كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

وكالشهد بالراح ألفاظُهمْ . . . وأخلاقُهُمْ منهما أعذبُ
وكالمِسْك تُرْبُ مقاماتهمْ . . . وتربُ أصولهمْ أطيبُ
وقال آخر : الكامل :
اذكُرْ مجالسَ من بني أسد . . . بَعُدُوا فحنَّ إليهمُ القَلْبُ
الشرق منزلهُمْ ، ومَنْزِلُنا . . . غَزبُ ، وأين الشرقُ والغربُ ؟
من كل أبيضَ جُلُ زينتِه . . . مسكٌ أحمُّ وصارمُ عَضْبُ
ومُدَجَجٌ يَسْعَى لغارتِه . . . وعقيرة بفنائه تَخبُو
آخر : الوافر :
رأيتُكُمُ بقيّةَ آل حَرْبٍ . . . وهَضْبَتها التي فَوْقَ الهِضَابِ
تبُارون الرياحَ ندًى وجوداً . . . وتمتثلون أفعالَ السحابِ
يُذَكرُني مقامي اليومَ فيكُمْ . . . مقاميَ أمْسِ في ظل الشبابِ
مكاتبات بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد
كتب سعيد بن عبد الملك إلى سعيد بن حميد : أكره - أطال الله بقاءك أن أضعَك ونفسي موضع العُذر والقبول ، فيكون أحدُنا معذراً مقصراً ، والآخر قابِلاً متفضِّلاً ، ولكن أذكر ما في التلاقي من الحديد البرّ ، وفي التخلُف من قلّة الصبر ، وأسألُ الله تعالى أن يوفِّقك وإيانا لما يكونُ منه عقبى الشكر .
فأجابه : وصل كتابُكَ - أكرمك الله تعالى - الحاضرُ سرورُه ، للطيف موقِعُه ، الجميل صدوره ومَوْرِدُه ، الشاهدُ ظاهره على صِدقِ باطنه ، ونحن - أعزك الله - نجعل جزاءك حسن الاعتراف بفضلك ، ومجاراتك التقصير دونك ؛ ونرى أن لا عُذرَ في التخلف عنك ، وإنْ حالت الأشغال بيننا وبينك . وإن كنتَ سامحتَ في العذر قبل الاعتذار ، سَبَقْتَ إلى فضيلة الاغتفار ، فلا زلت على كل خير دليلاً ، وإليه داعياً ، وبه آمراً ؛ ولقد التقيْنا قبل وصولِ كتابك لقاءً أحدث وطراً ، وهاج شَوقاً ، وأرجو أن تتسع لنا الجمعة ما ضاقت به الأيام ؛ فتنال حظاً من محادثتك والأنس بك .مكانة سعيد بن حميد
ولسعيد بن حميد حلاوة في منظومه ومنثوره ، لكنه قليلُ الاختراع ، كثير الإغارة على مَنْ سبقه . وكان يقال : لو رجع كلامُ كل أحد إلى صاحبه لبقي سعيد بن حميد ساكتاً .
وفيه يقول أبو علي البصير : الخفيف :
رَأسُ من يَدَّعي البلاغةَ منِّي . . . ومن الناس ، كلُّهُمْ في حِرِ أمِّهْ
وأخونا ولست أكنى سعيد ب . . . ن حميد تُؤَرخ الكُتْب باسمهْ
هذا المعنى ينظرُ إلى قول منصور الفقيه وإن لم يكن منه : الطويل :
تَضِيق به الدنيا فينهضُ هارباً . . . إذا نحن قلْنا : خيرُنا الباذلُ السَّمْحُ
فإن قيل : من هذا الشقيُّ ؟ أقُلْ لهمْ . . . على شَرْطِ كتمان الحديث : هو الفَتْحُ
وكان سعيدٌ يَهْوَى فضل الشاعرة ؛ فعزم مرة على سفر ، فقالت له : البسيط :
كذَبْتَنِي الوُدَّ أن صافَحْتَ مرتحلاً . . . كف الفراقِ بكفِّ الصبرِ والجلَدِ
لا تذكرنَ الهوى والشوقَ لو فُجِعَتْ . . . بالشوق نفسُك لم تصبر على البُعُدِ
وكان سعيد عند بعض إخوانه ، فنهض منصرفاً وأَخذ بعضادَتَي الباب ، وأنشأ يقول : الطويل :
سلامٌ عليكُم ، حالَتِ الكأسُ بيننا . . . وولَّتْ بنا عن كل مرأًى ومَسْمَعِ
فلم يبقَ إلا أَنْ يصافِحَني الكَرَى . . . فيجمع سكراً بين جسْمي ومَضْجعي
وقال سعيد : الطويل :
أرَى ألسُنَ الشكوى إليك كليلةً . . . وفيهن عن غير الثناء فتورُتقيمُ على العَتْبِ الذي ليس نافعاً . . . وليس لها إلا إليك مَصِيرُ
وما أنتَ إلا كالزمان تلوَّنَتْ . . . نوائبُ من أحداثه وأمورُ
فإن قلَّ إنْصَافُ الزمانِ وجُودُه . . . فمن ذا على جَوْرِ الزمان يُجيرُ ؟
نبذ في السرقات الشعرية
أما قوله :
تقيمُ على العَتْبِ الذي ليس نافعاً
فمن قول المؤمّل : البسيط :
لا تغضبنَّ على قومٍ تحبّهمُ . . . فليس منك عليهمْ ينفعُ الغَضَبُ
يا جائرينَ علينا في حُكُومَتهمْ . . . والجَوْرُ أقبحُ ما يُؤْتَى ويُرْتكَبُ
لسنا إلى غيركُمْ منكُم نفرُّ إذا . . . جُرتُمْ ، ولكنْ إليكُمْ منكُمُ الهَرَبُ
وأول من نبّه على هذا المعنى النابغةُ الذبيانيُّ في قوله للنعمان بن المنذر : الطويل :
فإنكَ كالليلِ الذي هو مُدْرِكي . . . وإن خِلْتُ أنَّ المنتَأَى عنك واسِعُ
خَطَاطيفُ حُجْنٌ في حبالٍ متينةٍ . . . تَمُدُّ بها أيدٍ إليكَ نَوازعُ
سرقَه أشجع السُّلمي فقال لإدريس بن عبد الله بن الحسين بن علي ، وقد بعث إليه الرشيد مَن اغْتَاله في المغرب : الكامل :
أتظنُّ ، يا إدريسُ ، أنك مُفْلِتٌ . . . كَيْدَ الخلافة أو يقيك حِذَارُ ؟
إنَّ السيوفَ إذا انتضاها عَزْمُه . . . طالتْ ، وتقصر دونها الأعمارُ
هيهات إلا أن تَحُلَّ ببلدةٍ . . . لا يهتدي فيها إليك نَهَارُ
وقال سَلْم الخاسر يعتذر إلى المهدي البسيط :
إني أعز بخيرِ الناس كلهمُ . . . وأنت ذاك لما يأتي ويجتنبُ
وأنتَ كالدهرِ مبثوثاً حبائِلُهُ . . . والدهرُ لا مَلْجَأٌ منه ولا هرَبُ
ولو ملكتُ عِنانَ الريحِ أصرفهُ . . . في كل ناحيةٍ ما فاتكَ الطَّلَبُ
فليس إلا انتظاري منك عارِفةً . . . فيها من الخوفِ مَنْجَاةٌ ومُنْقَلبُوقول سلم :
ولو ملكت عِنَان الريح أصرفه
كأنه من قول الفرزدق للحجاج : الطويل :
ولو حملَتْنِي الريحُ ثم طلَبَتْنِي . . . لكنتُ كمودٍ أدركَتْهُ مقادِرُهْ
وقول علي بن جبلة لحُميد الطوسي : الطويل :
وما لامرئ حاوَلْتَه منك مهرَبٌ . . . ولو رَفَعَتْهُ في السماء المَطَالِعُ
أخذه البحتري فقال : الكامل :
سُلِبُوا وأشرقتِ الدماءُ عليهمُ . . . مُحْمَرّةً فكأنهمْ لم يُسْلَبوا
فَلَوَ أنّهم ركبوا الكواكبَ لم يكن . . . ليجيرَهُمْ من حَدِّ بَأْسِك مَهْرَبُ
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في نحو قول النابغة : الطويل :
وإني وإن حدّثْتُ نفسي بأنني . . . أفوتك إنّ الرأْيَ مني لعازبُ
لأَنك لي مثلُ المكان المحيط بي . . . من الأرض لولا استنهضتْني المذاهبُ
وأمّا قول سعيد :
وما أنت إلاّ كالزمان
والبيت الذي يليه ، فكأنه ألمّ فيه بقول شَمعَل الثعلبي وإن لم يكن المعنى بنفسه : الطويل :
أَمِنْ جَذْبَةٍ بالرجْل منّي تباشرتْ . . . عُدَاتي ، ولا عَتْبٌ عليَّ ولا هَجْرُ
فإن أميرَ المؤمنين وفِعْلهُ . . . لكالدهر ، لا عارٌ بما صنَعَ الدهْرُوقال رجل من طيئ وكان رجل منهم يقال له زيد من ولد عروة بن زيد الخيل قتلَ رجلاً اسمه زيد فأقاد منه السلطان ، فقال الطائي يفتخر على الأسديين : الطويل :
علا زَيْدُنا يوم الحمى رَأْسَ زيدكُم . . . بأَبْيَضَ مشحوذ الغِرار يَمَاني
فإن تقتلوا زيداً بزيد فإنما . . . أقادكم السلطان بَعْدَ زَمَانِ
وقول الثعلبي مأخوذ من قول النابغة ، وهو أَول من ابتكره : البسيط :
وعَيَّرَتني بنو ذبيانَ خشيتَهُ . . . وما عليَّ بأن أَخشاك مِنْ عارِ
ومن جيد شعر سعيد بن حميد : الطويل :
أهابُ وأستَحْيِي وارقُب وَعدَهُ . . . فلا هو يَبدَاني ولا أنا أَسأَلُ
هو الشمسُ مَجرَاها بعيدٌ وضوءُها . . . قريبٌ ، وقلبي بالبعيد موكَّلُ
وهذا المعنى وإن كان كثيراً مشهوراً فما يكادُ يدانَى في الإحسان فيه . وقد قال أبو عيينة : الطويل :
غزَتْنِي جيوشُ الحبِّ من كلِّ جانب . . . إذا حان من جُنْدٍ قفولٌ غَزَا جُنْدُ
أقول لأصحابي : هِيَ الشمسُ ، ضوءُها . . . قريبٌ ، ولكنْ في تناولها بُعدُ
وقال العباس بن الأحنف : المتقارب :
هي الشمسُ مسْكَنُها في السماء . . . فعَزَّ الفؤَاد عَزَاءً جَمِيلاَ
فلَن تستطيع إليها الصعودَ . . . ولنْ تستطيعَ إليكَ النزُولا
وقال البحتري : الوافر :
دَنَوْتَ تواضُعاً وعَلَوتَ قَدراً . . . فشَأناكَ انحدارٌ وارتفاعُ
كذاك الشمسُ تَبعُد أن تدانى . . . ويَدْنُو الضوءُ منها والشعاع
وقال ابن الرومي : الكامل :
وذَخَزتُه للدهر أعْلمُ أنه . . . كالدهر فيه لمن يؤول مَآلُورأيتُه كالشمس إن هي لم تُنَلْ . . . فالنُّور منها والضياءُ يُنالُ
وقال المتنبي : البسيط :
بيضاءُ تُطْمِعُ فيما تحت حُلّتِها . . . وعَزََّ ذلك مطلوباً لمن طلبَا
كأنها الشمسُ يُعْيِي كَفَّ قَابِضِها . . . شُعاعها وتَرَاه العينُ مقتربا
وقال سعيد بن حميد ، ويروى لفَضْل الشاعرة : المنسرح :
ما كنتُ أيام كنتِ راضيةً . . . عنّي بذاك الرضا بمغتَبِطِ
علماً بأنّ الرضا سيَتْبَعُهُ . . . منك التجني وكثرةُ السَّخَطِ
فكل ما ساءني فعَنْ خُلُقٍ . . . منك وما سرَّني فعَنْ غَلطِ
وفي هذا المعنى يقول أبو العباس الهاشمي من ولد عبد الصمد بن علي ، ويُعْرَف بأبي الْعِبَرِ : البسيط :
أبْكِي إذا غَضِبَتْ ، حتى إذا رَضِيَتْ . . . بكيتُ عند الرضا خوفاً من الغضبِ
فالموت إن غَضِبَتْ ، والموتُ إن رَضِيَتْ . . . إن لم يُرِحْنِي سلوٌّ عشْتُ في تَعَبِ
وقال العباس بن الأحنف : الطويل :
إذا رَضِيَتْ لم يَهْنِنِي ذلِكَ الرّضا . . . لصحة عِلْمي أن سيتبعه عَتْبُ
وأبكي إذا ما أذْنَبَتْ خوف عَتْبِها . . . فأسألها مرضاتها ولها الذَّنْبُ
وصالُكُمْ هَجْرٌ ، وقُرْبُكُمُ قِلًى . . . وعطفكُمُ صدٌّ وسَلْمُكُمُ حَرْبُ
وأنتمْ بحمد الله فيكُمْ فظاظةٌ . . . وكلّ ذَلُولٍ من أموركمْ صَعْبُ
وقال : المنسرح :
قد كنتُ أبكي وأنتِ راضيةٌ . . . حِذَارَ هذا الصدودِ والغَضَبِ
إن تمّ ذا الهجرُ يا ظَلومُ ولا . . . تمّ فما لي في العيش من أرَبِ
وما أحسن قول القائل : الوافر :
وما في الأرض أشقى من محبّ . . . وإن وجد الهوى حُلوَ المذاقِ
تراهُ باكياً في كلِّ حينٍ . . . مخافةَ فُرْقَةٍ أو لاِشتياق
فيبكي إن نَأَوْا حذراً عليهم . . . ويَبكي إن دَنَوْا خوفَ الفِرَاقوتَسْخَنُ عينه عند التنائي . . . وتَسْخَن عينه عند التلاقِ
من كتاب الله تعالى
وقال سعيد بن حميد : إذا نزعْتُ في كتابي بآية من كتاب الله تعالى أنرت إظلامه ، وزَيَّنتُ أحكامه ، وأعذبتُ كلامَه .
أمثال للعرب والعجم والعامة وما يماثلها من كتاب الله تعالى :
ممّا هو أجلّ منها وأعلى ، أخرجها أبو منصور عبد الملك الثعالبي .
قال عليّ رضي الله تعالى عنه : القتْل أنفى للقتل ، وفي القرآن : ' وَلكمُ في القصَاصِ حَيَاة يا أُولي الألْبَابِ ' .
والعربُ تقول لمن يعيّر غيره بما هو فيه : ' عَيَّرَ بُجَيْر بُجَرَهُ ونَسي بُجَيْرٌ خَبَرَه ' ، وفي القرآن ' وَضَرَبَ لنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ' .
وفي معاودة العقوبة عند معاوَدَة الذنب : إن عَادت العَقْرَبُ عُدْنا لها ، وفي القرآن : ' وإنْ عُدْتُم عُدْنا ' . ' وإنْ تَعُودُوا نَعُدْ ' .
وفي ذَوْق الجاني وبالَ أمره : ' يَدَاك أوْكَتَا ، وَفوكَ نَفخ ' . وفي القران : ' ذلك بما قدَّمَتْ يَدَاكَ ' .
وفي قُرْبِ الغد من اليوم قول الشاعر : الوافر :
وإن غداً لِنَاظرِه قَرِيبوفي القران : ' ألَيسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ' .
وفي ظهور الأمر : قد وضح الأمر لذي عَيْنَين ، وفي القرآن : ' الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ' . وفي الإساءة إلى من لا يقبل الإحسان : ' أَعطِ أخاك تَمْرَةً ، فإنْ أبَى فَجَمْرَةً ' .
وفي القرآن : ' ومَنْ يَعْشُ عنْ ذِكرِ الرَّحمنِ نُقَيّضْ لهُ شيطاناً فَهُوَ لهُ قَرِينٌ ' .
وفي فَوْت الأمر : ' سَبَقَ السَّيْفُ العَذَل ' ، وفي القرآن العظيم : ' قُضِيَ الأَمْرُ الذي فيه تَسْتَفْتِيَانِ ' .
وفي الوصول إلى المراد ببَذْلِ الرغائب : ' مَنْ يَنْكَحِ الحَسناءَ يُعْطِ مَهْرَها ' ، وفي القرآن : ' لَنْ تنَالُوا البِرَّ حتى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحبُّونَ ' .
وفي منع الرجل مُرَاده : الطويل : وَقَدْ حِيلَ بين العَيْرِ والنَّزوَانِ وفي القرآن : ' وَحِيلَ بَيْنَهُم وبَيْنَ ما يَشْتَهونَ ' .
وفي تَلاَفي الإساءة : ' عادَ غَيْثٌ على ما أَفْسَدَ ' ، وفي القرآن : ' ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَى عَفَوْا ' .
وفي الاختصاص : ' كل مقام بمقال ' ، وفي القرآن : ' لِكُلِّ نَبإٍ مُسْتَقَرٌّ ' .
العجم : ' من احترق كُدَسه تمنّى إحراق أكداس الناس ' ، وفي القرآن : ' وَدُّوْا لوْ تكْفُرُونَ كما كَفَرُوا فتَكُونُونَ سَوَاءً ' .
العامة : ' مَنْ حفر لأخيه بئراً وَقَعَ فيها ' ، وفي القرآن : ' ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأهْلِهِ ' .
ومن الشعر : السريع :
كل امرئ يشبهُهُ فِعْلُهُ . . . ما يفعل المرء فهو أهله
وفي القرآن : ' قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ علَى شَاكِلَتِهٍ ' .
العامة : ' كُلِ البقلَ ولا تسأل عن المَبْقَلَة ' .
وفي القرآن : ' لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ' .
شعر : الرجز :
كم مرةً حَفَّتْ بك المَكَارِهْ . . . خَارَ لكَ الله وأَنْتَ كارِهْ ؟
وفي القران : ' فَعَسى أَنْ تكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ الله فيه خَيْراً كَثيراً ' العامة : ' المأمول خيرٌ من المأكول ' ، وفي القرآن : ' وللآخِرَةُ خيرٌ لك مِنَ الأُولَى ' العامة : ' لو كان في اليوم خيرٌ ما سلّم علي الصيّاد ، وفي القرآن : ' ولو عَلِمَ الله فيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُم ' . المتنبي : الطويل :
مصائِبُ قوم عند قوم فَوَائدوفي القرآن : ' وإنْ تُصِبكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بهَا ' عند الخنازير تنفُق العذرة ، وفي القرآن : ' الْخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ' العجم : ' لم يردِ الله بالنملة صلاحاً إذا أَنبت لها جناحاً ' ، وفي القرآن : ' حتى إذا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً ' .
العامة : الكلب لا يَصِيد كارهاً ، وفي القرآن : ' لا إكْرَاهَ في الدِّينِ ' . العجم : ' كل شاة تُناط برجلها ' وفي القرآن : ' كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ' .
