قالوه فأعجبوا العقول وسع هذا فيها وسخموا به ورقهم وعجب آخر وهو قولهم أن ها هنا أحوالا ولفظة ها هنا معناها الإثبات بلا شك فهي موجودة ثابتة بلا شك
قال أبو محمد ولم يخلصوا من هذا من قول معمر في وجوب وجود أشياء لا نهاية لها أو أن يصيروا إلى قولنا في إبطال هذه التي يسمونها أحوالا وإعدامها جملة وما نعلم هوسا إلا وقد انتظمته هذه المقالة ونعوذ بالله من الخذلان ومسألة أخرى
قالت الأشعرية ليس في العالم شيء له بعض أصلا ولا شيء له نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس ولا سدس ولا سبع ولا ثمن ولا تسع ولا عشر ولا جزء أصلا واحتجوا في هذا بأن قالوا يلزم من قال أن الواحد عشر العشرة وجزء من العشرة وبعض العشرة أن يقول ولا بد أن الواحد عشر من نفسه وجزء من نفسه وبعض نفسه وأنه جزء لغيره عشر لغيره لأن العشرة تسعة وواحد فلو كان الواحد عشر العشرة وبعضا للعشرة وجزأ للعشرة لكان عشرا لنفسه وللتسعة التي هي غيره ولكان جزأ بعضا لنفسه وللتسعة التي هي غيره
قال أبو محمد وهذا خبط شديد أول ذلك أنه رد على الله تعالى مجرد وتكذيب للقرآن وخلاف اللغة بل لجميع اللغات ومكابرة للعقول وللحواس قال تعالى وإذا خلا بعضهم إلى بعض وقال تعالى يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقال تعالى فلأمه الثلث فلأمه السدس فلها النصف ولهن الربع ولهن الثمن فقد كذبوا القرآن نصا ثم هذا موجود في كل طبيعة وفي كل لغة ومحسوس بالحواس ثم يقال لهم لا فرق بينكم وبين من صحح ولم ينكر كون الشيء بعض نفسه وبعض غيره وجزأ لنفسه وجزأ لغيره وعشر نفسه وعشر غيره واحتج في تصحيح ذلك بالحجة التي رمتم بها إبطال ذلك ولا مزيد وكلاكما متسكع 1 في ظلمة الخطأ ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ليس الأمر كما ظننتم بل الأسماء موضوعة للتفاهم ولتمييز بعض المسميات من بعض فالعشرة اسم للعشرة إفراد مجتمعات في العدد كذلك لتسعة وواحد ولثمانية واثنين ولسبعة وثلاثة ولستة وأربعة وخمسة وخمسة قال تعالى ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة وهكذا جميع الأعداد لا ينكر ذلك إلا مخذول منكر للمشاهدة فبالضرورة ندري أن كل جزء من تلك الجملة فهو بعض لها وعشر لها وقسم منها لنسبة ما ولا يقال هو جزء لنفسه ولا جزء لغيره ولا أنه بعض لنفسه ولا أنه بعض لغيره ولا عشر لنفسه ولا عشر لغيره ومثل هذا البلق الذي هو اسم لاجتماع السواد والبياض معا فالبياض البلق والسواد بعد البلق وليس البياض جزأ لنفسه وللسواد ولا بعضا لنفسه وللسواد وكل واحد منهما جزء للباق وكذلك الإنسان اسم للجملة المجتمعة من أعضائه ولا شك في أن العين بعض الإنسان وجزء من الإنسان ولا يحتمل أن يقال العين بعض نفسها وبعض الأذن واليد ولا أن يقال الأذن جزء لنفسها وللعين والأنف وهكذا في سائر الأعضاء فعلى قول هؤلاء النوكي 2 يلزمهم أن لا تكون العين بعض الإنسان وأن يقولوا أن العين بعض نفسها وبعض الأذن ومن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الجمل لأن الجمل ليست شيئا البتة غير إبعاضها ومن أبطل الجمل فقد أبطل الكل والجزء وأبطل العالم بكل ما فيه وإذا بطل العالم بطل الدين والعقل وهذه حقيقة السفسطة وما نعلم في الأقوال أحمق من هذه المسألة ومن التي قبلها نعوذ بالله من الخذلان

الكلام في خلق الله عز و جل للعالم في كل وقت وزيادته في كل دقيقة
قال أبو محمد وذكر عن النظام أنه قال أن الله تعالى ما يخلق كل ما خلق في وقت واحد دون أن يعدمه وأنكر عليه القول بعض أهل الكلام
قال أبو محمد وقول النظام ها هنا صحيح لأننا إذا أثبتنا أن خلق الشيء نفسه فخلق الله تعالى قائم في كل موجود أبدا ما دام ذلك الموجود موجودا وأيضا فإنا نسألهم ما معنى قولكم خلق الله تعالى أمر كذا فجوابهم أن معنى خلقه أنه تعالى أخرجه من العدم إلى الوجود فنقول لهم أليس معنى هذا القول منكم أنه أوجده ولم يكن موجودا فلا بد من قولهم نعم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق فالخلق هو الإيجاد عندكم بلا شك فأخبرونا أليس الله تعالى موجدا لكل موجود أبدا مدة وجوده فإن أنكروا ذلك أحالوا وأوجبوا أن الأشياء موجودة وليس الله تعالى موجدا لها الآن وهذا تناقض وإن قالوا نعم فإن الله تعالى موجد لكل موجود أبدا ما دام موجودا قلنا لهم هذا هو الذي أنكرتم بعينه قد أقررتم به لأن الإيجاد هو الخلق نفسه والله تعالى موجد لكل ما يوجد في كل وقت أبدا وإن لم يفنه قبل ذلك والله تعالى خالق لكل مخلوق في كل وقت وإن لم يفنه قبل ذلك وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وصح البرهان بأن الله تعالى خلق التراب والماء الذي يتغذى آدم وبنوه بما استحال عنهما وصارت فيه دماء وأحاله الله تعالى منيا فثبت بهذا يقينا أن جميع أجساد الحيوان والنوامي كلها متفرقة ثم جمعها الله تعالى فقام منها الحيوان والنوامي وقال عز و جل ثم أنشأه خلقا آخر وقال تعالى خلقا من بعد خلق فصح أن في كل حين يحيل الله تعالى أحوال مخلوقاته فهو خلق جديد والله تعالى يخلق في كل حين جميع العالم خلقا مستأنفا دون أن يفنيه وبالله تعالى التوفيق

الكلام في الحركة والسكون
قال أبو محمد ذهبت طائفة إلى أنه لا حركة في العالم وأن كل ذلك سكون واحتجوا بأن قالوا وجدنا الشيء ساكنا في المكان الأول ساكنا في المكان الثاني وهكذا أبدا فعلنا أن كل ذلك سكون وهذا قول منسوب إلى معمر بن عمرو العطار مولى بني سليم أحد رؤساء المعتزلة وذهبت طائفة إلى أن لا سكون أصلا وإنما هي حركة اعتماد وهذا قول ينسب إلى إبراهيم بن سيار النظام واحتج غير النظام من أهل هذه المقالة بأن قالوا السكون إنما هو عدم الحركة والعدم ليس شيئا وقال بعضهم هو ترك الحركة وترك الفعل ليس فعلا ولا هو معنى وذهبت طائفة إلى إبطال الحركة والسكون معا وقالوا إنما يوجد متحرك وساكن فقط وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وذهبت طائفة إلى أن الجسم في أول خلق الله تعالى ليس ساكنا ولا متحركا وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون إلا أنها قالت أن الحركات أجسام وهو قول هشام بن الحكم شيخ الإمامية وجهم بن صفوان السمرقندي وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون وأن كل ذلك إعراض وهذا هو الحق فإما من قال بنفي الحركة وأن كل ذلك سكون فقولهم يبطل بأننا قد علمنا بأن السكون إنما هو إقامة في المكان وأن الحركة نقلة عن ذلك المكان وزوال عنه ولا شك في أن الزوال عن الشيء هو غير الإقامة فيه فإذ الأمر كذلك فواجب أن يكون لهذين المعنيين المتغايرين لكل واحد منهما اسم غير اسم الآخر كما هما متغايران فاتفق في اللغة أن يسمى أحدهما حركة ويسمى الآخر سكونا وأما قولهم أن كل حركة فهي سكون في المكان الثاني فليس كذلك لأن السكون إقامة لا نقلة فيها فإذا وجدت نقلة متصلة لا إقامة فيها فهي غير الإقامة التي لا نقلة فيها ونوع آخر له أيضا أشخاص غير أشخاص

النوع الآخر وبيقين ندري أن الشيء المتحرك من مكان إلى مكان فإنه وإن جاوز كل مكان يمر عليه فإنه غير واقف ولا مقيم هذا ما لا شك فيه يعرف ذلك بضرورة الحس فصح أن الحركة معنى وأن السكون معنى آخر وأما من قال أن السكون حركة اعتماد فاحتجاج لا يعقل فلا وجه للاشتغال به وأما حجة من احتج بأن السكون عدم الحركة والعدم ليس شيئا فليس كما قال لأنه عقب الحركة إقامة موجودة ظاهرة فهي وإن كان معها بوجودها عدمت الحركة فليست هي عدما كما أن القيام معنى صحيح موجود وإن كان قد عدمت معه سائر الحركات والأعمال من القعود والاتكاء والاضطجاع ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل الحركة ليست معنى لأنها عدم السكون فهذا مالا انفكاك عنه وكذلك من قال أيضا آن المرض ليس معنى لأنه عدم الصحة والصحة ليست معنى لأنها عدم المرض ومثل هذا كثير جدا وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأما من قال أن الترك ليس معنى فخطأ لأن كل من دون الله تعالى فإنه إن ترك معنى ما وفعلا ما فعلا بد له ضرورة من فعل آخر ومعنى آخر هذا أمر يوجد بالمشاهدة والحس لا يمكن غير ذلك فصح أن ترك من دون الله تعالى لفعل ما هو أيضا فعل صحيح بوجوده منه سمى تاركا لما ترك ترك وليس الله تعالى كذلك بل لم يزل غير فاعل ولم يكن بذلك فاعلا للترك لأن ترك الإنسان للفعل كما بينا عرض موجود فيه وهو حامل له ولو كان لترك الله تعالى للفعل معنى لكان قائما به تعالى ومعاذ الله من هذا من أن يكون عز و جل حاملا لعرض فلو كان أيضا قائما بنفسه لكان جوهرا والترك ليس جوهرا ولو كان قائما بغيره عز و جل لكان تعالى فاعلا له غير تارك فصح الفرق وبالله تعالى التوفيق وأما من أبطل الحركة والسكون معا فقول فاسد أيضا لأنه أثبت المتحرك والساكن مع ذلك وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن من تحرك سكن فإن تلك العين المتحركة ثم الساكنة هي عين واحدة وذات واحدة لم تتبدل ذاتها وإنما تبدل عرضها المحمول فيها فبالضرورة تدري أنه حدث فيه أوله أو منه معنى من أجله استحق أن يسمى متحركا وأنه حدث فيه أوله أو منه أيضا معنى من أجله استحق أن يسمى ساكنا ولولا ذلك لم يكن بأن يسمى متحركا أحق به منه بأن يسمى ساكنا هذا أمر محسوس مشاهد فذلك المعنى هو الحركة أو السكون فصح وجودهما ضرورة ولا فرق بين من اثبت الساكن والمتحرك ونفى الحركة والسكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب والأكل والقيام وهذه سفسطة صحيحة وبالله تعالى التوفيق وأما من قال أن الجسم في أول خلق الله عز و جل له ليس ساكنا ولا متحركا فكلام فاسد أيضا لأنه لا يتوهم ولا يعقل معنى ثالث ليس حركة ولا سكونا وهذا لا يتشكل في النفس ولا يثبته عقل ولا سمع وأيضا فلأنه قول لا دليل عليه فهو باطل ولا شك في أن الله تعالى إذا خلق الجسم فإنما يخلقه في زمان ومكان فإذا لا شك في ذلك فالجسم في أول حدوثه ساكن في المكان الذي خلقه الله تعالى فيه ولو طرفة عين ثم أما ن يتصل سكونه فيه فتطول إقامته فيه وأما أن ينتقل عنه فيكون متحركا عنه فإن قال قائل بل هو متحرك لأنه خارج عن العدم إلى الوجود قيل له هذا منك تسمية فاسدة لأن الحركة في اللغة وهي التي يتكلم عليها أنما هي نقلة من مكان إلى مكان والعدم ليس مكانا ولم يكن المخلوق شيئا قبل أن يخلقه الله تعالى فحال خلعذ هي أول أحواله التي لم يكن هو قبلها فكيف أن يكون له حال قبلها فلم ينتقل أصلا بل ابتدأه الله تعالى الآن وأما الجسم الكلي الذي هو جرم العالم جملة وهو الفلك الكلي فكل جزء منه مقدر مفروض فإن أجزاءه المحيطة به من أربع جهات والجزء الذي يليه في جهة عمق الفلك هو مكانه ولا مكان له في الصفحة التي لا تلي الأجزاء التي ذكرنا والله تعالى يمسكه بقوته كما يشاء ولا يلاقيه من صفحته العليا شيء أصلا ولا هنالك مكان ولا زمان ولا خلاء ولا ملا
قال أبو محمد ورأيت لبعض النوكي ممن ينتمي إلى الكلام قولا ظريفا وهو أنه قال أن الله تعالى إذ

خلق الأرض خلق جرما عظيما يمسكها لئلا تتحدر سفلا فحين خلق ذلك الجرم أعدمه وخلق آخر وهكذا أبدا بلا نهاية لأنه زعم لو بقاه وقتين لا احتاج إلى مسك وهكذا أبدا إلى ما لا نهاية له كان هذا الأنوك لم يسمع قول الله تعالى أن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا أن أمسكهما من أحد من بعده فصح أن الله تعالى يمسك الكل كما هو دون عمد لا زيادة ولا جرم آخر ولو أن هؤلاء المخاذيل إذ عدموا العلم تمسكوا باتباع القرآن والسكوت عن الزيادة والخبر عن الله بما لا علم لهم به لكان أسلم لهم في الدين والدنيا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من الضلال أما من قال أن الحركات أجسام فخطأ لأن الجسم في اللغة موضوع للطويل العريض العميق ذي المساحة وليست الحركة كذلك فليست جسما ولا يجوز أن يوقع عليها اسم جسم إذ لم يأت ذلك في اللغة ولا في الشريعة ولا أوجبه دليل وأوضح أنها ليست جسما فهي بلا شك عرض وأما من قال أن الحركة ترى فقول فاسد لأنه قد صح أن البصر لا يقع في هذا العالم إلا على لون في ملون فقط وبيقين ندري أن الحركة لا لون لها فإذ لا لون لها فلا سبيل إلى أن ترى وإنما علمنا كون الحركة لأننا رأينا لون المتحرك في مكان ما ثم رأيناه في مكان آخر فعلمنا أن ذلك الملون قد انتقل عن مكان إلى مكان بلا شك وهذا المعنى هو الحركة أو بأن يحس الجسم قد انتقل من مكان إلى مكان فيدري حينئذ من لامسه وإن كان أعمى أو مطبق العينين أنه تتحرك وبرهان ما قلنا أن الهواء لما لم يكن له لون لم يره أحد وإنما يعلم تموجه وتحركه بملاقات فإنه منتقل وهو هبوب الرياح وكذلك أيضا علمنا حركة الصوت بإحساسنا الصوت يأتي من مكان ما إلى مكان ما وكذلك القول في الحركة في المشموم من الطيب والنتن وحركة المذوق فبطل قولا من قالا أن الحركات ترى وصح أن الحركة ليست لونا ولا ولها لون ولو كان هذا الامكن لآخر أن يدعى أن الحركة أنه يسمع الحركة وهذا خطأ لأنه لا يسمع إلا الصوت ولا مكن لآخر أن يدعى أن الحركة تلمس وهذا خطأ وإنما يلمس المجسة من الخشونة والأملاس أو غير ذلك من المجسات والحق من هذا إنما هو أن الحركة تعرف وتوجد بتوسط كل ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد والحركات النقلية المكانية تنقسم قسمين لا ثالث لهما إما حركة ضرورية أو اختيارية فالاختيارية هي فعل النفوس الحية من الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان كله وهي التي تكون إلى جهات شتى على غير رتبة معلومة الأوقات وكذلك السكون الاختياري والحركة الضرورية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما طبيعية وأما قسرية والاضطرارية هي الحركة الكائنة ممن ظهرت منه عن غير قصد منه إليها وأما الطبيعية فهي حركة كل شيء غير حي مما بناء الله عليه كحركة الماء إلى وسط المركز وحركة الأرض كذلك وحركة الهواء والنار إلى مواضعها وحركة الأفلاك والكواكب دورا وحركة عروق الجسد النوابض والسكون الطبيعي هو سكون كل ما ذكرنا في عصره وأما القسرية فهي حركة كل شيء دخل عليه ما يحيل حركته عن طبيعته أو عن اختياره إلى غيرها كتحريك المرء قهرا أو تحريكك الماء علوا والحجر كذلك وكتحريكك النار سفلا والهواء كذلك وكتصعيد الهواء كعكس الشمس لحر النار والسكون القسري هو توقيف الشيء في غير عنصره أو توقيف المختار كرها وبالله تعالى التوفيق

الكلام في التولد
قال أبو محمد تنازع المتكلمون في معنى عبروا عنه بالتواد وهو أنهم اختلفوا فيمن رمى سهما فجرح به إنسانا أو غيره وفي حرق النار وتبريد والثلج وسائر الأثار الظاهرة من الجمادات فقالت طائفة ما تولد من ذلك عن فعل إنسان أو حي فهو فعل الإنسان والحي واختلفوا فيما تولد من غير حي فقالت طائفة هو فعل الله وقالت طائفة ما تولد من غير حي فهو فعل الطبيعة وقال آخرون كل ذلك فعل الله عز و جل
قال أبو محمد فهؤلاء مبطلون للحقائق غائبون عن موجبات العقول

قال أبو محمد والأمر أبين من أن يطول فيه الخطاب والحمد لله رب العالمين والصواب في ذلك أن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر من جسم فهو خلق الله عز و جل فكل ذلك فعل الله عز و جل بمعنى أنه خلقه وكل ذلك مضاف بنص القرآن وبحكم اللغة إلى ما ظهرت منه من حي أو جماد قال تعالى فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج فنسب عز و جل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض وقال تلفح وجوههم النار فأخبر تعالى أن النار تلفح وقال تعالى وأن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه فأخبر عز و جل أن الماء يشوي الوجوه وقال تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة فسمى تعالى المخطئ قاتلا وأوجب عليه حكما وهو لم يقصد قتله قط لكنه تولد عن فعله وقال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فأخبر تعالى أن الكلم والعمل عرض من الأعراض وقال تعالى أما من مات أو قتل انقلبتم وقال تعالى على شفا جرف هار فانهار به ولم تختلف أمة ولا لغة في صحة قول القائل مات فلان وسقط الحائط فنسب الله تعالى وجميع خلقه الموت إلى الميت والسقوط إلى الحائط والانهيار إلى الجرف لظهور كل ذلك منها ليس في القرآن ولا في السنن ولا في العقول شيء غير هذا الحكم ومن خالف هذا فقد اعترض على الله تعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى جميع الأمم وعلى جميع عقولهم وهذه صفة من عظمت مصيبته بنفسه ومن لا دين له ولا عقل ولا حياء ولا علم وصح بكل ما ذكرنا أن إضافة كل أثر في العالم إلى الله تعالى هي على غير إضافته إلى من ظهر منه فأما إضافته إلى الله تعالى فلأنه خلقه وأما إضافته إلى من ظهر منه أو تولد عنه فلظهوره منه اتباعا للقرآن ولجميع اللغات ولسنن رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل هذه الإخبارات وكلتا هاتين الإضافتين حق لا مجاز في شيء من ذلك لأنه لا فرق بين ما ظهر من حي مختار أو من غير حي مختار في أن كل ذلك ظاهر فما ظهر منه وأنه مخلوق لله تعالى إلا أن الله تعالى خلق في الحي اختيارا لما ظهر منه ولم يخلق الاختيار فيما ليس حيا ولا مريدا فما تولد عن فعل فاعل فهو فعل الله عز و جل بمعنى أنه خلقه وهو فعل ما ظهر بمعنى أنه ظهر منه منه قال الله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقال تعالى أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق

الكلام في المداخلة والمجاورة والكمون
قال أبو محمد ذهب القائلون بأن الألوان أجسام إلى المداخلة ومعنى هذه اللفظة ان الجسمين يتداخلان فيكونان جميعا في مكان واحد
قال أبو محمد وهذا كلام فاسد لما سنبينه أن شاء الله تعالى في باب الكلام في الأجسام والأعراض من ديواننا هذا وبالله تعالى التوفيق من ذلك أن كل جسم فله مساحة وإذا كان كذلك فله مكان زائد وإذ له مكان بقدر مساحته ولا بد فإن كل جسم زيد عليه جسم آخر فإن ذلك الجسم الزائد يحتاج إلى مكان زائد من أجل مساحته الزائدة هذا أمر يعلم بالمشاهدة فإن اختلط الأمر على من لم يتمرن في معرفة حدود الكلام من أجل ما يرى في الأجسام المتخلخلة من تخلل الأجسام المايعة لها فإنما هذا الآن في خلال أجزاء تلك الأجسام المتخلخلة خروقا صغارا مملوءة هواء فإذا صب عليها الماء أو مائع ما ملأ تلك الخروق وخرج عنها الهواء الذي كان فيه وهذا ظاهر للعين محسوس خروج الهواء عنها بنفاخات وصوت من كل ما يخرج عنه الهواء مسرعا والذي ذكرنا فإنه إذا تم خروج الهواء عنه وزيد في عدد المائع ربا واحتاج إلى مكان زائد وأما الذي ذكرنا قبل فإنه في الأجسام المكتنزة كماء صب على ماء أو دهن على دهن أو دهن على ماء وهكذا في كل شيء من هذه الأنواع وغيرها

فصح يقينا أن الجسم إنما يكون في الجسم على سبيل المجاورة كل واحد في حيز غير حيز الآخر وإنما تكون المداخلة بين الأعراض والأجسام وبين الأعراض والأعراض لأن العرض لا يشغل مكانا فيجد اللون والطعم والمجسة والرائحة والحر والبرد والسكون كل ذلك مداخل للجسم ومداخل بعضه بعضا ولا يمكن أن يكون جسم واحد في مكانين ولا جسمان في مكان واحد ثم أن المجاورة بين الجسمين تنقسم أقسام أحدهما أن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كيفية الآخر كنقطة رميتها في دن خل أو دون مرق أو في لبن أو في مداد أو شيء يسير من بعض هذه في بعض أو من غيرها كذلك فإن الغالب منها يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية ويذهبها عنه ويلبسه كيفياته نفسه الذاتية والغيرية والثاني أن يخلع كل واحد منهما كيفياته الذاتية والغيرية ويلبسا معا كيفيات أخر كماء الزاج إذا جاوز الماء العفص وكجسم الجير إذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلها والدقيق والماء وغير ذلك والثالث أن لا يخلع واحد منهما عن نفسه كيفية من كيفياته لا الذاتية ولا الغيرية بل يبقى كل واحد منهما كما كان كزيت أضيف إلى ماء كحجر إلى حجر وثوب إلى ثوب فهذا حقيقة الكلام في المداخلة والمجاورة وأما الكمون فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر وذهبت طائفة إلى إبطال هذا وقالت أنه لا نار في الحجر أصلا وهو قول ضرار بن عمرو
قال أبو محمد وكل طائفة منهما فإنها تفرط على الأخرى فيما تدعى عليها فضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون بأن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة وان الإنسان بطوله أو عرضه وعمقه وعظمه كامن في المنى وخصومه ينسبون إليه انه يقول ليس في النار حر ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم
قال أبو محمد وكلا القولين جنون محض ومكابرة للحواس والعقول والحق في ذلك أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان والعصير في العنب والزيت في الزيتون والماء في كل ما يعتصر منه وبرهان ذلك أن كل ما ذكرنا إذا خرج مما كان كامنا فيه ضمر الباقي لخروج ما خرج وخف وزنه لذلك عما كان عليه قبل خروج الذي خرج ومن الأشياء ما ليس كامنا كالنار في الحجر والحديد لكن في حجر الزناد والحديد الذكر قوة إذا تضاغطا احتدم ما بينهما من الهواء فاستحال نارا وهكذا يعرض لكل شيء منحرق فإن رطوباته تستحيل نارا ثم دخانا ثم هواء إذ في طبع النار استخراج ناريات الأجسام وتصعيد رطوباتها حتى يفنى كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج ثم لو نفخت دهرك على ما بقي من الأرضية المحضة وهي الرماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نار فتخرج ولا ماء فيتصعد وكذلك دهن السراج فإنه كثير الناريات بطبعه فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دحانا هوائيا وتخرج ناريته حتى يذهب كله وأما القول في النوى والبزور والنطف فإن في النواة وفي البزر وفي النطفة طبيعة خلقها في كل ذلك الله عز و جل وهي قوة تجتذب الرطوبات الواردة عليها من الماء والزبل ولطيف التراب الوارد كل ذلك على النواة والبزر فتحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالته إليه فيصير عودا ولحاه وورقا وزهرا وثمرا وخوصا وكرما ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعته التي خلفها الله تعالى فيه لحما ودما وعظما وعصبا وعروقا وشرائين وعضلا وغضاريف وجلدا وظفرا وشعرا وكل ذلك خلق الله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلى أنه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في الإنسان دم وهذا أمر ناظرنا عليه من لاقيناه منهم والعجب كل العجب قولهم هذا التخليط وإنكارهم ما يعرف بالحواس وضررة العقل ثم هم يقولون مع هذا أن

للزجاج والحصا طعما ورائحة وأن لقشور العنب رائحة وأن للفلك طعما ورائحة وهذا إحدى عجائب الدنيا
قال أبو محمد وما وجدنا لهم في ذلك حجة غير دعواهم أن الله تعالى خلق كل حر نجده في النار عند مسنا إياها وكذلك خلق البرد في الثلج عند مسنا إياه وكذلك خلق الزيت عند عصر الزيتون والعصير عند عصر العنب والدم عند القطع والشرط
قال أبو محمد فإذا تعلقوا من هذا بحواسهم فمن أين قالوا أن للزجاج طعما ورائحة وللفلك طعما ورائحة وهذا موضع تشهد الحواس بتكذيبهم في أحدهما ولا تدرك الحواس الآخر ويقال لهم لعل الناس ليس في الأرض منهم أحد وإنما خلفهم الله عند رؤيتكم لهم ولعل بطونكم لا مصارين فيها ورؤوسكم لا أدمغة فيها لكن الله عز و جل خلق كل ذلك عند الشدخ والشق
قال أبو محمد وقول الله تعالى يكذبهم إذ قال تعالى يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فلولا أن النار تحرق بحرها ما كان يقول الله عز و جل قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فصح أن الحر في النار موجود وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نار جهنم أشد حرا من نارنا هذه سبعين درجة وقال تعالى وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين فأخبر أن الشجرة تنبت بها وقال تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فصح أن السكر والعصير الحلال مأخوذ من التمر والأعناب ولو لم يكونا فيهما ما أخذا منهما وقد أطبقت الأمة كلها على إنكار هذا الجنون وعلى القول هذا أحلى من العسل وأمر من الصبر وأحر من النار ونحمد الله على السلامة

الكلام في الاستحالة
قال أبو محمد احتج الحنيفيون ومن وافقهم في قولهم أن النقطة من البول والخمر تقع في الماء فلا يظهر لها فيها أثر أنها باقية فيه بجسمها إلا أن أجزاءها دقت وخفيت عن أن تحس وكذلك الحبر يرحى في اللبن فلا يظهر له فيه أثر وكذلك الفضة اليسيرة تذاب في الذهب فلا يظهر لها فيه أثر وهكذا كل شيء قالوا لو أن ذلك المقدار من الماء يجبل ماء النقطة من الخمر تقع فيه لكان أكثر من ذلك المقدار أقوى على الإحالة بلا شك ونحن نجد كلما زدنا نقط الخمر وقلتم أنتم قد استحالت ماء ونحن نزيد فلا يلبث أن تظهر الخمر وهكذا في كل شيء قالوا فظهرت صحة قولنا ولزمكم أن كلما كثر الماء ضعفت إحالته وهكذا في كل شيء
قال أبو محمد فقلنا لهم أن الأمور إنما هي على ما رتبها الله عز و جل وعلى ما توجد عليه لا على قضاياكم المخالفة للحس ولا ينكر آن يكون مقدار ما يفعل ما فإذا لم يفعل ذلك الفعل كالمقدار من الدواء ينفع فإذا زيد فيه أو نقص منه لم ينفع ونحن نقر معكم بما ذكرتم ولا ننكره فنقول أن مقدار إما من الماء يحيل مقدار ما يلقي فيه من الخل أو الخمر أو العسل ولا يحيل أكثر منه مما يلقى فيه ونحن نجد الهواء يحيل الماء هواء حتى إذا كثر الهواء المستحيل من الماء بل أحال الهواء ماء وهكذا كل ما ذكرتم وإنما العمدة ها هنا ما شهدت به أوائل العقول والحواس من أن الأشياء إنما تختلف باختلاف طبائعها وصفاتها التي منها تقوم حدودها وبها تختلف في اللغات أسماؤها فللماء صفات وطبائع إذا وجدت في جرم ما سمى ماء فإذا عدمت منه لم يسم ماء ولم يكن ماء وهكذا كل ما في العالم ولا تحاشي شيئا أصلا ومن المحال أن تكون حدود الماء وصفاته وطبعه في العسل أو في الخمر وهكذا كل شيء في العالم فأكثره يستحيل بعضه إلى بعض فأي شيء وجدت فيه حدود شيء ما سمي باسم ما فيه تلك الحدود إذا استوفاها كلها فإن لم يستوف إلا بعضها وفارق ايضا شيئا من صفاته الذاتية فهو حينئذ شيء غير الذي كان وغير الذي مازج كالعسل الملقى في الأبارج ونقطة مداد في لبن وما أشبه ذلك وهذه رتبة العالم في مقتضى العقول وفيما تشاهد الحواس والذوق والشم واللمس ومن دفع هذا خرج عن المعقول ويلزم الحنيفيين

من هذا اجتناب ماء البحر لأن فيه على عقولهم عذرة وبول لا ورطوبات ميتة وكذلك مياه جميع الأنهار أولها عن آخرها نعم وماء المطر أيضا تجد الدجاج يتغذى بالميتة والدم والعذرة والكبش يسقى خمرا أن ذلك كله قد استحال عن صفات كل ذلك وطبعه إلى لحم الدجاج والكبش فحل عندنا وعندهم ولو كثر تغذيها به حتى تضعف طبيعتها عن إحالته فوجد في خواصها وفيها صفة العذرة والميتة حرم أكله وهذا هو الذي أنكروه نفسه وهو مقرون معنا في أن الثمار والبقول تتغذى بالعذرة تستحيل فيها مدة أنها قد حلت وهذا هو الذي أنكروه نفسه وبالله تعالى التوفيق

