كتاب : صبح الأعشى في صناعة الإنشا
المؤلف : أحمد بن علي القلقشندي

وآمنة من عساكرهما وجنودهما ومن خدمهما وتكون هذه البلاد المشروحة أعلاه الداخلة في هذه الهدنة المباركة الخاص بها وما هو مناصفة مطمئنة هي ورعاياها وسائر أجناس الناس فيها والقاطنين بها والمترددين إليها على اختلاف أجناسهم وأديانهم والمترددين إليها من جميع بلاد الفرنجة والسفار والمترددين منها وإليها في بر وبحر في ليل أو نهار سهل وجبل آمنين على النفوس والأموال والأولاد والمراكب والدواب وجميع ما يتعلق بهم وكل ما تحويه أيديهم من الأشياء على اختلافها من السلطان وولده وجميع من هو تحت طاعتهما لا ينالهم ولاينال هذه البلاد المذكورة التي انعقدت عليها الهدنة سوء ولا ضرر ولا إغارة ولا ينال إحدى الجهتين المذكورتين الإسلامية والفرنجية من الأخرى ضرر ولا أذية ويكون ما تقرر أنه يكون خاصا للفرنج حسب ما بين أعلاه لهم وما تقرر أن يكون للسلطان ولولده خاصا لهما والمناصفات تكون كما شرح
ولا يكون للفرنج من البلاد والمناصفات إلا ما شرح في هذه الهدنة وعين فيها من البلاد
وعلى أن الفرنج لا يجددون في غير عكا وعثليث وصيدا مما هو خارج عن

أسوار هذه الجهات الثلاث المذكورات لا قلعة ولا برجا ولا حصنا ولا مستجدا
وعلى أنه متى هرب أحد كائنا من كان من بلاد السلطان وولده إلى عكا والبلاد الساحلية المعينة في هذه الهدنة وقصد الدخول في دين النصرانية وتنصر بإرادته يرد جميع ما يروح معه ويبقي عريانا وإن كان ما يقصد الدخول في دين النصرانية ولا يتنصر رد إلى أبوابهما العالية بجميع ما يروح معه بشفاعة ثقة بعد أن يعطى الأمان
وكذلك إذا حضر أحد من عكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة وقصد الدخول في دين الإسلام وأسلم بإرادته يرد جميع ما معه ويبقى عريانا وإن كان ما يقصد الدخول في دين الإسلام ولا يسلم يرد إلى الحكام بعكا والمقدمين بجميع ما يروح معه بشفاعة بعد أن يعطى له الأمان
وعلى أن الممنوعات المعروف منعها قديما تستقر على قاعدة المنع من الجهتين
ومتى وجد مع أحد من تجار بلاد السلطان وولده من المسلمين وغيرهم على اختلاف أديانهم وأجناسهم شيء من الممنوعات بعكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة مثل عدة السلاح وغيره يعاد على صاحبه الذي اشتراه منه ويعاد إليه ثمنه ويرد ولا يؤخذ ماله استهلاكا ولا يؤذى
وللسلطان ولولده أن يفتصلا في من يخرج من بلادهما من رعيتهما على اختلاف أديانهم وأجناسهم بشيء من الممنوعات
وكذلك كفيل المملكة بعكا والمقدمون لهم أن يفتصلوا في رعيتهم الذين يخرجون بالممنوعات من بلادهم الداخلة في هذه الهدنة
ومتى أخذت أخيذة من الجانبين أو قتل قتيل من الجانبين على أي وجه كان والعياذ بالله ردت الأخيذة بعينها إن كانت موجودة أو قيمتها إن

كانت مفقودة والقتيل يكون العوض عنه بنظيره من جنسه فارس بفارس وبركيل ببركيل وتاجر بتاجر وراجل براجل وفلاح بفلاح فإن خفي أمر القتيل والأخيذة كانت المهلة في الكشف أربعين يوما فإن ظهرت الأخيذة أو تعين أمر المقتول ردت الأخيذة بعينها ويكون العوض عن القتيل بنظيره وإن لم تظهر كانت اليمين على والي المكان المدعى عليه وثلاثة نفر يقع اختيار المدعى عليهم من تلك الولاية
وإن امتنع الوالي عن اليمين حلف من الجهة المدعية ثلاثة نفر تختارهم الجهة الأخرى وأخذ قيمتها
وإن لم ينصف الوالي ولا رد المال أنهى المدعي أمره إلى الحكام من الجهتين وتكون المهلة بعد الإنهاء أربعين يوما ويلزم الولاة من الجهتين بالوفاء بهذا الشرط
ومتى أخفوا قتيلا أو أخيذة أو قدروا على أخذ حق ولم يأخذه كل واحد في ولايته يتعين على الذي يوليه من ملوك الجهتين إقامة السياسة فيه من أخذ الروح والمال والشنق والإنكار التام على من يتعين عليه الإنكار إذا فعل ذلك في ولايته وأرضه
وإن هرب أحد بمال واعترف ببعضه وأنكر بعض ما يدعى به عليه لزمه أن يحلف أنه لم يأخذ سوى ما رده فإن لم يقنع المدعي بيمين الهارب حلف والي تلك الولاية أنه لم يطلع على أنه وصل معه غير ما رده وإن أنكر أنه لم يصل معه شيء أصلا استحلف الهارب أنه لم يصل معه للمدعي شيء
وعلى أنه إذا انكسر مركب من مراكب تجار السلطان وولده التي انعقدت عليها الهدنة ورعيتهما من المسلمين وغيرهم على اختلاف أجناسهم وأديانهم في مينا عكا وسواحلها والبلاد الساحلية التي انعقدت

عليها الهدنة كان كل من فيها آمنا على الأنفس والأموال والأتباع والمتاجر فإن وجد أصحاب هذه المراكب التي تنكسر تسلم مراكبهم وأموالهم إليهم وإن عدموا بموت أو غرق أو غيبة فيحتفظ بموجودهم ويسلم لنواب السلطان وولده
وكذلك المراكب المتوجهة من هذه البلاد الساحلية المنعقد عليها الهدنة للفرنج يجري لها مثل ذلك في بلاد السلطان وولده ويحفظ بموجودها إن لم يكن صاحبها حاضرا إلى أن يسلم لكفيل المملكة بعكا أو المقدم
ومتى توفي أحد من التجار الصادرين والواردين على اختلاف أجناسهم وأديانهم من بلاد السلطان وولده في عكا وصيدا وعثليث والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة على اختلاف أجناسهم وأديانهم فيحتفظ على ماله حتى يسلم لنواب السلطان وولده وإذا توفي أحد في البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة يحتفظ على ماله إلى حين يسلم إلى كفيل المملكة بعكا والمقدمين
وعلى أن شواني السلطان وولده إذا عمرت وخرجت لا تتعرض بأذية إلى البلاد الساحلية التي انعقدت عليها هذه الهدنة ومتى قصدت الشواني المذكورة جهة غير هذه الجهات وكان صاحب تلك الجهة معاهدا للحكام بمملكة عكا فلا تدخل إلى البلاد التي انعقدت عليها هذه الهدنة ولا تتزود منها وإن لم يكن صاحب تلك الجهة التي تقصدها الشواني المنصورة معاهدا للحكام بمملكة عكا والبلاد التي انعقدت عليها الهدنة فلها أن تدخل إلى بلادها وتتزود منها
وإن انكسر شيء من هذه الشواني والعياذ بالله في مينا من مواني البلاد التي انعقدت عليها الهدنة وسواحلها فإن

كانت قاصدة إلى من له مع مملكة عكا ومقدمي بيوتها عهد فيلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بحفظها وتمكين رجالها من الزوادة وإصلاح ما انكسر منها والعود إلى البلاد الإسلامية ويبطل حركة ما ينكسر منها والعياذ بالله أو يرميه البحر
هذا إذا كانت قاصدة من له مع مملكة عكا ومقدميها عهد فإن قصدت من لم يكن لها معهم عهد فلها أنت تتزود وتعمر رجالها من البلاد المنعقد عليها هذه الهدنة وتتوجه إلى البلاد المرسوم لها بقصدها ويعتمد هذا الفضل من الجهتين
وعلى أنه متى تحرك أحد من ملوك البحر الفرنجة وغيرهم من جوا البحر لقصد الحضور لمضرة السلطان وولده في بلادهما المتفقة عليها هذه الهدنة فليلزم نائب المملكة والمقدمين بعكا أن يعرفوا السلطان وولده بحركتهم قبل وصولهم إلى البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة بمدة شهرين وإن وصلوا بعد انقضاء مدة شهرين فيكون كفيل المملكة بعكا والمقدمون بريئين من عهدة اليمين في هذا الفصل
ومتى تحرك عدو من جهة البر من التتار وغيرهم فأي من سبق الخبر إليه من الجهتين يعرف الجهة الأخرى بما سبق الخبر إليه من أمرهم
وعلى أنه إن قصد البلاد الشامية والعياذ بالله عدو من التتار وغيرهم في البر وانحازت العساكر الإسلامية من قدام العدو ووصل العدو إلى

القرب من البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة وقصدوها بمضرة فيكتب إلى كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها أن يدرؤوا عن بيوتهم ورعيتهم وبلادهم بما تصل قدرتهم إليه
وإن حصل والعياذ بالله جفل من البلاد الإسلامية إلى الساحلية الداخلة في هذه الهدنة فيلزم كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها حفظهم والدفع عنهم ومنع من يقصدهم بضرر ويكونون آمنين مطمئنين بما معهم
وعلى أن النائب بمملكة عكا والمقدمين بها يوصون في سائر البلاد الساحلية التي وقعت الهدنة عليها أنهم لا يمكنون حرامية البحر من الزوادة من عندهم ولا من حمل ماء وإن ظفروا بأحد منهم يمسكونه وإن كانوا يبيعون عندهم بضائع فيمسكها كفيل المملكة بعكا والمقدمون حتى يظهر صاحبها وتسلم إليه
وكذلك يعتمد السلطان وولده في أمر الحرامية هذا الاعتماد
وعلى أن الرهائن بعكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة كل من عليه منهم مبلغ أو غلة فيحلف والي ذلك المكان الذي منه الرهينة ويحلف المباشر والكاتب في وقت أخذ هذا الشخص رهينة أنه عليه كذا وكذا من دراهم أو غلة أو بقر أو غيره فإذا حلف الوالي والمباشر والكاتب قدام نائب السلطان وولده على ذلك يقوم أهل الرهينة عنه بما للفرنج عليه ويطلقونه
وأما الرهائن الذين أخذوا منسوبين إلى الجفل والاختشاء أنهم لا يهربون إلى بلاد الإسلام ويمتنع الولاة والمباشرون من اليمين عليهم فأولئك يطلقون

وعلى أن لا يجدد على التجار المسافرين الصادرين والواردين من الجهتين حق لم تجر به عادة ويجروا على عوائدهم المستمرة إلى آخر وقت وتؤخذ منهم الحقوق على العادة المستمرة ولا يجدد عليهم رسم ولا حق لم تجر به عادة
وكل مكان عرف باستخراج الحق فيه يستخرج بذلك المكان من غير زيادة من الجهتين في حالتي سفرهم وإقامتهم ويكون التجار والسفار والمترددون آمنين مطمئنين مخفرين من الجهتين في حالتي سفرهم وإقامتهم وصدورهم وورودهم بما صحبتهم من الأصناف والبضائع التي هي غير ممنوعة
وعلى أنه ينادى في البلاد الإسلامية والبلاد الفرنجية الداخلة في هذه الهدنة أنه من كان من فلاحي بلاد المسلمين يعود إلى بلاد المسلمين مسلما كان أو نصرانيا وكذلك من كان فلاحي بلاد الفرنج مسلما كان أو نصرانيا معروفا قراريا من الجهتين ومن لم يعد بعد المناداة يطرد من الجهتين
ولا يمكن فلاحو بلاد المسلمين من المقام في بلاد الفرنج المنعقد عليها هذه الهدنة ولا فلاحو بلاد الفرنج من المقام في بلاد المسلمين التي انعقدت عليها هذه الهدنة ويكون عود الفلاح من الجهة إلى الجهة الأخرى بأمان
وعلى أن تكون كنيسة الناصرة وأربع بيوت من أقرب البيوت إليها لزيارة الحجاج وغيرهم من دين الصليب كبيرهم وصغيرهم على اختلاف أجناسهم وأنفارهم من عكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة ويصلي بالكنيسة الاقساء والرهبان وتكون البيوت المذكورة لزوار كنيسة الناصرة خاصة ويكونون آمنين مطمئنين في توجههم وحضورهم إلى حدود البلاد الداخلة في هذه الهدنة
وإذا نقبت الحجارة التي بالكنيسة المذكورة ترمى برا ولا يحط حجر منها على حجر لأجل بنايته ولا يتعرض إلى

الأقساء والرهبان وذلك على وجه الهبة لأجل زوار دين الصليب بغير حق
ويلزم السلطان وولده حفظ هذه البلاد المشروحة التي انعقدت عليها الهدنة من نفسها وعساكرهما وجنودهما ومن جميع المتجرمة والمتلصصين والمفسدين ممن هو داخل تحت حكمهما وطاعتهما
ويلزم كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها حفظ هذه البلاد الإسلامية المشروحة التي انعقدت عليها الهدنة من نفسهم وعساكرهم وجنودهم وجميع المتجرمة والمتلصصين والمفسدين ممن هو داخل تحت حكمهم وطاعتهم بالمملكة الساحلية الداخلة في هذه الهدنة
ويلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بها الحكام بعكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة القيام بما تضمنته هذه الهدنة من الشروط جميعها شرطا شرطا وفصلا فصلا والعمل بأحكامها والوقوف مع شروطها إلى انقضاء مدتها
ويفي كل منهم بما حلف به من الأيمان المؤكدة من أنه يفي بجميع ما في هذه الهدنة على ما حلفوا به
تستمر هذه الهدنة المباركة بين السلطان وولده وأولادهما وأولاد أولادهم وبين الحكام بمملكة عكا وصيدا وعثليث وهم الشيخان أودرا المقدمون المذكورون فلان وفلان إلى آخرها لا تتغير بموت ملوك أحد الجهتين ولا بتغير مقدم وتولية غيره بل تستمر على حالها إلى آخرها وانقضائها بشروطها المحدودة وقواعدها المقررة كاملة تامة ومتى انقضت هذه الهدنة المباركة أو وقع والعياذ بالله فسخ كانت المهلة في ذلك أربعين من الجهتين
وينادى برجوع كل أحد إلى وطنه بعد الإشهاد ليعود الناس إلى مواطنهم آمنين مطمئنين ولا يمنعون من السفر من الجهتين ولا تبطل بعزل أحد من الجهتين وتشيد أحكامها متتابعة

متوالية بالسنين والشهور والأيام إلى انقضائها ويلزم المتولي حفظها والعمل بشروطها وفصولها وفروعها وأصولها ويجري الحال فيها على أجمل الحالات إلى آخرها
وعلى جميع ذلك وقع الرضا والصفح والاتفاق وحلف عليها من الجهتين والله الموفق
وهذه نسخة هدنة عقدت بين الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية وبين دون حاكم الريد أرغون صاحب برشلونة من بلاد الأندلس على يد رسله أخويه وصهريه الآتي ذكرهم في صفر سنة اثنتين وتسعين وستمائة وهي
استقرت المودة والمصادقة بين الملك الأشرف وبين حضرة الملك الجليل المكرم الخطير الباسل الأسد الضرغام المفخم المبجل دون حاكم الريد أرغون وأخويه دون ولذريك ودون بيدرو وبين صهريه اللذين طلب الرسولان الواصلان إلى الأبواب الشريفة عن مرسلهما الملك دون حاكم أن يكونا داخلين في الهدنة والمصادقة

وأن يلتزم الملك دون حاكم عنهما بكل ما التزم به عن نفسه ويتدرك أمرهما وهما الملك الجليل المكرم الخطير الباسل الأسد الضرغام دون شانجه ملك قشتالة وطليطلة وليون وبلنسية وأشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان والغرب الكفيل بمملكة أرغون وبرتقال والملك الجليل دون أتفونش ملك برتقال من تاريخ يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة اثنتين وتسعين وستمائة الموافق لثلاث بقين من جنير سنة ألف ومائتين واثنتين وتسعين لمولانا السيد المسيح عليه السلام وذلك بحضور رسولي الملك دون حاكم وهما المحتشم الكبير روصوديمار موند الحاكم عن الملك دون حاكم في بلنسية ورفيقه المحتشم العمدة ديمون المان قراري برجلونة الواصلين بكتاب الملك دون حاكم المختوم بختم الملك المذكور المقتضي معناه أنه حملهما جميعا أحوالهم ومطلوبهم وسأل أن يقوما فيما يقولانه عنه فكان مضمون مشافهتهما وسؤالهما تقرير قواعد الصلح والمودة والصداقة والشروط التي يشترطها الملك الأشرف على الملك دون حاكم وأنه يلتزم بجميع هذه الشروط الآتي ذكرها ويحلف الملك المذكور عليها هو وأخواه وصهراه المذكورون ووضع الرسولان المذكوران خطوطهما بجميع الفصول الآتي ذكرها بأمره ومرسومه وأن الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يلتزمون بها وهي استقرار المودة والمصادقة من التاريخ المقدم ذكره على ممر السنين والأعوام وتعاقب الليالي والأيام برا وبحرا سهلا ووعرا قربا وبعدا
وعلى أن تكون بلاد السلطان الملك الأشرف وقلاعه وحصونه

وثغوره وممالكه ومواني بلاده وسواحلها وبرورها وجميع أقاليمها ومدنها وكل ما هو داخل في مملكته ومحسوب منها ومنسوب إليها من سائر الاقاليم الرومية والعراقية والمشرقية والشامية والحلبية والفراتية واليمنية والحجازية والديار المصرية والغرب
وحد هذه البلاد والأقاليم وموانيها وسواحلها من البر الشامي من القسطنطينية والبلاد الرومية الساحلية وهي من طرابلس الغرب وسواحل برقة والإسكندرية ودمياط والطينة وقطيا وغزة وعسقلان ويافا وأرسوف وقيسارية وعثليث وحيفا وعكا وصور وصيدا وبيروت وجبيل والبيرون وأنفة طرابلس الشام وأنطرسوس ومرقية والمرقب وساحل المرقب بانياس وغيرها وجبلة واللاذقية والسويدية وجميع المواني والبرور إلى ثغر دمياط وبحيرة تنيس
وحدها من البر الغربي من تونس وإقليم إفريقية وبلادها وموانيها وطرابلس الغرب وثغورها وبلادها وموانيها وبرقة وثغورها وبلادها وموانيها إلى ثغر الإسكندرية ورشيد وبحيرة تنيس وسواحلها وبلادها وموانيها
وما تحويه هذه البلاد والممالك المذكورة والتي لم تذكر والمدائن والثغور والسواحل والمواني والطرقات في البر والبحر والصدور والورود والمقام والسفر من عساكر وجنود وتركمان وأكراد وعربان ورعايا وتجار وشواني ومراكب وسفن وأموال ومواش على اختلاف الأديان والأنفار والأجناس وما تحويه الأيدي من سائر أصناف الأموال والأسلحة والأمتعة والبضائع والمتاجر قليلا كان أو كثيرا قريبا كان أو بعيدا برا كان أو بحرا آمنة على الأنفس والأرواح والأموال

والحريم والأولاد من الملك دون حاكم ومن أخويه وصهريه المذكورين ومن أولادهم وفرسانهم وخيالتهم ومعاهديهم وعمائرهم ورجالهم وكل من يتعلق بهم
وكذلك كل ما سيفتحه الله تعالى على يد الملك الأشرف وعلى يد أولاده وعساكره وجيوشه من القلاع والحصون والبلاد والأقاليم فإنه يجري عليه هذا الحكم
وعلى أن تكون بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه وممالكه المذكورة في هذه الهدنة وهي أرغون وأعمالها وبلادها صقلية وجزيرتها وبلادها وأعمالها بر بولية وأعمالها وبلادها جزيرة مالقة وقوصرة وبلادها وأعمالها ميورقة ويابسة وبلادها وأرسويار وأعمالها وما سيفتحه الملك دون حاكم من بلاد أعدائه الفرنج المجاورين له بتلك الأقاليم آمنين من الملك الأشرف وأولاده وعساكره وجيوشه وشوانيه وعمائره هي ومن فيها من فرسان وخيالة ورعايا وأهل بلاده آمنين مطمئنين على الأنفس والأموال والحريم والأولاد في البر والبحر والصدور والورود
وعلى أن الملك دون حاكم هو وأخواه وصهراه أصدقاء من يصادق الملك الأشرف وأولاده وأعداء من يعاديهم من سائر الملوك الفرنجية وغير الملوك الفرنجية
وإن قصد الباب برومية أو ملك من ملوك الفرنج متوجا كان أو غير متوج كبيرا كان أو صغيرا أو من الجنوية أو من البنادقة أو من سائر الأجناس على اختلاف الفرنج والروم والبيوت بيت الإخوة

الديوية والاسبتارية والروم وسائر أجناس النصارى مضرة بلاد الملك الأشرف بمحاربة أو أذية يمنعهم الملك دون حاكم هو وأخواه وصهراه ويردونهم ويعمرون شوانيهم ومراكبهم ويقصدون بلادهم ويشغلونهم بنفوسهم عن قصد بلاد الملك الأشرف وموانيه وسواحله وثغوره المذكورة وغير المذكورة ويقاتلونهم في البر والبحر بشوانيهم وعمائرهم وفرسانهم وخيالتهم ورجالتهم
وعلى أنه متى خرج أحد من معاهدي الملك الأشرف من الفرنج عن شروط الهدنة المستقرة بينه وبينهم ووقع ما يوجب فسخ الهدنة لا يعينهم الملك دون حاكم ولا أحد من أخويه ولا صهريه ولا خيالتهم ولا فرسانهم ولا أهل بلادهم بخيل ولا خيالة ولا سلاح ولا رجالة ولا مال ولا نجدة ولا ميرة ولا مراكب ولا شواني ولا غير ذلك
وعلى أنه متى طلب الباب برومية وملوك الفرنجة والروم والتتار وغيرهم من الملك دون حاكم أو من أخويه أو من صهريه أو من بلادهم إنجادا أو معاونة بخيالة أو رجالة أو مال أو مراكب أو شواني أو سلاح لا يوافقهم على شيء من ذلك لا في سر ولا جهر ولا يعين أحدا منهم ولا يوافقه على ذلك
ومتى اطلعوا على أن أحدا منهم يقصد بلاد الملك الأشرف لمحاربته أو لمضرته بشيء يعرف الملك الأشرف بخبرهم وبالجهة التي اتفقوا على قصدها في أقرب وقت قبل حركتهم من بلادهم ولا يخفيه شيئا من ذلك
وعلى أنه متى انكسر مركب من المراكب الإسلامية في بلاد الملك دون حاكم أو بلاد أخويه أو بلاد صهريه فعليهم أن يخفروهم ويحفظوا

مراكبهم وأموالهم ويساعدوهم على عمارة مراكبهم ويجهزوهم وأموالهم وبضائعهم إلى بلاد الملك الأشرف
وكذلك إذا انكسرت مركب من بلاد دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديه في بلاد الملك الأشرف يكون لهم هذا الحكم المذكور أعلاه
وعلى أنه متى مات أحد من تجار المسلمين ومن نصارى بلاد الملك الأشرف أو ذمة أهل بلاده في بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه وأولاده ومعاهديه لا يعارضوهم في أموالهم ولا في بضائعهم ويحمل مالهم وموجودهم إلى بلاد الملك الأشرف ليفعل فيه ما يختار
وكذلك من يموت في بلاد الملك الأشرف من أهل مملكة الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديهم فلهم هذا الحكم المذكور أعلاه
وعلى أنه متى عبرعلى بلاد الملك دون حاكم أو بلاد أخويه أو صهريه أو معاهديه رسل من بلاد الملك الأشرف قاصدين جهة من الجهات القريبة أو البعيدة صادرين أو واردين أو رماهم الريح في بلاده تكون الرسل وغلمانهم وأتباعهم ومن يصل معهم من رسل الملوك أو غيرهم آمنين محفوظين في الأنفس والأموال ويجهزهم إلى بلاد الملك الأشرف
وعلى أن الملك دون حاكم وأخويه وصهريه متى جرى من أحد من بلادهم قضية توجب فسخ المهادنة كان على كل من الملك دون حاكم وأخويه وصهريه طلب من يفعل ذلك وفعل الواجب فيه
وعلى أن الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يفسح كل منهم لأهل بلاده وغيرهم من الفرنج أنهم يجلبون إلى الثغور الإسلامية الحديد والبياض والخشب وغير ذلك
وعلى أنه متى أسر أحد من المسلمين في البر أو البحر من مبدإ تاريخ

هذه المهادنة من سائر البلاد شرقها وغربها أقصاها وأدناها ووصلوا به إلى بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ليبيعوه بها فيلزم الملك دون حاكم وأخويه وصهريه فك أسره وحمله إلى بلاد الملك الأشرف
وعلى أنه متى كان بين تجار المسلمين وبين تجار بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه معاملة في بضائعهم وهم في بلاد الملك الأشرف كان أمرهم محمولا على موجب الشرع الشريف
وعلى أنه متى ركب أحد من المسلمين في مراكب بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه وحمل بضاعته معهم وعدمت البضاعة كان على الملك دون حاكم وعلى أخويه وصهريه ردها إن كانت موجودة أو قيمتها إن كانت مفقودة
وعلى أنه متى هرب أحد من بلاد الملك الأشرف الداخلة في هذه المهادنة إلى بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه أو توجه ببضاعة لغيره وأقام بتلك البلاد كان على الملك دون حاكم وعلى أخويه وصهريه رد الهارب أو المقيم ببضاعة غيره والمال معه إلى بلاد الملك الأشرف ما دام المذكور مسلما وإن تنصر يرد المال الذي معه خاصة
ولمملكة الملك دون حاكم وأخويه وصهريه فيمن يهرب من بلادهم إلى بلاد الملك الأشرف هذا الحكم المذكور أعلاه
وعلى أنه إذا وصل من بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديه من الفرنج من يقصد زيارة القدس الشريف وعلى يده كتاب الملك دون حاكم وختمه إلى نائب الملك الأشرف بالقدس الشريف يفسح له في الزيارة مسموحا بالحق ليقضي زيارته ويعود إلى بلاده آمنا مطمئنا في نفسه وماله رجلا كان أو امرأة بحيث إن الملك دون حاكم لا يكتب لأحد من أعدائه ولا من أعداء الملك الأشرف في أمر الزيارة بشيء
وعلى أن الملك دون حاكم يحرس جميع بلاد الملك الأشرف هو

وأخواه وصهراه من كل مضرة ويجتهد كل منهم في أن أحدا من أعداء الملك الأشرف لا يصل إلى بلاد الملك الأشرف ولا ينجدهم على مضرة بلاد الملك الأشرف ولا رعاياه وأنه يساعد الملك الأشرف في البر والبحر بكل ما يشتهيه ويختاره
وعلى أن الحقوق الواجبة على من يصدر ويرد ويتردد من بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه إلى ثغري الإسكندرية ودمياط والثغور الإسلامية والممالك السلطانية بسائر أصناف البضائع والمتاجر على اختلافها تستمر على حكم الضرائب المستقرة في الديوان المعمور إلى آخر وقت ولا يحدث عليهم فيها حادث
وكذلك يجري الحكم على من يتردد من البلاد السلطانية إلى بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه
تستمر هذه المودة والمصادقة على حكم هذه الشروط المشروحة أعلاه بين الجهات على الدوام والاستمرار وتجري أحكامها وقواعدها على أجمل الاستقرار فإن الممالك بها قد صارت مملكة واحدة وشيئا واحدا لا تنتقض بموت أحد من الجانبين ولا بعزل وال وتوليه غيره بل تؤيد أحكامها وتدوم أيامها وشهورها وأعوامها
وعلى ذلك انتظمت واستقرت في التاريخ المذكور أعلاه وهو كذا وكذا والله الموفق بكرمه إن شاء الله تعالى
قلت وهذه النسخ الخمس المتقدمة الذكر نقلتها من تذكرة محمد بن المكرم أحد كتاب الإنشاء بالدولة المنصورية قلاوون المسماة تذكرة اللبيب ونزهة الأديب من نسخه بخطه ذكر فيها أن النسخة الأولى منها كتبها بخطه على مدينة صفد
وليس منها ما هو حسن الترتيب رائق الألفاظ بهج المعاني بليغ المقاصد غير النسخة الأخيرة المعقودة بين

الملك الأشرف وبين الملك دون حاكم
أما سائر النسخ المتقدمة فإنها مبتذلة الألفاظ غير رائقة الترتيب لا يصدر مثلها من كاتب عنده أدنى ممارسة لصناعة الكلام
والعجب من صدور ذلك في زمن الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون وهما من همامن عظماء الملوك وكتابة الإنشاء يومئذ بيد بني عبد الظاهر الذين هم بيت الفصاحة ورؤوس أرباب البلاغة ولعل ذلك إنما وقع لأن الفرنج كانوا مجاورين للمسلمين يومئذ ببلاد الشام فيقع الاتفاق والتراضي بين الجهتين على فصل فصل فيكتبه كاتب من كل جهة من جهتي المسلمين والفرنج بألفاظ مبتذلة غير رائقة طلبا للسرعة إلى أن ينتهي بهم الحال في الاتفاق والتراضي إلى آخر فصول الهدنة فيكتبها كاتب الملك المسلم على صورة ما جرى في المسودة ليطابق ما كتب به كاتب الفرنج إذ لو عدل فيها كاتب السلطان إلى الترتيب وتحسين الألفاظ وبلاغة التركيب لا ختل الحال فيها عما وافق عليه كاتب الفرنج أولا فينكرونه حينئذ ويرون أنه غير ما وقع عليه الاتفاق لقصورهم في اللغة العربية فيحتاج الكاتب إلى إبقاء الحال على ما توافق عليه الكاتبان في المسودة
وبالجملة فإنما ذكرت النسخ المذكورة على سخافة لفظها وعدم انسجام ترتيبها لاشتمالها على الفصول التي جرى فيها الاتفاق فيما تقدم من الزمان ليستمد منها الكاتب ما لعله لا يحضر بباله من مقاصد المهادنات أغنانا الله تعالى عن الحاجة إليها
واعلم أنه قد جرت العادة إنه إذا كتبت الهدنة كتب قرينها يمين يحلف بها السلطان أو نائبه القائم بعقد الهدنة على التوفية بفصولها وشروطها ويمين يحلف عليها القائم عن الملك الكافر بعقد الهدنة ممن يأذن له في عقدها عنه بكتاب يصدر عنه بذلك أو تجهز نسختها إلى الملك الكافر ليحلف عليها ويكتب خطه بذلك وتعاد إلى الأبواب السلطانية

المذهب الثالث أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة بالحمد لله
وعلى هذا بنى صاحب مواد البيان أمره في كتابة الهدنة حيث قال والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على الهداية إلى دين الإسلام الذي أذل كل دين وأعزه وخذل كل شرع ونصره وأخفى كل مذهب وأظهره والتوغل في توحيده وتقديسه وتمجيده والثناء عليه بآلائه والصلاة على خير أنبيائه محمد
قلت ولم يأت بصورة هدنة منتظمة على هذا الترتيب بل أشار إلى كيفية عملها
ثم قال والبليغ يكتفي بقريحته في ترتيب هذه المعاني إذا دفع إلى الإنشاء فيها إن شاء الله تعالى
ولم أقف لغيره على صورة هدنة مفتتحة بالتحميد ولا يخفى أن الابتداء به في كل مهم من العهود وجلائل الولايات ونحو ذلك هو المعمول عليه في زماننا
الطرف الثاني فيما يشارك فيه ملوك الكفر الأسلام ملوك في كتابة نسخ من
دواوينهم
اعلم أن الغالب في الهدن الواقعة بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الكفر أن تكتب نسخة تخلد بديوان الإنشاء بالديار المصرية ونسخة تجهز إلى الملك المهادن
وربما كتبت نسخة من ديوانه مفتتحة بيمين
وهذه نسخة هدنة وردت من جهة الأشكري صاحب القسطنطينية في شهر رمضان سنة ثمانين وستمائة مؤرخة بتاريخ موافق لأواخر المحرم من السنة المذكورة فعربت فكانت نسختها على ما ذكره ابن مكرم في تذكرته

إذ قد أراد السلطان العظيم النسيب العالي العزيز الكبير الجنس الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب أن يكون بينه وبين مملكتي محبة فمملكتي تؤثر ذلك وتختار أن يكون بينها وبين عز سلطانه محبة
ولهذا وجب أن يتوسط هذا الأمر يمين واتفاق لتدوم المحبة التي بهذه الصورة فيما بين مملكتي وعز سلطانه ثابتة بلا تشويش
فمملكتي من هذا اليوم وهو يوم الخميس الثامن من شهر أيار من التاريخ الرومي التابع لسنة ستة آلاف وسبعمائة وتسع وثمانين لآدم تحلف بأناجيل الله المقدسة والصليب المكرم المحيى أن مملكتي تكون حافظة للسلطان العظيم النسيب العالي العزيز الكبير الجنس سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب ولولده ولوارث ملك عز سلطانه محبة مستقيمة وصداقة كاملة ولا يحرك ملكي أبدا على عز سلطانه حربا ولا على بلاده ولا على قلاعها ولا على عساكره ولا يتحرك ملكي أبدا على حربه بحيث إن هذا السلطان العظيم النسيب العالي العزيز الكبير الجنس الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب يحفظ مثل ذلك لمملكتي ولولد مملكتي الحبيب الكمينوس الانجالوس الدوقس البالاولوغس الملك ايرلنك ولا يحرك عز سلطانه على مملكتنا حربا قط ولا على بلادنا ولا على قلاعنا ولا على عساكرنا ولا يحرك أحدا آخر أيضا على حرب مملكتنا وأن تكون الرسل

المترددون عن عز سلطانه أيضا مطلقا آمنين لهم أن يعبروا في بلاد مملكتي بلا مانع ولا عائق ويتوجهوا إلى حيث يسيرون من عز سلطانه وكذلك يعودون إلى عز سلطانه وأن لا يحصل للتجار الواردين من بلاد عز سلطانه ضرر من بلاد مملكتي ولا يحذرون من أحد جورا ولا ظلما بل يكون لهم مباحا أن يعملوا متاجرهم
ونظير هذا التجار الواردون إلى بلاد عز سلطانه من أهل بلاد ملكي يقومون بالحق الواجب على بضائعهم وليقم كذلك التجار الواردون من بلاد عز سلطانه إلى بلاد ملكي بالحق الواجب على بضائعهم
وإن حضر من بلاد سوداق تجار وأرادوا السفر إلى بلاد عز سلطانه فلا ينال هؤلاء تعويق في بلاد ملكي بل في عبورهم وعودهم يكونون بلا مانع ولا عائق بعد القيام بالحق الواجب
وهؤلاء التجار الذين من بلاد عز سلطانه والذين من أهل سوداق إن حضر صحبتهم مماليك وتجار فليعودوا بهم إلى بلاد عز سلطانه بلا عائق ولا مانع ما خلا إن كانوا نصارى لأن شرعنا وترتيب مذهبنا لا يسمح لنا في أمر النصارى بهذا
وأما أن كان في بلاد عز سلطانه مماليك نصارى روم وغيرهم من أجناس النصارى متمسكون بدين النصارى ويحصل لقوم منهم العتق فليكن للذين معهم عتائق مباح ومطلق من عز سلطانه أن يفدوا في البحر إلى بلاد مملكتي
وكذلك إن أراد أحد من أهل بلاد عز سلطانه أن يبيع مملوكا نصرانيا هذه صورته لأحد من رسل مملكتي أو لتجار وأناس بلاد

مملكتي أن لا يجد في هذا تعويقا بل يشتروا المذكور ويفدوا به في البحر إلى بلاد مملكتي بلا عائق
وأيضا إن أراد هذا السلطان العظيم النسيب أن يرسل إلى بلاد ملكي بضائع متجرا وأرادت مملكتي أن ترسل إلى بلاد عز سلطانه بضائع متجرا فليكن هكذا وهو إن أراد عز سلطانه أن تكون بضائع متاجرة في بلاد ملكي منجاة من القيام بكل الحقوق فلتكن أيضا بضائع متاجر مملكتي في بلاد عز سلطانه منجاة مثل ذلك من كل الحقوق وإن أراد أن تقوم متاجر ملكي في بلاده بالحقوق الواجبة يقوم بمثل ذلك
وأيضا أن يطلق عز سلطانه لملكي أن يرسل أناسا من بلاد مملكتي إلى بلاد عز سلطانه فيشترون لي خيلا جيادا ويحملونها إلى بلاد ملكي
وكذلك إن أراد عز سلطانه شيئا من خيرات بلاد ملكي فمملكتي أيضا تطلق لغر سلطانه أن يرسل أناسه ليشتروه ويحملوه إلى عز سلطانه
ولما كان في البحر كرسالية من بلاد غريبة وقد يتفق في بعض الأوقات أن يعملوا خسارة في بلاد ملكي وكذلك يجدون هؤلاء الكرسالية قوما من بلاد عز سلطانه فيعملون لهم خسارة ثم إن هؤلاء الكرسالية يفعلون هذا في الآفاق في تخوم بلاد ملكي لأجل هذا صار إذا حضر قوم من بلاد مملكتي إلى بلاد عز سلطانه بمتجر يمسكون من أهل بلاد عز سلطانه ويغرمون
ولهذا فليصر مرسوم من عز سلطانه في كل بلاده أن أحدا من أهل بلاد مملكتي لا يغرم بهذا السبب ولا يمسك وإن عرض أن يقول أحد من أهل بلاد عز سلطانه إن غرم أو ظلم من أهل بلاد ملكي فليعرف ملكي بذلك
وإذا كان الذي وضع الغرامة من أهل بلاد ملكي فملكي يأمر وتعاد تلك الخسارة إلى بلاد عز سلطانه
وكذلك إن قال أحد من أهل بلاد مملكتي إنه ظلم أو غرم من أحد من بلاد عز سلطانه يأمر عز سلطانه وتعاد

