كتاب : نصرة الثائر على المثل السائر
المؤلف : الصفدي

فلذلك رسم الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، لا زال طائره ميمونا ، ودر أمره في أدراج الامتثال مكنونا ، أن يفوض إليه الحكم يبن رماة البندق بدمشق المحروسة، على عادة من تقدمه في ذلك من القاعدة المستقرة بين الرماة. فليتول ذلك ولاية يعتمد الحق بها في طريق الواجب، ويظهر من سياسته التي شخصت لها العيون فكأنما عقدت أعالي كل جفن بحاجب، وليرع حق هذه الطريق في حفظ موثقه، وليجر على السنن المألوف من هذه الطائفة فكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، بحيث إنه ينزل كل مستحق في منزلته التي لا يعدوها، ويقبل من الرامي دعوى صيده الواجب له ويرد ما لا يعتد به الرماة ولا يعدوها، متثبتا فيما يحمل إليه للحكم ولا يرخ على عيبه ذيلا ، محررا أمر المصروع الذي أصبح راميه من كلفه به مجنون ليلى، جريا في ذلك على العادة المألوفة، والقاعدة التي هي بالمنهج الواضح موصوفة. وليتلق هذه النعمة بشكر يستحق به زيادة كل خير، ويتل آيات الحمد لهذا الأمر السليماني الذي حكمه حتى في الطير. والله يتولى تدبيره، ويصلح ظاهر حكمه والسريرة. إن شاء الله تعالى.

هل من شرط بلاغة التشبيه
أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم
قال في النوع الثامن من التشبيه: وقد قيل: إن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، ومن ها هنا غلط بعض كتاب أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبها له: هامة عليها من الغمامة عمامة، وأنملة خضبها الأصيل وكأن الهلال لها قلامة.
ثم إنه أخذ يعيب هذا ويقول: أي مقدار للأنملة أن تشبه الحصن وأطال باعتراض وجواب.
أقول: إن ابن أبي الحديد ناقشه في ذلك، وقد بقي شيء من مؤاخذته على هذا.
وهو أن الذي ادعى أن من بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، أبحث معه وأقول: فعلى هذا تبطل غلبة الفرع على الأصل في التشبيه، ونخطىء مثل ذي الرمة في مثل قوله:
ورملٍ كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس
فإنه شبه كثبان الرمل بما هو أقل منها وأحقر، لأن أوراك العذارى دون الكثبان. ولا نستحسن مثل قول أبي بكر محمد بن هاشم.
والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المترجرج
مسمار تبرٍ أصفرٍ ركّبته ... في خاتمٍ والفصّ من فيروزج
فإن كرة السماء والمشتري أكبر من الفص والمسمار.
ولا قول ابن قزل:
فصلٌ كأنّ البدر فيه مطربٌ ... يبدو وهالته لديه طاره
وكأنّ قوس الغيم جنكٌ مذهبٌ ... وكأنما صوب الحيا أوتاره
ومثل هذا كثير. وكل ما كان في العالم العلوي لا يشبه بشيء من العالم الأرضي لأنه أحقر وأقل، كما تشبه الثريا بالنرجس الذابل، والهلال بالقلامه والنعل، والبرق بالسيف، والشمس بالمرآة، والنجوم بالسراج، وقوس قزح بأذيال العروس، وجميع ما هو من هذا الباب لا يجوز تشبيهه، وإن كان فلا يكون بليغا على هذا التقرير. وهيهات هذا سد لباب الحسن. وأما الحصون، فقد شبهها الشعراء بالأنامل، منهم الغزي حيث يقول:
سدّ البسيطة نازلا من قلّة ال ... جبل الأشمّ إلى قرار الوادي
حتى غدا الحصن المبارك خنصرا ... في خاتمٍ من بهمةٍ وجواد
وقد استعمل ابن الأثير ذلك، فقال في فصل تقدم: فنزلنا منه بمرأى ومسمع، واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع.
وشبهها ابن قزل بالعين فقال:
إنّ الحصون لكالعيون فهدبها ... شرفاتها وجفونها الأصوار
وكذا محاجرها الخنادق حولها ... والحافظون لها هم الأشفار
ومن يعيب مثل قول القاضي الفاضل: ونزلنا قلعة نجم وهي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كأن الهلال لها قلامة.
فما ينبغي لمجادل يناظره إلا كف القول عنه، وهل الطعن على هذا إلا قول من لم يصل إلى العنقود.
كأنّ عائبكم يبدي محاسنكم ... به ويمدحكم عندي ويغريني
ويكفيه أنه عاب مثل هذه الألفاظ التي بهر حسنها لما ظهر، وغدت وفي كل ضاحية من وجهها قمر.
وقول الفاضل يشبه قول ابن خفاجة:
في خضر غورٍ بالأراك موشّحٍ ... أو رأس طودس بالغمام معمّم

ومن إنشاء شيخنا شهاب الدين محمود رحمه الله تعالى في وصف حصن: حصن قد تقرط بالنجوم وتقرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء ورسا أصله في التخوم، تخال الشمس إذا علت أنها تتنقل في أبراجه، ويظن من سها إلى السهى أنه ذبالة في سراجه، لا يعلوه من مسمى الطير غير نسر السماء ومرزمه، ولا يرمق متبرجات بروجه غير عين الشمس والمقل التي تطرف من أنجمه، وحوله من الجبال كل شامخ تتهيب عقاب الجو قطع عقابه، وتقف الرياح حسرى إذا توقلت في هضابه، تخاف العيون إذا رمقته سلوك ما دونه من المحاجر، ويخيل الفكر صورة الترقي إليه ثم لا يبلغها حتى تبلغ القلوب الحناجر، وحوله من الأودية خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأنصافها ولا تعرف فيه الأهلة إلا بأوصافها.
قال كعب الأشقري يصف حصنا :
محلّقةٌ دون السماء كأنها ... غمامة صيفٍ زال عنها سحابها
فلا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها
ولا خوّفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلاّ النّجوم كلابها
والخالديان:
وقلعةٍ عانق العيّوق أسفلها ... وجاز منطقة الجوزا أعاليها
لا يعرف القطر إذ كان الغمام بها ... أرضا توّطأ قطريه سواسيها
إذا الغمامة لاحت خاض ساكنها ... حياضها قبل أن تهمي عزاليها
يعدّ من أنجم الأفلاك مرقبها ... لو أنه كان يجري في مجاريها
على ذرى شامخٍ وعزٍ قد امتلأت ... كبرا به وهو مملوءٌ بها نيها
له عقابٌ عقاب الجو حائمةٌ ... من دونها فهي تخفى في خوافيها
وقالا أيضاً في ذلك:
وحلقاء قد تاهت على من يرونها ... بمدقبها العالي ومركبها الصعب
يزرّ عليها الجو جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب
إذا ما سرى برقٌ بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل السحب
سموت لها بالرأي يشرق في الدجى ... ويقطع في الجلّى وتنهض في الصعب
فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخد بالتّرب

مناقشة حول التشبيه في أبيات أحد الشعراء
قال في النوع الثاني من التشبيه بعدما أورد قول الشاعر:
وكأنّها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على النّدماء
شمس الضّحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدّجى بكواكب الجوزاء
إنه شبه الساقي بالبدر، وشبه الخمر بالشمس، وشبه الحبب الذي فوقها بالكواكب.
أقول: قد ادعى أنه شبه ثلاثة بثلاثة، وهو لم يشبه الساقي، ولا في البيتين ما يدل على تشبيهه، على أن الشاعر توهم أنه شبه الساقي ولم يذكره، وقلده ابن الأثير رحمه الله في وهمه. ومعناهما: أن الخمر في حببها كأنها شمس رقصت فنقطها البدر بالكواكب، وكنى برقصها عن اضطرابها عند المزج. وحسن ذكر البدر هنا لأنه يصاحب الكواكب، وهو أكبرها في رأي العين، لا في العقل إذا فكر في الهيئة، فحسن أن يكون له الكواكب تصرف لينقط الشمس بها. وذكر البدر هنا أمر على طريق الاستطراد، لما ذكر النقوط، أراد أن يسند فعله إلى فاعل صدر عنه، فحسن أن يذكر البدر. ولو حذف من الكلام تم المعنى في الأصل، كما يقال: كأن الخمر شمس رقصت فنقطت بالكواكب. والشاعر أثبت أداة التشبيه للساقي في قوله: وكأنها وكأن حامل كأسها.
ولم يأت له بمشبه به، فالشاعر واهم، وابن الأثير مقلد، وكلاهما اغتر بذكر البلد، لأن العادة قد جرت بتشبيه الساقي بالبدر، والخمر بالشمس. كقول الشاعر:
إسقنيها بنت كرمٍ ... عتّقت عشراً وخمساً
بات يجلوها علينا ... قمرٌ يحمل شمسا
وقول الآخر:
وساقٍ كالهلال يدير شمساً ... على النّدمان في مثل الهلال
وقول ابن الرومي:
أبصرته والكأس بين فمٍ ... منه وبين أناملٍ خمس
فكأنّها وكأنّ شاربها ... قمرٌ يقبّل عارض الشمس

ولو كان الشاعر شبه الساقي لقال: شمس يديرها بدر أو يطوف بها أو يحملها. وهذان البيتان مشهوران بين أهل الأدب، ولعل أحدا ما تفطن لهذا النقد. وما أقول: لأن الشاعر أدخل أدلة التشبيه على مثار النقع وأسيافهم وأتى بمشبه واحد هو الليل وقوله: تهاوى كواكبه في موضع الصفة لليل، فهي من لواحق الليل.
ولو قال: ليل تهاوى كواكبه، ورقمه البرق ووشاه الصبح، لكان كل ذلك مشبها به ليس إلا. ولو كان من باب تشبيه اثنين باثنين لقال: ليل وكواكب تتهاوى. كما قال امرؤ القيس:
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
وهذا الذي ذكرته ثابت على محك النظر ليس بدعوى مجردة عن الدليل والبرهان. وللعكوك بيت هو بيت بشار بن برد. وهو:
كأنّ سموّ النقع والبيض حوله ... سماوة ليلٍ أسفرت عن كواكب
وما أحسن قول ابن قاضي ميلة:
بتنا ونحن على الفرات نديرها ... ليلا فأشرق من سناها النيل
وكأنها شمسٌ وكف مديرها ... فينا ضحى وفم النديم أصيل
وذكرت بالبيتين اللذين أوردهما ابن الأثير رحمه الله تعالى قول ابن السراج في مجدور:
لي قمرٌ جدّر لما اكتسى ... فزاده حسنا وزادت هموم
كأنه غنّى لشمس الضّحى ... فنفّطته طربا بالنجوم
وقول أبي يزيد العاص أكثر مناسبة من هذا، فإنه قال:
عابه الحاسد الذي لام فيه ... أن رأى فوق خدّه جدريّا
إنما وجهه كبدر تمامٍ ... جعلوا برقعا عليه الثريا
لأن الثريا قد ترى مع البدر، وأما النجوم فلا ترى مع الشمس. ويمكن أن يقال فيه: ولهذا قال: نقطته طربا بالنجوم، فإن من نقط بشيء فقد بان عنه وفارقه.
ويمكن أيضاً التأويل للبيتين اللذين أوردهما ابن الأثير أيضاً ولكنه بعيد.