جملة من مكاتبات بعض أهل العصر
أبو القاسم محمد بن علي الإسكافي عن الأمير نوح بن نصر وعن ابنه عبد الملك لأبي طاهر وشمكير بن زياد يَشْكرُه على حَمِيد سيرته : مَنْ حمدناه - أَعَزَّكَ الله تعالى - من أعيان المِلَّةِ الذين بهم افتِخَارُها ، وأعوانِ الدولة الذين بهم استظهارُها ، بخلَّة ينزع فيها من خلالِ الفَضْل ، وخصْلَة يكمل بها من خصال العَدْل . وإنّك - أعزك الله - من نحمده بالارتقاء في درَج الفضائل ، والاستواء في كل الشواكل ؛ فإنه ليس من مَحْمَدة إلا وسهمُك فيها فائز ، ولا من شدة إلا ومَهْلُك فيها بارز ، وذلك - أعزّك الله تعالى - أمرٌ قد أغنى صِدْقُ خبره عن العِيَان ، وكفى بيان أثره تكلّف الامتحان ، ولو أعطينا النفوسَ مُنَاها ، وسوَّغناها هَواهَا ، لأوردنا عليك في ذرور كلِّ شارقٍ جديدَ شُكْر ، وجدّدنا لك مع اعتراض كل خاطر جميلَ ذِكر ، لكنا للعادة في تَرْكِ الهوى ، والثقة بأنك مع صالح آدابك تحلّ الأدنى من الإحماد محل الأوفى ، فيُقضى لك بأنه - وإن عظم قدرُه - يسير العدد ، وعلى ما هو - وإن تناهى لفظُه - باقي الفَخْر مدى الأبد ، وكان ممّا اقتضانا الآن تناولك به أخبارٌ تواترت ، وأقوال تظاهرت ، بإطباق سكان الحَضْرة ونيسابور من أهل عملك على شُكْرِ ما يتزيد لهم وفيهم من موادّ عدلك ، وحسن فَضْلك ، حتى لقد ظلوا ولهم في شكر ذلك محافل تُعْقَد ، ومشاهد تشْهد ، يعجب بها السامعُ والرائي ، ويقترنُ بها المؤمنُ والداعي ؛ فإن هذا - أعزَك الله - حال يطيب مَسْمَعه ، ويلذ موقعه ، حتى لقد ملأ القلوبَ بَهجاً ، والصدور ثلجاً ، حتى استفزَّها فَرْطُ الارتياح ،وصِدْق الانشراح ، إلى هذا الكتاب أن أعجلْناه ، وهذا الشكر أن أجزلْناه . بعد ذكرٍ لك اتصل كل الاتصال ، وأجمل كلّ الإجمال ، وتضاعف به حظك من الرأي أضعافاً ، وأشرف محلك على كل المحال إشرافاً ، ونحن نهنيك - أعزّك الله - على التوفيق الذي قسمَه الله لك ، والتيسير الذي وكلَه بك ، ونبعثك على استدامتها بصالح النيّة ، وبصادق البغية ، لتدنُوَ من العدل على ما ترعى ، وتحسن الهَدْي فيما تتولى . فرأيك أبقاك الله تعالى في إحلال ذلك محله من استبشار به تستكمله ، واستثمار له تعجّله إن شاء الله تعالى .
وكتب إليه يعزّيه : إن أَحقَّ من سلَّم لأمر الله تعالى ورضي بقَدَرهِ ، حتى يُمَحّضَ مصطنعاً ، ويَخلصَ مُصْطَبراً ، وحتى يكون بحيث أمر الله من الشكر إذا وَهب ، والرضا إذا سَلب ، أنت أعزّك الله تعالى ؛ لمحلّك من الشكر والحِجَا ، وحظك من الصبر والنُّهى ، ثم لمَا ترجعُ إليه من ثبات الجَنان عند النَازِلة ، وقوة الأركان لعزّ الدولة الفاضلة ، فإنَ لك فيها وفي سَهْمِك الفائز ، ومَهَلِك البارز ، عِوَضاً عن كلّ مَرْزوء ، ودَرَكاً لكلّ مَرْجُوّ ، ونسأل لله أن يجعلك من الشاكرين لِفَضْله إذا أبلى ، والصابرين لحكمه إذا ابتَلى ، وأن يجعل لك لا بِكَ التعزية ، ويقيك في نفسك وفي ذَويك الرزيّة ، بمنّه وقدرته .
وله إليه : ترامى إلينا خَبَرُ مصابك بفلان ؛ فخلص إلينا من الاغتمام به ما يحصل في مثله ممّن أطاع ووَفى ، وخدم ووالى ، وعلمنا أن لفقدك مثله لَوْعةَ ، وللمصاب به لَذعة ؛ فآثرنا كتابنا هذا إليك في تعزيتك ، على يقيننا بأن عقلك يُغْنِي عن عِظتِك ، ويهدي إلى الأوْلَى بشيمتك ، والأزيد في رُتْبتك ؟ فَليَحسُنْ - أعزك الله - صبرُكَ على ما أخذه منك ، وشكْرُك على ما أبقى لك ، وليتمكّن في نفسك ما وفّر لك من ثوابِ الصابرين ، وأجزل من ذخَر المحسنين ، وليَرِدْ كِتابك بما ألهمك الله تعالى من عزاء ، وأبلاَكه من جميل بَلاء ، إن شاء الله تعالى . وله إليه جواب : وصل كتابك - أعزك الله تعالى - مفتتَحاً بالتعزية عن فلان ، وبوَصْفِ توجّعك للمصيبة ، ونحن نحمدُ الله تعالى الذي يُنْعِم فضلاً ، ويَحْكُم عَدْلاً ، ويَهَبُ إحساناً ، ويسلب امتحاناً ، على مَجَاري قضيّته كيف حَرَتْ آخذة ومعطية ، ومَوَاقع مشيئته كيف مضت سارّة ومسيئة ، حَمْدَ عالمين أن لا حكم إلا له ، ولا حولَ إلا به ، ومستمسكين بما أمر به عند المساءة من الصبر ، والمسرّة من الشكر ، راجين ما أعدّه الله من الثواب للصابرين ، والمزيد للشاكرين . وما توفيقنا إلا باللّه عليه نتوكل وإليه ننيب ،وأما وَحْشَتُك - أعزّك الله - للحادث على الماضي ، عفا الله عنه ، فمثلُك من ذَوي الصفاء والوفاء اختصّ بذلك واهتتم له ، وعرف مثلَه فاغتنمَ به ؛ فإن الطاعة نسب بين أوليائها ، والنعمة سبب بين أبنائها ، فلا عجَب أنْ يمسك في هذا العارض ما يمسُّ أولى المشاركة ، ويخصّك من الاهتمام ما خصّ ذوي المشابَكة .
وله إليه أيضاً في أمر غزاة : ورد خَبَرُك ، أكرمَك الله تعالى ، بنفوذك لوجهك فيمن جمعهم الله تعالى للسَّعْي في سبيله إلى جملتك ؛ فأمَّلنَا أن يكون ذلك موصولاً بأعظَم الخيرة ، مؤدياً إلى أحسن المغبّة ، إلا أنَّا أحسسنا من الغُزَاة الذين بهم تعْتضد ، وإياهم تستنجد ، فتُورَ نيَّات ، وفساد طَوِيَّات ، وهذا كما علمت بابٌ عظيم يجبُ الاطلاع بالفكر والرأي عليه ، والاحتراس بالجدّ والجهد من الخَطَل فيه . فسبيلُك أن تتأمَل أمرك بعين استقصاء العَوْرَةِ ، واستدراك الآخرة ، فإن أنْتَ وجدت في عدتك تمامَ القدرة ، وفي عُدّتك مقدار الكفاية ، ولم تَجِدْ نيّات أولئك الغُزَاة مَدْخُولة ، ولا عُرَاهم مَحْلُولة ، استخرت الله تعالى في المسير بكلّ ما تقدرُ عليه من الحَزْمِ في أمرك ، ثم إن تكن الأخْرى ، وكان القوم على ما ذكرت من كَلال البصائر ، وضَعْفِ المرائر ، عملت على التلوّم لحديثٍ يحدّثك به كِتَابُنَا هذا إن اجتليت ما ذكرته ، وإن لم تبلغ بلاغة ما اخترته ، فاعتلق بذَيْله .
من إنشاء بديع الزمان
وهذه المقامة من إنشاء البديع ، قال عيسى بن هشام : غزَوْت الثغر بقَزْوِين سنة خمس وسبعين ، فما اجتزنا حَزْناً ، إلا هبطنا بَطنا ، حتى وقف بنا المسيرُ على بعض قُرَاها ، فقالت الهاجِرة بنا إلى ظِل أثلاَثٍ في حِجْرها عينٌ كلسانِ الشمْعَة ، أصفى من الدمعة ، تسيح في الرَّضْرَاض ، سيح النَضْنَاض ؛ فَنِلنا من المَأكْل ما نلْنا ، ثم ملْنا إلى الظل فقلْنَا ؛ فما مَلكَنا النومُ حتى سمِعْنَا صوتاً أنكرَ من صوتِ الحمار ، ورَجْعاً أضعَفَ من رجْع الحُوارِ ، يَشْفَعُهما صَوْتُ طَبْل كأنه خارج من ماضِغَيْ أَسد ؛ فذَادَ عن القوم رَائدالنوم ، وفتحت العيون إليه وقد حالت الأشجار دونه ، وأصغيتُ فإذا هو يقول على إيقاع صوت الطبل : السريع :
أَدعو إلى الله فهل من مُجيبْ . . . إلى ذَرًى رَحْبٍ وعَيْشِ خصيبْ
وجنَة عاليةٍ ما تَنِي . . . قطوفُها دانية ما تَغيبْ ؟
يا قومُ ، إني رجلٌ ثائبٌ . . . من بَلدِ الكُفْر وأمري عَجِيبْ
إنْ أكُ آمَنْتُ فكم ليلةٍ . . . جَحَدْتُ فيه وعَبَدْت الصَلِيبْ
يا ربَّ خِنزير تمشَئْتُهُ . . . ومُسْكر أحرَزْتُ منه النَّصيبْ
ثم هداني الله ، وانتاشَنِي . . . من زَلَةِ الكُفر اجتهادُ المُصيبْ
فظَلْت أُخْفي الدِّين في أُسْرتي . . . وأَعبدُ الله بقَلب مُنِيب
أَسْجُدُ لِلآَتِ حِذَار العِدَى . . . ولا أجي الكعبة خَوْفَ الرقيبْ
وأسألُ الله إذا جَنَّني . . . لَيْلي وأضْنَانيَ يومٌ عَصِيبْ
رَبِّ كما أنك أنقذتني . . . فنجِّني ؛ إنيَ فيهم غريب
ثم اتَّخَذْتُ الليلَ لي مركباً . . . وما سِوَى العزم أمامي نَجِيب
وَقَدْكَ مِنْ سيريَ في ليلةٍ . . . يكادُ رأسُ الطفل فيها يَشِيبْ
حتى إذا جُزْت بحر العمى . . . إلى حمى الدين نفضت الوَجِيبْ
وقلت إذ لاح شِعارُ الهدى . . . نَصْوٌ من الله وفَتْحٌ قريب ولما بلغ هذا البيت قال : يا قوم ، وطِئْت والله بلادكم بِقَلْب لا العِشْق شاقَه ، ولا الفَقْرُ ساقَه ، وقد تركت وراء ظَهْرِي حدائقَ وأعناباً ، وكواعب أتراباً ، وخيلاً مُسَوَّمَة ، وقناطير مُقَنْطَرة ، وعُدَّةً وعديداً ، ومراكبَ وعَبيداً ، وخرجتُ خروجَ الحثة من جُحْره ، وبرزتُ بروزَ الطائر من وَكْره ، مُؤْثِراً ديني على دُنْياي ، وجامعاً يُمْنَاي إلى يُسراي ، واصلاً سيْري بِسُراي ، فلو رفعتم النار بشررها ، ورميتم الروم بحجرها ، وأعنتموني علىغَزْوِها مساعدة وإسعاداً ، ومرافدة وإرفاداً ، ولا شطَطَ ، فكل قادر على قُدْرَته ، وحَسب ثَرْوَته . ولا أستكثر البَدْرَة ، ولا أردّ التمرة ، وأقبل الذّرة ، ولكل مني سهمان ، سَهمٌ أُذلِّقه لِلِّقاء ، ؤسهمٌ أفوقه بالدعاء ، وأرشُق به أبواب السماء ، عن قَوْس الظلماء .
قال عيسى بن هشام : فاستفزّني رائعُ ألفاظه ، وسرَوْتُ جِلْباب النوم ، وعدوت إلى القوم ، وإذا والله شيخُنَا أبو الفتح الإسكندري ، بسيفٍ قد شَهره ، وزي قد نكره ؛ فلما رآني غَمزني بعينه وقال : رحم الله امرأً أحسن حَدْسه ؛ وملك نَفْسه ، وأغنانا بفاضل قَوْله ، وقسم لنا من نَيله ثم أخَذ ما أخذ ، فقمتُ إليه فقلت : أنت من أولاد بنات الروم ؟ فقال : مجزوء الخفيف :
أنا حَالي مع الزما . . . ن كحالي مع النسَبْ
نسَبي في يَدِ الزما . . . ن إذا سامه انقلَبْ
أنا أُمسي من النبي . . . ط وأضْحِي من العَرَبْ
من أخبار سليمان بن عبد الملك
قال سليمانُ بن عبد الملك : ما سألني أحدٌ قط مسألة يثقلُ علي قضاؤها ، ولا يخفُّ عليّ أداؤها ، بلفظٍ حسنٍ يجمعُ له القلب فهمَه إلا قضيتُها ، وإن كانت العزيمة نفذت في منعه ، وكان الصواب مستقراً في دفعه ، ضناً بالصواب أن يردّ سائله ، أو يحرم نائله .
من أخبار النعمان بن المنذر والحارث الغساني
وقال أبو عبيدة : كان أبو قيس بن رِفاعة يَفِد سنةً إلى النعمان بن المنذر اللخمي وسنة إلى الحارث بن أبي شَمِر الغَشَاني ، فقال له الحارث يوماً وهو عنده : يا ابن رفاعة ، بلغني أنك تفضل النعمان عليَّ قال : كيف أفضّلُه عليك ، أبيتَ اللعنَ ؟ فوالله لَقَفَاكَ أحسَنُ من وَجْهه ، ولأمك أشرفُ من أبيه ، ولآباؤك أشرف من جميع قومه ، ولأَمسُك أفضل من يومه ، ولشمالك أجود من يمينه ، ولحِرمانك أنفع من بَذْلِهِ ، ولَقلِيلُكَ أكثر من كثيره ، ولثِمادُك أغزرُ من غديره ، ولكرسيك أرفع من سريره ، ولجدْوَلُكَ أغمر من بحوره ، وليومُك أفضل من شَهْرِه ، ولشهرُك أشرف من حَوله ، ولحولك خير من حقبه ، ولزندك أورى من زَنْدِه ، ولجندك أعز من جنده ، ولهزلُك أصوب من جده ، وإنك لَمِنْ غسَّان أرباب الملوك ، وإنه لمن لَخْمٍ كثيري النوكِ فعَلاَمَ أفضلُه عليك ؟ وقد روى مثل هذا الكلام للنابغة الذبياني مع النعمان بن المنذر .من أخبار المهدي
وقال المفضل الضبي : دخلت على المهدي فقال قبل أن أجلس : أنشدني أربعة أبيات لا تزد عليهنّ ، وعنده عبد الله بن مالك الخزاعي ، فأنشدته : الطويل :
وأشعثَ قد قَدَّ السّفَارُ قميصه . . . يجرّ شواءً بالعصا غير مُنْضَج
دعوتُ إلى ما نابني وأجابني . . . كريمٌ من الفتيان غيرمزَلَّجِ
فتى يملأ الشّيزَى ويرْوِي سنانَه . . . ويضرب في رأس الكميّ المدجَّج
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة . . . ولا في بيوتِ الحيّ بالمتولج
فقال المهدي : هذا هو ، وأشار إلى عبد الله بن مالك ، فلمّا انصرفتُ بعثَ إليَّ بألف دينار ، وبعثَ إلى عبد الله . بأربعة آلاف .
من أخبار أبو الأسود الدؤلي
تنازع أبو الأسود الدؤلي وامرأته إلى زيادٍ في ابنهما ؟ وأراد أبو الأسود أخْذَهُ منها فأبَت وقالت المرأة : أصلح الله الأمير ، هذا ابني ، كان بطني وعاؤُه ، وحجري فناؤه ، وثديي سقاؤه ، أكلؤه إذا نام ، وأحفظه إذا قام ؛ فلم أزل بذلك سبعة أعوام ، فلمّا استوفى فصالُه ، وكملت خصالُه ، واستوكعَت أوصالُه ، وأمَّلْتُ نفعَه ، ورجوت عَطْفَه ، أراد أن يأخذه مني كَرهاً ، فآدِني أيها الأمير ، فقد أراد قهري ، وحاول قَسْرِي . فقال أبو الأسود : هذا ابني حملتُه قبل أن تحمله ، ووضعته قبل أن تضعه ، وأنا أقوم عليه في أدبه ، وأنظر في تقويم أوَدِه ، وأمنحه علمي ، وألهمه حلمي ، حتى يكمل عقله ، ويستكمل فتلُه .
فقالت المرأة : صدق أصلحك الله ؛ حمله خِفّاً ، وحملته ثِقْلاً ، ووضَعه شهوة ، ووضعتُه كرهاً .
فقال زياد : اردُدْ على المرأة ولدَها ؛ فهي أحق به منك ، ودعني من سَجْعك .في باب الوعظ
قال الأصمعي : بلغني أنّ بعض الحكماء كان يقولُ : إني لأعظكم ، وإني لكثيرُ الذنوب ، مسرفٌ على نفسي ، غير حامد لها ، ولا حاملها على المكروه في طاعة اللّه . وقد بلوتها فلم أجد لها شكراً في الرضاء ، ولا صبراً على البَلْوَى . ولو أن أحداً لا يعظ أخاه حتى يحكم أمرَه لترك الأمر ؟ . . . ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس ، وتذكيرٌ من النسيان ، واعلموا أنّ الدنيا سرورُها أحزان ، وإقبالها إدبار ، وآخر حياتها الموت ، فكم من مستقبل يوماً لا يستكملُه ، ومنتظر غداً لا يبلغه ؟ ولو تنظرون الأجل ومسيره لأبغضتُّم الأمل وغرورَه .
جمع عبد الملك أهله وولده فقال : يا بني أميّة ، ابذُلوا نَدَاكم ، وكفوا أذاكم ، وأجملوا إذا طلبتم ، واغفروا إذا قدرتم ، ولا تُلْحِفُوا إذا سألتم ، ولا تبخلوا إذا سُئلتم ؛ فإن العفو بعد القدرة ، والثناء بعد الخبرة ، وخير المال ما أفاد حمداً ونَفَى دمّاً .
من أخبار هشام بن عبد الملك
ودخل سعيد الجعفري على هشام بن عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أريد أن أصفك بصفتك ، فإن انحرف كلامي فلهيبة الإمام ، واجتماعِ الأقوام ، وتصرّف الأعوام ، ولربّ جوادٍ عثر في أرسانه ، وكبا في ميدانه ، ورحم الله امرأ قصَّر من لفظه ، وألصق الأرض بلحظه ، ووعى قولي بحفظه ، فخاف هشام أن يتكلّم فيقصّر عن جائزة مثله ، فعزم عليه فسكت .