الغرامة إلى بلاد ملكي
وأيضا إذ قد أزمعت المحبة أن نصير بهذه الصورة وتكون الصداقة بين مملكتي وعز سلطانه خالصة حتى إنه أرسل يقول لملكي على معونة ونجدة ملكي في البحر لمضرة العدو المشترك فمملكتي تفوض هذا الأمر إلى اختيار عز سلطانه أن يرتب في نسخة اليمين مع بقية الفصول المعينة فيه وتأتي الصورة كيف تعين وتنجد مملكتي في البحر
وإن كان لا يريد نجدة ومعونة مملكتي فمملكتي تسمح بهذا الفصل أن لا يضعه عز سلطانه في نسخة يمينه وهذه اليمين منا بحفظ ملكي لعز سلطانه ثابتة غير متزعزعة إن كان هذا السلطان العظيم يحلف لي يمينا بمثلها وأنه يحفظ المحبة لمملكتنا ثابتة غير متزعزعة والسلام
وهذه نسخة اتفاق كتبت من الأبواب السلطانية عن الملك المنصور قلاوون عن نظير الهدنة المتقدمة الواردة من قبل صاحب القسطنطينية مفتتحة بيمين موافقة لها وهي
أقول وأنا فلان إنه لما رغب حضرة الملك الجليل كرميخائيل الدوقس الأنجالوس الكمينيوس البالاولوغس ضابط مملكة الروم والقسطنطينية العظمى أكبر ملوك المسيحية أبقاه الله أن يكون بين مملكته وبين عز سلطاني محبة وصداقة ومودة لا تتغير بتغير الأيام ولا تزول بزوال السنين والأعوام وأكد ذلك بيمين حلف عليها تاريخها يوم الخميس ثامن شهر أيار ستة آلاف وسبعمائة وتسع وثمانين لآدم صلوات الله عليه بحضور رسول عز سلطاني الأمير ناصر الدين بن الجزري والبطرك الجليل أنباسيوس بطرك الاسكندرية وحضر رسولاه فلان وفلان إلى عز سلطاني بنسخة اليمين ملتمسين أن يتوسط هذا الأمر أيضا يمين واتفاق من عز سلطاني لتدوم المحبة فيما بين مملكته وعز سلطاني وتكون ثابتة مستمرة على الدوام والاستمرار
فعز سلطاني من هذا اليوم وهو يوم الاثنين مستهل رمضان المعظم

سنة ثمانين وستمائة للهجرة النبوية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام يحلف بالله العظيم الرحمن الرحيم عالم الغيب والشهادة والسر والعلانية وما تخفي الصدور وبالقرآن العظيم وبمن أنزله وبمن أنزل عليه وهو النبي الكريم محمد على استمرار الصداقة واستقرار المودة النقية للملك الجليل كرميخائيل ضابط مملكة الروم والقسطنطينية العظمى ولولد مملكته الحبيب الكمينيوس الانجالوس الدوقس البلاولوغس الملك إيرإندروبنفوس ولوارثي مملكة ملكه ولا يحرك عز سلطاني أبدا على مملكته حربا ولا على بلاده ولا على قلاعه ولا على عساكره في بر ولا بحر ولا يحرك عز سلطاني أحدا آخر على حربه بحيث إن الملك الجليل كرميخائيل يحفظ مثل ذلك لعز سلطاني ولملكي ولبلادي ولقلاعي ولعساكري ولولدي السلطان الملك الصالح علاء الدين علي ولوارثي ملكي من أولادي ويستمر على هذه الصداقة والمودة النقية ولا يحرك ملكه على عز سلطاني حربا قط ولا على بلادي ولا على قلاعي ولا على عساكري ولا على مملكتي ولا يحرك أحدا آخر على حرب مملكة عز سلطاني في البر ولا في البحر ولا يساعد أحدا من أضداد عز سلطاني ولا أعدائي من سائر الأديان والأجناس ولا يوافقه على ذلك ولا يفسح لهم في العبور إلى مملكة عز سلطاني لمضرة شيء فيها بجهده وطاقته
وأن الرسل المسيرين من مملكة عز سلطاني إلى بر بركة وأولاده وبلادهم وتلك الجهات وبحر سوداق وبره يكونون آمنين مطمئنين مطلقا لهم أن يعبروا في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل من أولها إلى آخرها بلا مانع ولا عائق أرسلوا في بر أو بحر على ما تقتضيه مصلحة ذلك الوقت لمملكة عز سلطاني آمنين مطمئنين غير ممنوعين

بجميع من يصل معهم من رسل تلك الجهات وغيرها وكل من معهم من مماليك وجوار وغير ذلك
وأن لا يحصل للتجار الواردين من مملكة الملك الجليل كرميخائيل إلى بلاد عز سلطاني جور ولا ظلم ويترددون آمنين مطمئنين يعملون متاجرهم ولهم الرعاية في الصدور والورود والمقام والسفر بحيث يكون لتجار مملكة عز سلطاني في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل مثل ذلك ويكونون مرعيين لا يجدون من أحد في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل جورا ولا ظلما
ومن عليه حق واجب في الجهتين على ما استقر عليه الحال يقوم به من غير حيف ولا ظلم
وأن من حضر من التجار من سوداق وغيرها بمماليك وجوار تمكنهم مملكة الملك الجليل كرميخائيل من الحضور بهم إلى مملكة عز سلطاني ولا تمنعهم
وأن الكرسالية متى تعرضوا إلى أخذ أحد من التجار المسلمين في البحر ونسبت الكرسالية إلى رعية مملكة الملك الجليل كرميخائيل يسير عز سلطاني إليه في طلبهم ولا يتعرض أحد من نواب مملكة عز سلطاني إلى هذا الجنس بسببهم إلا أن يتحقق أنهم آخذون أو تظهر عين المال معهم على ما تضمنته نسخة يمين الملك الجليل كرميخائيل ولمملكة الملك الجليل كرميخائيل من بلاد عز سلطاني مثل ذلك
وعلى أن الرسل المترددين من الجهتين من مملكة عز سلطاني ومن مملكة الملك الجليل كرميخائيل يكونون آمنين مطمئنين في سفرهم ومقامهم برا وبحرا وتكون رعية بلاد عز سلطاني ورعية بلاد الملك الجليل كرميخائيل في الجهتين من المسلمين وغيرهم آمنين مطمئنين صادرين واردين محترمين مرعيين
وهذه اليمين لا تزال محفوظة ملحوظة مستمرة مستقرة على الدوام والاستمرار
قلت وهذه النسخة الواردة من صاحب القسطنطينية المتقدمة عليها وإن عبر عنهما في خلالهما بلفظ اليمين فإنهما بعقد الصلح أشبه واليمين جزء من أجزاء ذلك ولذلك أوردتها في عقود الصلح دون الأيمان

الباب الخامس من المقالة التاسعة في عقود الصلح الواقعة بين ملكين مسلمين
وفيه فصلان
الفصل الأول في أصول تعتمد في ذلك
اعلم أن الأصل في ذلك ما ذكره أصحاب السير وأهل التاريخ أنه لما وقع الحرب بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه في صفين في سنة سبع وثلاثين من الهجرة توافقا على أن يقيما حكمين بينهما ويعملا بما يتفقان عليه
فأقام أمير المؤمنين علي أبا موسى الأشعري حكما عنه وأقام معاوية عمرو بن العاص حكما عنه فاتفق الحكمان على أن يكتب بينهما كتاب بعقد الصلح واجتمعا عند علي رضي الله عنه وكتب كتاب القضية بينهما بحضرته فكتب فيه بعد البسملة
هذا ما تقاضى أمير المؤمنين علي فقال عمرو هو أميركم أما أميرنا فلا
فقال الأحنف لا تمح اسم أمير المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا
لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا فأبى ذلك علي مليا من النهار
ثم إن الأشعث بن قيس قال أمح اسم أمير المؤمنين فأجاب علي ومحاه
ثم قال علي الله أكبر سنة بسنة ومثل بمثل
والله

إني لكاتب رسول الله يوم الحديبية فكتبت محمد رسول الله فقالوا لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فأمرني رسول الله بمحوه فقلت لا أستطيع أفعل فقال إذن أرنيه فأريته فمحاه بيده وقال إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب
وهذه نسخة كتاب القضية بين أمير المؤمنين علي وبين معاوية فيما رواه أبو عبد الله الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين والحكمين بسنده إلى محمد بن علي الشعبي وهو بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه محمد قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية معاوية على أهل الشام من كان من شيعته من شاهد أو غائب إنا رضينا أن ننزل عند حكم كتاب الله بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات
على ذلك تقاضينا وبه تراضينا
وإن عليا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا ومحاكما ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما على أنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا له لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجدا فيه مسطورا وما لم يجداه

مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله الجامعة لا يتعمدان لها خلافا ولا يتبعان في ذلك لهما هوى ولا يدخلان في شبهة
وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنة نبيه ليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفا إلى غيره وأنهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهليهما ما لم يعدوا الحق رضي بذلك راض أو أنكر منكر وأن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل
فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون رجلا يألون عن أهل المعدلة والإقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب الله وسنة رسوله وله مثل شرط صاحبه
وإن مات واحد من الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله
وقد وقعت هذه القضية بيننا ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ليحكمان بكتاب الله وسنة نبيه لا يدخلان في شبهة ولا يألوان اجتهادا ولا يتعمدان جورا ولا يتبعان هوى ولا يعدوان ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فإن لم يفعلا برئت الأمة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمة
وقد وجبت القضية على ما سمينا في هذا الكتاب من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين والله أقرب شهيدا وأدنى حفيظا والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل والسلاح موضوع والسبيل

مخلى والشاهد والغائب من الفريقين سواء في الأمر
وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق وأهل الشام ولا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملإ منهما وتراض
وأجل القاضيين المسلمون إلى رمضان فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإن ذلك إليهما
فإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب ولا شرط بين واحد من الفريقين
وعلى الأمة عهد الله وميثاقه على التمام على ما في هذا الكتاب
وهم يد على من أراد في هذا الكتاب إلحادا أو ظلما أو أراد له نقضا
شهد على ما في هذا الكتاب من أصحاب علي الأشعث بن قيس الكندي وعبد الله بن عباس والأشتر بن الحارث وسعيد بن قيس الهمداني والحصين والطفيل ابنا الحارث بن المطلب وأبو أسيد بن ربيعة الأنصارى وخباب بن الأرت وسهل بن حنيف الأنصاري وأبو اليسر بن عمرو الأنصاري ورفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري وعوف بن الحارث بن المطلب القرشي وبريدة الأسلمي وعقبة بن عامر الجهني ورافع بن خديج الأنصاري وعمرو بن الحمق الخزاعي والحسن والحسين ابنا علي وعبد الله بن جعفر الهاشمي واليعمر بن عجلان

الأنصاري وحجر بن عدي الكندي وورقاء بن سمي البجلي وعبد الله ابن الطفيل الأنصاري ويزيد بن حجية الدكري ومالك بن كعب الهمداني وربيعة بن شرحبيل وأبو صفرة والحارث بن مالك وحجر بن يزيد وعقبة بن حجية
ومن أصحاب معاوية حبيب بن مسلمة الفهمي وأبو الأعور السلمي وبسر بن أرطاة القرشي ومعاوية بن حديج الكندي والمخارق بن الحارث الحميري وزميل بن عمرو السكسكي وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي وحمزة بن مالك الهمداني وسبع بن زيد الحميري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعلقمة بن مرثد الكلبي وخالد بن الحصين السكسكي وعلقمة بن يزيد الحضرمي ويزيد ابن الحر العبسي ومسروق بن حملة العكي ونمير بن يزيد الحميري وعبد الله بن عامر القرشي ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة القرشي وعقبة بن أبي سفيان ومحمد بن أبي سفيان ومحمد بن عمرو بن العاص ويزيد بن عمرو الجذامي وعمار بن الأخوص الكلبي ومسعدة ابن عمر القيني وعاصم بن المستنير الجذامي وعبد الرحمن بن ذي كلاع

الحميري والصباح بن جلهمة الحميري وثمامة بن حوشب وعلقمة بن حكيم وحمزة بن مالك الهمداني
وإن بيننا على ما في هذه الصحيفة عهد الله وميثاقه
وكتب عمير يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين
وأخرج أيضا بسنده إلى أبي إسحاق الشيباني أن عقد الصلح كان عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم في أسفلها وخاتم في أعلاها
في خاتم على محمد رسول الله وفي خاتم معاوية محمد رسول الله
قلت وذكر روايات أخرى فيها زيادة ونقص أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة إذ فيما ذكرنا مقنع
على أن المؤرخين لم يذكروا من ذلك إلا طرفا يسيرا

الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول مما يكتب في الطرة والمتن
أما الطرة فليعلم أن الذي ينبغي أن يكتب في الطرة هنا هذا عقد صلح ويكمل على ما تقدم في الهدنة ولا يكتب فيه هذه هدنة لما يسبق إلى الأذهان من أن المراد من الهدنة ما يجري بين المسلمين والكفار
وأما المتن فعلى نوعين

النوع الأول ما يكون العقد فيه من الجانبين
ولم أر فيه للكتاب إلا الاستفتاح بلفظ هذا وعليه كتب كتاب القضية بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاويه بن أبي سفيان رضي الله عنه على ما تقدم ذكره
وعلى ذلك استكتب هارون الرشيد ولديه محمدا الأمين وعبد الله المأمون العهدين اللذين عهد فيهما بالخلافة بعده لابنه الأمين وولى خراسان ابنه المأمون ثم عهد بالخلافة من بعد الأمين للمأمون وأشهد فيهما وبعث بهما إلى مكة فعلقا في بطن الكعبة في جملة المعلقات التي

كانت تعلق فيها على عادة العرب السابقة من تعليق القصائد ونحوها
وبذلك سميت القصائد السبع المشهورة بالمعلقات لتعليقهم إياها في جوف الكعبة
أما عهد الأمين فنسخته بعد البسملة على ما ذكره الأزرقي في أخبار مكة ما صورته
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين كتبه محمد ابن أمير المؤمنين في صحة من بدنه وعقله وجواز من أمره طائعا غير مكره
إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد من بعده وجعل لي البيعة في رقاب المسلمين جميعا وولى أخي عبد الله ابن أمير المؤمنين هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين من بعدي برضا مني وتسليم طائعا غير مكره وولاه خراسان بثغورها وكورها وجنودها وخراجها وطرازها وبريدها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشرها وعشورها وجميع أعمالها في حياته وبعد وفاته فشرطت لعبد الله ابن أمير المؤمنين علي الوفاء بما جعله له أمير المؤمنين هارون من البيعة والعهد وولاية الخلافة وأمور المسلمين بعدي وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها وما أقطعه أمير المؤمنين هارون من قطيعة أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه وعقده أو ابتاع له من الضياع والعقد

وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر أو متاع أو كسوة أو رقيق أو منزل أو دواب قليلا أو كثيرا فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين موفرا عليه مسلما له
وقد عرفت ذلك كله شيئا فشيئا باسمه وأصنافه ومواضعه أنا وعبد الله ابن هارون أمير المؤمنين
فإن اختلفا في شيء منه فالقول فيه قول عبد الله بن هارون أمير المؤمنين لا أتبعه بشيء من ذلك ولا آخذه منه ولا أنتقصه صغيرا ولا كبيرا من ماله ولا من ولاية خراسان ولا غيرها مما ولاه أمير المؤمنين من الأعمال ولا أعزله عن شيء منها ولا أخلعه ولا أستبدل به غيره ولا أقدم عليه في العهد والخلافة أحدا من الناس جميعا ولا أدخل عليه مكروها في نفسه ولا دمه ولا شعره ولا بشره ولا خاص ولا عام من أموره وولايته ولا أمواله ولا قطائعه ولا عقده ولا أغير عليه شيئا لسبب من الأسباب ولا آخذه ولا أحدا من عماله وكتابه وولاة أمره ممن صحبه وأقام معه بمحاسبة ولا أتتبع شيئا جرى على يديه وأيديهم في ولاية خراسان وأعمالها وغيرها مما ولاه أمير المؤمنين في حياته وصحته من الجباية والأموال والطراز والبريد والصدقات والعشر والعشور وغير ذلك ولا آمر بذلك أحدا من الناس ولا أرخص فيه لغيري ولا أحدث نفسي فيه بشيء أمضيه عليه ولا ألتمس قطيعة له ولا أنقص شيئا مما جعله له هارون أمير المؤمنين وأعطاه في حياته وخلافته وسلطانه من جميع ما سميت في كتابي هذا
وآخذ له علي وعلى جميع الناس البيعة ولا أرخص لأحد من جميع الناس كلهم في جميع ما ولاه في خلعه ولا مخالفته ولا أسمع من أحد من البرية في ذلك قولا ولا أرضى بذلك في سر ولا علانية ولا أغمض عليه ولا أتغافل عنه ولا أقبل من بر من العباد ولا فاجر ولا صادق ولا كاذب ولا ناصح ولا غاش ولا قريب

ولا بعيد ولا أحد من ولد آدم عليه السلام من ذكر ولا أنثى مشورة ولا حيلة ولا مكيدة في شيء من الأمور سرها وعلانيتها وحقها وباطلها وظاهرها وباطنها ولا سبب من الأسباب أريد بذلك إفساد شيء مما أعطيت عبد الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي وأو جبت له علي وشرطت وسميت في كتابي هذا
وإن أراد به أحد من الناس أجمعين سوءا أو مكروها أو أراد خلعه أو محاربته أو الوصول إلى نفسه ودمه أو حرمه أو ماله أو سلطانه أو ولايته جميعا أو فرادى مسرين أو مظهرين له فإني انصره وأحوطه وأدفع عنه كما أدفع عن نفسي ومهجتي ودمي وشعري وبشري وحرمي وسلطاني وأجهز الجنود إليه وأعينه على كل من غشه وخالفه ولا أسلمه ولا أخذله ولا أتخلى عنه ويكون أمري وأمره في ذلك واحدا أبدا ما كنت حيا
وإن حدث بأمير المؤمنين هارون حدث الموت وأنا وعبد الله ابن أمير المؤمنين بحضرة أمير المؤمنين أو أحدنا أو كنا غائبين عنه جميعا مجتمعين كنا أو متفرقين وليس عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في ولايته بخراسان فعلي لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن أمضيه إلى خراسان وأن أسلم له ولايتها بأعمالها كلها وجنودها ولا أعوقه عنها ولا أحبسه قبلي ولا في شيء من البلدان دون خراسان وأعجل إشخاصه إلى خراسان واليا عليها مفردا بها مفوضا إليه جميع أعمالها كلها وأشخص معه من ضم إليه أمير المؤمنين من قواده وجنوده وأصحابه وكتابه وعماله ومواليه وخدمه ومن تبعه من صنوف الناس بأهليهم وأموالهم ولا أحبس عنه

أحدا ولا أشرك معه في شيء منها أحدا ولا أرسل أمينا ولا كاتبا ولا بندارا ولا أضرب على يديه في قليل ولا كثير
وأعطيت هارون أمير المؤمنين وعبد الله بن هارون على ما شرطت لهما على نفسي من جميع ما سميت وكتبت في كتابي هذا عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمة آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله تعالى على النبيين والمرسلين وخلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه والأيمان المؤكدة التي أمر الله عز و جل بالوفاء بها ونهى عن نقضها وتبديلها
فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت لهارون أمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين وسميت في كتابي هذا أو حدثت نفسي أن أنقض شيئا مما أنا عليه أو غيرت أو بدلت أو حلت أو غدرت أو قبلت ذلك من أحد من الناس صغيرا أو كبيرا برا أو فاجرا ذكرا أو أنثى وجماعة أو فرادى فبرئت من الله عز و جل ومن ولايته ومن دينه ومن محمد ولقيت الله عز و جل يوم القيامة كافرا مشركا وكل امرأة هي اليوم لي أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة طلاق الحرج وعلي المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة نذرا واجبا لله تعالى في عنقي حافيا راجلا لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة الحرام وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله عز و جل
وكل ما جعلت لأمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين

وكتبته وشرطته لهما وحلفت عليه وسميت في كتابي هذا لازم لي الوفاء به ولا أضمر غيره ولا أنوي إلا إياه فإن أضمرت أو نويت غيره فهذه العقود والمواثيق والأيمان كلها لازمة واجبة علي وقواد أمير المؤمنين وجنوده وأهل الآفاق والأمصار في حل من خلعي وإخراجي من ولايتي عليهم حتى أكون سوقة من السوق وكرجل من عرض المسلمين لاحق لي عليهم ولا ولاية ولا تبعة لي قبلهم ولا بيعة لي في أعناقهم وهم في حل من الأيمان التي أعطوني براء من تبعتها ووزرها في الدنيا والآخرة
شهد سليمان ابن أمير المؤمنين المنصور وعيسى بن جعفر وجعفر بن جعفر وعبد الله بن المهدي وجعفر بن موسى أمير المؤمنين وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين وإسحاق بن عيسى بن علي وأحمد بن إسماعيل بن علي وسليمان بن جعفر بن سليمان وعيسى بن صالح بن علي وداود بن عيسى بن موسى ويحيى بن عيسى بن موسى وداود بن سليمان بن جعفر وخزيمة بن حازم وهرثمة بن أعين ويحيى بن خالد والفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى والفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين والقاسم بن الربيع مولى أمير المؤمنين ودماثة بن عبد العزيز العبسي وسليمان بن عبد الله بن الأصم والربيع بن عبد الله الحارثي وعبد الرحمن بن أبي الشمر الغساني ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكة وعبد الكريم بن شعيب الحجبي وإبراهيم بن عبد الله الحجبي وعبد الله بن شعيب الحجبي ومحمد بن عبد الله بن عثمان الحجبي وإبراهيم بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبي وعبد الواحد بن عبد الله الحجبي وإسماعيل بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبي وأبان مولى أمير المؤمنين ومحمد بن منصور وإسماعيل بن صبيح والحارث مولى أمير المؤمنين وخالد مولى أمير المؤمنين

وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة
وأما ما كتبه المأمون فنصه بعد البسملة
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في صحة من عقله وجواز من أمره وصدق نية فيما كتب من كتابه ومعرفة ما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته ولجماعة المسلمين
إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون أمير المؤمنين وولاني في حياته وبعده خراسان وكورها وجميع أعمالها من الصدقات والعشر والبريد والطراز وغير ذلك واشترط لي على محمد ابن أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي من الخلافة والولاية للعباد والبلاد بعده وولاية خراسان وجميع أعمالها ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين أو ابتاع لي من الضياع والعقد والدور والرباع أو ابتعت منه لنفسي من ذلك وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال والجوهر والكسا والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة ولا يتتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أثرا ولا يدخل علي ولا على أحد ممن كان معي ومني ولا عمالي ولا كتابي ومن استعنت به من جميع الناس مكروها في دم ولا نفس ولا شعر ولا بشر ولا مال ولا صغير ولا كبير من الأمور فأجابه إلى ذلك وأقر به وكتب له به

كتابا كتبه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله وعرف صدق نيته فيه فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد ابن أمير المؤمنين وأطيعه ولا أعصيه وأنصحه ولا أغشه وأوفى ببيعته وولايته ولا أغدر ولا أنكث وأنفذ كتبه وأموره وأحسن مؤازرته ومكانفته وأجاهد عدوه في ناحيتي بأحسن جهاد ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين وسماه في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين ورضي به أمير المؤمنين ولم ينقص شيئا من ذلك ولم ينقض أمرا من الأمور التي اشترطها لي عليه هارون أمير المؤمنين
وإن احتاج محمد بن هارون أمير المؤمنين إلى جند وكتب إلي يأمرني بإشخاصهم إليه أو إلى ناحية من النواحي أو إلى عدو من أعدائه خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه وسلطاني الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا وولاناه فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه ولا أقصر في شيء كتب به إلي
وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين هارون أن يولي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي فذلك له ما وفى لي بما جعل لي أمير المؤمنين هارون واشترط لي عليه وشرطه على نفسه في أمري وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له بذلك ولا أنقض ذلك ولا أغيره ولا أبدله ولا أقدم قبله أحدا من ولدي ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحدا من ولده العهد من بعدي فيلزمني ومحمدا الوفاء بذلك
وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد بن أمير المؤمنين علي الوفاء بما اشترطت وسميت في كتابي هذا ما وفى لي محمد ابن أمير المؤمنين هارون

بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين عليه في نفسي وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من جميع الأشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه له وعلي عهد الله تعالى وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمة آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله عز و جل على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه والأيمان المؤكدة التي أمر الله عز و جل بالوفاء بها ونهى عن نقضها وتبديلها فإن أنا نقضت شيئا مما اشترطت وسميت في كتابي هذا له أو غيرت أو بدلت أو نكثت أو غدرت فبرئت من الله عز و جل ومن ولايته ومن دينه ومن محمد رسول الله ولقيت الله سبحانه وتعالى يوم القيامة كافرا مشركا وكل امرأة لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة طلاق الحرج وكل مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله تعالى وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة نذرا واجبا علي وفي عنقي حافيا راجلا لا يقبل الله مني إلا الوفاء به وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة وكل ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين أو شرطت في كتابي هذا لازم لي لا أضمر غيره ولا أنوي سواه
شهد فلان وفلان بأسماء الشهود المقدم ذكرهم في كتاب الأمين المبتدإ بذكره
قال الأزرقي ولم يزل هذان الشرطان معلقين في جوف الكعبة حتى مات هارون الرشيد وبعدما مات بسنتين في خلافة الأمين كلم الفضل بن الربيع محمد بن عبد الله الحجبي في إتيانه بهما فنزعهما من الكعبة وذهب بهما إلى بغداد فأخذهما الفضل فخرقهما وحرقهما بالنار
قلت وعلى نحو من ذلك كتب أبو إسحاق الصابي مواصفة بالصلح بين شرف الدولة وزين الملة أبي الفوارس وصمصام الدولة وشمس

الملة أبي كاليجار ابني عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه في النصف من صفر سنة ست وسبعين وثلاثماية
ونصها بعد البسملة الشريفة
هذا ما اتفق واصطلح وتعاهد وتعاقد عليه شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس وصمصام الدولة أبو كاليجار ابنا عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي علي موليا أمير المؤمنين الطائع لله أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده ونصره وعلوه وإذنه
اتفقا وتصالحا وعاهدا وتعاقدا على تقوى الله تعالى وإيثار طاعته والاعتصام بحبله وقوته والالتجاء إلى حسن توفيقه ومعونته والإقرار بأنفراد ووحدانيته لا شريك له ولا مثل ولا ضد ولا ند والصلاة على محمد رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما والطاعة لأمير المؤمنين الطائع لله والالتزام بوثائق بيعته وعلائق دعوته والتوازر على موالاة وليه ومعاداة عدوه وعلى أن يمسكا ذات بينهما بالسير الحميدة والسنن الرشيدة التي سنها لهما السلف الصالح من آبائهما وأجدادهما في التآلف والتوازر والتعاضد والتظافر وتعظيم الأصغر للأكبر وإشبال الأكبر على الأصغر والاشتراك في النعم والتفاوض في الحظوظ والقسم والاتحاد بخلوص الطوايا والخفايا وسلامة الخواطر وطهارة الضمائر ورفع ما خالف ذلك من أسباب المنافسة وجزائر المضاغنة وجوالب النبوة ودواعي الفرقة والإقران لأعداء الدولة والإرصاد لهم والاجتماع على دفع كل ناجم وقمع كل مقاوم وإرغام أنف كل ضار متجبر وإضراع خد كل متطاول مستكبر حتى يكون الموالي لأحدهم منصورا من جماعتهم والمعادي له مقصودا من سائر جوانبهم فلا يجد

المنابذ على أحدهم مفزعا عند أحد من الباقين ولا اعتصاما له ولا التجاء إليه لكن يكون مرميا بجميع سهامهم ومضروبا بأسياف نقمتهم ومأخوذا بكلية بأسهم وقوتهم ومقصودا بغالب نجدتهم وشدتهم إذ كانت هذه الآداب القويمة والطرائق السليمة جارية للدول مجرى الجنن الدافعة عنها والمعاقل المانعة لها وبمثلها تطمئن النعم وتسكن كما أن بأضدادها تشمئز وتنفر
ولما وفق الله تعالى شرف الدولة وزين الملة أبا الفوارس وصمصام الدولة وشمس الملة أبا كاليجار اعتقاد هذه الفضائل وإيثارها والتظاهر بها واستشعارها ودعاهما مولاهما الطائع لله أمير المؤمنين إلى ما دعاهما إليه من التعاطف والتآلف والتصافي والتخالص وأمر صمصام الدولة أبا كاليجار بمراسلة شرف الدولة أبي الفوارس في إحكام معاقد الأخوة وإبرام وثائق الألفة امتثل ذلك وأصغى إليه شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس أصغى إليه شرف الدولة إصغاء المستوثق المستصيب وتقبله تقبل العالم اللبيب وأنفذ إلى باب أمير المؤمنين رسوله أبا نصر خرشيد بن ديار بن مأفنه بالمعروف من كفايته والمشهور من اصطناع الملك السعيد عضد الدولة وتاج الملة رضوان الله عليه له وإيداعه إياه وديعة الإحسان التي يحق عليه أن يساوي في حفظها بين الجهتين ويوازي في رعايتها بين كلا الفريقين
فجرت بين صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار وبينه مخاطبات استقرت على أمور أتت المفاوضة عليها وأثبت منها في هذه المواصفة ما احتيج إلى إثباته منها أمر عام للفريقين وقسمان يختص كل واحد منهما بواحد منهما

فأما الأمر الذي يجمعهما عمومه ويكتنفهما شموله فهو أن يتخالص شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس وصمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار في ذات بينهما ويتصافيا في سرائر قلوبهما ويرفضا ما كان جره عليهما سفهاء الأتباع من ترك التواصل واستعمال التقاطع ويرجعا عن وحشة الفرقة إلى أنس الألفة وعن منقصة التنافر والتهاجر إلى منقبة التبار والتلاطف فيكون كل واحد منهما مريدا لصاحبه من الصلاح مثل الذي يريده لنفسه ومعتقدا في الذب عن بلاده وحدوده مثل الذي يعتقده في الذب عما يختص به ومسرا مثل ما يظهر من موالاة وليه ومعاداة عدوه والمراماة لمن راماه والمصافاة لمن صافاه فإن نجم على أحدهما ناجم أو راغمه مراغم أو هم به حاسد أو دلف إليه معاند اتفقا جميعا على مقارعته قريبا كان أو بعيدا وترافدا على مدافعته دانيا كان أو قاصيا وسمح كل منهما لصاحبه عند الحاجة إلى المواساة في ذلك في سائر أحداث الزمان ونوبه وتصاريفه وغيره بما يتسع ويشتمل عليه طوقه من مال وعدة ورجال ونجدة واجتهاد وقدرة لا يغفل أخ منهما عن أخيه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يترك نصرته ولا ينصرف عن مؤازرته ومظاهرته بحال من الأحوال التي تستحيل بها النيات من إرغاب مرغب وحيلة محتال ومحاولة محاول ولا يقبل أحدهما مستأمنا إليه من جهة صاحبه من جندي ولا عامل ولا كاتب ولا صاحب ولا متصرف في وجه من وجوه التصرفات كلها ولا يجير عليه هاربا ولا يعصم منه مواربا ولا يتطرف له حسدا ولا يتحيفه حقا ولا يهتك له حريما ولا يتناول منه طوفا ولا يخيف له سبيلا ولا يتسبب إلى ذلك بسبب باطن ولا باعتلال ظاهر ولا يدع موافقته وملاءمته ومعاونته ومظافرته في كل قول وفعل وسر وجهر على سائر الجهات وتصرف الحالات ووجوه التأويلات
يلتزم كل

واحدا منهما ذلك لصاحبه التزاما على التماثل والتعادل والتوازي والتقابل
وأما الأمر الذي يختص شرف الدولة وزين الملة به ويلتزمه صمصام الدولة وشمس الملة له فهو أن يقدمه صمصام الدولة وشمس الملة على نفسه ويعطيه ما أعطاه له الله من فضل سنه ويطيعه في كل ما أفاد الدولة الجامعة لهما صلاحا وهاض من عدوهما جناحا وعاد على وليهما بعز وعلى عدوهما بذل وأن يقيم صمصام الدولة الدعوة على منابر ما في يده من مدينة السلام وسائر البلدان والأمصار التي أحاطت بهما حقوقه وضربت عليهما حدوده لأمير المؤمنين ثم لشرف الدولة وزين الملة أبي الفوارس ثم لنفسه ويجري الأمر في نقش سكك دور الضرب التي يطبع بها الدينار والدرهم في جميع هذه البلاد على المثال ويوفي صمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار شرف الدولة وزين الملة أبا الفوارس في المكاتبات والمخاطبات حق التعظيم وشعار التفخيم على التقرير بينه وبين خرشيد بن ديار بن مأفنة في ذلك
وأما الأمر الذي يختص صمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار به ويلتزمه شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس له فهو ترك التعرض لسائر ممالكه وما يتصل بها من حدودها الجارية معها والإفراج منها عما يوده ويسرع إليه أصحاب شرف الدولة وزين الملة وتجنب التحيف له أو لشيء من الحقوق الواجبة فيها ومراعاته في الأمور التي يحتاج فيها إلى نظره وطوله وإجماله وفضله وما يجب على الأخ الأكبر مراعاة أخيه وتاليه فيه مما ثبتت في هذه المواصفة جملته واشتملت المفاوضة مع خورشيد بن ديار ابن مأفنة على تفصيله
اتفق شرف الدولة وزين الملة أبو الفوارس وصمصام الدولة وشمس الملة أبو كاليجار بأمر أمير المؤمنين الطائع لله وعلى الاختيار منهما والانشراح من صدورهما من غير إكراه ولا إجبار ولا اصطبار ولا

اضطرار على الرضا بذلك كله والالتزام له ويصير جميعه عهدا مرجوعا إليه وعقدا معمولا عليه وحلف كل منهما على ما يلتزمه من ذلك يمينا عقدها بأن يحلف صاحبها بمثلها على ما يلتزمه منه
فقال صمصام الدولة والله الذي لا إله إلا هو ويستتم اليمين

النوع الثاني مما يجري عقد الصلح فيه بين ملكين مسلمين ما يكون العقد فيه
من جانب واحد
وللكتاب فيه مذهبان
المذهب الأول أن يفتتح عقد الصلح بلفظ هذا كما في النوع السابق
وهذه نسخة عقد صلح من ذلك كتب بها أبو إسحاق الصابي بين الوزير أبي نصر سابور بن أزدشير والشريفين أبي أحمد الحسين بن موسى وأبي الحسن محمد ابنه الرضي بما انعقد من الصلح والصهر بين الوزير المذكور وبين النقيب أبي أحمد الحسين وولده محمد حين تزوج ابنه محمد المذكور بنت سابور المذكور وجعله على نسختين لكل جانب نسخة بعد البسملة ما صورته
هذا كتاب لسابور بن أزدشير كتبه له الحسين بن موسى الموسوي وولده محمد بن الحسين الموسوي
إنا وإياك عندما وصله الله بيننا من الصهر والخلطة ووشجه من

