كتاب : زهر الأكم في الأمثال و الحكم
المؤلف : اليوسي

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه
سبحان الله المتعالي عن الأشباه والأمثال، والحمد لله ذي الفضل العظيم والكرم المنثال، ولا إله إلا الله المتوحد بالكبرياء والأثال، والله اكبر أن يتطاول إلى سميّ جلاله خيالٌ أو مثال. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، نحمده على ما أسدى من جزيل الرغائب، وأجدى من جميل المواهب، وسنّى من جليل المآرب، وأسنى من كميل المراتب، وأولى من الجميل العميم. ونشكره على أفئدة بنور الأيمان هداها، والسنة أطال في شأو البيان مداها، وبصائر أسام سرحها إلى مراتع العبر وحداها، وانتجع بها مواقع غيث الفكر وجداها؛ حتى أصبحت نشوى من كؤوس العرفان تهيم، وتجلوا بلوامع التبيان كل ليل بهيم، ونصلّي على نبيه محمّد المختار المقتعد حقا ذروة الكمال والفخار، والمرتدي برداء الجلال والإكبار، والمبتعث من أطيب عنصر وأكرم نجار، في حسب حسيب وشرف قديم. الذي أنار بطلعته الغراء علم المهتدين، وسمك بعزته القعساء منار الدين، وثل بشرعته البضاء عروش الجاحدين والحائدين، واستأصل بشوكته الشوكاء شأفة العادين، وجعلة صفوة الصفوة، ونخبة النخبة، وسرَّ السر، وخلاصة الخلاصة، ومصاصة المصاصة، ولباب اللباب، وخيار الخيار، وصميم الصميم. صلى الله عيه صلاة تلوح في أفق مكانته العلياء قمرا، وتفوح على طلعته الغراء عنبرا، وتنهمل في جناب مجاته الفيحاء كوثراً، وتخضل في روضتة جماله الغناء زهرا، ما هب نسيم، وذهب ذو رسيم. وعلى اله الأماثل، وأعلام الدين القويم، والصراط المستقيم، ما بدا على وجنات الورد تخجيل، من رشفات النسيم البليل، واصفر روعة وجه الأصيل، من لحظات طرف الليل الكحيل، وأسفر الصباح عن ثغر بسيم، ومنظر وسيم.
أما بعد، فان العلم انفس علق يقتنى، وأحلى ثمر يجتنى؛ وأعدل حجة، وأقوم حجة، وأحصن جنة، وأضوء بدر في دجنة؛ وأربح متجر مثابر عليه، وأنجع مرعى ينتجع إليه؛ وأرجى بارق يشتام، وأفضل جناب يعتام؛ وأنور نور يستضاء به في الظلومات، وامنع وزر يعتصم به في الأزمات؛ وأوثق عروة يستمسك بها ذوو البصائر، وأعظم عدة تعقد عليها الخناصير؛ وأقوى مطية تركب، وأتم سلاح يتنكب؛ وأطيب نسمة تستنشق، وأجمل محبوب يعلق؛ وأبهى زينة يتحلى بها المتحلون، وارفع منصة يتجلى عليها المتجلون.
فإن العلم غذاء العقل، وبه يعرف الحكم العدل؛ وإنّ الخصيصى التي بها شرف الإنسان إنّما هي العلم؛ فان المرء لو بلغ في كمال الجسم أطوريه، لا يكون أنسانا إلاّ بأصغريه:
لولا العقول لكان أدنى ضيعة ... أدنى إلى شرف من الإنسان
وما امتاز اللسن الذكي عن العييى إلاّ برجاحة الجنان، وفصاحة اللسان؛ فان الخليق للأفكار عند افتراعها المعاني الأبكار؛ والجدير للألسنة عند اقتطافها أزاهير البيان، واهتصارها أفانين التبيان، أن يتميز فيها الفائق من المائق، والسابق من السائق؛ وعند السياق في ميدانها الوثيم، أن يتجلى المجلى عن اللطيم، وعند مزاولة الغرض المعضل، أن يعرف المقرطس من المخضل. وعند انتياش مضارب الأفهام، أن يمتاز الصارم عن الكهام؛ وعند اقتباس حكمة تستشعر، أن يشرف المورى عن الأدعر؛ وعند اقتسام مزايا الفضل الفسيح، أن يفوز المعلى دون السفيح؛ وعند استفتاح المغالق، وتغشي المضائق، أن يعلم المجحم من المحجم، والهصور من الحصور. فلا جرم كان من اجل العلوم وأفخرها، وأحقها بالاعتناء به وأجدرها، علم الأدب، والتضلع من كلام العرب، إذ به تنحل عقله اللسان، وتزاح روعة الجنان. وهو لسان نبينا نخبة العالم، وصفوة ولد آدم، وكتابه الذي أخرس به مصاقع البيان، من بلغاء عدنان وقحطان، حتى عدلوا عن المجادلة إلى الطعان، وعن المعارضة إلى الادغان. صلى الله وسلم عليه وعلى آله ما لمع بارق، وطلع شارق، فهو لعمري أجل الكلام، وأشرف ما اعتورته الألسنة والأفهام، وأبها بدر يستجلى وعروس، وأسنى أثر يستبقى في ميادين الطروس. لا سيما علم أمثالها التي هي زمام كل معنى، ومناط لك مبنى، ومنار لك مرمى، ومصباح كل ظلما. وبها يرتاض كل جموح، ويصبح المنبهم ذا وضوح، وبها يعود الغائب مشهودا بل المعدوم موجودا.

وكان الأقدمون بهذا الفن معتنين، ولنوادره ملقنين، ومدونين، يردون مواردها، ويقتنصون شواردها؛ ويقتطفون أزهارها النضرة، ويتنسمون نسماتها العطرة؛ ويرتشفون ثغورها، ويقتبسون نورها؛ ويشيمون لمحات تلك البوارق، ويشمون بدررها صفحات المهارق. فلما طال العهد بأزمان العرب، وقضى من تناسي أيامها كل أرب، تغلبت العجمة على الألسنة والطباع، فخلت من قطينها هاتيك الرباع، وأصبحت حديثا مهجورا، كأن لم تكن شيئا مذكورا، وعادت أيامها محض أوهام، فكأنها وكأنهم أحلام، وتقلص ضافي بردها، وتكدر صافي وردها، وذهبت المعارف والعوارف، وتقلص ظلها الوارف؛ وأمست رباع الأدب قفرا، وراحت الخواطر منه صفرا.
وكانت نفس تشوقني إلى هذا الفن ومآثره، وتنازعني إلى تتبع داثره. فكنت أشتاق أن أرى في هذا موضوعا، وأصادف كتابا مجموعا، مما عني به الأقدمون، واقتفى أثرهم فيه المتأخرون. فلم يسمح بذلك الدهر العقيم، ولم يظفر بشيء منه الجد السقيم. ولما لم أذق من ذلك لملقا، ولم يزدد القلب إلاّ اشتياقا، طفقت أجول في عرصات كتب الأدب، وكل ما له ماسة بكلام العرب. ولم أزل أتتبع ظلالها، واشتف بلالها، وأرعاها قنناً ووهادا، وأنتجعها فتوحا وعهادا؛ وأحتلبها شصائص وشكارى، وأعتنقها عونا وأبكارا، حتى التقطت من ثمين جوهرها، واقتطفت من يغيع زهرها، ما يشفي العليل، وينقع الغليل، ويميس ميس الغصن المروح، ويسري في الجسوم مسرى الروح. فلما امتلأ بحمد الله من ذلك الوطاب، وعاد البلح إلى الأرطاب، هممت أن أجمع ما علق في هذا الوقت بخاطري، مما ترقى إليه نظري وناظري، في كن يؤويه، ومجموع يحويه، حذارا من النسيان، عند تطاول الزمان. فألفت هذا المجموع في الأمثال، وأود عته كل دمية وتمثال. ثم رأيت أن أضم إليها من الحكم جملة مما انتهيت إليه، ووقفت عند تطوافي عليه، وتتميما للفائدة، وتكميلا للعائدة، مع قرب ما بين النوعين جدا، كما ستقف عليه عند التعرض لهما فصلا واحدا. فجاء بحمد الله كتابا ممتعا، للآذان الصم مسمعا:
جمهت به والجفن مغض على القذى ... وبالخد البلبال أصبح ذا خلدِ
محاسن تزوي بالنسيم إذا سري ... فحيى محيا السوسن الغض والوردِ
وتزري بهاء بالمطير من الربى ... وبالعذب للصادي وبالكاعب الرادِ
لآلئ ما غواصها بمصادف ... لها صدفا في ملتفى أبحر الهندِ
ولا حليت يوما بها جيد غاده ... ولا فصلت بالعسجد الصرد في عقدِ
فرائد ما منهن إلاّ جريدة ... أعز على المرتاد في الأبلق الفردِ
ومع هذا فإني اعتذر لذوي النفوس الوقادة، والصيارفة النقادة، من تقصير فيه، وخلل لم يتفق تلافيه. وكيف لا يعذر ذو بال متقسم، ووبال متكسم، وشخص لا يبين لمتوسم، مكلوم بفاغر من الخطوب متبسم، يرمق العيش برضا، ويقطع بسيط الحيرة طولا وعرضا، لا يترجى مددا، إلاّ كمدا. ولا يغتيق إلاّ عبرة، ولا يعتلف إلاّ زفرة، ولا يعد إلاّ ذنوب الدهر، ولا يعد إلاّ ذنوب نهر، في فتن تحول بين المرء وقلبه، وتذهل غيلان عن حبه، ودهر حال دون القريض، بالشجى والجريض، ورد الأوج إلى الحضيض، ولم يجعل بدا من مصادقة البغيض، وأعاد الصدور أعقابا، والنواصي أذنابا، وكدر كل صفو، وأورث كل شجو، وخلف من بينه كجلد الأجرب، وزباني العقرب، لا يتجرعون إلاّ علاقم، ولا يلتمسون إلاّ أراقم؛ أما أذنابها فرعراع، وشر شعاع، وفتنه وردها قعاع، وظلمة ليس بها شعاع؛ وأما ذراها فلا تعدو رضيعا تبكي المخالص الجرب لمصابه، وتشكو الصفر والبيض يد الضياع لصفر وطابه، وخليعا يذهب دهره ما بين الرخ والرخة، والفخ والفخة، وكلا النوعين قد أنزلهما أسود العين طرفه، وتضمنتهما القمران المشتبهان في بيت طرفة.

وكان الأدب وسائر العلوم قديما إنّما يحيي غراسها، ويسني مراسها، ويطيب أنفاسها، ويحبب نفاسها الفضل، الهام والعدل الحام. فأما اليوم فلا ندى يستثمر الإبداع، ولا انتصاف يتلافى الانصداع. فأي علم يترجى، ممن زوال الروع عنده منتهى الرجا؟ قنوع من الغنيمة بالإياب، ومن الايراب، بنفاضة الجراب، ومن الشراب، بلمحة السراب. وكيف يمكن لمثلي أن يجمع بين كلمتين، فضلا عن فصلين؟ لكن لمّا لم يكن التجرع عند حلول الأقدار، من شيم الأحرار، قبضت على أحر من الجمر، وتجلد على ما بي من ضمر، وتثنيت الضلوع على أذاها، وأغيضت الجفون عل قذاها. فجمعت هذه الأحرف على حين لم يبق من العلم إلاّ رسمه، ومن التحقيق إلاّ اسمه، من غير كبير عدة أعتمد عليها وأرجع عند المعوصات إليها، ولا وجود مصنف في هذا الفن أهتدي بمناره، وأستضيء بضوء نهاره، وإنما أقتدحت الفكر السادر، فاقترحت نوادر، جمعتها من كل أوب، وحدرتها من كل صوب، ولا أكاد مع ذلك أجد مثلا منه متكلما عليه، ومنبها فيه على ما يحتاج إليه؛ وإنّما يذكرها مجردا، فألتقطه مفردا. ثم أتحمل أعباء شرح ألفاظه ومعانيه، وأتكلف من دواوين العرب ومن بعدهم إحضار شواهده ومبانيه. فكنت في ذلك شبه الواضع وإن سبقت، والمخترع وإن نقلت. وأضفت إلى ذلك من نفائس النوادر دررا، ومن نكت الفوائد غررا. وجمعت فيه من شعر الأقدمين والمحدثين عيونا، وقضيت من غريبه ديونا، وما ذكرت شعرا إلاّ اخترته، ولا ألممت بمنزع إلاّ حررته، ولا دفعت إلى مبهم إلاّ أوضحته، ولا افتتحت بابا إلاّ أتممته، مع جملة وافرة من علم اللغة، تكون للمقتصر علية كفاية وبلغة، لولا أنني رمت بذل على تقتير، وإنباضا بلا توتير. فان جاء وفق الغرض، وقضى الحق المفترض، فلله تعالى المنة، ومنه الحول والمنة؛ وإن اتفق خلل، وفرط زلل، فمن نفسي الغبية، وجهالتي الربية، وفطنتي الخامدة، وقريحتي الجامدة. فإنّ مثلي ليس يكون أهلا للتعلم فضلا عن التعليم:
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيمُ
ولمّا تم ما أرته بحمد ذي المن والفضل، وبرز من القوة إلى الفعل، سميته زهر الأكم، في الأمثال والحكم. وجعلته سمطين: السمط الأمل في الأمثال وما يلتحق بها، وفيه مقدمة، وخاتمة، وأربعة وثلاثين بابا تسعة وعشرون منها في الأمثال العربية وما يلتحق بها على حروف المعجم، الباب الوفي ثلاثين في الأمثال التركيبية، الحادي والثلاثين في الأعيان، الثاني والثلاثين في الأمثال القرآنية، الثالث والثلاثون في الأمثال الحديثية، الرابع والثلاثون في التشبيهات الشعرية.
السمط الثاني في الحكم وما يلتحق بها، وفيه اثنان وثلاثون بابا: تسعة وعشرون في الحكم على حروف المعجم؛ الباب الوفي ثلاثين في حكم مجموعة، والحادي والثلاثون في النوادر، والثاني والثلاثون في الأوليات. فكان مجموع ذلك ستّة وستين بابا. والله أسأل أن يجعله عنده ذخيرة وحسنة، وأن يجعلنا من الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا ممن أدلى بحبل الغرور حتى حان، وسقط العشاء به على سرحان، وأعوذ بوجهه الكريم ممن إذا رأى قبيحا فار بطره، فشمت بالمساوي وأشمت؛ وإذا رأى جميلا ثار حسده، فصمت عن المحاسن وأصمت. وأعوذ به من إطراء المداجن، ومغث المشاجن، وأعوذ به ممن يتعرف الحق بالرجال، أو يحدد فضل الله بالآجال، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

السمط الأول
الأمثال وما يلتحق بها
المقدمة
الكلام في المقدمة وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول:
معنى المثل والحكمة
أما الأول وهو المثل بفتحتين يرد على ثلاثة أضرب:

الأول: الشبه، يقال: " هذا مثل ذلك " أي شبهة؛ ويقال أيضاً: " هو مثله بكسر فسكون، ومثيله، كما يقال شبه وشبيه " فإذا قيل: " هو مثيله، وهم أميثالهم بالتصغير " فقد أريد إنّ المشبه حقير، كما أن هذا حقير. ومن هذا قولهم: مسترد لمثيله، أي مثله يطلب ويشرح عليه. ومنه الأمثال من الناس وهو الأفضل، لأن معناه الأشبه بالأفضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم خيارهم. قال تعالى: )إذ يقول أمثالهم طريقه. ويذهبا بطريقتكم المثلى( أي هي أشبه بالحق والفضيلة، وهي تأنيث أمثل - وتقول: مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به تمثيلا وتمثالا بفتح التاء، كالتسيار والتطوف. وأما التمثال بالكسر فالصورة، جمعها تماثيل. يقال : مثله له صورة له حتى كأنه ينظر إليه. وتمثل تصور. قال تعالى: )فتمثل لها بشراً سوياً.( وتماثل الشيئان: تشابها. ومثل الشيء: مقداره. وقوامه: مثلت بفلان مثلة، ومثلت به تمثيلا: أي نكلت به وأوقعت به عقوبة، من هذا ، لان معناه أنّه جعله مثلا يرتدع به الغير.
الضرب الثاني: الصفة. قال تعالى: )مثل الجنة التي وعد المتقون( أي صفتها ونحو هذا ، وهو كثير في القرآن. وقال تعالى: )للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى( أي لهم الصفات الذميمة وله الصفات العلى. ويقال في هذا المعنى أيضاً: مثال .
الضرب الثالث: القول السائر المشبه مضربه بمورده، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال في القرآن. قال تعالى: )وتلك الأمثال نضربها للناس( الآية. وعلى هذا شاع إطلاق اسم المثل إذا أطلق.
وقال الراغب: الذي يقال على وجهين بمعنى المثل ، نحو شَبه وشِبه، ونِقض ونَقض، قال بعضهم: وقد يعبر بها عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى )مثل الجنة( الآية. والثاني عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من معاني، أي معنى كان، وهو اعم والألفاظ الموضوعة للمشابهة. وذلك أن الند يقال فيما شاركه في جوهرية؛ والشكل يقال فيما شاركه في المساحة؛ والشبه يقال فيما يشاركه الكيفية فقط؛ والمساوي يقال فيما يشاركه الكمية فقط. والمثل عام في جميع ذلك. ولهذا إنما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: )ليس كمثله شيء( انتهى. وقد ذكر غيره أن المماثلة هي المساواة من كل وجه، والمشابهة في اكثر الوجوه. والمناظرة هي المساواة من كل في شيء من الوجوه ولو في واحد، فيكون كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة أعم مما قبله. وكل ذلك مخالف لمّا في متون اللغة من تفسير المثل بالشبه، والعكس كما أوردنه قبل، ومخالف الظاهر صنيع البلغاء في باب التشبيه، حيث قسموا أوجه الشبه إلى ما يرجع إلى الشكل، وما يرجع إلى المقدار، وما يرجع إلى الكيفية، وغير ذلك ، وسموا كل ذلك تشبيها وهو من الشبه، والأمر في هذا قريب. إذا عرفت هذا فأعلم إنّ مقصودنا من المثل بالذات في هذا الكتاب هو ثالث الأقسام السابقة وهو المثل السائر.
وللناس في تعريفه عبارات. فقيل ما مر من إنّه القول السائر المشبه مضربه بمورده؛ وقيل هو قول مركب مشهور شبه مضربه بمورده، وهما بمعنى. فقيد السائر والمشهور يخرج ما لم يشتهر ويسر من الأقوال كلها. وقيل تشبيه المضرب أي المحل الذي ضرب فيه الآن بالمورد أي المحل الذي ورد فيه أولا يخرج ما اشتهر ولم يقع فيه هذا التشبيه ككثير من الحكم والأوامر والنواهي الشرعية مثلا. وقيل المثل هو الحجة، وهو صحيح لأنه يحتج به كما سيتبين في فائدته.
وقال المرزوقي: المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلها بذاتها، تتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغير يلحقها في لفظها ، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني. ولذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، وأستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما يستجاز في سائر الكلام.
وقال الراغب: المثل عبارة عن قول في شيء يشبهه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم: " الصيف ضيعت اللبن " فان هذا القول يشبه قولك: " أهملت وقت الإمكان أمرك. " قلت: وتلخيص القول في هذا المقام أن المثل هو قول يرد أولا لسبب خاص، ثم يتعداه إلى أشباهه فيستعمل فيها شائعا ذائعا على وجه تشبيهها بالمورد الأول؛ غير إنّ الاستعمال على وجهين:

أحدهما أن يكون على وجه التشبيه الصريح، سواء صرح بالأداة كقولهم: " كمجير أم عامر. " وقولهم: " كالحادي وليس له بعير. " أو لم يصرح كقولهم: " تركته ترك الصبي ظله. " وهو كثير.
الثاني إنّ لا يكون وجه التشبيه الصريح كقولهم: " الصيف ضيعت اللبن. " ؛ وقولهم: " هان علي الأملس ما لاقى الدبر " ونحو ذلك، وهو اكثر من الأول.
أما الوجه الأول فهو تشبيه من التشبيهات، إلى إنّه سار وذاع في بابه فعد مثلا سائرا لمّا عرفت من أن التشبيه كله تمثيل. ومن ثم تجد قدماء اللغويين وأهل العربية يطلقون المثل على المجاز، ويقيدون ما كان سائرا منه بالمثل السائر أو بأنه من أمثال العرب ليفهم ذلك .
وأما الوجه الثاني فهو في مورده لا تشبيه فيه، ولكن يستعمل في مضاربه على وجه تشبيهها بالمورد من غير تصريح " بالتشبيه " ، بل على أن يستعار اللفظ المستعمل في المورد الأول للشيء الشبيه بذلك. فقول القائل أولا للمرأة التي طلقها: " الصيف ضيعت اللبن " لا يريد تشبيها أصلا؛ وإنّما أراد انك فرطت في اللبن وتسببت في ضياعه عند زمن الصيف، إذ كنت تطلبين فراقي. ثم انك اليوم إذا رأيت أحد 3 فرط في حاجة زمن إمكانها، ثم جعل يطلبها ثم أدبرت، ساغ لك أن لك أن تشبه هيئته بهيئة من ترك اللبن أو محله في وقت، ثم جعل يطلبه في وقت آخر، فتقول له لأجل هذه المشابهة: " الصيف ضيعت اللبن " أي حالتك هذه حالة التي قيل لها: " الصيف ضيعت اللبن " ولأجل هذا المعنى وهذا التقدير، تنقل لفظ المثل كما قيل أولا من غير تغيير، حتى انك في هذا المثل بعينه تكسر التاء في ضيعت وإن كنت تخاطب ذكرا. وهكذا سائر الأمثال، وهذا يسمى عند الأدباء استعارة تمثيلية، ويسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، وهي إحدى قسمي الاستعارة التصريحية التي هي أن تشبه شيئاً بشيء، ثم تنقل لفظ المشبه به وتطلق على المشبه لأجله هذا التشبيه إطلاقا كأنه وضع له من غير تصريح بالتشبيه لا بالمشبه به على وجه يشعر بالتشبيه؛ غير أن لفظ المشبه به قد يكون فردا كلفظ الأسد الذي تنقله من السبع الموضوع هو له أوّلاً إلى الرجل الشبيه به في الجرأة. وقد يكون مركبا كلفظ " الصيف ضيعت اللبن " الذي تنقله من هيئة من ضيع اللبن إلى هيئة من ضيع حاجة من الحوائج. وهي الاستعارة في التركيب والتمثيل على سبيل الاستعارة. والأمثال الداخلة في الوجه الثاني كلها من هذا النمط. وقد سمعت تقدير ذلك وعرفت وجه عدم تغييرها، إذ كما أن الفرد إذا نقل على وجه الاستعارة لا سبيل إلى تغييره، كذلك المركب.
فان قيل: فقد ظهر في الوجه الثاني أن للمثل مورد 3 ومضربا، وإنّ الثاني يشبه بالأول؛ وأما في الوجه الأول فإنما ذلك مجرد تشبيه سائر يشترك فيه الناس كلهم، فأنى يكون به مورد خاص؟ وقي معناه نحو قولهم: " اعز من مخ البعوض " و " اكفر من حمار " ونحو ذلك وهو كثير، فكيف يعقل في هذا كله ما ذكر في تعريف المثل من تشبيه المضرب بالمورد حتى يشمله التعريف؟ قلنا: لا يلزم من كونه تشبيها أن لا يسبق إليه ناطق " ينطق به أوّلاً في شيء من الأشياء، بل لا مرية من إنّه لابد من أن يقدم إليه أحد " ينطق به بادئ بدء كما تقول:إنّ قولهم كحاطب ليل أوّل من قاله اكثم بن صيفي، وقولهم: امنع من عقاب الجو أوّل من قاله عدي بن نصر اللخمي في الزباء وهكذا غيرهما، سواء علمنا نحن ذلك أم لا، لأن هذا شأن الوجه الثاني أيضاً. قاله الأول في شيء كان ذاك مورده فتشبه به مضاربه، ولا فرق في أن التشبيه في هذا صريح دون القسم الثاني. وها هنا نظر في أمرين: أحدهما أنا قد بينا في الوجه الثاني وهو التمثيل على سبيل الاستعارة أن التشبيه فيه وقع بين هيئتين، وعلى ذلك قررها علماء البيان. ونحن ها هنا إذا قلنا مثلا فيمن أحسن إلى من لا يشكر أو يضر: هو كمجير أم عامر، فظاهر اللفظ أنه تشبيه هذا الشخص بذاك الشخص، لا الصورة بالصورة، وإن كان يصح أن يقال:المراد أن حالة هذا الشخص كحالة المجير على تقدير المضاف؛ لكنا في غنى عن هذا التقدير.

الثاني: إنّ المشبه به هنا مثلا أو بحالته هو مجير أم عامر حقيقة أعني الشخص الذي أجارها فبقرت بطنه وهو عنصر المثل إنّما وقع بعد ذلك بانرئى شخص شبيه به فقال: هو كمجير أم عامر، ثم سار وشاع. فان جعلنا الذي صدر فيه هذا التشبيه أوّل صدوره موردا، فليس هو الذي تشبه سائر المضارب به، بل هذا المورد بعينه وكل ما بعده متشابهات بالمجير الحقيقي. وإنّ جعلنا المورد هو العنصر الأول، فهو لم يقع عليه لفظ المثل حتى ينقل منه إلى شيء آخر ويقال إنّه شبه بما ورد فيه أولا، وإنّما وقع يعده. على أن لقائل أن يقول أيضاً: يصح أن يكون الناس في مثل هذا مثلا سمعوا حديث مجير أم عامر، فجعلوا يشبهون كلهم. فمن الجائز أن يرى ذلك جماعة أو يسمعوه، ثم يشبه كل واحد على حدة من غير أن يكون لذلك سابق مخصص يتبع ويجعل مكان تشبيهه موردا. وهكذا كل ما يشبه هذا المثل . فقد علمت بهذا أن هذا الوجه مخالف للوجه الثاني، وأن في التعاريف السابقة ما فيها إلاّ على تسامح أو على أنها دائرة على وجه الثاني فقط دون الأول، وهو بعيد إلاّ أنّ يكون ثم إصلاح.
وأعلم إنّ المثل بهذا المعنى الثالث مأخوذ من المعنى الأول وهو الشبه، لأنّه تمثيل، إلاّ أنه سار. وقيل من المثال وهو المقدار كما سبق، لأنّه يجعل مقياسا لغيره، وهو راجع إلى ذلك أيضاً. وقيل إنّما سمي مثلا لأنّه ماثل لخاطر الإنسان أبدا يتأسى به ويعظ ويأمر ويزجر. والماثل: الشخص المنتصب من قولهم: طلل ماثل، أي شاخص، وقد يقال: رسم ماثل أي دارس، وهو من الأضداد. إذا عرفت هذا كله وعرفت معنى استعمال لفظ المثل في المضرب تشبيها بالمورد، فاعلم إنّ ذلك هو معنى ضرب المثل يقال : ضرب الشيء مثلا ، وضرب به، وتمثله، وتمثل به، وهو معنى قول بعضهم: ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به، وفسر المفسرون ضرب المثل الواقع في قوله تعالى : )إنَّ الله لا يستحي أ، يضربَ مثلاً( الآية، وقوله: )و تلكَ الأمثالُ نضربها للناس( الآية، بالتبيين والجعل والوصف.
وفي الكشاف: ضرب المثال: اعتماده وصنعه.
وقال الراغب: الضرب: اقاع شيء على شيء. ز بتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف ونحوها، وضرب الأرض بالمطر، وضرب الدرهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، وقيل له الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه. وبذلك شبه السجية فقيل لها الضريبة والطبية، والضرب في الأرض الذهاب فيها وهو ضربها بالأرجل، وضرب الفحل الناقة تشبيها بالضرب بالمطرقة، كقولك: طرقها تشبيها بالطرق بالمطرقة، وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة.و تشبيها بضرب الخيمة قال تعالى : ) ضربتُ عليهمُ الذلةُ( أي التحفتهم الذلة التحاف الخيمة بمن ربت عليه. ومنه استغير فضربنا على آذانهم في الكهف، وضرب اللبن بعضه ببعض بالخلط، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. قال الله تعالى : )ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً( انتهى.
وقيل: ضرب المثل مأخوذ من الضريب أي المثيل له. تقول: هو ضريبه، وهما من ضرب واحد، لأنه جعل للأول مثل. وقيل: من ضرب الطين على الجدار. وقيل: من ضرب الخاتم ونحوه، لان التطبيق واقع بين المثل ومضربه كما في الخاتم على الطابع.
وأما الأمر الثاني وهو الحكمة فللناس في معناها أقوال عدة. واعلم أوّلاً إنّ الحكمة هي فعلة من الحكم أو الأحكام. أما الحكم فير بمعنيين: أحدهما القضاء؛ يقال: حكم الشارع أو القاضي بكذا حكم بضم فسكون؛ الثاني العلم؛ يقال : حكم حكما وحكمة. وأما الأحكام فيكون أيضاً بمعنيين: أحدهما الإتقان؛ يقال: أحكم فلان كذا إحكاما إذا أتقنه؛ الثاني المنع؛ يقال: أحكمت السفيه وحكمته أيضا أي منعته وأخذت على يده. قال جرير:
أ بني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... أني أخاف عليكم أن أغضبا
و أحكمت الفرس وحكمته جعلت له حكمة. والحكمة بفتحتين ما أحاط بحنكي الفرس وعلى أنفه من اللجام. وفيها العذران. قال زهير:
القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا

و القد الجلد، والأبق شبه الكتان. ويقال: هو القنب وكانت تصنع منه الحكمات عند العرب، لأن غرضهم الشدة والشجاعة لا الزينة، إذا عرفت هذا فقيل:الحكمة هي العمل، وقيل: الإتقان، وقيل: العدل، والحلم، والنبوءة، والقرآن ،و الإنجيل. وقيل: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. قال عياض في قوله صلى الله عليه وسلم: الحكمة يمانية، الحكمة عند العرب كل ما يمنع من الجهل، وبذلك سمي الحاكم لمنعه الظلم ومنه الحديث: إنّ من الشعر لحكمة، أي ما يمنع من الجهل وينفع وينهى عنه، والحكم والحكمة واحد. وقد قيل ذلك في قوله: )و أتيناه الحكم صبياً( وقيل: حكمة أي عدلا يدعو إلى الخير والرشد ومحامد الأخلاق. وقيل الحكمة إصابة القول من غير نبوءة. وقيل ذلك في قوله: )اللهم علمه الحكمة.( وقيل: الحكمة العلم بالدين. وقيل: العلم بالقرآن وقيل: الخشية. وقيل: الفهم عن الله في أمره ونهيه. وهذا كله يصح في معنى قوله: الحكمة يمانية وقوله: )علمهُ الحكمةَ( لا سيما مع قوله: الفقه يمان. وقد قيل: الحكمة النبوءة. وقيل هذا في قوله: ) يؤتي الحكمة من يشاء( انتهى.
وقال أبن عطية: أختلف الناس في الحكمة في هذا الآية، فقال أبن عباس: المعرفة بالقرآن فقهه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه. وقال قتادة: الحكمة الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الحكمة الإصابة في القول والفعل. وقال أبن زيد، وأوه زيد أبن سالم: الحكمة العقل في الدين. وقال مالك: الحكمة المعرفة بالدين والفقه فيه والإتباع له. وروى عنه أبن القاسم إنّه قال : الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضاً : الحكمة العقل في الدين والعمل. وقال الربيع: الحكمة الخشية . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " رأس كل شيء خشية الله تعالى " وقال إبراهيم: الحكمة الفهم وقال الحسن: هي الورع. انتهى. وقال النووي: الحكمة فيها أقوال كثيرة مضطربة، اقتصر كل من قائليها على مقتضى صفة الحكمة . وقد صفا لنا منها إنّها عبارة العمل المتصف بالإحكام، المشتمل على المعرفة بالله تعالى، المصحوبه بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن إتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك . وقد تطلق الحكمة على القرآن. وهو مشتمل على ذلك . وقد يطلق على العلم فقط، وعلى المعرفة فقط، ونحو ذلك . انتهى. وقال بعضهم: أصح ما قيل في الحكمة إنّها وضع الشيء في موضعه ، أو الفهم في كتاب الله. انتهى. ورد الغزالي الحكمة إلى العقل. قال في كتاب نهذيب النفس من الأحياء أمهات الأخلاق وأصولها الأربعة: الحكمة ، والشجاعة، والعفة، والعدل قال: ونعني بالحكمة حال النفس بها تدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الأختيارية. وقال الراغب: الحكمة إصابة الحق بالقول والفعل. فالحكمة من الله تعالى ومعرفة الأشياء، وإجادها على غاية الإحكام؛ ومن الإنسان معرفة الموجودات، وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله )و لقد آتينا لقمان الحكمة(، ونبه على جملتها بما وصفه بها. فإذا قيل في الله حكيم، فمعناها إذا وصف به. ومن هذا الوجه قال : أليس الله بأحكم الحاكمين. وإذا وصف به القرآن،فلتضمنه معنى الحكمة ، نحو: )تلك آيات الكتاب الحكيم(. وقيل الحكيم المحكم، نحو أحكمت آياته. وكلاهما صحيح، فانه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان. انتهى.
والعبارات عنهما كثيرة، ولا حاجة إلى التطويل بها، فان مرجعها شيء واحد؛ وإنّما سبب الاختلاف كثيرة اللوازم والخواص، فعبر عنها بما حضره من خواصها. نعم، ربما يظهر من بعض العبارات السوابق إنّ الاختلاف الحقيقي كالقول بأنها إصابة القول من غير نبوءة، مع القول بأنها النبوءة، ونحوه. لكن جل ما تقدم حائم على الإصابة في الأقوال والأفعال والفهوم. وفعلها حكم بالضم؛ يقال : حكم الرجل كشرف، فهو حكيم قال النمر بن تولب:
وأبغض بغيضكم بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحما
أي أن تكون حكيما. وقال النابغة:
أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمدِ

يقول : أصب في أمري ولا تخطيء كإصابة الزرقاء في عد الحمام، ولا تقبل قول من يسعى إليك في. وقيل: الحكم بمعنى القضاء. وفعله بالفتح كما مر. والحكم أعم من الحكمة ، كما قال الراغب: فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة. قلت: وهو صحيح في الحكمة الخيرة. وقد علمت أن الحكمة تكون في الأعمال والأخلاق أيضاً كما سنبينه. فبهذا تكون أخص من وجه لا مطلقا. وتقدمت الإشارة إلى الخلاف في اشتقاق الحكمة أيضاً فقيل: من الإحكام وهو الإتقان؛ وقيل: من المنع كما مر أخذا من حكمة اللجام. وتقدم اللفظان معا وهو فائدة تقديمها لشرح المادة. والكل محتمل، والأقرب المنع. ولا يبعد أن يكون الإحكام هو الإتقان من المنع أيضاً، كأن المحكم قد منع من الاختلال والفساد، وأبع عن مظان العيب والاعتراض. وتقدم أن الحكم الذي هو القضاء هو أيضاً منع للظلم، فصارت المادة كلها من المنع، والله اعلم. فإذا تتبعنا متفرقات المعاني المقولة في الحكمة على ما مر وجمعناها من ذلك أنها تتعلق بالقلوب والجوارح من الأيدي والألسنة. أما في القلوب، فعلى معنى الإصابة في اعتقاداتها وتصورها للأشياء وفي أخلاقها من الحلم، والعفو، والعفة، والعدل، ونحو ذلك . وأما في الأيدي فعلى معنى الإصابة في أفعالها وإتقان صنائعها؛ وكذا غيرها من الأعضاء بالجري على السنن في أفعالها، وكذا القصود. وأما في الألسنة فعلى معنى الإصابة في التعبير عن المعاني بإصابة المحز وتطبيق المفصل. غير أنا نقول : لابد في هذا كله عند إطلاق لفظ الحكمة ولفظ الحكيم عند أهل كل عرف من اعتبار دقة في ذلك ، ولطافة، ونوع غرابة، وعظم فائدة، باعتبار أهل ذلك العرف، حتى يكون المعنى بالإصابة المذكورة إصابة خاصة لا مطلق الإصابة، للقطع بأنا لا نسمي اليوم من قال الله واحد ومحمّد رسوله صلى الله عليه وسلم حكيما وإن كان في غاية الإصابة؛ ولا من بنى بناء معتادا، أو صاغ صياغة معتادة. وقد نبه على هذا المعنى بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. فقال: المراد بالكلمة الجملة المفيدة، والحكمة التي أحكمت مبانيها بالعلم والعقل، وتدل على معنى فيه دقة، انتهى. ولأجل هذا يقال: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: قلوب اليونان، وألسنة العرب، وأيدي أهل الصين. وما ذلك إلاّ لاختصاص اليونان بميزة التبحر في علم الأشياء ومعرفة القوانين وإتقان البراهين، واختصاص أهل الصين بميزة عمل الصنائع العجيبة وإتقان الأعمال الغريبة؛ واختصاص العرب بمزية إبانة المعاني العجيبة، والأمثال والمواعظ المفيدة، في أشعارها وخطبها. ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ من الشعر لحكمة. ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال: يا عجاج، بلغني أنك لا تقدر على الهجاء. فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية أمكنه خراب الأخبية. قال : فما يمنعك من ذلك ؟ قال: إنّ لنا عزا يمنعنا من أن نظلم، وإنّ لنا حاما يمنعنا من أن نظلم، فعلام الهجاء؟ فقال عبد الملك: لكلماتك أشعر من الشعر؛ فأنى لك عز يمنعك من أن تنظم؟ قال: الأدب البارع، والفهم الناصع. قال : فما الحلم الذي يمنعك من أن يظلم؟ قال: الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال : يا عجاج، لقد أصبحت حكيما. قال : وما يمنعني وأنا نجي أمير المؤمنين؟ انتهى.