بين حاتم الطائي وعبد قيس البرجمي
قال عبد قيس بن خُفاف البُرْجُميُ لحاتم الطائي وقد وفَد عليه في دماء تحمّلها وعجز عن البعض : إنه وقعت بيني وبين قومي دماد فتواكلوها ، وإني حملتها في مالي وأملي ، فقدَّمت مالي ، وكُنْتَ أملي ، فإن تحملها فرُبّ حق قضيتَه ، وهمٍّ قد كفيتَه ، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمُم يومك ، ولم أيأس من غدك .بين الحمدوني وابن حرب
قال أبو علي العتابي : حدّثني الحمدوني قال : بعث إليّ أحمد بن حَرْب المهلبي في غداةٍ ، السماءُ فيها مُغيمَة ، فأتيته والمائدةُ موضوعةٌ مُغَطّاة ؟ وقد وافَتْ عُجاب المغنية ، فأكلْنَا جميعاً ، وجلسنا على شرابنا ، فما راعنا إلا داقٌّ يدقّ الباب ، فأتاه الغلام فقال : بالباب فلان ؛ فقال لي : هو فتًى من آل المهلب ، ظريف ، نظيف ، فقلت : ما نريد غير ما نحن فيه ، فأذِن له ، فجاءَ يتبختر وقُدامي قَدَحُ شراب فكسره ، فإذا رَجلٌ آدَمُ ضَخْم ، قال : وتكلم فإذا هو أعيا الناس ، فجلس بيني وبين عُجاب ، قال : فدعوت بدَواة وكتبت إلى أحمد بن حرب : الخفيف :
كدّر الله عيشَ من كدر العَي . . . شَ فقد كان صافياً مُستَطَابا
جاءنا والسماءُ تهطل بالغَي . . . ث وقد طابقَ السماعُ الشرابا
كسر الكاسَ وهْي كالكوكب الدرْ . . . رِيّ ضمَّت من المدَام رُضَابا
قلت لما رُمِيتُ منه بما أك . . . ره والدهرُ ما أفَاد أصابا
عجَّل الله نقمةً لابن حربٍ . . . تدعُ الدارَ بعد شهرٍ خرابا
ودفعتُ الرقعة إلى أحمد ، فقال : ويحك إلا نفسْتَ فقلتَ بعد حول ؟ فقلت : أردت أقول بعد يوم ، فخفت أن تصيبني مضرّة ذلك ، وفطن الثقيل فنهض ، فقال : آذيتَه فقلت : هو آذاني .
وقال الحمدوني في طيلسان ابن حرب : الطويل :
ولي طيلسانٌ إن تأمّلت شخصَهُ . . . تيقنْتُ أن الدهر يَفْنَى وينقرضْ
تصدَّعَ حتى قد أَمِنْت انصداعَهُ . . . وأَظهرتِ الأيامُ من عمره الغَرَضْ
كأني لإشفاقي عليه ممرَّضٌ . . . أخَا سَقَم مما تَمادَى به المرَضْ
فلو أنَّ أصحابَ الكلام يَرَونه . . . لَمَارَوْك فيه وادَّعَوا أنه عرَضْ
وقال فيه : البسيط :
لطيلسان ابن حرب نعمة سبقَتْ . . . بها تبينَ فضلي فهو متصِلُقد كنتُ دهراً جهولاً ثم حنّنَنِي . . . عليه خوفي من الأقوام إن جهلُوا أظل أجتنب الإخوانَ من حذر . . . كأنما بيَ جرحٌ ليس يندملُ
يا طيلساناً إذا الألحاظ جُلْنَ به . . . فَعَلْنَ فِعْلَ سهام فيه تنتضِلُ
لئن بليتَ فكم أبليتَ من أمم . . . تَتْرَى أبادتهمُ أيامُك الأولُ
؟ وكم رآك أخ لي ثم أنشدني : ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ وقال فيه : الخفيف :
يا ابْنَ حربٍ كَسَوْتَنِي طيلساناً . . . أَمْرَضتْه الأوجاعُ فَهْوَ سقيمُ
فإذا ما لبسْتُهُ قلتُ : سُبْحا . . . نَك مُحْيِي العظام وهي رَمِيمُ
طيلسانٌ له إذا هَبَّتِ الري . . . حُ عليك بمنكبيَّ هَمِيمُ
أذكرتْنِي بيتاً لحسانَ فيهِ . . . حُرَقٌ للفؤاد حين أقوم
لو يَدِبُّ الحوليُّ من ولد الذَّرْ . . . رِ عليها لأَندَبَتْها الكُلُومُ
وقال أيضاً : السريع :
يا قاتَلَ الله ابنَ حرب لقد . . . أَطال إتعابي على عَمْدِ
بطيلسانٍ خِلْتُ أنّ البلى . . . يطلبه بالوِتْر والحِقْدِ
أجدُّ في رَفْوِي له ، والبِلَى . . . يلهو به في الهَزْلِ والجِدِّ
ذكَرني الجنة لمّا غَدَا . . . أصحابُها منها على حَرْدِ
إن أتهَمَ الرّفَّاء في رفوه . . . مضَى به التمزيقُ في نَجدِ
غنيْته لما مضى رَاحلاً : . . . يا واحدِي تتركني وحدي
وقال أيضاً فيه : المجتث :
إنَّ ابنَ حرب كساني . . . ثوباً يُطيل انحرافَهْ
أظل أدفعُ عنه . . . وأتَّقي كل آفَهفقد تَعَلَمْتُ من خَش . . . يتي عليه الثقافَه
وقال أيضاً : الخفيف :
طيلسانٌ ما زال أقدم في الده . . . ر من الدهر ما لِرَفْويهِ حِيلَهْ
وترى ضَعفه كضعف عجوز . . . رَثّةِ الحال ذات فَقْرٍ مُعِيلَهْ
غمرتْهُ الرفاع فهو كمِصْرٍ . . . سكنته نُزَّاع كلِّ قبيلَهْ
إنْ أزينْهُ يا ابن حرب بذمي . . . فجرير قد زانَ قبلي بَجِيلَهْ
جرير : ابن عبد الله البجلي ، وله صحبة رضي الله عنه وقد قال غسان في هجائه جريراً : الطويل :
لعمري لئن كانت بجيلةُ زَانَها . . . جريرٌ لقد أخزى كُلَيْباً جريرُها
وقال الحمدوني في معناه الأول : الخفيف :
يا ابْنَ حرب إني أرى في زوايا . . . بيتنا مثل ما كسوتَ جماعَهْ
طيلسانٌ رَفَوْتُهُ ورفوت الرفْوَ منه حتى رَفَوْتُ رِقَاعَهْ
فأَطاع البِلى وصار خليعاً . . . ليس يعطي الرّفاءَ في الرفو طاعَهْ
فإذا سائلٌ رآنيَ فيهِ . . . ظنّ أني فتى منَ أهل الضيَاعَهْ
وقال فيه : مجزوء الكامل :
طَيْلَسانٌ ، لابنِ حربٍ . . . يتداعى لا مِسَاسا
قد طَوَى قَرْناً فقرناً . . . وأناساً فأَناسا
لَبِس الأيام حتَّى . . . لم تدع فيه لِباسَا
غاب تحت الحسّ حتى . . . لا يُرى إلا قياسَا
من رسائل ابن العميد
كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري : كتابي وأنا بحالٍ لو لم ينغّص منها الشوقُ إليك ، ولم يرنَّق صَفْوها النِّزاعُ نحوك ،فعدَدْتُها من الأحوال الجميلة ، واعتددت حظِّي منها في النعم الجليلة ؛ فقد جمعتُ إليها بين سلامةٍ عامَة ، ونعمةٍ تامة ، وحَظِيتُ منها في جسمي بصَلاَح ، وفي سعْيي بنجاح ، لكن ما بقي أن يَصْفُوَ لي عيش مع بُعْدِي عنك ، ويخلو ذرْعي مع خلوّي منك ، ويَسُوغ لي مطعم ومشرب مع انفرادي دونك ، وكيف أطمعُ في ذلك وأنتَ جزءٌ من نفسي ، وناظمٌ لشَمْلِ أنسي ، وقد حُرِمْت رؤيتَك ، وعَدِمْت مشاهدتَك ، وهل تسكنُ نفس متشعّبة ذاتُ انقسام ، وينفع أنس مُتَشتّت بلا نِظام ، وقد قرأت كتابك جعلني الله تعالى فداءك ؛ فامتلأتُ سروراً بملاحظة خطِّك ، وتأمُّل تصرّفك في لفظك ، وما أقرِّظُهما فكل خصالك مقرّظٌ عندي ، وما أمدحُهما فكلُّ أمرك ممدوح في ضميري وعَقْدِي ، وأَرجو أن تكونَ حقيقةُ أمرك موافقةً لتقديري فيك ، فإن كان كذلك وإلاَّ فقد غطّى هواك وما ألقَى على بَصَرِي . وله إلى عضد الدولة يهنئه بولدين : أطال الله بقاءَ الأمير الأجل عضد الدولة ، دام عزّه وتأييده ، وعلوُّه وتَمْهِيده ، وبَسْطَتُه وتَوْطِيده ، وظاهرَ له من كلّ خير مزيده ، وهنَّاه ما اختصه به على قُرْبِ الميلاد ، من توافر الأعداد ، وتكثر الأمداد ، وتثمّر الأولاد ، وأَراه من النجابة في البنين والأسباط ، ما أراه من الكرم في الآباء والأجداد ، ولا أَخْلَى عينَه من قرّة ، ونفسه من مَسرّة ، ومتجدّد نعمة ، ومستأنف مكرمة ، وزيادةٍ في عدده ، وفَسْحٍ في أمده ، حتى يبلغَ غايةَ مَهلِه ، ويستغرق نهاية أمَله ، ويستوفي ما بعد حُسْنِ ظنه ؛ وعرفه الله السعادةَ فيما بشّرَ عَبْده من طلوع بدرين هما انْبَعَثَا من نورِه ، واستنارا من دُوره ، وحفَّا بسريره ، وجعل وفودَهما متلائمين ، وورودهما تَوْأمين ، بشيرين بتظاهر النعم ، وتواتر القِسم ، ومؤذِنَيْن بترادفِ بنين يغصُّ ، بجمعهم مُنْخَرق الفَضَاء ، ويَشْرَقُ بنورهم أفق العلاَء ، وينتهي بهم أمَدُ النماء ، إلى غاية تفوتُ غايةَ الإحصاء ، ولا زالت السبلُ عامرة ، والمناهلُ غامرة ، يصافِحُ صادِرهم بالبشر الوارد ، وآملِهم بالنيل القاصد .
من شعر المتنبي
وقال أبو الطيب وذكر أبا دلف وأبا الفوارس ابني عضد الدولة : الوافر :
فلم أَرَ قَبْلَهُ شِبْلَيْ هِزَبْرٍ . . . كَشِبْلَيهِ ، ولا فَرَسَيْ رهانِفعاشا عِيشةَ القَمَرينِ يُحْيا . . . بضوئِهما ولا يَتَحاسدانِ
ولا ملَكَا لسِوَى مُلْكِ الأعادي . . . ولا وَرِثا سوَى مَنْ يَقْتُلانِ
وكان ابْنَا عَدُوٍّ كاثَراهُ . . . له ياءَيْ حُروفِ أنيْسِيانِ
دُعاءٌ كالثناءِ بِلا رِياءٍ . . . يُؤدِّيهِ الجَنانُ إلى الجَنانِ
وكتب أبو القاسم الإسكافي عن نوح بن نصر إلى وَشْمَكِير بن زياد في استبطاء وتهنئة : وصل كتابُك ناطقاً مفتَتحه بجميل العُذْر ، فيما نقَلَ من المكاتبة ، وبعث من المطالعة ، ومُعْرِباً مختتَمه عن جُملة خبرِ السلامة التي طبّقت أعمالك ، والاستقامة التي عمت أحوالَك ، وفهمناه ، ولولا أن مواتاتك - أيّدك الله تعالى - فيما تأتي وتذَر ، وترتئي وتدبرّ ، عادةٌ لنا أورثتناها قرابة ما بين وفاقِنا ووِفاقك ، ومُلاَءمة حال أَلجأَتنا لحال استحقاقك ، لكنا ربّما ضايَقْنَاك في العُذْر الذي اعتذرت به ، وإن كان واضحاً طريقُه ، وناقَشْنَاك فيه ، وإنْ كان واجباً تَصْدِيقه ، لفَرْطِ الأُنْس يَخْلُص إلينا بكتابك ، والارتياح بخطابك ، اللَّذين لا يؤدِّيان إلا خبرَ سلامةٍ توجِبُ الإحماد ، فنحن نأبى إلا إجراءَ تلك العادة ، كما عودتَنا ، وإلاَّ التجافي عمّا تريد فيه من الزيادة التي أرَدْتَها ، ولا ندع مع ذلك أن يصل تسويفُك إلى الإقلال الذي اخترته بإحمادك على الكتاب إذا كتبته ، توخّياً لأن تكون مؤهلاً في الحالين لخالصة التنويل ، مقدماً في درج التفضيل ، موفى حقائق الإيثار ، موقَّى لواحِقَ الاستقْصار ، ونستعين بالله على قضاء حقوقك ، وعلى جميل النية في أمورك ، فإن ذلك لا يبلغ إلا بقوَّته ، ولا يُدْرَكُ إلا بِحَوْله ، وأمّا بعد فقد عفَّى - أعزك الله تعالى - ما أفاد كتابك بخبر السلامة من أنسه ، على آثارِ مَنْ سبقه بخبر العلّة من وحْشَة ، فأَوجبتنا مقابلهَ موهبة الله تعالى في المحبوب صنع ، والمكروه دفع ، نستقبلُ به إخلاصَ المواهبِ لنا ، ونستديمُ به أخصَّ المراتبِ بنا ، فرأيك - أعزَّك الله تعالى - في المطالعة بذكر تستمدُّه في القوة والصحة من مزِيد ، والطاعة والكفاية من توفيق وتسديد ، موفقاً إن شاء الله تعالى .ألفاظ لأهل العصر في ضروب التهاني وما ينخرط في سلكها من ذلك في التهنئة بالمولود وما يجري مجراها من الأدعية ، وما يختصُّ منها بالملوك أو الرؤساء :
مرحباً بالفارس المصدِّق للظنون ، المقرِّ للعيون ، المقبل بالطالع السعيد ، والخير العَتيد ، أنجب الأبناء لأكرم الآباء . أنا مستَبْشِر بطلوع النجم الذي كنّا منه على أَمَل ، ومن تطاول استِسْرَارِه الذي كنا منه على وَجَل ، إن يشأ الله يجعله مقدمة إخوة في نَسق كالفريد المتَّسق . قد طلع في أفق الحرية أسعدُ نجْم ، ونَجَمَ ، في حدائق المروءة أذكى نبت . يا بُشْرَاي بطلوع الفارس الميمون جَدُّه ، المضمون سَعْده ، عليه خاتَمُ الفضل وطابَعُه ، وله سَهْمُ الخير وطالِعُه . الحمد لله على طلوع هذا الهلال الذي نَراه إن شاء الله بدراً لا يُضْمرُ السِّرَارُ بَهَاه ، ولا يبلغ المَحَاقُ سَناءه وسناه ، وقد بَشَّرَتْ قوابله بالإقبال وعُلُو الجَدّ ، واقترن قدومُه بالطالع السَّعْد . هنَّاك الله تعالى بقوِّة الظَّهْر ، واشتدَاد الأزْر . الفارس المكثِر لسواد الفضل ، الموفِّر لحالِ الأهل ، المستوفي شرفَ الأرومة ، بكرم الأبوة والأمومة ، وأبقاه حتى نراه كما رأينا جَدَّه وأباه . عرفت آنِفاً ما كثّر الله به عددَه ، وشدَّ عَضُدَه : من طلوع الفارس الذي أَضاء له الأُفق ، وطال به باع السعادة ، فعظمت النُعْمَى لديِّ ، وأَوردتِ البُشرىَ غاية المُنَى عليّ . مرحباً بالفارس القادم ، بأعظم المغانم ، سَوِيّ الخلق سامِي العِرق يلوح عليه سيماء المجد ، وتتجاذبه أطراف الملك والحمد . وردت البُشْرى بالفارس الذي أَوْسَع رباع المجدِ تأهيلاً ، ومَنَاكِب الشرفِ ارتفاعاً ، وأعْضَاد العزّ اشتداداً .
وأتتني بُشْرى البشائر ، والنعم المحروسة على النظائر ، في سُلاَلَة العز وسليله ، وابن منبر الملك وسريرِه ، والأمير القادم بغُرَّة المكارم ، الناهض إلى ذَرْوَة العلياء ، بآباء أمراء ، وملوك عظماء . مرحباً بالفارس المأمول لشد الظهور ، المرجو لسدّ الثغور . الحمد لله الذي شد أَزْرَ الدولةِ ، ونظم قلادة الإمرة ، ودعم سَرِير العزة ، ووطد منابرَ المملكة ، بالقمر السعد ، وشِبل الأسد الوَرْد . فد تنسمت المكارمُ والمعالي ، وتباشرت الخُطَبُ والقوافي ، بالفارس المأمولِ لشدّ أزْرِ الملك ، وسد ثَغْرِ المجد ، وتَطَاولَ السريرُ شَوْقاً إليه ، واهتزت المنابِرُ حرصاً عليه . قد افْتَرَ جَفْنُ العالَم عن العينِ البصيرة ، واستُغْرِب مضحَكُه عن اللّمعةالمُنيرة ؛ أما الأمير فالتاج لجبينه يَبْهَى ، والركاب بقدمه تزهى ، اللهمِّ أرِني هذا الهلالَ بَدراً قد عَلاَ الأقدار قدراً ، وبلّغه الله فيه مناه ، حتى نراه وأخاه ، منِيفينَ على ذرْوَة المجد ، آخذَين من أوفر الحظوَةِ بأعْلى الجد .
ولهم : والله يمتع به ، ويرزقُ الخيرَ منه ، ويحقِّقُ الأملَ فيه . عرف الله تعالى آثار بَركة المولود المسعود ، وعَضَّدَ الفضل بالزيادة في عدده ، وأقرّ عَيْنَ المجد بالسّادة من ولده . عرفه الله تعالى من سيادة مقدمه ، ما يجمعُ الأعداء تحت قَدَمه . عمرك الله تعالى حتى ترى هذا الهلال قمراً باهراً ، وبَدراً زاهراً ، يَكْثُر به عدد حَفَدتك ، ويعظم معه غُصَّة حَسَدتِك ، من حيث لا تَهْتِدي النوائبُ إلى أغراضكم ، ولا تطمع الحوادثُ إلى انتقاصكم ، متعك الله بالولد ، وجعله من أقوى العُدَد ، ووصَله بإخوة متوافرِي العدَد ، شادّي الأزر والعَضُد . هناك الله تعالى مَولده ، وقرن باليُمْن مَوْرِدَه ، وأراك من بنيه أولاداً بَرَرة وأسباطاً وحفدة ، وعرفك بركة قُدُومه ، ونجح مقدمه ، وسعد طالعه ، ويمن طائره ، وعمَّرك الله حتى ترى زيادة الله منه كما رأيتها ، والله يبلّغك أفضل ما تقسمه السعود ، وتَعْلو به الجدود ، حتى يستغرق مع إخوته مساعيَ الفضلِ ، ويَشيدُوا قواعِدَ الفخر ، ويزحموا صُدور الدَّهر ، ويضبطوا أطراف الأرض ؛ والله يَحْرُسه من نواظر الأيام أن تَرْنُو إليه ، وأطماع الليالي أن تتوجه عليه ، حتى يستقلَّ بأعباء الخدمة ، وينهض بأثْقالِ الدعوة ، ويخف في الدفع عن البَيْضة ، ويُسْرعَ في حماية الحَوْزَة ، واللهُ يديمُ لمولانا من العُمْر أكلاه ، ومن العز أهناه ، ليُطبقَ العالم بفضله وعَدْله ، ويدبِّرَ الأرض بالنجباء من نَسْله . ولهم في ذكر المولود العلوي : غُصْن رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، شجرهُ أهل أنْ يَحْلُوَ ثمرُه ، وفَرْعٌ بين الرسالةِ والإمامةِ مُنتمَاه ، خليق أن يُحْمَد بَدْؤُه وعُقْبَاه . مرحباً بالطالع بأيمن طالع ، ومَنْ هو من أشْرَفِ المناصب والمنابع ، حيث الرسالة والخلافة ، والإمامة والزَّعامة ، أبقاه الله تعالى حتى يتهنّأ فيه صوانع المنن ، ويعد حُسْنُه من بني الحسن .