الكلام في الطفرة
قال أبو محمد نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظام انه قال أن المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها
قال أبو محمد وهذا عين المحال والتخليط إلا أن كان هذا على قوله في أنه ليس في العالم إلا جسم حاشا الحركة فقط فإنه وإن كان قد أخطأ في هذه القصة فكلامه الذي ذكرنا خارج عليه خروجا صحيحا لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجود البتة إلا في حاسة البصر فقط وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب التي في الأفلاك البعيدة بلا زمان كما يقع على أقرب ما يلاصقه من الألوان لا تفاضل بين الإدراكين في المدة أصلا فصح ضرورة أن خلا البصر ولو قطع المسافة التي بين الناظر وبين الكواكب ومر عليها لكان ضرورة بلوغه إليها في مدة أطول من مدة مروره على المسافة التي ليس بينه وبين من يراه فيها إلا يسيرا وأقل فصح يقينا أن البصر يخرج من الناظر ويقع على كل مرئي قرب أو بعد دون أن يمر في شيء من المسافة التي بينهما ولا يحلها ولا يجازيها ولا يقطعها وأما في سائر الأجسام فهذه مجال ألا ترى أنك تنظر إلى الهدم وإلى الضرب القصار بالثوب في الحجر من بعد فتراه ثم يقيم سويعة وحينئذ تسمع صوت ذلك الهدم وذلك الضرب فصح يقينا أن الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وأن البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها فإذا صح البرهان بشيء ما لم يعترض عليها إلا عديم عقل أو عديم حياء أو عديم علم أو عديم دين وبالله تعالى التوفيق
الكلام في الإنسان
قال أبو محمد اختلف الناس في هذا الاسم على ما يقع فذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على الجسد دون النفس وهو قول أبي الهذيل العلاف وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على النفس دون الجسد وهو قول إبراهيم النظام وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع عليهما معا كالباق الذي لا يقع إلا على السواد والبياض معا
قال أبو محمد واحتجت الطائفة التي ذكرنا بقول الله عز و جل خلق الإنسان من صلصال كالفخار وبقول الله تعالى فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب وبقوله تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدا ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى وبآيات أخر غير هذه وهذه بلا شك صفة للجسد لا صفة للنفس لأن الروح إنما تنفخ بعد تمام خلق الإنسان الذي هو الجسد واحتجت الطائفة لأخرى بقوله تعالى أن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا وهذا بلا خلاف صفة النفس لا صفة الجسد لأن الجسد موات والفعالة هي النفس وهي المميزة الحية حاملة لهذه الأخلاق وغيرها
قال أبو محمد وكلا هذين الاحتجاجين حق وليس احدهما أولى بالقول من الآخر ولا يجوز

أن يعارض أحدهما بالآخر لأن كليهما من عند الله عز و جل وما كان من عند الله فليس بمختلف قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فإذ كل هذه الآيات حق فقد ثبت أن للإنسان اسم يقع على النفس دون الجسد ويقع أيضا على الجسد دون النفس ويقع ايضا على كليهما مجتمعين فنقول في الحي هذا إنسان وهو مشتمل على جسد وروح ونقول للميت هذا إنسان وهو جسد لا نفس فيه ونقول أن الإنسان يعذب قبل يوم القيامة وينعم يعنى النفس دون الجسد وأما من قال أنه لا يقع إلا على النفس والجسد معا فخطا يبطله الذي ذكرنا من النصوص التي فيها وقوع اسم الإنسان على الجسد دون النفس وعلى النفس دون الجسد وبالله تعالى التوفيق

الكلام في الجواهر والأعراض وما الجسم وما النفس
قال أبو محمد اختلف الناس في هذا الباب فذهب هشام بن الحكم إلى أنه ليس في العالم إلا جسم وأن الألوان والحركات أجسام واحتج أيضا بأن الجسم إذا كان طويلا عريضا عميقا فمن حيث وجدته وجدت اللون فيه فوجب الطول والعرض والعمق للون أيضا فإذا وجب ذلك للون فاللون أيضا طويل عريض عميق وكل طويل عريض عميق جسم فاللون جسم وذهب إبراهيم بن سيار النظام إلى مثل هذا سواء سواء إلا الحركات فإنه قال هي خاصة أعراض وذهب ضرار بن عمرو إلى أن الأجسام مركبة من الأعراض وذهب سائر الناس إلى أن الأجسام هي كل ما كان طويلا عريضا عميقا شاغلا لمكان وأن كل ما عداه من لون أو حركة أو مذاق أو طيب أو محبة فعرض وذهب بعض الملحدين إلى نفي الأعراض ووافقهم على ذلك بعض أهل القبلة
قال أبو محمد أما الجسم فمتفق على وجوده وأما الأعراض فإثباتها بين واضح بعون الله تعالى وهو أننا لم نجد في العالم إلا قائما بنفسه حاملا لغيره أو قائما بغيره لا بنفسه محمولا في غيره ووجدنا القائم بنفسه شاغلا لمكان يملأه ووجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكانا بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ولا وجود قسم زائد على ما ذكرنا فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أن القائم بنفسه الشاغل لمكانه هو نوع آخر غير القائم بغيره الذي لا يشغل مكانا فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبر عنه ليقع التفاهم بيننا فاتفقا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل لمكانه جسما واتفقا على أن سمينا ما لا يقوم بنفسه عرضا وهذا بيان برهاني مشاهد ووجدنا الجسم تتعاقب عليه ألالوان والجسم قائم بنفسه فبينا نراه أبيض صار أخضر ثم أحمر ثم أصفر كالذي نشاهده في الثمار والأصباغ فبالضرورة نعلم أن لذي عدم وفني من البياض والخضرة وسائر الألوان هو غير الذي بقي موجودا لم يفن وأنهما جميعا غير الشيء الحامل لهما لأنه لو كان شيء من ذلك هو الآخر لعدم بعدمه فدل بقاؤه بعده على أنه غيره ولا بد إذ من المحال الممتنع أن يكون الشيء معدوما موجودا في حالة واحدة في مكان واحد في زمان واحد وأيضا فإن الإعراض هي الأفعال من الأكل والشرب والنوم والجماع والمشي والضرب وغير ذلك فمن أنكر الأعراض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الأفعال وهذا محال لا خفا به ولا فرق بين من أثبت الفاعلين ونفى الأفعال وبين من أثبت الأفعال ونفى الفاعلين وكل الطائفتين مبطلة لما يشاهد بالحواس ويدرك بالعقل سوفسطائيون حقا لأن من الأعراض ما يدرك بالبصر وهو اللون إذ ما لا لون له لا يدرك بالشم كالنتن والطيب ومنها ما يدرك بالذوق كالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة ومنها ما يدرك باللمس كالحر والبرد ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصوت وقبحه وجهارته وجفوته ومنها ما يدرك بالعقل كالحركة والحمق والعقل

والعدل والجور والعلم والجهل فظهر فساد قول مبطلي الأغراض بقينا والحمد لله رب العالمين فإذ قد صح كل ما ذكرنا فإنما الأسماء عبارات وتمييز للمسميات ليتوصل بها المخاطبون إلى تفاهم مراداتهم من الوقوف على المعاني وفصل بعضها من بعض ليس للأسماء فائدة غير هذه فوجب ضرورة أن يوقع على القائم بنفسه الشاغل لمكانه الحامل لغيره أسماء تكون عبارة عنه وأن يوقع أيضا على القائم بغيره لا بنفسه المحمول الذي لا يشغل مكانا اسما آخر يكون أيضا عبارة عنه لينفصل بهذين الاسمين كل واحد من ذينك المسميين عن الآخر وإن لم يكن هذا وقع التخليط وعدم البيان واصطلحنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل للمكان جسما واتفقنا على أن سمينا القائم بغيره لا بنفسه عرضا لأنه عرض في الجسم وحدث فيه هذا هو الحق المشاهد لحس المعروف بالعقل وما عدا هذا فهذيان وتخليط لا يعقله قائلة فكيف غيره فصح بهذا كله وجود الإعراض وبطلان قول من أنكرها وصح أيضا بما ذكرنا أن حد اللون والحركة وكل ما لا يقوم بنفسه هو غير حد القائم بنفسه فإذ ذلك كذلك فلا جسم إلا القائم بنفسه وكل ما عداه فعرض فلاح بهذا صحة قول من قال بذلك وبطل قول هشام والنظام وبالله تعالى التوفيق
وأما احتجاج هشام بوجود الطول والعرض والعمق الذي توهمها في اللون فإنما هو طول جسم الملون وعرضه وعمقه فقط وليس للون طول ولا عرض ولا عمق وكذلك الطعم والمجسة والرائحة وبرهان ذلك أنه لو كان للجسم طول وعرض عمق وكان للون طول غير طول الملون الحامل له وعرض آخر غير عرض الحامل له وعمق آخر غير عمق الملون الحامل له لاحتاج كل واحد منهما إلى مكان آخر غير مكان الآخر إذ من أعظم المحال الممتنع أن يكون شيئان طول كل واحد منهما ذراع وعرضه ذراع وعمقه ذراع ثم يسعان جميعا في واحد ليس هو إلا ذراع في ذراع فقط ويلزمه مثل هذا في الطعم والرائحة والمجسة لأن كل هذه الصفات توجد من كل جهة من جهات الجسم الذي هي فيه كما يوجد اللون ولا فرق وقد يذهب الطعم حتى يكون الشيء لا طعم له وتذهب الرائحة حتى يصير الشيء لا رائحة له ومساحته باقية بحسبها فصح يقينا أن المساحة للملون والذي له الرائحة والطعم والمجسة لا للون ولا للطعم مكان ولا للرائحة ولا للمجسة وقد نجد جسما طويلا عريضا عميقا لا لون له وهو الهواء أساكنة ومتحركة وبالضروري ندري أنه ولو كان له لون لم يزد ذلك في مساحته شيئا
قال أبو محمد فإن بلغ الجهل بصاحبه إلى أن يقول ليس الهواء جسما سألناه عما في داخل الزق المنفوخ ما هو وعما يلقي الذي يجري فرسا جوادا بوجهه وجسمه فإنه لا شك في أنه جسم قوي متكثر محسوس وبرهان آخر وهو أن كل أحد يدري أن الطول والعرض والعمق لو كان لكل واحد منهما طول وعرض وعمق لاحتاج كل واحد منهما أيضا إلى طول آخر وعرض آخر وعمق آخر وهكذا مسلسلا إلى بها ما نهاية له وهذا باطل فبطل قول إبراهيم وهشام وبالله تعالى التوفيق وأما قول ضرار أن الأجسام مركبة من الأعراض فقول فاسد جدا لأن الأعراض قد صح كما ذكرنا أنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا تقوم بنفسها وصح أن الأجسام ذات أطوال وعروض وأعماق وقائمة بأنفسها ومن المحال أن يجتمع مالا طول له ولا عرض ولا عمق مع مثله فيتقوم منها ماله طول وعرض وعمق وإنما غلط فيها من توهم ان الأجسام مركبة من السطوح وأن السطوح مركبة من الخطوط والخطوط مركبة من النقط
قال أبو محمد وهذا خطأ على كل حال لأن السطوح المطلقة فإنما هي تناهي الجسم وانقطاعه في تماديه من أوسع جهاته وعدم امتداده فقط وأما الخطوط المطلقة فإنما هي تناهي جهة السطح وانقطاع تماديها وأما النقط فهي تناهي

جهات الجسم من أحد نهاياته كطرف السكين ونحوه فكل هذه الأبعاد إنما هي عدم التمادي من المحال أن يجتمع عدم فيقوم منه موجود وإنما السطوح المجسمة والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فإنما هي أبعاض الجسم وأجزاؤه ولا تكون الأجزاء أجزاء إلا بعد القسمة فقط على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهرا ليس جسما ولا عرضا وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل وحد هذا الجوهر عند من أثبته أنه واحد بالذات قابل للمتضادات قائم بنفسه لا يتحرك ولا له مكان ولا له طول ولا عرض ولا عمق ولا يتجزى وحده بعض من ينتمي إليه الكلام بأنه واحد بذاته لا طول له ولا عرض ولا يتجزى وقالوا أنه لا يتحرك وله مكان وأنه قائم بنفسه يحمل من كل عرض عرضا واحدا فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسمة
قال أبو محمد وكلا هذين القولين والقول الذي اجتمعا عليه في غابة الفساد والبطلان أولا من قال ذلك أنها كلها دعاوى مجردة لا يقوم على صحة شيء منها دليل أصلا لا برهاني ولا إقناعي بل البرهان العقلي والحسي يشهدان ببطلان كل ذلك وليس يعجز أحد أن يدعي ما شاء وما كان هكذا فهو باطل محض وبالله تعالى نتأيد وأما نحن فنقول أنه ليس في الوجود إلا الخالق وخلقه وأنه ليس الخلق إلا جوهرا حاملا لأعراضه وأعراضا محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعدي أحدهما عن الاخر فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ونجمع إن شاء الله تعالى كل شيء أوقعت عليه هاتان الطائفتان اسم جوهر لا جسم ولا عرض ونبين إن شاء الله تعالى فساد كل ذلك بالبراهين الضرورية كما فعلنا في سائر كلامنا وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد حققنا ما أوقع عليه بعض الأوائل ومن قلدهم اسم جوهر وقالوا أنه ليس جسما ولا عرضا فوجدناهم يذكرون الباري تعالى والنفس والهيولي والعقل والصورة وعبر بعضهم عن الهيولي بالطينة وبعضهم بالخميرة والمعنى في كل ذلك واحد إلا أن بعضهم قال المراد بذلك الجسم متعريا من جميع أعراضه وأبعاده وبعضهم قال المراد بذلك الشيء الذي منه كون هذا العالم ومنه تكون على حسب اختلافهم في الخالق أو في إنكاره وزاد بعضهم في الجوهر الخلا والمدة اللذين لم يزالا عندهم يعني بالخلا المكان المطلق لا المكان المعهود ويعني بالمدة الزمان المطلق لا الزمان المعهود
قال أبو محمد وهذه أقوال ليس شيء منها لمن ينتمي إلى الإسلام وإنما هي للمجوس والصابئين والدهرية والنصارى في تسميتهم الباري تعالى جوهرا فإنهم سموه في أمانتهم التي لا يصح عندهم دين لملكي ولا لنسطوري ولا ليعقوبي ولا لهاروني إلا باعتقادها وإلا فهو كافر بالنصرانية قطعا حاشا تسميته الباري تعالى جوهرا فإنه للمجسمة أيضا وحاشا القول بأن النفس جوهر لا جسم فإنه قد قال به العطار احد رؤساء المعتزلة وأما المنتمون إلى الإسلام فإن الجوهر ليس جسما ولا عرضا ليس هو عندهم شيئا إلا الأجزاء الصغار التي لا تتجزؤا إليها تنحل الأجسام بزعمهم وقد ذكر هذا عن بعض الأوائل أيضا فهذه ثمانية أشياء كما ذكرنا لا نعلم أحد أسمى جوهرا ليس جسما ولا عرضا وغيرها إلا أن قوما جهالا يظنون في القوى الذاتية أنها جواهر وهذا جهل منهم لأنها بلا خلاف محمولة فيما هي غير قائمة بنفسها وهذه صفة العرض لا صفة الجوهر بلا خلاف
قال أبو محمد فأما الخلا والمدة فقد تقدم إفسادنا لهذا القول في صدر ديواننا بالبراهين الضرورية وفي كتابنا الموسوم بالتحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي لمحمد بن زكريا الطيب وحللنا كل دعوى أوردها هو وغيره في هذا المعنى بابين شرح والحمد لله رب

العالمين كثيرا وأثبتنا في صدر كتابنا هذا وهنالك أنه ليس في العالم خلا البتة وأنه كله كرة مصمتة لا تخلل فيها وأنه ليس وراءها خلاء لا ملاء ولا شيء البتة وأن المدة ليست للأمد أحدث الله الفلك بما فيه من الأجسام الساكنة والمتحركة وأعراضها وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزرافة وسارقة الماء والآلة التي تدخل في إحليل من به أسر البول براهين ضرورية بتحقيق أن لا خلاء في العالم أصلا وأن الخلاء عند القائلين به إنما هو مكان لا تمكن فيه وهذا محال بما ذكرنا لأنه لو خرج الماء من الثقب الذي في أسفل سارقة الماء وقد شد أعلاها لبقي خاليا بلا متمكن فيه فإذا لم يمكن ذلك أصلا ولا كان فيه بنية العالم وجوده وقف الماء باقيا لا ينهرق حتى إذا فتح أعلاها ووجد الهواء مدخلا خرج الماء وانهرق لوقته وخلفه الهواء وكذلك الزرافة والآلة متخذة لمن به أسر البول فإنه إذا حصلت تلك في داخل الإحليل وأول المثانة ثم جبذ الزر المغلق ليقها إلى الخارج أتبعه البول ضرورة وخرج إذ لم يخرج لبقي ثقب الآلة خاليا لا شيء فيه وهذا باطل ممتنع وقد بينا في صدر كتابنا كما اعترض به الملحدون المخالفون لنا في هذا المكان فأغنى عن إعادته فإن قال قائل فالماء الذي اخترعه الله عز و جل معجزة من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم التمر الذي اخترع له والثربد الذي في اخترع له من أين اخترعه وهي أجسام محدثة والعالم عندكم ملأ لا خلاء فيه ولا تخلخل ولا يكون الجسمان في مكان واحد قلنا وبالله تعالى التوفيق لا يخلو هذا من أحد وجهين لا ثالث لهما أما آن يكون الله عز و جل أعدم من الهواء مقدار ما اخترع فيه من التمر والماء والثريد وأما أن يكون الله عز و جل أحال أجزاء من الهوى ماء وتمرا وثريدا فالله أعلم أي ذينك كان والله على كل شيء قدير فسقط قولهم في الخلا والمدة والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وأما الصورة فيكفيه بلا شك وهي تخليط الجواهر وتشكلها إلا أنها قسمان أحدهما ملازم كالصورة الكلية لا تفارق الجواهر البتة ولا توجد دونهما ولا تتوهم الجواهر عارية عنها والآخر تتعاقب أنواعه وأشخاصه على الجواهر كانتقال الشيء عن تثليث إلى تربيع ونحو ذلك فصح أنها عرض بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما العقل فلا خلاف بين أحد له عقل سليم في أنه عرض محمول في النفس وكيفية برهان ذلك أنه يقبل الأشد والأضعف فنقول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وله ضد وهو الحمق ولا خلاف في الجواهر أنها لا ضد لها وإنما التضاد في بعض الكيفيات فقط وقد اعترض في هذا بعض من يدعي له علم الفلسفة فقال ليس في العقل ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه فقلت الذي ذكر لي هذا البحث أن هذه سفسطة وجهل لو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول ليس للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه ولا لشيء من الكيفيات ضد ولكن لوجودها ضد وهو عدمها فيبطل التضاد من جميع الكيفيات وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل ولا فرق بين وجود الضد للعقل وبين وجوده للعلم ولسائر الكيفيات وهي باب واحد كله وإنما هي صفات متعاقبة كلها موجودة فالعقل موجود ثم يعقبه الحمق وهو موجود كما أن العلم موجود ويعقبه الجهل وكما أن النجدة موجودة ويعقبها الجبن وهو موجود وهذا أمر لا يخفى على من له أقل تمييز وكذلك الجواهر لا تقبل الأشد والأضعف في ذواتها وهذا أيضا قول كل من له أدنى فهم من الأوايل والعقل عند جميعهم هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما يحسن به المغبة في دار البقاء وعالم الجزاء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا وبهذا أيضا جاءت الرسل عليهم السلام قال الله عز و جل أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون وقال تعالى أم تحسب آن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وقال تعالى ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون وقال تعالى

وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وقال تعالى إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون فصح أن العقل هو الإيمان وجميع الطاعات وقال تعالى عن الكفار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ومثل هذا في القرآن كثير فصح ان العقل فعل النفس وهو عرض محمول فيها وقوة من قواها فهو عرض كيفية بلا شك وإنما غلط من غلط في هذا لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن القل جوهر وأن له فلكا فعول على ذلك من لا علم له وهذا خطأ كما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن لفظة العقل عربية أتى بها المترجمون عبارة عن لفظة أخرى يعبر بها في اليونانية أو في غيرها من اللغات عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية هذا ما لا خفاء به عند أحد ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبرة بها عن عرض وكان مدعي خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهتا بلا شك ولقد قال بعض النوكي الجهال لو كان العقل عرضا لكانت الأجسام أشرف منه فقلت للذي أتاني بهذا وهل للجوهر شرف إلا بأعراضه وهل شرف جوهر قط على جوهر إلا بصفاته لا بذاته هل يخفى هذا على أحد ثم قلنا ويلزمهم هذا نفسه على قولهم السخيف في العلم والفضائل أن لا يخالفوننا في أنها أعراض فعلى مقدمتهم السخيفة يجب أن تكون الأجسام كلها أشرف منها وهذا كما ترى وأما الهيولي فهو الجسم نفسه الحامل لأعراضه كلها وإنما أفردته الأوائل بهذا الاسم إذ تكلموا عليه مفردا في الكلام عليه عن سائر أعراضه كلها من الصورة وغيرها مفصولا في الكلام عليه خاصة عن إعراضه وإن كان لا سبيل إلى أن يوجد خاليا عن أعراضه ولا متعريا منها أصلا ولا يتوهم وجوده كذلك ولا يتشكل في النفس ولا يتمثل ذلك أصلا بل هو محال ممتنع جملة كما أن الإنسان الكلي وجميع الأجناس والأنواع ليس شيء منها غير أشخاصه فقط فهي الأجسام بأعيانها إن كان النوع نوع أجسام وهي أشخاص الأعراض إن كان النوع نوع أعراض ولا مزيد لان قولنا الإنسان الكلي يزيد النوع إنما معناه أشخاص الناس فقط لا أشياء آخر وقولنا الحمرة الكلية إنما معناه أشخاص الحمرة حيث وجدت فقط فبطل بهذا تقدير من ظن من أهل الجهل أن الجنس والنوع والفصل جواهر لا أجسام وبالله تعالى التوفيق لكن الأوائل سمتها وسمت الصفات الأوليات الذاتيات جوهريات لا جواهر وهذا صحيح لأنها منسوبة إلى الجواهر لملازمتها لها وأنها لا تفارقها البتة ولا يتوهم مفارقتها لها وبالله تعالى التوفيق فبطل قولهم في الخلا والمدة والصورة والعقل والهيولي والحمد لله رب العالمين وأما الباري تعالى فقد أخطأ من سماه جوهرا من المجسمة ومن النصارى لأن لفظة الجوهر لفظة عربية ومن أثبت الله عز و جل ففرض عليه إذا قرانه خالقه وإلاهه ومالك أمره ألا يقدم عليه في شيء إلا بعهد منه تعالى وإلا يخبر عنه إلا بعلم متيقن ولا علم ههنا إلا ما أخبر به عز و جل فقط فصح يقينا أن تسمية الله عز و جل جوهرا والأخبار عنه بأنه جوهر حكم عليه تعالى بغير عهد منه وأخبار عنه تعالى بالكذب الذي لم يخبر قط تعالى به نفسه ولا سمي به نفسه وهذا إقدام لم يأتنا قط به برهان بإباحته وأيضا فإن الجوهر حامل لأعراض ولو كان الباري تعالى حاملا لعرض لكان مركبا عن ذاته وأعراضه وهذا باطل وأما النصارى فليس لهم ان يتصوروا على اللغة العربية فيصرفوها عن موضعها فبطل أن يكون تعالى جوهرا لبراءته عن حد الجواهر وبطل أن يسمى جوهرا لأنه تعالى لم يسمي نفسه به وبالله تعالى التوفيق فبطل قول من سمى الله تعالى جوهرا واخبر عنه أنه تعالى جوهر ولله تعالى الحمد فلم يبق إلا النفس والجزء الذي لا يتجزأ ونحن إن شاء الله تعالى نتكلم فيها كلاما مبينا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

قال أبو محمد اختلف الناس في النفس فذكر عن أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم إنكار النفس جملة وقال لا أعرف إلا ما شاهدته بحواسي وقال جالينوس وأبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف النفس عرض من الإعراض ثم اختلفا فقال جالينوس هي مزاج مجتمع متولد من تركيب أخلاط الجسد وقال أبو الهذيل هي عرض كسائر أعراض الجسم وقالت طائفة النفس هي النسيم الداخل الخارج بالتنفس فهي النفس قالوا والروح عرض وهو الحياة فهو غير النفس وهذا قول الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية وقالت طائفة النفس جوهر ليست جسما ولا عرضا ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا هي في مكان ولا تتجزأ وأنها هي الفعالة المدبرة وهي الإنسان وهو قول بعض الأوائل وبه يقول معمر بن عمرو العطار أحد شيوخ المعتزلة وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد
قال أبو محمد وبهذا نقول والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد
قال أبو محمد أما قول أبى بكر ابن كيسان فإنه يبطله النص وبرهان العقل أما النص فقول الله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم الآية فصح أن النفس موجودة وأنها غير الجسد وأنها الخارجة عند الموت
قال أبو محمد وأما البرهان العقلي فإننا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله وتصحيح رأيه او فك مسألة عويصة عكس ذهنه وافرد نفسه عن حواسها الجسدية وترك استعمال الجسد جملة وتبرأ منه حتى انه لا يرى من بحضرته ولا يسمع ما يقال أمامه فحينئذ يكون رأيه وفكره أصفى ما كان فصح ان الفكر والذكر ليسا للجسد المتخلي منه عند إرادتهما وأيضا فالذي يراه النائم مما يخرج حقا على وجهه وليس ذلك إلا إذا تخلت النفس عن الجسد فبقي الجسد كجسد الميت ونجده حينئذ يرى في الرؤيا ويسمع ويتكلم ويذكر وقد بطل عمل بصره الجسدي وعمل أذنيه الجسدي وعمل ذوقه الجسدي وكلام لسانه الجسدي فصح يقينا أن العقل المبصر السامع المتكلم الحساس الذائق هو شيء غير الجسد فصح أن المسمى نفسا إذ لا شيء غير ذلك وكذلك ما تتخيله نفس الأعمى والغائب عن الشيء مما قد رآه قبل ذلك فيتمثله ويراه في نفسه كما هو فصح يقينا أن ههنا متمثلا مدركا غير الجسد إذ لا أثر للجسد ولا للحواس في شيء مما ذكرنا البتة ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل والجسم يحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن ههنا مريدا للأشياء غير الجسد ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد ومنها ما يرى من بعض المحصرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أجد ما كان ذهنا وأصح ما كان تمييزا وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة وأصحهم نظرا وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى فصح أن المدرك للأمور والمدبر للجسد الفعال المميز الحي هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفسا وصح أن الجسد مؤد للنفس ولها مدخلات في الجسد كأنها وقعت في طين مخمر فأنساها شغلها بها كلما سلف لها وأيضا فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متماديا وحياته متصلة في حال نومه وموته ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحا سالما لم ينتقض منه شيء من أعضائه وقد بطلت أفعاله كلها جملة فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة وإن الفعال الذاكر قد باينه وتبرأ منه وأيضا فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضوا عضوا بالقطع والفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوى النفس باقية أو فر ما كان فصح ضرورة أن الفعال العالم الذاكر المدير المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد

موات فبطل قول ابن كيسان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أنها مزاج كما قال جالينوس فإن كل ما ذكرنا مما أبطلنا به قول أبي بكر بن كيسان فإنه يبطل أيضا قول جالينوس وأيضا فإن العناصر الأربعة التي منها تركب الجسد وهي التراب والماء والهواء والنار فإنها كلها موات بطبعها ومن الباطل الممتنع والمحال الذي لا يجوز البتة أن يجتمع موات وموات وموات وموات فيقوم منها حي وكذلك محال أن تجتمع بوارد فيقوم منها حار أو حوار فيجتمع منها بارد أو حي وحي وحي فيقوم منها موات فبطل أن تكون النفس مزاجا وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أنها عرض فقط وقول من قال إنما النفس النسيم الداخل والخارج من الهواء وأن الروح هو عرض وهو الحياة فإن كلى هذين القولين يبطلان بكل ما ذكرنا ابطلال قول الأصم ابن كيسان وأيضا فإن أهل هذين القولين ينتمون إلى الإسلام والقرآن يبطل قولهم نصا قال الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى فصح ضرورة أن النفس غير الأجساد وان الأنفس هي المتوفاة في النوم والموت ثم ترد عند اليقظة وتمسك عند الموت وليس هذا التوفي للأجساد أصلا وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن العرض لا يمكن أن يتوفى فيفارق الجسم الحامل له ويبقى كذلك ثم يرد بعضه ويمسك بعضه هذا ما لا يكون ولا يجوز لأن العرض يبطل بمزايلته الحامل له وكذلك لا يمكن أن يظن ذو مسكة من عقل أن الهواء الخارج والداخل هو المتوفى عند النوم وكيف ذلك وهو باق في حال النوم كما كان في حال اليقظة ولا فرق وكذلك قوله تعالى والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون فإنه لا يمكن أن يعذب العرض ولا الهواء وأيضا قال الله عز و جل يقول وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى الآية
قال أبو محمد فهذه آية ترفع الأشكال جملة وتبين أن النفس غير الجسد وإنما هي العاقلة المخاطبة المكلفة لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن الأجساد حين أخذ الله عليها هذا العهد كانت مبددة في التراب والماء والهواء والنار ونص الآية يقتضي ما قلنا فكيف وفيها نص أن الإشهاد إنما وقع على النفوس وما أدرى كيف تنشرح نفس مسلم بخلاف هذه النصوص وكذلك أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رأى عند سماء الدنيا ليلة أسرى به عن يمين آدم وعن يساره نسم بنية فأهل السعادة عن يمينه وأهل الشقاوة عن يساره عليه السلام ومن الباطل أن تكون الأعراض باقية هنالك أو أن يكون النسيم هنالك وهو هواء متردد في الهواء
قال أبو محمد ولو كان ما قاله أبو الهذيل والباقلاني ومن قلدهما حقا لكان الإنسان يبدل في كل ساعة ألف ألف روح وأزيد من ثلاث مائة نفس ألف لأن العرض عندهم لا يبقى وقتين بل يفنى ويتجدد عندهم أبدا فروح كل حي على قولهم في كل وقت غير روحه التي كانت قبل ذلك وهكذا تتبدل أرواح الناس عندهم بالخطاب وكذلك بيقين يشاهد كل أحد أن الهواء الداخل بالتنفس ثم يخرج هو غير الهواء الداخل بالتنفس الثاني فالإنسان يبدل على قول الأشعرية أنفسا كثيرة في كل وقت ونفسه الآن غير نفسه آنفا وهذا حمق لا خفاء به فبطل قول الفريقين بنص القرآن والسنة والإجماع والمشاهدة والمعقول والحمد لله رب العالمين هذا مع تعريهما من الدليل جملة وأنها دعوى فقط وما كان هكذا فهو باطل وقد صرح الباقلاني عند ذكره لما يعترض في أرواح الشهداء وأرواح آل فرعون فقال هذا يخرج على وجهين بأن يوضع عرض الحياة في أقل جزء من أجزاء الجسم وقال بعض من شاهدناه منهم توضع الحياة في عجب الذنب واحتج بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كل ابن آدم يأكله التراب ألا عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة وفي روليه منه خلق وفيه يركب

