كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر
المؤلف : ابن أبي الأصبع

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
قال العبد الفقير إلى ربه، المستغفر من ذنبه، عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن أبي الإصبع عفا الله عنه: الحمد لله حمداً يستعذب الحامد مساغه، وصلى الله على من كانت أعظم آياته البلاغة وعلى آله وصحبه مازان حلى الكلام من صيغ له ومن صاغه.
وبعد، فإني رأيت ألقاب محاسن الكلام التي نعتت بالبديع قد انتهت إلى عدد منه أصول وفروع: فأصوله، ما أشار إليها ابن المعتز في بديعه وقدامة في نقده، لأنهما أول من عني بتأليف ذلك.
أما ابن المعتز فهو الذي سماه البديع، واقتصر في كتابه بهذه التسمية على خمسة أبواب، وهي: الاستعارة منفرداً بها،، على أن قدامة ذكر الاستعارة ولم يبوب عنها في المحاسن، وإنما جاء بها في ذكر المعاظلة من العيوب، وزعم أن المعاظلة ما استبشع من الاستعارة،، فاقتضى كلامه أن من الاستعارة قبيحاً وحسناً، فحسنها من المحاسن، وقبيحها من العيوب، ولم يذكرها في المحاسن، وابن المعتز ذكرها والتجنيس، والطباق متوارداً عن قدامة عليهما، ورد الأعجاز على الصدور منفرداً به، وختما بخامس عزا تسميته إلى الجاحظ، وهو المذهب الكلامي منفرداً به، وإن كان ما قبله من الأسماء الأربعة قد سبقت العرب إلى وضعها، وربما سبق ابن المعتز إلى نقلها وعدها.
وقال ابن المعتز في صدر كتابه: وما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين وأول من نسخه مني علي بن يحيى بن منصور المنجم، ثم قال بعد سياقه الأبواب الخمسة: ونحن الآن نذكر محاسن الكلام والشعر وإن كانت محاسنهما كثيرة لا ينبغي للعاقل العالم أن يدعي الإحاطة بها حتى يتبرأ من شرود بعضها عن علمه، وأحببنا بذلك أن نكثر فوائد كتابنا للمتأدبين ويعلم الناظر فيه أنا قد اقتصرنا بالبديع على الفنون الخمسة اختياراً من غير جهل بالطريقة، ولا ضيق في المعرفة، فمن أحب أن يقتدي بنا ويقتصر على تلك الخمسة بالبديع فليفعل، ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئاً إلى البديع وارتأى غير رأينا فله اختياره، وهذا حين ذكر الماسن ثم ذكر الالتفات، وقد توارد عليه هو وقدامة، وذكر اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه في بيت واحد أو جملة واحدة، وهذا الباب سماه قدامة التمام وسماه الحاتمي في الحلية التتميم. وهو مما توارد عليه قدامة، وابن المعتز، ثم ذكر من المحاسن الخروج من معنى إلى معنى، وهو الذي سماه الحاتمي الاستطراد، ناقلاً تسميته لا مخترعاً وهو من أفراد ابن المعتز، ثم ذكر تأكيد المدح بما يشبه الذم منفرداً به وذكر تجاهل العارف، وهو الذي سماه المتأخرون الإعنات والتشكيك وهذه التسمية غير مطابقة من كل وجه، والتشكيك باب مفرد بينه وبين تجاهل العارف فرق سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وهو من إفراد ابن المعتز، ثم ذكر الهزل الذي يراد به الجد منفرداً به، وذكر حسن التضمين منفرداً به، وذكر الكناية منفرداً بها، وذكر الإفراط في الصفة متوارداً عليها مع قدامة، وسماها قدامة المبالغة، وذكر التشبيه متوارداً هو وقدامة عليه، وذكر عتاب المرء نفسه منفرداً به، وذكر حسن الابتداءات، منفرداً به، وسماه من بعده براعة الاستهلال على اختلاف في شواهده، فهذه اثنا عشر باباً من المحاسن تضاف إلى أبواب البديع الخمسة فيصير بها ما اخترع ابن المعتز جميعه من ذلك سبعة عشر باباً.

وأما قدامة فضمن كتابه الموسوم بنقد الشعر عشرين باباً، وهي: التشبيه والتمام، والمبالغة، والطباق، الجناس متوارداً هو وابن المعتز عليهن جميعاً، وبقية العشرين مما انفرد به قدامة، وهي: التكافؤ، وإن كان هذا الباب تداخل على قدامة في باب الطباق، وسأبين ذلك في موضعه، وصحة الأقسام، وصحة المقابلات، وصحة التفسير، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وهو باب فرع منه قدامة ستة أبواب، وهي المساواة، والإشارة، والإرداف، والتمثيل، ثم فرع من باب ائتلاف اللفظ مع المعنى أيضاً: الطباق، والجناس، وقد مضى ذكر توارده مع ابن المعتز عليهما، وذكر ائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى مع الوزن، وقد جعل المتأخرون هذين البابين باباً واحداً، وسموه والتهذيب والتأديب. لكن قدامة خص بهما الشعر، ومن سماهما تهذيباً وتأديباً لا يخص بهما الشعر دون النثر، ولا النثر دون الشعر، بشرط أن يعم بالتسمية فيقول: ائتلاف اللفظ مع المعنى مطلقاً، من غير أن يذكر الوزن وائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت وقد سماه من بعده التمكين وخص به الشعر أيضاً وهو لا يخصه وفرع قدامة من هذا الباب بأبي التوشيح والإيغال فهذه ثلاثة عشر باباً صحت لقدامة منفرداً بها، بعد إسقاط ما تداخل عليه، وهو التكافؤ، وإذا أضيفت إلى ما قدمه ابن المعتز من البديع وأضافه إليه من المحاسن صارت عدة الأصول من كتابيهما بعد حذف ما تواردا عليه ثلاثين باباً سليمة من التداخل، وهذه أصول ما ساقه الناس في كتبهم من البديع إلى هلم جرا، ثم اقتدى الناس بابن المعتز في قوله: فمن أحب أن يضيف شيئاً من هذه المحاسن أو غيرها إلى البديع فليفعل فأضاف الناس المحاسن إلى البديع، وفرعوا من الجميع أبواباً أخرى، وركبوا منها تراكيب شتى، واستنبطوا غيرها بالاستقراء من الكلام والشعر حتى كثرت الفوائد، ورأوا ابن المعتز قد غلب اسم البديع على اسم المحاسن فسمى كتابه البديع وهو جامع لهما معاً فاقتدوا به، لأنه المخترع الأول للتصنيف، فسمى كل من وضع كتاباً في ذلك باسم إما مصرح بالبديع أو راجع معناه إليه، وكذلك فعل كل من عرف نوعاً منه عند سؤاله عنه، فإنه يقول: هذا الضرب الفلاني من البديع إلا من ألف في مجموع البلاغة، أو تعرف كنه الفصاحة، أو في النقد كتاباً، فإن له أن يسميه ما شاء، ولقد وقفت من هذا العلم على أربعين كتاباً منها ما هو منفرد به، وما هذا العلم أو بعضه داخل في بعضه كنقدي قدامة وبديع ابن المعتز، وحلية المحاضرة وكشفت عن الحالي والعاطل الذي ذكره الحاتمي في الحلية فلم أجد من يعترف بوقوفه عليه سوى ابن منقذ في بديعه، وكالصناعتين للعسكري، والعمدة لابن رشيق، وتزييف نقد قدامة له، ورسالة ابن بشر الآمدي التي رد بها على قدامة، وكشف الظلامة للموفق البغدادي، والنكت في الإعجاز للرماني، والجامع الكبير في التفسير له، والتعريف والإعلام للسهيلي، ودرة التنزيل وغرة التأويل للخطيب. وأعجاز القرآن للبالقداني، والكشاف للزمخشري، وإعجاز الجرجاني المسمى بدلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة له، ونظم القرآن للجاحظ، والبيان والتبيين له، وإعجاز ابن الخطيب، ورسالة الصولي التي قدمها على شعر أبي نواس، ورسالته في أخبار أبي تمام، ورسالة ابن أفلح، وشروح أبي العلاء الثلاثة، وهي: ذكرى حبيب، وعبث الوليد، ومعجز أحمد، والمنصف لابن وكيع، والموازنة، للآمدي، والوساطة للجرجاني، والغرر والدرر للمرتضى، وكتاب الصرفة له، والمجاز لأخيه الرضى، وشرح حديث أم زرع للقاضي عياض رحمه الله وما لخصه في آخره من بديع الحديث، والحديقة للحجاري براء مهملة صاحب المسهب في أخبار أهل المغرب، وبديع التبريزي، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي والمثل السائر لابن الأثير الجزري، والإقناع للصاحب ابن عباد، وبديع أبي إسحاق الأجدابي، وبديع شرف الدين التيفاشي، وهو آخر من ألف فيه تأليفاً في غالب ظني، وجمع ما لم يجمعه غيره لولا مواضع نقلها كما وجدها ولم ينعم النظر فيها، وبعض الأبواب التي تداخلت عليه. وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد العظيم، والجمع من أشتات الخطإ وأنواعه من التوارد والتداخل، وضم غير البديع والمحاسن إلى البديع، كأنواع من العيوب، وأصناف من السرقات، ومخالفة الشواهد للتراجم، وفنون من الزلل والخلل يعرف صحتها من وقف على كتابه

وأنعم النظر فيه، لا جرم أني لم أعتد بكتابه في عدة ما وقفت عليه من ذلك، وإن كنت قلما رأيت منها كتاباً خلا عن موضع نقد، بحسب منزلة واضعه من العلم والدراية، فمن قليل ومن كثير، وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا من عصمة الله من أنبيائه، صلوات الله عليهم وسلامه والسعيد من عدت سقاطته، " وما أبرئ نفسي " ولا أدعي سلامة وضعي دون أبناء جنسي، غير أني توخيت تحرير ما جمعته من هذه الكتب جهدي، ودققت النظر حسب طاقتي، فتحرست من التوارد، وتجنبت التداخل، ونقحت ما يجب تنقيحه، وصححت ما قدرت على تصحيحه، ووضعت كل شاهد في موضعه، وربما أبقيت اسم الباب وغيرت مسماه إذ رأيت اسمه لا يدل على معناه، إلى أن جمعت جميع ما في هذه الكتب من الأبواب على ما قدمت من الشرائط، فكان ما جمعته من ذلك ستين باباً فروعاً بعد ما قدمته من الأصول، وهي: الاحتراس، والمواربة براء مهملة، والترديد، والتعطف، والتفويف، والتسهيم، والتورية، والتوشيح، والاستخدام، والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والمماثلة، والتجزئة، والتسجيع، والترصيع، والتصريع، والتشطير، والتعليل، والتطريز، والتوشيح، والاشتراك، والتلفيف، والعكس، والإغراق، والغلو، والقسم، والاستثناء والاستدراك، وجمع المختلفة والمؤتلفة، والتوهيم، والاستطراد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، والتكرار، ونفي الشيء بإيجابه، والإيداع، والاستعانة والموازنة بزاي معجمة، والتذييل، والمشاكلة، والمواردة، والتهذيب، وحسن النسق، وبراعة التخلص، والانسجام، والحل، والعقد، والتعليق، والإدماج والازدواج، والاتساع، والمجاز، والإيجاز، وسلامة الاختراع من الاتباع، وحسن الإتباع، وحسن البيان، والتوليد، والتنكيت، والاتفاق، والإغراب، والطرفة.وأنعم النظر فيه، لا جرم أني لم أعتد بكتابه في عدة ما وقفت عليه من ذلك، وإن كنت قلما رأيت منها كتاباً خلا عن موضع نقد، بحسب منزلة واضعه من العلم والدراية، فمن قليل ومن كثير، وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا من عصمة الله من أنبيائه، صلوات الله عليهم وسلامه والسعيد من عدت سقاطته، " وما أبرئ نفسي " ولا أدعي سلامة وضعي دون أبناء جنسي، غير أني توخيت تحرير ما جمعته من هذه الكتب جهدي، ودققت النظر حسب طاقتي، فتحرست من التوارد، وتجنبت التداخل، ونقحت ما يجب تنقيحه، وصححت ما قدرت على تصحيحه، ووضعت كل شاهد في موضعه، وربما أبقيت اسم الباب وغيرت مسماه إذ رأيت اسمه لا يدل على معناه، إلى أن جمعت جميع ما في هذه الكتب من الأبواب على ما قدمت من الشرائط، فكان ما جمعته من ذلك ستين باباً فروعاً بعد ما قدمته من الأصول، وهي: الاحتراس، والمواربة براء مهملة، والترديد، والتعطف، والتفويف، والتسهيم، والتورية، والتوشيح، والاستخدام، والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والمماثلة، والتجزئة، والتسجيع، والترصيع، والتصريع، والتشطير، والتعليل، والتطريز، والتوشيح، والاشتراك، والتلفيف، والعكس، والإغراق، والغلو، والقسم، والاستثناء والاستدراك، وجمع المختلفة والمؤتلفة، والتوهيم، والاستطراد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، والتكرار، ونفي الشيء بإيجابه، والإيداع، والاستعانة والموازنة بزاي معجمة، والتذييل، والمشاكلة، والمواردة، والتهذيب، وحسن النسق، وبراعة التخلص، والانسجام، والحل، والعقد، والتعليق، والإدماج والازدواج، والاتساع، والمجاز، والإيجاز، وسلامة الاختراع من الاتباع، وحسن الإتباع، وحسن البيان، والتوليد، والتنكيت، والاتفاق، والإغراب، والطرفة.

وأضفت هذه الأبواب الفروع إلى تلك الثلاثين الأصول فصارت الفذلكة تسعين باباً، ورأيت الأجدابي قد ذكر من محاسن القافية أربعة أبواب منها بابان هما باب واحد سماهما بتسميتين غير مطابقتين لمعناهما، فجعلتهما باباً واحداً على حكم ما أخذت به نفسي من حذف المتداخل، وسميته الالتزام وعند ذكر شواهده يعلم مطابقة تسميته لمسماه، وبابان معناهما حسن سمي أحدهما بتسمية أيضاً غير لائقة، فسميته تشابه الأطراف وسنبين حسن هذه التسمية. وباب أيضاً سماه بما لا يوافق، فسميته التوأم فسلمت له ثلاثة أبواب عوضت بها ما تداخل في باب التهذيب من ائتلاف اللفظ مع الوزن، والمعنى مع الوزن، وما تداخل في باب التمكين من ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت لتصح العدة على شرط السلامة تسعين باباً كلها من المحاسن ليس فيها شيء من ضروب العيوب، وهي عند من لا يجعل التهذيب باباً واحداً، وليس ذلك بممتنع، ثلاثة وتسعون باباً ولما أمرني من لا محيد لي عن أمره، ولا محيص عن رسمه، سيد الفضلاء وقدوة البلغاء، وملجأ الأدباء، ومحط رحال الغرباء، وإمام الكرماء، القاضي الأجل الفاضل شرف الدين أبي الحسن بن القاضي الأجل الفقيه الإمام الورع العدل الرضي جلال الدين المكرم أبي الحسن موسى بن الحسن بن سناء الملك: كامل
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عموداً
أمتعه الله بفضائله، كما أمتع الفضلاء بفواضله، ورحم سلفه، كما رحم به من عرفه، بجمع ما في كتب الناس من ذلك على سبيل الاختصار من الشواهد، وتجنب الإطالة بذكر كل الاشتقاق، إلا إيضاح مشكل، أو كشف غامض، أو زيادة بسط في الكلام، على أنه من كتاب الله تعالى، أو في بيت قد أهمل تقصي الكلام عليه، بادرت إلى امتثال أمره، واستخرت الله سبحانه وتعالى حالة الشروع في مرسومه، وسألته الإعانة على بلوغ غرضه، والهداية إلى ما يترجح عنده.
ولما أخذت في ذلك عن لي استنباط أبواب تزيد بها الفوائد، ويكثر بها الإمتاع، نسجاً على منوال من تقدمني، واتباعاً لسنة من سبقني، ففتح علي من ذلك بثلاثين باباً، سليمة من التداخل والتوارد، لم أسبق في غلبة ظني إلى شيء منها، اللهم إلا أن يوجد في زوايا الكتب التي لم أقف على شيء مما اخترعته، فأكون أنا ومن سبقني إليه متواردين عليه، وما أظن ذلك، والله أعلم.

ولما انتهى استخراجي إلى هذا العدد، أمسكت عن الفكر في ذلك ليكون ما أتيت به وفق عدد الأصول من هذا الشأن، وهذا أوان سياقة أبوابي التي استنبطتها، وضروبي التي استخرجتها؛ وهي: التخيير، والتدبيج، والتمزيج والاستقصاء، والبسط، والهجاء في معرض المدح، والعنوان، والإيضاح والفرائد، والحيدة والانتقال، والشماتة، والتهكم، والتندير، والإسجال بعد المغالطة، والإلغاز والتعمية، والتصرف، والنزاهة، والتسليم، والافتنان، والمراجعة، والسلب والإيجاب، والإبهام، والقول بالموجب، وحصر الجزئي وإلحاقه بالكلي، والمقارنة، والمناقضة، والانفصال، والإبداع، وحسن الخاتمة، وألحقت ذلك بما تقدم من الأبواب، فصارت عدة أبواب هذا الكتاب مائة باب وثلاثة وعشرين باباً سوى إذا انشعب من أبواب الائتلاف من الجناس والطباق، والتصدير، ووسمته بتحرير التحبير، وبعض هذه الأبواب وهو الأقل يخص الشعر، وباقيها وهو الأكثر يعم الشعر والنثر، يعلم ذلك من تبحر في هذا الكتاب، فالذي يخص الموزون منها ثلاثة وعشرون باباً مراعاة لاشتراك القرآن العزيز مع النثر ودخوله في بابه، ولانفراد الموزون عن المنثور من كلام المخلوقين فثلاثة عشر باباً لا غير، والله أعلم، وهي: المواربة براء مهملة، والتسميط، والتجزئة، والتسجيع، والترصيع، والتصريع، والتشطير، والتطريز، والعكس، والإغراق، والغلو، والاستدراك، والاطراد، والتفريع والإيداع، والاستعانة، والموازنة، والمشاكلة، والمواردة من الفروع، ومن الأصول الهزل الذي يراد به الجد، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى مع الوزن، وباقي الأبواب وهي مائة باب تعم الموزون والمنثور، وتوجد في الكتاب العزيز إلا الأقل لمن دقق النظر في الاستنباط والله سبحانه وتعالى المسئول في حسن التوفيق إلى التحقيق لنهتدي إلى سبيل الرشد ونهج الصواب وسعادة يرزق بها هذا التأليف حسن القبول من ذوي الألباب، إنه الكريم الوهاب، وهذا حين الشروع في تفصيل جملة الأبواب.

الجزء الاول
باب الاستعارة
حد الرماني الاستعارة بأن قال: هي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل.
وقال ابن المعتز: هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها وقال ابن الخطيب في إعجازه: الاستعارة ذكر الشيء باسم غيره وإثبات ما لغيره له للمبالغة في التشبيه. وقال أيضاً: الاستعارة جعل الشيءِ الشيءَ، أو جعل الشيء للشيء لأجل المبالغة في التشبيه.
وقلت: هي تسمية المرجوح الخفي باسم الراجح الجلي للمبالغة في التشبيه، كقول الله تعالى " وإنه في أم الكتاب " وكقوله سبحانه: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " وكقوله عز وجل: " واشتعل الرأس شيباً " .
ولا بد في الاستعارة من اعتبار ثلاثة أشياء أصول: مستعار، ومستعار منه، ومستعار له. فالمستعار في الآية الأخيرة: الاشتعال، والمستعار منه: النار، والمستعار له: الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النار لبياض الشيب، وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالتشبيه لما هو أظهر، وقد جاء الكلام في الاستعارة التي في الآية الأخيرة على غير وجهه، فإن وجه الكلام فيها أن يقال: واشتعل شيب الرأس، وإنما قلب لما يحصل في قلبه من المبالغة لكونه في حالة القلب يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس، ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم، ومثال ذلك أنك لو قلت في مثاله اشتعلت النار في البيت: لصدق هذا القول على اشتعال النار في جانب واحد من البيت دون بقية جوانبه، وإذا قلت: اشتعل البيت ناراً أفاد هذا القول أن النار قد شملت جميع نواحي البيت وجهاته، وعلى هذا فاعتبر الاستعارة لتعلم أنها على قسمين: قسم يجيء الكلام فيه على وجهه فلا يفيد سوى إظهار الخفي فقط، أو المبالغة فحسب، وقسم يأتي الكلام فيه على غير وجهه فيفيد المعنيين معاً، وأحسنها ما قرب منها دون ما بعد ولم يسمع سامع في الاستعارة كقوله تعالى " والصبح إذا تنفس " فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلاً قليلاً بينه وبين إخراج النفس مشابهة شديدة.

وأجل الاستعارات الاستعارة المرشحة كقوله تعالى: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم " فإن الاستعارة الأولى وهي لفظة الشراء رشحت الثانية وهي لفظتا الربح والتجارة للاستعارة. والله أعلم.
ومن أمثله الاستعارة في السنة النبوية قوله عليه السلام: " ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء " فاستعار صلى الله عليه وسلم للعشاء الفحمة لقصد حسن البيان، لأن الفحمة هاهنا أظهر للحس من الظلمة فإن الظلمة تدرك بحاسة البصر فقط والفحمة تدرك بحاستي البصر واللمس لأنها جسم والظلمة عرض فكان ذكرها أعني الفحمة أحسن بياناً من ذكر الظلمة.
ومن أمثلة الاستعارة الشعرية قول امرئ القيس: طويل
؟وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فإن هذا الشاعر استعار لظلمة الليل السدول المرخاة، لما بين المستعار والمستعار له من اجتماعهما في منع الأبصار من الإبصار، وفائدة هذه الاستعارة نقل الأخفى إلى الأظهر، لأن السدول يدرك بحاستي البصر واللمس، والظلمة تدرك بأحديهما دون الأخرى، ثم تمم بكونه جعل السدول مرخاة لأن ذكرها بدون هذا القيد لا يوفي بالمعنى الذي قصده من منع رؤية ما وراءها، لاحتمال أن تكون مرفوعة، وكذلك قصد في البيت الثاني بقوله تمطي بصلبه... البيت فإنه أراد وصف الليل بالطول فاستعار له صلباً يتمطى به، إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطيه شيء، وبالغ في طوله بأن جعل له أعجازاً يردف بعضها بعضاً، فهو كلما نفد عجز ردفه عجز، فلا تفني أعجازه، ولا تنتهي إلى طرف، كما قيل في قوله تعالى " لابثين فيها أحقاباً " قال قتادة: لا انقطاع لها، كلما مضى حقب جاء حقب بعده. وقال الحسن البصري: أما الأحقاب فليس لها عدد إلا الخلود، ثم أراد أن يصف الليل بعد نهاية الطول بالثقل على قلب ساهره، والضغط لمكابده، فاستعار له كلكلاً ينوء به، ولأجل هذه المعاني كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة والعدول إليها أولى لما تعطي من المعاني التي لا تحصل من لفظ الحقيقة.
والاستعارة منها كثيف، وهو استعارة الأسماء للأسماء. وكل ما مر من الأمثلة غير الآية الأخيرة فهو شاهد لها.
ولطيف، وهو استعارة الأفعال للأسماء كقول الله تعالى: " فما بكت عليهم السماء والأرض " وكقول أبي تمام بسيط
من كل ممكورة ذاب النعيم لها ... ذوب الغمام فمنهل ومنسكب
؟

باب التجنيس
حد الرماني التجنيس بأن قال: هو بيان المعاني بأنواع من الكلام يجمعها أصل واحد من اللغة، وجعله قسمين: جناس مزاوجة، وجناس مناسبة، فالمزاوجة كقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وكقول عمرو بن كلثوم وافر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والمناسبة كقوله سبحانه: " يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار " وأما قدامة وابن المعتز وإن اختلفا في تسمية هذا الباب فقد اتفقا على معناه، فقال قدامة في حده: هو اشتراك المعاني في ألفاظ متجانسة على جهة الاشتقاق كقول زهير: بسيط
كأن عيني وقد سال السليل بهم ... وعبرة ما همو لو أنهم أمم
وهذا الحد بعينه هو تجنيس المناسبة الذي ذكره الرماني، ولولا قول قدامة على جهة الاشتقاق لكان حده بعينه هو حد الرماني المطلق.
وقال ابن المعتز هو أن تجيء الكلمة مجانسة أختها كقول الله تعالى: " فأقم وجهك للدين القيم " وكقول النعمان بن بشير لمعاوية: طويل:
ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم
وهذا بعينه هو تجنيس المناسبة من جهة الاشتقاق ولم يخرج من جاء بعد هؤلاء عما حدوه به، لكنهم فرعوه ثمانية فروع، وعلى هذا التفريع أكثر المتأخرين سوى التبريزي، فإنه نقص من هذه الأقسام أربعة وأثبت أربعة، وخلط في الشواهد، وغير الأسماء، هذا وإن كان متأخراً عمن قسم التجنيس ثمانية أقسام، واخترع أسماءها، فإني لم أقف على صحة ذلك، ورأيت ابن منقذ قد أتى على الأقسام الثمانية، وفاته قسم تاسع أتى به التبريزي، وسنأتي به في موضعه.

فمن فروع التجنيس تجنيس التغاير، وهو أن تكون إحدى الكلمتين اسماً، والأخرى فعلاً، وهذا سماه التبريزي التجنيس المطلق، كقوله تعالى: " إني وجهت وجهي " وكقوله تعالى: " أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " وكقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " عصية عصت الله ورسوله " و " غفار غفر الله لها " و " أسلم سالمها الله " ، وكقول جرير وافر:
كأنك لم تسر ببلاد نجد ... ولم تنظر بناظرة الخياما
وقد فرع التبريزي من هذا القسم ضرباً سماه التجنيس المستوفي، وهو أن تتشابه الكلمتان لفظاً وخطاً، وإحداهما اسم والأخرى فعل، وأنشد فيه قول أبي تمام: كامل
ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله
وهذا الفرع وإن وضعت له تسمية تخالف تسميات الأقسام الثمانية، وكانت له صورة مثاله غير صور الأمثلة، فإنه داخل في القسم الذي إحدى كلمتيه اسم والأخرى فعل، فلذلك لم يعتد به قسماً مستقلاً.
وتجنيس التماثل، وهو أن يكون الكلمتان اسمين أو فعلين، وهو على ضربين: ضرب تتماثل فيه الكلمتان سواء كانتا اسمين أم فعلين في اللفظ والخط كقول الشاعر: خفيف:
عينه تقتل النفوس وفوه ... منه تحيى عين الحياة النفوسا
وضرب لا تتماثل فيه الكلمتان إلا من جهة الاشتقاق، سواء أكانتا اسمين أم فعلين، كقوله تعالى " فروح وريحان " وقوله سبحانه: " وجنى الجنتين دان " وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات " وكقوله عليه السلام: " أسلم تسلم " وكقول البحتري وافر:
نسيم الروض في ريح شمال ... وصوب المزن في راح شمول
وهذان التجنيسان أعني التغاير والتماثل فرعان من التجنيس الذي أصله قدامة وابن المعتز، وباقي الثمانية استخرجها المتأخرون بالاستقراء، وهي تجنيس التصحيف، ولم يذكره التبريزي في أقسام التجنيس، وجعل التصحيف باباً مفرداً، تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فارقاً بين الكلمتين كقوله تعالى: " وهم يحسبون أنهم يحسنون " وكقوله صلى الله عليه وسلم: " لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ويتحلى بما لا يغنيه " وكقول البحتري: طويل
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه
وتجنيس التحريف، وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين أو بعضهما، وهذا أيضاً لم يذكره التبريزي، ومثاله قوله سبحانه: " إن ربهم بهم " وقوله تعالى: " ولكنا كنا مرسلين " وأما قوله سبحانه: " ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " فهو الغاية التي لا تدرك وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات " وكقول أبي تمام: كامل
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم تبدل فيه الحركة بالحركة وقسم تبدل فيه الحركة بالسكون، وقسم يبدل فيه التخفيف بالتشديد، مثال الأول قول الشاعر:
جبة البرد جنة البرد
والبرد والبرد أردت.
ومثال الثاني قولهم: البدعة شرك الشرك.
ومثال الثالث قولهم: الجاهل إما مفرط وإما مفرط والآيات الثلاث من القسم الأول، والحديث من الثاني، والبيت من الأول أيضاً.
وتجنيس التصريف مما لم يذكره التبريزي أيضاً، وهو اختلاف صيغة الكلمتين بإبدال حرف من حرف إما من مخرجه أو من قريب منه، كقوله تعالى: " وهم ينهون عنه وينأون عنه " وكقول الرسول عليه السلام " الخيل معقود بنواصيها الخير " .
وكقول الشاعر: بسيط
لا يذكر الرمل إلا حن مغترب ... له بذي الرمل أوطار وأوطان
وتجنيس الترجيع، وهو الذي سماه التبريزي التجنيس الناقص، وسماه قوم تجنيس التذييل، وهو على الحقيقة الذي يوجد في إحدى كلمتيه حرف لا يوجد في الأخرى، وجميع حروف الأخرى موجود في الأولى، وقسم في وسطها وقسم في آخرها: مثال الأول قوله تعالى: " والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق " ومثال الثاني قولهم: من جد وجد، ومثال الثالث البيت الذي ذكر لأبي تمام وهو قوله: " يمدون من أيد " البيت.
وقد تكون الزيادة حرفين: فإما أن يقعا في أول الكلمة ويكونا متقاربين كقولهم: ليل دامس، وطريق طامس، وإما أن يقعا في وسطها كقولهم: ما خصصتني بل خسستني. أو آخر الكلمة ويكونا متباعدين كقولهم: سالب وساكب. أو متقاربين كقولهم: شاحب وشاغب.

ومن القسم الذي توسط في هذا الحرف الواحد قوله تعالى: " وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد " وقالوا: هو الذي يرجع فيه لفظ الكلمة الأولى في الكلمة الأخرى، كقول أبي تمام: طويل
يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب
وعندي أن تسميته تجنيس التداخل لدخول إحدى الكلمتين في الأخرى أو تجنيس التضمين لتضمن إحدى الكلمتين لفظ الأخرى أولى بالاشتقاق، إذ لا معنى لقولهم: يرجع لفظ إحدى الكلمتين في لفظ الأخرى لأن ظاهر الرجوع يؤذن بذهاب قبله ولا ذهاب، أو كما قالوا: تجنيس التذييل وتجنيس العكس، وهو مما لم يذكره التبريزي، وتعريفه أن تكون إحدى الكلمتين عكس الأخرى بتقديم بعض حروفها على بعض: كقوله تعالى: " أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " وكقول عبد الله بن رواحة يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسيط
تحمله الناقة الأدماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم
وفي عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن مكرم
وكقول البحتري: طويل
إذا احتربت يوماً فغاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
أخذ البحتري معنى البيت الأول من رجل من بني عقيل، وقصر حيث قال: وافر
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي
والبيت الثاني من بيتي البحتري أردت.
وتجنيس التركيب مما لم يذكره التبريزي، وهو أن تركب كلمة من كلمتين ليماثل بها كلمة مفردة في الهجاء واللفظ، وهو قسمان: قسم تتشابه الكلمتان فيه لفظاً وخطاً، وقسم يتشابهان فيه لفظاً لا خطاً. فالأول كقول القائل: مجزوء الكامل
يا من تدل بوجنة ... وأنامل من عندم
كفى جعلت لك الفدا ... ألحاظ عينك عن دمي
وكقول الآخر: متقارب
إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه
ومثال الثاني قول الشاعر: رمل مجزوء
كلكم قد أخذ الجا ... م ولا جام لنا
وما الذي ضر مدير ال ... جام لو جاملنا
والأبيات الأولى من القسم الأول، والأخرى من القسم الثاني.
فهذه أقسام التجنيس الثمانية.
وأما القسم الذي جعلته لها تاسعاً، وهو الذي ذكره التبريزي وسماه التجنيس المضاف، وأنشد فيه قول البحتري: وافر
أيا قمر التمام أعنت ظلماً ... على تطاول الليل التمام
فهو مع قطع النظر عن الإضافة من تجنيس التحريف، لكن هو قسم قائم بذاته، لاتصال المضاف بالمضاف إليه. والله أعلم.