ولهم في التهنئة بالإملاك والنفاس ، وما يقترن به من الأدعية : من اتصَل بمولاي سبَبُه ، وشَرُفَ به مَنْصبه ، كان حقيقاً بالرغبة إلى الله تعالى في توفيره وتكثيره ، وزيادته وتَثْميره ، لتزكُوَ منابتُ الفضل ، وتَنْمى مغارِس النبل والفخر ، وتطيب معادِنُ المجد . بارك الله لمولاي في الأمْر الذي عقده ، وأحمده إيّاهُ وأسعده ، وجعله موصولاً بنَماءِ العدد ،وزكاء الولدِ ، واتصال الحبل ، وتكثير النسل ، واللهُ تعالى يَخِيرُ له في الوُصْلة الكريمة ، ويقرنها بالمحبَةِ الجسيمة . قد عظَّم الله بَهجَتي ، وضاعف غبْطَتي ، بما أتاحه من سرور ممهّد ، يجمع شَمل مجدد ، فلا زالت النعم به محفوفة ، والمَسَارُّ إليه مصروفة ، جعل الله هذه الوصلة أكيدة العقدة ، طويلة المدّة ، سابغة البركة والفَضْل ، طيبة الذريّة والنَّسْل . وصلَ الله هذا الاتصال السعيد ، والعقد الحميد ، بأكمل المواهب ، وأحمد العواقب ، وجعل شمل مَسَرَّتك ملتئماً ، وسببَ أنسك منتظماً . عرَّفك الله تعجيل البركات ، وتوالي ؛ الخيرات ، ولا أخلاك الله من هذه الوُصلة من التهاني بنجباء الأولاد ، وكبَتَ بكثرة عددك الحسَّاد . هناك الله مولاي الوصلَة بكثرة العدد ، ووفور الوَلد ، وانبساط الباع واليد ، عَاليَ القدر والجدّ .
ولهم في التهنئة بالولاية والأعمال ، وما يتصل بها من الأدعية للوزراء والقضاة والعمال : عرفت أخبارَ البلدِ الذي أحسن الله إلى أهله ، وعطف عليهم بفضله ، إذ أضيف إلى ما يلاَحِظه مولاي بعين إيالَته ، ويشفي خَلَلَه بفَضْلِ أصالته . أنا من سُرّ بالولاية يلبس مولاي طِلالها ، ويسحَب أذيالها ، بنعم مستفادة ، ورُتب مستزادة ، سروري بما أعلَمه بكسبه الثناء في كل عملِ يدبّره ، من أحدوثه جميلة ، ومثوبة جزيلة ، ويُؤْثِرُه من إحياء عدل ، وإماتَة جَور ، وعمارةٍ لسُبُلِ الخيرات ، وإيضاح لطرق المكرمات ، سيدي يوفِي على الرتب التي يُدعَى لها بحلوله ؛ فهنيئهاً لها بتجمّلِها بولايته ، وتحلّيها بكفايته . الأعمالُ إن بلغت أقصى الآمال ؟ فكفايةُ مولاي تتجاوزُها وتتخطّاها ، والرتبُ وإن جلَّت قدراً ، وكبرت ذِكْراً ، فصناعته تَسْبِقها وتَنْسَؤُها ، غير أنَّ للتهاني رسماً لا بدَّ من إقامته ، وشرطاً لا سبيلَ إلى نقض عادته . الأعمال وإن بلغت أقصى الآمال فكفايةُ سيدي توفي عليها إيفاء الشمسِ على النجوم ، وترتفع عنها ارتفاع السماء على التخوم . سيدي أرفع قَدْراً وأنْبَه ذِكراً من أنْ نُهنِّئه بولاية وإن جل أمرُها وعظم قَدْرُها . قد أعطِيتْ قوسُ الوزارة باريها ، وأضيفت إلى كُفئِها وكافيها ، وفَسِخَ فيها شرْط الدنيا الفاسد في إهداء حظوظها إلى أوْغَادها ، ونُقِض بها حكمها الجائر في العدول بها عن نُجَبَاءِ أولادها . الدنيا أعزّ الله الوزير مهنَّأة بانحيازها إلى رَأْيه وتنفيذه ، والممالكُ مغبوطةٌ باتصالها إلى أمره وتدبيره . قد كانت الدنيا مستشرفةً لوزارته ، إلى أنْ سعِدَت بما كانت الأيامُ عنه مُخْبِرة ، وحَظِيَتْ بما كانت الظنون به مبشَّرة . أنا أهنِّئ الوزارة بإلقائها إلى فَضْلِه مقَادَتها ، وبلوغِها في ظلّه إرادتها ، وانحيازها من إيالته إلى واضحة الفخر ، وتوشحها من كفايته بعزَّة سائدةٍ على وَجْه الدهر . الحمدُ للّه الذي أقرَّ عين الفضل ، ووطّأ مِهَادَ المجد ، وترك الحساد يتعثرون في ذيول الخَيْبةِ ،ويتساقطون في فضول الحَسْرَة ؛ وأراني الوزارة وقد استكمل الشيخُ إجلالها ، ووفّى لها جمالها : المتقارب :
فلم تكُ تصلحُ إلاَّ لهُ . . . ولم يَكُ يَصْلح إلاَّ لَهَا والقاضي عَلَم العلم شرقاً وغرباً ، ونَجْم الفضل غَوْراً ونَجْداً ، وشَمْسُ الأدبِ برّاً وبحراً ، فسبيلُ الأعمالِ أن تهنأَ إذا رُدَّتْ إلى نظرِه الميمون ، وعُصِبت برأيه المأمون . أسعد الله القاضي بما جدّ ، له من رأي مولانا وارتضاه ، واعتمده لأجل أمر الشريعة وأَمْضَاه ، وأَسعد المسلمين والدين بما أصاره إليه ، وجمع زمامه في يديه . عرّف الله سيدي من سعادة عمله ، أفضَلَ ما ترقَّاه بأَمله ، ولقاه من مناجح أمْرِه ، أفضل ما انتحَاهُ بفكره . خار الله له فيما تولاّه ، وتطوَّقه ، وبلَّغه في كلّ حال أملَه وحقّقه ، وعرفه من يُمْنِ ما باشر تدبيره الخير والخِيرَة والبركات الحاضرة والمنتظرة ، وجعل المناجح إليه أرسالاً ، لا تملّ تَوَالِياً واتِّصَالاً . أسعده الله أفضلَ سعادة قُسِمَتْ لوالِي عمل ، وأَسهم له أخصَّ بركة أُسْهمَت لمُسَامِي أمل ، أحضر الله السداد عَزْمَه ، والرشادَ همّة ، وكنفه العِصْمَة وأيده ، وقَرنَه بالتوفيق ولا أفرده . هنأه الله تعالى الموهبة التي ساقَها إليه ، ومدّ رِوَاقَها عليه ؛ إذ كانت من عقائل المواهب ، مُسْفِرة عن خصائص المراتب ، وحلّت فيه محلّ الاستحباب لا الإيجاب ، والاستحقاق دون الاتفاق . هنأ الله نعمته الفضل الذِي الولاية أصغر آلاتها ، والرياسة بعض صفاتِها .
ولهم في التهنئة بذكر الْخِلَع والأجبية : أُهنئ سيدي مزيد الرِّفْعَة ، وجديد الخِلْعَة ، التي تَخْلَعُ قلوبَ المنازعين ، واللواء الذي يلوي أَيْدِي المنابذين ، والحظَّ الذي لو امتطاه إلى الأفلاك لحازَها ، أو سَامَى به الجَوْزاء لجازَها . بلغني خبرُ ما تطوعت به سماءُ المجد ، وجادت به أَنواءُ الملك ، فَصُنْ من الخلع أَسناها ، ومن المراكب أبهاها ، ومن السيوفْ أَمضاها ، ومن الأفراس أجْرَاها ، ومن الإقطاعات أنماها . لبس خلعته متجَلِّلاً منها ملابسَ العِز ، وامتطى فرسَه فارعاً به ذِرْوَة المجد ، وتقلّد سيفه حاصداً بحدِّ طُلَى أعدائه وغَامِطِي نعمائه ، واعتنق طوقه متطوّقاً عزَّ الأبد ، واعتضد بالسوارين المودِيَينِ بقوة الساعد والعَضُد ، وسَاسَ أولياءَه ولواءُ العزِّ عليه خافق ، وهو بلسان الظَّفَر والنَّصْرِ ناطق . قد لبس خلعته التي تعمد بها رفعته ، وامتطى حُمْلاَنَهُ الذي واصل به إحْسَانه ،تمنطق بحُسامه الذي ظاهر أبواب إنعامه ، وتختم بخاتميه ، اللذين بسطا مِنْ يديه ، ووقعَ من دَوَاته ، التي أعْلَتْ من درجاته قد زرَّرت عليه سماءُ الشرف عُرَى الخلعة ، التي تتراءى صفحاتُ العزِّ على أعطافها ، وتمتَرِي مزايا المجدِ من أطرافها ، وركب الحُمْلان الذي نتناول قاصيتي المنى من ناصيته ، والمركب الذي تُسْتَخْذى حُلَى الثريا لحليته ، والسيف والمنطقة الناطقان عن نهاية الإكرام ، الناظمان قلائد الإعظام . خلع تخلع قلوب الأعداء من مَقَارِّها ، وتعمر نفوس الأولياء بمسارّها ، وسيف كالقضاء مَضاءً وحدّاً ، ولواء يَخْفق قلوب المنازعين إذا خفق ، وحملات تصدع منكب الدَّهْرِ إذَا انطلق .
ولهم في التهنئة بالقدوم من سفر : أُهنئ سيدي ونَفْسِي بما يَسَّرَه الله من قدومه سالماً ، وأشكره على ذلك شكراً قائماً ؛ غَيْبَةُ المكارم مقرونةٌ بغيبتك ، وأَوْبَةُ النعم موصولةً بأَوْبتك ، فوصل الله تعالى قدومك من الكرامة ، بأضعاف ما قَرَنَ به مسيرَك من السلامة . وهناك أيامَك ، وبلّغك محَابّك ، ما زِلْتَ بالنية مسافراً ، وباتّصال الذكر والفكر لك ملاقياً ، إلى أن جمع الله شَمْلَ سروري بأوْبَتك ، وسكّن نافِرَ قلبي بعودتك ، فأسأل الله أن يسعدك بمقدمك سعادةً تكون فيها بالإقبال ، مُقَابلاً ، وبالأماني ظافراً ، ولا أوحش منه أوطانَ الفضل ، ورِبَاع المجد ، بمنَه وكرمه .
من شعر الشعبي
قال الهَيْثم بن عدي : أنشدني مجالد بن سعيد شعراً أعجبني ، فقلت : من أنشدكه ؟ قال : كنا يوماً عند الشعبي فتناشدنا الشعرَ ، فلما فرغنا قال : أيُّكم يحسن أن يقولَ مثلَ هذا ، وأنشدنا : الطويل :
خليلي ، مهلاً طالماً لم أقلْ مَهْلا . . . وما سرفاً مِ الآن قلت ولا جَهْلا
وإن صِبَا ابن الأربعين سَفَاهةٌ . . . فكيف مع اللاتي مُثِلتُ بها مَثْلا ؟
يقول ليَ المُفْتي وهُنَّ عَشِيةً . . . بمكّة يَسْحَبْنَ المُهَدَبةَ السُحْلاتَقِ الله لا تنظرْ إليهنَّ يا فتى . . . وما خِلْتُني بالحجِّ ملتمِساً وَصْلا
فواللّه لا أنسى وإن شَطَّتِ النَّوى . . . عرانينَهنّ الشُّمَّ والأعينَ النُّجْلاَ
ولا المسكَ في أعرافهن ولا البُرى . . . جَواعل في أوساطها قَصَباً خَدْلا
خليليَّ لا والله ما قلت مَرحباً . . . لأوَّل شَيْبَاتٍ طَلَعْنَ ولا أهلا
خليليّ إنّ الشيب داء كرِهْتهُ . . . فما أحسن المَرْعَى وما أقبح المَحْلا
قال مجالد : فكتبت الشعر ، ثم قلنا للشعبي : من يقوله ؟ فسكت ، فحسبنا أنه قائله .
باب الرثاء
قال الشَّرْقي بن القَطَامي : لما مات عَمرو بن حُمَمَةَ الدَّوْسِي - وكان أحد من تتحاكمُ العربُ إليه - مَرَّ بقبره ثلاثة نفر من أهل المدينة قادمين من الشام ؛ الهِدْم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد ، وهو أبو كلثوم بن الهِدْم الذي نزل عليه النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعتيك بن قيس بن هَيشَة بن أمية بن معاوية . وحاطب بن قيس بن هيشة ابن معاوية . وحاطب بن هيشة الذي كانت بسببه حرب حاطب ، فعَقَروا رواحلهم على قبره ، وقام الهِدْم فقال : الطويل :
لقد ضَمَّتِ الأثراءُ منك مُرَزّأً . . . عظيمَ رَمَادِ النارِ مُشْتَرَكَ القِدْرِ
إذا قلتَ لم تترك مقالاً لقائل . . . وإن صُلْتَ كنتَ اللَيْثَ تحمي حِمَى الأجر
حليماً إذا ما الحِلمُ كان حَزامَةً . . . وقوفاً إذا كان الوقوفُ على الجمر
ليبكِيكَ من كانت حياتُك عِزّهُ . . . وأصبح لَمَّا مُتّ يُغْضي على الصُّغْرسقى الأرضَ ذاتَ الطُول والعرض مُثْجِمُ . . . أَحَمُّ الذرى واهي العُرى دائمُ القطْر
وما بِيَ سُقْيَا الأرضِ لكنَّ تُرْبَةً . . . أَضَلَكَ في أحشائها مَلْحَدُ القبْر
وقام عتيك بن قيس فقال : الطويل :
برَغْم العُلاَ والجودِ والمجد والنَّدى . . . طَوَاكَ الردَى يا خيرَ حافٍ وناعلِ
لقد غالَ صَرْفُ الدهر منك مرَزَأً . . . نَهُوضاً بأعباء الأمور الأثاقلِ
يَضُمُ العُفَاةَ الطارقين فِنَاؤُهُ . . . كما ضَمَّ أُمُّ الرأس شَعْبُ القبائل
ويَسْرُو دُجَا الهَيْجا مَضاءُ عزيمةٍ . . . كما كَشَفَ الصبحُ اطَراقَ الغياطل
ويُسْتَهْزَمُ الجيشُ العَرَمْرَمُ باسمِه . . . وإن كان جَرَّاراً كثيرَ الصواهل
فإمّا تُصِبْنا الحادثاتُ بنكْبَةٍ . . . رَمَتْكَ بها إحدى الدواهي الضآبل
فلا تَبْعَدَنْ إنّ الحتوفَ مواردٌ . . . وكلُّ فتى من صَرْفها غيرُ وائل
وقام حاطب بن قيس فقال : الطويل :
سلامٌ على القبر الذي ضمَّ أَعْظُمَاً . . . تَحُومُ المعالي نحوه فتُسَلِّمُ
سلام عليه كلّما ذَرَّ شارِقٌ . . . وما امتدَّ قِطْع من دُجَى الليل مُظْلِمُ
فيا قَبْرَ عمرو جاد أَرْضاً تَعَطَّفَتْ . . . عليك مُلِثٌ دائِمُ القَطْرِ مُرْزِمُ
تَضمَّنْتَ جسماً طاب حَيّاً ومَيِّتاً . . . فأنت بما ضُمِّنْتَ في الأرضِ مُعْلَمُ
فلو نَطَقَتْ أرضٌ لقال ترابُها . . . إلى قبر عَمْرِو الأزدِ حَلَّ التَكَرُّمُ
إلى مَرْمَسٍ قد حَلّ بين تُرَابه . . . وأحجارِه بَدْرٌ وأَضْبَطُ ضيْغَمُ
فلا يُبْعدِنْكَ الله حَيّاً ومَيِّتاً . . . فقد كنتَ نور الخَطْبِ والخَطْبُ مُظْلِمُ
لعمرُ الذي حُطَّتْ إليه على الْوَنَا . . . حدابيرُ عُوجٌ نيّهَا مُتَهَمِّمُلقد هَدَّمَ العلياءَ موتُكَ جانباً . . . وكان قديماً رُكْنُها لا يُهَدَّمُ
من كلام الأعراب
قال الأصمعي : سمعت أعرابياً يذكر قومه فقال : كانوا إذا اصطفُوا تحت القَتَام ، مطرت بينهم السّهام ، بشؤبوب الحِمَام ، وإذا تصافحوا بالسيوف ، فغرت أفواهها الحُتوف ، فربّ قِرْن عارِم قد أَحسنوا أدبه ، وحَرْبٍ عبوس قد أضحكتها أَسنتهم ، وخَطْب مُشمَئِز ذَللوا مناكبه ، ويوم عَمَاس قد كشفوا ظُلْمَته بالصبر حتى تتجلى . كانوا البحر لا يُنكَش غِماره ، ولا يُنَهْنَه تياره .
قال العتبي : سئل أعرابي عن حاله عند موته فقال : أجدني مأخوذاً بالنّقلة ، محجوجاً بالمهلة ، أُفارق ما جمعت ، وأقدم على ما ضيَّعْت ، فيا حياتي من كريم قدَّم المعذرة ، وأَطال النظِرَة ، إن لم يتداركني بالمغفرة ، ثم قضى .
وقال بعضُ الرواة : كان يقال : الإخوان ثلاثة ؛ أخ يخلصُ لك وُدّه ، ويبلغ لك في مهمّك جُهْده ، وأخ ذُو نِيَّة يقتصرُ بك على حسن نيته ، دون رِفْدِه ومعونته ، وأخ يجاملك بلسانه ، ويشتغل عنك بشأنه ، ويوسِعك من كذبه بأيمانه .
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : وقفت علينا أعرابية فقالت : يا قوم ، تعثر بنا الدهر ، إذ قل منا الشكر ، وفارقنا الغِنى ، وحالفنا الفقر ، فرحم الله امرأ فهم بعقل ، وأعطى من فَضْل ، وواسَى مِنْ كَفَاف ، وأَعان على عَفَاف .