وستسمع أن شاء الله من كلام حكماء العرب ما تقضي منه الأرب. والكلام المذكور هو أيضاً مصداق ما مر من تعلق الحكمة بالقلوب والألسن وساير الجوارح ، والله الموفق . وقد اتضح من هذا الفرق بين المثل والحكمة ، وذلك فيما يحضر فكري الآن من ثلاثة أمور: أحدها أن الحكمة عامة في الأقوال والأفعال، والمثل خاص بالأقوال. ثانيها أن المثل وقع فيه التشبيه كما مر، دون الحكمة . ثالثها أن المقصود من المثل الاحتجاج، ومن الحكمة التنبيه والإعلام والوعظ. ويرد على الأول إنّه فرق بحسب أعمية المورد، ولا مساس له بالحقيقة. فلم يفد إلاّ أن الحكمة الفعلية تباين المثل ولا نزاع فيه، وليس بمفيد في الأقوال إذا تنوزع فيها أن شيئا منها حكمة أو مثل. على أنه قد يكون التمثيل بالفعل أيضاً كتصوير شكل المثلث لمن لا يعرفه. ومن ثم يعد من جملة الرسوم المعروفات الأشياء التعريف بالمثال. ويرد على الثاني أنه إن عنى تشبيه المضرب بالمورد حقيقة، فقد مر أن نوعا كبيرا من الأمثال لا يجري فيه ذلك على ما ينبغي؛ وإن عني مطلق التشبيه، فهو واقع في الحكم كثيرا، كقولهم: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء.على أنه قد عد من الأمثال ملا تشبيه فيه أصلا بوجه كقولهم: من قرع الباب ولجَّ ولج. وقولهم: " الرباح مع السماح " ونحو ذلك . ويرد على الثالث أن الاحتجاج صحيح في الحكم أيضاً ، بل جلها قضايا كليات وقوانين تورد بحيث يصلح في كل أمر تكون حجة فيه محذوفة إحدى مقدمتيها. فإذا قلنا: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء أمكن إنّ نقول: إن فلان فسدت بطانته، وهو المقدمة الباقية، فيعلم أن فلانا هو كمن غص بالماء. وهذا الاستدلال هو الكاشف عن الصواب والخطأ في الأنظار والعلوم ، وهو معنى الحكمة بالحقيقة؛ وإنما قلنا جل الحكم قضايا، لأن ذلك هو الصريح، وقد يكون منها غير ذلك ،كالأوامر والنواهي؛ لكنها تتخذ قضايا بحسب الزوم. فالحكم كلها تصلح للاحتجاج، وهي بصدده كالأمثال؛ على أن الأمثال ليست كلها بصدد الاحتجاج، بل هي بالأصالة للتصوير؛ وإنّما تصلح للاحتجاج عندما يراد بها التصديق من مدح، أو ذم، أو تزيين، أو إظهار رغبة في شيء أو عدم مبالاة، أو نحو ذلك على ما ستقف عليه قريبا إن شاء الله.
ويجاب عنها، أما أوّلا فبأن القصد الفرق بين المثل والحكمة مطلقا أعم من الموردي والحقيقي، وهذا كاف في الأول وليس مقتصر عليه حتى يعد قاصرا. وأما ثانيا فبأنها نعني تشبيها خاصا لا مطلقا، أما في الوجه الثاني من الأمثال فهو تشبيه المضرب بالمورد كما مر. وأما في الأول فلا يخفى إن لم يكن فيها ذلك على وجهه أن فيها تشبيها بعنصر خاص معين هو سبب جريان ذلك الكلام ووقوع ذلك التشبيه على ما تقدم توضيحه، وليس ذلك بمنظور في الحكم. وأما ثالثا فبأن الاحتجاج في المثل واقع بالفعل حيثما أطلق على سبيل الخصوص، والحكمة إنّما تراد عامة على وجه الصلاح للاحتجاج بها في الخصوصيات لا على الفعل، فالاحتجاج خلاف الاحتجاج. نعم، يبقى من الأمثال ما لم يقع فيه تشبيه لا صريحا ولا مقدرا. والحق أن من الأمثال ما لا يشتبه بالحكمة في ورد ولا صدر، نحو: الصيف ضيعت اللبن، ومن الحكم ما لا يشتبه بالمثل ككثير من الحكم الإنشائية، ويبقى وراء ذلك وسط يتجول فيه الفريقان كالمثل السابق. فان كثيرا منها قد يعد مثلا تارة، وحكمة تارة، ولا فرق يظهر إلاّ بالحيثية، وهي إنها إن سيقت ملاحظا فيها التشبيه فمثل؛و إن سيقت ملاحظا فيه التنبيه أو الوعظ أو إثبات قانون أو فائدة ينتفع بها الناس في معاشهم أو معادهم فحكمة. وهذا معروف بالاستقراء ، ز شاهده الذوق بعد معرفة أن مرجع الحكمة الإصابة، ومرجع المثل التشبيه كما مر، حتى إن من يضرب للناس أمثالا غريبة ينتفعون بها يصح أن يقال إنه حكيم لأنه مصيب في ذلك المثل الذي ضربه، وهكذا يقال في التمثيل الفعلي السابق. فإن من صور صورة المسدس مثلا عد منه ذلك تمثيلا من حيث التشبيه، وحكمه من الإصابة والإتقان، ولا تنافي بين الغرضين. ومن وسع نطاق هذا الاعتبار أمكنه في كل مثل وحكمة هذا المقدار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفصل الثاني
فائدة المثل والحكمة وفضلهما

أما الأول وهو المثل ، فلا يخفى على ذي ميز ولا يشتبه على ذي لب ما جعل الله تعالى فيه من الحكمة ، وأودع فيه من الفائدة، وناط به من الحاجة؛ فأن ضرب المثل يوضح المنبهم، ويفتح المغلق، وبه يصور المعنى في الذهن ويكشف المعمي عند اللبس، وبه يقع الأمر في النفس حسن موقع، وتقبله فضل قبول، وتطمئن به اطمئنانا، وبه يقع إقناع الخصم وقطع تشوف المعترض. وهذا كله معروف بالضرورة، شائع في الخاص والعام، ومتداول في العلوم كلها منقولها ومعقولها، وفي المحاورات والمخاطبات، حتى شاع من كلام عامة المتعلمين والمعلمين قولهم: " بأمثالها تعرف أو تتبين الأشياء " وسر ذلك إنّ المثل يصور المعول بصورة المحسوس ، وقد يصور المعدوم بصورة الموجود والغائب بصورة المشاهد الحاضر، فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوى الإدراك ويتضح المدرك. وتحقيق ذلك أن العقول، وأن كانت تدرك المعلومات، لكنها غير مستقلة بنفسها غلبا في إدراك جميعها ولا جلها استقلالا صرفا لا سيما القاصر. وذلك أن العقول إنما تستقل بإدراك أوائل الضروريات التي توجد في غرائزها ولا تدري لها سبباً غير اختراع الفاعل المختار. وما سوى ذلك فالعقول فيها إما مفتقرة إلى الحواس، كالمعلومات التجريبية التي موادها محسوسة بإحدى الحواس؛ وإما مستعينة بها ضرباً من الاستعانة على طريق التمثيل والتقرير ونحوه. وذلك في غير ذلك. وقد ذهب قوم من الأوائل إلى حصر العلوم في المحسوسات وعكس آخرون، ونحن لا نقول شيئاً من ذلك، وليس هذا محل تقرير المقاتلين ولا ردهما، ولكنا نشير إلى ما نحن بصدده نوع إشارة فنقول: إنّ الإدراك، سواء قلنا إنّه يكن بالعقل وبالحواس الخمس معا، أو قلنا إنّه بالعقل فقط بواسطة الحواس، لا يخفى أن ما كان من قبل الحواس الخمس هو أظهر واسهل، ولذا شاركت فيه الحيوانات العجم والإنسان، وأن ما لم يكن من ذلك بنوع تعلق أصلا أخفى وأصعب وإسراف، وبمزية الاختصاص به كان الإنسان اشرف. فكل ما يدركه بحسب العادة الجارية استقراء، إما شيء وصل إليه من طرق الحواس، فيقع فيه بعد تأديه إليه منها نوع من التصور ونوع من التصرف بالتحليل والتركيب؛ وأما شيء يتأد إليه بالحواس، وهو إما شيء يجده عند نفسه أوّلاً كعلمه بان الموجود لا يكون معدوما، وأن الشيء الواحد لا يكون زمانا واحدا في مكانين، ونحو ذلك؛ وإما شيء يجد نظيره عنده بنوع من التشابه، أو يتأدى إليه نظيره من الحواس، كعلمنا بأن لله علما وقدرة وحلما وغضبا، لمّا علمنا في أنفسنا من علم وحلم وغضب، وإن كان الحادث خلاف قديم، لكن بينها ضرب من التشابه؛ ولولا ما علمناه بالوجدان من ذلك ما قدرنا أن نثبت نظيره في جانب الباري، كما قال تعالى: )و في أنفسكم أفلا تبصرون.( وقال صلى الله عليه وسلم: " من عرف نفسه عرف ربه " . إلاّ إن يخرق الله تعالى العادة في العقل فأنه مستعد لكل العلوم، وهكذا سائر الصفات. وكإدراكنا بحراً من الزئبق، وجبلا من الياقوت، فانه لم يتأد إلى العقل قط من الحواس لعدم وجوده ولا وجود نظيره عنده كالأول؛ ولكن تأدى إليه نظير من الحواس، وكذلك إنّه تأدى إليه البحار من الماء والجبال من الأرض؛ وهو يعلم إنّ بحر الماء مثلا متركب من القطرات المائية؛ فإذا أدرك قطرات الزئبق بمشاهدة الحواس جوز أن تتركب وتتجمع اجتماع قطرات الماء، وتصور من ذلك بحراً؛ وكذلك في أحجار الياقوت التي يراها، وما تصوره القوة الوهمية من أشياء لا حقيقة لها إنما ذلك من هذا القبيل، فإنها تستند إلى الحواس فتصور أشياء عل سبيل ما تأدى إليها منها، إلا إنها تحل ذلك حيث لا محل، كما تصور للغول أنيبا وأظفارا. فقد علم إن العقل غير واصل في العادة إلى غائب صرف من الأمور النظرية؛ وإنما مرجع إدراكه المحسوس هو أو نظيره بالحس الظاهر أو الباطن أو ما مادته ذلك. وكثيراً ما يقع له الغلط في البابين لاشتباه الوهم أو لاشتباه الحس حتى فر الفارون إلى حصر العلوم في المحسوسات حذاراً من الوهم والالتباس الوقع بسببه، وفر الآخرون إلى حصرها في المعقولات حذاراً من اشتباه الحس، وهما النوعان المذكوران أنفا، وقد بين ذلك في محله. والحق حصول العلم من الجانبين، إلا أن الإنسان في مبدأ فطرته ليس عنده غالباً إلا العقل الهيولائي الغريزي، وهو في إدراكاته الفعلية شبيه بالبهيمة من حيث إنّه إنما

يدرك غالب الأمور المحسوسة، فلا يزال يربو عقله وينمو إدراكه، وكلما ازداد النفس من ألفة المحسوسات والاستئناس بها والركون إليها أزيد من ذلك وأكثر، وكأنها هي السابقة وهي أظهر. فإذا كمل إدراكه شيئاً ما بحيث أدرك الضروريات وأستعد للنظريات وصار له عقل بالملكة، كانت النفس إذ ذلك محيطة بعظم المحسوسات، قوية الأستاناس بها، متمكنة من الألفة بها. فأن كان صاحبها مع ذلك من العوام التاركين للعلوم والمعارف، وهم الأكثر، فقد اندفع في المحسوسات وأهمل عقله الخاص بنفسه في مألوفاتها، وصار شبيها بالبهائم في إنّه لا يدرك إلاّ هذه المحسوسات التي تدركها؛ وإنما يفوقها بضرب من التصرف ضعيف فيها. فمتى ذكر لهذا شيء مما وراء ما يشاهد ولم يكن من الضروريات الأوائل الحاصلة له وما أشبهها، احتاج غالبا إلى إنّ يضرب له مثل بشيء مما يشاهد، ويصور له بصورته إما فهما وأما اطمئنانا واستئناسا. وإنّ كان من الخواص الخائصين في العلوم وإدراك المعقولات، فقد علمت مما مر إنّ العقل عادة إنّما يدرك بنفسه الضروريات، وما سوى ذلك إنما يدركه بواسطة تأديه أو تأدى نظيره إليه من الحواس الظاهرة أو الباطنة. ومع ذلك، فالمتأدى إليه إنّما هو أمر جزئي بالضرورة، فمتى حاول جنسا من ذلك لم يكن الجنس بنفسه من حيث إنّه جنس متأديا بشيء منها، فأحتاج إلى أن يمثل بصورة من ذلك الجنس فيدركها لأنها هي التي كانت تتأدى إليه ليقيس عليها غيرها، وبذلك يمكنه أن يدرك القاعدة والقانون، وهو الذي نعني بالجنس في هذا المحل حيث أدرك مادته إلاّ إنّ يكون له من لطف الإدراك وقوة الذكاء ما يستحضر به تلك الصور وينتزع منها مراده من غير أن يصور منها شيء مخصوص، فهذا يستغني عن التمثيل، وقليل ما هم. ومع ذلك فالنفس قد قلنا إنّها قوية الاستئناس بالمحسوسات لوضوحها وسبقها:
أتاني هواها بل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فإذا خيض بها في شيء من غير ذلك جمت إلى مألوفها حنين الثكلى وقالت:
ما الحب إلى للحبيب الأول

و استصعبت ذلك وخليت دونه، فاحتيج إلى أن يصور لها ذلك بصورة شيء مما كانت تألفه لتستأنس به وتطمئن. والاستئناس بالمألوف مركوز في جلية النفوس، حتى إنّه ورد في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا زج به في النور وفارقه جبريل أسمعه الله تعالى كلام صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه تأنيسا له به في ذلك المقام الهائل وهذه حكمة ربانية تعجز العقول عن الإحاطة بها وحدها، فكيف بملكوت السماوات والأرض؟ فتبارك الله أحسن الخالقين! ثم إنّه كلما عرف الإنسان ضربا من العلوم ومارسه ألفته نفسه واستأنست به ؛ فإذا ارتحل عنه إلى منزلة أخرى حنت النفس إلى الأولى المألوفة أيضاً، فاحتيج إلى أن يضرب لها مثل بشيء مما ألفه أو نظيره لتستأنس به ونطمئن إليه حتى لا يختص التمثيل بالمحسوسات الصرفة، وهكذا أبدا. فقد تبين بهذه الكلمات الاحتجاج إلى التمثيل ووجه الاحتجاج، وإنّه لا غنى عنه لعام ولا خاص؛ غير أن الاحتجاج قد يكون ضروريا، وذلك عند العجز عن الوصول إلى المطلوب بدونه، وقد يكون تحسينيا، وذلك عند الاحتياج إلى الاستعانة به والاستئناس والاطمئنان . هذا الأصل، وقد يكون الاحتياج لأغراض آخر ستأتي.

هذا ما ألهمني الله تعالى في هذا المقام على سبيل الإجمال، وأما بسطه كل البسط فلا يسعه الوقت، وفيما ذكرناه كفاية، إذ ليس من الغرض الإكثار إذا فهم المقصود وأدرك المراد. فقد ظهر بهذا عظم فائدة التمثيل، وبذلك تبين فضله. وقد ضرب الله تعالى الحكيم في القرآن ضروبا من الأمثال للخلق، وقال تعالى: )إنَّ اللهَ لا يستحيي أن يضربَ مثلاً ما بعوضة فما فوقها( الآية. وقال تعالى: ) وتلك الأمثالُ نضربها للناسِ( الآية فعدها منة على الناس لمّا فيها من عظيم الفوائد. وقال تعالى: )و سكنتم في مساكن الذينَ ظلموا أنفسهم وتبينَ لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال( إشارة إلى أنه لا إلتباس ولا إشكال بعد ضرب المثل ومع ذلك لم يعتبروا. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال الكثيرة للناس، وسيأتي من جميع ذلك ما فيه غنية في محله أن شاء الله تعالى. ولم يزل إلى الآن المدرسون وشيوخ التعليم والتربية يضربون الأمثال في كل أمر، وكذا غيرهم. وكتب عمر رضي الله عنه إلى الأنصار: علموا أولادكم العوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وما حسن من الشعر. فهذا حض على تعلم الأمثال خصوصا السائرة، فإنها أقطع للنزاع والشغب، وحض على تعلم الشعر. ولمّا بعث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رسله إلى رستم صاحب جيوش فارس أيام القادسية فرجعوا، وبعث أليه آخرين يدعونه إلى الإسلام أو الجزية، قال لهم رستم: إني قد كلمت منكم نفرا، ولو أنهم فهموا عني لرجوت أن تفهموا، والأمثال أوضح من كثير من الكلام؛ وسأضرب لكم مثلكم: إنكم كنتم في بلاء وجهد وجوع، فأتيتم بلادنا فلم نمنعكم، فلما أكلتم طعامنا وشربتم شرابنا وأظلكم ظلنا وصفتم ذلك لقومكم فأتيتم بهم. فمثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل له كرم فرأى فيه ثعلبا فقال: وما ثعلب؟ فانطلق الثعلب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعت عليه سد عليه صاحب الكرم مدخلها فقتلها. وقال لهم أيضاً: مثلكم كمثل جرذان ألفت جرة فيها حب وفي الحرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعلت الأخر تنقل وتخرج وتكلمه في الخروج فيأبى عليها، حتى إذا انتهى سمن الذي في الجرة فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، ضاق عليه المخرج فلم يقدر على الخروج منها، فشكا الغلق إلى أصحابه وسألهم المخرج فقالوا: لست بخارج حتى تعود إلى حالتك الأولى. فكف وجوع نفسه وبقي في الجرة حتى أتاه صاحبها فقتله. وقال لهم أيضاً : لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ما خلاكم يا معشر العرب! ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع. ومثلكم في هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار وقال: " من يوصيني إليه وله درهمان؟ حتى يدخلنه لا ينهنهه أحد " إلا عصاه. فلما دخله غرق ونشب وقال يخرجني وله أربعة دراهم؟. وضرب لهم امثلاً أخرى على هذا النمط، فلما فرغ تكلم سعد رضي الله عنهم بما جاءوا به من الأعذار والإنذار. ثم قالوا: وإما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد والهزل. ولكنا سنضرب لكم مثلكم: إنّ مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب، وأجرى لها الأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقيمون على جناتها. فخلفه الفلاحون في القصور بما لا يحب، وفي الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم. فلما لم يستجيبوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه، فدعا إليهم غيرهم فأخرجهم منها؛ فان ذهبوا عنها تخطفهم الناس،و إن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبداً.

ولمّا عظم أمر المسلمين وولي يزدجرد على فارس، وهاله أمر المسلمين، بعث إلى رستم المتقدم ذكره فقال له: انك أنت اليوم رجل أهل فارس، وقد رأيت ما نزل يهم؛ وإني أريد أن أوجهك في هذا الوجه فأنت لها. فأظهر له رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه. فقال له الملك: قد أحببت أن انظر فيما لديك لأعلم ما عندك؛ فصف لي العرب وفعلهم، وصف لي العجم وما يقولون عنهم، فقال له رستم: صفة الذباب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال: ليس كذلك، إنّما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على ذلك فلم تصب، فأفهم عني إنّما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مراقب عند جبل تأوي في ذراه الطيور تبيت في أوكارها. فلما أصبحت الطير أبصرت العقاب ترقبها فخافتها فلم تنهض وطمعت العقاب فلم ترم، وجعلت كلما شد منها طائر انقضت عليه العقاب فاختطفته حتى أفنتها. فلو نهضت بجميعها نهضة واحدة لنجت واشد شيء يكون في ذلك أن تنجوا كلها إلاّ واحداً. فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فأعمل على قدر ذلك.
وكان لبعض الملوك وزيران أحدهما كان يأمر ببذل الأموال لاجتلاب قلوب الرجال، ويقول انهم أنفع وأعود من المال. فقام الآخر ونهاه عن ذلك وقال : أمسك مالك فهو خير لك ، متى كان عندك المال واحتجت إلى الرجال وجدتهم. فقال له الملك لابد لهذا من آيه؛ فمثل أي مثلا يتضح به ما ذكرته، فان الأمثال بها تنكشف الأشياء ، فقال الوزير: علي بإناء عسل . فجيء به فقال: خمروه. ثم قال للملك: هل ترى هنا من نحل؟ قال : لا فأتى بإناء العسل، فلم يلبث أن جاءت النحل من كل أوب. فقال: هكذا الرجال على المال! فقام الوزي الآخر وقال : خمروا الإناء إلى الليل. فلما كان الظلام أخرج الإناء ، فما تحركت نحلة أصلا ولا وقعت عليه. وهذا تشبه قصة الهررة والشمع، وستأتيك قريبا في الأمثال، وتتبع الحكايات يخرج عن العرض؛ وإنّما ذكرنا ما تقدم تنبيها على شدة اعتناء الناس بالتمثيل وعظم فائدته. وكان الحكماء الأولون مثلوا الدنيا بطائر رأسه المشرق وجناحاه اليمن والشام وذنبه المغرب، فبينوا بهذا المثل دناءة المغرب وخسته، لأن أخس ما في الطائر ذنبه. فلما خرج اليونان إلى الجزيرة واستخرجوا فيها المياه وغرسوا الأشجار وبنوا القصور حتى عادت الجزيرة احسن ما يكون قالوا: رجع الطائر طاووسا ! لشرف ذنب الطاووس. ومن ما جعل الله تعالى فيما يراه النائم من أمثلة الأشياء ، قضى العجب من حكمة الله تعالى وما أودعه في عالم المثال، وهو بحر عميق ليس من غرضنا ولسنا من رجال الخوض فيه، وما ذكرناه في الأمثال من حيث هي وستأتيك زيادة في الأمثال الشعرية في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله . وما ذكرناه أيضاً هو فائدة التمثيل الإصابة، لأن مرجع الغرض من التمثيل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، وفائدته العظمى التبيين والتوضيح كما مر. وقد يرد لأغراض أخرى غير ذلك ، كالمدح أو الذم أو التزيين أو التشبيه أو غير ذلك مما قرر في علم الأدب؛ لكن مرجع الجميع إلى الفائدة الأولى وهي التبيين والتوضيح. فإنا إذا مثلنا أحدا بالبحر قصدنا إلى مدحه بالكرم، أو بالأسد قصدنا إلى مدحه بالشجاعة. فالقصد الأصلي بيان هذا الخصوصية التي يبلغ بها هذه الدرجة المخصوصة من الجود والجرأة لأنها هي المتلبسة علينا؛ لكن قد يتناسى هذا المعنى الأصلي ويفهم أن التمثيل سيف للمدح والذم حتى كأنه لا توضيح هنالك أصلا، ومثله في النعت. وأما سوق التمثيل لبيان الامكان أو بيان المقدار فلا إشكال أنه من المعنى الأصلي وهذا كله في التمثيل من حيث هو في الجملة. وأما الأمثال السائرة التي نحن بصددها فتكون هي أيضاً في الجملة للبيان والتوضيح، لكن لمقاصد كثيرة وضروب من الأغراض لا تكاد تنحصر؛ وستتلى عليك في هذا الكتاب. وأمثال القرآن كذلك بعد دلالتها على توضيح المراد وتقريبه وتصويره للعقل تكون لمقاصد كثيرة من مدح وذم ودلالة على تفاوت في الثواب، وعلى إحباط عمل وتذكير ووعض وحث وزجر واعتبار وغير ذلك مما يسرد على سمعك فيها إن شاء الله تعالى. وكذا أمثال الحديث النبوي، وستأتي إن شاء الله تعالى، والله الموفق.

وأما الثاني وهو الحكمة، فلا يخفا أيضاً فائدتها وفضلها. وقد اثني عليها في الكتاب والسنة. قال الله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا. وقال: وآتيناه الحكمة وفصل الحطاب. وقال: وآتيناه الحكم صبيا. ونحو ذلك من الآي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. ويروى: الكلمة الحكمة ضالة كل حكيم. فإذا وجدها فهو أحق بها. وقال صلى الله عليه وسلم : كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا وما فيها. وغير ذلك من الأحاديث والآثار التي يطول ذكرها. وقد أطبق العقلاء على مدحها والاعتناء بها، وليس الغرض إلاّ بيان فضلها وفائدتها فقط، وكيف يحسن منا ذلك وهي عين الفائدة والفضل؟:
وكيف يصبح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وإنّما الغرض هو بيان ما هو الممدوح من مصدوق اسم الحكمة، وإذا الغلط قد وقع في مثل هذا لكثير من العقلاء من جهة شمول لفض الحكمة لأمور كثيرة بحسب كل عرف واصطلاح، بعض تلك الأمور ممدوح دون بعض، فكان كل من يحصل له شيء منها يجعله من مصدوقات الحكمة الممدوحة، فيتمدح بما انتحله ويثني عليه ويضيف ما ورد من الثناء عليها إلى نفسه. فرأينا أن نشير إلى هذا المقام بضرب من الإشارة قريب يتميز به الطيب من الخبيث وبعرف به الفائز من المغرور. وبسط ذلك يستدعي موضوعا على حدة، فلنقتصر منه على لمحة برق فنقول: قد عرفت فيها مر من تعريف الحكمة أن فيها أقوالا كثيرة مرجعها فيما أوردناه من كلام السلف ضربان: خاص وعام. فالخاص القول بأنها النبوءة والقرآن أو علم القرآن، أو الفهم أو الخشية لله تعالى أو فهم القرآن أو العمل له أو الأتباع له، أو إصابة القول من غير نبوءة ونحو هذا مما تقدم. والعام القول بأنها الإصابة في القول والفعل ونحوه. فأما إذا فسرناها باوجه الخاص وقلنا هي النبوءة، أو علم القرآن، أو العلم به، أو فهمه والاتباع له، أو الخشية، فلا خفاء في مدحها والثناء عليها في هذا المعنى وما أشبهه من كل ما يسترضي به الله تعالى ويتقرب به إليه كالعقل والعدل والحلم؛ إلاّ إنّه لابد في ذلك من تحقيق الحقيقة وحفظ الحيثية وهو تحقيق الإصابة، إذ ذلك هو الحكمة ومناط التقرب المذكور. فأما ما ينتحله المتنبئ الكاذب من النبوءة، وما ينتحله الملحد من فهم كتاب الله تعالى والبدعي من الاتباع، فكل ذلك قد يسميه صاحبه حكمة ويسمي نفسه به حكيما، وليس من الممدوح بل ذلك مذموم غاية الذم، وليس ذلك بنبوءة ولا فهم لكتاب الله إلاّ في تسميته، فقط، وكذا ما أشبه هذا وإن قلنا هي إصابة القول من غير نبوءة ونحو ذلك، فحكمه بعد. وأما إذا فسرناه بالمعنى العام، فقد علمت إنّها متناولة لجميع الإصابات في القول والأفعال والاعتقادات، ودخل في ذلك ما تقدم وغيره. ومجموع ذلك ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الحكم القولية، وهي كلها محدودة من حيث ذاتها بقيد أن تكون بحكمة في نفس الأمر، وإلاّ فقد يطعن ما ليس بحكمة حكمة، إذ قد يعد من الحكمة ما دل على إيثار العاجلة على الآجلة أو اتباع الهوى، أو على العدوان والعلو في الأرض وسفك الدماء، وعلى اكتساب النبوءة برياضة النفس وطول المجاهدة وبلوغ كمال المعرفة وكمال النفس بذلك من غير تعقيد بقانون الشرع، وعلى إيثار انقطاع الناس إلى الله تعالى بالإعراض عن نبيهم وعدم الالتفات إليه أصلا، توهما أن ذلك هو اللائق بتوحيد الباري والتعبد له ونحو ذلك؛ فكل ذلك وما أشبهه هوس باطل ليس من الحكمة في ورد ولا صدر، فان الحكمة مرجعها الإصابة كما ذكرنا قبل.و من هذا النمط ما دونه حكماء الفلاسفة في العلم الإلهي من فنون الفلسفة من الهوس والأباطيل، والاعتقادات الزائغة والحجج الواهية، وكذا ما لنظرائهم من الطبيعيين وأشباههم من قرف المعتزلة وطوائف المبتدعة الضالين المضلين. وقد كان للفلاسفة في غير الإلهيات حكم تقتبس سراجا منيرا . وتورد زلالاً نميرا، فلما خاضوا في العلم الإلهي لم يهتدوا غالبا إلى الحق فيه، ولم يؤذن لهم في الدخول إلى ذلك الجناب النزيه. ومن يضلل الله فما له من هاد . ثم إنّ هذه الحكم القولية، وإن قلنا إنّها محمودة، فهي تختلف شرفا وفضلا بحسب جلالتها وما دلت عليه درجات كثيرة لا تكاد تنحصر. هذا بحسب ذاتها، وأما قائلها الذي صدرت منه فغير واجب أن يكون محمودا دائما ولا أن يعد حكيما، بل قد يكون محمودا، وذلك إذا علم ما يقول وعمل به وتخلف به ولم يكذب فعله وخلقه قوله، وقد يكون مذموما، وذلك إذا كان بخلاف ذلك بحيث يكون من علماء اللسان الثرثارين المتفيهقين، حتى إنّ المتكلمين بالحكم الشرعية من علماء الظاهر الذين تخالف أفعالهم أخلاقهم أقوالهم، ونحوهم من الوعاظ والقصاص في غاية الذم. ومن ثم قيل في ما مر : الحكمة هي الفهم في القرآن والعمل به والإتباع له. وقد تصدر الحكمة ممن هو عن مقتضاها خال وعن فضلها بمعزل. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن. كما مر. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: العلم ضالة المؤمن حيث وجده أخذه وقال : خذ الحكمة ممن سمعتموها ، فانه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي. فأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى أنه ينبغي للعاقل أن لا يبرح متتبعا للحكمة طالبا لها، كما يطلب الرجل ضالته وينشدها؛ فان الحكمة هي ضالة العاقل لأنها غذاء عقله، فهي أكبر الحاجات وأعظم المطلوبات. وفي الحديث تأديب الطالب المتعلم وتنبيهه على أنه لا يأنف مكن أخذ الحكمة حيثما وجدها، وإنّه يقبلها من كل من سمعها منه شريفا كان أو مشروفا عالما أو جاهلا برا أو فاجرا؛ ولا يستكبر عن أحد أن يتعلم منه كان فوقه أو دونه. فان طالب الضالة إذا وجدها فهو لا محالة يأخذها ولا يلتفت إلى خسة الآتي بها ولا شرفه، وأو ترك ضالته ومطلوبه الذي كان ينشده لخسة من جاء بها كان أحمق. وقد روي أن الحجاج خطب فقال: إنّ الله تعالى أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مؤونة الدنيا، فليته كفانا مؤونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا! فقال الحسن: ضالة مؤمن عند فاسق فلنأخذها. وخطب خازم بن خزيمة فقال: إنّ يوما أسكر الكبار، وشيب الصغار، ليوم عسير ، شره مستطير. فقال سفيان الثوري: حكمة من جوف خرب، ثم أخرج ألواحا فكتبها. ولهذا ورد: أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه. وروي أن رجلا في بني إسرائيل حكيما ألف ثلاثمائة كتاب في الحكمة واشتهر فرأى إنّ له عند الله منزلة، فأوحى الله إلى نبي ذلك الوقت أن قل لفلان: ملأت الدنيا نفاقا. القسم الثاني في الحكم الفعلية بناء على إطلاق الحكمة عليه كما مر، وهي على تفصيل: فما كان منها خدمة لله تعالى وقيامها بوظائف تكاليفه كله من فعل الواجبات وأنواع القربات، فهو كله محمود. وهذا النوع إنّما يعد حكمة بحسب ما انضم من افهم في كتاب الله تعالى كما مر، فهو جزء منها. وما يرجع إلى إتقان الصنائع العجيبة والحرف المهمة، فهذا كله محمود عادة، وأما شرعا فإنما يحمد إذا كان مقربا إلى الله تعالى مباشرة أو بواسطة أو وسائط، على حكم التفصيل في سائر المباحات. ووراء هذين القسمين قسمان آخران:

أحدهما تدبير الذهب والفضة ومعالجة تبديل الأشياء وصناعة الاكسير، وهذا النوع هو المعروف عند كثير من الأوائل بالحكمة، وهو محمود عندهم غاية ومن اجل علومهم ، وإطلاق الحكمة عليه من حيث الإصابة والإتقان مع الغرابة واللطافة. وللمتكلمين في ذلك كلام وبحث في إنّ ذلك ممكن أمثال لا ، وفي إنّه يعد إمكانه واقع أمثال لا . فهي أربعة مباحث قررت في محلها وليس من غرضنا التعرض لها ، غير أنا نقول جريا على ما نحن بصدده: إن قلنا إن ذلك محال أو غير موجود، فالاشتغال به غير محمود لا عادة ولا شرعا، بل هو في غاية الذم لأنه تضييع للعمر بلا طائل وهوس وجنون. وإن قلنا أنه يوجد ويقع، فلا نشك بالاستقراء إنّه في غاية القلة والندور، وإنّه لا يقع عليه إلا الفرد من الناس في الدهور. وقد اعترف أهل هذا العلم إنّه اخطأ الناس طريقته ولم يعثروا على التحقيق فيه فضاع وبقي اسما بلا مسمى ، فنقول: إنّه ينبغي أن يكون مذموما على هذا الوجه أيضاً كأنه تضييع للعمر غالبا بلا طائل، وعدول عن الأسباب المنصوبة للخلق في الاكتساب إلى سبب نادر قليل الجدوى مع كثرة الاين والتعب، منبت في القلب من الحرص والطمع ما تنبته الديم في الأرض الأريضة، ولا داء على القلب شر من الحرص والطمع! نعم، لو عثر على شيء صحيح منه بلا تعمل حرام ولا انجرار طمع واتخذ سببا، كان من جملة المباحات والتحق بحكم الصنائع السابقة.
ثانيهما خفة اليد والاحتيال بالشعبذة وأنواع النيروجات، فان كثيرا من هذا النوع قد يسمى حكمة أيضاً لمّا فيه من الغرابة، وهو ليس بممدوح في الجملة لا شرعا ولا عادة عند العقول السليمة. نعم، فيه تفصيل من جهة الحرمة والإباحة يطول بنا التعرف له ، وليس كلامنا بالقصد في الفقهيات.
الثالث الحكم القلبية، وهي إذا عممنا فيها وتوسعنا ضربان: ما يرجع إلى الأخلاق كالحلم والعدل والزهد والعفة والصمت ونحوها، وهذا النوع كله محمود شرعا وعادة، لأن من يطلق الحكمة في هذا الضرب أخذا مما مر إنّما يطلقها على المحمود من الأخلاق لا على مطلق الخلق حتى يدخل المذموم. وفي الحديث: الصمت حكم وقليل فاعله. وقد يذم بعض هذه الأخلاق المحمودة عند غوغاء الناس العمي البصائر، كالصمت عند المتشدقين الثرثارين والعفاف عند المجانين الفاسقين ونحو ذلك . ولا عبرة بهذا الذم، وهو في الحقيقة ذم للمذموم لا للمحمود ، إلا أنه يقع الخطأ للذام والغلط. وذلك أن الصمت مثلا ليس بمحمود دائما، بل في محل يليق به، فقد يرى الجاهل محل الصمت غير محل له، بل محلا للكلام فيذم الصمت وقصده ذم الصمت المذموم، ولو عرف أن ذلك محله ما ذمه وما يرجع إلى الاعتقادات وهو كله أيضاً محمود، لأن الحكمة هنا أيضاً إنما تطلق فيما كان علما إذ هو محل الإصابة والعلم كله في نفسه محمود، أعني وصول النفس إلى شيء ، لأن ذلك كمال النفس. وقد يعرض العلم الذم من جهة المعلوم، وللعالم الذم من جهة المخالفة عمله لعلمه وعدم جريه على موجبه كما قلنا في اللسان، أو من عدم طائل يعود به عليه مع إضاعة العمر النفيس فيه، أو من الاشتغال به عما هو أولى منه وجوبا أو ندبا أو نحو ذلك . ثم العلم يتفاوت بعد ذلك في الشرف بحسب شرف معلومة وثمرته. وهذا النوع هو الحكمة حقيقة، وكل ما تقدم من الأفعال والأقوال إنّما هو مظهرها وعنوانها عند التحقيق، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفصل الثالث:
فضل الشعر
ذكرنا في هذا الفصل شيء مما ورد في فضل الشعر، لأنا قد أوردنا في هذا الكتاب جملة وافرة من الشعر؛ فرب جاهل أو جافي الطبع أو متنسك نسكا أعجميا يذم الشعر فيسري ذمه إلى ما في الكتاب ثم إلى الكتاب، فرأينا أن ننبه على شيء من فضله، ونحن عند التحقيق في غنى عن ذلك ، بعد ذكر فضل المثل والحكمة ، لأن جل ما أوردناه في الكتاب من هذين النوعين، وما سوى ذلك إما توابع وتتمات ، وإما شواهد من كلام العرب مما اشترك في جلبها استشهادا كل ذي علم؛ ولكنا نذكر ذلك تقوية.