مناقشة نماذج من التشبه من إنشاء ابن الأثير
قال في التشبيه: ومن ذلك ما كتبته من جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أذكر فيه نزول العدو الكافر على عكا. فقلت: وأحاط به العدو إحاطة الشفاه بالثغور، ونزل عليه نزول الظلماء على النور.
أقول: ليس في ذلك مبالغة، لأن الشفاه لا تحيط بالثغور، والإحاطة اشتمال المحيط على المحوط من كل جانب، كالدائرة بالنقطة، وعنصر الماء بكرة الأرض، وبياض العين بالسواد. أما الشفاه فإنما هي ساترة لا محيطة.
والكامل في ذلك قول الحريري رحمه الله تعالى: وقد أحاطت به أخلاط الزمر، إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر.
وقول القاضي الفاضل: وأبقاه بقاءاً خارقاً للعوائد، وجعل أياديه مطيفة بالأعناق إطافة القلائد وليست الشفاه كذلك، إنما هي تستر الظاهر دون الباطن.
وقوله: نزول الظلماء على النور، لا بأس به، من نسبة الكفار إلى الظلام، ونسبة ثغر عكا إلى النور لكونه كان في أيدي المؤمنين.
وما أحلى قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى من كتاب في فتح طبرية: وصبح الخادم طبرية وهجم عليها هجوم الطيف، وافتض عذرتها بالسيف.
قال: ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت: وما شبهت كتابه في وروده وانقباضه، إلا بنظر الحبيب إلى إقباله وإعراضه وكلا الأمرين كالسهم في ألم وقعه وألم نزعهن والمشوق من اشتهرت صبابته في حالتي وصله وقطعه.
أقول: هذا مأخوذ من قول الشاعر
..........
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع النصال ونزعه، أليم
براعة التشبيه في بيت للبحتري
قال وقد أورد قول البحتري:
وتراه في ظلم الوغى فتخاله ... قمرا يكرّ على الرّجال بكوكب
وفي هذا التشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء، فإنه شبه العجاج بالظلمة، والممدوح بالقمر، والسنان بالكوكب. وهذا من الحسن النادر.
أقول: هذا من أنموذج ما تقدم من قوله في قول الشاعر:
وكأنها وكأن حامل كأسها... البيتين.
هناك وهم الشاعر فقلده، وهنا انفرد هو بالوهم دون البحتري، لأن البحتري ما قال: وتراه في عجاج الحرب إذا كر على الرجال برمحه، قمرا يجول في الظلام بكوكب، ولو كان البيت يفهم منه هذا المعنى، كان تشبيه ثلاثة بثلاثة، وليس في البيت غير تشبيه واحد لأنه قال: تراه في ظلم الوغى فتخاله قمراً.

هذا هو المعنى الذي بني عليه البيت. وأما قوله: يكر على الرجال بكوكب، فمن لواحق القمر ألا ترى أن الجملة في موضع النصب على أنها صفة لقمر.
ومن العجيب أنه ادعى أن البحتري شبه العجاج بالظلم، والبحتري جعل العجاج نفسه ظلاماً. ولو أتى ذكر الظلام في عجز البيت، لدخل في المشبه به واندرج بين القمر والكوكب، وإنما جاء ذكره في أصل المشبه.
وما أحسن قول المعتمد بن عباد:
ولما اقتحمت الوغى دارعا ... وقنّعت وجهك بالمغفر
حسبنا محيّاك شمس الضحى ... عليها سحابٌ من العنبر
وقول ابن الزقاق.
لو كنت شاهده وقد غشي الوغى ... يختال في درع الحديد المسبل
لرأيت منه والحسام بكفه ... بحرا يريق دم العداة بجدول
وقول الغزي:
وقد سلب الطّعن الأسنّة لونها ... فعصفر في اللبّات ما كان أزرقا
وأسيافنا في السابغات كأنها ... جداول تجري بين زهرٍ تفتّقا
وقوله أيضاً :
وكم رعت من ملومةٍ لا تبين من ... فوارسها إلا الظبى والحمالق
تخوض النّجيع احمرّ تحت دلاصه ... كما نبتت حول الغدير الشقائق
وهذا مأخوذ من قول أبي الطيب:
تعوّد أن لا تقضم الحبّ خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
ولا ترد الغدران إلا وماؤها ... من الدّم كالريحان تحت الشّقائق
ومما قلته أنا في هذا النوع:
وسيوفٍ إذا مضت في جراحٍ ... قلت هذا بنفسجٌ في شقيق
ينشد الجسم روحه من ظباها ... ودماها بين النقا والعقيق
وأما ما يشبه قول البحتري الذي أورده ابن الأثير، فقول أبي فراس فيما أظن:
وقفلت عنهم غانما وقلوبهم ... فيها لخوفك عسكرٌ جرّار
وأتيت يقدمك السّنان كما أتى ... قبل الصباح الكوكب الغّرار
قال: ومن التشبيهات الباردة قول أبي الطيب:
وجرى على الورق النجيع القاني ... فكأنه النارنج في الأغصان
أقول: لعمري إنه معذور في هذا، وهو من سقطات المتنبي التي ينحط فيها، وهذا البيت من تلك القصيدة التي افتتحها بقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أولٌ وهي المحلّ الثاني
الأبيات الخمسة.
فانظر إلى هذا الافتتاح، وما أتبعه من الحكم والأمثال مع الفصاحة والبلاغة وفي هذه القصيدة مثل قوله:
وتوهموا اللعب والوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
ومنها يصف العدو المنهزم:
يغشاهم مطر السحاب مفصّلا ... بمهنّدٍ ومثقّفٍ وسنان
وقبل البيت الذي أورده ابن الأثير:
قد سوّدت شجر الجبال شعورهم ... فكأنّ فيه مسفة الغربان
ولما عكس أبو المطرف بن أبي بكر المخزومي معنى أبي الطيب في تشبيه نارنجة في نهر جاء حسنا . فإنه قال:
ومنظرٍ أرّقني حسنه ... من أزرقٍ ينساب كالأرقم
أبصرته يحمل نارنجةً ... طافيةً حمراء كالعندم
ودرّجت ريح الصبا متنه ... لمّا انبرت وهي به ترتمي
فخلته سيف وغىً مصلتا ... هزّ وفيه قطرةٌ من دم
وقال ابن فتحون في ذلك:
والماء فوق صفائه نارنجةٌ ... تطفو به وعجاجه يتموّج
حمراء قانية الأديم كأنّها ... وسط المجرّة كوكبٌ يتوهّج
فأتى بالمعنى في بيتين، وأبو المطرف في أربعة فأطال.
وذكرت بقول أبي المطرف، قول القاضي عياض رحمه الله تعالى:
كأنّما الزرع وخاماته ... وقد تبدّت فيه أيدي الرياح
كتائب تجفل مهزومةً ... شقائق النّعمان فيها جراح

مناقشة نموذج آخر من إنشاء ابن الأثير
قال في القسم الأول من النوع الرابع في الالتفات، بعدما تكلم على ما في سورة الفاتحة من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفرغ من ذلك: فانظر إلى هذا الموضع، وتناسب هذه المعاني الشريفة، التي الأقدام تكاد تطؤها والأفهام مع قربها صافحة عنها.

أقول: أكذا يقال بعد ذكر أسرار القرآن الكريم وإيضاح غامضه. وما أفاد قوله: المعاني الشريفة وتأدبه بقوله تكاد الأقدام تطؤها ! وكان الأحسن أن لو قال: فانظر إلى هذه المعاني الشريفة كيف غدت شموسها ضاحية، والبصائر عن إدراك ضيائها لاهية. أو أن يقول: تكاد تيجانها تقع على المفارق، والأذهان عاطلة الجيد من درها المتناسق.

الالتفات في بعض الآيات
قال في الالتفات وقد ذكر قوله تعالى: " ثمّ استوى إلى السّماء وهي دُخان " الآية. إنما عدل عن الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: " وزيَّنّا السّماءَ الدُّنيا " لأن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنيا، وأنها ليست حفظا ولا رجوما . فلما صار الكلام إلى هنا، عدل عن خطاب الغائب إلى خطاب نفسه لأنه مهم من مهمات البلاغة في الاعتقاد، وفيه تكذيب الفرقة المكذبة المعتقدين بطلانه.
أقول: إن اعتقادهم أنها ليست في سماء الدنيا وليست رجوماً، نوع على اعتقاد قدم العالم، وأن الله تعالى موجب بالذات دون حدوث العالم والفاعل المختار.
وعلى ما قرره، فإضافة الفعل في خلق السماوات في يومين، ووحي أمرها فيها إلى المتكلم، يكون أولى من أن تكون إخبارا عن غيره، لأنه الأصل، والعناية بالأصل أولى من العناية بالفرع، لأنه إذا ثبت الأصل ثبت الفرع ولا ينعكس، ولو كان هذا أولى لما عدل عنه، ولكنه قد عدل عنه لحكمة لم تظهر لابن الأثير.
اقحام النحو
قال في النوع الرابع في توكيد الضميرين: ولربما قيل في هذا الموضع: إن الضمائر مذكورة في كتب النحو فأي حاجة إلى ذكرها هنا ؟ ولم يعلم أن النحاة لا يذكرون ما ذكرته، لأن هذا يختص بفصاحة وبلاغة، وأولئك لا يعرضون إليه، وإنما يذكرون عدد الضمائر، وأن المنفصل منها كذا والمتصل كذا ولا يتجاوزون ذلك. وأما أنا فقد أوردت في هذا النوع أمرا خارجا عن الأمر النحوي.
أقول: إن نحو المتقدمين غالبه معان وبيان، مثل: الرماني وأبي علي الفارسي وابن جني على تأخر زمانهم، وأكثر ما هو الآن مدون في علم المعاني مذكور في كتب القوم، ولكن لما أتى الإمام عبد القاهر الجرجاني، جرد هذه النكت التي ليست بإعراب ولا بد، وجمعها ودونها وبوبها ورتبها، صار علما قائما برأسه، وتنبه الناس بعده كالسكاكي وغيره تفتحت لهم الأبواب.
ولهذا إن من لم يكن متمكنا من النحو، لا يقدر على الكلام في هذا. ألا ترى أن الزمخشري لما كان عارفا بالنحو تيسر له في تفسيره ما لا تيسر لغيره، وباقتداره على الإعراب والنظر في أسرار العربية وتعليل أحكامها أورد تلك الإشكالات، وأجاب عنها بتلك الأجوبة المرقصة، وبالنحو استطال ومهر وتبحر ودربه فني النظم والنثر هي التي نبهته لذلك. حتى إن الإمام فخر الدين في تفسيره تراه إذا تكلم في سائر العلوم غير مقلد لأحد، فإذا جاء المعاني والبيان قلد الزمخشري في ذلك وقال: قال محمود الخوارزمي وقال صاحب الكشاف. ولهذا قال العلماء: من نظر في الكشاف ولم يكن عارفا بالعربية وأصول الدين، صار معتزليا ، وما أشبه وضع علم المعاني والبيان إلا بالفقه. فإن الفقهاء قديما في التابعين إنما كانوا محدثين فلما جاء أبو حنيفة رضي الله عنه دون الفقه وقرر قواعده، وقاس ما لم يبلغه فيه حديث على ما ورد فيه الحديث، وجاء الناس من بعده ومدوا فيه الأطناب، وفتحت لهم الأبواب. وانفرد الفقهاء بهذا العلم عن المحدثين، واختص الفقهاء بمعرفة الأحكام والاستنباط وتركوا معرفة طرق الحديث وأسماء رجاله وصحيحها من سقيمها للمحدثين. ولهذا تسمعهم يقولون، فلان من الفقهاء المحدثين. وأعيان الفقهاء إنما تميزوا لقيامهم بفن الحديث. وانظر إلى أئمة المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأبي داود الظاهري والثوري والأوزاعي وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم تجدهم من كبار المحدثين.