سائل في مسجد الكوفة
قال أبو بكر الحنفي : حضرتُ مسجد الجماعة بالكوفة ، وقام سائلٌ يتكلم عند صلاةِالظهر ثم عند العصر والمغرب ، فلم يُعْطَ شيئاً ، فقال : اللهم إنك بحاجتي عالم غير معلّم ، واسعٌ غير مكلِّف ، وأنت الذي لا يرزؤك نائل ، ولا يُحْفيك سائل ، ولا يبلغ مِدْحَتَك قائل ، أنت كما قال المُثْنُون ، وفوق ما يقولون ، أسألك صبراً جميلاً ، وفرجاً قريباً ، ونَصراً بالهدى ، وقرّة عين فيما تحب وترضى ، ثم ولّى لينصرف ، فابتدره الناسُ يعطونه ، فلم يأخذ شيئاً ، ثم مضى وهو يقول : الكامل :
ما اعتاض باذلُ وجهه بسؤالِه . . . عِوَضاً ، ولو نال الغِنَى بسُؤَالِ
وإذا السؤالُ مع النوال وَزَنتهُ . . . رجَح السؤَال وخفَّ كلُّ نَوَالِ
من إنشاء بديع الزمان
ومن مقامات الإسكندري إنشاء البديع : حدثنا عيسى بن هشام قال : كنت في بلاد الأهواز ، وقُصارايَ لفظة شرود أَصِيدها ، أو كلمة بليغة أَستفيدها ؛ فأَدَّانِي السير إلى رُقْعَةٍ من البلاد ، فسيحة ، وإذا هناك قومٌ مجتمعون على رجل يستمعون إليه وهو يخبط الأرض بعصاً على إيقاع لا يختلفُ ، وعلمت أنَّ مع الإيقاع لَحْناً ، ولم أَبْعُدْ لأَنال من السماع حظاً ، أو أسمع من البليغ لَفْظاً ، فما زلت بالنظّارة ، أَزحَم هذا وأَدفع ذاك ، حتى وصَلْتُ إلى الرجل ، وصرفت الطرف منه إلى حُزُقَّةٍ كالقَرْنَب ، مكفوف في شَمْلة من صوف ، يَدُور كالخُذْروف ، مُتبرْنِساً بأَطْوَلَ منه ، معتمِداً على عصاَ فيها جلاجل ، يَضْرِبُ الأرض بها على إيقاعٍ غَنِج ، ولفظٍ هَزِج ، من صدرٍ حَرِج ، وهو يقول : الرجز :
يا قومُ قد أَثقل دَيني ظَهْري . . . وطالبتني طَلَتي بالمَهْرِ
أَصْبَحتُ من بعد غنًى ووَفْرِ . . . ساكنَ قَفْر وحليفَ فَقْرِ
يا قومُ هل بينكمُ من حُرِّ . . . يُعينني على صُروفِ الدهر
يا قومُ قد عِيل بفَقْرِي صَبْرِي . . . وانكشفَتْ عني ذيولُ السِّتْرِوفَضَّ ذا الدهرُ بأيدي البَتْر . . . ما كان لي من فضّة وتِبْر
آوِي إلى بيت كقيدِ الشّبْرِ . . . خاملَ قدَرٍ وصغيرَ قِدْرِ
لو ختم اللهُ بخيرٍ أمري . . . أعقبني من عُسْرَة بيُسْرِ
هل من فتى فيكم كريم النَّجْرِ . . . محتسب فِيَّ عظيم الأجر ؟
إن لم يكن مغتنماً للشكر
قال عيسى بن هشام : فرقَّ له واللّه قلبي ، واغرورقت عيني ، وما لبثت أن أعطيته ديناراً كان معي ، فأنشأ يقول : الرجز :
يا حُسْنَها فاقِعَةٌ صفراءُ . . . معشوقة منقوشةٌ قَوْرَاءُ
يكاد أَنْ يَقْطُر منها الماءُ . . . قد أَثمرَتْها هِمَّةٌ عَلْياءُ
نَفْسُ فتًى يملِكهُ السَّخَاءُ . . . يصرفه فيه كما يَشاء
يا ذا الذي يعنيه ذَا الثناءُ . . . ما يتقصّى قَدْرَك الإطْرَاءُ
فامْضِ على الله لكَ الجزاء ورحم الله من شدّها في قَرَن بمثلها ، وآنسها بأُختها ، فناله الناس ما نالوه ، ثم فارقهم وتبعتُه ، وعلمتُ أنه متعامٍ لسرعة ما عرَف الدينار ، فلمّا نظمَتْنَا خَلْوة مددتُ يمْناي إلى يسرى عَضُدَيه ، وقلت : واللّه لترينّي سِرَّك ، أو لأكشفنّ سِتْرك ؛ فكشف عن توْأَمَتي لوْزاْ ، وحَدَرت لثامه ؛ فإذا هو واللّه شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، فقلت : أنت أبو الفتح ؟ فقال : لا : المجتث
أنا أبو قَلَمُونٍ . . . في كلِّ لَوْنٍ أكُونُ
اخْتَرْ من الكسب دُوناً . . . فإنّ دَهْرَكَ دُونُ
زَجِّ الزمان بحُمْقٍ . . . إن الزمان زَبونُ
لا تُخدَعَنّ بعَقْل . . . ما العقلُ إلا الجنونُمن شعر كشاجم
وقال أبو الفتح كشاجم : الكامل :
ما زال حرُّ الشوقِ يغْلِبُ صَبرَها . . . حتى تحدَّرَ دَمْعُها المتعَلَقُ
وجرى من الكحْل السحيق بخدِّها . . . خَطٌّ تُؤَثرُهُ الدموعُ السُّبَّقُ
فكأنَّ مَجْرَى الدمع حِلْيةُ فضّة . . . في بعضه ذَهبٌ وبعضٌ مُحْرَقُ
وقال : السريع :
ما لذّةٌ أكملُ في طيبها . . . من قُبلةٍ في إثرها عَضّهْ
كأنما تأثيرها لمْعَةٌ . . . من ذَهبٍ أُجرِيَ في فضّهْ
خَلَسْتُها بالكُرْهِ من شادِنٍ . . . يَعْشَق بَعضِي بالمُنَى بَعْضَهْ
وقال : الطويل :
ومستهجنٍ مَدْحِي له إن تأكّدَتْ . . . له عُقَد الإخلاصِ ، والحرُّ يُمْدَحُ
ويَأْبى الذي في القلب إلاّ تبيّناً . . . وكلّ إناءٍ بالذي فيه يَرْشَح
وقال : الكامل :
وإذا افتخرتَ بأَعظُمٍ مقبورة . . . فالناس بين مكذِّب ومُصَدّقِ
فأَقِمْ لنفسك في انتسابك شاهداً . . . بحديثِ مَجْدٍ للقديم محقِّقِ
وقال : البسيط :
يا مُسْدِيَ العُرْفِ إسراراً وإعلاناً . . . ومُتْبع البِرِّ والإحْسانِ إحسانا
أَقْلِع سحابَك قد غَرَّقْتَني نِعَماً . . . ما أَدْمَنَ الغَيْثُ إلا كانَ طُوفَانا
هذا مولد من قول أبي نواس : الكامل :
لا تُسْدِيَنَ إليّ عارفَةً . . . حتى أقومَ بشُكْرِ ما سَلَفاالبحتري : البسيط :
أَلحَّ جُوداً ولم تَضْرُرْ سحائِبُهُ . . . وربما ضَرَّ في إلْحَاحِه المَطَرُ
مواهبٌ ما تَجَشَّمْنا السؤالَ لها . . . إن الغَمامَ قَليبٌ ليس يُحْتَفَرُ
وقد أُخِذَ على ذي الرمة قولُه : الطويل :
ألا يا اسلمي يا دار مَيَّ على البِلَى . . . ولا زال مُنْهَلاً بجَرْعَائِك القَطْرُ
قالوا : وأحسن منه قول طرفة : الكامل :
فَسَقَى ديارَك ، غَيْرَ مُفْسِدِها ، . . . صوبُ الربيع وديمةٌ تَهْمي
وقد تحرز ذو الرمة مما تؤول عليه بالسلامة في أول البيت .
وقال كشاجم : الوافر :
أَيا نَشْوان من خمرٍ بِفيهِ . . . متى تَصْحُو وريقُك خَنْدَرِيسُ ؟
أرى بك ما أراه بِذي انتشاءٍ . . . ألحَّ عليه بالكاس الْجَلِيسُ
تورُّدُ وَجْنَةٍ وفتورُ لَحْظٍ . . . تُمرّضه وأَعطافٌ تميسُ
وقال : الطويل :
وما زالَ يَبْرِي جملةَ الجسم حُبُّها . . . وينقصه حتى نَقَصْتُ عن النقصِ
وقد ذُبْتُ حتى صِرْتُ إنْ أنا زرْتُها . . . أمِنتُ عليها أن يَرَى أهْلُها شَخْصِي
الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره
كتب ابن مكرم إلى بعض الرؤساء : نَبَتْ بي غرَّةُ الحداثة ، فردَّتني إليك التجربة ، وقادَتْني الضرورة ، ثِقةً بإسراعك إليّ وإن أَبطأْتُ عنك ، وقبولك العذرَ ، وإن قصرتُ عن واجبك ، وإن كانت ذنوبي سدَّتْ عليّ مسالكَ الصفح عني ، فراجِعْ فيَّ مجدك وسؤددك ،وإني لا أعرف موقفاً أذل من موقفي ، لولا أنّ المخاطبة فيه لك ، ولا خطَّة أدنى من خُطَّتي ، لولا أنها في طلب رِضاك .
وهذا المعنى الذي ذهب إليه من الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره قد أكثر الناسُ منه قديماً وحديثاً وسأفيض في طرفٍ من ذلك : وأنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلي ، وهو أخو المرار العَدَوي ، نسب إلى أمة العدوية ، وهي فُكَيهة بنت تميم بن الدُّوَل بن جَبَلَة بن عدي بن عبد مناة بن أُد بن طابخة ؛ فولدت لمالك بن حنظلة عديّاً ويربوعاً ؛ فهؤلاء من ولده يقال لهم بنو ، العَدَوّية ، وكان زيادٌ نزل بصَنْعَاء فاجتواها ومنزله بنجد ، فقال في ذلك قصيدة يقول فيها وذكَرَ قومه : البسيط :
مُخَدَّمون ثِقَالٌ في مجالسهمْ . . . وفي الرحال إذا صاحبْتَهُمْ خَدَمُ
لم أَلْقَ بعدهُم حيّاً فأُخْبِرَهمْ . . . إلا يزيدهمُ حبّاً إليّ هُمُ
وأراه أول من استثار هذا المعنى .
وكان ابنُ أبي عَرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان وكان له مكرِماً فتركه وصحب غيره فلم يحمَد أمره ، فرجع إليه ، فقال : الطويل :
عتبتُ على سلمٍ فلما فقدتُه . . . وجرّبْتُ أقْواماً بكيتُ على سَلْمِ
رجعتُ إليه بعد تجريبِ غيره . . . فكان كَبُرْءٍ بعد طولٍ من السقْمِ
وقال مسلم بن الوليد : الوافر :
حياتك يا ابْنَ سعدان بن يَحْيَى . . . حياةٌ للمكارِم والمَعَالِي
جلبت لك الثناءَ فجاء عَفْواً . . . ونَفْسُ الشكرِ مطلقةُ العِقَالِ
وترجعني إليكَ وإن نَأَتْ بيدِياري عنك تجربةَ الرجالِ
وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرد للبحتري : الطويل :
أخٌ لك عاداه الزمان فأصبحت . . . مذممةً فيما لديه المطالِبُ
متى ما تذوِّقه التجاربُ صاحباً . . . من الناس تردُدْهُ إليك التجاربُ
وأنشد : الطويل :
حياةُ أبي العباس زَين ، لقومه . . . لكل امرئ قَاسَى الأمور وجَرَّباونعتِبُ أحياناً عليه ولو مَضَى . . . لَكُنُّا على الباقي من الناس أَعْتَبَا
قال الصولي : جرى ذِكْرُ المكتفي بحضرة الراضي فأطريته وأكثرتُ الثناء عليه ، فقال لي : يا صولي ، كنتَ أنشدتني لجرير : الطويل :
أُسَلِّيكَ عن زيد لتسلى ، وقد أرى . . . بعينيك من زيد قَذًى ليس يَبْرحُ
فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، مَن شكر القليل كان للكثير أشدّ شكراً ، وأعظم ذكراً ، فأَين أَنا لك من المكتفي ؟ فأنشدته للطائي : الكامل :
كم من وَساعٍ الجُودِ عنديَ والنَّدَى . . . لَمّا جرى وجريت كان قَطوفا
أحسنتُما صَفدِي ، ولكن كنتَ لي . . . مثلَ الربيع حَيّاً وكان خريفا
وكِلاَكُما اقْتَعَدَ العُلاَ فركبْتَها . . . في الذّروة العليا وجاءَ رَدِيفا
إن غاض ماءُ الزنِ فِضْتَ ، وإن قَسَتْ . . . كَبِدُ الزمان عليّ كنتَ رَؤوفا
وكان المكتفي أول من نادمه الصولي ، واختلط به .
ولم يَلِ الخلافة أحد اسمه عليّ إلا عليّ بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنه ، وعليّ بن المعتضد المكتفي بالله ، وكان سبب اتصاله به وانقطاعه إليه أنَ رجلاً يعرف بمحمد بن أحمد الماوردي نزع إلى المكتفي بالرَّفة ، وكان ألعبَ الناس بالشطرنج ، فلمّا تدم عليه بغداد وهو خليفة قال : يا أمير المؤمنين ، أنا أعلم الناس بهذه الصناعة ، فأقطعني ما كان للرازي الشطرنجي ؛ فغاظ ذلك المكتفي ، وندب له الصولي فلم يُرَ معه الماوردي شيئاً . فقال له المكتفي : صار ماء وردك بَوْلاً ، قال الصولي : فأقبل المكتفي عليّ ورتَّبني في الجلساء ، فحجبت يوماً عنه ، واتصل بي أن خصمي شمَّت بي ، فكتبت قصيدة للمكتفي أقول فيها : الكامل :
قد ساء ظنُّ الناس بي وتنكّروا . . . لَمّا رأوْني دون غيريَ أُحْجَبُ
إن كان غلْبِيه يُقَرِّبُ أَمرهُ . . . دوني فإني عن قريب أُغْلَبُ
فضحك ، وأمر لي بمائتي دينار ، واندرجْتُ في خدمته .ما قيل في بيعة يزيد بن معاوية
اجتمعت وفودُ العرب عند معاوية رحمهُ الله تعالى ، وكان إذا أراد أن يفعل شيئاً ألقى منه ذَرْءاً إلى الناس ، فإذا امتنعوا كفّ ، وإن رَضُوا أمضى ، فعرض ببيعة يزيد ، فقامت خطباء معدّ فشقّقوا الكلام ، وأطنبوا في الخطاب ، فوثب شاب من غَسَّان قابضاً على قائم سيفه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الحَيْفَ في حكم السيف ، وبعد النسيم الهَيف ؛ فإنَّ هؤلاء عجزوا عن الصّيال ، فعوّلوا على المَقَال ، ونحن القاتلون إذا صُلْنَا ، والمعجبون إذا قلنا ، فمن مال عن القَصْدِ أقمْناه ، ومن قال بغير الحقّ وقَمْنَاه ، فلينظر ناظرٌ إلى موطئ قَدَمه ، قبل أن تَدْحض فيَهْوِي هوِيَّ الحجر من رأس النِّيق ؛ فتفرق الناس عن قوله ، ونَسُوا ما كانوا فيه من الخطب .
الإقدام
وقال المهلّب يوماً لجلسائه : أراكم تعنّفونني في الإقدام ، قالوا له : إي واللّه ، إنك لسَقوط بنفسك في المهالك ، قال : إليكم عني فواللّه لولا أن آتي الموت مسترسلاً ، لأتانِي مستعجلاً ؛ إني لستُ آتي الموتَ من حُبّه ، إنما آتِيه من بُغْضِه ، ثم تمثّل بقول الحُصَين بن الحُمَام المُرِّي : الطويل :
تأخَّرْتُ أستبقي الحياة فلم أجِدْ . . . لنفسي حياة مثلَ أن أتقدَّما
ومن هذا أخذ أبو الطيب المتنبي قوله : الطويل :
أرى كُلُّنا يَهْوي الحياةَ لنفسِه . . . حريصاً عليها مُسْتهاماً بها صَبَّا
فَحُبُّ الجبانِ النَّفْسَ أَوْرَدَهُ التُّقَى . . . وحُبُّ الشجاعِ النفسَ أورده الحَربَاوقال أبو دُلَف : البسيط :
الحربُ تَضْحَكُ عن كَرِّي وإقْدَامي . . . والخيلُ تعرفُ آثارِي وأيَّامِي
سَيْفِي مُدَامِي ، ورَيْحَاني مثقفتي ، . . . وهمَتي مِقَةُ التفضيل لِلْهَامِ
وقد تجرَّد لي بالحسن منفرداً . . . أَمْضَى وأَشْجَع مني يوم إقدامي
سلَّت لواحظُه سيفَ السَّقامِ على . . . جسمي فأصبح جسمي رَبْعَ أسقامِ
من أخبار أبي دلف وشعره
وكان أبو دلف شاعراً مجيداً ، وجواداً كريماً جامعاً لآلات الأدبِ والظرف ، وله شعرٌ يد في كل فن ، وهو القائل : الوافر :
أحبِّك يا جَنَان ؛ فأنتِ مني . . . محل الروحِ من جَسَدِ الجَبانِ
ولو أني أقول : مكان روحي . . . لَخِفْتُ عليكِ بادِرَةَ الزمانِ
لإقدامي إذ ما الخيلُ جالَتْ . . . وهاب كُماتُهَا حَرَّ الطِّعَانِ
وكان يتعشق جارية ببغداد فإذا شخَصَ إلى الحضرة زارها ، فركب في بعض قَدَماته إليها ، فلما صار بالجسر مشَى على طرف طيلسان بعض المارين ، فخرقه ، فأخذ بعِنانه ، وقال : يا أبا دلف ، ليست هذه كرخك ، هذه مدينة السلام ، الذئب والشاة بها في مَربَع واحد فثنى عنانه متوجهاً إلى الكرخ ، وكتب إلى الجارية : الخفيف :
قَطَعَتْ عن لقائك الأشغالُ . . . وهمومٌ أتَتْ عليَّ ثِقَالُ
في بلاد يُهَان فيها عزيزُ ال . . . قوم حتى تنالَه الأنذالُ
حيث لا مدفعٌ بسيفٍ عن الضَّي . . . م ولا للكُمَاةِ فيها مجالُ
ومقام العزيز في بَلد الهو . . . ن إذا أمكن الرحيلُ محالُ
فعليك السلام يا ظَبْيَة الكَرْ . . . خ أقمتم وحان مِنَّا ارتحالُودخل أبو دلف على المأمون بعد الرِّضا عنه ، فسأله عن عبد الله بن طاهر ، فقال : خلَّفتُه يا أميرَ المؤمنين أمين غَيْب ، نصيح جَيْب ، أسداً عاتياً ، قائماً على بَرَاثنِه ، يسعد به وليُّك ، ويَشْقَى به عدوك ، رَحْبَ الفِناء لأهل طاعتك ، ذا بأس شديد لمن زاغ عن قَصْدِ محجَّتِكَ ، قد فقّهه الحَزْم ، وأيقظَه العَزْم ، فقام في نحر الأمور على ساق التشمير ، يُبْرِمها بأَيْدِه وكَيْدِه ، ويفلّها بحدِّه وجدِّه ؛ وما أشبهه في الحرب إلا بقول العباس بن مرداس : الوافر :
أكرُّ على الكتيبة لا أُبالي . . . أَحَتْفِي كان فيها أَمْ سوَاها
فقال قائل : ما أفصحه على جَبَلِيَّيتهِ فقال المأمون : وإنَّ بالجبل قوماً أمجاداً ، كراماً أنجاداً ، وإنهم ليوفُونَ السيفَ حظه يوم النّزال ، والكلام حقه يوم المقال ، وإن أبا دلف منهم .
من إنشاء الميكالي
فصل لأبي الفضل الميكالي من كتاب تعزية عن أبي العباس بن الإمام أبي الطيب : لئن كانت الرزيَّة بمصيبةٍ مُؤلمة ، وطُرُقُ العزاء والسَّلْوة مبهمة ، لقد حلَّت بساحةِ من لا تُنتقَضُ بأمثالها مرَائِرُه ، ولا تَضْعُفُ عن احتمالها بصائِرُه ، بل يتلقّاها بصَدرٍ فسيح يَحْمي أن يَفْتَحَ الحزنُ بابه ، وصبرٍ مشيح يحمي أن يُحْبطَ الجزعُ أجره وثوابَه ، ولم لا وآدابُ الدينِ من عنده تُلتمس ، وأحكامُ الشرع من بَنَانِه ولسانه تستفاد وتُقْتبس ؟ والعيونُ ترمُقُه في هذه الحال لتجريَ على سَنَنه ، وتأخذَ بآدابه وسُننه ، فإن تَعَزَّت القلوب فبحُسْنِ تماسكه عزاؤها ، وإن حسُنَت الأفعال فإلى حميدِ أفعاله ومذاهبه اعتزاؤُها .
وله من تعزية إلى أبي عمرو البحتري : قدَس الله رُوحَه ، وسقى ضريحه ؛ فلقد عاش نبيه الذكْر ، جليلَ القَدْرِ ، عَبِقَ الثناء والنَشْر ، يتجمل به أهل بلده ، ويتباهَى بمكانه ذوو مودَّتِه ، ويفتخر الأثَرُ وحاملوه بتراخي بقائه ومُدَّتِه ، حتى إذا تسنَّم ذِرْوَة الفضائل والمناقب ، وظهرت محاسنُه كالنجوم الثواقب ، اختطفته يا المِقْدَار ، ومُحِيَ أثره بين الآثار ، فالفضل خاشعُ الطَّرْفِ لفَقْدِه ، والكَرَمُ خالي الرَّبْع من بعده ، والحديثُ يندبُ حَافِظَه ودَارِسَه ، وحُسْنُ العهد يبكي كافله وحارسه .