الحال والمودة آثرنا أن ينعقد بيننا وبينك ميثاق مؤكد وعهد مجدد تسكن النفوس إليهما وتطمئن القلوب معهما وتزداد الألفة بهما على مر الأيام وتعاقب الأعوام ويكون ذلك أصلا مستقرا نرجع جميعا إليه ونعول ونعتمد عليه وتتوارثه أعقابنا وتتبعنا فيه أخلافنا
فأعطيناك عهد الله وميثاقه وما أخذه على أنبيائه المرسلين وملائكته المقربين صلى الله عليهم أجمعين عن صدور منشرحة وآمال في الصلاح منفسحة أنا نخلص لك جميعا وكل واحد منا إخلاصا صحيحا يشاكل ظاهره باطنه ويوافق خافيه عالنه وأنا نوالي أولياءك ونعادي أعداءك ونصل من وصلك ونقطع من قطعك ونكون معك في نوائب الزمان وشدائده وفي فوائده وعوائده وضمنا لك ضمانا شهد الله بلزومه لنا ووجوبه علينا وأنا نصون الكريمة علينا الأثيرة عندنا فلانة بنت فلان أدام الله عزها المنتقلة إلينا كما تصان العيون بجفونها والقلوب بشغافها ونجريها مجرى كرائم حرمنا ونفائس بناتنا ومن تضمه منازلنا وأوطاننا ونتناهى في إجلالها وإعظامها والتوسعة عليها في مراغد عيشها وعوارض أوطارها وسائر مؤنها ومؤن أسبابها والنهوض والوفاء بالحق الذي أوجبه الله علينا لها ولك فيها فلا نعدم شيئا ألفته من إشبال عليها وإحسان إليها وذب عنها ومحاماة دونها وتعهد لمسارها وتوخ لمحابها ونكون جميعا وكل واحد منا مقيمين لك ولها على جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب في حياتك أطالها الله وبعد الوفاة إن تقدمتنا وحوشيت من السوء في أمورك كلها وأحوالك أجمعها
ثم إنا نقول وكل واحد منا طائعين مختارين غير مكرهين ولا مجبرين بعد تمام هذا العقد بيننا وبينك ولزومه لنا ولك والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب المدرك المهلك الضار النافع المطلع على السرائر المحيط بما في الضمائر الذي يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور وحق محمد النبي وعلي الرضي صلى الله عليهما وسلم وشرف

ذكرهما وسادتنا الأئمة الطيبين الطاهرين رحمة الله عليهم أجمعين وحق القرآن العظيم وما أنزل فيه من تحليل وتحريم ووعد ووعيد وترغيب وترهيب لنفين لك يا سابور بن أزدشير والكريمة الأثيرة ابنتك فلانة أحسن الله رعايتها بجميع ما تضمنه هذا الكتاب وفاء صحيحا ولنلتزمن لك ولها شرائطه ووثائقه فلا نفسخها ولا ننقضها ولا نتتبعها ولا نتعقبها ولا نتأول فيها ولا نزول عنها ولا نلتمس مخرجا ولا مخلصا منها حتى يجمعنا الموقف بين يدي الله والمقدم على رحمة الله ونحن يومئذ ثابتان عليها ومؤديان للأمانة فيها أداء يشهد الله تعالى به وملائكته يوم يقوم الأشهاد ويحاسب العباد فإن نحن أخللنا بذلك أو بشيء منه أو تأولنا فيه أو في شيء منه أو أضمرنا خلاف ما نظهر أو أسررنا ضد ما نعلن أو التمسنا طريقا إلى نقضه أو سبيلا إلى فسخه أو ألممنا بإخفار ذمة من ذممه أو انتهاك حرمة من حرمه أو حل عصمة من عصمه أو إبطال شرط من شروطه أو تجاوز حد من حدوده فالذي يفعل ذلك منا يوم يفعله أو يعتقده وحين يدخل فيه ويستجيزه بريء من الله جل ثناؤه ومن نبوة رسوله محمد ومن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليهما وسلم ومن القرآن الحكيم العظيم ومن دين الله الصحيح القويم ولقي الله يوم العرض عليه والوقوف بين يديه وهو به سبحانه مشرك ولرسوله مخالف ولأهل بيته معاد ولأعدائهم موال وعليه الحج إلى بيت الله الحرام العتيق الذي بمكة راجلا حافيا حاسرا وإناؤه عواتق ونساؤه طوالق طلاق الحرج والسنة لا رجعة فيه ولا مثنوية وأمواله على اختلاف أصنافها محرمة عليه وخارجة عن يديه وحبيسة في سبيل الله وبرأه الله من حوله وقوته وألجأه إلى حوله وقوته
وهذه اليمين لازمة لنا وقد أطلق كل واحد منا بها لسانه وعقد عليها ضميره والنية في جميعها نية فلان بن فلان لا يقبل الله من كل واحد منا إلا الوفاء بها والثبات عليها والالتزام بشروطها والوقوف على حدودها

وكفى بالله شهيدا وجازيا لعباده ومئيبا
وذلك في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا

المذهب الثاني أن يفتتح عقد الصلح بخطبة مفتتحة بالحمد لله وربما كرر
فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النعمة
وهذه نسخة عقد صلح كتب بها أبو الحسين أحمد بن سعد عن بعض الأمراء لمن كان
ونصها على ما ذكره في كتاب البلاغة في الترسل بعد البسملة الحمد لله الذي خلق العباد بقدرته وكون الأمور بحكمته وصرفها على إرادته
لم يلطف عنه خفي ولا امتنع عنه قوي ابتدع الخلائق على اختلاف فطرها وتباين صورها من غير مثال احتذاه ولا رسم اقتفاه وأيدهم بنعمته فيما ركبه فيهم من الأدوات الدالة على ربوبيته الناطقة بواحدنيته واكتفوا بالمعرفة به جل جلاله بخبر العقول وشهادة الأفهام ثم استظهر لهم في التبصرة وغلبهم في الحجة برسل أرسلها وآيات بينها ومعالم أوضحها ومنارات لمسالك الحق رفعها وشرع لهم الإسلام دينا وارتضاه واصطفاه وفضله واجتباه وشرفه وأعلاه وجعله مهيمنا على الدين كله وقدر العز لحزبه وأهله فقال جل جلاله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) وأيده بأنبيائه الداعين إليه والناهجين لطرقه والهادين لفرائضه والمخبرين عن شرائعه قرنا بعد قرن وأمة بعد أمة في فترة بعد فترة

وبينة بعد بينة حتى انتهى تقديره جل جلاله أن بعث النبي الأمي الفاضل الزكي الذي قفى به على الرسل ونسخ بشريعته شرائع الملل وبدينه أديان الأمم على حين تراخي فترة وترامي حيرة فأباخ به نيران الفتن بعد اضطرامها وأضاء به سبل الرشاد بعد إظلامها على علم منه تعالى ذكره بما وجده عنده من النهوض بأعباء الرسالة والقيام بأداء الأمانة فأزاح بذلك العلة وقطع المعذرة ولم يبق للشاك موضع شبهة ولا للمعاند دعوى مموهة حتى مضى حميدا تشهد له آثاره وتقوم بتأييد سنته أخباره قد خلف في أمته ما أصارهم به إلى عطف الله ورحمته والنجاة من عقابه وسخطه إلا من شقي بسوء اختياره وحرم الرشاد بخذلانه صلى الله عليه وعلى آله الطيبين أفضل صلاة وأتمها وأوفاها وأعمها
والحمد لله الذي خص سيدنا الأمير بالتوفيق وتوحده بالإرشاد والتسديد في جيمع أنحائه ومواقع آرائه وجعل همته إذ كانت الهمم منصرفة إلى هشيم الدنيا وزخارفها التي يتحلى بها الأبناء وتدعوها إلى نفسها مقصورة على ما يجمع له رضا ربه وسلامة دينه واستقامة أمور مملكته وصلاح أحوال رعيته وأيده في هذه الحال المعارضة والشبهة الواقعة التي تحار في مثلها الآراء وتضطرب الأهواء وتتنازع خواطر النفوس وتفتلج وساوس الصدور ويخفى موقع الصواب ويشكل منهج الصلاح بما اختار له من السلم والموادعة والصلح والموافقة الذي أخبر الله تعالى في كتابه على فضله والخير الذي في ضمنه بقوله جل وعز ( والصلح خير ) وقوله جل ذكره ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) حتى أصبح السيف مغمودا ورواق الأمن ممدودا والأهواء

متفقة والقلوب مؤتلفة والكلمة مجتمعة ونيران الفتن والضلالة خامدة وظنون بغاتها والساعين لها كاذبة وطبقات الأولياء والرعية بما أعيد إليهم من الأمنة تعقب الخيفة والأنسة من بعد الوحشة مستبشرة وإلى الله عز و جل في إطالة بقاء الأمير وإدامة دولته وحراسة نعمته وتثبيت وطأته راغبين وفي مسالمته مخلصين
ولو لم يكن السلم في كتاب الله مأمورا به والصلح مخبرا عن الخير الذي فيه لكان فيما ينتظم به من حقن الدماء وسكون الدهماء ويجمع من الخلال المحمودة والفضائل الممدودة المقدم ذكرها ما حدا عليه ومثل للعقول السليمة والآراء الصحيحة موضع الخير فيه وحسن العائدة على الخاص والعام به فيما يتجلى للعيون من مشتبهات الظنون إذ الدين واقع والشك جانح بين المحق والمبطل والجائر والمسقط
وقد قال الله جل ثناؤه ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) ناظرا للمسلمين من معرة أو مضرة تلحق بعضهم بغير علم ومؤثرا تطهيرهم من ظن العدوان مع رفعه عنهم فرطات النسيان وكافا أيدي المسلمين عن المشركين كما كف أيديهم عن المسلمين تحننا على بريته وإبقاء على أهل معصيته إلى أن يتم لهم الميقات الذي أدناه والأمر الذي أمضاه وموقع الحمد في عاقبته والسلامة في خاتمته وبلغهم من غاية البقاء أمدها ومن مرافق العيش أرغدها مقصورة أيدي النوائب عما خوله ومعصومة أعين الحوادث عما نوله إنه جواد ماجد
قلت وعلى هذا المذهب كتب عقد الصلح بين السلطان الملك الناصر أبي السعادات فرج بن السلطان الملك الظاهر برقوق وبين المقام الشريف القطبي تيمور كوركان صاحب ما وراء النهر بعد طروقه

الشام وفتحه دمشق وتحريقها وتخريبها وإرسال كتابه في معنى طلب الصلح وإرسال الأمير أطلمش لزمه المأسور في الدولة الظاهرية برقوق صحبة الخواجا نظام الدين مسعود الكججاني
جهز ذلك إليه قرين كتاب من الأبواب السلطانية صحبة الخواجا مسعود المذكور والأمير شهاب الدين بن أغلبك والأمير قانبيه في جمادى الأولى سنة خمس وثمانمائة بإشارة المقر الفتحي صاحب ديوان الإنشاء الشريف من إنشاء الشيخ زين الدين طاهر ابن الشيخ بدر الدين حبيب الحلبي أحد كتاب الدست الشريف بالأبواب السلطانية وهو مكتوب في قطع . . . . . . بقلم . . . . . . وفي طرته ما صورته
مرقوم شريف جليل عظيم مبجل مكرم جميل نظيم مشتمل على عقد صلح افتتحه المقام الشريف العالي القطبي نصرة الدين تيمور كوركان زيدت عظمته يكون بينه وبين المقام الشريف السلطان المالك الناصر أبي السعادات فرج بن السلطان الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق خادم الحرمين الشريفين خلد الله تعالى

ملكه انعقد بمباشرة السفير عن المقام الشريف القطبي المشار إليه ووكيله في ذلك الخواجا نظام الدين مسعود الكججاني بشهادة من حضر صحبته من العدول بالتوكيل المذكور على حكم إشارة مرسله إليه ومضمون مكاتبته وقصده تجهيز الأمير أطلمش لزمه وحلف المقام القطبي على الموافاة والمصافاة واتحاد المملكتين وإجراء الأمور على السداد وعمل مصالح العباد والبلاد
والبياض ثلاثة أوصال بوصل الطرة والبسملة في أول الوصل الرابع بهامش عن يمينها وتحت البسملة سطر ثم بيت العلامة والسطر الثاني بعد بيت العلامة
والعلامة بجليل الثلث بالذهب ما صورته الله أملي
ونسخة المكتوب بعد البسملة ما صورته
الحمد لله الذي جعل الصلح خير ما انعقدت عليه المصالح والإصلاح بين الناس أولى ما اتصلت به أسباب المناجح وأحق ما نطقت به ألسن المحامد وأثنت عليه أفواه المدائح
نحمده على نعمه التي جمعت أشتات القلوب الطوائح وأضافت إلى ضياء الشمس نور القمر فاهتدى بهما كل غاد ورائح ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغ قائلها أهنى المنائح وتتعطر مجالس الذكر بعرف روائحها الروائح ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من آخى بين المتحاكمين فنصح لله ورأى الصلح من أعظم النصائح وأكمل رسول انقادت لأخلاقه الرضية وصفاته المرضية جوانح النفوس الجوانح وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى ما اجتمعت عليه آراء أولي الألباب وركنت إليه قلوب ذوي المعرفة من أهل المودة والأحباب ائتلاف القلوب بعد اختلافها واتصافها بالتلبس بأحسن أوصافها والعمل على الصلح الذي هو أصلح للناس وأربح متاجر الدنيا والآخرة وأدفع لليأس والباس إذ هو مفتاح أبواب الخيرات الشاملة ومصباح مناهج الفكر الصحيحة الكاملة

والداعي إلى كل فعل جميل والساعي بكل قول هو شفاء صدى الغليل ونجاة من داء العليل
ولما كان المقام الشريف العالي الكبيري العالمي العالمي المؤيدي المظفري الملجئي الملاذي الوالدي القطبي نصرة الدين ملجأ القاصدين ملاذ العابدين قطب الإسلام والمسلمين تيمور كوركان زيدت عظمته هو الباديء بإحياء هذه السنة الحسنة والحادي إلى العمل بمقتضى مفاوضته الشريفة التي هي لذلك متضمنة الواردة إلى حضرة عبد الله ووليه السلطان المالك الملك الناصر زين الدنيا والدين أبي السعادات فرج بن السلطان الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق خادم الحرمين الشريفين خلد الله تعالى ملكه على يد سفير حضرته المجلس السامي الشيخي النظامي مسعود الكججاني المؤرخة بمستهل شهر ربيع الأول سنة تاريخه
وجل مضمونها وسر مكنونها قصد إيقاع الصلح الشريف بين المشار إليهما ونسج المودة والمحبة والمصادقة بينهما وإسبال رداء محاسنها عليهما بمقتضى تفويض المقام الشريف القطبي المشار إليه الأمر في الصلح المذكور إلى الشيخ نظام الدين مسعود المذكور وتوكيله إياه فيه وإقامته مقام نفسه الشريفة وجعل قوله من قوله وأنه عظم الله تعالى شأنه أشهد الله العظيم عليه بذلك وأشهد عليه من يضع خطه من جماعته المجهزين صحبة الشيخ نظام الدين مسعود المذكور وهما الشيخ بدر الدين أحمد بن الشيخ الإمام العالم شمس الدين محمد بن الجزري الشافعي والصدر الأجل كمال الدين كمال أغا وأن ذلك صدر عن المقام الشريف القطبي المشار إليه لموافقته على الصلح الشريف وإجابة

القصد فيه بإطلاق الأمير أطلمش لزم المقام القطبي المشار إليه وتجهيزه إلى حضرته العالية وأنه عاهد الله عز و جل بحضور جم غفير من أمراء دولته وأكابرها ومن حضر مجلسه باليمين الشرعية الجامعة لأشتات الحلف بالله الذي لا إله إلا هو رب البرية وباريء النسم على ذلك جميعه وعلى أنه لا يدخل إلى البلاد الداخلة في مملكة مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه وأنه مهما عاهد وصالح وعاقد عليه الشيخ نظام الدين مسعود الوكيل المذكور يقضي به المقام القطبي المشار إليه ويمضيه ويرتضيه وانفصل الأمر على ذلك
فعندما وقف مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه خلد الله تعالى ملكه على المكاتبة الشريفة المشار إليها وتفهم مضمونها ورأى أن المصلحة في الصلح تبركا بما ورد في كتاب الله عز و جل وسنة رسوله استخار الله عز و جل وأمر بتجهيز الأمير أطلمش المذكور وتسليمه للشيخ نظام الدين مسعود المذكور وأذن لهما في التوجه إلى حضرة المقام الشريف القطبي المشار إليه بموافقة مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله أدام الله تعالى أيامه على ذلك وحضور الشيخ الإمام الفرد الأوحد شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني أعاد الله تعالى على المسلمين من بركاته وقضاة القضاة الحكام أعز الله تعالى أحكامهم ومشايخ العلم الشريف والصلاح وأركان الدولة الشريفة ومن يضع خطه في هذا الصلح الشريف بالشهادة بمضمونه
وعقد الصلح الشريف بين مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه خلد الله تعالى ملكه وبين الشيخ نظام الدين مسعود الوكيل المذكور عن المقام الشريف القطبي المشار إليه زيدت عظمته على حكم مضمون مفاوضته الشريفة المقدم ذكرها وما قامت به البينة الشرعية بشهادة العدلين المذكورين الواصلين صحبة الوكيل المذكور بالتوكيل المشروح فيه فكان صلحا صحيحا شرعيا تاما كاملا معتبرا مرضيا على أحسن الأمور وأجملها وأفضل الأحوال وأكملها

وحلف مولانا السلطان الملك الناصر المشار إليه خلد الله ملكه وعاهد الله عز و جل نظير ما حلف وعاهد عليه المقام الشريف القطبي المشار إليه من القول والعمل واستقرت بمشيئة الله تعالى الخواطر وسرت القلوب وقرت النواظر لما في ذلك من حفظ ذمام العهود الشريفة وإقامة منار الشرع الشريف وامتداد ظلال أعلامه الوريفة وإجراء كلمة الصدق على لسان أهل الحق وصون أمانة الله تعالى وشعار دينه بين الخلق فلا يتغير عقد هذا الصلح الشريف على مدى الليالي والأيام ولا ينقضي حكمه ولا ينحل إبرامه على توالي السنين والأعوام
هذا على أن لا يدخل أحد من عساكرهما وجندهما ومماليكهما إلى حدود مملكة الآخر ولا يتعرض إلى ما يتعلق به من ممالك وقلاع وحصون وسواحل وموان وغير ذلك من سائر الأنواع ورعاياهما من جميع الطوائف والأجناس وما هو مختص ببلاد كل منهما ومعروف به بين الناس حاضرها وباديها وقاصيها ودانيها وعامرها وغامرها وباطنها وظاهرها ولا إلى من فيها من الرعية والتجار والمسافرين وسائر الغادين والرائحين في السبل والطرق متفرقين ومجتمعين
هذا على أن يكون كل من المقامين الشريفين المشار إليهما مع الآخر على أكمل ما يكون في السراء والضراء من حسن الوفاء وجميل المودة والصفاء ويكونا في الاتحاد كالوالد والولد وعلى المبالغة في الامتزاج والاختلاط كروحين في جسد مع ما يضاف إلى ذلك من مصادقة الأصدقاء ومعاداة الأعداء ومسالمة المسالمين ومحاربة المحاربين في السر والإعلان والظهور والكتمان وبالله التوفيق وهو العالم بما تبدي الأعين وما تخفي الصدور وعليه التكلان في كل الأمور في الغيبة والحضور والورود والصدور

الباب السادس من المقالة التاسعة في الفسوخ الواردة على العقود السابقة
وفيه فصلان
الفصل الأول الفسخ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر
قال في التعريف وقل أن يكون فيه إلا ما يبعث به على ألسنة الرسل
قال وقد كتب عمي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله سنة دخول العساكر الإسلامية ملطية سنة أربع عشرة وسبعمائة فسخا على التكفور متملك سيس كان سببا لأن زاد قطيعته
ولم يذكر صورة ما كتبه في ذلك
وقد جرت العادة أنه إذا كان الفسخ من الجانب الواحد أن يذكر الكاتب فيه موجب الفسخ الصادر عن المفسوخ عليه من ظهور ما يوجب نقض العهد ونكث العقد وإقامة الحجة على المفسوخ عليه من كل وجه

قال في التعريف والذي أقول فيه إنه كتب فيه كتب بعد البسملة
هذا ما استخار الله تعالى فيه فلان استخارة تبين له فيها غدر الغادر وأظهر له بها سر الباطن ما حققه الظاهر فسخ فيها على فلان ما كان بينه وبينه من المهادنة التي كان آخر الوقت الفلاني آخر مدتها وطهر السيوف الذكور فيها من الدماء إلى انقضاء عدتها وذلك حين بدا منه من موجبات النقض وحل المعاقدة التي كانت يشد بعضها ببعض وهي كذا وكذا وتذكر وتعد مما يوجب كل ذلك إخفار الذمة ونقض العهود المرعية الحرمة وهد قواعد الهدنة وتخلية ما كان قد أمسك من الأعنة كتب إنذارا وقدم حذارا وممن يشهد بوجوب هذا الفسخ ودخول ملة تلك الهدنة في حكم هذا النسخ ما تشهد به الأيام ويحكم به عليه النصر المكتتب للإسلام وكتب هذا الفسخ عن فلان لفلان وقد نبذ إليه عهده وأنجز وعده وأنفذ إليه سهمه بعد أن صبر مليا من على ممالاته وأقام مدة يداري مرض وفائه ولا ينجح فيه شيء من مداواته ولينصرن الله من ينصره ويحذر من يأمن مكره من يحذره وأمر فلان بأن يقرأ هذا الكتاب على رؤوس الأشهاد لينقل مضمونه إلى البلاد أنفه من أمر لا يتأدى به الإعلان وينصب به هذا الغادر لواء لا يقال إذا يقال هذا اللواء لغدرة فلان بن فلان

الفصل الثاني المفاسخة وهي ما يكون من الجانبين جميعا
قال في التعريف وصورة ما يكتب فيها هذا ما اختاره فلان وفلان من فسخ ما كان بينهما من المهادنة التي هي إلى آخر مدة كذا
اختارا فسخ بنائها ونسخ أنبائها ونقض ما أبرم من عقودها وأكد من عهودها جرت بينهما على رضا من كل منهما بإيقاد نار الحرب التي كانت أطفئت وإثارة تلك الثوائر التي كانت كفيت نبذاه على سواء بينهما واعتقاد من كل منهما أن المصلحة في هذا لجهته وأسقط ما كان يحمله للآخر من ربقته ورضي فيه بقضاء السيوف وإمضاء أمر القدر والقضاء في مساقات الحتوف وقد أشهدا عليهما بذلك الله وخلقه ومن حضر ومن سمع ونظر وكان ذلك في تاريخ كذا وكذا

المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتاب وتتنافس في عملها
ليس لها تعلق بكتابة الدواوين السلطانية ولا غيرها وفيها بابان
الباب الأول في الجديات وفيه ستة فصول
الفصل الأول في المقامات
وهي جميع مقامة بفتح الميم وهي في أصل اللغة اسم للمجلس والجماعة من الناس
وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة كأنها تذكر فى مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها
أما المقامة بالضم فبمعنى الإقامة ومنه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة ( الذي أحلنا دار المقامة من فضله )
واعلم أن أول من فتح باب عمل المقامات علامة الدهر وإمام الأدب البديع الهمذاني فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه وهي

في غاية من البلاغة وعلو الرتبة في الصنعة
ثم تلاه الإمام أبو محمد القاسم الحريري فعمل مقاماته الخمسين المشهورة فجاءت نهاية في الحسن وأتت على الجزء الوافر من الحظ وأقبل عليها الخاص والعام حتى أنست مقامات البديع وصيرتها كالمرفوضة
على أن الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر لم يوفه حقه ولا عامله بالإنصاف ولا أجمل معه القول فإنه قد ذكر أنه ليس له يد في غير المقامات حتى ذكر عن الشيخ أبي محمد أحمد بن الخشاب أنه كان يقول إن الحريري رجل مقامات أي إنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها فإن أتى بغيرها فلا يقول شيئا
وذكر أنه لما حضر بغداد ووقف على مقاماته قيل هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة ويحسن أثره فيه فأحضر وكلف كتابة كتاب فأفحم ولم يجر لسانه في طويله ولا قصيره حتى قال فيه بعضهم
( شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس )
( أنطقه الله بالمشان وفي ... بغداد أضحى الملجوم بالخرس )

واعتذر عنه بأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص بخلاف المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له من حيث أن المعاني تتجدد فيها بتجدد حوادث الأيام وهي متجددة على عدد الأنفاس
وهذه المقامة التي قدمت الإشارة إليها في خطبة هذا الكتاب إلى أني كنت أنشأتها في حدود سنة إحدى وتسعين وسبعمائة عند استقراري في ديوان الإنشاء بالأبواب الشريفة وأنها اشتملت مع الاختصار على جملة جمة من صناعة الإنشاء ووسمتها بالكواكب الدرية في المناقب البدرية ووجهت القول فيها لتقريظ المقر البدري بن المقر العلائي بن المقر المحيوي بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية يومئذ جعلت مبناها على أنه لا بد للإنسان من حرفة يتعلق بها ومعيشة يتمسك بسببها وأن الكتابة هي الحرفة التي لا يليق بطالب العلم سواها ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها مع الجنوح فيها إلى تفضيل كتابة الإنشاء وترجيحها وتقديمها على كتابة الديونة وترشيحها

وقد اشتملت على بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد وما ينبغي أن يسلكه من الجواد مع التنبيه على جملة من المصطلح بينت مقاصده ومهدت قواعده على ما ستقف عليه في خلال مطاويها إن شاء الله تعالى وهي
حكى الناثر ابن نظام قال لم أزل من قبل أن يبلغ بريد عمري مركز التكليف ويتفرق جمع خاطري بالكلف بعد التأليف أنصب لاقتناص العلم أشراك التحصيل وأنزه توحيد الاشتغال عن إشراك التعطيل مشمرا عن ساق الجد ذيل الاجتهاد مستمرا على الوحدة وملازمة الانفراد أنتهز فرصة الشباب قبل توليها وأغتنم حالة الصحة قبل تجافيها قد حالف جفني السهاد وخالف طيب الرقاد أمرن النفس على الاشتغال كي لا تمل فتنفر عن الطلب وتجمح مميلا جانب قصدها عن ركوب الأهواء والميل إليها صارفا وجه غايتها عن المطالب الدنيوية والركون إليها متخيرا أليق الأماكن وأوفق الأوقات قانعا بأدنى العيش راضيا بأيسر الأقوات أونس من شوارد العقول وحشيها وأشرد عن روابض المنقول حوشيها وألتقط ضالة الحكمة حيث وجدتها وأقيد نادرة العلم حيث أصبتها مقدما من العلوم أشرفها ومؤثرا من الفنون ألطفها معتمدا من ذلك ما تألفه النفس ويقبله الطبع مقبلا منه على ما يستجلي حسنه النظر ويستحلي تذكره السمع منتقيا من الكتب أمتعها تصنيفا وأتمها تحريرا وأحسنها تأليفا منتخبا من أشياخ الإفادة أوسعهم علما وأكثرهم تحقيقا ومن أقران المذاكرة أروضهم بحثا وألطفهم تدقيقا عارفا لكل عالم حقه وموفيا لكل علم مستحقه قد استغنيت بكتابي عن خلي ورفيقي وآثرت بيت خلوتي على شفيقي وشقيقي أجوب فيافي الفنون لتظهر لي طلائع الفؤائد فأشهدها عيانا وأجول في ميدان الأفكار لتلوح لي كمائن المعاني فلا أثني عنها عنانا وأشن غارات المطالعة على كتائب الكتب فأرجع بالغنيمة وأهجم على حصون الدفاتر ثم لا أولي عن هزيمة بل كلما لاحت لي فئة من البحث تحيزت إليها أو ظهرت لي

كتيبة من المعاني حملت عليها إلى أن أتيح لي من الفتح ما أفاضته النعمة وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة
فبينا أنا أرتع في رياض ما نفلت وأجتني ثمار ما خولت إذ طلع علي جيش التكليف فحصرني وخرج علي كمين التكليف فأسرني فأمسيت في أضيق خناق وأشد وثاق قد عاقني قيد الاكتساب عن الاشتغال وصدني كل الكد عن الاهتمام بالطلب والاحتفال فغشيني من القبض ما غشيني وأخذني من الوحشة ما أخذني وتعارض في حكم العقل بين الكسب وطلب العلم وتساويا في الترجيح فلم تجنح واحدة منهما إلى السلم فصرت مدهوشا لا أحسن صنعا وبقيت متحيرا لا أدري أي الأمرين أقرب إلي نفعا إن طلبت العلم للكسب فقد أفحشت رجوعا وإن تركت الكسب للعلم هلكت ضيعة ومت جوعا
فلما علمت أن كلا منهما لا يقوم إلا بصاحبه ولا يتم الواجب في أحدهما ما لم يقم في الآخر بواجبه التمست كسبا يكون للعلم موافقا وبحملته لائقا ليكون ذلك الكسب للعلم موضوعا والعلم عليه محمولا والجمع ولو بوجه أولى فجعلت أسبر المعايش سبر متقصد وأسير في فلوات الصنائع سير متعهد لكي أجد حرفة تطابق أربي أو صنعة تجانس طلبي
فبينما أنا أسير في معاهدها وأردد طرفي في مشاهدها إذ رفع لي صوت قرع سمعي برنته وأخذ قلبي بحنته فقفوت أثره متبعا وملت إليه مستمعا فإذا رجل من أحسن الناس شكلا وأرجحهم عقلا وهو يترنم وينشد
( إن كنت تقصدني بظلمك عامدا ... فحرمت نفع صداقة الكتاب )
( السائقين إلى الصديق ثرى الغنى ... والناعشين لعثرة الأصحاب )
( والناهضين بكل عبء مثقل ... والناطقين بفصل كل خطاب )

( والعاطفين على الصديق بفضلهم ... والطيبين روائح الأثواب )
( ولئن جحدتهم الثناء فطالما ... جحد العبيد تفضل الأرباب )
فلما سمعت منه ذلك وأعجبني من الوصف ما هنالك دنوت منه دنو الواجل وجلست بين يديه جلوس السائل وقلت هذه وأبيك صفات الملوك بل ملوك الصفات وأكرم الفضائل بل أفضل المكرمات ولم أك أظن أن للكتابة هذا الخطر الجسيم وللكتاب هذا الحظ العظيم فأعرض مغضبا ثم فوق بصره إلى معجبا وقال هيهات فاتك الحزم وأخطأك العزم إنها لمن أعظم الصنائع قدرا وأرفعها ذكرا نطق القرآن الكريم بفضلها وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها فقال تعالى جل ثناؤه وتباركت أسماؤه ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فأخبر تعالى أنه علم بالقلم حيث وصف نفسه بالكرم إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه وإيذانا بأن منحها من فائض ديمه وقال جلت قدرته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) فأقسم بالقلم وما سطرته الأقلام وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام
وقال تقدست عظمته ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) فجعل الكتابة من وصف الكرام كما قد جاء فعلها عن جماعة من الأنبياء عليهم السلام وإنما منعها النبي معجزة قد بين تعالى سببها حيث ذكر إلحادهم بقوله ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها )
هذا وقد كان النبي في كثرة الكتاب راغبا فقد روي أنه كان له عليه أفضل الصلاة والسلام نيف وثلاثون كاتبا هم نخبة أصحابه وخلاصة

أترابه ومن ائتمنهم على أسرار الوحي والتنزيل وخاطب بألسنة أقلامهم ملوك الأرض فأجابوا بالإذعان على البعد والمدى الطويل وكتب الملوك أيضا إليه ابتداء وجوابا وكاتب أصحابه وكاتبوه فأحسن استماعا وأفحم خطابا وبذلك جرت سنة الخلفاء الراشدين فمن تلاهم وعلى نهجه مشت ملوك الإسلام ومن ضاهاهم
فالكتابة قانون السياسة ورتبتها غاية رتب الرياسة عندها تقف الإناقة وإليها تنتهي مناصب الدنيا بعد الخلافة والكتاب عيون الملوك المبصرة وآذانهم الواعية وألسنتهم الناطقة وعقولهم الحاوية بل محض الحق الذي لا تدخله الشكوك وإن الملوك إلى الكتاب أحوج من الكتاب إلى الملوك وناهيك بالكتابة شرفا وأعل بذلك رتبة وكفى أن صاحب السيف والعلم يزاحم الكاتب في قلمه ولا يزاحم الكاتب صاحب السيف والعلم في سيفه وعلمه
وعلى الجملة فهم الحاوون لكل وصف جميل وشأن نبيل الكرم شعارهم والحلم دثارهم والجود جادتهم والخير عادتهم والأدب مركبهم واللطف مذهبهم ولله القائل
( وشمول كأنما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتاب ) فلما انقضى قيله وبانت سبيله قلت لقد ذكرت قوما راقني وصفهم وشاقني لطفهم ودعاني طيب حديثهم وحسن أوصافهم وجميل نعوتهم إلى أن أحل بناديهم وأنزل بواديهم فأجعل حرفتهم كسبي وصنعتهم دأبي ليجتمع بالعلم شملي ويتصل بالاشتغال حبلي فأكون قد ظفرت بمنيتي وفزت ببغيتي فأي قبيل من الكتاب أردت وإلى أي نوع من الكتابة أشرت أكتابة الأموال أم كتابة الإنشاء والخطابة أم غيرهما من أنواع الكتابة فنظر إلي متبسما وأنشد مترنما
( قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدوا بها ماء المنيات )

( نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحد المشرفيات )
فقلت كأنك تريد كتابة الإنشاء دون سائر الكتابات وهي التي تقصدها بالتصريح وتشير إليها بالكنايات فقال وهل في أنواع الكتابة جملة نوع يساويها أو في سائر الصنائع على الإطلاق صنعة تضاهيها إن لها للقدح المعلي والجيد المحلى والذروة المنيفة والرتبة الشريفة كتابها أس الملك وعماده وأركان الملك وأطواده ولسان المملكة الناطق وسهمها المفوق الراشق ولله حبيب بن أوس الطائي حيث يقول
( ولضربة من كاتب ببنانه ... أمضى وأقطع من رقيق حسام )
( قوم إذا عزموا عداوة حاسد ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام )
قلمها يبلغ الأمل ويغني عن البيض والأسل به تصان المعاقل وتفرق الجحافل
( فلكم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
فقلت إن كتاب الأموال يزعمون أن لهم في ذلك المقام الأعلى والطريقة المثلى ويستشهدون لفضلها وتقدم أهلها بقول الإمام أبي محمد القاسم الحريري رحمه الله في مقاماته
إن صناعة الحساب مبنية على التحقيق وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق وقلم الحاسب ضابط وقلم المنشيء خابط وبين إتاوة توظيف المعاملات وتلاوة طوامير السجلات بون لا يدركه قياس ولا يعتوره التباس إذ الإتاوة تملأ الأكياس والتلاوة تفرغ الراس وخراج

الأوارج يغني الناظر واستخراج المدارج يعني الخاطر والحسبة حفظة الأموال وحملةن الأثقال والنقلة الأثبات والسفرة الثقات وأعلام الإنصاف والانتصاف والشهود المقانع في الاختلاف ومنهم المستوفي الذي هو يد السلطان وقطب الديوان وقسطاس الأعمال والمهيمن على العمال وإليه المآب في السلم والهرج وعليه المدار في الدخل والخرج وبه مناط الضر والنفع وفي يده الإعطاء والمنع ولولا قلم الحساب لأودت ثمرة الاكتساب ولا تصل التغابن إلى يوم الحساب ولكان نظام المعاملات محلولا وجرح الظلامات مطلولا وجيد التناصف مغلولا وسيف التظالم مسلولا على أن يراع الإنشاء متقول ويراع الحساب متأول والمحاسب مناقش والمنشيء أبو براقش
فوصف كتابة الأموال بأتم الصفات ونبه من شيم أهلها وشياتهم على أكرم الشيم وأحسن الشيات
فقال هذه الحجة معارضة بمثلها بل باطلة منن أصلها وأين ذلك من قوله في صدر كلامه

اعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع وصناعة الحساب أنفع وقلم المكاتبة خاطب وقلم المحاسبة حاطب وأساطير البلاغات تنسخ لتدرس ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس والمنشيء جهينة الأخبار وحقيبة الأسرار ونجي العظماء وكبير الندماء وقلمه لسان أسرار الدولة وفارس الجولة ولقمان الحكمة وترجمان الهمة وهو البشير والنذير والشفيع والسفير به تستخلص الصياصي وتملك النواصي ويقتاد العاصي ويستدنى القاصي وصاحبه بريء من التبعات آمن كيد السعاة مقرظ بين الجماعات غير معرض لنظم الجماعات
فهذه أرفع المراتب وأشرف المناقب التي لا يعتورها شين ولا يشوبها مين وصدر الكلام يقتضي الترجيح ويؤذن بالترشيح والرفع أبلغ في الوصف من النفع فقد يتنفع بالنزر اليسير ولا يرتفع إلا بالأمر الكبير على أنه لو اعتبر نفع كتابة الإنشاء لكان أبلغ وإقامة الدليل عليه أسوغ وأنى لكتاب الأموال من التأثير في فل الجيوش من غير قتال وفتح الحصون من غير نزال فهذه هي الخصيصى التي لا تساوي والمنقبة التي لا تناوى

( تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا )
فقلت الآن قد انقطعت الحجة وبانت المحجة فما الذي يحتاج كاتب الإنشاء إلى ممارسته فقال إذا قد تعلقت من الصنعة بأسبابها وأتيت البيوت من أبوابها
اعلم أن كاتب الإنشاء لا تظهر فصاحته وتبين بلاغته وتقوى يراعته وتجل براعته إلا بعد تحصيل جملة من العلوم ومعرفة الاصطلاح والإحاطة بالرسوم ثم أهم ما يبدأ بتحصيله ويعتمد عليه في جملة الأمر وتفصيله حفظ كتاب الله العزيز الذي هو معدن الفصاحة وعنصر البلاغة وإدامة قراءته وتكرير مثانيه مع العلم بتفسيره وتدبر معانيه حتى لا يزال دائرا على لسانه حاضرا في ذكره ولا يبرح معناه ممثلا فى قلبه مصورا في فكره ليكون مستحضرا له في الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها ويضطر إلى إقامة الأدلة القاطعة عليها فلله الحجة البالغة ولآياته الأجوبة الدامغة خصوصا السير والأحكام وما يتعلق بذلك من مهمات الدين وقواعد الإسلام وما اشتمل عليه كلام النبوة من الألفاظ البديعة التي أبكمت الفصحاء والمعاني الدقيقة التي أعيت البلغاء مع النظر في معانيها ومعرفة غريبها والاطلاع على ما للعلماء في ذلك من الأقوال بعيدها وقريبها لتكون أبدا حجته ظاهرة وأدلته قوية متظاهرة فإن الدليل إذا استند إلى النص انقطع النزاع وسلم المدعى ولزم والفصاحة والبلاغة غايتهما بعد كتاب الله تعالى في كلام من أوتي جوامع الكلم والعلم بالأحكام السلطانية وفروعها وخصوصها وشيوعها والتوغل في أشعار العرب والمولدين وأهل الصناعة من المحدثين وما ورد عن كل فريق منهم من الأمثال نثرا ونظما وما جرى بينهم من المحاورات والمناقضات حربا وسلما والتعويل من ذلك على الأشعار البديعة التي اختارها العلماء بها

فتمسكوا بأوتادها وتعلقوا بسببها والأمثال الغريبة التي انتقوها ودونوها ورووها واستيضاح القسمين واستكشاف غوامضهما واستظهار النوعين واستمطار عوارضهما والاطلاع على خطب البلغاء ورسائل الفصحاء وما وقع لهم في مخاطباتهم ومكاتباتهم والعلم بأيام العرب وحروبهم وما كان من الوقائع بين قبائلهم وشعوبهم والنظر في التواريخ وأخبار الدول الماضية والقرون الخالية وسير الملوك وأحوال الممالك ومعرفة مكايدهم في الحرب المنقذة من المهاوي والمنجية من المهالك مع سعة الباع في اللغة التي هي رأس ماله وأس مقاله وكنزه المعد للإنفاق ومعينه بل مغيثه وقت الضرورة على الإطلاق والنحو الذي هو ملح كلامه ومسك ختامه والتصريف الذي تعرف به أصول أبنية الكلمة وأحوالها وكيفية التصرف في أسمائها وأفعالها وعلوم المعاني والبيان والبديع التي هي حلية لسانه وآية بيانه ومعرفة أبوابها وفصولها وتحقيق فروعها وأصولها من الفصاحة وطرائقها والبلاغة ودقائقها واختيار المعاني وترتيبها ونظم الألفاظ وتركيبها والفصل والوصل ومواقعهما والتقديم والتأخير ومواضعهما ومواطن الحذف والإضمار وحكم الروابط والأخبار وغير ذلك من الحقيقة والمجاز والبسط والإيجاز والحل والعقد وتمييز الكلام جيدة من رديه بصحة النقد مع معرفة أنواع البديع وطرائقها والاطلاع على غوامض أسرارها وفرائد دقائقها
على أن آكد شيء يجب تحصيله قبل كل حاصل ويستوي في الاحتياج إلى معرفته المفضول من الكتاب والفاضل العلم بالخط وقوانينه من الهجاء والنقط والشكل والفرق بين الضاد والطاء المتخالفين في الصورة والشكل مع المعرفة بآلات الكتابة وصفاتها وتباين أنواعها واختلاف صفاتها
هذه أصوله التي يبنى عليها وقواعده التي يرجع إليها فإذا أحاط بهذه الفنون علما وأتقنها فهما غزرت عنده المواد واتضحت له الجواد

فأخذ في الاستعداد وسهل عليه الاستشهاد فقال عن علم وتصرف عن معرفة واستحسن ببرهان وانتقد بحجة وتخير بدليل وصاغ بترتيب وبنى على أركان واتسع في العبارة مجاله وفتح له من باب الأوصاف أقفاله وتلقى كل واقعة بما يماثلها وقابل كل قضية بما يشاكلها وعلم المجيد فنسج على منواله وظهر له القاصر فأعرض عن أقواله وحصل له القوة على فهم الخطاب وأنشأ الجواب بحسب الوقائع والأعراض على طبق المقاصد والأغراض ومتى أخل بشيء من ذلك فاتته الفضائل وعلقت به الرذائل وقلت بضاعته ونقصت صناعته وساءت آثاره وقبحت أخباره وخلط الغرر بالعرر ولم يميز بين الصدف والدرر فأخرج الصنعة عن أماكنها وطمس من الكتابة وجوه محاسنها فجر اللوم إلى نفسه وأمسى مهزأة لأبناء جنسه
ووراء ذلك علوم هي كالنافلة للكاتب والزيادة للراغب
منها ما تكمل به صناعته وتعظم به مكانته كعلم الكلام وأصول الفقه وسائر الأحكام والمنطق والجدل وأحوال الفرق والنحل والملل وعلم العروض والميزان المحكم وعلم القوافي وحل المترجم والحساب المفتوح وما يترتب عليه من المعاملة وما تستخرج به المجهولات من حساب الخطأين والدرهم والدينار والجبر والمقابلة وحساب الدور والوصايا والتخت والميل ما لأعماله على غيرها من المزايا والعلم بالفلاحة وأحوال المساحة وعلم عقود الأبنية والمناظر المحققة ومراكز الأثقال والمرايا المحرقة وعلم جر الأثقال الأبية والعلم بالآلات الحربية وعلم المواقيت والبنكامات والتقاويم

والزيجات وعلم تسطيح الكرة والتوصل بها إلى استخراج المطالب الفلكية وكيفية الأرصاد وأحكام النجوم والآلات الظلية وعلم الطب والبيطرة وأحوال سائر الحيوان وعلم البيزرة
ومنها ما تكمل به ذاته وتتم به أدواته كعلم التعبير وعلم الأخلاق وعلم السياسة وعلم تدبير المنزل وعلم الفراسة وغير ذلك من العلوم التي أضربنا عن ذكرها خشية الإطالة وأعرضنا عن إيرادها خوف الملالة فهذه علوم فضلة يعظم بعلمها أمره وفضيلة يرتفع بتحصيلها ذكره بل لا يستغني عن العلم برؤوس مسائلها وإشارات أربابها الآخذة من بحارها بأطراف سواحلها على أنه قد ترد عليه أوقات لا يسعه جهل ذلك فيها وتمر عليه أزمان يود لو تشترى فيشتريها
قلت قد بانت لي علومها فما رسومها قال إن أعباءها لباهظة حملا وإنها لكبيرة إلا ولكن سأحدث لك مما سألت ذكرا وأنبئك بما لم تحط به خبرا
فمن ذلك المعرفة بالولايات ولواحقها على اختلاف مقاصدها وتباين طرائقها من البيعات وأحكامها والعهود وأقسامها والتقاليد وصفاتها والتفاويض ومضاهاتها والمراسيم وأوضاعها والتواقيع

وأنواعها والخطب ومناسباتها والوصايا ومطابقاتها ثم العلم بالمناشير ومراتبها والمربعات الجيشية ومعايبها ومعرفة رتب المكاتبات وطبقاتها ومن يستحق من الرتب أدناها أو يستوجب الرفع إلى أعلى درجاتها من المكاتبات الصادرة عن الأبواب الشريفة الخليفتية والمكاتبات الواردة عليها وعلى أرباب المناصب من سائر الآل والعترة النبوية وملوك المسلمين والقانات وملوك الكفر وأرباب الديانات وأهل المملكة من النواب والكشاف والولاة والأمراء والوزراء والعربان والقضاة وسائر حملة الأقلام وأهل الصلاح وبقية الأعلام ونساء الملوك والخوندات ومكاتبات التجار وما عساه يطرأ من المكاتبات المستجدات وكتب البشرى بوفاء النيل والقدوم من الغزو والسفر واسترهاف العزائم والبطائق المحمولة على أجنحة الحمائم والملطفات التي يضطر إليها ويعول في الأمور الباطنة عليها وأوراق الجواز في الطرقات والإطلاقات في التسفير والمثالات المطلقات ومعرفة الأوصاف التي يكثر في المكاتبات تكرارها ويتسق في جيد المراسلات إيرادها وإصدارها كوصف الأنواء والكواكب والأفلاك العلية المراتب والآلات الملوكية الجليلة المقدار والسلاح وآلات الحصار والخيل المسومة والجوارح المعلمة وجليل الوحش وسباعه وطير الواجب وأتباعه والأمكنة والرياض والمياه والغياض وغير ذلك مما يعز ويغلو ويرتفع ويعلو وإخوانيات المكاتبات وطبقاتها وتميز كل طبقة منها عن أخواتها وما تشتمل عليه من الابتداء والجواب والتشوق والعتاب والترفق والاعتذار والشفاعة وطلب

الصفح والعفو عند الاقتدار والتهاني والتعازي وما يكتب مع الهدية ويجاب عنها من المجازي وغير المجازي
وغير ذلك من مقاصد المكاتبات التي يتعذر حصرها ويمتنع على المستقصي ذكرها ومعرفة الطغراة والطرة والعنوان والتعريف والعلامة في الكتب على أماكنها الفارقة بين انحطاط القدر والتشريف وتتريب الكتاب وطيه وختمه وتعمية ما في الكتب بضرب من الحيلة وإخفاء ذلك وكتمه ونسخ الأيمان التي يستحلف بها ويتمسك للوفاء بسببها كيمين البيعة العامة للموافق والمخالف وما يختص من ذلك بالنواب وأرباب الوظائف وأيمان أصحاب البدع والأهواء وأهل الملل والحكماء وكتابة الهدن والمواصفات والأمانات والدفن والمفاسخات ومعرفة الأسماء والكنى والألقاب وبيان المستندات ومحلها المصطلح عليه بين الكتاب وكتابة التاريخ وما أخذت به كل طائفة وثابت إليه تمسكا وما يفتتح به في الكتابة تيمنا ويختتم به تبركا ومعرفة قطع الورق من كامل البغدادي والشامي والثلثين والنصف والثلث والمنصوري والعادة ومن يستحق من هذه المقادير أعلاها أو يوقف به مع أدنى رتبها من غير زيادة والأقلام المناسبة لهذه الأقدار من الرقاع والتواقيع والثلث ومختصر الطومار والعلم بالأوضاع وكيفية الترتيب ومقادير البياض ومباعدة ما بين السطور والتقريب ومعرفة الرزاديق وقطانها والنواحي والبلدان وسكانها

والأمم وممالكها وطرق الأقاليم ومسالكها ومراكز البريد ومسافاتها وأبراج الحمام ومطاراتها وهجن الثلج والسفن المعدة لنقله والمحرقات المؤدية إلى اجتياح العدو وتفريق شمله والمناور وأماكنها والقصاد ومكامنها
هذه رسومها على سبيل الإجمال والإشارة إلى مصطلحاتها بأخصر الأقوال
واعلم أن حسن الخط من الكتابة واسطة عقدها وقوة الملكة على السجع والازدواج ملاك حلها وعقدها على أن خير الخط ما قري وأحسن السجع ما سلم من التكلف وبري وللكتاب في بحر الكتابة سبح طويل وتفنن يسفر عن كل وجه جميل
قلت فهل لهذه الرتبة الرئيسة والمنقبة النفيسة سمط يلمها أو سلك يضمها فقال سبحان الله إن بيتها لأشهر من قفانبك وأظهر للعيان من شامخات جبال النبك أيخفى من البدر ضوءه الباهر ونوره الزاهر إن ذلك لقاصر على آل فضل الله حقا ومنحصر في المقر

البدري صدقا فهو قطبها الذي تدور عليه وابن بجدتها التي ترجع في علومها ورسومها وسائر أمورها إليه فلو رآه الفاضل عبد الرحيم لم ير لنفسه فضلا ولا رضي لفيه مقالا أو عاينه عبد الحميد الكاتب لقال هكذا هكذا وإلا فلا لا أو عاصره قدامة لجلس قدامه أو أدركه ابن قتيبة لاتخذه في أدب الكاتب شيخه وإمامه أو بصر به الصابي لصبا إليه ومال أو قارن زمانه الحسن بن سهل بل الفضل أخوه لأقام ببابه وما زال أو جنح ابن العديم إلى مناوأته لأدركه العدم أو جرى الصاحب ابن عباد في مضمار فضله لكبا وزلت به القدم أو اطلع ابن مقلة على حسن خطه لقال هذا هو الجوهر الثمين أو نظر ابن هلال إلى بهجة رونقه لقال إن هذا لهو الفضل المبين إن تكلم نفث سحرا أو كتب خلت زهرا أو تخيلت درا
( يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب )
قد علا نسبا وفاق حسبا وورث الفضل لا عن كلالة واستحق الرتبة بنفسه وإن كانت له بالأصالة
( فحيهلا بالمكرمات وبالعلى ... وحيهلا بالفضل والسؤدد المحض )

فلما سمعت ذلك زال عني الإلباس وقلت ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس
ثم قلت أقسمت عليك بالذي تشير إليه إلا تدلني عليه فقال إنه صفي الملك ونجيه وكاتب سره ووليه والقريب منه إذا بعدوا والمخصوص بالمقام إذا طردوا والموجه إليه الخطاب إذا حضروا والمستأثر بالورود إذا صدروا والمتكلم بلسان الملك إذا سكتوا والناطق بفصل الخطاب إذا بهتوا والصائل بحسام لسانه وخطي قلمه والحامي الممالك بجيوش سطوره وجند كلمه والمشتت شمل العدو ببديع ألفاظه ودقيق حكمه والحائز قصب السبق بكرم فضله وفضل كرمه والمروي ظمأ الوافدين إليه بواكف وبله وفائض ديمه والمجلي غياهب الظلم بنير بدره ومضيء أنجمه
( فلما زال بدرا في سماء سيادة ... يشار إليه في الورى بالأنامل )
( بسيط مساعي المجد يركب نجدة ... من الشرف الأعلى وبذل الفواضل )
( إذا سال أعيى السامعين جوابه ... وإن قال لم يترك مقالا لقائل )
قلت حسبك قد دلني عليه عرفه وأرشدني إليه وصفه وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصميم وعرفت أصله الزاكي وفرعه الكريم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
ثم عرجت إلى حماه وملت إلى حيه كي أراه فإذا به قد برز تتلألأ أنواره وتشرق بالجلالة أقماره قد علته الهيبة وغشيته السكينة وحفته الرياسة وجللته السعادة وحكمت بعز منال قدره الأقدار كما اقتضته الإرادة

فلما رأيته استصغرت الرتبة مع شرفها الباذخ في جانبه وعلمت أن ما تقدم من المدح لم يوف حقه ولم يقم ببعض واجبه فغلبت هيبته إقدامي وحالت حرمته بيني وبين مرامي فقلت إنا لله قد فاتتني مآربي ورجعت من فوري إلى صاحبي فأظهرت له الأسف وقصصت عليه القصة قال لا تخف إنها لمنقبة عمرية وأثرة عدوية فالفاروق جده وبنو عدي قبيله وجنده
هذا وإنه لألطف وأرق من النسيم الساري والماء الجاري وأحيى من العذراء في خدرها وأشفق من الوالدة إذا ضمت ولدها إلى صدرها وأحلم من معن بن زائدة وإن كان أفصح من قس بن ساعدة
( يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم )
بالعزائم الفاروقية فتحت الأمصار وبالهيبة العمرية أقر المهاجرون والأنصار ويشهد لذلك قصة ابن عباس في العول وسكوته في خلافة عمر وصمته وجوابه بعد ذلك للقائل له هلا قلت ذلك في زمن عمر بقوله إنه كان مهيبا فهبته كيف وما سلك فجا إلا وسلك الشيطان فجا غير فجه وضاقت عليه الفجاج ولم تماثل هيبته بهيبة غيره وإن عظمت سطوته حتى قال الشعبي إن درة عمر لأهيب من سيف الحجاج وهو مع ذلك يلطف بالأرامل والمساكين ويعين الفقراء والمحتاجين فقد اتضحت لك القضية وتحققت أنها سمات إرثية

فعند ذلك ذهب روعي وقوي روعي وقلت فهل له أتباع من الكتاب فأتعلق بحبالهم وأتأسى بهم في أقوالهم وأفعالهم لكي أتسم بسمة الكتاب وأثبت في جملة غلمان الباب قال أجل رأس الدست الشريف صنوه الكريم وقسيمه في حسبه الصميم به شد عضده وقوي كتده فاجتمع الفضل له ولأخيه وورثا سر أبيهما والولد سر أبيه ثم كتاب ديوان الإنشاء جنده وأتباعه وأولياؤه وأشياعه وكتاب الدست منهم أرفع في المقام وكتاب الدرج أجدر بالكتابة وصنعة الكلام
قلت القسم الثاني أليق بمقداري وأقرب إلى أوطاري ثم ودعت صاحبي شاكرا له على صنيعه وحامدا له على أدبه وتركته ومضيت وكان ذلك آخر العهد به ثم عدت إليه هو فرفعت إليه قصتي وسألته الإسعاف بإجابة دعوتي فقابلها بالقبول وأنعم بالمسؤول وقررني في كتابة الدرج الشريف واكتفى بالعرف عن التعريف وطابق الخبر واستغنيت بالعيان عن الأثر ثم قمت عجلا وأنشدت مرتجلا
( إذا ما بنو الفاروق في المجد أعرقوا ... ونالوا بفضل الله ما لا كمثله )
( وجلت دجى الظلماء أنوار بدرهم ... وعمت بقاع الأرض أنواء فضله )
( تعالت ذرى العلياء فيهم وأنشدت ... أبى الفضل إلا أن يكون لمثله )
ثم تشرفت بتقبيل يده ومضيت إلى ما أنا بصدده قد منعتني هيبتي من اللياذ به والقرب إليه وصيرت عاطر مدحي وخالص أدعيتي وقفا عليه

وصرت إلى الديوان فوجدت قوما قد حفهم الحسن وزانهم الإحسان فقلت الحمد لله هؤلاء فتية ذاك الكهف بلا امتراء وأشبال ذاك الأسد من غير افتراء فجلست جلوس الغريب وأطرقت إطراق الكئيب إذ كنت في هذه الصنعة عصاميا لا عظاميا ومتهما لا تهاميا غير أني تعلقت منها بحبال القمر واستوقدت نارها من أصغر الشرر فتلقوني بالرحب وأحلوني من ديوانهم بالمكان الرحب وقابلوني بالجميل قبل المعرفة وعاملوني بالإحسان والنصفة
فلما رأيت ذلك منهم حمدت مسراي وشكرت مسعاي ودعوت لصاحبي أولا إذ حبب صنعتهم إلي وشاقني ودلني عليهم وساقني
ولما تحققت أني قد أثبت في ديوانه وكتبت من جملة غلمانه رجعت القهقرى عن طلب الكسب واستوى عندي المحل والخصب واكتفيت بنظري إليه عن الطعام والشراب وتيقنت أن نظرة منه إلي ترقيني إلى السحاب وتلوت بلسان الصدق على الملإ وهم يسمعون ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
وفيما تضمنته هذه المقامة من فضل الكتابة وشرف الكتاب مقنع من غيرها ومغن عن سواها والحمد لله والمنة
وهذه نسخة مقامة أنشأها أبو القاسم الخوارزمي في لقائه لأديب يعرف بالهيتي وانقطاعه في البحث وغلبة الخوارزمي له
أوردها ابن حمدون في تذكرته وهي
وصية لكل لبيب متيقظ أريب عالم أديب يكره مواقف السقطات

ويتحفظ من مصادف الغلطات ويتلطف من مخزيات الفرطات أن يدعي دون مقامه ويقتصر من تمامه ويغض من سهامه ويظهر بعض شكيمته ويساوم بأيسر قيمته ويستر كثيرا من بضاعته ويكتم دقيق صناعته ولا يبلغ دقيق غاية استطاعته وأن يعاشر الناس بصدق المناصحة وجميل المسامحة وأن لا يحمله الإعجال بم يحسنه على الازدراء بمن يستقرنه والافتراء على من يعترضه ويلسنه ليكون خبره أكثر من خبره ونظرته أروع من منظره ويكون أقرب من الاعتذار وأبعد من الخجلة والانكسار
( فليس الفتى من قال إني أنا الفتى ... ولكنه من قيل أنت كذلكا )
( وكم مدع ملكا بغير شهادة ... له خجلة إن قيل أن لست مالكا )
ولقد نصرت بالاتضاع على ذي نباهة وارتفاع وذلك أني أصعدت في بعض الأعوام مع جماعة من العوام بين تاجر وزائر إلى العزل والحائر حتى انتهينا إلى قرية شارعة آهلة زارعة وما منا إلا من أملته السمرية فاعترضته وأسقمته وأمرضته وفترته فقبضته وكثر منا الجؤار واستولى علينا الدوار فخرجنا منها خروج المسجون وقد تقوسنا تقوس العرجون فاسترحنا بالصعود من طول القعود
( كأننا الطير من الأقفاص ... ناجية من أحبل القناص )
( طيبة الأنفس بالخلاص ... منفضات الريش والنواصي )
فما استتمت الراحة ولا استقرت بنا الراحة حتى وقف علينا واقف وهتف بنا هاتف أيكم الخوارزمي فقالوا له ذلك الغلام المنفرد والشاب المستند فأقبل إلي وسلم علي وقال إن الناظر يستزيرك فليعجل إليه مصيرك فقمت معه يتقدمني وأتبعه حتى انتهى بي إلى جلة من

الرجال ذوي بهاء وجلال وزينة وجمال من أشراف الأمصار وأعيان ذوي الأخطار من أهل واسط وبغداد والبصرة والسواد
( ترى كل مرهوب العمامة لاثما ... على وجه بدر تحته قلب ضيغم )
فقام إلي ذو المعرفة لإكرامه وساعده الباقون على قيامه وأطال في سؤاله وسلامه وجذبوني إلى صدر المجلس فأبيت ولزمت ذناباه واحتبيت وأخذوا يستخبروني عن الحال والمعيشة والمال وداعية الارتجال وعن النية والمقصد والأهل والولد والجيران والبلد
( وما منهم إلا حفي مسائل ... وواصف أشواق ومثن بصالح )
( ومستشفع في أن أقيم لياليا ... أروح وأغدو عنده غير بارح )
ثم قال قائلهم هل لقيت عين الزمان وقلبه ومالك الفضل وربه وقليب الأدب وغربه إمام العراق وشمس الآفاق
فقلت ومن صاحب هذه الصفة المهولة والكناية المجهولة فقالوا أو ما سمعت بكامل هيت ذي الصوت والصيت
( ذاك الذي لو عاش دهرا إلى ... زمانه ذا وابن صوحان )
( وابن دريد وأبو حاتم ... وسيبويه وابن سعدان )
( وعامر الشعبي وابن العلا ... وابن كريز وابن صفوان )
( قالوا مجاب كلهم إنه ... سيدنا أو قال غلماني )
فقلت لهم قد قلدتم المنة وهيجتم الجنة إلى لقاء العالم المذكور والسيد المشهور وقد كانت الرياح تأتيني بنفحات هذا الطيب وهدر هذا

الخطيب فالآن لا أثر بعد عين سأصبح لأجله عن سرى القين اغتناما للفائدة والنعم الباردة ووجدانا للضالة الشاردة
( أين أمضي وما الذي أنا أبغي ... بعد إدراكي المنى والطلابا )
( فإذا ما وجدت عندكم العلم ... قريبا فما أريد الثوابا )
( اذهبوا أنتم فزوروا عليا ... لأزور الهنيتي والآدابا )
( لن أبالي إن قيل الخوارزمي ... أخطا فعله أو أصابا )
فقالت الجماعة بل أصبت ووجدت ما طلبت وقديما كنا ننشر أعلاقك ونتمنى اتفاقك ونتداول أوصافك ونحب مضافك ونكبر لديه ذكرك ونعظم لديه قدرك فيتحرك منك ساكنة وتتقلقل بك أماكنه ونسأل الله سبحانه أن يجمع بينك وبينه بمحضرنا وتلامح عينك عينه بمنظرنا ويلتفت غبارك بغباره ويمتزج تيارك بتياره ويختلط مضمارك بمضماره فيعرف منكما السابق والسكيت والسوذانق والكعيت ويتبين من الذي يحوي القصب فإنكما كما قال الشاعر
( هما رمحان خطيان كانا ... من السمر المثقفة الصعاد )
( تهال الأرض أن يطآ عليها ... بمثلهما نسالم أو نعادي )
فقال بعض الجماعة لقد تنكبتم الإنصاف وأخطأتم الاعتراف وأبعدتم القياس وأوقعتم الالتباس أين ابن ثلاثين إلى ابن ثمانين وابن اللبون من البازل الأمون والرمح الرازح من الجواد القارح والكودن المبروض من المجرب المروض

( وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس )
كم لديهم بطائح وسياخ وساكن صرائف وأكواخ بين يديه سوادية أنباط وعلوج أشراط ورعاع أخلاط وسفل سقاط في بلدة إن رأيت سورها وعبرت جسورها صحت واغربتاه وإن رأيت وجها غريبا ناديت واأبتاه لا أعرف غير النبطية كلاما ولا ألقى سوى والدي إماما في معشر ما عرفوا الترحال ولا ركبوا السروج والرحال ولا فارقوا الجدار والطلال
( أولئك معشر كبنات نعش ... خوالف لا تغور مع النجوم )
فأنى له بمصاولة رجل جوال رحال حلال بهيت وضع وبالكوفة أرضع وببغداد أثغر وبواسط أحفر وبالحجاز وتهامة فطامه وبمصر والمصر والمغرب كان احتلامه وبنجد والشام بقل عارضه وباليمن وعمان قويت نواهضه وبخراسان بلغ أشده وببخارى وسمرقند تناهى جده وبغزنة والهند شاب واكتهل ومن سيحون وجيحون عل ونهل وبميسان والبصرة عود وقرح وبالجبال جله وجلح فهو يعد المازني إمامه وابن جني غلامه والمتنبي من رواته والمعري حامل دواته و الصابي باري قلمه والصاحب رافع علمه وابن مقلة من ناقلي غاشيته وبني أبي حفصة بعض حاشيته وقد قرأ الكتب وتلاها وحفظ العلوم ورواها ودرس الآداب ووعاها ودون الدواوين وألفها وأنشأ

الحكم وصنفها وفصل المشكلات وشرحها وارتجل الخطب ونقحها فهو البحر المورود والإمام المقصود والعلم المصمود هذا بون ومرتقى شديد
( أتلقون بالأعزل الرامحا ... وبالأكشف الحاسر الدارعا )
( وبالكودن السابق السابحا ... وبالمنجل الصارم القاطعا )
فما استتم كلامه حتى أقبل فإذا نحن به قد طلع مهرولا وأقبل مستعجلا فرأيت رجلا أجلح أهتم أفلح أفطح أردح طويلا عنطنط يحكي ذئبا أمعط أجمع أحبط فتلقوه معظمين وله مفخمين فقصد في المجلس صدره وأسند إلى المخدة ظهره فما استقر به المكان حتى قيل له هذا فلان فقبض من أنفه ونظر إلي بشطر من طرفه وقال ببعض فيه هلموا ما كنتم فيه تعسا للشوهاء وجالبيها والقرعاء وحالبيها
( جاء زيد مجررا رسنه ... فحل لا يمنعه سننه )
( أحبه قومه على شوق ... إن القرنبى في عين أمها حسنة )
كان لنا شيخ بالأنبار كثير الأخبار قد بلغ من العمر أملاه ومن السن أعلاه قرأت عليه جميع الكتاب وعلم الأنساب ومسائل ابن السراج وديوان ابن العجاج وكتاب الإصلاح ومشروح الإيضاح وشعر الطرماح والعين للفرهودي والجمهرة للأزدي وأكثر من المصنفات المجهولات والمعروفات ينفخ في شقاشقه ويزبد في بقابقه

ويتعاظم في مخارقه وجعل القوم يقسمون بيننا الألحاظ ويحسبون الألفاظ وما منهم إلا من اغتاظ لسكوتي وكلامه وتأخري وإقدامه
ثم هذى الشيخ إذ وصف له رجل على الغيب ثم رآه فاحتقره وازدراه وأنشد متمثلا
( لعمر أبيك تسمع بالمعيدي ... بعيد الدار خير أن تراه )
فقال هذا المعيدي هو ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ابن مرة بن أد بن طابخة بن اليأس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
والمعيدي تصغير معدي وهو الذي قالت فيه نادبته
( أنعى الكريم النهشلي المصطفى ... أكرم من خامر أو تخندفا ) فقلت ما بعد هذا المقال وجه للاحتمال وما يجب لي بعد هذه المواقحة غير المكافحة ولم يبق لي بعد المغالبة من مراقبة
( ما علتي وأنا جلد نابل ... والقوس فيه وتر عنابل )
( تزل عن صفحته المعابل ... )
( ما علتي وأنا رجل جلد ... والقوس فيه وتر عرد )

( مثل ذراع البكر أو أشد ... )
فعطفت عليه عطف الثائر العاسف والتفت إليه التفات الطائر الخاطف فقلت له يا أخا هيت قد قلت ما شيت فأجب الآن إذا دعيت والزم مكانك وغض عنانك وقصر لسانك إن نادبة ضمرة خندفته لما وصفته وما سمعت في نسبتك إياه لخندف ذكرا فأبن عن ذلك عذرا فقال إن خندف هي امرأة اليأس بن مضر غلبت على بنيها فنسبوا إليها كطهية ومزينة وبلعدوية وعرينة والسلكة وجهينة وندبة وأذينة وكشبيب ابن البرصاء وابن الدعماء
فقلت له سئلت فأجبت وأصبت فأخبرني عن خندف هل هو اسم موضوع أو لقب مصنوع فوقف عند ذلك حماره وخمدت ناره وركد جريانه وسكن هذيانه وفتر غليانه وظهر حرانه وذل وانقمع وانطوى واجتمع فاضطره الحياء وألجأه الاستجداء إلى أن قال وهو يخفي لفظه ويطرق لحظه أظنه لقبا
فقلت هو كما ظننت فما معناه وما سببه وكيف كان موجبه فلم يجد بدا من أن يقول لا أدري فقال وقد أذقته مر الإماتة وأحس من القوم بتظاهر الشماتة
( وود بجدع الأنف لو أن صحبه ... تنادوا وقالوا في المناخ له نم )
ثم أقبلوا إلي وعكفوا علي بأوجه متهللة وألسنة متوسلة في شرح الحال والقيام بجواب السؤال فقلت هذا بديع عجيب أنا أسأل وأنا أجيب إن اليأس بن مضر تزوج ليلى بنت ثعلبة بن حلوان بن إلحاف بن قضاعة بن معد في بعض النسب فولد له منها عمرو وعامر وعمير ففقدتهم ذات يوم فألحى على ليلى باللوم فقال اخرجي

في أثرهم وأتيني بخبرهم فمعنت في طلبهم وعادت بهم فقالت ما زلت أخندف في اتباعهم حتى ظفرت بلقائهم فقال لها اليأس أنت خندف
والخندفة في الاتباع تقارب الخطو في إسراع وقال عمرو يا أبتي أنا أدركت الصيد فلويته فقال له أنت مدركه إذ حويته
وقال عامر أنا طبخته وشويته
فقال له أنت طابخة إذ شويته
فقال عمير أنا انقمعت في الخباء فقال له أنت قمعة للاختباء فلصقت بها وبهم هذه الألقاب وجرت بها إليهم الأنساب
فقال حينئذ هذا علم استفدته وفضل استزدته وقد قال الحكيم مذاكرة ذوي الألباب نماء في الآداب فقلت له متمثلا
( أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا )
ثم لم يحتبس إلا قليلا ولم يمسك طويلا حتى عاد إلى هديره وأخذ في تهذيره طمعا بأن يأخذ بالثار ويعود الفيض له في القمار فعدل عن العلوم النسبية وجال في ميدان العربية ولم يحس أن باعه فيها أقصر وطرفه دون حقائقها أحسر فقال حضرت يوما حلبة من حلبات العلوم وموسما من مواسم المنثور والمنظوم وقد غص بكل خطيب مصقع وحكم مقنع وعالم مصدع ومليء من كل عتيق صهال وفتيق صوال ومنطيق جوال فأخذوا في فنون المعارضات وصنوف المناقصات وسلكوا في معاني القريض كل طويل عريض حتى أخذ السائل منهم بالمخنق ببيت الفرزدق
( وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف ) الفرزدق
فكثر فيه الجدال وطال المقال وما منهم إلا من أجاد القياس

وأصاب القرطاس ووقع على الطريق وأتى بالتحقيق فلما رأيتهم في غمرتهم ساهون وفي ضلالتهم يعمهون فناديتهم إلي فسارعوا ومني فاسمعوا فإني أنا ابن بجدتها وعالم ما تحت جلدتها ثم إني أبديت لهم سراره وأبقيت ناره وحللت عقده ومخضت زبده وأطرت لبده وبجست حجره وأبثثتهم عجره وبجره فقالوا لله أبوك فإنك أسبقنا إلى غاية وأكشفنا لغيابة وأجلانا لشبهة وأضوأنا في بدهة وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم بعلم ما فيه ويطلع على خافيه
فأدركني الامتعاض وأخذني الانتفاض فأنشدته
( من ظن أن عقول الناس ناقصة ... وعقله زائد أزرى به الطمع )
وقلت له ادعيت فوق ما وعيت فأخبرني عن أول هذا البيت يا مجري الكميت وكيف ننشده وعض بالفتح أو وعض بالضم فقال كلاهما مروي فقلت نبتديء بالفعل ثم نعود إلى الاسم ياذا الإعجاب تهيأ للسائل في الجواب وأخبرني لم فتحت آخر الماضي فأسرع من غير التغاضي وقال لأنه مبني عليه لا يضاف سواه إليه
فقلت هذا جواب نعلمه ومن صبيان المكتب لا نعدمه وإنما ألتمس منك الفائدة فيها وأطلب كشف خافيها
فقال ما جاء عن أمة النحاة وسائر الرواة في هذا غير ما شرحته ولا زاد على ما أوضحته
فقلت دع عنك هذا وأخبرني عن هذا البناء ألعلة أم لغيرها فأقبل يتردد ويتزحزح ويتثاءب تارة ويتنحنح
فلما سد عليه من طريقه وحصل في مضيقه وغص بريقه قال لا أعلم
فقالت الجماعة أعذر إليك من ألقى سلاحه وغض جماحه ومن أدبر بعد إقباله عدل عن قتاله
( والحق أبلج لا يحد سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب )

والآن فقد فازت قداحك وبانت غررك وأوضاحك وأجدت النضال وأدركت الخصال فأوضح لنا عما سألت وأرشدنا إلى ما دللت لئلا يقال هذا بهت ومحال بحت فقلت حبا وكرامة اسمع أنت يا طغامة إن الفعل من فاعله كالولد من ناجله لا يخلو الفعل من علامة الفاعل في لفظ كل قائل وهي الفتحة من ماضيه وواقعه والزوائد في مستقبله ومضارعه
وبيان ذلك أن الفتحة لا تكون مع التاء والنون . . . . . . فتثبت الفتحة ثم تقول أخرجت وأخرجنا فتسقط ما ذكرنا وعلامتان لمعنى محال لا يوجبهما الحال فإن كانت النون التي مع الألف ضمير المفعول عادت الفتحة فتقول أخرجنا الأمير فهذا بين فصفقت الجماعة وسمحت وحسنت وبحبحت وجعل الأديب يضطرب اضطراب العصفور ويتقلب تقلب الصقور متيقنا أن أسده صار جرذا وبازيه عاد صردا ودوره انقلبت مخشلبا وزيتونه تحول عربا وقناه تغير قصبا وأن مستقيمة تعوج وجيده تبهرج وصحيحه تدحرج وجديده تكرج فقال منشدهم
( ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وتحت ثيابه أسد مزير )
( ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير )
( فما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير )
فأخذ الإبلاس وضاقت به الأنفاس وسكنت منه الحواس

ورفضه الناس وجعل ينكت الأرض ويواصل بكفه العض ويتشاءم بيومه ويعود على نفسه بلومه يمسح جبينه ويكثر أنينه فقمت فقامت معي الجماعة وتركته واستهانت به وفركته فلما بقي وحده تمنى لحده وأسبل دمعته وود أن الأرض بلعته
( وكان كمثل البو ما بين روم ... تلوذ بحقويه السراة الأكابر )
( فأصبح مثل الأجرب الجلد مفردا ... طريدا فما تدنو إليه الأباعر )
فقام فتبعني ووقف وودعني وأطال الاعتذار وأظهر التوبة والاستغفار وقال مثلك من ستر الخلل وأقام العثرة والزلل فقد اغتررت من سنك بالحداثة ومن أخلاقك بالدماثة فقلت كل ذلك مفهوم معلوم وأنت فيه معذور لا ملوم وما جرى بيننا فهو منسي غير مذكور ومطوي غير منشور ومخفي غير مشهور
( وجدال أهل العلم ليس بقادح ... ما بين غالبهم إلى المغلوب )
ثم سكت فما أعاد ونزلت وعاد وكان ذلك أول عهد به وآخره وباطن لقاء وظاهره وكل اجتماع وسائره

الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة العاشرة في الرسائل
وهي جمع رسالة والمراد فيها أمور يرتبها الكاتب من حكاية حال من عدو أو صيد أو مدح وتقريض أو مفاخرة بين شيئين أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى
وسميت رسائل من حيث إن الأديب المنشيء لها ربما كتب بها إلى غيره مخبرا فيها بصورة الحال مفتتحة بما تفتتح به المكاتبات ثم توسع فيها فافتتحت بالخطب وغيرها
ثم الرسائل على أصناف
الصنف الأول منها الرسائل الملوكية وهي على ضربين
الضرب الأول رسائل الغزو وهي أعظمها وأجلها
وهذه نسخة رسالة أنشأها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله بفتح الملك الظاهر لقيسارية من بلاد الروم واقتلاعها من أيدي

التتار واستيلائه على ملكها وجلوسه على تخت بني سلجوق ثم العود منها إلى مملكة الديار المصرية كتب بها إلى الصاحب بهاء الدين بن حنا وزير السلطان الملك الظاهر ومعرفة ما كان في تلك الغزوة وما اشتملت عليه حال تلك السفرة وهي
يقبل الأرض بساحات الأبواب الشريفة السيدية الصاحبية البهائية لا زالت ركائب السير تحث إلى أرجائها السير وصروف الزمن تسالم خدامها وتحل الغير بالغير ولا برحت موطن البر ومعدن الجود وبحر الكرم وعكاظ الخير وينهي بعد رفع أدعيته التي لا تزال من الإجابة محوطة ولا تبرح يداه بها مبسوطة أن العبيد من شأنهم إتحاف مواليهم بما يشاهدونه في سفراتهم من عجائب وإطلاعهم على ما يرونه في غزواتهم من غرائب ليقضوا بذلك حقوق الاسترقاق وتكون نعم ساداتهم قد أحسنت لأفواههم الاستنطاق ويتعرضوا لما عساه يعن من مراحمهم التي ما عندهم غيرها ينفد وما عندها باق
ولما كان المملوك قد انتظم في سلك الخدم والعبيد وأصبح كم له قصيد في مدح هذا البيت الشريف كل بيت منها بقصيد بيت القصيد وأن في مآثره الرسائل التي قد شاعت وضاعت نفحاتها في الوجود وكم رسالة غيرها في غيره ضاعت رأى أن يتحف الخواطر الشريفة من هذه الغزوة بلمح يختار منها من يؤلف ويسند إليها من يؤرخ أو يصنف وإنما قصد أن يتحف بها أبواب مولانا مع بسط القول واتساع كلماته لأن الله قد شرف المملوك بعبودية مولانا و ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته )
فإن كان المملوك قد طول في المطارحة فمولانا يتطول في المسامحة وإن قال أحد هذا هذى فما زال شرح الوقائع مطولا كذا وتالله ما ورخ مثلها في التواريخ

الأول ولعمري إن خيرا من سيرة ذلك البطال سيرة هذا البطل والأمر والأمر أعلى في قراءتها واستماعها والتمهل في حجلها حتى تسفر حسن نقابها وترفع مسدول قناعها . . . . . . . . .
قد أحاطت العلوم الشريفة بالعزمات الشريفة السلطانية وأنها استصحبت ذلك حتى تصفحت المهالك وسرنا لا يستقر بنا في شيء منها قرار ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار ولا نمر على مدينة إلا مرور الرياح على الخمائل في الأصائل والأبكار ولا نقيم إلا بمقدار ما يتزيد الزائر من الأهبة أو يتزود الطائر من النغبة نسبق وفد الريح من حيث ننتحي وتكاد مواطيء خيلنا بما تسحبه أذيال الصوافن تمتحي تحمل همنا الخيل العتاق ويكبو البرق خلفنا إذا حاول بنا اللحاق وكل يقول لسلطاننا نصره الله
( أين أزمعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام )
ومر لا يفعل السيف أفعاله ولا يسير في مهمه إلا عمه ولا جبل إلا طاله تسايره السواري والغوادي ولا ينفك الغيث من انسكاب في كل ناد ووادي
( فباشر وجها طالما باشر القنا ... وبل ثيابا طالما بلها الدم )
وكان مولانا السلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بادراع لامات حربهم وحمل آلات طعنهم وضربهم
( فجاز له حتى على الشمس حكمه ... وبان له حتى على البدر ميسم )
( يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت التريكة أرقم )
ورحلوا من حلب في يوم الخميس ثاني ذي القعدة جرائد على الأمر

المعهود قد خففوا كل شيء حتى البنود والعمود فسرنا في جبال نشتهي بها سلوك الأرض وأودية تهلك الأشواط فيها إذا ملئت الفروج من الركض نزور ديارا ما نحب ما مغناها ولا نعرف أقصاها من أدناها واستقبلنا الدرب فكان كما قال المتنبي
( رمى الدرب بالخيل العتاق إلى العدا ... وما علموا أن السهام خيول )
( شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرح من تحته وصهيل )
( فلما تجلى من دلوك وصنجة ... علت كل طود راية ورعيل )
( على طرق فيها على الطرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول )
ومررنا على مدينة دلوك وهي رسوم سكانها ضاحكة عن تبسم أزهارها وقهقهة غدرانها ذات بروج مشيدة وأركان موطدة ونيران تزاويق موقدة في عمد من كنائسها ممددة وسرنا منها إلى مرج الديباج نتعادى وذلك في ليلة ذات أندية وإن لم تكن من جمادى ظلماتها مدلهمة وطرقاتها قد أصبح أمرها علينا غمة لا يثبت تربها تحت قدم المار وكأنما سالكها يمشي على شفا جرف هار فبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنسبة إلى شدتها ليلة الملسوع وتتمنى العين بها هجعة هجوع وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفي الرفيق عن رفيقه وتشغله عن اقتفاء طريقه ينبري منها كل غصن يرسله المتقدم إلى وجه رفيقه كما يخرج السهم بقوة من منجنيقه حولها معاثر أحجار كأنها قبور بعثرت أو جبال تفطرت بينها مخائض لا بل مغائض كأنها بحار فجرت ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول وتعممت بالثلوج وعميت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل ( فهل إلى خروج من سبيل ) أو إلى سبيل من خروج تضيق مناهجها بمشي

الواحد وتلتف شجراتها التفاف الأكمام على الساعد ذات أوعار زلقة وصدور شرقة وأودية بالمزدحمين مختنقة بينما يقول منتحيها قد نلت السماء بسلم من هذه الشواهق إذا هو متضائل قد هبط في مأزق متضايق لم تزل هذه الجبال تأخذنا وترمينا وتلك المسارب تضمنا وتلك المشارب تظمينا
( تسود الشمس من بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم )
( ونترك الماء لا ينفك من سفر ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم )
حتى وصلنا الحدث الحمراء المسماة الآن بكينوك ومعناها المحرقة كان الملك قسطنطين والد صاحب سيس قد أخذها من أصحاب الروم وأحرقها وتملكها وعمرها بقصد الضرر لبلاد الإسلام والتجار فلما كان في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة سير مولانا السلطان إليها عسكر حلب فافتتحها بالسيف وقتل من كان بها من الرجال وسبى الحريم والذرية وخربت من ذلك الحين وما بقي بها من يكاد يبين فشاهدنا ما بنى سيف الدولة بن حمدان منها والقنا تقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم وقيل حقيقة هناك على قدر أهل العزم تأتي العزائم وهي التي عناها أبو الطيب بقوله
( غصب الدهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدهر خالا )
( فهي تمشي العروس اختيالا ... وتثنى على الزمان دلالا )

فبتنا بها وانثنينا وخيلنا مبثوثة فوق الأحيدب كما نثرت الدراهم فوق العروس وحوافرها على الوكور في أعلى القنن تدوس إذا زلقت تمشي على صلد الصفا كالأراقم على البطون وإن تكاسلت جر بعضها بعضا بالصهيل والحديث شجون وخضنا في أثناء ذلك مخائض سوافح كأنها لأجل عوم الخيل بها سمي كل منها لأجل ذلك سابح كلما قلنا هذا بحر قد قطعناه اعترض لنا جبل وكلما قلنا هذا جبل طلعناه بان لنا واد يستهان دون الهوي فيه نفاد الأجل لم نزل كذلك حتى وصلنا كوكصوا وهو النهر الأزرق وهو الذي رد الملك الكامل منه سنة الدربندات لما قصد التوجه إلى الروم وهذا النهر بين جبال هو مهوى رجامها ومثوى غمامها وملوى زمامها ومأوى قتامها فللوقت عبرناه ركضا وأعجلت الخيل فما درت هل خاضت لجة أم قطعت أرضا وسارت العساكر متسللة في تلك الجبال الشم ووقع السنابك يسمع من تلك الجبال الصم حتى وصلوا إلى أقجا دربند فما ثبتت يد فرس لمصافحة صفاها ولا نعله لمكافحة رحاها ولا رجله لمطارحة قواها وتمرنت الخيل على الأقتحام والازدحام في التطرق وتعودت ما تعودته الأوعال من التسرب والتسلق فصارت تنحط انحطاط الهيدب وترتفع

ارتفاع الكوكب وتسري سريان الخيال وتمكن حوافرها الجياد فتزول منها الجبال حتى حصل الخروج من منتهى أقجا دربند وهو خناق ذلك المأزق الذي كم أمسك على طارق وفم ذلك الدرب الذي كم عضت أنيابه على مساوق ومسابق وذلك في يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة وبات السلطان والناس في وطأة هناك وسمحت السحب بما شاءت من برد وبرد وجاءت الرياح بما آلمت الجلد واستنفدت الجلد وانتشرت العساكر في وطأة هناك حتى ملأت المفاوز ملكت الطرق على المار وأخذتها على الجائز وقدم مولانا السلطان الأمير شمس الدين سنقرا الأشقر في الجاليش في جماعة من العساكر فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار مقدمهم كراي فانهزموا من بين يديه وأخذ منهم من قدم للسيف السلطاني فأكل نهمته وأسأر واستمرت تلك سنة فيمن يؤخذ من التتار ويؤسر وذلك في يوم الخميس تاسع ذي القعدة
وبات التتار على أجمل ترتيب لأنفسهم وأجمل منظر وبات المسلمون على أتم تيقظ وأعظم حذر ولم يتحققوا قدوم مولانا السلطان في جيوش الإسلام ولا أنه حضر بنفسه النفيسة ليقوم في نصرة دين الله هذا المقام
فلما كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر بأن القوم قد قربوا وأنهم ثابوا ووثبوا
( وقد تمنوا غداة الدرب في لجب ... أن يبصروه فلما أبصروه عموا )
وشرع مولانا السلطان فوصى جنوده بالتثبت عند المصدمة

والاجتماع عند المصادمة ورتب جيش الإسلام اللجب على ما يجب وأراهم من نور رأيه ما لا على بصر ولا بصيرة يحتجب فطلعت العساكر مشرفة على صخرات هوني من بلد أبلستين وكان العدو ليلته تلك بائتا على نهر زمان وهو أصل نهر جهان وهو نهر جيحان المذكور في الحديث النبوي وإنما الأرمن لا تنطق بالهاء
فلما أقبل الناس من علو الجبل شاهدوا المغل قد ترتبوا أحد عشر طلبا كل طلب يزيد على ألف فارس حقيقة وعزلوا عسكر الروم عنهم خيفة منهم وجعلوا عسكر الكرج طلبا واحدا بمفرده ولما شاهدوا سناجق مولانا السلطان المنصورة ومن حولها من المماليك الظاهرية وعليهم الخود الصفر المقترحة وكأنها في شعاع الشمس نيران مقتدحة رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلوا وسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) وعلى الموت يتراسلون فانصبت الخيل إليهم من أعلى الجبل انصباب السيل وبطلت الحيلة منهم ونفي الحيل فشمروا عن السواعد ووقفوا وقفة رجل واحد وهؤلاء المغل كان طاغية التتار آبغا أهلكه الله قد اختارهم من كل ألف مائة ومن كل مائة عشرة ومن كل عشرة واحدا لأجل هذا اليوم وعرفهم بسيما الشجاعة وعرضهم لهذا السوم وكان فيهم من المقدمين الكبار تدلون ومعنى هذا الاسم النفاذ يعني أنه ما كان في عسكر قط إلا نفذة والمقدم الآخر

نفوا وإليه أمر بلاد الروم وعساكر المغل بها وأرختوا أخو تدلون وبهادر بخشى ومن مقدمي الألوف دنرك وصهر آبغا وقرالق وخواصه
( بيض العوارض طعانون من لحقوا ... من الفوارس شلالون للنعم )
( قد بلغوا بفناهم فوق طاقته ... وليست يبلغ ما فيهم من الهمم )
( في الجاهلية إلا أن أنفسهم ... من طيبهن به في الأشهر الحرم )
فعندما شاهدوا نجد الملائكة وتحققوا أن نفوسهم هالكة أخلدت فرقة منهم إلى الأرض فقاتلت وعاجت المنايا على نفوسهم وعاجلت وباعت نفوس المسلمين لهم وتاجرت وكسرت وما كاسرت وجاء الموت للعدو من كل مكان وأصبح ما هناك منهم وقد هان وللوقت خذلوا وجدلوا ولبطون السباع وحواصل الطيور حصلوا وصاروا مع عدم ذكر الله بأفواههم وقلوبهم يقاتلون قياما وقعودا وعلى جنوبهم فكم من شجاع ألصق ظهره إلى ظهر صاحبه وحامى وناضل ورامى وكم فيهم من شهم ما سلم قوسه حتى لم يبق في كنانته سهم وذي سن طارح به فما طرحه حتى تثلم وذي سيف حادثه بالصقال فما جلى محادثة حتى تكلم وأبانوا عن نفوس في الحرب أبية وقلوب كافرة ونخوة عربية واشتدت فرقة من العدو من جهة الميسرة معرجين على السناجق الشريفة من خلفها منقلبين بصفوفهم على صفها
( فلزهم الطراد إلى قتال ... أحد سلاحهم فيه الفرار )
فثاب مولانا إليهم ووثب عليهم فضحى كل منهم بكل أشمط وأفرى الأجساد فأفرط ولحق مولانا السلطان منهم من قصد التحصين

بالجبال فأخذهم الأخذة الرابية ( وقتلهم فهل ترى لهم من باقية )
( وما الفرار إلى الأجبال من أسد ... تمشي النعام به في معقل الوعل )
وانهزمت جماعة يسيرة طمع فيها من العوام من كان لا يدفع عن نفسه وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من حياة غده في أمسه
( مضوا متسابقي الأعضاء فيه ... لأرؤسهم بأرجلهم عثار )
( إذا فاتوا الرماح تناولتهم ... بأرماح من العطش القفار )
وقصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل ذوو بأس شديد فقاتلهم المسلمون حتى ضجر الحديد من الحديد وكان مولانا الصاحب زين الدين حرس الله جلاله لما دعيت نزال أول مسابق وأسرع راشق وأقرب مطاعن وأعظم معاون فذكر من شاهده أنه أحسن في معركته وأجمل في كرته وأجاد في طعنته وزأر زئير الليث وسابق حتى لم يبق حيث ووقف دريئة للرماح من عن يمينه وشماله وخضب بما تحدر من دم عدوه أكناف سرجه وعنان لجامه وكانت عليه من الله باقية واقية في تقدمه وإقدامه وشاهدناه وقد خرج من وسط المعركة وهو شاكي السلاح وقد أخذ نصيبه ونصيب فرسه من سالم الجراح وأراد الله أن يخليه من إسالة دم يعظم الله الأجر بسائله فجعله والمنة لله من بعض أطراف أنامله
ولقد ذكر الأمير عز الدين أيدمر الدوادار الظاهري قال لقيتني وقد تكسر رمحي وعاد لولا لطف الله إلى الخسارة ربحي فأعطاني المولى الصاحب زين الدين رمحه فإذا فيه نصول وبسنه من قراع الدارعين فلول ورأيت دبوس المولى الصاحب زين الدين وقد تثلم وكان الخوف

عليه في ذلك اليوم شديدا ولكن الله سلم ولقد بلغ مولانا السلطان خبره فسأله فما أجابه بغير أن قال سيف مولانا السلطان هو الذي سفك وعزمه هو الذي فتك
( ومن يك محفوظا من الله فلتكن ... سلامته ممن يحاذر هكذا )
( ويخرج من بين الصفوف مسلما ... ولا من يبديه ولا ناله أذى )
وأما العدو فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصواهل والصوافن وما يصولون به من سيوف وقسي وكنائن وما يلبسونه من خود ودروع وجواشن وما يتمولونه من جميع أصناف المعادن فغنم ما هنالك وتسلم من استشهد من المسلمين رضوان وتسلم من قتل من الكفار مالك
وكان الذين استشهدوا في هذه الوقعة من المقدمين شرف الدين قيران العلائي أحد مقدمي الحلقة وعز الدين أخو الأمير جمال الدين المحمدي ومن المماليك السلطانية شرف الدين فلمحق الجاشنكير الظاهري وأيبك الشقيفي الذي كان وزير الشقيف
وكان المجروحون عدة لطيفة لم يعلم عددها لقلتها بل لخفتها وأورث الله المسلمين منازلهم فنزلوها ووطاقاتهم وخركاواتهم فتمولوها وكان مولانا السلطان وكان أعداؤه كما قيل
( فمساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب )

وأصبح الأعداء لا ترى إلا أشلاؤهم ولا تبصر إلا أعياؤهم كأنما جزر أجسادهم جزائر يتخللها من الدماء السيل وكأنما رؤوسهم المجموعة لدى الدهليز المنصور أكر تلعب بها صوالجة من الأيدي والأرجل من الخيل
( ألقت إلينا دماء المغل طاعتها ... فلو دعونا بلا حرب أجاب دم )
فكم شاهد مولانا السلطان منهم مهيب الهامة حسن الوسامة تتفرس في جهامة وجهه الفخامة قد فض الرمح فاه فقرع السن على الحقيقة ندامة
( ووجوها أخافها منك وجه ... تركت حسنها له والجمالا ) وكما قيل
( لا رحم الله أرؤسا لهم ... أطرن عن هامهن أقحافا )
وأقبل بعض الأحياء من الأسارى على الأموات يتعارفون ولأخبار شجاعتهم يتواصفون فكم من قائل هذا فلان وهذا فلان وهذا كان وهذا كان وهذا كان يحدث نفسه بأنه يهزم الألوف وهذا يقرر في ذهنه أنه لا تقف بين يديه الصفوف وكثرت الأسارى من المغل فاختار السلطان من كبرائهم البعض وعمل فيهم بقول الله عز و جل ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض )
فجعلهم للسيوف طعمة وأحضرت الأسارى من الروم فترقب مولانا السلطان فيهم الإل والذمة
( وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا )

وكان في جملة الأسارى الروميين مهذب الدين بكلارنكي يعني أمير الأمراء ولد البرواناه ونور الدين جاجا أكبر الأمراء وجماعة كثيرة من أمراء الروم ومقدمي عساكره فكان البرواناه أحق بقول أبي الطيب
( نجوت بإحدى مقلتيك جريحة ... وخلفت إحدى مهجتيك تسيل )
( أتسلم للخطية ابنك هاربا ... ويسكن في الدنيا إليك خليل )
لأنه شمر الذيل وامتطى هربا أشهب الصبح وأحمر الشفق وأصفر الأصيل وأدهم الليل وثم يخبر من خلفه بما تم وهم قلبه رفيقه حين هم
( فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل )
ودخل البرواناه مدينة قيصرية في تاريخ يوم الأحد ثاني عشر الشهر

المذكور فأفهم غياث الدين سلطانها والصاحب فخر الدين وزيرها والأتابك مجد الدين والأمير جلال الدين المستوفي والأمير بدر الدين ميكائيل النائب والأمير فلان الدين الطغرائي وهو ولد عز الدين أخي البرواناه وهو الذي يكتب طرر المناشير أن المسلمين أسروا بعض المغل وبقيتهم منهزمون ويخشى منهم دخول قيصرية وإتلاف ما يكون بها في طرائقهم حنقا على الإسلام فأخذهم جرائد وأخذ زوجته كرجي خاتون بنت غياث الدين صاحب أرزن الروم فاستصحبت معها أربعمائة جارية لها وكان لها مالا كان لصاحب الروم من النجاتي والخيام والآلات وتوجهوا كلهم إلى خربة توقات وهو مكان حصين مسيرة أربعة أيام من قيصرية ولما خرجوا من قيصرية حملهم على سرعة الهرب وأنذرهم عذابا قد اقترب وهول على بقية أمراء الروم فاتبعوه إلا قليلا منهم وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتى ولا مخبر يخبر عنهم
وكان مولانا السلطان قد جرد الأمير شمس الدين سنقرا الأشقر في عدد مستظهرا به لإدراك من فات من المغل والتوجه لقيسارية وأمن أهلها فمروا في طريقهم بفرقة من التتار معها بيوتهم فأخذ منها جانبا ودخل عليهم الليل فمر كل في سربه ذاهلا ذاهبا
ورحل مولانا السلطان في بكرة السبت حادي عشر ذي القعدة من مكان المعركة فنزل

قريب القرية المعروفة بريان وهذه القرية قريب الكهف والرقيم حقيقة لا ما يقال إنه قريب حسبان من بلاد البلقاء وقريبا منه صلد من الصفا عليه كتابة بالرومية أو غيرها من الخط القديم وأما القرية المذكورة المسماة بريان فإن بيوتها بنيت حول سن جبل قائم كالهرم إلا أنه ملموم وعمرت البيوت في سفحه حوله بيتا فوق بيت فبدت كأنها مجرة النجوم وما من بيت منها إلا وبه مقاعد ذوات درابزينات منجورة ورواشن قد بدت في أكمل صورة يختمها من أعلاها أحسن بنيان ويعلوها من رأسها منزل مسنم الرأس كما يعلو الصعدة السنان وتطوف بهذه القرية جبال كأنها أسوار بل سوار وكأنها في وسطها إناء فيه جذوة نار ويتفرع منها أنهار هي في تلك الأودية كأنها بهبوطها كثيب قد انهار ذوات قناطر لا تسع غير راكب ومضايق لا يلفى عبرها لناكب قدر الله أن العساكر خلصت منها ولكن بعد مقاساة الجهد وخرجت وقد رق لها قلب كل وهد ونزلنا قريبا منها حتى تخلص من تخلص وحضر من كان في المضايق قد تربص وقال كل الأرض من حصحص
ورحلنا من هناك في يوم الأحد ثاني عشر شهر ذي القعدة وكانت السماء قد حيت الأرض بتيجان أمطارها وأغرقت الهوام في أحجارها والفتخ في أوكارها وأصبحت الأرض لا تتماسك حتى ولا لمرور الأراقم والجبال لا تتماسك أن تكون للعصم عواصم تضع بها من الدواب كل ذات حمل وتزلق في صقيلها أرجل النمل وسرنا على هذه الحالة نهارنا كله إلى

قريب الغروب وقطعناه بتسلمنا أيدي الدروب من أيدي الدؤوب ونزلنا عشاء في منتقع أرض تطوف بها جبال شاهقة ومياه دافقة تعرف قاعة تلك الأرض بوطأة قشلا وسار من أعمال أصاروس العتيق ويقرب من تلك الجهة معدن الفضة
وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت ولم نقض الشمل الشتيت وإذا باالصادح قد صدح والنذير قد سنح رافعا عقيرته بأن فوجا من التتار في فجوة هنالك قد استتروا وفي نجوة لغرة قد انتظروا فركب مولانا السلطان وركب الناس في السلاح وعزموا على المطار فعاقهم تتابع الغيث وكيف يطير مبلول الجناح ثم لطف وعاد مولانا السلطان وهو يقول للناس لا بأس فنمنا نومة السليم وصدرت أفكارنا شاغرة في كل واد تهيم وأصبحنا فسلكنا جبالا لا يحيط بها الوصف وتنبسط عذراء الطرف فيها حين يكبو فيها الطرف ننحط منها إلى جنادل يضعف عن الهوي إليها قوي الأجادل بينا نقول قد أحسن الله لها نفادا ومنها نفاذا وإذا بعد الأودية أودية وبعد الجبال جبال نشكر عند ذاك هذه وذاك عند هذا ومررنا على قرية أوتراك وتحتها قناطر وخان من حجر منحوت ثم خان آخر للسبيل على رأس رابية هناك تعرف باشيبدي قريبا من حصن سمندو التي عرض بها أبو الطيب في قوله
( فإن يقدم فقد زرنا سمندو ... وإن يحجم فموعده الخليج )
وكان السلطان قد سير إليها خواصه بكتاب إلى نائبها فقبله

وقبله وأذعن لتسليم حصنها المنيع وللنزل لأمر السلطان عنها إن استنزله فشكر مولانا السلطان له تلك الإجابة ووفاه من الشكر حسابه
وكذلك والي قلعة دوندا ووالي دوالوا فكلهم أجابوا وأطاعوا ولكلمة الإذعان قالوا ونزلنا في وطأة قرية تعرف بحمرها وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت والخيل قد باتت ليالي بلا عليق فما استفادت وشاركتها خيول الكسوب في عليقها وما ساعدتها في طروقها ولا في طريقها فضعفت عن حمل نفوسها فما ظنك براكبيها وكاد الفارط لولا لطف الله عز و جل أن يفرط فيها فصادفنا في هذه الليلة بعض أتبان أمسكت أرماقها وأحسنت إرفادها وإرفاقها
وأصبحنا في يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة راحلين في جبال كأنها تلك الأول وهابطين في أودية يتمنى سالكها من شدة مضايقها أن لو عاد إلى ترقي أعلى جبل وما زلنا كذلك حتى أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي يدل على شرف همة بانيه وطلب ثواب الله فيه وذلك أنه من أكبر الأبنية سعة وارتفاعها وأحسنها شكلا وأوضاعها كله مبني بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنه رخام ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش لا يتمكن أن يرسم مثلها بالأقلام وله خارج بابه مثل الربض ببابين بأسوار حصينة مبلط الأرض فيه حوانيت
وأبواب الخان حديد من أحسن ما يمكن استعماله وداخله أواوين صيفية وأمكنة شتوية وإصطبلات على هذه الصورة لا يحسن الإنسان أن يعبر عنها بكيف وما منها إلا ما يجده الإنسان رحلة للشتاء والصيف وفيه الحمام والبيمارستان والأدوية والفرش والأواني والضيافة لكل طارق على قدره حمل لمولانا السلطان من ضيافته

لما مر عليه وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه وعليه أوقاف عظيمة وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد وله دواوين وكتاب ومباشرون يتولون استخراج أمواله والإنفاق فيه ولم يتعرض التتار إلى إبطال شيء من رسومه وأبقوه على عوائد تكريمه وأهل الروم يبالغون في تبجيل بانيه رحمه الله وتعظيمه ونزلنا تلك الليلة قريب قرية تقرب من قيصرية من حقوق وادي صلعومة شرقي الجبل المعروف بعسيب وفيه قبر امريء القيس الشاعر وهو الذي يقول فيه
( أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب )
( أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب )
وهذا الجبل يعلوه جبل أرجاس وهو الذي يضرب الروم الأمثال بتساميه وتتضاءل الجبال في جميع الدنيا لتعاليه لا تسحب ذيول السحائب إلا دون سفحه ولا يعرف من ثلوجه شتاء وصيفا ومن مثال الأبخرة المتصعدة منه عشاؤه من صبحه
ولما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة وهو يوم شرف الزهرة ركبت العساكر المنصورة مترتبة وملأت الفضاء متسربة وركب مولانا السلطان في زمرته وذوي أمره وإمرته يختال جواده في أفسح ميدان ويصيح به فرحا ومرحا كأنه نشوان درى أنه سلطان
( تظل ملوك الأرض خاشعة له ... تفارقه هلكى وتلقاه سجدا )
وخرج أهل قيصرية وأكابرها وعلماؤها وزهادها وتجارها ورعاياها ونساؤها وصغارها فأكرم مولانا السلطان ممشاهم وشكر مسعاهم وتلقى قضاتهم وعلماءهم ركبانا وحادثهم إنسانا فإنسانا وحصلت لجماعة من

الفقراء والناس حالات وجد مطربة وصدحات ذكر معجبة
وكان دهليز السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه وشعار سلطنة الروم قد بني جميع ذلك في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو وترجل الناس على أختلاف طبقاتهم في الركاب الشريف من ملك وأمة ومأمور وأمير وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير
( رجا الروم من ترجى النوافل كلها ... لديه ولا ترجى لديه الطوائل )
ونزل مولانا السلطان في تلك المضارب المعدة لكرم الوفادة وضربت نوبة سلجوق على باب دهليزه على العادة وأذن مولانا السلطان للناس في التقرب إلى شريف فسطاطه وشملهم بنظره واحتياطه وحضر أصحاب الملاهي فما ظفروا بغير النواهي وقيل لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا واذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقتبسوا فهذه الهناة لا تنفق هنا وما هذا موضع الغناء بل هذا موضع الغنى وشرع مولانا السلطان في إنفاق اللهى وعين لكل جهة شخصا وقال أنت لها وحكم وحكم وعلم وعلم واعتمد على الأمير سيف الدين جاليش في النيابة وأعطى كلا بيمينه كتابه وكتب إلا أولاد قرمان أمراء التركمان وهم ألوف وما فيهم للتتار ألوف وأكد عليهم في الحضور وأقام الحجة على من انتزح بالاستعطاف وتأمين من خاف فما خرج كبيرهم عن المخاتلة ولا زعيمهم عن المطاولة فلما علم مولانا السلطان أنهم لا يفلحون ولغير التتار لا يصلحون وأنهم إن أصبحوا على الطاعة لا يمسون وإن أمسوا لا يصبحون عاد عن تلك الوعود واختار أن ما بدأ إليه يعود وأن يبعث نفسه إلى ما بعثه الله إليه من المقام المحمود فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي

القعدة مستقبلا من الله كل الخير ونصب جتر بني سلجوق على رأسه فشاهد الناس منه صاحب القبة والسبع وصاحب القبة والطير ودخل قيصرية في بكرة هذا اليوم وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله وتخت بني سلجوق وقد هييء لحلوله وهي دار تزهو ومنازل من يتعبد أو منازه من يلهو أنيقة المبتنى تحف بها بساتين عذبة الجنى جدرانها بأحسن أصناف القاشاني مصفحة وبأجمل نقوشه مصرحة فجلس مولانا السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت ونال التخت بحلوله أسعد البخت
( وما كان هذا التخت من حين نصبه ... لغير المليك الظاهر الندب يصلح )
( مليك على اسم الله ما فتحت له ... صوارمه البيض المواضي وتفتح )
( أتته وفود الروم والكل قائل ... رأيناك تعفو عن كثير وتصفح )
( فأوسعهم حلما وجاد لهم ندى ... وأمسوا على من وأمن وأصبحوا )
( ولو أنهم لم يجنحوا لمنكب ... عن الحق والنهج القويم لأفلحوا )
( ولكنهم أعطوا يدا فوقها يد ... تصافح كفا زندها النار يقدح )
وأقبل الناس على مولانا السلطان يهنؤونه وعلى كفه الشريف يقبلونه وبعد ذلك حضرت القضاة والفقهاء والعلماء والصوفية وذوو المراتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كل جمعة ووقف أمير المحفل وهو كبير المقدار عندهم له وسامة وفخامة وله أكبر كم وأوسع عمامة وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار وانتصب قائما بين يدي مولانا

السلطان منتظرا ما إليه به يشار وشرع القراء يقرأون جميعا وفرادى بأحسن تلحين وأجمل تحسين فأتت أصواتهم بكل عجيب وعدلوا عن الترتيل إلى الترتيب
ولما فرغوا شرع أمير المحفل صارخا وبكور فمه نافخا فأنشد وأورد بالفارسية ما يعجب مدلوله ويهول مقوله وأطال وما أطاب واستصوب من يعرف مقاله قوله والله أعلم بالصواب
ولما انقضى ذلك مد سماط ليس يناسب همم الملوك فأكل الناس منه للشرف لا للسرف ثم عاد كل منهم إلى مقامه فوقف وقام مولانا السلطان إلى مكان الاستراحة فأقام ساعة أو ساعتين ثم خرج إلى مخيمه قرير العين وكان بدار الملك حرم السلجوقية قد أصبحوا لا ترى إلا مسكنتهم ومساكنهم قد ثبت بهم مواطئهم ومواطنهم على أبوابهم أسمال ستور من حرير ومشايخ خدام يستحق كل منهم لكبر سنه أن يدعى بالكبير عليهم ذلة الانكسار وأماير الأفتقار فجبرهم مولانا السلطان وآنسهم وأحسن إليهم وتوجه من توجه إلى صلاة الجمعة في قيصرية وبها سبع جمع تقام وبها خطباء إن هم إلا كالأنعام فصلينا في جامع السلطان وهو جامع علي يدل على احتفال ملوكها ببيوت عباداتهم ورأينا فيه من دلائل الخير ما يقضي بحسن إراداتهم فحضر أهل المدينة وأكابرها وجلسوا حلقا لا صفوفا وأجروا من البحث بالعجمية صنوفا واجتمعت جماعة من حفظة الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية وهي قراءة بعيدة عن الدراية بل إنها تبرزها أصوات مترنمة وألحان لتفريق الكلمات مقسمة ينطقون بالحروف كيف اتفقت ولا يتوقفون على مخارج الحروف أنها بها نطقت أو لا نطقت
فلما آن وقت الأذان قام صبي عليه قباء من وسط جماعة عليهم أقبية قعود على دكة المؤذنين فابتدأ بالتكبير أولا وثانيا بمفرده من غير إعانة ولا

إبانة
ولما تشهد ساعدوه جميعهم بأصوات محمحمة ملعلعة ونغمات متنوعة يمسكون له النغم بأحسن تلحين ويترنمون بالأصوات إلى آخر التأذين وفرغ الأذان وكلهم قعود ما منهم أحد غير الصبي وقف وما منا أحد لكلمة من الأذان عرف ولما فرغ الأذان طلع شيخ كبير السن يعرف بأمير محفل المنبر وشرع في دعاء لا نعرفه وادعاء لا نألفه كأنه مخاصم أو وكيل شرع أحضره لمشادة خصمه محاكم بين يدي حاكم وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب ودعا لمولانا السلطان بغير مشاركة ودعا الناس بما تلقته من الأفواه الملائكة وانقضت الجمعة على هذه الصورة المسطورة وضربت السكة باسم مولانا السلطان وأحضرت الدراهم إليه في هذا اليوم فشاهدها فرأى أوجهها باسمة باسمه الميمون وأقرت الألسنة بهذه النعمة وقرت العيون وشاهدت بقيسارية مدارس وخوانق وربطا تدل على اهتمام بانيها ورغبتهم في العلوم الشرعية والدينية مشيدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة وأراضيها بأجمل تلك مفروشة وأواوينها وصففها مؤزرة بالقاشاني الأجمل صورة وجميعها مفروشة بالبسط الكرجية والعالية وفيها المياه الجارية ولها الشبابيك على البساتين الحسنة وسوق قيصرية طائف بها من حولها وليس داخل المدينة دكان ولا سوق
والوزير في بلاد الروم جميعها يعرف بالصاحب فخر الدين خواجا علي ولا يحسن الكتابة ولا الخط وخلعته من مماليكه خاصة مائتا مملوك ودخله في كل يوم غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولاده وخواصه سبعة آلاف درهم سلطانية
ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئا لا يكون لأكبر الملوك وله بر ومعروف وهو بالخير موصوف
( والمسمون بالوزير كثير ... والوزير الذي لنا المأمول )
( وعلي هذا وذاك علي ... وعلي هذا له التفضيل )

( الذي زلت عنه شرقا وغربا ... ونداه مقابلي لا يزول )
( ومعي أينما سلكت كأني ... كل وجه له بوجهي كفيل )
وأما معين الدين سليمان البرواناه وزوجته كرجي خاتون فظهر لهما من الموجود البادي للعيون كل نفيس وبحمد الله استولى مولانا السلطان ومماليكه من موجوده ودار زوجته المذكورة على ملك سليمان وصرح بلقيس
ولما أقام مولانا السلطان بقيصرية هذه المدة فكر في أمر عساكره ومصالحه بما لا يعرفه سواه ونظر في حالهم بما أراه الله وذلك لأن الأقوات قلت وقيسارية ألقت ما فيها من المؤن وتخلت والسيوف من المصارعة ملت والسواعد من المصادمة كلت وأنه ما بقي في الروم من الكفار من يغزى ولا بجزاء السوء يجزي ولا بقي في البلاد غير رعايا كالسوائم الهاملة ولا دية للكفر منهم على عاقل وعاقلة وأنه إن أقام فالبلاد لا تحمله ومواد بلاده لا تصله وأعشاب الروم بالدوس قد اضمحلت وعلوفاتها قد قلت وزروعها لا ترتجى لكفاية ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الروم من الرعي والرعاية وأن الحسام الصقيل الذي قتل التتار به في يد القاتل وأنهم إن كان أعجبهم عامهم فيعودون إلى الروم في قابل
ورحل في يوم الاثنين عشرين من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصه كل ما أحضر إليه من الأعنة والأزمة وكل ما يطلق على تولهة اسم النعمة فنزل بمنزلة تعرف بعترلوا وفي هذه المنزلة ورد إلى السلطان رسول من جهة غياث الدين سلطان الروم ومن جهة البرواناه والكبراء الذين