ويقال: إن سبب وضع أبي حنيفة الفقه وتدوينه أنه كان في عصره اثنان حضرا إلى الحمام وأودعا صاحبه وداعة لها صورة، ودخلا الحمام. ثم إن أحدهما خرج وطلب الوداعة وأخذها وراح في سبيله. فلما خرج الآخر طلبها من الحمامي فقال له: إن صاحبك خرج وأخذها، فراح إلى الحكام في ذلك الزمان وشكاه إليهم فألزموه بالقيام بها للغريم الحاضر وقالوا له: أنت فرطت، وكان الواجب أن لا تدفع الوداعة إلا إليهما معا كما أودعاك معا ، فبقي ذلك الرجل في حيرة لا يدري ما يصنع. فلقيه أبو حنيفة فسأله عن حاله لما رآه من الفكرة والحيرة، فأخبره بقضيته، فقال له: قل لغريمك: إن المال عندي، فأحضر لي صاحبك لأدفع الوداعة إليكما، فإذا أتى به حصلت على غريمك. فكان ذلك سبب خلاص الحمامي من تلك الورطة.
وعند ذلك أخذ أبو حنيفة في تدوين الفقه، وكانت المسألة المذكورة أول ما وضعه. وكذلك أصول الفقه، إنما كان يقوم به المجتهد العارف بما يحتاج إليه من العلوم في استنباط الحكم من الآية والحديث، ويكون عنده قوة ينظر بها في المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والحقيقة والمجاز، وصحة الحديث من ضعفه، وثقة رواته، وترجيح أحد الحديثين على الآخر إذا تساويا في الصحة بما يوافق القواعد ويستند إلى القياس الشرعي، ومثل هذا يحتاج إلى علوم جمة، فجاء الشافعي رحمه الله تعالى ووضع أصول الفقه وجمع ما كان منه مفرقا في العلوم من اللغة في معرفة المشترك والمتباين والمترادف، والحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية.
ومن النحو في معرفة الشرط والجزاء، والاستثناء المتصل والمنقطع، والعطف المرتب والعطف الذي لا يرتب، والذي للفور والذي للتراخي، وحروف الجر واختلاف معانيها وما ينقسم كل حرف إلى أنواعه، والأسماء المبهمة وغير ذلك.
ومن المنطق في معرفة دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، ومعرفة الجنس والنوع، والفصل والخاصة والعرض العام، والمقدمتين والنتيجة والقياس المنتج، وغير ذلك مما يحتاج إليه الفقيه من قواعد الجدل ومعرفة المغالط، وما يحتاج إليه من معرفة صحة الحديث وضعفه وحسنه إلى غير ذلك. وجعله الشافعي رحمه الله تعالى علما قائما برأسه وإن كانت أجزاؤه مفرقة في العلوم. ثم إن الناس جاؤوا بعده وزادوا فيه ما أمكن من ذلك. فكذا علم المعاني والبيان، انتزع من النحو ودون وجعل فنا قائما برأسه.

حول توكيد الضميرين
قال: ولنقدم في ذلك قولا يحصره ويجمع أطرافه فنقول: إذا كان المقصود معلوما ثابتا في النفوس، فأنت بالخيار في توكيد أحد الضميرين بالآخر وإذا كان غير معلوم وهو مما يشك فيه فالأولى حينئذ أن توكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة لتقرره وتثبته. فمما جاء من ذلك قوله تعالى: " قالوا يا مُوسى إمّا أن تُلقِي وإمّا أَنْ نكونَ نَحنُ المُلْقِين " فإن إرادة السحرة للإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده، ولأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم وطول في الكلام على ذلك.
أقول: ظهرت فائدة ما قررته أنا من أن المعاني والبيان جزء من النحو، وإذا خرجا عن القواعد النحوية، خبط قائلهما عشواء. والدليل على ذلك أنه قرر في القاعدة التي له أن المعنى إذا كان ثابتا في النفس، فأنت مخير في تأكيد أحد الضميرين بالآخر وليست هذه القاعدة على الإطلاق، فإن التأكيد هو التكرار، ومن شرطه أعني التكرار أن يتم المعنى بدونه مثل: ضربت زيدا زيدا ، وجاءني زيد زيد، وأنت أنت الفاضل، وهو هو الجواد. فكل هذه الصور يجوز حذف التأكيد فيها لأن المعنى يتم بدونه.
وقد وجدنا الضمير يتكرر ولا يجوز حذفه، كقوله تعالى: " وقلنا يا آدم اسكُن أنت وزوجُك الجنّة " . وقوله تعالى: " فاذهبْ أنتَ وربُّك فَقاتِلا " ، لأن أفعال الأمر نحو: قم واقعد واسكن كلها يتحمل الضمير ولا يجوز إظهاره، لأن التقدير: قم أنت، واسكن أنت، ولهذا حكم النحاة على أفعال الأمر بأنها كلام لأنها تركبت من فعل وفاعل.

ألا ترى أنهم أوردوا على الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في قوله: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد، الضمائر المستكنة في أفعال الأمر جميعاً وقالوا: هي كلمات ولم يلفظ بها اللسان. حتى إن الشيخ بدر الدين محمد بن مالك رحمه الله تعالى قال: الكلمة لفظ بالقوة أو الفعل فاحترز بقوله بالقوة من مثل الضمائر التي تتحملها أفعال الأمر، ولهذا فسر بعضهم اللفظ فقال: اللفظ ما يطرحه اللسان أو في حكمه حتى يخلص حد ابن الحاجب.
وإذا تقرر هذا فأقول: إن أنت في قوله تعالى: " اسكن أنت " ضمير آخر بارز غير الضمير المستكن في اسكن، وتقديره: اسكن أنت أنت وزوجك. ومع ذلك فلا يجوز أن يحذف الضمير الظاهر ها هنا لأنه لا يجوز عطف زوجك على الضمير المستتر، لضعف ما هو بالقوة بالنسبة إلى ما هو بالفعل. وهذا بخلاف قوله تعالى: " وإِمّا أن نكون نحنُ المُلقين " . فثبت أن صاحب المعاني إذا لم يعرف النحو، لم يدر ما يقوله.
ويمكن أن يجاب عنه ويعتذر له فيقال: إنه إنما يتكلم في التوكيد، وقوله تعالى: " اسكن أنتَ وزوجُك " ليس هو من باب التوكيد، إنما أتى به لأمر آخر وهو عدم الجواز في العطف على المضمر المستكن، وهذا غير التوكيد.
قلت: وعلى كل حال، فهي عبارة مدخولة غير سادة، تحتاج إلى قيد يخرج مثل هذا، وإلا ورد على قاعدته التي قررها، فإن القواعد تحتاج إلى أن تكون محكمة غير موهمة.

ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره
قال في النوع الثامن من استعمال العام في النفي، والخاص في الإثبات: وقد أغفل كثير من الشعراء ذلك، من جملتهم أبو الطيب حيث يقول:
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل
فإنه إذا فعل ذلك، كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منه، وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منه.
فأما قوله: يا بدر فإنه اسم الممدوح والابتداء به أولى، ثم يجب أن يقول بعده: يا رجل يا ليث يا غمامة يا بحر يا حمام لأن الليث أعظم من الرجل، والغمامة، أعظم من الليث والبحر أعظم من الغمامة، والحمام أعظم من البحر.
أقول: قد ناقشه ابن أبي الحديد، وقال كلاما أذكر ملخصه، وهو أن المتنبي قصد مقصدا صالحا لأنه ابتدأ بالبحر وهو دون الغمامة، لأن البحر هنا هو الذي يورد وهو مثل الغدير والنهر لا البحر الملح، فإن ذلك استقص كلي، والأنهار والغدران يتفرعا عن الغمامة، ثم انتقل فقال: يا ليث الشرى وانتقل منه إلى الحمام لأنه أعلى من الليث، لأنه لولا الحمام لم يرهب الليث. ولذكر الجود أولا قال يا بحر، ولذكر الشجاعة ثانيا قال يا ليث، وقدم الجود لأن حاجة جمهور الناس إلى الجود أكثر من حاجتهم إلى الشجاعة، انتهى، هذا ملخص كلام ابن أبي الحديد، وهو لعمري تأويل حسن، كونه عكس على ابن الأثير مقصده وجعل البيت من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، وغالب الناس طعن في البيت كما طعن ابن الأثير.
قلت: وللناس فيه تأويل آخر، وهو أنه لا يلزمه الانتقال من الأدنى إلى الأعلى فيما قصده، لأنه أراد وصفه بالمدح الذي ادعاه فيه قبل. وقال: يا بدر اسمه، ثم قال يا بحر، فإن لم أصدق فيما أقوله فيا غمامة، فإن لم أصدق فيا ليث، فإن لم أصدق فيا حمام لأنك تعدم نفوس أعدائك الحياة، فإن لم أصدق فيا رجل، جمع هذه الأوصاف التي ذكرتها، على أن هذا التأويل ليس في قوة ما ذكره ابن أبي الحديد ولا في حسنه.
وابن الأثير ادعى أن الحمام أكبر من البحر وأعلى ولم يبين وجه ذلك، والذي أقوله في ذلك: لأن الموت عبارة عن عدم الحياة، والبحر عبارة عن وجود الماء الكثير الغمر، والعدم أعم من الوجود، فهو أعلى منه بهذا الاعتبار ومقدم عليه. ومن هذا قوله تعالى: " الحمدُ لِلّه الذي خلَقَ السّمواتِ والأرضَ، وجعلَ الظُّلماتِ والنُّور " . قيل: إنه قدم الظلمات على النور، لأن الظلمة عبارة عن عدم النور، والعدم مقدم على الوجود. ولولا هذا التأويل في هذه الآية الكريمة، لكان قول المتنبي: يا بدر يا بحر البيت من هذا الباب.