وله : فأمّا الشكرُ الذي أعارني رداءَه ، وقلَدني طَوْقَه وسناءَه ؛ فهيهات أن ينتسب إلاَّإلى عادات فَضْله وإفضاله ، ولا يسير إلا تحت رايات عُرفه ونَوَاله ، وهو ثوب لا يحلَّى إلا بذكره طِرَازه ، واسم له حقيقته ولسواء مجازه ، ولو أنه حين ملك رقِّي بأياديه ، وأعجز وُسْعِي عن حقوق مكارِمه ومساعيه ، خلَّى لي مذهبَ الشكر ومَيدَانه ، ولم يجاذبني زِمامَه وعنَانه ، لتعلَّقْت عن بلوغ بعض الواجب بعُروَة طَمَع ، ونهضت فيه ولو على وَهن وظَلع ، ولكنه يَأبئ إلا أن يستولي على أَمدِ الفضائل ، ويتسنّم ذرَا الغوارب منها والكواهل ، فلا يَدَع في المجد غايَةَ إلا يسبق إليها فارطاً ، ويُخلِّفُ من سوَاهُ عنها حسيراً ساقطاً ، لتكون المعالي بأسرها مجموعة في ملكِه ، منظومةً في سِلكه ، خالصةً له من دعوى القسيم وشِركِه .
وله فصل من كتاب إلى أبي سعيد بن خلف الهمذاني : فأمّا التُّحْفَةُ التي شَفعها بكتابه فقد وصلت ، فكانت ضَرَّة لزهرِ الربيع ، موفية بحُسْنِ الخطِّ على الوَشْي الصنيع ، وليس يهتَدِي لمثل هذه اللطائف في مبرة الإخوان ، إلا من يُعَدُّ من أفراد الأقران ، ولا يرضَى من نفسه في إقامة شعائِر البرّ دون القران ، واللّه يمتّعه بما منَحَهُ من خصائص هي في آذَان الزمان شنوف ، وفي جِيده عقد مرصوف .
الخريمي يعاتب الوليد بن أبان
وقاد أبو يعقوب الخريمي يعاتب الوليد بن أَبان : الطويل :
أتعجَبُ مني إن صبرت على الأذى . . . وكنت امرأً ذا إرْبةٍ متجمِّلاَ ؟
فإني بحمدِ الله لا رَأْيَ عاجزٍ . . . رأيت ، ولا أخطَأْت للحقِّ مَفْصِلا
ولكن تدبَّرتُ الأُمورَ ؛ فلم أَجِدْ . . . سوى الحلم والإغضاء خيراً وأفْضلاَ
وأُقسم لولا سالِفُ الودِّ بيننا . . . وعهدٌ أبَتْ أركانه أن تَزيّلاَ
وأيامُك الغرُّ اللواتي تقدَّمَتْ . . . وأوليتنيها مُنْعِماً مُتَطَوَلا
رحلْتُ قلوصَ الهَجْرِ ثم اقتعدْتُها . . . إلى البعد ما ألفيت في الأرض مَعْمَلاوأكْرَمْتُ نفسي والكرامةُ حظُّها . . . ولم ترنِي لولا الهوَى متذلِّلا
وعارضت أطراف الصِّبَا أَبْتَغِي أخاً . . . يُعِينُ إذا ما الهَمُّ بالمرء أَعْضَلاَ
أخاً كأبي عمرو وأَنَّس بمثلِه . . . إذا الحرُّ بالمجدِ ارتدَى وتَسَرْبَلاَ
جزى الله عثمانَ الخُرَيمِيَّ خيرَ ما . . . جَزَى صاحباً جَزْلَ المَواهبِ مُفْضِلا
أخاً كان إن أقبلتُ بالودِّ زادني . . . صفاءً وإن أُدبرتُ حَنّ وأقبلا
أخاً لم يخنِّي في الحياة ولم أبِتْ . . . يخوّفنيٍ الأعداءُ منه التنقّلا
إذا حاولوهُ بالسعاية حاولوا . . . به هَضْبَة تأْبى بأنْ تتخَلْخَلا
يحكّمني في ماله ولسانهِ . . . ويركبُ دوني الزاعبي المؤَلّلا كفى جفوةَ الإخوانِ طولَ حياته . . . وأَوْرَثَ ممّا كان أَعْطَى وأجزلا
وبات حميداً لم يكدِّر صنيعَهُ . . . ولم أقْلِه طولَ الحياة وما قَلاَ
وكنت أخاً لو دام عهدُك واصلاً . . . نَصوراً إذا ما الشَّرُّ خَبَّ وهَرْوَلاَ
فغيَّرك الواشون حتى كأنما . . . تراني شُجاعاً بين عينيك مُقْبلا
أبو يعقوب الخُريمي
وأبو يعقوب هذا إسحاق بن حسان ، قال المبرد : كان أبو يعقوب جميل الشعر ، مقبولاً عند الكتّاب ، وله كلامٌ قوي ، ومَذْهَبٌ متوسّط ، وكان يرجع إلى نسب كريمٍ في الصُّغْد ، وكان له ولا في غطفان ، وكان اتصالُه بمولاه أبي عثمان بن خُرَيم المري الذي يقال له خُريم الناعم ، وكان أبو عثمان هذا قائداً جليلاً ، وسيّداً كريماً . وسُئل خُرَيم عن لَذّة الدنيا ، فقال : الأمْنُ فإنه لا عيشَ لخائف ، والعافيةُ فإنه لا عيشَ لسقيم ، والغنَى فإنه لا عيشَ لفقير . وقيل له : ما بلغ من نعمتك ؟ قال : لم ألبس جديداً في صيف ، ولا خَلَقاً في شتاء . وفي نسبه في الصُّغْد يقول : الطويل :
أبا الضُغْدِ باس أن تعيّرني جُمْلُ . . . سَفاها ومن أخلاق جارتنا البخلُ
وما ضرَّنِي أنْ لم تَلِدْني يُحَابر . . . ولم تَشْتَمِلْ جَرْم عَلَيَّ ولا عُكْلُيقول فيها :
ودون الندى في كلِّ قلبٍ ثَنِيَّةٌ . . . لها مَصْعَدٌ حَزْنٌ ومُنْحَدَرٌ سهلُ
وودَّ الفَتَى في كل نَيْل يُنيلُه . . . إذا ما انقضى لو أنَّ نائلَه جَزْل
وأعلمُ علماً ليس بالظَّنِّ أنه . . . لكلِّ أُناسٍ من ضرائبهم شَكْلُ
وأنَّ أخِلاَّء الزمانِ غَناؤهم . . . قليلٌ إذا ما المرءُ زَلَّت به النَّعْلُ
تَزَؤَدْ من الدنيا متاعاً لغيرها . . . فقد شَمَّرَتْ حَذَّاءَ وانصرم الْحَبْلُ
وهل أنتَ إلا هامَةُ اليوم أو غَدٍ . . . لأمِّك من إحدى طوارقها الثكْلُ
وقال يتشوّق الحسن بن التخْتَاخ : الطويل :
أَلاَ مُبلغ عني خليلي ودونهُ . . . مطا سَفَرٍ لا يَطْعَمُ النومَ طالِبُهْ
رسالةَ ثاوٍ بالعراق ورُوحهُ . . . بفُسطاط مصر حيث جمَّتْ عجائبُهْ
له كل يوم حَنَّةٌ بعد رَنّة . . . يجيش بها في الصدر شوق يغالبه
إلى صاحب لا يُخْلِقُ النأيُ عَهْدَهُ . . . لناءٍ ولا يَشْقَى به من يُصَاقِبُه
تَخَيَّره حرّاً نقيّاً ضميرُه . . . جميلاً محيّاه كريماً ضرائِبُه
هو الشهدُ سِلْماً ، والذّعافُ عَدَاوَةً . . . وبحرٌ على الورّاد تجري غَوارِبُه
فيا حَسَن الحُسْنِ الذي عَمَّ فضلُه . . . وتمّت أَيادِيه وجمَّتْ مناقِبُه
إليك على بُعْدِ المزار تطلعَتْ . . . نوازعُ شَوْقٍ ما تُرَدُّ عوازِبُه
أرى بعدك الإخوانَ أبناء عَلّةٍ . . . لهم نَسبٌ في ودِّهم لا أناسبه
فهل يَرْجِعَنْ عيشي وعيشكَ مرّة . . . ببغداد عَصرٌ مُنْصِفُ لا نُعاتِبُه ؟
لَيالِيَ أَرْعَى في جَنَابك رَوْضَةً . . . وآوِي إلى حِصْنٍ مَنِيع مراتبُه
وإذ أنت لي كالشهد بالرَّاح صُفِّقَا . . . بماءٍ رِصافٍ صفقتْهُ جَنَائِبُهْعسى ولعلّ الله يجمعُ بيننا . . . كما لاءمت صَدْع الإناء مَشَاعِبه
فقر وفصول في معان شتى
قال العتابي : حظ الطالبين من الدَرْك ، بحسب ما استصحبوا من الصَّبْر .
بعض الحكماء : الحلم عُدّة للسفيه ، وجُنة من كَيْدِ العدو ، وإنك لن تقابل سفيهاً بالإعراض عن قوله إلا أذللْتَ نفسه ، وفَللْتَ حدَّه ، وسَللْتَ عليه سيوفاً من شواهد حِلْمِك عنه ، فتولّوا لك الانتقامَ منه .
وقال آخر : العجلة مكسبة للمذمة ، مجلبة للندامة ، منفرة لأهل الثقة ، مانعة ممن سدَادِ الرغبة . وأتى العتابيَ وهو بالرَّي رجلٌ يودّعه فقال : أين تريد ؟ قال : بغداد ، قال : إنك تريد بلداً اصطلح أهلُه على صحَّة العلانية ، وسَقَم السريرة ، كلُّهم يعطيك كلّه ، ويمنعك قُلّه .
وقال يحيى بن خالد لرجل دخل عليه : ما كان خَبَرُك مع فلان ؟ قال : قد افتديت مكاشفته واشتريت مكاشرته بألف درهم ، فقال يحيى : لا تبرح حتى يكتبَ الفضلُ وجعفر عنك هذا القول .
قال الأصمعي : سمعتُ أعرابياً يدعو ، ويقول : اللهمّ ارزقني عملَ الخائفين ، وخَوْفَ العاملين ، حتى أتنعّم بتَرْكِ التنعّم ، رجاءً لما وعدت ، وخوفاً مما أوعدت .
وللعتابي : أما بعد ، فإنه ليس بمستخلَص غَضَارةُ عيشٍ إلا من خلال مكروهه ، ومن انتظر بمعاجلة الدرك مُؤَاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته .
كتب بعض الكتاب إلى أخ له : إن رأيت أنْ تحدِّدَ لي ميعاداً لزيارتك ، أتقوّته إلى وقت رؤيتك ، ويُؤْنِسُني إلى حين لقائك ، فعلت ، إن شاء الله .
فأجابه : أخاف أن أَعِدَك وَعداً يعترضُ دون الوفاء به ما لا أَقدر على دَفْعِه ، فتكون الحسرةُ أعظمَ من الفرقة .فأجاب المبتدئ : أنا أسرُّ بموعدك ، وأكون جَذِلاً بانتظارك ، فإن عاق عن الإنجاز عائق ، كنتُ قد ربحتُ السرورَ بالتوقع لما أحبّه ، وأصبتُ أَجْرِي على الحسرة بما حرمته .
وكتب أَخٌ إلى أخ له يستدعيه : أما بعد ، فإنه من عانى الظمأَ بفُرْقَتِك استوجب الريّ من رؤيتك ، والسلام .
وكتب آخر في بابه : يومُنا يومٌ طاب أوّله ، وحَسُنَ مستقبَله ، وأَتت السماء بقطَارها ، فحلَت الأرضَ بأَنوارِها ، وبك تطيب الشّمول ، ويُشْفَى الغليل ، فإنْ تأخرت عنا فرّقت شَملَنا ، وإن تعجلت إلينا نظمت أمرنا .
قال إسحاق الموصلي : قال لي ثُمامة بن أشرس ؟ وقد أُصِبْتُ بمصيبة : لمصيبةٌ في غيرك لكَ ثوابها ، خير من مصيبة فيكَ لغيرك أجرها .
ومرّ عُمر بن ذر بابْنِ عياش المنتوف ، وكان سَفِه عليه فأَعرض عنه ، وتعلق بثوبه ، وقال : يا هَناه ، إنا لم نجد لك جزاءً إذ عَصَيْتَ الله فينا ، خيراً من أن نُطيعه فيك . أخذه من قول عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه : ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تُطيع الله فيه .
وكتب بعض الكتّاب إلى رئيسه : ما رجائي عدلَكَ بزائدٍ على تأميلي فَضْلك ، كما أنه ليس خوفي صِيَالك بأكثر من خَشْيَتي نكالَك ؛ لأنك لا تَرْضَى للمحسن بصغير المَثَوبَة ، كما لا تقنع للمسيء إلا بموجع العقوبة .
وقال آخر : ما عسيت أن أشكرك عليه من مَوَاعد لم تُشَبْ بمَطْلٍ ، ومرافِدَ لم تشن بمنٍّ ، وعهد لم يمازجْه مَلَق ، ووُدٍّ لم يَشُبْهُ مَذْق .
وقال آخر : علقت به أسباب الجلالة غير مستشعر فيها بنَخْوة ، وترامت له أحوالُ الصرامة غير مستعمل معها السطوة ، هذا مع دَمَاثة في غير حَصَرِ ، ولينِ جانب من غير خَوَر .فصل لابن الرومي : إني لَوَليُّك الذي لم تزل تنقادُ لك مودّتُه من غير طمع ولا جَزع ، وإن كنتَ لذي رغبة مَطمعاً ، ولذي رَهْبة مهرباً .
أبو فراس الحمداني : الطويل :
كذاك الوِداد المَحْضُ لا يرتجى لهُ . . . ثوابٌ ، ولا يُخْشى عليه عقابُ
حنيفة تغزو نميراً
غزَتْ حنيفة نميراً فانتصفوا منهم ، فقيل لرجل منهم : كيف صنعَ قومُك ؟ قال : اتبعوني وقد أحقبوا كلَّ جُماليّة خيفانة ، فما زالوا يَخصِفُون أخفاف ، المطيّ بحوافر الخيل ، حتى لحقوهم ؛ فجعلوا المُرَّان أرْشِيةَ الموتِ ، فاشْتَفُوا بها أَرْوَاحَهم .
دعاء أعرابي
ودعا أعرابي فقال : اللهمّ إن كان رزقي نائياً فقرِّبْه ، أو قريباً فيسِّرْه ، أو ميسّراً فعجِّلْه ، أو قليلاً فكثِّرْه ، أو كثيراً فثمِّرْه .
باب المراسلات
وكتب عَنْبَسة بن إسحاق إلى المأمون وهو عاملُه على الرّقّة ، يصف خروجَ الأعراب بناحية سِنْجار وعَيْثَهُمْ بها : يا أمير المؤمنين ، قد قطع سُبُلَ المجتازِين ، من المسلمين والمعاهدين ، نَفَر من شُذَاد الأعراب الذين لا يرقبون في مؤمنٍ إلا ولا ذِمّة ، ولا يخافون من الله حَدّاً ولا عقوبة ، ولَوْلاَ ثِقَتِي بسيفِ أمير المؤمنين وحَصْده هذه الطائفة ، وبلوغه في أعداء الله ما يَرْدَع قاصِيَهم ودَانِيَهم ، لأذَّنْتُ بالاستنجاد عليهم ، ولابْتَعَثْت الخيلَ إليهم ، وأميرُ المؤمنين مُعَانٌ في أمورِه بالتأييد والنصر إن شاء الله .فكتب إليه المأمون : البسيط : أسْمَعْتَ غَيْرَ كَهام السمعِ والبصر . . . لا يَقْطَع السيفُ إلاّ في يَدِ الحذرِ
سيصبح القومُ من سيفي وضارِبِه . . . مِثْلَ الهشيم ذَرَتْه الريحُ بالمَطَرِ
فوجّه عنبسة بالبيتين إلى الأعراب ، فما بقي منهم اثنان .
وكتب المطلب بنُ عبد الله بن مالك إلى الحسن بن سهل في رجل توسل به : طَلَبُ العافين الوسائلَ إلى الأمير - أعزه الله - يُنْبئ عن شروع مواردِ إحسانه ، ويَدْعُو إلى معرفة فَضْله ، وما أَنصفَه - أعزّه الله تعالى - مَن توسّل إلى معروفه بغيره ؛ فَرأيُ الأمير - أعزِّه الله - في التطوّل على من قَصُرَتْ معرِفتهُ عن ذلك بما يريد الله تعالى فيه موفّقاً إنْ شاء الله تعالى .
فكتب إليه الحسن : وصلك الله بما وصلتني في صاحبك من الأجْرِ والشكر ، وأراك الإحسان في قَصْدِكَ إليَّ بأمثاله فرضاً يفيدك شكره ، ويعقبك أجره ، فرأيك في إتمام ما ابتدأتَ به وإعلامي ذلك مشكوراً .
وكان المُطّلب ممدَّحاً كريماً ، وقد حسد دعبل شرفَه وإنعامه ، وغبط إحسانه وإكرامه ، إذ يقول : البسيط :
اِضْرِبْ ندى طلحة الطلحاتَ معتَرفاً . . . بلُؤْمِ مُطَّلب فينا وكُنْ حكما
تَخْلُصْ خزاعةُ من لُؤُم ومن كرم . . . فلا تعدّ لها لؤماً ولا كرما
وأمر طلحة أعْرَفُ من أن يُوصف .
وما أبعد قول دعبل من قول البحتري لصاعد بن مخلد وأهل بيته : الطويل :
بني مَخْلَدٍ كُفُّوا تَدَقُّقَ جُوْدكم . . . ولا تَبْخَسُونا حَظَّنَا في المَكارمِ
ولا تَنْصُروا مَجْدَيْ قِنانٍ ومخلد . . . بأنْ تذهبوا عنّا بسُمْعَة حاتم
وكان لنا اسْمُ الجُود حتى جَعَلْتُمُ . . . تَغُضّونَ منا بالخِلالِ الكرائمِفي الرثاء
قال الزبير بن بكار : لمّا مات يزيدُ بن مَزيد بأرمينية قام حبيب بن البَراء خطيباً ، فقال : أيها الناس ، لا تَقْنَطوا من مثله وإن كان قليلَ النظير ، وهَبُوهُ من صالح دعائكم مثل الذي أخلَص فيكم من نواله ، والله ما تفعل الديمة الهَطْلة في البقعة الجَدْبة ما عملت فينا يدَاه من عدله وندَاه .