باب الطباق
الطباق اللغوي الذي أخذ منه الصناعي هو قول العرب: طابق البعير في مشيه إذا وضع خف رجله موضع خف يده، وقد رد ابن الأثير على كل من ألف في الصناعة هذا الباب، وقال: إن الجمع من تسميتهم الضدين في هذا الباب خطأ محض، لأن أصل الاشتقاق يقتضي الموافقة لا المضادة، وهو أولى بالخطإ منهم، لأن القوم رأوا أن البعير قد جمع بين الرجل واليد في موطئ واحد، والرجل واليد ضدان، أو في معنى الضدين، فرأوا أن الكلام الذي قد جمع فيه بين الضدين يحسن أن يسمى مطابقاً لأن المتكلم به قد طابق فيه بني الضدين، وهو على ضربين: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتي بألفاظ المجاز، فما كان منه بلفظ الحقيقة سمي طباقاً، وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤاً، فمثال التكافؤ قول أبي الشغب العبسي من إنشادات قدامة كامل:
حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق
ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق: طويل
وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج
لما كان قوله " حلو " و " مر " خارجاً مخرج الاستعارة إذ ليس الإنسان ولا شمائله مما يذاق بحاسة الذوق، كان هذا تكافؤاً.
وكل أمثلة التكافؤ صالحة لأن تكون أمثلة لباب المقارنة من الأبواب التي استنبطتها، وستأتي في آخر الكتاب.
وأما الطباق الذي يأتي بألفاظ الحقيقة فقد قسموه إلى ثلاثة أقسام: طباق الإيجاب، وطباق السلب، وطباق الترديد.

فمثال طباق الإيجاب قوله تعالى " وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيى " ، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع " ، فانظروا إلى فضل هذه العبارة كيف أتت المناسبة التامة فيها ضمن المطابقة.
وكقول علي كرم الله وجهه: من رضي عن نفسه كثر من يسخط عليه، وكقول دعبل الخزاعي: كامل
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
وهذا البيت مع سهولة سبكه وخفة ألفاظه وكثرة الماء في جملته قد جمع بين لفظي التكافؤ والطباق معاً، لأن ضحك المشيب مجاز، وبكاء الشاعر حقيقة، وكقول الفرزدق وهو من إنشادات ابن المعتز: كامل
لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار
يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار
غير أن هذين البيتين من أفضل شعر سمعته في هذا الباب، لأنهما جمعا بين طباقي السلب والإيجاب، ووقع فيهما مع الطباق تكميل لم يقع مثله في باب التكميل، لأن هذا الشاعر لما وصف هؤلاء القوم بالضعف حيث قال: " لا يغدرون " وعلم أنه لو اقتصر على ذلك احتمل الكلام ضرباً من المدح، إذ تجنب الغدر قد يكون عن ضعف وعن عفة، أتى بصريح الهجاء ليدل بذلك على أنه أراد بكلامه الأول محض الهجاء، واقتضت الصناعة أن يأتي بذلك في لفظ ينتظم به وبما بعده طباق، فقال: " ولا يفون لجار " فتكمل الهجاء، إذ سلبهم الغدر والعجز والوفاء للؤم وحصل في البيت مع الطباق والتكميل الدالين على غاية الهجاء إيغال حسن، لأنه لو اقتصر على قوله " لا يغدرون ولا يفون " تم له القصد الذي أراده، وحصل المعنى الذي قصده، لكنه لما احتاج إلى القافية ليصير الكلام شعراً أفاد بها معنى زائداً حيث قال: " لجار " لأن الغدر بالجار أشد قبحاً من الغدر بغيره فإن قيل: لعنة الشاعر لهم في أول كلامه تدل على أنه أراد بقوله: " لا يغدرون " الهجاء فبطل، تأويله.
قلت: ظاهر الغدر القبح، وإنما يستحسن إذا أريد به وصف فاعله بالقدرة وهو من مذهب الجاهلية والشعر الإسلامي، فيحتمل منه لعنه لهم إذا حلمنا نفي الغدر عنهم على صفة المدح أنه أراد باللعنة المبالغة في استحسان ما وصفهم به، فإن من مذهب العرب ذلك، ألا تراهم كانوا يسمون نوادر الأشعار كالمعلقات وأمثالها المخازي والملاعن، لأن سامعها يقول: أخزاه الله ما أشعره، ولعنه الله ما أصدقه.
وطباق السلب، وهو أن يأتي المتكلم بجملتين أو كلمتين، إحداهما موجبة والأخرى منفية، وقد تكون الكلمتان منفيتين، وقد تقدم في شعر الفرزدق مثال ما وقع في الكلمتان منفيتين، وأما ما وقعت فيه إحدى الكلمتين منفية والأخرى موجبة فمثاله قول بشر بن هارون وقد ظهر منه فرح عند الموت، وقيل له: أتفرح بالموت؟ فقال: ليس قدومي على خالق أرجوه كمقامي مع مخلوق لا أرجوه، وقد نظم منصور الفقيه هذا المعنى فقال كامل:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأطنبوا ... في الموت ألف فضيلة لا توصف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
ومن أمثلة القسم الثاني من طباق السلب قول البحتري: طويل
يقيض لي من حيث لا أعلم الهوى ... ويسري إلى الشوق من حيث أعلم
وطباق الترديد، وهو أن يرد آخر الكلام المطابق على أوله، فإن لم يكن الكلام مطابقاً فهو رد الأعجاز على الصدور، ومثاله قول الأعشى بسيط
لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ويوهون ما رقعوا
وقد يقع في الطباق ما هو معنوي، كقوله تعالى: " إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " ، معناه ربنا يعلم إنا لصادقون، والله أعلم.

باب رد الأعجاز على الصدور
وهو الذي سماه المتأخرون التصدير، وقد قسمه ابن المعتز ثلاثة أقسام الأول ما وافق آخر كلمة في البيت آخر كلمة في صدره، أو كانت مجانسة لها كقول الشاعر: كامل
يلفي إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأى لا يفل عرمرم
والثاني ما وافق آخر كلمة من البيت أول كلمة منه كقول الآخر: طويل
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعي الندى بسريع
والثالث ما وافق آخر كلمة من البيت بعض كلماته في أي موضع كان، كقول الشاعر طويل:

سقى الرمل جون مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
هكذا عرف ابن المعتز هذا القسم الثالث من التصدير، وهو عندي مدخول التعريف من أجل قوله: ما وافق آخر كلمة من البيت بعض كلماته في أي موضع كانت، فإنها لو كانت في العجز لم يسم تصديراً لأن اشتقاق التصدير من صدر البيت، فلا بد من زيادة قيد في التعريف يسلم به من الدخل بحيث يقول: بعض كلمات البيت في أي موضع كانت من حشو صدره. وأظن ابن المعتز اتكل في ذلك على البيت الذي جاء به مثالاً ولا ألوم ابن المعتز. وهذا ابن الخطيب على تأخر زمانه وإطلاعه لأجل التأخر على أكثر ما قيل. وتقدمه في الفضائل قد جاء على بعض أقسام التصدير بقول الشاعر طويل:
وإن لم يكن إلا معرس ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها
ولم يضع ابن المعتز لهذه الأقسام اسماً يعرف بعضها من بعض، والذي يحسن أن نسمي به القسم الأول تصدير التقفية، والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو. وقد وقع من التصدير في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " وقوله تعالى: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " وفي السنة النبوية من ذلك قوله عليه السلام وقد رأى أبا مسعود البدري يضرب عبداً له. " أبا مسعود، لله عليك أقدر منك عليه " وهذه الأقسام الثلاثة فيما الكلام فيه موجب. وفي التصدير قسم رابع ذهب عنه ابن المعتز، وهو يأتي فيما الكلام فيه منفي، واعتراض فيه إضراب عن أوله كقول الشاعر: طويل
فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
وقد جاء قدامة من التصدير بنوع آخر غير ما ذكرنا، وسماه التبديل وهو أن يصير المتكلم الآخر من كلامه أولاً وبالعكس، كقولهم: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، ولم أقف لهذا القسم على شاهد شعري فقلت: منسرح.
اصبر على خلق من تعاشره ... واصحب صبوراً على أذى خلقك
ولم يفرد له قدامة باباً فأذكره في أبوابه. والله أعلم.

باب المذهب الكلامي
المذهب الكلامي عبارة عن احتجاج المتكلم على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه، لأنه مأخوذ من علم الكلام الذي هو عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية وهو الذي نسبت تسميته إلى الجاحظ، وزعم ابن المعتز أنه لا يوجد في الكتاب العزيز، وهو محشو منه، ومنه فيه قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: " وحاجة قومه " إلى قوله عز وجل: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " وقوله تعالى: " أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى " وقوله سبحانه: " لو كان فيما آلهة إلا الله لفسدتا " وقوله: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " ومن هذا الباب نوع منطقي، وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين، فإن أهل هذا العلم قد ذكروا أن من أول سورة الحج إلى قوله: " وأن الله يبعث من في القبور " منطو على خمس نتائج من عشر مقدمات، فالمقدمات من أول السورة إلى قوله تعالى: " وأنبتت من كل زوج بهيج " والنتائج من قوله تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق " إلى قوله: " وأن الله يبعث من في القبور " وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقال: الله أخبر أن زلزلة الساعة شيء عظيم، وخبره هو الحق، وأخبر عن المغيب بالحق، فهو حق فالله هو الحق، والله يأتي بالساعة على تلك الصفات، ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى، ليدركوا ذلك، ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى فهو يحيي الموتى، وأخبر أن يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس بشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير فالله على كل شيء قدير، وأخبر أن الساعة يجازي فيا من يجادل في الله بغير علم، ولا بد من مجازاته، ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية.

ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من في القبور، وأن الله يبعث من في القبور. وقد ساق الرماني في الضرب الخامس من باب المبالغة أن إعجازه إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل، للاحتجاج بقوله تعال: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " وقوله سبحانه " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " ونظائر هذه الآيات، ومن ذلك في الشعر قول النابغة يعتذر إلى النعمان: طويل
حلفت فلم أترك لنفسي ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغشى وأكذب
ولكنني كنت امرأ لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا
فانظر إلى حذق الشاعر في الاحتجاج بقوله لهذا الملك: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلى قوم فمدحتهم، فكما أن مدح أولئك لا يعد ذنباً فكذلك مدحي لمن أحسن إلي لا يعد ذنباً.
ومن هذا الباب قول الفرزدق: طويل
لكل امرئ نفسان: نفس كريمة ... ونفس يعاصيها الفتى ويطيعها
ونفسك من نفسيك تشفع للندى ... إذا قل من أحرارهن شفيعها
يقول هذا الشاعر: لكل إنسان نفسان: مطمئنة تأمر بالخير، وأمارة تأمر بالشر، والإنسان يعاصي الأمارة مرة ويطيعها أخرى، وأنت أيها الممدوح نفسك الأمارة إذا أمرتك بترك الندى شفعت المطمئنة إلى الأمارة في الندى في الحالة التي يقل الشفيع في الندى من النفوس، فأنت أكرم الناس ومن هذا الباب أيضاً قول ابن المعتز: مديد
كيف لا يخضر عارضه ... ومياه الحسن تسقيه
كأنه قال: كل نبت يسقى فهو أخضر، وشارب هذا الغلام نبت ومياه الحسن تسقيه، فيكف لا يخضر وعلى هذا فقس.
ومن هذا الباب جواب سؤال مقدر، كقوله تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه " : الآية، لأن التقدير أن قائلاً قال بعد قوله تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية، فقد استغفر إبراهيم لأبيه، فأخبر بقوله: " وما كان استغفار إبراهيم " الآية والله أعلم.

باب الالتفات
فسر قدامة الالتفات بأن قال: هو أن يكون المتكلم آخذاً في معنى فيعترضه إما شك فيه، أو ظن أن راداً يرده عليه، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيلتفت إليه بعد فراغه منه فإما أن يجلي الشك فيه أو يؤكده، أو يذكر سببه كقول الرماح بن ميادة طويل.
فلا صرمه يبدو ففي اليأس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه
فكأن هذا الشاعر توهم أن قائلاً يقول له: وما تصنع بصرمه، فقال: لأن في اليأس راحة.
وأما ابن المعتز فقال: الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله من القرآن العزيز قوله تعالى بعد الإخبار بأن الحمد لله رب العالمين: " إياك نعبد وإياك نستعين " وكقوله سبحانه: " إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " وكقوله تعالى: " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " ومثال ذلك من الشعر قول جرير وافر:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام
أو انصراف المتكلم عن الخطاب إلى الإخبار كقوله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة " ومثال ذلك من الشعر قول عنترة كامل:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
ثم قال يخبر عن هذه المخاطبة بقوله: كامل
كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلم
أو انصراف المتكلم من الإخبار إلى التكلم كقوله تعالى: " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه أو انصراف المتكلم من التكلم إلى الإخبار كقوله تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " وقد جمع امرؤ القيس الالتفاتات الثلاثة في ثلاثة أبيات متتاليات، وهي قوله: متقارب
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود
فخاطب في البيت الأول، وانصرف عن الخطاب إلى الإخبار في البيت الثاني وانصرف عن الإخبار إلى التكلم في البيت الثالث على الترتيب.
وفي الالتفات نوع غير النوعين المتقدمين، وهو أن يكون المتكلم آخذاً في معنى فيمر فيه إلى أن يفرغ من التعبير عنه على وجه ما، فيعرض له أنه متى اقتصر على هذا المقدار كان معناه مدخولاً من وجه غير الوجه الذي بنى معناه عليه فيلتفت إلى الكلام، فيزيد فيه ما يخلص معناه من ذلك الدخل، كقول شاعر الحماسة: طويل
فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
فإن هذا الشاعر بني معناه على أن المقبور قريب من الحي الذي يريد تعاهده بالزيارة، إذ القبور بأفنية البيوت غالباً، فلما فرغ من العبارة عن معناه الذي قدره على هذا التقدير، عرض له كأن قائلاً يقول له: وأي قرب بين الميت المدفون تحت التراب والحي، فالتفت متلافياً هذا الغلط بقوله:
... ... ... ... ... ... بلى كل من تحت التراب بعيد
كأن هذا الشاعر بنى معناه على أن المقبور إلى بعد والفرق بين الاحتراس والالتفات أن الاعتراض والانفصال يكونان في بيت واحد، وفي بيتين، وفي آية، وفي آيتين، والالتفات لا يكونان فيه إلا في بيت واحد وآية واحدة. والله أعلم.

باب التمام
وهو الذي سماه الحاتمي التتميم، وسماه ابن المعتز قبله: اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه، وشرح حده: أنه الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه أو مبالغته، مع أن لفظه يوهم بأنه تام، وهو على ضربين: ضرب في المعاني وضرب في الألفاظ: فالذي في المعاني هو تتميم المعنى، والذي في الألفاظ هو تتميم الوزن، والأول هو الذي قدمنا حده ومجيئه على وجهين للمبالغة والاحتياط، ويجئ في المقاطع كما يجئ في الحشو، مثل قوله تعالى: " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " فجاءت الفاصلة كلها تتميماً، لأن المعنى ناقص بدونها، لكنه متى جاء في المقاطع سمي إيغالاً، ويكثر مجيئه في الحشو ومثاله قوله سبحانه " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " فقوله تعالى: " من ذكر أو أنثى " ، تتميم، وقوله: " وهو مؤمن " تتميم ثان في غاية البلاغة التي بذكرها تم معنى الكلام، وجرى على الصحة، ولو حذفت هاتان الجملتان نقص معناه واختل من حسن البيان.
من هذا القسم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة " فوقع التتميم في هذا الحديث في أربعة مواضع: منها قوله: مسلم، وقوله: لله، وقوله: كل يوم، وقوله: من غير الفريضة، ومن أناشيد قدامة على هذا القسم قول الشاعر طويل:
أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه عاذوا بالسيوف القواضب
فقوله: ويعطوه تتميم في غاية الحسن، وهذا شاهد ما جاء منه للاحتياط، ومثال ما جاء للمبالغة قول زهير بسيط
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة من والندى خلقاً
فقوله على علاته تتميم جاء للمبالغة، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: " ويطعمون الطعام على حبه " إن عاد الضمير على الطعام، وإن عاد على اسم الله فهو للاحتياط.
وأما الذي في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن، بحيث لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها، وهي على ضربن أيضاً: كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن فقط، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضرباً من المحاسن، والأولى من العيوب، والثانية من النعوت، وهذا موضع الثانية لا الأولى، ومثالها قول المتنبي كامل:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما
فإنه جاء بقوله: " يا جنتي " لإقامة الوزن، وقصدها دون غيرها مما يسد مسدها ليكون بينها وبين قافية البيت مطابقة لو كان موضعها غيرها لم تحصل، والله أعلم.
باب الاستطراد

ذكر الحاتمي في حلية المحاضرة أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر، وهو الذي سماه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى، وفسره بأن قال: هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمن مدحاً أو قدحاً أو وصفاً أو غير ذلك، ورأيت غالب وقوعه في الهجاء، وإن وقع في غيره ولا بد من ذكر المستطرد به باسمه، بشرط ألا يكون جرى له ذكر في الكلام قبل ذلك، ومن أمثلته في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود " ومن أمثلته الشعرية قول حسان بن ثابت: كامل
إن كنت كاذبة التي حدثتني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
فهاذ ما وقع من الاستطراد في الهجاء.
وأما ما جاء منه في المدح والهجاء معاً فقول بكر بن النطاح طويل:
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى فقالت قم فجئني بكوكب
فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب
سلي كل شيء يستقيم طلابه ... ولا تذهبى يا بدر بي كل مذهب
فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيا بما رمت مطلبي
فتى شقيت أمواله بنواله ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب
وهذا أبدع استطراد سمعته في عمري، فإنه قد جمع أحسن قسم وأبدع تخلص، وأرشق استطراد، وتضمن مدح الممدوح بالكرم، وقبيلته بالشجاعة والظفر، وهجاء أعدائهم بالضعف والخور، وهذا لم يتفق لمن قبله ولا لمن بعده إلى وقتنا هذا.
ومن ظريف الاستطراد وغريبه قول بعضهم وأتى بالاستطراد في المجون وهو غريب جداً خفيف:
اكشفي وجهك الذي أوحلتني ... فيه من قبل كشفه عيناك
غلطي في هواك يشبه عندي ... غلطي في أبي علي بن زاكي
وأحسب أن أول من استطرد بالهجاء السموءل حيث يقول طويل:
وإنا أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
وفي النسيب امرؤ القيس حيث قال كامل:
عوجاً على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن حمام

باب تأكيد المدح بما يشبه الذم
أنشد ابن المعتز فيه قول النابغة الذبياني: طويل
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وقول النابغة الجعدي طويل:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
وقد رأيت لابن المغربي الوزير مما هو داخل في هذا الباب ما يروق السامع، وهو قوله طويل:
ويعدل في شرق البلاد وغربها ... على أنه للسيف والمال ظالم
ورأيت أحسن من هذا لبعضهم، وهو طويل:
ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضر بنا والبأس من كل جانب
فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب
أبونا أب لو كان للناس كلهم ... أباً واحداً أغناهم بالمناقب
وقد خلط المتأخرون باب الاستثناء بهذا الباب، وكنت أرى أنهما باب واحد، إلى أن نبهني عليه عند قراءته من ألفت له هذا الكتاب، فرأيت إفراده منه، وسيأتي في موضعه بعد الفراغ من أبواب ابن المعتز وقدامة إن شاء الله.
باب تجاهل العارف
وقد سماه من بعد ابن المعتز الإعنات، وهو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلاً منه به ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذم، أو ليدل على شدة التدله في الحب، أو لقصد التعجب، أو التقرير، أو التوبيخ، وهو على قسمين: قسم يكون الاستفهام فيه عن شيئين أحدهما واقع والآخر غير واقع، وقد ينطق بأحد الشيئين ويسكت عن الآخر لدلالة الحال عليه.
وهو على قسمين: موجب، ومنفي.

وقد جاء منه في الكتاب العزيز ما لا يلحق سبقاً، كقوله تعالى: " أبشراً منا واحداً نتبعه " فهذا خارج مخرج التعجب، وقوله سبحانه: " أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " وهذا خارج مخرج التوبيخ، وقوله عز وجل: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " وقوله تعالى: " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " وهذان الموضعان خرجا مخرج التقرير. وأما ما جاء منه في المدح فكقول بعض المحدثين بسيط
بدا فراع فؤادي حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك
وأما ما جاء منه للذم فكقول زهير بن أبي سلمى وافر:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وأما ما دل منه على التدله في الحب فكقول العرجي بسيط
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكن أم ليلى من البشر
وكل ما أوردناه من الآيات في هذا الباب مما نطق فيه بأحد الأمرين لدلالة القرينة على الآخر، وبيت المدح من القسم الأول، والبيتان الأخيران من القسم الآخر، والله أعلم، وهذا كله مما جاء من القسم الأول.
ومما جاء من القسم الثاني في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم " فحصل في فصاحة النسوة من المبالغة والتهذيب ما لم يقع في فصاحة العرب حيث شبهوا كل من راعهم حسنه بالجن، وتبعهم المتنبي فقال: طويل
لجنية أم غادة رفع السجف ... .. .... ... ... ...

باب الهزل الذي يراد به الجد
وهو أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه، فيخرج ذلك المقصود مخرج الهزل المعجب، والمجون المطرب، كما فعل أصحاب النوادر، مثل أشعب وأبي دلامة وأبي العيناء ومزبد ومن سلك سبيلهم، كما حكى عن أشعب أنه حضر إعذاراً صنعه بعض ولاة المدينة، وكان مبخلاً، فدعا الناس ثلاثة أيام وهو يجمعهم على مائدة عليها جدي مشوي، فيحوم الناس حوله، ولا يمسه منهم أحد لعلمهم ببخله، وأشعب في كل يوم يحضر ويرى الجدي، فقال في اليوم الثالث: زوجته طالق إن لم يكن عمر هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطول منه قبل ذلك.
ومن شواهد الهزل الذي يراد به الجد من الشعر العربي قول الشاعر: طويل
إذا ما تميمي أتاك مفاخراً ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب
وقد أنشد ابن المعتز في هذا الباب قول أبي العتاهية بسيط
أرقيك أرقيك باسم الله أرقيكا ... من بخل نفسك عل الله يشفيكا
ما سلم كفك إلا من يتاركها ... ولا عدوك إلا من يرجيكا
والفاتح لهذا الباب امرؤ القيس حيث يقول طويل:
وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال
وما رأيت أحسن من قوله ملتفتاً: وإن كان بعلها.
باب حسن التضمين
وهو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت، أو من آية، أو معنى مجرداً من كلام، أو مثلاً سائراً أو جملة مفيدة، أو فقرة من حكمة كقول علي عليه السلام في جواب كتاب لمعاوية: " وما الطلقاء وأبناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأولين وتبيين درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها " فضمن كلامه هذا المثل العربي وهو قوله: " لقد حن قدح ليس منها " وكقوله في آخر هذا الكتاب: وإني مرقل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذرية بدرية، وسيوف هاشمية عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك " وما هي من الظالمين ببعيد " فضمن كلامه هذه الآية.
ومن إنشادات ابن المعتز في هذا الباب سريع:
عوذ لما بت ضيفاً له ... أقراصه مني بياسين
فبت والأرض فراشي وقد ... غنت قفا نبك مصارينى
فضمن هذا الشاعر بيته الأول كلمة من السورة، وبيته الثاني جملة من البيت الذي هو أول القصيدة المشهورة.
وقد وقع من ذلك في الكتاب العزيز ما تضمنه من التوراة كقوله سبحانه: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " الآية.
ومن لطيف التضمين في الشعر قول أبي تمام طويل:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحفى منك في ساعة الكرب
فضمن بيته كلمات من البيت المشهور وهو بسيط

المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وفي الكتاب العزيز من هذا الباب ما حكاه فيه سبحانه من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك قوله: " محمد رسول الله " إلى قوله: " ذل مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل " فضمن كتابنا صفتهم من الكتابين الأولين، والفرق بين التضمين والإيداع والاستعانة والعنوان أن التضمين يقع في النظم والنثر ولا يكون إلا بالنثر ويكون من المحاسن ومن العيوب، ولكنه لا يكون من العيوب إلا إذا وقع في النظم بالنظم، والإيداع والاستعانة وإن وقعا معاً في النظم والنثر فلا يكونان إلا بالنظم دون النثر.
وأما العنوان فإنه يقع في النظم والنثر ولا يقع بالنثر، وهو بخلاف التضمين لا يكون إلا من المحاسن دون العيوب، والتضمين منهما معاً وسيأتي بيان ذلك في موضعه، والله أعلم.

باب الكناية
وهي أن يعبر المتكلم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن، وعن الفاحش بالطاهر، كقوله سبحانه: " كانا يأكلان الطعام " كناية عن الحدث. وكقوله تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " كناية عن قضاء الحاجة، وكقوله عز وجل: " ولكن لا تواعدوهن سراً " كناية عن الجماع، قال امرؤ القيس طويل:
ألا زعمت بسباسة الحي أنني ... كبرت وألا يحسن السر أمثالي
ذهب كل من فسر شعره من العلماء أنه أراد بالسر الوقاع، وكقوله سبحانه: " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " يريد به ما يكون بين الزوجين من المباضعة، وكقول الله تعالى: " الخبيثات للخبيثين " ، وهو سبحانه يريد الزنا وعلى الجملة لا تجد معنى من هذه المعاني في الكتاب العزيز يأتي إلا بلفظ الكناية، لأن المعنى الفاحش متى عبر عنه بلفظه الموضوع له كان الكلام معيباً من جهة فحش المعنى، ولذلك عاب قدامة على امرئ القيس قوله طويل:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول
وقال أعني قدامة: وعيب هذا الشعر من جهة فحش المعنى، يريد أنه عبر عنه بلفظه، فجاء الكلام فاحشاً، وهو عيب، ولذلك تنزه القرآن عنه، ولو استعار امرؤ القيس لمعناه لفظ الكناية كما فعل في البيت الذي تقدم هذين البيتين لم يكن إلى عيبه سبيل.
وفي السنة النبوية من الكناية ما لا يكاد يحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يضع العصا عن كتفه " كناية عن كثرة الضرب أو كثرة السفر.
وحكى ابن المعتز أن العرب كانت تقول: " فلان يخبأ العصا لمن به أبنة " ، وأنشد رجز مجزوء:
زوجك زوج صالح ... لكنه يخبا العصا
ومن أناشيد ابن المعتز لبشار في اثنين كانا يتفاعلان خفيف:
وإذا ما التقى مثنى وبكر ... زاد في ذا شبر وفي ذاك شبر
وأنشد لأبي نواس في الكناية عن جلد عميرة ما لا يدرك شأوه وهو طويل:
إذا أنت أنكحت الكريمة كفؤها ... فأنكح حبيشاً راحة ابنة ساعد
وقل بالرفا ما نلت من وصل حرة ... لها ساحة حفت بخمس ولائد
ومن أحسن الكنايات في الهجاء قول بعض الشعراء يهجو إنساناً به داء الأسد، فكنى عن ذلك ورمى أمه بالفجور بطريق الكناية أيضاً حيث قال: وافر
أراد أبوك أمك حين زفت ... فلم توجد لأمك بنت سعد
يريد به عذرة، ثم قال وافر:
أخو لخم أعارك منه ثوباً ... هنيئاً بالقميص المستجد
يريد: جذاماً فإنه أخو لخم.
وأنشد ابن المعتز في الكناية عن حجام لبعض الشعراء: طويل
إذا عوج الكتاب يوماً سطورهم ... فليس بمعوج له أبداً سطر
ومن نخوة العرب وغيرتهم كنايتهم عن حرائر النساء بالبيض، وقد جاء القرآن العزيز بذلك، فقال سبحانه: " كأنهن بيض مكنون " وقال امرؤ القيس طويل:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
ومن مليح الكناية قول بعض العرب وافر:
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
سألت الناس عنك فخبروني ... هنا من ذاك يكرهه الكرام
وليس بما أحل الله بأس ... إذا هو لم يخالطه الحرام

فإن هذا الشاعر كنى بالنخلة عن المرأة، وبالهناء عن الرفث، فأما الهناءة فمن عادة العرب الكناية بها عن مثل ذلك، وأما الكناية بالنخلة عن المرأة فمن طريف الكناية وغريبها.