اعلم أنّ الكلام العربي هو أشرف الكلام وأجله، كما وقع في الحديث:إنّ سيد الكلام العربي، وسيد الأنبياء محمد، وسيد الكتب القرآن . وفي الحديث أيضاً : القرآن عربي ، وكلام أهل الجنة عربي. واعلم أن كلام العرب نوعان: منثور ومنظوم، وكان كله في أصله نثرا. فلما احتاجت العرب إلى ذكر أيامها وأعرافها، وتخليد مكارمها ومآثرها، توهموا أعاريض الشعر وأوزانه، وجعلوه آلة لذلك وعونا على حفظ ما ذكر وإبقائه، لسهولته على الطبع وميله إليه دون المنثور. ومن ثم يقال أن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من المنظوم، ومع ذلك لم يحفظ من المنثور عشره، ولم يضع من المنظوم عشره: فكان للشعر بهذا فضل على النثر. ومما ورد في فضله قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر لحكمة، وتقدم تفسير الحكمة . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً إنّه قال : إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الشعر لحكما، أي كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه. قيل أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها، وقد تقدم أن الحكم بمعنى الحكمة. وقيل الحكم هنا القضاء، بمعنى إنّه ينفذ أمره ويتبع ما يقضي به ويسلم له فيما حكم به كما يكون ذلك في حكم الحاكم؛ ولذلك وضع أقواما ورفع آخرين. وممن وضعهم بنو نمير، إذ هجاهم جرير، وكانوا إحدى جمرات العرب قيل ذلك ؛ وبنو العجلان، إذ هجاهم النجاشي، وكانوا قبل ذلك يفتخرون بهذه التسمية، لأن أباهم سمي بذلك لتعجيله القرى للضيف، والربيع بن زياد العبسي، إذ هجاه لبيد، وكان قبل ذلك أحد ندماء النعمان بن المنذر، وكان لا يواكل غيره إذا حضر. وممن رفعه بنو أنف الناقة، حيث مدحهم الحطيئة فقلب هذا اللقب الذي كان يخزون به مدحا وفخرا؛ وعبد العزيز بن حنتم المعروف بالمحلق، حيث مدحه الأعشى وكان قبل ذلك خاملا؛ وهرم بن سنان، حيث مدحه زهير فشرف بذلك على أخيه خارجة بن سنان، وكان خارجة قبل ذلك أنبه منه وإن كانا معا سيدين؛ وغي هؤلاء. وتفصيل هذه الوقائع يطول بنا في هذا المحل، وهي مشهورة وسيأتي كثير منها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به في بواديها وتسل به الضغائن وروي عن عائشة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبرا ينشد عليه الشعر. وروي أن عمر رضي الله عنه مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أ رغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فو الله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك، فما يغير علي ذلك ، فقال عمر: صدقت! ويحكى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلو بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... و يذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر رضي الله عنه : يا أبن رواحة! بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال صلى الله عليه وسلم : خل عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من وقع النبل. ولمّا هجت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضي الله عنه : اهجهم ومعك جبريل روح القدس فلهجائك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام! وقال عمر رضي الله عنه : من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات يقدمها الرجل أمام حاجته فيستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم. وقال أيضاً: تعلموا الشعر، فإن فيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى. وكتب إلى أبي موسى الشعري : مر من قبلك يتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب. وقال معاوية رضي الله عنه : يجب على الرجل تأديب ولده والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: رووا أولادكم الشعر واجعلوه أكبر همكم وأكثر آدابكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين، وقد أتيت بفرس ووضعت رجلي في ركابه لأفر من شدة البلاء، فما حملني على الثبات إلا ذكر أبيات عمرو بن الأطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... و أخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... و ضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح

و قال بعضهم: كنا عند عمار بصفين، وعنده شاعر ينشده، فقال رجل: أيقال فيكم الشعر وانتم أصحاب محمّد وأصحاب بدر؟ فقال له عمار: إنّ شئت فاسمع، وإنّ شئت فأذهب. أنا لمّا هجانا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لهم كما قال لكم، فكنا نعلمه الاماء بالمدينة. وكان أبن عباس يقول: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فان الشعر ديوان العرب. وقال أيضاً : إذا أعيتكم العربية في القرآن فالتمسوها في الشعر، فانه ديوان العرب. وكان كلما سئل عن حرف من القرآن أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد عليه شعرا. وقيل لسعيد بن المسيب إنّ قموا بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكا عجميا! وسئل أبن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان إنّها تنقض الوضوء فقال:
نبئت إنّ فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم قام فأم الناس وقيل بل أنشد:
لق أصبحت عروس الفرزدق ناشزا ... و لو رضيت رمح أسته لاستقرت
وسئل ابن عباس هل الشعر من رفث القول، فأنشد:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
و قال إنّما الرفث عند النساء، ثم احزم للصلاة. وكان أبو السائب المخزومي يقول أما والله لو كان الشعر محرما لوردنا الرحبة كل يوم مرارا، يعني الرحبة التي تقام فيها الحدود. وقال عبد الملك لبنيه عليكم بالأدب، فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا، وكانت عائشة أم المؤمنين، وأبن عباس، وعمر، رضي الله عنهم أجمعين من رواية الشعر بالمحل الذي لا يدرك، حتى حكي عن عائشة إنّها قالت: رويت للبيد أثنى عشر ألف بين خلاف ما رويت لغيره. وكذا غير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم وما أهل البيت النبوي إلاّ من قال الشعر، غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا الخلفاء الأربعة. وقد ذكر المعتنون بهذا الشأن ما ثبت عن كل منهم من الشعر؛ والتعرض لذلك يطول بنا، وليس من غرضنا نحن في هذا الكتاب إلاّ مجرد التنبيه؛ وما تقدم كاف في مدح الشعر وإباحته والرد على منكريه.
وقد يحتج ذامه بوله صلى الله عليه وسلم : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا. ومحل هذا الحديث عند العلماء أربعة أوجه: أحدهما أن المراد بهذا الشعر المذكور هنا الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقع في رواية: شعر هجيت به بهذه الزيادة. وروى أن أبا هريرة، لمّا روى الحديث المذكور قالت عائشة رضي الله عنها لم يحفظ، إنّما قال شعرا هجيت به. ولا شك أن هذا النوع من الشعر لو كان شطر بيت لكان كفرا، فكيف إذا أميلا الجوف فيه؟!.
ثانيها أنه ورد لأقوام كانوا في غاية الإقبال على الشعر فجاء على وجه المبالغة زجرا لهم ليقبلوا على القرآن والذكر والعبادة.
ثلثهما أنه في حق من أولع به حتى شغله عن الذكر والقرآن والعبادة، لأن ذلك هو يعني الامتلاء. وأما كان الغالب عليه القرآن والكر. فليس جوفه ممتلئل.
رابعها أنه في الشعر المذموم دمن الممدوح، وسنبينه.

وقوله صلى الله عليه وسلم : أنَ من البيان لسحرا، لعلماء في هذا الحديث وجهان: أحدهما أنه ورد مورد الذم فشبهه بعمل السحر لغلبته على القلب وجليه إياها، وتزيينه الباطل وتحسينه القبيح وتقبيحه الحسن. ويكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بعمله كما قال صلى الله عليه وسلم: ولعل بعضهم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فأنما أقطع له من النار. ثانيهما أنه ورد مورد المدح بمعنى أنه تمال به القلوب، ويسترضى به الساخط، ويستنزل به الصعب. ويشهد ليس لهذا قوله في نفس الحديث: إن من الشعر لحكمة.و هذا قول أكثر أهل العلم والأدب، لأن الله تعالى مدح البيان، وهو شامل للشعر والنثر. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله حاجته فأحسن في السؤال: هذا والله السحر الحلال!و قضى حاجته. وأما قوله تعالى: )و الشعراءُ يتبعهمُ الغلوون( الآية، فالمراد بها المشركون المشتغلون بالاذاية للنبي صلى الله عليه وسلم وهجائه. وأما الشعراء المؤمنون كحسان وكعب وأبن رواحة وغيرهم فليسوا بداخلين. ولذلك استثناهم الله تعالى فقال: )إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وذكروا اللهَ كثيرا( أي لم يشغلهم الشعر عن الذكر، وانتصروا من بعد ما ظلموا، أي بهجوم الكفار الهاجين للنبي صلى الله عليه وسلم ظلما، كما قال الله تعالى : )لا يحب اللهُ الجهر بالسوءِ من القول إلاّ من ظُلم(. الآية المذكورة هي فصل الخطاب فيما مر. نعم، قال أبن عطيه: يدخل في الآية كل مخلط بهجو أو يمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور، كما يدخل في الاستثناء كل من كان بخلافه.
فقد بان بهذا فضل الشعر وأن لا باس به أصلا، غير إنّه ليس على إطلاقه وأن الشعر كله محمود ومرضي، فان هذا خطأ وغلط، بل هو على تفصيل. فما كان متضمنا للثناء على الله تعالى ، أو لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو الأنبياء والملائكة وكل من يجب تعظيمه وتوقيره والثناء عليه في الدنيا والترغيب في الآخرة، فهو مندوب إليه مرغوب فيه؛ وما كان متضمنا للتنبيه والوعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو هذا فكذلك أيضاً؛ وما كان متضمنا للهجو وإيذاء كل من عرضه معصوم فهو حرام. ويتفاوت في القبح والشدة بحسب المؤذي، حتى ينتهي إلى الكفر كما في حق الأنبياء، وما كان خاليا عن هذين الأمرين فهو من المباح في الجملة، إلاّ أنه إن اشتمل على وصف القد والخد والمجون التي تحرك دواعي الشهوة والغواية، فهو قد يجرم وقد يكره وقد يباح بحسب حال القئل والمخاطب. وتحقيق ذلك أن الشعر كلام كالنثر، فكل ما يستقبح في النثر يستقبح في الشعر.
فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، ز ما لم يوافق الحق فلا خير فيه. وقالصلى الله عليه وسلم : إنما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب. وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر كلام فيه حسن وقبيح، فخذ الحسن ودع القبيح. وقال أبن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر،و كذلك ما قبح منه هذا ، مع أن الشعر قد حسنت فيه أشياء لم تجسم في النثر، وذلك مما يفضله به الأدباء؛ منها الكذب الذي وقع الإجماع على حرمته فانه جائز في الشعر، إلى إنّ في المبالغة والإيغال تفصيلا مذكورا في علم الأدب. وافضل الأمور الصدق ومما قرب منه؛ ومنها تزكية الإنسان نفسه ومدحه إياها، ومدح الإنسان بحضرته، ومدح المحرمات من الخمر والنساء الأجانب ونحو ذلك، ومنها خطاب الممدوح مثلا باسمه وبكاف الخطاب مما يكون في النثر استنقاصا، ونحو هذا . وقصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه اللامية متكفلة بأكثرها، وقد أنشدها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، بل أثابه بردته فاشتراها منه معاوية بثلاثين أو عشرين ألف درهم، وبقيت يتوارثها الخلفاء ويلبسونها في الجمع والأعياد تبركا بها. وقيل إنّه أعطاه مع البردة مائة من الإبل ويحكى إنّ الأحوص قال يخاطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ توقف عن إعطاء الشعراء:
وقبلك ما أعطى هنيدة جبلة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضحى والاصائل

و بالجملة، ففي كل كلام ينطق به اللسان شعرا أو نثرا، إنشاء أو حكاية، فوائد وآفات فصلها علماء الشعر وحرروها، فمن ظفر بالفائدة وسلم عن الآفات فهو الذي ينبغي له أن يتكلم إما وجوبا أو ندبا بحسب الفائدة؛ ومن لم يظفر بالفائدة ووقع في الآفة أو توقعها فهو الذي لا ينبغي له أن يتكلم إما تحريما أو كراهة بحسب الآفة. ومن تعرضتا عنده فهو الذي ينبغي له أن يرجح أحد الجانبين وإلا كف، فإن درء المفسدة أهم، ومن عدمهما معا فهو الذي يباح له الكلام، ولذكر الله أكبر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفصل الرابع:
الأمثال الشعرية
اعلم أنا لمّا ذكرنا حكم الشعر عموما كما مر، أردنا أن نردفه بما كان منه مثلا خصوصا. وهذا النوع داخل فيما للذي قبله وداخل أيضاً فيما للمثل مطلقا، وقد فرغنا قبل من شرحه وفضله؛ غير أن هذا النوع له خصوصية كلام وبيان تعلق الغرض بذكره، وجعلنا الكلام في هذا الفصل في أربعة أمور بها يتم الغرض إن شاء الله تعالى : الأول في التمثل بالشعر وما ورد فيه يقال: تمثل بالبيت إذا أنشده وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود؛ إلى إنّه يقول ويأتيك من لم تزوده بالأخبار. ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أشد أنك رسول الله، لقوله تعالى: وما علمناه الشعر. وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين فتمثلهم بالشعر شائع ذائع لا يحصى، وهو دليل ما تقدم في الفصل قبل هذا . ومما تمثل به أبو بكر رضي الله عنه وهو على المنبر قول الغنوى:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت
أبو أن يملونا وأو أن آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
هم أنزلونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت
و أراد بذلك ما فعل بهم الأنصار من الإحسان. وأما عمر رضي الله عنه فكان لا ينزل به أمر ألا تمثل فيه بشعر، وكذا عائشة رضي الله عنها ومما تمثلت به قول لبيد:
ذهب اللذين يعاش في أكنافهم ... و بقيت في خلف كجلد الأجرب
و رأت النبي صلى الله عليه وسلم يوما يعرق جبينه وهو في عمل، وجعل عرقه يتلألأ نورا، فقالت له: لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره فقال لها: وما يقول يا عائشة أبو كبير؟ قالت: يقول :
ومبرأ من كل غير حيضة ... و فساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلهل
فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إليها فقبل ما بين عينيها وقال : جزاك الله يا عائشة خيرا. ما سررت بشيء كسروري بك! ومما تمثلت به فاطمة رضي الله عنها يوم توفي أبوها عليه الصلاة والسلام قول فاطمة
قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاحِ
قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البيرار وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراحِ
وإذا دعت قمرية شجنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحِ
وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد بان حدّ فوارسي ورماحي
و مما تمثل به علي كرم الله وجهه وهو على المنبر، معنفا للقوم في تقديمهم أبا موسى الأشعري في التحكيم بعد ما حذرهم منه قول دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغدِ
و مما تمثل به معاوية رضي الله عنه قول قيس بن زهير:
أظن الحلم دل علي قومي ... و قد يستجهل الرجل الحليم
على لمحة قبيلة يزداد بها الناظر بصيرة على ما ذكرنا في المثل الأول. ولو تتبعنا ما تمثل به الصحابة في الوقائع، والتابعون وهلم جرا لكان وحده موضوعا.
الثاني في المثل الشعري وأقسامه. اعلم إنّ المثل معروف الحقيقة مما قدمنا فيه، وهو يكون نثرا تارة، وذلك أكثره، وقد يكون نظما. فان المثل، وإنّ كان سائرا، لكنه إذا نظم كان أسير له وأسهل على اللسان وأحسن، ثم إنّه قد يقع بيتا كاملا، وقد يقع نصف بيت أو ربعه أو نحو ذلك من الأجزاء. وسئل حماد الراوية بأي شيء فضل النابغة، فقال: إنّ النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت، مثل قوله:
حلفت فلم اترك لنفسك ريبة ... و ليس وراء الله للمرء مطلب

بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: وليس وراء الله للمرء مطلب، بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: أي الرجال المهذب. ومن ورود المثل بيتا مستقلا قول طرفة مثلا:
لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لك الطول المرخى وثنياه باليد
و قول أبي الطيب:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد
و هو كثير. ومن وروده نصف بيت الشطر الثاني من قول الحماسي مثلا:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
و من ورده ربعا الربع الأخير من قوله:
ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلاّ أخو ثقة فأنظر بمن تثق
و اعلم إنّه قد لا يتم المثل إلاّ على بيتين، كقول الأول:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توافقه
بخلت، وبعض البخل حزم وقوة ... و لم يبتذلك المال إلى حقائقه
و قد لا يتم إلى على اكثر، كقول بعض الأدباء:
لصيد اللخم في البحر ... و صيد الأسد في البر
وقضم الثلج في القر ... و نقل الصخر في الحر
وإقدام على الموت ... و تحويل إلى القبر
لأشهى في طلاب العز ... ممن عاش في الفقر
و قد يكون في البيت الواحد مثلان أو ثلاثة أو أربعة أو اكثر. فمن الأول قول امرئ القيس:
الله أنجح ما طلبت به ... و البر خير حقيبة الرحل
و من الثاني قول ضابىء بن الحارث:
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... و يخطئ في الحرس الفتى ويصيب
ومن الثالث قول الأول:
فالهم فضل وطول العيش منقطع ... و الرزق منقسم وروح الله منتظر
و مما فيه خمسة قول بعض الأدباء:
خاطر تفد وأرتد تجد وأكرم تسد ... و انقد تقد وأصغر تعد الأكبرا
و مما فيه ستة قول أبن رشيق:
خذ العفو وأب الضيم واجتنب الأذى ... و أغض تسد وأرفق تنل وأسخ تحمد
الثالث فيما ينبغي له ويستحسن، وهو ثلاثة أشياء: أحدها أن يكون متزنا قائما بنفسه غير محتاج إلى غيره، وذلك إما أن يكون بيتا مستقلا، كقول طرفة السابق، وكقول السموأل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
و نحوه وهو كثير. وأما أن يكون جزءا من البيت مستقلا كقول الحماسي السابق، وكقول جميل بن عبد الله:
أرى كل عود نابتا في أرومة ... أبى منبت العيدان أن يتغيرا
فان الشطر الثاني مثل مستقل بالوزن والمعنى، وكذا الأول، أما إن كان جزءا محتاجا غير مستقل، كقول النابغة المذكور:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال مهذب
فان قوله: أي الرجال المهذب مثل، إلى إنّه محتاج في الوزن إلى ما قبله. وكذا قول الحماسي:
وإن أبيتم فأنا معشر أنف ... لا نطعم الخسف إنّ السم مشروب
فان قوله: إنّ السم مشروب مثل، وليس بمستقل، فهو كله غير مستحسن. ووجهه فيما يظهر لي ما تقدم من أن المثل إنّما نظم ليكون أيسر وأشهر. فإذا كان بيتا مستقلا حسن إنشاده من غير حشو هنالك ولا التباس؛ وإن كان شطرا تام الوزن، حسن أيضاً إنشاده وحده من غير حشو ولا فساد في النظم ولا خروج عن حكم الشعر؛ وإن كان جزءا غير تام الوزن فهو إن انشد البت المحتوى عليه كله كان ما زاد على المثل حشوا مع وقوع الالتباس تارة فيما أريد من البيت إذا لم يتعين المقصود، كما في قول النابغة: أي الرجال المهذب، فانه مثل وباقي البيت أيضاً مثل ، وقد لا يدرى أيهما المراد بعينه، وإن كانا يرجعان إلى مقصود واحد. واكثر الأبيات يصح التمثيل بها فيقع الالتباس. وإن لم ينشد البيت كله، بل اقتصر على المثل وحده صار نثرا وبطلت فائدة نظمه. أما ما لا يتم من الأمثال في بيتين أو اكثر كما مر فهو من التام الوزن دون المعنى، وهو عيب التضمين. ويتقوى العيب بكون التضمين بين مبتدأ وخبر، وفعل وفاعل، ونحو ذلك . ويسهل بكونه بين الشرط والجزاء، أو بين القسم والجواب ونحوه. وتفصيله مذكور في علم القوافي.

ثانيهما أن يكون سالما عن التكلف سلسا، تستلذه الأسماع ليكون أوقع له في النفس وأعون على الشيوع. فان الشعر إذا كان متكلفا كان المنثور أحسن منه. وقد يكون التكلف بالإكثار من الأمثال في البيت الواحد أو في القصيدة، فان تعاطي الجمع بين أربعة أمثال في البيت لا يخلو عن تكلف، فضلا عن الخمسة والستة، وكذا في القصيدة. ولذلك قال أبن رشيد في عمدته: وهذه الأشياء في الشعر إنّما هي نبذة تستحسن، ونكت تستطرف، مع القلة وفي الندرة؛ فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة. فلا يجب للشعر أن يكون مثلا كله وحكمة، كشعر صالح بن عبد القدوس: فقد قعد به عن أصحابه وهو يقدمهم في الصناعة، لإكثاره من ذلك. وكذا لا يجب أن يكون استعارة وبديعا كشعر أبي تمام ثم قال : وإنما هرب الحذاق عن هذه الأشياء لمّا تدعو إليه من التكلف لاسيما إن كان في الطبع ايسر شيء من الضعف والتخلف. وأشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه، لمّا يحتاج أليه من شاهد العقل، واقتضاء العيان. ولا ينبغي للشعر أن يكون أيضاً خاليا مغسولا من هذه الحلى فارغا ككثير من شعر أشجع وأشباهه.
ثالثها أن يكون متحرى فيه الصدق وحسن الإصابة. وهذا لا يختص بالمثل الشعري، فان المثل كله أفضله أصدقه وأحكمه وأوجزه؛ وإنّما اشترطت الوجازة احتزازا عن التكلف والإملال: فان قوة البشر غالبا قاصرة عن إيراد الأمثال الطوال من غير تكلف ولا موجب إملال؛ ومن ثم وردت في القرآن الذي هو درجة الإعجاز قصارا وطوالا، وحسنت كلها لانتفاء المانع. فمن القصار قوله تعالى: )كمثل الحمار يحمل أسفارا( ونحوه، ومن الطوال قوله تعالى: )إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناهُ من السماءِ( الآية؛ وقوله تعالى: )مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الرياح( الآية، و)الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةٍ( الآية، ونحو ذلك وهو كثير. وكذا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقعت قصارا وطوالا وحسنت لصدورها عن المصطفى الذي هو أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم . فمن قصارها قولهصلى الله عليه وسلم : الناس كأسنان المشط، وقوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ونحو ذلك . ومن طوالها قوله: مثل البخيل والمنافق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد الحديث؛ وقوله: وإنّ مما ينبت الربيع لمّا يقتل حبطا أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها الحديث وسيأتي الجميع في موضعه مستوفى مشروحا أن شاء الله تعالى.
الرابع في معنى السائر. اعلم إنّه يقال: مثل سائر، سواء كان شعرا أو غيره، وهو من السير في الأرض استعمل في ذهاب المثل وشيوعه في أسماع الناس. ويقال أيضاً : مثل شارد وشرود، وهو من شرود البعير وهو نفوره، واستعمل في شيوع المثل إذا شاع لا يستطاع رده ولا يمكن إخماده. كما لا يستطاع رد الصعب الشرود من الإبل. ولذلك قال زهير يخاطب بني الصيداء، حيث ذهب الحارث بن ورقاء بإبله وغلامه يسار :
فابلغ إن عرضت بهم رسولا ... بني الصيداء إن نفع الجوار
بأن الشعر ليس له مرد ... إذا ورد المياه به التجار
و قال أيضاً :
أولى لهم ثم أولى أن تصيبهم ... مني فواقر لا تبقي لا تبقي ولا تذر
وإن يعلل ركبان الحجيج بهم ... بكل قافية شنعاء تشتهر
قال أبن رشيق: وزعم قوم أن الشرود ما لم يكن له نظير كالشاذ والنادر. فأما قول أبي تمام، وكان إمام الصنعة ورئيسها:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس
حين عيب عليه قوله في أبن المعتصم:
إقدام عمر في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
فإنه يشهد للقول الأول، لأن المثل بعمرو وحاتم مضروب قديما، وليس بمثل لا نضير له كما زعم الآخر.

خاتمة
في اصطلاح الكتاب

اعلم إني رتبت ما ذكرته من الأمثال على حروف المعجم، جاعلا الباب الأول حروف الكلمة، فان اشتمل المثل على كلمات اعتبرت أولها كلمة، ثم أوّل هذه الكلمة حرفا ثم عند سرد أمثال كل باب اعتبر هذا الترتيب أيضاً في جمعها وتقديم بعضها على بعض، والمعتبر من جميع ذلك أوّل الحروف الأصلية دون الزائدة، إلاّ أن يكون لها مسوغ يخرطها في سلك الأصلية. فان كان الحرف مما ينبني عليه التركيب كلا وما النافيتين، وفي والباء الجارتين، اعتبر أيضاً. فإذا فرغت من الأمثال ذكرت شيئا مما يجري مجرى المثل وجعلته ملتحقا به، ثم ذكرت بعض ما يحضر فكري من الأمثال الوقتية من غير تكلف ولا كبير تأمل ولا مراجعة، ثم شرعت في الشعر فذكرت ما هو من الشعر مثل أو يحسن التمثل به في أمر من الأمور من شعر المتقدمين والمتأخرين، وليس في وسع أحد اليوم استقصاؤه ولا بلوغ جله، لكن اذكر من ذلك مقدارا يكون كفاية لمبتغيه، مع التجافي عن جانبي الإخلال والإملال، فان كلا طرفي قصد الأمور ذميم، واعلم أني ربما اذكر شيئا من أمثال المولدين ومن بعدهم، أو شيئا مما يتمثل به في وقتنا من ألفاظ الحديث وغيره. ولا اقتصر على أمثال العرب ولا على ما عد مثلا بالصراحة. وإذا عثرت على ما يحسن إيراده أوردته غير مبال بقائله ولا بتصحيح السند والرواية، فان الكتاب ليس موضوعا للعزو الصرف والحكايات المجردة، بل موضوع لينتفع به الأديب ويستعين به التصرف ويتضلع منه الكاتب والشاعر وغيرهما إنّ شاء الله تعالى. ولا حرج على من لعف العسل، أن لا يسل. وهذا حين أشرع بالمقصود، مستعينا بالفتاح الخبير الودود.

باب الألف
أبى الحقين العذرة
الاباية: الامتناع. يقال: أبى الشيء يأباه ويأبيه إباء وإباءة بكسر أولهما، إذا كرهه. والحقين: اللبن المحقون في السقاء. تقول: حقنت اللبن في السقاء إذا صببته فيه وجعلت حليبه على رائبه. واسم السقاء: المحقن على مثال منبر. واسم اللبن: الحقين. قال زهير يصف الخيل:
ويرجعها إذا نحن إنقلبنا ... نسيف البقل واللبن الحقين
يقول إنّه يرجعها إلى ما كانت عليه من السمن ما تنسفه من البقل وتأكله، وما نسقيها من اللبن المحقون. والعذرة: العذر. قال النابغة يخاطب النعمان:
ها إن ذي عذرة إلاّ تكن نفعت ... فان صاحبها مشارك النكد
و معنى المثل أن العذر باطل مع وجود اللبن. وسيأتي شيء من هذا في قولهم: أهون مظلوم سقاء مروب، إن شاء الله تعالى
أتى الأبد، على لبد.
الإتيان: المجيء. يقال: أتاه أتيا وإتيانه وإتيانا وأتيا، كما يقال مأتى ومأتاه، إذا جاءه؛ وأتى فلان هذا الأمر إذا فعله؛ وأتى الدهر على فلان إذا أهلكه، وهو المقصود هنا. والأبد بفتحتين: الدهر. يقال : أبد أبيد، كما يقال : دهر داهر. ولبد: بضم ففتح آخر نسور لقمان بن عاد وبهلاكه هلك لقمان، وقصته مشهورة، وتلخيصها: إنّ عادا لمّا بعث الله إليهم نبيهم هودا، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم، كذبوه وعتوا واستكبروا ولم يأمنوا، فاحتبس عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا فأوفدوا وفدا إلى البيت الحرام يستسقون لهم، فيهم لقمان بن عاد، ورأسهم رجل يقال له قيل. فانطلق الوفد حتى أتوا على معاوية بن بكر فنزلوا عليه وهو خارج الحرم، وهم أخواله وأصهاره. فمكثوا عنده شهرا يكرمهم، يشربون الخمر وتغنيهم قينتان له يقال لهما الجرادتان. فلما طال مقامهم عنده تذكر ما نزل بقومهم من البلاء، فشق عليه مقامهم وتركهم ما بعثهم فيه قومهم وقال : هلك أصهاري وأخوالي، والله ما أدري ما أصنع! إن أمرتهم بالخروج ظنوا بي إني ضاق بي مقامهم عندي فقال شعرا وأعطاه الجرادتين وأمرها أن تغنياهم به، وهو:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما
وإنّ الوحش تأتيهم جهارا ... فلا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ... و لا لقوا التحية والسلاما

فأما غناهم بالشعر قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم لمّا نزل بهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لهم. وفيهم رجل يقال له يزيد بن سعد أو مرثد بن سعد ممن آمن بهود. فقال لهم: والله لا تسقون حتى تطيعوا نبيكم! وأظهر حينئذ إيمانه وقال في ذلك شعرا، فلم يجيبوه إلى ما قال، وقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا يزيد لا يدخل معنا مكة وهو على دين هود. فانطلقوا حتى دخلوا مكة، وخرج يزيد وراءهم، فأدركهم قبل أن يدعوا بشيء، فقال: اللهم لا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد، فقام قيل وقال: اللهم إن كان هود صادقا فاسقنا فقد هلكنا! فإنشاء الله تعالى سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ونودي من السحاب. يا قيل، اختر لنفسك ولقومك! قال : قد اخترت السوداء لأنها اكثر السحاب ماء. فنودي: اخترت رمادا رمددا، لا يبقي من آل عاد أحدا. فساق الله السحابة السوداء بما فيها من النقمة إلى عاد، وأرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام، فلم تدع منهم أحدا إلاّ هلك. واعتزل هود عليه السلام ومن معه إلى حديقة، فكانوا لا يصيبهم منها إلاّ نسيم يلين الجلود وتلذه الأنفس. وكان الوفد لمّا دعوا بمكة خيروا فأختار قيل أن يصيبه ما أصاب قومه فاقتلعته الريح فأهلكته. وسأل لقمان أن يعمر فخير بين عمر سبع بعرات سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر، وبين سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر. فأختار النسور. فكان يأخذ فرخ النسر حين يخرج من البيضة، فيغذيه حتى إذا هلك أخذ آخر، حتى بقي السابع وهو لبد. فكان يغذيه حتى هرم ولم يستطع النهوض، فأيقن حينئذ لقمان بالموت، فهلكا جميعا. وذكرت الشعراء هذا النسر في أشعارها كثيرا، قال النابغة:
أمست خلاء وأمس أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
و سيأتي تتمة الكلام عليه في حرف الحاء، إن شاء الله تعالى .
ويضرب هذا المثل عند التأسي والاعتبار، والتعزي والاستبصار. وهو من الأمثال الحكيمة.
أتتك بحائنٍ رجلاه.
الإتيان: التقدم. والحائن: الهالك. ويقال حان الرجل يحين حينا كباع بيعاً إذا هلك، فهو حائن. واحنه الله: أهلكه.
ويضرب هذا المثل فيمن سعى إلى مضرته وطلب هلاكه وجرى إلى حتفه. وقال عبيد بن الأبرص. وسببه أن المنذر بن ماء السماء أو النعمان على خلاف بينهم، كان قسم دهره يومين: يوم نعيم ويوم بؤس. فكان كل من يلقيه في يوم النعيم اجزل صلته، ومن لقيه يوم البؤس قتله. فبينما هو في أيام بؤسه إذ طلع عليه العبيد بن الأبرص. فقال له الملك: ألا كان الذبح لغيرك؟ فقال عبيد: أتتك بحائنٍ رجلاه: قال الملك: أو اجل بلغ أناه، ثم قال له: أنشدني يا عبيد، فقد كان يعجبنا شعرك. فقال عبيد: حال الجريض، دون القريض، ويبلغ الحزام الطبيين. قال: أنشدني:
أقفر من أهله محلوب ... فالقطبيات فالذنوب
و هو من شعر عبيد. فقال عبيد:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
فقال: أنشدني هبلتك أمك! قال: المنايا على الحوايا. فقال بعض القوم: أنشد الملك هبلتك أمك! فقال: لا يرحل رحلك من ليس معك.
وقال له آخر: ما اشد جزعك على الموت! فقال:
لا غرو من عيشة نافده ... و هل غير ما ميتةٍ واحدة
فابلغ بني وأعمامهم ... بأن المنايا هي الراصدة
فلا تجزعوا لحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالدة
فقال له الملك: لا بد من الموت ولو لقيني أبي في هذا اليوم لم أجد بداً من أن اذبحه. فأما إذ كنت لها وكانت لك فأختر مني ثلاث خصال: من الأكحل، وإنّ شئت من الأبجل،و إنّ شئت من الوريد. فقال عبيد: ثلاث خصال مقادها شر مقاد، وحاديها شر محاد، ولا خير فيها لمرتاد، فإن كنت لا محالة فاعلاً فأستقي الخمر حتى إذا ذهلت لها ذواهلي، وماتت لها مفاصلي فشأنك وما تريد! فسقاه، فلما أخذت فيه الحميا وقرب الذبح أنشد يقول:
وخيرني ذو البؤس يوم بؤسه ... ثلاثاً أرى في كلها الموت قد برق
كما خيرت عاد من الدهر مرة ... سحائب ما فيها لذي خيرة أنق
سحائب ريح لم توكل ببلدةٍ ... فتتركها إلاّ كما ليلة الطلق

فأمر به فذبح. وفي هذه القصة أمثال يأتي شرح كل منها في محله إن شاء الله تعالى. ولمّا دخل عبد الله بن زياد الكوفة، وسمع به مسلم بن عقيل بن أبي طالب، تحول إلى هانئ بن عروه المرادي، فوضع أبن زياد الرصد على مسلم حتى علم بموضعه، فبعث محمّد بن الأشعث إلى هانئ فجاءه به من هناك. فلما نظر إليه أبن زياد قال: أتتك بحائن رجلاه! ثم قال:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذريك من خليلك من مراد
و القصة مشهورة في قتل الحسين رضي الله عنه، وسنلم ببقايا بعد إنّ شاء الله تعالى.

أتيته صكة عمي
الإتيان مر والصك: الضرب الشديد. والصكك: اضطراب الركبتين والعرقوبين.
يقال: صكَّ، يصكُّ، صككّا، كما يقال مل، مللا. فهو أصك ومصك. واصطك أيضاً اصطكاكا وعمي: بتشديد الياء على مثال سمي، اسم رجل من العمالقة كان أغار على قوم ظهراً فصكهم واستأصلهم، وبقي مثالاً لكل من جاء ذلك الوقت، وهو الهاجرة وشدة الحر. وقيل هو رجل كان يفتي في الحجم، فجاء في ركب، ونزلوا منزلاً في يوم حار. فقال لهم: من جاءت عليه الساعة من غد وهو حرام، بقي حرام إلى قابل فوثبوا حتى وافوا البيت من مسيرة ليلتين جادين. وقيل عمي اسم للحر بعينه. وقيل المراد به الظبي، لأنّه يصدر في الهواجر فيصطك بما يستقبله كاصطكاكا الأعمى، فصغر الأعمى تصغير الترخيم، فيه عمي، كما قالوا في تصغير أدرد، وأسود،و أزهر: دريد، وسويد، وزهير.
أتتهم فالية الأفاعي.
الإتيان مر. وفالية الأفاعي: خنفساء رقطاء. قال العبدي في شاعر من بني حميس:
ألا ينهى سراة بني حميسٍ ... شويعرها فويلية الأفاعي
فصغرها كما صغر الشاعر تحقيراً له. وهذه الخنفساء تألف العقارب والحيات في جحرها؛ فإذا خرجت أو رؤيت في موضع علم إنّ هناك العقارب والحيات، فيضرب المثل لأول شر ينظر بعده شر منه.
يأتيك كل غد بما فيه.
الغد معروف، واصله غدو، ثم خفف بحذف لامه، وقد يؤتى به على أصله قال لبيد.
وما الناس إلاّ كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوا بلاقع
و هذا المثل من أمثالهم المشهورة يعنون به: " المقادير كلها في علم الله تعالى قد قدرت، والأحداث بأصنافها قد فصلت وقسطت، وكل ما هو واقع منها فهو لا محالة كائن، وما قضي أن يبرز منها فهو بارز حتى يعاين، فكل غد فهو يأتيك بما فيه من خير وشر، ويسر وعسر، وفرح وترح.
إحدى حظيات لقمان
الإحدى: تأنيث الأحد بمعنى الواحد. والحظية تصغير حظوة، بفتح الحاء المهملة وسكون الظاء المشالة، وهي سهم صغير قدر ذراع. وفي الصحاح إنّه إذا لم يكن فيه نصل فهو حظية بالتصغير. وتطلق الحظوة أيضاً على كل قضيب تابت في أصل شجرة. ولقمان: هو أبن عاد. وحظياته: سهامه ومراميه. يضرب بمن عرف بالشرارة ثم جاءت منه هنة صالحة. وذكروا في أصل ذلك أن لقمان تزوج امرأة كانت طلقها رجل يقال له عمرو، فكانت تكثر أن تقول: لا فتى إلاّ عمرو! فإذا سمع منها لقمان ذلك اغتاظ فقال: والله لأقتلن عمرا! فنهته المرأة عن ذلك وقالت له:و الله لأن تعرضت له ليقتلنك! فذهب لقمان حتى صعد سمرة عند مستقى عمرو لإبله، واتخذ فيها عشا، وترصد عمرا ليصيب منه غرة. فإذا بعمرو أورد إبله، فتجرد وأكب على البئر يسقي إبله فرماه لقمان من فوقه بسهم وأصاب ظهره. فقال عمرو: حس إحدى لقمان، فانتزعه ورفع رأسه إلى السمرة فإذا لقمان، فقال له: أنزل فنزل فأراد قتله فتبسم لقمان فقال: أضاحك أنت؟ قال: والله ما أضحك إلى من نفسي، أما إني قد نهيت عما ترى قال: ومن نهاك؟ قال: فلانة. قال : فإن وهبتك لها لتعلمنها بذلك، قال: نعم! فخلى سبيله. فأتاها لقمان فقال: لا فتى إلاّ عمرو، فقلت: لقد لقيته، قال نعم، لقد كان كذا وكذا وأراد قتلي ثم وهبني لك، فقالت لا فتى إلاّ عمرو، قال: صدقت.
الأخذ سلجان، والقضاء ليان

الأخذ: التناول. تقول: أخذت الشيء أخذا، وتقول خذ يا فلان بحذف فاء الكلمة. وأصله أ أخذ، فلما استثقل الجمع بين الهمزتين حذفتا، ولم تبدل الثانية حرف مد ولو ادخل على الفعل الواو أو الفاء. وكذا الأمر من أكل وأمر؛ إلاّ أن الآخر إذا دخل عليه العاطف جاز رد فائه. والسلجان: الابتلاع يقال سلج اللقمة بالكسر يسلجها سَلجانا وسَلَجانا إذا ابتلعها. والسلجان بكسرتين مشدد اللام: الحلقوم. وطعام سليج وسَلَجلج وسُلَجلج: طيب، يُتسلج، أي يبتلع. واستعمل حسان رضي الله عنه السلجج في السيف الماضي الذي يقطع الضريبة بسهولة، حيث قال يوم بدر:
زين الندى معاود يوم الوغى ... ضرب الكمأة بكل ابيض سلجج
و لويت أمري عنه لين وليانا: طويته، ولويته بدينه ليا وليانا بكسرهما: مطلته. وفي الخير: لي الواجد يحل عرضه. وقال ذو الرمة:
تريدن لياني وأنت ملية ... و احسن يا ذات الوشاح التقاضيا
و قضاء الدين والحق معروف. ومعنى المثل إن الأخذ سهل ينساه في الحلق بسهولة، والقضاء بخلاف ذلك. فإذا اخذ الرجل الدين أكله غير مبال؛ فإذا حان القضاء تصعب الأمر وتلوى. وقد يقال في هذا المثل أيضاً: الأكل سلجان، والقضاء ليان، ولا فرق بين الأكل والأخذ في المقصد، فالمعنى واحد.