فسرق هذا أبو لُبابة الشاعر فقال : البسيط :
ما بقعةٌ جادَها غَيْثٌ وقَرَّبها . . . فأزهرتْ بأَقَاحي النَّبْتِ ألوانا
أبهى وأحسنُ ممّا أثَّرَتْ يدهُ . . . في الشرق والغربِ معروفاً وإحسانا
في المدح
وقال ابن المبارك يمدح يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة : الكامل :
وإذا تُباع كريمةٌ أو تُشْتَرى . . . فسواك بائعُها وأنت المشتري
وإذا توغَرَتِ المسالكُ لم يكن . . . فيها السبيلُ إلى ندَاك بأَوْعَر
وإذا صَنَعْتَ صنيعةً أتمَمْتَها . . . بيدَيْن ليس ندَاهُما بمكدَّر
وإذا هَمَمْتَ لمُعْتَفِيك بنائلقال الندى فأَطعْتَه لك : أَكْثِرِ
يا واحدَ العرب الذي ما إن لهم . . . من معدَل عنه ولا من مَقْصَرِ
من إنشاء بديع الزمان
كتب البديع أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن يحيى : أما أبو فلان فلا شك أن كتابي يَرِد منه على صَدْرٍ مَحَا اسْمِي من صحيفته ، وقطع حَظِّي من وظيفته ، ونَسِي اجتماعنا على الحديث والغزل ، وتصرفنا في الجد والهَزْل ، وتقلبنا في أعطاف العيش ، بين الوقار والطيْش ، وارتضاعنا ثَدْيَ العشرة ؛ إذ الزمان رقيقُ القشرة ، وتواعُدنا أن يلحق أحدُنا بصاحبه ، وتصافحنا من قبل ألا نصرم الحبل ، وتعاهدنا من بعد ألا ننقض العهد ، وكأني بهوقد اتّخذ إخواناً فلا بأس ، فإن كان للجديد لذة فللقدم حُرْمة ، والأخوَّة بُرْدَة لا تضيق بين اثنين ، ولو شاء لعاشرنا في البَيْن ، وكان سألني أن أرتاد له منزلاً ماؤه رَوِيّ ، ومرعاه غَذِي ، وأكاتبه ليُنْهض إليه راحلته ؛ فهاك نيسابور ضَالّته التي نشدتها وقد وجَدْتُها ، وخراسان أمنيته التي طلبتها وقد أصَبْتُهَا ، وهذه الدولة بغيته التي أرادَها وقد وردتها ، فإن صدّقني رائداً ، فليَأْتِني قاصِداً . وله إلى بعض إخوانه يعزّيه عن أبيه : وصلَتْ رقعتُك يا سيدي والمصاب لعمر الله كبير ، وأنتَ بالجزَع جدير ، ولكنك بالعزاءِ أَجدر ، والصبرُ عن الأحبة رشد كأنه الغَيُّ ، وقد مات الميت فَلْيَحْيَ الحيّ ، والآن فاشدُدْ على مالك بالخمس ، فأنتَ اليوم غيرُك بالأمس ، وكان الشيخُ رحمه الله وكيلك ، تَضحك ويبكي لك ، وقد موّلك ما ألَف في سراه وسيره ، وخلفك فقيراً إلى الله غنياً عن غيره ، وسيعجُمُ الشيطان عودَك ، فإن استلانك رماك بقوم يقولون : خيرُ المال ما أُتلِف بين الشراب والشباب ، وأُنفق بين الحَبَاب والأحباب ، والعيش بين القدَاح والأقداح ، ولولا الاستعمال ، ما أريد المال فإن أطعتَهم فاليوم في الشراب ، وغداً في الخراب ، واليوم وَاطَربَا للكَاس ، وغَداً واحَرَبَا من الإفلاس ، يا مولاي ذلك الخارجُ من العود يسمِّيه الجاهل نَقْراً ، ويُسَمِّيه العاقل فقْراً .
وكذلك المسموع في الناي ، هو في الآذان زَمْرٌ ، وفي الأبواب سَمْر ، فإن لم يجد الشيطان مغمزاً في عودِك من هذا الوجه ، رَماك بقوم يمثّلُون الفقرَ حِذَاء عينيك ، فتجاهد قلْبَك ، وتحاسب بَطْنَك ، وتناقش عِرْسك ، وتَمْنَع نفسَك ، وتتوقّى دنياك بوزرك ، وتراه في الآخرهْ في ميزان غَيْرك ، لا ، ولكن قَصْداً بين الطريقين ، وميْلاً عن الفريقين ، لا مَنْع ولا إسراف ، والبخل فَقْرٌ حاضر ، وضرٌ عاجل ، وإنما يبخلُ المرء خيفة ما هو فيه : الطويل :
ومن ينفق الساعاتِ في جَمْعِ ماله . . . مخافةَ فَقْرٍ فالذي صَنَعَ الفَقْرُ
وليكن لِلَّه في مالك قسم ، وللمروءة قسم ؛ فصِلِ الرَّحم ما استطعت ، وقدّر إذا قطعت ، فلأَنْ تكون في جانب التقدير ، خيرٌ من أن تكون في جانب التبذير .
وله إلى رئيس عناية برجل : كتابي أطال الله بقاء الرئيس ، والكاتب مجهول ،والكتاب فضول ، وبحسب الرأي مَوْقعه ، فإن كان جميلاً فهو تَطَوُل ، وإن كان شَيْناً فهو تقَوُّل ، وأيةً سلك الظنّ فله - أيّده الله تعالى - المنّ ، من نيسابور عن سلامةٍ شاملة نسألُ الله تعالى ألا يُلهينا بسكرها ، عن شُكرِها ، والحمد لله رب العالمين . يقول الشيخ - أيّده الله تعالى - : مَنْ هذا الرجل ؟ وما هذا الكتاب ؟ فأمّا الرجلُ فخاطِبُ وُدّ أولاً ، وموصل شكرٍ ثانياً ؛ وأمّا الكتاب فَلِحام أرحام الكرام ؛ فإن يعِن الله الكِرامَ ؛ تتصِل الأرحام . هذا الشريفُ قد حاربَه زمانُ السوء ؛ فأخرجه من البيت الذي بلغ السماءَ مَفْخَراً ، ثم طلب فوقه مَظْهَراً ؛ وله بعدُ جلالةُ النسب ، وطهارةُ الأخلاق ، وكرمُ العَهْد ، وحضرني فسألته عما وراءه ، فأشار إلى ضَالَةِ الأحرار ، وهو الكرم مع اليسار ، ونبَّه على قَيد الكرام ، وهو البِشْر مع الإنعام ، وحدَّث عن بَرْدِ الأكباد ، وهو مساعدة الزمان للجَوَادِ ، ودلَّ على نزهة الأبصار ، وهو الثَّرَاء ، ومُتْعَة الأسماع ، وهو الثناء ، وقلّما اجتمعا ، وعَزَّ ما وُجِدَا معاً . وذكر أنّ الشيخَ الرئيس - أيّده الله - جماعُ هذه الخيرات ، وسألني الشهادةَ له ، وبَذْلَ الخط بها ، ففعلت ، وسألتُ الله إعانته على هِمَته ؛ فرأيُ الشيح - أيّده الله تعالى - في الوقوف على ما كتبت ، وفي الإجابة - إنْ نَشِطَ - الموفق إن شاء الله .
وله إلى ابن أخته : وَصَلَ كِتابُك بما ضمّنته من تَظَاهُرِ نعم الله عليك ، وعلى أبويك ، فسكنت إلى ذلك من حالك ، وسألتُ الله بقاءك ، وأن يرزقَني لقاءَك ، وذكرت مصابك بأخيك ، رحمه الله تعالى ، فكأنما فتَتَّ عَضُدِي ، وطَعْنتَ في كبدي ، فقد كنت معتضداً بمكانه ، والقدرُ جارٍ لشانه ، وكذلك المرء يدبّر ، والقضاء يدمّر ، والآمال تنقسم ، والآجال تَبْتسم ، فاللهُ يجعله لك فَرَطاً ، ولا يُرِيني فيك سُوءاً أبداً ، وأنت إن شاء الله تعالى وارثُ عمره ، وسدادِ ثَغْرِه ، ونِعْمَ العِوَضُ بقاؤك : الكامل :
إنَ الأشاءَ إذا أصاب مُشَذِّباً . . . منه انْمَهَلَّ ذُراً وأثَّ أسَافِلاَ
وأبوك سيدي أيّده الله تعالى وألهمه الجميل ، وهو الصبر ، وأَناله الجزيل ، وهوالأجر ، وأَمْتَعَهُ بك طويلاً ، فما سُؤْتَ بديلاً ، وأنت ولدي ما دمت والعلمُ شانك ، والمدرسةُ مكانك ، والدفتر نَديمك ، وإن قصَّرت ، ولا إخالك ، فغيري خالك .
وله من كتاب إلى أبي القاسم الداوُدي بسجستان : كتابي - أطال الله بقاء الفقيه - كتابُ مَنْ ينسى الأيام وتذكره ، ويطويها وتنشُره ، ويبيد أبناء دهره ، وراء ظهره ، ويخرج أهل زمانه ، من ضمانه ، فإذا تناولهم بيُمناه ، وتسلَّمهم بيسراه ، أقسم أنّ صَفْقَته هي الرابحة ، وكفته هي الراجحة ، وأنا - أيّد الله الفقيه - على قُرْب العهد ، بالمهْد ، قد قطعت عَرْضَ الأرض ، وعاشرت أجناس الناس ، فما أحدٌ إلا بالجهل اتّبعته ، وبالخبرة بِعْتُه ، وبالظّن أخذته ، وباليقين نَبَذْتُه ، وما حَمْدٌ وضعتهُ في أحد إلا ضيَّعته ، ولا مَدْحٌ صَرَفْتُه إلى أحد إلا غربته ، ومن احتاج إلى الناس ، وزَنَهم بالقِسْطَاسِ ، ومن طاف نصف الشرق ، فقد لقي رُبعَ الخلق ، ومن لم يجد في النِّصْف لَمْحَةً دالّة ، لم يجد في الكل غرةً لائحة ، وكان لنا صديقٌ يقول : إن عشت تسعين عاماً مت ولم أملك ديناراً ؛ لأني قد عشت ثلاثين ولم أملك ثلثها ، وهذا لعمري ياس ، يُوجبه قياس ، وقنوط ، بالحجة مَنُوط ، ودُعَابة ستكون جِداً ، ووراء هذه الجملة مَوجِدَة على قوم ، وعَربَدة إلى يوم ، والأمير السيد واسعُ مجال الهمم ، ثابتُ مكان القَدَم ، وأنا في كَنَفِه صائبُ سَهم الأمل ، وَافِرُ الجذل ، والحمد لله على ما يُوليه ، ويُولينا مَعْشَر مَوَاليه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وذرِّيته .
وله إلى إبراهيم بن حمزة خادم الأستاذ الجليل : قد أتبع قدمَه ، إلى الخِدمَة قلمَه ، وأتلى لسانَه ، في الحاجة بَنَانَه ، وقد كان استأذنه في توفير هذا اليوم في مجلس السيد الجليل فأَذِنَ له على عادته السليمة ، وشيَمتِه القويمة ، ومَنْ وَجد كَلأً رَتَع ، ومَنْ صادف غيثاً انتجَعَ ، ومن احتاج للحاجات سَأل ، وبَقي أن يشفع الأستاذ الجليل بإزاء الحوض عَفَرَهُ ، وينظم إلى رَوضِ الإحسان مطره ، ويطرِّز أنسَنَا بأبي فلان ؛ فقد وُصِفَ لي حتى حننت شوقاً إليه ، ووَجْداً به ، وشَغفاً له ، وغُلُواً فيه ، ورَأيهُ في الإصغاء إلى الكرم عالِ ، إن شاء الله تعالى .
ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح السكندري :حدّثنا عيسى بن هشام قال : حداني إلى سجستان أرب ، فاقتعدت طِيَّتَه ، وامتطيتُ مَطِيَّتَه ، واستخَرْتُ الله تعالى في العَزْمِ حَدَوْتُه أمامي ، والحزم جعلته قدَّامي ، حتى هداني إليها ، ووافيت دروبَها ، وقد وافت الشمس غُروبَها ، واتفق المبيتُ حيثُ انتهيت ؛ ولمّا انتُضِي نَصْلُ الصباح ، وبرز جَبينُ المصباح ، مضيتُ إلى السوق أتّخذ منزلاً ، فحيث انتهيتُ من دائرة البلد إلى نُقْطتها ، ومن قلادة السوقِ إلى واسِطَتها ، خَرقَ سَمْعِي صوتٌ له من كلِّ عِرقٍ معنى ، فانتحيتُ وَفْدَهُ ، حتى وقفتُ عنده ؛ فإذا رجلٌ على فرسه ، مختنق بنَفَسِه ، قد ولاني قَذالَه وهو يقول : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرَِّفهُ بنفسي ، أنَا باكورةُ اليمن ، أنا أحدوثة الزمن ، أنا أُدْعِيَّة الرجال ، وأُحْجيَّة ربّات الحِجَال ، سلُوا عني الجبال وحُزونَها ، والبحار وعيونَها ، والخيلَ ومتونها ، مَنِ الذي ملك أسوارها ، وعرف أسرارها ، ونهج سَمْتَها ، وولج حَرَّتَها ؟ وسلوا الملوكَ وخزائنها ، والأغلاق ومعادنِها ، والعلوم وبواطنِهَا ، والخطوبَ ومَغَالِقها ، والحروبَ ومضايِقَها ، مَن الذي أخذ مختزَنَها ، ولم يؤدّ ثمنَها ؟ ومن الذي ملك مفاتِحها ، وعرف مصالحها ؟ أنا والله فعلتُ ذلك ، وسفَرتُ بين الملوك الصِّيد ، وكشفت أستارَ الخطوب السُّود . أنا والله شهدت حتى مصَارعَ العُشّاق ، ومرِضتُ حتى لِمَرضِ الأحداق ، وهصَرْتُ الغصونَ الناعمات ، وجنَيْت جنى الخدود المورَّدَات ، ونَفرْتُ عن الدنيات نفورَ طبْع الكريم عن وجوه اللئام ، ونَبوْتُ عن المحرمات نبوَّ سمع الشريفِ عن قبيح الكلام ، ولآن لما أسْفرَ صُبْحُ المشيب ، وعَلتْني أُبَّهة الكِبَر ، عَمدْتُ لإصلاح أمْرِ المعادِ ، بإعداد الزَّاد ، فلم أرَ طريقاً أهدى إلى الرشاد ممّا أنا سالِكُه ، يَراني أحدُكم راكب فرس وهَوَس ، فيقول : هذا أبو العجَب ، لا ، ولكني أبو العجائب ، عايَنتها وعانَيْتُها ، وأمُّ الكبائر قايَسْتها وقاسَيْتها ، وأخو الأعْلاق ، صَعْباً أخذتها ، وهوناً أضعتها ، وغالياً اشتريتها ، ورخيصاً بِعتها ؛ فقد والله صحِبْتُ لها المواكب ، وزاحَمْتُ المناكِبَ ، ورَعَيت الكواكبَ ، وأنْضَيْتُ الركائب ، ولا من عليكم ، فما حصلتها إلا لأمري ، ولا أَعددتها إلا لنفسي ، لكني دُفِعْتُ إلى مكاره نَذَرْتُ معها ألا أدخِرَ عن المسلمين نَفْعَها ، ولا بدّ لي أن أخلع رِبْقَة هذه الأمانة من عُنقي إلى أعناقكم ، وأعرِضَ دوائي هذا في أسواقكم ، فليشْتَرِه مني من لا يتقززُ من موقف العبيد ، ولا يأنفُمن كلمةِ التوحيد ، ليَصُنْه من أنجَبتْ جدودُه ، وسُقي بالماء الطَّاهر عودُه .
قال عيسى بن هشام : فدُرت إلى وجهه لأعلم عِلْمَه ، فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، وانتظرت إجفالَ النعامة بين يديه ، ثم تعرّضت فقلت : كم يُحِلّ دواءك هذا ؟ قال : يُحِل الكيسُ ما مست الحاجةُ ، فانصرفت وتركته .
ومن إنشائه في هذا الباب : حدّثنا عيسى بن هشام قال : بينا أنا بمدينة السلام ، قافلاً من البيت الحرام ، أمِيس مَيس الرِّجْلَة ، على شاطئ الدّجلة ، أتأمّل تلك الطرائف ، وأتقصَّى تلك الزخارف ، إذ انتهيت إلى حَلْقة رجال مزدحمين ، يَلْوِي الطَرَبُ أعناقَهم ، ويشق الضحِك أشداقَهم ، فساقني الحِرْصُ إلى ما ساقهم ، حتى وقَفْتُ بمَسْمَعِ صوتِ رجل دون مَرْأَى وجهه ، لشدّة الهَجْمَة ، وفَرْطِ الزحمة ، وإذا هو قَرَّاد يُرْقِص قردَه ، ويُضْحِك مَنْ عنده ، فرقصت رَقْص المحرج ، وسرت سيرَ الأتْرج ، فوق أعناق الناس ، يلفظُني عاتقُ هذا لِسُرَّة ذاك ، حتى افترشت لِحْيَة رجلين ، وقعدت بين اثنين ، وقد أشرَقني الخجل برِيقه ، وأَرهقني المكانُ لضيقه ، فلمّا فرغَ القُرّادُ من شُغْله ، وانتفض المجلس عن أهله ، قمت وقد كساني الرّيب حُلَّته ، ووقفت لأرى صورتَه ، فإذا أبو الفتح الإسكندري ، فقلت : ما هذه الدناءة ؟ ويحك فقال : مجزوء الكامل :
الذنبُ للأيام لا لِي . . . فاعْتِبْ على صَرْفِ اللَّيالِي
بالحُمْقِ أدركْتُ المُنَى . . . ورَفَلْتُ في ثَوْبِ الجمالِ ومن إنشائه في هذا الباب أيضاً : حدثنا عيسى بن هشام قال : كنت بأصفهان أعتَزِم المسيرَ إلى الرَّي ، فحللتها حلولَ الفَيّ ، أتوقَّع الثقْلَة كل لَمْحة ، وأترقِّب الرَّحْلة كلّ صَبْحَة ؛ فلما حُمَّ ما توقعته ، وأزِف ما ترقَّبته ، نُودي للصلاة نداءً سمعتُه ، وتعين فَرضُ الإجابة ؛ فانسَلَلْتُ من بين الصحابة ، أغتنم الجماعة أُدْرِكها ، وأخشى فواتَ القافلة أتركها ، لكني استعنْتُ ببركة الصلاة ، على وَعْثَاء الفَلاة ؛ فصِرْتُ إلى أول الصفوف ، ومَثَلْتُ للوقوف ، وتقدم الإمام للمِحْرَاب ، وقرأ فاتحةَ الكتاب ، وثنى بالأحزاب ، بقراءة حمزة ، مدّةً وهمزة ، وأتبع الفاتحة بالواقعة ، وأنا أتصلَّى بنار الصبر وأتصلَّب ، وأتقلى على جمر الغيظ وأتقلَّب ، وليس إلا السكوت والصبر ، أو الكلامُ والقبر ، لِمَا عرفت من خشونة القوم في ذلك المقام ، أن لو قطعتُ الصلاة دون السلام ، فوقفتُ بقَدَم الضرورةعلى تلك الصورة ، إلى انتهاء السورة ، وقد قَنِطْت من القافلة ، ويَئِسْتُ من الراحلة ، ثم حنى قَوْسَه للركوع ، بنوعٍ من الخشوع ، وضربٍ من الخضوع ، لم أَعْهَدْه قبل ذلك ، ثم رفع رأسه ويدَه ، وقال : سَمِع الله لمن حمده ، وقام ، حتى ما شكَكْتُ أنه نام ، ثم أكَبَّ لوجهه ، فرفعت رأسي أَنتهز فُرْصة ، فلم أَرَ بين الصفوف - فُرْجة ، فعُدْت للسجود ، حتى كبَّر للقعود ، وقام للركعة الثانية ، وقرأ الفاتحة والقارعةَ ، قراءةً استَوْفَى فيها عُمْرَ الساعة ، واسترق أرواح الجماعة ، فلمّا فرَغ من ركعتيه ، مال للتحية بأَخْدَعَيْه ، فقلت : قد قَرُب الفرج ، وآن المخرج ، فقام رجل فقال : مَنْ كان منكم يحبُّ الصحابة والجماعة ، فليُعِرْني سَمْعه ساعة .
قال عيسى بن هشام : فلزِمْتُ أَرضي ، صيانةً لعرضي ، فقال : حقيق عليَّ ألا أقولَ على الله إلا الحق ، قد جئتُكم ببشارة من نبيّكم ، لكني لا أُؤَدِّيها حتى يطهِّرَ الله هذا المسجد من نَذْلٍ جحد نبوّته ، وعَادَى أُمَته .