معه يسمى ظهير الدين الترجمان وفي الحقيقة هو من عند البرواناه يستوقف مولانا السلطان عن الحركة وما علموا إلى أين بل كان الأمر شائعا بين الناس أن الحركة إلى جهة سيواس فعدد مولانا السلطان عليه حسن وفائه بعهده وأنه أجاب دعاءهم مرة بعد مرة من أقصى ملكه مع بعده وأنهم ما وقفوا عند الشروط المقررة ولا وفوا بمضمون الرسائل المسيرة وأنهم لما جاء الحق وزهق الباطل طلبوا نظرة إلى ميسرة وأن أعنتهم للكفر مسلمة وأنهم منذ استيلاء التتار على الروم هم أصحاب المشأمة وعلم مولانا السلطان أن بلاد الروم ما بها عسكر يستخلصه لنفسه ولا من يقابل المغل في غدة خوفا مما شاهده كل منهم في أمسه وأنهم أهل التذاذ لا ولا أهل نفاذ أهل طرب لا أهل حرب وغلب وأهل طيبة عيش لا قواد جيش فرد السلطان إلى سليمان البرواناه مد يده وقال قل له إنني قد عرفت الروم وطرقاتها وأخذت أمه أسيرة وابن بنته وولده ويكفينا ما جرى من النصر الوجيز ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) وما كل من قضى فريضة الحج يجب عليه المجاورة ولا بعد هذه المناصرة مناصرة ولا بعد هذه المحاورة محاورة ونحن فقد ابتغينا فيما آتانا الله من حقن دماء أهل الروم وعدم نهب أموالهم الدار الآخرة وتنزهنا عن أموال كنتم للتتار تستحبونها ومغارم كثيرة هي لهم من الجنات مغانم يأخذونها حين يأخذونها وما كان جلوسنا في تخت سلطنتكم لزيادة بتخت آل سلجوق بل لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن أمر من الأمور يعوق

وأن أحدا لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة وليتحقق كل أن مسافة جمعة لنا خطوة وسروجنا بحمد الله أعظم من ذلك التخت جلالا وأرفع منالا وكم في ممالكنا كراسي ملك نحن آية ذلك الكرسي وكم لنا فتح كله والحمد لله في الإنافة الفتح القدسي
( من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع )
واستصحب السلطان معه تحت الرضا والعفو من أكابر الروميين الأمير سيف الدين جاليش النائب بالروم وهو رجل شيخ نبيه له اشتغال بعلم وكان له في الروم صورة وهو أمير دار يعني أمير المظالم
واستصحب ظهير الدين متوج مشرف الممالك ومرتبته دون الوزارة وفيه فضل ونسخ كثيرا من العلوم بخطه مثل الصحاح في مجلد واحد وغير ذلك
واستصحب الأمير نظام الدين أوحد بن شرف الدين بن الخطير وإخوته وجماعته وجماعة والده وأولاد عمه ضياء الدين بن الخطير المستشهد رحمه الله
واستصحب من الأمراء الأمير مظفر الدين محاف والأمير سيف الدين كجكيا الجاشنكير والأمير نور الدين المنجنيقي وأصحاب ملطية أولاد رشيد الدين وأخوته أمير عارض وهم كمال الدين وأمير علي صاحب كركر
واستصحب قاضي القضاة بملطية وهو القاضي حسام الدين ابن قاضي العسكر ووالده الذي كان يترسل عن السلطان علاء الدين إلى الملوك وهو رجل عالم فاضل
وأكثر هؤلاء حضروا ببيوتهم ونسائهم وغلمانهم وحفدتهم

والذين حضروا تحت الغضب ولد البرواناه المذكور وولد خواجا يونس وهو ابن بنت البرواناه ووالدة البرواناه والأمير نور الدين جاجا هو أكبر أمراء الروم أصحاب النعمة والنعم والأمير قطب الدين أحمد أخو الأتابك والأمير سيف الدين سنقر حاه الروناسي والأمير سراج الدين إسماعيل بن جاجا والأمير نصرة الدين صاحب سيواس والأمير كمال الدين عارض الجيش والأمير حسام الدين ركاوك قريب البرواناه والأمير سيف الدين الجاويش والأمير سراج الدين أخو حسام الدين والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التركماني
ومن المغل مقدمي الألوف والمئات زيرك وسرطلق وحنوكه وسركده وتماديه
ثم رحل السلطان في اليوم الثاني ونزل بمنزلة قريب خان السلطان علاء الدين كيقباذ ويعرف بكرواني صراي وهذا الخان بنية عظيمة من نسبة خان قرطاي وله أوقاف عظيمة
ومن جملة ما وجد قريبا منه أذواد كثيرة من الأغنام عبثت فيها العساكر المنصورة سألت عنها فقيل إنها وقف على هذا الخان يذبح نتاجها للواردين على هذا الخان وهذه الأغنام له من جملة

الوقوف قدر الله استيفادها جملة لما كثرت على هذا الخان من الجيوش المنصورة الضيوف
ورحلنا في اليوم الثالث وهو يوم الأربعاء ثاني عشرين من الشهر ونزلنا في وطأة عادة التتار ينزلون بها تسمى روران كودلوا وكودلوا اسم جبال تلك الوطأة
ورحلنا في يوم الخميس ثالث عشرين من ذي القعدة فعارضنا بها في وطأة خلف حصن سمندو من طريق غير الطريق التي كنا توجهنا منها نهر يعرف بنهر قزل صو قريب كودلوا الصغير
ومعنى قزل صو النهر الأحمر وهذا النهر صعب المخاض واسع الاعتراض عالي المهبط زلق المسقط مرتفع المرتقى بعيد المستقى لا يجد السالك من أوحال حافتيه إلا صعيدا زلقا فوقف مولانا السلطان بنفسه وجرد سيفه بيده وباشر العمل بنفسه هو وجميع خواصه حتى تهيأ المكان جميعه ووقف راجلا يعبر الناس أولا فأولا من كبير وصغير وغلام وهو في أثناء ذلك يكر على من يزدحم ويكرر التأديب لمن يطلب بأذية رفيقه ويقتحم وما زال من رابعة هذا النهار إلى الساعة الثامنة حتى عبرت الناس سالمين
ولما خفت البرور ولم يبق إلا المرور ركب فرسه وعبر الماء والألسنة له داعية وعليه من الله واقية باقية فنزل في واد هناك به مرعى ولا كالسعدان ومرأى ولا كشعب بوان
ثم رحل في يوم الجمعة فنزل عند صحرات قراجار حصار وهي قرية

كانت عامرة فيما مضى قريبة من هدر رجال قبالة بازار بلو وهذا البازار هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض ويباع فيه كل شيء يجلب من الأقاليم ويقرب من كودلوا الكبير
وسرنا في يوم السبت سوقا طول النهار حتى نزلنا في وطأة الأبلستين وفي هذا النهار عبر مولانا السلطان نصره الله على مكان المعركة لمشاهدة أمم التتار وكيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها وكف بأسهم من النسور مناسرها وكيف أصبحوا لا يندبهم إلا البوم وتحققوا أن التي أهلكتهم زرق الأسنة لا زرق الروم فرآهم لمن بقي عبرة وعرضوا على ربهم صفا وجاؤوه كما خلقوا أول مرة وأبصر الرياح لأشلائهم متخطفة والهوام في أجسادهم متصرفة وشاهدهم وقد هذأهم كل شيء حتى الوحوش والرياح فهذه من صديدهم متكرعة وهذه عليهم متقصفة
( قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفة الغربان )
ولما عاينهم مولانا السلطان وعاينهم الناس أكثروا شكر الله على هذه النعم التي أمست لكافة الكفر كافة وشالة ودارزة وأثنوا على مننه التي سنت إليهم خيار العساكر المنصورة حتى أصبحت تلك الأرض بهم بارزة وحضرت من أهل الأبلستين هنالك جماعة من أهل التقى والدين واستخبرهم مولانا السلطان عن عدة قتلى المغل فقالوا ( فاسأل العادين )

العادين فاستفهم من كبيرهم عن عدة المغل كم من قتيل فقال ( قل الله أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) وقال بعضهم ممن عدهم وممن عنده علم من الكتاب أنا عددت ستة آلاف وسبعمائة وسبعين نفرا وضاع الحساب هذا غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السيوف فما عصمه وغير من اعتقد أن فرسه تسلمه فأسلمه
( فلقد غدوا خلل الرماح كأنما ... غضبت رؤوسهم على الأجسام )
( أحجار ناس فوق أرض من دم ... ونجوم بيض في سماء قتام )
فتركهم مولانا السلطان ومضى والفلوات مزرعة لجسومهم والدود لأنها مؤمنة وهم كفار وقد أثرت كالنواسر في لحومهم فرسم مولانا السلطان بتقدم الأثقال والحراس والدهليز المنصور صحبة الأمير بدر الدين الخزندار والدخول في أقجه دربند وأقام مولانا السلطان في ساقة العسكر المنصور بقية يوم السبت ويوم الأحد
( فهو يوم الطراد أول سابق ... وهو يوم القفول آخر سائق )
وانتظر في هذين اليومين صيدا من العدو يعن وما من دماءهم إلى السيف يحن فلما لم يجد أحدا رحل في يوم الاثنين فنزل قريبا من الخان الذي في الدربند وركب يوم الاثنين من طريق غير التي حضر منها فسلك طريقا من الأوعار يبسا وسلك من قلل الجبال في هضاب كأن كلا منها ألف حملت من الأنجم قبسا فقاسى العالم في هذا اليوم من الشدة ما لا يدخل في

قياس وكادوا يهلكون لولا أن الله عز و جل تدارك الناس فتسابقوا ولكن على مثل حد السيف وتسللوا ولكن سل حوافر الخيل كيف وهبطوا من جبال يستصعبها كل شيء حتى طارق الطيف يستصعب الحجر المحلق من شاهق وقوعه في عقابها ويستهول النجم الثاقب ترفع شعابها بالقرب منها جبل شاهق يعرف بسقر وما أدراك ما سقر لا يبقي على شيء من الدواب ولا يذر له عقبة لواحة للبشر أعان الله على الهبوط منها وفاز بمشيئة الله وبسعادة مولانا السلطان من زحزح عنها وعدينا كوكصوا وهو النهر الأزرق وبات مولانا السلطان هناك وكان قضيم البغال تلك الليلة ورق البلوط إلا من أمست عناية الله أن تيسر في شعير بخمسة عشر درهما كل مد يحوط
ورحل مولانا السلطان في يوم الأربعاء تاسع عشرين من ذي القعدة فنزل قريب كسول المقدم ذكرها وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله الداعي وقالوا للشعير ما فينا لك مخاطب ولا منا فيك بماله مخاطر وللخيول قد حصل لك في مصر الربيع الأول في شعبان وفي الشام في ذي

الحجة الربيع الآخر فأرتعت لا يروعها أصحاب الموازين في تلك المساجد واستمرت في مروج يتأسف عليها ابن المساجد وقسم مولانا السلطان تلك الأعشاب كما تقسمت في آفاق السماء النجوم وأوقف كل أحد في مقام حتى قال ( وما منا إلا له مقام معلوم ) فكم هنالك من مروج أعشبت فأعجبت وانجابت السماء عنها فأنجبت وأربت على زهر النجوم فاهتزت وربت
( يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم )
يتخللها هنالك أترع الحياض ويلهو بها كل شيء فكم قصف العاصي بها في تلك الرياض
هذا كله وخير من أرزنجان حارة برجوان وخير من أراضي توريز قطعة من إيليز وكوم من كيمان سفط ميدوم خير من قصر في قيصرية الروم ونظرة إلى المقياس خير من سيواس ومناظر اللوق خير من كيقباذ آل سلجوق وتربة من ترب القرافة خير من مروج العرافة وشبر من شبرا خير من سطا ومرا
( وجلوس في باب دارك خير ... من جلوس في باب إيوان كسرى )
( والتماحي لنور وجهك خير ... لي من أنني أشاهد بدرا )
( يا وليا يولي الأيادي سرا ... ووزيرا فليس يكسب وزرا )
( ما رأينا والله فيمن رأينا ... لك مثلا من البرية طرا )
( كم خبرنا الرجال في كل أرض ... فإذا أنت أعظم الخلق قدرا )

( كم فلان قالوا وقالوا فلانا ... فإذا الناس دون علياك حسرى )
( لك مدح قد طبق الأرض سبحان ... إله به إلى الناس أسرى )
( ما رأينا مصرا كمصر ولا مثلك ... فينا والحمد لله شكرا )

الضرب الثاني من الرسائل الملوكية رسائل الصيد
وهذه نسخة رسالة في صيد السلطان الشهيد الملك الناصر بن السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون من إنشاء القاضي تاج الدين البارنباري وهي
الحمد لله الذي نعم النفوس الشريفة بإدراك الظفر وأنعم على هذه الأمة بمحمدها الذي أنار كوكب نصره وسفر وشرع لها على لسان نبيها الغنيمة في السفر وأسعف هذه الدولة الشريفة بدوام سلطانها الذي حفت أيامه بالعز والتأييد والظفر
نحمده على أن أقر العيون بفضله بما أقر ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ألا أنت قلب من نفر وكرمت أسبابها فلا يتمسك بها إلا أعز فريق ونفر ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أعز من آمن وأذل من كفر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تجاوز الله عن ذنوبهم وغفر وسلم تسليما
وبعد فإن في ابتغاء النصر ملاذا تدركها كل ذات شرفت وتملكها السجايا التي تعارفت بالفخار وائتلفت وتنالها النفوس التي مالت إلى العز

وإلى تلقائه صرفت ومنشؤها من حالتين إما في موقف عز عندما تلمع بروق الصفاح وتشيب من هول الحرب رؤوس الرماح وتسرح جوارح النبال لتحل في الجوارح وتصيد في الأرواح وإما في موطن سلم عندما تنبسط النفوس إلى امتطاء صهوات الجياد في الأمن والدعة وتنشرح الصدور إلى معاطاة الصيود والمسرات مجتمعة تطلق البزاة فتصيد وتتصرف بأمر الملوك الصيد وترسل الحوامي الممسكة وتلقى على ما سنح من الوحش فلا ترى إلا مدركة وتفاض النعم السلطانية وتجزل مواهبها وتلوح العصابة الشريفة وتنبعث مواكبها
وكان الله تعالى قد جمع للمواقف الشريفة المعظمة السلطانية الملكية الناصرية خلد الله سلطانها سعادة الحالتين حربا وسلما وآتاه فيهما النصر الأرفع والعز الأسمى ووسم بصدقاته وعزماته الأمرين وسما ونصره نعتا وعظمه سمعة وشرفه اسما فأيام حروبه كلها رفعة وانتصار واستيلاء واستظهار وقوة تحيا بها المؤمنون وتفنى الكفار وأيام سلمه كلها عدل وهبة وصدقات منجية منجبة ورفع ظلامات متشعبة وقمع نفوس متوثبة وحسم خطوب مستدة وحفظ الحوزة الإسلامية من كل بأس ووقايتها من كل شدة وفي خلال كل عام تصرف عزائمه الشريفة إلى ابتغاء صيد الوحش والطير لما في ذلك من تمرين النفوس على اكتساب التأييد وحصول المسرة بكل ظفر جديد فيرسم خلد الله سلطانه في الوقت الذي يرسم به من مشتى كل عام بإخراج الدهليز المنصور فينصب في بر الجيزة بسفح الهرم في ساعة مباركة آخذة في إقبال الجود والكرم فتمد بالتأييد أطنابه وترفع على عمد النصر قبابه ويحاط بحراسة الملائكة الكرام رحابه وتضرب خيام الأمراء حوله وطاقا وتحف به مثل النجوم بالبدر إشراقا ويستقل الركاب الشريف شرفه الله بعد ذلك بقصد عبور النيل المبارك فيظهر من القلعة المحروسة والسلامة تحجبه من المخافة والحراسة

تصحبه فيما قرب ونأى من المسافة ولسان السعد قد خاطبه بالتحية وشافه ومماليكه الأمراء قد حفوا بها أطلابا وسني موكبه قد بعث أمامه من الإضاءة نجابا ولم يزل حتى يأتي النيل المبارك ويستوي على الكرسي في الفلك المشحون محوطا بالنصر الميمون والجيش المأمون وقد استبشر باعتلائه البحر والنون وأضحى لظهر الفلك من الفخار بحضرته المكرمة ما لصهوات أجياده العتاق المسومة فلهذا نشر أعلام بشراها ( وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ) فسارت به في اليم ونصر الله قد تم وصعد من فلكه على ما يسر نفوس المؤمنين في كمال سلطانه وعزة ملكه واستقر على جواد شرفت صهوته وقرنت بالأناة والسكون خطوته عربي النجار يختال في سيره كأنما انتشى من العقار
( ويختال بك الطرف ... كأن الطرف نشوان )
( ترى الطرف درى أو ليس ... يدري أنك سلطان )
وسار في زروع مخضرة وثغور نبات مفترة وقد طلعت للظفر شموسه وبدوره وأعدت للصيد بزاته وصقوره من كل متوقد اللحظ من الشهامة محمول على الراحات من فرط الكرامة يتوسم فيه النجاح قبل خفق الجناح ويخرج من جو السماء ولا حرج ولا جناح وبازها الأشهب

يجيء بالظفر ويذهب بصدر مفضض وناظر مذهب له منسر أقنى طالما أغنى كأنما هو شبا السنان وقد حباه الكماة طعنا
( وصارم في يديك منصلت ... إن كان للسيف في الوغى روح )
( متقد اللحظ من شهامته ... فالجو من ناظريه مجروح )
قد راش النجح جناحه وقرن الله باليمن غدوه ورواحه ونصره في حربه حيث جعل منسره رمحه ومخلبه صفاحه في قوادمه السعد قادم وفي خوافيه النصر ظاهر المعالم كأنما ألهم قوله ( بورك لأمتي في بكورها ) فيسرح والطير جاثمة في وكورها ويخرج في إغباش السحر وعليه سواد فيهابه الصادح في الجو والباغم في الواد ويأمر خلد الله سلطانه أمراءه فيضربون على الطير حلقة وهي لاهية في التقاط حبها غافلة عما يراد بها فيذعرونها بخفق الطبول وضربها ومولانا السلطان خلد الله ملكه لنافرها مترقب ولطائرها بالجارح معقب فما يدنو الكركي مقرورا حتى يؤوب مقهورا ساقطا من سمائه إلى أرضه ومن سعته إلى قبضه فسبحان من خلق كل جنس وقهر بعضه ببعضه هذا والجارح قد أنشب فيه مخالبه وسد عليه سبله في جو السماء ومذاهبه ولم يزل خلد الله تعالى سلطانه عامة يومه متوغلا في التمتع بلذات صيوده وأوقات سعوده وحصول أربه ومقصوده وجنود الملائكة حافون به وبجنوده حتى ينسخ النهار الليل بظلمائه ويلمع الطارق بأضوائه فيعود عند ذلك الركاب الشريف إلى المخيم المنصور والجوارح كاسبة والأقدار واهبة والجوارح مسرورة والطيور مأسورة والنفوس ممتعة والمواهب منوعة والأرجاء مضوعة والله تعالى مع سلطانه بكلاءته ومن كان مع الله كان الله معه فيرفع أمامه فانوسان توءمان كأنهما كوكبان بينهما اقتران أو فرقدان رفعتهما يدان فيدنو إلى مخيمه المنصور في سرادق العز الحفيل وعصابة النصر الأثيل وتترجل الأنصار قبل فسطاطه المعظم على قدر ميل ويسعى بالشموع لتلقيه ويسوى تخت الملك لترقيه فعند ذلك

يطوف بالدهليز أمراء الحرس بالشموع المرفوعة والمزاهر المسموعة فإذا طلع الفجر مستطيلا وجاء الصبح شيئا قليلا عرضت عليه النعم فأعطاها والمهمات الإسلامية فقضاها وقدمت له الجياد المسومة فامتطاها ويسرح إلى الصيد والجوارح التي صادت بالأمس قد استأسدت وبسعادته إلى ظفرها قد أرشدت فإذا سار ركابه الشريف فرقت على أثره عساكر الإسلام وقوضت تلك الخيام كأنها الأيام
ولم يبرح ذلك دأبه في كل يوم من أيام حركته حتى يأخذ حظه من صيد الطير فعند ذلك يثني عنان السير إلى اقتناص الوحش فيعد لإمساكها كل هيكل قيد الأوابد قد عقد الخير بناصيته فأصبح حسن المعاقد
فمن أشهب كريم المغار ذي إهاب من النهار وأديم كأنه صحيفة الأبرار أبيض مثل الهدى له في الصبح إثارة النصر وإغارة على العدا علا قدرا وغلا قيمة وله إلى آل أعوج نسبة مستقيمة إذا استن في مضمار يسبق البروق الخاطفة ويخلف الريح حسرى وهي واقفة يجده الفارس بحرا وله عند مجرى العوالي مع السوابق مجرى
ومن أحمر كأنما صبغ بدم الأعداء أديمه وكأنما هو شقيق الشقيق وقسيمه كرمت غرره وحجوله وحسنت أعراقه وذيوله مكر مفر كجلمود صخر حطته من علي سيوله حكى لونه محمر الرحيق وله كل يوم ظفر جديد مع أنه عتيق

ومن أدهم مدرك كالليل منصب كالسيل كريم الناصية جواب قاصية كأن غرته صبح تنفس في الدجى الحالك وكأنه من الليل باق بين عينيه كوكب يضيء المسالك وكأن حجوله بروق تفرقت في جوانب الغسق فحسن منظرا لذلك سنابكه يورى قدحها وغرته ينير صبحها وجوارحه مسود جنحها وصهوته كمن فيها العز فلا يزال ظاهرا نجحها
ومما سوى ذلك من الجياد المختبرة والصافنات المعتبرة
( إذا ما صرفت اللحظ نحو شياتها ... وألوانها فالحسن عنك مغيب )
وإنما هي بصبرها على الظما وشدة عدوها في النور والظلما وسبقها إلى غايات رهانها وثباتها تحت رايات فرسانها
وتليها الفهود الحسن منظرها الجميل ظفرها الكاسب نابها وظفرها تفرق الليل في أهبها المجتمعة وأدركت العواصم في هضابها المرتفعة وجوهها كوجوه الليوث الخادرة ووثباتها على الطريدة وثبات الفئة المؤمنة على الفئة الكافرة مقلصة الخواصر عزماتها على الوحش حواصر ما أطلقت على صيد إلا قنصتة سريعا ولا بصرت بعانة من حمر إلا أخذتها جميعا
ثم الحوامي المعلمة والضواري التي أضحت بالنجح متوسمة ما منها إلا طاوي الخاصرة وثباته طائلة غير قاصرة بنيوب كالأسنة

وساعدين مفتولين تسبق بهما ذوات الأعنة لو رآه عدي بن حاتم رضي الله عنه لضمه إلى ما لديه وأكل مما أمسك عليه
وتضرب العساكر حلقة ما يلتقي طرفاها إلا إلى الليل في اتساعها تحوي سائر الأوابد على اختلاف أنواعها
فمن نعام خضب ظليمها لما أكل ربيعا وأحمرت أطراف ريشه فكأنها سهام أصابت نجيعا طالت أعناقها الناحلة فكأنها خطية واشتدت قوائمها الحاملة فكأنها مطية شاركت الطير في وجود الجناح وفارقتها في كثافة الأشباح وأشبهت الوحش في مسكن القفار وشدة النفار قد اجتمع في ظاهرها اللونان من الوحش والطير وائتلف في باطنها الضدان من ماء ونار
ومن ظباء مسودة الأحداق حكت الحبائب في كحل المقل وحسن سوالف الأعناق ابيضت بطونها واحمرت متونها وراقت أوراقها وحلكت آماقها نافرة في صحرائها طيب مرعاها فالمسك من دمائها
ومن بقر وحشية عفر الإهاب ساكنة الهضاب لها في حقاف الرمل مرابض حذرا من قانص قابض كم في . . . . . . . . . من لوى يتهادى كأن إبرة روقه قلم أصاب من الدواة مدادا
ومن حمر إهابها أقمر منسوبة إلى أحد ولم تركب متونها وقد حكى الجزع الذي لم يثقب في دجى الليل عيونها

وعندما تلتقي حلقة العساكر يلحقها خلد الله سلطانه ومعه الجوارح الصائدة والحوامي الصائلة والأسهم النافذة والفهود الآخذة فتموج الوحش ذعرا وترى مسالكها قد سدت عليها سهلا ووعرا وضرب دون نجاتها بسور من الجياد والفرسان وحيل بينها وبين خلاصها بنبال وخرصان فحينئذ تفر النعام عن رمالها والظباء عن ظلالها والبقر عن جآذرها والحمر عن بولها ويقبض خلد الله سلطانه من جنس الوحش كل نوع ولو يمسكها بجارح لأمسكها كما تمسك عداة الإسلام بالروع وتجزل منها المكاسب وتملأ منها الحقائب فإذا أخذ حظه من القبض ولذة اكتسابه رسم لأمرائه بالصيد عند صدور ركابه فيصيدون ويقنصون زادهم الله من فضله فإنهم في طاعته مخلصون فيكثر عند ذلك كل قنص ذبيح ويأتي كل بما اقتنصه ليظهر الترجيح فإذا استكمل أوقات الصيد من الطير والوحش ثنى ركابه الشريف إلى جهة القلعة المحروسة والقفار قد شرفت بمرور مواكبه والوحش والطير قد افتخرت بكونها أصبحت من مكاسبه
هذا كله وإن كانت النفس تراه لهوا وتبلغ به كل ما تهوى ففي طيه من تمرين الجنود على الحرب ما تشد به العزمات وتقوى فيؤم الركاب الشريف عائدا إلى سرير ملكه بالقلعة المحروسة والسلامة قد قضت ما يجب عليها من حراسته والأقدار قد وفت ما ينبغي من كلاءته فلم يك إلا وهو صاعد إلى القلعة المحروسة وألسنة السعادة تخاطبه وسريره قد اهتزت فرحا بمقدمه جوانبه والصيد المبارك قد سعدت مباديه وحمدت عواقبه فيلقي أهبة السفر ويأخذ فيما بطن من المصالح الإسلامية وظهر وتنشده ألسنة السلامة ما أملى عليها العز والتأييد والظفر
( ملك البسيطة آب من سفره ... والنصر والتأييد في أثره )
( فكأنه في عز موكبه ... بدر تألق في سنا خفره )
( ما في البرية مثله ملك ... أوتي الذي أوتيه من ظفره )

( يسري إلى أعدائه رهب ... مما يبث الناس من خبره )
( فالله رب الناس فاطرنا ... يؤتيه ما يربي على وطره )

الصنف الثاني من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتقريض
إما بأن يجعل المدح مورد الرسالة ويصدر بمدح ذلك الشخص المراد وإما بأن يصدر بماجرية يحكيها المنشيء ويتخلص منها إلى مدح من يقصد مدحه وتقريضه وما يجري مجرى ذلك
وللكتاب وأهل الصناعة في ذلك أفانين مختلفة المقاصد وطرق متباينة الموارد
وهذه نسخة رسالة أنشأها أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ سماها رسالة الشكر قصد بها تقريض وزير المتوكل وشكر نعمه لديه مصدرا لها بذكر حقيقة الشكر وبيان مقاصده وهي
جعلت فداك أيدك الله وأكرمك وأعزك وأتم نعمته عليك وعندك
ليس يكون الشكر أبقاك الله تاما ومن حد النقصان خارجا حتى يستصحب أربع خلال ويشتمل على أربع خصال
أولها العلم بموقع النعمة من المنعم عليه وبقدر انتفاعه بما يصل إليه من ذلك من سد خلة أو مبلغ لذة وعلو في درجة مع المعرفة بمقدار احتمال المنعم للمشقة والذي حاول من المعاناة والكلفة في بذل جاه مصون أو مفارقة علق ثمين
وكيف لا يكون كذلك وقد خول من نعمه بعض ما كان حبيسا على حوادث عدة فزاد في نعم غيره بما انتقص من نعم نفسه وولده
فكلما تذكر الشاكر ما احتمل من مؤونة البذل سهل عليه احتمال ما نهض به من ثقل الشكر
والخصلة الثانية الحرية الباعثة على حب المكافأة واستحسان

المجازاة
والشكر من أكبر أبواب الأمانة وأبعده من أسباب الخيانة ولن يبلغ أحد في ذلك غاية المجد إلا بمعونة الطمع وإلا الحرب سجال بينهما والظفر مقسوم عليهما
كذلك حكم الأشياء إذا تساوت في القوة وتقاربت في بلوغ المدة
وقد زعم ناس أن الشاكر والمنعم لا يستويان كما أن البادئ بالظلم والمنتصر لا يعتدلان لأن الباديء أخذ ما ليس له والمنتصر لم يتجاوز حقه الذي هو له ولأن الباديء لم يكن مهيجا على الظلم بعلة جناها المنتصر والمنتصر مهيج على المكافأة بعلة جناها الباديء والمثور للطباع المغضب والمستخف المهيج أعذر من الساكن الوادع المطمئن
فلذلك قالوا إن الباديء أظلم والمنتصر أعذر
وزعموا أن المنعم هو الذي أودع صدر الشاكر المحبة بإنعامه عليه وهيجه بذلك على مكافأته لإحسانه إليه فقد صار المنعم شريك الشاكر في إحسانه وتفرد بفضل إنعامه دون مشاركة غيره والمنعم هو الذي دفع للشاكر أداة الشكر وأعاره آلة الوفاء فهو من ههنا أحق بالتقديم وأولى بالتفضيل
هذا وقد قال الحكماء والأدباء والعلماء من تمام كرم المنعم التغافل عن حجته والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته لأن المحاجة مغالبة ولا تتم مودة إلا مع المسامحة
ولذلك قال الربعي لناس من العرب يختصمون هل لكم في الحق أو خير منه قالوا قد عرفنا الحق فما الذي هو خير منه قال التغافل فإن الحق مر
ألا ترى إلى بنت هرم بن سنان لما قالت لابنة زهير بن أبي سلمى في بعض المناحات أو في بعض المزاورات إنه ليعجبني ما أرى من حسن شارتكم ونقاء نفحتكم
قالت ابنة زهير أما والله لئن قلت ما قلت فما ذلك إلا من فضول ما وهبتم ومن بقايا ما أنعمتم
قالت بنت هرم لا بل لكم الفضل وعلينا الشكر أعطيناكم ما يفنى وأعطيتمونا ما يبقي
وقيل لعبد الله بن جعفر حين أجزل لنصيب الشاعر في الهبة وكثر له في العطية أتنيل هذا العبد الأسود كل هذا النيل وتحبوه بمثل هذا الحباء فقال عبد لله بن جعفر أما والله لئن كان أسود الجلد إنه

لأبيض الشعر أعطيناه دراهم تفنى وثيابا تبلى ورواحل تنضى وأعطانا ثناء يبقى وحديثا يثنى ومكارم لا تبلى
فلهذه الخصال تكاملت خصال المجد فيهم فظهر عنوان كرم الخير عليهم فصاروا في زمانهم منارا ولمن بعدهم أعلاما
وليس تتم معاني كرم المنعم ومعاني وفاء الشاكر حتى تتوافى أقوالهما وتتفق أهواؤهما على تدافع الحجة والإقرار بالمعجزة فيزداد بذلك المنعم فضلا والشاكر نبلا
هذا جملة القول في خصلتين من الأربع التي قدمنا ذكرها وشهرنا أمرها
والخصلة الثالثة الديانة بالشكر والإخلاص للمنعم في تصفية الود فإن الدين قائد المروءة كما أن المروءة خطام الحمية
وهذه الخصال وإن تشعبت في بعض الوجوه وافترقت في بعض الأماكن فإنها ترجع إلى نصاب يجمعها وإلى إناء يحفظها منه نجمت وعنه انبثت وإليه رجعت
ولاجتماع هذه الخصال على مخالفة الهوى ومجانبة الهويني وعلى اتهام دواعي الشهوة والامتناع من كلب الطبيعة وفق الأولون بينها في جملة الاسم وقارنوا بينها في جمهرة الحكم
ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اعتبر عزمه بحميته وحزمه بمتاع بيته
ومدار جميع الأحوال المحمودة على الصبر ولن يتكلف مرارة الصبر من يجهل عاقبة الصبر
وقالوا لما صار ثقل الشكر لا يحتمل إلا بالصبر صار الشكر من نتاج الصبر
وكما أنه لا بد للحلم مع كرم الحلم من الصبر فكذلك لابد للشكر مع كرم الشكر من الصبر
فالصبر يجري مع جميع الأفعال المحمودة كما يجري الهوى مع جميع الأفعال المذمومة
ولذلك قال رسول الله خلق الله عز و جل النار وحفها بالشهوات وخلق الجنة وحفها بالمكاره

والخصلة الرابعة وصف ذلك الإحسان باللسان البين وتخيره بالبيان النير وباللفظ العذب الشهي والمعنى الشريف البهي فإن الكلام إذا كان حسنا جعلته الحكماء أدبا ووجدت الرواة إلى نشره سببا حتى يصير حديثا مأثورا ومجدا مذكورا وداخلا في أسمار الملوك وسوقا من أسواق المتأدبين ووصلة في المجالس وزيادة في العقل وشحذا للسان وترهيفا للقلب وتلطيفا للفكر وعمارة للصدر وسلما إلى العظماء وسببا إلى الجلة الكبراء
وإذا لم يكن اللفظ رائعا والمعنى بارعا وبالنوادر موشحا وبالملح مجلوا لم تصغ له الأسماع ولم تنشرح له الصدور ولم تحفظه النفوس ولم تنطق به الأفواه ولم يخلد في الكتب ولم يقيد بالدرس ولم يجذل به قائل ولم يلتذ به سامع
ومتى لم يكن كذلك كان كلاما ككلام اللغو ومعاني السهو وكالهجر الذي لا يفهم والمستغلق الذي لا يعلم
وليس أبقاك الله شيء أحوج إلى الحذق ولا أفقر إلى الرفق من الشكر النافع والمديح الناجع الذي يبقى بقاء الوشم ويلوح كما يلوح النجم
كما أنه لا شيء أحوج إلى وسع الطاقة وإلى الفضل في القوة وإلى البسطة في العلم وإلى تمام العزم من الصبر
وعلى أن الشكر في طبقات متفاوتة ومنازل متباينة وإن جمعها اسم فليس يجمعها حكم فربما كان كلاما تجيش به الصدور وتمجه الأفواه وتجدف به الألسنة ويستعمل فيه الرأي المقتضب والخاطر المحتار والكلام المرتجل فيرمى به على عواهنه وتبنى مصادره على غير موارده لا يتعذر فيه الشاكرون لانتفاع المنعمين كما تعذر المنعمون لانتفاع الشاكرين
وليست غاية القائل إلا أن يعد بليغا مفوها أو يستزيد به إلى نعمه السالفة نعما آنفة أوليس إلا ليغتر كريما أو يختدع غنيا لا يتفقد ساعات القول ولا يتعرف

أقدار المستمعين وليس غايته إلا الكسب والتعرض والانتفاع والترنح وعلى هذا يدور شكر المستأكلين وإحماد المتكسبين
وهذا الباب وإن جعلته العوام شكرا فهو بغير الشكر أشبه وبذلك أولى وربما كان شكره عن تأنق وتذكير وعن تخير وتخيير وعن تفقد للحالات وتحصيل للأمور في المقامات التي تحيط بمهجته وبحضرة عدو لا يزال مترصدا لنعمته فربما التمس الزيادة في غبطه وربما التمس شفاء دائه وإصلاح قلبه ونقض المبرم من معاقد حقده على قدر الرد وعلى قدر تصرف الحالات في المصلحة لأن الشاكر كالرائد لأهله وكزعيم رهطه والمشار إليه عند مشورته فربما اختار أن يكون شكره شعرا لأن ذلك أشهر وربما اختار أن يكون كلاما منثورا لأن ذلك أنبل وربما أظهر اليسر وانتحل الثروة وجعل من الدليل على ذلك كثرة النفقة وحسن الشارة ويرى أن ذلك أصدق المدحين وأنبل الشكرين ويجعل قائده إلى هذا المذهب وسابقه إلى هذا التدبير قول نصيب
( فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب )
ومما يدخل في هذا الباب وليس به قول العنزي
( يابن العلاء ويابن القرم مرداس ... إني لأطريك في أهلي وجلاسي )
( حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حال عندها راسي )
( أثني عليك ولي حال تكذبني ... بما أقول فأستحيي من الناس )
وبين هذين الشكرين طبقات معروفة ومنازل معلومة
وموضع الشكر