ويشكل على من قرر أنه لا ينتقل إلا من الأدنى إلى الأعلى، وبهذه القاعدة التي قرروها تمسك من فضل الملائكة على الأنبياء وقال: إن الله تعالى انتقل من الأدنى إلى الأعلى في قوله تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لِلّه ولا الملائكةُ المُقَّربون " فإن الحكيم لا ينتقل من الأعلى إلى الأدنى، ولا يقول البليغ: لا أفكر في السلطان ولا في الوزير بل يقول: لا أفكر في الوزير ولا في السلطان.
والصحيح الذي ذهب إليه علماء السنة، أن الأنبياء أفضل من الملائكة إلا من شذ منهم مثل: القاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي.
وقوله: ومثل جدودها في عيون الأعداء شيئاً عجابا ، هذا كلام فارغ كالجسد الذي لا روح فيه.
وقوله: وأراهم في اليقظة إرهابا وإرعابا ، وفي المنام إبلا صعابا ، تقود خيلا عرابا ، أصل هذا المعنى لأشجع السلمي.
وعلى عدوك يا بن عم محمدٍ ... رصدان: ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبّه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام
وما زان سجعته الثانية إلا تضمينه السجع الذي جاء في رؤية الموبذان ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في ذلك من كلام سطيح.
وابن الأثير احتفل لهاتين السجعتين، وأراد مماثلة القاضي الفاضل في دعاء الكتاب الذي كتبه في فتح القدس. ومنه: ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
وأنت أيها الواقف على هذه الأوراق حكم بين هذين الخصمين، وبيدك الأمر في الفرق بين الكلامين:
فمن استحقّ الاتقاء فرقّه ... ومن استحطّ فحطّه في حشه
وإن كان هواي مال بي إلى كلام الفاضل.
فلله ابن سناء الملك حيث قال:
إني رأيت البدر ثم رأيتها ... ماذا عليّ إذا عشقت الأحسنا
ثم قال: وهي فتح القدس الذي تفتحت له أبواب السماء، وكثرت بأحاديث مجده كواكب الظلماء، واسترد حق الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماء.
وأي همم هذه، وما عسى أن تناله إذا لم يكن معها إلا الزاد والماء. أما كان لها مهم غير الزاد والماء، ولا لها فكرة غير ذلك ؟ وهمة لا يكون همها الخيل والرجل والسلاح والدأب والسرى وركوب الأخطار، وقطع المفاوز، والصبر على السهر وأنواع المشاق، أي شيء تناله..
ثم قال: ومن أحسن ما أتى به أنه آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى.
أقول: المليح النادر في هذا، ما ورد في خطبة القاضي محيي الدين ابن الزكي رحمه الله تعالى وهو على المنبر في أول جمعة أقيمت في القدس: ومسجدكم هذا أول القبلتين، وثاني الحرمين، وثالث المسجدين...
واستعمل العماد الكاتب ذلك أيضاً في كتاب كتبه إلى ديوان الخلافة بفتح القدس أيضاً ، فقال وقد ذكر الصخرة: فصافحت الأيدي منها موضع القدم، وتجدد لها من البهجة والرسالة ما كان لها في القدم، فهو ثاني المسجدين بل ثالث الحرمين.
ثم قال: وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعه، وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعه.
أقول: أكذا يكتب عن مثل ملك عانى من الأهوال ما عانى، وكابد ما كابد، وبذل نفسه وولده وأهله وماله وعساكره، حتى استنقذ مثل القدس من مثل الفرنج.. وهو يريد أن يمت إلى الخليفة بهذه اليد، ويعظم الأمر ويفخمه، ويصف الشدائد التي كابدها حتى صار هذا الفتح العظيم في أيام الخليفة، وانضاف إلى ملكه ودخل في قبضته. ويقال: خدعهم بالسواد الأعظم والحرب خدعة. ليس هذا بلائق في هذا المقام.
ثم قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، ولا تحمى بعوالي الأسوار بل بعوالي الصعاد.
أقول: كان الأحسن أن لو قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، بل ببياض الرأي وكثرة السداد.

على أن هذا الكتاب الذي أورده ابن الأثير رحمه الله في معارضة الفاضل من أجل ما أنشاه، وأحسن ما وشاه. وإنما سبب ذلك كونه عارضه به معارضه، وأخذ محاسنه من المهلة والتأني مقارضه، فلهذا جاء منقحا وزهره مفتحا . ولو أنه أخذ درجاً، والقاضي الفاضل درجا وقعدا في مكان واحد، وأخذا في العمل على غير مثال، لبان المجلي في الحلبة من الفسكل، كما اقترح السلطان المعز على ابن رشيق وابن شرف القيرواني أن ينظما في الشعر الدقيق الذي على ساق بعض النساء ويمدحاه لكونه يستحسنه ويعيبه بعض الضراير. وقال: أريد أن يكون ذلك حجة لها على من يعيبها. فانفرد كل واحد منهما ونظما في الوقت. فكان الذي أتى به ابن شرف:
وبلقيسيّةٍ زينت بشعرٍ ... يسيرٍ مثل ما يهب الشحيح
حكى زغب الخدود وكلّ خدٍّ ... به زغب فمعشوقٌ مليح
فإن يك صرح بلقيس زجاجا ... فمن حدق العيون لها صروح
وكان الذي أتى به ابن رشيق:
يعيبون بلقيسيةٍ إذ رأوا بها ... كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا
وقد زادها التزغيب ملحا كمثل ما ... يزيد خدود المرد تزغيبها ملحا
فاستحسن المعز أبيات ابن شرف وعاب قول ابن رشيق وقال: لقد أوجدت خصمها حجةً بقولك يعيبون، فإن بعض الناس عاب ذلك. وهذا نقد حسن.
وانظر إلى هذين الشاعرين كيف نطقا بلسان واحد، عن رؤية واحدة، ومعنى واحد، وقافية واحدة.
ولا بأس بإثبات شيء من كتاب القاضي الفاضل في الفتح المذكور. ولولا خوف الإطالة لأثبت الكتابين برمتهما، ولكن يؤخذان من مكانيهما.
قال القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زال مظفرا بكل جاحد، غنيا بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد سحاب الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي لسل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
منه: ولله في إعادة شكره رضى، وللنعمة الراهنة دوام لا يقال معه هذا مضى، وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصائرها، وقد استتبت عقائد أهلها على بصائرها، وتقلص ظل الكافر المبسوط، وقد صدق الله أهل دينه فلما وقع الشرط وقع المشروط، وقد كان الإسلام غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا وقد بذلت الأنفس في ثمنه، وجاء أمر الله وأنوف الشرك راغمة، وأدلجت السيوف والآجال نائمة، وصدق الله وعده في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها جبان الجبين، واسترد المسلمون تراثا كان عنهم آبقا ، فظفروا منه يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفا على النأي طارقا ، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشتفي بالماء غللهم. ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه، فلله الحمد على أن أحرمت بخلع ذلك البنيان المخيط، وطهرها ما قطر من دعم الكفر وما كان ليطهرها البحر المحيط، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا بهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤس إلا لهذه النعمى، ولا يحارب من يستظلمه إلا لتكون الكلمة مجموعة وكلمة الله هي العليا، وليفوز بجواهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا. ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقةً رابحةً خاسر، ومن سما لأن يجلي غمرة غامر.
منه لما ذكر الخلفاء لا جرم أنهم ورثوا سرهم وسريرتهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطليعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم، لا عدم الإسلام سواد القلم وبياض الصحيفة.
منه: والشرق يهتدي بأنواره، بل إن بدا نور من ذاته هتف الغرب بأن واره، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف.
منه وقد ذكر الكفر: ونام سيف جفنه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى راعفة بالمنون، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المفرد الواحد وكان في زعمهم الثالث.

منه: وبدل الله مكان السيئة الحسنه، ونقل بيت عبادته من يد أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة.
منه: فكم أهلة سيوف تقارضها الضراب حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم قنا تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكان اليوم مشهودا والملائكة شهودا ، وكان الصليب صارخا والإسلام مولودا ، وكانت ضلوع الكفار لنار جهنم وقودا .
منه وقد ذكر القومص وفراره: وكان مليا يوم الظفر بالقتال ويوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف، وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرمح وجناح السيف، وكان لعدتهم كذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك. وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغا البيضاء صنعا ، الخافقة هي وقلوب أعدائها، هي وعزائم أوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر.
منه: ويحصد كفرا ويزرع إيمانا ، ويحط من جوامعها صلبانا ويرفع أذانا ، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوىء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال مقاعد، ويقر عينه وعين أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجارٍ ومجرور، وأن يظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصفح.
منه: وقبالها ثم قاتلها، ونزل إليها ثم نازلها، وبرز لها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمةً ارتقب بعدها الفتح، وصدع جمعها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الحد عن عتق الصفح.
منه: وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي تضرب ولا تفارق سهامها نصالها، فصافحت السور فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادغ أبراجها، وأسمع صوت عجاجها، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، وأمكن للنقاب أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقتله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن يبرح الأرض، وفتح من السور بابا سد من نجاتهم أبوابا ، وأخذ يفت في حجره فقال الكافر يا ليتني كنت ترابا .
منه في تسلم البلد: وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله تعالى أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم.
منه: وفيها كل غريب من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا ينطرد لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توسيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض بها من بياض الترخيم رقراق، وعمدا كالأشجار لها من التنبيت أوراق.
منه: وأقيمت الخطبة وكادت السموات ينفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب تنتثر للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة، وطهرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجهر باسم أمير المؤمنين في موطنه الأشرف من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في خافقتيه فلو طار سرورا لطار بجناحيه.
منه: وكل مشقة بالإضافة إلى الفتح محتملة، وأطماع الفرنج بعد ذلك غير مرجئة ولا معتزلة، فإن يدعوا دعوةً يرجو الخادم من الله أن لا تسمع ولن يفكوا أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع، ولهذه البشائر أخبار لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص، فلذلك نفذ فلانا شارحا ، ومبشرا صادحا ، يطالع بالخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته. وهو فلان.
وقال من كتاب آخر عند ذكر الصخرة: فقد كان بخت الناصر في رد القدس أمضى من سيف بخت ناصر.
وذكرت هنا أبيات الصاحب جمال الدين ابن مطروح رحمه الله وهي:
المسجد الأقصى له عادةٌ ... سارت فصارت مثلا سائرا
إذا غدا للكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصرٌ طهّره أولا ... وناصرٌ طهّره آخرا
رجع إلى كلام الفاضل:

منه: وكان الكفر حل بهذا البلد فملكه واستهلكه، وأغلقه فأوثقه، وضاعت مفاتيحه من الإسلام فلم يجدها إلا في زمان أمير المؤمنين وهي السيوف، وما كان يضرب في فنائه للحرب مصاف حتى ضربت في مسجده للصلاة صفوف فاسترجع الصخرة التي هي فص خاتم الإسلام كما استرجع بها سليمان قدما خاتمه، وكان وكيل الإسلام في استرجاع خاتمه صارمه آخر كلام الفاضل رحمه الله تعالى.
وهذا بديهٌ لا كتحبير قائلٍ ... إذا ما أراد القول زوّره شهرا
وقد أتبع ابن الأثير رحمه الله كتاب فتح القدس بتقليد حسبةٍ، أطال فيه وليس في عقده واسطة، ولا في أثنائه نكتة تكون بينها وبين التعجب رابطة، لكنه استوعب آداب الحسبة وعددها، ورصع وصاياها في سلكه ونضدها وأطال في نصها لما سردها، وأظهر فيه العلم لا لطف العمل، وأتى به عريا عن المحاسن فلا رغبة فيه للمنشىء الماهر ولا أمل، وهو بأن يكون جزءا في آداب الحسبة أحق منه بأن يكون في التقاليد معدودا، وبأن يضم إلى الكتب الموضوعة لذلك أولى منه بأن يكون في جملة الإنشاء مسرودا.
؟