باب الإفراط في الصفة
وهو الذي سماه قدامة المبالغة، وسماه من بعده التبليغ، وأكثر الناس على تسمية قدامة، لأنها أخف وأعرف، ومن أناشيد ابن المعتز فيها: كامل
ملك تراه إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والصفوف قيام
وحد قدامة المبالغة بأن قال: هي أن يذكر المتكلم حالاً من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ في معنى قصده، كقول عمرو بن الأهتم التغلبي وافر:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
وأنا أقول: قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون أن أجود الشعر أكذبه وخير الكلام ما بولغ فيه، ويحتجون بما جرى بين النابغة الذبياني وبين حسان في استدراك النابغة عليه تلك المواضع في قوله طويل:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة، والقصة مشهورة، والصواب مع حسان، وإن روى عنه انقطاعه في يد النابغة، وقوم يرون المبالغة من عيوب الكلام، ولا يرون من محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق، وجاء على منهج الحق، ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى مبتكراً، أو يفرع معنى من معنى، أو يحلى كلامه بشيء من البديع، أو ينتخب ألفاظاً موصوفة بصفات الحسن، ويجيد تركيبها، فإذا عجز عن ذلك كله أتى بالمبالغة لسد خلله، وتتميم نقصه، لما فيها من التهويل على السامع، ويدعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها من حد الإمكان إلى حد الامتناع.
وعندي أن المذهبين مردودان.
أما الأول فلقول صاحبه: إن خير الكلام ما بولغ فيه، وهذا قول من لا نظر له، لأنا نرى أن أكثر الكلام والأشعار جارياً على الصدق، خارجاً مخرج الحق، وهو في غاية الجودة ونهاية الحسن وتمام القوة، كيف لا والمبالغة ضرب واحد من المحاسن، والمحاسن لا تنحصر ضروبها، فكيف يقال: إن هذا الضرب على انفراده يفضل سائر المحاسن على كثرتها؟ وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان ومن كان مذهبه توخي الصدق في شعره غالباً ليس فوق أشعارهم غاية لمترق، ألا ترى إلى قول زهير طويل:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
والى قول طرفة طويل:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه في اليد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
والى قول الحطيئة بسيط
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
فإنك تجد هذه الأشعار في الطبقة العليا من البلاغة وإن خلت من المبالغة. والذي يدل على أن مذهب أكثر الفحول ترجيح الصدق في أشعارهم على الكذب ما روى عن الحرورية امرأة عمران بن حطان الخارجي أنها قالت له يوماً: أنت أعطيت الله عهداً ألا تكذب في شعرك، فكيف قلت كامل مجزوء:
فهناك مجزءة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامه
فقال: يا هذه إن هذا الرجل فتح مدينة وحده، وما سمعت بأسد فتح مدينة قط. وهذا حسان يقول بسيط
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيساً وإن حمقاً
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقاً
على أن هؤلاء الفحول وإن رجحوا هذا المذهب لا يكرهون ضده، ولا يجحدون فضله، وقلما تخلو بعض أشعارهم منه، إلا أن توخى الصدق كان الغالب عليهم، وكانوا يكثرون منه، ومن أكثر من شيء عرف به، كما أن النابغة ومن شايعه على مذهبه لا يكره ضد المبالغة، وإلا فكل احتجاجاته على النعمان في الاعتذار جار مجرى الحقيقة، كقوله طويل:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب

فعائب الكلام الحسن بترك المبالغة فقط مخطئ، وعائب المبالغة على الإطلاق غير مصيب، وخير الأمور أوساطها، وكيف تعاب المبالغة وقد وجدت في الكتاب العزيز على ضروب: منها المبالغة في الصفة المعدولة من الجارية لمعنى المبالغة فإنها جاءت على ستة أمثلة: فعلان كرحمان، عدل عن راحم للمبالغة ولا يوصف به إلا الله تعالى، لأن رحمته وسعت كل شيء، وفعال معدول عن فاعل للمبالغة كقوله تعالى: " لغفار لمن تاب " " تواب رحيم " " علام الغيوب " " فعال لما يريد " وفعول عدل عن فاعل للمبالغة " كغفور " و " شكور " و " ودود " ، وفعيل عدل عن فاعل، " كرحيم " و " حكيم " و " عليم " و " قدير " و " سميع " و " بصير " ومفعل معدول عن فاعل " كمدعس " و " مطعن " ، ومفعال معدول عن فاعل للمبالغة " كمطعام " و " مطعان " .
والضرب الثاني من المبالغة وهو ما جاء بالصيغة العامة في موضع الخاصة كقولك: أتاني الناس كلهم، ولم يكن أتاك سوى واحد أردت تعظيمه، ومن هذا الضرب قول أبي نواس سريع:
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ومن هذا الضرب في الكتاب العزيز قوله تعالى: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " فوعدهم سبحانه بجزاء غير مقدر، لمجيئه بالصيغة العامة تعظيماً له " وكل شيء عنده بمقدار " والضرب الثالث من المبالغة إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، والإخبار عنه مجاز، كقول من رأى موكباً عظمياً أو جيشاً خضماً: جاء الملك نفسه وهو يعلم حقيقة أن ما جاء جيشه، وقد جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " فجعل مجيء جلائل آياته مجيئاً له سبحانه، وكقوله تعالى: " ووجد الله عنده فوفاه حسابه " فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجداناً للمجازى.
والضرب الرابع من المبالغة إخراج الممكن من الشرط إلى الممتنع، ليمتنع وقوع المشروط، كقوله تعالى: " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " .
والضرب الخامس من المبالغة ما جرى مجرى الحقيقة، وهو قسمان: قسم كان مجازاً فصار بالقرينة حقيقة، كقوله تعال: " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " فإن اقتران هذه الجملة بيكاد صرفها إلى الحقيقة فانقلبت من الامتناع إلى الإمكان.
وقسم أتى بصيغة أفعل التفضيل، وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى: " أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً " .
والضرب السادس من المبالغة ما بولغ في صفته بطريق التشبيه، كقوله تعالى: " إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالات صفر " فهذه ضروب ما ورد من المبالغة في الكتاب العزيز.
والمبالغة تأتي في الكلام على ضربين: ظاهرة ومدمجة، وكل ما قدمناه من مبالغات الكتاب العزيز من الظاهرة.
ومن المدمجة قوله تعالى: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " فإن المبالغة أتت في هذه الآية مدمجة في المقابلة، والجواب: هذه المبالغة بالنسبة إلى المخاطَب إلى المخاطِب وقد جاء منها في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى كثرة، ولا يلحق بلاغة، كقوله عليه السلام مخبراً عن ربه أنه قال سبحانه: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به " وقوله في بقية هذا الحديث: " والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " . ففي هذا الحديث مبالغتان: أحداهما كون الحق سبحانه أضاف الصيام إلى نفسه دون سائر الأعمال لقصد المبالغة في تعظيمه وتشريفه، وأخبر أنه عز وجل يتولى مجازاة الصائم بنفسه، مبالغة في تعظيم الجزاء وشرفه، ونحن نعلم أن الأعمال كلها لله سبحانه ولعبده باعتبارين: أما كونها للعبد فلأنه يثاب عليها، وأما كونها لله تعالى فلأنها عملت لوجهه الكريم، ومن أجله فتخصيص الصيام من بينها بالإضافة إلى الرب سبحانه، وتخصيص ثوابه بما خصصه به إنما كان للمبالغة في تعظيمه والحض عليه، والمبالغة الثانية إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تقديم القسم لتأكيد الخبر بأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ففضل تغيير فم الصائم بالإمساك عن الطعام والشراب على ريح المسك الذي هو أطيب الطيب على مقتضى ما يفهم من ريح المسك وريح تغير فم الصائم، وأتى المعنى بصيغة أفعل للمبالغة، فجمع هذا الكلام بين قسمي المبالغة المجازي والحقيقي.
ومن أمثله المبالغة في الشعر قول امرئ القيس طويل:

فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكاً ولم ينضح بماء فيغسل
فإنه أخبر عن هذا الفرس أنه أدرك ثوراً وبقرة وحشية في مضمار واحد، ولم يعرق، ومثله قول أبي الطيب طويل:
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
وما يعاب من المبالغة إلا ما خرج به الكلام عن حد الإمكان إلى الاستحالة وأما إذا كان كقول قيس بن الخطيم طويل:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائماً من دونها ما وراءها
فإن ذلك من جيد المبالغة إذا لم يكن خارجاً مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية في وصف الطعنة، وما سمعت ولا غيري بمستمع مثل قول أبي تمام بسيط
تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حين تنتقل
فإنه لم يقنع في تصحيح المبالغة وقربها من الوقوع، فضلاً عن الجوار بتقديم كاد حتى قال: لو تركت؛ وهذا أصح بيت سمعته في المبالغة وأحسنه وأبلغه، وكقول شاعر الحماسة حيث بالغ في مدح ممدوحه بقوله طويل:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد
فإن هذا الشاعر ألقى بيده وأظهر عجزه واعترف بقصوره عن شكر بر هذا الممدوح، وفطن إلى أنه لو اقتصر على ذلك لقيل له: عجزك عن شكر هذا الرجل لا يدل على كثرة بره، وإنما يدل على ضعف مادتك عن الشكر إذ لا يلزم من عجز الإنسان عن شيء تعظيم ذلك الشيء على الإطلاق، لاحتمال أن يكون العجز لضعف في الإنسان فاحترس عن ذلك بقوله:
وما فوق شكري للشكور مزيد
ثم تمم المعنى بأن قال: للشكور أي للمبالغ في الشكر، لأن شكور معدول عن شاكر للمبالغة كما تقدم ثم أظهر عذره في عجزه مع قدرته بأن قال في البيت الثاني:
ولو كان مما يستطاع استطعته
ثم أخرج بقية البيت مخرج المثل السائر حيث قال:
ولكن ما لا يستطاع شديد
فهذا أبلغ شعر سمعته في هذا المعنى لجودة مفردات ألفاظه، وسهولة سبكه ومساواة لفظه لمعناه، ومتانة مبناه، وكثرة معانيه، وصحة المبالغة فيه؛ فإن قيل: لم بالغت في وصف هذا الشعر وهو عندك داخل في القسم المعيب من المبالغة لكونه أخرج الكلام من حد الإمكان إلى حد الامتناع حيث جعل شكر هذا الممدوح لا يستطاع؟ فإني أقول: ليس كل بر يمكن شكره، ولا يقوم المدح بحقه، فإنا لو قدرنا أن إنساناً فك إنساناً من الأسر واستنقذه من القتل لما وفى شكره ببره ولو كان أشكر الناس، واستنفد في شكره بقية عمره، لا سيما لو قدر أن ذلك الممتن ببقاء النفس أضاف إلى ذلك توابع إحسان، وعوارف امتنان، على ممر الزمان، فإن الشكر لا يقوم ببر ذلك الإنسان، ولو تجاوز فيه الشكور حد الإمكان، فقد وضح أن من البر ما لا يؤدي شكره، ومن هذا قول أبي نواس:
لا تسدين إلى عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
وهذا سيد المرسلين الذي بعث بجوامع الكلم، وهو أفصح من نطق بالضاد بقول لعظمة نعم ربه عليه: " لا أحصى ثناء عليك " . ومعلوم أن نعم الله سبحانه لا يقوم شكر جميع العباد بمعشارها، ولا كذلك نعم بعضهم على بعض لكن يشبه شكر أحدنا نعمة صاحبه إلى شكر الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة ربه كنسبة نعم بعضنا على بعض إلى نسبة نعم الله تعالى سبحانه على نبيه أو على عبد من عبيده، وإن كانت نعم الله تعالى على نبيه أعظم من نعمه على سائر خلقه، بدليل قوله تعالى: " وكان فضل الله عليك عظيماً " لأن بين بلاغة أحدنا وبين بلاغة الرسول كما بين نعمة أحدنا ونعمة الله سبحانه، وإذا وقع للقضية مثال واحد في الوجود علم إمكان وقوعها، وخرجت بذلك من حد الاستحالة والامتناع إلى حد الجواز والإمكان.

والمذهب المرضي أن المبالغة ضرب من المحاسن إذا بعدت عن الإغراق والغلو، وإن كان الإغراق والغلو أيضاً ضربين من المحاسن إذا اقترنا، وعيبين إذا أطلقا، ألا ترى كل مبالغة وقعت في الكتاب العزيز كيف أتت على قسمين: قسم ممكن غير مقترن، وقسم غير ممكن لا يأتي إلا مقترناً، كقوله سبحانه: " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " وفي غير الممكن كقوله سبحانه: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " الآية، لأن المبالغة فيها عرفية، معناه أن علم ذلك متعذر عندكم، وإلا فهو بالنسبة إلى علم الله سبحانه ليس بمبالغة، وقد قال امرؤ القيس في غير الممكن طويل:
من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا
ولأن قوة الشعر وضعفه وماءه ورونقه أمر خارج عن البديع جملة، والمحاسن بتة، قرب شعر في غاية الجودة ونهاية القوة مع كونه قد بلغ فيه قائله إلى حد الإغراق أو الغلو، ورب شعر في غاية الرداءة مع الخلو عن هذين الضربين، فإن الكلام يكون جيداً بدون البديع، ورديئاً مع وجوده، فإنكار المبالغة في الكلام القوي الجيد ما لا سبيل إليه.
وأما قول من قال: إن الكلام لا يحسن بدون المبالغة فإن لم يحمل كلامه على التقييد، وإلا فهو محال بين الإحالة، وأحسب قائل هذا ذهب إلى التمييز بين كلامين استويا في خفة مفردات الألفاظ وتوسط استعمالها وحسن تركيبها وخلو الكلام بعد التركيب عن العيوب جملة وتفصيلاً، وتماثلاً في جودة المعنى وتمامه، وكثرة الماء فيهما، وتحلياً من البديع بما أتى الطبع به عفواً من غير تكلف ولا تعسف، وقد بولغ في أحدهما مبالغة مرضية والآخر لم يبالغ فيه، فإن ما بولغ فيه أفضل من الآخر، وأكثر النقاد على أن خير الكلام ما كان متوسطاً بين الغلو والاقتصاد والسلامة والمتانة الغرابة والاستعمال والتصنع والاسترسال، وما أحسن قول البحتري فيما قدمته من هذا الكلام حيث قال يصف لفظ بعض الكتاب خفيف:
في نظام من البلاغة ما شك ... ك امرؤ أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديد
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك؟ ... ن به غاية المرام البعيد

باب التشبيه
التشبيه عبارة عن العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حال أو عقد، هكذا حد الرماني، وهذا هو التشبيه العام الذي يدخل تحته التشبيه البليغ وغيره، ثم إن الرماني بعد حده قال: والتشبيه تشبيهان: تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما كتشبيه الجوهر بالجوهر، كقولك: ماء النيل مثل ماء الفرات، وتشبيه العرض بالعرض كقولك: حمرة الخد كحمرة الورد، وتشبيه الجسم بالجسم كقولك: الزبرجد مثل الزمرد، وتشبيه شيئين مختلفين بالذات يجمعهما معنى مشترك بينهما: كقولك، حاتم كالغمام، وعنترة كالضرغام، والتشبيه المتفق تشبيه حقيقة، والتشبيه المختلف تشبيه مجاز للمبالغة.
وحد التشبيه البليغ إخراج الأغمض إلى الأظهر بالتشبيه مع حسن التأليف، ووقوع حن البيان فيه على وجوه، منها: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة كقوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " فهذا بيان إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، وقد اجتمعا في بطلان التوهم مع شدة الحاجة، ولو قيل: يحسبه الرائي ماء لكان بليغاً، وأبلغ منه لفظ القرآن لأن الظمآن أشد حرصاً عليه، وأكثر تعلق قلب به، وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من أحسن التشبيه، فكيف تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة الألفاظ وصحة الدلالة.
ومنها إخراج ما لم تجربه العادة إلى ما جرت به العادة، كقوله تعالى: " وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، وقد اجتمعا في معنى الارتفاع في الصورة.
ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، كقوله تعالى: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " وهذا بيان قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، وقد اجتمعا في العظم وحصل من ذلك الوصف التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة.

ومنها إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة، كقوله تعالى: " وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام " وهذا بيان قد أخرج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة، وقد اجتمعا في العظم إلا أن الجبال أعظم، وفي ذلك العبرة من جهة القدرة فيما سخر الله من الفلك الجارية على الماء مع عظمها ولطفه، وما في ذلك من الانتفاع بحملها الأثقال، وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة.
ومنها إخراج الكلام بالتشبيه مخرج الإنكار كقوله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر " وهذا إنكار على من جعل حرمة الجماد كحرمة من آمن بالله، وفي ذلك أوفى دلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان، وأنه لا يساوي به مخلوق ليس على صفته بالقياس.
واعلم أن الشيء لا يشبه بنفسه ولا بغيره من كل وجه، فإن الشيئين إذا تشابها من جميع الجهات اتحدا، ولا يشبه الشيء بما هو دونه في الصفة الجامعة بينهما.
والتشبيه الصناعي على ضربين: تشبيه بأداة، وتشبيه بغير أداة وفائدته قرب المشبه من المشبه به.
وأدوات التشبيه خمسة: الكاف، وكأن، وشبه؛ ومثل، والمصدر، بتقدير الأداة. وفي المصادر ما لا يمكن تقدير الأداة فيه كقول الشاعر بسيط :
فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وذات إدبار.
وفي التشبيه نوع آخر لا بد من تقدير الأداة فيه كقوله تعالى: " وأزواجه أمهاتهم " وهو من غير القسمين أعني قسمي المصادر فالذي بالأداة قوله تعالى: " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " وكقول امرئ القيس طويل:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
والذي بغير أداة كقوله سبحانه: " وهي تمر مر السحاب " وكقول حسان كامل:
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
وكل ضرب من هذين الضربين مقسم تسعة أقسام: وهذه الأقسام على ضربين أيضاً: ضرب متحد، وضرب متعدد، فالمتحد ينقسم وفق عدد أدوات التشبيه الخمس من تشبيه شيء بشيء، إلى تشبيه شيء بخمسة أشياء. والمتعدد أربعة أقسام: من تشبيه شيئين بشيئين، إلى تشبيه خمسة بخمسة، فشاهد تشبيه شيء بشيء قول امرئ القيس طويل:
وجيد كجيد الرئم ليس بفا حش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
وشاهد تشبيه شيء واحد بشيئين قوله أيضاً طويل:
وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع رمل أو مساويك إسحل
وشاهد تشبيه شيء واحد بثلاثة أشياء قول البحتري سريع:
كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح
وتشبيه شيء واحد بأربعة أشياء قول امرئ القيس متقارب:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر
وتشبيه شيء واحد بخمسة أشياء مثل قول الحريري بسيط
يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلح وعن حبب
وأما تشبيه شيئين بشيئين من المتعدد فكقول امرئ القيس طويل:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكرها العناب والحشف البالي
وتشبيه ثلاثة بثلاثة قول ابن المعلى " مجتث " :
ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقد
خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد
وتشبيه أربعة بأربعة قول امرئ القيس طويل:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
ولقد غير أبو نواس في وجهه حيث قال سريع:
تبكي فتذري الطل من نرجس ... وتمسح الورد بعناب
فإن بيته أخصر وزناً وأبهر حسناً وأقصر معنى.
وشاهد خمسة بخمسة قول أبي الفرج الوأواء بسيط
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد
وعندي أن بيت الوأواء هو عين بيت أبي نواس وإنما حصلت فيه زيادة التشبيه لاتساع وزنه، فثبت الفضل لبيت أبي نواس بالسبق إلى نفس المعنى ونفس التشبيه.
واعلم أن زيادة التشبيه بما زاد في بيت أبي الفرج الوأواء عن اللفظ لاتساع الوزن.

ومن التشبيه نوعان آخران أحدهما تكون أدواته أفعال الظن واليقين كقولك: حسبت زيداً في جرأته الأسد، وعمراً في جوده الغمام والجارية في حسنها القمر، فحاصل ذلك تشبيه الجرئ بالأسد، والجواد بالغمام، والجارية بالقمر، ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود " حاصل ذلك تشبيه أهل الكهف في حال نومهم بحال الأيقاظ، ومن ذلك في الشعر قول شاعر الحماسة طويل:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة.
وذلك أنه لما كانت الشحمة بيضاء شبهوا كل بيضاء بها، وأخرج ذلك مخرج المثل.
والنوع الآخر من التشبيه هو الذي يسمى تشبيه التوليد والتمثيل كقول الكميت بسيط
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفي بها الكلب

باب عتاب المرء نفسه
وهو من إفراد ابن المعتز، ولم ينشد فيه سوى بيتين ذكر أن الآمدى أنشدهما له عن الجاحظ طويل:
عصاني قومي في الرشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرب يندم
فصبراً بني بكر على الموت إنني ... أرى عارضاً ينهل بالموت والدم
وما أرى في هذين البيتين من عتاب المرء نفسه إلا ما يتحيل به لمعناهما، فيقدر أن هذا الشاعر لما أمر بالرشد وبذل النصح ولم يطع ندم على بذل النصيحة لغير أهلها، وملزوم ذلك عتابه لنفسه فيكون دلالة البيتين على عتابه لنفسه دلالة التزام لا دلالة مطابقة ولا تضمين.
ومثل هذين البيتين قول دريد بن الصمة طويل:
نصحت لعراض وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء والقوم شهدى
وقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
ولا يصلح أن يكون شاهد هذا الباب إلا قول شاعر الحماسة طويل:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر
وكقول ابن السليماني من شعراء الحماسة طويل:
لعمرك إني يوم سلع للائم ... لنفسي ولكن ما يرد التلوم
أأمكنت من نفسي عدوى ضلة ... ألهفي على ما فات لو كنت أعلم
وقد جاء من هذا الباب في كتاب الله قوله سبحانه وتعالى: " يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله " والله أعلم.
باب حسن الابتداءات
هذه تسمية ابن المعتز، وأراد بها ابتداءات القصائد، وقد فرع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وخصوا بها ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله ولقد وقع في أثناء القصيدة.
وقد روى أن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد قصيدة قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي، حيث يقول خفيف:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل
ومن إنشادات ابن المعتز في هذا الباب قول النابغة الذبياني طويل:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ولعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار، فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس في معلقته حيث قال طويل:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فرأى أن ابتداء امرئ القيس على تقدمه وكثرة معاني ابتداءاته متفاوت القسمين جداً، لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك، وكثرة المعاني بالنسبة إلى العجز ما لم يجمع العجز، فإن ألفاظ العجز غريبة بالنسبة إلى ألفاظ الصدر، والعجز أقل معان من الصدر بخلاف بيت النابغة، فإنه لا تفاوت بين قسميه البتة، فبيت امرئ القيس وإن كان أكثر معان من بيت النابغة، فبيت النابغة أفضل، من جهة ملاءمة ألفاظه، ومساواة قسمية، ومثل بيت النابغة قول زهير طويل:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله
فإن قسمي هذا البيت متلائمان، فإن لفظ كل واحد منهما متوسط بين الغرابة والابتذال، وفي كل قسم منهما استعارتان، فقد تساويا في اللفظ والمعنى كبيت النابغة، وهذا من قول امرئ القيس طويل:

خليلي مرا بي على أم جندب ... نقضي لبانات الفؤاد المعذب
وإنما عظم ابتداء معلقة امرئ القيس في النفوس الاقتصار على سماع صدر البيت، فإنه يشغل الفكر بحسنه عن النظر في ملاءمة عجزه أو عدم ملاءمته، وهو الذي قيل عند سماعه للمنشد: حسبك، فإن قائل هذا الكلام أشعر الناس، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت ولم يستنشد العجز منه شغلاً بحسن الصدر عنه، وإذا تأمل الناظر في نقد البيت بكماله ظهر له تفاوت القسمين، فعلم جملة أن الابتداء غير موصوف بحسن الابتداء، إذ حسن الابتداء عبارة عن ملاءمة القسمين.
ومن جيد ابتداءات المولدين قول أبي نواس وهو في غاية الحسن طويل:
خليلي هذا موقف من متيم ... فعوجا قليلاً وانظراه يسلم
وقوله طويل:
لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم
ومن إنشادات ابن المعتز لأبي تمام بسيط
يا بعد غاية دمع العين إذ بعدوا ... هي الصبابة طول الدهر والكمد
وإذا وصلت إلى قول البحتري طويل:
بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق
وصلت إلى الغاية التي لا تدرك، وما سمع أشد مباينة كبيت جميل وهو قوله: طويل
ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... أسائلكم ل يقتل الرجل الحب؟
وهذا البيت الذي قال فيه الرشيد إما للمفضل الضبي أو غيره: هل تعرف بيتاً نصفه بدوي في، شمله وباقيه مخنث في بذلة فأنشده البيت فاستحسن ذكره.
ولقد أحسن أبو الطيب ما شاء في قوله خفيف:
تراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
لو لم يكدر صفوه ويقبح حسنه بقوله:
كيف ترثي التي برى كل جفن ... راءها غير جفنها غير راقي
وأكثر ابتداءات أبي العلاء المعري تأتي على سنن الصواب، كقوله: بسيط
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر
وكقوله طويل:
طربن لضوء البارق المتعالي ... ببغداد وهنا ما لهن ومالي
وقوله طويل:
مغاني اللوى من شخصك اليوم أطلال ... وفي النوم مغنى من خيالك محلال
وكقوله خفيف:
غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد
فهذه أمثلة ابتداءات القصائد.
وأما أمثلة براعة الاستهلال فمنها قول محمد بن الخياط طويل:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأنفدت ما عندي
ولقد أحسن البحتري اتباعه في هذا المعنى حيث قال كامل:
أعدت يداه يدي وشرد جوده ... بخلي فأفقرني كما أغناني
ووثقت بالخلق الجميل معجلاً ... منه فأعطيت الذي أعطاني
وإذا نظرت إلى فواتح السور الفرقانية جملها ومفرداتها رأيت من البلاغة والتفنن في الفصاحة ما لا تقدر العبارة على حصر معناه، ومن أراد الوقوف على ذلك فليقف على كتابي المنعوت بالخواطر السوانح في كشف أسرار الفواتح والله أعلم.

باب صحة الأقسام
وهذا أول أبواب قدامة وصحة الأقسام عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر منه شيئاً، ومثال ذلك قوله تعلى: " هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً " وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين.
ومن لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة تقديم الخوف على الطمع، إذ كانت الصواعق تقع من أول برقة، ولا يحصل المطر إلا بعد توافر البرقات، فإن تواترها لا يكاد يكذب ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة وتنتجع، فلا تخطئ الغيث والكلأ، والى هذا أشار المتنبي بقوله وافر:
وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام

فلما كان الأمر المخوف من البرق يقع من أول برقة، أتى ذكر الخوف في الآية الكريمة مقدماً أولاً، ولما كان الأمر المطمع إنما يقع من البرق ناسخاً للخوف، لمجيء الفرج بعد الشدة، والميسرة بعد الأمر المخوف، أتى ذكر الطمع في الآية الكريمة ثانياً، وليكون الطمع بعد الحزن رحمة من الله سبحانه وتعالى بخلقه، وبشرى بحسن العاقبة لعباده، وقد أتى ابن رشيق بهذه الآية من شواهد التفسير، لما كان قوله سبحانه خوفاً وطمعاً كان مفسراً رؤية البرق، وهو قريب.
ومما جاءت صحة الأقسام فيه مدمجة في المقابلة من الكتاب العزيز قوله سبحانه: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون " وقد اعترضت المطابقة بين القسمين المتقابلين واستوعبت أقسام الأوقات من طرفي كل يوم ووسطه.
ومن بديع صحة التقسيم قول علي عليه السلام: " أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره " فإنه استوعب أقسام الدرجات العليا والسفلى والوسطى، وأقسام أحوال الإنسان وبين الفضل والنقص والكفاف وأتى في ضمن ذلك الطباق بين الغنى والحاجة والمناسبة في أميره ونظيره وأسيره.
ومثال صحة الأقسام من الكتاب العزيز أيضاً قوله: " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " فلم يترك سبحانه قسماً من أقسام الهيئات حتى أتى به، ومثل هذه الآية آية يونس وهي قوله تعالى: " وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً " لكن وقعت بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها البلاغة، فتضمن الكلام بها الائتلاف، وذلك أن الذكر يجب فيه تقديم القيام لأن المراد به الصلاة والله أعلم. والقيام واجب فيها للمستطيع، والقعود بعده عند العجز عن القيام، والاضطجاع عند العجز عن القعود، والضر يجب فيه تقديم الاضطجاع، وإذا زال بعض الضرر قعد المضطجع، وإذا زال كل الضرر قام القاعد فدعا لتتم الصحة وتكمل القوة، ويحصل التصرف، فإن قلت: هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو هي العاطفة فلم عدل عنها وبها يحصل في الكلام حسن النسق وائتلاف الألفاظ مع المعاني إلى أو التي يسقط معها ذلك؟ قلت: تأثير الضر على أقسام: فإن من الضر ما يصرع المضرور عند وروده، ومنه ما يقعده، ومنه ما يأتي وصاحبه قائم ولا يبلغ به شيئاً من هذه الحالات، والدعاء عند أول مس الضر، فإن الضر والجزع عند الصدمة الأولى، فوجب العدول عن الواو لأو لتوخي الصدق في الخبر، والكلام على ذلك موصوف بالائتلاف وبحسن النسق، والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد، وبالتأويل الثاني عن أشخاص، فغلبت الكثرة، فوجب الإتيان بأو، وابتدئ بالشخص الذي يصرعه، لأن ضره أشد، فهو أكثر تضرعاً فوجب تقديم ذكره لأن تقديمه الأهم، وإذا تقدم ذكر المضطجع أوجب حسن الترتيب أن يليه ذكر القاعد وأن يلي ذكر القاعد ذكر القائم، فحصل حسن الترتيب، وائتلاف الألفاظ بمعانيها، وترجح مجيءُ أو على مجيءِ الواو، ولا تدل عليه من تعدد المضطرين دون الواو.
وكقوله: " يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً " لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد: بهبة الإناث أو بهبة الذكور أو يجمعهما له، أو لا يهبه شيئاً، ووقعت صحة الأقسام في هذه الآية على ترتيب البلاغة، وهو الانتقال من الأدنى إلى الأعلى فقدم هبة الإناث لتنتقل منها إلى أعلى منها، وهي هبة الذكور، ثم انتقل إلى أعلى منها وهي هبة الإناث والذكور، فجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة، وأفرد معنى الحرمان بالتأخر لأن أفضاله على عباده أهم من حرمانه إياهم، وتقديم الأهم أولى، وقال في معنى الحرمان: ويجعل عادلاً عن لفظ الهبة لتأتي الألفاظ ملائمة للمعاني قياساً على قوله تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً " وهكذا الاعتداد بالماء والنار، فأتى لفظ العطاء بلفظ الزرع، ومعنى الحرمان بلفظ الجعل.
وفي السنة من صحة الأقسام قول رسول الله عليه الصلاة والسلام " ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " ولا رابع لهذه الأقسام.

ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت: فقال الحسن: ما ترك الأعرابي منكم أحداً حتى عمه بالمسئلة.
ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول نصيب طويل:
فقال فريق القوم لا وفريقهم ... نعم وفريق ليمن الله ما ندري
فليس في أقسام الإجابة غير ما ذكر.
وقال بشار طويل:
فراح فريق في الإسار، ومثله ... قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه
وأوجز من هذا في معناه قول عمرو بن الأهتم خفيف:
اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير
ومن جيد صحة الأقسام قول شاعر الحماسة طويل:
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيبته المقابر
فلم يبق في تقسيم المعدوم شيئاً حق ذكره، لأن الشيء إما مقدراً لم يوجد، أو قد وجدد وعدم إما بالنزوح أو بالفناء، وكقول أبي تمام في الأفشين وقد أحرق كامل:
صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتاً، ويدخلها مع الفجار
والبارع في هذا الباب قول عمرو بن كلثوم وافر:
نطاعن ما تراخى الصف عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا
وأحسب أن أول من نطق بصحة التقسيم زهير حيث قال: طويل
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي
ونقل أبو نواس هذا المعنى من الجد إلى الهزل، فقال في الحض على الشرب منسرح:
أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد مر فاسل عن أمس
وإنما الشأن شأن يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس
وكنت أظن أن زهيراً هو المبتدئ بصحة التقسيم حتى عثرت على قول امرئ القيس طويل:
وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال
فاستوعب آلات القتال، ورتبها في البيت على ما يكون عليه في الحرب من الأفضل فالأفضل. فتمت صحة التقسيم بجميع شروطها كما ترى، وما ألطف قول بعض المغاربة خفيف:
شغل الدهر من لقاء حبيب ... ليت شعري متى؟ وكيف؟ وأينا؟
فاستوعب أقسام الظروف الزمانية والمكانية، وكيف التي يسأل بها عن الأحوال.
والنادر في صحة الأقسام قول عمر بن أبي ربيعة طويل:
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا بعدها يسلى ولا أنت تصبر

باب صحة المقابلات
صحة المقابلات عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى بأشياء في صدر كلامه أتى بأضدادها في عجزه على الترتيب، بحيث يقابل الأول بالأول، والثاني بالثاني لا يخرم من ذلك شيئاً في المخالف والموافق، ومتى أخل بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة، وقد تكون المقابلة بغير الأضداد.
والفرق بين المقابلة والمطابقة من وجهين: أحدهما أن المقابلة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين فذين، والمقابلة تكون غالباً بالجمع بين أربعة أضداد: ضدان في صدر الكلام، وضدان في عجزه، وتبلغ إلى الجمع بين عشرة أضداد: خمسة في الصدر، وخمسة في العجز. والثاني أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد، والمقابلة تكون بالأضداد وبغير الأضداد.

ومن معجز هذا الباب قوله تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله " فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام، ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين، وهما السكون والحركة على الترتيب، ثم عبر عن الحركة بلفظ الإرداف، فاستلزم الكلام ضرباً من المحاسن زائداً على المقابلة، وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس، وإضاءة الظرف الذي تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المأرب، ويتقي أسباب المهالك، والآية سيقت للاعتداد بالنعم، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه وتابعه ليتم حسن البيان، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة. فحصل في الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن، ألا تراه سبحانه جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان، حيث قال: " لتسكنوا ولتبتغوا " بلام التعليل، فجمعت هذه الكلمات المقابلة، والتعليل، والإشارة، والإرداف، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وحسن البيان، وحسن النسق، فلذلك جاء الكلام متلائماً آخذة أعناق بعضه بأعناق بعض، ثم أخبرن بالخبر الصادق أن جميع ما عدده من النعم بلفظه الخاص، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الإرداف بعض رحمته، حيث قال بحرف التبعيض: " ومن رحمته " وكل هذا في بعض آية عدتها عشر كلمات، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة المتظاهرة.
ومن أمثلة صحة المقابلات قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا الخرق في شيء إلا شانه " فقابل عليه السلام الرفق بالخرق، والزين بالشين بأحسن ترتيب وأتم مناسبة بين الرفق والخرق ولفظتي شانه وزانه.
ومن أمثلة صحة المقابلات الشعرية قول القائل أحسبه كثيراً في مقابلة الأضداد من أناشيد قدامة طويل:
فوا عجباً كيف اتفقنا فناصح ... وفي ومطوي على الغل غادر
فإن هذا الشاعر لما قدم ذكر النصح والوفاء في صدر البيت، قابلهما بذكر الغل والغدر في عجزه على الترتيب، لا، الغل ضد النصح، والغدر ضد الوفاء. وقد وقع في مقابلة الأضداد ما جمع بين ستة أضداد وهو بيت أنشده أبو دلامة للمنصور، وقد سأله عن أشعر بيت في المقابلة فأنشده بسيط
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
فإن الشاعر قابل أحسن بأقبح، والدين بالكفر، والدنيا بالإفلاس، فجمع بيته ما لم يجمعه بيت قيل قبله في التقابل، ولا خلاف في أنه لم يقل قبله مثله، وأما بعده فقد غير المتنبي في وجوه الناس بقوله بسيط
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فإنه جمع بين عشر مقابلات، قابل أزور بأنثنى، وسواداً ببياض، والليل بالصبح، ويشفع بيغرى، ولفظة لي بلفظة بي على الترتيب، ولا أعلم في باب التقابل أفضل من هذا البيت لجمعه من المقابلات ما لم يجمعه بيت لشاعر قبله ولا بعده إلى يومنا هذا، مع ما فيه من تمكين قافيته، بخلاف البيت الذي أنشده أبو دلامة، فإن قافيته مستدعاة لكون حسن الأشياء التي ذكرها، وقبحها لا يختص بالرجل دون المرأة، والمعنى قد تم بدون ذكر الرجل، ولو كان لما اضطر إلى القافية التي أفاد بها معنى زائداً بحيث يقول: بالبشر لكان البيت نادراً، غير أن المقابلة التي في البيت الذي أنشده أبو دلامة أفضل من المقابلة التي في بيت أبي الطيب، لأن المقابلة التي في البيت الأول بالأضداد، والتي في بيت المتنبي بالأضداد وبغير الأضداد، والمقابلة بالأضداد أفضل مراعاة للاشتقاق، لأن التقابل: التضاد والتناقض، فبيت المتنبي فضل بالكثرة والبيت الأول أفضل بجودة المقابلة، وقد أنشد بعض المؤلفين في هذا الباب قول أبي نواس طويل:
أرى الفضل للدنيا وللدين جامعاً ... كما السهم فيه الفوق والريش والنصل

وزعم أن هذا البيت فاسد المقابلة من جهة أنه قابل الدنيا والدين الذين هما طرفان بطرفي السهم، وهما الفوق والنصل، ونفي الريش لا مقابل له، وعندي أن البيت صحيح المقابلة، لأن أبا نواس قصد أن الممدوح جمع من الدين والدنيا ما ينتفع به، وما لا بد للعاقل المكلف منه، وهما طرفا نقيض، كما جمع طرفا السهم ما لا غنى بالسهم عنه، لأن الفوق موضوع الوتر، والريش الموصل، والنصل المصمى، فشبه الممدوح بالسهم الجامع لمصالح الطرفين، ولما كان الريش والفوق في طرف واحد كانا معاً مقابلين للنصل، إذ هو في الطرف الآخر، ولم يضر تعدادهما. وهو يريد الطرف الجامع لهما على أن الإخلال بصحة التقسيم في ظاهر اللفظ لا يفسد صحة المقابلة، فرب كلام وقع في ظاهر لفظه إخلال ببعض أقسامه، لكون ذلك القسم لم يذكر فيه بالفعل، وكان مذكوراً فيه بالقوة في باطنه، فجاء ظاهر لفظه يوهم الإخلال وهو بريء منه، كما جاء في قوله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " فقدم في صدر الكلام أمران: الوعد بالفقر، والأمر بالفحشاء، ثم قابل الشيئين في الظاهر بشيء واحد وهو الوعد. فأوهم أنه أخل بذكر الأمر، وليس كذلك، وإنما لما كان الفضل مقابلاً للفقر، والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء لأن الفحشاء توجب العقوبة. والمغفرة تقابل العقوبة، استغنى بذكر المقابل عن ذكر مقابله، لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر، ومثل ذلك من الشعر الفصيح قول القائل وافر:
أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهم الترابا
فما صبروا لبأس عند حرب ... ولا أدوا لحسن يد ثواباً
فإن ظاهر لفظ البيتين يؤذن بأن الشاعر أخل بمقابل قوله:
وأسقينا دماءهم الترابا
لأنه قابل اليأس بسلب الصبر، والإنعام بنفي الثواب، وليس الأمر كذلك لأن القتل والأسر داخلان في بأس الحرب، فهما شيء واحد وإن تعدد مقابلهما معاً بالصبر، لأنه يكون عليهما. والله أعلم.