قال أبو محمد وهذا تمويه من المحتج بهذا الخبر لأنه ليس في الحديث لا نص ولا دليل ولا إشارة يمكن أن يناول على أن عجب الذنب يحيا وإنما في الحديث أن عجب الذنب لا يأكله التراب وأنه من خلق الجسد وفيه يركب فقط فظهر تمويه هذا القائل وضعفه والحمد لله رب العالمين قال الباقلاني وأما أن يخلق لتلك الحياة جسد آخر فلا
قال أبو محمد وهذا مذهب أصحاب التناسخ بلا مؤونة واحتج لذلك بالحديث المأثور أن نسمة المؤمن طير يعلف من ثمار الجنة ويأوي إلى قناديل تحت العرش وفي بعضها أنها في حواصل طير خضر
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا الخبر لأن معنى قوله عليه السلام طائر يعلف هو على ظاهره لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر عليه السلام أن نسمة المؤمن طائر بمعنى أنها تطير في الجنة فقط لا أنها تنسخ في صور طير فإن قيل أن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب فقال أو ليس صحيفة وكذلك النسمة روح فتذكر لذلك وأما الزيادة التي فيها إنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها والحديثان معا حديث واحد وخبر واحد
قال أبو محمد ولم يحصل من هذين الوجهين الفاسدين إلا على دعوى كاذبة بلا دليل يشبه الهزل أو على كفر مجرد في المصير إلى قول أصحاب التناسخ وعلى تحريف الحديث عن وجهه ونعوذ بالله من الخذلان فبطل هذان القولان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أن النفس جوهر لا جسم من الأوائل ومعمر وأصحابه فإنهم موهوا بأشياء اقناعيات فوجب إيرادها ونقضها ليظهر البرهان على وجه الإنصاف للخصم وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد قالوا لو كانت النفس جسما لكان بين تحريك المحرك رجله وبين إرادته تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله إذا النفس هي المحركة للجسد والمريدة لحركته قالوا فلو كان المحرك للرجل جسما لكان لا يخلو إما أن يكون حاصلا في هذه الأعضاء وأما جائيا إليها فإن كان جائيا إليها احتاج إلى مدة ولا بد وإن كان حاصلا فيها فنحن إذا قطعنا تلك العصبة التي بها تكون الحركة لم يبق منها في العضو الذي كان يتحرك شيء أصلا فلو كان ذلك المحرك حاصلا فيه لبقي منه شيء في ذلك العضو
قال أبو محمد وهذا لا معنى له لأن النفس لا تخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن تكون مجللة لجميع الجسد من خارج كالثوب وإما أن تكون متخللة بجميعه من داخل كالماء في المدرة وإما أن تكون في مكان واحد من الجسد وهو القلب أو الدماغ وتكون قواها مثبتة في جميع الجسد فأي هذه الوجوه كان فتحريكها لما يريد تحريكه من الجسد يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقي في البعد بلا زمان وإذا قطعت العصبة لم ينقطع ما كان من جسم النفس مخللا لذلك العضو إن كانت متخللة لجميع الجسد من داخل أو مجللة له من خارج بل يفارق العضو الذي يبطل حسه في الوقت وينفصل عنه بلا زمان وتكون مفارقتهما لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء الذي ملئ ماء وأما إن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من الجسد فلا يلزم على هذا القسم أن يسلب من العضود المقطوع بل يكون فعلها حينئذ في تحريكها الأعضاء كفعل حجر المغنطيس في الحديد وإن لم يلصق به بلا زمان فبطل هذا الإلزام الفاسد والحمد لله رب العالمين وقالوا لو كانت النفس جسما لوجب أن نعلم ببعضها أو بكلها
قال أبو محمد وهذا سؤال فاسد تقسيمه والجواب وبالله تعالى التوفيق أنها لا تعلم إلا بكلها أو ببعضها الآن كل

بسيط غير مركب من طبائع شتى فهو طبيعة واحدة وما كان طبيعة واحدة فقوته في جميع أبعاضه وفي بعض أبعاضه سواء كالنار تحرق بكلها وببعضها ثم لا ندري ما وجه هذا الاعتراض علينا بهذا السؤال ولا ما وجه استدلالهم منه على أنها غير جسم ولو عكس عليهم في إبطال دعواهم أنها جوهر لا جسم لما كان بينهم وبين السائل لهم بذلك فرق أصلا وقالوا أن من شأن الجسم أنك إذا زدت عليه جسما آخر زاد في كميته وثقله قالوا فلو كانت النفس جسما ثم داخلت الجسم الظاهر لوجب أن يكون الجسد حينئذ أثقل منه دون النفس ونحن نجد الجسد إذا فارقته النفس أثقل منه إذا كانت النفس فيه
قال أبو محمد وهذا شغب فاسد ومقدمة باطلة كاذبة لأنه ليس كل جسم كما ذكروا من أنه إذا زيد عليه جسم آخر كان أثقل منه وحده وإنما يعرض هذا في الأجسام التي تطلب المركز والوسط فقطيعتي التي في طبعها أن تتحرك سفلا وترسب من المائيات والأرضيات وأما التي تتحرك بطبعها علوا فلا يعرض ذلك فيها بل الامر بالضد وإذا أضيف جسم منها إلى جسم ثقيل خففه فإنك ترى أنك لو نفخت زقا من جلد ثور أو جلد بعير أو أمكن حتى يمتلئ هو آثم وزنته فإنك لا نجد على وزنه زيادة على مقدار وزنه لو كان فارغا أصلا وكذلك ما صعد من الزقاق ولو أنه ورقة سوسنة منفوخة ونحن نحسد الجسم العظيم الذي إذا أضفته إلى الجسم الثقيل خففه جدا فإنك لو رميت الزق غير المنفوخ في الماء الرسب فإذا نفخته ورميت به خف وعام ولم يرسب وكذلك يستعمله العائمون لأنه يرفعهم عن الماء ويمنعهم من الرسوب وهكذا النفس مع الجسد وهو باب واحد كلي لأن النفس جسم علوي فلكي أخف من الهواء وأطلب للعلو فهي تخفف الجسد إذا كانت فيه فبطل تمويهم والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضا لو كانت النفس جسما لكانت ذات خاصية إما خفيفة وأما ثقيلة وأما حارة وأما باردة وأما لينة وأما خشنة
قال أبو محمد نعم هي خفيفة في غاية الخفة ذاكرة عاقلة مميزة حية هذه خواصها وحدودها التي بانت بها عن سائر الأجسام المركبات مع سائر أعراضها المحمولة فيها من الفضائل والرذائل واما الحر واليبس والبرد والرطوبة واللين والخشونة فإنما هي من أعراض عناصر الأجرام التي دون الفلك خاصة ولكن هذه الأعراض المذكورة مؤثرة في النفس اللذة أو الألم فهي منفعلة لكل ما ذكرنا وهذا يثبت أنها جسم قالوا إنما من كان الأجسام فكيفياته محسوسة وما لم تكن كيفياته محسوسة فليس بجسم وكيفيات النفس إنما هي الفضائل والرذائل وهذان الجنسان من الكيفيات ليسا محسوسين فالنفس ليست جسما
قال أبو محمد وهذا شغب فاسد ومقدمة كاذبة لأن قولهم أن ما تحس كيفياته فليس جسما دعوى كاذبة لا برهان عليها أصلا لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو قول ساقط ومطروح لا يعجز عن مثله أحد ولكنا لا نقنع بهذا دون أن نبطل هذه الدعوى ببرهان حسي ضروري بعون الله تعالى وهو أن الفلك جسم وكيفياته غير محسوسة وأما اللون اللازوردي الظاهر فإنما يتولد فيما دونه من امتزاج بعض العناصر ووقوع خط البصر عليها وبرهان ذلك تبدل ذلك اللون بحسب العوارض المولدة له فمرة تراه أبيض صافي البياض ومرة ترى حمرة ظاهرة فصح أن قولهم دعوى مجردة كاذبة وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن الجسم تتفاضل أنواعه في وقوع الحواس عليه فمنه ما يدرك لونه وطعمه وريحه ومنه ما لا يدرك منه إلا المجسة فقط كالهواء ومنها النار في عنصرها لا يقع عليها شيء من الحواس أصلا بوجه من الوجوه وهي جسم عظيم المساحة محيط بالهواء كله فوجب من هذا أن الجسم كل ما زاد لطافة وصفاء لم تقع عليه الحواس وهذا حكم النفس وما دون النفس فأكثره محسوس للنفس لا حس البتة إلا للنفس ولا حساس إلا هي فهي حساسة لا محسوسة ولم يجب قط لا بعقل ولا بحس أن يكون كل حساس محسوسا فسقط قولهم

جملة والحمد لله رب العالمين وقالوا أن كل جسم فإنه لا يخلو من أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت بعضها والنفس لا تقع تحت كل الحواس ولا تحت بعضها فالنفس ليست جسما
قال أبو محمد وهذه مقدمة فاسدة كما ذكرنا آنفا لأن ما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبر كالهواء وكالنار في عنصرها وأن ما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالهواء والنار والحصى والزجاج وغير ذلك وما عدم الطعم لم يدرك بالذوق كالهواء والنار والحصى والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن والنفس عادمة اللون والطعم والمجسة والرائحة فلا تدرك بشيء من الحواس بل هي المدركة لكل هذه المدركات وهي الحساسة لكل هذه المحسوسات فهي حساسة لا محسوسة وإنما تعرف بآثارها وبراهين عقلية وسائر الأجسام والأعراض محسوسة لا حساسة ولا بد من حساس لهذه المحسوسات ولا حساس لها غير النفس وهي التي تعلم نفسها وغيرها وهي القابلة لأعراضها التي تتعاقب عيها من الفضائل والرذائل المعلومة بالعقل كقبول سائر الأجرام لما يتعاقب عليها من الأعراض بالعقل والنفس هي المتحركة باختيارها المحركة لسائر الأجسام هي مؤثرة فيها تألم وتلتذ وتفرح وتحزن وتغضب وترضى وتعلم وتجهل وتحب وتكره وتذكر وتنسى وتنتقل وتحل فبطل قول هؤلاء أن كل جسم فلا بد من أن يقع تحت الحواس أو تحت بعضها لأنها دعوى لا دليل عليها وكل دعوى عربت من دليل فهي باطلة وقالوا كل جسم فإنه لا محالة يلزمه الطول والعرض والعمق والسطح والشكل والكم والكيف فإن كانت النفس جسما فلا بد أن تكون هذه الكيفيات فيها أو يكون بعضها فيها فأي الوجهين كان فهي إذا محاط بها هي مدركة بالحواس أو من بعضها ولا نرى الحواس تدركها فليست جسما
قال أبو محمد هذا كله صحيح وقضايا صادقة حاشا قضية واحدة ليست فيها وهي قولهم وهي مدركة من الحواس أو من بعضها فهذا هو الباطل المقحم بلا دليل وسائر ذلك صحيح وهذه القضية الفاسدة دعوى كاذبة وقد تقدم أيضا إفسادنا لها آنفا مع تعريها عن دليل يصححها ونعم فالنفس جسم طويل عريض عميق ذات سطح وخط وشكل ومساحة وكيفية يحاط بها ذات مكان وزمان لان هذه خواص الجسم ولا بد والعجب من قلة حياء من أقحم مع هذا فهي اذا مدركة بالحواس وهذا عين الباطل لأن حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس لا يقع شيء منها لا على الطول ولا على العرض ولا على العمق ولا على السطح ولا على الشكل ولا على المساحة ولا على الكيفية ولا على الخط وإنما تقع حاسة البصر على اللون فقط فإن كان في شيء مما ذكرنا لون وقعت عليه حاسبة البصر وعلمت ذلك الملون بتوسط اللون وإلا فلا وإنما تقع حاسة السمع على الصوت فإن حدث في شيء مما ذكرنا صوت وقعت عليه حاسة السمع حينئذ وعلمت ذلك المصوت بتوسطه وإلا فلا وإنما تقع حاسة الشم على الرائحة فإن كان في شيء مما ذكرنا رائحة وقعت عليها حينئذ حاسة الشم وعلمت حامل الرائحة بتوسط الرائحة وإلا فلا وإن كان لشيء مما ذكرنا طعم وقعت عيه حينئذ حاسة الذوق وعلمت المذوق بتوسط الطعم وإلا فلا وإن كان في شيء مما ذكرنا مجسة وقعت عليها حاسة اللمس حينئذ وعلمت الملموس بتوسط المجسة وإلا فلا وقالوا أن من خاصة الجسم أن يقبل التجزيء وإذا جزئ خرج منه الجزء الصغير والكبير ولم يكن الجزء الصغير كالجزء الكبير فلا يحلو حينئذ من أحد أمرين إما أن يكون كل جزء منها نفسا فيلزم من ذلك أن لا تكون النفس نفسا واحدة بل تكون حينئذ أنفسا كثيرة مركبة من أنفس وإما أن يكون كل جزء منها نفسا فيلزم أن لا تكون كلها نفسا

قال أبو محمد أما قولهم أن خاصة الجسم احتمال التجزيء فهو صدق والنفس محتملة للتجزيء لأنها جسم من الأجسام وأما قولهم أن الجزء الصغير ليس كالكبير فإن كانوا يريدون المساحة فنعم وأما في غير ذلك فلا وأما قولهم أنها إن تجزأت فإما أن يكون كل جزء منها نفسا وإلزامهم من ذلك أنها مركبة من أنفس فإن القول الصحيح في هذا أن النفس محتملة للتجزيء بالقوة وإن كان التجزيء بانقسامها غير موجود بالفعل وهكذا القول في الفلك والكواكب كل ذلك محتمل للتجزيء بالقوة وليس التجزيء موجودا في شيء منها بالفعل وأما قولهم أنها مركبة من أنفس فشغب فاسد لأننا قد قدمنا في غير موضع أن المعاني المختلفة والمسميات المتغايرة يجب أن يوقع على كل واحد منها اسم يبين به عن غيره وإلا فقد وقع الإشكال وبطل التفاهم وصرنا إلى قول السوفسطائية المبطلة لجميع الحقائق ووجدنا العالم ينقسم قسمين أحدهما مؤلف من طبائع مختلفة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم مركبا والثاني مؤلفا من طبيعة واحدة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم بسيطا ليقع التفاهم في الفرق بين هذين القسمين ووجدنا القسم الأول لا يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالإنسان الجزئي فإنه متألف من أعضاء لا يسمى شيء منها إنسانا كالعين والأنف واليد وسائر أعضائه التي لا يسمى عضو منها على انفراده إنسانا فإذا تألفت سمي المتألف منها إنسانا ووجدنا القسم الثاني يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالأرض والماء والهواء والنار وكالفلك فكل جزء من النار نار وكل جزء من الماء ماء وكل جزء من الهواء هواء وكل جزء من الفلك فهو فلك وكل جزء من النفس نفس وليس ذلك موجبا أن تكون الأرض مؤلفة من أرضين ولا أن يكون الهواء مؤلفا من أهوية ولا أن يكون الفلك مؤلفا من أفلاك ولا أن تكون النفس مؤلفة من أنفس وحتى لو قيل ذلك بمعنى أن كل بعض منها يسمى نفسا وكل بعض من الفلك يسمى فلكا فما كان يكون في ذلك ما يعترض به على أنها جسم كسائر الأجسام التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضا طبع ذات الجسم أن يكون غير متحرك والنفس متحركة فإن كانت هذه الحركة التي فيها من قبل الباري تعالى فقد وجدنا لها الحركات فاسدة فكيف يضاف ذلك إلى الباري تعالى
قال أبو محمد وهذا الكلام غاية الفساد والهجنة ولقد كان ينبغي لمن ينتسب إلى العلم أن كان يدري مقدار سقوط هذه الاعتراضات وسخفها أن يصون نفسه عن الاعتراض بها لرذالتها فكان الأولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم فإما قوله أن طبع ذات الجسم أن تكون غير متحركة فقول ظاهر الكذب والمجاهرة لأن للأفلاك والكواكب أجساما وطبعها الحركة الدائمة المتصلة أبدا إلى أن يحيلها خالقها عن ذلك يوم القيامة وأن للعناصر دون الفلك أجساما وطبعها الحركة إلى مقرها والسكون في مقرها وأما النفس فلأنها حية كان طبعها السكون الاختياري والحركة الاختيارية حينا وحينا هذا كله لا يجهله أحد به ذوق وأما قولهم أن لها حركات ردية فكيف تضاف إلى الباري تعالى فإنما كان بعض حركات النفس رديا بمخالفة النفس أمر باريها في تلك الحركات وإنما أضيفت إلى الباري تعالى لأنه خلقها فقط على قولنا أو لأنه تعالى خلق تلك القوى التي بها كانت تلك الحركات فسقط إلزامهم الفاسد والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضا أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير واحتمال الانقسام أبدا بلا غاية ليس شيء منها إلا هكذا أبدا فهي محتاجة إلى من يربطها ويشدها ويحفظها ويكون به تماسكها قالوا والفاعل لذلك النفس فلو كانت النفس جسما لكانت محتاجة إلى من يربطها ويحلها فيلزم من ذلك أن تحتاج إلى نفس أخرى والأخرى إلى أخرى والأخرى كذلك إلى ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل
قال أبو محمد هذا أفسد من كل قول سبق من تشغيباتهم لأن مقدمته مغشوشة فاسدة كاذبة أما قولهم

إن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير على الإطلاق كذب لأن الفلك جسم لا يقبل الاستحالة وإنما تجب الاستحالة والتغيير في الأجسام المركبة من طبائع شتى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أخرى وبانحلالها إلى عناصرها هكذا مدة ما أيضا ثم تبقى غير منحلة أو مستحيلة وأما النفس فإنها تقبل الاستحالة والتغيير في أعراضها فيتغير ويستحيل من علم إلى جهل ومن جهل إلى علم ومن حرص إلى قناعة ومن بخل إلى وجود ومن رحمة إلى قسوة ومن لذة إلى ألم هذا كله موجود محسوس وأما أن تستحيل في ذاتها فتصير ليست نفسا فلا وهذا الكوكب هو جسم ولا يصير غير كوكب والفلك لا يصير غير فلك وأما قوله أن الأجسام محتاجة إلى ما يشدها ويربطها ويمسكها فصحيح وأما قوله أن النفس هي الفاعلة لذلك فكذب ودعوى بلا دليل عليها إقناعي ولا برهاني بل هو تمويه مدلس يجوز باطله على أهل الغفلة وهكذا قول الدهرية وليس كذلك بل النفس من جملة الأجسام المحتاجة إلى ما يمسكها ويشدها ويقيمها وحاجتها إلى ذلك كحاجة سائر الأجسام التي في العالم ولا فرق والفاعل لكل ذلك في النفس وفي سائر الأجسام والممسك لها والحافظ لجميعها والمحيل لما استحال منها فهو المبدي للنفس ولكل ما في العالم من جسم أو عرض والمتمم لكل ذلك هو الله الخالق الباري المصور عز و جل فبعض أمسكها بطبائعها التي خلقها فيها وصرفها فضبطها لما هي فيه وبعض أمسكها برباطات ظاهرة كالعصب والعروق والجلود لا فاعل لشيء من ذلك من دون الله تعالى وقد قدمنا البراهين على كل ذلك في صدر كتابنا هذا فأغنى عن ترداده والحمد لله رب العالمين
وقالوا أيضا كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فإن كانت النفس جسما فهي متنفسة أي ذات نفس وأما لا متنفسة أي لا ذات نفس فإن كانت لا متنفسة فهذا خطأ لأنه يجب من ذلك أن تكون النفس لا نفسا وإن كانت متنفسة أي ذات نفس فهي محتاجة إلى نفس وتلك النفس إلى أخرى والأخرى إلى أخرى وهذا يوجب ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل
قال أبو محمد هذه مقدمة صحيحة ركبوا عليها نتيجة فاسدة ليست منتجة على تلك المقدمة وأما قولهم أن كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فصحيح وأما قولهم أن النفس إن كانت غير متنفسة وجب من ذلك أن تكون النفس لا نفسا فشغب فاسد بارد لا يلزم لأن معنى القول بأن الجسم ذو نفس إنما هو أن بعض الأجسام أضيفت إليه نفس حية حساسة متحركة بإرادة مدبرة لذلك الجسم الذي استضافت إليه ومعنى القول بأن هذا الجسم غير ذي نفس وإنما هو أنه لم يستضف إليه نفس فالنفس الحية هي المتحركة المدبرة وهي غير محتاجة إلى جسم مدبر لها ولا محرك لها فلم يجب أن يحتاج إلى نفس ولا أن تكون ليست نفسا ولا فرق بينهم في قولهم هذا وبين من قال أن الجسم يحتاج إلى جسم كما قالوا أنه يجب أن تحتاج النفس إلى نفس أو قال يجب أن يكون الجسم لا جسما كما قالوا يجب أن تكون النفس لا نفسا وهذا كله هوس وجهل والحمد لله رب العالمين وقالوا لو كانت النفس جسما لكان الجسم نفسا
قال أبو محمد وهذا من الجهل المفرط المظلم ولو كان القائل هذا الجنون أقل علم بحدود الكلام لن يأت بهذه الغثاثة لأن الموجبة الكلية لا تنعكس البتة انعكاسا مطردا إلا موجبة جزئية لا كلية وكلامهم هذا بمنزلة من قال لما كان الإنسان جسما وجب أن يكون الجسم إنسانا ولما كان الكلب جسما وجب أن يكون الجسم كلبا وهذا غاية الحمق والقحة لكن صواب القول في هذا أن يقول لما كانت النفس جسما كان بعض الأجسام نفسا ولما كان الكلب جسما وجب أن يكون بعض الأجسام كلبا وهذا هو العكس الصحيح المطرد اطرادا صحيحا أبدا وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضا إن كانت النفس جسما فهي بعض الأجسام وإذا كانت كذلك فكلية الأجسام أعظم مساحة منها فيجب أن تكون أشرف منها

قال أبو محمد عن عدم الحياء والعقل لم يبال بما نطق به لسانه وهذه قضية في غاية الحمق لأنها توجب أن الشرف إنما هو بعظم الأجسام وكثرة المساحة ولو كان كذلك لكانت القضية والبلبلة وكان الحمار والبغل وكدس العذرة أشرف من الإنسان المنبأ والفيلسوف لأن كل ذلك أعظم مساحة منه ولكانت الغرلة أشرف من ناظر العين والإلية أشرف من القلب والكبد والدماغ والصخرة أشرف من اللؤلؤة وأف لكل علم أدى إلى مثل هذا نعم فإن كثيرا من الأجسام أعظم مساحة من النفس وليس ذلك موجبا أنها أشرف منها مع أن النفس الرذلة المضربة عما أوجبه التمييز وعن طاعة ربها إلى الكفر به فكل شيء في العالم أشرف منها ونعوذ بالله من الخذلان وقالوا كانت أن النفس جسما آخر مع الجسم فالجسم نفسه وشيء آخر وإذا كان كذلك فالجسم أتم وإذا كان أتم فهو أشرف
قال أبو محمد وهذا جنون مردد لأنه ليس بكثرة العدد يجب الفضل والشرف ولا بعموم اللفظ يجب الشرف بل قد يكون الأقل والأخص أشرف ولو كان ما قالوه لوجب أن تكون الأخلاق جملة شرف من الفضائل خاصة لأن الأخلاق فضائل وشيء آخر فهي أتم فهي على حملهم السخيف أشرف وهذا ما لا يقوله ذو عقل وهم يقرون أن النفس جوهر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النفس لأنه نفس وشيء آخر وقد قالوا أن الحي بقع تحت النامي فيلزمهم ان النامي أشرف من الحي لأنه حي وشيء آخر وهذا تخليط وحماقة ونعوذ بالله من الوسواس وقالوا أيضا كل جسم يتغذى والنفس لا تتغذى فهي غير جسم
قال أبو محمد إن كان هؤلاء السخفاء إذا اشتغلوا بهذه الحماقات كانوا سكارى بل سكر الجهل والسخف أعظم من سكر الخمر لأن سكر الخمر سريع الإفاقة وسكر الجهل والسخف بطيء الإفاقة أتراهم إذ قالوا كل جسم فهو متغذ ألم يروا الماء والأرض والهواء والكواكب والفلك وأن كل هذه أجسام عظام لا تتغذى وإنما يتغذى من الأجسام النوامي فقط وهي أجساد الحيوان السكان في الماء والأرض والشجر والنبات فقط فإذا كان هؤلاء النوكي وإلا يتغذى ليس جسما فالأرض والحجارة والكواكب والفلك والملائكة ليس كل ذلك جسما وكفى بهذا جنونا وخطأ وبحمد الله على السلامة قالوا لو كانت النفس جسما لكانت لها حركة لأن لكل جسم حركة ونحن لا نرى للنفس حركة فبطل أن تكون جسما
قال أبو محمد هذه دعوى كاذبة وقد تناقضوا أيضا فيها لأنهم قد قالوا قبل هذا بنحو ورقة في بعض حججهم أن الأجسام غير متحركة والنفس متحركة وهنا قلبوا الأمر فظهر جهلهم وضعف عقولهم وأما قولهم لا نرى لها حركة فمخرقة وليس كل ما لا يرى يجب أن ينكر إذا قام على صحته دليل ويلزمهم إذ أبطلوا حركة النفس لأنهم لا يرونها أن يبطلوا النفس لأنهم جملة أيضا لا يرونها ولا يسمعونها ولا يلمسونها ولا يذوقونها وحركة النفس معلومة بالبرهان وهو أن الحركة قسمان حركة اضطرار وحرك اختيار فحركة الاضطرار هي حركة كل جسم غير النفس هذا ما لا يشك فيه فبقيت حركة الاختيار وهي موجودة يقينا وليس في العالم شيء متحرك بها حاشا النفس فقط فصح أن النفس هي المتحركة بها فصح ضرورة أن للنفس حركة اختيارية معلومة بلا شك وإذ لا شك في أن كل متحرك فهو جسم وقد صح أن النفس متحركة فالنفس جسم فهذا هو البرهان الضروري التام الصحيح لا تلك الوساوس والإهذار ونحمد الله على نعمه عز و جل وقالوا لو كانت النفس جسما لوجب أن يكون اتصالها بالجسم أما على سبيل المجاورة وأما على سبيل المداخلة وهي الممازجة
قال أبو محمد فبعد هذا ماذا ونعم فإن النفس متصلة بالجسم على سبيل المجاورة ولا يجوز سوى ذلك إذ لا يمكن أن يكون اتصال الجسمين إلا بالمجاورة وإما اتصال المداخلة فإنما هي العرض والعرض والجسم والعرض على ما بينا قبل وقالوا أيضا أن كانت النفس جسما فكيف يعرف الجسم بمماسة أم غير مماسة

قال أبو محمد الأجسام كلها حاش النفس موات لا علم لها ولا حس ولا تعلم شيئا وإنما العلم والحس للنفس فقط فهي تعلم الأجسام والأعراض وخالق الأجسام والأعراض الذي هو خالقها أيضا بما فيها من صفة الفهم وطبيعة التمييز وقوة العلم التي وضعها فيها خالقها عز و جل وسؤالهم نادر وقالوا أيضا أن كل جسم بدا في نشوة وغاية ينتهي إليها وأجود ما يكون الجسم إذا انتهى إلى غايته فإذا أخذ في النقص ضعف وليست الأنفس كذلك لأننا نرى أنفس المعمرين أكثر ضياء وأنفذ فعلا ونجد أبدا أنهم أضعف من أبدان الأحداث فلو كانت النفس جسما لنقص فعلها بنقصان البدن فإذا كان هذا كما ذكرنا فليست النفس جسما
قال أبو محمد هذه مقدمة فاسدة الترتيب أما قولهم أن الجسم أجود ما يكون إذا انتهى إلى غايته فخطأ إذا قيل على العموم وإنما ذلك في النوامي فقط وفي الأشياء التي تستحيل استحالة ذبولية فقط كالشجر وأصناف أجساد الحيوان وللنبات وأما الجبال والحجارة والأرض والبحار والهواء والماء والأفلاك والكواكب فليس لها غاية إذ بلغتها أخذت في الانحطاط وإنما يستحيل بعض ما يستحيل من ذلك على سبيل التفتت كحجر كسرته فانكسر ولو ترك لبقي ولم يذبل ذبول الشجر والنبات وأجسام الحيوان وكذلك النفس لا تستحيل استحالة ذبول ولا استحالة تفتت وإنما تستحيل أعراضها كما ذكرنا فقط ولا نماء له وكذلك الملائكة والفلك والكواكب والعناصر الأربعة لا نماء لها وكل باق على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها إذ خلق كل ذلك والنفس كذلك منتقلة من عالم الابتداء إلى عالم الانتهاء إلى عالم البرزخ إلى عالم الحساب إلى عالم الجزاء فتخلد فيه أبدا بلا نهاية وهي إذا تخلصت من رطوبات الجسد وكدره كانت أصفى نظرا وأصح علما كما كانت قبل حلولها في الجسد نسأل الله خير ذلك المنقلب بمنه آمين
قال أبو محمد هذا ما هو به من كل نطيحة ومتردية قد تقصيناه لهم وبينا أن كله فساد وحماقات وتقصيناه بالبراهين الضرورية والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد فإذا بطل كل ما شغب به من يقول أن النفس ليست جسما وسقط هذا القول لتعريه عن الأدلة جملة فنحن إن شاء الله تعالى نوضح بعون الله عز و جل وقوته البراهين الضرورية على أنها جسم وبالله تعالى نتأيد وذلك بعد أن نبين بتأييد الله عز و جل شغبين يمكن أن يعترض بهما أن قال قائل أتنمو النفس فإن قلتم لا قلنا نحن نجدها تنشأ من صغر إلى كبر وترتبط بالجسد بالغذاء وإذا انقطع الغذاء انحلت عن الجسد ونجدها نسوء أخلاقها ويقل صبرها بعدم الغذاء فإذا تغذت اعتدلت أخلاقها وصلحت
قال أبو محمد لا تتغذى ولا تنمو أما عدم غذائها فالبرهان القائم أنها ليست مركبة من الطبائع الأربع وأنها بخلاف الجسد هذا هو البرهان على أنها لا تتغذى وهو أن ما تركب من العناصر الأربعة فلا بد له من الغذاء ليستخلف ذلك الجسد أو تلك الشجرة أو ذلك النبات من رطوبات ذلك الغذاء أو أرضياته مثل ما تحلل من رطوباته بالهواء والحر وليست هذه صفة النفس إذ لو كانت لها هذه الصفة لكانت من الجسد أو مثله ولو كانت من الجسد أو مثله لكانت مواتا كالجسد غير حساسة فإذا قد بطل أن تكون مركبة من طبائع العناصر بطل أن تكون متغذية نامية وأما ارتباطها بالجسد من أجل الغذاء فهو أمر لا يعرف كيفيته إلا خالقها عز و جل الذي هو مدبرها إلا أنه معلوم أنه كذلك فقط وهو كطحن المعدة للغذاء لا يدري كيف هو وغير ذلك