حول ورود أن بعد لما
وأثرها في الدلالة على تراخي الزمن
قال في النوع السابع عشر في التكرير، وقد ذكر دخول أن التي ترد بعد لما وادعى أنها إذا دخلت في الكلام دل على أن الفعل لم يكن على الفور، وأنه ثم تراخ ومهلة. وساق قوله تعالى: " فلمّا أنْ جاءَ البشيرُ القاهُ على وَجههِ فارتَدَّ بصيرا " .
وإذا نظر في قصة يوسف مع إخوته منذ ألقوه في الجب وإلى أن جاء البشير إلى أبيه عليه السلام، وجد أنه كان ثم إبطاء وتراخ بعيد بعيد، ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول، لما جىء بأن بعد لما وقبل الفعل. بل كانت تكون الآية: فلما جاء البشير ألقاه على وجهه. وهذه دقائق ورموز لا توجد عند النحاة لأنها ليست من شأنهم.
أقول: هذا من جناية إعجاب المرء بعقله ورأيه، ألا تراه كيف تصور الخطأ صوابا ، ثم أخذ يتبجح بأنه ظفر بما لم يفهمه النحاة ولا يعلوه: أتراه ما نظر إلى هذه الفاء التي هي للتعقيب عقيب ماذا وردت. هل وردت عقيب قوله تعالى: " فلما ذهبوا به وأَجمَعوا أنْ يجعلوه في غَيابَةِ الجُبّ " .. والآيات المتعلقة بواقعة إلقائه في الجب حتى يدعي هذه الدعوى. أو وردت عقيب قوله تعالى: " اذهَبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرا وأْتوني لأجِدُ ريحَ يُوسفَ لولا أَنْ تُفنِّدونِ. قالوا: تالله إنك لفي ضلالِك بأهلِكُم أَجمعين " إلى قوله تعالى: " ولما فَصَلتِ العِيرُ قال أَبوهم: إني القَديم. فلمّا أنْ جاء البشير " الآيات. فأي تراخ بين هذين من البعد البعيد والمدة المتطاولة ؟ إنما كان ذلك كله بقدر المسافة من مصر إلى أرض كنعان، مقام يعقوب عليه السلام، وهي تكون اثني عشر يوماً وما حولها، ولهذا قال النحاة: إنها هنا زائدة.
قال في هذا النوع أيضاً وقد أورد قول أبي نواس:
أقمنا بها يوماً ويوما وثالثا ... ويوما له يوم التّرحّل خامس
مراده من ذلك أنهم أقاموا أربعة أيام. ويا عجبا له، يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات.
أقول: ليس الأمر كما ادعاه من أنه أراد أنهم أقاموا أربعة أيام، بل قد ذهب بعض المتأدبين إلى أن المقام كان سبعة أيام، بدليل أنه أقام يوماً ويوما وثالثا فهذه ثلاثة أيام. ثم قال: ويوما له يوم الترحل خامس فزاد الثلاثة أربعة أخر خامسها يوم الرحيل. وما يشك صاحب الذوق أن هذه العبارة أحسن من قوله: أقمنا بها أسبوعا ، وإن كان هذا أخصر في اللفظ، ولكن ذلك له موقع.
سلمنا أن المقام أربعة أيام، ولكنه كرر ذلك لمعنى لم يوجد إلا في هذا التكرار، وهو أن المقام في هذه الحالة مقام وصف لأيام قطعها في لذة، فأخذ يعددها أفرادا غير جملة ويقول: أقمنا بها يوماً ويوما ويوما كالمتلذذ بهيئة كل يوم استحضرها في ذهنه، وما مر لهم فيها من أنواع اللذاذات والمسرات، وهذا أمر متعارف في الخير والشر فيقال: واصلني يوماً في يوم في يوم في يوم، وهجرني يوماً في يوم في يوم في يوم. ومن هذا قول مروان الأصغر:
سقى الله نجدا والسّلام على نجد ... ويا حبذا نجدٌ على النأي والبعد
كرر ذلك تلذذا بذكرها، وتحرقا بالشوق إليها.
ولله المتنبي حيث قال:

أبا شجاعٍ بفارس عضد الدّ ... ولة فنّاخسرو شهنشاها
أساميا لم تزده معرفةً ... وإنما لذّةً ذكرناها
؟حول الاعتراض قال في النوع الثامن عشر في الاعتراض بعدما أورد قول المضرب السعدي
فلو سألت سراة الحي سلمى ... على أن قد تلوّن بي زماني
لخبّرها بنو أحساب قومي ... وأعدائي فكلٌ قد بلاني
ومن ذلك قول أبي تمام الطائي:
وإنّ الغنى لي إن لحظت مطالبي ... من الشعر إلاّ في مديحك أطوع
أقول: أي شيء رآه في قول أبي تمام حتى يجعله منخرطا في قول المضرب السعدي ؟، وأنا لا أعيب البيت من حيث معناه فإنه في غاية الحسن، وإنما أعيبه من حيث تراكيب ألفاظه فإنها بين تقديم وتأخير ضيعا بهجة المعنى وأذهبا طلاوته، ألا ترى أنه يحتاج إلى تقدير وهو: وأن الغنى أطوع لي من الشعر إلا في مدائحك إن لحظت مطالبي. فالمعنى في نفسه في غاية الحسن من البلاغة، والألفاظ ما كأنها إلا عقد الميزان، أو التخطيط الذي يكون في منامات الباذنجان. وما أشبه هذا البيت إلا بقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملّكا ... أبو أمه حيٌّ أخوه يقاربه
ومثل قول أبي تمام قول شرف الدين بن الفارض:
هبي قبل يفني الحبّ مني بقيةً ... أراك بها لي نظرة المتلفّت
والتقدير فيه: هبي لي نظرة المتلفت قبل أن يفني الحب مني بقية أراك بها.

حول الكناية
قال في النوع التاسع عشر في الكناية وقد أورد قوله تعالى " أيحِبُّ أحدُكم أنْ يأكلَ لحمَ أَخيه مَيتا " الآية: فأما جعل الغِيبة كأكل الإِنسان لحمَ الإِنسان الآخر، فشديد المناسبة، لأنّ الغِيبة إنما هي ذكرُ مثالب الناس وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل لحم من تغتابه، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة.
أقول: دعواه أن مناسبة الغيبة بأكل لحم الإنسان لأنها تمزيق عرض والتمزيق أكل، ليست بواضحة فإن تمزيق العرض من باب أكل اللحم، وهما كناية عن أمرين معقولين بأمرين محسوسين. والأحسن في مثل هذا أن يقال: لأن الذي يغتاب يذكر مثالب وارتكاب محرمات وغيرها مما يجب فيها على المغتاب الحد، ولعل ذلك الحد يكون ضرب عنق أو قطع يد أو جلد ظهر، وذلك تفصيل أعضاء وتمزيق أجزاء، فهو أشبه شيء بالأكل، لأن الأكل يفرق الأجزاء من الأجسام. ألا ترى قول السراج الوراق ما أحسنه في هذا المعنى:
وربّ شخصين قطّ ما اجتمعا ... إلاّ على هرت غائبٍ فهما
ما مرّ يومٌ إلاّ وعندهما ... لحم رجالٍ أو يولغان دما
مضمن.
وهذا التعليل أنسب، وبه يعلل تمزيق العرض أيضاً فأما قوله كتمزيق العرض، فإنه أحال على أمر يحتاج إلى بيان، وينتقل السؤال من الغيبة إليه، وبمثل هذه المناسبة التي ذكرتها أنا، لا يحتاج إلى ذلك.
قال في هذا النوع: وأما القسم المختص بما يقبح ذكره من الكناية، فإنه لا يحسن استعماله لأنه عيب في الكلام فاحش وذلك لعدم المراد من الكناية فيه. فمما جاء منه قول الشريف الرضي يرثي امرأة:
إن لم تكن نصلا فغمد نصال.
أقول: أما هذه الكناية فإنها في غاية الحسن في كون المرأة يغمد فيها ذلك العضو المخصوص وليس في بابها مثلها ولا تقبح من حيث الصناعة وتخيل المعنى. وإنما قبحها بالإضافة إلى المقام، إن كان المقام مقام تعظيم قدر المرثي، لأنها أم ملك أو بنت كبير القدر، أو أخت أمير. فإنه ليس من الأدب أن يسمع فيها قريبها هذه الكناية لتعلقها بفرجها وذكر عورتها. كما عيب على أبي الطيب قوله يرثي أم سيف الدولة:
رواق العزّ فوقك مسبطرّ ... وملك عليّ ابنك في كمال
فإنه ليس من الأدب أن يذكر أم السلطان ويقال: فوقها ممتد، فإن النفوس الكبار تأنف من ذكر عورات النساء.
ويقال: إن بعض الولاة أحضر إليه جماعة من الفساق، فأراد تأديبهم، فجعلوا يقسمون عليه ولا يزداد عليهم إلا قسوة وغلظة، وكان فيهم مخنث فقال: تنحوا يا حمير، أكذا يحلف الأمير ثم قال: يا أمير بحياة أمك، فاشتد غضبه عليه وهم يجلدونه، فقال: بحياة وجهها، بحياة عنقها، بحياة كذا بحياة كذا حتى قال: بحياة سرتها. فقال الأمير وليس بعد السرة إلا الحرة. أطلقوهم.
وما أحسن قول كشاجم يرثي أمه:

فأُقسم لو أبصرتني عند موتها ... وجفني يسحّ الدّمع سجلا على سجل
رثيت لنصلٍ يأخذ الموت جفنه ... وأُعجبت من فرعٍ ينوح على أصل
وقد تحسن هذه الكناية من الشريف الرضي في باب التهكم وتكون نهاية في الحسن. وعلى الجملة فقبح الكناية التي ذكرها ليس لذاتها بل لأمر عرض عليها على أنه قد أورد بعدها قول الفرزدق يرثي امرأته:
وجفن نصالٍ قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وقال: هذا حسن بديع في بابه، وما كني عن امرأة ماتت بجمع أحسن من هذه الكناية ولا أفخم شأنا .
فيقال له: أي شيء حسن هذه وقبح تلك ؟

حول المغالطات المعنوية
قال في النوع العشرين في المغالطات المعنوية: فمنه ما كتبته في فصل من كتاب عند دخولي إلى بلاد الروم أصف فيه البرد والثلج: ومن صفات هذا البرد أنه يعقد الدر في خلفه، والدمع في طرفه، ولربما تعدى إلى قليب الخاطر فأحقه أن يجري بوصفه، والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض، ومسيلات الجبال أنهار غير أنها جامدة لم تخض.
أقول: ثم إنه أخذ يصف مكان الحسن في قوله: حولية ولم ترض. وأي كبير حسن في هذا حتى يدونه ويستشهد به. ولكنه معذور إذا وقع في كلامه تورية أن يخطب لها، فكيف به لو قال مثل القاضي الفاضل يصف البرد: في ليلة جمد خمرها، وخمد جمرها، إلى يوم تود البصلة لو ازدادت إلى قمصها، والشمس لو جرت النار إلى قرصها.
وقد نظم هذا الجلال بن الصفار فقال:
ويوم قرٍّ برد أنفاسه ... تمزق الأوجه من قرصها
يومٌ تودّ الشمس من برده ... لو جرّت النار إلى قرصها
ومن كلام الفاضل في ليلة كثيرة البرد: في ليلة جمد الماء في لبابيدها حتى ثقل متنها، وانعكست القاعدة في التشبيه حتى صار كالجبال عهنها.
وقال الصاحب جمال الدين ابن مطروح:
انظر تجد وجه البسيطة أبيضا ... لم تبد فيه شامةٌ سوداء
كرم السّحاب فعمّ بالثلج الثّرى ... إنّ الكريم له اليد البيضاء
وقال: مجير الدين محمد بن تميم:
دنياك مذ وعدت بأنك لم تزل ... في نعمةٍ وسعادةٍ لا تنقضي
كان الدليل على وفاها أنها ... أضحت تقابلنا بوجهٍ أبيض
وقال مجير الدين أيضاً في البرد:
وليلةٍ قرةٍ قد هبّ فيها ... نسيمٌ لا تقابله الصدور
نسيمٌ يقشعرّ الرّوض منه ... إذا وافى ويرتعد الغدير
ثم قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم فقلت: ولقد نزلت منه بمهلبي الصنع، أحنفي الأخلاق، ولقيته فكأني لم أرع بلوعة الفراق، ولا كرامة للأهل والوطن حتى أقول استبدلت به أهلا ووطنا ، وعهدي بالأيام وهي من الإحسان فاطمة فاستولدها بجواره حسنا ثم أخذ في الثناء على ذلك.
أقول: غاية ما ذكره أنه استعمل اسم فاطمة والحسن رضي الله عنهما تورية وليس هذا بعظيم.
وما أحسن ما استعمل القاضي الفاضل اسم الحسن، فقال يخاطب قوما أشرافا : السعيد من أشبه حديثه قديمه السعيد، والشرف القديم مقطوع إن لم يصله الشرف الجديد، والغصن من الدوحة العريقة وإن لم ينم كان من الحطب، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان عمه أبا لهب، وقبيح أن يكون فعلكم القبيح وجدكم الحسن. وأن يكون أولكم قاتل حتى لا تكون فتنة وتقاتلون حتى تكون الفتن.
وما أحسن قول أبي الحسين الجزار يمدح سيف الدين علي بن قليج من جملة قصيدة في ذكر الزمان:
وإني لمعتادٌ لحمل خطوبه ... إذا كلّ أو أعيى من الهمّ حامله
أقول لفقري: مرحبا لتيقّني ... بأنّ عليا بالمكارم قاتله
كذا تكون التورية، وكذا يكون تحيل التخيل.
ومما اتفق لي نظمه:
أقول لشادٍ تغنّى لنا ... وقد قرّح الدّمع أجفان عيني
ايا حسن الوجه رجّع وخذ ... بصوتٍ عليٍّ لنا في حسيني
ثم قال: ومن هذا الأسلوب ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت: وعهده بقلمي وهو يتحلى من البيان بأسمائه، ويبرز أنوار المعاني من ظلمائه، وقد أصبحت يدي منه وهي حمالة الحطب، وأصبح خاطري أبا جهل بعد أن كان أبا لهب.