باب صحة التفسير والتبيين
وهو أن يأتي المتكلم في أول الكلام، أو الشاعر في بيت من الشعر بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون أن يفسر، إما في البيت الآخر، أو في بقية البيت إن كان الكلام الذي يحتاج إلى التفسير في أوله.
ووقوع التفسير من الكلام على أنحاء: بعد الشرط، وما هو في معناه، وبعد الجار والمجرور، وبعد المبتدإ الذي التفسير خبره. فمثال ما وقع منه بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط قول الفرزدق طويل:
لقد جئت قوماً لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم
لألفيت منهم معطياً ومطاعناً ... وراءك شزراً بالوشيج المقوم
ومثال ما جاء بعد الجار والمجرور قول الحسين بن مطير الأسدي كامل:
وله بلا حزن ولا بمسرة ... ضحك يواصل بينه وبكاء

وكلا الرجلين - أعني الفرزدق وابن مطير - لم يراعيا الترتيب، وإن كان عدم الترتيب مع حسن الجوار وقرب الملائم لا ينقص به حسن الكلام البليغ، بل هو عندي نوع من صحة التفسير، ألا ترى إلى قوله تعالى: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم " ثم قال بعد ذلك: " وأما الذين ابيضت وجوههم " ومثل ذلك قول الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم " فإنه لما قدم ذكر الأبلغ على ما دونه - وطريق البلاغة الترقي - نعلم من هذا الترتيب أن توخي الملاءمة، وحسن الجوار أولى من حسن الترتيب، إذ كان اسم الله تعالى يختص به دون بقية أسماءه، وكان الرحمن وصفاً مختصاً به دون بقية صفاته، فأتبع الأخص بالأخص، ولتوخي الملاءمة ومراعاة حسن الجوار عدل عن الإيضاح، وتعمد التقديم والتأخير الذي هو أحد الوجوه الثلاثة التي يحصل بها الإشكال، فإن التنزيل لو كان في آية الطهارة، " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤسكم " لم تختلف العلماء في المسح والغسل، لكن القصد إلى نظم الكلام على الوجه الأحسن من مجاورة الملائم بالملائم ليكون لفظ الكلام مؤتلفاً مع معناه، عدل عن ذلك الترتيب إلى التقديم والتأخير، لأن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضوء أصحابه والتابعين لهم بإحسان لم يرو أن أحداً منهم غسل رجليه قبل مسح رأسه، وإذا علم أن مسح الرأس مقدم على غسل الرجلين علم أن الواجب غسل الرجل من حيث إنه سبحانه قدم ذكر مسح الرأس، ليعلمنا ترتيب غسل الأعضاء في الوضوء كما كانت في الغسل، فإن الغسل يختم فيه بغسل الرجلين، ولما أخر ذكر الرجلين أتى بالتحديد ليعلم أن الأمر فيهما معطوف على الأعضاء المغسولة، لا على العضو الممسوح، فإن المسح لم تضرب له غاية احتراساً ممن يظن أن الرجل ممسوحة، ولعربية الشافعي ومعرفته بكنه بلاغة العرب أوجب الترتيب في الوضوء، لكون الآية جاءت مرتبة للأعضاء، ولم يحفل بالتقديم والتأخير، وإن أوجب لبساً اتكالاً على ما في التحديد من دفع ذلك اللبس. وما سمعت ولا غيري بمستمع كقول الله سبحانه وتعالى: " سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " فإن صحة التقسيم اندرجت في صحة التفسير، واندمج الترتيب والتهذيب في صحة التقسيم، وحصل الائتلاف من حصول الترتيب، إذ قدم سبحانه النبات، وثنى بأشرف الحيوان، فكان غيره من الحيوان بطريق أولى، ثم ثلث بقوله: " ومما لا يعلمون " فاندرج تحت هذا العموم كل ما اختص الله بعلمه من المولدات الثلاث، بل من جميع المخلوقات من كل موجود سوى الله، فحصل الترقي على سنن الفصاحة، والمشي على نهج البلاغة وأتت الفاصلة في غاية التمكين، فالآية الكريمة لذلك تصلح أن تكون شاهداً للتفسير، والتقسيم، والتهذيب، والائتلاف، والتمكين، وإنما خصصت بها باب التفسير، لأنه أول مذكور فيها، ومنه تتفرع بقية ما انطوت عليه من المحاسن، ولقد أحسن ابن شرف القيرواني في التفسير الواقع بعد الجار والمجرور حيث قال طويل:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العتبى وللخائف الأمن
ون أناشيد قدامة فيما جاء من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط قول صالح بن جناح اللخمي طويل:
لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ثم فطن الشاعر إلى أنه أجمل في قوله: وإن كنت محتاجاً إلى الحلم، فإنني في بعض الأوقات إلى الجهل أحوج، ولم يبين كونه إذا احتاج إلى الجهل واضطر له هل يقدر على أن يجهل؟ فقال في البيت الثاني طويل:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فبين أن عنده حلم لمن يعامله بالحلم، وجهل لمن يعامله بالجهل، وهذا بسط قول عمرو بن كلثوم وافر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لكن بيت ابن جناح أمشى على سنن العدل من بيت ابن كلثوم لاستضاءته بنور القرآن العزيز، وتأدبه بأدبه لأنه عقد بالوزن قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " .
ثم فطن - أعني ابن جناح - إلى كونه لم يتبين العلة التي تحوجه إلى الجهل، فقال في البيت الثالث طويل:

فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإني معوج
ومثال ما جاء من التفسير بعد خبر المبتدإ بشرط أن يكون المفسر مجملاً والمفسر له مفصلاً قول ابن الرومي كامل:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم
وهذا أفضل ما سمعته في باب التفسير من الشعر، فإنه راعى فيه الترتيب أحسن مراعاة، فلو كمله بأن يستوعب فيه أقسام منافع النجوم بأن يضيف إلى ما ذكره سقياها الأرض، حصل في بيته صحة التقسيم مع صحة التفسير، وإن كان هذا غير لازم للشاعر، لكنه لو اتفق له ذلك كان أحسن. ولما لحظت ذلك خطر لي أن أعمل معناه على ما وقع لي من صحة التقسيم مع صحة التفسير، فقلت في شرف الدين حسن بن سناء الملك؛ طويل:
لآبائك الماضين يا حسن الندى ... صفات بها لا غير تعلو المراتب
وجوه وآراء وشهب عزائم ... وأيد بديجور الخطوب كواكب
يماط الدجى منها ويهدي بها الورى ... ويرحم من يجنى وتسقى السحائب
ومن بديع التفسير قول أبي جعفر الخراز النظيري من نظر بلنسية، من شعراء المائة السادسة في ابن عباد طويل:
وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجني ولا زرع يحصد
ثمار أياد دانيات قطوفها ... لأغصانها ظل علي ممدد
يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهن تغرد
ون التفسير نوع لا تعرف صحته، لأنه يأتي مفسراً لشيء مقدر في النفس، لم يجر له ذكر في الكلام الذي تقدم، لكنه يكون ملزوم الكلام المتقدم من ظاهر اللفظ، ولأن المفسر لا تنحصر تفاصيله كقول المتنبي كامل:
وجلا الوداع من الحبيب محاسناً ... حسن العزاء وقد جلين قبيح
فيد مسلمة وطرف شاخص ... وحشاً يذوب ومدمع مسفوح
وذلك أن البيت الثاني لا يصلح أن يكون تفسيراً للبيت الأول، لأن البيت الأول أشار إلى صفات الحبيب، والبيت الثاني يشير إلى أحوال المحب، وإنما لما قال في البيت الأول إن الوداع جلا من الحبيب محاسناً قبح عند رؤيتها، كان كأنه قدر في نفسه أنه عندما تحقق مقارنة تلك المحاسن بقيت حاله على ما شرحه وفسره في البيت الثاني.
ومن مليح التفسير وبديعه قول محمد ابن وهيب في المعتصم بسيط
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
ولقد أحسن مجد الملك بن شمس الخلافة حين تناول هذا المعنى ما شاء، فإنه وطأ له توطئة ملائمة، لو اقتصرنا في تفضيله عليها كانت كافية لا سيما وقد زاد فيه زيادة غير خافية عن ذي بصيرة حيث قال كامل:
شيئان حدث بالقساوة عنهما ... قلب الذي يهواه قلبي والحجر
وثلاثة بالجود حدث عنهم ... البحر والملك المعظم والمطر
لكن واسطة الثلاثة خيرها ... وكذاك خير العقد واسطة الدرر
ومن التفسير ضرب يأتي في حشو البيت وهو غريب في التفسير، لأن غالب مجيء التفسير إما في عجز البيت، أو في بيت آخر، وهو قول عمرو بن كلثوم وافر:
ويوم كريهة طعناً وضرباً ... أقر به مواليك العيونا
فقوله: " طعناً وضرباً " تفسير ليوم الكريهة.
ومن لطيف التفسير وغريبه تفسير وقع بعد الإخبار، وهو غير الأقسام المتقدمة، وذلك قول أبي حية النميري طويل:
فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين: كف ومعصم
والمعنى من قول النابغة الذبياني كامل:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
وبيت أبي حية أجزل لفظاً، وأتم معنى، وأحسن رونقاً وديباجة.
ومن مليح التفسير الذي وقع في بيت قول بعض المغاربة بسيط
صالوا وجالوا وضاؤوا واحتبوا فهم ... أسد ومزن وأقمار وأجبال
فإنه أحسن فيه الترتيب، ووقع التفسير في عجز البيت كله، والمفسر في الصدر كل بحيث أتى كل قسم مستقلاً بنفسه، وجمع إلى ذلك المساواة، فإن لفظه طبق معناه، ومن التفسير نوع يتقدم التفسير فيه على المفسر، كقول زينب بنت زياد المؤدب من شواعر العرب طويل:

ولا أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقلت حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والماء والنار
فقولها: من مقلتيك وأدمعي ومن نفسي تفسير لبقية البيت.
ومن معجز التفسير ما جاء في الكتاب العزيز منه كقوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومهم من يمشي على أربع " فذكر سبحانه الجنس الأعلى أولاً حيث قال: " كل دابة " فاستغرق أجناس كل ما دب ودرج. ثم فسر هذا الجنس بعد ذلك بالأجناس المتوسطة والأنواع، حيث قال: فمنهم، ومنهم، ومنهم مراعياً للترتيب وذلك أنه قدم ما يمشي بغير آلة لكون الآية سيقت لبيان القدرة وتعجب السامع، وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي بآلة، فلذلك كان تقديمه ملائماً لمقصود الآية، ثم ثنى بالأفضل فالأفضل، فأتى بما يمشي على رجلين، وهو الآدمي والطائر، لتمام خلق الإنسان وكمال حسن صورته، ولما في الطائر من عجب الطيران الدال على الخفة، مع ما فيه من كثافة الأرضية، وثلث بما يمشي على أربع لأنه أحسن الحيوان البهيم وأقواه، تغليباً له على ما يمشي على أكثر من الأربع من الحشرات، وإن كان داخلاً فيما يمشي على الأربع، وإنما خص ذلك بالذكر دونه لفضله عليه، فاستوعب الأقسام، وأحسن الترتيب، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المحاسن، وهي صحة التفسير وصحة التقسيم، مع مراعاة الترتيب، والإشارة، وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن النسق.

باب ائتلاف اللفظ مع المعنى
ذا الباب ذكره قدامة وترجمه منفرداً، ولم يبين معناه، وشرحه الآمدي فأطال، ولم توف عبارته بإيضاحه؛ وتلخيص معنى هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعنى المطلوب ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى، ومثال ذلك قوله سبحانه: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " فعدل سبحانه عن الطين الذي أخبر في كثير من مواضع الكتاب العزيز أنه خلق آدم منه، منها قوله تعالى: " إني خالق بشراً من طين " وقوله سبحانه حكاية عن إبليس: " خلقتني من نار وخلقته من طين " فعدل عز وجل. وهو أعلم. عن ذكر الطين الذي هو مجموع الراب والماء إلى ذكر مجرد التراب، لأنه أدنى العنصرين، وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك، فهذا كان الإيتان بلفظة التراب أمتن بالمعنى من غيرها من العناصر ولو كان موضعه غيره لكان اللفظ غير مؤتلف بالمعنى المقصود، ولما أراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل بعيسى عليه السلام أخبرهم عنه أنه يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيماً لأمر ما يخلقه بإذنه، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
ومن ائتلاف اللفظ مع المعنى أن يكون اللفظ جزلاً إذا كان المعنى فخماً، ورقيقاً إذا كان المعنى رشيقاً، وغرساً إذا كان المعنى غريباً بحتاً، ومستعملاً إذا كان المعنى مولداً محدثاً، كقول زهير طويل:
أثافي سفعاً في معرس مرجل ... ونؤباً كجذم الحوض لم يتثلم
فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع وأسلم
فإن زهيراً لما قصد إلى تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى عربي لكن المعنى غير غريب، ركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال، ولما قصد في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأول وأعرف وإن كان غريباً ركبه من ألفاظ مستعملة معروفة.
ومن شواهد هذا القسم من الائتلاف من الكتاب العزيز قوله تعالى: " قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين " فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن والله وبالله أكثر استعمالاً وأعرف عند الكافة من تالله لما كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصيغ التي في بابه، فإن كان وأخواتها أكثر استعمالاً من تفتأ وأعرف عند الكافة، ولذلك أتى بعدهما بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة، وهي لفظة حرض ولما أراد غير ذلك قال في غير هذا الموضع " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " لما كانت جميع الألفاظ مستعملة وعلى هذا فقس. والله أعلم.

ومن هذا الباب ملاءمة الألفاظ في نظم الكلام على مقتضى المعنى، لا من مجرد جملة اللفظ، فإن الائتلاف من جهة ما قدمنا من ملاءمة الغريب للغريب والمستعمل للمستعمل، لا من جهة المعنى، بل ذلك من جهة اللفظ.
وأما الذي من جهة المعنى فقوله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " فإنه سبحانه لما نهى عن الركون للظالمين، وهو الميل إليهم، والاعتماد عليهم، كان ذلك دون مشاركتهم في الظلم، أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم، وهو مس النار، دون الإحراق والاصطلاء، وإن كان المس قد يطلق ويراد به الاستئصال بالعذاب وشمول الثواب أكبر مجازاً، ولما كان المس أول ألم أو لذة يباشرها الممسوس جاز أن يطلق على ما يدل عليه استصحاب تلك الحال مجازاً، والحقيقة ما ذكرناه وهو في هذه الآية الكريمة على حقيقته، والله عز وجل أعلم.

باب المساواة
وهذا الباب مما فرعه قدامة من الباب المتقدم عليه، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ مساوياً للمعنى حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه وهذا من البلاغة التي وصف بها بعض الوصاف بعض البلغاء فقال: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه، ومعظم آيات الكتاب العزيز كذلك، ومنها قوله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " فإن قيل: معظم هذه الآية من باب الإشارة، لأن العدل والإحسان والفحشاء والمنكر على قلة هذه الألفاظ تدل على معاني من أفعال البر وضدها لا تنحصر، ولا معنى للإشارة إلا دلالة اللفظ القليل على المعاني الكثيرة، فكيف تجتمع المساواة والإشارة؟ قلت: المساواة تطلق ويراد بها معنيان: أحدهما أن تكون ألفاظها ألفاظ المعنى الموضوعة له، فتلك هي التي لا تزيد على المعنى ولا تقصر عنه، وهي التي لا تجتمع مع الإشارة ولا الإرداف ولا غيرهما من الكلام الذي لفظه أقل من معناه، والثاني أن يكون لفظ الكلام غير لفظ معناه الموضوع له، كالإشارة والإرداف وما جرى هذا المجرى، فإن كانت كذلك ولم يأت المتكلم في أثناء الكلام وخلاله بلفظة زائدة على لفظ المقصد الذي قصده لإقامة وزن أو لاستدعاء قافية أو تتميم معنى، أو لإيغال أو سجعة، فتلك أيضاً مساواة لأن لكل باب لفظاً يخصه، فمتى زاد على ذلك اللفظ الدال على ذلك المعنى المقصود كان الكلام غير موصوف بالمساواة.
ومن هذا الباب في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " الآية فإن قيل: لفظة القوم في قوله تعالى: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " زائدة يمنع الآية أن توصف بالمساواة، فإنه لو قال وقيل بعداً للظالمين أجزأ. قلت: لما سبق قوله تعالى: " وكلما مر عليها ملأ من قومه " وقوله سبحانه: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " أوجبت البلاغة أن يقول في آخر الكلام: " بعداً للقوم الظالمين " ، ولو اقتصر سبحانه على لفظة الظالمين دون لفظة القوم لتوهم متوهم أن آلة التعريف في الظالمين للجنس وهو خلاف المراد، فإن المراد بالظالمين هاهنا قوم نوح الذين قدم ذكرهم ووصفهم بالظلم، ونهاه عن المخاطبة فيهم ليرتد عجز الكلام على صدره، ويعلم أن المدعو عليهم هم الذين تقدم ذكرهم احتراساً من وقوع هذا التوهم، ولا يحصل ذلك إلا بذكر القوم فقد صار الإتيان بها يفيد معنى لم يفده الكلام بدونها.
واعلم أن البلاغة قسمان: إيجاز، وإطناب، والمساواة معتبرة في القسمين معاً، فأما الإيجاز فكقوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " والإطناب في هذا المعنى كقوله: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل " وكقوله سبحانه في قسم الإيجاز من غير هذا المعنى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " وكقوله تعالى في الإطناب: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية، ولا بد من الإتيان بهذا الفصل لئلا يتوهم أن الإطناب لا يوصف بالمساواة.
ومن شواهد المساواة قول امرئ القيس متقارب:
فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا لدم نقصد
وكقول زهير طويل:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكقول طرفة طويل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
باب الإشارة

وهو أيضاً مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على المعنى الكثير بإيماء أو لمحة تدل عليه، كما قال بعضهم في صفة البلاغة: هي لمحة دالة، وشرح هذا الحد أنها إشارة المتكلم إلى معاني كثيرة بلفظ يشبه ..لقلته واختصاره بإشارة اليد، فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة جداً، ولا بد في الإشارة من اعتبار صحة الدلالة وحسن البيان مع الاختصار، لأن المشير بيده إن لم يفهم المشار إليه معناه بأسهل ما يكون، فإشارته معدودة من العبث، ولهذا قال هند ابن أبي هالة في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يشير بكفه كلها وإذا تعجب قلبها، وإذا حدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى " فوصفه ببلاغة اليد كما وصفه ببلاغة اللسان، يعني أنه يشير بيده في الموضع الذي تكون فيه الإشارة أولى من العبارة، وهذا حذق بمواضع المخاطبات. وقوله: " كلها " أي يفهم بها المخاطب كل ما أراده بسهولة فإن الإشارة ببعض الكف تصعب، وبكل الكف تسهل، فأعلمنا هذا الوصاف أنه صلى الله عليه وسلم كان سهل الإشارة، كما كان سهل العبارة.
وهذا ضرب من البلاغة الذي يمتدح بمثله، وهو أيضاً من بلاغة الواصف إذ أشار بقوله: كلها إلى كل المقصود الذي تدل عليه الإشارة، ومن حذق الواصف إتيانه بلفظ الإشارة في الوصف، لما أراد أن يصف الإشارة البديعية وقسمها قسمين: قسماً للسان وقسماً لليد، وقوله: " وإذا تعجب قلبها " ، يعني أنه يشير بها على وجهها إذا كان المعنى الذي يشير إليه على وجهه ليس فيه ما يستغرب فيعجب منه، فإن الشيء المعجب إنما يكون معجباً لكونه غير معهود، فكأن الأمر فيه قد قلب لمخالفته المعهود، فلذلك يجعل صلى الله عليه وسلم قلب يده في وقت الإشارة إشارة إلى أن هذا الأمر قد جاء على خلاف المعهود، ولذلك تعجب منه. وقوله " وإذا حدث اتصل بها " يعني اتصل حديثه بها فيكون المعنى متصلاً، والمفهوم بالعبارة والإشارة متلاحماً، آخذة أعناق بعضه بأعناق بعض، وقوله: " فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى " يعني أنه عند انتهاء إشارته يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى مشيراً إلى أنه ختم الإشارة، لأن الإبهام بها يختم القبض، ولذلك عطف هذه الجملة بالفاء، ولم يأت بها معطوفة بالواو، كما أتى بما قبلها من الجمل لكونها آخر إشاراته، والواو لكونها غير مقتضية للترتيب، يجوز أن يكون المتأخر بها متقدماً ولا كذلك الفاء، إذ لا بد أن يكون المعطوف بها متأخراً لكونها موضوعة للتعقيب.
وأما اقتصاره على باطن الإبهام دون ظاهرها فمعناه أنه جعل آخر الإشارة متصلاً بأول العبارة اتصالاً متلائماً كملاءمة باطن الكف التي ضرب بها باطن الإبهام التي ضرب عليها، وهذه أيضاً من بلاغة الواصف رضي الله عنه ومن شواهد الإشارة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وغيض الماء " فإنه سبحانه أشار بهاتين اللفظتين إلى انقطاع مادة الماء من مطر السماء ونبع الأرض، وذهاب الماء الذي كان حاصلاً على وجه الأرض قبل الإخبار إذ لو لم يكن ذلك لما غاض الماء.
وكقوله سبحانه: " فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين " فالمح كل ما تميل النفوس إليه من الشهوات وتلتذه الأعين من المرئيات، لتعلم أن هذا اللفظ القليل جداً عبر عن معان كثيرة لا تنحصر عداً. وكذلك قوله تعالى: " فانبذ إليهم على سواء " بمعنى قابلهم بما يفعلونه معك، وعاملهم بمثل معاملتهم لك سواء مع ما تدل عليه لفظة سواء من الأمر بالعدل، ومثل هذا المعنى قول زهير وافر:
فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء
يعني: قابلت كل منكرة منك بكفئها.
وإذا علمت ذلك فانظر ما بين هذا البيت وبين قوله تعالى: " فانبذ إليهم على سواء " لتعلم فرق ما بين الكلامين.
ومن أمثلة هذا الباب قول امرئ القيس وافر:
بعزهم عززت وإن يذلوا ... فذلهم أنالك ما أنالا
فانظر كم تحت قوله: أنا لك ما أنا لا من أنواع الذل، وكذلك قوله للمسيب كامل:
ولأشكرن غريب نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل
أنت الشجاع إذا هم نزلوا ... عند المضيق وفعلك الفعل

فالحظ كم تحت قوله وفضله الفضل بعد إخباره بأنه يشكر غريب نعمته حتى يموت من أصناف المدح، وترجيح فضله على الشكر، وفي قوله غريب نعمته غاية المدح، إذ جعل نعمته نعمة لم يقع مثلها في الوجود قط، وكذلك قوله: وفعلك الفعل بعد إخباره بنزول القوم عند المضيق الدال على صبرهم وشجاعتهم، وما في ذلك من ترجيح شجاعة الممدوح عليهم.
وكذلك قوله في صفة الفرس طويل:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كز ولا وان
فإنه أشار بقوله أفانين جرى إلى جميع صنوف عدو الخيل المحمودة والذي يدل على أنه أراد الأفانين المحمودة، نفيه عن الفرس الكزوزة والونى، فسلبه صفات القبح من الجماح والحرن والاسترخاء والفتور، وجعله يعطي هذا الجري عفواً من غير طلب ولا حث، وهذا كمال الوصف وتمام النعت، ولو عدت هذه المعاني بألفاظها الموضوعة لها لاحتيج في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة.
ومن الإشارة نوع يقال له اللحن والوحي، وهو يجمع العبارة والإشارة ببعد لا يفهم طريقه إلا ذو فهم، كما قال الشاعر كامل:
ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا ... ولحنت لحناً ليس بالمرتاب
ومثال ذلك ما حكى عن رجل من بلعنبر، أسر في بكر بن وائل فسألهم أن يرسل إلى قومه؛ فقالوا: ترسل بحضرتنا، وخافا أن ينذرهم، فإنهم عزموا على غزو قومه، فحضروا وأحضروه عبداً، فقال له: أتعقل؟ قال: إني لعاقل، فأشار إلى الليل، وقال: ما هذا؟ فقال: الليل؛ فقال: أراك عاقلاً، فملأ كفه من الرمل وقال: كم عدد هذا؟ فقال: لا أدري وإنه لكثير، فقال: أيها أكثر: النجوم، أم النيران؟ فقال: إن كلا لكثرة، فقال: إيت قومي، وأقرئهم السلام وقل لهم: أكرموا فلاناً فإن قومه لي مكرمون، يعني أسيراً كان عند قومه من بكر بن وائل، ثم قل لهم: إن العرفج قد أوفى وقد اشتكت النساء، ومرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، ويركبوا جملي الأصهب، وبآية ما أكلت معكم حيساً وسلوا عن خبري أخي الحارث، فلما قال لهم العبد ذلك قالوا: لقد جن الأعور والله ما له ناقة ولا جمل، فلما سألوا أخاه سأل العبد عما قال له أولاً فأخبره، فشرحه، وقال لهم: قد أنذركم، أما الليل فإنه أشار إلى أنكم في عمياء مظلمة، وأما الرمل فإنه أشار إلى أنكم تغزون بمثل عدده، وأما النجوم والنيران، فأشار بذلك إلى كثرة عدد عدوكم، وأما قوله: أوفى العرفج فإنه أشار إلى أن العدو قد استلأموا وركبوا، وأما قوله: اشتكت النساء، أي اتخذوا القرب للغزو، وأما الناقة الحمراء فعني الدهناء، وقوله أطلتم ركوبها، إشارة إلى أنكم قد عرفتم بإيطانها لطول مقامكم بها فأمركم أن ترحلوا عنها، وتنزلوا الصمان، وهو الجمل الأصهب الذي أمر كم بركوبه، ففعلوا فسلموا، وأما الحيس، فإشارة إلى أن عدوكم قد جمع لكم أخلاطاً كما جمع الحيس السمن والتمر والأقط والله أعلم.
ومن أمثلة الوحي والإشارة بضرب من الاستعارة قول يزيد بن الوليد لمروان بن محمد، وقد بلغه عنه تلكؤه عن بيعته: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا قرأت كتابي هذا فاقعد على أيهما شئت.
ومن ذلك قول الحجاج للمهلب: إن فعلت وإلا أشرعت لك صدر الرمح، فقال المهلب متى أشرع الأمير إلى صدر الرمح قلبت له ظهر المجن.
ومن شواهده الشعرية قول امرئ القيس طويل:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقوله عمرو بن معد يكرب طويل:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت
وكقول شاعر الحماسة طويل:
بني عمنا لا تنبشوا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
وكقول الآخر طويل:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا
وكل هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنشده العباس بن مرداس متقارب:
أتجعل نهبي ونهب العبيد
فقال: يا علي، اقطع لسانه عني، فأخذ علي بيده فأخرجه، فقال أقاطع لساني يا أبا الحسن؟ فقال: إني لممض فيك ما أمر، وكل هذا من قوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " ويدخل في هذا قوله عز وجل: " وثيابك فطهر " أي بدنك، قال الأصمعي: في تفسير هذا الحرف: تقول العرب فدى لك ثوبي، يريدون نفسه، وأنشد وافر:

ألا أبلغ أبا حفص رسولاً ... فدى لك من أخي ثقة إزارى
وقال عنترة كامل:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم

باب الأرداف والتتبيع
هذا الباب مما فرعه قدامة أيضاً من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وسماه هذه التسمية، وشرح تسميته بأن قال: هو أن يريه المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، ويعبر عنه بلفظ هو ردفه وتابعه أي قريب من لفظه قرب الرديف من الردف، مثل قوله تعالى: " واستوت على الجودي " فإن حقيقة ذلك وجلست على هذا المكان، فعدل عن لفظ المعنى الخاص به إلى لفظ هو ردفه، وإنما عدل عن لفظ الحقيقة لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من قولك جلست أو قعدت أو غير ذلك من ألفاظ الحقيقة، إذ كان المراد والله أعلم الإخبار ينفي الأسباب الموجبة خوف أهل السفينة من السفينة في حالتي حركتها وسكونها، وذلك لا يحصل حتى يفهم السامع أنها جلست جلوساً متمكناً لا يمل فيه يوجب الخوف، ولا يحصل إلا بلفظ الاستواء دون غيره، وقد جاء في السنة من أمثلة هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن بعض النسوة في حديث أم زرع حيث قالت: " زوجي رفيع العماد، عظيم الرماد، قريب البيت من المناد " فإنها أرادت مدح زوجها بتمام الخلق والتقدم على قومه ونهاية الكرم، ولو عبرت عن هذه المعاني بألفاظها لاحتاجت بإزاء كل معنى لفظاً يخصه، فتكثر الألفاظ، ولا يدل كل لفظ إلا على معناه فقط، وألفاظ الإرداف كل لفظ منها يدل على جميع ما أرادت من صفات المدح على انفراد، لا، قولها رفيع العماد يدل على تمام الخلق إذ بناء البيوت على مقادير أجسام الداخلين لها غالباً، ويدل على عظم قدر صاحبه، إذ لا يقدر على أن يرفع بيته على البيوت إلا من قدره مرتفع على الأقد، ارويدل على الكرم أيضاً، لأن الوفود والضيفان يعمدون إلى قصد البيوت المرتفعة دون بيوت الصرم وكذلك عظم الرماد يدل على عظم القدر وعظم الكرم وكثرة الثروة، ومثله قولها " قريب البيت من الناد " ليسبق إلى الضيف، لأن الضيف يقصد النادي، وهو موضع مجمع رجال الحي للحديث، فإذا كان البيت قريباً منه كان صاحبه إلى الضيف أسبق، ولا تحصل هذه المعاني إلا من لفظ الإرداف، فإن قيل: فإذا كانت كل لفظة من ألفاظ الإرداف تدل على عدة معان فما الفرق بين الإرداف والإشارة؟ قلت: لفظ الإرداف يتضمن مع الدلالة على المعاني الكثيرة زيادة مدح للمدوح، ووصف للموصوف، ولفظ الإشارة لا يتضمن إلا الدلالة على كثرة المعاني فقط.
ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول امرئ القيس طويل:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فإنه أراد أن يصف هذه المرأة بأنها مخدومة، لها من يكفيها أمر بيتها، فعبر عن ذلك بلفظ يدل على أنها موصوفة بالنعمة ودقة البشرة واقتبال الشباب وكثرة الحظوة وعظم الثروة، فعدل عن لفظ هذا المعنى الذي أراده إلى لفظ هو ردفه حيث قال: طويل
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى .. ... ... ....
لأنها لا تنام الضحى إلا وهي مخدومة عندها من يكفيها أمر بيتها، فهي لا تباشر الأعمال، ولذلك تكون منعمة مرفهة غير شظفة ولا ممتهنة، ألا تراه أكد ذلك بقوله: " لم تنتطق عن تفضل " أي لم تشد في وسطها نطاقاً على ثوبها الذي تنام فيه كفعل من يريد أن يعمل عملاً من النساء، ودل قوله:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها

على أنها حظية عند الرجال المثرين، وأنهم في غاية الميل إليها مع القدرة بالثروة على الاستكثار من حرائر النساء ومن الإماء، إما لإفراط جمالها، أو لسعد جدها، وأنها ممن يسمح لها من أعلى الطيب وأغلاه بما يبقى فتيته في صبيحة كل ليلة على فراشها، بعد ما يتصعد منه ويلصق بجسمها. ويعلق بشعرها وبشرتها؛ ولا يعطي قوله: إن هذه المرأة لها من يخدمها جميع ما يعطيه قوله: " نؤوم الضحى " فإن هذا اللفظ مع دلالته على أنها مخدومة يدل على كثرة النوم الذي لا يكون إلا من غلبة الدم الطبيعي في سن النمو، وطبيعة الدم حارة رطبة، وهي طبع الحياة ومادتها. فيكون اللون به مشرقاً، والماء في الوجه كثيراً، والأخلاق حسنة، لأجل اعتدال المزاج، ولو ترك لفظ الإرداف وعبر عما قصده باللفظ الخاص وهو قوله: إنها مخدومة لم تحصل هذه المعاني التي حصلت من لفظ الإرداف، وكذلك لو قال: إنها من أهل الثروة لم يوف بما أراد من كونها معشقة للمثرين من الرجال، مع القدرة بالثروة على الاستكثار من النساء، وأنها ممن يسمح لها بذلك، فوجب العدول عن لفظ المعنى إلى لفظ الإرداف، لدلالته مع اختصاره على المعاني التي لا يدل عليها لفظ الحقيقة، ولما يتضمن من زيادة الوصف، وقد انتحل ابن رشيق أحد أسمى هذا الباب وهو التتبيع وأفرده بابا من الإرداف، وزعم أن غيره واستشهد عليه بشواهد فيها ما لا يمس به ألبتة، وبقيتها لا يعقل الفرق بينه وبين شواهد الإرداف، وهو يظن أنه قد فرق بينهما منها قول المتنبي طويل:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم فيما وهبت ملام
وقال: أعني ابن رشيق دل هذا البيت على الشجاعة بلفظ الإرداف، ودل على الكرم بلفظ التتبيع يعني أن الإرداف اشتقاقه من الردف فلفظه أقرب إلى لفظ المعنى؛ والتتبيع: من التتابع، والتابع يكون قريباً ويكون بعيداً. ويعد ذلك على قدامة من أغاليطه وهو أولى بالغلظ منه، لأن التتبيع وإن كان في نفس الأمر كما ظنه لكنه في هذا الموضع أراد به التابع القريب بدليل أنه ذكره بلفظ التفعيل الدال على النكتتين، ولو لم يقصد ذلك لقال: الإتباع دون البعيد فإن الألفاظ إذا كانت من أجل الوضع تدل على معنيين بحيث لا يتخلص إلى أحدهما دون الآخر إلا بقرينة، كانت حال اقترانها بالقرائن مخلصة للمعنى الذي تدل عليه القرينة.
وقدامة أتى بلفظ التتبيع مقترناً بالإرداف، فعلم أنه أراد التابع القريب والرديف تابع قريب، فلا فرق بينهما في هذا الموضع.
وأما بيت المتنبي الذي أتى به ابن رشيق ليكون دليلاً له فهو دليل عليه، لأنه عكس ما فسره به، وذلك أن اللفظ الدال فيه على الكرم هو الذي يجب أن يسمى إردافاً لأنه أقرب إلى لفظ الكرم، لكونه صرح فيه بلفظ الهبة، واللفظ الدال على الشجاعة بعيد من لفظ الشجاعة بالنسبة إلى لفظ الكرم، وقدامة رأى الفصحاء قد دلوا تارة على مقاصدهم بألفاظ قريبة من الألفاظ الموضوعة لتلك المقاصد، وطوراً بألفاظ بعيدة من الألفاظ الموضوعة لتلك المقاصد فسمي الأول إردافاً، والثاني تمثيلاً، لأن المثل وإن وجد قريباً من المثل وبعيداً فلا يبلغ قرب التابع القريب ولا الرديف، وسيأتي بيان ذلك في الباب الذي يلي هذا الباب، والله أعلم.
وأخذ ابن الأثير يؤيد ما ذكره ابن رشيق بأن قال: وفي الألفاظ ما يدل على المعنى بظاهره، وفيها ما يدل على المعنى بتأويله، والأول هو الإرداف، والثاني هو التتبيع، ومثال الأول قول عمر بن أبي ربيعة طويل:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
وقال: بعد مهوى القرط يفهم منه طول العنق بغير تأويل، بخلاف قول المتنبي:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا له
فإن صدر هذا البيت لا يدل على الشجاعة بظاهره، وإنما يدل عليها بالتأويل.
ولو رأى ضياء الدين رحمه الله كتابه الذي سماه تزييف النقد، يرد به على قدامة رأى كتاباً يحلف الحالف صادقاً أنه ما تكلم فيه بحرف واحد إلا وهو مطبق الجفون ليس له وقت إفاقة ألبتة.
وأما كلامه في هذا الفصل فما هو عندي بالبعيد من كلامه في هذا الكتاب الذي أشرت إليه.

وأما قول ضياء الدين رحمه الله تعالى: إن مهوى القرط يدل على طول العنق بغير تأويل، فكل مميز من بنى آدم يعلم أن قولنا: طويلة العنق يفارق قولنا: بعيدة مهوى القرط من جهة أن الأول علامة لطول العنق، متى سمع فهم منه هذا المعنى، بخلاف قوله: بعيدة مهوى القرط، فإنه لا يفهم منه معنى طول العنق إلا بالتأويل، وهو أن قرطها إنما كان بعيد موضع الهبوط لطول عنقها، فدلالة الأول دلالة مطابقة، ودلالة الثاني دلالة التزام، وكذلك قول المتنبي:
إلى كم ترد الرسل
فإنه أيضاً يدل على الشجاعة بالتأويل، فقد استويا في الدلالة على المعنى بالتأويل، إذ لا يصلح واحد منهما أن يدل على المعنى بظاهره، فلا فرق بينهما من هذا الوجه، وإنما الفرق بينهما من جهة القرب والبعد، فإن لفظ بعد مهوى القرط أقرب إلى لفظ طول العنق من لفظ رد الرسل إلى لفظ الشجاعة، فلا جرم أن الأول يسمى إردافاً، والثاني يسمى تمثيلاً، لقرب الإرداف من لفظ المعنى، وبعد التمثيل من لفظه، وليس العجب من كون هذا الموضع أشكل على ابن رشيق، فإنه قد أشكل عليه ما هو أوضح منه، وإنما العجب كيف يمشي على ضياء الدين رحمه الله مع رجاحة عقله، وثقوب ذهنه، وسلامة حسه والله أعلم.

باب التمثيل
ذا الباب أيضاً مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وقال: هو أن يريد المتكلم معنى فلا يدل عليه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ قريب من لفظه، وإنما يأتي بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلاً، يصلح أن يكون مثالاً للفظ المعنى المراد، مثل قوله تعالى: " وقضي الأمر " وحقيقة هذا: أي هلك من قضى هلاكه، ونجا من قدرت نجاته، وإنما عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ التمثيل لأمرين: أحدهما اختصار أمر اللفظ، والثاني كون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع، إذ الأمر يستدعي آمراً، وقضاؤه يدل على قدرة الآمر، وطاعة المأمور، ولا يحصل ذلك من اللفظ الخاص.
ومن شواهده في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم حكاية عن بعض النسوة في حديث أم زرع: " زوجي ليل تهامة، لا حر ولا برد، ولا وخامة ولا سآمة " فعدلت عن لفظ المعنى الموضوع له إلى لفظ التمثيل، لما فيه من الزيادة، وذلك تمثيلها الممدوح باعتدال المزاج المستلزم حسن الخلق، وكمال العقل اللذين ينتجان لين الجانب وطيب المعاشرة، وخصت الليل بالذكر لما في الليل من راحة الحيوان، وخصوصاً الإنسان، لأنه يستريح فيه من الكد والفكر، ولكون الليل جعل سكناً، والسكن الحبيب، لا سيما وقد جعلته ليلاً معتدلتاً بين الحر والبرد، والطول والقصر، وهذا صفة ليل تهامة، لأن الليل يبرد فيه الجو بالنسبة إلى النهار مطلقاً، لغيبة الشمس، وخلوص الهواء من اكتساب الحر فيكون في البلاد الباردة شديدة البرد، وفي البلاد الحارة معتدل البرد مستطابه، فقالت: زوجي مثل ليل تهامة، وحذفت أداة التشبيه، ليقرب المشبه من المشبه به، وهذا مما يبين لك لفظ التمثيل في كونه لا يجيء إلا مقدراً بمثل غالباً، ولا كذلك لفظ الإرداف، وإلا فانظر إلى قول صاحبتها في الإرداف: زوجي رفيع العماد فتجدها قد وصفته بصيغة المبتدأ والخبر، لكون الخبر غير المبتدأ لأمثله، إّ لا يجوز هاهنا تقدير مثل في الكلام لتعلم أن لفظ الإرداف أقرب إلى لفظ المعنى من التمثيل.
ومن شواهد التمثيل الشعرية قول الرماح بن ميادة طويل:
ألم أك في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا
فإن هذا الشاعر أراد أن يقول: ألم أكن قريباً منك، فلا تجعلني بعيداً عنك، فعدل عن هذا اللفظ الخاص إلى لفظ التمثيل، لما فيه من الزيادة في المعنى، لما تعطيه لفظتا اليمين والشمال من الأوصاف التي لا تحصل إلا بذكرهما، وذلك لأن اليمين أشد قوة من الشمال غالباً وهي أقرب إلى ربها من الشمال لأنها بها يأخذ، وبها يعطي، وبها يبطش، وهي مكرمة عنده، قد أهلت لطعامه وشرابه واستغفاره وأذكاره، والشمال مؤهلة لاستنجائه، واستنثاره، والمهنة الدنية، واسم اليمين مشتق من اليمن، وهو البركة، واسم الشمال مشتق من الشؤم، وهو ضد البركة، ولهذا حض الشارع صلى الله عليه وسلم على التيامن، فقال لأنس لما أراد سقي أبكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو على شمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى يمينه أعرابي: اسق الأعرابي الأيمن فالأيمن.

وقالت عائشة رضي الله عنها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن حتى في وضوئه وانتقاله، وقال عمرو بن كلثوم وافر:
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وقال الله تعالى: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود " وقال بعد ذلك: " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم " فكأن هذا الشاعر قال لممدوحه: ألم أكن مكرماً عندك فلا تجعلني مهاناً وكنت منك في المكان الشريف، فلا تتركني في المنزل الوضيع، وما سمعت في هذا الباب كقول شاعر الحماسة كامل:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا
لأنه أراد أن يقول: أبدين خمص بطنها ودقة خصرها ورجاجة ردفها، التمثيل، وهو يقابل الرياح التي تفعل هذا عند تقابلها، وحصل في البيت مع التمثيل تنكيت عجيب في قوله مع: العشي لأنه إنما خص العشي لأنه الوقت الذي تتخلى فيه النساء من شغلهن، ويبرزن للعبهن، وتنتدي الرجال للحديث، ليتم له ما قصد من اجتماع الحاسدة والغيور اللذين يريان هذه المرأة عند بروزها، وقد قيل: إن أكثر ما تتقابل الرياح في وقت العشي.
ويلتحق بهذا الباب ما يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر كقوله تعالى: " ليس لها من دون الله كاشفة " وقوله سبحانه: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " وقوله عز وجل: " صنع الله " وقوله: " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " وقوله تبارك وتعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " إلى كثير من الآي.
ومما جاء من ذلك في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " الحلال بين والحرام بين " وقوله عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار " وقوله عليه الصلاة والسلام: " خير الأمور أوساطها " وكقوله عليه السلام: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " وقد طوى كتاب أبي أحمد العسكري رحمه الله تعالى من هذا الباب على بدائع من جوامع الكلم لا يشق غبارها، ولا يقتحم تيارها، فمن أراد ذلك فعليه به.
ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول زهير طويل:
وهل ينبت الخطى إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
وكقول النابغة طويل:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
وكقول بشار طويل:
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وكقول الآخر طويل:
فما الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
وكقول الآخر مجزوء الخفيف:
ما على الناس بعدها ... في الدنيات من حرج
وكقول أبي تمام بسيط
والنار قد تنتضي من ناضر السلم
وكقوله وافر:
لسان المرء من خدم الفؤاد
وكقوله وافر:
فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
وكقوله كامل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وقد استخرجت أمثال أبي تمام من شعره فوجدتها تسعين نصفاً وثلاثمائة بيت وأربعة وخمسين بيتاً بعد استيعاب أمثال المتنبي فوجدتها مائة نصف وثلاثة وسبعين نصفاً وأربعمائة بيت؛ وأنا على عزم أن أخرج من أمثال أبي الطيب ما أخذ من أمثال أبي تمام فأجمعها، وأقدم قبلهما جميع ما وقع من الأمثال في الكتاب العزيز والسنة النبوية وقد أمضيت والحمد لله هذا العزم، وفرغت من كتاب الأمثال بزيادات على ذلك، وهي أمثال الأشعار الستة؛ والحماسة، بعد أن تلوت أمثال القرآن بأمثال دواوين الإسلام الستة، وختمت الجميع بأمثال العامة، لتكون إحماضاً يتروح إليه بعد الجد، وقد اقترح على زيادات فيه لم أكملها إلى الآن. ومن أمثلة هذا الباب للمتنبي قوله بسيط
أنا الغريق فما خوفي من البلل
وقوله بسيط
ليس التكحل في العينين كالكحل
ولقد أحسن المعري حيث قال: بسيط
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر

باب ائتلاف اللفظ مع الوزن

قال قدامة: هو أن تكون الأسماء والأفعال تامة، لم يضطر الشاعر الوزن إلى نقصها عن البقية، ولا إلى الزيادة فيها، ولا يقدم منها المؤخر، ولا يؤخر منها المقدم، ولا يدخل فيها ما يلتبس به المعنى، ولم يأت قدامة بأمثلة في هذا الباب، ولم يذكر غير ذلك بل قال أعني قدامة: كل شعر سليم من هذا الذي قدمت ذكره هو مثال لهذا الباب، لكنه أتى في عيوب الوزن بأمثلة يجب ذكرها هاهنا ليعلم أن كل بيت جاء بضدها هو شاهد لهذا الباب، كقول القائل يصف درعاً كامل:
من نسج داود أبي سَلاَّم
فإنه يريد سليمان، لكن الوزن اضطره إلى حذف الياء والنون من سليمان، وتشديد اللام وتقديم الألف على الميم.
ومثل ذلك قول الآخر " رجز " :
حتى إذا خرت على الكلكال
فإنه اضطره الوزن إلى زيادة الألف على بنية هذا الاسم، ومثال ما اضطر الوزن فيه إلى التقديم والتأخير قول الفرزدق طويل:
وما مثله في الناس إلا مملك ... أخو أمه حي أبوه يقاربه
فإن اضطرار الوزن حمله على رداءة السبك، فحصل في الكلام تعقيد يمنع من فهم معناه بسرعة، ولو قال: وما مثله إلا مملك أبوه يقارب خاله لسهل مأخذه، وقرب متناوله، ومهما كان الشعر سليماً من مثل هذا كان هو الشعر الذي ائتلف لفظه مع وزنه.

باب ائتلاف المعنى مع الوزن
وهو أن تأتي المعاني في الشعر على صحتها، لا يضطر الشاعر الوزن إلى قلبها عن وجهها، ولا خروجها عن صحتها، كقول عروة بن الورد وافر:
فإني لو شهدت أبا سعاد ... غداة غد بمهجته يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما أطيق
فإنه أراد أن يقول: فديت نفسه بنفسي ومالي، فألجأته ضرورة الوزن إلى قلب المعنى كما ترى، ومهما كان الشعر سليماً من مثل هذا كان الشعر الذي ائتلف معناه مع وزنه.
باب ائتلاف القافية
مع ما يدل عليه سائر البيت
وهو الذي سماه من بعد قدامة التمكين، وهو أن يمهد الناثر لسجعة فقرته، أو الناظم لقافية بيته، تمهيداً تأتي القافية به متمكنة في مكانها، مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة، متعلقاً معناها بمعنى البيت كله تعلقاً تاماً، بحيث لو طرحت من البيت اختل معناه واضطرب مفهومه، ولا يكون تمكنها بحيث يقدم لفظها بعينه في أول صدر البيت، أو معنى يدل عليها في أول الصدر، أو في أثناء الصدر، ولا أن يفيد معنى زائداً بعد تمام معنى البيت، فإن الأول يسمى تصديراً والثاني توشيحاً، والثالث إيغالاً، ولا يقال لشيء من ذلك تمكين ألبتة، وقد جاء من ذلك في فواصل الكتاب العزيز كل عجيبة باهرة، ومنه قوله تعالى: " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد " فإن هذه الآية الكريمة لما تقدم فيها ذكر العبادة والتصرف في الأموال كان ذلك تمهيداً تاماً لذكر الحلم والرشد، لأن الحلم: العقل الذي يصح به التكليف، والرشد حسن التصرف في الأموال، وكقوله تعالى: " سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " وكقوله سبحانه: " قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين " وكقوله تعالى: " قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون " وكل فواصل الكتاب العزيز بين تمكين، وتوشيح، وإيغال وتصدير.
ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول أبي تمام وافر:
ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد
وقوله أيضاً في غزل هذه القصيدة:
مذاكي حلبة وشروب دجن ... وسامر قينة وقدور صاد
وأعين ربرب كحلت بسحر ... وأجساد تضمخ بالجساد
وقوله طويل:
محاسن ما زالت مساو من النوى ... تغطى عليها أو مساو من الصد
وقوله أيضاً طويل:
أموسى بن إبراهيم دعوة خامس ... به ظمأ التثريب لا ظمأ الورد
أتاني مع الركبان ظن ظننته ... لففت له رأسي حياء من المجد
أأتبع هجر القول من لو هجوته ... إذاً لهجاني عنه معروفه عندي
نسيت إذاً كم من يد لك شاكلت ... يد القرب أعدت مستهاماً على البعد

ومن زمن ألبستنيه كأنه ... إذا ذكرت أيامه زمن الورد
وأنك أحكمت الذي بين فكرتي ... وبين القوافي من ذمام ومن عقد
وأصلت شعري فاعتلى رونق الضحى ... ولولاك لم يظهر زماناً من الغمد
وكقول البحتري طويل:
فلم أر ضرغامين أصدق منهما ... عراكاً إذا الهيابة النكس أكذبا
حملت عليه السيف لا عزمك انثنى ... ولا يدك ارتدت ولا حده نبا
وكنت متى تجمع يمينك تهتك الضريبة أولا تبق للسيف مضربا
ألنت لي الأيام من بعد قسوة ... وعاتبت لي دهري المسيء فأعتبا
وألبستني النعمى التي غيرت أخي ... علي فأمسى نازح الود أجنبا
فلا فزت من مر الليالي براحة ... إذا أنا لم أصبح بشكرك متعبا
وكقول المتنبي بسيط
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ومنها:
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم
لئن تركن ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن فارقتهم ندم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم
ولم نسمع لمقدم شعراً أشد تمكين قواف من قول النابغة الذبياني كامل:
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندى
زعم الهمام ولم أذقه بأنه ... يروي بريقته من العطش الصدى

باب التوشيح
سمى هذا الباب توشيحاً لكون معنى أول الكلام يدل على لفظ آخره، فيتنزل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزل أول الكلام وأخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح، وهذا الباب مما فرغه قدامة أيضاً، من ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وقال: هو أن يكون في أول البيت معنى إذا علم علمت منه قافية البيت، بشرط أن يكون المعنى المتقدم بلفظه من جنس معنى القافية بلفظه، أو من لوازم لفظه. ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " ، فإن معنى اصطفاء المذكورين تعلم منه الفاصلة، إذ المذكورون نوع من جنس العالمين، وكقوله تعالى: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون " ، فإنه من كان حافظاً لهذه السورة، متفطناً إلى أن مقاطع فواصلها النون المردفة، وسمع في صدر هذه الآية " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار " علم أن الفاصلة " مظلمون " ، فإن من انسلخ النهار عن ليله أظلم ما دامت تلك الحال.
وكقول الراعي النميري وافر:
فإن وزن الحصى فوزنت قومي ... وجدت حصة ضريبتهم رزينا
فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وتحقق أن القافية مجردة مطلقة، رويها النون وحرف إطلاقها ألف، ورأى في صدر البيت ذكر الزنة، تحقق أن القافية تكون رزيناً ليس إلا.
ومن عجائب أمثلة هذا الباب، ما حكي عن عمر بن أبي ربيعة المخزومي أنه أنشد عبد الله بن العباس رضي الله عنهما متقارب:
تشط غدا دار جيراننا
فقال له عبد الله:
وللدار بعد غد أبعد
فقال عمر: هكذا والله قلت، فقال له ابن العباس: وهكذا يكون ويقرب من هذه القصة قصة عدي بن الرقاع العاملي حين أنشد الوليد ابن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق كلمته التي مطلعها كامل:
عرف الديار توهماً فاعتادها
حتى انتهى إلى قوله:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
ثم شغل الوليد عن الاستماع، فقطع عدي الإنشاد، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول؟ فقال جرير: أراه يستلب منها مثلاً، فقال الفرزدق، يالكع، إنه سيقول كامل:
قلم أصاب من الدواة مدادها
فلما عاد الوليد إلى الاستماع وعاد عدي إلى الإنشاد قال:
قلم أصاب من الدواة مدادها

قال جرير للفرزدق: أكان قلبك مخبوءاً في صدره؟ فقال الفرزدق: شغلني سبك عن جيد الكلام، فقال الفرزدق: والله لما سمعت صدر بيته رحمته، فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسداً وعندي أن بين ابن العباس رضي الله عنه وبين الفرزدق في استخراجه العجزين كما بينهما في مطلق الفضل في كل فن، لأن بيت عدي من جملة قصيدة تقدم سماع معظما، قد علم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة قصيدة تقدم سماع معظمها، قد علم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة قصدية تقدم سماع معظمها، قد علم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة بألف من وزن معروف، ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفاً لها، قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه، مع العلم بسواده ما دل على عجز البيت، بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء، وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي ولا رويه من أي الحروف، ولا حركة رويه من أي الحركات، فاستخراج عجزه ارتجالاً في غاية العسر ونهاية الصعوبة، لولا ما أمد الله تعالى به هؤلاء القوم من المواد التي فضلوا بها غيرهم، ومن حذق عبد الله بن العباس رضي الله عنهما ودقيق معرفته باختيار الكلام، جعله قافية للعجز الذي أتى بعد " أبعد " ولم يجعلها " أنزح " وكان ذلك ممكناً له، لكون " أبعد " أسرع ولوجاً في السمع، وأسبق إلى الذهن، وأدخل في القلب، وأكثر استعمالاً وأعرف عند الكافة، وبها جاء القرآن العزيز دون " أنزح " وهي أخف على اللسان، وأولى بالبيان، وربما اختلط التوشيح بالتصدير لكون كل منهما يدل صدره على عجزه.
والفرق بينهما أن دلالة التصدير لفظية، ودلالة التوشيح معنوية.
والفرق بين التوشيح والتمكين أن التوشيح لا بد أن تتقدم القافية معنى يدل عليها، ولا كذلك التمكين، ولا تكون كلمة التوشيح إلا في أول الصدر، وإن لم تكن كذلك فلا توشيح والله أعلم.

باب الإيغال
مسمى هذا النوع إيغالاً، لأن المتكلم أو الشاعر أوغل في الفكر حتى استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائداً على معنى الكلام.
وأصله من الإيغال في السير وهو السرعة، فإن الإيغال في السير يدخل السائر في المكان الذي يقصده بسرعة، يقال: أوغل في الأرض الفلانية أي بلغ منتهاها، أو ما قاربه فكأن المتكلم قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه، وبلغ إلى زيادته عن الحد، كما أن من دخل العريش مثلاً من أرض مصر فقد دخل مصر، فإذا أوغل في مصر فوصل إلى الصعيد يقال: قد أوغل في مصر لتجاوزه الحد بالزيادة عليه، فكذلك المتكلم إذا تم معناه ثم تعداه عند الإتيان بسجعة أو قافية بزيادة عليه، فقد أوغل في ذلك المعنى، ولا يكون موغلاً حتى ينتهي معناه إلى آخر البيت وهذا الباب مما فرعه قدامة أيضاً من إتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وفسره بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعراً أفاد بها معنى زائداً على معنى البيت نحو قول ذي الرمة طويل:
قف العيس في آثار مية واسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل
فتم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائداً.
وكذلك صنع في البيت الثاني حيث قال:
أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبذير الجمان المفصل
فإنه تم كلامه بقوله: كتبذير الجمان، واحتاج إلى القافية فأتى بها تفيد معنى زائداً، ولو لم يأت بها لم يحصل.
وقد حكى عن الأصمعي أنه سئل عن أشعر الناس فقال: الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، وإلى الكبير فيجعله خسيساً أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإن احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو من؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعاني امرئ القيس حيث قال طويل:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فإنه انقضى كلامه عند قوله: " الجزع " ثم أفاد بالقافية معنى زائداً، إذ قال: " لم يثقب " لأن عيون البقر غير مثقبة.
ونحو زهير حيث يقول طويل:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنان لم يحطم

فإن حب الفنا أحمر الظاهر، أبيض الباطن، فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم، وقد يكون الإيغال تتميماً كبيتي امرئ القيس وزهير، ولكن ذلك لا يسمى إلا إيغالاً لانتهاء المعنى إلى آخر البيت، وهذا إيغال الاحتياط، وهو دون إيغال المبالغة من جهة الاصطلاح لكونه لم يفد إلا الاحتياط من الدخل دون الإتيان بمعنى زائد على معنى الكلام، والإيغال الذي ليس بتتميم في بيتي ذي الرمة هو إيغال المبالغة.
وأعظم ما وقع في هذا الباب قول الخنساء بسيط
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وعندي أن هذا البيت لو أفرد بالتمثيل في هذا الباب لأغنى عما ساقه قدامة في باب ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت من بابي التوشيح والإيغال، لأن صدره يدل على عجزه دلالة التوشيح، ومعنى جملة البيت كامل دون قافيته وفيه بوجودها زيادة لم تكن له قبلها، فإن هذه المرأة لم ترض لأخيها بأن تأتم به علية الناس، حتى جعلته علماً يأتم به أئمة الناس، وهذا تتميم أدمج في صدر لفظ التوشيح، ولم ترض تشبيهه بالعلم، وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية، حتى جعلت في رأسه ناراً. وإذا وصلت إلى بلاغة القرآن العزيز، وصلت إلى الغاية القصوى، وذلك قوله تعالى: " ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين " فإن المعنى قد تم بقوله سبحانه: " ولا تسمع الصم الدعاء " ثم أراد وهو يعلم تمام الكلام بالفاصلة فقال: " إذا ولوا مدبرين " فإن قيل: فما معنى مدبرين؟، وقد أغنى عنها قوله: " إذا ولوا " قلت لا يغني عنها قوله: " ولوا " فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب، بدليل قوله تعالى: " أعرض ونأى بجانبه " وإن كان ذكر الجانب هنا مجازاً، ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم لا يسمعون، أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة، فإن الأصم يفهم بالإشارة ما يفهمه السميع بالعبارة، ثم علم أن التولي قد يكون بجانب من المتولي، فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به، فيحصل له إدراك لبعض الإشارة، فجعل الفاصلة مدبرين ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب، بحيث صار ما كان مستقبلاً مستدبراً، فاحتجب المخاطب عن المخاطب، إذ صار من ورائه، فخفيت عن عينيه الإشارة، كما صم أذناه عن العبارة، فحصلت المبالغة في عدم الإسماع بالكلية وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع بتة، فهو من إيغال الاحتياط الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع، قد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى يجمعها معنى واحد كقوله تعلى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن " الآية، وقوله سبحانه: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات " وقوله: " فأتوا بسورة من مثله " كما يقول الرجل لمن يجحده: ما يستحق علي درهماً ولا دانقاً ولا حبة، ولا كثيراً ولا قليلاً، ولو قال: ما يستحق علي شيئاً، لأغنى في الظاهر عن ذلك، لكن التفصيل والتنزل دل على الاحتياط وعلى شدة الاستبصار في الإنكار.
ومن إيغال الكتاب العزيز أيضاً قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " ، فإن المعنى تم بقوله سبحانه: " من لا يسألكم أجراً " ثم أراد الفاصلة لمناسبة رءوس الآى، فأوغل بها كما ترى، حيث أتى بها تفيد معنى زائداً على معنى الكلام، وجاء في الكلام إيغال حسن بعد تتميم ولقد أحسن ابن المعتز في قوله لابن طباطبا العلوي متقارب:
فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم
فإنه أعطى بني عمه حقهم من الشرف، واعترف لهم من فضل الأبوين بما اعترف، ثم فطن إلى أنه إن اقتصر على ذلك فضلهم على بنته، فتحيل على المساواة، إذ لا طريق له إلى التفضيل بأن قال:
ونحن بنو عمه المسلم
فجعل هذا الفضيلة قبالة تلك، وهذا القسم من الإيغال يحسن أن يسمى إيغال التخيير، فإنه تخير من القوافي التي تفيد الإيغال قافية يكون ما تفيده موفياً بمقصوده من غير معارضة، فإنه لو قال: " بنو عمه الأفضل " لكونه مسلماً لعورض بحمزة رضي الله عنه، وهو إيغال الاحتياط، لكونه تتميماً للمعنى؛ وقد ذهب بعض النقاد إلى أنه بهذا الإيغال أراد الاستدلال على استحقاق بني العباس الخلافة وسوى بين بيته، وبيت مروان بن أبي حفصة وهو قوله كامل:

أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
وبين البيتين بون بعيد في الجودة وصحة المعنى، فإن بيت ابن المعتز أٌصر وزناً وأصح معنى، وأعذب ألفاظاً، وأوجز جملاً، وأخف محملاً مع ما وقع فيه من التلطف لبلوغ الغرض من غير مجاهرة بلفظ ولا مواجهة بمضض، فأما صحة معناه بالنسبة إلى بيت مروان فمن جهة أن مروان زعم أن بني الأعمام أحق بالفضل من بني البنات. فأخذ بعموم هذا الاستدلال، وذهل عن أن هذه القضية التي هو آخذ فيها خارجة من هذا العموم، لأن بني علي بنو بنات وبنو أعمام، وما ذكره مروان لا يتناول إلا من لم يكونوا بني أعمام من بني البنات، فأما من لم يمت بالقربة من طرفيه ويدلي بالاستحقاق من جهة أبويه، فخارج عما ذكر، ولا يقال هذا ما يرد على مروان، لأنه صرح بالإرث، ولا الأعمام أحق بالإرث من بني البنات، فإني أقول: إن لم يرد بالإرث الفضل فكلامه محال، إذ لا يصح أن يريد إرث المال ولا إرث الخلافة، أما المال فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، وسيأتي بيان ذلك.
وأما الخلافة، فلأن الخلافة لو كانت بالإرث لما وصلت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قبل العباس رضي الله عنه فإذا أحسن الظن بمروان حمل قوله وراثة الأعمام على وراثة الفضل، وحينئذ يأتي ما ذكرناه، ولم يرد بالأعمام إلا بني الأعمام، وببني البنات إلا بني علي رضي الله عنهم فإنه مدح بالقصيدة الرشيد، وعرض بيحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي، والأول بنو أعمام فقط، والأخر بنو أعمام وبنو بنات، فكانت للأول مزية لم تكن للأخر، قابلها ابن المعتز بأن أباه بنو العم المسلم فكانت هذه بتلك، فحصلت المساواة، فثبت الفضل لبيته على بيت مروان وما يستكثر مثل هذا الجهل من مروان وهو يقول في هذه الأبيات للرشيد كامل:
يا بن الذي ورث النبي محمداً ... دون الأقارب من ذوي الأرحام
فليت شعري ما الذي ورثه العباس رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ذوي رحمه، وكيف يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يورث؟ وهذا أفضل الصحابة وأفقههم يحتج على فاطمة عليها السلام في أمر فدك والعوالي، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة " فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث فلم منعت فاطمة ما ادعت وإن كان لا يورث فلم يدعي هذا الجاهل أن العباس رضي الله عنه ورثه دون ذوي رحمه؟ وأصل الحديث يروون أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى علياً عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه دون العباس، ثم لم يقنع مروان بهذا حتى قال: كامل:
ما للنساء مع الرجال فريضة ... نزلت بذلك سورة الأنعام
فما أدري على ماذا أحسده، أعلى معرفته بالفرائض، أم على حفظه للقرآن؟ وما أعلم من أين في سورة الأنعام ذكر شيء من الفرائض، أو حكم من أحكام المواريث، أو ذكر نسب أو شيء مما يقارب هذا الشأن، وليتني أعرف في أي موضع من القرآن ذكر أن النساء لا فريضة لهن مع الرجال؟ ومن يقع في مثل هذا لا يستعظم منه خطؤه في البيت الذي ذكرناه له أولاً، هذا الفساد من جهة المعنى.
وأما ترجيح اللفظ فإن بيت ابن المعتز من محذوف المتقارب، حروفه ستة وثلاثون حرفاً، وبيت مروان من مقطوع الكامل، حروفه اثنان وأربعون حرفاً، إلى سهولة سبكه، وجودة تركيبه، وإيجاز جمله وخفة مفرداته، وكثرة استعمال كلماته، " فاعتبروا يا أولي الأبصار " ولم أر من أمثلة هذا الباب ممثل بيت من بيتي الحماسة أغفله النقاد وهو طويل:
وما شنتا خرقاء واهيتا الكلى ... سقى بهما ساق ولما تبللا
بأضيع من عينيك للدمع كلما ... توسمت داراً أو ترسمت منزلا
والبيت الأول أردت، فإنه وقع الإيغال فيه بعد ثلاث جمل: في كل جملة تتميم، الأولى قوله: شنتا، فإن الشنة المزادة العتيقة، وإضافتهما إلى خرقاء التي هي ضد الصناع، يريد أن خرزهما غير محكم، فهما يضيعان الماء أبداً، فصار ذلك تتميمين، ثم قال بعد ذلك واهيتا الكلى أي كلاهما مخروقتان، ثم أوغل بقوله:
سقى بهما ساق ولما تبللا

فإن المزادة إذا ابتلت تمدد أديمها، وانتفخت سيورها، وانسد أكثر بثوقها، وإذا كانت يابسة عدمت ذلك كله، فكانت للماء أضيع منها وهي مبتلة، ثم في مجموع البيتين بعد ذلك تفريع حسن، وستعلم حقيقة التفريع في بابه، فتقدر ما وقع في هذين البيتين منه قدره.
ومن أعجب إيغال وقع في الشعر قول عبد الله بن الزبير الأسدي طويل:
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا
فإن هذا البيت وقع فيه الاستعارة، والتورية، والترشيح، والإيغال. لاحتياج المسافر للركوب، والتورية في قوله حولياً ولو لم يرشح بلفظه الركوب لما حصلت التورية في لفظ حولي، ورشح بمجموع الاستعارة والتورية للإيغال، إذ لو لم يذكر الركوب والحولي، لما حسن أن يقول: أشهبا وقد وقع من الإيغال في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً " ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى، فلما أتى بها أفاد مجيئها معنى زائداً.
والفرق بين التتميم والإيغال من ثلاثة أوجه: أحدهما أن التتميم لا يرد إلا على كلام ناقص شيئاً ما، إما حسن معنى أو أدب، أو ما أشبه ذلك، كالبيت الذي تقدم، فإن المعنى بدون قوله: ويعطوه ناقص. والإيغال لا يرد إلا على معنى تام من كل وجه.
والثاني اختصاص الإيغال بالمقاطع دون الحشو مراعاة لاشتقاقه، لأن الموغل في الأرض هو الذي قد بلغ أقصاها أو قارب بلوغه، فلما اختص الإيغال بالطرف لم يبق للتتميم إلا الحشو.
والثالث أن الإيغال لا بد وأن يتضمن معنى من معاني البديع، والتتميم قد يتضمن وقد لا يتضمن، وأكثر ما يتضمن الإيغال التشبيه، والمبالغة، حتى لو قيل: إنه لا يتعدى هذين الضربين لكان حقاً، والتتميم يتضمن طوراً المبالغة، ويتضمن حيناً الاحتياط، ويأتي مرة غير متضمن شيئاً سوى تتميم ذلك المعنى؛ والله أعلم.
تمت أبواب قدامة بتمام هذا الباب، بعد أبواب ابن المعتز، وجميعها ثلاثون باباً وهي الأصول.

الجز الثاني
ومن هاهنا نبتدئ في سياقه: أبواب المتأخرين بعدهما، فأولها:
باب الاحتراس
وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل، فيفطن له، فيأتي بما يخلصه من ذلك، والفرق بين الاحتراس، والتكميل، والتتميم أن المعنى قبل التكميل صحيح تام، ثم يأتي التكميل بزيادة يكمل بها حسنه إما بفن زائد أو بمعنى، والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى ونقص الوزن معاً والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى، وإن كان تاماً كاملاً، ووزن الكلام صحيحاً، وقد جعل ابن رشيق الاحتراس نوعاً من التتميم، وسوى بينهما، وقد ظهر الفرق بينهما، فجعلهما في باب واحد غير سائغ.
والفرق بينه وبين المواربة بالراء المهملة أيضاً، أن الاحتراس يؤتى به وقت العمل عند ما يتفطن المتكلم لموضع الدخل، والمواربة يؤتى بها وقت العمل، وبعد صيرورة الكلام، والمواربة بالراء المهملة، تكون بالتصحيف والتحريف واهتدام الكلمة، والزيادة والنقص، والاحتراس بزيادة الجمل المفيدة المتضمنة معنى الانفصال عما يحتمله الكلام من الدخل، والمواربة تكون في نفس الكلام وتكون منفصلة عنه.
والاحتراس لا يكون إلا في نفس الكلام، وسيأتي بيان المواربة وأمثلتها في بابها.
والفرق بين الاحتراس، والمناقضة والانفصال، أن الاحتراس هو ما فطن له الشاعر أو الناثر وقت العمل فاحترس منه. والانفصال ما لم يفطن له حتى يدخل عليه، فيأتي بجملة من الكلام، أو بيت من الشعر ينفصل به عنه ذلك الدخل.
والفرق بين المواربة والانفصال، أن المواربة تكون كما تقدم في كلمة من الكلام، أو في كلام منفصل عنه، والانفصال لا يكون إلا ببيت مستقل، أو جملة منفردة، عن سياق الكلام متعلقة به، داخلة فيه.

من أمثلة الاحتراس في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " فإنه تعالى لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان، أعقبه بالدعاء على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعمل أن جميعهم كان مستحقاً للعذاب احتراساً من ضعيف بتوهم أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق العذاب، فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم، وحل بساحتهم وظهر من ذلك صدق وعده لنبيه نوح عليه السلام، وأعملنا أنه قد أنجزه وعده الذي قال فيه: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " ، وأعجب احتراس وقع في كتاب الله الكريم قوله سبحانه: " ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر " ، فإنه تبارك وتعالى لما نفى عن حبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون بالمكان الذي قضى فيه لموسى عليه السلام الأمر، عرف المكان بالجانب الغربي، ولم يقل في هذا الموضع، كما قال في الإخبار عن موسى عليه السلام: " وناديناه من جانب الطور الأيمن " أدباً مع نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم أن ينفي عنه كونه بالجانب الأيمن، ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن تشريفاً لموسى عليه السلام فالمح لطيف هذا الاحتراس من بلاغة الكتاب العزيز جل المتكلم به.
ومثال الاحتراس من السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان إحدى النسوة من حديث أم زرع، حيث وصفت زوجها فقالت: " المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، وأغلبه والناس يغلب " فقولها: والناس يغلب احتراس حسن، لأنها لو سكتت على قولها: وأغلبه، لقيل لها: إن رجلاً تغلبه امرأة لمغلب ضعيف، فاحترست من ذلك فقالت: والناس يغلب، فناسبت بين قرائنها بجملة تتضمن معنى الاحتراس مما يتوجه على معنى المدح من الدخل الذي ينقص به المعنى، فحصل في الكلام احتراس مدمج في موضع إيغال. ومتى وقع الاحتراس والتتميم في موضع الإيغال أوهم أنه إيغال، فيجب أن نعرف أن الإيغال كون القافية تفيد الكلام معنى زائداً بعد تمام معناه وصحته، والإيغال يفارق التكميل بأمرين: مجيئه في القافية فقط، واختصاصه بالمعاني دون الفنون.
ومن أمثال هذا الباب الشعرية قول الخنساء في أخيها صخر وافر:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
ثم تخيلت أن قائلاً قال لها: لقد ساويت أخاك بالهالكين من إخوان الناس، فيكف أفرطت في الجزع عليه دونهم؟ فاحترست من ذلك بقولها وافر:
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي

باب المواربة
براء مهملة
وهي من ورب العرق بفتح الواو والراء: إذا فسد، فهو ورب بكسر الراء، فكأن المتكلم أفسد مفهوم ظاهر الكلام بما أبداه من تأويل باطنه. وحقيقتها أن يقول المتكلم قولاً يتضمن ما ينكر عليه بسببه، لبعد ما يتخلص به منه، هذا إن فطن له وقت العمل وإلا ارتجل حين يجبه به ما يخلصه منه من جواب حاضر، أو حجة بالغة، أو تصحيف كلمة أو تحريفها، أو زيادة في الكلام أو نقص، أو نادرة معجبة، أو ظرفة مضحكة.
فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف، فقول عتبان الحروري طويل:
فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فإنه لما بلغ الشعر هشاماً، وظفر به قال له: أنت القائل:
ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال: لم أقل كذا وإنما قلت:
ومنا أمير المؤمنين شبيب
فتخلص بفتح الراء بعد ضمها، وهذا ألطف مواربة وقعت، ودونها قول نصيب طويل:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا كمدي من ذا يهيم بها بعدي
وقيل له: اهتممت بمن يفعل بها بعدك، فقال: لم أقل كذا، وإنما قلت:
فوا كمدي ممن يهيم بها بعدي
فتخلص بإبدال كلمة من كلمة، فهذا وأشباهه يحتمل أن يكون الدخل وقع فيه للشاعر وقت العمل، ويحتمل ألا يكون وقع له، وارتجل التخلص عند سماعه، والذي لا يحتمل أن يكون فطن له حتى قيل له قول الأخطل طويل:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعول
فإلا تغيرها قريش بملكها ... يكن عن قريش مستماز ومزحل

فقال له عبد الملك بن مروان: إلى أين يا بن اللخناء؟ فقال: إلى النار، فضحك منه، وسكت عنه، فتخلص بهذه النادرة.
وقد تكون المواربة من غير هذين النمطين، كقوله عليه السلام للعباس بن مرداس حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم متقارب:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بني عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما أنا دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، اقطع لسانه عني، فقبض علي عليه السلام على يده وخرج به، فقال: أقاطع أنت لساني يا أبا الحسن؟ فقال: إني لممض فيك ما أمر.. فهذه أحسن مواربة سمعتها في كلام العرب، ثم مضى به إلى إبل الصدقة فقال: خذ ما أحببت أو كما قال.
ومن المواربة متصل ومنفصل، وقد أتينا بأمثلة القسمين، فالمتصل منها ما كان تخلصه في نفس الكلام، المنفصل ما كان التخلص فيه من كلام آخر، كالذي تقدم لعلي عليه السلام والأخطل.
ومن أوضح أمثلته قصة كثير مع عبد الملك بن مروان، وقد أنشده طويل:
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدى نسجها فأذالها
فقال له عبد الملك: قول الأعشى في صاحبه خير من قولك هذا في حيث يقول كامل:
كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالا
فقال: الأعشى وصف صاحبه بالخرق، ووصفتك بالحزم.

باب الترديد
وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى، ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر، كقوله سبحانه وتعالى: " حتى يؤتى مثل ما أوتي رسل الله والله أعلم حيث يجعل رسالاته " فالجلالة الأولى مضاف إليها، والثانية مبتدأ بها وقوله: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا " وكقوله عز وجل: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا " .
ومن الترديد نوع يسمى الترديد المتعدد، وهو أن يتردد حرف من حروف المعاني، إما مرة أو مراراً، وهو الذي يتغير فيه مفهوم المسمى لتغير الاسم: إما لتغاير الاتصال؛ أو تغاير ما يتعلق بالاسم. ومثال هذا النوع قوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فإن اتصال من بضمير المخاطبين الغائبين في الموضعين مع ما تضمنت مَن مِنْ معنى الشرط أصارت المؤمنين كافرين عند وقوع الشرط، وقد يرتد حرف الجر في الجملة من الكلام والبيت من الشعر مراراً عدة في جمل متغايرة المعاني، ومثله قول الشاعر بسيط
يريك في الروع بدراً لاح في غسق ... فليث عريسة في صورة الرجل
وربما كان المتردد غير حرف الجر، كحرف النداء أو غيره، ومثاله قول المتنبي منسرح:
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل
ومثال المتردد من الجمل غير المتعددة قول أبي نواس بسيط
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
فقوله: مسها، ومسته ترديد حسن.
وقد يلتبس الترديد الذي ليس تعددا من هذا الباب بباب التعطف؛ والفرق بينهما: أن هذا النوع من الترديد يكون في إحدى قسمي البيت تارة وفيهما معاً مرة، ولا تكون إحدى الكلمتين في قسم والأخرى في آخر، والمراد بقربهما أن يتحقق الترديد، والتعطف وإن كان ترديد الكلمة بعينها، فهو لا يكون إلا متباعداً، بحيث تكون كل كلمة في قسم. والترديد يتكرر، والتعطف لا يتكرر، والترديد يكون بالأسماء المفردة، والجمل المؤتلفة والحروف، والتعطف لا يكون إلا بالجمل غالبا، والفارق بين الترديد والتكرار أن اللفظة التي تكرر في التكرار لا تفيد معنى زائداً، بل الأولى هي تبيين للثانية وبالعكس، واللفظة التي تتردد تفيد معنى غير معنى الأولى منهما، واشتقاقهما مشعر بذلك، لأن الراد من وجه لا يبلغ إلا الموضع الذي أراده، والكار هو الذي انتهى إلى الموضع المراد، وكر راجعاً، ومنه الكر والفر وقول امرئ القيس: مكر مفر وأنه لا يكر إلا بعد الفرار وبيت أبي نواس الذي قدمناه مما جاء الترديد في عجزه دون صدره. وأما ما جاء في الصدر والعجز فكقول أبي تمام طويل:
ديار نوار ما ديار نوار ... كسونك شجواً هن منه عوار
ومثال ما جاء في الصدر والعجز معاً قول أبي نواس خفيف:

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... قبله ثم قبل ذلك جده
ومن الترديد نوع آخر يسمى ترديد الحبك، ويسمى بيته المحبوك، وهو أن تبنى البيت من جمل ترد فيه كلمة من الجملة الأولى في الجملة الثانية، وكلمة من الثالثة في الرابعة، بحيث تكون كل جملتين في قسم، والجملتان الأخيرتان غير الجملتين الأوليين في الصورة، والجمل كلها سواء في المعنى، كقول زهير بسيط
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
فقد ردد كلمة من الجملة الأولى في الجملة الثانية، وردد كلمة من الجملة الثالثة في الجملة الرابعة ثنتان في كل قسم، وكل جملتين متفقتان في الصورة غير أنهما مختلفتان، إذا نظرت إلى كل قسم وجملته، وإن اشتركا في المعنى، فإن صورة الطعن غير صورة الضرب، ومعنى الجميع واحد، وهو الحماسة في الحرب، والبيت أعني بيت زهير مع كونه من شواهد الترديد المحبوك، فإنه يصلح أن يكون من شواهد صحة التقسيم، لأنه استوفى فيه أقسام حالات المحارب، وإن جاءت صحة التقسيم مدمجة في الترديد، والله أعلم.

باب التعطف
وقد سماه قوم المشاكلة
وقد تقدم أن التعطف كالترديد في إعادة اللفظة بعينها في البيت، وأن الفرق بينهما بموضعهما وباختلاف التردد، وثبت أن التعطف لا بد وأن تكون إحدى كلمتيه في مصراع والأخرى في المصراع الآخر، ليشبه مصراعاً البيت في انعطاف أحدهما على الآخر بالعطفين في كل عطف منهما يميل إلى الجانب الذي يميل إليه الآخر.
ومن أمثلته قول زهير بسيط
من يلق يوماً على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا
وكقول عقيل بن علفة طويل:
فتى كان مولاه يحل بفجوة ... فحل الموالي بعده بمسيل
وكقول أبي تمام كامل:
فلقيت بين يديك حلو عطائه ... ولقيت بين يدي مر سؤاله
وكقول المتنبي طويل:
فساق إلى العرف غير مكدر ... وسقت إليه المدح غير مذمم
وهذا البيت أفضل بيت سمعته في هذا الباب، فإنه انعطفت فيه ثلاث كلمات من صدره على ثلاث كلمات من عجزه، ففيه بهذا الاعتبار ثلاث تعطفات، وذلك قوله: فساق، فإنها انعطفت على قوله في العجز: وسقت، وقوله: إلي فإنها انعطفت على قوله في العجز: إليه وقوله غير، فإنها انعطفت على قوله في العجز غير، ثم في البيت من المناسبة ما لم يتفق في بيت غيره، فإن كل لفظة في صدره على الترتيب وزن كل لفظة في عجزه: وكل جملة كقوله فساق وسقت وإلي وإليه والعرف، والشكر، وغير مكدر، ومذمم فهذه مفردات الألفاظ، وأما الجمل المركبة فيها فانظراني قوله فساق إلي وسقت إليه والعرف والشكر، وغير مكدر، وغير مذمم، ولم أر مثل هذا اتفق إلا لأبي تمام في البيت الذي قدمته على هذا البيت، لأنه ساوى بيت المتنبي في التعطفات الثلاثة، والمناسبة الناقصة، وفضله بيت أبي تمام بالمناسبة التامة والطباق، وله فضيلة السبق، فثبت له التقدم هذا وقد أتى به توطئة لقوله كامل:
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
وقد جاء من التعطف في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إن معكم متربصون " فإن التعطف في هذه الآية الكريمة في موضعين. وكذلك جاء في قول سبحانه: " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " ، وكقوله سبحانه: " وهم عن الآخرة هم غافلون " والله أعلم.
باب التفويف

اشتقاق التفويف من الثوب الذي فيه خطوط بيض، وأصل الفوف: البياض الذي في أظفار الأحداث، والحبة البيضاء في النواة، وهي التي تنبت منها النخلة، والفوفة القشرة البيضاء التي تكون على النواة، والفوف: الشيء، والفوف: قطع القطن، وبرد مفوف: أي رقيق، فكأن المتكلم خالف بين جمل المعاني في التقفية كمخالفة البياض لسائر الألوان، لأن بعده من سائر الألوان أشد من بعد بعضا عن بعض، إذ هو بسيط بالنسبة إليهما، وكلها مركبة بالنسبة إليه، لأنه قابل لجميع الألوان، وجميع الألوان تقبل التغير إلى لون آخر بحسب التركيب، والشدة والضعف إلا السواد، فإنه لا يقبل تركيباً ألبتة، فهو ضد البياض ونقيضه، ولا جرم أن الجمع بينهما في الكلام يسمى مطابقة، بخلاف بقية الألوان، والتفويف في الصناعة: عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح أو الغزل، أو غير ذلك من الفنون والأغراض، كل فن في جملة من الكلام منفصلة من أختها بالتجميع غالباً، مع تساوي الجمل المركبة في الوزنية، ويكون بالجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة.
فمثال ما جاء منه بالجمل الطويلة، قول النابغة الذبياني طويل:
فلله عيناً من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا
وأحسب أن أول من نطق بالتفويف المركب من الجمل الطويلة عنترة، فقال كامل:
إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن نزلوا بضنك أنزل
ومثال ما جاء منه في الجمل المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون بسيط
ته أحتمل، واحتكم أصبر، وعز أهن ... ودل أخضع، وقل أسمع، ومر أطع
ومثال ما جاء منه بالجمل القصيرة قول المتنبي بسيط
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
وقد جاء من التفويف المركب من الجمل الطويلة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطئيتي يوم الدين " وفي الجمل المتوسطة قوله سبحانه: " تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي " ، ولم يأت من الجمل القصيرة شيء في فصيح الكلام. والله أعلم.

باب التسهيم
هو من الثوب المسهم، وهو الذي يدل أحد سهامه على الذي يليه، لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص له، بمجاورة اللون الذي قبله أو بعده.
وهذا الباب عرفه من تقدمنى بأن قال: وأن يكون ما تقدم من الكلام دليلاً على ما يتلوه، ورأيت هذا التعريف وإن روعي فيه الاشتقاق لا يخص هذا الباب من البديع، بل يدخل معه غيره. والذي عندي أن هذا الباب من مشكلات هذا الفن، ويصلح أن يعرف بقول القائل هو أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما تأخر منه، أو يتأخر منه ما يدل على ما تقدم بمعنى واحد أو بمعنيين، وطوراً باللفظ، كأبيات جنوب أخت عمرو ذي الكلب، فإن الحذاق ببنية الشعر وتأليف النثر يعلمون أن معنى قولها متقارب:
فأقسم يا عمرو لو نبهاك
يقتضي أن يكون تمامه:
إذا نبها منك داء عضالا
وليثاً غضوباً أفعى قتولاً، وموتاً ذريعاً، وسماً وحياً، وغضباً صقيلاً، كرباً شديداً، وغماً طويلاً، إلى أشياء يعز حصرها، لكن معنى البلاغة تقتضي اقتصارها من ذلك كله على الأول، لكونه أبلغ، وإنما قلت: إنه أبلغ، لأن الليث الغضوب، والأفعى القتول، يمكن مغالبتهما وغلبهما، والسيف الصقيل يمكن التوقي منه، والحيدة عنه، وما كل جريح يتوقع موته، ولا ييئس من برئه، والكرب الشديد، والغم الطويل، يرجى انكشافهما، والسم الوحي، والموت الذريع، يريحان صاحبهما، فأشد من الجميع الداء العضال الذي لا يميت فيريح، ولا يأمل صاحبه مداواته فيستريح، فلذلك علم الحذاق باختيار الكلام وبنيته أن قولها:
فأقسم يا عمرو لو نبهاك
يقتضي أن يكون تمامه:
إذاً نبها منك داء عضالا

دون كل ما ذكرت وما لم أذكر، فإن ما ذكرت هو دليل على ما لم يذكر، إذ لا يخرج ما لم يذكر عن أن يكون أمراً يمكن مغالبته وغلبه، أو شيئاً يرجى انكشافه وزواله، أو شيئاً يريح بسرعة كالسم الوحي، والموت الذريع وكما يدل الأول على الثاني كما ذكرت كذلك، يدل الثاني على الأول، فإنه لو قيل لحاذق بما يصلح أن يوطأ لقولها إذا نبها منك داء عضالاً فإنه لا يجد إلا قولها: فأقسم يا عمرو لو نبهاك، فهذا ما يدل الأول فيه على ما بعده دلالة معنوية.
وأما ما يدل فيه الأول على الثاني دلالة لفظية فقولها:
إذن نبها ليث عريسة ... مفتياً مفيداً نفوساً ومالا
فإن العارف ببنية الشعر إذا سمع قولها: مفيتا مفيداً، تحقق أن هذا اللفظ يوجب أن يتلوه قولها نفوساً ومالاً، وكذلك قولها:
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
والبيت الثاني أردت، وإن كان البيت الأول فيه من التسهيم ما فيه لكن الثاني أوضح، لأن قولها، يقتضي أن يتلوه:
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
ومن جيد أمثلة التسهيم قول عمرو بن كلثوم وافر:
ونوجد نحن أحماهم ذماراً ... وأوفاهم إذ عقدوا يمينا
واستخراج التسهيم من هذا البيت عسر جداً، وهو مما ينبغي أن يسأل عنه من يتعاطى هذه الصناعة، وطريق استخراجه منه أن يقال: لما قدم في صدر بيته الفخر بصفات المدح في الحرب، أوجبت عليه البلاغة أن يكمل الفخر بصفات المدح في السلم، والسلم لا يكون إلا بالعهود والأيمان، وهذان لا يمدح الإنسان فيها إلا بالوفاء بهما، إذ ليس من المدح أن تقول: حلف فلان ولا استحلف بل تقول: فلان وفى بعهده ويمينه، فلما اقتضى المعنى تكميل المدح في حالة السلم بالأمر الذي هو أس السلم وأصله، كما مدح في حالة الحرب بما هو من صفات المدح في الحرب، اقتضى اللفظ أيضاً أن يكون ما يأتي به من الألفاظ مناسباً لما قدمه، وقد قال في صدر البيت: ونوجد نحن أحماهم، فتعين لمراعاة المناسبة أن يقول في العجز وأوفاهم، لا سيما وهي تعطي المعنى الذي يكمل به المدح، وقال: إذا عقدوا يميناً يريد الحالة التي هي أشد أحوال الحالف، فإنه لو قال: إذا حلفوا لم يعط من المعنى البليغ ما يعطيه عقدوا إذ الحالف قد يحلف لغواً، وتعقيد اليمين يدل على النية والتصميم، قال الله سبحانه: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " فقد اقتضى صدر هذا البيت من جهة اللفظ والمعنى أن يكون تمامه ما ذكره والله أعلم.
ومن أمثلة هذا الباب للمحدثين قول البحتري، وهو مما جاءت دلالته لفظية أيضاً طويل:
فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام
وكقول الآخر خفيف:
من غصون كأنهن قدود ... وقدود كأنهن غصون
وهذا البيت لا يصلح أن يكون شاهداً للتسهيم، لكون أوله لا يقتضي آخره لأنه لو قال:
من غصون كأنهن قدود ... ذات نور مثل الثغور العذاب
أو ذات ورد كأنه الوجنات، حسن أن يكون تماماً له، ومتى كان التقدير كذلك انخرم ضابط التسهيم، وإنما ذكرته سهواً كما سها من ذكره قبلي ثم فطنت لذلك بعد إثباته.
والفرق بين التسهيم والتوشيح من ثلاثة أوجه: أدها أن التسهيم يعرف به من أول الكلام آخره، ويعلم مقطعه من حشوه من غير أن تتقدم سجعة النثر ولا قافية الشعر، والتوشيح لا تعرف السجعة والقافية منه إلا بعد أن تتقدم معرفتهما. والآخر أن التوشيح لا يدلك أوله إلا على القافية فحسب، والتسهيم يدل تارة على عجز البيت وطوراً على ما دون العجز، بشرط الزيادة على القافية، وما حكيناه عن ابن العباس رضي الله عنه في بيت عمر بن أبي ربيعة، وعن الفرزدق في بيت عدي بن الرقاع فنادر لا يقاس عليه.
والثالث أن التسهيم يدل تارة أوله على آخره، وطوراً آخره على أوله بخلاف التوشيح.
وقد جاء من التسهيم في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون " وقوله: " أفرأيتم الماء الذي تشربون " إلى آخر الآية.

فانظر إلى اقتضاء أول كل آية آخرها اقتضاء لفظياً ومعنوياً، وائتلاف الألفاظ مع معانيها، ومجاورة الملائم بالملائم، والمناسب بالمناسب، لأن ذكر الحرث يلائم الزرع، وذكر الحطام يلائم التفكه ومعنى الاعتداد بالزرع يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده، فحصل التفكه، وكذلك في بقية الآيات، فإذا علمت ذلك بهرج النقد عندك ما تقدم من الأشعار الفصيحة. والمعاني البليغة.

باب التورية
ويسمى التوجيه، وهي أن تكون الكلمة تحتمل معنيين، فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله، كقول علي عليه السلام في الأشعث بن قيس: وهذا كان أبوه ينسج الشمال باليمين، لأن قيساً كان يحوك الشمال التي واحدتها شملة.
ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول عمر بن أبي ربيعة خفيف:
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يجتمعان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان
فذكر عمر الثريا وسهيلاً ليوهم السامع أنه يريد النجمين المشهورين، لأن الثريا من منازل القمر الشامية، وسهيلاً من النجوم اليمانية، وهو يريد صاحبته الثريا، وكان أبوها قد زوجها برجل من أهل اليمن يسمى سهيلاً، فتمكن لعمر أن ورى بالنجمين عن الشخصين، ليبلغ من الإنكار على من جمع بينهما ما أراد، وهذه أحسن تورية وقعت في شعر لمتقدم مرشحة، فإن قوله المنكح ترشيح للتورية على قلتها في أشعار المتقدمين وكثرتها في أشعار المحدثين، وخصوصاً شعراء العجم العصريين كالأرجاني وأمثاله، وأما البيت الثاني فإنه أبدع من البيت الأول، إذ أخرجه مخرج التعليل، للإنكار الذي وقع في عجز البيت الأول، وجاء فيه مع التعليل تنكيت حسن مدمج في تجنيس الازدواج، فإن قوله إذا ما استقلت وإذا استقل تجنيس ازدواج، والنكتة في ترجيح استقلت على أخواتها فيما يقوم مقامها إشارته بها إلى أن الزوج يبعد بالزوجة عن أهلها ووطنها، فيكون ذلك أشد تأنيباً له على تزويجه، وأدعى لندامته على ذلك، وكان من الاتفاق الحسن أن الرجل يماني القبيلة والبلد، والمرأة شامية، فحصل الاتفاق مدمجاً في الاستخدام، فإنه استعمل في هذا البيت احتمالي كل لفظة من قوله: شامية ويمان، وختم البيت بالتوشيح، وهو دلالة معنى صدر البيت على قافيته، فجاء في البيت سبعة أضرب من البديع: وهي التعليل، والاتفاق، والاستخدام، وتجنيس الازدواج في استقلت واستقل والإدماج والتنكيت، والتوشيح.
وما رأيت لعربي ولا لعجمي مثل تورية وقعت للقاضي عياض صاحب الشفا في تعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحب الإكمال في شرح مسلم، وغيرهما في بيتين وصف فيهما صيغة نادرة أنشد فيهما الفقيه الإمام الحافظ المتقن العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري نفع الله به، وبلغه من خير الدارين كما بلغه من العلم نهاية مطلبه بالسند المتصل بقائلهما رحمه الله تعالى وهما بسيط
كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تموز أنواعاً من الحلل
أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل
وإذا وصلت إلى ما وقع من التورية في الكتاب العزيز وصلت إلى الغاية القصوى، وهي قوله تعالى: " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " فانظر إلى كون الضلال له محملان، وهما الحب وضد الهدى وكيف أهمل أحد الاحتمالين، وهو الحب، واستعمل دلالته على ضد الهدى، والمراد ما أهمل لا ما استعمل فستجده أوجز لفظ وأحلاه، والله أعلم.
باب الترشيح
وهو أن يؤتى بكلمة لا تصلح لضرب من المحاسن حتى يؤتى بلفظة تؤهلها لذلك كما حكيناه عن علي عليه السلام في قوله للأشعث بن قيس: " وهذا كان أبوه ينسج الشمال باليمين " ، فإنهن عليه السلام لو قال ينسج الشمال بيده أو ينسج الشمال وسكت لم يكن في لفظة الشمال تورية ألبتة فلما قصد التورية عدل عن لفظ اليد، وعن الاقتصار على ما قبلها وأتى بلفظ اليمين ليرشح لفظة الشمال للتورية، ولا ينتقد علينا مجيء الآية الواحدة، والبيت الواحد شاهداً على عدة أبواب من المحاسن، فإن ذلك بحسب ما يكون في الكلام من البديع، فإن قيل: فما الفرق بين الترشيح والاستعارة، والتورية، وقد جعلت مثالهما واحداً؟ قلت: الفرق بينهما من ثلاثة أوجه:

أحدها أن من التورية ما لا يحتاج إلى ترشيح، وهي التورية المحضة.
والثاني أن الترشيح لا يخص التورية دون بقية الأبواب، بل يعم الاستعارة والطباق وغيرهما من كثير من الأبواب، ألا ترى إلى قول أبي الطيب كامل:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما
فإن قوله: يا جنتي رشحت لفظة جهنم للمطابقة، ولو قال مكانها يا منيتي لم يكن في البيت طباق ألبتة.
الثالث: أن لفظة الترشيح في الكلام المورى غير لفظة التورية فإن التورية في قول علي عليه السلام في لفظة الشمال، والترشيح في لفظة اليمين، فإن قيل: لفظتا الثريا وسهيلاً رشحت كل واحدة منهما أختها للتورية، فإنه لولا ذكر سهيل لم تصلح الثريا للتورية، ولولا ذكر الثريا لم يصلح سهيل للتورية، كما أن لفظة اليمين هي التي رشحت الشمال للتورية، فلم يعقل الفرق إذاً بين التورية والترشيح.
قلت: كل من لفظتي الثريا وسهيل لا يفتقر في التورية بهما إلى صاحبتهما، بخلاف لفظة اليمين، وذلك أن عمر لو قال خفيف:
أيها المنكح الثريا زياداً ... عمرك الله كيف يجتمعان
لصحت التورية بدون ذكر سهيل؛ لأن الثريا يقع على النجم وعلى المرأة، والنجم لا يجتمع ورجل أبداً، وكذلك لو عكس فقال:
أيها المنكح الخلوب سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان
لصحت التورية أيضاً، لأن سهيلاً يقع على الكوكب، وعلى الرجل، والكوكب والمرأة لا يجتمعان، ولا كذلك لفظة اليمين، فإنها لو لم يؤت بها لم يكن في الشمال تورية أصلاً ورأساً، وإنما الواقعة التي وقعت لعمر اتفق له فيها موافقة اسم الزوجين لاسمي النجمين فتهيأ له من التورية ما لم يتهيأ لغيره، وتمم المعنى كون الثريا التي هي النجم، وصاحبته شاميين، وسهيل وزوجها يمانيين، فتم لعمر ما أراده من الإنكار عليهما، وعلى من جمع بينهما، وحصل في بيتيه التورية والاتفاق، فلذلك حسناً جداً ومما يبين أن التورية المحضة لا تحتاج إلى ترشيح قول القاضي السعيد ابن سناء الملك رحمه الله تعالى مجزوء الكامل:
يا هذه لا تستحي ... مني قد انكشف الغطاء
فإن في قوله: قد انكشف الغطاء تورية غير مفتقرة إلى ترشيح، لأن ظاهر اللفظ يدل على أنه أراد انكشاف الأمر، وهو يريد انكشاف العضو فقصد الثاني وورى بالأول، ولا كذلك قول أبي تمام كامل:
كشف الغطاء فأوقدى أو أخمدى
فإن لفظة كشف الغطاء لا تحتمل إلا معنى واحداً، وهو الذي قصده أبو تمام من انكشاف الأمر.
ومن الترشيح للتورية في الكتاب العزيز قوله تعالى: " اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه " ، فإن لفظة ربك رشت لفظة ربه، لأن يكون تورية، إذ يحتمل أن يراد بها الإله سبحانه والملك، فإنه لو اقتصر على قوله تعالى: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " لم تدل لفظة ربه إلا على الإله، فلما تقدمت لفظة ربك صلحت للمعنيين.
وأما ترشيح الاستعارة ففي قول بعض العرب طويل:
إذا ما رأيت النسر عز ابن داية ... وعشش في وكريه طارت له نفسي
فإنه شبه الشيب بالنسر لاشتراكهما في البيض، والشعر الأسود بابن داية، وهو الغراب لاشتراكهما في السواد، واستعار التعشيش من الطائر للشيب لما سماه نسراً، ورشح به إلى ذكر الطيران الذي استعاره من الطائر لنفسه، فقد رشح باستعارة إلى استعارة.
وأما ترشيح التشبيه فكقول النابغة الذبياني طويل:
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
فإنه رشح بالاستعارة في قوله: أرقلوا إلى التشبيه في قوله: إرقال الجمال، فإنه تشبيه بغير أداة، وفحول النقاد تسمى هذا النوع من التشبيه استعارة، والله أعلم.