مما يوجد الله عز و جل يعلمه ومن البرهان على أن النفس لا تتغذى ولا تنمو أن البرهان قد قام على أنها كانت قبل تركيب الجسد على آباد الدهور وأنها باقية بعد انحلاله وليس هنالك في ذينك العالمين غذاء يولد نماء أصلا وأما ما ظنوه من نسأتها من صغر إلى كبر فخطأ وإنما هو عودة من النفس إلى ذكرها الذي سقط عنها بأول ارتباطها بالجسد فإن سأل سائل أتموت النفس قلنا نعم لأن الله تعالى نص على ذلك فقال كل نفس ذائقة الموت وهذا الموت إنما هو فراقها للجسد فقط برهان ذلك قول الله تعالى أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون وقوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فصح أن الحياة المذكورة إنما هي ضم الجسد إلى النفس وهو نفخ الروح فيه وأن الموت المذكور إنما هو التفريق بين الجسد والنفس فقط وليس موت النفس مما يظنه أهل الجهل وأهل الإلحاد من إنها تعدم جملة بل هي موجودة قائمة كما كانت قبل الموت وقبل الحياة الأولى ولا أنها يذهب حسها وعلمها بل حسها بعد الموت أصح ما كان علمها أتم ما كان وحياتها التي هي الحس والحركة الإرادية باقية بحسبها أكمل ما كانت قط قال عز و جل وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون وهي راجعة إلى البرزخ حيث رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به عن الميمنة من آدم عليه السلام ومشئمته إلى أن تحيا ثانية بالجمع بينها وبين جسدها يوم القيامة وأما أنفس الجن وسائر الحيوان فحيث شاء الله تعالى ولا علم لنا إلا ما علمنا ولا يحل لأحد أن يقول بغير علم وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد فلنذكر الآن البراهين الضرورية على أن النفس جسم من الأجسام فمن الدليل على أن النفس جسم من الأجسام انقسامها على الأشخاص فنفس زيد غير نفس عمرو فلو كانت النفس واحدة لا تنقسم على ما يزعم الجاهلون أنها جوهر لا جسم لوجب ضرورة أن تكون نفس المحب هي نفس المبغض وهي نفس المحبوب وأن تكون نفس الفاسق الجاهل هي نفس الفاضل الحكيم العالم ولكانت نفس الخائف هي نفس المخوف منه ونفس القاتل هي نفس المقتول وهذا حمق لا خفاء به فصح أنها نفوس كثيرة متغايرة الأماكن مختلفة الصفات حاملة لأعراضها فصح أنها جسم بيقين لا شك فيه وبرهان آخر هو أن العلم لا خلاف في أنه من صفات النفس وخواصها لا مدخل للجسد فيه أصلا ولاحظ فلو كانت النفس جوهرا واحد لا تتجزي نفوسا لوجب ضرورة أن يكون علم كل أحد مستويا لا تفاضل فيه لأن النفس على قولهم واحدة وهي العالمة فكان يجب أن يكون كلما علمه زيد يعلمه عمرو لأن نفسها واحدة عندهم غير منقسمة ولا متجزئة فكان يلزم ولا بد أن يعلم جميع أهل الأرض ما يعلمه كل عالم في الدنيا لأن نفسهم واحدة لا تنقسم وهي العالمة وهذا مالا انفكاك منه البتة فقد صح بما ذكرنا ضرورة أن نفس كل أحد غير نفس غيره وأن أنفس الناس أشخاص متغايرة تحت نوع نفس الإنسان وأن نفس الإنسان الكلية نوع تحت جنس النفس الكلية التي يقع تحتها أنفس جميع الحيوان وإذ هي أشخاص متغايرة ذات أمكنة متغايرة حاملة لصفات متغايرة فهي أجسام ولا يمكن غير ذلك البتة وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن العالم كله محدود معروف أجسام وأعراض ولا مزيد فمن ادعى أن ههنا جوهرا ليس جسما ولا عرضا فقد ادعى ما لا دليل عليه البتة ولا يتشكل في العقل ولا يمكن توهمه وما كان هكذا فهو باطل مقطوع على بطلانه وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن النفس لا تخلو من أن تكون خارج الفلك أو داخل الفلك فإن كانت خارج الفلك فهذا باطل إذا قام البرهان على تناهي جرم العالم فليس وراء النهاية شيء ولو كان وراءها شيء لم تكن نهاية

فوجب ضرورة أنه ليس خارج الفلك الذي هو نهاية العالم شيء لا خلاء ولا ملاء وإن كانت في الفلك فهي ضرورة إما ذات مكان وإما محمولة في ذي مكان لأنه ليس في العالم شيء غير هذين أصلا ومن ادعى أن في العالم شيئا ثالثا فقد ادعى المحال والباطل وما لا دليل له عليه وهذا لا يعجز عنه أحد وما كان هكذا فهو باطل يقين وقد قام الدليل على أن النفس ليست عرضا لأنها عالمة حساسة والعرض ليس عالما ولا حساسا وصح انها حاملة لصفاتها لا محمولة فإذ حاملة متمكنة فهي هي جسم لا شك فيه إذ ليس إلا جسم حامل أو عرض محمول وقد بطل أن تكون عرضا محمولا فهي جسم حامل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فلا تخلو النفس من أن تكون واقعة تحت جنس أولا فإن كانت لا واقعة تحت جنس فهي خارجة عن المقولات وليس في العالم شيء خارج عنها ولا في الوجود شيء خارج عنها إلا خالقها وحده لا شريك له وهم لا يقولون بهذا بل يوقعونها تحت جنس الجوهر فإذ هي واقعة تحت جنس الجوهر فأنا نسألهم عن الجوهر الجامع للنفس وغيرها له طبيعة أم لا فإن قالوا لا وجب أن كل ما تحت الجوهر لا طبيعة له وهذا باطل وهم لا يقولون بهذا فإن قالوا لا ندري ما الطبيعة قلنا لهم أله صفة محمولة فيه لا يوجد دونها أم لا فلا بد من نعم وهذا هو معنى الطبيعة وإن قالوا بل له طبيعة وجب ضرورة أن يعطي كل ما تحته طبيعة لأن الأعلى يعطى لكل ما تحته اسمه وحدوده عطاء صحيحا والنفس تحت الجوهر فالنفس ذات طبيعة بلا شك وإذ صح أن لها طبيعة فكل ما له طبيعة فقد حصرته الطبيعة وما حصرته الطبيعة فهو ذو نهاية محدود وكل ذي نهاية فهو إما حامل وإما محمول والنفس بلا شك حاملة لأعراضها من الأضداد كالعلم والجهل والذكاء والبلادة والنجدة والجبن والعدل والجور والقسوة والرحمة وغير ذلك وكل حامل فذو مكان وكل ذي مكان فهو جسم فالنفس جسم ضرورة وأيضا فكل ما كان واقعا تحت جنس فهو نوع من أنواع ذلك الجنس وكل نوع فهو مركب من جنسه إلا على العام له من أنواعه ومركب أيضا مع ذلك من فصله الخاص به المميز له من سائر الأنواع الواقعة معه تحت جنس واحد فإنه موضوع وهو جنسه القابل لصورته وصورة غيره وله محمول وهو صورته التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع ومحمول فهو مركب والنفس نوع للجوهر فهي مركبة من موضوع ومحمول وهي قائمة بنفسها فهي جسم ولا بد
قال أبو محمد وهذه براهين ضرورية حسية عقلية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق وهذا قول جماعة من الأوائل ولم يقل ارسطاطاليس أن النفس ليست جسما على ما ظنه أهل الجهل وإنما نفى أن تكون جسما كدرا وهو الذي لا يليق بكل ذي علم سواه ثم لو صح أنه قالها لكانت وهلة ودعوى لا برهان عليها وخطأ لا يجب اتباعه عليه وهو يقول في مواضع من كتبه اختلف أفلاطون والحق وكلاهما إلينا حبيب غير أن الحق إلينا وإذا جاز أن يختلف أفلاطون والحق فغير نكير ولا بديع أن يختلف أرسطاطاليس والحق وما عصم إنسان من الخطأ فكيف وما صح قط أنه قاله
قال أبو محمد إنما قال أن النفس جوهر لا جسم من ذهب إلى أنها هي الخالقة لما دون الله تعالى على ما ذهب إليه بعض الصابئين ومن كنى بها عن الله تعالى
قال أبو محمد وكلا القولين سخف وباطل لأن النفس والعقل لفظتان من لغة العرب موضوعتان فيها لمعنيين مختلفين فأحالتهما عن موضوعهما في اللغة سفسطة وجهل وقلة حياء وتلبيس وتدليس
قال أبو محمد وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسما ممن ينتمي إلى الإسلام بزعمه فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة فأما القرآن فإن الله عز و جل قال هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وقال تعالى فاليوم تجزى كل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم وقال تعالى كل امرئ بما كسب رهين فصح

أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة وقال تعالى أن النفس لأمارة بالسوء ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب وقال تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون وقال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله فصح أن الأنفس منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة فيعذب ومنها ما يرزق وينعم فرحا ويكون مسرورا قبل يوم القيامة ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله قد تقطعت أوصالها وأكلتها السباع والطير وحيوان الماء فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس فليست عرضا وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به فصح ضرورة أنها جسم وأما من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة وقوله صلى الله عليه و سلم أنه رأى نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره فصح أن الأنفس مريئة في أماكنها وقوله عليه السلام أن نفس المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا فصح إنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن وهذه صفة الأجسام ضرورة وأما من الإجماع فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها عن الأجساد إلى نعيم أو إلى صفوف ضيق وعذاب وهذه صفة الأجسام ومن خالف هذا فزعم أن الأنفس تعدم أو أنها تنتقل إلى أجسام أخر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال بخرقه الإجماع ومخالفته القرآن والسنن ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد وقد ذكرنا في باب عذاب القبر أن الروح والنفس شيء واحد ومعنى قول الله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا وليس الروح كذلك وإنما قال الله تعالى أمرا له بالكون كن فكان فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد وقد يقع الروح أيضا على غير هذا فجبريل عليه السلام الروح الأمين والقرآن روح من عند الله وبالله تعالى التوفيق فقد بطل قولهم في النفس وصح أنها جسم ولم يبق إلا الكلام في الجزء الذي ادعوا أنه لا يتجزأ
قال أبو محمد ذهب جمهور المتكلمين إلى أن الأجسام تنحل إلى أجزاء صغار لا يمكن البتة أن يكون لها جزء وأن تلك الأجزاء جواهر لا أجسام لها وذهب النظام وكل من يحسن القول من الأوائل إلى أنه لا جزء وأن دق إلا وهو يحتمل التجزيء أبدا بلا نهاية وأنه ليس في العالم جزء ولا يتجزأ وأن كل جزء انقسم الجسم إليه فهو جسم أيضا وإن دق أبدا
قال أبو محمد وعمدة القائلين بوجود الجزء الذي لا يتجزأ خمس مشاغب وكلها راجعة بحول الله وقوته عليهم ونحن إن شاء الله تعالى نذكرها كلها وتقضى لهم كل ما هو به ونرى بعون الله عز و جل بطلان جميعها بالبراهين الضرورية ثم نرى بالبراهين الصحاح صحة القول بأن كل جزء فهو يتجزأ أبدا وأنه ليس في العالم جزء لا يتجزأ أصلا كما فعلنا بسائر الأقوال والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد فأول مشاغبهم أن قالوا أخبرونا إذا قطع الماشي المسافة التي مشى فيها فهل قطع ذا نهاية أو غير ذي نهاية فإن قلتم قطع غير ذي نهاية فهذا محال وإن قلتم قطع ذا نهاية فهذا قولنا
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن القوم أتوا من أحد وجهين أما أنهم لم يفهموا قولنا فتكلموا بجهل وهذا لا يرضاه ذو ورع ولا ذو عقل ولا حياء وأما انهم لما عجزوا عن معارضة الحق رجعوا إلى الكذب والمباهتة وهذه شر من الأولى وفي أحد هذين القسمين وجدنا كل من ناظرناه منهم في هذه

المسألة وهكذا عرض لنا سواء مع المخالفين لنا في القياس المدعين لتصحيحه فإنهم ايضا أحد رجلين أما جاهل بقولنا فهو يقولنا ما لا نقوله ويتكلم في غير ما اختلفنا فيه وأما مكابر ينسب إلينا ما لا نقوله مباهتة وجراءة على الكذب وعجزا عن معارضة الحق من أننا ننكر اشتباه الأشياء وأننا ننكر قضايا العقول وأننا ننكر استواء حكم الشيئين فيما أوجبه هما ما اشتبها فيه وهذا كله كذب علينا بل نقر بذلك كله ونقول به وإنما ننكر أن نحكم في الدين لشيئين بتحريم أو إيجاب أو تحليل من أجل أنهما اشتبها في صفة من صفاتهما فهذا هو الباطل البحت والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه
ونقول على هذا السؤال الذي سألونا عنه أننا لم نرفع النهاية عن الأجسام كلها من طريق المساحة بل نثبتها ونعرفها ونقطع على أن كل جسم فله أبدا مساحة محدودة ولله الحمد وأنما نفينا النهاية عن قدرة الله تعالى على قسمة كل جزء وأن دق وأثبتنا قدرة الله تعالى على ذلك وهذا هو شيء غير المساحة ولم يتكلف القاطع بالمشي أو بالذرع أو بالعمل قسمة ما قطع ولا تجزئته وإنما تكلف عملا أو مشي في مساحة معدودة بالميل أو بالذراع والشبر أو الاصبع أو ما أشبه ذلك وكل هذا له نهاية ظاهرة وهذا غير الذي نفينا وجود النهاية فيه فبطل إلزامهم والحمد لله كثيرا ثم نعكس هذا الاعتراض عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق نحن القائلون بأن كل جسم فله طول وعرض وعمق وهو محتمل للانقسام والتجزيء وهذا هو إثبات النهاية لكل جزء انقسم الجسم إليه من طريق المساحة ضرورة وأنتم تقولون أن الجسم ينقسم إلى أجزاء ليس لشيء منها عرض ولا طول ولا عمق ولا مساحة ولا يتجزأ وليست أجساما وأن الجسم هو تلك الأجزاء نفسها ليس هو شيء غيرها أصلا وأن تلك الأجزاء ليس لشيء منها مساحة فلزمكم ضرورة إذ الجسم هو تلك الأجزاء وليست أجساما وأن الجسم هو تلك الأجزاء وليس هو غيرها وكل جزء من تلك الأجزاء لا مساحة له أن الجسم لا مساحة له وهذا أمر يبطله العيان وإذا لم تكن له مساحة والمساحة هي النهاية في ذرع الأجسام فلا نهاية لما قطعه القاطع من الجسم على قولهم وهذا باطل والاعتراض الثاني أن قالوا لا بد أن يلي الجرم من الجرم الذي يليه جزء ينقطع ذلك الجرم فيه قالوا وهذا إقرار بجزء لا يتجزأ
قال أبو محمد وهذا تمويه فاسد لأننا لم ندفع النهاية من طريق المساحة بل نقول أن لكل جرم نهاية وسطحا ينقطع تماديه عنده وأن الذي ينقطع به الجرم إذا جزئ فهو متناه محدود ولكنه محتمل للتجزيء أيضا وكل ما جزئ فذلك الجزء وهو الذي يلي الجرم الملاصق له بنهايته من جهته التي لاقاه منها لا ما ظنوا من أن أحد الجرم جزء منه وهو وحده الملاصق للحرم الذي يلاصقه بل هو باطل بما ذكرنا لكن الجزء وهو الملاصق للجرم بسطحه فإذا جزئ كان الجزء الملاصق للجرم بسطحه هو الملاصق حينئذ بسطحه لا الذي خر عن ملاصقته وهكذا بدا والكلام في هذا كالكلام في الذي قبله ولا فرق والاعتراض الثالث أن قالوا هل ألف أجزاء الجسم إلا الله تعالى فلا بد من نعم قالوا فهل بقدر الله على تفريق أجزاء حتى لا يكون فيها شيء من التأليف ولا تحتمل ذلك الأجزاء التجزيء أم لا يقدر على ذلك قالوا فإن قلتم لا يقدر عجزتم ربكم تعالى وإن قلتم يقدر فهذا إقرار منكم بالجزء الذي لا يتجزأ
قال أبو محمد هذا هو من أقوى شبهم التي شغبوا بها وهو حجة لنا عليهم والجواب أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أن سؤالكم سؤال فاسد وكلام فاسد ولم تكن قط أجزاء العالم متفرقة ثم جمعها الله عز و جل ولا كانت له أجزاء مجتمعة ثم فرقها الله عز و جل لكن الله عز و جل خلق العالم بكل ما فيه بأن قال له كن فكان أو بان قال لكل جرم منه إذا أراد خلقه كن فكان ذلك الجرم ثم أن الله تعالى

خلق جميع ما أراد جمعه من الأجرام السماوية التي خلقها مفترقة ثم جمعها وخلق تفريق كل جرم من الأجرام التي خلقها مجتمعة ثم فرقها فهذا هو الحق لا ذلك السؤال الفاسد الذي أجملتموه وأوهمتم به أهل الغفلة أن الله تعالى ألف العالم من أجزاء خلقها متفرقة وهذا باطل لأنه دعوى بلا برهان عليها ولا فرق بين من قال أن الله تعالى ألف أجزاء العالم وكانت متفرقة وبين من قال بل الله تعالى فرق العالم أجزاء وإنما كان جزأ واحدا وكلاهما دعوى ساقطة لا برهان عليها لا من نص ولا من عقل بل القرآن جاء بما قلناه نصا قال تعالى إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كل فيكون ولفظة شيء تقع على الجسم وعلى العرض فصح أن كل جسم صغر أو كبر وكل عرض في جسم فإن الله تعالى إذا أراد خلقه قال له كن فكان ولم يقل عز و جل قط أنه ألف كل جزء من أجزاء متفرقة فهذا هو الكذب على الله عز و جل حقا فبطل ما ظنوا أنهم يلزموننا به ثم نقول لهم أن الله تعالى قادر على أن يخلق جسما لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضا قائما بنفسه ولكنه تعالى لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه لأنهما مما رتبه الله عز و جل محالا في العقول والله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشى شيئا منها إلا أنه تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه وإنما يفعل ما يشاء وما سبق في علمه أنه يفعله فقط وبالله تعالى التوفيق
ثم نعطف هذا السؤال نفسه عليهم فنقول لهم هل يقدر الله عز و جل على آن يقسم كل جزء ونقسم كل قسم من أقسام الجسم أبدا بلا نهاية أم لا فإن قالوا لا يقدر على ذلك عجزوا ربهم حقا وكفروا وهو قولهم دون تأويل ولا إلزام ولكنهم يخافون من أهل الإسلام فيملحون ضلالتهم بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ جملة
وإن قالوا أنه تعالى قادر على ذلك صدقوا ورجعوا إلى الحق الذي هو نفس قولنا وخلاف قولهم جملة ونحن لا نخالفهم قط في أن أجزاء طحين الدقيق لا يقدر مخلوق في العالم على تجزئة تلك الأجزاء وإنما خالفناهم في أن قلنا نحن أن الله تعالى قادر على ما لا نقدر نحن عليه من ذلك وقالوا هم بل هو غير قادر على ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقولهم في تناهي القدرة على قسمة الله تعالى الأجزاء هو القول بأن الله تعالى يبلغ من الخلق إلى مقدار ما ثم لا يقدر على الزيادة عليه ويبقى حسيرا عاجزا تعالى الله عن هذا الكفر ولعمري أن أبا الهزيل شيخ المثبتين للجزء الذي لا يتجزأ ليحن إلى هذا المذهب حنينا شديدا وقد صرح بأن لما يقدر الله عليه كمالا وآخرا لو خرج إلى الفعل لم يكن الله تعالى قادرا بعده على تحريك ساكن ولا تسكين متحرك ولا على فعل شيء أصلا ثم تدارك كفره فقال ولا يخرج الآخر أبدا إلى حد الفعل
قال أبو محمد فيقال له ما المانع من خروجه والنهاية حاصرة له والفعل قائم فلا بد مع طول الزمان من البلوغ إلى ذلك الأخر
قال أبو محمد نعوذ بالله من الضلال والاعتراض الرابع هوأن قالوا أيما أكثر أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلة وأيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الخردلتين قالوا فإن قلتم بل أجزاء الخردلتين وأجزاء الجبل صدقتم وأقررتم بتناهي التجزيء وهو القول بالجزء الذي لا يتجزأ وإن قلتم ليس أجزاء الجبل أكثر من أجزاء الخردلة ولا أجزاء الخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة كابرتم العيان لأنه لا يحدث في الخردلة جزؤ إلا ويحدث في الخردلتين جزآن وفي الجبل أجزاء وادعوا علينا أننا نقول أن في كل جسم أجزاء لا نهاية لعددها ولا آخر لها وأن من قطع بالمشي مكانا ما أو قطع بالجلمتين شيئا فإنما قطع ما لا نهاية لعدده وقالوا أن عمدة حجتكم على الدهرية هو هذا المعنى نفسه في إلزامكم إياهم وجوب القلة والكثرة في عدد الأشخاص وأوقات الزمان وإيجابكم أن كل ما حصره العدد فذو نهاية وإنكاركم على الدهرية وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لعددها قالوا ثم نقضتم كل ذلك في هذا المكان

قال أبو محمد هو الذي قلنا أنهم أما لم يفهموا كلامنا في هذه المسألة فقولنا ما لا نقوله بظنونهم الكاذبة وأما أنهم عرفوا قولنا فحرفوه قلة حياء واستحلال الكذب وجراءة كل عمل الفضيحة لهم في كذبهم وعجزا منهم عن كسر الحق ونصر الباطل فاعلموا أن كل ما نسبوه إلينا من قولنا أن من قطع مكانا أو شيئا بالمشي أو بالجملتين فإنما قطع ما لا نهاية له فباطل ما قلناه قط بل ما قطع إلا ذا نهاية بمساحته وزمانه وأما احتجاجنا على الدهرية بما ذكروا فصحيح هو حجتنا على الدهرية وأما ادعاؤهم أننا نقضنا ذلك في هذا المكان فباطل والفرق بين ما قلناه من أن كل جزء فهو يتجزأ أبدا بلا نهاية وبين ما احتججنا به على الدهرية من إيجاب النهاية بوجود القلة والكثرة في إعداد الأشخاص والأزمان وإنكارنا عليهم وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لها بل هو حكم واحد وباب واحد وقول واحد ومعنى واحد وذلك أن الدهرية أثبتت وجود أشخاص قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لعددها ووجود أزمان قد خرجت إلى لفعل لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وهكذا قلنا في كل جزء خرج إلى حد الفعل فإنها متناهية العدد بلا شك ولم نقل قط أن أجزائه موجودة منقسمة لا نهاية لعددها بل هذا باطل محال ثم أن الله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص وفي الأزمان وفي قسمة الجزء أبدا بلا نهاية لكن كل ما خرج إلى الفعل أو يخرج من الأشخاص او الأزمان وفي قسمة الجزء أبدا بلا نهاية لكن كل ما خرج إلى الفعل أو يخرج من الأشخاص اوالأزمان أو تجزئة الأجزاء فكل ذلك متناه بعدده إذا خرج وهكذا أبدا وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزى فليس شيئا ولا هو عددا ولا معدودا ولا يقع عليه عدد ولا هو شخص بعد ولا زمان ولا جزء وكل ذلك عدم وإنما يكون جزءا إذا جزئ بقطع أو برسم مميز لا قبل أن بجزء وبهذا تبيين غثاثة سؤالهم في إيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلتين لأن الجبل إذا لم يجزأ والخردلة إذا لم تجزأ والخردلتان إذا لم تجزأ فلا أجزاء لها أصلا بعد بل الخردلة جزء واحد والجبل جزء واحد والخردلتان كل واحدة منهما جزء فإذا قسمت الخردلة على سبعة أجزاء وقسم الجبل جزأين وقسمت الخردلتان جزئين جزئين فالخردلة الواحدة بيقين أكثر من أجزاء من الجبل والخردلتين لأنها صارت سبعة أجزاء ولم يصر الجبل والخردلتان إلا ستة أجزاء فقط فلو قسمت الخردلة ستة أجزاء لكانت أجزاؤها وأجزاء الجبل والخردلتين سواه ولو قسمت الخردلة خمسة أجزاء وكانت أجزاء الجبل والخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقع التجزيء في شيء إلا إذا قسم لا قبل ذلك فإن كانوا يريدون في أيهما يمكننا التجزئة أكثر في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحد فهذا ما لا شك فيه أن التجزيء أمكن لنا في الجبل وفي الخردلتين منه في الخردلة الواحدة لأن الخردلة الواحدة عن قريب تصغر أجزاؤها حتى لا نقدر نحن على قسمتها ويتمادى لنا الأمر في الجبل كثيرا حتى أنه يفنى عمر أحدنا قبل أن يبلغ تجزئته إلى أجزاء تدق عن قسمتنا وأما قدرة الله عز و جل على قسمة ما عجزنا نحن عن قسمته من ذلك فباقية غير متناهية وكل ذلك عليه هين سواء ليس بعضه أسهل عليه من بعض بل هو قادر قسمةالخردلة أبدا بلا نهاية وعلى قسمة الفلك كذلك ولا فرق وبالله تعالى التوفيق ونزيد بيانا فتقول أن الشيء قبل أن يجزأ فليس متجزئا فإذا جزء بنصفين آو جزئين فهو جزءآن فقط فإذا جزء على ثلاثة أجزاء فقط فهو ثلاثة أجزاء وهكذا أبدا وأما من قال أو ظن أن الشيء قبل أن ينقسم وقبل أن يتجزأ أنه منقسم بعد ومتجزهم بعد فوسواس وظن كاذب لكنه محتمل الانقسام والتجزيء وكل ما قسم وجزأ فكل جزء ظهر منه فهو معدود متناه وكذلك كل جسم فطوله وعرضه متناهيان بلا شك والله تعالى قادر على الزيادة فيهما أبدا بلا نهاية إلا أن كل ما زاده تعالى في ذلك وأخرجه إلى حد الفعل فهو متناه ومعدود ومحدود وهكذا أبدا وكذلك الزيادة في أشخاص العالم وفي العدد فان كل ما خرج إلى حد الفعل من الأشخاص ومن الأعداد فذو نهاية والله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص أبدا بلا نهاية والزيادة في العدد ممكنة أبدا بلا نهاية إلا أن كل ما خرج من الأشخاص والأعداد إلى الفعل صحبته النهاية ولا بد ثم نعكس هذا السؤال عليهم فنقول

لهم وبالله تعالى التوفيق انفضل عندكم قدرة الله تعالى على قسمة الجبل على قدرته على قسمة الخردلة وهل تأتي حال يكون الله فيها قادرا على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة أم لا فإن قالوا بل قدرة الله تعالى على قسمة الجبل أتم من قدرته على قسمة الخردلة وأقروا بأنه تأتي حال يكون الله تعالى فيها قادرا على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة كفروا وعجزوا ربهم وجعلوا قدرته محدثة متفاضلة متناهية وهذا كفر مجرد وأن أبو من هذا وقالوا أن قدرة الله تعالى على قسمة الجبل والخردلة سواء وأنه لا سبيل إلى وجود حال يقدر الله تعالى فيها على تجزئة أجزاء الجبل ولا يقدر على تجزئة أجزاء الجبل ولا يقدر على تجزئة أجزاء الخردلة صدقوا ورجعوا إلى قولنا الذي هو الحق وما عداه ضلال وباطل والحمد لله رب العالمين
والاعتراض الخامس هو أن قالوا هل لأجزاء الخردلة كل أم ليس لها كل وهل يعلم الله عدد أجزائها أم لا يعلمه
فإن قلتم لا كل لها نفيتم النهاية عن المخلوقات والموجودات وهذا كفر وإن قلتم أن الله تعالى لا يعلم عدد أجزائها كفرتم وإن قلتم أن لها كلا وأن الله تعالى يعلم أعداد أجزائها أقررتم بالجزء الذي لا يتجزأ
قال أبو محمد وهذا تمويه لائح ينبغي التنبيه عليه لئلا يجوز على أهل الغفلة وهو أنهم أقحموا لفظة كل حيث لا يوجد كل وسألوا هل يعلم الله تعالى عدد مالاعدد له وهم في ذلك كمن سأل هل يعلم الله تعالى عدد شعر لحيةالأحلس أم لاأو وهل يعلم جميع أولاد العقيم أم لا وهل كل حركات أهل الجنة والنار أم لا فهذه السؤالات كسؤالهم ولا فرق
وجوابنا في ذلك كله أن الله عز و جل إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علم الشيء على ما هو عليه فقد علمه حقا وأما من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فلم يعلمه بل جهله وحاشا لله من هذه الصفة فما لا كل له ولا عدد له فإنما يعلمه الله عز و جل أن لا عدد له ولا كل وما علم الله عز و جل قط عددا ولا كلا إلا لما له عدد وكل لا لما عدد له ولا كل وكذلك لم يعلم الله عز و جل قد عدد شعر لحية الأطلس ولا علم قط ولد العقيم فكيف أن يعرف لهم كلا وكذلك لم يعلم الله عز و جل قط عدد أجزاء الجبل ولا الخردلة قبل أن يجزأ لأنهما لا جزء لهما قبل التجزئة وإنما علمهما غير متجزئين وعلمهما محتملين للتجزيء فإذا جزئا علمهما حينئذ متجزئين وعلم حينئذ عدد أجزائهما ولم يزل تعالى يعلم أنه يجزء كل ما لا يتجزء ولم يزل يعلم عدد الأجزاء التي لا تخرج في المستأنف إلى حد الفعل ولم يزل يعلم عدد ما يخرج من الأشخاص بخلقه في الأبد إلى حد الفعل أو لم يزل يعلم أنه لا أشخاص زائدة على ذلك ولا أجزاء لما لم ينقسم بعد وكذلك ليس للخردلة ولا للجبل قبل التجزيء أجزاء أصلا وإذ ذلك كذلك فلا كل ها هنا ولا بعض فهذا بطلان سؤالهم والحمد لله رب العالمين ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الشخص الفرد من خردلة أو وبرة أو شعرة أو غير ذلك اذا جزأنا كل ذلك جزئين أو اكثر متى حدثت الأجزاء أحين جزئت أم قبل أن يجزأ فإن قالوا قبل أن يجزأ ناقضوا اسمج مناقضة لأنهم أقروا بحدوث أجزاء كانت قبل حدوثها وهذا سخف وأن قالوا إنما حدثت لها الأجزاء حين جزئت لا قبل ذلك سألناهم متى علمها الله تعالى متجزئة حين حدث فيها التجزيء أم قبل أن يحدث فيها التجزيء فان قالوا بل حين حدث فيها التجزيء صدقوا وأبطلوا قولهم في أجزاء الخردلة وإن قالوا بل علم أنها منجزئة وأن لها أجزاء قبل حدوث التجزيء فيها جهلوا ربهم تعالى إذا أحبروا أنه يعلم الشيء بخلاف ما هو عليه ويعلم أجزاء لما لا أجزاء له وهذا ضلال وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به لم ندع لهم منه شيئا إلا وقد أوردناه وبينا أنه كله لا حجة لهم في شيء منه وأنه كله عائد عليهم وحجة لنا والحمد لله رب العالمين ثم نبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد البراهين الضرورية على أن كل جسم في العالم فإنه متجزؤ محتمل للتجزئة وكل جزء من جسم فهو أيضا جسم محتمل