أقول: قد استعمل القاضي الفاضل مثل هذا كثيراً ، ولهج المتأخرون بمثل هذا فأتوا فيه بالطم والرم. قال ابن النبيه:
لو لم تكن إبنة العنقود ريقته ... لما غدا خدّه القاني أبا لهب
تبت يدا عاذلي فيه ووجنته ... حمالة الورد لا حمالة الحطب
وقال ابن سناء الملك في معذر:
كنت مثل الظّبي ذا غيدٍ ... صرت مثل الثّور ذا غبب
وجنةٌ كانت أبا لهبٍ ... رجعت حمّالة الحطب
وقال:
وصفتك واللاّحي يعناد بالعذل ... فكنت أبا ذرٍّ وكان أبا جهل
وقلت وأنا في رمل مصر عند العريش:
أتينا عريش الرّمل في وقت حرّه ... فقلنا له تبّت يداك أبا لهب
وكم أثلةٍ لا ظلّ فيها ولا جنىً ... تقابلنا منه بحمالة الحطب
ثم قال من فصل: ومن آثر مساعيه أنه حاز قفل المكارم ومفتاحها، وإذا سئل منقبةً كان مناعها وإذا سئل موهبة كان مناحها، وأحسن أثرا من ذلك أنه أخذ بأعنة الصواب وألان جماحها، وإذا شهد حومة حربٍ كان منصورها وإذا لقي مهجة خطب كان سفاحها.
أقول: وهذا الباب أعني أسماء الخلفاء في الألقاب، مما جسر الناس على دخوله، وعبره كل أحد من المتأدبين وتصرف في محصوله، فإنه سلس القياد في التورية إذا جذب وسريع الارتفاع إذا أقيم أو نصب.
قال ابن سناء الملك:
بايعته يد السّعادة والبي ... عة قد كررت عليه اليمين
واصطفاه الرأي الرشيد على العا ... لم فهو الأمين والمأمون
وقال سيف الدين المشد ابن قزل:
يا أهل ودّي دعوةً من مدنفٍ ... خفيت شكايته عن العوّاد
تالله ما جلدي عليكم طائعٌ ... كلاّ ولا والله قلبي الهادي
وقال ابن سناء الملك:
بأبي وأمّي من يكون المكتفي ... بجماله لجماله كالمقتدي
مستوحشٌ متفرّدٌ في حسنه ... لا تعجبنّ لوحشة المتفرّد
وقال مجير الدين محمد بن تميم:
يا موثرا قصدي حماة وخدمتي ... سلطانها من بعد كلّ أمير
أنا واثقٌ برشيد رأيك طائعٌ ... لأمينه الهادي إلى المنصور
ثم قال من فصل: وما أقول إلا أنه شعر بتلك المسرة المسروقة فأقام عليها القطع، ورأى العيش فيها خفضا فأزاله الرفع.
أقول: وهذا الباب أيضاً مما تقدم، وسوره مما خرب وتهدم، قد دخل الناس فيه أفواجا ، وراقت لآلئهم فيه انفرادا وازدواجا .
قال السراج الوراق يرثي الجزار:
رفعوك وانتصبوا قياما خافضي ال ... أصوات إذ جزم الرّدى منك العرى
وغدوت في الأكفان عنهم مضمرا ... وهم يرونك للجلالة مظهرا
إنّ الصّحيح اعتل مذ فارقتنا ... وأبيك والجمع الصّحيح تكسّرا
وقال أيضاً :
نصب العداوة حاسدوك فأعقبوا ... جزما لألسنهم وخفض الشّان
فمتى أراهم أدبروا ورؤوسهم ... مرفوعةٌ بعوامل المرّان
وقال شهاب الدين التلعفري:
وإذا الثّنيّة أشرفت وشممت من ... نفس الحمى أرجا كنشر عبير
سل هضبها المنصوب أين حديثها المرفوع عن ذيل الصبا المجرور وهذا في غاية الحسن من الصناعة، فإنه أتى بالمنصوب في المنصوب، وبالمرفوع في المرفوع، وبالمجرور في المجرور.
وله بيتان آخران في هذا المعنى، ولكن هذين أحسن وأكمل.
وعلى الجملة، فهذه الأشياء قد انتهك المتأخرون حرمتها، ومنعوا من الآباء عصمتها خصوصا أسماء الخلفاء كما تقدم، وألقاب الإعراب وقد تقدم، وأسماء سور القرآن. كما قال أبو الحسين الجزار يمدح فخر القضاة نصر الله ابن بصاقة:
وكم ليلةٍ قد بتّها معسرا ولي ... بزخرف آمالي كنوزٌ من اليسر
أقول لفقري كلما اشتقت للغنى ... إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر
وكما قال أيضاً وقد خلع على شاعر أسود ولم يخلع عليه يخاطب جمال الدين ابن رمضان:
غير خافٍ عنك الذي ناله الأسود ... بالأمس من ندى السّلطان
وتمشّيه بالعمامة والثّوب ... ومنديل الكم والطّيلسان

قلت إذ فصلت عليه أرى الزّخرف ... يتلى بالنّص فوق الدّخان
وكما قال سيف الدين ابن قزل:
أقسم من جفني بالذّاريات ... ومن دموع العين بالمرسلات
إني على الإخلاص في حبّكم ... حتى ترى روحي في النازعات
وكما قال الآخر:
أناشده الرحمن في جمع شملنا ... فيقسم هذا لا يكون إلى الحشر
إذا ما غدا شبه الحديد فؤاده ... فوالعصر إن العاشقين لفي خسر
وأسماء الكتب كما قال من أبيات:
يا سائلي من بعدهم عن حالتي ... ترك الجواب جواب هذي المسأله
حالي إذا حدثت لا جملا ولا ... لمعا لا يضاحي لها من تكمله
عندي جوى يذر الفصيح مبلّدا ... فاترك مفصّلة ودونك مجمله
القلب ليس من الصّحاح فيرتجى ... إصلاحه والعين سحبٌ مثقله
وقد ذكر في هذه الثلاثة عشرة أسماء من تصانيف الأدب.
كما قال ابن قزل في مليح يلعب بالقانون:
ترى ابن سيناء في يديه ... أقلّ ملعوبه الغناء
قانونه المرتضى نجاةٌ ... كل إشاراته شفاء
وقد ذكر في البيت الثاني على قصر بحره من مصنفات الرئيس أربعة كتب.
وكما قال أبو الحسين الجزار:
يا مالكي ما شافعي ... إليك إلاّ أدبي
حاشاك أن تحتاج في التن ... بيه للمهذّب
وأسماء مشايخ العلوم كما قال أبو الحسين الجزار:
إنّ فصل الشتاء منذ نحا جس ... مي أبدت بيانه الأعضاء
فيه عظمي المبّرد إذ عنّ ال ... كسائيّ واحتمى الفرّاء
وكما قال ناصر الدين حسن بن النقيب:
يا من مقاماته في الجود مذهبةٌ ... ومن تشاريفه وشيٌ وديباج
أعطيتني جسدا ملقى وليس له ... روحٌ وللبرد إقلاقٌ وإزعاج
وليس عن فروةٍ تحت الحرير غنىً ... إنّ الحريريّ للفرّاء محتاج
وكما قال مجير الدين محمد بن تميم:
وصادحةٍ تردّد لي غناها ... فتطربني وأجهل ما تقول
بلحنٍ حار إبراهيم فيه ... ووزنٍ ليس يعرفه الخليل
وقد نظم شرف الدين المقدسي رحمه الله قصيدة تقارب الخمسين بيتا، جمع فيها جملة من كتب التفسير والحديث والفقه والنحو واللغة وغير ذلك، وذكر مشايخ العلوم وغيرهم. وكلها غزل، وأسماء البروج الإثنى عشر والمنازل. كما قال ابن قزل:
بدرٌ جعلت القلب أخبيةً له ... كي لا يراه رقيبه العوّاء
خلعت عليه الشّمس رونق حسنه ... وحبته رونق ثغره الجوزاء
وكما قال الآخر:
بتّ وبدر الدّجى ضجيعي ... وهو مواتٍ بلا امتناع
فقلت للحاسدين لمّا ... أشرقت الشمس بالشّعاع
القلب والطّرف منزلاه ... وهو إلى الآن في الذّراع
وكما قال الآخر في مليح يحرث:
يا حارثا تروى مقامات الهوى ... عن طرفه الفتّاك غير مؤوّله
أضحى يشقّ لحود من قتل الهوى ... في حرثه ليست خطوطا مهمله
روحي الفداء لبدر تمٍّ سائقٍ ... للثّور، ليس يروم غير السّنبله
وأسماء مشاهير العرب، كما قال ابن سناء الملك:
إنّي على ما كان شغلي بالهوى ... لم يشتغل وبطالتي لم تبطل
أنا جدّ أنصار النّبيّ لأنّني ... يا أشهل العينين عبد الأشهل
وكما قال ابن قزل:
عدتّ فيه جاهليّ الح ... ب من غير تعدّي
لحظ عيني عبد شمسٍ ... وفؤادي عبد ودّ
وكما قال شمس الدين محمد بن التلمساني:
وما كنت مجنون الهوى قبل أن يرى ... لقلبي من صدغيك في الأسر عاقل
ولو أنّ قسماً واصفٌ منك وجنةً ... لأعجزه نبتٌ بها وهو باقل
وأسماء المدن، وأسماء الملل والنحل، وأسماء أبحر العروض، وأسماء القراء، وأسماء أشكال الرمل وأسماء الشعراء، وأسماء منازل العرب وأماكنها وأشياء غير ذلك.