الأخذ سريط، والقضاء ضريط
الأخذ مرّ. والسريط الاستراط. يقال: سرط اللقمة يسرطها، كذلك يدخل، وسرطها يسرطها، كفهم يفهم، سرطا إذا ابتلعها. والمسرط بكسر الميم وفتحها الحلقوم. والضراط معروف. يقال: ضرط بالكسر يضرط ضرطا، وضريطا ككتف، وضريطا وضراطا بالضم إذا فعل ذلك. وأضرطه وضرطه تضريطا: عمل به ما يضرط منه؛ وأضرط به: عمل بفيه كالضراط وهزئ به ومعنى المثل أنه يأخذ ألين فيسترطه ويبتلعه سهلا؛ فإذا طالبه صاحبه بالقضاء أضرط به كما في الذي قبله. ويقال هنا سريط وضريط، بضم أولهما وتشديد الراء؛ وسريطى وضريطى كذلك مع الألف المقصورة؛ وسريط وضريط وسريطى وضريطى على مثل خليفى؛ وسريطاء وضريطاء، مضمومتين مخففتين، والكل واحد. وقد يقال: الأخذ سريط، والعطاء ضريط ولا فرق بين القضاء والعطاء فالمعنى واحد.
اتخذ فلان حمارا للحاجات
الاتخاذ التصيير. والحاجات: جمع حاجة؛ وتجمع أيضاً على حاج وحوج وحوائج، وهذا الأخير على خلاف القياس، كأنه جمع حائجة. وكان بعض اللغويين ينكره ويقول إنّه مولد. وقال آخرون هو عربي وإن كان خلاف القياس، وأنشدوا:
نهار المرء مثل حين يثضي ... حوائجه من الليل الطويل
يضرب هذا المثل فيمن يمتهن في الأمور كالحمار.
أخذ الليل جملا
ً
الاتخاذ مر، والليل معروف، وكذا الجمل من الإبل. يضرب هذا المثل لمن سرى الليل اجمع، إما لأنه بات ساريا مستيقضا عارفا بجميع ما مر عليه من أجزاء الليل كان مصاحبا لليل حقيقة، غير تارك له ولا غافل عنه بالنوم، ولا مفارق له كمصاحبة الراكب لراحلته، وأما لأنه صار الليل له سببا في وصوله إلى مأربه وبلوغه حين سراة، كما أن الجمل يكون سببا في وصول إلى مطلبه حين يركبه؛ وإما لأن الدلجة تعين على السير وتقطع المسافة البعيدة كما في الحديث فأشبهت الجمل لأن أقوى على السير، وأبقى على الأير، وأقطع للفلوات، وأنجح في بلوغ الحاجات. قال حبيب:
جعل الدجى جملا وودع راضيا ... بالهون يتخذ القعود قعودا

و يحكى أن عبد الله بن سعيد لمّا افتتح أفريقية وقتل ملكها جرجير، بعث بالفتح إلى عثمان رضي الله عنه مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. فلما بلغ أبن الزبير قام في الناس خطيبا فقال: الحمد لله الذي ألف بيننا بعد الفرقة، وجعلنا متحابين بعد البغضة، الحمد لله الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه؛ له الحمد كما حمد نفسه وكما هو أهله؛ ابتعث محمّدا صلى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه وائتمنه على وحيه؛ فاختار له من الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه وجاهدوا في الله حق جهاده، فأستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي لا تأخذهم في الله لومة لائم، أيّها الناس - رحمكم الله - إذا خرجنا للوجه الذي قد علمتم، فكنا مع خير وال ولي فمحمد، وقسم فعدل، لم تفقد من بر أمير المؤمنين شيئا. كان يسر بنا البريدين يخفض بنا في الظهائر، ويتخذ الليل جملا. يعجل الرحل من المنزل القفر، ويطيل اللباث في المنزل المخصب الرحب. فلم نزل على احسن حالة يتعرفها قوم من ربهم حتى انتهى إلى أفريقية فنزل منا بحيث يسمع صهيل الخيل، ورعاء الإبل، وقعقعة السلاح، فأقام أياما يجم كراعه ويصلح سلاحه، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه، فبعدوا منه، وسألهم الجزية عن صغار والصلح، فكانت هذه ابعد، فأقام فيهم ثلاث عشرة ليلة يتأنى بهم وتختلف رسله إليهم. فلما يئس منهم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر الصلاة عليه، ثم ذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب. ثم ناهد لعدوه فقاتلهم اشد القتال يومه ذلك ، وصبر الفريقان جميعا وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، وأستشهد الله رجالا من المسلمين، فبتنا وباتوا، للمسلمين بالقرآن دوي كدوي النحل، وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم، فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس، وزحف بعضنا إلى بعض فأفرغ الله علينا الصبر، ثم أنزل علينا النصر. ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، فبلغ فيها الخمس خمسين مائة ألف دينار. وتركت المسلمين قد قرت أعنهم وقد أغناهم التفل ووسعهم الحق وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من الشرك، فاحمد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه، من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. وزعموا أنه لمّا فرغ من الخطبة نهض إليه أبه الزبير فقبل بين عينيه وقال له: يا بني، إذا نكحت امرأة فأنكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما، والله ما زلت تنطق بلسن أبي بكر الصديق حتى صمت.

أخذهم ما قدم وما حدث:
الأخذ مر. وقدم الشيء بالضم فهو قديم: ضد الحادث؛ بالفتح يحدث، كنصر ينصر، فهو حادث. فإذا قرن حدث بقدم كما في هذا المثل ضمت دال حدث للمزاوجة كما قيل: لا دريت ولا تليت، وأرجعن ما زورات غير ما جورات والقياس في الأول تلوت، وفي الثاني موزورات؛ وكما قيل: هناني الطعام ومراني، والقياس أمراني؛ وكذا يقال في غير المزاوجة بالهمز؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: اللهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، والقياس: ومن أضلوا، فعبر بما والنون للمزاوجة.
يضرب هذا المثل لمن يستولي عليه الهم، وكأنهم يريدون انه اجتمع عليه قديمه وحديثه، والله أعلم.
خذ من جذع ما أعطاك:
الأخذ مر وجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة اسم رجل، وهو جذع بن عمرو الغساني. وكانت غسان تؤدي إلى ملك سليح، وهي قبيلة باليمن، دينارين من كل رجل. وكان قابض ذلك سبطة بن المنذر السليحي. فجاء مرة يسأل الدينارين، فدخل جذع منزله وأشتمل بسيفه وخرج فضرب به سبطة حتى برد وقال له: خذ من جذع ما أعطاك! وقيل إنّه أعطى بعض الملوك سيفه رهنا فلم يأخذ، فضربه حتى قتله، وقال ذلك ، فذهب مثلا يضرب في اغتنام ما يجود به البخيل.
خذ من الرضفة ما عليها:
الرضفة، بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة: واحدة الرضف، وهي حجارة محماة يوغر عليها اللبن ويشوى عليها. وهذا المثل من معنى الذي قبله، والله أعلم.
خذه ولو بقرطي مارية:

القرط، بضم فسكون: ما يعلق في شحمة الأذن من الحلي، والجمع قرطة ، يقال درج ودرجة؛ وقراط كما يقال رمح ورماح. وقرطت الجارية تقريطا: ألبستها إياه، فتقرطت هي . قال أعرابي يخاطب امرأته:
قرطك الله على العينين ... عقاربا سودا وأرقمين
ومارية، بالراء المخففة على وزن صاحبة: امرأة من غسان. وهي مارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو المعروف بمزيقياء بن عامر. وكان لها قرطان كان فيهما مائتا دينار. وقيل جوهر قوم بأربعين ألف دينار. وقيل كان فيهما درتان كبيضتي الحمامة لم ير الناس مثلهما. فأهدتهما إلى الكعبة، فضرب بهما المثل. وقيل: خذه ولو بقرطي مارية، أي على كل حال. ومارية هذه هي الواقعة في قول حسان رضي الله عنه:
للهِ درُ عصابةٍ نادمتهم ... يوما بجلق في الزمانِ الأولِ
أولاد جفنه حول قبر أبيهمُ ... قبر أبن ماريةَ الكريم المفضلِ
و ابنها المذكور هو الحارث الأعرج أبن الحارث الأكبر بن أبي شمر. وأولاده يزيد بن الحارث وابنه عمرو، وهو الذي مدحه النابغة الذبياني بقوله في قصيدته البائة المعروفة:
عليَّ لعمرو نعمة بعد نعمةٍ ... لوالده ليس بذلتِ عقاربِ
حلفتُ يمينا غير ذي مثنويةٍ ... و لا علمَ إلاّ حسنُ ظنٍّ بصاحبِ
لئن كان للقبرينِ قبر بجلقةِ ... و فبرٍ بصيداء الذي عند حاربِ
وللحارثِ الجفني سيدِ قومهِ ... ليلتمسن بالجيشِ دارَ المحاربِ
وثقتُ له بالنصر إذ قيل قد غزا ... كتائبُ من غسانَ غيرُ أشائبِ
بنو عمه دنيا وعمرو بن عامرِ ... أولئك قومٌ بأسهم غيرُ كاذبِ
و لشعر خسان قصة ظريفة مع جبلة بن الأيهم ستذكر في باب الأعيان إن شاء الله تعالى. وقيل هي مارية بنت ظالم، وقيل هي أم ولد جفنة، والله اعلم. وقد عرف مضرب المثل مما مر.

آخر البز على القلوص:
الآخر بالمد وكسر الخاء: ضد الأول؛ والبز: أمتعة البزاز من الثياب، والبز أيضاً: السلاح؛ والقلوص من النوق؛ الفتية بمنزلة الشابة من النساء. وهذا المثل قاله الزبان الذهلي، وكان ابنه عمرو بن الزبان بينه وبين قوم ترة، فذهب عمرو يوما هو وأخوته لأمر فرآهم خوعتة الغفلي، فدل عليهم أصحابه، فأتوهم وهم قعود يتغذون. فقال لهم عمرو: لا تشبوا الحرب بيننا وبينكم! فقالوا: كلا! بل نقتلك ونقتل أخوتك قال: فإن كنتم فاعلين، فأطلقوا هؤلاء الذين لم يلتبسوا بالحروب، فإنَ ورائهم طالبا أطلب مني، يعني أباهم، فقتلوهم وجعلوا رؤوسهم في مخلاة وعلقوها في عنق ناقة لهم يقال لها الدهيم. فجاءت الناقة والزبان جالس أمام بيته فبركت، فقامت الجارية فجست المخلاة فقالت: أصاب بنوك بيض النعام فأدخلت يدها فأخرجت رأس عمرو ثم رؤوس أخوته. فأخذها الزبان وغسلها ووضعها على ترس فقال: آخر البز على القلوص، فذهبت مثلا، أي آخر عهدي بهم فلا ألقاهم بعدها. ثم شب الحرب بينه وبين بني عقيلة حتى أبادهم، فقالت العرب: أشئم من خوتعة، وأشئم من الديهم، وأثقل من حمل الديهم. وسنأتي هذه الأمثال كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وكان هذا المثل هو الذي أشار إليه حبيب بقوله:
وهرجاما بطست به فقلنا ... خيارُ البز جاء على القعودِ
آخر أقلها شربا.
الآخر تقدم. والأقل: ضد الأكثر. والشرب، بكسر الشين المعجمة: الحظ من الماء. وأصل هذا المثل في الإبل، فإن أواخرها وردا ترد وقد نزف الحوض ولم يبق فيه إلاّ قليل من الماء، فيكون ما تناله من الماء شيئا قليلا، فيضرب المثل لمن كان كذلك في الأمور والحظوظ كلها.
أخوك أم الذئب
؟
الأخ معروف، وكذلك الذئب. والأخ والذئب على طرفي نقيض، فإنَ الأخ شأنه الوفاق والإيناس والإعانة والإحسان، والذئب شأنه الأذية والمعاداة. فيضرب المثل عند سؤالك أحدا أهو صديق أم عدو، وهو مثل مشهور.
أخوك البكري ولا تأمنه!

هذا المثل مشهور وقديم، يضرب في استعمال الحذر وسوء الظن، ورد في الخبر عن عبد الله بن عمرو بن الفوعاء الخزاعي عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بعد الفتح، فقال: التمس صاحبا. قال: فجائني عمرو بن أمية الضمري، وهو أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناف، فقال: بلغني أنك تريد الخروج وتاتمس صاحبا. فقال: قلت أجل! قال: فأنا لك صاحب. قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد وجدت صاحبا. قال. فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري. قال: إذا هبطت بلاد قومه فأحذره فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه! فخرجنا حتى إذا كنت بالأبواء قال: إني أريد حاجة إلى قومي بودان فالبث لي، قلت راشد. فلما ولى ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فشددت على بعيري وأوضعته حتى كنت بالأصفار إذا هو يعرضني في رهط. قال: وأوضعت فسبقته. فلما رأني فته انصرفوا، وجاءني فقال: كانت لي إلى قومي حاجة. قال. قلت: أجل! ومضينا حتى مكة، فدفعت المال إلى أبي سفيان. انتهى. والبكري صفة أخوك، والخبر محذوف تقديره " أو مخوف " أو نحو ذلك والمعنى إنّه أخوك شقيقك وأنت تحذره ولا تأمنه، فكيف بغيره؟ والبكري، إن كان نسبته إلى القبيلة، فهو بفتح الباء الموحدة. واستظهر بعضهم أن يكون يكسرها وكأنه يرى أنه من بكر الأولاد. يقال: امرأة بكر للتي ولدت بطنا واحدا، وبكرها ولدها الأول. والذكر والأنثى فيه سواء قال:
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحتَ مني كذراعٍ من عضد
و هو بكسر الباء، وإلا إنّه يوصف به، ولا يحتاج إلى ياء النسبة. وعلى الاحتمال الأول يصح أن يكون البكري هو الخبر، ولا تقدير.
إذا دخلتَ أرض الحُصيبِ فهرول!
الدخول معروف، كذلك الأرض. والحصيب، بالحاء والصاد المهملتين مصغرا: موضع باليمن. والهرولة: الإسراع، أو بين المشي والجري. والحصيب فاقت نساؤه حسنا وجمالا، وأحسب لذلك أمر بالهرولة عند دخوله حذرا من فتنتهن. فإنَ كان الأمر كذلك، حسن أن يضرب المثل فيما يشبه ذلك من الحذر وطلب السلامة، والله اعلم.

إذا رغب الملك عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة.
هذا المثل مصنوع فيما يظهر، وهو ظاهر المعنى، وسيأتي في الحكم بسط هذا المعنى واستيفاؤه من كلام الحكماء، إن شاء الله تعالى.
إذا ارجحن شاصياً فارفع يداً:
يقال ارجحن ارجحنانا إذا مال. وشصا بصر الرجل يشصو شصواً: ارتفع، واشصاه صاحيه: رفعه. أي : إذا مال ساقطا، ورفع رجليه، فارفع يدك عنه ولا تضربه والمعنى: إذا خضع لك فاكفف عنه وارفق به، لأن القدرة تذهب الحفيظة.
إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبحٌ.
السماع معروف والسرى على وزن هدى. يقال: سرى يسري سُرى، ومسرى، وسرية، وأسرى إذا مشى عامة الليل. والقين: الحداد وجمعه أقيان. والقين أيضاً: العبد، وجمعه قيان والصباح: الدخول في الصباح.
يضرب هذا المثل في الكذب والإخلاف حيث يعرف كذب الرجل فيرد صدقه. وأصله أن قينا كان باليمن، فكان إذا كسد في موضع أخبرهم إنّه سيخرج غدا ثم لا يخرج، فضربوا به المثل. وسيأتي تمام القصة في حرف الدال، إن شاء الله تعالى.
إذا اشتريت فاذكر السوق.
ألفاظه ظاهرة. وهو من أمثال العرب المشهورة. يريدون به أنك إذا اشتريت سلعة فاذكر الصحة واطلبها، وتبصر العيوب وتجنبها، فانك ستحتاج فيما اشتريته إلى إنّ تقينه في السوق يوما لبيعه إن احتجت إلى ثمنه. فتذكر ذلك اليوم فانك إن اشتريت جيدا بعت جيدا. وفي معناه قول العامة اليوم: كما تشتري تبيع.
إذا طلبت الباطل أنجح بك.
الباطل معروف: والنجاح والنجح: الظفر بالحاجة. يقال: نجحت حاجته وأنجح هو: صار ذا نجح. ويقال: أنجح بك إذا غلبك؛ فإذا غلبته فقد أنجحت به. وكانت الفتاة من العرب تزوجت شيخا، فكان يقعد لينتعل فتقول: يا حبذا المنتعلون قياما، فسمعها يوما فحاول أن ينتعل قائما فضرط، فقالت: إذا طلبت الباطل أنجح بك، أي ظفر بك ولم تظفر أنت بشيء، فسار مثلا يضرب عند الظلم في أداء الباطل.
إذا عز أخوك فهن.

العز خلاف الذل؛ يقال: عز الرجل يعز إذا قوى وامتنع بعد ذلة؛ وعز علي أن تفعل كذا، وعز علي هذا الأمر: أي أشتد. وهن يروى بضم الهاء وكسرها: فالضم من هان يهون هوانا إذا ذل وخضع. ومعنى المثل عليه إذا عز أخوك، أي عظم وتقوى فاخضع له أنت تسلم من شره. والكسر من هان يهون إذا لأن. والمعنى: إذا أشتد أخوك وتصعب، فلن أنت. هكذا ذكر بعض الناس، وهو صحيح من جهة المعنى؛ لكن ما ذكر من كسر الهاء، إنّها يصح إن وجدت مادة هذا يقال ن. والمعروف في اللغة إنّها هو مادة هذا ون؛ إلاّ إنّه إذا أريد الذلة والخضوع، قيل الهون بضم الهاء، والهونة؛ وإذا أريد الين والسكينة، قيل: الهون بفتح الهاء. قال تعالى: )و الذين يمشونَ على الأرضِ همنا(. ويقال رجل هيِّن وهين كميت وميِّت، وليس يائيا بل واويا، فوقع القلب: ويقال: هون الله الأمر، إذا سهله. ومما يوافق المعنى الأول قول أبن أحمر:
وقوارع من الأيام لولا ... سبيلهم لراحت عنك حينا
دببت لها الضراء وقلت أبغي ... إذا عز أبن عمك أن تهونا
وهو محتمل للمعنى الثاني أيضاً. ومن الضريح في الثاني قول الآخر:
بنيَّ إذا ما سمك الذلَّ قادرٌ ... عزيزٌ فلن فاللين أولى وأحرزُ
ولا تسم في كل الأمور تعززاً ... فقد يورثُ الذلَّ الطويلَ التعززُ
و المثل للهذيل بن هبير. وسببه إنّه أغار على ضبة فغنم وأقبل بالغنائم. فقال أصحابه: أقسمها بيننا. فقال: أخاف أن يدرككم الطلب، فأبوا. فعند ذلك قال: إذا عز أخوك فهن، ونزل فقسمها.

إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.
الاستحياء الانقباض والحشمة؛ يقال: حيي منه بالكسر يحيى حياء بالمد، واستحيى، وهو حيي كغني: ذو حياء؛ وقد يقال: استحى يستحي. قال الشاعر:
تقول يا شيخ أما تستحي ... في شربك الخمر على المكبر؟!
و هذا الكلام يتمثل به، وليس من الأمثال. وفي الخبر: مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. وفسر بمعنيين: أحدهما ظاهر، وهو المشهور: إذا لم تستحي من العيب ولم تخش عارا ولا لوما مما تفعل، فافعل ما تحدثك به نفسك، حسنا أمثال لا. ولفظه أمر، ومعناها الخبر على وجه التوبيخ والتهديد، كأنه قيل: إذا لم يكن فيك حياء، فأنت صانع ما شئت من خير وشر. وفيه إشعار بأن الرادع للإنسان عن السوء هو الحياء؛ فإذا انخلع عنه كان كالمأمور بارتكاب كل محذور، وتعاطي كل قبيح وسيئة، كما قال الحماسي:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... و لم تستحي فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيش خيرٌ ... و لا الدنيا إذا ذهبَ الحياءُ
و قال أبو دلف العجلي:
إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... و تستحي مخلوفاً فما شئت فاصنعِ
و قد أكثر الشعراء من هذا النحو.
ثانيهما أن يحمل الأمر على بابه، أي إذا كنت في فعلك آمنا أن تستحي لجريك على اسنن وليس من الأفعال التي يستحي منها، فافعل؛ وإلاّ فلا. وهذا قانون كلي، وهو مثل ما في الحكمة: إياك وما يعتذر منه.
إذا نزل بك الشر فاقعد.
هذا مثال مشهور معناه: إذا رأيت شرا مقبلا، وهولا حاصلا، وفتنة ثائرة، فتربص وتأن، واحلم ولا تسارع، ولا تستهدف ولا تستشرف. وفي الحديث في ذكر الفتنة: من يستشرف لهل تستشرفه.
إذا نزل القضاء عمي البصر:
هذا يتمثل به أيضاً. والمعنى أن ما قضى الله تعالى فهو كائن، وما قدره فهو واقع، لا ينجي منه الحذر، ولا نظر البصير. يحكى أن نافعا سأل أبن عباس - رضي الله عنه - فقال له: سليمان عليه السلام، مع ما خوله الله تعالى من الملك، كيف عني بالهدهد مع صغره؟ يعني حيث تفقد الطير فسأل عن الهدهد وقال: لأعذبنه أو ليأتيني بسلطان مبين. فقال أبن عباس: إنه احتاج إلى الماء والهدهد كانت له الأرض كالزجاج فقال نافع: قف يا وقاف! كيف يبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا عطي له بقد إصبع من التراب؟ فقال أبن عباس: إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال أبو عمر الزاهد في هذا المعنى:
إذا أراد الله أمراً بأمرءٍ ... و كان ذا عقلٍ ورأيٍ وبصر
وحيلةٍ يفعلها في دفع ما ... يأتي بهِ محتومُ أسبابِ القدر
غطى عليهِ سمعهُ وعقلهُ ... وسلهُ من ذهنه سلَّ الشَّعر

حتى إذا نفذَ فيه حكمهُ ... ردَّ عليه عقلهُ ليعتبر
و هو معنى ما في الحديث: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب عقول الرجال الحديث.

إذا لم تغلب فاخلب.
الخلابة: الخداع، والمثل ظاهر المعنى.
مأرب لا حفاوة:
المأرب الحاجة، والجمع مآرب وفي التنزيل: ولي فيه مآرب أخرى. وكذا المأربة مثلث الراء. والحفاوة: الاهتمام والاهتبال بالشيء، يقال. حفيت بالرجل بالكسر، فأنا به حفي، إي اهتممت به وبالغت في الألطاف به والسؤال عن حاله. قال تعالى : )سأستغفرُ لك ربيَ إنهُ كانَ بي حفياً(. وقال الحماسي:
فلما أتينا السفح من بطن حائلِ ... بحيثُ تناصى طلحها وسيالها
دعوا لنزارٍ وانتمينا لطيئ ... كأسدِ الشرى إقدامه ونزالها
فلما التقينا بيَّن السيفُ بيننا ... لسائلهِ عنَّا حفيَّ سؤالها
يضرب هذا المثل للرجل يتملقك لا رغبة فيك ولا اهتماما بأمرك، ولطن لغرض يطلبه منك وحاجة ينالها عنك. ومأرب يصح أن يكون مبتدأ يقدر خبره، أي بك مأرب لا حفاوة، وأن يكون خبرا يقدم مبتدؤه، أي باعثك وحاملك على الدنو مني والتملق لي مأرب لا حفاوة. فإن قلت: هل يصح أن ينصب أو يقال إنه مرفوع عن منصوب في الأصل، كما قيل في: سلام وحنان، وصبر جميل؟ قلت: لو كان منصوبا لكان معناه تقصد أو ترتاد مأربا، وحينئذ لا يحسن العطف بهذا التقدير في حفاوة كما لا يخفى، ويحتاج إلى تقدير آخر كأنه قيل ترتاد مأربا ولا تحفي حفاوة، وفيه بعض التكلف، وإن كان يمكن تقدير فعل أعم كالملابسة.
آكل من أرضة.
الأكل معروف. والأرضة بفتحتين والضاد المعجمة: دويبة صغيرة تأكل الخشب وفي قصة الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم أ، الله بعث عليها الأرضة فأكلت كل ما فيها من جور وظلم ز قطيعة رحم، وبقي ما كان فيها من ذكر. ويضربون المثل بالأرضة في كثرة الأكل وقوته. وينسب إلى القاضي عبد البوهاب:
يا أهلَ مصر رأيتُ أيديكم ... عن بسطها بالنوالِ منقبضة
لمّا عدمت النوال عندكم ... أكلتُ كتبي كأنني أرضة
آكل من سوس.
الأكل مر. والسوس: الدود المعروف يقع في الصوف والطعام. قال امرؤ القيس:
آليت حب العراقِ الدهر أطعمه ... و الحب يأكله في القريةِ السوسُ
يضرب به المثل أيضاً في كثرة الأكل. قيل لخالد بن صفوان: كيف ابنك؟ فقال: سيد فتيان قومه ظرفا وأدبا. فقيل له: كم زقه؟ قال: درهم. فقيل: أيرتفع منه ثلاثون درهما في شهر وأنت تستغل ثلاثين ألفا؟ قال: الثلاثون أسرع في هلاك المال من السوس. ولهذا قالوا: العيال سوس المال كما سيأتي.
يأكلك الأسد ولا يأكلك الكلب.
هذا فيما يظهر مثل مولد يضرب عند اختيار المرء صولة العزيز وعقوبة الكبير على صولة الذليل وعقوبة الحقير، فإنَ صولة الذليل أشد على النفس كما قيل: لو ذات سوار لطمتني والمثل قد وقع في الكلام الأمير شمس الدين قراسنقر، وذلك أن شمس الدين بن السلعوس كان يكرهه. فلما حضر الملك الاشرف إلى دمشق، وبلغ قراسنقر كراهية الوزير وعمله، بادر بهدية عظيمة وتقدمة حسنة إلى الملك، وأحضر ذلك بنفسه، فقال له السلطان: لأي شيء هذا؟ قال : بلغني أن إنّ السلعوس يعمل علي ويغير خاطر مولانا السلطان. وقد جئت أما بنفسي يأكلني السبع ولا يأكلني الكلب. وفي هذا قال الصابئ في أبي الورد البغدادي:
ومن عجب الأيام أنَّ صروفها ... تسوي إمرءاً مثلي بمثل أبي الوردِ
فيا ليتها اختارت نظيراً وأنه ... رماني بشنعاء الدواهي على عمدِ
فكم بين معقور الكلاب وإن نجا ... ذليلاً ز مقتولِ الصراغة الأسدِ
و نحو قول المثقب العبدي:
فإن أكُ مأكولاً فكن خير أكلِ ... و إلاّ فداركني ولمل أمزقِ
و يحكى أن العجير السلولي هجا قوما من بني حنيفة، فأقاموا عليه البينة عند نافع بن علقمة الكناني، فأمر به أن يقام عليه الحدّ في ملأ من الناس. فهرب العجير ليلا حتى أتى نافعا فقعد له متنكرا حتى خرج من المسجد، ثم تعلق به فقال:
إليك سبقنا السوط والسجنَ تحتنا ... حُبالى يسامين الظلام ولقحُ
إلى نافعِ لا نرتجي ما أصابنا ... تحومُ علينا السانحاتُ وتبرحُ
فإن أكَ مجلوداً فكن أنت جالي ... و إن أكُ مذبوحاً فكن أنت تذبحُ

فقال له: انج لنفسك، فإني سأرضي خصومك، فبعث إليهم وأرضاهم. وهذا المثل باق اليوم في ألسنة العوام يقولون: من أكله السبع خير ممن أكله الذئب.

آلف من حمام مكة.
يقال ألِفَ فلان كذا، بكسر اللام، يألفه إلفاً بكسر الهمزة وفتحها فهو ألف، وهي آلفة، وهم آلاف، وهن آلفات وأو ألف. والألفة بضم الهمزة: اسم من الائتلاف. إلفك بكسر الهمزة: الذي تألفه كما يقال: حب وخدن. والحمام على مثال سحاب: اسم جنس واحدة حمامة للذكر والأنثى. وقد يقال للواحد حمام، قاله في الصحاح وأنشد عليه قوله الشاعر:
حماما أيكة وقعا فطارا
وقول الآخر:
وذكرني الصبا بعد التنائي ... حمامةُ أيكةٍ تدعو حماما
قلت: والأول محتمل لأن يكون تثنية جماعتين كما قال الآخر:
هما سيدانا يزعمانِ وإنما ... يسوداننا إن أيسرت غنماها
فثنى الغنم وهو اسم جمع، وهذه التثنية لا تخص بالمفرد، بلهي جارية في أسماء الجموع، وجموع التكسير أيضا، كما علم في محله، فلا دليل فيها على المفرد. والثاني يحتملل أن يكون الحمام فيه اسم جنس، لا يقال مقابلته بالحمامة عاضد للأفراد، فهو ظاهر في المراد، لأنا نقول ذلك لو سلم أن الحمامة أريد بها الأنثى ليكون المقال ذكرا. لكنا نقول إنها للفرد من الجنس كما مر، ومقابل الفرد من حيث هو الجنس. والحمام قال في الصحاح: ذوات الأطراف من نحو الفواخت والقماري وساق حر والقطا وأشباه ذلك. قال: وهي عند العامة الدواجن فقط، وأنشد على الأول لحميد بن ثور:
وما هاجَ هذا الشوق إلاّ حمامةٌ ... دعت ساقَ حرٍّ ترحه وترنما
قال: والحمامة هاهنا قمرية قال وقال الأصمعي في قول النابغة:
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراعٍ واردِ الثمدِ
هذه زرقاء اليمامة نظرت إلى قطا. قلت: وبه حزم شارح ديوان النابغة عن أبي حاتم، وإن هذه المرأة كانت لها قطاة. فمر بها سرب من القطا فقالت ذلك. وأراد النابغة بالحمام ذلك القطا. ومكة البلدة الحرام ووصف حمامها بالألفة لأنه محترم لا يتعرض له أحد بمكروه ولا أذى، كما قال العجاج:
ورب هذا البلدِ المحرمِ ... قواطناً مكة من ورقِ الحمِ
أي الحمام، فرخم للضرورة فلما كان آمنا كان ثابت الجأش غير نفور من الناس نفور الصيد، كما قال النابغة:
والمؤمنِ العائذاتِ الطير يمسحها ... ركبانُ مكة بين الغيل والسعدِ
وأراد بالعائذات هذه الطير، ولذا أتى بالطير بدلا منها، والمؤمن هو الله تعالى، وهو لفظ اسم فاعل متعد إلى مفعولين بهمزة النقل، والواو للقسم، والمفعول الثاني محذوف أي: أقسم بالله تعالى الذي أمن الطير العائذات أن تصاد أو أن تؤخذ. وقوله: يمسحها ركبان مكة، أي يمسحون عليها ولا يهجونها لألفتها لهم واستئناسها بهم. والغيل بفتح المعجمة وقيل بسكونها، والسعد أجمتان بين مكة ومنى. وقيل: الغيل بفتح الغين الماء الجاري على وجه الأرض. وهو هنا ماء يخرج من أصل أبي قبيس.
واعلم أن هذه الصيغة وهي قولنا أفعل من كذا، مستعملة في باب المثل عند أرادة منتهى التشبيه وأقصاه، كما يقال: أعز من الأبلق العقوق، وأجود من حاتم، وأعيى من باقل، ونحو ذلك. وأنما يتم ذلك ببلوغ المضروب به غاية ذلك المعنى. لكن هذا أمر إضافي موكول إلى نظر القائل واعتبره وحكم خياله. فأيهما شيء استعظم درجته ساغ له أن يضرب به المثل. ولذا يصح له أن يضرب المثل بالحمام في الألفة، وإن كان غير الحمام فيها وأحق، لكنه لم يلتفت إلى الغير فاستعظمها في الحمام إذ ليس الألفة من شأن الطير، فهي مستغربة، والاستغراب زائد الاستعظام كما قالوا: أجرأ من خاصي الأسد. وفهم مثل هذا في كل ما يرد في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
آلف من غراب عقدة.
الألفة مرت، والغراب معروف، جمعه غربان واغربة. وعقدة، بضم العين المهملة، وسكون القاف: موضع. وهي أيضاً المكان المخضب الكثير الشجر أو النخل. وإنّما وصف غراب عقدة بالألفة لأنّه لا يطير لكثرة الشجر. إلاّ أن عقدة، إن جعلت مكان بعينه، لم تصرف؛ وإن جعلت اسما للمكان المخضب مطلقا صرفت. وهما جاريان هنا معا كما يقتضيه كلام القاموس، وسيأتي في قولهم: عيش لا يطير غرابه زيادة بيان لهذا المحل إن شاء الله تعالى.
إليك يساق الحديث.