من قلب السامع في القبول والاستنامة على قدر حسن النية والذي يعرف به الشاكر من صدق اللهجة ومن قلة السرف واعتدال المذاهب والاقتصاد في القول
وهذا باب سوى الباب الآخر من حسن الوصف وجودة الرصف ولذلك لما أحسن بعض الواعظين في الموعظة وأبلغ في الاعتبار وفي ترقيق القلوب ولما لم ير أحدا يخشع ولا عينا تدمع قال يا هؤلاء إما أن يكون بي شر أو يكون بكم شر
وقيل لجلساء الفضل الرقاشي وعبد الصمد بن الفضل الرقاشي ما بال دموعكم عند الفضل أغزر وعند عبد الصمد أنزر وكلام عبد الصمد أغزر وكلام الفضل أنزر قالوا لأن قلب الفضل أرق فصارت قلوبنا أرق والقلوب تتجارى
وقالوا طوبى للممدوح إذا كان للمدح مستحقا وللداعي إذا كان للاستجابة أهلا وللمنعم إذا حظي بالشكر وللشاكر إذا حظي بالقبول
إني لست أحتشم من مدحك لأني لست أتزيد في وصفك ولست أمدحك من جهة معروفك عندي ولا أصفك بتقديم إحسانك إلي حتى أقدم الشكر الذي هو أولى بالتقديم وأفضل الصنف الذي هو أحق بالتفضيل
وفي الخبر المستفيض والحديث المأثور ما قل وكفى خير مما كثر وألهى
وقليل باق خير من كثير فان
تذاكر الناس عند بعض الحكماء طبقات السابقين في الفضل وتنزيل حالاتهم في البر ومن كانت الخصلة المحمودة فيه أكثر والخصلة الثانية فيه أوفر فقال ذلك الحكيم ليس بعجب أن يسبق رجل إلى الإسلام وكل

شيء فقد سبق إلى تقديمه ناس وأبطأ آخرون وليس بعجب أن يفوق الرجل أترابه في الزهد وأكفاءه في الفقه وأمثاله في الذب وهذا يوجد في كل زمان ويصاب في كل البلدان ولكن العجب العجيب والنادر الغريب الذي تهيأ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه واتسق له وذلك أنه غير عشر حجج يفتح الفتوح ويدوخ البلاد ويمصر الأمصار ويدون الدواوين ويفرض الفروض ويرتب الخاصة ويدبر العامة ويجبي الفيء وترمي إليه الأرض بأفلاذ كبدها وأنواع زخرفها وأصناف كنوزها ومكنون جوهرها ويقتل ملوكها ويلي ممالكها ويحل ويعقد ويولي ويعزل ويضع ويرفع وبلغت خيله إفريقية ودخلت خراسان كل ذلك بالتدبير الصحيح والضبط والإتقان والقوة والإشراف والبصر النافذ والعزم المتمكن ثم قال لا يجمع مصلحة الأمة ولا يحوشهم على حظهم من الألفة واجتماع الكلمة وإقامتهم على المحجة مع ضبط الأطراف وأمن البيضة إلا لين في غير ضعف وشدة في غير عنف
ثم غبر بعد ذلك سنيه كلها على وتيرة واحدة وطريقة مطردة لا ينجرف عنها ولا يغيرها ولا يسأمها ولا يزول عنها من خشونة المأكل والملبس وغلظ المركب وظلف النفس عن صغيرها وكبيرها ودقيقها وجليلها وكل ما يناجز الناس عليه لم يتغير في لقاء ولا في حجاب ولا في معاملة ولا في مجالسة ولا في جمع ولا في منع ولا قبض ولا بسط والدنيا تنصب عليه صبا وتتدفق عليه تدفقا والخصلة من خصاله والخلة من خلاله تدعو إلى الرغبة وتفتح باب الألفة وتنقض المبرم وتفيد المروءة وتفسح المنة وتحل العقدة وتورث الاغترار بطول السلامة والاتكال على دوام الظفر ومواتاة الأيام ومتابعة الزمان
وكان ثباته عشر حجج على هذه الحال أعجوبة ومن البدائع الغريبة
وبأقل من هذا يظهر العجب ويستعمل الكبر ويظهر الجفاء ويقل التواضع

ونحن وإن كنا لا نستجيز أن نلحق أحدا بطباع عمر ومذهبه وفضل قوته وتمام عزمه فإنا لا نجد بدا من معرفة فضل كل من استقامت طريقته ودامت خليقته فلم يتغير عند تتابع النعم وتظاهر الصنع وإن كانت النعم مختلفة الأجناس ومتفاوتة في الطبقات
وكيف يلحق به أحد مع قوله لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما ركبت ولكنا على حال لا ندع تعظيم كل من بان من نظرائه في المرتبة وأشباهه في المنزلة إذ كان أدومهم طريقة وأشدهم مريرة وأمضاهم على الجادة الوسطى وأقدرهم على المحجة العظمى
ولا بد من أن يعطى كل رئيس قسطه وكل زمان حظه ولا يعجبني قول القائل لم يدع الأول للآخر شيئا بل لعمري لقد ترك له العريض الطويل والثمين الخطير واللقم النهج والمنهج الرحب
ولو أن الناس مذ جرت هذه الكلمة على أفواه العوام وأعجب بها الأغمار من الرجال قلدوا هذا الحكم واستسلموا لهذا المذهب وأهملوا الروية ويئسوا من الفائدة إذن لقد كان ارتفع من الدنيا نفع كثير وعلم غزير
وأي زمان بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله أحق بالتفضيل وأولى بالتقديم من زمان ظهرت فيه الدعوة الهاشمية والدولة العباسية ثم زمان المتوكل على الله والناصر لدين الله والإمام الذي جل فكره وكثر شغله بتصفية الدين وتهذيبه وتلخيصه وتنقيحه وإعزازه وتأييده واجتماع كلمته ورجوع ألفته
وقد سمعت من يقول ويستشهد العيان القاهر والخبر المتظاهر ما رأيت في زماننا من كفاة السلطان وولاته وأعوانه وحماته من كان يؤمل لمحلك ويتقدم في التأهب له إلا وقد كان معه من البذخ والنفخ ومن الصلف والعجب ومن الخيلاء ومن إفراط التغير للأولياء والتهكم على الخلطاء ومن سوء اللقاء مالا خفاء به على كاتب

ولا على عامل ولا على خطيب ولا على أديب ولا على خاصي ولا على عامي
فجمعت والحمد لله على النعمة فيك بين التواضع والتحبب وبين الإنصاف وقلة التزيد فلا يستطيع عدو معلن ولا كاشح مسر ولا جاهل غبي ولا عالم مبرز يزعم أنه رأى في شمائلك وأعطافك عند تتابع النعم وتظاهر المنن تغيرا في لقاء ولا في بشر عند المساءلة ولا في إنصاف عند المعاملة واحتمال عند المطاولة الأمر واحد والخلق دائم والبشر ظاهر والحجج ثاقبة والأعمال زاجية والنفوس راضية والعيون ناطقة بالمحبة والصدور مأهولة بالمودة والداعي كثير والشاكي قليل وأنت بحمد الله تزداد في كل يوم بالتواضع نبلا وبالإنصاف فضلا وبحسن اللقاء محبة وبقلة العجب هيبة
وقال سهل بن هارون في دعائه لبعض من كان يعتني بشأنه اللهم زده من الخيرات وابسط له في البركات حتى يكون كل يوم من أيامه موفيا على أمسه مقصرا عن فضيلة غده
وقال في هذا المعنى أعشى همدان وهو من المخضرمين
( رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس )
( وبعد غدت تزيد الخير ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس )
قد والله أنعم الله عليك وأسبغ فاشكر الله وأخلص
محتدك

شريف وأرومتك كريمة والعرق منجب والعدد دثر والأمر جميل والوجوه حسان والعقول رزان والعفاف ظاهر والذكر طيب والنعمة قديمة والصنيعة جسيمة وما مثلكم إلا كما قال الشاعر
( إن المهالبة الكرام تحملوا ... دفع المكاره عن ذوي المكروه )
( زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه )
النعمة محفوظة بالشكر والأخلاق مقوم بالأدب والكفاءة محفوفة بالحذق والحذق مردود إلى التوكل والصنع من وراء الجميع إن شاء الله
هذا إلى ما ألبسك الله من القبول وغشاك من المحبة وطوقك من الصبر فبقي الآن أن نشتهي ما أنت فيه شهوة في وزن هذه المرتبة وفي مقدار هذه المنزلة فإن الرغبة وإن قويت والرهبة وإن اشتدت فإنهما لا يثمران من النشاط وينتجان من القوة على المباشرة والكد ما تثمره الشهوة وإن ضعفت والحركة من ذات النفس وإن قلت لأن النفس لا تسمح بمكنونها كله وتجود بمخزون قواها أجمع إلا بالشهوة دون كل علة محركة وكل سبب مهيج
قال يحيى بن خالد لجعفر بن يحيى حين تقلد الوزارة وتكلف النهوض بأعباء الخلافة أي بني إني أخاف عليك العجز لعظيم ما تقلدت وجسيم ما تحملت
إني لست آمن أن تتفسخ تحت ثقلها تفسخ الجمل تحت الحمل الثقيل
قال جعفر لكني أرجو القوة وأطمع أن أستقل بهذا الثقل وأنا مبتهل غير مبهور وأجيء قبل السوابق وأنا ثاني

يقول وأنا ثاني عناني لأني لم أجهد فرسي ركضا
قال يحيى إن لكل رجاء سببا فما سبب رجائك قال شهوتي لما أنا فيه والمشتهي للعمل لا يجد من ألم الكد ما يجده العسيف الأسيف
قال يحيى إن نهضت بثقلها فبهذا وإلا فلا
وأنا أسأل الله أن يصرف شهوتك إلى حب ذلك وهواك إلى الاحتفاظ بنعمتك بشكر المصلحين والتوكل على رب العالمين
وحق لمن كان من غرس المتوكل على الله وابتدائه ومن صنائعه واختياره أن يخرج على أدبه وتعليمه وعلى تثقيفه وتقويمه وأن يحقق الله فيه الأمل وينجز فيه الطمع وأن يمد له في السلامة ويجزل له من الغنيمة ويطيب ذكره ويعلي كعبه ويسر صديقه ويكبت عدوه
وهذه نسخة رسالة تسمى الإغريضية أرسلها أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي الى ابي القاسم الحسين بن علي المغربي وهي

بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة
السلام عليك أيتها الحكمة المغربية والألفاظ العربية أي هواء رقاك وأين غيث سقاك برقه كالإحريض وودقه مثل الإغريض حللت الربوة وجللت عن الهبوة أقول لك ما قال أخو بني نمير لفتاة بني عمير
( زكا لك صالح وخلاك ذم ... وصبحك الأيامن والسعود )
لأنا آسف على قربك من الغراب الحجازي على حسن الزي لما أقفر وركب السفر فقدم جبال الروم في نو أنزل البرس من الجو

فالتفت إلى عطفه وقد شمط فأسي وترك النعيب أو نسي وهبط إلى الأرض فمشى في قيد وتمثل ببيت دريد
( صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد )
وأراد الإياب في ذلك الجلباب فكره الشمات فكمد حتى مات ورب ولي أغرق في الإكرام فوقع في الإبرام إبرام السأم لا إبرام السلم فحرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء فتلك حراسة بغير انتهاء وذلك أن هذين ضدان وعلى التضاد متباعدان رخو وشديد وهاد وذو تصعيد وهما في الجهر والهمس بمنزلة غد وأمس وجعل الله رتبته التي هي كالفاعل والمبتدا نظير الفعل في أنها لا تنخفض أبدا فقد جعلني إن حضرت عرف شاني وإن غبت لم يجهل مكاني كيا في النداء والمحذوف من الابتداء إذا قلت زيد أقبل والإبل الإبل بعد ما كنت كهاء الوقف إن ألقيت فبواجب وإن ذكرت فغير لازب
إني وإن غدوت في زمان كثير الدد كهاء العدد لزمت المذكر فأتت بالمنكر مع إلف يراني في الأصل كألف الوصل يذكرني بغير الثناء ويطرحني عند الاستغناء وحال كالهمزة تبدل العين

وتجعل بين بين وتكون تارة حرف لين وتارة مثل الصامت الرصين فهي لا تثبت على طريقة ولا تدرك لها صورة في الحقيقة ونوائب ألحقت الكبير بالصغير كأنها ترخيم التصغير ردت المستحلس إلى حليس وقابوس إلى قبيس لأمدن صوتي بتلك الآلاء مد الكوفي صوته في هؤلاء وأخفف عن حضرة سيدنا الوزير الرئيس الحبر تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر إن كانت كاتبت فلست ملتمس جواب وإن أسهبت في الشكر فلست طالب ثواب حسبي ما لدي من أياديه وما غمر

من فضل السيد الأكبر أبيه أدم الله لهما القدر ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحا والمنسرح خفيفا سريحا وقبض الله يمين عدوهما عن كل معن قبض العروض من أول وزن وجمع له المهانة إلى التقييد كما جمعا في ثاني المديد وقلم قلم الفسيط وخبل كسباعي البسيط وعصب الله الشر بهامة شانئهما وهو مخزو عصب الوافر الثالث وهو مجزو بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل وعداه أمل الآمل

وسلم سيدانا أعز الله نصرهما ومن أحباه وقرباه سلامة متوسط المجموعات فإنه آمن من المروعات فقد افتننت في نعمهما الرائعة كافتنان الدائرة الرابعة وذلك أنها أم ستة موجودين وثلاثة مفقودين
وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة عدة ثريا الليل وثريا سهيل هذه القمر وتلك عمر وأعظمه في كل وقت إعظاما في مقة وبعض الإعظام في مقت فقد نصب للآداب قبة صار الشام فيها كشامة المعيب والعراق كعراق الشعيب أحسب ظلالها من البردين وأغنت

العالم عن الهندين هند الطيب وهند النسيب ربة الخمار وأرباب قمار أخدان التجر وخدينة الهجر
ما حاملة طوق من الليل وبرد من المرتبع مكفوف الذيل أوفت الأشاء فقالت للكئيب ما شاء تسمعه غير مفهوم لا بالرمل ولا بالمزموم كأن سجيعها قريض ومراسلها الغريض فقد ماد لشجوها العود وفقيدها لا يعود تندب هديلا فات وأتيح له بعض الآفات بأشوق إلى هديلها من عبده إلى مناسمة أنبائه ولا أوجد على إلفها منه على زيارة فنائه وليست الأشواق لذوات الأطواق ولا عند الساجعة عبرة متراجعة إنما رأت الشرطين قبل البطين والرشاء بعد العشاء فحكت صوت الماء في الخرير وأتت براء دائمة التكرير فقال جاهل فقدت حميما وثكلت ولدا كريما وهيهات يا باكية أصبحت فصدحت وأمسيت فتناسيت لا همام لا همام ما رأيت أعجب من هاتف الحمام سلم فناح وصمت وهو

مكسور الجناح إنما الشوق لمن يدكر في كل حين ولا يذهله مضي السنين
وسيدنا الوزير أطال الله بقاءه القائل النظم في الذكاء مثل الزهر وفي النقاء مثل الجوهر تحسب بادرته التاج ارتفع عن الحجاج وغابرته الحجل في الرجل يجمع بين اللفظ القليل والمعنى الجليل جمع الأفعوان في لعابه بين القلة وفقد البلة خشن فحسن ولان فما هان لين الشكير يدل على عتق المحضير وحرش الدينار آية كرم النجار فصنوف الأشعار بعده كألف السلم يلفظ بها في الكلام ولا تثبت لها هيئة بعد اللام خلص من سبك النقد خلوص الذهب من اللهب واللجين من يد القين كأنه لآل في أعناق حوال وسواه لط في عنق ثط ما خانته قوة الخاطر الأمين ولا عيب بسناد ولا تضمين وأين النثرة من العثره

والغرقد من الفرقد فالساعي في أثره فارس عصا بصير لا فارس عصا قصير
وأنا ثابت على هذه الطوية ثبات حركة البناء مقيم تلك الشهادة بغير استثناء غني عن الأيمان فلا عدم مقسم على ما قلت فلا حنث ولا ندم وإنما تخبأ الدرة للحسناء الحرة ويجاد باليمين في العلق الثمين ما أنفسه خاطرا امترى الفضة من القضة والوصاة من مثل الحصاة وربما نزعت

الأشباه ولم يشبه المرء أباه ولا غرو لذلك الخضرة أم اللهيب والخمرة بنت الغربيب
وكذلك سيدنا ولد من سحر المتقدمين حكمة للحنفاء المتدينين كم له من قافية تبني السود وتثني الحسود كالميت من شرب العاتقة الكميت نشوره قريب وحسابه تثريب أين مشبهو الناقة بالفدن والصحصح برداء الردن وجب الرحيل عن الربع المحيل نشأ بعدهم واصف غودر رأله كالمناصف إذا سمع الخافض صفته للسهب الفسيح والرهب الطليح ود أن حشيته بين الأحناء وخلوقه عصيم الهناء وحلم بالقود في الرقود وصاغ برى ذوات الأرسان من برى البيض الحسان شنفا لدر النحور وعيون الحور وشغفا بدر بكي وعين مثل الركي وإعراضا عن بدور سكن في الخدور إلى حول

كأهلة المحول فهن أشباه القسي ونعام السي وإن أخذ في نعت الخيل فيا خيبة من سبه الأوابد بالتقييد وشبه الحافر بقعب الوليد نعتا غبط به الهجين المنسوب والبازي اليعسوب إذ رزق من الخير ما ليس لكثير من سباع الطير وذلك أنه على الصغر سمي بعض الغرر وقد مضى حرس وخفت جرس وللقالع أبغض طالع والأزرق يجنبك عنه الفرق
فالآن سلمت الجبهة من المعض وشمل بعضها بركات بعض فأيقن النطيح أن ربه لا يطيح والمهقوع نجاء راكبه من الوقوع فلن يحرب قائد المغرب ولن يرجل سائس الأرجل والعاب وإن لحق الكعاب فإنه ناكب عن ناقلات المراكب
وقالت خيفانة امريء

القيس الدباءة لراعي المباءة والأثفية للقدر الكفية نقما على جاعل عذرها كقرون العروس وجبهتها كمحذف التروس وأنى للكندي قواف كهجمة السعدي
( إذا اصطكت بضيق حجرتاها ... تلاقى العسجدية واللطيم )
فالقسيب في تضاعيف النسيب والشباب في ذلك التشبيب ليس رويه بمقلوب ولكنه من إرواء القلوب قد جمع أليل ماء الصبا وصليل ظماء الظبا فالمصراع كوذيلة الغريبة حكت الزينة والريبة وأرت الحسناء سناها والسمجة ما عناها فأما الراح فلو ذكرها لشفت من الهرم وأنتفت من الكرم إلى الكرم ولم ترض دنان العقار بلباس القار ونسج العناكب على المناكب ولكن تكسى من وشي ثيابا ويجعل طلاؤها

زريابا ولقد سمعته ذكر ضيمه يغبط المسك جارها من الشيام ويود سعد الأخبية أنه سعد الخيام
ووقفت على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسماة الأبواب يغني عن سائر الكتاب فعجبت كل العجب من تقييد الأجمال بطلاء الأحمال وقلب البحر إلى قلت النحر وإجراء الفرات في مثل الأخرات شرفا له لخن تصنيفا شفى الريب وكفى من ابن قريب ودل على جوامع اللغة بالإيماء كما دل المضمر على ما طال من الأسماء
أقول في الإخبار أمرت أبا عبد الجبار فإذا أضمرته عرف متى قلت أمرته وأبل من المرض والتمريض بما أسقط من شهود القريض كأنهم في تلك الحال شهدوا بالمحال عند قاض عرف أمانتهم بالانتقاض على حق علمه بالعيان فاستغنى فيه عن كل بيان
وقد تأملت شواهد إصلاح المنطق فوجدتها عشرة أنواع في عدة إخوة الصديق لما تظاهروا على غير حقيق وتزيد على العشرة بواحد كأخ ليوسف لم يكن بالشاهد
والشعر الأول وإن كان سبب الأثرة وصحيفة

المأثرة فإنه كذوب القالة نموم الإطالة وإن قفا نبك على حسنها وقدم سنها لتقر بما يبطل شهادة العدل الرضا فكيف بالبغي الأنثى قاتلها الله عجوزا لو كانت بشرية كانت من أغوى البرية
وقد تمادى بأبي يوسف رحمه الله الاجتهاد في إقامة الأشهاد حتى أنشد رجز الضب وإن معدا من ذلك لجد مغضب أعلى فصاحته يستعان بالقرض ويستشهد بأحناش الأرض ما رؤبة عنده في نفير فما قولك في ضب دامي الأظافير ومن نظر في كتاب يعقوب وجده كالمهمل إلا باب فعل وفعل فإنه مؤلف على عشرين حرفا ستة مذلقة وثلاثة مطبقة وأربعة من الحروف الشديدة وواحد من المزيدة ونفيثتين الثاء والذال وآخر متعال والأختين العين والحاء والشين مضافة إلى حيز الراء
فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمدا أو احفاظ حسدا سبق ابن السكيت ثم صار السكيت وسمق ثم حار وتدا للبيت كان الكتاب

تبرا في تراب معد بين الحث وبين المتدن فاستخرجه سيدنا واستوشاه وصقله فكره ووشاه فغبطه النيرات على الترقيش والآل النقيش فهو محبوب ليس بهين على أنه ذو وجهين ما نم قط ولا هم ولا نطق ولا أرم فقد ناب في كلام العرب الصميم مناب مرآة المنجم في علم التنجيم شخصها ضئيل ملموم وفيها القمران والنجوم
وأقول بعد في إعادة اللفظ إن حكم التأليف في ذكر الكلمة مرتين كالجمع في النكاح بين الأختين الأولى حل يرام والثانية بسل حرام كيف يكون في الهودج لميسان وفي السبة خميسان يا أم الفتيات حسبك من الهنود ويا أبات الفتيان شرعك من السعود عليك أنت بزينب ودعد وسم أيها الرجل بسوى سعد ما قل أثير والأسماء كثير
مثل يعقوب مثل خود كثيرة الحلي ضاعفته على التراق وعطلت الخصر والساق كان يوم قدوم تلك النسخة يوم ضريب حشر الوحش مع الإنس وأضاف الجنس إلى غير الجنس ولم يحكم على الظباء بالسباء ولا رمى الآجال بالأوجال ولكن الأضداد تجتمع فتستمع وتنصرف بلذات من غير أذاة وإن عبده موسى لقيني نقابا فقال هلم كتابا يكون لك شرفا وبموالاتك في حضرة سيدنا أطال الله بقاءه معترفا

فتلوت عليه هاتين الآيتين ( إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )
وأحسبه رأى نور السؤدد فقال لمخلفيه ما قاله موسى صلى الله عليه لأهليه ( إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) فليت شعري ما يطلب أقبس ذهب أم قبس لهب بل يتشرف بالأخلاق الباهرة ويتبرك بالأحساب الطاهرة
( باتت حواطب ليلى يقتبسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر )
وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوة من نار قديمة إن لمست فنار إبراهيم أو أونست فنار الكليم واجتنى بهارا حبت به المرازبة كسرى وحمل في فكاك الأسرى وأدرك نوحا مع القوم وبقي غضا إلى اليوم وما انتجع موسى إلا الروض العميم ولا اتبع إلا أصدق مقيم وورد عبده الزهيري من حضرته المطهرة وكأنه زهرة بقيع أو وردة ربيع كثيرة الورق طيبة العرق وليس هو في نعمته كالريم في ظلال الصريم والجاب في السحاب المنجاب لأن الظلام يسفر والغمام ينسفر ولكنه مثل النون في اللجة والأعفر تحت جربة

وقد كنت عرفت سيدنا في ما سلف أن الأدب كعهود في غب عهود أروت النجاد فما ظنك بالوهود وأني نزلت من ذلك الغيث ببلد طسم كأثر الوسم منعه القراع من الإمراع يابوس بني سدوس العدو حازب والكلأ عازب يا خصب بني عبد المدان ضأن في الحربث وإبل في السعدان فلما رأيت ذلك أتعبت الأظل فلم أجد إلا الحنظل فليس في اللبيد إلا اللهبيد جنيته من شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
لبن الإبل عن المرار مر وعن الأراك طيب حر
هذا مثلي في الأدب فأما في النشب فلم تزل لي بحمد الله تعالى وبقاء سيدنا بلغتان بلغة صبر وبلغة وفر أنا منهما بين الليلة المرعية واللقوح الربعية هذه عام وتلك مال وطعام والقليل سلم إلى

الجليل كالمصلي يريغ الضوء بإسباغ الوضوء والتكفير بإدامة التعفير وقاصد بيت الله يغسل الحوب بطول الشحوب
وأنا في مكاتبة حضرة سيدنا الجليلة والميل عن حضرة سيدنا الأجل والده أعز الله نصره كسبإ بن يعرب لما ابتهل في التقرب إلى خالق النور ومصرف الأمور نظر فلم ير أشرق من الشمس يدا فسجد لها تعبدا
وغير ملوم سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الربيعية ومدائحه اليربوعية مللا من أهل هذه البلد المضاف إلى هذا الاسم فغير معتذر من أبغض لأجلهم بني المنذر وهم إلى حضرته السنية رجلان سائل وقائل فأما السائل فألح وأما القائل فغير مستملح وقد سترت نفسي عنها ستر الخميص بالقميص وأخي الهتر بسجوف الستر فظهر لي فضله الذي مثله مثل الصبح إذا لمع تصرف الحيوان في شؤونه وخرج من بيته اليربوع وبرز الملك من أجل الربوع وقد يولع الهجرس بأن يجرس في البلد الجرد قدام الأسد الورد
وإني خبرت أن تلك الرسالة الأولى عرضت بالمعرض الكريم فأوجب ذلك رحيل أختها متعرضة لمثل بختها وكيف لا تنفع وفي اليم تقع وهي بمقصد سيدنا فاخرة ولو نهيت الأولى لانتهت الآخرة

كملت الرسالة التي كتبها أبو العلاء إلى الوزير الكامل أبي القاسم المغربي
قلت وهذه رسالة أنشأتها في تقريض المقر الكريم الفتحي أبي المعالي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء بالديار المصرية والممالك الإسلامية أدام الله تعالى معاليه في شهور سنة أربع عشرة وثمانمائة وهي
الحمد لله الذي جعل الفتح محط رحال القرائح الجائدة ومستقر نواها ومحيط دائرة الأفكار الواردة ومركز شعاع كواها ومادة عناصر الأفهام الجائلة وعتاد شكيمة قواها
نحمده على أن خص المملكة المصرية من إيداع سرها المصون بأوسع صدر رحيب وأنهض بتدبير مصالحها من إذا سرت كتائب كتبه إلى عدو أنشد من شدة الفرق قفا نبك من ذكرى حبيب وأقام لنصرتها بأسل الأقلام وصفاح المهارق من إذا طرقها على البعد طارق تلا لسان يراعته ( نصر من الله وفتح قريب ) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تسير بها برد الهداية إلى آفاق الأخلاق فتشيد لقلاع الإيمان بأقطار القلوب أركانا وترقم أسرار شعائرها بنقس القبول في صحف الإقبال فتبدل داعيها بإذاعة خبرها من الإسرار إعلانا وتدين بطاعتها ملوك الممالك

النائية خضوعا فتتخذ كتب رسائلها على المفارق بعد اللثم تيجانا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل نبي سن المعروف وندب إليه وأكرم رسول جعل خير بطانتي الملك التي تأمره بالخير وتحثه عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في السير سبيله واتبعوا في السيرة سننه واقتفوا فيه سننه واتبعوا في المعروف آثاره فتلا عليهم تالي الإخلاص ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) صلاة تتناقل على مر الزمان أخبارها ويتصدى لروايتها من الأمة على تمادي الدهر أحبارها وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن رياسة أهل الدول تتفاوت باعتبار قرب الرئيس من ملكه في مخاطبته ومناجاته واعتماد تصرفه في أمور دولته وتنفيذ مهماته والاستناد على رأيه في جليل خطوبه وعظيم ملماته
( فعال تمادت في العلو كأنما ... تحاول ثأرا عند بعض الكواكب )
ولا خفاء أن صاحب ديوان الإنشاء من هذه الرتبة بالمحل الأرفع والمنزلة التي لا تدافع ولا تدفع والمقام الذي تفرد بصدارته فكان كالمصدر لا يثنى ولا يجمع إذ هو كليم الملك ونجيه ومقرب حضرته وحظيه بل عميد المملكة وعمادها وركنها الأعظم وسنادها حامي حومتها وسدادها وعقدها المتسق ونظامها ورأس ذروتها العلياء وسنامها وجهينة خبرها وحقيبة وردها وصدرها ومبلغ أنبائها وسفيرها وزند رأيها الموري ومشيرها
( فحيهلا بالمكرمات وبالعلى ... وحيهلا بالفضل والسؤدد المحض )
هذا وهو الواسطة بين الملك ورعيته والمتكفل لقصيهم بدرك قصده وبلوغ بغيته والمسعد للمظلوم من عزائم توقيعاته بما يقضي بنصرته

وحينئذ فلا يصلح لها إلا من كان من كرام الخيم بارز الخيام لاصطناع المعروف ومع سمو الرتبة سامي الهمة لإغاثة الملهوف ومع عز الجناب لدى ملكه لين الجانب لذي المسألة ومع قربه بحضرة سلطانه قريبا من الرعية حتى من المسكين والأرملة
وغير خاف أن كل وصف من هذه الأوصاف مع مقابلة كالضدين اللذين لا يجتمعان بحال والنقيضين اللذين قضى العقل بأن الجمع بينهما محال وأنى يجتمع العالي والهابط والمرتفع والساقط أم كيف تتصل الأرض بالسماء أو يقع امتزاج عنصر النار بعنصر الماء ومن ثم عز هذا المطلب لهذه الوظيفة حتى إنه لأعز من الجوهر الفرد وقل وجوده حتى لم يوجد إلا في الواحد الفذ الفرد فلا تراه إن تراه إلا في حيز النادر ولا تظفر به إلا ظفرك ببيض الأنوق إن كان يظفر به ظافر إلا أنه ربما سمح الدهر فأتى بالفذ من هذا النوع في الزمن المتباعد أو أسعد الدهر فأسعف بالواحد بعد ألف واحد
ثم قد مضت برهة من الأيام وجيد ديوان الإنشاء من نظر من هو متصف ببعض هذه الأوصاف عاطل والدهر يعد بمن يقوم فيه بتفريج كربه الملهوفين ولكنه يماطل
( يرفه ما يرفه في التقاضي ... وليس لديه غير المطل نقد )
إلى أن طلع نير الزمان وتوضح شروقه وظهرت تباشير صباحه وأفل بطلوع السعد عيوقه فأقبلت الدولة الظاهرية بسعادتها وتلقتها الأيام الناصرية جارية منها على وفق عادتها ووفر للدولتين من انتخاب الأصفياء

قسمتها ومخضت لها الرأي الصائب حتى ظهرت في الوجود زبدتها فكان خلاصة اصطفائهما وزبدة انتقائهما المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي الكبيري السفيري المشيري الفتحي نظام الممالك الإسلامية وزمام سياستها ومنفذ أمورها وجامع رآستها أبو المعالي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية زاد الله تعالى في ارتقائه على تعاقب الدول وأجراه من خفي اللطف على أجمل العوائد وقد فعل فألقي إليه من أسرار المملكة مقاليدها واتفقت بحسن سفارته باتفاق الرواة أسانيدها فنفذت بتنفيذه أمورها وكملت بصحيح رأيه كسورها فجرت الأمور بحسن تدبيره على السداد ومشتت الأحوال بلطف سفارته على أتم المراد واعترفت له الكافة بالسيادة فأطاعت وعرفت له الرعية تقدمه في الرآسة فرعت حرمته وراعت
( وإن أمور الملك أضحى مدارها ... عليه كما دارت على قطبها الرحى )
قد استعبد الخط فأصبح له كالخديم وأتى من المعروف بكل غريب فأنسى من أثر عنه ذلك في الزمن القديم فلو رآه خالد بن برمك لأحجم عن ملاقاته عظما أو ناوأه يحيى بن خالد لمات من مناوأته عدما أو سابقه الفضل وجعفر ابناه لسبقهما كرما
( مناقب لو أني تكلفت نسخها ... لأفلست في أقلامها ومدادها )
أو سمع به الحسن بن سهل لقطع إليه الحزن والسهل أو بصر به الفضل أخوه لما رأى أنه للفضل أهل أو عاينه أبو علي بن مقلة لعلم أنه فاقه حظا وخطا أو نظر ابن هلال إلى أهلة نوناته لتحقق أنه سبقه إلى تحرير هندسة الحروف وما أخطا
( إذا أخد القرطاس خلت يمينه ... تفتح نورا أو تنظم جوهرا )
فإن تكلم أتى من بيانه بالسحر الحلال أو حاور أتى من البلاغة بما

يقصر عن رتبته سحبان في المقال أو ترسل أعيى عبد الحميد في رسائله أو كتب رتعت من روض خطه في زهر خمائله
( يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب )
فرأيه السيف لا ما صنع الهند وعقله الصارم لا ما استودع الغمد
( ففي رأيه نجح الأمور ولم يزل ... كفيلا بإرشاد الحيارى موفقا )
أقلامه تزري بالصوارم وتهزأ بالأسل وتجري بصلة الأرزاق فتزيد على الأماني وتربو على الأمل
( بت جاره فالعيش تحت ظلاله ... واستسقه فالبحر من أنوائه )
فمكارمه تغني من الإملاق وبواكره بالإسعاد تبادر الغدو والإشراق وعطاياه تسير سير السحاب فتمطر الغيث على الآفاق
( كريم مساعي المجد يركب نجدة ... من الشرف الأعلى وبذل الفواضل )
قد خدمته الحظوظ وأسعدته الجدود وقسمت المنازل السنية فكان له منها سعد السعود
( لو عدد الناس ما فيه لما برحت ... تثني الخناصر حتى ينفد العدد )
فلو غرس الشوك أثمر العنباء أنى أرادها أو حاول العنقاء في الجو لصادها أو زرع في السباخ لكان ذلك العام والسنة الخصبة ولضوعفت مضاعفة حسناته فأنبتت كل حبة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة
( وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان )
( واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان )

قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه وتقمص من الفضل جلبابا لا تتطلع الأيام إلى نزعه واتنهى إليه المجد فوقف وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف
فقصرت عنه خطا من يجاريه وضاق عنه باع من يباريه
( نالت يداه أقاصي الكرم الذي ... مد الحسود إليه باعا ضيقا )
فمناقبه تسبق أقلام الكاتب وتستغرق طاقة الحاسب لسس لارتفاعها غاية ولا لتداولها نهاية فلا توفي جامعة بشرطها ولا تقوم جريدة ببسطها
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل )
قد هتف بمدحه خطباء الأقلام على منابر الطروس ونطقت بفضله أفواه المحابر فنكست لرفعة قدره شوامخ الرؤوس وطلعت في أفق المهارق سعود إيالته السعيدة فأفلت لوجوده النحوس ورقمت محاسنه بنقس الليل على صفحات النهار فارتسمت وحملت أخبار معروفه فتزاحمت الآفاق على انتشاق أرج ريحه العبقة واستهمت
( لقد كرمت في المكرمات صفاته ... فما دخلت لاء عليها ولا إلا )
اتفقت الألسنة على تقريضه فمدح بكل لسان وتوافقت القلوب على حبه فكان له بكل قلب مكان واستغرقت ممادحه الأزمنة والأمكنة فاستولى شكره على الزمان والمكان
( ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريضه بطن دفتر )
على أني أستقيل عثرتي من التقصير في إطرائه والتعرض من مدحه لما لا أنهض بأعبائه فلو أن الجاحظ نصيري وابن المقفع ظهيري و قس بن ساعدة يسعدني وسحبان وائل ينجدني وعمرو بن الأهتم يرشدني لكان اعترافي بالعجز في مدحه أبلغ مما آتيه وإقراري بالتقصير في شكره أولى مما أصفه من توالي طوله وأياديه

( ولو أن لي في كل منبت شعرة ... لسانا يطيل الشكر فيه لقصر )
وهذه نسخة رسالة للشيخ الإمام العالم معين الدين تاج العلماء خطيب الخطباء زين الأئمة قدوة الشريعة الصدر أبي الفضل يحيى بن جعفر بن الحسين بن محمد الحصكفي رحمه الله سماها عتاب الكتاب وعقاب الألقاب المشتملة على أصول الغريب والإغراب وهي
عذيري من وزراء النصبة وكتابها وكبراء الدسوت وأربابها وأواخي الدول وأطنابها ونواب الدواوين وأنيابها وجباة بيوت الأموال والسعاة في زم نشر الأحوال وساسة الممالك وصحف أسرار المآلك الشامخين بأنوف التيه والكبرياء والساحبين ذيول العجب والخيلاء الرافلين في حلل البهاء والغافلين عن فروض العلاء الذين تبوؤوا السؤدد من غير سداد وتسنموا الرتب بلا إعداد فكأنهم الحاصب وعدو الله المناصب شغلهم الأشر والفجور وكل على بسطته يجور همهم محح الأجراح وشج الراح بالماء القراح وامتطاء المرد والعتاق الجرد أملهم تنجيد الأفنية وتشييد الأبنية والزيادة في الرقيق والكراع والخول والاتباع وليس بغال كثرة خيل وبغال بما باعوه من الورع والديانة وأضاعوه من العفة والصيانة
( قد ملكوا الدنيا على غرة ... ونافسوا فيها السلاطينا )