للتجزيء وهكذا أبدا وبالله تعالى نتأيد
قال أبو محمد يقال لهم وبالله تعالى نستعين أخبرونا عن هذا الجزء الذي قلتم أنه لا يتحزى أهو في العالم أم ليس في العالم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا ليس هو في العالم صدقوا وأبطلوا إلا أنهم يلزمهم قول فاحش وهو أنهم يقولون أن جميع العالم مركب من أجزاء لا تتجزأ والكل ليس هو شيئا غير تلك الأجزاء فإن كانت تلك الأجزاء ليست في العالم فالعالم عدم ليس في العالم وهذا تخليط كما ترى وإن قالوا بل هو في العالم قلنا لهم لا يخلو أن في كل كرة العالم من أن يكون أما قائما بنفسه حاملا وأما أن يكون محمولا غير قائم بنفسه لا بد ضرورة من أحد الأمرين إذ ليس العالم كله إلا على هذين القسمين فإن كان محمولا غير قائم بنفسه فهو عرض من الأعراض وإن كان حاملا قائما بنفسه ذا مكان فهو جسم وثم يقال لهم أخبرونا عن الجزء الذي ذكرتم أنه لا يتجزأ وهو على قولكم في مكان لأنه بعض من أبعاض الجسم هل الملاقى منه للمشرق هو الملاقى للمغرب أم غيره وهل المحازي منه للسماء هو المحازي منه للأرض أم غيره فإن قالوا كل ذلك واحد والملاقي منه للمشرق هو الملاقى منه للمغرب والمجازى منه للسماء هو المجازى منه للأرض أتوا بإحدى العظائم وجعلوا جهة المشرق منا هي جهة المغرب وجعلوا السماء والأرض منه في جهة واحدة وهذا حمق لا يبلغه إلا الموسوس ومكابرة للعيان لا يرضاها لنفسه سالم البنية وإن قالوا بل الملاقى منه للمشرق هو غير الملاقى منه للمغرب وأن السماء والأرض منه في جهتين متقابلتين فوق وأسفل صدقوا وهكذا جهة الجنوب والشمال فإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح أنه ذو جهات ست متغايرة وهذا إقرار منهم بأنه ذو أجزاء إذ قطعوا بأن الملاقي منه للمغرب غير الملاقي منه للمشرق ومن للتبعيض وبطل قولهم من قرب والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد فإن أرادوا إلزامنا مثل هذا العرض قلنا للعرض جهة ولا له مكان ولا يقوم بنفسه ولا يحاذى شيئا وإنما يحاذى الأشياء حامل العرض لا العرض إذ لو ارتفع العرض لبقي حامله مالئا لمكانه كما كان محاذيا من جميع جهاته ما كان يحاذي حين حمله للعرض سواء سواء ولو ارتفع في قولكم الجزأ الذي لا يتجزأ لبقي مكانه خاليا منه وقد أوضحنا أن عرضين وأعراضا تكون في جسم واحد في جهة واحدة منه وهم لا يختلفون في أن جزئين كل واحد منهما لا يتجزأ أفلا يمكن البتة أن يكونا جميعا في مكان واحد بل لكل واحد منهما عندهم مكانا غير مكان الآخر وبرهان آخر وهو أنهم يقولون أن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا أضفتم إلى الجزء الذي لا يتجزأ عندكم جزأ آخر مثله لا يتجزأ أليس قد حدث لهما طول فلا بد من قولهم نعم لا يختلفون في ذلك ولو أنهم قالوا لا يحدث لهما طول للزمهم مثل ذلك في إضافة جزء ثالث ورابع وأكثر حتى يقولوا أن الأجسام العظام لا طول لها ويحصلوا في مكابرة العيان فنقول لهم إذا قلتم أن جزءا لا يتجزأ لا طول له إذا ضم إليه جزء آخر لا يتجزأ ولا طول له فأيهما يحدث له طول فقولوا لنا هل يخلو هذا الطول الحادث عندكم من أحد والثلاثة أوجه لا رابع لها أما أن يكون هذا الطول لأحدهما دون الآخر أولا لواحد منهما أو كليهما فإن قلتم ليس هذا الطول لهما ولا لواحد منهما فقد أوجبتم طولا لا لطويل وطولا قائما بنفسه والطول عرض والعرض لا يقوم بنفسه وصفة والصفةلا يمكن أن توجد إلا في موصوف بها ووجود طول لا لطويل مكابرة ومحال وإن قلتم أن ذلك الطول هو لأحد الجزئين دن الآخر فقد أحلتم وأتيتم بما لا شك بالحس وضرورة العقل في بطلانه ولزمكم الجزء الذي لا يتجزأ له طول وإذا كان له طول فهو بلا شك يتجزأ وهذا ترك منكم لقولكم مع أنه أيضا محال لأنه يجب من هذا أنه يتجزى ولا يتجرئ وإن قلتم أن ذلك الطول للجزئين معا صدقتم وأقررتم بالحق في أن كل جزء منهما فله حصته من الطول والحصة من الطول طول بلا شك وإذا كان كل واحد منهما له طول فكل واحد منهما له طول فكل واحد منهما يتجزأ وهذا خلاف قولكم أنه لا يتجزأ وهذا

برهان ضروري أيضا لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر
قال أبو محمد ونقول لهم أيما أطول جزآن لا يتجزأ كل واحد منهما وقد ضم أحدهما إلى الآخر أم أحدهما غير مضموم إلى الآخر فلا يجوز أن يقول لأحد إلا أن الجزئين المضمومين أطول من أحدهما غير مضموم إلى الآخر فإذ ذلك كذلك فمن المحال المتنع الباطل أن يقال في شيء هذا أطول من هذا إلا وفي الآخر طول دون طول ما هو أطول منه فقد صح ضرورة أن الطول موجود لكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ وإذا كان له طول فهو منقسم بلا خلاف من أحد منا ومنهم وهكذا القول في عرضهما أن ضم أحدهما إلى الآخر وفي عمقها كذلك ولا بد من أن يكون لكل واحد منهما حصة من العرض والعمق وإذ ذاك كذلك ضرورة فكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزى فلا بد من أن يكون له طول وعرض وعمق وإذ ذلك كذلك ضرورة فكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ فلا بد من أن يكون له طول وعرض وعمق وإذ ذلك كذلك فهو جسم يتجزأ ولا بد وهذا أيضا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق
وقد رام أبو الهذيل التخلص من هذا الإلزام فبعد ذلك عليه لأنه رام محالا فقال أن الطول الحادث للجزأين عند اجتماعهما إنما هو كالاجتماع الحادث لهما ولم يكن لهما ولا لأحدهما إذا كانا منفردين
قال أبو محمد وهذا تمويه ظاهر لأن الاجتماع هو ضم أحدهما إلى الآخر نفسه ليس هو شيئا آخر ولم يكونا قبل الضم والجمع مضمومين ولا مجتمعين وليس معنى الطول والعرض والعمق كذلك بل هو شيء آخر غير الضم والجمع وإنما هو صفة للطويل مضموما كان إلى غيره أو غيره مضموم ولا يوجب الجمع والضم طولا لم يكن واجبا قبل الضم والجمع فلم يزد أبو الهذيل على أن قال لما اجتمعا صارا مجتمعين وصارا طويلين وهذه دعوى فاسدة ونظر منحل لأن طول قوله لما اجتمعا صارا مجتمعين صحيح لا سك فيه وقوله وصارا طويلين دعوى مجردة من الدليل جملة وما كان هكذا فهو باطل وأيضا فإن الاجتماع لما حدث بينهما بطل معنى آخر كان موجودا فيهما وهو الافتراق الذي هو ضد الاجتماع فأخبرونا إذا حدث الطول بزعمكم فأي شيء هو المعنى الذي ذهب بوجود الطول وعاقبة الطول ولا سبيل لهم إلى وجوده فصح أن الطول كان موجودا في كل جزء على انفراد وكذلك العرض والعمق ثم لما اجتمعا زاد الطول والعرض والعمق وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق وهذا هو الذي تشهد له الحواس والمشاهدة والعقل والحمد لله رب العالمين
وبرهان آخر وهو أن الجرم إن كان أحمر فكل جزء من أجزائه أحمر بلا شك فإن قالوا ليس أحمر قلنا لهم فعله أخضر أو أصفر أو غير ذي لون وهذا عين المحال لأن لكل قد بينا أنه ليس هو شيئا غير أجزائه فلو كان لون أجزائه غير لونه كله لكان لونه غير لونه وهذا محال فإذ لا شك فيما ذكرنا فالجزء الذي يدعون أنه لا يتجزأ هو ذو لون بلا شك وإذ هو ذو لون فهو جسم لا يعقل غير ذلك فهو يتجزأ
قال أبو محمد وقالت الأشعرية ههنا كلاما ظريفا وهو أنهم قالوا هو ذو لون واحد
قال أبو محمد كل ملون فهو ذو لون واحد لا ذو ألوان كثيرة إلا أن يكون أبلق أو موشى برهان آخر أن وجود شيء في العالم قائم بنفسه ليس جسما ولا عرضا ولا قابلا للتجزيء ولا طول له ولا عرض ولا عمق فهو محال ممتنع إذ هذا المذكور ليس شيئا غير الباري تعالى وجل تعالى أن يكون له في العالم شبه وبهذا بأن عز و جل عن مخلوقاته ولم يكن له كفوا أحد وليس كمثله شيء برهان آخر
قال أبو محمد كل شيء يحتمل أن يكون له أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يجزأ إلى أقل منها هذا ما لا تختلف العقول والإحساس فيه كشيء احتمل أن يقسم على أربعة أقسام فلا شك أنه يحتمل أن ينقسم على ثلاثة وعلى اثنين وهكذا في كل عدد ومن دافع في هذا فإنما يدفع الضرورة ويكابر العقل فلو أقمت خطأ من ثلاثة أجزاء كل جزء منها

لا يتجزأ على قولهم أو يعمل ذلك الخط من عشرة أجزاء وكذلك من ألف جزءا كذلك أو مما زاد فإنه لا يختلف أحد في أن الخط الذي هو من ثلاثة أجزاء فإنه ينقسم ثلاثا في موضعين وأن الذي هو أربعة أجزاء فإنه ينقسم أرباعا في ثلاثة مواضع وأن الذي من ألف جزؤ فإنه ينقسم أعشارا وبنصفين وإذ لا شك في هذا فبيقين لا محيد عنه يدري كل ذي حس سليم ولو أنه عالم أو جاهل أن ما انقسم أثلاثا فإنه ينقسم نصفين مستويين وما انقسم أرباعا فإنه ينقسم أثلاثا مستوية وأن ما كان من الخطوط فله أعشار وأخماس ونصف وأثلاث وأسداس وأسباع متساوية فإذ لا شك في هذا فإن القسمة لا بد أن تقع في نصف جزء منها أو في أقل من نصفه فصح أن كل جسم فهو يتجزأ ضرورة وأن الجزء الذي لا يتجزأ باطل معدوم من العالم وهذا ما لا محض لهم منه وبالله تعالى التوفيق
برهان آخر
قال أبو محمد بلا شك نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين لا يلتقيان أبدا ولو مدا عمر العالم أبدا بلا نهاية وأنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين قال منهما مربع بلا الشك فإذ أخرجت من زاوية ذلك المربع خطا منحدرا من هنالك إلى الخط الأسفل فإن تلك الخطوط المخرجة من الضلع لدى ذكرنا وتلك الخطوط المخرجة من الزاوية لا تمر مع الخط الأعلى أبدا لأنها غير موازية له فإذ ذلك كذلك فذلك الضلع منقسم أبدا لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية
برهان آخر
قال أبو محمد وبالضرورة ندري أن كل مربع متساوي الأضلاع فإن الخط القاطع من الزاوية العليا إلى الزاوية السفلى التي لا يوازيها يقوم منه في المربع مثلثان متساويان وأنه لا شك أطول من كل ضلع من أضلاع ذلك المربع على انفراد فنسألهم عن مائة جزء لا تتجزأ رتبت متلاصقة عشرة عشرة فبالضرورة نجد فيها ما ذكرنا فبيقين نعلم حينئذ أن كل جزء من الأجزاء المذكورة لولا أن له طولا وعرضا لما كان الخط المار بها القاطع للمربع القائم منها على مثلثين متساويين أطول من الخط المار بكل جهة من جهات ذلك المربع على استواء وموازاة للخطوط الأربعة المحيطة بذلك المربع وهو أطول منه بلا شك فصح ضرورة أن لكل جزء منها طولا وعرضا وأن ماله طول وعرض فهو متجزء بلا شك فصح أيضا بما ذكرنا أن كل جزء مر عليه الخط المذكور فقد انقسم برهان آخر وأيضا فإننا لو أقمنا خطا من أجزاء لا تتجزأ على قولهم مستقيما ثم أردناه حتى يلتقي طرفاه ويصير دائرة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الخط إذا أدير حتى يلتقي طرفاه فإن ما قابل من أجزائه مركز الدائرة أضعف مما قابل منها خارج الدائرة فإذ ذلك كذلك فهذا لازم في هذا الخط المدار بلا شك وإذ لا شك في هذا فقد فضل من أحد طرفي الجزء الذي لا يتجزأ عندهم فضله على طرفه الآخر وهكذا كل جزء من تلك الأجزاء بلا شك فصح ضرورة أنه محتمل للانقسام ولا بد وبالله تعالى التوفيق
برهان آخر نسألهم عن دائرة قطرها أحد عشر جزءا لا يتجزأ كل واحد منها عندهم أو أي عدد شئت على الحساب فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط مارا على مركزها لا يقع البتة في أنصاف تلك الأجزاء فصح ضررة أنها تتجزأ ولو لم يمر ذلك الخط على أنها فيها قسم الدائرة بنصفين وبالله تعالى التوفيق
برهان آخر وهو أن نسألهم عن الجزء الذي لا يتجزأ الذي يحققونه إذا وضع على سطح زجاجة ملساء مستوية هل له حجم زائد على سطحها أم لا حجم له زائد على سطحها فإن قالوا لا حجم له زائد على سطحها أعدموه ولم يجعلوا له مكانا

ولا جعلوه متمكنا أصلا فنسألهم عن جزأين جعلا كذلك فلا بد من قولهم أن لهما حجما فنسألهم عن ذلك الحجم ألهما معا أم لأحدهما فأي ذلك قالوا أثبتوا ولا بد الحجم لهما وللجزء هو أحدهما وإذا كان للجزء الذي لا يتجزأ حجم زائد فالذي لا شك فيه أن له ظلا وإذا صح يقينا أن له ظلا فلا شك في أن الظل يزيد وينقص ويمتد ويتقلص ويذهب إذا سامتته الشمس فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن ظله ينقص حتى يكون أقل من قدره وإذ ذلك فقد ظهر ووجب أن له تجزيا ومقدارا متبعضا وبرهان آخر وهو أننا نسألهم عن جزء لا يتجزأ من الحديد أو من الذهب وجزء لا يتجزأ من خليط قطن هل ثقلهما ووزنهما سواء أم الذي من الذهب أو الحديد أثقل من الذي من القطن فإن قالوا نقلهما ووزنهما سواء كابروا لزومهم هذا في ألف جزء كذلك من الذهب أنهما ليستا أثقل من ألف جزء من القطن مجتمعة كانت الاجزاء أو متفرقة وهذا جنون ومكابرة وإن قالوا بل الذي من الذهب أوزن وأثقل صدقوا وأوجبوا أن له تجزيا يتفاضل الوزن ضرورة ولا بد
قال أبو محمد فهذه براهين ضرورية قاطعة بأن كل جزء فهو يتجزأ أبدا بلا نهاية وأن جزءا لا يتجزأ ليس في العالم أصلا ولا يمكن وجوده بل هو من المحال ليمتنع وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد أما أبو الهذيل فخلط في هذا الباب وحق لمن رام نصر الباطل أن يخلط فقال أن الجزء الذي لا يتجزأ ذو حركة وسكون يتعاقبان عليه وأنه يشغل مكانا لا يسع فيه معه غيره وأنه أقرب إلى السماء من مكانه الذي هو عليه من الأرض وهذا غاية التناقض إذ ما كان هكذا فله مساحة بلا شك وهو ذو جهات ست للمساحة أجزاء من نصف وثلث واقل وأكثر وما كان ذا جهات فالذي منه في كل جهة غير الذي منه في الجهة الأخرى بلا شك وما كان هذا فهو محتمل للتجزيء بلا شك وما عدا هذا فوسواس نعوذ بالله منه
قال أبو محمد في تخليطهم هذا اختلافا ظريفا أيضا فأجمعوا أنه إذا ضم جزء ولا يتجزأ إلى جزء لا يتجزأ فصار اثنين فقد حدث لهما طول ثم اختلفوا متى يصير جسما له طول وعرض وعمق فقال بعضهم إذا صار جزأين صار جسما وهو قول الأشعرية وقال بعضهم إذا صارا أربعة أجزاء وقال بعضهم بل إذا صارا ستة أجزاء واتفقوا على انه إذا صار ثمانية أجزاء فقد صار جسما له طول وعرض وعمق وكل هذا تخليط ناهيك به وجهل شديد كان الأولى بأهله أن يتعلموا قبل أن يتكلموا بهذه الحماقات برهان ذلك أنهم لم يختلفوا أنهم إذا صفوا أربعة أجزاء لا يتجزأ وتحتها أجزاء لا يتجزأ فإنه فسد صار عندهم الجميع من هذه الأجزاء جسما طويلا عريضا عميقا
قال أبو محمد وهذا الذي طابت نفوسهم عليه وأنست عقولهم إليه في الثمانية وسهل على بعضهم دون بعض في ثلاثة أجزاء تحتها ثلاثة أجزاء أو في جزأين تحتها جزآن ومنعوا كلهم من ذلك في جزء على جزء حاشا الأشعرية فإنه بعينه موجود على أصولهم المخذولة وأقوالهم المرذولة في جزء على جزء على جزء سواء سواء بعينه وذلك أن الأربعة أجزاء على أربعة أجزاء فإنما الحاصل منها جزء على جزء فقط من كل جهة فإذا جعلوا الأربعة على الأربعة طولا فإنما جعلوه في جزء إلى جنب جزء كذلك فعلوا في العرض وكذلك فعلوا في العمق وإذا هو كذلك والطول عندهم يوجد في جزء إلى جنب جزء والعرض يوجد جنب الطول لأن العرض لا يكون أكثر من الطول أصلا والعمق موجود فيهما أيضا فطهر أن لكل جزء منها طولا وعرضا وعمقا ومكانا وجهات ووجب ضرورة بهذا أنه يتجزأ ولاح جهلهم وخطبهم وبالله تعالى التوفيق

قال أبو محمد فإذا قد بطل قولهم في الجزء الذي لا يتجزأ وفي كل ما أوجبوه أنه جوهر لا جسم ولا عرض فقد صح أن العالم كله حامل قائم بنفسه ومحمول لا يقوم بنفسه ولا يمكن وجود أحدهما متخليا فالمحمول هو العرض والحامل هو الجوهر وهو الجسم سمه كيف شئت ولا يمكن في الوجود غيرهما وغير الخالق لهما تعالى وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقال هؤلاء الجهال أن العرض لا يبقى وقتين وأنه لا يحمل عرضا
قال أبو محمد وقد كلمناهم في هذا وتقريبا كتبهم فما وجدنا لهم حجة في هذا أصلا أكثر من أن بعضهم قال لو بقي وقتين لشغل مكانا
قال أبو محمد وهذه حجة فقيرة إلى حجة ودعوى كاذبة نصر بها دعوى كاذبة ولا عجب أكثر من هذا ثم لو صحت لهم للزمهم هذا بعينه فيما جوزوه من بقاء العرض وقتا واحدا ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لو بقي العرض وقتا واحدا لشغل مكانا وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا فرق في اقتضاء المكان بين بقاء وقت واحد وبين بقاء وقتين فصاعدا فإن أبطلوا بقاءه وقتا لزمهم أنه ليس باقيا أصلا وأيضا لم يكن باقيا فليس موجودا أصلا وإذ لم يكن موجودا فهو معدوم فحصلوا من هذا التخليط على نفي الأعراض ومكابرة العيان ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل يبقى وقتين ولا يبقى ثلاثة أوقات إذ لو بقي ثلاثة أوقات لشغل مكانا وكل هذا هوس وليس من أجل البقاء وجب اقتضاء الباقي المكان لكن من أجل أنه طويل عريض عميق فقط ولا مزيد وقد قال بعضهم أن الشيء في حين خلق الله تعالى له ليس باقيا ولا فانيا وهذه دعوى في الحمق كما سلف لهم ولا فرق وهي مع ذلك لا تعقل ولا يتمثل في الوهم أن يكون في الزمان أو في العالم شيء موجود ليس باقيا ولا فانيا
قال أبو محمد ولا عجب أعجب من حمق من قال أن بياض الثلج وسواد القار وخضرة البقل ليس شيء منها الذي كان آنفا بل يفنى في كل حين ويستعيض ألف ألف بياض وأكثر وألف ألف خضرة وأكثر هذه دعوى عارية من الدليل إلا أنها جمعت السخف مع المكارة
قال أبو محمد والصحيح من هذا هو ما قلناه ونقوله أن الأعراض تنقسم أقساما فمنها مالا يزول ولا يتوهم زواله الانفساد ما هو فيه لو أمكن ذلك كالصورة الكلية أو كالطول والعرض والعمق ومنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله إلا بانفساد حامله كالاسكار في الخمر ونحو ذلك فإنها إن لم تكن مسكرة لم تكن خمرا وهكذا كل صفة يجدها ما هي عليه ومنها ما لا يزول إلا بفساد حامله إلا أنه لو توهم زائلا لم يفسد حامله كرزق الأزرق وفطس الأفطس فلو زالا لبقي الإنسان إنسانا بحسبه ومنها ما يبقى مددا طوالا وقصارا وربما زايل ما هو كسواد الشعر بعض الطعوم والخشونة والأملاس في بعض الأشياء والطيب والنتن في بعضها والسكون والعلم وكبعض الألوان التي تستحيل ومنها ما يسرع الزوال كحمرة الخجل وكمدة الهم وليس من الأعراض شيء يفنى بسرعة حتى لا يمكن أن يضبط مدة بقائه إلا الحركة فقط على أنها بضرورة العقل والحس ندري أن حركة الجزء من الفلك التي نقطع الفلك بنصفين من شرق إلى غرب أسرع من حركة الجزء منه الذي حوالي القطبين لأن كل هذين الجزأين يرجع إلى مكانه الذي بدأ منه في أربع وعشرين ساعة وبين دائر بهما في الكبر ما لا يكون مساحة خط دائرة أو خط مستقيم أكثر منه في العالم وبيقين يدري أن حركة المذعورة في طيرانها أسرع من حركة السلحفاة في مشيها وأن حركة المنساب في الحدور أسرع من حركة الماء الجاري في سيل النهر وأن حركة العصر في الجري أسرع من حركة الماشي فصح يقينا أن خلال الحركات أيضا

بقاء إقامة يتفاضل في مدته لأن الحركات كلها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان فللمتحرك مقابلة ولا بد لكل جرم مر عليه ففي تلك المقابلات بكون التفاضل في السرعة أو في البطيء إلا أنه لا يحس أجزاؤه ولا تضبط دقائقه إلا بالعقل فقط الذي به يعرف زيادة الظل والشمس ولا ندرك ذلك بالحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما فإنه حينئذ يعرف بحس البصر كما لا يدرك بالحواس نماء النامي إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكما يعرف بالعقل لا بالحس أن لكل خردلة جزاء من الأثقال فلا يحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكذلك الشبع والري وكثير من أعراض العالم فتبارك خالق ذلك هو الله أحسن الخالقين وأما قولهم أن العرض لا يحمل العرض فكلام فاسد مخالف للشريعة وللطبيعة وللعقل وللحواس ولا جماع جميع ولد آدم لأننا لا تختلف في أن نقول حركة سريعة وحركة بطيئة وحمرة مشرقة وخضرة أشد من خضرة وخلق حسن وخلق مسيء وقال تعالى إن كيدهن عظيم وقال تعالى فصبر جميل وحسبك فسادا بقول أدى إلى هذا ومن أحال على العيان والحس والمعقول وكلام الله تعالى فقد فاز قدحه وخسرت صفقة من خالفه
قال أبو محمد ولسنا نقول أن عرضا يحمل عرضا إلى ما لا نهاية له بل هذا باطل ولكن كما وجد وكما خلق الباري تعالى ما خلق ولا مزيد وما عدا هذا فرقة دين وضعف عقل وقلة حياء ونعوذ بالله من هذه الثلاث وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

الكلام في المعارف
قال أبو محمد اختلف الناس في المعارف فقال قائلون المعارف كلها باضطرار إليها وقال آخرون المعارف كلها باكتساب لها وقال آخرون بعضها باضطرار وبعضها باكتساب
قال أبو محمد والصحيح في هذا الباب أن الإنسان يخرج إلى الدنيا ليس عاقلا لا معرفة له بشيء كما قال عز و جل والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا
قال أبو محمد فحركاته كلها طبيعية كأخذه التديين حين ولادته وتصرفه تصرف البهائم على حسبها في تألمها وطربها حتى إذا كبر وعقل وتقوت نفسه الناطقة وأنست بما صارت فيه وسكنت إليه وبدت رطوباته تجف بدأت بتمييز الأمور في الدار التي صارت فيها فيحدث الله تعالى لها قوة على التفكير واستعمال الحواس في الاستدلال وأحدث الله تعالى لها الفهم بما تشاهد وما تخبر به فطريقه إلى بعض المعارف اكتساب في أول توصلة إليها لأنه بأول فهمه ومعرفته عرف أن الكل أكثر من الجزء وأن جسما واحدا لا يكون في مكانين وأنه لا يكون قاعدا قائما معا وهو أن لم يحسن العبارة عن ذلك فإن أحواله كلها تقضي تيقنه كل ما ذكرنا وعرف أولا صحة ما أدرك بحواسه ثم أنتجت له بعد ذلك سائر المعارف بمقدمات راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو بعد فكل ما ثبت عندنا ببرهان وأن كان بعيد الرجوع إلى ما ذكرنا فمعرفة النفس به اضطرارية لأنه لو رام جهده أن يزيل عن نفسه المعرفة بما ثبت عنده هذا الثبات لم يقدر فإذ هذا لا شك فيه فالمعارف كلها باضطرار إذ ما لم يعرف بيقين قائما عرف بظن وما عرف ظنا فليس علما ولا معرفة هذا ما لا شك فيه إلا أن يتطرق إلى طلب البرهان بطلب هو وهذا الطلب الاستدلال ولو شاء أو لا يستدل لقدر على ذلك فهذا الطلب وحده هو الاكتساب فقط ما كان مدركا بأول العقل وبالحواس فليس عليه استدلال أصلا بل من قبل هذه الجهات يبتدي كل أحد باستدلال وبالرد إلى ذلك فيصح استدلاله أو يبطل وحد العلم بالشيء وهو المعرفة به أن نقول العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد وهو اعتقاد الشيء

على ما هو عليه وتيقنه به وارتفاع الشكوك عنه ويكون ذلك إما بشهادة الحواس وأول العقل وأما البرهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس أو أول العقل وأما باتفاق وقع له في مصادفة اعتقاد الحق خاصة بتصديق ما افترض الله عز و جل عليه اتباعه خاصة دون استدلال وأما علم الله تعالى فليس محدود أصلا ولا يجمعه مع علم الخلق حد فلا حس ولا شيء أصلا وذهبت الأشعرية إلى أن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حد واحد
قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش إذ من الباطل أن يقع ما لم تزل النهايات وعلم الله تعالى ليس هو غير الله تعالى على ما بينا قبل وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد قالت طوائف منهم الأشعرية وغيرهم من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به عن غير دليل لكن بتقليد أن تميل بإرادته فليس عالما به ولا عارفا به ولكنه معتقد له وقالوا كل علم ومعرفة اعتقاد وليس كل اعتقاد علما ولا معرفة لأن العلم والمعرفة بالشيء إنما يعبر بهما عن تيقن صحته قالوا وتيقن الصحة لا يكون إلا برهان قالوا وما كان بخلاف ذلك فإنما هو ظن ودعوى لا تيقن بها إذ لو جاز أن يصدق قول بلا دليل لما كان قول أولى من قول ولكانت الأقوال كلها صحيحة على تضادها ولو كان ذلك لبطلت الأقوال ولبطلت الحقائق كلها لأن كل قول يبطل كل قول سواه فلو صحت الأقوال كلها لبطلت كلها لأنه لو كان يكون كل قول صادقا في إبطال ما عداه
قال أبو محمد فنقول وبالله تعالى التوفيق أن التسمية والحكم ليس إلينا وإنما هما إلى خالق اللغات وخالق الناطقين بها وخالق الأشياء ومرتبها كما شاء لا إله إلا هو قال عز و جل منكرا على من سمي من قبل نفسه إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم فنهى الله عز و جل كل أحد عن أن يقول ما ليس له به علم ووجدناه عز و جل يقول في غير موضع من القرآن يا أيها الذين آمنوا وقال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين فخاطب الله تعالى بهذه النصوص وبغيرها وكذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مؤمن في العالم إلى يوم القيامة وبيقين ندري أنه قد كان في المؤمنين على عهده عليه السلام ثم من بعده عصرا عصرا إلى يوم القيامة المستدل وهم الأقل وغير المستدل كمن أسلم من الزنج ومن الروم والفرس والإماء وضعفة النساء والرعاة ومن نشأ على الإسلام بتعليم أبيه أو سيده إياه وهم الأكثر والجمهور فسماهم عز و جل مؤمنين وحكم لهم بحكم الإسلام وهذا كله معروف بالمشاهدة والضرورة وقال تعالى آمنوا بالله ورسوله وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله يؤمنوا بما أرسلت به فصح يقينا أنهم كلهم مأمورون بالقول بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وأن كل من صد عنه فهو كافر حلال دمه وماله فلو لم يؤمن بالقول بالإيمان إلا من عرفه من طريق الاستدلال لكان كل من لم يستدل ممن ذكرنا منهيا عن اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم وعن القول بتصديقه لأنه عند هؤلاء القول ليسوا عالمين بذلك وهذا خلاف القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم واجتماع الأمة المتيقن أما القرآن والسنة فقد ذكرناهما وأما إجماع الأمة فمن الباطل المتيقن أن يكون الاستدلال فرضا لا يصح أن يكون أحد مسلما إلا أنه به ثم يغفل الله عز و جل أن يقول لا تقبلوا من أحد أنه مسلم حتى يستدل أتراه نسي تعالى أو تعمد عز و جل ترك ذكر ذلك إضلالا لعباده وبترك ذلك رسوله صلى الله عليه و سلم أما عمدا أو قصدا إلى الضلال والإضلال أو نسيا لمن اهتدى له هؤلاء ونبهو إليه وهم من هم بلادة وجهلا