السوق معروف. يقال: ساق الماشية يسوقها سوقا وسياقا وسياقة، واستقاها. ثم يستعمل السوق في الكلام والحديث، لأنّه يؤتى به كما يؤتى بالماشية. وهذا المثل يضرب عند الإساءة في السؤال والاستعجال به قبل أوانه. وله قصة مذكورة عندهم، وقد نظمه بشار وبين معناه فقال:
ومرتْ فقلتُ متى نلتقي ... فهشَّ اشتياقاً إليها الخبيث
وكادَ يمزقُ سربالهُ ... فقلتُ إليكَ يساقُ الحديث
و قال الآخر:
لا تعجبوا لسؤال ركبان الحمى ... فإليكمُ هذا الحديثُ يساقُ

أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.
الأمر معروف. والمبكيات والمضحكيات: المورثات بكاء أو ضحكا. وكانت فتاة من العرب لها خالات وعمات. فكانت إذا زارت عماتها ألهينها، وإذا زارت خالاتها ابكينها. فقالت لأبيها: إنّ عماتي يلهينني، وخالاتي يبكينني إذ زرتهن، فقال لها أبوها: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك، فذهبت مثلا يضرب عند الحذر والتحذير من الهوى والأمر باجتنابه.
والمعنى: أطع من يدلك على رشادك، ويبصرك بصلاح معاشك ومعادك، وينبهك من رقدة الغفلة والغرة، ويفطمك من مراضع الهوى المضرة، وإن كان ذلك يبكيك، ويثقل على نفسك ويؤذيك؛ ولا تطع من يأمرك بما تهوى، ويحسن لك ما يشينك في العاجلة والعقبى، وإن كان ذلك يضحكك ويلهيك، ويؤنسك ويسليك.
الأمور مخلوجة وليست بسلكى.
الأمور جمع أمر، وهو الشأن والحال والشيء الواقع: والخلج: الجذب والنزع؛ والمخلوجة: المجذوبة؛ والمخلوجة أيضاً : الطعنة المعوجة عن يكين وشمال؛ والسلكى، بضم الأول وألف مقصورة: الطعنة المستقيمة تلقاء الوجه. قال امرؤ القيس:
مطغنهم يلكى ومخلوجة ... كزك لأيمن على نابلِ
ثم إنهم جعلوها في الأمور، وجعلوا المخلوجة والسلكى مثلا في الأمور باعتبار اعوجاجها واستقامتها قالوا: الأمور مخلوجة وليست بسلكى، أي هي معوجة وليست بمستقيمة، وأصله في الطعن. قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل الحارث بن عباد، وذلك أن جساس بن مرة لمّا قتل كليبا على ما سيأتي خبره، قام مهلهل بن ربيعة بثأر أخيه كليب، وكان ممن قتل بجير بن الحارث المذكور أو أخيه في قصة ستأتي.
وفيه يقول مهلهل:
وإني قد تركت بواردات ... بجيراً في دم مثل العبير
هتكت به بيوت بني عبادٍ ... و بعضُ الشرَّ أشفى للصدورِ
فلما بلغ الحارث بن عباد مقتل بجير قال : نعم القتيل قتيل أصلح الله به بين بني وائل وباء بكليب!فقيل له: إن مهلهلا لمّا قتله قال له: بُؤبِشِسعِ نعل كليب! فعند ذلك غضب الحارث وقال: الأمور مخلوجة وليست بسلكى، وقال :
قربا مربط النعامةِ مني ... لقحت حربُ وائلٍ عن حيالِ
قربا مربط النعامة مني ... إنّ بيع الكرام بالشسعِ غالِ
لم أكن من جناتها علم الله ... و إني بجمرها اليوم صالِ
وهي قصيدة. ونهض لحرب تغلب حتى أبارهم. وفر مهلهل حتى هلك غريب الدار كما سيأتي. وقلب أبو عبيد هذا المثل فأورده هكذا: الأمر سلكى وليست بمخلوجة، والصواب العكس، كما أورده غيره وهو الذي قدمنا، لأن الأمور في قضية الحارث ليست بسلكى، وهلم جرا. وقول امرئ القيس كرك لأمين على نابل، فيه كلام يبين بعد في تشبيهات امرئ القيس إن شاء الله تعالى.
تأمير الأراذل، تدمير الأفاضل.
التأمير: تولية الإمارة: وأراذل الناس: سفلهم، والتدمير، بالدال المهملة: الإهلاك. وأفاضل الناس. خيارهم.
ومعنى المثل ظاهر، وهو فيما أظن مصنوع موجود في بعض تآليف البلغاء المصنوعة.
الأمر أشد من ذلك.
قد يتمثل به، وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر المحشر وأن الناس يحشرون حفاة عراة، فقيل له: وكيف ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال ذلك. والحديث معروف مشهور.
آمن من حمام مكة.
الأمن ضد الخوف؛ والحمام ومكة تقدما. وأمن الحمام في مكة أنه لا يتعرض له ولا يصاد ولا يقتل. ولذلك قال النابغة:
والمؤمن العائذاتِ الطير يمسحها ... ركبان مكةَ بين الغيلِ والسعد
و قال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي من قصيدة:
فسحت دموع العينِ تبكي لبلدةٍ ... بها حرمٌ أمنٌ وفيها المشاعرُ
وتبكي لبيتِ ليس يؤذى حمامهُ ... تطل به أمناً وفيه العصافرُ

وفيه وحوشٌ ليس ترامُ أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادرُ
و هذا الشعر قله عندما نفتهم خزاعة وأخرجتهم إلى اليمن من مك، فجعل يتذكر مكة ويحزن ويبكي لفراقها. وتقدم شيء من معنى هذا المثل.
أما الدَّينُ فلا دِن.
يتمثل به كثيرا، وهو كلام مسيلمة الحنفي الكذاب لعنه الله تعالى. وذلك أنه، لمّا غزاهم سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا. فلما اشتد القتال آخرا على مسيلمة وأصحابه بني حنيفة وعظم عليهم الأمر وأيقنوا بالهلاك والدمار قال له بعض أصحابه: أين ما كنت تعدنا يا أبا ثمامة من نصر؟ فقال عبد ذلك: أما الدين فلا دين، ولكن قاتلوا على أحسابكم. فجعلوا يتندمون ويسبونه، وقتل في ذلك اليوم، لعنه الله. والقصة مشهورة ومعروفة في السير لا حاجة إلى سردها.
أنا بالقُوس، وأنت بالقرقوس، متى نجتمع؟
القوس بضم القاف: صومعة الراهب. قال الشاعر يذكر امرأة: لا ستفتنتني وذا المسحين في القوس. والقرقوس، على مثال قربوس: القاع الصلب من الأرض، وبين المكانين بون بعيد. فيضرب عند التباعد في الأمكنة أو الخلال أو الشيم، كما قيل:
هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعودَ ولن تستطيع إليك النزولا
أنا أبن بجدتها.
يقال بجد بالمكان يبجد بجودا إذا أقام به. والبجيد بفتح الباء الموحدة وضمها مع سكون الجيم، وبضمهما معا: أصل الشيء ودخلة الأمر وباطنه، فيقال عند فلان بجدة هذا المر أي علمه، وهو أبن بجدتها أي العالم.
قال أبو العلاء المعري:
إذا أسكت المحتجُ كل مناظرٍ ... فعند أبن نصر بجدةٌ بحّوابِ
و قال صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى :
لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يومَ الفخار ولا بر التقى قسمي
و يقال أيضاً للدليل الهادي. ويقال أيضاً : هو عالم ببجدة أمرك وبجد أمرك، أي بداخلته. وقيل إنّما قسل: أنا أبن بجدتها، وهو أبن بجدتها من البجود وهو الإقامة، لأن المقيم بالمكان عالم به. يقال: هو أبن بجدة هذا البلد أي العالم بأمره لإقامته به. وقيل اصله من قولهم: فلان من أهل البجد أي من أهل البادية وهم العلماء باللسان على ما وضع به.

أنا تئق وأنت مئق فكيف نتفق
؟
التئق: الممتلئ غضبا. واصله في الإناء يقال: تئق الإناء يتأق إذا امتلأ وأتأقته أنا ملأته. ويقال: التئق السريع إلى الشر. ويقال: هو الحديد قال الشاعر يصف كلبا:
أصمعُ الكعبينِ مهضومُ الحشا ... سرطمُ اللحيينِ معاجٌ تئقْ
و قال الآخر: يصف فرسا:
ضافي السبيبِ أسيل الخدِ مشترفٌ ... حابي الضلوعِ شديدٌ أسره تئقُ
و قال الأخر يصف فرساً:
ضافي السبيب أسيل الخد مشترف ... حابي الضلوع شديد أسره تئق
و المئق: الباكي يأخذ شبه الفواق عند البكاء والنشيج. يقال: مئق الرجل والصبي يأمق مأقا وماقة باتحريك وامتاق. قال رؤبة.
كأنما عولتها بعد التأق ... عولة ثكلي ولولت بعد المأق
و شأن التئق النزوع إلى الشر لغضبه، وشأن المئق ضيق الصدر عن الاحتمال، فلا يجتمعان. فيضرب للمتخالفين خلقا.
أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب.
لمّا قبض النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إلى بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فأتاهم أبو بكر وعمر من المهاجرين - رضي الله تعالى عليهم جميعاً - فتكلم أبو بكر، والقصة مشهورة. وتكلم رجل من الأنصار، وفي رواية وهو الحباب بن المنذر فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. والجذيل تصغير جذل بكسر الجيم وتفتح، وبالذال المجمعة الساكنة. والجذل: ما عظم من أصول الشجر أو أصل الشجر وغيرها بعد ذهاب الفرع. والجمع أجذال وجذولة. قال امروء القيس:
كأن على لباتها جمر مصطلي ... أصاب غضا جزلا وكف بالجذال
و الجذال أيضاً: عود ينصب للجربى لتحكك به، وهو المقصود هنا. ويقال: هو عود ينصب في مبرك الإبل للتحكك به لتزيل ما عليها من قراد وكل ما لزق بها فتشتفي بذلك، ويكون كالتمرغ للدابة. وقال الراجز:
لاقت على الماء جذيلا واتد
ويضرب مثلا للرجل فيقال: هو جذل محاكة وجذل حكاك. وقال الأصمعي:

قلت لأعرابي: ألك بنون؟ قال: نعم، وخالقهم لم تقم على مثلهم منجبة. قلت صفهم لي. قال: جهم وما جهم! ينصي الوهم، ويصد الدهم، ويفري الصفوف، ويعل السيوف. قلت ثم من؟ قال: غشمشم وما غشمشم! ماله مقسم، وقرنه مجرجم، جذل حكاك ومدرة لكاك. قلت: ثم من؟ قال: عشرب وما عشرب! ليث محرب، وسماهم مقشب؛ ذكره باهر، وخصمه عاثر؛ وفناؤه راحب، وداعيه مجاب. قلت: فصف لي نفسك. قال: ليث أبو ريابل، ركاب معاضل، عساف مجاهل؛ حمال أعباء، ناهض ببزلاء. قوله: ينضي الوهم أي يهزل الوهم، وهو الجمل الضخم من قوته؛ ويصد الدهم أي يكف الدهم، وهو العدد الكثير من العدو. ويفري الصفوف أي يشقها في القتال مقدما. ويعمل السيف أي يوردها دماء الأقران مرة ثانية من العلل في الشرب.
وقوله: قرنه مجرجم أي مبارزه مجرجم أي مصرع؛ وجذل حكاك أي يستشفي به في الأمور كالجذال المنصوب الذي يستشفي به الإبل الجربى والمدره: لسان القوم. واللكاك: الزحام. والليث المحرب: المغضب، وهو أشد ما يكون؛ والمقشب: المخلوط. والباهر: الغالب. واليابل جمع ريبال يهمز ولا يهمز، وهو الأسد. والمعاضل: الدواهي؛ والعساف: الركاب الطريق على غير هداية. والمجاهل: الفلوات؛ والأعباء: الأثقال؛ والبزلاء: الرأي الجيد، وهو مثل سيأتي. وأما العذيق فهو تصغير عذق، وهو بالفتح: النخلة بحملها، وبالكسر القنو منها. والمقصود هنا الأول. والمرجب: المعظم. يقال : رجبته ترجيبا: عظمته. ومنه رجب لتعظيمهم إياه. ويقال: إنّ فلان لمرجب أي عظيم. وحدث الأصمعي قال : مررت في بلاد بني عامر بحلة في غائط يطؤهم الطريق، فسمعت رجلا ينشد في ظل خيمته له ويقول :
أحقا عباد الله أن لست ناظراً ... إلى قرقرى يوماً وأعلامها الغبرِ
كأنَّ فوأدي كلما مر راكبٌ ... جناحُ غرابٍ رام نهضاً إلى وكرِ
إذا رحلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاك الهوى واهتاج قلبكَ للذكرِ
فيا راكب الوجناء أبت مسلماً ... و لا زلتَ من ريبِ الحوادثِ في سترِ
إذا ما أتيتَ العرضَ فاهتف بجواهِ ... سقيتَ على شحطِ النوى سبلَ القطرِ
فانك من وادٍ إلى مرجبٍ ... وإن كنت لا تزدار إلا على عفرِ
قال فلما رآني مصغيا إليه أشار إلي فاستأنسني وأنزلني ووضع طعاما فقلت: أنا إلى غير هذا أحوج، قال : ماذا؟ قلت: تنشدني ، قال : أفعل. فلما أصبت من الطعام قلت: الوعد، فأنشدني:
لقد طرقت أمُّ الخشيف وإنها ... إذا صرع القوم الكرى لطروقُ
فيا كبداً يحمى عليها وإنها ... مخافةَ هيضات النوى لخفوقُ
أقام فريقٌ من أناسٍ يودهم ... بذات الغضا قابي وبان فريقُ
لحاجة محزون يظل وقلبه ... رهين ببيضات الحجال صديقُ
تحمان أن هبت لهن عشيةً ... جنوبٌ وأن لاحت لهن بروقُ
كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غدياً على أدمِ الجمال عذوقُ
وفيهن من بخت النساء ربحلةٌ ... تكادُ بها غرُ السحاب يرقُ
هيجانٌ فأما العصُ من أخرياتها ... فوعثٌ وأما خصرها فدقيقُ
فقوله: فإنك من وادٍ إلى مرجبٍ أي معظم. وقوله في القطعة الثانية:
كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غديا على أدم الجمال عذوقُ
أي نخلات، جمع عذق وهو النخلة كما ذكرنا قبل، أو قنوانها، وهو تشبيه مشهور عند القدماء، يشبهون الحمول والبرود المرقومة فيها بالنخيل إذا أينع ثمرها فأحمر وأصفر . قال امرؤ القيس:
أو المكرعات من نخيل أبن يامنٍ ... دوين الصفا اللائي يلين المشقرا
سوامق جبارٍ أثيتٍ فروعهُ ... و عالين قنوانا من البسرِ أحمرا
و قال أيضاً:
علوانَ بأنطاكية فوق عقمةٍ ... كجرمة نخلٍ أو كجنة يثربِ
و الترجيب في النخل أن يجعل للنخلة دكان تعتمد عليه اة يدعم بشيء إذا كثر حملها لئلا تنكسر. ويسمى ذلك الطكان الرجبة بضم الراء. وقيل أن يغرز الشوك حولها حتى لا يوصل إليها. وقيل أن تضم قنوانها إلى سعفاتها وتشد بالخوص حتى لا ينفضها الريح فيقال: نخلة مرجبة، وعذاق مرجب. ويقال: نخلة رجيبة بتخفيف الجيم وتشديدها.
ليست بسنهاء ولا رجبية ... و لكن عرايا في سنة الجوائح

و لا يرجب من النخل إلاّ الكريمة. واعلم أن التصغير في كل من الجذيل والعذيق للتعظيم على ما اثبت الكوفيون من ورود التصغير للتعظيم كقول لبيد:
فويق جبيل شامخ لن تناله ... بهمته حتى تكل وتعملا
و قيل للتقريب كما في بني أخي. وقد تحصل في معنى الكلام بجملته إنه يقول: أنا الذي يرجع إليه في النائبات، ويستشفى بفضل رأيه في المعضلات المعوصات، كالجذيل الذي تستشفي بالاحتكاك به الإبل ؛ وأنا لي أيضاً عشيرة يحفظوني ويؤووني، وعصبة ينصروني ويمنعوني، كالنخلة الممتنعة برجبتها، الكريمة على أهلها إذ لا يرجب من النخل إلاّ الكرام كما مر. وقد علم اشتمال الكلام على مثلين وليس مثلاً واحداً؛ إلاّ إنّهما يقرن بينهما كثير. وفي مقامات البديع قوله: حتى إذا مال الكلام بنا ميله، وجر الجداك بينا ذيلة، قال أصبتم عذيقة، ووافيتم جذيلة الخ. وقيل معنى أنا جذيلها المحككك أنا صاحب رهان. والمحكك المعاود لها، كما قال الراجز: جذل رهان في ذراعيه حدب أي السير ويقال أيضاً. رجل محكك: أي مجرب للأمور بصير بخيرها وشرّها. وهو مدح في الرجال، ذم في النساء قال الحماسي:
لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت
و يقال أيضاً: أنا جحيرها المأرب، وعذيقها المجرب. والجحير تصغير جحر وهو الغار؛ والمأرب المقور الململم، ومعناه واضح من الذي قبله.

أنا كلف، وأنت صلف، فكيف نأتلف
؟
الكلف بفتحتين العشق والولوع بالشيء. يقال: كلف الرجل بكذا يكلف به بالكسر في الماضي، فهو كلف ككتف. والصلف بفتحتين: عدم الحظوة. ويقال: صلفت المرأة بالكسر إذا لم تكن لها مكانة عند زوجها ولا قدروا بغضها، فهي صلفة وهن صلائف. قال القطامي يذكر امرأة:
لها روضة في القلب لم ترع مثلها ... فورك ولا المستعبرات الصلائف
و يقال للمرأة: اصلف الله رفغك أي بغضك إلى زوجك. والصلف أيضاً التكلم بما يكرهه صاحبك، والتمدح بما ليس عندك، ومجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرا.
وهذا المثل يضرب أيضاً للمتباينين في الأخلاق كالذي تقدم.
أنا اتلوص قبل أن أرمى.
التلوص بالصاد المهملة: التلوي والتقلب، والاصة: إدارة. والرمي معروف. وأعلم إنّ العقلاء من حكماء الفلاسفة والعرب وضعوا حكما كثيرة وأمثالاً جمة على ألسنة الجمادات والحيوانات والعجومات باعتبار حالها تعليما للناس وإرشاداً لهم إلى مصالحتهم معاشاً ومعاداً، وذلك من قبيل التمثيل الذي ذكرناه من قبل. وسيأتي في هذا الكتاب إنّ شاء الله كثير من هذا النوع، فكان من ذلك أن قالوا: إنّ الغراب وصى ابنه فقال له: يا بني، إذا رميت فتلوص، أي انحرف لئلا تصاب فقال: يا أبت، أنا اتلوص قبل أن أرمى يضرب في التحرز من الشيء وأخذ الحذر منه قبل كينونته.
أنا من هذا الأمر فالج بن خلاوة.
فالج بالفاء والجيم، على صيغة فاعل: اسم رجل من أشجع، وهو فالج بن خلاوة بفتح الخاء المعجمية بن سبيع بن بكر بن أشجع. وكان فالج هذا قيل له يوم الرقم إذ قتل أنيس الأسرى: انتصر أنيساً؟ فقال: إني منه بريء. واليوم الرقم يوم من أيامهم، فقد فيه فرس عامر بن طفيل، فيقس لكل خلي من أمر متبرئ منه يقول: أنا منه فالج بن خلاوة أي أنا منه جلاء بريء بمنزلة ذلك الرجل.
أنا من هذا الأمر كحاقن الإهالة.
الحقن: الحبس. يقال: حقن اللبن في السقاء إذا جمعه وخلط حليبه برائبه كما مر، وحقن البول: امسكه، وحقن دمه: منعه من القتل. وكل شيء أمسكته وحبسته فقد حقنته. والإهالة: الودك، وهو اشحم أو ما أذيب منه، أو الزيت وما يؤتدم به، فيقال: أنا من هذا الأمر كحاقن الإهالة، أي عالم به خبير بحاله، لأنه لا يحقن الإهالة في السقاء إلاّ من يعلم إنّها بردت لئلا يحترق السقاء بها.
أنا النذير العريان.

الإنذار: الإبلاغ مع تخويف، والاسم النذر. قال تعالى: ) فكيفَ كانَ عذابي ونذر(. والنذير فعيل بمعنى مفعل أي منذر. ويكون النذير أيضاً بمعنى الإنذار، والقصد هنا الأول. والعريان معروف. ويقال: عري الرجل بالكسر يعرى عراء فهو عريان بضم العين وعار؛ وجمع العريان عريانون، وجمع العاري عراة. وهذا المثل ورد بهذا اللفظ في الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مثل قديم للعرب يقال عند الإنذار بقرب العدو مع المبالغة في الإنذار. اصله أن النذير الجاد المغوث يتعرى من ثوبه فيمسك بيده ويشير به ويلمع لتسبقه رؤية الثوب سماع صوته، وإنّما ذلك عند قرب العدو وهجومهم، فكان مثلا عند الجد والتشمير في الإنذار بكل أمر هائل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: " أ رأيتم لو أخبرتكم أن بالوادي خيلاً تصبحكم أ كنتم مصدقي؟ فقالوا: ما جربنا عليك من كذب. فقال: فأني نذير لكم بين يدي عذاب شديدً " ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقال صاحب الروض في قوله تعالى: ) يا أيّها المدثرُ( إنّ وجه ارتباطه مع قوله تعالى: ) قم فأنذر( أن الإنذار من أوصافه صلى الله عليه وسلم التي وصف بها نفسه بقوله: " أنا النذير العريان " . ومعلوم أن الإنذار على هذا الشعار مخالف للتدثر بالثياب، فكان فيه من التطابق والالتئام مالا يخفى. وهو حسن ظاهر. ويقال أصل المثل في رجل من خثعم أخذه العدو وسلبوه ثيابه وقطعوا يده. فجاء قومه منذراً على تلك الحال. ويقال إنّه في يوم ذي الخلصة حمل عليه عوف بن عامر فقطع يده ويد امرأته والله اعلم.
أنت شَولة الناصحة
شَولة بفتح الشين المعجمة فسكون: أمة كانت لعدوان، وكانت رعناء حمقاء،فكانت تنصح لمواليها فتعود نصيحتها شراً عليهم ووبالاً لحمقها. فضرب بها المثل لكل ناصح أحمق يقال له:

أنت شولة الناصحة
، أي بمنزلة تلك الأمة.
أنت صاحبة النعامة.
النعامة واحدة النعام المعروف. وصاحبة النعامة امرأة من العرب وجدت ذات يوم نعامة عصت بصعرور، وهو صمغة، فأخذتاها وربطتها بخمارها إلى شجرة، وقد منعتها الغصة أن تهرب. فذهبت المرأة إلى الحي فهتفت بهم وجعلت تقول: من كان يحفنا ويرفنا فليترك، أي من كان يحسن إلينا ويلطف بنا فليقطع ذلك عنا. ثم قوضت خيمتها لتحمل على النعامة. فجائت إليها فوجدتها قد ساغت وفرت فبقيت المرأة لا هي بالنعامة ظفرت، ولا بنصيبها من الناس تمسكت، فيضرب بها المثل ويقال: أنت صاحبة النعامة: أو كصاحبة النعامة عند التشنيع على من وثق بغير ثقة وأغتر بغير طائل. وفي معنى هذه القصة ما تحكي العامة اليوم في الخرافات أن رجلاً وجد أرنباً في فلاة قد نامت فجاء يشتد حتى انتهى إلى الحي فصاح بهم: إلاّ أنا قد قطعنا التذويق فيما بيننا، وهو الله تعالى يتهاداه الجيران فيما بينهم من نحو الفاكهة واللحم واللبن، وجعل يقول: قد قطعنا، حتى اسمع الناس ذلك واسمعوه مثله، فرجع فوجد الأرنب قد هبت من نومها وذهبت.
أنتِ غيري نغرةٌ
يقال: غار الرجل على امرأته يغار غيراً وغيرة بالفتح وغاراً، فهو غيورهم غير، وهو غيران وهم غيارى وغيارى، ورجل مغيار؛ وغارت المرأة تغار، فهي غيور وغيرى، وهن غيارى: والنغرة: التي تلغي من الغيرة كما تنغر القدر أي تغلي. ويقال: نغر الرجل بالكسرة إذا أعتاظ وغلي جوفه من الغيظ، فهو نغر وهي نغرة. فيقال هذا عند اشتداد الغيرة. ويحكى أن امرأة جاءت علياً كرم الله وجهه فذكرت أن زوجها يطأ جاريتها، فقال: إنّ كنت صادقة رجمناه، وإنّ كنت كاذبة جلدناك، فقالت: ردوني إلى أهلي غيري نغرة!

قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل عمرو بن المنذر الذي يقال له عمرو بن امامة، وهو الذي قتله مراد في قضيب، وذلك إنّ أباه المنذر بن امرئ القيس كان تزوج هند بنت الحارث أبن آكل المرار الكندي، فولدت له عمراً، وهو الذي يقال له عمرو بن هند، والمنذر بن المنذر، وملك بن المنذر، وقابوس بن المنذر، وكان ملك أصغرهم. فلما كبرت هند عند أبيهم المنذر أعجبته بنت أخيها امامة بنت سلمة بن الحارث، فطلق هنداً وتزوج امامة فولدت له امامة عمرو بن المنذر الذي يقال له عمرو بن امامة. ثم إنّ المنذر جعل الأمر من بعده لابنه عمرو بن هند، ثم لقابوس، ثم للمنذر، ولم يجعل لعمرو بن امامة شيئاً.فكان ذلك سبب وقوع الشر بينه وبين اخوته لأبيه. فتملك عمرو بن هند الخورنق والسدير، وجعل لأخيه قابوس البدو، فغضب عمرو بن امامة وذهب نحو اليمن يطلب النصرة على اخوته، وقال في ذلك يخاطب عمرو بن هند:
إلاّ بن أمك ما بدا ... و لك الخورنق والسدير
فلامنعن منابت الضمر ... إنّ إذ منع القصور
بكتائب تردي كما تر ... دي إلى الجيف النسور
أنا بني العلات تقضي ... دون شاهدنا الأمور
و الضمران بفتح الضاد: نبت من نبات البادية؛ والرديان: الجري يقال: ردت الخيل تردي إذا جرت؛ وأبناء العلات: أبناء أمهات شتى؛ وأبناء الأعيان: أبناء أمثال واحدة. ثم ن عمرو بن امامة لحق باليمن وتبعه ناس من قيس عيلان وغيرهم، فأتى ملكها يطلب منه جنداً ليقاتل أخاه على نصيبه من الملك. فقال له الملك: من أحببت، فأختار مراداً، فسيرهم الملك معه، فلما انتهوا معه إلى وادٍ يقال له قضيب تلاومت مرادٌ فيا بينها وقالوا: كيف تتركون أموالكم وعشائركم وبلادكم وتتبعون هذا الأنكر؟ فقام هبيرة بن عبد يغوث ، وهو سيد مراد إذ ذاك، فتمارض وشرب ماء الرفة وهي شجرة هناك، فأصفر لونه. فبلغ عمرا أن هبير مريض، فبعث إليه طبيبا. فجاءه الطبيب وقد شرب المغرة وجعل يمجها لمّا دخل عليه الطبيب مكاويه وجعلها على بطنه، فقال له: أصبت موضع الداء! وجعل يكويه حتى كشح بطنه بالنار، وهو يريه أنه لا يجد مسها، وبذلك سمي صبيرة المكشوح، فرجع الطبيب إلى عمر وقال: وجدته مريضا ورأيته لا يحس بالنار. فلما اطمئن عمرو بن أمامة صار إليه المكشوح في قومه من تلك الليلة وثار به. فلم يشعر حتى أحاطوا به، وكان عمرو تلك الليلة مع بعض حظاياه. فلما سمعت أم ولده الغسانية جلبة الخيل قالت: أبي عمرو، أتيت! وقالت: سال قضيب حديدا، أو جاءتك مراد وفودا، فذهبت مثلا. فقال لها عمرو: أنتي غيري نغرة، أي أنك إنّما قلت ذلك غيرة منك علي، فذهبت مثلا. ومر به قطيع من القطا فقالت: يا عمرو أتيت! لو ترك القطا لنام، فذهبت مثلا. فلما انتهوا إليه وثاروا إليه، ثار إلى سيفه فخرج عليهم وهو يقول:
لقد عرفت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقهِ
كل امرئٍ مقاتل عن طوقه ... كالثور يحمي جلده بروقهِ
فزعموا إنّه لقيه غلام من مراد يقال له الجعيد أو تميم بن الجعيد، وقد كان عمرو قال فيه: نعم وصيف الملك هذا! فقال الغلام:
أيَّ وصيف ملك تراني؟ ... أما تراني رابط الجنانِ؟
أفليه بالسيف إذا استفلاني ... أجيبه لبيك إذ دعاني
رويت منه علقاً سناني
ثم ضربه فقتله، فتفرق عنه الناس، ورجعت مراد إلى اليمن فاقبل الغلام الذي قتله بالغسانية وبابنيه وهما غلامان، فبلغ إلى عمرو بن هند، فقال له: أيّها الملك إني سترت عورتك، وقتلت عدوك. فقال له عمرو: إن لك لخباء أنت له أهل. اضرموا له نارا واقذفوه فيها! فقال الغلام: أيّها الملك إني كريم، فليطرحني فيها كريم فإنَ أي حسبا فأمر عمرو بن هند ابنه وأبن أخيه أن يتوليا ذلك، فانطلقا به. فلما دنوا من النار مسح شراك نعله فقالا: ما دعاك إلى مسح نعلك وأنت مطروح في النار؟ فقال: أحببت أن لا أدخل النار إلا وأنا نظيف. ثم قال :
الخير لا يأتي به حبهُ ... و الشر لا ينفع منه الجزعُ
ثم قذف بنفسه وبهما معا، فاحترقوا جميعا. وفي ذلك يقول طرفة ينعى عمرو بن إمامة إلى أخيه:
أ عمرو بن هند ما ترى رأي معشرٍ ... أ فاتوا أبا حسان جاراً مجاورا
فإن مراداً قد أصابوا جريمةً ... جهاراً وأضحى جمعهم لك واترا

دعا دعوة إذ شكت النبل صدره ... أمامة واستعدى هناك معاشرا
فلو أنه نادى من الحصن عصبةً ... لألقوا عليه بالصعيدِ الشراشرا
ولو خطرت أبناء قرآن حوله ... لأضحى على ما كان يطلب قادرا
ولو شهدته تغلب بنت وائل ... لكانوا له عزاً عزيزاً وناصرا
ولكن دعا من قيس عيلان عصبةً ... يسوفون في أعلى الحجاز البرائرا
إلاّ إنّ خير الناس حياً وميتاً ... ببطن قضيبٍ عارفاً ومناكرا
يقسم فيهم ماله وقطينه ... فياما عليه بالمالي حواسرا
أنفت له على عداوةٍ بيننا ... و قلت ما قتيل بحائرا
قوله: أفاتوا أبا حسان، أي أهلكوه، وهو عمرو بن أمامة. وقوله: استعدي أي استنصر؛ والحصن: ثعلبة بن غكابة: والشراشر: المحبة يقال: ألقى عليه شراشره إذا أحبه؛ وأبناء قرآن من بني حنيفة أي أهل قرآن، وهي قرية باليمامة والبرائر جمع بريرة، وهي ثمر الأراك؛ ويسوفون: يشمون، ومنه المسافة، لأن الدليل ربما تحير فشم التراب ليعلم أعلى قصد هو أم على جور. يقول إنهم قوم ضعاف ليس لهم طعام ألا الأراك. ويروي: يسوفون، أي يبتلعون؛ والمآلي جمع مئلات، وهي خرقة تكون مع النائحة؛ وبحائر: اسم لمراد.

إن جرجر العود فزده وقرا
ً
الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته، وذلك عند تشكيه من الحمل وضجره وتضرره. قال الراجز: جرجر لمّا عضه الكلوب.
وقال الآخر: جرجر في حنجرة كالجب.
والعود: المسن من الإبل. قال أمرؤ القيس:
وإني زعيمٌ إن رجعت مملكاً ... بسيرٍ ترى منه الفرانق أزورا
على لا حبٍ لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
يقول إنّ هذا الطريق إذا أشمه العود من الإبل ضج من، فكيف بغيره. والزيادة معروفة. والوقر بالكسر: الحمل. ويروي: إنّ جرجر فزده ثقلا، والثقل معروف. والمعنى: إنّ ضج بعيرك وتشكى من ثقل حمله، فزده ثقلا آخر ولا تلتفت إلى ضجره.
يضرب عند الأمر بالإلحاح في سؤال البخيل، وهو ظاهر.
أن ذهب عَير فعير في الرهط.
الذهاب معروف. والعير بفتح العين المهملة: الحمار؛ وعير القوم: سيدهم، وهو المقصود هنا. والمعنى ظاهر.
الإيناس قبل الابساس
الإنس ضد الوحشة؛ وأنست الرجل تأنيسا، وأنسته إناسا. والأبساس عند الحلب أن يقال للناقة: بس، بس، وهو صويت للراعي يقول لها ذلك لتدر للحالب، فيقال: أبس بالناقة يبس أبساسا فهو مبس. قال الشاعر:
فلحى الله طالب الصلح منى ... ما أصاب المبس بالدهماءِ
و ناقة بسوس: لا تدر إلاّ على الإبساس والمعنى إنّ الناقة لا ينبغي أن يبس بها حتى تؤنس قبل ذلك ويتلطف لها، فيضرب في أن الإنسان ينبغي أن لا يكلف أمرا أو يسأل حاجة حتى يتقدم إليه بتأنيس مالي أو فعلي أو قولي. قال الشاعر:
ولقد رفقت فما حظيت بطائل ... لا ينفع الإبساس بالإيناس!
ودخل العتابي على الرشيد فقال: تكلم يا عتابي! فقال: الإيناس قبل الإبساس! لا يمدح المرئ بأول صوابه، ولا يذم بأول خطئه لأنه بين كلام زوره، وعي حصره. أنتهى.
إن أعيى فزوده نوطاً.
الإعياء: الكلال في المشي. يقال: أعيى الماشي إعياء إذا كل، وعيى الرجل بأمره على مثال رضي، ويدغم: إذا لم يهتد بوجهه أو عجز عنه ولم يطق إحكامه. وعيي أيضاً في منطقه إذا حصر. والنوط بفتح النون وسكون الواو: جلة صغيرة يجعل فيها التمر وتعلق على البعير. قال النابغة الذبياني يصف قطاة:
حذاء مدبرة سكاء مقبلة ... للماء في النحر منها نوطة عجب
و أصل النوطة من النوط، وهو التعليق. يقال: نطت الشيء بالشيء، أي علقته به. والمعنى إنّ بعيرك إذا أعيى، فزد عليه تعليقا آخر. وهذا المثل هو كالذي تقدم: إن جرجر فزده ثقلا معنى ومضربا.
أنفك منك وإن كان أجدع.
الأنف معروف؛ والجدع بالدال المهملة: القطع في الأنف. تقول: جدعت الرجل فهو أجدع، وهو ذو جدع بفتحتين.
والمعنى أن أنفك، فلا يمكنك مفارقته ومباعدته وإنّ كان به عيب وشين. فيضرب في استعطافم صاحبك على ذوي قرابتك، وحثك إياه على وصلهم وتحمل ما بهم وأن يلمهم على شعثهم، ولا يصارمهم كما لا يصارم أنفه المتصل به.

قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل قنفذ بن جعونة المازني، وذلك أن الربيع بن كعب المازني دفع إلى أخيه كميش فرسا من عتاق الخيل ليأتي به أهله. وكان كميش أحمق وأنوك. وكان عندهم رجل من بني مالك يقال له قراد بن جرم قدم عليهم ليصيب منهم غرة، وكان داهية فمكث فيهم لا يعرفون نسبه. فلما رأى كميشا ركب الفرس، ركب هو ناقته ثم عارضه فقال له: يا كميش، هلك في عانة لم تر مثلها ومعها عير من ذهب، أما الأتان فتروح بها على أهلك، فتفرح بها صدورهم، وتمتلئ قدورهم، وتشبع خصورهم، وأما العير فلا افتقار بعده. فقال كميش: فكيف لنا به؟ فقال له قراد: أنا لك به، ليس يدرك إلاّ فرسك. قال : فدونك! قال : نعم! وأمسك أنت على راحلتي وانتظرني في هذا المكان. وركب قراد الفرس. فلما توارى عنه أنشأ يقول:
ضيعت في العير ضلالا مهرك ... فسوف تأتي بالهوان أهلك
وقبل هذا ما خدعت الانوكا
وبقي كميش هناك ينتظره حتى أمسى، فانصرف إلى أهله وقال في نفسه: إن سألني أخي عن الفرس قلت له تحول ناقة فلما قدم على أخيه قال له: أين الفرس؟ فقال: تحول ناقة. فعلم أخوه أنه قد خدع وجعل يضربه. فقال عند ذلك قنفذين جعونة له: اله عما فاتك، فإن أنفك منك وأن كان أجدع!و أتى قراد أهله بالفرس وقال في ذلك :
رأيت كميشا نوكه لي نافع ... و لم أر نوكا قبل ذلك ينفعُ
وقلت له أمسك قلوص ولا ترم ... خدعا له مني وذو الكيد يخدعُ
فأصبح يرمي الخافقين بطرفهِ ... و اصبح تحتي ذو أفانين جرشعُ
و مثل هذا المثل قولهم: منك ربضك وإن كان سمارا، وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً.
الريح معروفة جمعه رياح وأرواح. قال:
إذا هبت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهل ميّ هاج قلبي هبوبها
و يقال أيضاً أرياح. والإعصار بكسر الهمزة: ريح تثير غبارا يرتفع إلى السماء عمودا، أو ريح تهب بشدة في ما بين السماء والأرض. قال تعالى: )فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت( وجمعه أعاصير. قال الشاعر:
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصيرُ
و قال حارثة بن بدر يرثي زيادا، وقد مات في الكوفة ودفن في الثوية:
صلى الإله على قبرٍ وطهره ... عند الثوية يسفي فوقه المورُ
زفت إليه قريش نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبورُ
أبا المغيرة والدنيا مفجعة ... وإنّ من غرت الدنيا لمغرورُ
قد كان عندك بالمعروف معرفة ... و كان عندك للنكراء تنكيرُ
وكنت نغشى وتعطي المال من سعة ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجورُ
الناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصيرُ
و المعنى أن كنت مثل الريح في الشدة والقوة، فقد لاقيت من هو مثل الإعصار الذي هو أشد الريح وأقواها.
يضرب للرجل يكون صلبا جلدا فيصادف من هو أقوى منه وأشد، وهو ظاهر.

أن كنت ذا طب فطب لعينيك
الطب مثلثة الطاء: علاج الجسم. والطب أيضاً: الرفق والسحر. ولفظ طب في المثل كذلك مثلث الطاء في الموضعين، والمنى ظاهر. وفي نحوه قيل:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
أن يكن هذا من الله يمضه.
يتمثل به كثيرا، وهو من كلام المصطفىصلى الله عليه وسلم قال لعائشة: أريتك أو رأيتك في المنام في سرفة من حرير فقيل لي هذه زوجك، فقلت أن يكن هذا من عند الله يمضه، أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
إن لا حظية فلا ألية
الحظوة: المكانة كما مر يقال: حظيت المرأة عند زوجها بالكسر تحظى حظوة وحظة فهي حظية وهن حظايا ضد صلفت. والألو: التقصير يقال: إلاّ في هذا الأمر يألو ألوا وألوا وأليا، وائتلى إذا قصر فيه وابطئ فهو آل ومئتل. قال أمرؤ القيس:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا ألِ
يضرب هذا المثل في مداراة الناس والتودد إليهم. والمعنى انك إن أخطاتك الحظوة فيما تريد، فلا تأل جهدا ولا تزل مجتهدا متوددا للناس حتى تستدرك ما فاتك مما تطلب. وأصله في المرأة إنها إن لم تحظ عند زوجها فلا ينبغي لها أن تقصر في طلب الحظوة حتى تنالها.