ولولا خوف الإطالة، وأني لم أضع هذه الأوراق لهذا، لأتيت بالشواهد على ذلك. لتعلم أيها الواقف على كتابي هذا أن ابن الأثير رحمه الله ما أتى بطائل، ولا رقت بكلامه أنفاس الأسحار ولا برود الأصائل، وأنه لو تأخر وجوده إلى هذا العصر علم أن قوله ليس بحجة، وأن قطره يغرق في مثل هذه اللجة، وأن الناس قد بلغوا محط الرحال وهو إلى الآن في الدلجة.
وما أحسن قول مجاهد الخياط يهجو أبا الحسين الجزار:
أبا الحسين تأدّب ... ما الفخر بالشّعر فخر
وما تبلّلت منه ... بقطرةٍ وهو بحر
وإن أتيت ببيتٍ ... وما لبيتك قدر
لم تأت بالبيت إلاّ ... عليه للنّاس حكر
وقد وضعت كتابا في التورية وسمته فض الختام عن التورية والاستخدام فإن أردت أن تكشف عن ماهية ذلك وتقف على محاسنه، فقف عليه، لعله يكون فيه لك زبدة، أو تجد فيه على ما ترونه نجدة.
ثم قال من فصل يذكر فيه الحمى: ولهذا صارت الأدوية في علاجها ليست بأدوية، وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدئة بأيام تروية.
أقول: ليس في السجعة الأولى طائل وهي كلام فارغ. وأما الثانية فما فيها غير التورية بيوم التروية للنحر، وليس في ذلك أمر كبير.
وما أحسن قول الجزار:
إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأبٌ، وسل عنهم إن رمت تصديقي
تضيء بالدّم إشراقا عراصهم ... فكلّ أيامهم أيام تشريق
وأما أبيات المتنبي في الحمى فما لأحد مثلها في حسنها. منها:
وزائرتي كأنّ بها حياءً ... فليس تزور إلاّ في المنام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام
إذا ما فارقتني غسّلتني ... كأنّا عاكفان على حرام
كأنّ الصّبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام
وحذا السّراج الورّاق حذوه فقال:
وزائرتي وليس بها احتشامٌ ... تزور ضحىً وتطرق في المنام
بها عهرٌ وليس لها عفافٌ ... عن الشّيخ الكبير ولا الغلام
إذا طرقت أعاذ الله منها ... سلوت عن الكرائم والكرام
لها في ظاهري حرٌ وبردٌ ... بقلبي والفتور ففي العظام
تلهوج نارها لحمي طعاما ... وتشرب من دمي صرف المدام
وأصوات الغناء لها أنيني ... فما تنفك من هذا المقام
تضاجعني على ضعفي وشيبي ... وقد أعييت ربات الخيام
إذا ما فارقتني غسّلتني ... لأني قد وصلت إلى حمامي
وما أحسن قول أمهدوست الديلمي:
وزائرةٍ تزور بلا رقيب ... وتنزل بالفتى من غير حبّه
تبيت بباطن الأحشاء منه ... فيطلب بعدها من عظم كربه
وتمنعه لذيذ العيش حتّى ... تنغّصه بمطعمه وشربه
أتت لزيارتي من غير وعدٍ ... وكم من زائرٍ لا مرحبا به
وقول ناصر الدين حسن بن النقيب:
أقول لنوبة الحمى اتركيني ... ولا يك منك لي ما عشت أوبه
فقالت: كيف يمكن ترك هذا ... وهل يبقى الأمير بغير نوبه
وقد ظرف مجير الدين محمد بن تميم في قوله، وقد حم النور الإسعردي:
أخفوا شماتتهم لديّ وأقبلوا ... في زي مقروح الفؤاد كليم
قالوا بأنّ النّور حمّ فقلت لا ... يس حول النّور من حم
هكذا تكون مقاصد أهل الأدب وتورياتهم وأوصافهم، ليس كما قال ابن الأثير الأدوية في علاجها ليست أدوية.
وأقوال الناس في المليح المحموم مشهورة فلا حاجة إلى ذكرها. وكنت في وقت قد كتبت إلى بعض الأصحاب كتابا أشكو فيه الحمى. من ذلك: وينهي لا بل يشكو حاله التي ليس له منها بدل، وآلامه التي كلمت أعضاءه فلا يطيق جلده قطع ذاك الجدل، وحماه التي يلدغه منها عقرب وترميه قوس فليت جسمه مع ذلك حمل، واتصال رشح عرقه الذي لا يقال مع بحره سآوي من الصبر الجميل إلى جبل، فأين قولهم لقيت منها عرق القربة، ممن لقي منها غرق الكربة.

إذا ما فارقتني غسّلتني ... كأنّا عاكفان على حرام
ويعجز المملوك عن وصف ما حصل لرأسه من الصداع ولجسمه من الصدوع، ولآماله المعلقة من القطع ولحظه من القطوع.
ثم قال من فصل كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن فتوح بلد من الكفار: والسائر بها فلان، وهو راوي أخبار نصرها التي صححتها في تجريح الرجال، وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، والليالي والأيام لها رواة فما الظن برواية الأيام والليال.
أقول: هذا الفصل ختم به الكتاب الذي عارض به القاضي الفاضل في فتح القدس. وقد أورده هنا أيضاً وادعى فيه هذه الدعوى، وأذكرني هنا بقول مجير الدين محمد بن تميم:
إني لأعجب في الوغى من فارسٍ ... حارت دقائق فكرتي في كنهه
أدى الشهادة لي بأني فارس اله ... يجاء حين جرحته في وجهه
وهو مأخوذ من قول ابن الساعاتي:
وكائن سقى جيشا كؤوس حمامه ... دهاقا وأطراف العوالي مجاديح
فيا سيفه حزت العدالة في العدى ... وما شاهدٌ إلاّ له بك تجريح
وما أحلى قول القاضي الفاضل: وعرف المملوك ركوب مولانا الملك الأفضل في القلب ولقد سخا السلطان على القلب بقلبه، وأبرزه حاسرا لحربه، وهذا الموقف نص صحيح على السلطنة، وهو نص مطلق كان السيف فيه القاضي والنصر البينة، عرس به الإسلام وكان النثار دنانير غرر الصواهل، والتحايا رياحين أطراف الذوابل، فهو أعز الله نصره السابق ولادا وجهادا ، ولقد ولد أبوه والدا وولد الآباء أولادا ، والحمد لله الذي أنجد الإسلام منه ومن سيفه بعلي وذي الفقار وبعمر وفي يده سيف عمار.
الذي يتعلق بهذا الموطن السجعتان الأوليان، ولكن القلم استلذ هذا النغم وقال: معذور من امتلا، وغب كؤوس الطلا.

الأحاجي والمغالطات في مقامات الحريري
ثم قال في النوع الحادي والعشرين في الأحاجي: وكذلك فعل الحريري في مقاماته، فإنه ذكر الأحاجي التي جعلها على حكم الفتاوى كناية ومغالطةً، وظن أنهما من الأحاجي الملغزة كقوله: أيحل للصائم أن يأكل نهارا . ثم إن ابن الأثير أخذ يستدل على أن ذلك من باب المغالطات المعنوية.
وأقول على أني ما أدري ما أقول، هذا الرجل رحمه الله تعالى يتصور شيئاً ويلزم الناس به، ويرميهم بمساوئه ولم يكونوا أرادوه ولا قالوه.
والمقامات فكتاب اشتهر وحفظ، ودرس وما اندرس، وهذه المسائل التي أشار إليها قد أودعها الحريري رحمه الله تعالى المقامة الثانية والثلاثين. وهي مائة فتيا، وسردها مرتبة على تبويب الفقه، ولم يسم ذلك أحجية ولا لغزا . بل قال عند ذكرها: فصمد له فتىً فتيق اللسان، جري الجنان وقال: إني حاضرت فقهاء الدنيا، وانتحلت منهم مائة فتيا. فإن كنت ممن يرغب عن بنات غير، ويرغب منا في مير، فاستمع وأجب، لتقابل بما يجب. فقال: الله أكبر، سيبين المخبر، وينكشف المضمر، فاصدع بما تؤمر.
قال: ما تقول فيمن توضأ ثم لمس ظهر نعله ؟ قال: انتفض وضوءه بفعله حتى فرغ من ذلك، ولم يقل أحجية ولا لغزا ولا كناية ولا مغالطة.
وأما في مقدمة الكتاب فإنه قال: ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والفتاوى اللغوية فذكرها في المقدمة وفي المقامة التي اختصت بها أنها فتاوى.
ولابن فارس كتاب سماه فتاوى اللغة ومنه استمد الحريري؛ فأي حرج على الحريري إذا سمى ذلك فتاوى.
الفرق بين الإلغاز والوصف
أمثلة من وصف السفن
قال: وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب في السفن:
وحشاه عاديةً بغير قوائمٍ ... عقم البطون حوالك الأبدان
تأتي بما سبت الخيول كأنّها ... تحت الحسان مرابض الغزلان
أقول: قد عد هذين من الإلغاز، وليسا من ذلك في شيء، بل هما من باب الأوصاف، لأن اللغز من شرطه أن لا يذكر الملغز به صريحا في الكلام، وهذا يخالف ذلك لأن أبا الطيب قال قبلهما:
فتل الحبال من الغدائر فوقه ... وبنى السّفين له من الصلبان
وهذا تصريح. فهما من باب الأوصاف لا من باب الألغاز.
وانظر إلى قول السراج الوراق يلغز في المركب:
وما هو شيءٌ علينا كبير ... ومقصودنا منه شيءٌ يسير