وسقوطا هذا لا يظنه إلا كافر ولا يحققه إلا مشركا فما قال فقط رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل قرية أو حلة أو حي ولا لراع ولا لراعية ولا للزنج ولا للنساء لا أقبل إسلامكم حتى أعلم المستدل من غيره فإذا لم يقبل عليه السلام ذلك فالقول به واعتقاده أفك وضلال وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء على الإسلام وقبوله من كل واحد دون ذكر استدلال ثم هكذا جيلا فجيلا حتى حدث من لا قدر له فإن قالوا قد قال الله عز و جل قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قلنا نعم وهذا حق وإنما قاله الله عز و جل لن خالف الحق الذي أمر عز و جل الجن والإنس باتباعه وهكذا القول أن كل من قال قولا خالف فيه ما أمر الله عز و جل باتباعه فسواء استدل بزعمه ولم يستدل هذا مبطل غير معذور إلا من عذره الله عز و جل فبما عذره فيه كالمجتهدين من المسلمين يخطأ قاصدا إلى الحق فقط ما لم يقم عليه الحجة فيعاند وأما من اتبع الحق فما كلفه الله عز و جل قط برهانا والبرهان قد ثبت بصحة كل ما أمر الله تعالى به فسواء علمه فتبع الرسول صلى الله عليه و سلم بعلمه حسبه أنه عالم بالحق معتقد له موقن به وأن جهل برهانه الذي قد علمه غيره وهذا خلق الله عز و جل الإيمان والعلم في نفسه كما خلقه في نفس المستدل ولا فرق قال تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسماهم داخلين في دينه وإن كانوا أفواجا وما شرط الله عز و جل قط أولا رسوله صلى الله عليه و سلم أن يكون ذلك باستدلال بل هذا شرط من شرط ذلك ممن قذفه إبليس في قلبه وعلى لسانه ليخرجه إلى تكفير الأمة ولا عجب أعجب من أطباق هذه الطائفة الضالة المخذولة على أنه لا يصح لأحد إيمان حتى يستدل على ذلك ولا يصح لأحد استدلال حتى يكون شاكا في نبوة محمد صلى الله عليه و سلم غير مصدق بها فإذا كان ذلك صح له الاستدلال وإلا فليس مؤمنا فهل سمع بأحمق أو أدخل في الحمق والكفر من قول من قال لا يؤمن احد حتى يكفر بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه و سلم وأن من آمن بهما ولم يكفر بهما قط فهو كافر مشرك نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال بهذا
قال أبو محمد فهذان طريقان لا ثالث لهما كل طريق منها تنقسم قسمين أحدهما من أتبع الذي أمره الله تعالى عز و جل باتباعه وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا مؤمن عالم حقا سواء استدل أو لم يستدل لأنه فعل ما أمره الله تعالى به ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما من لم يتبع قط غيره عليه الصلاة و السلام ووافق الحق بتوفيق الله عز و جل فهذا في كل عقد اعتقد أجران وأما أن يكون حرم موافقة الحق وهو مريد في أمره ذلك اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا معذور مأجور أجرا واحدا ما لم تقم عليه الحجة فيعاندها وهذا نص قوله عليه السلام في الحاكم المجتهد المصيب والمخطئ والطريق الثانية من اتبع غير الذي أمره الله باتباعه فهذا سواء استدل أو لم يستدل هو مخطئ ظالم عاص لله تعالى وكافر على حسب ما جاءت به الديانة في أمره ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما أصاب ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو غير قاصد إلى اتباعه عليه الصلاة و السلام فيه والآخر لم يصبه فكلاهما لا خير فيه وكلاهما آثم غير مأجور وكلاهما عاص لله عز و جل أو كافر على حسب ما جاءت به الديانة من أمره لأنهما جميعا تعديا حدود الله عز و جل فيما أمرهم به من ابتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ولا ينتفع بإصابته الحق إذ لم يصبه من الطريق التي لم يجعل الله طلب الحق وأخذه إلا من قبلها وقد علمنا أن اليهود والنصارى يوافقون الحق في كثير كإقرارهم بنبوة موسى عليه السلام وكتوحيد بعضهم لله تعالى فما انتفعوا بذلك إذ لم يعتقدوا اتباعا لرسول الله صلى الله عليه

وسلم وكذلك من قلد فقيها فاضلا دون رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان عقده أنه لا يتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن وافق قوله قول ذلك الفقيه فهذا فاسق بلا شك أن فعله غير معتقد له وهو كافر بلا شك أن اعتقده بقلبه أو نطق به بلسان لمخالفته قول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فنفى الله عز و جل عن أهل هذه الصفة الإيمان وأقسم على ذلك ونحن ننفي ما نفى الله عز و جل عمن نفاه عنه ويقسم على ذلك ونوقن أننا على الحق في ذلك وأما من قلد فقيها فاضلا وقال إنما اتبعه لأنه اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا مخطئ لأنه فعل من ذلك ما لم يأمره الله تعالى به ولا يكفر لأنه قاصد إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم مخطئ للطريق في ذلك ولعله مأجور بنيته أجرا واحدا ما لم نقم الحجة عليه بخطأ فعله فإن ذكروا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث فتنة القبر وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقال له ما قولك في هذا الرجل يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلنه
قال أبو محمد هذا حق على ظاهره كما أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا يقول هذا إلا المنافق أوالمرتاب لا المؤمن الموقن بل المؤمن الموقن في هذا الحديث أنه يقول هو عبد الله ورسوله أتانا بالهدى والنور أو كلاما هذا معناه أو أخبر عليه السلام عن موقن ومرتاب لا عن مستدل وغير مستدل وكذلك نقول أن من قال في نفسه أو بلسانه لولا أني نشأت بين المسلمين لم أكن مسلما وإنما اتبعت من نشأت بينهم فهذا ليس مؤمنا ولا موقنا ولا متبعا لمن أمره الله تعالى باتباعه بل هو كافر
قال أبو محمد وإذا كان قد يستدل دهره كله من لا يوفقه الله تعالى للحق وقد يوفق من لا يستدل يقينا لو علم أر أباه أو أمه أو ابنه أو امرأته أو أهل الأرض يخالفونه فيه لاستحل دماءهم كلهم ولو خير بين أن يلقى في النار وبين أن يفارق الإسلام لاختار أن يحرق بالنار على ان يقول مثل هذا قلنا فإذ هو موجود فقد صح أن الاستدلال لا معنى له وإنما المدار على اليقين والعقد فقط وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وإنما يضطر إلى الاستدلال من نازعته نفسه إليه ولم يسكن قلبه إلى اعتقاد ما لم يعرف برهانه فهذا يلزمه طلب البرهان حينئذ ليقي نفسه نارا وقودها الناس والحجارة فإن مات شاكا قبل أن يصح عنده البرهان مات كافرا مخلد في النار أبدا
قال أبو محمد ثم نرجع إلى ما كنا فيه هل المعارف باضطرار أم باكتساب فنقول وبالله تعالى التوفيق أن المعلومات قسم واحد وهو ما عقد عليه المر قلبه وتيقنه ثم هذا ينقسم قسمين أحدهما حق في ذاته قد قام البرهان على صحته والثاني لم يقم على صحته برهان وأما ما لم يتيقن المرء صحته في ذاته فليس عالما به ولا له به علم وإنما هو ظان له وأما كل ما علمه المرء ببرهان صحيح فهو مضطر إلى علمه به لأنه لا مجال للشك فيه عنده وهذه صفة الضرورة وأما الاختيار فهو الذي إن شاء المرء فعله وإن شاء تركه
قال أبو محمد فعلمنا بحدوث العالم وأن له بكل ما فيه خالقا واحدا لم يزل لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء والعلم بصحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وصحة كل ما أتى به مما نقله إلينا الصحابة كلهم رضي الله عنهم ونقله عنهم الكواف كافة بعد كافة حتى بلغ إلينا أن نقله المتفق على عدالته مثله وهكذا حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كله علم حق متيقن مقطوع على صحته عند الله تعالى لأن الأخذ بالظن في شيء من الدين لا يحل قال

الله تعالى أن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وقال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فصح أن الدين محفوظ لما ضمن الله عز و جل حفظه فنحن على يقين أنه لا يجوز أن يكون فيه شك وقد أمر الله تعالى بقبول خبر الواحد العدل ومن المحال أن يأمر الله عز و جل بأن نقول عليه ما لم يقل وهو قد حرم ذلك أو أن نقول عليه مالا نعلم أنه تعالى قد حرم ذلك بقوله وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فكل ما أمرنا الله عز و جل بالقول به فنحن على يقين من أنه من الدين وأن الله تعالى قد حماه من كل دخل وكذلك أخذنا بالزايد من الاثنين المتعارضين ومن الخبرين المتعارضين وقد علمنا صحة أن الحق في فعلنا ذلك علم ضرورة متيقن ولا أعجب ممن يقول أن خبر الواحد لا يوجب العلم وإنما هو غالب ظن ثم نقطع به ونقول أنه قد دخلت في الدين دواخل لا تميز من الحق وأنه لا سبيل إلى تمييز ما أمر الله تعالى به في الدين مما شرعه الكذابون هذا أمر نعوذ بالله منه ومن الرضاء به
قال أبو محمد وأما ما اجتمعت عليه الجماعات العظيمة من أرائهم مما لم يأت به نص عن الله عز و جل ولا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو باطل عند الله بيقين لأنه شرع في الدين ما لم يأذن الله عز و جل وقال على الله تعالى ما لم يقله وبرهان ذلك أنه قد يعارض ذلك قول آخر قالته جماعات مثل هذه والحق لا يتعارض والبرهان لا يناقضه برهان آخر وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب الأحكام في أصول الأحكام فأغنى عن ترداده والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد فكل من كان من أهل الملل المخالفة فبلغته معجزات النبي صلى الله عليه و سلم وقامت عليه البراهين في التوحيد فهو مضطر إلى الإقرار بالله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وكذلك كل من قام على شيء ما أي شيء كان عنده برهان ضروري صحيح وفهمه فهو مضطر إلى التصديق به سواء كانت من الملل أو من النحل أو من غير ذلك وإنما أنكر الحق في ذلك أحد ثلاثة أما غافل معرض عما صح عنده من ذلك مشتغل عنه بطلب معاشه أو بالتزايد من مال أو جاه أو صوت أو لذة أو عمل يظنه صلاحا أو إيثارا للمشغل بما يتبين له من ذلك عجزا وضعف عقل وقلة تمييز لفضل الإقرار بالحق أو مسوف نفسه بالنظر كحال كل طبقة من الطبقات الذين نشاهدهم في كل مكان وكل زمان وأما مقلد لأسلافه أو لمن نشأ بينهم قد شغله حسن الظن بمن قلد أو استحسانه لما قلد فيه وغمر الهوى عقله عن التفكير فيما فهم من البرهان قد حال ما ذكرنا بينه وبين الرجوع إلى الحق وصرف الهوى ناظر قلبه عن التفكر فيما يتبين له من البرهان ونفر عنه وأوحشه منه فهو إذا سمع برهانا ظاهرا لا مدفع فيه عنده ظنه من الشيطان وغالب نفسه حتى يعرض عنه وقالت له نفسه لا بد أن ها هنا برهانا يبطل به هذا البرهان الذي أسمع وإن كنت أنا لا أدريه وهل خفي هذا على جميع أهل ملتي وأهل نحلتي أو مذهبي أو على فلان وفلان وفلان ولا بد أنه قد كان عندهم ما يبطلون به هذا
قال أبو محمد وهذا عام في أكثر من يظن أنه عالم في كل ملة وكل نحلة وكل مذهب وليس واحد من هاتين الطائفتين إلا والحجة قد لزمته وبهرته ولكنه غلب وساوس نفسه وحماقتها على الحقائق اللائحة له ونصر ظنه الفاسد على يقين الثابت وتلاعب الشيطان به وسخر منه فأوهمه لشهوته لما هو فيه أن ها هنا دليلا يبطل به هذا البرهان وأنه لو كان فلان حيا أو حاضرا لأبطل هذا البرهان وهذا أعظم ما يكون من السخافة لما لا يدري ولا سمع

به وتكذيب لما صح عنده وظهر إليه ونعوذ بالله من الخذلان والثالث منكر بلسانه ما قد تيقن صحته بقلبه أما استدامة لرياسة أو استدرار مكسب أو طعما في أحدهما لعله يتم له أو لا يتم ولو تم له لكان خاسر الصفقة في ذلك أو أثر غرورا ذاهبا عن قريب على فوز الأبد أو يفعل ذلك خوف أذى أو عصبة لمن خالف ما قد قام البرهان عنده أو عداوة لقائل ذلك القول الذي قام به عنده البرهان وهذا كله موجود في جمهور الناس من أهل كل ملة وكل نحلة وأهل كل رأي بل هو الغالب عليهم وهذا أمر يجدونه من أنفسهم فهم يغالبونها
قال أبو محمد ويقال لمن قال ممن ينتمي إلى الإسلام أن المعارف ليست باضطرار وأن الكفار ليسوا مضطرين إلى معرفة الحق في الربوبية والنبوة أخبرونا عن معجزات الأنبياء عليهم السلام هل رفعت الشك جملة عن كل من شاهدها وحسمت عللها وفصلت بين الحق والباطل فصلا تاما أو لا فإن قالوا نعم أقروا بأن كل من شاهدها مضطر إلى المعرفة بأنها من عند الله تعالى حق شاهد بصدق من أتى بها ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا ولله الحمد وإن قالوا لا بل الشك باق فيها ويمكن أن تكون غير شاهدة بأنهم محقون قطع بأن الأنبياء عليهم السلام لم يأتوا ببرهان وأن الشك باق في أمرهم وأن حجة الله تعالى لم تقع على الكفار ولا لزمهم قط له تعالى حجة وأن الأنبياء عليهم السلام إنما أتوا بشيء ربما قام في الظن أنه حق وربما لم يقم وهذا كف مجرد من دان به أو قاله وهكذا نسألهم في البراهين العقلية على آيات التوحيد وفي الكواف الناقلة أعلام الأنبياء عليهم السلام حتى يقروا بالحق بأن حجج الله تعالى بكل ما ظهرت وبهرت واضطرت الكفار كلهم إلى تصديقها والمعرفة بأنها حق أو يقولوا أنه لم تقم لله حجة على أحد ولا تبين قط لأحد تعين صحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وإنما نحن في الإقرار بذلك على ظن ألا أنه من الظنون قوى وقد يمكن أن يكون بخلاف ذلك ومن قال بهذا فهو كفر مجرد محض شرك لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد ومن أنكر أن يكون الكفار وكل مبطل مضطرين إلى تصديق كل ما قام به برهان بعد بلوغه إليهم وقال أن ما اضطر المرء إلى معرفته فلا سبيل له إلى إنكاره أريناه كذب قوله في تكوين الأرض والأفلاك ومدار الشمس والقمر والنجوم وتناهي مسافة كل ذلك وأكثر الناس على إنكار هذا ودفعه الحق في ذلك وكذلك من دان بالقياس والرأي أو دليل الخطاب وسمع البراهين في إبطالها فهو مضطر إلى معرفة بطلان ما هو عليه مكابر لعقله في ذلك مغالط لنفسه مغالب ليقينه مغلب لظنونه
قال أبو محمد وعلم الملائكة عليهم السلام وعلم النبيين عليهم السلام بصحة ما جاءتهم به الملائكة وأوحى إليهم به وأروه في منامهم علم ضروري كساير ما أدركوه بحواسهم وأوايل عقولهم وكعلمهم بأن أربعة أكثر من اثنين وأن النار حارة والبقل أخضر وصوت الرعد وحلاوة العسل ونتن الحلتيت وخشونة القنفذ وغير ذلك لو لم يكن الأمر كذلك لكان عند الملائكة والنبيين شكا في أمرهم وهذا كفر ممن أجازه إلا أن الملائكة لا علم لهم بشيء إلا هكذا ولا ظن لهم أصلا لأنهم لا يخطئون ولا ركبوا من طبايع متخالفة كما ركب الإنسان فإن قال قائل فإذا العلم كله باضطرار والاضطرار فعل الله تعالى في النفوس فكيف يؤجر الإنسان أو يعذب على فعل الله تعالى فيه قلنا نعم لا شيء في العالم إلا خلق الله تعالى وقد صح البرهان بذلك على ما أوردنا في كلامنا في خلق الأفعال في ديواننا والحمد لله رب العالمين وما نقل حافظ نصا ولا برهان عقل بالمنع من أن يعذبنا الله تعالى ويؤجرنا على ما خلق فينا والله تعالى يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون

قال أبو محمد وكيف ينكر أهل الغفلة أن يكون قوم يخالفون ما هم إلى المعرفة بهم مضطرون وهم يشاهدون السوفسطائية الذين يبطلون الحقائق جملة وكما يعتقد النصارى وهم أمم لا يحصى عددهم إلا خالقهم ورازقهم ومضلهم لا إله إلا هو وفيهم علماء بعلوم كثيرة وملوك لهم التدابير الصائبة والسياسات المعجبة والآراء المحكمة والفطنة في دقائق الأمور وبصر بغوامضها وهم مع ذلك يقولون أن واحدا ثلاثة وثلاثة واحد وأن أحد الثلاثة أب والثاني ابن والثالث روح وأن الأب هو الابن وليس هو الابن والإنسان هو الإله وهو غير إله وابن المسيح إله تام وإنسان تام وهو غيره وأن الأول الذي لم يزل هو المحدث الذي لم يكن ولا هو هو
قال أبو محمد وليس في الجنون أكثر من هذا واليعقوبية منهم وهم مئتين ألوف يعتقدون الباري تعالى عن كفرهم ضرب بالسياط واللطام وصلب ونحر ومات وسقي الحنظل وبقي العالم ثلاثة أيام بلا مدبر وكأصحاب الحلول وغالية الرافضة الذين يعتقدون في رجل جالس معهم كالحلاج وابن أبي العز انه الله والإله عندهم قد يبول ويسلح ويجوع فيأكل ويعطش فيشرب ويمرض فيسوقون إليه الطبيب ويقلع ضرسه إذا ضرب عليه ويتضر إذا أصابه دمل ويجامع ويحتجم ويفتصد وهو الله الذي لم يزل ولا يزال خالق هذا العالم كله ورازقه ومحيصه ومدبره ومدبرا لأفلاك المميت المحيي العالم بما في الصدور ويصبر وفي جنب هذا الاعتقاد على السجون والمطابق وضرب السياط وقطع الأيدي والأرجل والقتل والصلب وهتك الحريم وفيهم قضاه وكتاب وتجاورهم اليوم الرف وكما يدعى طوائف اليهود وطوائف من المسلمين أن ربهم تعالى جسد في صورة الإنسان لحم ودم يمشي ويقعد كالأشعرية الذين يقولون أن ها هنا أحوالا لا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معلومة ولا مجهولة ولا حق ولا باطل وأن النار ليست حارة والثلج ليس بارد وكما يقول بعض الفقهاء وأتباعه أن رجلا واحدا يكون ابن رجلين وابن امرأتين كل واحد منهما أمه وهو ابنها بالولادة
قال أبو محمد أترى كل من ذكرنا لا تشهد نفسه وحسه ولا يقر عقله بأن كل هذا ابطل بلى والذي خلقهم ولكن العوارض التي ذكرنا قبل سهلت عليهم هذا الاختلاط وكرهت عليهم الرجوع إلى الحق والإذعان له
قال أبو محمد وأما العناد فقد شاهدناه من كل ما رأيناه في المناظرة في الدين وفي المعاملات في الدنيا أكثر من أن يحصى ممن يعلم الحق يقينا ويكابر على خلافه ونعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهدى والعصمة
قال أبو محمد لا يدرك الحق من طريق البرهان إلا من صفى عقله ونفسه من الشواغل التي قدمنا ونظر من الأقوال كلها نظرا واحدا واستوت عنده جميع الأقوال ثم نظر فيها طالبا لما شهدت البراهين الراجعة رجوعا صحيحا غيره مموه ضروريا إلى مقدمات مأخوذة من أوايل العقل والحواس غير مسامح في شيء من ذلك فهذا مضمون له بعون الله عز و جل الوقوف على الحقائق والخلاص من ظلمة الجهل وبالله تعالى التوفيق
وأما نقلة اثنان فصاعدا نوقن أنهما لم يجتمعا ولا تساررا فأخبر بخبر واحد راجع إلى ما أدركه بالحواس من أي شيء كان فهو حق بلا شك مقطوع على حيته والنفس مضطرة إلى تصديقه وهذا قول أحد الكافة وأولها إذ لا يمكن البتة إنفاق اثنين في وليد حديث واحد لا يختلفان فيه عن غير تواطؤ وأما إذا تواطأت الجماعة العظيمة فقد تجتمع على الكذب وقد شاهدنا جماعات يشكرون ولاتهم وهم كاذبون إلا أن هذا لا يمكن أن ينفقوا على ظنه أبدا ومن أنكر ما تنقله الكافة لزمه أن لا يصدق أنه كان في الدنيا أحد قبله لأنه لا يعرف كون الناس إلا بالخبر

قال أبو محمد وقد يضطر خبر الواحد في بعض الأوقات إلى التصديق يعرف ذلك من تدبر أمور نفسه كمتذر يموت إنسان لدفنه وكرسالة من عند السلطان يأتي بها بريد وككتاب وارد من صديق بديهة وكمخبر يخبرك أن هذا دار فلان وكمنذر بعرس عند فلان وكرسول من عند القاضي والحاكم وسائر ذلك من اخبار بأن هذا فلان بن فلان ومثل هذا كثير جدا وهذا لا ينضبط بأكثر مما يسمع ومن راعى هذا المعنى لم يمض له يوم واحد قطعا حتى يشاهد في منزله وخارج منزله من خبر واحد ما يضطر إلى تصديقه ولا بد كثيرا جدا وأما في الشريعة فخبر الواحد الثقة موجب للعلم وبرهان شرعي قد ذكرناه في كتابنا الأحكام لأصول الأحكام وقد ادعى المخالفون أن ما اتفقت عليه أمتنا بآرائها فهي معصومة بخلاف سائر الأمم ولا رهان على هذا وقال النظام أن خبر التواتر لا يضطر لأن كل واحد منهم يجوز عليه الغلط والكذب وكذلك يجوز على جميعهم ومن المحال أن يجتمع ممن يجوز عليه الكذب وممن يجوز عليه الكذب من لا يجوز عليه الكذب ونظر ذلك بأعمى وأعمى وأعمى فلا يجوز أن يجتمع مبصرون
قال أبو محمد وهذا تنظير فاسد لأن الأعمى ليس فيه شيء من صحة البصر وليس كذلك المخبرون لأن كل واحد منهم كما يجوز عليه الكذب كذلك يجوز عليه الصدق ويقع منه وقد علم بضرورة العقل أن اثنين فصاعدا إذا فرق بينهما لم يمكن البتة منهما أن يتفقا على توليد خبر كاذب يتفقان في لفظه ومعناه فصح أنهما إذا أخبرا بخبر فاتفقا فيه أنهما أخبرا عن علم صحيح موجود عندهما ومن أنكر هذا لزمه أن لا يصدق بشيء من البلاد الغائبة عنه ولا بالملوك السالفين ولا بالأنبياء وهذا خروج إلى الجنون بلا شك أو إلى المكابرة في الحس وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل كيف أجزتم ههنا إطلاق اسم الضرورة والاضطرار ومنعتم من ذلك في أفعال الفاعلين عند ذكركم الاستطاعة وخلق الله تعالى أفعال العباد وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في عباده قلنا أن الفرق بين الأمرين في ذلك لائح وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله لو اختار تركه وممكن منه ذلك وليس ممكنا منه اعتقاد خلاف ما تيقنه بأن يرفع عن نفسه تحقيق ما عرف أنه أحق فهكذا أو قعناها هنا اسم الاضطرار ومنعناه منه هنالك وبالله تعالى نتأيد

الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة
قال أبو محمد ذهب قوم إلى القول بتكافؤ الأدلة ومعنى هذا أنه لا يمكن نصر مذهب على مذهب ولا تغليب مقالة على مقالة حتى يلوح الحق من الباطل ظاهر بينا لا أشكال فيه بل دلائل كل مقالة فهي مكائنه لدلائل سائر المقالات وقالوا كل ما ثبت بالجدل فإنه بالجدل ينقض وانقسم هؤلاء إلى أقسام ثلاثة فيما أنتجه لهم هذا الأصل فطائفة قالت بتكافؤ الأدلة جملة في كل ما اختلف فيه فلم تحقق الباري تعالى ولا أبطلته ولا أثبتت النبوة ولا أبطلتها وهكذا في جميع الأديان والأهواء لم تثبت شيئا من ذلك ولا أبطلته إلا أنهم قالوا أننا نوقن أن الحق في أحد هذه الأقوال بلا شك إلا أنه غير بين إلى أحد البتة ولا ظاهر ولا متميز أصلا
قال أبو محمد وكان إسماعيل بن يونس الأعور الطبيب اليهودي تدل أقواله ومناظراته دلالة صحيحة على أنه كان يذهب إلى هذا القول لاجتهاده في نصر هذه المقالة وأن كان غير مصرح بأنه يعتقدها وقالت طائفة أخرى بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري تعالى فأثبت الخالق تعالى وقطعت بأنه حق خالق لكل ما دونه بيقين لا شك فيه ثم لم نحقق النبوة ولا أبطلتها ولا حققت دين ملة ولا أبطلته لكن قالت أن في هذه الأقوال قولا صحيحا بلا شك إلا

أنه غير ظاهر إلى أحد ولا بين ولا كلفه الله تعالى أحدا وكان إسماعيل بن القراد الطبيب اليهودي يذهب إلى هذا القول يقينا وقد ناظرنا عليه مصرحا به وكان يقول إذا دعوناه إلى الإسلام وحسمنا شكوكه ونفضنا علله الانتقال في الملل تلاعب
قال أبو محمد وقد ذكرلنا عن قوم من أهل النظر والرياسة في العلم هذا القول إلا أننا لم يثبت ذلك عندنا عنهم وطائفة قالت بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري عز و جل ودون النبوة فقطعت أن الله عز و جل حق وأنه خالق الخلق وان النبوة حق وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم حقا ثم لم يغلب قولا من من أقوال أهل القبلة على قول بل قالوا أن فيها قولا هو الحق بلا شك إلا أنه غير بين إلى أحمد ولا ظاهر وأما الأقوال التي صاروا إليها فيما يثبتوا عليها منها فطائفة لزمت الحيرة وقالت لا ندري ما نعتقد ولا يمكننا أخذ مقالة لم يصح عندنا دون غيرها مغالطين لأنفسنا مكابرين لعقولنا لكنا لا ننكر شيئا من ذلك ولا نثبته وجمهور هذه الطائفة مالت إلى اللذات وأمراح النفوس في الشهوات كيف ما مالت إليه بطبايعها وطائفة قالت على المرء فرض لموجب العقل ألا يكون سدا بل يلزمه ولا بد أن يكون له دين برد جربه عن الظلم والقبائح وقالوا من لا دين له فهو غير مأمور في هذا العالم على الإفساد وقتل النفوس غيلة وجهرا وأخذ الأموال خيانة وعصيا والتعدي على الفروج تحيلا وعلانية وفي هذا هلاك العالم بأسره وفساد البنية وانحلال النظام وبطلان العلوم والفضائل كلها التي تقتضي العلوم يلزمها وهذا هو الفساد الذي توجب العقول التحرز منه واجتنابه قالوا فمن لا دين له فواجب على كل من قدر على قتله أن يسارع إلى قتله وإراحة العالم منه وتعجيل استكفاف ضره لأنه كالأفعى والعقرب او أضر منهما ثم انقسم هؤلاء قسمين قالت طائفة فإذا الأمر كذلك فوجب على الإنسان لزوم الدين الذي نشأ عليه أو ولد عليه لأنه هو الدين الذي تخيره الله له في مبدأ خلقه ومبدأ نشأته بيقين وهو الذي أثبته الله عليه فلا يحل له الخروج عما رتبه الله تعالى فيه وابتداه عليه أي دين كان وهذا كان قول إسماعيل بن القداد وكان يقول من خرج من دين إلى دين فهو وقاح متلاعب بالأديان عاص لله عز و جل المتعبد له بذلك الدين وكان يقول بالمسألة الكلية ومعنى ذلك ألا يبقى أحد دون دين يعتقده على ما ذكرنا آنفا وقالت طائفة لا عذر للمرء في لزوم دين أبيه وجده أو سيده وجاره ولا حجة فيه لكن الواجب على كل أحد أن يلزم ما اجتمعت الديانات بأسرها والعقول بكليتها على صحته وتفضيله فلا يقتل أحدا ولا يزني ولا يلوط ولا يبغ به ولا يسع في إفساد حرمة أحد ولا يسرق ولا يغصب ولا يظلم ولا يجر ولا يحن ولا يغش ولا يغتب ولا ينم ولا يسفه ولا يضرب أحدا ولا يستطيل عليه ولكن يرحم الناس ويتصدق ويؤدي الأمانة ويؤمن الناس شره ويعين المظلوم ويمنع منه فهذا هو الحق بلا شك لأنه المتفق عليه من الديانات كلها ويتوقف عما اختلفوا فيه ليس علينا غير هذا لأنه لم يلح لنا الحق في شيء منه دون غيره
قال أبو محمد فهذه أصولهم ومعاقدهم وأما احتجاجهم في ذلك فهو أنهم قالوا وجدنا الديانات والآراء والمقالات كل طائفة تدعى أنها أنما اعتقدت ما اعتقدته عن الأوايل وبراهين باهرة وكل طائفة منها تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة نظر المناظر وقدرته على البيان والتحلل والتشعب لهم في ذلك كالمنحازين يكون الظفر سجالا بينهم قالوا فصح أنه ليس ها هنا قول ظاهر الغلية ولو كان لما أشكل على أحد ولم يختلف الناس في ذلك كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لايح قالوا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس

فعاندوه فلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قالوا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة إنما تتبع إما ما نشأت عليه وإما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبيت ولا يقين قالوا وهذا مشاهد من أهل كل ملة وإن كان فيها ما لا شك في سخافته وبطلانه وقالوا أيضا أنا نرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة وبأنهم قد أشرفوا على الصحيح بالبراهين وميزو من الشغب والإقناع ونجد آخرين قد تمهروا في علم الكلام وافنوا فيه دهرهم ورسخوا فيه وفخروا بأنهم قد وقفوا على الدلايل الصحاح وميزوها من الفاسدة وأنهم قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطل والحجج والإنصاف ثم نجدهم كلهم يعني جمع هاتين الطائفتين فلسفتهم وكلامهم في أديانهم التي يقرون أنها نجاتهم أو هلكتهم مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافا فمن يهودي يموت على يهوديته ونصراني يتهالك عل نصرانيته وتثليثه ومجوسي يستميت على مجوسيته ومسلم يستقتل في إسلامه ومنافي يستهلك في مانونيته ودهري ينقطع في دهريته قد استوى العامي المقلد من كل طائفة في ذلك مع المتكلم الماهر المستدل بزعمه ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم أيضا كذلك سواء سواء فإن كان يهوديا فأما رباني يتقد غيظا على سائر فرق دينه وأما صائبي يلعن سائر فرق دينه وأما عيسوي يسخر من سائر فرق دينه وأما سامري يبرا من سائر فرق دينه وأن كان نصرانيا فأما ملكي يتهالك غيظا على سائر فرق دينه وأما نسطوري يقداسنا على سائر فرق دينه وأما يعقوبي يسخط على سائر فرق دينه وإن كان مسلما فإما خارجي يستحل دماء سائر أهل ملته وأما معتزلي يكفر سائر فرق ملته واما شيعي لا يتولى سائر فرق ملته وأما مرجئي لا يرضى عن سائر فرق ملته وأما سني ينافر فرق ملته قد استوى في ذلك العامي والمقلد الجاهل والمتكلم بزعمه المستدل وكل امرئ من متكلمي الفرق التي ذكرنا يدعي أنه إنما أخذ ما أخذ وترك ما ترك ببرهان واضح ثم هكذا نجدهم حتى في الفتيا أما حنيفي يجادل عن حنيفيته وأما مالكي يقاتل عن مالكيته وأما شافعي يناضل عن شافعيته وأما حنبلي يضارب عن حنبليته وأما ظاهري يحارب ظاهريته وأما متحير مستدل فهنالك جاء التجازب حتى لا يتفق اثنان منهم على مائة مسألة إلا في الندرة وكل امرئ ممن ذكرنا يزري على الآخرين وكلهم يدعى أنه أشرف على الحقيقة وهكذا القائلون بالدهر أيضا متباينون متنابذون مختلفون فيما بينهم فمن موجب أن العالم لم يزل وأن له فاعلا لم يزل ومن موجب إزالية الفاعل وأشياء أخر معه وأن سائر العالم محدوث ومن موجب إزالية الفاعل وحدوث العالم أمبطل للنبوات كلها كما اختلف سائر أهل النحل أولا فرق قالوا فصح أن جميعهم أما متبع للذي نشأ عليه والنحلة التي تربي عليها وأما متبع لهواه قد تخيل له أنه الحق فهم على ما ذكرنا دون تحقيق قالوا فلو كان للبرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف ولبان على طول الأيام وكرور الزمان ومرور الدهور وتداول الأجيال له وشدة البحث وكثرة ملاقاة الخصوم ومناظراتهم وأفنائهم الأوقات وتسويدهم القراطيس واستنفاذ وسمعهم وجهدهم أين الحق فيرتفع الأشكال بل الأمر واقف بحسبه أمتزيد في الاختلاف وحدوث التجاذب والفرق قالوا وأيضا فإنا نرى المرء الفهم العالم النبيل المتيقن في علوم الفلسفة والكلام والحجاج المستنفذ لعمره في طلب الحقائق المؤثرة للبحث عن البرهان على كل ما سواه من لذة أو مال أو جاء المستفرغ لقوته في ذلك النافر عن التقليد يعتقد مقالة وما يناظر عنها ويحاجج دونها ويدافع أمامها ويعادي من خالفها مجدا في ذلك موقنا بصوابه وخطا من خالفه منافرا له مضللا أو مكفرا فيبقى كذلك الدهر الطويل

والأعوام الجمة ثم تبدو له بادية عنها فيرجع أشد ما كان عداوة لما كان ينصر ولا هل لك المقالة التي كان يدين بصحتها وينصرف يقاتل في إبطالها ويناظر في إفسادها ويعتقد من ضلالها وضلال أهلها الذي كان يعتقد من صحتها ويعجب الآن من نفسه امس وربما عاد إلى ما كان عليه او خرج إلى قول ثالث قالوا فدل هذا على فساد الأدلة وعلى تكافؤها جملة وأن كل دليل فهو هادم الآخر كلاهما بهدم صاحبه وقالوا أيضا لا يخلو من حقق شيئا فمن هذه الديانات أو المقالات من أن يكون صح له أو لم يصح له ولا سبيل إلى قسم ثالث قالوا فإن كان لم يصح له بأكثر من دعواه أو من تقليده مدعيا فليس هو أولى من غيره بالصواب وإن كان صح له فلا يخلو من أن يكون صح له بالحواس أو بعضها أو بضرورة العقل وبديهيته أو صح له بدليل ما غير هذين ولا سبيل إلى قسم رابع فإن كان صح له بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته فيجب أن لا يختلف في ذلك أحد كما لم يختلفوا فيما أدرك بالحواس وبديهة العقل من أن ثلثه أكثر من اثنين وأنه لا يكون المرء قاعدا قائما معا بالعقل فلم يبق إلا أن يقولوا أنه صح لنا بدليل غير الحواس فنسألهم عن ذلك الدليل بماذا صح عندكم بالدعوى فلستم بأولى من غيركم في دعواه أم بالحواس وبديهة العقل فكيف خولفتهم فيه هذا ولا يختلف في مدركاته أحد أم بدليل غير ذلك وهكذا أبدا إلى ما لا نهاية له قالوا وهذا ما لا مخلص لهم منه قالوا ونسألهم أيضا عن علمهم بصحة ما هم عليه أيعلمون أنهم يعلمون ذلك أم لا فإن قالوا لا نعلم ذلك أحالوا وسقط قولهم وكفونا مؤونتهم لأنهم يقرون أنهم لا يعلمون أنهم يعلمون ما علموا وهذا هوس وإفساد لما يعتقدونه وإن قالوا بل نعلم ذلك سألناهم أبعلم علموا ذلك أم بغير علم وهكذا أبدا وهذا يقتضي أن يكون للعلم علم ولعلم العلم علم إلى ما لا نهاية له وهذا عندهم محال
قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شغبا غير ما ذكرنا ولهم متعلق سواء أصلا بل قد زدناهم فما رأينا لهم وتقصيناه لهم بغاية الجهد كما فعلنا بأهل كل مقالة
قال أبو محمد وكل هذا الذي موهوا به منحل بيقين ومنتقض بابين برهان بلا كثير كلفة ولم تجد أحدا من المتكلمين السالفين أورد بابا خالصا في النقض على هذه المقالة ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما موهوا به بالبراهين الواضحة وبالله تعالى التوفيق وذلك بعد أن نبين فساد معاقد هذه الطوائف المذكورة إن شاء الله عز و جل
قال أبو محمد فنقول وبالله تعالى نتأيد أما الطائفة المتحيرة فقد شهدت على انفسها بالجهل وكفت خصومها مؤنتها في ذلك وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ولا من لم يتبين له الشيء غبارا على من تبين له بل من علم فهو الحجة على من جهل هذا هو الذي لا يشك أحد فيه في جميع العلوم والصناعات وكل معلوم يعلمه قوم ويجهله قوم ولا أحمق ممن يقول لما جهلت أنا أمر كذا ولم أعرفه علمت آن كل أحد جاهل له كجهل وهذه صفة هؤلاء القوم نفسها ولو ساغ هذا لأحد لبطلت الحقائق وجميع المعارف وجميع الصناعات إذ لكل شيء منها من يجهله من الناس نعم ومن لا يتحجج فيه ولا يفهمه وأن طلبه هذا آمر مشاهد بالحواس فهم قد أقروا بالجهل وندعى نحن العلم بحقيقة ما اعترفوا بجهلهم به فالواجب عليهم أن ينظروا في براهين المدعين للمعرفة بما جهلوه نظرا صحيحا مقتضى بغير هوى فلا بد يقينا من أن يلوح حقيقة قول المحق وبطلان قول المبطل فتزول عنهم الحيرة والجهل حينئذ فسقطت هذه المقالة بيقين والحمد لله رب العالمين
وأما من قطع بأن ليس ها هنا مذهب صحيح أصلا فإن قوله ظاهر الفساد بيقين لا إشكال فيه لأنهم أثبتوا حقيقة وجود العالم بما فيه وحقيقة

ما يدرك بالحواس وبأول العقل وبديهته ثم لم يصححوا حدوثه ولا أزليته ولا أبطلوا حدوثه وأزليته معا ولم يصححوا أن له خالقا ولا أنه لا خالق له وأبطلوا كلا الأمرين وأبطلوا النبوة وأبطلوا إبطالهما فقد خرجوا يقينا إلى المحال وإلى أقبح قول السوفسطائية وفارقوا بديهة العقل وضرورته التي قد حققوها وصدقوا موجبها إذ لا خلاف بين أحد له مسكه عقل في أن كل ما لم يكن حقا فهو باطل وما لم يكن باطلا فإنه حق وأن اثنين قال أحدهما في قضية واحدة في حكم واحد قال نعم والآخر لا فأحدهما صادق بلا شك والآخر كاذب بلا شك هذا يعلم بضرورة العقل وبديهته وأما قول قائل هذا حق باطل معا من وجه واحد في وقت واحد وقول من قال لا حق ولا باطل فهو بين باطل معلوم بضرورة العقل وبديهته فواجب بإقرارهم أن من قال أن العالم لم يزل وقال الآخر هو محدث أن أحدهما صادق بلا شك وكذلك من أثبت النبوة ومن نفاها فظهر بيقين وضرورة العقل يقينا فساد هذه المقالة إلا أن يبطلوا الحقائق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حينئذ بما تكلم به السوفسطائية مما ذكرناه من قبل وبالله تعالى التوفيق وأما من مال إلى اللذات جملة فإنه إن كان من إحدى هاتين الطائفتين فقد بطل عقده وصح يقينا أنه على ضلال وخطا وباطل وفساد في أصل معتقده الذي أداه إلى الانهماك وإذا بطل شيء بيقين قد بطل ما تولد منه وإن مال إلى أحد الأقوال الأخر فكلها مبطل للزوم اللذات والانهماك فصح ضرورة بطلان هذه الطريقة وإن صار إلى تحقيق الدهرية كلم بما تكلم به الدهرية مما قد أوضحناه والحمد لله وأما من قال بإلزام المرء دين سلفه والدين الذي نشأ عليه فخطأ لا خفاء به لأننا نقول لمن قال بوجوب ذلك ولزومه أخبرنا من أوجبه ومن ألزمه فالإيجاب والإلزام يقتضي فاعلا ضرورة ولا بد منها فمن ألزم ما ذكرتم من أن يلزم المرء دين سلفه أو الدين الذي نشأ عليه الله ألزم ذلك جميع عباده أم غير الله تعالى أوجب ذلك أما إنسان وأما عقل وأما دليل فإن قال بل ما ألزم ذلك إلا من دون الله تعالى قيل له أن من دون الله تعالى معصي مخالف مرفوض لا حق له ولا طاعة إلا من أوجب الله عز و جل له فيلزم طاعته لأن الله أوجبها لا لأنها واجبة بذاتها وليس من أوجب شيئا من دون الله تعالى بأولى من آخر أبطل ما أوجب هذا وأوجب بطلانه وفي هذا كفاية لمن عقل ولا ينقاد للزوم من دون الله تعالى إلا جاهل مغرور كالبهيمة تقاد فتنقاد ولا فرق وإن قال أن العقل ألزم ذلك قيل له أنك تدعى الباطل على العقل إذا دعيت عليه ما ليس في بنيته لأن العقل لا يوجب شيئا وإنما العقل قوة تميز النفس بها الأشياء على ما هي عليه فقط ويعرف ما صح وجوبه مما أوجبه من تلزم طاعته مما لم يصح وجوبه مما لم يوجبه من يجب عليه طاعته ليس في العقل المراد به المتميز شيء غير هذا أصلا وأيضا فإن قائل هذا مجاهر بالباطل لأنه لا يخلو أن يكون يزعم أن العقل أوجب ذلك ببديهته أو ببرهان راجع إلى البديهة من قرب أو من بعد فإن ادعى أن العقل يوجب ذلك ببديهته كابر الحس ولم ينتفع بهذا أيضا لأنه لا يعجز عن التوقح بمثل هذه الدعوى أحد في أي شيء شاء وأن ادعى أنه أوجب ذلك برهان راجع إلى العقل كلف المجيء به ولا سبيل إليه أبدا فإن قال أن الله عز و جل أوجب ذلك سئل الدليل على صحة هذه الدعوى التي أضافها إلى الباري عز و جل وهذا ما لا سبيل إليه لأن ما عند الله عز و جل من إلزام لا يعرف البتة إلا يوحى من عنده تعالى إلى رسول من خلفه يشهد له تعالى بالمعجزات وأما بما يضعه الله عز و جل في العقول وليس في شيء من هذين دليل على صحة دعوى هذا المدعي وأما احتجاجه بأنه هو الدين الذي اختاره الله عز و جل لكل أحد وأنشأ عليه فلا حجة له في هذا لأننا لم نخالفه في أن هذا درب على هذا الدين

وخلقه الله عز و جل مع من دربه عليه بل نقر بهذا كما نقر بأن الله خلقنا في مكان ما في صناعة ما وعلى معاش ما وعلى خلق ما وليس في ذلك دليل عند أحد من العالم على أنه لا يجوز له فراق ذلك الخلق إلى ما هو خير منه ولا على أنه لزمه لزوم المكان الذي خلق فيه والصناعة التي نشأ عليه والقوت الذي كبر عليه بل لا يختلف اثنان في أن له مفارقة ذلك المكان وتلك الصناعة وذلك المعاش إلى غيره وأن فرضا عليه لزوال عن كل ذلك إذ كان مذموما إلى المحمود من كل ذلك وأيضا فإن جميع الأديان التي أوجبها كلها هذا القائل وحقق جميعها فكل دين منها فيه إنكار غيره منها وأهل كل دين منها تكفر سائر أهل تلك الأديان وكلهم يكذب بعضهم بعضا وفي كل دين منها تحريم التزام غيره على كل أحد فلو كان كل دين منها لازما أن يعتقده من نشأ عليه لكان كل دين منها حقا وإذا كان كل دين منها حقا منها يبطل سائرها وكل ما أبطله الحق فهو باطل بلا شك فكل دين منها باطل بلا شك فوجب ضرورة على قول هذا القائل أن جميع الأديان باطل وأن جميعها حق فجميعها حق باطل معا فبطل هذا القول بيقين لا شك فيه والحمد لله رب العالمين وأما من قال أني ألزم فعل الخير الذي اتفقت الديانات والعقول على أنه فضل واجتنب ما اتفقت الديانات والعقول على أنه قبيح فقول فاسد مموه مضمحل أول ذلك أنه كذب ولا اتفقت الديانات ولا العقول على شيء من ذلك بل جميع الديانات إلا الأقل منها مجموعون على قتل من خالفهم وأخذ أموالهم وكل دين منها لا يحاشى دينا قاتل بأحكام هي عند سائرها ظلم وأما الثانية فإنها وأن لم تقل بالقتل فإنها تقول بترك النكاح الذي هو مباح عند سائر الديانات ويقولون بإباحة اللياطة والسحق وسائر الديانات محرمة لذلك فما اتفقت الديانات على شيء أصلا ولا على التوحيد ولا على إبطاله لكن اتفقت الديانا على تخطئته وتكفيره والبراءة منه إذا لم يعتقد دينا فبيناه بطلب موافقة جميع الديانات حصل على مخالفة جميعها وهكذا فليكن السعي المضلل وكذلك طبائع جميع الناس مؤثرة للذات كارهة لما يلتزمه أهل الشرائع والفلاسفة فبطل تعلقهم بشيء مجمع عليه ولم يحصل إلا على طمع خائب مخالفا لجميع الديانات غير متعلق لدليل لا عقلي ولا سمعي وقد قلنا أن العقول لا توجب شيئا ولا تقبحه ولا تحسنه وبرهان ذلك أن جميع أهل العقول إلا يسيرا فإنهم أصحاب شرائع وقد جاءت الشرائع بالقتل وأخذ المال وضرب الإنسان وذبح الحيوان فما قال قط أصحاب العقول أنها جاءت بخلاف ما في العقول ولا ادعى ذلك إلا أقل الناس ومن ليس عقله عيارا على عقل غيره ولو كان ذلك واجبا في العقول لوجده سائر أهل العقول كما قالوا هم سواء سواء فصح أن دعواهم على العقول كاذبة في باب التقبيح والتحسين جملة وهذا أكسر عام لنفس أقوالهم والحمد لله رب العالمين
ثم نذكر إن شاء الله تعالى البراهين على إبطال حججهم الشغبة المموه بها وبالله تعالى نتأيد
قال أبو محمد أما احتجاجهم بأن قالوا وجدنا أهل الديانات والآراء والمقالات كل طائفة تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالا بينهم فصح أنه ليس ههنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ولا اختلاف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوا بحواسهم وبداية عقولهم وكما هم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لائح واللائح الحق على مرور الزمان وكثرة البحث وطول المناظرات قالوا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس ظاهرا فيعاندوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قالوا فلما بطل هذا أن كل طائفة تتبع أما

ما نشأت عليه وأما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبيت ولا يقين قالوا وهذا مشاهد من كل ملة ونحلة وإن كان فيها ما لا يشك في بطلانه وسخافته
قال أبو محمد هذه جمل نحن نبين كل عقده منها ونوفيها حقا من البيان بتصحيح او إفساد بما لا يخفى على احد صحته وبالله تعالى التوفيق أما قولهم أن كل طائفة من أهل الديانات والآراء يناظر فينتصف وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على قدر قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب والتمويه فقول صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه على ما دعوه من تكافؤ الأدلة أصلا لأن غلبة الوقت ليست حجة ولا يقنع بها عالم محقق وإن كانت له ولا يلتفت إليها وإن كانت عليه وإنما نحتج بها ويغضب منها أهل المحرفة والجهال واهل الصباح والتهويل والتشنيع القانعون بأن يقال غلب فلان فلانا وأن فلانا لنظار جدال ولا يبالون بتحقيق حقيقة ولا بإبطال باطل فصح أن تغالب المتناظرين لا معنى له ولا يجب أن يعتد به لا سيما تجادل أهل زماننا الذين أما لهم نوب معدودة لا يتجاوزوزنها بكلمة وأما أن يغلب الصليب الرأس بكثرة الصياح والتوقح والتشنيع والجعات وأما كثير الهدر قوى على أن يملأ المجلس كلاما لا يتحصل منه معنى وأما الذي يعتقده أهل التحقيق الطالبون معرفة الأمور على ما هي عليه فهو أن يبحثوا فيما يطلبون معرفته على كل حجة احتج بها أهل فرقة في ذلك الباب فإذا نقضوها ولم يبقوا منها شيئا تأملوها كل حجة حجة فميزوا الشغبي منها والإقناعي فاطرحوهما وفتشوا البرهاني على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم بالتقريب في مائية البرهان وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وفي كتابنا هذا وفي كتابنا الموسوم بالأحكام في أصول الأحكام فإن من سلك تلك الطريق التي ذكرنا وميز في المبدأ ما يعرف بأول التمييز والحواس ثم ميز ما هو البرهان مما ليس برهانا ثم لم يقبل الأماكن برهانا راجعا رجوعا صحيحا ضروريا إلى ما أدرك بالحواس أو ببديهة التمييز وضرورة في كل مطلوب يطلبه فإن سارع الحق يلوح له واضحا ممتازا من كل باطل دون أشكال والحمد لله رب العالمين وأما من لم يفعل ما ذكرنا ولم يكن كده إلا نصر المسألة الحاضرة فقط آو نصر مذهب قد ألفه قبل أن يقوده إلى اعتقاده برهان فلم يجعل غرضه إلا طلب أدلة ذلك المذهب فقط فبعيد عن معرفة الحق عن الباطل ومثل هؤلاء غروا هؤلاء المخاذيل فظنوا أن كل بحث ونظو مجراهما هذا المجرى الذي عهدوه ممن ذكرونا فضلوا ضلالا بعيدا وأما قولهم فصح أنه ليس ها هنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على احد ولما اختلف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل ما عليه برهان لايح فقول أيضا مموه لأنه كله دعوى فاسدة بلا دليل وقد قلنا قبل في إبطال هذه الأقوال كلها بالبرهان بما فيه كفاية وهذا لا يمكن فيه تفصيل كل برهان على كل مطلوب لكن نقول جملة أن من عرف البرهان وميزه وطلب الحقيقة غير مايل بهوى ولا الف ولا نفار ولا كسل فمضمون له تمييز الحق وهذا كمن سأل عن البرهان على أشكال إقليدس فإنه لا أشكال في جوابه عن جميعها بقول مجمل لكن يقال له سل عن شكل شكل تخبر ببرهانه أو كمن سأل ما النحو وأراد أن يوقف على قوانينه جملة فإن هذا لا يمكن بأكثر من أن يقال له هو بيان حركات وحروف يتوصل باختلافها إلى معرفة مراد المخاطب باللغة العربية ثم لا يمكن توقيفه على حقيقة ذلك ولا إلى إثباته جملة إلا بالأخذ معه في مسألة مسألة وهكذا في هذا المكان الذي نحن فيه لا يمكن أن نبين جميع البرهان على كل مختلف فيه بأكثر من أن يقال له سل عن مسألة مسالة نبين لك برهانا يحول الله تعالى وقوته ثم تقول

لمن قال من هؤلاء أن ههنا قولا صحيحا واحدا لا شك فيه اخبرنا من أين عرفت ذلك ولعل الأمر كما يقول من قال أن جميع الأقوال كلها حق فإن قال لا لأنها لو كانت حقا لكان محالا ممتنعا لأن فيها إثبات الشيء وإبطاله معا ولو كان جميعها باطلا لكان كذلك أيضا سواء سواء وهو محال ممتنع لأن فيه أيضا إثبات الشيء وإبطاله معا وإذا ثبت إثبات الشيء بطل إبطاله بلا شك وإذا بطل إثباته ثبت إبطاله بلا شك فإذ قد بطل هذان القولان بيقين لم يبق بلا شك إلا أن فيه حقا بعينه وباطلا بعينه قلنا له صدقت وإذ الأمر كما قلت فإن هذا العقل الذي عرفت به في تلك الأقوال قولا صحيحا بلا شك به تميز ذلك القول الصحيح بعينه مما ليس بصحيح لأن الصحيح من الأقوال يشهد له العقل والحواس ببراهين ترده إلى العقل وإلى الحواس ردا صحيحا وأما الباطل فينقطع ويقف قبل أن يبلغ إلى العقل وإلى الحواس وهذا بين والحمد لله رب العالمين
وأما من أبطل أن يكون في الأقوال كلها قول صحيح فقد أخبرنا أنه مبطل للحقائق كلها متناقض لأنه يبطل الحق والباطل معا وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو كان ههنا قول صحيح لما أشكل على احد ولا اختلف فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم ولا في الحساب فإن هذا قول فاسد لأن أشكال الشيء على من أشكل عليه انما معناه أنه جهل حقيقة ذلك الشيء فقط وليس جهل من جهل حجة على من علم برهان هذا أنه ليس في العالم شيء إلا ويجهله بعض الناس كالمجانين والأطفال ومن غمره الجهال والبلدة ثم يتزيد الناس في الفهم فيفهم طائفة شيئا لا تفهمه المجانين وتفهم أخرى ما لا تفهمه هؤلاء وهكذا إلى أرفع مراتب العلم فكلما اختلف فيه فقد وقف على الحقيقة فيه من فهمه وإن كان خفي على غيره هذا أمر مشاهد محسوس في جميع العلوم وآفة ذلك ما قد ذكرنا قبل وهو أما قصور الفهم والبلادة وأما كسل عن تقصي البرهان وأما لألف أو نفار تعدا بصاحبهما عن الغاية المطلوبة أو تعدياها وهذه دواعي الاختلاف في كل ما اختلف فيه فإذا ارتفعت الموانع لاح البرهان بيقين فبطل ما شغبوا به والحمد لله رب العالمين
وأما قولهم كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وفي الحساب وفيما أدركوه ببداية عقولهم فقول غير مطرد والسبب في انقطاع اطراده هو أنه ليس في أكثر ما يدرك بالحواس وبداية العقول شيء يدعو إلى التنازع ولا إلى تقليديتها لك في نصره أو إبطاله وكذلك في الحساب حتى إذا صرنا إلى ما فيه تقليد مما يدرك بالحواس أو بأوائل التمييز وجد فيه من التنازع والمكابرة والمدافعة وجحد الضرورات كالذي يوجد فيما سواه كمكابرة النصارى واستهلاكهم في أن المسيح له طبيعتان ناسوتية ولاهوتية ثم منهم من يقول أن تلك الطبيعتين صارتا شيئا واحدا وصار اللاهوت ناسوتا تاما محدثا مخلوقا وصار الناسوت ألها تاما خالقا غير مخلوق ومنهم من يقول امتزج كامتزاج العرض بالجوهر ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج البطانة والظهارة وهذا حمق ومحال يدرك فساده بأول العقل وضرورته وكما تهالكت المنانية على ان الفلك في كل أفق من العالم لا يدور إلا كما يدور الرحى وهذا أمر يشاهد كذبه بالعيان وكما تهالكت اليهود على أن النيل الذي يحيط بأرض مصر وزويلة ومعادن الذهب وأن الفرات المحيط بأرض الموصل مخرجهما جميعا من عين واحدة من المشرق وهذا كذب يدرك بالحواس وكما تهالكت المجوس على آن الولادة كمن إنسان وأن مدينة واقفة من بنيان بعض ملوكهم بين السماء والأرض وكتهالك جميع العامة على آن السماء مستوية كالصحيفة لا مقبية مكورة وأن الأرض كذلك أيضا وأن الشمس تطلع على جميع الناس في جميع الأرض في ساعة واحدة وتغرب عنهم كذلك وهذا معلوم كذبه بالعيان وكتهالك الأشعرية وغيرهم ممن يدعى العلم والتوفيق فيه أن النار لا حر فيها وأن الثلج لا برد فيه وأن

الزجاج والحصا لهما طعم ورائحة وأن الخمر لا يسكر وأن ههنا أحوالا لا معدومة ولا موجودة ولا هي حق ولا هي باطل ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي معلومة ولا مجهولة وهذا كله معلوم كذبه وبطلانه بالحواس وبأول العقل وضرورته وتخليط لا يفهمه أحد ولا يتشكل في وهم أحد ولو لا أننا شاهدنا أكثر من ذكرنا لما صدقنا ان من له مسكة عقل ينطلق لسانه بهذا الجنون وكتهالك طوائف على أن اسمين يقعان على مسميين كل واحد من ذينك المسميين لا هو الاخر ولا هو غيره وكالسوفسطائية المنكرة للحقائق وأما الحساب فقد اختلف له في أشياء من التعديل ومن قطع الكواكب وهل الحركة لها أو لأفلاكها وأما الذي لا يخلو وقت من وجوده فخطا كثير من أهل الحساب في جمع الأعداد الكثيرة حتى يختلفوا اختلافا ظاهرا حتى إذا حقق النظر يظهر الحق من الباطل وهذا نفس ما يعرض في كل ما يدرك بالحواس فظهر بطلان تمويههم وتشبيههم جملة والحمد لله رب العالمين وصح ما أنكروه من أن كثيرا من الناس يغيبون عن اعتقاد ما شهدت له الحواس وينكرون أوائل العقول ويكابرون الضرورات أما أنهم كسلوا عن طلب البرهان وقطعوا بظنونهم وأما لأنهم زلوا عن طريق البرهان وظنوا أنهم عليه وأما لأنهم الفوا ما مالت اليه أهوائهم لألف شيء ونفار عن آخر وأما قولهم وللاح الحق على مرور الأزمان وكثرة البحث وطول المناظرات فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق نعم قد لاح الحق وبان ظن الباطل وأن كان كل طائفة تدعيه فإن من نظر على الطريق التي وصفنا صح عنده المحق المدعي من المبطل وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا معنى فقول فاسد لأنا قد رأيناهم أتوا أشياء بدا الحق فيها إلى الناس فعانده كثير منهم وبذلوا مهجهم فيه وكأنهم ما شاهدوا الأمر الذي ملا الأرض من المقاتلين الذين يعرفون بقلوبهم ويقرون بألسنتهم أنهم على باطل يقتتلون ويعترفون بأنهم بلغوا مهجهم ودماءهم وأموالهم وأديانهم ويموتون أولادهم ويرملون نساءهم في قتال عن سلطان غائب عن ذلك القتال لا يرجون زيادة درهم ولا يخاف كل امرئ منهم في ذاته تقصيرا به لو لم يقاتل أو لم يرو كثيرا من الناس يأكلون أشياء يوقنون بأنهم يستضرون بها ويكثرون شرب الخمر وهم يقرون أنها قد آذتهم وأفسدت أمزجتهم وأنها تؤديهم إلى التلاف وهم يقرون مع ذلك أنهم عاصون لله تعالى وكم رأينا من الموقنين بخلود العاصي في النار المحققين لذلك يقر على نفسه أنه يفعل ما يخلد به في النار فإن قالوا أن هؤلاء يستلذون ما يفعلون من ذلك قلنا لهم أن استلذاذ من يدين بشيء ما يبصره لما يدين به وتعصبه له أشد من استلذاذ الأكل والشرب لما يدري أنه يبلغه من ذلك ثم نقول لهم أخبرونا عن قولكم هذا أنه ليس ههنا قول سطعت حجته ولو كان لما اختلف الناس فيه أحق وهي هذه القضية التي قطعتم بها وهل قولك هذا ظاهر الحجة متيقن الحقيقة أم لا فإن قالوا لا أقروا بأن قولهم لم تصح حجته ولا لاح برهانا وأنه ليس حقا ما قالوه وأن قالوا بل هو حق قد لاحت حجته قلنا لهم كيف خولفتم في شيء لاحت حجته حتى صار اكثر أهل الأرض يعمون عما لا شك فيه عندكم وعن ما لاح الحق فيه حتى اعتقدوا فيكم الضلال والكفر وإباحة الدم وهذا هو نفس ما أنكروا قد صرحوا أنه حق والحمد لله رب العالمين وأما احتجاجهم بانتقال من ينتقل من مذهب إلى مذهب وتهالكه في إثباته ثم تهالكه في إبطاله ورومهم أن يفسدوا بهذا جميع البراهين فليس كما ظنوا لأن كل متنقل من مذهب إلى مذهب فلا يخلو ضرورة من أحد ثلاثة أوجه أما أن يكون انتقل من خطا إلى خطا أو من خطا إلى صواب أو من صواب إلى خطأ وأي ذلك كان فإنما أتى في الانتقالين