قيل: وأصله أن رجلا كانت لا تحظى عنده امرأة فتزوج امرأة فلم تأل جهدا في أن تحظى عنده، فلم يقنعه ذلك وطلقها، فقالت ذلك أي: إن لم أحظ عنده فأني لم أقصر، فصار مثلا في كل من اجتهد في أمر ليناله وتعذر وهو لم يقصر في طلبه والسعي فيه.
واعلم إنّه يقال في المثل بالنصب والرفع بحسب تقدير المحذوف، فمن نصب فمعناه باعتبار الأصل إن لا أكن عندك أيّها البعل حظية فلا أكون ألية في الحظوة بتحسين خلقي وخلقي حتى أدركها. ومن رفع فله وجهان: أحدهما أن تكون الحظية مصدرا لا وصفا. والمعنى إن أخطأتني الحظوة عندك فلا أكون ألية في طلبها أو فلا يقع مني ألو وتقصير. الثاني أن تكون الحظية وصفا على بابها إلاّ إنّها راجعة إلى غير القائلة والمعنى: إن لا تكن لك في الناس حظية تحظى عندك فأنا لا أكون ألية في طلبها حتى أنالها منك، أو نحو هذا من التقادير آتى يصح بها المعنى، كما يجري في نحو: إن خيرا فخير، وإن سيفا فسيف. وقد قرر في النحو ما فيه من التقادير وما هو الأرجح منها وهو معروف.
إن لا أكن صنعاً فإني أعتثم.
الصنع: الحاذق الماهر. يقال: رجل صنيع وصنع بكسر فسكون، وصنع بفتحتين، ويروى بهما قول أبي ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبعُ
و قال حسان رضي الله عنه في الأخير:
اهدي لهم مدحتي قلبٌ يوازرهُ ... فيما أحب لسانُ حائك صنعُ
و يقول: امرأة صناع، على مثال رزان، ضد الخرقاء. قال امرؤ القيس:
وعينٌ كمرأة الصناع تديرها ... بمحجرها من النصيف المنقبِ
و العثم: الانجبار الفاسد. يقال: عثم العظم المكسور، بالتاء المثلثة المفتوحة، أي انجبر على غير أستواء؛ وعثمته إذا لازم ومتعدِ؛ وعثمت المرأة المزادة: خرزتها خرزا غير محكم؛ وأعثمتها أيضاً. فمعنى المثل: إن لم أكن حاذقا ماهرا في هذا الأمر فإني أعمل بقدر طاقتي ومعرفتي.

لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم
يتمثل به وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
إنّ البغاث بأرضنا يستنسر
البغاث، مثلث الباء الموحدة في أوله بعدها غين معجمة فثاء مثلثة: طير أغبر؛ ويطلق على شرار الطير كلها، وما لا يصيد منها. قال الشاعر:
إذا كر فيهم كرة افرجوا له ... فرار بغاث الطير صادفن اجدلا
و قال دريد أبن الصمة:
وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ
و قال الحماسي:
بغاث الطير أكثرها فراخا ... و أم الصقر مقلات نزورُ
و سيأتي تمام هذا الشعر في محله. واستنسر: صار نسرا، والنسر: الطائر المعروف. وسمي نسرا لأنه ينسر اللحم.
ومعنى المثل إنّ الضعيف من الناس إذا حل بأرضنا ووقع في جوارنا عز بنا وتقوى، كما إنّ البغاث الذي هو ضعاف الطير إذا عاد نسرا فقد تقوى. وقيل معناه، إنّ الضعيف يستضعفنا وتظهر قوته علينا، وعلى هذا إذا أريد الافتخار قيل: إنّ البغاث في أرضنا لا يستنسر.
ولشعر دريد المذكور قصة عجيبة رأيت أن اذكرها، وهي إنّ دريدا خرج في فوارس من قومه بني جشم بن بكر حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة رفع لهم رجل في ناحية الوادي معه ظعينة. فلما رآه دريد قال لفارس من أصحابه: دونك فصح به: خل الظعينة وانج بنفسك! فلحقه الفارس فصاح به وألح عليه، فلما أبى أن ينكف عنه ألقى زمام الراحلة وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكنِ
إنّ أنثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي واخبري وعايني
ثم حمل على الفارس فطعنه طعنة جعلته كأمس الدابر وأخذ فرسه وأعطاه الظعينة. فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما فعل صاحبه، فلما انتهى إليه فرآه صريعا صاح على الرجل فتصامم عنه فظن أن لم يسمع فغشيه. فالقى الرجل زمام الراحلة إلى الظعينة ورجع إليه وهو يقول:
خل سبيل الحرة المنيعة ... انك لاقٍ دونها ربيعه
في كفه خطية مطيعة ... أولا فخذها طعنة سريعه
والطعن مني في الوغى شريعة
ثم حمل عليه فصرعه. فلما أبطأ الأمر على دريد بعث فارسا ثالثا لينظر ما صنعا، فلما انتهى إليهما رآهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه فقال له: خل سبيل الظعينة! فقال الرجل للظعينة: اقصدي قصد البيوت! ثم اقبل على الفارس فقال:

ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه وأنكسر رمحه. ثم إنّ دريدا ارتاب وظن إنّ الفوارس قتلوا الرجل وذهبوا بالظعينة، فجاء حتى لحق بالرجل وقد دنا من الحي ، ووجد أصحابه صرعى فقال له: أيهما الرجل، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحا، والخيل ثائرة بأصحابها. فخذ رمحي هذا، فأني منصرف إلى أصحابي فمثبطهم عنك. فرجع دريد إلى أصحابه وقال لهم: إنّ صاحب الظعينة قد حماها وقد قتل أصحابكم وأنتزع رمحي ولا مطمع لكم فيه، فانصرفوا، فقال دريد بن الصمة:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظعينة فارسا لم يقتلِ
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمر كأنه لم يفعلِ
متهلهلا تبدو أسره وجهه ... مثل الحسام جاءته كف الصيقلِ
يزجي ظعينة ويسحب ذيله ... متوهجاً يمناه نحو المنزلِ
وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ
يا ليت شعري من أبوه وأمه ... يا صاح من يكُ مثله لا يجهلِ
و قال صاحب الظعينة في ذلك، وهو ربيعة بن مكدم، أحد بني فراس بن كنانة:
إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عني الظعينة يوم وادي الأخرمِ
إذ هي لأوّل من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدمِ
إذ قال لي أنى الفوارس ميتة ... خل الظعينة طائعا لا تندمِ
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلمِ
وهتكت بالرمح الطويل أهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفمِ
ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فارغة كشدق الأضجمِ
ولقد شفعتهما بآخر ثالثا ... و أبى الفرار لي الغداة تكرمي
ثم لم تلبث كنانة أن أغارت على بني جشم، فقتلوا وأسروا دريد بن الصمة، فأخفى نفسه. فبينما هو عندهم محبوس إذ جاءته نسوة يتهادين نحوه، فصاحت إحداهن وقالت: هلكتم وأهلتم. ماذا جر عليها قومها؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! فألقت عليه رداءها وقالت: يا آل فراس! أنا له جارة. فسألوه من هو فقال: أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته سليم، قال: فما فعلت الظعينة؟ قالت المرأة أنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم ووامروا أنفسهم. فقال بعضهم: لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد على صاحبنا. وقال آخرون: والله لا يخرج من أيدينا إلاّ برضى المخارق الذي أسره. فلما أمست المرأة، وهي ريطة بنت جذل الطعان، رفعت عقيرتها وقالت:
سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... و كل امرئ يجزى بما كان قدما
فإنَ كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... و إنّ كان شرا كان شرا مذمما
سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرمح الطويل المقومى
فقد أدركت كفاه فينا جزاءه ... و أهل بأن يجزى الذي كان أنعما
فلا تكفروه حق نعماه فيكم ... و لا تركبوا تلك التي تملأ الفما
فلو كان حيا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيا كان أو كان معدما
ففكوا دريدا من إسار مخارقٍ ... و لا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلما
فلما أصبحوا وأطلقوه، فكسته وجهزته ولحق بقومه. ولم يزل كافا عن غزو بني فراس حتى هلك. قلت: وفي بني فراس هؤلاء يقول علي كرم الله وجهه مخاطبا لأهل العراق إذ تخاذلوا عنه: يا ليت لي من بني فراس واحدا بعشرة منكم صرف الدينار بالدرهم!.
ولربيعة المذكور قصة أخرى في حماية الظعن تأتي في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
إنّ البكري ليحسن السعدي
البكري منسوب إلى بكر، وفي العرب بكر بن وائل، وبنو بكر بن عبد مناة، والنسب إليهم بكري، وكذال النسبة إلى أبي بكر. وفي العرب أيضاً بنو أبي بكر بن كلاب، والنسبة إليهم بكراوي. والسعدي منسوب إلى سعد، وفي العرب سعود كثيرة: سعد تميم وسعد هذيم وسعد قيس وسعد بكر، كما قال طرفة:
رأيت سعودا من شعوب كثيرةٍ ... فلم ترعيني مثل سعد بن مالك
أبر وأوفى ذمة يعقدونها ... و خيرا إذا ساوى الذرى بالحوارك
يريد سعد بن مالك بن ضبيعة. والحس: الرقة؛ تقول: حسست لفلان، بفتح السين وكسرها، حسا وحسا، إذا رققت له. قال القطامي:

أخزك الذي لا تملك الحس نفسه ... ترفض عند المحفظات الكتائف
و الكتائف: الأحقاد. قال كميت:
هل من بكى الدار راج إنّ تحس له ... أو يبكي الدار ماء العبرة الخضل؟
و في الصحاح: قال أبو الجراح العقيلي: ما رأيت عقيليا إلاّ حسست له، أي رققت.
إنّ تحت طريقته لعنداوة.
الطريقة، بالتشديد على مثال سكين: الرخاوة واللين؛ ورجل مطروق: فيه رخاوة.
قال أبن احمر:
ولا تحلي بالمطروق إذا ما ... سرى سرى في القوم أصبح مستكينا
و العنداوة: الصعوبة، من العنود، وهو رد الحق والحيدودة عن الطريق، وبعير عاند يحيد عن الطريق.
والمعنى أن سكونه ورخاوته قد يكون معه احياناً عسرة وشراسة.
إنّ الجواد عينه فرارة.
الجواد: العتيق من الخيل الكثير الجري، سمي به لأنّه يجود بنفسه. والعين تطلق على الباصرة، وعلى الشخص الشيء وهو المراد هنا؛ والفرارة: أن تفتح فإذا الدابة لتعلم سنها. يقال: فرها فرا وفرارا، مثلث الفاء، إذا فتح فاها لذلك. ومن قول الحجاج: ولقد فررت عن الذكاء، وفتشت عن تجربة، أي فررت فوجدت تام السن. فإن الذكاء يطل على السن، وهو أحد ما يفسر به قول زهير:
يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء
و منه المثل الآتي: جري المذكيات غلاب. وإلى هذا المعنى أشار أبو بكر بن دريد رحمه الله بقوله:
وفر عن تجربة نابي فقل ... في بازل راض الخطوب فامتطي
و كتب الحسن بن سهل إلى القاضي محمد بن سماعة: أما بعد فأني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير، ذي عفة ونزاهة طعمة، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، ليس بظنيت برأيه ولا بمطعون في حسبه؛ إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهما من الأمور أجزأ فيه؛ له سن مع أدب ولسان، تعقده الرزانة ويسكنه الحلم، قد فرعن ذكاء وفطنة، وعض على قارحة من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة؛ قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام بأمورهم فحمد فيها؛ له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن بيانه. دلائل الفضل عليه لاحئة، وأمارة العلم له شاهدة؛ مضطلعا بها أستنهض، مستقلا بما حمل. وقد أثرتك بطلبه، وحبوتك بارتياده، ثقة بفضل اختيارك، ومعرفة بحسن تأتيك. فكتب إليه القاضي: إني عازم أن أرغب إلى الله عز وجل حولا كاملا في ارتياد مثل هذه الصفة وأفراس الرسل الثقات في الآفاق لالتماسه. وأرجو أن يمن الله بالإجابة فأفوز لديك بقضاء حاجتك، والسلام. ويصح أن يراد بالذكاء أيضا في كل ما مر معناه الذي هو الفطنة وحدة الفوائد. وعلى كل حال فذلك مثل للكشف والاختبار، وأصله في الدواب.
ومعنى المثل المذكور أن الجواد إذا نظر إليه العارف المعرب عرفه من غير احتياج إلى فره واختباره، وكان نظره إلى عينه، أي شخصه، فرارا له، أي قائما مقام الفرار، فيقال: فلان عينه فرار لهذا المعنى.
ويضرب لكل من يدل ظاهره على باطنه لكل معانيه. قال الشاعر:
تعرف من عينيه نجابته ... كأنه بالذكاء مكتحل
و قال الراجز في صفة الذئب:
أطلس يخفي شخصه غباره ... في فمه شفرته وناره
هو الخبيث عينه فراره
إنّ الحذر لا يغني من القدر.
الحذر: التحرز من الشيء وهو ظاهر. والقدر: ما كتبه الله تعالى وقدره من الكائنات. ومعلوم أن ما قضى الله بوقعه فلا دافع له، وهذا من الأمثال الحكيمة. قال هانئ بن قبيصة الشيباني لقومه يحضهم يوم ذي قار وهو يوم مشهور أيامهم: يا معشر بكر! هالك معذور خير من ناج فرور. إنّ الحذر لا يغني من القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر. المنية ولا الدنية. استقبال الموت خير من أستدباره. الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور. يا آل بكر! قاتلوا، فما للمنايا من بد! ويحكى أنّ أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه كان إذا حمي وطيس الحرب انشد:
أي يومي من الموت افر ... يوم لا يقدر أمثال يوم قدر
يوم لا يقدره لا أرهبه ... و من المقدور لا ينجي الحذر
ثم يحمل ويغشى لظاها.
إنّ دون الظلمة خرط قتاد هو بر
إنّ الرثيئة تفثاً الغضب

الرثيئة: لبن مخلوط. يقال: ارتثأ اللبن بالثاء المثلثة والهمز إذا خثر؛ ورثات اللبن إذا حلبته على حامض فخثر؛ والاسم: الرثيئة والفثئ: التسكين؛ يقال: فثأت القدر بالثاء المثلثة إذا أسكنت غليانها.قال:
تفور علينا قدرهم فنديمها ... و نفثؤها عنا إذا حمؤها غلا
و قال الحماسي:
فنفل شوكتها ونفثأ حميها ... حتى يبوخ وحمينا لم يبردِ
و تقول: فثأت الرجل إذا كسرته عنك بقل أو غيره وسكنت غضبه. وفثأت الخبز، ويقال أيضاً بالتاء المثناة، وهي فعل تام في هذا المعنى غير مخصص بالنفي، كما أثبته أبن مالك وغيره. والغضب معروف، وهو حركة النفس، مبدأها إرادة الانتقام. غضب: بالكسر، يغضب، فهو غضبان. والمعنى أن شرب الرثيئة كاسر للغضب مسكن له نافع.
يضرب في اصطناع المعروف مطلقا وفعل اليسير من البر فانه نافع.
وأصله أن رجلا كان غضب على قوم، وكان مع غضبة جائعا، فسقوه رثيئة، فسكن غضبه وكان عنهم. وفي الرثيئة يحكى أن عمرو بن معد يكرب قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين، أ افرام بنو مخزوم؟ قال وما ذاك؟ قال : تضيفت خالد بن الوليد فأتى بقوس وكعب وثور. قال : إنّ في ذلك لشبعة. قال : لي أو لك؟ قال : لي ولك. فقال عمرو: حلا يا أمير المؤمنين فيما تقول. إني لأكل الجذع من الإبل أنتقيه عظما عظما، واشرب التبن من اللبن رثيئة وصريفا. أراد بالقوس البقية من التمر تبقى، وبالكعب القطعة من السمن، وبالثور القطعة من الأقط، وبالتبن القدح العظيم، وبالرثيئة ما صب كما مر، وبالصريف ما انصرف به عن الضرع حارا. وقوله حلا هي كلمة تقولها العرب في الأمر تكرهه بمعنى: كلا. ومنه قول الأحن بن قيس حين دخل على المصعب بن الزبير يكلمه في رجل وجد عليه، فقال مصعب: بلغني عنه الثقة، فقال الأحنف: حلا أيها الأمير، إنّ الثقة لا يبلغ! ويروى هذا المثل: إنّ الرثيئة مما يفتأ الغضب، على إنّه موزون كشطر بيت من البسيط. وقد جعل الشنتمري في شرح الحماسة هذا المثل حديثا، وهو غريب والله اعلم.
إنَّ الرقين تغطي أفن الأفين
الرقون: جمع رقية، وهي الفضة؛ يقال : ورق، مسكن الراء، مثلث الواو؛ وورق، بفتح فكسر، وبفتحتين، وجمع الكل أوراق. ويقال: رقة، بحذف الفاء، كعدة. ومنه الحديث: في الرقة ربع العشرة. وجمع الرقة: رقون، وهو شاذ، لأن هذا الجمع إنّما يشيع وراء بابه في المحذوف اللام، كنين وعضين وعزين. أما المحذوف الفاء كعدة وجدة ودية فلا، غير إنّه ورد فيه ألفاظ على وجه الندرة، كرقين في جمع الرقة، ما مر؛ وازين، في جمع الازة، وهي حفرة تحفر ويستوقد فيها؛ ولدين، في جمع اللدة، وهو مساويك في السن؛ وحشين في جمع الحشة، وهي الأرض المعشبة. والتغطية: الستر. والأفن: ضعف الرأي؛ يقال : أفن الرجل، بالكسر، أفنا محركا ومسكنا. قال قيس بن عاصم المنقوي رحمه الله تعالى:
إني امرؤ لا يعتري حسبي ... دنس يفنده ولا أفنُ
من منقر في بيت مكرمة ... و الفرع ينبت حوله الغصنُ
و قد أفنه الله يأفنه، فهو مأفون وأفين. وقال الشاعر:
وقد تزدري العين الفتى وهو عاقلُ ... و يؤفن بعض القوم وهو جريمُ
و معنى المثل أنَّ وجدان المال يحلي المرء بحلية الكمال، ويستر ما فيه من ذميم الخصال، ويحببه إلى قلوب الرجال، حتى يروه بعين التوقير والاجلال، وإن كان من أحمق الحمقى وأجهل الجهال، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وأحسن:
ربَّ حلم أضاعه عدم المال ... و جهلٍ غطى عليه النعمُ
و قال آخر:
والناس أعينهم إلى سلف الفتى ... لا يسألون عن الحجى والأولقِِ
و قال أعرابي مر بأهله:
سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثانِِ
فللموت خيرٌ من حياة يرى بها ... على المرء ذي العلياء مس هوانِ
متى يتكلم يبلغ حكم مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيانِ
كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطقٌ بلسانِ
و قال أبو الطيب:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... و لا في الدنيا لمن قل مجدهُ
و يقال : المرء بنشبه وسيأتي في أثناء الكتاب جملة نافعة من هذا المعنى ومن ثناء الشعر على الثروة والغنى.
إنَّ السقط يحرق الحرجة.

السقط ما يسقط بين الزندين قبل استحكام الورى، وتثلث سيبه والإحراق والتحريق معروف. والحرجة بفتحتين: الشجر الكثير الملتف، جمعه حرج وأحراج وحراج. قال العجاج:
عاين حيا كالحراج نعمه ... يكن أقصى شله محرنجمه
و هذا المثل وقع في حكاية للأصمعي قال : بينما أنا بحمى ضربة إذ وقف عليَّ غلام من بني أسد في أطمار ما ظننته يجمع بين كلمتين. فقلت: ما اسمك؟ قال : حريقيص. فقلت: أما كفى أهلك إن يسمونك حرقوصا حتى ضغروا اسمك؟ فقال: إنَّ السقط يحرق الحرج. فعجبت من جوابه فقلت: أتنشدنا شيئا من أشعار قومك؟ قال : نعم، أنشدك لمرازنا قلت: افعل. قال :
سكنوا شبيثا والاحص وأصبحوا ... نزلت منازلهم بنو ذيبانِ
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعانِ
وإذا فلان مات عن أررومةٍ ... رفعوا معاوز فقده بفلانِ
قال. فكادت الأرض تسوخ بي لحسن إنشاده الشعر. فأنشدت الرشيد هذه الأبيات فقال: يا أصمعي، وددت لو رأيت هذا الغلام فكنت أبلغه أعلى المراتب! ومعنى المثل أنَّ الأمر الصغير قد يصير إلى أعظم، والرجل المستحقر قد يغني غناء المستعظم، بل الواحد قد يقوم مقام الجم. ومن هذا قول القائل:
لا تحقرن صغيراً في تقلبه ... إنَّ البعوضة تدمي مقلة الأسدِ
وللشرارة نارٌ حين تضرمها ... و ربما أضرمت ناراً على بلدِ
و قال الآخر:
أرى خلل الرماد وميض نارٍ ... و يوشك أنَّ يكون لها ضرامُ
فإنَ النار بالزندين تورى ... و إنَّ الحربَ أولها الكلامُ
و قول المسكين: ولقد رأيت الشر بين الحي يبدؤه صغاره.
وقول أبي العلاء:
وقد ينمى من صغيرٍ ... و ينبت من نوى القسب اللبان
و قد بين هذا المعنى من قديم عدي بن زيد حيث يقول:
شط وصل الذي تريدين مني ... و صغير الأمور ينجي الكبيرا
و بعد هذا البيت:
إنَّ للدهر غرة فاحذرنها ... لا تبيتين قد أمنت الدهورا
قد ينام الفتى صحيحا فيردى ... و لقد بات آمناً مسرورا
أيّها المبتغي سبيل غناه ... الزم البر في الفؤاد ضميرا
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
و وقع في شعر مرارٍ السابق شبيث والاحص وهما موضعان، والمعاوز وهي الخلفان، ويريد انهم كلما مات منهم كريم خلفه كريم يسد مسده. ومثله قول الحماسي السمؤل بن عاديا:
إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لمّا قال الكرام فعول
و قول الحماسي الآخر:
وليس يهلك منا سيد أبدا ... إلاّ اجتلينا غلاما سيدا فينا
و قول أبي الطمحان: إذا مات منا سيد قام صاحبه ونحوه كثير في أشعارهم. والمقصود من ذلك كله أنَّ السؤدد في القوم شائع، والكرم كثير ذائع، فكلما فقد من السادات مفقود، فغيره موجود.
إنَّ الشفيق بسوء الظن مولع
الشفيق بفتحتين: الخوف وحرص الناصح على صلاح المنصوح. ويقال: أشفقت عليه شفقاً وإشفاقاً، فأنا شفيق ومشفق. قال خلف بن خليفة:
تهوي حياتي وأهوى موتها شفقا ... و الموت اكرم نزال على الحرام
و لا يقال: أشفقت عليه. وجوزه بعض اللغويين. والظن الراجح من طرفي التردد في الشيء. وقد يطلق على الاعتقاد مطلقا. والمولع بالشيء: المغرى به؛ يقال: ولع به بالكسر، ولعاً بفتحتين، وولوعاً مفتوح الأول؛ وأولعته أنا وأولع به، فهو مولع. ومعنى المثل إنَّ كان من تشفق عليه فأنت تتخوف عليه الأحداث، حتى إنَّ كل شيء ذكر أو سمع أو رئي تخشى أنَّ يكون قد وقع به، كما قال الحماسي دريد بن الصمة:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي
و عبد الله هو بن الصمة أخو دريد. فكان دريد لمّا سمع قول الفوارس قد صرع فارس ظنه دريد أخاه فشفق عليه. وقيل إنّه ظنه أخاه لمّا علم من إقدامه وجرأته. وسوء الظن عند الشفق أمر معروف مشاهد في الناس، ولا سيما الضعفاء من كالنساء، حتى إنّه متى ذكر هلاك في الجيش غائب أو مسافرين، كان كل من هناك من يشفق عليه يتصور ذلك الهلاك فيه شفقة، وهو أوّل ما يسبق إلى وهمه.

ومما يشبه هذا ما وقع لإياس بن معاوية رحمه الله: نظر إلى نسوة ثلاث، وقد فزعن من شيء، فقال: هذه بكر، وهذه ظئر وهذا ظئر، وهذه حبلى. فسئلن عن ذلك فوجد الأمر كما قال. فقيل له: بم عرفت ذلك؟ قال: إنهن لمّا فزعن وضعت كل واحدة يدها على أهم المواضع عندها، فوضعت البكر على فرجها، والظئر على ثديها، والحبلى على بطنها. فانظر في هذه القصة كيف جعلت كل واحدة تظن الشر نازلاً بالمحل الذي لها مزيد إشفاق عليه!
إنَّ الشقراء لم يعد شرها رجليها
الشقراء: فرس جمحت بصاحبها فأتت على وادٍ وهمت أنَّ تثبه، فقصرت ووقعت، فاندقت عنقها وسلم صاحبها. فسئل عنها فقال: إنَّ الشقراء لم يعد شرها رجليها، أي لم يتجاوزها إلى غيرها. ويقال فرس رمحت ابنها فقتلته. والمعنى إنَّ الشر لم يتجاوز ما كان برجلها، فيضرب في النحو هذا من الشيء النازل ولم يتعد. وكان عتبة بن جعفر بن كلاب أجار رجلا من بني أسد فقتله رجل من بني كلاب، فقال بشر بن أبي حازم الأسدي يهجو عتبة:
فأصبحت كالشقراء لم يعد شرها ... سنابك رجليها وعرضك أوفرُ
وفي الشقراء كلام آخر يأتي إن شاء الله تعالى.
إنَّ الشقي وافد البراجم.
الشقاء: العسر والشدة، يمد ويقصر. يقال: شقي الرجل بالكسر، يشقى، شقاوة بفتح الشين وكسرها، وشقا وشقاء وشقوة بالفتح والكسر أيضاً فهو شقي. والوافد: القادم؛ يقال وفد علي يفد أي قدم فهو وافد وهو وفد وأوفاد ووفود. ومن الأول قوله تعالى: )يومَ نحشرُ المتقينَ إلى الرحمنِ وفداً(. والمفسرون يقولون: وافدا أي راكبا لأن الوفود سراة الناس. والبراجم: قوم من أولاد حنظلة بن مالك بن عمرو بن تميم.
المثل لعمرو بن هند وهو عمرو بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي بن أخت جذيمة الأبرش ملك الحيرة. وكان سبب ذلك أنَّ أخاة اسعد بن المنذر كان في بني دارم مسترضعا في حجر زرارة بن عدس الدارمي ويقال في حجر حاجب بن زرارة. فلما شب خرج يوما يتصيد فعبث كما تعبث الملوك لمّا انصرف من صيده وبه نبيذ، فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله. وقيل مرت به ناقة كوماء فعبث بها ورمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد، أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب فلحف بمكة وحالف قريشا. وكان زرارة بن عدس من خواص عمرو بن هند. وكان عمرو قبل ذلك قد غزا قوما من العرب ومعه زرارة فأخفق. فلما انتهى عبد رجوعه إلى جبل طيء قال له زرارة: أيّها الملك! إنَّ رجوع مثلك إذا غزا بغير شيء لعظيم، وها هي طيء بجنبك. فمال عليها أبن هند فقيل وأسر. فاضطغنت طيء من ذلك على زرارة وجعلوا يتربصون به فرصة، فلما بلغهم إنَّ دارما قتلت اسعد وكتم عمرو بن هند ذلك في نفسه،قال عمرو بن ملقط الطائي ينبه عمرا للنهوض إلى أثره ويغريه بقتل زرارة:
من مبلغ عمرا بأن ... المرء لم يخلق صباره؟
ها إنَّ عجزة أمه ... بالسفح أسفل من أوراه
تسفي الرياح خلال ... كشحي هو قد سلبوا إزاره
فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زرارة!
فوافى هذا الشعر عمرا وزرارة عنده. فقال له عمرو: ما يقول هذا؟ فقال: كذب قد علمت عداوتهم أي فيك. قال: صدقت! فلما أمسى زرارة، هرب ولحق بقومه. فغزاهم عمرو بن هند وحلف ليحرقن منهم مائة بأخيه. فلما نزل بأوارة، وقد نذروا به، تفرقوا عنه هربا. فتتبعهم حتى قبض تسعة منهم وحرقهم بالنار. فأراد إنَّ يكمل العدة بعجوز منهم. فلما أمرها قالت: إلاّ فتى يفدي هذه العجوز بنفسه؟ ثم قالت: هيهات! صار الفتيان حمما. ومر وافد البراجم، فاشتم رائحة الشواء ولم يشعر بالأمر، فظن أنَّ الملك قد اتخذ طعاما. فأقبل نحوه تخب به راحلته لينال منه، حتى وقف على عمرو فقال له: من أنت؟ قال: أبيت اللعن! أنا وافد البراجم.فقال عمرو: إنَّ الشقي وافد البراجم. فذهبت مثلا. ثم أمر به فقذف في النار.
يضرب هذا المثل في الإنسان يجلب الحين على نفسه وهو من باب قولهم: بحث عن حتفه بظلفه، وسيأتي. وبهذه الواقعة سمي عمرو بن هند محرقا لتحريقه بني تميم. وقيل سمي محرقا لعتوه وفساده في الأرض فكأنه حرقها. وقيل لتحريقه نخل مللهم، وهو موضع بالبحرين ويسمى أيضاً مضطرب الحجارة لشدة وكأته. وكان جده امرء القيس أيضاً فيما يزعمون يسمى محرقا، وأباه يعني الأسود بن يعفر بقوله:

ماذا أؤمل بعد آل محرقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إيادِ
أرض الخورنق والسدير ويارقٍ ... و القصر ذي الشرفات من سندادِ
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعادِ
و في هذه القصة يقول الأعشى:
ويكون في الشوفِ الموازي ... منقراً وبني زراره
أبناءُ قومٍ قتلوا ... يوم القصيبة والأواره
فجروا على ما عاودوا ... و لكلٍّ عاداتٍ أماره
والعود يعصرُ ماؤه ... و لكلٍّ عيدانٍ عصاره
و قال جرير يعير الفرزدق:
أين الذين بنار عمرو حرقوا؟ ... أم أين اسعد فيكم المسترضع؟
و قال أيضاً:
وأخزاكم ربي كما قد خزيتم ... و أدرك عماراً شقي البراجم
وبها أبلغ ليك بني تميمٍ ... بآية ما يحبون الطعاما
و قال آخر:
إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ ... فسرك أن يعيش فجئ بزادِ
بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفف في بجادِ
تراه ينقب البطحاء طرا ... ليأكل رأس لقمان بن عادِ
ودخل بعض أذكياء بني تميم، ويقال هو الأحنف، على بعض ملوك قريش، ويقال هو معاوية رضي الله عنه، فقال له الملك: ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال السخينة، يا أمير المؤمنين. أراد الملك أنَّ يعيره بالطعام وأشار إلى الشعر السابق وأراد التميمي تعييره بالسخينة، وهي طعام، وكانت قريش تعير بها. ويشبه هذه القصة في تميم أيضاً ما يحكى أنَّ أعرابيا وقف على الفرزدق فقال له الفرزدق: ممن أنت؟ فقال: من فقعس. قال: كيف تركت القنان؟ قال : تركته يساير لصاف.
أراد الفرزدق قول الشاعر:
ضمن القنان لفقعس سوءاتها ... إنَّ القنان بفقعس لمعمرُ
و أراد الفقعسي بقوله يساير لصاف قول آخر:
وإذا تسرك من تميم خصلةٌ ... فلما يسوءك من تميم أكثرُ
وقد كنت أحسبهم أسود خفية ... فإذا لصاف تبيض فيها الحمر
أكلت أسيد والهجيم ودارم ... أير الحمار وخصيته العنبر
ذهبت فشيشة بالأباعر حولنا ... سرقا فصب على فشيشة أبجر
و القنان، بفتح القاف، جبل لبني أسد، وهو الواقع في قول زهير:
جعلن القنان عن يمين وحزنه ... و من بالقنان من محل ومحرم
و لصاف، بكسر اللام وبفتحها، معربا ومبنياً على الكسر، جبل لتميم، وهو الواقع في قول النابغة:
بمصطبحات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالاً يسرهن التدافع
و نحوه ما حكى الجاحظ قال: دخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي، وهو عامل على أرمينية، وقد بات بقرب غدير فيه ضفادع. فقال عبد الله: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها. فقال المحاربي: اصلح الله الأمير! إنّها أضلت برقع لها، فهي بغائه. أراد الهلالي قول الأخطل:
تنق بلا شيء شيوخ محاربٍ ... و ما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في الظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
و أراد المحاربي قول الشاعر:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... و لأبن هلال برقع وقميص
و مما شبه هذا في الذكاء والفطنة ما حكي عن بعض الناس إنّه قال: قعدت على جسر بغداد، فمرت امرأة بارعة الجمال، فائقة الكمال، من الرصافة إلى الجانب الغربي. فاستقبلها شاب ذهب نحو الرصافة، فقال الشاب: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري: ولم يقف واحد منهما، بل مر كلٌ لحاجته، مشرقاً ومغرباً قال: فتبعت المرأة، فقلت لها: إنَّ لم تقولي ما قلتما. فضحكت فقالت: أراد الشاب قول علي بن الجهم:
عيون المهى بين الرصافة والجسر ... جلب الهوى من حيث ادري ولا ادري
و أردت أنا قول أبي العلاء المعري:
فيا دارها بالحزن إنَّ مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فانصرفت وتركتها. وبعضهم ينكر في قصة عمرو بن هند التحريق، ويقول إنّه قتل تسعة وتسعين وإكمال العدة بوافد البراجم، وينشد قول الجرير: أين الذين بنار عمرو قتلوا؟ وفي القصة اختلاف وطرق، وسنعيدها في الباء إنَّ شاء الله تعالى على وجه آخر للحاجة إليها هناك.
إنَّ العصا قرعت لذي الحلم.

العصا معروفة. والقرع: الضرب. والحلم: العقل. ومعنى المثل إنَّ الحليم إذا نبه انتبه. واختلف في أوّل من قرعت له العصا: فقيل عامر بن حممة، وقيل عمرو بن مالك، وقيل قيس بن خالد، وقيل عامر بن الظرب العدواني وهو الأشهر، وكان حكماً من حكام العرب. فلما كبر، قيل وأتى عليه ثلاثمائة سنة أنكر من عقلة شيئاً، وكانت له بنت حكيمة، فكان إذا قعد للناس وصاها إنَّ تقرع له المجن بالعصا إذا زل في كلامة ليرجع. قال الملتمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... و ما علم الإنسان إلاّ ليعلما
و أراد بذي الحلم عامراً، وهو كنينه فيما يزعمون. وقال الحماسي الحرث بن وعلة الجرمي:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... و لئن سطوت لأوهنن عظمي
لا تأمنن قوماً ظلمتهم ... و بدأتهم بالشتم والرغم
إنَّ يأبروا نخلاً لغيرهم ... و الشيء تحقره وقد ينمي
وزعمتم أنَّ لأحلوم لنا ... إنَّ العصا قرعت لذي الحلم
ووطئتنا وطئا على حنقٍ ... وطء المقيد نابت الهرم
وتركنا لحما على وضمٍ ... لو كنت تسبقني من اللحم
قيل: وعامر هذا أوّل من جلس على المنبر وتكلم. وفيه يقول الأسود بن يعفر:
ولقد علمت لو إنَّ علمي نافعٌ ... أنَّ السبيل سبيل ذي الأعداد
و إليه اشار ذو الإصبع العدواني بقوله:
عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض
بغي بعضهم ظلما فلم ... يرع على بعض
ومنهم كانت السادات ... و الموفون بالقرض
ومنهم من يجيز الناس ... بالسنة والفرض
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
يعني عامر بن الظرب، وسيأتي له مزيد من الخبر.
إنَّ فلاناً باقعة.
الباقعة: الرجل الداهية؛ وأصله البقع في الأرض وهو الذهاب فيها وحوله بقاعها. يقال : ما أدري أين بقع أي ذهب. فالباقعة هو الذي جال بقاع الأرض وعرف خيرها وشرها فاستعمل في الداهية الذكي الذي لا يفوته شيء. ويقال الباقعة هو الطائر يرد البقاع وهي الأمكنة فيها ماء ويحيد عن المشارع والمياه المحصورة خوف أنَّ يحتال عليه فيصاد. فضرب مثلا للرجل الحذر المحتال.
إنّه لحبل من أحبالها
الحبل بكسر الحاء وتفتح الداهية من الدواهي جمعه حبول. قال كثير:
فلا تعجلي يا عز أنَّ تتبيني ... بنصحي أتى الواشون أم بحبولِ
و يقال للرجل هو حبل من أحبالها إذا كان داهية كالمثل الذي قبله أو كان قائما على المال رفيقا بسياسته.
إنّه لذو بزلاء.
البزلاء: الرأي الجيد؛ وهو إما مأخوذ من البزول يقال بزل ناب البعير إذا انشق وطلع؛ وبزلت الشيء: شققته فتبزل. فالبزلاء: الرأي الذي ينشق عن الصواب. ويقال: رجل بازل إذا احتنك، تشبيها بالبازل من الإبل. وقال الراعي:
من أمر ذي بدوات لا يزال له ... بزلاء يعي بها الجثامة اللبدُ
و أما من البزلاء وهي الداهية العظيمة. ومنه قولهم: فلان نهاض ببزلاء إذا كان مطيقا للشدائد.
إنّه ليسر حسوا في لرتغاء.
السرار ضد الإعلان؛ والحسو: الشرب؛ يقال : حسا اللبن والماء والمرق وغير ذلك إذا شربه؛ واسم ما يحسى: الحسو، مقصورا وممدودا، والحسو على مثال عدو، والحسية. ورغوة اللبن، مثلثة الراء، ورغاوته، ورغايته، بضم الراءين، ويكسران: زبدة الطافي فوقه. قال نضلة السلمي في يوم غول، وكان حقيرا دميما، وكان ذا بأس ونجدة:
ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور مشيح؟
رأوه فازدروه وهو حر ... و ينفع أهله الرجل القبيحُ
فشد عليهم بالسيف صلتا ... كما عض الشبا الفرس الجموحُ
فاطلقت غل صاحبه وأردى ... قتيلا منهم ونجا جريحُ
ولم يخشوا مصاليه عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريحُ
و الصريح: الخالص ويسمى المحض كما قال طرفة:
ويشرب حتى يغمر المحض قلبه ... و إن أعطيته أترك لقلبي مجثما
و كما قال الآخر: فقل جعل يستق في لبن محض. ويقال : ارتغى الرغوة إذا أخذها بفيه واحتساها.
ومعنى المثل إنّه يحسو اللبن وهو يظهر إنّه يزيل الرغوة بفيه ليصلحه لك.