قال عيسى بن هشام : فرَبطني بالقيود ، وشدَّني بالحبال السُّود ، ثم قال : رأيتُه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، في المنام كالشمس تحت الغمام ، والبدر ليلة التمام ، يسيرُ والنجمُ يَتْبَعه ، ويسحبُ الذيْل والملائكة تَرْفَعُه ، ثم علّمني دعاءً ، وأوصاني أن أُعلِّم ذلك أمَّتَه ، وقد كتبتُه في هذه الأوراق بخَلوقٍ ومسك ، وزعفران وسُكّ ؛ فمن استوهَبَه مني وهَبْتُه ، ومن أعطَى ثمنَ القِرْطَاس أخذته .
قال عيسى بن هشام : فاثثالَتْ عليه الدراهم ، حتى حيَّرَته ؛ ونظرت فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندري ، فقلت : كيف اهتديت إلى هذه الحيلة ؟ ومتى اندرجت في هذه القبيلة ؟ فأنشأ يقول : المجتث :
الناسُ حُمْرٌ فجَوِّزْ . . . وابْرُزْ عليهمِ وبَرِّزْ
حتى إذا نِلْتَ منهُمْ . . . ما تشتهيه ففزوِزْ
جارية تبذّ كبار الشعراء
وصفت لعبد الملك بن مروان جارية لرجل من الأنصار ذات أدب وجمال ، فساومه في ابتياعها ، فامتنع وامتنعت ، وقالت : لا أحتاجُ للخلافة ولا أرغبُ في الخليفة ، والذيأنا في ملكه أحبُّ إليّ من الأرض ومَنْ فيها . فبلغ ذلك عبد الملك فأغراه بها ؛ فأَضعف الثمن لصاحبها وأَخذها قَسْراً ، فما أعجب بشيء إعجابه بها ، فلمّا وصلت إليه ، وصارت في يديه ، أمرها بلزوم مجْلِسه ، والقيامِ على رأسه ؛ فبينما هي عنده ، ومعه ابْنَاهُ الوليد وسليمان ، قد أَخلاهما للمذاكرة ، فأقبل عليهما فقال : أيُّ بيت قالته العرب أمدح ؟ فقال الوليد : قول جرير فيك : الوافر :
أَلسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا . . . وأَندَى العالمينَ بُطُونَ راحِ ؟
وقال سليمان : بل قول الأخطل : البسيط :
شُمْسُ العَداوةِ حتى يُستقادَ لهمْ . . . وأَعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا
فقالت الجارية : بل أمدح بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت : الكامل :
يُغْشَوْنَ حتى ما تَهِرَّ كلابُهُمْ . . . لا يَسْألون عن السَّوادِ المُقْبِلِ
فأطرق ، ثم قال : أي بيت قالته العرب أرق ؟ فقال الوليد : قولُ جرير : البسيط :
إنّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ . . . قَتلْنَنَا ثم لم يُحْيينَ قَتْلاَنا
فقال سليمان : بل قولُ عمر بن أبي ربيعة : الخفيف :
حَبَذَا رَجْعُها يَدَيْهَا إليها . . . من يَدَيْ دِرْعها تَحُلُّ الإزَارا فقالت الجارية : بل بيت يقوله حسان : الخفيف :
لو يَدب الحولي من ولد الذ . . . رّ عليها لأنْدَبَتْها الكُلومُ
فأطرق ، ثم قال : أي بيت قالته العرب أشجع ؟ فقال الوليد : قول عنترة : الكامل :
إذْ يَتَّقونَ بيَ الأَسِنَةَ لم أَخِمْ . . . عنها ، ولو أنِّي تَضَايَقَ مَقْدَميفقال سليمان : بل قوله الكامل :
وأنا المنيَّةُ في المواطن كلِّها . . . فالموتُ مني سابق الآجالِ
فقالت الجارية : بل بيت يقوله كعب بن مالك : الكامل :
نَصِلُ السيوف إذا قَصُرْنَ بِخَطْوِنا . . . قُدُماً ونلحقها إذا لم تلحقِ
فقال عبد الملك : أحسنْت ، وما نرى شيئاً في الإحسان إليك أبْلَغ من رَدِّك إلى أهلك . فأجمل كسْوَتها ، وأحسن صِلَتَها ، وردها إلى أهلها .
ومثل قول كعب بن مالك قول نَهْشَل بن حَرِّيّ : البسيط :
إنّا بني نَهْشَل لا ندَّعي لأبٍ . . . عنهُ ، ولا هو بالأبناء يَشْرينا
إن تُبْتَدرْ غاية يوماً لِمَكْرُمَةٍ . . . تَلْقَ السوابقَ منّا والمُصَلَينا
إنا لَمِنْ مَعْشَرٍ أَفنَى أوائِلَهمْ . . . قولُ الكماةِ : ألا أين المحامونا ؟
لو كان في الألف منا واحدٌ فدَعَوا : . . . مَنْ فارسٌ ؟ خالَهمْ إياهُ يَعْنُونا
إذا الكُماة تأبّوا أن ينالهمُ . . . حدُّ السيوفِ وصلْناها بأيدينا
إنما أردت هذا البيت .
وقولُه :
لو كان في الألف منا واحد
أخذه من قول طَرَفَة بن العبد : الطويل :
إذا القوم قالوا مَنْ فَتىً ؟ خِلْتُ أنني . . . عُنِيتُ فلم أكْسَلْ ولم أتبلّدِترجمة نَهْشَل بن حَرِّيٍّ
وكان نهشل شاعم ظريفاً ، وهو نَهشَل بن حَرِّيّ بن ضَمْرَة بن جابر بن قَطَن بن نهشَلْ بن دارم ، وكان اسم جده ضمرةَ هذا : شِقّةَ ، ورد على النعمان بن المنذر فقال : من أنت ؟ فقال : أنا شِقّة ، وكان قضيفاً نحيفاً دميماً ، فقال له النعمان : تَسْمَعُ بالمعيديّ لا أن تراه ، والمُعَيْدِي : تصغير المعدِّيِّ ، فذهبت مثلاً ، فقال : أبيتَ اللعنَ إن الرجال لا تُكال بالقُفزان ، وليست بمُسُوك يسْتَقَى بها من الغُدرَان ، وإنما المرءُ بأصغَرَيْه قلبه ولسانه إذا نطق نطق ببيان ، وإذا قَاتلَ قاتل بجَنانٍ ، فقال : أنت ضَمْرة ونهْشَل هو الْقائل : الطويل :
ويومٍ كأنَّ المُصْطَلِين بِحَرِّهِ . . . وإن لم يكن جَمْرٌ قيامٌ على الجَمْرِ
أقمْنا به حتى تجلّى ، وإنما . . . تُفَرَّجُ أيامُ الكريهةِ بالصَّبْرِ
أمدح بيت
وكان عبدُ الملك يقول : يا بني أمية ، أحسابُكم أعراضُكم ، لا تعرضوها على الجهال ، فإنّ الذمَّ باقٍ ما بقيَ الدهر ؛ والله ما سرَّني أني هُجِيت ببيت الأعشى ، وأن لي طلاَعَ الأرض ذَهَباً ، وهو قوله في عَلقمة بن عُلاَثة : الطويل :
يبيتون في المشْتَى مِلاءً بطونهم . . . وجاراتُهُمْ غَرْثى يَبِتْنَ خمائصا
والله ما يُبَالي مَن مُدِحَ بهذين البيتين ألا يُمْدَحَ بغيرهما ، وهما قول زهير : الطويل :
هنالك إن يُسْتَخبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا . . . وإن يُسْألوا يُعْطُوا وإن يَيْسِروا يُغْلُواعلى مُكْثِريهمْ حقُّ مَنْ يَعْتَريهمُ . . . وعند المُقلِّينَ السماحةُ والبَذْلُ
وقال ابنُ الأعرابي : أمدحُ بيتٍ قاله المحدثُونَ قولُ أبي نواس : الطويل :
أخذْتُ بحَبْلٍ من حبال محمدٍ . . . أمِنْتُ به من طارقِ الحَدَثانِ
تغطَّيتُ من دهري بظلِّ جناحه . . . فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تُسْأَل الأيامُ عني ما دَرَتْ . . . وأين مكاني ما عَرَفْنَ مكاني وهذا كقول - أعرابي ، ذكر بعضُ الرواة أنّ مالك بن طَوْق كان جالساً في بَهْوٍ مطلّ على رحبته ومعه جلساؤه ، إذ أقبل أعرابي تخُبّ به ناقتُه ، فقال : إياي أراد ، ونحوي قصد ، ولعل عنده أدباً يُنتفع به . فأمر حاجبه بإدخاله ، فلمّا مثل بين يديه قال : ما أقدمك يا أعرابي ؟ قال : الأمل في سَيْب الأمير والوجاء لنائله . قال : فهل قدّمت أمام رغبتك وْسيلة ؟ قال : نعم ، أربعة أبيات قلتها بظهر البرية ، فلمّا رأيت ما بباب الأمير من الأبهة والجلالة استصغرتها ، قال : فهل لك أن تنشدنا أبياتك ؟ ولك أربعة آلاف درهم ، فإن كانت أبياتُك أحسن فقد ربحنا عليك ، وإلاّ قد نلْتَ مرادك وربحْتَ علينا ، قال : قد رضيت ، فأنشده : الطويل :
ومازلتُ أخشى الدهر حتى تعلّقت . . . يداي بمن لا يَتَّقِي الدهْرَ صاحبُهْ
فلمّا رآني الدهر تحت جناحه . . . رأى مُرْتَقًى صعباً منيعاً مطالبُهْ
وأني بحيث النجمُ في رأس باذخٍ . . . تُظِلُّ الورى أكنافُه وجوانبُهْ
فتى كسماءِ الغيث والناسُ حولَه . . . إذا أجدبوا جادتْ عليهم سحائبُهْ
قال : قد ظفرنا بك يا أعرابي ، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم . قال : فإن لي صاحباً شاركته فيها ما أراه يرضى بيعي ، قال : أتراك حدَّثت نفسك بالنكث ؟ قال : نعم ، وجدتُ النكث في البيع أيسرَ من خيانة الشريك ، فأمر له بها .
أنصف بيت وأصدق بيت
وأنصف بيتٍ قالته العربُ قولُ حسان بن ثابت لأبي سفيان بن الحارث في جوابهعمّا هجا به رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وروى محمد بن عمار عن أبيه قال : أنشد النبيَّ حسانُ بن ثابت قوله : الوافر :
هَجَوْتَ محمداً ، فأجبتُ عنه . . . وعند الله في ذاك الجزاءُ
فقال النبيّ عليه السلام : جزاؤك الجنة يا حسَّان .
فلما انتهى إلى قوله :
فإنّ أبي ووالده وعرضي . . . لعِرْضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ
قال النبيّ عليه السلام : وقاك الله حَرَّ النار .
فلمّا قال :
أتهْجُوهُ ولستَ له بِكُفْءٍ . . . فشرُّ كما لخيركما الفداءُ
قال مَنْ حضر : هذا أنصفُ بيت قالته العرب .
وأصْدَقُ بيت قالته العرب وأمدحُه قولُ كعب بن زهير في رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) : البسيط :
تحمله الناقة الأدماء مُعْتَجِراً . . . بالبُرْدِ كالبدر جلًّى ليلة الظّلَمِ
وفي عِطَافَيْهِ أو أثناء بردته . . . ما يعلم الله من دين ومن كرم
وقال الأصمعي : والجهال يروون هذا البيت لأبي دهبل ، واسمه وهبُ بن ربيعة ، في عبد الله بن عبد الرحمن الأزرق والي اليمامة ، والصواب ما ذكرناه ، وهو بصفات النبيّ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعْلَق ، وبمدحه أليق .
ألفاظ لأهل العصر في ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
سليل أكرم نَبْعة ، وقريع أشرف بقعة . جاب بأمّته الظلمات إلى النور ، وأفاء عليهم بالظل بعد الحَرور . وهو خيرَةُ الله من خلقه ، وحجّته في أرضه . الهادي إلى حقه ، والمُنْبه على حكمه . والداعي إلى رُشدِه ، والآخذُ بفرضه . مباركٌ مولده ، سعيدةٌ غرّته ،قاطعةٌ حجَّتُه ، ساميةٌ درجتُه ، ساطع صباحُه ، متوفد مصباحُه ، مُظَفْرةٌ حروبُه ، مُيَسَّرة خطوبُه ، قد أفردَ بالزعامة وحده ، وخُتِمَ بأن لا نبيَّ بعده . يُفصَح بشِعَاره على المنابر ، وبالصلاة عليه في المحاضر ، وتعمر بذكره صدورُ المساجد ، وتستوي في الانقياد له حالة المقر والجاحد . آخر الأنبياء في الدنيا عمراً ، وأولهم يوم القيامة ذكراً ، وأرجحهم عند الله ميزاناً ، وأوضحهم حجَّة وبرهاناً . صدعَ بالرسالة ، وبلغ بالدلالة ، ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم . أرسله الله قمراً للإسلام منيراً ، وقدراً على أهل الضلال مبيراً . ( صلى الله عليه وسلم ) . خير من افتتحت بذكره الدعوات ، واستنجحت بالصلاة عليه الطلبات . خير مبعوث ، وأفضل وارث وموروث . وخير مولود ، دعا إلى خير معبود . صلى الله على كاشف الغمّة عن الأمّة . الناطق فيهم بالحكمة ، الصادع بالحق ، الداعي إلى الصدق ، الذي ملك هَوَاديَ الهدى ، ودلَّ على ما هو خيرٌ وأبقى صلى الله عليه بشير الرحمة والثواب ، ونذير السطوة والعِقاب . صلى الله على أتمِّ بريّته خيراً وفضلاً ، وأطيَبهم فرعاً وأصلاً ، وأكرمهم عوداً ونجاراً ، وأعلاهم منصباً وفخاراً ، وعلى أهله الذين عظمهم توقيراً ، وطهّرهم تطهيراً هم مقاليد السعادة ومفاتيحها ، ومعارجُ البركةِ ومصابيحها . أعلام الإسلام وأيمان الإيمان . الطيبون الأخيار ، الطاهرون الأبرار . الذين أذهب عنهم الأرجاس ، وجعل مودتهم واجبةً على الناسِ . هم حَبْل الهدى وشجرة الإيمان ، أصلها نبوَّة ، وفرعها مروَّة ، وأغصانها تنزيل ، ورقاتُها تأويل ، وخَدَمُهَا ميكال وجبريل .
ولبديع الزمان إلى بعض الأشراف في درج كلام تقدَّم : إن جعلنا نَعُدُّ فخاركم ، ونحُدُّ آثاركم ، نفد الحصى قبل نفودِها ، وفنِيت الخواطرُ ، قبل أن تفنى المآثر ، ولم لا ؟ وإن ذُكِر الشرف فأنتم بنو بَجْدته ، أو العلم فأنتم عاقدو إزرته . أو الدين فأنتم ساكنو بلدته ، أو الجود فأنتم لابسو جلدته ، أو التواضع صبرتم لشدَّته ، أو الرأي صُلْتُم بحدّته ، وإنَ بيتاً تولى الله عز وجلّ بناءه ، ومهّدَ الرسولُ عليه السلام فناءه ، وأقام الوصيُّ رضوان الله عليه عماَده ، وخدم جبريلُ عليه السلام أهله ، لحقيق أن يُصانَ عن مدح لسانٍ قصير .
وذكر النبيَّ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعرابيٌّ فقال : بأبي وأمي رسول ربّ العالمين ، ختمت به الدنيا ، وفتحت به الآخرة ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، به يَبدأ الذكرُ الجميلُ ويختم .
إلى هذا المكان أمسكت العنان . والإطنابُ في هذا الكتاب يعظم ويتسع ، بليتّصل ولا ينقطع ؛ إذ كان غرضي فيه أن ألمح المعنى من معانيه ، ثم أنجرّ معه حيث انجرَّ ، وأمرّ فيه كيف مرَّ ، وآخذ في معنى آخر غير موصول بشكله ، ولا مقرون بمثله ، وقد أخلّ نظاماً ، وأفرد تؤاماً ، نَشْراً لبساط الانبساط ، ورغبة في استدعاء النشاط . وهذا التصنيف لا تُدرك غايتُه ، ولا تبلغ نهايته ، إذ المعاني غير محصورة بعدد ، ولا مقصورة إلى أمد . وقد أبرزتُ في الصدر ، صفحةَ العُذْر ، يجولُ فرِندُها ، ويثقبُ زندها ، وذلك أني ما ادَّعيتُ فيما أتيتُ إلا ما لا يكون ما تركته أفضل ممّا أدركتُه ، وأني لم أسلك مذهباً مخترعاً لم أسبَق إليه ، ولا قصدت غرضاً مبتدعاً لم أغلَبْ عليه ، ومن ركب مطيّة الاعتذار ، واجتنب خطيّة الإصرار ، فقد خرج من تَبِعة التقصير ، وبرئ من عهدة المعاذير .
وأمّا بعد ، فإن أحق من احتكِم إليه واقتصر عليه الاعترافُ بفضل الإنصاف ، وليعلم من يُنْصِف أنّ الاختيارَ ليس يعلم ضرورة ، ولا يوقَف له على صورة ، فيكثر الإغماض ، ويقلّ الاعتراض ، ويعلم أنَّ ما لا يقع بهواه ، قد يختاره سواه ، وكل يَعمل اقتدارَه ، ويحسن اختياره ، فلو وقع الاجتماع على ما يُرضي ويُسْخِط ، ويثبَتُ ويسقَط ، لارتفع حجاجُ المختلفين ، في أمر الدنيا والدين .
وقال المتنبي : البسيط :
تَخالَفَ الناسُ حتى لا اتّفاقَ لهمْ . . . إلاَّ على شَجَبٍ والخُلْفُ في الشَجَبِ
فقيل : تَخْلُصُ نَفْسُ المرءِ سالمةً . . . وقيل : تَشْرَكُ جِسْمَ المرء في العَطَبِ الشجب : الموت ، وهي لفظة معروفة ، وإن كانت غير مألوفة عند أهل النقد . وقد أنكرها البحتري على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في مجاذبته إياه حيث يقول : الخفيف :
وَلَوَ أنَ الحكيم وازنَ في ال . . . لَفْظِ واختارَ لم يُقَلْ شَجَبُهْ
وكان أبو الطيب نظر إلى ما رواه أبو ظبيان ، قال : اجتمع نفرٌ من أهل الكلام على رجل من الملحدين ، فجعلوا لا يأتون بمسألة إلا سألهم الدليلَ عليهم ، وناقضهم فيها ، فأعياهم كثرةُ ما يقول ويقولون ، فقال بعضهم : أمّا بعد ، فإن الموت لا شكَّ فيه ، فقال الملحد : ما رأيتُ خاطباً وواعظاً وشاهداً لا يُردّ أوجز منه ، وقلّما ترى معنًى إلا وهو يدَافع أو يناقَض ، ويُحَارُ به عن سواءِ المحجّة . وقيل : من طلب عيباً وجده . قال أبو عمرو بنسعيد القُطْرُبلي : ليس من بيتٍ إلا وفيه لطاعنٍ مَطْعَن ، إلا قول الحطيئةُ : البسيط :
مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جوازيَهُ . . . لا يذهبُ العُرْفُ بين الله والناسِ
وقول طَرَفَةَ بن العبد : الطويل :
سَتُبْدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً . . . ويأتيكَ بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
وقول علي بن زيد : الطويل :
عن المرء لا تسَلْ وسَلْ عن قرينه . . . فكل قرينٍ بالمقارنِ مُقْتَدِ
وللعلم بذلك قال قتيبة بن مسلم لأبي عيّاش المنتوف ، وقد دخل عليه وبين يديه سلة زعفران : أنشدني بيتاً لا يصارف ولا يكذَّب وهي لك ، فأنشده ما ليس لطاعن فيه مطعن : الطويل :
فما حَمَلَتْ من ناقةٍ فوق كورها . . . أبر وأوفى ذمة من محمد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8