( توزعوا الدولة والملك ... والخضرة والإسلام والدنيا )
( شادوا بأعمالهم دورهم ... وأخربوا فيها الدواوينا )
( عفوا وما عفوا بأقلامهم ... مساكنا تحوي مساكينا )
( غرتهم الدنيا بأن أظهرت ... عن غلظة تضمرها لينا )
( والدهر كم جرع في مرة ... مرا وحينا ساقه حينا )
( يا أنفسا ذلت بإتيانهم ... ويك أتأتين الأتاتينا )
( لا ترغبي في رسلهم إنما ... تمرين في القعب الأمرينا )
( وكان يجدي القصد لو أنهم ... يدرون شيئا أو يدرونا )
( موتى همو فليك تقريظهم ... إن كنت لا تأبين تأبينا )
( لا يعتني الفضل بإطراء من ... يكون فيه الهجو مغبونا )
( لو رمت شيئا دون أقدارهم ... لهجوهم لم تجد الدونا )
قد أخلدوا إلى الوضاعة عن تحصيل البضاعة وكفاهم من البراعة بري اليراعة وعنوا باسوداد الليقة عن سؤدد الخليقة وأحالوا على الرمم عند قصور الهمم ومن أعظم الآفات فخرهم بالعظم الرفات
( وكأنهم لصميم هاشم ... أو من لهاميم العباشم )
( غشموا فما يغشاهم ... بالطوع إلا كل غاشم )
لا يعين أحدهم على مروة ولا ينعش ذا أخوة ولا يرعى وارث أبوة ولو اعتزى إلى بنوة فهو غير آس بجوده ولا مواس بموجوده يروقك كيسه والغلام وتروعك دويه والأقلام فإذا استنطق قلمه الصامت أجذل عدوه الشامت فزاد أدراجه ناقصا وعاد على أدراجه ناكصا
( فهو الذي أملى لهم حلمه ... مع الخنا والنكد الباهض )

( لو أنني وليت تأديبهم ... شفيت صدر النقه الناهض )
( من ناظر يضحي بلا ناظر ... وعارض يمسي بلا عارض )
( ومشرف للدين ما قصده ... في الوطب إلا زبدة الماخض )
( وخازن إن لف مرضاته ... من حلوهم عف عن الحامض )
( ومن خبيث جاءنا ذكره ... في الذكر بين البكر والفارض )
( وكاتب لو أنصفوا مهره ... لكان أولى منه بالرائض )
إن وقع رأيت اللفظ المرقع وإن أطال وأسهب أذال عرضه وأنهب وكان أحق بتقليد الفهود عند تقليد العهود وأولى بشطر المناشير عن سطر المناشير وأجدر بقبض الروح إذا انبسط للشروح وأخذ في ذكر الوقائع والفتوح كفه بالجلم أولى منها بالقلم وأخلق بالمسحاة من السحاة وأليق بالفؤوس من الطروس يبري ويقط ولا يدري ما يخط إذ ليس في السفط غير السقط إن فاتحته أو طارحته ظفرت بغصة الماتح وخشر المفاتح إن خط فنونه فى كلامه وخلط فنونه في كلامه
( إن وقعوا وقعوا في ذم كل فم ... أو أنفذوا أنفذتهم أسهم الكلم )
( أو قلدوا قلدوا خزيا يجللهم ... أو اقطعوا قطعوا شتما بجعلهم )
( أراقم المال والأعمال إن رقموا ... جاؤوا من الرقم والألفاظ بالرقم )
( فالله يأخذ منهم للدواة ... وللأنفاس بالحق والقرطاس والقلم )
فالجديد بهم سمل والسوام بينهم همل ولا علم عندهم ولا عمل لهفي على الفضل المذال برفعة الأنذال وضياع الحقوق وانصياع البيضة عن العقوق

ثم ما على سيدنا الوزير مع اصطحاب البم والزير ونفاق سوقه وانغماسه في فسوقه واتصال صبوحه بغبوقه وتخليه في البهو للعب واللهو من ظهر غي يركب وذي يسار ينكب وساع يشي وراع يرتشي ورسوم حيف تجدد وسوآت تعدد ما يضره من شكوى الجارح البغاث وصريخ لا يغاث ووال يعسف بأهل مصره وإن شركه في إصره وقاض لا ينصف الرعية ولا يتبع القضايا الشرعية وفقيه يسف إلى تحصيل عرض زائل وتعجيل غرض من سائل ماله ولحفظ المال ومحاسبة العمال
( أم ما على العامل نمس الدجاج ... إن نقص الكرم وزاد الخراج )
( عليه أن يحصل في كمه ... شيء وإن أخلى جميع الخراج )
( وهو خراج عند ما ينتهي ... يبط بالمبضع ما في الخراج )
شغلهم بالشهد المشور لا بمشهد يوم النشور وقصدهم الجمع والاكتساب ومتى الجمع والحساب إنما هو مال يحتقب لا مآل يرتقب وفساد في الأرض لا إعداد ليوم العرض
( وإني لأرثي للمراتب تحتوي ... عليها قرود فوقهن برود )
( سراع إلى السوآت فيما يشينهم ... ولكنهم عما يزين ركود )
( يقاظ إذا ما ثوب اللؤم داعيا ... وعند نداء المكرمات رقود )
( وما غرني إلا جلاوز حولهم ... وإلا قيام بينهم وقعود )
( لقد حسدوا ظلما على ما أتاهم ... وهل لأخي يسود حسود )
( وللسيد المحسود كف عن العلى ... تذود وأخرى بالنوال تجود )
( لحا الله دنيانا التي ضل سعيها ... وفيها علينا بالضلال شهود )

( إذا صغرت كاسم الحسين محلة ... علت وعلا فيها يزيد يزيد )
إنما الصدر من صدره كماله وحسنت أعماله وجرد العزمات فشرد الأزمات ونفى بذبه الكربات واصطفى لربه القربات فسهل الغنى وأفعم الإنا ووضع مواضع النقب الهنا فهو يهش للنوال ويبش عند السؤال لا يشوب ورده القذا ولا يبطل منه بالمن والأذى يبشر بشره بمحاسن الأخلاق وينشر نشره الطيب في الآفاق ويحسم بدواته داء الإملاق ويحرز بقصبته قصب السباق
( يجردها من مثل وفضة نابل ... أجنتها من نافذات المعابل )
( وفي خطه المنسوب تزري شباتها ... بلهذم منسوب إلى الخط ذابل )
( وإن بذرت عن حبة القلب أنبتت ... من البر قبل البر سبع سنابل )
دؤوبه لإقالة العاثر وعمارة الداثر وإشاعة المآثر همه في معضلة تراض ومعدلة تفاض وخلل يسد وجلل يصد وعان بظهره يعان وعات بقهره يهان بابه مفتوح وخيره ممنوح وما أقل اللائم لمن أكثر الولائم وأغفل الجادب لمن صنع المآدب وأخلص الإخاء لمن استخلص السخاء فبذل الرغوة والصريح والسنام الإطريح لا كمن يشح بالقتار لفرط الإقتار ويضن بالوضر على المختضر ويبخل بالعراق عمن روحه في التراق ويسر الغميرة لمن يبتغي الميرة ويبطن الداء لمن ينتظر الغداء ويسعر الأحشاء لمن ترقب العشاء

( مسلط سيرته نقمة ... وجائر قسمته ضيزى )
( ليس بذي لب يمل الثأى ... ولا لباب يملأ الشيزى )
يحقد على الإخوان عند ظهور الخوان فتراه يحدق إلى من يشدق وينتقم ممن يلتقم ويذل الأكيل ويحل بهم التنكيل ويبغض الشريب وإن كان الخدن القريب فالحائن من يرد فيزدرد والخائن من ينبسط فيسترط يشنأ من الأجراس صوت الأضراس وحشرجة البلاعم بدحرجة المطاعم وهرهرة الشدوق وجرجرة الحلوق وقد صدت حواجز بلواه أفواها تصدت لحلواه وحكمت لجامه بحكمة لجامه وعدت بكيوانه لهى وعدت بألوانه رغيفه أعرز من الغريف وأغرب من الشيء الطريف صريف بابه دون صريف نابه ويحكم صك بابه عن كبابه ويعد سديف جفانه من سديف أجفانه يمانع بلديده عن سفود قديده ويصافح بصفحة وريده عن صحفة ثريدة حمله من نجوم الحمل وسمكه فوق السماك الأعزل وحوته بين الحوت والأسد وجديه عند جدي الفرقد دون عجته ارتفاع العجاجة وتحت دجاجته ذنب الدجاجة
( يدرج في القدر دراجه ... ليلقط الحب وطيهوجه )
( ففي السموات سماناته ... وعند ديك العرش فروجه )

يحرس مائدته الدلو والعقرب وهما منا أدنى وأقرب يعجبه التثمير والاحتجان ويلذ له التوفير والاختزان وقصر مفاجأة أحوال تصرح عن أهوال وكأنك بالأيام بعد الابتسام شاهرة للحسام قد كشرت عن أنيابها العصل في بكرها والأصل وأجلت عن سليب مسحوب لتنكر مصحوب وآخر يتردد في البوس ويخلد في الحبوس قد حصل على سلة الحاوي من سلة الحلاوى ومن طعم العسل على طعن الأسل ومن العذب البارد على حز المبارد
( تقبض من خطوه الكبول ... فهو على قيده يبول )
( خلا من الخير فهو طبل ... وهكذا تضرب الطبول )
( يشكو إلى الله مستغيثا ... وما له عنده قبول )
( ذاك بما كان مستطيلا ... تردي دواهيه والميول )
فهم بين حصى تعصر وقفا يقصر وكعاب مثقوبة وأنواع عقوبة أو يقال فلان أنارته شعوب ووارته الجبوب واكتفى بسلفة الممات من المقدمات وما ظنك بالشلو الطريح في ضنك الضريح تحته البرزخ الموصود وفوقه الجبل المنضود انظر كيف هجر بابه المقصود وجانبت جنابه الوفود وأخلقت رباعه وتفرقت أتباعه ثم تشويه الحوب أبشع من تشويه الشحوب وويل للقوم البور من بعثرة القبور
( ويا خسار الأنفس الغاويه ... من بعد تلك الحفر الهاويه )
( وكل من خفت موازينه ... فأمه في بعثه هاويه )
( وليس يدري ويحه ما هيه ... نار على سكانها حاميه )
أعاذنا الله من خلال يقضي جهلها بالشنار وأفعال تفضي بأهلها إلى النار بكرمه وإحسانه وطوله وامتنانه

الصنف الثالث من الرسائل المفاخرات وهي على أنواع
منها المفاخرة بين العلوم
وهذه نسخة رسالة في المفاخرة بين العلوم أنشأتها في شهور سنة ثمان وتسعين وسبعمائة لقاضي القضاة شيخ الإسلام علامة الزمان جلال الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام بقية المجتهدين أبي حفص عمر البلقيني الكناني الشافعي أمتع الله تعالى المسلمين ببقائه ذكرت فيها نيفا وسبعين علما ابتدأتها بعلم اللغة وختمتها بفن التاريخ ذاكرا فخر كل علم على الذي قبله محتجا عليه بفضائل موجودة فيه دون الآخر وجعلت مصب القول فيها إلى اشتماله على جميعها وإحاطته بكلها مع الإشارة إلى فضل والده شيخ الإسلام ومساهمته له في الفضل على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى وهي
الحمد لله الذي جعل للعلم جلالا تود جلائل الفضائل أن تكون له أتباعا وأطلق ألسنة الأقلام من جميل ثنائه بما أنطق به ألسنة العالم ليكون الحكم بما ثبت من مأثور فضله إجماعا وأجرى من قاموس فكره جداول أنهار العلوم الزكية فنعش قلوبا ونزه أبصارا وشنف أسماعا
أحمده على أن أفاض نتائج الأفكار على الأذهان السليمة لذي النظر الصحيح وبث جياد الألسنة في ميدان الجدال فحاز قصب السبق منها كل لسان ذلق فصيح وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي قهرت بينات دلائله الملحد المعاند وبهرت قواطع براهينه الألد الخصيم والجدل

المكايد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر من واضح الحجج الجلية ما سقط بحجيته دعوى المعارض وأتى من فصل الخطاب بما أفحم به الخصوم فلم يستطع أشدهم في البلاغة شكيمة أن يأتي له بمناقض صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من جليل المناقب بكل وصف جميل واشتهرت في الوجود مفاخرهم فلم يحتج في إثباتها إلى إقامة دليل صلاة يتمسك في دعوى الشرف بمتين حبلها وتتفق أدلة العقل والنقل على القطع بعلو شأنها وتوفر فضلها
وبعد فلما كانت العلوم مشتركة في أصل التفضيل متفقة الفضل في الجملة وإن تفاوتت في التفصيل مسلما أصل الشرف فيها من غير منازع مجمعا على أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع مع اختلافها في التفاضل باختلاف موضوعاتها وتفاوتها في الشرف بحسب الحاجة إليها أو وثاقة حججها أو نفاسة غاياتها عطس كل منها بأنف شامخ غير مسلم للآخر ولا مسالم ومد إلى العلياء يد المطاولة فتناول الثريا قاعدا غير قائم وادعى كل منها أن بحره الطامي وفضله النامي وجواده الطامح وسماكه الرامح زاعما أن حسامه القاطع وعضبه القاضب وقدحه المعلى وسهمه الصائب ونجمه الساري وشهابه الثاقب وأن نشر الثناء على مجامره موقوف وخطيب المحامد بمنابره معروف وفلك الفضل على قطبه دائر وكل شرف عليه محبس وكل فخر عليه قاصر فماس بعطفه ومال وبسط في الكلام لسانه فقال وطال
هذا وإنها اجتمعت يوما اجتماع معنى لا صورة وقامت لها سوق بالبحث معروفة وعلى الجدال مقصورة وتفاوضت بلسان الحال وتخاطبت وتحاورت في دعوى الشرف وتجاوبت وألمت بالمنافرة فتنافرت وتسابقت في ميدان الافتخار فتفاخرت وأخذ كل منها في نصرة مذهبه وتحقيق مطلبه بأنواع الحجج والاستدلالات وإقامة البراهين والأمارات وما

يتوجه على ذلك من الأسئلة والاعتراضات
فكان أول باديء بدأ منها بالكلام وفتح باب الجدال والخصام علم اللغة فقال
قد علمتم معشر العلوم أني أعمكم نفعا وأوسعكم مجالا وأكثركم جمعا على قطب فلكي تدور الدوائر وبواسطتي تدرك المقاصد ويستعلم ما في الضمائر وبدلالتي تعلم المعاني المفردات ويتميز ما يدل على الذوات مما يدل على الأدوات وتتبين دلالات العام والخاص ويتعرف ما يرشد إلى الأنواع والأجناس وما يختص بالأشخاص على أن كلكم كل علي ومحتاج في ترجمة مقصوده إلي فلفظي المحكم وأقوالي الصحاح وكلامي الجامع وسيف لساني المجرد ناهيك من سلاح وفضلي المجمل لا يحتاج إلى بيان
استأثر الله تعالى بتعليمي لآدم عليه السلام وآثره بي معرفة على الملائكة فكان خصيصة له على الملائكة الكرام
فلما انقضى قيله وبانت للمستبين سبيله ثاب إليه علم التصريف مبتدرا ولنفسه ولسائر العلوم منتصرا فقال رويدك أيها المساجل وعلى رسلك يا ذا المناضل فقد ذل من ليس له ناصر وحط قدر من ترفع على أبناء جنسه ولو عقدت عليه الخناصر وما يجدي البازي بغير جناح أو يغني الساعي إلى الحرب بغير سلاح وأنى يطعن رمح بغير سنان أو يقطع سيف لم يؤيد بقائم ولم تقبض عليه بنان إنك وإن حويت فضلا وأعرقت أصلا وكنت للكلام نظاما وإلى بيان المقاصد إماما فأنت غير مستقل بنفسك ولا قائم برأسك بل أنا المتكفل بتأسيس مبانيك والملتزم بتحرير ألفاظك وتقرير معانيك بي تعرف أصول أبنية الكلمة في جميع أحوالها وكيفية التصرف في أسمائها وأفعالها وما يتصل بذلك من أحوال الحروف البسيطة وترتيبها واختلاف مخارجها وبيان تركيبها والأصلي منها والمزيد والمهموس والرخو والشديد و . . تقديره والصحيح والمعتل

وتحريره وكيفية التثنية والجمع والفصل والوصل والابتداء والقطع وأنواع الأبنية وتغيرها عند اللواحق وكيفية تصريف الفعل عند تجرده عن العوائق وأمثلة الألفاظ المفردة في الزنة والهيئة وما يختص من ذلك بالأسماء والأفعال وتمييز الجامد منها والمشتق وأصناف الاشتقاق وكيف هو على التفصيل والإجمال
على أنك لو خليت ومجرد التعريف وبيان المقاصد بالاصطلاح أو التوقيف لكان علم الخط يقوم مقامك في الدلالة الحالية لدى الملتقى ويترجح عليك ببعد المسافة مع طول البقا مع ما فيه من زيادة ترتيب الأحوال وضبط الأموال وحفظ العلوم في الأدوار واستمرارها على الأكوار وانتقال الأخبار من زمان إلى زمان وحملها سرا من مكان إلى مكان بل ربما اكتفي عنك بالإشارة والتلويح وقامت الكناية منها مقام التصريح
فعندها غضب علم النحو واكفهر وزمجر واشمخر وقال يا لله استنت الفصال حتى القرعا واستنسرت البغاث فكان أشد ثلمة وأعظم صدعا لقد ادعيت ما ليس لك ففاتك الحبور ومن تشبع بما لم ينل فهو كلابس ثوبي زور وهل أنت إلا بضعة مني تسند إلي وتنقل عني لم يزل علمك بابا من أبوابي وجملتك داخلة في حسابي حتى ميزك المازني فأفردك بالتصنيف وتلاه ابن جني فتبعه في التأليف واقتصر ابن مالك منك في تعريفه على الضروري الواجب وأحسن بك ابن الحاجب في شافيته فرفع عنك الحاجب وأنت مع ذلك كله مطوي ضمن كتبي نسبتك متصلة بنسبتي وحسبك لا حق بحسبي أنا ملح الكلام ومسك الختام لا يستغني عنى متكلم ولا يليق جهلي بعالم ولا متعلم بي

تتبين أحوال الألفاظ المركبة في دلالتها على المقاصد ويرتفع اللبس عن سامعها فيرجع من فهمها بالصلة والعائد فلو أتى المتكلم في لفظه بأجل معنى ولحن لذهبت حلاوته وزالت طلاوته وعيب على قائله وتغيرت دلالته وقد كانت الخلفاء تحث على النحو وترشد إليه وتحذر اللحن وتعاقب عليه
( وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها عندي مقيم الألسن )
فبينما هو كذلك إذ برزت علوم المعاني والبيان والبديع جملة وحملت عليه بصدق العزم في اللقاء حملة وقالت جعجعة رحا من غير طحن وتصويت رعد من غير مزن لقد أتيت بغير معرب وأعربت عن لحن ليس بمطرب الحق أبلج والباطل لجلج إن الفوز لقدحنا والوري لقدحنا نحن لب العربية وخلاصتها والمعترف لنا بالفضل عامتها وخاصتها وهل أنت إلا شيء جرى عليك الاصطلاح وساعدك الاستعمال فأمنت الاطراح فلو اصطلح على نصب الفاعل ورفع المفعول لم يخل بالتفاهم في المقاصد وها كلام العامة لذلك أقوم دليل وأعظم شاهد
فقال علم الشعر أراكم قد نسيتم فضلي الذي به فضلتم وصرمتم حبلي الذي من أجله وصلتم أنا حجة الأدب وديوان العرب علي تردون وعني تصدرون وإلي تنتسبون وبي تشتهرون مع ما اشتملت عليه من المدح الذي كم رفع وضعا وجلب نفعا ووصل قطعا وجبر صدعا والهجو الذي كم حط قدرا وأخمد ذكرا وجعل بين الرفيع والوضيع في حطيطة القدر نسبا وصهرا إلى غير ذلك من أنواعي الشعرية التي شاع ذكرها وأضواعي العطرية التي فاح نشرها بل لا يكاد علم من العلوم الأدبية يستغني عن شواهدي ولا يخرج في أصوله عن قوانيني وقواعدي حتى علم النثر الذي هو شقيقي في النسب وعديلي في لسان العرب لم يزل أهله يتطفلون علي في بيت يحلونه ويقفون من بديع محاسني عند حد لا يتعدونه

فقال علم القافية إن وإن تألق برق مباسمك وطابت أيام مواسمك فأنت موقوف على مقاصدي ومغترف من روي مواردي أنا عدة الشاعر وعمدة الناثر لا يستغني عين شعر ولا خطابة ولا يستنكف عن الوقوف على أبوابي ذو ترسل ولا كتابة طالما عثر الفحول في ميداني وتشعبت عليهم طرقي فضلوا السبيل واختلفت عليهم المباني فلم يفرقوا بين التكاوس والتراكب في التعارف ولم يميزوا بين التدارك والتواتر والترادف
فقال علم العروض لقد أسمعت القول في الدعوى من غير توجيه فدخل عليك الدخيل وأوقعك الوصل دون تأسيس في هوة النقص فهل إلى خروج من سبيل أنا معيار القريض وميزانه وعلي تبنى قواعده وأركانه لم يزل الشعر في علو رتبته بفضلي معترفا ولحقي متحققا ومن بحوري مغترفا وبأسبابي متعلقا فأبياته بميزاني محررة وأجزاؤه بقسطاس تفاعيلي مقدرة وبفواصلي متصلة وبأوتادي مرتبطة غير منفصلة
فقال علم الموسيقى لقد أسرفت في الافتخار فضللت الطريق وبنت عنها وورطت نفسك فيما لا فائدة فيه فلزمت دائرة لا تنفك عنها وأتيت من طويل الكلام بما لا طائل تحته فثقل قولا وجئت من بسيط القول بما لو اقتصرت منه على المتقارب لكان بك أولى فأنت بين ذي طبع وزان لا يحتاج إلى معيارك في نظم قريضه وآخر نبت طباعه عن الوزن فلم ينتفع من علمك بضربه ولا عروضه فإذا لا فائدة فيك ولا حاجة إليك ولا عبرة

بك ولا معول عليك وكفى بك هضما ونقيصة وذما واستدلالا على دحض حجتك وضعف أدلتك قول ابن حجاج
( مستفعلن فاعلن فعول ... مسائل كلها فضول )
( قد كان شعر الورى صحيحا ... من قبل أن يخلق الخليل )
على أنه ثبتت لك فائدة وعاد منك على الشعر أو الشعراء عائدة فإنما تفاعيلك مقدمة لألحاني وأوزانك وسيلة إلى أوزاني نعم أنا غذاء الأرواح وقاعدة عمود الأفراح والمتكفل ببسط النفوس وقبضها والقائم من تعديلها وتقويتها بنفلها وفرضها أحرك النفس عن مبدئها فيحدث لها السرور وتظهر عنها الشجاعة والكرم وأبعثها إلى مبدئها فيحدث لها الفكر في العواقب وتزايد الهموم والندم فتارة أستعمل في الأفراح وزوال الكروب وتارة في علاج المرضى وأخرى في ميادين الحروب وآونة في محل الأحزان واجتماع المآتم ومرة يستعملني قوم في بيوت العبادات فأبعثهم على طلب الطاعات واجتناب المحارم وآتي من غريب الألحان بما يشبع به الجائع ويروى به الظمآن ويأنس به المستوحش وينشط به الكسلان وتدنو لسماعه السباع ويعنون له بعد الشدة الشجاع مع ما يتفرغ عني من علم الآلات الروحانية التي تنعش الأرواح وتجلب الأفراح وتنفي الأتراح وتؤثر في البخيل السماح وتفعل في الألباب ما لا تفعل في اللبات بيض الصفاح
فقال علم الطب لقد أضعت الزمان في اللهو وملت مع الأريحية فماس بك العجب وزاد بك الزهو وداخلك الطيش فقنعت بالإطراب وعنيت بمعرفة اللحن ففاتك الإعراب تذكر العشاق أحوال النوى فيسلمها الهوى إلى الهوان وتتنقل في نواحي الإيقاع تنقل الهائم

فتمسي في حجازي وتصبح في أصبهان وأنت وإن ادعيت أنك العلم الروحاني والمستولي بتحريك الطبائع الأربع على النوع الإنساني وغير الإنساني فأنت غير مستغن عني ولا فنك في الحقيقة منفك عن فني بل قواعدك مرتبة على قواعدي وفوائدك مستفادة من فوائدي وأهل صناعتك يتطفلون في معرفة الملائم والمنافي على ساقط لباب موائدي وأني تنبسط بك الروح مع وجود السقم أو يستريح إليك القلب مع شدة مقاساة الألم بل أنا قوام الأبدان وغاية ملاك الإنسان بي تحفظ صحة الأجسام وتتمكن النفس من استكمال قوتيها النظرية والعملية بواسطة زوال الأسقام وانتفاء الآلام مع ما يتضح بالنظر في التشريح الذي هو أحد أنواعي من سر قوله تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) وما يظهر من حال الصحة والمرض وسر الموت من أنه تعالى بدأت الخلق أولن مرة وإليه يحشرون مع ما يلتحق بي من علم خواص العقاقير الغريبة والأحجار التي تؤثر بتمزيجها الصناعي التآثير العجيبة وتأتي من نوادر الأفعال بالأعمال الغريبة على أني لست بمختص في الحقيقة ببدن الإنسان ولا قاصر على نوع من أنواع الحيوان وإنما أفردت بنوع البشر اهتماما بشانه وتنبيها على جلالة قدره وعلو مكانه
ثم ألحق بالإنسان في الاعتناء به الخيول فاشتق لها مني علم البيطرة وتلاها في الاعتناء جوارح الطيور لاهتمام بشأنها فاستنبط لها من أجزائي علم البيزرة وأهمل ما سوى ذلك من جنس الحيوان فلم يعتن بأمره ولم يهتم له بشان
فقال علم القيافة لقد ارتقيت مرتقى صعبا وولجت مولجا صلبا

وأتيت من مشكلات القضايا بما ضاقت مطالبه وعرضت نفسك لمغالبة الموت والموت لا شيء يغالبه واقتصرت في تشريحك الأعضاء على ذكر منافعها وصفاتها وأضربت عما تدل عليه بصورها وكيفياتها أين أنت من إلحاق الابن بالأب بالصفات المتماثلة والحكم بثبوت النسب بدلائل الأعضاء كما يحكم بالبينة العادلة فهذه هي الفضيلة التي لا تساوي والمنقبة التي لا تعادل ولا تناوى وكفاك لذلك شاهدا وعلى ثبوته في الشريعة المطهرة مساعدا وأنه لا يعتور ذلك معارضة ولا نقض استبشار النبي بقول مذحج المدلجي إن هذه الأقدام بعضها من بعض
فقال علم قص الأثر نعم إن شأنك لغريب وإن اجتهادك لمصيب غير أني أنا أغرب منك شأنا وأدق في الإدراك معنى إذ أنت إنما تلحق المحقق بالمشاهدة بمثله وتقيس فرعا على أصل ثم تلحق الفرع بأصله وأنا فأدرك المؤثر من الأثر وأستدل على الغائب بم يظهر من اللوائح في الرمل والمدر وربما ميزت أثر البعير الشارد من المراتع وفرقت بالنظر فيه بين الصحيح والظالع فأدركت من الأمر الخفي ما تدركه أنت من الظاهر وقضيت على الغائب بما تقضي به على الحاضر
فقال علم غضون الكف والجبهة ما الذي أتيت به من الغريب أو أظهرته بعلمك من العجيب فلو ابتليت بأرض صلبة لوقفت آمالك أو محت الريح معالم الأثر لبطلت أعمالك أو ولج من تقفي أثره الماء لفات حدسك الصائب أو جعل الماشي مقدم نعله مؤخره لقلت إن الذاهب قادم والقادم ذاهب لكن أنا كاشف الأسرار الخفية والمستدل على لوازم

الإنسان بما ركب فيه من الدلائل الخلقية أستخرج من أسارير الجبهة وغضون الكف أمورا قد أرشدت الحكمة الإلهية إليها وجعلت تلك العلامة في الإنسان دلالة عليها
فقال علم الكتف إنه ليس في الاستدلال على الشيء بلازمه أمر مستغرب ولا ما يقال فيه هذا من ذاك أعجب وإنما الشأن أن يقع الاستدلال على الشيء بما هو أجنبي منه وخارج عنه كما أستدل أنا بالخطوط الموجودة في كتف الذبيحة على الحوادث الغريبة والأسرار العجيبة مما أجرى الله به العادة في ذلك وجعله علامة دالة على ما هنالك
فقال علم خط الرمل لقد علمت أنك لست بمحقق لما أنت له متوسم ولا واثق بالإصابة فيما أنت عنه تترجم وغايتك الوقوف مع التجارب والرجوع فيما تحاوله إلى التقارب مع ما أنت عليه من الرفض والإهمال وما رميت به من القطيعة وقلة الاستعمال أما أنا ففارس هذا الميدان ومالك زمام هذا الشان فكم من ضمير أبرزته وأمر خفي أظهرته ومكان عينته فوافق وأمد قدرته فطابق على أنه ليس لك أصل ترجع إليه ولا دليل تعتمد عليه فأنا أثبت منك قواعد وأوضح عند الاعتبار في الدلالة على المقاصد فإن عدوت طورك أو جزت في الاحتجاج خصمك فمداك أنه كان نبي يخط فمن وافق خطه فذاك
فقال علم تعبير الرؤيا إنك وإن أظهرت السرائر وأبرزت الضمائر فإن أمرك موقوف في حدسك على الدلالة الحالية ومقصور في تخمينك على الأمور الاحتمالية أين أنت مني حين أعبر عما شاهدته النفس في النوم من عالم الغيب وكيف أكشف عنه الحجب بالتأويل فيقع كفلق

الصبح من غير شك ولا ريب فأخبر بحوادث تقع في العالم قبل وجودها وآتى من حقائق النذارة والبشارة بما ينبه على التحذير من نحوسها والترقب لموافاة سعودها
فقال علم أحكام النجوم حقيق ما أولت وصحيح ما عنه عبرت وعليه عولت إلا أنك قاصر على وقائع مخصوصة ترشد إليها وأمور محدودة تنبه عليها على أنه ربما نشأت الرؤيا عن فكرة وقعت في اليقظة فاتصلت بالمنام أو حدثت عن سوء مزاج أو رداءة مطعم ونحو ذلك فكانت أضغاث أحلام أما أنا فإني أدل بما أجراه الله تعالى من العادة على الحوادث العامة مصاحبا لمقتضيات الإرادة ليظهر ما في الحكمة الإلهية من قضايا التدبير ويتبين ما اشتملت عليه الأفلاك العلوية من تقدير الترتيب وترتيب التقدير مع ما يترتب على ذلك من الأعمال العجيبة والأحوال الغريبة التي تبهر العقول ويمتع إليها من غير طريقي الوصول من علم السحر على الإطلاق وعلم الطلسمات الغريبة وعلم الأوفاق وكذلك علم النيرنجيات وعلم السيمياء الاخذ بالأحداق
فقال علم الهيئة مالك ولأباطيل تنمقها وأكاذيب تزخرفها وتزبرقها وأماثيل يعتمدها المعتمد فتخيب وأقاويل تارة تخطيء وتارة تصيب ولقد وردت الشريعة المطهرة بالنهي عن اعتبارك وجاءت السنة الغراء بمحو أخبارك وإعفاء آثارك وناهيك بفساد هذا الاعتقاد ورد هذا

المذهب ما ثبت في الصحيح من أنه من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب على أنك في الحقيقة نوع من أنواعي معدود من جندي ومحسوب من أتباعي نعم أنا القائم من دليل الاعتبار في القدرة بتمام الفرض والقائد بزمام العقل إلى التفكر في خلق السموات والأرض عني يتفرع علم الزيجات والتقاويم الذي به يعرف موضع كل واحد من الكواكب السيارة ومدة إقامتها وزمن تشريقها وتغريبها ومقدار رجوعها واستقامتها وحال ظهورها واختفائها في كل زمان وما يتصل بذلك من الاتصال والانفصال والخسوف والكسوف واختصاص ذلك بمكان دون مكان
فقالت علم كيفية الأرصاد ما علم الزيجات والتقاويم الذي تقدمه في الذكر علي وتؤثره من الفضل بما لدي إذ بي تتعرف كيفية تحصيل مقادير الحركات الفلكية والتوصل إليها بالآلات الرصدية التي عليها يترتب علم الزيجات ويعرف في التقويم لاتصالات والانفصالات والامتزاجات مع ما يلتحق بي من علم الكرة الذي منه تعرف كيفية اتخاذ الآلات الشعاعية ويتوصل به إلى استخراج المطالب الفلكية
فقال علم المواقيت كيف وأنا سيد علوم الهيئة وزعيمها وشريفها في الشريعة وكريمها بي تعرف أوقات العبادات وتستخرج جهة القبلة بل سائر الجهات وتعلم أحوال البلدان ومحلها من المعمور في الطول والعرض ومقادير أبعادها وانحراف بعضها عن بعض مع ما ينخرط في هذا السلك من معرفة السماوات وارتفاع الكواكب ومطالعها من أجزاء البروج والطالع منها والغارب وغير ذلك من الشعاعات المخروطة والظلال القائمة والمبسوطة إلى غير ذلك مما يلتحق بي وينسب إلي ويتعلق بسببي من علم الآلات الظلية التي تعرف بها ساعات النهار ويظهر منها الماضي والباقي بأقرب ملتمس وألطف اعتبار من نحو الرخامات القائمات والمبسوطات منها والمائلات

فقال علم الهندسة إن فضلك لمشهور ومقامك في الشرف غير منكور إلا أن آلاتك بي مقدرة وأشكالك بأوضاعي محررة فأنا إمامك الذي به تقتدي ونجمك الذي به تهتدي بل جيمع علوم الهيئة في الحقيقة موقوفة علي وراجعة في قواعدها إلي لولاي لم يعرف السطح والكرة ولم يميز بين الخطوط والقسي والدوائر المقدرة مع ما ينشأ عني ويستملى من صحابي ويقتبس مني من أحوال المقادير ولواحقها ومعرفة ظواهرها الواضحة ودقائقها وأوضاع بعضها عند بعض ونسبها وخواص أشكالها والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل لها واستخراج ما يحتاج إلى استخراه بالبراهين اليقينية القاطعة وإظهارها إلى الحس بالأشكال البينة والحدود الجامعة المانعة
فقال علم عقود الأبنية نعم إلا أني أنا أجل مقاصدك وأعذب مواردك ونور عيونك وعروس فنونك مني يستفاد بناء الحصون والأسوار ويتعرف شق الأقنية وحفر الأنهار وعمارة المدن وعقد القواصر وسد البثوق وبناء القناطر وتنضيد المساكن ووضع المنازل ونصب الأشجار وترتيب الرياض ذوات الخمائل
فقال علم جر الأثقال صدقت ولكني أنا أساس مبانيك وقاعدة سنادك وحامل أثقالك وعمود اعتمادك بي تعرف كيفية نقل الثقل العظيم بالقوة اليسيرة حتى تنقل مائة ألف رطل بقوة خمسمائة وذلك من الأسرار النفيسة والأعمال الخطيرة
فقال علم مراكز الأثقال إلا أنك محتاج إلي في أعمالك ومتوقف علي في جميع أحوالك من حيث استخراج مراكز الأجسام المحمولة وبيان معادلة الجسم العظيم بما هو دونه لتوسط المسافة بالآلات المعمولة
فقال علم المساحة أراك قد غفلت عن معرفة المقادير

والمسافات التي هي مقدمة عليك في وضع المباني ومنفردة عنك بكثير من المعاني من أنواع الخراج والزراعات وتقدير الرساتيق والبياعات وكيفية ذرع المثلثات والمربعات والمدورات والمستطيلات وغير ذلك من دقائق الأعمال وإدراك كميات المقادير على التفصيل والإجمال
فقال علم الفلاحة فإذا قد اعترفت أنك من جملة لواحقي مندرج في حقوقي وداخل تحت مرافقي فأنا في الحقيقة المقصود منك في الوضع بالقياس والمتحد بك دون غيري من غير التباس مع ما أنا عليه من معرفة كيفية تدبير النبات من بدء كونه إلى تمام تدبيره وتنمية الحبوب والثمار بإصلاح الأرض وما تخللها من المعفنات كالسماد وغيره وما أبديه من اللطائف في إيجاد بعض الفواكه في غير فصله وتركيب بعض الأشجار على بعض واستخراج بعضها من غير أصله
فقال علم إنباط المياه إلا أني أنا بداية عملك وغاية منتهى أملك لا يتم لك أمر بدوني ولا تنبت لك خضراء ما لم تسق من بئاري وعيوني فأنا الكفيل بإحياء الأرض الميتة وإفلاحها والقائم بتلطيف مزاجها وإصلاحها
فقال علم المناظر ما الذي تجدي أنت وطرفي عنك مرتد ونظري إليك غير ممتد وأني تستيطع مياهك الترقي من الأغوار إلى النجود وتتنقل عيونك وأنهارك بين الهبوط والصعود إذا لم أكن لك ملاحظا وعلى الاعتناء بأمرك محافظا مع ما أشتمل عليه غير ذلك من تحقيق المبصرات في القرب والبعد على اختلاف معانيها وما يغلط فيه البصر كالأشجار القائمة على شطوط المياه حيث ترى وأسافلها أعاليها
فقال علم المرايا المحرقة إنك دققت النظر وحققت كل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39