وضرب لمن يريك إنّه يعينك وهو يجر النفع لنفسه. وكذا من يريد أمرا وهو يظهر غيره. وقيل للشعبي: إنَّ رجلا قبَّل أمَّ امرأته. فقال: يسر حسواً في ارتغاء، وقد حرمت عليه امرأته.
إنّه لساكن الريح.
مثل لرجل الوادع، وهو في الأصل إما مشبه بزمن قد سكنت ريحه وهدأت زعازعه، فورد مورد التمثيل؛ وإما مشبه بالريح الساكنة عن الاضطراب، وهو ضرب من التجريد.
إنّه لشرَّابٌ بأنقع.
الشرَّاب: الشارب بكثرة؛ والأنقع: جمع نقع بفتح فسكون وهو يطلق على الغابر ويطلق على محبس الماء المستنقع، وعلى الأرض الحرة الطين، يستنقع فيها الماء. فيضرب هذا لمن جرب المور وعاود خيرها وشرها أو للداهي المنكر.
قيل: واصله في الدليل وهو إنّه إذا كان بصيرا بالفلوات حذف في الطريق وعلم أين يسلك إلى الأنقع حتى يردها. والأنقع هنا: المياه المستنقعة أو محالها بحسب ما فيها من الماء. فصار مثلا لكل بصير بالأمور يصل منها إلى موارخ.
وقيل أصله أنَّ الطائر إذا كان حذرا منكرا لم يرد المياه التي يردها الناس مخافة الأشراك التي تنصب بحضرتها وإنّما يرد الأنقاع التي في الفلوات أي المياه المستنقعة. وحكى البكري بسنده عن رياح بن زيد قال : سألت أبن جرير عن آية وقلت إنَّ معمرا أخبرني بكذا فقال: إنَّ معمرا شرب العلم بأنقع. قال عبد الرزاق: الأنقع: الصفا الذي يصيبه الغيث فيكون هاهنا ماء وهاهنا ماء.
إنّه لصل أصلال.
الصل، بكسر الصاد المهملة: الحية الخبيثة لا تنفع فيها الرقى ولا يبل سليمها. قال الشاعر:
والحية الصل لا تغررك هداته ... فكم سليم وموقوذ لنكرته!
و قال صاحب تأبط شراً يرثيه:
مطرق يرشح موتا كما أطرق ... أفعى ينفث السم صلُّ
و جمعه أصلال فضرب للرجل الداهي في الخصومات وغيرها، كأنه لحية الحيات. قال الشاعر:
ما ذا رزئنا به من حيةٍ ذكرٍ ... نضناضةٍ بالرزايا صلِّ أصلالِ
إنّه لضعيف العصا.
مثل لقليل الضرب للإبل. قال الراعي:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما اجدب الناس إصبعا
إنّه لضل إضلال.
مثل للداهي على نحو ما مر أنفا في الصاد، إلاّ إنّه يقال هناك: صل أصلال، بالصاد المهملة وبكسرها لا غير؛ ويقال هنا: ضل إضلال، بالضاد المعجمة المكسورة والمضمومة.
ومعناه إنّه يضل خصمه وقرنه فلا يهتدي ولا يعرف من حيث يأتيه ولا يتجه معه إلى وجه يخلصه منه. والضلال ضد الرشاد. قيل: وأصله قولهم: أرض ضل، إذا كانت تضلل أصحابها. وأما قولهم: إنّه ضل بن ضل. بكسر الضادين وضمهما، فمعناه إنّه منهمك في الضلال، أو إنّه لا يعرف له اصل، أو إنّه لا خير فيه. ويقال للباطل: ضل بتضلال. قال عمر بن شاس الأسدي:
تذكرت ليلى لات حين أذكارها ... و قد حني الأصلاب ضل بتضلال
و قيل في قول امرئ القيس:
نواعم يتبعن الهوى سبل الردى ... يقلن لأهل الحلم ضل بتضلال
إنّه دعاء بالضلال، أي إذا رأين أهل الحلم قل لهن: أضلكم الله، ودعون عليهم إذ لا يتبعون اللهو، وهو البين. قيل: وأنكر أبو عبيد ضم الضاد في قولهم: ضلا بتضلال، وقال: لم اسمع الضم إلاّ في ضل بن ضل.
إنّه لعض.
العض بكسر العين المهملة وبضاد معجمة، يضرب للرجل الداهي المنكر البليغ. قال القطامي:
أحاديث من أنباء عاد وجرهم ... يثورها العضان زيد ودغفل
و يروي: أحاديث من عاد وجرهم ضلة. ومعنى ضلة: لا يهتدي إليها، كما قالت السلكة أم السليك:
ليت شعري ضلة ... أي شيء قتلك
و معنى يثورها: يحركها من مكانها، ويثيرها من مظانها. ويروي: ينورها بالنون، أي يكشفها ويبين ما استتر منها من النور الكاشف للظلمة. وزيد المذكور أحد بني هلال أبن ربيعة، وكان من اعلم الناس. ودغفل من بني ذهل بن ثعلبة نسابة.
قيل: وأصل المثل من العض على النواجذ. يقال: عض الرجل على نواجذه إذا صبر على الأمر. قال علي كرم الله وجهه يحرض الناس يوم صفين: عضوا على النواجذ من الأضراس! فإنه أنبى للسيوف على الهام. وقال الحارث بن وعلة:
الآن لمّا ابيض مسربتي ... و عضضت من نابي عجذم

و النواجذ بالذال المعجمة: أواخر الأضراس، وأحدها ناجذ. والعرب تسمي الناجذ ضرس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل. قال النمر بن تولب:
على إنّها قالت عشية زرتها ... المثل ينبت لذا حلمه بعدي
و رجل منجذ، أي مجرب أحكمته الأمور. قال سحيم بن وثيل:
أخو خمسين مجتمع اشدي ... و نجذني مداورة الشؤون
و قيل: إنه لعض المال، أي شديد القيام عليه، وعض سفر، أي قوي عليه، وعضاض عيش، أي صبور على الشدة، وغلق عض: لا يكاد ينفتح. والعض أيضاً: مال صغر من شجرة الشوك، كالشبرق والقتاد الأصغر؛ يقال: بلد ذو عض، وإبل عاضة: ترعاها؛ وأهلها معضون. فيصح إنَّ يكون أصل المثل من هذا أيضاً.
إنّه للين العصا.
مثل لرقيق الحس السياسة لمّا ولي. قال الشاعر:
عليه شريب وادع لين العصا ... يساجلها جماته وتساجله
إنّه لنقاب.
مثل للرجل العالم الفهم الخبير بغوامض الأمور. قال أوس بن حجر:
كريم جواد أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب
قيل: واصله من التنقيب في البلاد وتجريب الأمور. ونحوه قولهم في مثل آخر لمجرب الأمور: فلان قد ركب ظهر البر والبحر، وعرف حالتي الخير والشر، وذاق طعمي الحلو والمر. وقال الحكماء: لا ينال أحد الحكمة حتى ينسى الشهوات، ويجرب الفلوات، ويحالف الأسفار، وينتاب القفار، ويصل الليل باليوم، ويعتاض السهر من النوم. قالوا: النظر كالسيف، والتجارب كالمسن. وقالوا: مرآة العواقب، في يد ذي التجارب. وقال أبو تمام يصف بالتنقيب والتجريب:
سلي هل عمرت القفر وهي سباسب ... و غادرت ركبي من ركابي سباسبا
وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... و شرقت حتى قد نسيت المغاربا
و قال أيضاً:
خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أواني
بالشام قومي وبغداد المنى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
أحبة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإنَّ فرقوا في الأرض جيراني
و قول أوس المذكور يحدث بالغائب هو من شأن النقاب. والمعنى إنّه ذو ذكاء قوي وفراسة وضن مصيب، كما قالوا: فلان المعي وقول الشاعر:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
وقال الآخر:
بصير بأعقاب الأمور إذا التوت ... كأن له في اليوم عين على غد
وقال ابن الرومي:
كمال وإفضال وبأس ونجدة ... و ظن يريه الغيب لارجم راجم
وقال آخر:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ... إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من لم ينتفع بظنه، لم ينتفع بيقينه. وقال عبد الملك بن مروان: ما فرق بين عمر وعثمان إلاّ اختلاف الضن: ظن عمر فأصاب فتحفظ، وظن عثمان فأخطأ فأمهل.
إنّه لنكد الحظيرة.
النكد: لشدة والقلة؛ يقال: نكد عيش القوم إذا اشتد، ونكد ماء البئر إذا قل، وناقة نكود قليلة الدر، ورجل نكد: عسير؛ والحظيرة والحظار بالظاء المشالة: ما يجعل للماشية ويحاط بالشجر ونحوه للتأويل إليه ويمنعها من الحر والبرد، لأنها من الحظر وهو المنع.
يضرب هذا المثل للرجل القليل الخير وللبخيل مع السعة، فكأن ضيق حضيرته كناية عن ضيق خيره وقلة فضله، كما يقال في المثل الآخر من هذا المعنى: فلان ضيق العطن، وإنّما العطن مبركة الإبل عند الماء؛ لكن جعل كناية عما مر. ويقال في ضده: فلان رحب الفناء، وسابغ الذيل، وغمر الرداء، ونحو ذلك. وقال أبو القاسم بن سلام: أراه سمى أمواله حظيرة لأنّه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وهو بعيد عن صنيع الكلام وأسلوب العرب في هذا النحو كما قررناه.
إنّه لهتر اهتار.
الهتر بكسر الهاء وسكون المثناة الفوقية: العجب والداهية، فيقال: فلان هتر اهتار ويضرب مثلا للرجل الداهي، كما تقدم في قولهم: صل اصلال. قال أوس بن حجر في الهتر بمعنى العجب:
المَّ خيال موهنا من تُماضِرا ... هُدُوَّا ولم يطرق من الليل باكرا
وكان إذا ما التمَّ منها بحاجةٍ ... يراجع هترا من تماضر هاترا
و عن أبن الأعرابي: الهُتر والهِتر، " بالضم والكسر: ذهاب العقل. وفي الصحاح: الهِتر: العجب والداهية، والهِتر " السقط من الكلام، يقال: هتر هاتر، وهو توكيد. ومنه بيت أوس المذكور عنده.

إنّه لواقع الطائرِ.
مثل للرجل الساكن الأمور. وهو في الأصل أما مشبه بالبعير يقع غليه الطائر وينزع ما عليه من القراد، فيسكن البعير استلذاذاً لذلك ولا يتحرك لئلا ينفر الطائر فيطير عنه، كما يقال في المثل الآتي: كأن على رأسه الطير؛ وأما مشبه بالطائر الواقع في سكونه على ضرب من التجريد، كما مر في ساكن الريح.

انك لا تجني من الشوك العنب.
يقال: جنى الثمرة، واجتناها، وتجناها، وكل ما يجنى من الثمر فهو جنى بالفتح والقصر وجناة؛ والشوك، بفتح الشين المعجمة، معروف؛ الواحدة: شوكة؛ وشجرة شاكة وشوكة وشائكة: ذات شوك: والعنب معروف. ومعنى المثل أنّ الشر لا تستحصل منه خيرا، والفساد لا تكتسب منه صلاحا، كما إنَّ العنب ليس بخارج من الشوك. فإذا أوقعت شرا أو ظلمت أحدا فقد غرست شوكا، ولا تحصده إلاّ شوكا. وفي الحكمة: من يزرع خير يحصد غبطة، ومن يزرع الشر يحصد الندامة. وما أحسن قول صالح بن عبد القدوس ناطما لهذا المثل بعينه:
إذا وترت أمرءا فأحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
إنّما العدو وإنَّ أبداً مجاملة ... إذا رأى منك فرصة وثبا
و المثل لأكثم بن صيفي حكيم العرب.
إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع.
هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قاله للأنصار يصفهم بذلك. والفزع يكون على وجهين: أحدهما الذعر والجزع، وهو كثير الاستعمال، والأخر الاستنجاد والاستصراخ، ومنه قول سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له فرع الظنابيب
أي: إذا أتى مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته. يقال: قرع ظنبوبه في هذا الأمر إذا جد فيه. والظنبوب: مقدم عظم الساق. ويشق من هذا المعنى أنَّ يكون فزع بمعنى أغاث. قال هبيرة اليربوعي، المقلب بالكلحبة:
فقلت لكاس الجهيما فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا
أي لأغيث. وكأس اسم جاريته. والطمع معروف.
ومعنى الكلام المذكور وصف الأنصار رضي الله عنهم بالشجاعة والإقدام، وبذل النفوس في نصرة الإسلام، وتجشم المضائق في ذلك والعظائم، والتسارع إلى المكارم مع الزهد التام، ورفع الهمة عن الحطام. وهو معنى قوله: وتقلون عند الطمع، أي عند وجود الطمع في الناس لسبب من أسبابه، ويصح أنَّ يراد بالطمع المال المطموع فيه، أي: تقلون عند حضور الأموال واقتسامها وانتهابها، والقلة على بابها، أو للنفي وهو ابلغ. وناهيك بهذا الكلام مدحا وثناء، وبالأنصار رفعة وسناءً! ومثل هذا المعنى قول عنترة:
يخبركم من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المطعم
و من هذا المعنى قول المهاجرين في الأنصار: انهم يكفوننا المؤونة، ويشاركوننا في المهنا. ومن باب المشاركة في الشدة قول أبي بكر الخوارزمي:
أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... لزاما وإنَّ أعسرت زرت لماما
فما أنت إلاّ البدر إنَّ قل ضوءه ... أغب وإنَّ زاد الضياء أقاما
وأصله قول الأول:
فتى كان يدينه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر
و تمثل بهذا البيت علي كرم الله وجهه في طلحة حين رآه مقتولاً يوم الجمل. وورد في ضد هذه الصفة، وهو المشاركة في الرفاهية والخذلان في الشدائد أمثال كثيرة من الشعر كقول الشاعر:
إذا ما علوا قالوا: أبونا وأمنا ... و ليس لهم عالين أم ولا أب
و قول الآخر:
موالين إذا افتقروا إلينا ... و إنَّ اثروا فليس لنا موالي
و قول الآخر:
أبو راشد مولاي ماطل حقه ... فإن كانت الأخرى فمولى بني سهم
إنَّ لله جنوداً مِنْهَا العسل.

الجنود جمع جند، بضم فسكون، وهو العسكر. ويطلق عليه السلام الأعوان وعلى المدينة، يقال الشام خمسة أجناد، ويراد مدنها الخمس؛ وعلى الصنف من الخلق على حدة. والعسل معروف. وهذا الكلام وقع لمعاوية، رحمه الله، لمّا بعث عمرو بن العاصي أميراً على مصر، وفيها محمد بن أبي بكر أمير عن علي، كرم الله وجهه. فاقتتلا، فقتل محمّد بن أبي بكر واستولى عمرو على مصر. فبلغ ذلك أمير المؤمنين علياً، كرم الله وجهه، فأنفذ إلى مصر الأشتر النخعي في جيش، فزعموا إنّه لمّا سمعه معاوية دس إلى دهقان كان بالعريش أنَّ يقتل الأشتر، وجعل للدهقان أنَّ يترك له الخراج عشرين سنة. فسأل الدهقان أي الشراب احب إلى الأشتر، فقيل له العسل، فأتاه بعسل مسموم. فما استقر في جوفه إلاّ وقد تلف. فبلغ معاوية ذلك فقال: إنَّ لله جنوداً منها العسل. " و لا ادري اهو أبو عذره أم كان مسبوقا. وظاهر كلام صاحب القاموس أنَّ الجند في هذا المثل أريد به المعنى الأخير من معانيه السابقة، وليس بظاهر، إذ لا معنى لأن يقال هذا أريد به المعنى الأخير من معانيه السابقة، والقصة أنَّ لله أصنافا من الخلق منها العسل " وإنّما إنّه أعوان، ولا سيما كلامه يحكى تارة بلفظ: إن لله جندا في العسل، وبهذه العبارة رأيته في تاريخ المسعودي، والله اعلم.
إنَّ في المرنعة لكل قوم مقنعة.
يقال: رنع لون الرجل رنوعا إذا تغير وذبل؛ ورنعت الدابة الذباب: طردته؛ ورنع بالكسر يرنع: إذا لعب. والمرنعة على وزن مرحلة: السعة والدعة، وتطلق أيضاً على الروضة، وعلى الأصوات في اللعب، وعلى القطعة من الطعام ومن الشراب ومن الصيد. ويقال للحمقاء إذا أثرت: وقعت في مرنعة فعيشي، أي: وقعت في خضب. والمقنعة: الغنى، وهي من القناعة، أي: في المرنعة لكل أحد ما يقنع به ويستكفي. والمعنى ظاهر.
إنَّ في مض لمطمعا.
مض بكسر الميم وكسر الضاد المعجمة المثقلة: كلمة تستعمل بمعنى لا. قال: سألت هل وصل، فقالت: مض، وهي حكاية صوت الشفتين يكون معه نوع استهزاء، وهي مع ذلك مطمعة في الإجابة. ومن ثم قالوا: إنَّ في مض لمطمعا. ويشبه أنَّ يضرب عند التحريض على طلب الشيء وترجيه ما دامت مخائل بلوغه وإن ضعفت.
إنَّ الله ليؤيد هذا الدين بالرَّجل الفَاجِر.
هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم قاله في شأن قزمان بن الحارث لمّا أعجب المسلمين قتاله وغناؤه، ثم جرح وآلمته الجراحة، فاستعجل وقتل نفسه. وقد كان صلى الله عليه وسلم اخبرهم قبل ذلك إنّه من أهل النار: وهو معنى ما في خبر آخر: إنَّ الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم. وإنّما ذلك لآن كل من دخل في سواد المسلمين فهو قد يجاهد العدو ويدافع عن المسلمين ويقصم ظهور الكافرين، حتى يتأيد بتعزز المؤمنين، ويضعف الكفر بذل الكافرين، طلبا لإعلاء كلمة الله تعالى ، وابتغاء لمرضاته، فنفع " و انتفع. وقد يفعل ذلك لغير إعلاء كلمة الله أو يحبط العمل بوجه من الوجوه، فنفع " ولم ينتفع ولم، عياذاً بالله تعالى! وما ذكره الشارع، صلوات الله وسلامه عليه، غير مختص بالجهاد، بل في كل وجه من وجوه التأييد كسياسة الأمة، والحكم بين الناس، وتعليم العلم، وقبض الأموال وتفريقها وبناء المساجد والأسوار والقناطر، ونحو ذلك مما لا ينحصر. وذلك واقع لا محالة، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وسيأتي تشبيه العالم غير العامل بالمصباح يضيء للناس وهو يحترق، نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أنَّ يقينا شر هذه الورطة، ويقينا شر أنفسنا وشر كل ذي شر!
إنَّ الله لن يرفع شيئاً من الدنيا إلاّ وضعه.
هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قاله في شأن ناقته، وكانت لا تسبق. فجاء أعرابي على قعود فسبقها. فشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر. ز كل ذلك في الصحيح.
إنَّ الُّلهَي تفتح الَّلهي.
اللهي الأول بضم اللام جمع لهوة بضم اللام، وتفتح أيضاً، وهي العطية أو افضل العطايا؛ وكذا اللهية، وتطلق على الألف من الدنانير والدراهم. قال النابغة:
عظام اللهي أولاد عذرة إنهم ... لها ميم يستلهونها بالحناجر
و قال الحماسي:
لعمري لئن أعمرتم السجن خالداً ... و أوطأتموه وطأه المتثاقل
لقد كان يروي المشرفي بكفه ... و يعطي اللهي في كل حق وباطل

و اللهوة أيضاً ما يرمية الطاحن بيده في فم الرحى، وكان هذا هو الأصل. واللهي الثاني بفتح اللام جمع لهاة، على مثل قناة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق، والجمع بإسقاط الهاء، وقد مده الشاعر ضرورة في قوله:
يأكل من تمر ومن شيشاء ... ينشب في المعسل واللهاء!
و المعنى المثل أنَّ الإحسان، وتوارد العطايا الحسان، يلطف اللسان، بالثناء والشكران. وهذا المثل وقع في كلام الكميت، وقيل له: لم صارت أشعارك في بني امية أطيب منها من بني هاشم؟ فقال: إنَّ اللهى تفتح اللهى! ومن أظرف ما أتفق في هذا ما حكي شمس الدين بن خلكان أنَّ المعتمد بن عباد الأندلسي ذكر يوما قول أبي الطيب:
إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معيي المعطي ورازمه
فجعل يردده استحساناً له وفي الخضرة عبد الجليل بن وهبون، فقال ارتجلا:
لئن جاد شعر أبن الحسين فإنما ... تجيد العطايا ز اللهى تفتح اللهى
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها
إنّما يجزي الفتى ليس الجمل.
يضرب هذا المثل في المكافأة وهو للبيد بن ربيعة في شعره يقول فيه:
فإذا اقترضت قرضاً فأنجزه ... إنّما يجزى الفتى ليس الجمل
وإذا زمت رحيلا فأرتحل ... و اعص ما يأمر توخيهم الكسل
واكذب النفس إذا حدثتها ... إنَّ صدق النفس يزري بالأمل
وهذه كلها أمثال.
إنّما سميت هانئاً لتهنأ.
التسمية معروفة. وهانئ اسم رجل، والهنأ: الإعطاء؛ يقال هنأته هنئاً إذا أعطيته ورفدته، والاسم الهنئ بالكسر، قيل: وبالفتح أيضاً، وهو العطاء ويقال: هنأه شهراً أو شهرين إذا عاله هنئا وهناءة. قال الشاعر:
هنأتهم حتى أعان عليهم ... سوامي السماك ذي السلاح السواجه
يضرب هذا المثل في الحضّ على بذل الافضال. وعن الكسائي: وسمعت إعرابياً يقول: إنّما سميت هانئا لتهنأ، أي لتعول وتكفي.
قلت: وينبغي أنَّ يضرب عند التحريض كل ذي وصف، أو لقب أو حرفة على فعل ما يوجب ذلك الوصف، أما حقيقة كان القاضي للقضاء بين الناس والمحتسب للاحتساب والمعلم للتعليم والصائغ للصياغة ونحو ذلك؛ وإما على الاشتقاق فقط كالافضال لمن اسمه فضل والحرث امن اسمه حارث والهنئ لمن اسمه هاني فإنَ ذلك هو أصل المثل. فيقال للذي تسمى بالقاضي وتأبى عن الحكم: إنّما سميت هانئا لتهنأ، أي قيل لكل قاض لتقضي بين الناس ونحو هذا.
إنّما اشتريت الغنم حذار العازبة.
الاشتراء والغنم معروف؛ والعزبة: الإبل، والعزوب بالزاي في الأصل: الذهاب والبعد. وعزبت الماشية، وعزب بها ربها: بعد بها في المرعى ولم ترح. ورجل عزيب: بعد عن أهله وماله. والعزيب من الإبل والشاة: ما يبعد عن أهله في المرعى. وكان لرجل إبل فباعها واشترى غنما لئلا تعزب ثم عزبت غنمه فقال: إنّما اشتريت الغنم حذار العازبة، فذهبت مثلا. ومضربه واضح من هذا.
إنّما القرم من الأفيل
القرم بالفتح: الفحل من الإبل وكذا الأقرم: والأفيل على مثل أمير: الفصيل وأبن المخاض فما فوقه؛ والجمع إفال، على مثل جبال. قال زهير:
فاصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنمٍ
و قال آخر:
فإني لا تبكي عليَّ إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا
و المعذي إنَّ الجمل إنّما يكون قرما بعد ما يكون صغيرا أفيلا. فيضرب في أنَّ الأمر الكبير ينشأ عن الأمر الصغير، على نحو مر في أنَّ السقط يحرق الحرجة، وما يأتي في قولهم: العصا من العصية، ونحوه كثير.
إنّما هو كبارح الأروى.
البارح من الظباء والطير وغيرها: ما ولاَّك مياسرة، وهو أنَّ يمر من ميمنتك إلى ميسرتك. يقال: برح الظبي ونحوه بفتح الراء، بروحا، فهو بارح؛ وعكسه: السانح. والعرب تتيمن بالسانح، وتتشائم بالبارح. وسنذكر ما في ذلك بعده إن شاء الله تعالى. والأروى بفتح الهمزة والواو مقصورا جمع أروية بضم الهمزة وكسرها مع تشديد الياء أو اسم جمع لها والأروية: أنثى الأوعال. ويضرب هذا المثل للمر النادر القليل لأن الأروى مسكنها قمم الجبال. فلا يوجد منها بارح في الدهر إلاّ نادرا ولا سانح.
إنَّ مع اليوم غدا.

يضرب في تنقل الحالات وتبدل الساعات. وذلك لأن الخير والشر لمّا كانا متقاربين وكان زمانهما في علم الله تعالى مقسطين مقدرين علم أنَّ الشر متى حدث في زمن فللخير زمان يقابله يحدث فيه فعبر عن هذين الزمنين باليوم والغد لمّا بين اليوم والغد من التقابل بل كالذي بين الزمنين. فإذا وقع بك شر فذلك بوم الشر وللخير زمان يترقب هو عند ذلك اليوم فتقول تسليا: إنَّ مع اليو غدا.
وكذا في العكس كما قيل:
يا من يخاف أنَّ يكون ... ما يكون سرمدا
أما سمعت قولهم ... إنَّ مع اليوم غدا؟
و قال علي بن الجهم لمّا حبسه المتوكل:
صبراً فإن اليوم يتبعه غد ... و يد الخليفة لا تطاولها يدُ
ولكل خير معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما يحمدُ
لا يؤنسنك من تفرج كربتة ... خطبٌ رماك به الزمان الأنكدُ
كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوَّدُ
و قال معن بن أوس المزني:
وأني أخوك الدائم العهد لم أخن ... و إن زال خصمٌ أو نبا بك منزلُ
وإن سؤتني يموا صبرت إلى غدٍ ... ليعقب يوما آخرٌ منك أولُ
و لمّا خرج المتوكل العباسي إلى دمشق ركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك بن مروان فنظر إلى قصرها. ثم خرج فرأى ديرا هناك قديما حسن البناء بين مزارع وأشجار ورياض وأنهار فدخله. فبينما هو يطوف به إذ رأى رقعة بصدره. فأمر بها فأزيلت وأتوتي بها فإذا فيها:
يا منزلا بالدير أصبح خالياً ... يلاعب فيه شمأل ودبورُ
كأنك لم يسكنك بيض نواعم ... و لم يتبختر في فنائك حورُ
وأبناء أملاك غواشم سادةٌ ... صغيرهم عبد الأنام كبيرُ
إذا لبسوا ادرارهم فعوابسٌ ... و إن لبسوا تيجانهم فبدورُ
على أنهم يوم اللقاء ضراغمٌ ... و أيديهم يوم العطاء بحورُ
ليالي هشام بالرصافة قاطنٌ ... و فيك ابنه يا دير وهو أميرُ
إذ الدهر غض والأخلافة لدنٌ ... و عيش بني مروان فيك نضيرُ
وروضك مرتاد ولونك مزهرٌ ... وعيش بني مروان فيك قريرُ
بلى!فسقاك الله صوب غمامة ... عليك لها لعد الرواح بكورُ
تذكرت قومي خالياً فبكيتهم ... بشجو ومثلي بالبكاء جديرُ
فعزيت نفسي وهي نفسٌ إذا جرى ... لها ذكر قومي أنه وزفيرُ
لعل زماناً جار عليهم فلم يكن ... لهم بالذي تهوى النفوس يدورُ
فيفرح محزونٌ وينعم بائسٌ ... و يطلق من ضيق الوثاق اسيرُ
رويدك إنَّ اليوم يتبعه غدٌ ... و إنَّ صروف الدائرات تدورُ
فلما قرأها المتوكل ارتاع وتطير وقال: أعوذ بالله من شر أقداره! واستدعى صاحب الدير وسأله عن الرقعة فقال: لا علم لي بها! ويذكر إنّه رجع حينئذ إلى بغداد فلم يلبث إلاّ أياما قلائل حتى قتله ابنه المنتصر رحمه الله تعالى. وقال الحماسي:
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أنَّ يكون له غدُ
والشعر في هذا المعنى كثير.
إنَّ من بالنجف من ذي قدرةٍ لقريبٌ.
النجف، بفتحتين: الموضع المرتفع لا يعلوه الماء. والنجف هنا: موضع بقرب الكوفة، وكان قوم من أهل الكوفة فروا من الطاعون إلى هذا الموضع فقال شريح: إنَّ من بالنجف من ذي قدرة لقريب. يضرب مثلا للأحداث والأقدار وأنَّ لا ملجأ منها لديار.
إنَّ من البيان لسحراً.

هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم وتقدم شرحه في فضل الشعر. وسببه أنَّ بني تميم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عمراً عن الزبرقان بحضوره فقال: مطاع في أدنيه شديد العارضة في قومه مانع لمّا وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله إنّه ليعلم مني اكثر من ذلك ولكنه حسدني. فقال عمرو: أما والله إنّه لزمن المرءة ضيق العطن ائيم الخال أحمق الولد. ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت وغضبت فقلت أقبح ما علمت. فقال صلى الله عليه وسلم:إنَّ من البيان لسحراً! وقد بين أبن الأهتم بكلامه المذكور وجه الأمر في باب المدح والذم: فإنَ العرب كثيرا ما يمدحون الشيء ثم يذمونه بعينه حتى يكاد العقل يحكم بتناقض كلامهم وتهافت مقالهم. وليس فيه مناقضة وإنّما ذلك لاختلاف النظر كما قال عمرو المذكور.
وبيان ذلك أنَّ جميع الكائنات التي هي بصدد التغيرات والآفات لا تخلو عن صفة كمال يتجلى الله بها فيها بالوصف الجمالي وصفة نقصان يتجلى الله تعالى بها فيها بالوصف الجلالي. فكل مخلوق مشتمل على محاسن ومساوئ أما تحقيقها كرجل يكون جوادا وحكيما وهو جبان أو شرير أو قبيح المنظر؛ وأما بوجه واعتبار وذلك أيضاً: أما تحقيقا لاختلاف النظر بحسب تعدد الموجب وتباينه أما عادة وشرعا كسفك الدماء ظلما يمدح عادة ويذم شرعا؛ وكالصمت والتعفف يكون غالبا بالعكس أو عادة وعادة ككثير من أوصاف الخلقة وأنواع الزينة والملابس والمراكب ونحو ذلك مما تختلف فيه العادات استحسانا واستقباحا وقد يختلف الأمر بحسب المكان والزمان والأقران والأحوال وذلك أمر لا ينحصر. وإنّما تخيلا وذلك أما بحسب التشبيه كالورد يحسن عندما يشبه بالخدود النواضر، ويقبح عندما يشبه بسرم البغل؛ وأما بحسب النظر والاعتماد على شبهة كالعسل، بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه قيء زنبور؛ وكبذل المال جودا وسخاءً بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه إتلاف للأموال وإضلعة لها وإفقار محوج إلى التذلل بالسؤال. وهذا تخييل أدى قوما من البخلاء إلى التصريح بالثناء على البخل الذي أجمع العقلاء على ذمه. وألف سهل بن هارون منهم في ذلك تأليف وقال قائلهم:
يا رب جودٍ فقر امرئ ... فقام في الناس مقام الدليل
فاشدد على مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
و قد عرفت بهذه الجملة إنّه يمكنك أنَّ تمدح الشيء وتذمه بحسب اختلاف اعتباراته من غير تهافت في الكلام ولا تناقض: فإنَ التناقض غير لازم إلاّ لو أردت حسنا وقبحا ومدحا وذما على محل واحد باعتبار واحد، لكن توارده على محلين؛ أو باعتبارين كما بينا. والتفطن لهذه المحال واستخراج هذه الاعتبارات الدقيقة هو مرمى البلغاء، ومجال فرسان الشعر والخطباء وهو محط البيان والسحر الحلال، كما وقع في القصة السابقة: فليس الكلام بمجرد الجمع والتلفيق، ولا الشعر بمجرد الوزن والتقفية كم قيل:
إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزانٌ وما أنا شاعرُ
وهذا كلام ليس من غرضنا ولكن الحديث شجون. وسنذكر بعد ما للشعراء في مدح الشيب والهرم وذمه ومدح طول الليل وذمه ونحو ذلك. ولنذكر الآن بعض ما ورد مما يدل على ما ذكرنا زيادة على القصة المذكورة. قال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل وأنت جبان؟ فقال: لأني حليم وأني عفيف. وقالت للحصين بن المنذر امرأته: كيف سدت وأنت دميم بخيل؟ فقال: لأني سديد الرأي شديد الأقدام.

وصعد خالد بن عبد الله القسري منبر مكة أميرا للوليد بن عبد الملك فأثنى على الحجاج خيرا. فلما كانت الجمعة التالية، وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان يأمره بشتم الحجاج وذكر عيوبه وإظهار البراءة منه. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ إبليس كان يظهر من طاعة الله عز وجل ما كانت الملائكة ترى له بها فضلا، وكان الله قد علم من غشه ما خفي عن ملائكته. فلما أراد فضحه ابتلاه بالسجود لآدم فظهر لهم ما خفي عنهم فلعنوه. وإنَّ الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له بها فضلا وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين على غشه أو نحوه فالعنوه لعنه الله! ثم نزل. وكان العباس بن علي عم المنصور يأخذ الكأس بيده ثم يقول لها: أما المال فتتلفين وأما المروءة فتخلقين وأما الدين فتفسدين. ويسكت ساعة ثم يقول: أما النفس فتسحين وأما القلب فتشجعين وأما الهم فتطردين؛ أتراك مني تفلتين؟ ثم يشربها.
ويحكى أنَّ عيسى عليه السلام ما عاب شيئا قط فمر بكلب ميت فقال أصحابه: ما أنتن ريحه! فقال عيسى عليه السلام: ما أحسن بياض أسنانه! وكتب يزيد بن معاوية في كتاب إلى عبيد الله بن زياد حين ولاه محاربة الحسين رضي الله عنه وأرضاه وأرغم أنوف واتريه، وكان قبل ذلك سيئ الاعتقاد فيه: أما بعد، فإنَ الممدوح مسبوب يوما وإنَّ المسبوب ممدوح يوما. وما ورد من هذا المعنى كثير فلنقتصر لئلا نطيل.
إنَّ من الشعر لحكمة.
تقدم هذا أيضاً في فضل الشعر مبينا. وقد حكي أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، هل تجد للشعر ذكرا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوما من ولد إسماعيل أنا جيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة ويضربون الأمثال لا نعلمهم إلاّ العرب.
إنَّ من الشر خيراً.
يضرب عند تفاوت ما بين الشرين حتى يكون الأدنى خيرا بالقياس إلى الأعلى. وهو قريب من قولهم: بعض الشر أهون من بعض. وسيأتي.
إنَّ منكم منفَّرين.
قد يتمثل به. وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين شكي إليه تطويل أصحابه بالناس في الصلاة، فقيل له: ما كدنا ندرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فغضب وقال ذلك وقال: فمن صلى منكم بالناس فليخفف، فإنَ فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة أو كما قال صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيح.
إنَّ الهدايا على مقدار مهديها.
وهو موجود في شعر وهو:
جاءت سليمان يوم العرض هدهدةٌ ... أهدت إليه جراداً كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلةً: ... إنَّ الهدايا على مقدار مهديها
لو كان يهدي إلى الإنسان قيمته ... لكان يهدى لك الدنيا وما فيها
وهذه القصة تذكر في حرف الميم إن شاء الله تعالى. والمثل ظاهر المعنى.

أهل مكة أعرف بشعابها.
مكة معروفة، زادها الله شرفا. والشعاب جمع شعب وهو من الأرض بكسر الشين، ومن الناس بفتحها. وهذا مثل مشهور شائع الاستعمال، يضرب للمباشر للشيء والمخالط له إنّه أخبر به وأبصر بحاله وأعرف كقول القائل: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
أينما أذهب ألق سعداً.
قاله الأضبط بن قريع السعدي وكان غاضب قومه سعد بن مناة بن تميم فتجول في القبائل. فلما لم بجد منهم من يحمد عشرته، رجع وقال: أينما أذهب ألق سعداً، أي أينما ذهب من الأرض ألق قوما ألقى منهم مثل الذي لقيت من سعد. ومضرب المثل واضح وسيأتي أيضاً
أيُّ داءٍ أدوى من البخلِ؟
الداء: المرض. يقال: داء الرجل يداء دواء وداء واداواء، فهو داء ومديء وأدأته أيضاً: أصبته بمرض، لازم منعد والبخل معروف. وهذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه نفر من الأنصار فقال: من سيدكم؟ قالوا الجد بن قيس على بخل فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أي داء أدوى من البخل
؟ بل سيدكم الأغر الأبيض عمرو بن الجموح. فقال شاعرهم في ذلك:
وقال رسول الله والحق قوله ... لمن قال منا من تعدون سيدا
فقلنا له: جد بن قيس على التي ... نبخله فيها وإن كان أسودا
فتى ما تخطى خطوة لدنيةٍ ... و لا مد في يوم إلى سوءةٍ يدا
فسود عمرو بن الجموح لجوده ... و حق لعمرو بالندى أنَّ يسودا
إذا جاءه السؤال أنهب ماله ... و قال خذوه إنه عائدٌ غدا

فلو كنت باجد بن قيس على التي ... على مثلها عمر لكنت المسودا!