باب الاستخدام
وهو أن يأتي المتكلم بلفظة لها معنيان، ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما، ويستخدم كل لفظة منهما لمعنى من معنى تلك اللفظة المتقدمة، وربما التبس الاستخدام بالتورية الضاً من كون كل واحد من البابين مفتقراً إلى لفظة لها معنيان.
والفرق بينهما أن التورية استعمال أحد لمعنيين من اللفظة، وإهمال الآخر، والاستخدام استعمالهما معاً.
ومن أمثلته قول البحتري كامل:
فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوب

فإن لفظة الغضا محتملة الموضع والشجر والسقيا الصالحة لهما، فلما قال والساكنية استعمل أحد معنيي اللفظة، وهو دلالتها بالقرينة على الموضع، ولما قال: شبوه: استعمل المعنى الآخر، وهو دلالتها بالقرينة أيضاً على الشجر.
وفي الكتاب العزيز من الاستخدام قوله تعالى: " لكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت " ، فإن لفظة كتاب يراد بها الأمد المحتوم، والكتاب: المكتوب، وقد توسطت بين لفظتي أجل ويمحو، فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد، واستخدمت يمحو لمفهوم الآخر، وهو المكتوب والله أعلم.

باب التغاير
وهو تضاد المذهبين إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئاً بذمه، أو يذم ما مدحه غيره، أو يفضل شيئاً على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلاً، أو يفعل ذلك مع غيره، فيجعل المفضول عند غيره فاضلاً، وبالعكس. فإما التفضيل بين الشيئين المتغايرين من كل وجه فلم يقل به إلا ضياء الدين بن الأثير رحمه الله تعالى، وسنأتي بتفصيل مذهبه في آخر هذا الباب، وأما مدح الإنسان ما ذمه غيره فلم أسمع فيه كقول الإمام علي عليه السلام في خطبة له مدح فيها الدنيا مغايراً لنفسه في ذمها عليها، أم هي المترجمة عليك؟ متى استهوتك، أم متى غرتك؟ كم غرتك؟ بمصارع آباك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك، تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فهي بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك، وإن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها الإبلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعاقبة، وابتكرت بفجيعة، ترغيباً وترهيباً، وتخويفاً وتحذيراً، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا، فقلت ناظماً لمعاني هذه الخطبة على أحد طريقي البلاغة، وهو الإيجاز خفيف:
من يذم الدنيا بظلم فإني ... بطريق الإنصاف أثنى عليها
وعظتنا بكل شيء لو أنا ... حين جدت في الوعظ من مصطفيها
وأرتنا الوجهين منها فهمنا ... للهوى بالبيان من وجهيها
نصحتنا فلم نر النصح نصحاً ... حين أبدت لأهلها ما لديها
أعلمتنا أن المآل يقينا ... للبلى حين جددت عصريها
كم أرتنا مصارع الأهل والأح؟ ... باب لو نستفيق بين يديها
ولكم مهجة بزهرتها اغتر ... رت فأدمت ندامة كفيها
أتراها أبقت على سبإ من ... قبلنا حين بدلت جنتيها
يوم بؤس لها ويوم رخاء ... فتزود ما شئت من يوميها
وتيقن زوال ذاك وهذا ... تسل عما تراه من حادثيها
دار زاد لمن تزود منها ... وغرور لمن يميل إليها
مهبط الوحي والمصلى التي كم ... عفرت صورة بها خديها
متجر الأولياء قد ربحوا الجن؟ ... نة فيها وأوردوا عينيها
رغبت ثم رهبت ليرى كل؟ ... ل لبيب عقباه من حالتيها
فإذا أنصفت تعين أن يث؟ ... نى عليها ذو البر من ولديها
وأما قوله مغايراً لنفسه فإنه في أكثر كلامه يذم الدنيا، ومنه قوله: يا دنيا أبي تعرضت، أم إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بنتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
وروى له عليه السلام في ذلك سريع:
يا مؤثر الدنيا على دينه ... والتائه الحيران في قصده
أصبحت ترجو الخلد فيها وقد ... أبرز ناب الموت عن حده
هيهات، إن الموت ذو أسهم ... من يرمه يوماً بها يرده
لا يشرح الواعظ صدر امرئ ... لم يعزم الله على رشده

وأما ما جاء من ذلك في الشعر، فقول بعض العرب يمدح قوماً بالأنفة كامل:
لا يشربون دماءهم بأكفهم ... إن الدماء الشافيات تكال
فإنه وصف هؤلاء القوم بالأنفة من أخذ الدية عن قتلاهم، فيصير حاصل ما يأخذونه شربهم اللبن، فكأنهم شربوا دماءهم، ثم قال: إن مثل هذا الدم لا يشفي، وإنما يشفي من الدماء ما أخذه مكايلة صاعاً بصاع، يعني دماً بدم كفء، فحاصل معناه أن الدماء تكال؛ وقال الآخر مغايراً لهذا المعنى وقد قتل بقتيله دونه معتذراً عن ذلك، مغايراً للمعنى الأول طويل:
فيقتل خير بامرئ لم يكن له ... وفاء ولكن لا تكايل بالدم
ويروى: لم يكن له بواء بباء موضع الفاء، أي كفء مأخوذ من قولهم لمن يقتلونه في دم: بؤبدم فلان، فذهب هذا القائل إلى أن قتيله لا نظير له، فلو ذهب إلى أنه لا يقبل به إلا كفأه لطاح دمه هدراً، إذ لم يجد له كفؤاً، فلهذا اضطر إلى قتل من دونه، ثم قال: لا تكايل بالدم، مستدلاً بذلك القول على صحة ما أتاه، لكون أرباب الدماء متفاوتي الدرجات، فلا تتكافأ دماؤهم، هذا مذهب الجاهلية، قد أتى الإسلام بخلافه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ولهذا قال عمر رضي الله عنه لجبلة: الإسلام ساوى بينكما فتغاير المعنيان، وهما مع المغايرة صحيحان، وقد أتى حكم الله في كتابه العزيز مغايراً هذا الحكم، فقوله تعالى: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل " وقوله: " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " مما يصحح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تتكافأ دماؤهم " ؛ وقد غايرت أحكام القرآن العزيز أحكام الجاهلية في عدة مواضع، وذم من ابتغى حكم الجاهلية، ومن ذلك ذم الظلم وأهله، وقد كانت العرب تمدحه وتمدح به وأشياء غير ذلك.
ومن هذا قول أبي تمام يغاير جميع الناس في تفضيل التكرم على الكرم، بقوله لأبي سعيد الثغري خفيف:
قد بلونا أبا سعيد حديثاً ... وبلونا أبا سعيد قديما
ووردناه سائحاً وقليباً ... ودعيناه بارضاً وجميما
فعلمنا أن ليس إلا بشق الن؟ ... نفس صار الكريم يدعى كريما
ثم غايره المتنبي فقال على الطريق المألوف منسرح:
لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها
كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها
وهذا المعنى من قول أبي تمام بسيط
لا يتعب النائل المبذول همته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر
وكل ذلك من قول بشار خفيف:
ليس يعطيك للرجاء لوا الخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء
وأبو تمام أخذ معناه الذي غاير فيه الناس من قبل إبراهيم بن سيار، النظام، لأنه غاير فيه جميع العلماء في استدلاله على أن شكر المنعم لا يجب عقلاً ولا شرعاً، وقال في نظم الدليل كلاماً نقحته وحررته فقلت: المعطي لا يعدو بعطائه أحد أربعة أقسام حاصرة: إما للخوف، وإما للرجاء، وإما لطلب الثناء، وإما للعشق في العطاء.
فأما المعطي للخوف، فحثه على ذلك العطاء اتقاؤه ما خافه بعطائه، فلا يجب شكره، والمعطي للرجاء إما أن يرجو المكافأة عن عطائه ممن أعطاه، أو يرجو بذلك ثواب الله، وهو في كلتا حالتيه لا يجب شكره، والمعطي لطلب الثناء حق عطائه أن يثنى عليه، فإذا أثنى عليه، فقد سقط حقه، فلا يجب شكره، والمعطي للعشق في العطاء، مسكن بعطائه غليل قلبه، ومنفس به من كربه، فلا يجب شكره، ووجه الرد على النظام أن يقال: المعطي لطلب الثناء، إما أن يكون عطاؤه موجباً للثناء عليه، أو لا يكون، فإن كان الأول فقد وجب شكر المنعم، وإن كان الثاني فقد فسد التقسيم الأول، وصار للعطاء قسم خامس لغير العلل التي علل بها، ولم تبق علة لهذا التقسيم من العطاء سوى التبذير والعبث، وهذا القسم مرفوض لا يستحق الكلام عليه، فإن قيل المعطي للثناء قد يثني عليه وقد لا يثنى فإن أثنى عليه فقد سقط حقه، فلا يجب شكره، وإن لم يثن عليه خلا عطاؤه عن الفائدة.

قلت: القعود عن أداء الواجب لا يسقط الواجب، فإن تارك الصلاة لا يسقط إخلاله بهذا الواجب وجوبها، ولا يخلو المثنى على المعطي لطلب الثناء إما أن يكون فعل واجباً، فقد وجب شكر المعطي، وإما أن يكون ما فعله غير واجب فقد صار العطاء لا للثناء. ثم أقول: المعطي رغبة في الثناء لا يخلو إما أن يكون المثنى فعل بثنائه واجباً أولاً، فإن كان الأول فقد وجب شكر المنعم، وإن كان الثاني، فإما أن يكون عدم الثناء عليه من جهة تقصير المعطي، فقد بينا أن الإخلال لا يسقط وجوب الشكر، فإن قلت: إنما أثنى المثنى عليه تفضيلاً. قلت: هذا محال لأنه تقدم منه العطاء ليشتري به الثناء، فثناء المعطى ثمن لإنعام المعطي، فكيف يعد تفضلاً؟! فقد ثبت وجوب شكر المنعم، وفسد تقسيم النظام، ثم قول القائل: لا يخلو المعطي للثناء، إما أن يثني عليه وإما أن لا يثني عليه لازم في جميع الأقسام، فإن المعطي لطلب المكافأة. إما أن يكافأ، وإما أن لا يكافأ، وكذلك المعطى للخوف، ولم يبق قسم لا يدخله هذا الاحتمال، سوى المعطي للعشق في العطاء، فإنه وإن لم يجب شكره على نفس العطاء لكونه مسكناً به غليل قلبه، ومشبعاً غرض نفسه، فهو مشكور على عشق أحسن الخلال، وأكرم الفعال، وكيف لا يستحق المنعم الشكر، والمنعم على كل تقدير أحد رجلين: رجل مطبوع على العطاء مجبول عليه، فهو مشكور على كرم طبع، وسماحة جبلته، ورجل غير مطبوع على ذلك فهو يجاهد نفسه، ويغلب طبعه على التكرم حتى يتعمد العطاء ويتكلف الحباء، وهذا كما قال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم: " إنما الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخاف الفقر وتأمل الغنى " . ومن هنا قال أبو تمام خفيف:
فعلمنا أن ليس إلا بشق الن؟ ... نفس صار الكريم يدعى كريما
ولقد أحسن المتنبي حين أخذ هذا المعنى من أبي تمام، وزاد عليه ونقله من فن المدح إلى فن الأدب، فقال مخرجاً ذلك مخرج المثل بسيط
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
ومن التغاير تفضيل القلم على السيف، والمعتاد عكس ذل، ويدل عليه قول البحتري في صاحب خراسان المعروف بابن هرمة بسيط
تعنو له وزراء الملك راغبة ... وعادة السيف أن يستخدم القلما
وما سمعت في هذا المعنى مثل قول ابن الرومي بسيط
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وغايره المتنبي فقال على الطريق المألوف بسيط
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
أكتب بها أبداً قبل الكتاب بنا ... فإنما نحن للأسياف كالخدم
فانظر إلى تقصير المتنبي في المعاني وسبكها، وإلى كونه قليل الابتكار لا يتوكأ إلا على المعاني المطروقة، ولا يرى فيها إلا تابعاً مقصراً، فإنه أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام بسيط
السيف أصدق أنباء من الكتب
فإن حاصل بيت المتنبي مأخوذ من هذا الصدر، ليس في بيته زائد على ما في الصدر، سوى ما أخذه من ابن الرومي وقصر وهو قوله في العجز:
فإنما نحن للأسياف كالخدم
لأن ابن الرومي جعل السيوف خدماً للأقلام، والمتنبي جعلها كالخدم، وفرق بين عين الشيء وبشبيهه، ولا يقال: إن صدر بيت المتنبي هو المأخوذ من صدر بيت أبي تمام، فلم قلت: إن بيت المتنبي كله مأخوذ من صدر بيت أبي تمام، لأني أقول: صدر بيت المتنبي مفتقر لما قبله، أو لتقديم ما بعده، لما فيه من الضمائر الظاهرة والمستترة التي متى أفرد لا يوجد فيه ما يعود عليه، فلا يكمل معناه الذي أخذه من بيت أبي تمام حتى يقدر تقديم العجز، فيصير تقدير البيت: نحن للأسياف كالخدم فاكتب بالأسياف قبل أن تكتب بنا، وحاصل هذا كله قول أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب
فلم يرض أبو تمام أن يقول: السيف أصدق أنباء من القلم حتى قال: من الكتب التي لا تكتب إلا بالقلم، والدواة والقرطاس، والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان فالحظ الفرق بين كلامه، وكلام المتنبي لتعلم مقدار ما بينهما.

وقد غاير ابن الرومي الناس في إبطال فائدة التناسي حيث قال خفيف:
ومعز عن الشباب مؤس ... بمشيب اللدات والأتراب
قلت لما انتحى يعد أساة ... من مصاب يشيبه ومصاب
ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما بهم ما بهم وما بي ما بي
فإنه غاير القائل طويل:
ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن متى ما شئت جاوبني مثلي
وأمثاله كثير، وكل ما أتيت به مما غاير فيه الشعراء بعضهم بعضاً.
وأما ما يغاير الشاعر فيه نفسه، فكقول الفرزدق طويل:
؟ألم تسمعا يا بني حكيم حنينها ... إلى السيف تستبكي إذا لم تعقر
فذكر أن إبله تحن إلى السيف لإلفها به إذا لم يعقرها للضيفان.
وقال يصفها بالجزع من الموت طويل:
ترى النيب من ضيفي إذا ما رأينه ... ضموراً على جراتها ما يجيرها
وهذا من قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم كامل:
وأبيك حقاً إن إبل محمد ... عزل نوائح أن تهب شمال
وإذا رأين لدى الفناء غريبة ... فدموعهن على الخدود سجال
يقول هذا الشاعر: إذا هبت الشمال، وهي من ريح الشتاء، وهبوبها من علامات المحل، أيقنت هذه الإبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها للضيفان والجيران، فهي نوائح لذلك، واستعار لها لفظة عزل: من الرجال الذين لا سلاح معهم يدفعون به عنهم، أي هي لا تمانع؛ ثم قال في البيت الثاني: وإذا رأين ناقة غريبة عرفن أنها ناقة ضيف فتذرى كل واحدة دمعها لا تدري أهي المنحورة أم غيرها؟ وقوله حقاً بعد القسم ليست من الحشو الذي تسد به الأبيات لإقامة الوزن، وإنما هي مؤكدة لصدق القسم، إذ المدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان في غيره لكانت حشواً لا يفيد إلا إقامة الوزن، وهذا من دقيق ما في الشعر، وهو من لطيف المدح، وقل كل مدح في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا التتميم الذي وقع لهذا الشاعر رضي الله عنه في المدح تتميم وقع للأخطل في الهجاء حيث قال بسيط
وأقسم المجد حقاً لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر
ومن التغاير ما قاله زبان بن منظور الفزري، وقد اتفق مع النابغة على الغزو، فوقعت جواده على النابغة، فتطير بها ورجع، ومضى زبان فغنم وسلم، فقال النابغة وافر:
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحاييناً وباطله كثير
ومن ينزح به لا بد يوماً ... يجيء به نعي أو بشير
فغاير النابغة معظم العرب في ذلك، وأعجبني مقاله لموافقته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا هامة ولا طيرة ولا صفر " .
وهذه أمثلة التغاير في المعنى الواحد.
وأما تغاير المعنيين المتضادين فإن الترجيح بينهما راجع إلى النظر في مفردات الألفاظ وتركيبها لتعلم كم في كل كلام منهما من ضروب العيوب، وأنواع المحاسن، ويقابل كل ضرب بضرب مثله: فما كانت محاسنه، أكثر وعيوبه أقل كان أفضل من الآخر، وهذا هو الذي أشار إليه ضياء الدين بن الأثير، ووعدت في أول هذا الباب بذكره، فإنه أيضاً غاير النقاد في هذا المكان، إذ عادتهم ألا يرجحوا بين الكلامين إلا إذا اشتركا في معنى واحد والله أعلم.
ومثال ما تقع فيه المفاضلة بين الكلامين المختلفي المعنى قول الله سبحانه وتعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " وقال عز وجل: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية، فإن الأولى في الطبقة العليا من البلاغة والفصاحة، والثانية في الطبقة الوسطى بالنسبة إليها، لأن الثانية وإن كانت بليغة فالأولى أبلغ، وإن كنت كثيرة المعاني، فالأولى أكثر، فالأولى أفضل مع كون مقصد الاثنين مغايراً مختلفاً، وعلى هذا فقس ترشد والله عز وجل أعلم.
؟

باب الطاعة والعصيان
هذا النوع استنبطه أبو العلاء المعري عند نظره في شعر أبي الطيب المتنبي وشرحه له من قوله طويل:
يرد يداً عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد

وسماه الطاعة والعصيان، أعني المعري، وفسره بأن قال: وهو أن يريد المتكلم معنى من معاني البديع، فيستعصي عليه لتعذر دخوله في الوزن الذي هو آخذ فيه، فيأتي موضعه بكلام غيره يتضمن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير المعنى الذي قصده، كهذا البيت الذي ذكرته للمتنبي، فإنه أراد أن يكون في البيت مطابقة، فيحتاج لأجلها أن يقول:
يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ
حتى إذا قال:
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
يكون في البيت مطابقة فلم يطعه الوزن فأتى بقادر مكان مستيقظ. لتضمنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظاً، وزيادة فقد عصاه في البيت الطباق، وأطاعه الجناس، لأن بين قادر وراقد تجنيس عكس. هذا كلام المعري على هذا البيت، وهذا المعنى من البديع، ولم يأت بشاهد غيره، وتبعه الناس بعد، فأثبتوا هذا الباب وتكلموا فيه بمثل هذا الكلام، واستشهدوا بهذا البيت، ولم يأت أحد منهم بغيره، وأضربوا جميعهم عن النظر فيه، إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه العصمة من الخطإ والسهو فيه، وإما أن يكونوا قد مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت.
والذي ذهب عليهم أن البيت ليس فيه شيء أطاع الشاعر، ولا شيء عصاه، ودليل ذلك أن قول المعري إن المتنبي أراد مستيقظاً، ليحصل منها ومن لفظة راقد طباق، فعصته لفظة مستيقظ لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، فيحكم على المتنبي، لأنه لو أراد أن يكون في بيته طباق فحسب، كان له أن يقول: يرد يداً عن ثوبها وهو ساهر أو ساهد، ويحصل له غرضه من الطباق بالجمع بين ساهر وراقد، ولا يكون عصاه شيء وأطاعه غيره وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس، فعدل عن لفظة ساهر وساهد إلى لفظة قادر، لأن القادر ساهر وزيادة، إذ ليس كل ساهر قادراً، والقادر لا بد أن يكون ساهراً، ليحصل بين قادر وراقد طباق معنوي، وجناس عكس، لأن الطباق أنواع: منه المعنوي، كما أن الجناس أنواع: منه جناس العكس، وكما لم يأت بأول نوع من الجناس، كذلك يم يأت بأول نوع من الطباق، وهو الطباق اللفظي، وأتى بالطباق المعنوي، لأن مذهبه ترجيح المعاني على الألفاظ، لا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معاً، وما كان فيه طباق وجناس أفضل مما ليس فيه سوى الطباق فقط، ولو عدل المتنبي إلى ما ذكره المعري من الإتيان بشاهد مثلاً لفاته هذا الفضل، وأتى في بيته ما دل على عدم تدقيق النقد، إذ يأتي فيه بأول نوع من الطباق، ولم يقابله بأول نوع من الجناس، مع ثبوت نيته الجمع بنيهما، والله أعلم.
فقد تبين من هذا البحث أن بيت المتنبي هذا لا يصلح أن يكون شاهداً على هذا الباب، لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره، ولا بد إذ قد أثبت هذا الباب لرشاقة تسمية من الإتيان بشاهد يليق به؛ والذي يليق به من الشواهد قول عوف بن محلم السعدي سريع:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
لأنا نعلم أن أول ما يقصده المتكلم إخراج معناه في لفظ مساو له، إذ هو خير ضروب البلاغة لكونه وسطها، وخير الأمور أوسطها، ولذلك وصف به كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال هند بن أبي هالة في صفته: ويتكلم بجوامع الكلم قولاً فصلاً، لا فضلاً ولا تقصيراً؛ وقالت أم معبد في صفة كلامه أيضاً: حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خزرات نظم يتحدرن، وهذا المعنى بلفظه أخذه ذو الرمة فقال طويل:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
فإذا اضطر الوزن إلى الزيادة على اللفظ أو النقص منه اضطراراً، فقد عصته المساواة وأطاعه غيرها مما يأتي في كلامه من البديع بعد الزيادة والنقص الذي استقام بهما الوزن، بشرط أن يكون عدوله عن المساواة إلى غيرها من البديع اضطراراً لا اختياراً.

وقد يعدل المتكلم عن المساواة اختياراً، ولا تكون المساواة عصته إلا في ظن من يرى ظاهر كلامه فيجد فيه ما يوهم بأنه زيادة، ويكون عدوله لمعنى أجل من المساواة، فيكون قد أطاعه ذلك المعنى، ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل رب احكم بالحق " فإن ظاهر اللفظ يوهم أن لفظة بالحق مستغنى عنها، للعلم بأن الله سبحانه لا يحكم إلا بالحق، فإنه قد ثبت أنه موصوف بالعدل بالدليل العقلي، فعدل عن المساواة، وأتى بهذه الزيادة ليضمن الكلام ضرباً من المحاسن يسمى الافتنان، فإن المراد تعجيل ما يستحقه الكفار من العذاب، ولذلك حصل في الكلام افتنان، وهو الجمع بين الأدب والهجاء، لأن من يستحق الدعاء عليه بالعقوبة ملوم، والله أعلم.
وقد أفردت لهذه الآية الكريمة تأليفاً استخرجت منها ستة عشر ضرباً من البديع، خفت من سياقتها في هذا الكتاب من الإطالة، فعلى هذا يكون مراد عوف في بيته الذي قدمناه عند ما وقع المعنى في نفسه، وقصد إخراجه من القوة إلى الفعل أن يقول: إن الثمانين قد أحوجت سمعي إلى ترجمان، وعلم أن الوزن لا يستقيم إلا بزيادة كلمة على ذا اللفظ المساوي معناه، فأتى بها متضمنة معنى الدعاء للمدوح، ليحصل بها في الكلام ضرب من البديع، وهو التتميم، نظراً إلى نقص الوزن، والتكميل نظراً إلى كون المعنى تاماً، وليكون عوضاً مما فاته من المساواة حذقاً منه، ولو أتى بها لا يفيد إلا إقامة الوزن فحسب، كانت عيباً فليسوغ أن يقال: إن في هذا البيت طاعة وعصياناً، لكون الشاعر عصته فيه المساواة التي قصدها وقت الشروع في سبكه وبنيته، وأطاعه التتميم، وعلى هذا يكون كل بيت من شواهد التتميم، وقع التتميم الذي فيه زائداً على معناه غير متمم لنقصه شاهداً للطاعة والعصيان، ومثل هذا هو تتميم الوزن لا تتميم المعنى، والله أعلم.

باب التسميط
وهو أن يعتمد الشاعر تصيير بعض مقاطع الأجزاء، أو كلها في البيت على سجع يخالف قافية البيت، كقول مروان بن أبي حفصة طويل:
هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابو، وإن أعطوا أطابوا، وأجزلوا
فأتت بعض أجزاء هذا البيت مسجعة على خلاف قافيته، لتكون القافية بمنزلة السمط، والأجزاء السجعة بمنزلة حب العقد، لكون التسميط يجمع حب العقد ويربطه، والفرق بين التسميط والتفويف، تسجيع بعض أجزاء بيت التسميط، وخلو كل أجزاء بيت التفويف من السجع بتة، والمراد بأجزاء التسميط بعض أجزاء التقطيع، ويسمى تسميط التبعيض.
ومن التسميط نوع آخر يسمى تسميط التقطيع، وهو أن يسجع جميع أجزاء التفعيل على روى يخالف روى القافية، كقولي بسيط
وأسمر مثمر بمزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن
فجاءت جميع أجزاء التفعيل في هذا البيت من سباعيها وخماسيها مسجعة على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت، والله أعلم.
باب المماثلة
وهو أن تتماثل ألفاظ الكلام أو بعضها في الزنة دون التقفية، كقول الله سبحانه وتعالى: " وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب، إن كل نفس لما عليها حافظ " فالطارق والثاقب وحافظ متماثلات في الزنة دون التقفية، وقد تأتي بعض ألفاظ المماثلة مقفاة من غير قصد، لأن التقفية في هذا الباب غير لازمة، كقول امرئ القيس متقارب:
فتور القيام، قطوع الكلام ... تفتر عن ذي غروب خصر
كأن المدام، وصوب الغمام ... وريح الخزامى، ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر، المستحر
وكقول الشاعر على أصل الباب في التزام الزنة دون التقفية متقارب:
صفوح، كريم، رصين إذا ... رأيت العقول بدا طيشها
نداه سحوح على أنفس ... به اخضر لما سقى عيشها
والبيت الأول أردت.
والفرق بين المماثلة والمناسبة توالي الكلمات المستويات في المماثلة، وتفارقها في المناسبة ومن أمثلة المماثلة قول أبي ذؤيب وافر:
معتقة، مصفقة، عقار ... شآمية، إذا جليت مروح
فقوله: معتقة، مصفقة، شآمية متماثلة لتساوي الكلام في الزنة، وهذا البيت من أقوى دليل على أن التقفية في المماثلة غير لازمة، إذ لو كانت لازمة لأتى بشآمية على سجع معتقة مصفقة.