الاثنين الذين هما إلى الخطأ من أنه لم يطلب البرهان طلبا صحيحا بل عاجزا عنه بأحد الوجوه التي قدمنا قبل وأما الانتقال إلى الصواب فإنه وقع عليه بحد صحيح وطلب صحيح أو بحد وبحث وهذا يعرض فيما يدرك بالحواس كثيرا فيرى الإنسان شخصا من بعيد فيظنه فلانا ويحلف عليه ويكابر ويجرد ثم تبين له أنه ليس هو الذي ظن وقد يشم الإنسان رائحة يظنها من بعض الروائح ويقطع على ذلك ويحلف عليه مجدا ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن وهكذا في الذوق أيضا وقد يعرض هذا في الحساب فقد يغلط الحاسبون في جمع الأعداد الكثيرة فيقول أحدهم أن الجميع من هذه الأعداد كذا وكذا ويخالفه غيره في ذلك حق إذا بحثوا بحثا صحيحا صح الأمر عندهم وقد يعرض هذا للإنسان فيما بين يديه يطلب الشيء بين متاعه طلبا مرددا المرء بعد المرء فلا يجده ولا يقع عليه وهو بين يديه ونصب عينيه ثم يجده في أقرب مكان منه وقد يكتب الإنسان مستمليا أو يقرأ فيصحف ويزيد وينقص وليس هذا بموجب ألا يصح شيء بإدراك الحواس أبدا ولا ألا يصح وجود الإنسان شيئا افتقده أبدا ولا ألا يصح جمع الأعداد أبدا ولا ألا يصح حرف مكتوب ولا كلمة مقروءة أبدا لا مكان وجود الخطأ في بعض ذلك لكن التثبيت الصحيح يليخ الحق من الباطل وهكذا كل شيء أخطأ فيه ولا بد من برهان يليح الحق فيه من الباطل ولا يظن جاهل أن هذه المعاني كلها حجة لمبطلي الحقائق بل هي برهان عليهم لائح قاطع لأن كل ما ذكرنا لا يختلف حس أحد في أن كل ذلك إذا فتش تفتيشا صحيحا فإنه يقع اليقين والضرورة بأن الوهم فيها غير صحيح وأن الحق فيها ولا بد فبطل تعلقهم بمن رجع من مذهب إلى مذهب ولم يحصلوا إلا على أن قالوا أنا نرى قوما يخطئون فقلنا لهم نعم ويصيب آخرون فإقرارهم بوجود الخطأ موجب ضرورة أن ثم صوابا لأن الخطأ هو مخالفة الصواب فلو لم يكن صوابا لم يكن خطأ ولو لم يكن برهانا لم يكن شغب مخالف للبرهان ثم نعكس استدلالهم عليهم فنقول لهم وبالله تعالى نتأيد فإذ قد وجدتم من يعتقد ما أنتم عليه ثم يرجع عنه فهلا قلتم أن مذهبكم هذا كالأقوال الأخر التي أبطلتموها من أجل هذا الظن الفاسد في الحقيقة وهو في ظنكم صحيح فهو لكم لازم لأنكم صححتموه ولا يلزمنا لأننا لا نصححه ولا صححه برهان
قال أبو محمد وبهذا الذي قلنا يبطل ما اعترضوه به من اختلاف المدعين الفلسفة والمتحلين الكلام في مذاهبهم وما ذكروه من اختلاف المختارين أيضا في اختيارهم لأننا لم ندع أن طبائع الناس سليمة من الفساد لكنا نقول أن الغالب على طبائع الناس الفساد فإن المنصف لنفسه أولا ثم لخصمه ثانيا الطالب البرهان على حقيقة العارف به فدليل برهاننا على هذا ما وجدناه من اختلاف الناس واختلافهم كثيرا دليل على كثرة الخطأ منهم وقد وضحنا أن وجود الخطأ يقتضي ضرورة وجود الصواب منهم ولا بد وليس اختلافهم دليلا على أن لا حقيقة في شيء من أقوالهم ولا على امتناع وجود السبيل إلى معرفة الحق وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأنه لا يخلو من حقق شيئا من الديانات والمقالات والآراء من أن يكون صح له بالحواس أو ببعضها أو ببديهة العقل وضرورته أو بدليل من الأدلة غير هذين وأنه لو صح بالحواس أو بالعقل لم يختلف فيه وإلزامهم في الدليل مثل ذلك إلى آخر كلامهم فهذا كله مقرر قد مضى الكلام فيه وقد أريناهم أنه قد يختلف الناس فيما يدرك بالحواس وببديهة العقل كاختلافهم في الشخص يرونه ويختلفون فيه ما هو وفي الصوت يسمعونه بينهم فيما هو ويختلفون فيه وكأقوال النصارى وغيرهم مما يعلم بضرورة العقل فساده ثم نقول لهم أن أول المعارف هو ما أدرك بالحواس وببديهة العقل وضرورته ثم ينتج براهين راجعة من قرب

أو من بعد بعد إلى أول العقل أو إلى الحواس فما صححته هذه البراهين فهو حق وما لم تصححه هذه البراهين فهو غير صحيح ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق قولكم هذا بأي شيء علمتموه بالعقول أم بالحواس أو بدليل غيرهما فإن علمتموه بالحواس أو العقول فكيف خولفتم فيه وإن كنتم عرفتموه بدليل فذلك الدليل بما عرفتموه أبالحواس أم بالعقول أم بدليل آخر وهكذا أبدا وكل سؤال أفسد حكم نفسه فهو فاسد وعلى أن هذا لهم لازم لأنهم صححوه ومن صحح شيئا لزمه ونحن لم نصحح هذا السؤال فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه بما دفعه عنا وأما هم فلا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم نسألهم عن علمهم بما يدعون صحته أتعلمونه أم لا فإن قالوا لا نعلمه بطل قولهم إذا قروا بأنهم لا يعلمونه وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم علمتم علمكم بذلك أم بغير علم وهكذا أبدا فهذا أمر قد أحكمنا بيان فساده في باب أفردناه في ديواننا هذا على أصحاب معمر في قولهم بالمعاني وعلى الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة في قولهم بالأحوال وإنما كلامنا هذا مع من يقول بتكافؤ الأدلة
قال أبو محمد وهذا السؤال نفسه مردود عليهم كما هو ونسألهم أتعلمون صحة مذهبكم هذا أم لا فإن قالوا لا أقروا بأنهم لا يعلمون صحته وفي هذا إبطاله والله أنما هو ظن لا حقيقة وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم تعلمونه أم بغير علم وهكذا أبدا إلا أن السؤال لازم لهم لأنهم صححوه ومن صحح شيئا لزمه وأما نحن فلم نصححه فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه في بابه بأننا نعلم صحة علمنا بعلمنا ذلك بعينه لا بعلم آخر ونعقل أن لنا عقلا بعقلنا ذلك بنفسه وإنما هو سؤال من يبطل الحقائق كلها لا من يقول بتكافؤ الأدلة فبطل كل ما موهوا به والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد ثم نقول لهم أنتم فد أثبتم الحقائق وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها وهم السوفسطائية وعلمتم أنهم مخطئون في ذلك ببراهين صحاح فبراهين صحاح أيضا صح ما أبطلتموه أو شككتم فيه من أن في مذاهب الناس مذهبا ظاهر صحيحا الصحة فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة
قال أبو محمد ويقال لمن قال لكل ذي ملة أو نحلة أو مذهب لعلك مخطئ وأنت تظن أنك مصيب لأن هذا ممكن في كثير من الأقوال بلا شك أخبرنا أفي الناس من فسد دماغه وهو يظن أنه صحيح الدماغ فإن أنكر ذلك كابر ودفع المشاهدات وأن قال هذا ممكن قيل له لعلك أنت الآن كذلك وأنت تظن أنك سالم الدماغ فإن قال لا لأن ها هنا براهين تصحح أني سالم الذهن قيل له وها هنا براهين تصحح الصحيح من الأقوال وتبينه من الفاسد فإن سأل عنها أجبت بها في مسألة مسألة
قال أبو محمد فإذ قد بطل بيقين أن تكون جميع أقوال الناس صحيحه لأن في هذا أن يكون الشيء باطلا حقا معا وبطل أن تكون كلها باطلا لأن في هذا أيضا إثبات الشيء وضده معا لأن الأقوال كلها إنما هي نفي شيء يثبته آخر من الناس فلو كان كلا الأمرين باطلا لبطل النفي في الشيء وإثباته معا وإذا بطل إثباته صح نفيه وإذا بطل نفيه صح إثباته فكان يلزم من هذا أيضا أن يكون الشيء حقا باطلا معا تثبت بيقين أن في الأقوال حقا وباطلا وإذ هذا لا شك فيه فبالضرورة نعرف أن بين الحق والباطل فرقا موجودا وذلك الفرق هو البرهان فمن عرف البرهان عرف الحق من الباطل وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنكم محيلون على براهين تقولون أن ذكرها جملة لا يمكن وتأمرون بالجد في طلبها فما الفرق بينكم وبين دعاة الإسماعيلية والقرامطة الذين يحيلون على مثل هذا قلنا لهم الفرق بيننا وبينهم برهانان

واضحان أحدهما أن القوم يأمرون باعتقاد أقوالهم وتصديقهم قبل أن يعرفوا براهينهم ونحن لا نفعل هذا بل ندعوا إلى معرفة البراهين وتصحيحها قبل أن نصدق فيما نقول والثاني أن القوم يكتمون أقوالهم وبراهينهم معا ولا يبيحونها للسبر والنظر ونحن نهتف بأقوالنا وبراهيننا لكل أحد وندعوا إلى سبرها وتقبيسها وأخذها إن صحت ورفضها إن لم تصح والحمد لله رب العالمين ولسنا نقول أننا لا نقدر أن نحد براهيننا بحد جامع مبين لها بل نقدر على ذلك وهو أن البرهان المفرق بين الحق والباطل في كل ما اختلفوا فيه أن يرجع رجوعا صحيحا متيقنا إلى الحواس أو إلى العقل من قرب أو من بعد رجوعا صحيحا لا يحتمل ولا يمكن فيه إلا ذلك العمل فهو برهان وهو حق متيقن وأن لم يرجع كما ذكرنا إلى الحواس أو إلى العقل فليس برهانا ولا ينبغي أن تشتغل به فإنما هو دعوى كاذبة وبالله تعالى التوفيق وبهذا سقط القياس والتقليد لأنه لا يقدر القائلون بهما على برهان في تصحيحهما يرجع إلى الحواس أو إلى أول العقل رجوعا متيقنا
قال أبو محمد ونحن نقول قولا كافيا بعون الله وقوته وهو أن أول كل ما اختلفت فيه من غير الشريعة ومن تصحيح حدوث العالم وأن له محدثا واحدا لم يزل ومن تصحيح النبوة ثم تصحيح نبوة محمد صلى الله عليه و سلم فإن براهين كل ذلك راجعة رجوعا صحيحا ضروريا إلى الحواس وضرورة العقل فما لم يكن كذا فليس بشيء ولا هو برهانا وإن كان ما اختلف فيه من الشريعة بعد صحة جملها فإن براهين كل ذلك راجعة إلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله تعالى إذ هو المبعوث إلينا بالشريعة فما لم يكن هكذا فليس برهانا ولا هو شيئا وفي أول ديواننا هذا باب في ماهية البراهين الموصلة إلى معرفة الحقيقة في كل ما اختلف الناس فيه فإذا أضيف إلى هذا ارتفع الأشكال والحمد لله رب العالمين

الكلام في الألوان
قال أبو محمد الأرض غبراء وفيها حمراء وفيها بيضاء وصفراء وخضراء وسوداء وموشاة والماء كله أبيض إلا أن يكتسب لونا بما استضاف إليه لفرط صفائه فيكتسي لون إنائه أو ما هو فيه وإنما قلنا أنه أبيض لبراهين
أحدها أنه إذا صب في الهواء بهرق ظهر أبيض صافي البياض
والثاني في أنه جمد فصار ثلجا أو بردا ظهر أبيض شديد البياض وأما الهواء فلا لون له أصلا ولذلك لا يرى لأنه لا يرى إلا اللون وقد زعم قوم أنه إنما لا يرى لا نطباقه على البصر وهذا فاسد جدا وبرهان ذلك أن المرء يغوص في الماء الصافي ويفتح عينيه فيه فيرى الماء وهو منطبق على بصره لا حائل بينهما لا يرى الهواء في تلك الحال وأن استلقى على ظهره في الماء وهذا أمر مشاهد وأما الذي يرى عند دخول خط ضياء الشمس من كوة فإنما هو أن الأجسام تنحل منها أبدا أجزاء صغار وهي التي تسمى الهباء فإذا انحصر خط ضياء الشمس وقع البصر على تلك الأجزاء الصغار وهي متكاثفة جدا ولونها الغبرة فهي التي ترى لأما سواها ومن تأمل هذا عرفه يقينا وأن البيوت مملوءة من هذا الضياء المنحل من لأرض والثياب والأبدان وسائر الأجرام ولكن لدقتها لا ترى إلا أن انحصر خط الشمس فيرى ما في ذلك الانحصار منها فقط وأما النار فلا ترى أيضا لأنه لا لون لها في فلكها وأم المرئية عندنا في الحطب والفتيلة وسائر ما يحترق فإنما هي رطوبات ذلك المحترق يستحيل هواء فيه نارية فتكتسب ألوانا بمقدارما تعطيها طبيعتها فتراها خضراء ولا وردية وحمراء وبيضاء وصفراء وبالله تعالى التوفيق وهذا يعرض للرطوبات المتولد منها دائرة قوس قزح

قال أبو محمد أجمع جميع المتقدمين بعد التحقيق بالبرهان على انه لا يرى إلا الألوان وأن كل ما يرى فليس إلا لونا وحدوا بعد ذلك البياض بأنه لون يفرق البصر وحدوا السواد بأنه لون يجمع البصر
قال أبو محمد وهذا حد وقعت فيه مسامحة وإنما خرجوه على قول العامة في لون السواد ومعنى يجمع البصر أنه يقبضه في داخل الناظر ويمنع من انتشاره ومن تشكل المرئيات وإذا هذا معنى القبض بلا شك فهو معني منع البصر والإدراك وكفه ومن هذا سمي المكفوف مكفوفا فإذا السواد يمنع البصر من الانتشار ويقبضه عن الانبساط ويكفه عن الإدراك وهذا كله معنى واحد وأن اختلفت العبارات في بيانه فالسواد بلا شك غير مرئي إذ لو رؤي لم يقبض خط البصر إذ لا رؤية إلا بامتداد البصر فإذ هو غير مرئي فالسواد ليس لونا إذ اللون مرئي ولا بد وما لم ير فليس لونا وهذا برهان عقلي ضروري وبرهان آخر حسي وهو أن الظلمة إذا أطبقت فلا فرق حينئذ بين المفتوح العينين السالم النظرين وبين الأعمى المنطبق والمسدود العينين سدا أو كفا فإذ ذلك كذلك فالظلمة لا ترى ومن الباطل الممتنع أن تكون ترى الظلمة وبالحس نعلم أن المنطبق العينين فيها بمنزلة واحدة من عدم الرؤية ومع المفتوح العينين فيها والظلمة هي السواد نفسه فمن ادعى أنهما متغايران فقد كابر العينان وادعى مالا يأتي عليه بدليل أبدا ونحن نجد ان لو فتح في حائط بيت مغلق كوتان ثم جعل على أحداهما ستر أسود وتركت الأخرى مكشوفة لما فرق الناظر من بعد بينهما أصلا ولو جعل على أحداهما ستر أحمر أو أصفر أو أبيض لتبين ذلك للناظر يقينا من بعد أو قرب وهذا بيان أن السواد والظلمة سواء وبرهان آخر حسي وهو أن خطوط البصر إذا استوت فلا بد من أن تقع على شيء ما لم يقف فيه مانع من تماديها ونحن نشاهد من بين يديه ظلمة أو هو فيها لا يقع بصره على حائط أن كان في الظلمة وسواء كان فيها حائط مانع من تمادي خط البصر أو لم يكن فصح يقينا أن الظلمة لا ترى بل هي مانعة من الرؤية والظلمة هي السواد والسواد هو الظلمة لم يختلف قط في هذا اثنان لا بطبيعة ولا بشريعة ولا في معنى اللغة ولا بالمشاهدة فقد صح أن السواد لا يرى أصلا وأنه ليس لونا
قال أبو محمد وإنما وقع الغلط على من ظن أن السواد يرى لأنه أحس بوقوع خطوط البصر على ما حوالي الشيء الأسود من سائر الألوان فعلم بتوسط إدراكه ما حوالي الأسود أن بين تلك النهايات شيئا خارجا عن تلك الألوان فقدر أنه يراه ومن ها هنا عظم غلط جماعة ادعوا بظنونهم من الجهة التي ذكرنا أنهم يرون الحركات والسكون في الأجرام والأمر في كل ذلك وفي الأسود واحد ولا فرق فإن قال قائل أنه إن كان في جسم الأسود زيادة ناتئة سوداء كسائر جسده رأيناها فلو لم تر لم تعلم بنتوء تلك الهيئة الناتئة له على سطح جسده قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا أيضا وهم لأنه لما لم يمتد خط البصر عند قبض تلك الهيئة الناتئة له وامتدت سائر الخطوط إلى أبعد من تلك المسافة وعلمت النفس بذلك توهم من لم يحقق أن هذه رؤية وليست كذلك وتوهموا أيضا أنهم يرون السواد ممازجا لحمرة أو لغبرة أو لخضرة أو لصفرة أو لزرقة فإذا كان هكذا فإن البصر يرى ما في ذلك السطح من هذه الألوان على حسب قوتها وضعفها فقط فيتوهمون من ذلك أنهم رأوا السواد ويتوهمون أيضا أنهم يرونه لأنهم قالوا نحن نميز الأسود البراق البصيص واللمعان من الأسود إلا كدر الغليظ
قال أبو محمد وهذا مكان ينبغي أن نتثبت فيه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الأملاس

هو استواء أجزاء السطح والخشونة هي تباين أجزاء السطح وقد نجد أملس لماعا وأملس كدرا فإذ ذلك كذلك فالبصيص واللمعان شيء آخر غير استواء أجزاء السطح وإذ هو كذلك وهو مرئي فالبصيص بلا شك لون آخر محمول في اللون بالحمرة أو الصفرة أو سائر الألوان وفيما عري من جميع الألوان سواء فإذا قلنا أسود لماع فإنما تريد أنه ليس فيه من الألوان إلا اللمعان فقط فهو لون صحيح وقد عرى من الحمرة ومن الصفرة ومن البياض والخضرة والزرقة ومما تولد من امتزاج هذه الألوان ولعل الكدرة أيضا لون آخر مرئي كاللمعان وهي أيضا غير سائر الألوان فهذا ما لا يوجد ما يمنع منه بل الدليل يثبت أن الكدرة أيضا لون وهو وقوع البصر عليها وهو لا يقع إلا على لون ومن أبى من هذا كلفناه أن يحد لنا اللمعان والكدرة فإنه لا يقدر على شيء أصلا غير ما قلنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنا نرى الثوب الأسود يستبين نسج خيوطه ونتوء ما نتأ منها وانخفاض ما انخفض فلولا أنه يرى ما علم ذلك كله فالجواب وبالله التوفيق أنا قد علمنا أن خطوط البصر تخرج من الناظر ولها مساحة ما وبعضها أطول من بعض بلا شك لأن الخطوط الخارجة من البصر إلى السماء أطول من الخطوط الخارجة من البصر إلى الجليس لك بلا شك فلما خرجت خطوط البصر إلى الثوب المذكور انقطع تمادي بعضها أكثر من تمادي البعض فبالحس علمنا هذا لا لأن بصرنا وقع على لون أصلا وأيضا فإن النور هو اللون الذي طبعه بسط قوة الناظر واستخراج قوى البصر حتى أنه إذا وافق ناظرا ضعيف البنية بطبعه أو بعرض اجتلب جميعه واستلبه كله أو اقتطفه فعلى قدر قوة النور في اللون المرئي وضعفه فيه يكون وقوع البصر عليه هذا أمر مشاهد بالعيان فكلما قل النور في اللون كان وقوع البصر عليه أضعف وكانت الرؤية له أقل حتى إذا عدم النور جملة ولم يبق منه شيء فقد بطل بالضرورة أن يمتد خطوط البصر إليه وأن يقع الناظر عليه إذ لا نور فيه ولا يختلف ذو حس في العالم في أن السواد المحض الخالص ليس فيه شيء من النور فإذ لا شك في هذا فلا شك في أنه يرى وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن جبلا ذا لون ما وأرضا ذات لون ما وفيها غاران مظلمان لا شك أن كل ناظر إليهما فإنه لا يرى إلا ما حول الغارين وأنه لا يرى ما ضمه خط الغارين فإذ هذه كلها براهين ضرورية مشاهدة حسية عقلية فالبرهان لا يعارضه برهان أصلا والبرهان لا يعارض بالدعوى ولا بالظنون والحمد لله رب العالمين وأما من كلام الله تعالى فالله يقول ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها وقوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا فصح يقينا أن الظلمة مانعة من النظر والرؤية جملة وهو السواد بلا شك فهو لا يرى ولا خلاف في أن البصر القليل يداوى بالثوب الأسود والقعود في الظلمة وليس ذلك إلا لمنعه من امتداد خط بصره فيكل بامتداده وبالله تعالى التوفيق فإن قيل السواد غير الظلمة قلنا أنا نجد الأرمد الشديد الرمد متى صار في بيت مظلم شديد الانطباق لا يدخله شيء من الضوء أمكنه فتح عينيه بحسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه ومتى جعلناه في بيت مضيء وعلى وجهه وعينيه ثوب كثيف جدا أسود أمكنه فتح عينيه حسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه وكانت حاله في تغطية وجهه بذلك الثوب كحاله في الظلمة التامة سواء سواء وكذلك يعرض للصحيح البصر في الحالتين المذكورتين ولا فرق ومتى جعلنا على بصر الأرمد ثوبا أبيض ألم ألما شديدا كألمه إذا نظر في الضوء ولا فرق فإن جعلنا على وجهه ثوبا أصفر ألم دون ذلك وأن كان أحمر ألم دون ذلك فإن كان أخضرا ألم دون ذلك على قدرهما في اللون من ممازجة البياض له فصح أن السواد والظلام شيء واحد وقال بعض أصحابنا بالسواد غير الظلمة وهو لا يرى إلا أن

الزنجي والغراب والثوب ليس شيء من ذلك أسود وكل ذلك يرى ولون كل ما ذكرنا لون غير السواد إلا أنه سمي باسم السواد مجازا وقال بعضهم السواد اسم مشترك يقع على الظلمة ويقع على لون الزنجي والغراب والثوب فكل ظلام سواد وليس كل سواد ظلاما فإن عنيت بالسواد لون الزنجي والغراب والثوب فهو يرى وهو غير الظلمة وأن عنيت بالسواد الظلمة فهو لا يرى وقال بعضهم الظلمة لا ترى وليست سوادا أصلا والسواد شيء آخر غير الظلمة وهو لون يرى وقال بعضهم الظلمة والسواد شيء واحدا وكلاهما يرى وأقروا بأن الأعمى والأكمه والمفقوء العينين والمطبق العينين يرى الظلمة

الكلام في المتوالد والمتولد
قال أبو محمد الحيوان كله ينقسم أقساما ثلاثة متوالد ولا بد ولا ومتولد ولا بد لا يتوالد وقسم ثالث يتوالد ويتولد أيضا فأما المتولد يتولد ومتولد فكبنات وردان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكالعجلان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكثير من الحيوان المتولد في النبات وقد رأيناه يتسافد ومثل القمل فإنا قد شاهدناه يخرج من تحت الجلد عيانا ويحدث في الرؤس وقد يتوالد وقد نجد بعضه إذا قطع ممروء بيضا وأما المتولد الذي لا يتوالد فالحيوان المتولد في أصول أشفار العينين وأصول شعر الشارب واللحية والصدر والعانة وهو ذو أرجل كثيرة لا يفارق موضعه وما علمناه يتوالد أصلا ومثل الصفار المتولد في البطن وشحمة الأرض وكل هذا لا نعلمه يتوالد البتة وقد شاهدنا ضفادع صغارا تتولد من ليلتها فتصبح مناقع المياه منها مملوءة ومنها الثلماندرية وهو حيوان كبير يشبه الجراذين الصغار بطيئة الحركة وحيوانات كثيرة منها صغير مفرط الصغر يكاد لصغره لا يتجزأ مثلما كثيرا رأيناه في الدوي والدفاتر وهو سريع المشي جدا ومها السوس المتولد في الباقلا والدود المتولد في الجراحات وفي الحمص والبلوط وفي التفاح وبين الحشيش وبين الصنوبر وفي الكنف وهي ذوات الأذناب والحباحب المتولد في الخضر وهو في غاية الحسن ومنه ما يضيء بالليل كأنه شرارة نار والدود ذوات الأرجل الكثيرة والذراريح وهذا كثير لا يحصيه لا خالقه عز و جل ومنها الضفادع والحجازب فقد صح عندنا يقينا لا مجال للشك فيه أنها تتولد في مناقع المياه دويبات صغار ملس شديدة السواد ذوات أذناب تمشي عندنا ثم صح عندنا كذلك أنها تكبر فنقطع أذنابها وتتبدل ألوانها وتستحيل أشكالها وتعظم فتصير ضفادع ثم تزيد كبرا واستحالة ألوان فتصير حجازب
قال أبو محمد قد رأيتها في جميع تنقلها كما وصفنا وقد عرض علينا في مناقع المياه خطوط ظاهرة قيل لنا أنها بيض الضفادع وأما الذباب فقد شاهدناها عيانا تتناكح والأنثى منها هي الكبار والذكور هي الصغار وشاهدنا البراغيث تتناكح أيضا والكبار هي الإناث والذكور هي الصغار نشاهد ذلك بأن الأعلى هو الصغير أبدا ونجد الأنثى مملوءة بيضا إذا وضعت فتلقي بيضها في القباب وفي خلال أجزاء الثياب ثم يخرج
قال أبو محمد وقد رأينا ذبابا صغارا جدا وذبابا كبارا مفرط الكبر وشاهدنا بأبصارنا الدود الطويل الذنب المتولد في الكنف وبزول البقر والغنم يستحيل فيصير فراشا طيارا مختلف الألوان بديع الخلقة من ابيض وأصفر فاقع وأخضر ولا زودي منقط ولا ندري كيف الحال في العقارب والعناكب والرتيلات والبقوقات والدبر ألا أننا ندري أن دود الحرير يتوالد يتسافد الذكور منها والإناث وتبيض ثم تحضن بيضها هذا مالا خلاف فيه وما رأى أحد قط دود حرير يتولد من غير بيضه وكذلك النمل فإنه يتوالد وقد رأينا بيضه والعرب تسميه المازن وكذلك النحل يتوالد ويوجد في مواضع من

بنائه في تضاعيفه القبر الذي فيه العسل وكذلك الجراد والعرب تسميه بيضة الصرد
قال أبو محمد وما رأى أحد قط نحلا يتولد ولا نملا يتولد ولا جرادا يتولد الا في اكذوبات لا تصح وأما سائر الحيوان فمتوالد ولابد من منى أو بيض فكل ذي أذن بارزة يلد طائرا كان أو غير طائر كالخفاش غيره وكل ما ليس له أذن بارزة فهو يبيض طائرا كان أو غير طائر كالحيات والجراذين والوزغ وغير ذلك
قال أبو محمد فطلبنا أن نجد حدا يجمع ما يتولد دون ما يتوالد أو ما يتوالد دون ما يتولد فلم نجد الا أننا رأينا كل ذي عظم وفقارات لا سبيل البتة الى ان يوجد من غير تناكح كحيوان البحر الذي له العظم والفقارات ورأينا مالا عظم له ولا فقار فمنه ما يتولد ولا يتوالد ومنه ما يتولد ويتوالد معا وكل ذلك خلق الله عز و جل يخلق ما شاء كما شاء لا اله الا هو وليست القدرة في الخلق في خلق ما خلقه الله عز و جل حيوانا ذا أربع أو ذا ريش من بيضة أو من منى بأعظم من القدرة من خلقها من تراب دون توسط بيضة ولا منى ولا البرهان عن الصنع والابتداء في إحداهما بأوضح منه في الآخر بل كل لك برهان على ابتداء الخلقة وعلى عظيم القدرة من الباري لا اله الا هو
قال أبو محمد وقد ادعى قوم انه يتولد في الثلج حيوان ويتولد في النار حيوان وهذا كذب وباطل وانما قاسوه على تولد حيوان ما في الأرض والماء والقياس باطل لانه دعوى بلا برهان وما لا برهان له فليس بشيء وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وإذا حصلت الأمر فالحيوان لا يتولد من الماء وحده ولا من الأرض وحدها ولكن مما يجتمع من الأرض والماء معا فتبارك الله احسن الخالقين ولا معقب لحكمه لا اله غيره عز و جل تم السفر الثالث بتمام جميع الديوان من الفصل في الملل والآراء والنحل بحمد الله وشكره علي حسن تأييده وعونه وافق الفراغ منه في تسعة أيام خلت من شهر ذي القعدة سنة 1271 إحدى وسبعين ومائتين بعد الألف من هجرة من له العز والشرف على يد الفقير الى الله محمد بن موسى غفر الله له ولوالديه وللمسلمين آمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

أقسام الكتاب

1 2 3 4