إياك أعني واسمعي يا جارة!
هذا مثل مشهور الاستعمال عند التعريض بإضهارك شيئاً وأنت تريد شيئاً وهو لنهشل بن مالك الفزاري في شعر له. وسببه أنه خرج يريد النعمان بن المنذر فمر ببعض أحياء طيء فسأل من سيد الحي فدل على حارثة بن لأم الطائي فقصد رحله فلم يصبه حاضراً. فقالت له أخت حارثة: انزل على الرحب والسعة حتى يلحق حارثة. فأنزلته وأكرمت مثواه. ثم إنّه رأها وقد خرجت من خباء إلى خباء. فرأى جمالها باهرا، وحسنا فاتنا. وكانت عقيلة قومها وسيدة نساء حيها. فوقعت من قلبه كل موقع وجعل يقول:
يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزارة؟
أصبح بهوى حرة معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جارة!
فعرفت أنه يريدها فقالت: ما هذا بقول ذي عقل أريب ولا مصيبي ولا أنف نجيب. أقم ما أقمت مكرما وارتحل إذا ارتحلت مسلما! فاستحى وقال: واسوأتاه! فقالت: صدقت! وارتحل وأتى النعمان، فاكرمه وحياه فلما رجع نزل على أخيها حارثة وتبعت نفسه الجارية وكان جميلا محبوبا. فأرسلت إليه الجارية: إن كانت لك حاجة فاخطبني إلى أخي فإني سريعة إلى ذلك. فخطبها وتزوجها فسار بها إلى أهله.
ومما ينسج على هذا النمط ويسلك في هذا السفط قولهم: أخذ فلان رمح أبي سعد إذا اتكأ على العصا هرما. وأبو سعد قيل هو لقمان الحكيم وقيل هو كنية الكبر والهرم. وقيل مرثد بن سعيد أحد وفد عاد،و قد تقدم. وقولهم: أخذ بلغب رقبته بفتحتين إذا أدركه. وقولهم: أخذ بحذافيره أي بأجمعه. ويقال بحذاميره، وبأجمعه وجراميزه وجذاميره وبربانه، بفتح الراء وضمها، وبصنابته وسنابته وبجلمته وجلمته وبزغبره ز بزوبره وأنشدوا:
وإن قال غاو من تنوخ قصيدة ... بها حرب عدت عليَّ بزوبرا
و بزابره وبصبرته وأصباره وبوأبجه وزأمجه وبأصيلته وبطليقته، وبأزمله. فهذه كلها معناها واحد. ويقال معنى: بربانه وبحداثته: بأوله وابتدائه. وقال:
وإنما العيش بربانه ... و أنت من أفنانه مفتقر
وقولهم: إذا وجدت الظباء الماء فلا عباب، وإن لم تجده فلا أباب، أي إن وجدته لم تعب فيه وإن لم تجده لم تؤب إليه أي لم تتهيأ لطلبه.
وقولهم: إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وأيا الشواب! وقولهم: أكل فلان روقه إذا أسن. والمعنى أنه أكل شبابه وأفناه. يقال: فعله في روق شبابه وريقه، أي أوله. وكأنه ماخوذ من روق البيت ورواقه وهي الشقة في المقدمة. وقولهم: أنك بمحش صدق فلا تبرحه! أي أنك بموضع الخير فالتزمه! والمحش، بالحاء المهملة والشين المعجمة على مثال مرد: الموضع الكثير الحشيش وقولهم: إنه أحد الأحدين، وواحد الأحدين، وإحدى الأحد، أي لا مثل له، وهو ابلغ المدح. قولهم:
إنه ابن إحداها
أي كريم الأباء والأمهات. وقولهم:
إن كذبت فحلبت قاعدا
ً
أي ذهبت إبلك، فحلبت الغنم. وقولهم:
إن كذبت فشربت عبوقاً بارداً
أي ذهبت الماشية فشربت الماء. وقولهم:
إنَّ فلاناً لتدب عقاربه
أي يتعرض أعراض الناس. وقولهم:
إنّه لفي حور بور
وبضم الحاء المهملة والباء الموحدة، أي في ضلال أو في غير صنعة قولهم:
إنّه لوابصة سمع
أي يثق بكل ما يسمع. وقولهم: إنّما فلان هامة اليوم أو غدٍ، إذا كان مسنا، أي يموت في يومه أو غده. والهامة: طائر يخرج من رأس الميت. يزعمون إنّه إذا قتل القتيل خرج من رأسه طائر، فلا يزال يصيح: اسقوني! حتى يقتل قاتله، كما قيل:
يا عمرو، إلاّ تدع شيمتي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة: اسقوني!
و قال دريد بن الصمة فيما نحن فيه:
وهون وجدي إنّما هو فارط ... إمامي وإني هامة اليوم أو غد
و قال كثير:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
وكأنه اعتبر هنا المعنى المقصود فقط دون السن. وتمثل بهذين البيتين يزيد حين ماتت جارية حُبابة في القصة المشهورة.

ومن الأمثال العامية في هذا الباب قولهم: " إذا أراد الله إهلاك النملة جعل لها أجنحة تطير بها " ، يضرب للمتسبب سببا يعطب به، لأن الطير يصيدها إذا طارت. وإلى هذا المثل أشار أبو العتاهية بقوله:
وإذا استوت للنمل أجنحةٌ حتى يطير فقد دنا عطبه
وكان الرشيد كثير ما يتمثل به عند نكبة البرامكة. وقولهم:

إذا امتلأت القربة ترشحت.
يضرب للرجل تكثر ذات يده، فلا بد أنَّ ينال شيء مما عنده. وقول أبي محمّد: أنا عربيد، وأنت رعديد، وبيننا بونٌ بعيد. والعربدة: سوء الخلق؛ والعربيد والمعربد: الموذي نديمة عند السكر. والرعديد، الجبان الفزاع. والبون: الفضل والمقدار. وقولهم: إنَّ لم تجدوا ناراً فاقلوا قلية! يضرب لمن استحمق فطلب أمراً حيت المظنة عدمه. وقولهم: الآن يمد أبو حنيفة رجله! زعموا إنَّ الأمام أبا حنيفة، رحمه الله، كان به ذات مرة ألم في رجله، فكان يمدها في المجلس بين يدي أصحابه. ثم إنّه يوماً حضر مجلسه رجل ذو هيئة كث اللحية لا يعرفه، فتوهمه فقيها وقبض رجله استحياء وصبر على ذلك مدة، والرجل لا يتكلم بشيء فبان له منه خلاف الظن، فمد رجله وقال ذلك.
هذا ما تيسر إيراده في هذا الباب من منثور الأمثال، بحمد ذي المن والافضال. وقد كنت أردت إنَّ أقتبس الأمثال المضروبة في الشعر وأجلبها، وأودع كل باب من هذا الكتاب جملة وافرة منها، مشروحة مع التنبيه على شجرتها، واصل ثمرتها. ثم بدا لي أنَّ ذلك بحر لا يدرك غوره، ومنزع لا ينال طوره. فرأيت أنَّ اقتصر على إيراد الأمثال النثرية، وإردافها بالأمثال الشعرية، متضمنة لمّا ضرب فيها إلاّ أنَّ يكون شيء قد انتزع قبل فأذكره. ورأيت أنَّ انبه في هذا الباب خصوصا على بعض ذلك ليقيس عليه من احب استعماله مستغنياً بذلك عن إعادة مثله في كل باب، فأقول:
أبى منبت العيد اَنِ أنْ يتغير.
أخذناه من قول جميل بن عبد الله بن معمر العذاري:
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيرا
أرى كل عودٍ نابتا في أرومةٍ ... أبى منبت العيدان أنَّ يتغيرا
وقبل هذين البيتين يخاطب الحجاج:
أبوك حبابٌ سارق الضيف رحله ... و جدي يا حجاج فارس شمرا
و شمر: اسم فرس أنثى،و آباء الصدق: آباء الخير ز الصلاح والكرم. ومعنى سير أكثر السير. والمعنى أنَّ من كان كريم الأصل، رفيع الحسب، جرى على ذلك حيثما ذهب،و كيفما انقلب. والأرومة، بفتح الهمز، وتضم، الأصل. قال زهير:
صبحنا الخزرجية مرهفات ... أبار ذوي أرومتها ذووها
و الجمع أروم. قال أيضاً:
له في الذاهبين أروم صدقٍ ... و كان لكل ذي حسب أروم
وقوله: أبى منبت العيدان اَنِ الخ: يريد الناس أصول مختلفة، وأعراق متباينة، كما في حديث: الناس معادن، وكل أحد باق على أصله: فمن كان من أصل كرم لم يتحول منه، ومن كان من أصل لؤم لم ينحرف عنه وجعل الناس أعواداً وأعرقها منابت على طريق التمثيل.
إنَّ المحب لمن يهواه زوار.
طلع رجل من حجيج المغرب إلى عرفة، فلقي شيخا كبيراً، فقال له الشيخ: من أين أنت؟ قال: من المغرب. قال: كم بينكم وبين هذا البيت؟ قال: نحو ستّة أشهر فقال الشيخ: اتحجون كل عام؟ قال: ل. فقال: الشيخ لو كنا منكم لم يفتنا الحج أبداً. فقال له الرجل: وممن أنت؟ قال: من كذا بلد، بعيد بمسيرة عام أو نحوه وانشد:
زر من تحب وإنَّ شطت بك الدار ... و حال من دونه سهل وأوعار
لا يمنعنك بعد عن زيارته ... إنَّ المحب لمن يهواه زوار
والهوى: العشق في الخير والشر. يقال: هويته بالكسر يهواه هوى، مقصور.
والزوار: الكثير الزيارة. وكان بشر بن مروان شديد على العصاة، وكان إذا ظفر بالعاصي أقامه على كرسي وسمر كفيه بالمسامير على الحائط، ثم نزع الكرسي من تحته، فيبقى معلقا يضطرب حتى يموت. وكان فتى من بني عجل مع المهلب بن صفرة في حروب الازارقة، وكان عاشقا لابنة عم له. فكتب إليه تستزيره فكتب إليها:
لو لا مخافة بشر أو عقوبته ... و أنَّ يشد على كفي مسمار
إذا لعطت ثغري ثم زرتكم ... إنَّ المحب إذا ما اشتاق زوار
فكتبت إليه:
ليس المحب الذي يخشى العقاب ولو ... كانت عقوبته في إلفه النار

بل المحب الذي لا شيء ينفعه ... أو يستقر ومن يهوى به الدار
فلما كتبها عطل ثغره وجاءها وهو يقول:
أستغفر الله إذ أخشى الأمير ولم ... اخش الذي أنا منه غير منتصر
فشأن بشر بلحمي فليعذبه ... أو يعف عفو أمير خير مقتدر
فما أبالي إذا أمسيت راضية ... يا هند ما نيل من شعري ومن بشري!
فلم يلبث إنَّ وشي به إلى بشر فأتي به فقال: يا فاسق، عطلت ثغرك، هلم بالكرسي! فقال: عز الله الأمير! إنَّ لي عذراً فقال: وما عذرك؟ فأنشده الأبيات، فرق له وكتب إلى المهلب أنَّ يثبته في أصحابه.
إنَّ الحر حر
أخذناه من قول الشاعر:
عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال غششتني والنصح مر
ومالي أنَّ أكون أعيب يحيى ... و يحيى طاهر الأثواب بر
ولكن قد أتانا أنَّ يحيى ... يقال عليه في نقعاء شر
فقلت له: تجنب كل شيء ... يعاب عليك إنَّ الحر حر
والشاعر هو مخيس بن أرطأة الأعرج يخاطب رجلا من بني حنيفة يسمى يحيى كان يأتي امرأة في قرية من قرى اليمامة، وهي التي سماها في الشعر. وقوله إنَّ الحر حر، أي إنَّ الحر باق على ما عهد في الأحرار من الهمم العلية، والأخلاق الزكية، ومجانبة الريب، والحذر من سوء المنقلب.
ومثله قول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي شعري هو ذلك المعروف بجزالته وفصاحته وسلاسته.
وكذلك قولهم: الناس أي هم على ما عهد فيهم.
ومثل ذلك قول العامة: الحر لا يكون إلاّ حراً، والرجل لا يكون إلاّ رجلاً والعبد لا يكون إلاّ عبداً. ونحو هذا يضربونه عند تقصير الإنسان عن بعض ما يحق له أو تعاطيه مالا ينبغي له.
وقوله تجنب كل شيء يعاب عليك، هذا من حفظ المروءة. قيل الأحنف بن قيس: بم بلغت ما بلغت؟ فقال: لو عاب الناس الماء ما شربته. وقيل لعبد المالك بن مروان، وقد بالغ في الثناء على المصعب بن الزبير رضي الله عنه يوم قتله: أ كان المصعب يشرب الطلا؟ فقال: لو عيب ما شربه. ووصف عمرو بن العاصي بعض الأشراف فقال: إنّه أخذ بثلاث، تاركٌ لثلاث: آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، ويحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الأمرين عليه إذا خولف؛ تاركٌ للمراء، تاركٌ لمقاربة اللئيم، تاركٌ لمّا يعتذر منه. وقال أعرابي يوصي صديقاً له: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإنَّ كان عندك اعتذاره: فليس من حكى عندك نكراً، توسعه فيك عذراً. وهذا كما قال الأول:
قد قيل ما قيل إنَّ صدقاً أو كذباً، ... فما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا؟
إنَّ الحسان مظنة للحاسد.
أخذناه من قول الحماسي:
بيضاء آنسة الحديث كأنها ... قمر توسط جنح ليل مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد ... إنَّ الحسان مظنة للحاسد
الحسان جمع حسناء. يقال: جارية حسناء وحسنة وحسانة على مثال رمانة، فهم حسان وحسانات، ورجل حاسن وحسن. وحسين وحسان بضم الحاء مع تشديد السين وتخفيفها، فهم حسان وحسانون. ومظنة الشيء بكسر الظاء: موضع يضن فيه وجوده. والحسد جنع حاسد وحاسدة. والمعنى أنَّ الحسناء مظنة لأن تحسد على حسنها. وكذا كل من له فضيلة ما مزية ما فهو مظنة لأن يحسد كما يقال: كل ذي نعمة محسود. ومن يمتدح بكثرة الحساد ويذم بقلتهم لأن وجود الحساد كناية عن وجود الفضل والنعمة كما قيل:
حسدوا مروءتنا فضلل سعيهم ... و لكل بيت مروءة أعداءُ
و قال آخر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... و مات أكثرنا غيظا بما يجدُ
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منها ولا أردُ
و قال أبو الأسود أو غيره:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداءٌ له وخصومُ
كضرائب الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً إنّه لدميمُ
و قال عمار بن عقيل بن بلال بن جرير:
ما ضرني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو النقصان
و قال بشار:
لا عشت خلوا من الحساد إنهم ... أعز فقداً من الائي أحبوني
أبقى لي الله حسادي برغمهم ... حتى يموتوا بداء غير مكنون
و قال محمود:
أعطيت كل الناس مني الرضى ... إلاّ الحسود فانه أعياني

لا أنَّ لي ذنباً لديه علمته ... إلاّ تظاهر نعمة الرحمنِ
و قال أبن أبي الطاهر:
ولم يزل ذو النقص من نقصه ... يحسد ذا الفضل على فضله
و قال الآخر: ونعمة الله مقرونٌ بها الحسدُ وقال الآخر: ولن ترى للئام الناس حساداً
إنَّ التخلق يأتي دونه الخلُقُ.
أخذناه من قول الحماسي:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إنَّ التخلق يأتي دونه الخلق
و الخلق بضم الخاء واللام وتسكن: السجية والطبع؛ وتخلق الرجل بغير خلقه: تكلف ذلك. والمعنى إنَّ السجايا لا تزول، والخلائق القديمة لا تحول كما قيل:
يرام من القلب نسيانكم ... و تأبى الطباع على الناقل
و من كلام العامة: تنتقل الجبال ولا تنتقل الطباع: فمتى تخلق الإنسان بغير خلقه وتكلف ما ليس في طوقه لقى العناء الشديد أو افتضح غير بعيد كما قال حسان: إنَّ لا خلائق فاعلم شرها البدع وسيأتي إتمام المعنى في قولهم: الطبع أملك في حرف الطاء إن شاء الله تعالى.
إنَّ السم مشروب.
أخذناه من قول الحماسي عبد الله بن عنمة الضبي:
ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم ... كما تراه بنو زيد ومرهوبُ
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرعُ محقبة والسيفُ مقروبُ
وإن أبيتم فإنا معشرٌ أنفٌ ... لا نطعم الخسف إنَّ السم مشروبُ
فازجر حمارك لا يرتع بروضتنا ... إذا يرد وقيد العير مكروبُ
السيد بالكسر: قبيلة من ضبة؛ وزيد ومرهوب: حيان من ذهل بن شيبان. يقول: إنكم لا تعظمون في نفوسنا كما يعظم بعضكم في نفوس بعض؛ فإنَ طلبتم الحق أعطيناه وكان السلم بيننا حتى تكون الدرع محقبة أي مجعولة في الحقائب وهو مؤخر الرحال وتكون السيوف مقروبة أي مجعولة في قربها لعدم الحاجة إلى استلالها. وقوله: أنف جمع أنوف. والخسف: الظلم والذل. والمعنى: إننا نمتنع أن تلمسنا يد الظالم ونعاف أن نطعم الهوان والضيم ويهون علينا في نيل العزة والارتفاع تجشم غمرات الدفاع واصطلاء جحيم القراع حتى نشرب سموم الموت المنقعة بأطراف الأسنة المشرعة. وضرب الطعم لنيل الهوان، وشرب السم للموت والألم مثلا.
إنَّ الكريم إذا خادعته انخدع.
هذا في شعر لم أثبته الآن. وقد تمثل بهذا المثل الرشيد وذلك إنّه سخط على حميد الطوسي فدعا له بالنطع والسيف لتضرب عنقه. فلما أخذ من بين يديه لتضرب عنقه بكى فقال له الرشيد: ما يبكيك؟ أجزعاً من الموت؟ قال: لا ولكن بكيت أن أخرج من الدنيا وأمير المؤمنين عليَّ ساخط. فضحك الرشيد وأنشد: إنَّ الكريم إذا خادعته انخدع ثم وهبه للحسن بن قحطبة.
إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ.
أخذناه من قول الحماسي:
إنّما مت غير أني حيّ ... يوم بانت بودها الحسناءُ
من بني عامرٍ لها شطر قلبي ... قسمةٌ مثل ما يشقُ الرداءُ
أشربت لون صفرة في بياضٍ ... و هي في ذاك لدنةٌ غيداءُ
كل عينٍ متى تراها من ... الناس أليها مديمة حولاءُ
ليت شعري وأين مني ليت ... إنَّ ليتا وإنَّ لوا عناءُ
و أراد بالليت الضمني وجعله اسمه كقوله: ليت وهل ينفع شيئا ليت؟ ولو هنا هي التي تكون للتمني نحو: لو تأتينا فتحدثنا. وجعله اسما كقوله:
ألامُ على لو ولو كنت عالما ... بأذناب لو لم تفتني أوائله
و العناء: المشقة والتعب. يريد أنَّ ما ذكر بعيد المطلب فتمنيه مشقة وتعب. وللبيتين الأولين قصة ظريفة وهي إنّه فيما يزعمون لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاضٍ يميل إلى سماع الشعر فطرب لذلك طربا شديدا وقام من مجلسه وأخذ نعاله وعلقهما في أذنيه وجعل يقول: أهدوني فإني هدية! فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فعزله. قال: لم عزلتني؟ امرأته طالق لو سمعها لقال: أركبوني فإني مطية! فلما بلغ خبره عمر أمر أن يؤتى به مع الجارية. فلما جلسا بين يديه قال له: مرها أن تغني بذلك الغناء! فلما غنت اضطرب عمر لذلك اضطرابا شديدا ودخلته الأريحية واستعاد الصوت منها مرارا وبكى وقال للقاضي: قد قاربت يمينك ورده إلى قضائه.

أي الرجال المهذب
ُ؟
أخذناها من قول النابغة يعتذر للنعمان:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمهُ ... على شعثٍ أي الرجال المهذبُ؟

و التهذيب: التصفية والتنقيح؛ والرجل المهذب: المطهر الأخلاق. والاستفهام للنفي أي لا رجل يكون أبدا حسن الفعال طاهر الخلال محمود الخصال إلاّ من عصم كقول الآخر:
من ذا الذي ما ساء قط؟ ... و من له الحسنى فقط؟
و إذ بينا يقال هذا البيان على تيسر من الأمثال النثرية فلنلم بشيء من الأمثال الشعرية أو ما يكون جاريا على منهاجها وماضيا على أدراجها قال الحماسي أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدح عبد الله بن جدعان القريشي التيمي:
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك؟ إنَّ شيمتك الحياءُ
وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ ... لك الحسب المهذب والسناءُ
وأرضك كل مكرمةٍ بنتها ... بنو تيمٍ وأنت لها سماءُ
خليلٌ لا يغيره صباحٌ عن الخلق الكريم ولا مساءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناءُ
تباري الريح مكرمة ومجداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاءُ
و الذي يتمثل به كثيرا منه قوله: أأذكر حاجتي . . البيت، وقوله خليل لا يغيره . . البيت، مع الذي بعده وقد يقرن بينهما. والمضرب واضح. وكثيرا ما ينشد السادات الصوفية: كريم ما يغيره صباح، الخ، يتمثلون بذلك عند التنبيه على أنَّ التعرض لمواهب المولى جلة كلمته، ومزيد منحه الجميلة ومنه الجزيلة بطريق الثناء والشكر والذكر وكثرة التحميد والتبجيل والتعبد والمجاهدة، أبلغ من التعرض لذلك بمجرد الدعاء طلبا لنيل حاجة. وهذا ورد في كلام الشارع صلوات الله وسلامه عليه: أفضل الدعاء الحمد لله! وقال تعالى: )لئن شكرتم لأزيدنكم(. وهذا مقام يبين في محله. وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:
دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... و داوني بالتي كانت هي الداءُ
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجرٌ مسته سراءُ
حتى قال:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تحل بها هندٌ وأسماءُ
فقل لمن يدعي في الحب معرفةً ... عرفت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
و الذي يتمثل به منها كثيرا الشطر الأول والأخير. أما الأول فقد أخذه أبن قلاقس فقال:
فدعي الملامة في التصابي واعلمي ... أنَّ الملامة ربما تغريني
و اكثر الشعراء في هذا النحو وكلهم مقتبسون منه حائمون عليه. فمن ذلك قول أبن شرف:
قل للعذول: لو أطعت على الذي ... عاينته لعناك ما يعنيني
أتصدني أم للغرام تردني ... و تلومني في الحب أم تغريني؟
دعني فلست معاقبا بجنايتي ... إذ ليس دينك لي ولا لك ديني
و قول الآخر:
وما عذولي ناهيا عنكم ... لكنه بالصبر أمارُ
قال: اسلهم إن لم تطق هجرهم ... قلت له: النار ولا العارُ
وقول الآخر:
يقول لي العاذل في لومه ... و قوله زورٌ وبهتانُ
ما وجه من أحببته قبلةٌ ... قلت: ولا قولك قرآنُ
و قول الآخر:
يا عاذلي ليس مثلي من تفنده ... و ليس مثلك مأمونا على عذلي
ما دمت خلواً تنفك متهماً ... أعشق وقولك مقبولٌ عليَّ ولي
وقوله:
من منصفي من عاذل جاهل ... يخون باللوم لمن لا يخونُ
إن قلت: ما نصحك إلاّ أذىً ... قال: وما عشقك إلاّ جنونُ
وقوله:
إنَّ قوما يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا
سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وأعطوا خبيثا
و قول الآخر:
أسرفت في اللوم ولم تقتصر ... و زدت في لومك يا ذا العذول
قد رضيت نفسي بمحبوبها ... و إنّما المولى كثير الفضول
و قول الآخر:
تعرض لي اللاحي وجاء يزورني ... و زجرف لي زور الكلام بمينهِ
وقال : اسل عن هذا وعد عن غرامه ... فقلت له: هذا الفضول بعينهِ
و قول الآخر:
زعموا أنني هويت سواكم ... كذبوا ما عرفت إلاّ هواكم
قد علمتم بصدق مرسل دمعي ... فسلوه إن كان قلبي سواكم
قال لي عاذلي: متى تبصر الرشد ... و تسلو؟ فقالت: يوم عماكم
و قول ابن سناء الملك:
أيا عاذلي فيه لمّا رآه ... لئن كنت أعمى فإني أصم
وهبك أبا ذر هذا الملام ... فأني أبو جهل ذاك الصمم
و قوله أيضاً :

وصفتك واللاحي يعاند بالعذل ... فكنت أبا ذر وكان أبا جهلِ
له شاهدا زور من النهي والنهى ... عليك ومن عينيك لي شاهدا عدلِ
و قول آخر:
وبي عاذلٌ يغري إلى الجهل لم يخل ... بأني في دعوى الغرام أبو ذرِّ
و المراد بهذا الصدق في الهوى. ومن هذا النمط قول آخر:
وشادنٍ مبتسمٍ عن حبب ... مورد الخد مليح الشنب
يلومني العاذل في حبه ... و ما درى شعبان أني رجب
و ذلك لأن شعبان عند العرب يسمى العاذل ورجب يسمى الأصم. ومما نحن فيه قول الآخر:
إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصخت إلى الواشي فلج بها الهجرُ
أشار بالشطر الأول إلى أن العذل يغريه. وقول البوصيري:
محضتني النصح لكن ليس أسمعه ... إنَّ المحب عن العذال في صممِ
و يقرب منه قول عفيف الدين التلمساني:
ولي على عاذلي حقوق هوى ... عليه شكري ببعضما يجبُ
لام فلما رآه هام به ... فكنت في عشقه أنا السببُ
و قول الآخر:
أبصره عاذلي عليه ... و لم يكن قبلها رآهُ
فقال لي: لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواهُ
قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواهُ
فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاهُ
ومن ذلك قول حفص العليمي:
أقول لحلمي لا تزعني عن الصبا ... و للشيب لا تذعر عليَّ الغوانيا
طلبت الهوى العذري حتى وجدته ... و صيرت في نجدٍ به ما كفانيا
وقول الخزاعي:
هددت بالسلطان فيك وإنّما ... أخشى صدودك لا من السلطانِ
و قول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذةٌ ... حبا لذكرك فليلمني اللومُ
و أما بيته الأخير فينشده المتمثلون اليوم:
قل للذي يدعي علما ومعرفة ... عرفت شيئا وغابت عنك اشياءُ
عجيبة: حكي أنَّ المفضل الضبي قال له الرشيد - دلني على بيت أوّله أكثم أبن صيفي في أصالة الرأي وجودة الوعظة وآخرها بقراط في معرفة الدواء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد هولت علي. فقال: هذا قول أبي نواس: دع عنك لومي. وسأل حامدبن العباس عليَّ بن عيسى الوزير فقال له: ما دواء الثمل وقد علق به؟ فأعرض عنه الوزير وقال: ما لنا وهذه المسألة؟ فخجل حامد وإذا بقاضي القضاة أبي عمر قد ورد عليهم فلما قعد سأله حامد عن ذلك فقال القاضي: قال الله تعالى: )و ما آتاكمُ الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية وقد فال في ذلك:
وكاسٍ شربت على اذة ... و أخرى تداويت منه بها
ثم تلاه أبو نواس فقال في ذلك:
دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... و داوني بالتي كانت هي الداءُ
فأشرق وجه حامد حينئذ وقال للوزير: ما ضرك يا بارد لو أجبت ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في الجواب بقول الله تعالى وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الفتيا وأدى المعنى وتبرأ من العهدة؟ فكان خجل الوزير من حامد بهذا الكلام أكثر من حامد منه لمّا ابتدأه بالمسألة.
قلت وهذا الكلام من القاضي كان على مجاراة أهل هذه الصنعة وتبيان ما ثبت في نفس الأمر من بعض منافع الخمر ولم يتعرض للحكم الشرعي من حرمة التداوي بها، لعلمه إن السائل يعرف ذلك، وإلاّ فكان الواجب أن يستدرك عقب كلامه بما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تداوى بالحرام، والله اعلم.
واعلم أن التصامم عن العذال قد تقدم في كلام الشعراء كثيراً قبل أبي نواس، كقول زهير في الجود:
وأبيض فياضٍ يداه غمامة ... على معتفيه ما تغلب نوافله
بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله
يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... و أعيى فما يدرين أين مخاتله
فأقصرن منه عن كريم مرزءٍ ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله
غير إنَّ أبا نواس لم يكتف العذل ضائعاً، حتى جعله ناجعاً، في عكس المطلوب، ونقيض المرغوب. ولم يحضرني الآن أسبق بهذا أم لا. وقال الشاعر:
ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له: ... إياك، إياك أن تبتل بالماء!

و هو مثل مشهور يضرب عند إلزام الشخص ترك ما لا محيص له عنه عند وجود سببه، أو ارتكاب مالا قدرة عليه. ومنه التكاليف الشرعية عندنا معشر الاشاعرة عند النظر إلى التحقيق وباطن الأمر، إلاّ أنا نجوز في حق الملك الحق تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من غير قبح في شيء من ذلك، بل حسن جار على وفق الاختيار، وتصرف من له الاقتدار، ولا سيما بحسب الظاهر. ويقرب من هذا المعنى قول بعض الشعراء في امرأة:
سكت فقالت: قد سكت عن الحق ... ففهت فقالت ما دعاك إلى النطق؟
فأومأت هل من حالة بين ذا وذا؟ ... فقالت: وذا الإيماء أيضاً من الحمق
فلم أرلي إذ حلت الغرب راحةً ... من الشر إلاّ في المسير إلى الشرق
فلما أتيت الشرق ألفيتها به ... و قد قعدت بي منه في أضيق الطرق
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها؟
و قال الآخر:
من غص داوى بشراب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء؟
و مضربه واضح. وفي معناه قول الأول:
لو بغير الماء حلقي قد شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وقول الآخر:
إلى الماء يسعى من يغص بأكله ... فقل: أين يسعى من يغص بالماء؟
و قول الآخر:
فكيف نجيز غصتنا بشيءٍ ... و نحن نغص بالماء الشروب؟
و قول الآخر:
فلو كان هذا الحكم في غير ملككم ... لبؤت به أو غص بالماء شاربه
و قول الآخر:
مصاحبة المنى خطر وجهلُ ... و كم شرقٍ تولد من زلالِ!
و قول أبن حبوس:
مضى الكرماء صانوا ماء وجهي ... بما بذلوه عن ذل السؤال
وها أنا بعدكم في الناس ابغي ... كريماً يشتري شكري بمالِ
أرى الاكدار يشرق شاربوها ... فوا شرقي من الماء الزلال!
و قول الآخر:
إني لأذكركم وقد بلغ الظمأ ... مني فأشرق بالزلال الباردِ
وأقول ليت أحبتي عاينتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد!
و قول الآخر:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... و يدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... و المرء يشرق بالزلال الباردِ
و قول الآخر:
كنت من محنتي أفر إليهم ... فهم محنتي فأين الفرار؟
و قول أبن سناء الملك:
أموت غراما حين احرم وصل من ... هويت وأحيا فرحة حين ارزق
وإنَّ الفتى يحيا بما قد يميته ... فبالماء يحيا وهو بالماء يشرقُ
و قال البحتري:
تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى ... بماء الربى من بات بالماء يشرقُ
وهو مخالف لمّا قبله باعتبار: فإنَ الأول ناظر إلى جنس الماء وإنّه يكون سببا للحياة والموت باعتباري مساغه والشرق به، وتنظير الأحبة بذلك باعتبار وصالهم وفراقهم صحيح. والثاني ناظر إلى من وقع له الشرق بالماء وإنّه لا ينتفع بالماء لمّا مر في الأناشيد وهو صحيح ولكن التنظير خطأ إلاّ أن يريد الأخبار عما وقع له هو من حصول الوحشة ممن يترقب منه الأنس ولم يلاحظ ما قال أبن ذريح:
تداويت من ليلى بليلى من الهوى ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمرِ
أخذه من قول الأعشى السابق:
وكأس شربت على لذةٍ ... و أخرى تداويت منها بها
و هذا كله وفق قول أبن سناء الملك. وقال الآخر:
يا قوم قلبي عند زهراء ... يسمعه السامع والرائي
لا تدعني إلاّ بيا عبدها ... فانه أشرف أسماءِ
يتمثل بالبيت الثاني. وقد تمثل به العلماء في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، واختياره أن يكون عبدا وهو أشرف الأمرين وأجل فإنَ الإضافة إلى الشرف تفيد شرفا. وأي شرف ومجد وعظمة وجلال وراء عظمة مالك الملك الحق تعالى! وأي منزلة أعظم من الانتساب إليه؟ وقال الآخر:
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاءُ
و قبله:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه؟ ... تأمل فيك ما صنع العاءُ!

و تمثل صاحب التشرف بهذا الشعر حين ذكر أنَّ أبا الفضل أبن النحوي دخل فأساً، فلما ظهر أصلب القاضي أبن دبوس منه غيرة وآذاه. فلما أزمع أبو الفضل الخروج قطع تلك الليلة التي يخرج في صبيحتها بسجدة دعا في آخرها وقال: اللهم عليك بابي دبوس! فأصبح القاضي ميتا. وقال الآخر وهو معنى رشيق، وكان عتب على الصمت:
قالت الضفدعة قولاً ... فسرته الحكماءُ
في فمي ماءٌ وهل ينطقُ ... من في فيه ماءُ؟
و قال ذي الرمة:
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... و احفظ ثيلبك ممن يشرب الماءَ
قومٌ يرون عما في صدورهم ... حتى إذا استحكموا كانوا هم الداءَ
يشمرون إلى انصاف سوقهم ... هم اللصوص وقد يدعون قراءَ
و لهذا الشعر قصة وهي أنَّ ذا الرمة اجتمع هو وإسحاق بن سويد العدوي في مجلس. فأتيا بطعام فطعما، وأتيا بنبيذ فشرب ذو الرمة وأبى إسحاق أن يشرب. فقال ذو الرمة: أما النبيذ فلا يذعرك شاربه الأبيات. وقال إسحاق مجيبا له:
أما النبيذ فقد يزري بشاربه ... و لن ترى شاربا أزرى به الماءُ
الماء فيه حياة الناس كلهم ... و في النبيذ إذا عاقرته الداءُ
يقال هذا نبيذي يعاقره ... فيه عن البر والخيرات إبطاءُ
وفيه إن قيل مهلا عن مصممة ... و فيه عند ركوب الإثم إغضاءُ
و مثل قول أبن الرومي قول الآخر وبنسب لابن الرومي في الفقهاء:
أذيابا بدت لنا ... في ثياب ملونة
إحلالاً وجتم ... أكلنا في المدونه
و قوله أيضاً:
إلاّ إنّما الدنيا ميتةٍ ... و طلابها مثل الكلاب الموامسِ
وأعظمهم ذماً لها وأشدهم ... لها شغفاً قومٌ طوال القلانسِ
و مثل قول إسحاق بن سويد في النبيذيين قول الآخر:
بلوت النبيذيين في كل بلدةٍ ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظُ
إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... و إن فقدوها فالوجوه غلاظُ
عكاظية لا قدس الله روحها ... و ما ذكرت في الصالحين عكاظُ
و سيأتي كل من الأمرين مستوفي إن شاء الله تعالى. وقال الآخر:
إذا انقطع الرجا من كل حي ... ففي الله الكفاية والرجاءُ
سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناءُ
و قد جمع بين الممدوح وهو الرجاء وبين مد المقصور وهو الغناء بكسر الأول ضد الفقر.
وقال عدي بن الرقاع:
وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضنا به نظري إلى الفقراءِ
بل ما رأيت جبال أرض تستوي ... فيما عسيت ولا نجوم السماءِ
كالغيم فيه وابلٌ متتابعٌ ... غدقٌ وآخر لا يجود بماءِ
والحر يورث مجده أبناءه ... و يموت آخر وهو في الأحياءِ
و مثل البيت الأول قول الحماسي:
ولمّا أبى إلا جماحا فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا اهلِ
تسلى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولا تسلي
و قال الآخر:
لم ألق بعدهم حياً فأخبرهم ... إلاّ يزيدهم حباً الي همُ
و قال الحماسي عدي بن الرعلاء:
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنّما الميت ميت الأحياءِ
إنّما الميت من يعيش كئياً ... كاسفا باله قليل الرجاءِ
و قال الآخر:
يوما بحزوي ويوماً بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء
و قال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري:
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناءُ
وبعض خرئق الأقوام داءٌ ... كداء البطن ليس له دواءُ
يريد المرء أن يعطي مناه ... و يأبى الله إلاّ ما يشاءُ
وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاءُ
فلا يعطي الحريص غنى لحرصٍ ... و قد ينمى على الجود الثراءُ
غني النفس ما عمرت غني ... و فقر النفس ما عمرت شقاءُ
وليس بنافع ذا البخل مالٌ ... و لا مزر بصاحبه السخاءُ
وبعض الداء ملتمس شفاه ... و داء النوك ليس له شفاءُ
و قال الآخر من شعراء الحماسة:
وأرض عن مطامع قد أراها ... وأتركها وفي بطني انطواءُ
فلا وأبيك ما في العيش خير ... و لا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرء ما استحيى بخير ... و يبقى العود ما بقى اللحاءُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6