لكنه لما لم يأت بأول العجز على سجع أول الصدر، علم أن التقفية في هذا الضرب غير لازمة. ومثله قول أوس بن حجر متقارب:
مليح، نجيح، أخو مأقط ... يكاد يخبر بالغائب

باب التجزئة
وهو أن الشاعر يجزئ البيت من الشعر جميعه أجزاء عروضية، ويسجعها كلها على رويين مختلفين، جزء يجزء، إلى آخر البيت الأول من الجزأين، على روى مخالف لروى البيت، والثاني على روى البيت كقول الشاعر " رمل " :
هندية لحظاتها، خطية خطراتها، دارية نفحاتها
ومثال الثاني الذي سجع كل ثان من أجزائه زائداً على قافيته قول أبي تمام طويل:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي ... وطاب به ثمدي، وأورى به زندي
وكقول المتنبي بسيط
فنحن في جذل، والروم في وجل ... والبر في شغل؛ والبحر في خجل
والتجزئة تفارق التسميط من وجهين: أحدهما تقسيم بيتها على ثلاثة أجزاء مسجعة إن كان سداسياً، أو أربعة مسجعة إن كان ثمانيا.
والثاني التزام السجع في الأجزاء على قافية البيت والله أعلم.
باب التسجيع
وهو أن يتوخى المتكلم أو الشاعر في أجزاء كلامه، بعضها غير متزنة بزنة عروضية ولا محصورة في عدد معين، بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية، والفرق بينه وبين التسميط كون أجزائه على روى قافيته، وبينه وبين التجزئة اختلاف زنة أجزائه، ومجيئها على غير عدد محصور معين، ومثاله قول أبي تمام طويل:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي ... وطاب به ثمدي، وأورى به زندي
وقول ديك الجن كامل:
حر الإرهاب وسميه، بر الإيا ... ب كريمه، محض النصاب صميمه
والأجزاء المسجعة من هذا البيت التي هي بعض أجزائه غير متزنة زنة عروضية، وإن تماثلت في زنة بعضها لبعض، والفرق بينه وبين المماثلة، كون أجزائه المسجعة اتزنت زنة غير زنة عروضية، وأتت مفرقاً ما بينها، وأتى تسجيعها على روي بيتها، بخلاف أجزاء المماثلة، وتسجيع أجزاء المماثلة على غير روي بيتها والله أعلم.
باب الترصيع
الترصيع كالتسجيع في كونه يجزئ البيت إما ثلاثة أجزاء إن كان سداسياً، أو أربعة إن كان ثمانياً وسجع على ثاني العروضين دون الأول، وأكثر ما يقع الجزءان المسجع والمهمل في الترصيع مدمجين إلا أن أسجاع التسجيع على قافية البيت، والفرق بينه وبين التسميط المسمى تسمي التبعيض أن المسجع من قسمي التسميط معاً هي أجزاء عروضية، والمسجع من الترصيع أجزاء غير عروضية لوقوع السجع في بعض الأجزاء، ومثال الترصيع قول أبي صخر من أناشيد قدامة بسيط
وتلك هيكلة خود مبتلة ... صفراء رعبلة في منصب سنم
عذب مقبلها خدل مخلخلها ... كالدعص أسفلها مخضوبة القدم
سود ذوائبها، بيض ترائبها ... محض ضرائبها، صيغت على الكرم
سمح خلائقها، درم مرافقها ... يروي معانقها من بارد شبم
كأن معتقة، في الدن مغلقة ... صفراً مصفقة من رابئ ودم
شيبت بموهبة، من رأس مرقبة ... جرداء مهيبة، في حالق شمم
خالط طعم ثناياها وريقتها ... إذا يكون توالي النجم كالنظم
فهذا القسم من الترصيع يحسن أن يسمى الترصيع المدمج، لا، كل جزء مسجع من أجزائه مدمج في الجزء الذي قبله فرقاً بينه وبين ما ليس كذلك من الترصيع، فإن من الترصيع ما أجزاؤه المسجعة غير مدمجة فيما قبلها، ومثاله قول مسلم بن الوليد بسيط
كأنه قمر، أو ضيغم هصر ... أو حية ذكر، أو عارض هطل
وهذا القسم من الترصيع بلتبس بالتسميط التباساً شديداً، والفرق بينهما أن التسجيع في التسميط على الجزء الأول من الأجزاء العروضية، وفي الترصيع على ثاني العروضيين، ألا ترى التسجيع من التسميط في بيت مروان جاء في الخماسي لما كان من بحر طويل، وجاء التسجيع من الترصيع في بيت مسلم في الخماسي أيضاً لما كان البيت من بحر البسيط، لكون الخماسي أول الجزأين من الطويل والخماسي ثاني الجزأين من البسيط، وهذا الوضع مما يسأل عنه من يدعي هذا العلم. ويتنخل من ذلك أن الفرق بين التسميط والترصيع من وجهين: أحدهما كن الترصيع يكون بأجزاء مدمجة وغيرها، والتسميط لا يقع فيه الإدماج ألبتة.

والثاني أن ما لا إدماج في أجزائه من الترصيع يقع التسجيع منه في ثاني العروضين، ومن التسميط في أولهما، والله أعلم.

باب التصريع
التصريع على ضربين: عروضي، وبديعي، فالعروضي عبارة عن استواء عروض البيت وضربه في الوزن والإعراب والتقفية، بشرط أن تكون العروض قد غيرت عن أصلها لتلحق الضرب في زنته.
والبديعي استواء آخر جزء في الصدر، وآخر جزء في العجز في الوزن والإعراب والتفقيه، ولا يعتبر بعد ذلك أمر آخر، وهو في الأشعار كثير، لا سما في أول القصائد، وكثير ما يأتي في أثناء قصائد القدماء؛ ويندر مجيئة في أثناء قصائد المحدثين، ووقوعه في الأعشار دليل على غزر مادة الشاعر، وحكمه في الكثرة والقلة حكمن بقية أنواع البديع، إذ كل ضرب من البديع متى كثر في شعر سمج، كما لا يحسن خلو الكلام منه غالباً، وكل ما جاء منه متوسطاً من غير تكلف فهو المستحسن، وقد يأتي بعض أوائل القصائد مصمتاً، ويأتي التصريع في أثنائها بعد ذلك. وقد قسمه أهل الصناعة قسمين: قسم سموه تصريع التكميل، وقسم سموه تصريع التشيطر، ورأيت منهم من جعل هذا القسم الثاني باباً مفرداً يسميه التشيطر من غير أن يضيف إليه لفظة التصريع.
ومثال التصريع العروضي قول امرئ القيس طويل:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
ومثال التصريع البديعي قوله في أثناء هذه القصيدة:
ألا إنني بال على جمل بال ... يقود بنا بال ويتبعنا بال
وقوله أيضاً بعد تصريع أول القصيدة المعلقة، وإن كان إطلاق التصريع عليها إطلاقاً بديعياً، لا عروضياً، إذ أولها عند العروضين مقفى لا مصرع طويل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ومثال ما وقع في أثناء القصيدة وأولها مصمت قوله متقارب:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضيرك لو تنتظر
فإن أول هذه القصيدة على أصح الروايتين
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
ثم والى التصريع بعد قوله:
تروح من الحي أم تبتكر
فقال
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر
وأهل البديع يسمون التقفية تصريعاً، إذ لا يعتبرون الفرق بينهما. والتصريع في أثناء القصائد والإصمات في أوائلها يستحسن من القدماء، ويستحسن من المحدثين، لأنه من العرب يدل على قوة العارضة وغزر المادة، وعدم الكلفة وتخلية الطبع على سجيته، وهو من المحدثين دليل على قوة التكلف غالباً، ولا يحسن التصريع لأنه لا يأتي منهم إلا مقصوداً، ولا يحسن التصريع إلى ابتداء شعر غير الشعر الذي تقدم ... ألا ترى إلى كون امرئ القيس لما فرغ من ذكر الحماسة في القصيدة الرائية التي ذكرنا منها الأبيات المتقدمة، وشرع في ذكر النسيب صرع، وإذا استقريت أشعارهم وجدت أكثرها كما ذكرت لك.
باب التشطير
هذا أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرع كل شطر من الشطرين، لكنه يأتي بكل شطر مخالفاً لقافية الآخر ليتميز من أخيه، فيوافق فيه الاسم المسمى، وذلك كقول مسلم بن الوليد بسيط
موف على مهج، في ويم ذي رهج ... كأنه أجل، يسعى إلى أمل
وكقول أبي تمام بسيط
تدبير معتصم، بالله منتقم ... لله مرتغب، في الله مرتقب
وعندي أن بيت أبي تمام أولى من بيت مسلم بهذا الباب، لأنه عمد إلى كل شطر قدره بيتاً وصرعه تصريعاً صحيحاً، وبيت مسلم شطره الأول مصرع تصريعاً صحيحاً، وشطره الثاني ليس بمصرع لمخالفة روي وسطه روي آخره في الإعراب، اللهم إلا أن يجعل الشطر على ضربين: ضرب يصرع فيه أحد الشطرين دون الآخر، وضرب يصرعان فيه معاً. والله أعلم.
باب التعليل

وهو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع، أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه، لكون رتبة العلة أن تقدم على المعلول، كقوله سبحانه: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " فسبق الكتاب من الله علة في النجاة من العذاب. وكقوله تعالى: " ولولا رهطك لرجمناك " ، فوجود رهطه علة في سلامته من قومه، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لولا أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " فخوف المشقة على الأمة هو العلة في التخفيف عنهم من الأمر بالسواك عند كل صلاة.
ومن الأمثلة الشعرية في ذلك قول البحتري متقارب:
ولو لم تكن ساخطاً لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا
فوجود سخط الممدوح هو العلة في شكوى الشاعر الزمان، وكقول أبي القاسم بن هانئ الأندلسي طويل:
ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما كنت أدري علة للتيمم
فعلل درايته علة التيمم بمصافحة رجل صاحبته صفحة الثرى وهذا من غلو ابن هانئ المعروف فلحى الله غلوه كيف يقول: إنه لم يدر علة التيمم إلا بما ذكر، وقد وردت علة التيمم من نص الكتاب والسنة: أما نص الكتاب فقوله تعالى: " فتيمموا صعيداً طيباً " وما نص السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وحديث عمار بن ياسر في التيمم مشهور وأخرجه مسلم.
أراد ابن هانئ الإغراب في هذا المعنى، فوقع فيما عادته أن يقع فيه من الغلو، وأحسن من قوله قول ابن رشيق القيرواني في تعليل قوله عليه السلام: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " حيث قال وافر:
سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهراً وطيبا
فقالت غير ناطقة لأني ... حويت لكل إنسان حبيبا
فتخلص مما وقع فيه ابن هانئ لكونه ذكر أنه سأل الأرض عن العلة التي بسببها جعلها الله تعالى لرسوله عليه السلام مسجداً وطهوراً، وتلطف في استخراج علة مناسبة لا حرج عليه في ذكرها بنفسه، فكيف وقد ذكرها على لسانها في جواب سؤاله، وأبو تمام الذي فتح له باب هذا المعنى ونبهه على استخراج هذه العلة بقوله طويل:
رباً شفعت ريح الصبا بنسيمها ... إلى الغيث حتى جادها وهو هامع
كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيباً فما ترقا لهن مدامع
والبيت الثاني، أردت لأن أبا تمام تلطف لمعناه غاية التلطف، إذ جعل دوام مطر السحاب على هذا الربا إنما كان بمنزلة البكاء من ثاكل دفن محبوباً له، فهو دائم البكاء على قبره، فكأنه جعل العلة في دوام السقيا كون الحبيب تحت تلك الأرض المسقية، ومن هاهنا جعل ابن رشيق العلة في كون الأرض مسجداً وطهوراً لكافة الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كونها حوت لكل بشر حبيباً، وهذه كلها أمثلة الكلام الذي جاء على وجهه في تقديم علة حكمه على الحكم، وأما ما جاء منه متقدم المعلول على العلة إغراباً وطرفة، فكقول مسلم بن الوليد بسيط
يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنساني من الغرق

فإن هذا البيت لم يسمع في هذا الباب مثله، لأنه مسلماً أغرب في معناه بتلطفه في تحسين إساءة الوشي، لإنجائه إنسان عينه من الغرق بالدمع، لامتناعه من البكاء لحذره منه، فغاير في ذلك الناس، أعني استحسان الإساءة، وكأنه سئل عن استحسانه إساءة الواشي، ففسر ذلك بنجاة إنسانه من الغرق، وأدمج في هذا المعنى معنى الاعتذار عن عدم البكاء، وتبيين العلة في ذلك من جهة حذره من الواشي بحبه، وفي ذلك فضيحة محبوبه، واحترس من توهم متوهم أن جمود عينه لغلبة جلده على حبه، وصبره على جزعه، إذ ذلك مناف لصحة مذاهب الناس في الغزل، وجاء في ضمن ذلك الإدماج بالمبالغة، إذ مفهوم كلامه وملزومه أنه لولا حذره من الواشي لبكى بدمع يغرق إنسانه بحيث لا ينحسر عنه الماء أبداً، فإنه أطلق عليه لفظ الغرق، وهذا حكم كل غريق، هذا إلى ما وقع في البيت من مساواة معناه للفظه، وائتلافه معه ومع وزنه، وحصول المطابقة اللفظية فيه، وعذوبة ألفاظه، وسهولة سبكه، وقرب متناوله، وصحة دلالته، وتمكين قافيته، فاشتمل هذا البيت على ثلاثة عشر نوعاً من البديع، وهي الإغراب والطرفة، والتعليق، والإدماج، والاحتراس، والمبالغة، والتعليل، والمطابقة، والمساواة، والتغاير، والتفسير، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، والتمكين، وقد تشبث القاضي السعيد رحمه الله بأذيال مسلم في هذا المعنى، وأحسن ابتاعه باختيار بعض هذه الأنواع حيث قال خفيف:
علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
فالجامع بين هذا البيت والبيت الذي قبله وقوع الإحسان من الإساءة، فبيت السعيد وإن شارك بيت مسلم في المساواة، والتعليق، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وتمكين القافية، والتفسير والتعليل، فقد أعوزه الإغراب والمغايرة والمطابقة والاحتراس والإدماج والمبالغة، على أن صريح بيت السعيد مأخوذ من قول القائل منسرح:
أعتقني سوء ما صنعت ال؟ ... رق فيا بردها على كبدي
فصرت عبداً للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد
وهذان البيتان في معناهما من أحسن ما سمع، وأكمل وأمتن شعر وأفضل، ولولا الإفراط في الإطالة بينت مانيهما، والله أعلم

باب التطريز
وهو أن يبتدئ المتكلم أو الشاعر بذكر جمل من الذات غير مفصلة، ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قدره في تلك الجملة الأولى، فتكون الذوات في كل جملة متعددة تقديراً والجمل متعددة لفظاً والصفة الواحدة المخبر بها عن تلك الذوات متعددة لفظاً، وعدد الجمل التي وصفت بها الذوات لأعدد الذوات عدد تكرار واتحاد لا تعداد تغير، وذلك كقول ابن الرومي وافر:
أموركم بني خاقان عندي ... عجاب في عجاب في عجاب
قرون في رؤوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب
وكقوله وافر:
وتسقيني وتشرب من رحيق ... خليق أن يلقب بالخلوق
كأن الكأس في يده وفيها ... عقيق في عقيق في عقيق
ومثل ذلك قول القائل، وأنا أشك هل هو لأبي نواس أو ابن المعتز وافر:
فثوبي والمدام ولون خدي ... شقيق في شقيق في شقيق
باب التوشيع
هو من الوشيعة، وهي الطريقة في البرد المطلق، فكأن الشاعر أهمل البيت كله إلا آخره، فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن.
وهو عند أهل الصناعة عبارة عن أن يأتي المتكلم أو الشاعر ابسم مثنى في حشو الجز، ثم يأتي تلوه باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى، يكون الأخير منهما قافية بيته أو سجعة كلامه، كأنهما تفسير ذلك. وقد جاء من ذلك في السنة ما لا يلحق بلاغة، وهو قوله عليه السلام: " يشب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل " .
ومن أمثلة هذا الباب في الشعر قول الشاعر بسيط
أمسى وأصبح من تذكاركم وصباً ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد
قد خدد الدمع خدي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد
وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان: الصبر والجلد
لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المضرمان: القلب والكبد

كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان: الذئب والأسد
لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان: الروح والجسد
وهذه الأبيات جيدة، لو لم يقع في البيت الأول منها تقصير عما يجب في مثله على الطريقة المحمودة من طرائق النسيب حيث قال: " يرثي لي المشفقان " ، فإنه ليس من الكلام البليغ قول من يشكو محنة قد رثى لي المشفق منها، وأبلغ منه قول من يقول رثى لي العدو ورق لي الصخر، وأشباه ذلك وما بشعر قلته في هذا المعنى من بأس، وهو بسيط
بي محنتان ملام في هوى بهما ... رثى لي القاسيان: الحب والحجر
لولا الشفيقان من أمنية وأسى ... أودى بي المرديان: الشوق والفكر
ويحسن أن يسمى ما وقع في بيتي تطريف التوشيع، إذ وقع التوشيع في طرفي كل بيت في أوله وآخره، والله أعلم.

باب العكس والتبديل
وهو أن يأتي الشاعر إلى معنى لنفسه، أو لغيره فيعكسه، فمثال ما عكس الشاعر من المعاني لغيره قول أبي العتاهية يشبه الرايات بالسحاب وافر:
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
فعكسه علي بن الجهم فقال يشبه السحابة بالرايات طويل:
فمرت تفوق الطرف حتى كأنها ... جنود عبيد الله ولت بنودها
وما أدري كيف وصف ابن الجهم جنود ممدوحه بالتولي في الحرب! وهو من صفات الذم، فقال الله سبحانه وتعالى: " فلا تولوهم الأدبار " . وقال علي عليه السلام وقد قيل له ورثي عيه درع وهي صدر بلا ظهر: ألا وقيت ظهرك، فقال إن وليت فلا وألت هذا الإنكار وقع مني على ما روى لي عنه، فإن الذي روى لي البيت له ذكر أن عبيد الله المذكور فيه هو ممدوحه بهذه القصيدة، والعهدة على الراوي، ومن هذا القسم قول الشاعر بسيط
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
فعكسه غيره فقال بسيط
وربما فات بعض القوم أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
ومن القسم الثاني، وهو عكس الشاعر معنى نفسه قول الأول خفيف:
وإذا الدر زان حسن نساء ... كان للدر حسن وجهك زينا
ومثله قول الآخر طويل:
منعمة الأطراف زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
ولبعض الشعراء فيمن مدحه، فتغير عليه ومطله بسيط
ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن
وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني
والبيت الثاني أردت: ومن هذا الباب قول بعضهم وافر:
فإن أك في شراركم قليلاً ... فإني في خياركم كثير
ويروي للرشيد هارون متقارب:
لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي بسرى نموم مذيع
فلولا دموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع
والبيت الثاني أردت، هو كقول أبي نواس كامل:
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
ومن مليح العكس والتبديل قول عبد الله بن الزبير الأسدي وافر:
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا
وقد استشهد قوم بهذا البيت على المطابقة، وهو بهذا الباب أولى لما فيه من عكس مطابقة عجزه لصدره، وتبديل الطباق في العجز.
ومن باب العكس في الكتاب العزيز قوله تعالى " ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عيهم من شيء " والله أعلم.
باب الإغراق
الإغراق فوق المبالغة، ودون الغلو، ولا يقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز، ولا الكلام الصحيح الفصيح إلا مقروناً بما يخرجه من باب الاستحالة، ويدخله في باب الإمكان، مثل كاد وما يجري مجراها.
ومن أمثلته قول ابن المعتز طويل:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل

فموضع الإغراق من البيت قوله: ظالمين يعني أنها استفرغت جهدها في العدو، فيما ضربناها إلا ظلماً، ولا جرم أنها خرجت من الوحشية إلى الطيرية، ولو لم يقل: ظالمين لما حسن قوله فطارت ولكنه بذكر الظلم صارت الاستعارة كأنها حقيقة. وقد أنشد بعض المؤلفين بيتين في هذا الباب مستحسناً لهما وهما متقارب:
أليس عجيباً بأن امرأً ... شديد الجدال دقيق الكلم
يموت وما علمت نفسه ... سوى علمه أنه ما علم
وعندي أن هذين البيتين ليس فيهما إغراق ألبتة، بل لو قيل إنهما ليس فيهما مبالغة لما رد هذا القول، لأن الشاعر أخبر عن نفسه أو نفس من قصده بذلك أنه عارف بجهله، وأنه يموت وما علم سوى ذلك من نفسه، وهذا أصدق الشعر الذي استحسنه أكثر الفحول، وجاءت أكثر أشعارهم عليه، ولو كان قال: إنه يموت وما علم بجهله لكان ذلك إغراقاً، فلا تثبت له مبالغة إلا بوجه بعيد، وذلك أنه أثبت لنفسه الجهل المحض، ونفى عنها العلم بتة، وهو لا بد وأن يكون عالماً بشيء ما، فنفيه كل العلم عنه وهو يعلم بعضه إنما هو من جهة المبالغة.
ولي في هذا المعنى بيت من أبيات ما به من بأس، وهو من أمثلة الباب طويل:
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري
وبيت امرئ القيس في صفة النار الذي قدمت ذكره في باب المبالغة هو بالإغراق أولى، وقد أشرت إلى ذلك متقدماً عند ذكره وهو طويل:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي

باب الغلق
وقد رأيت من لا يفرق بين الغلو والإغراق، ويجعل التسميتين لباب واحد، وعندي أن معنى البابين مختلف كاختلاف اسميهما، إلا أن الإغراق أصله في النزع، وأصل الغلو بعد الرمية، وذلك أن الرامي ينصب غرضاً يقصد إصابته، فيجعل بينه وبينه مدى يمكن معه تحيقي ذلك الغرض، فإذا لم يقصد غراً معيناً، ورمى السهم إلى غاية ما ينتهي إليه بحيث لا يجد مانعاً يمنعه من استيفاء السهم قوته في البعد سميت هذه الرمية غلوة فالغلو مشتق منها، ولما كن الخروج عن الحق إلى الباطل يشبه خروج هذه الرمية عن حد الغرض المعتاد إلى غير حد سمي غلواً، قال الله سبحانه وتعالى: " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " وهو لا يعد من المحاسن إلا إذا اقترن به ما يقربه من الحق، كقد للاحتمال، ولو ولولا للامتناع، وكاد للمقاربة، وأداة التشبيه، وآلة التشكيك، وأشابه ذلك من القرائن اللفظية.
وقد يكون الغلو حقاً من جهة المعنى، كالغلو في الدين، فإنه قسمان: حق وباطل، فالحق فحص الإنسان عن دينه، وإفراط ورعه وتحرجه، كقول بعضهم: إنما الزهد في الجلال، والغلو: الباطل، كقول النصارى في المسيح عليه السلام.
وفي قوله تعالى " لا تغلوا في دينكم غير الحق " دليل على أن من الغلو ما هو حق، وهو ما أشرنا إلهي، وإن كان الغلو في الدين دين الله قد يكون في بعض الأحايين حقاً فالتوسط خير منه كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الأمور أوساطها " .
ومن شواهده المستحسنة قول مهلهل وافر:
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور

وقد قيل: إن هذا البيت أكذب بيت قالته العرب، وإن بيت امرئ القيس في صفة النار أقرب منه إلى الحق، لأن فيه ما يخلص به من الطعن وهو اعترافه ببعد مسافة النار، وأنها لم يدنها إلا النظر العالي، وقالوا: حاسة البصر أقوى من حاسة السمع، لأن أقوى سمع وأصحه إنما يسمع أعظم صوت من ميل واحد، بشرط حمل الريح ذلك الصوت إلى جهة السامع في الليل عند هدوء الأصوات وسكون الحركات، وحاسة البصر تبصر الجواهر الشفافة، والأجسام الصقيلة، والأجرام المضيئة من بعد يتجاوز الحد بغير واسطة، ورؤية النيران العظيمة المرتفعة مواقدها للناظر المرتفع مكانه ممكنة من البعد ما لم يمنع من ذلك ضوء النهار، ويحول مخروط ظل الأرض دونها، وقد كانت زرقاء اليمامة ترى الجيوش خيلها ورجلها، وتحزر أعدادها من مسيرة ثلاثة أيام، وتنذر به قومها، ويقع الأمر على ما أخبرت به، وقد تواتر الخبر عنها بذلك، وضرب بها المثل، وقد تقدم ذكر النابغة لها في قصة الحمام، فلهذا رجحوا بيت امرئ القيس على بيت مهلهل، وعندي أن بيت مهلهل أقرب إلى الصدق والاستحسان من بيت امرئ القيس على شرطهم، فإنهم شرطوا أن كل كلام تجاوز المتكلم فيه حد المبالغة إلى الإغراق والغلو، واقترن بما يقربه من الإمكان خرج من حد الاستقباح إلى حد الاستحسان، وقد تقدم في بيت مهلهل لولا، وهي من الحروف التي زعموا أن الكلام باقترانه بها يبعد من العيب بتة، وليس في بيت امرئ القيس شيء من ذلك، مع أنه قد صرح في البيت الذي قبله أن النار إنما شبت في وجه النهار، عند رجوع المغيرة، من المغار حيث قال: " تشب لقفال " ، وضوء النهار يمنع من رؤية النيران والكواكب وجميع الأجرام المضيئة، وهذا القدر يدخل بيت امرئ القيس في باب الاستحالة، مع خلوه مما يقربه من الإمكان، والبيت الذي هو عندي من عيوب هذا الباب لمجيء الإفراط فيه غير مقترن بما يخلصه به من ذلك، وليس مما يحتمل تأويلاً يقربه من الصدق ميت النمر بن تولب الذي يشبه فيه نفسه بالسيف حيث قال بسيط
أبقى الحوادث والأيام من نمر ... أسباد سيف صقيل أثره باد
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
وقد تأول بعضهم هذا البيت تأويلاً لو صح تخلص به قائله من العيب، وهو أن قوله:
بعد الذراعين والساقين والهادي
لم يرد أنك تحفر عنه بعد حفرك على هذه الأعضاء، لأنه لم يرد إلا أعضاء المضروب لا أعضاء الضارب، يعني بعد قده الذراعين والساقين والهادي، وهذا عندي لا يخلصه، فإنه على هذا التأويل لم يخرج عن كونه غلوا غير مقترن بما يخلص. والذي هو أقرب منه بحيث لا يجوز أن يؤتى به في باب الغلو ولا يخرج عن كونه مبالغة قول النابغة في صفة السيوف طويل:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن في الصفاح نار الحباحب
وما تجاوز حد المبالغة فهو غلو، لا سيما وهو غير مقترن، وإذا ثبت أن بيت النابغة أحسن أحواله أن يعد من المبالغة لا من الإغراق، وأن بيت النمر قد تجاوز حدث فهو من الغلو ولما كان ما جاء من الغلو مستحسناً، لا يكون إلا باقترانه بما تقدم، وما جاء منه غير مقترن كان مستقبحاً. وجاء بيت النمر غير مقترن علم أنه من الغلو المستقبح. والله أعلم.

باب القسم
وهو أن يريد الشاعر الحلف على شيء، فيحلف بما يكون له مدحاً، وما يكسبه فخراً، أو ما يكون هجاء لغيره، وأو ويعداً له، أو جارياً مجرى التغزل والترقق.
فأما الأول فمثاله قول الأشتر النخعي كامل:
بقيت وفرى وانحرفت إلى العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس
وأبيات الأشتر تضمنت فخراً له، ووعيداً لغيره، فحصل فيها الأفتان مقترناً بالقسم، وكقول أبي على البصير كامل:
أكذبت أحسن ما يظن مؤملى ... وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عودتها ... قدما من الإتلاف والإخلاف
وصحبت أصحابي بعرض معرض ... متحكم فيه ومال واف
وغضضت من نارى ليخفي ضوؤها ... وقريت عذراً كاذباً أضيافي
وإن لم أشن على علي خلة ... تضحى قذى في أعين الأشراف

وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدح مدحاً، كقول القائل كامل:
آثار جودك في الخطوب تؤثر ... وجميل بشرك بالنجاح يبشر
إن كان لي أمل سواك أعده ... فكفرت نعمتك التي لا تكفر
وأما ما جاء من القسم في النسيب فكقول الشاعر طويل:
جنى وتجنى والفؤاد مطيعه ... فلا ذاق من يجني عليه كما يجني
فإن لم يكن عندي كعيني ومسمعي ... فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني
ومما جاء في الغزل من القسم قول ابن المعتز بسيط.
لا والذي سل من جفنيه سيف ردى ... قدت له من عذارية حمائله
ما صارمت مقلتي دمعاً ولا وصلت ... غمضاً ولا سالمت قلبي بلابله
وهذا أحسن ما وقع في الغزل من القسم، إذ القسم والمقسم عليه كله داخل في باب الغزل.
ومن أحسن ما سمعت في القسم على المدح قول ابن خرداذبة طويل:
حلفت بمن سوى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان
ومن قام في المعقول من غير رؤية ... بأثبت من إدراك كل عيان
لما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تعقل لهن ثوان
لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان
وإذا انتهيت إلى بلاغة الكتاب العزيز، انتهيت إلى نهاية البلاغة.
ومنه قوله تعالى: " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " فإنه قسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة، وأكمل عظمة للحاصل من ربوبية السماء والأرض، وتحقق الوعد بالرزق، حيث أخبر سبحانه أن الرزق في السماء، وأنه رب السماء، فيلزم من ذلك قدرته على الرزق الموعود به دون غيره، فعلم أن لا رازق سواه، وأنه لا يحرم رزقه من خلقه، وأما ما حصل من الإيغال إذ قال في الفاصلة سبحان بعد تمام المعنى: " مثل ما أنكم تنطقون " فمثل هذا الوعد بما هو واقع معلوم ضرورة لا يرتاب منها أحد، وكقوله تعالى: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " أقسم سبحانه بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف الناس عظمته عنده، ومكانته لديه سبحانه، وأخبره بعد القسم بحياته أن المعرضين عنه في سكرتهم تسلية له، كما قال له في غير موضع: " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " وقوله: " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ، وهذه نهاية المحبة وغاية الملاطفة، إذ فداه بآيته، وقد كانوا كذلك، فإنه روى أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به " والله أعلم.

باب الاستدراك والرجوع
وهو على قسمين: قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد. وقسم لا يتقدمه ذلك، فمن أمثلة الأول قول القائل وافر: هو ابن الرومي:
وإخوان تخذتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
ولم أسمع في هذا الباب أحسن من أبيات ابن الدويدة المغربي فيمن أودعت عنده وديعة فادعى ضياعها فقال فيه كامل:
إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي
أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع
ومن هذا الباب قول القاضي الأرجاني، وهو لطيف جداً " رمل " :
غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة أعرت عن اللحم العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما
والبيت الثاني أردت، وقد لطف القائل في شكوى الزمان طويل:
ولي فرس من نسل أعوج سابق ... ولكن على قدر الشعير يحمحم
وأقسم ما قصرت فيما يزيدني ... علواً ولكن عند من أتقدم
هذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك وأما شواهد القسم الثاني منه، وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد، فمثله قول زهير طويل:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
باب الاستثناء
الاستثناء استثناءان: لغوي وصناعي، فاللغوي؛ إخراج القليل من الكثير، وقد فرغ النحاة من ذلك مفصلاً في كتبهم.

الصناعي هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى زائداً، يعد من محاسن الكلام، يستحق به الإيتان في أبواب البديع، ومتى لم يكن في الاستدراك والاستثناء معنى من المحاسن غير ما وضعا له، لا يعدان من البديع.
فمن الاستدراك قول زهير طويل:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
لأن العرب كانت تعد إتلاف المال في الخمر من المدح البليغ، قال شاعرهم كامل:
شريب خمر مسعر لحروب
فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ما له موفور، وتلك صفة ذم، فاستدرك ما يزل هذا الاحتمال، وتخلص الكلام للمدح المحض، ومن ذلك في القرآن قوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " فإنه سبحانه لو اقتصر على قوله: " ولم تؤمنوا " لكان فيه تنفير لكونهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيماناً، فأوجبت البلاغة أن يستدرك ما استدركه، ليعلمهم أن حقيقة الإيمان موافقة الجنان للسان بالتصديق، بدليل قوله: " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " فلما تضمن الاستدراك إيضاح ما أشكل عليهم عد من المحاسن، إذ صار الكلام به موصوفاً بحسن البيان لما أقام من الحجة عليهم.
وهذا من الباب الذي قبل هذا، وإنما ذكرته هاهنا لما ذكرت أن الاستدراك والاستثناء الصناعيين لا بد أن يكون في كل واحد منهما معنى زائد غير ما وضع له يدخله في المحاسن.
والاستثناء كقوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس " فإن في هذا الكلام معنى زائداً على مقدار الاستثناء، وذلك تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع الملائكة، وفارق جميع الملإ الأعلى، بخروجه مما دخلو فيه من السجود لآدم، وذلك بمثابة قولك: أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا فلاناً، فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته، ويفخم مقدار كبيرته بخلاف قولك: أمر الملك بكذا وكذا فعصاه فلان، وفي ضمن ذلك وصف الله سبحانه وتعالى بالعدل فيما ضربه على إبليس من خزي الدنيا وحتمه عليه من عذاب الآخرة. ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " فإن في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تهويلاً على السامع لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه، وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تعظيم المدة لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف، واختصار اللفظ، فإن لفظ القرآن أخصر من قولنا تسعمائة سنة وخمسون عاماً كيفما قدرت اللفظتين، فلأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور، ولا يحتمل الزيادة عليه، ولا أن ينقص منه، فإن إخبارك عمن سكن دار ثلاثين يوماً، بأنه سكن عشرين يوماً صادق لأنه سكن العشرين وزيادة، بخلاف قولك: سكن أربعين إلا عشرة أيام، فإن هذا اللفظ لا يحتمل الزيادة. وكقوله سبحانه " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " فإنه سبحان هذا لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي، والكافر المسيء، استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع، حيث أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله، " إن ربك فعال لما يريد " ، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار، ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة، أكد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع احتمال الاستثناء، حيث قال: " عطاء غير مجذوذ " أي غير منقطع، ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع، وهذه المعاني زائدة على الاستثناء اللغوي.
من أمثلة الاستثناء البديعي في الشعر قول النميري طويل:
فلو كنت بالعنقاء أو بأطومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني
فإن هذا الاستثناء يتضمن زيادة مدح المادح الممدوح، وذلك أن هذا الشاعر يقول: إنني لو كنت في حال العدم البحت لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك متمكناً من رؤيتي، ليس لك مانع يمنعك منها إلا من جهتك، فأنت في القدرة على غير مغالب، وهذا نهاية المدح.
وكقول أبي نواس طويل:
لمن طلل عاري المحل دفين ... عفا آيه إلا خوالد جون

أقسام الكتاب
1 2 3