غدا واحدا وهو جمعٌ كما ... أتانا بذاك الكتاب المنير
أما الأول، فهو ظاهر على ما فيه من التورية. وأما الثاني، فإنه قد نص أئمة اللغة على أن الفلك لفظ يستوي فيه المفرد والجمع.
وقد نظمت أنا لغزا في السفينة فقلت:
وجاريةٍ حلّ لي وطؤها ... ولم يك في ذاك ما يمنع
ويا عجبا ما أتت ريبةً ... وألزمها أنّها تقلع
فقول السراج وقولي من باب اللغز، لأنا لم نصرح بلفظ المركب ولا السفينة، وأما المتنبي، فإنه صرح بذكر السفين فخرج من هذا الباب، وهو من باب الأوصاف.
وكذا قول مجير الدين محمد بن تميم:
عجبت للبحر لمّا أن رأيت به ... تلك الصّواري وقد أربت على الحبك
أظنّها لم تطل إلاّ وقد وليت ... حمل الرّسائل بين الفُلك والفلك
وقول أيضاً مضمنا :
ولما ركبنا الفلك والبحر قد طمى ... وهاج علينا موجه المتلاطم
تمشّت لنا في لجّةٍ ببطونها ... كما تتمشّى في الصّعيد الأراقم
وابن قلاقس الإسكندري ممن أجاد أوصاف السفن في عدة قصائد. من ذلك قوله وقد ذكر البحر:
ترى المواخر تجري في زواخره ... فترتقي في أعاليه وتنحدر
من كلّ سوداء مثل الخال يحملها ... بوجنةٍ منه فيها للضّحى خفر
وقوله أيضاً من قصيدة:
وقد رأيت به الأشراط قائمةً ... لأن أمواجه تجري بأطواد
تعلو فلولا كتاب الله صحّ لنا ... أن السّماوات منها ذات أعماد
ونحن في منزلٍ يسري بساكنه ... فاسمع حديث مقيمٍ بيته غادٍ
أبيت إن بتّ ومنه في مصوّرةٍ ... من ضيق لحدٍ ومن إظلام إلحاد
لا يستقر لنا جنبٌ بمضجعه ... كأنّ حالاتنا حالات عبّاد
وله أشياء غير هذه، أضربت عنها خوف الإطالة.
وما أحلى قول أبي الحسين الجزار:
كنت في كلكّةٍ تطير بقلعٍ ... وهي طورا على المنايا تحوم
أنظر الموج حولها فإخال ال ... جيم تاءً لخيفتي وهي جيم
لم أجد لي فيها صديقا حميما ... غير أنّي بالماء فيها حميم
وإذا ما دنت إلى البرّ أمسى ... عندنا منه مقعد ومقيم
يسجد الجرف كلّما ركع المو ... ج فدأبي هنالك التّسليم
وقبيح عليّ أن أشتكي بر ... را وبحرا وأنت بر رحيم
وقال ابن الساعاتي وإن كان فيه بعض قلق:
ولمّا توسّطنا مدى النيل غدوةً ... ظننت وقلب اليوم باللّهو جذلان
عشاريّة إنسانا له الماء مقلةٌ ... وليس لها إلا المجاذيف أجفان
وقد ذكر القاضي الفاضل رحمه الله المراكب في مواطن. منها قوله: ووافى الأسطول في خمسين غرابا طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخالب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحين، وحقق ما يغري إليه من البين.
وقوله: فيملأها عليهم جواري في البحر كالأعلام، ومدنا في اللج سوائر كأنها الليالي مقلعات بالأيام، وتطلع علينا معاشر الإسلام آمالا ، وتطلع على الكفار آجالا ، مسومة تمدها ملائكة مسومة، ومعلمة تقدم حيازيمها إقدام حيزوم تحت الحزمة.
قال: وأحسن من ذلك وألطف قول بعضهم في الخلخال:
ومضروبٍ بلا جرمٍ ... مليح اللّون معشوق
له قدّ الهلال على ... مليح القدّ ممشوق
وأكثر ما يرى أبدا ... على الأمشاط في السّوق
أقول: كذا وجدته في النسخة بالمثل ووقفت عليه أيضاً في كتاب: الإعجاز في الأحاجي والإلغاز للحظيري على هذه الصورة.
والأحسن أن يقال فيه: له شبه الهلال أو شكل الهلال أو طوق الهلال. فإن قد الهلال غير مناسب. ولكن هذا من قوله فيما تقدم في التفاح وعظم قده.
وقلت أنا ملغزا في الخلخال:
ما أصفرٌ دار على أبيضٍ ... لان ولكن قلبه قاس
وربّ ساقٍ غصّ منه وما ... أحسن هذا الوصف في النّاس
وقلت فيه أيضاً :
أيا عجبا من صابرٍ صامتٍ ولم ... يفه بكلام قطّ في ساعة الضّرب

أقام ولم يبرح مكانا ثوى به ... على أنّه أضحى يدور على الكعب
وإن كان الشيء يذكر بالشيء، فما أحلى قول القائل ملغزا في دملج:
إلى النساء يلتجي ... وعندهنّ يوجد
الجسم منه فضّةٌ ... والقلب منه جلمد

مناقشة الصفدي لابن الأثير
في تعليقه على لغز في حمام
قال: ووجدت لبعض الأدباء لغزا في حمام: ثم إنه ذكره وقال بعد الفراغ منه: وهذا من فصيح الألغاز، ولا يقال في صاحبه إنه في العمى ضائع العكاز.
أقول: ما السجعة الثانية مناسبة للأولى في المدح والتقريظ، وما كانت السجعة تريد إلا أن يقول بعدها: ولا أنه في الحيوان معدود من البهائم لأنه انفرد بالنطق وامتاز. ! وما رأيت من قرظ أحدا بمثل هذا التقريظ ويكون المقام مقام استحسان وثناء ومدح فيقال: ما هو في العمى ضائع العكاز. وأي مدح في هذا وقد جعله أعمى بعكاز، وهو أشد حالا من الأعمى الذي يمشي بلا عكاز. لأن الذي يعتمد مع عماه على عكازه، يكون قد جمع بين عمى البصيرة وعمى البصر. والظاهر أنه أراد أن يذكر المعمى فما اتفق له، والتزم بالزاي فما وجد غير العكاز، وآخر هذه السجعة عجز بيت لأبي الطيب. وهو:
ويرى أنّه البصير بهذا ... وهو في العمي ضائع العكّاز
من أقوالهم في الحمام
وعلى ذكر الحمام فلا بأس بذكر شيء من كلام المتأخرين في هذا الموطن وإيراده.
كتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى يستدعي إلى حمام: هل لك أطال الله بقاءك إطالة تكرع في منهل النعيم، وتتملى بالسعادة تملي الزهر بالوسمي والنظر بالحسن الوسيم في المشاركة في جمع بين جنة ونار، وأنواء وأنوار، وزهر وأزهار، قد زال فيه الاحتشام وكل عار ولا عار.
نجوم سمائه لا يعتريها أفول، وناجم رخامه لا يغيره ذبول، تنافست العناصر على خدمة الحال به، تنافسا أحسن كل فيه التوصل إلى بلوغ مآربه فأرسل البحر ما جسده حسده من زبده، لتقبيل يد أخمصه إذ قصرت همته عن تقبيل يده، ولم ير التراب له في هذه الخدمة مدخلا ، فتطفل وجاء وما علم أن التسريح لمن جاء متطفلا ، والنار رأت أنه عين مباشرتها وأنها بفرض خدمته لا تخل ولأن لها حرمة هداية الضيف في السرى، وبها دفع القر ونفع القرى، فأعلمت ضدها الماء فدخل وهو حر الأنفاس، وغلت مراجله فلأجل ذلك داخله من صوت تسكابه الوسواس، ورأى الهواء أنه قصر عن مطاولة هذه المبار، فامسك متهيبا ينظر ولكن من وراء زجاجة إلى تلك الدار، ثم إن الأشجار رأت ان لا شائبة لها في هذه الحظوة ولا مساهمة في تلك الخلوة، فأرسلت من الأمشاط أكفا أحسنت بما تدعو إليه الفرق، ومرت في سواد العذار الفاحم كما يمر البرق، وذلك بيد قيم قيم بحقوق الخدمة، عارف بما يعامل به أهل النعيم أهل النعمة، خفيف اليد مع الأمانة، موصوف بالمهابة عند أهل تلك المهانة، لطف أخلاقا حتى كأنها عتاب بين جحظة والزمان، وحسن صنعةً فلا يمسك يدا إلا بمعروف ولا يسرح تسريحا إلا بإحسان، أبدا يرى مع طهارته وهو ذو صلف، ويشاهد مزيلا لكل أذى حتى لو خدم البدر لأزال من وجهه الكلف، بيده موسى كأنها صباح ينسخ ظلاما ، أو نسيم ينفض عن الزهر أكماما ، إذا أخذ صابونه أفهم من يخدمه بما يمره على جسده أنه بحر عجاج، وأنه يبدو منها زبد الأعكان التي هي أحسن من الأمواج.
فهلم إلى هذه اللذة، ولا تعد الحمام دعوة أهل الحراف فربما كانت هذه من بين تلك الدعوات فذة.
وكتب أيضاً في محضر قيم في حمام الصوفة:

يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عبد الظاهر أن أبا الحجاج يوسف ما برح لأهل الصلاح ميمما ، وله جودة صناعة استحق بها أن يدعى قيما ، كم له عند جسد من من جسيم، وكم أقبل مستعملوه تعرف في وجوههم نضرة النعيم، وكم تجرد مع شيخ صالح في خلوة، وكم قال ولي الله يا بشراي لأنه يوسف حين أدلى في حوض دلوه، كم خدم من العلماء والصلحاء إنسانا ، وكم ادخر بركتهم لدنيا وأخرى فحصل من كل منهم شفيعين مؤتزرا وعريانا ، كم شكرته أبشار البشر، وكم حك رجل رجل صالح فتحقق هنالك أن السعادة لتلحظ الحجر، قد ميز بخدمة الفضلاء أهله وقبيله، وشكر على ما يعاب به غيره من طول الفتيلة، كم ختم تغسيل رجل بإعطائه براءته يستعملها ويخرج من حمام حار، فاستعملها وخرج فكانت له براءةً وعتقا من النار، كم أوضح فرقا ، وغسل درنا مع مشيب فكان الذي أنقى فما أبقى، تتمتع الأجساد بتطييبه لحمامه بظل ممدود وماء مسكوب، وتكاد كثرة ما يخرجه من المياه أن يكون كالرمح أنبوبا على أنبوب، كم له بينة حر على تكثير ماء يزول به الاشتباه، وكم تجعدت فباءت كالسطور في كل حوض فقل هذا كتاب الطهارة باب المياه، كم رأس انشدت موساه حين أخرجت من تلاحق الإنبات خضرا:
ولو أنّ لي في كلّ منبت شعرةٍ ... لسانا يبثّ الشكر كنت مقصّرا
أقول: ليس يخفى ما في هذا الكلام من التورية والاستخدام وحل الأبيات والحديث وغيره، ولولا خوف الإطالة لذكرت ذلك.
وما أحسن قول النصير الحمامي وألطفه:
لي منزلٌ معروفه ... ينهلّ غيثا كالسحب
أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب
وقوله أيضاً :
وكدّرت حمّامي بغيبتك التي ... تكدّر من لذّاتها كلّ مشرب
فما كان صدر الحوض منشرحا بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيّب
وكتب يستدعي إلى حمامه:
من الرّأي عندي أن تواصل خلوةً ... لها كبدٌ حرى وفيض عيون
تراعي نجوما فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمعي فارحٍ وحزين
غدا قلبها صبا عليك وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون
وللناس في مدح الحمام وذمها أشياء مليحة ليس هذا موضع ذكرها خوف الإطالة.

أمثلة على الألغاز الحسان
ومناقشة الفرق بين اللغز والتعريض
قال: ومما سمعته من الألغاز الحسان التي تجري في المحاورات، ما يحكى عن عمر بن هبيرة وشريك النميري. وذلك أن عمر كان سائرا على برذون له، وإلى جانبه شريك النميري، فتقدمه شريك في المسير فصاح به عمر: اغضض من لجامها. فقال: أصلح الله الأمير، إنها مكتوبة. فتبسم عمر ثم قال له: ويحك لم أرد هذا. فقال له شريك: ولا أنا أردته.
وكان عمر أراد قول جرير:
فغضّ الطرف إنّك من نميرٍ ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فأجابه شريك بقول الآخر:
لا تأمننّ فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
الفرق بين اللغز والتعريض
أقول: ليس هذا وأمثاله من الإلغاز في شيء، لأن اللغز هو أن تذكر شيئاً بصفات يشاركه فيها غيره، فيرجع الذهن في ذلك إلى حيرة لا يدري مصرفها إلى أي متصف منهما بتلك الصفات، لكونها تصدق من جهة وتكذب من أخرى. واشتقاقه من اللغيزي، وهي حفر يحفرها اليربوع تحت الأرض، ويجعلها متشعبة يمنة ويسرة ليخفي أمره على من يقصده، فإذا طلبه في واحد منها خرج من آخر.
ألا ترى أن السامع إذا سمع قول القائل:
جاريةٌ جاءت من الهند ... يحثّها السير إلى القصد
لها بناتٌ لسن من جنسها ... في حدّهم جزن عن الحد
لهم قرونٌ ولها حافرٌ ... وذاك من أغرب ما أُبدي
وأعجب الأشياء أولادها ... يكلّمون الناس في المهد

أخذ يقول في نفسه: في البيت الأول، جارية جاءت من الهند يحثها السير، ما في ذا شيء، فإذا سمع الثاني: لها بنات لسن من جنسها، رجع في الحيرة وفكر وقال: كيف يكن من غير جنس أمهن. فإذا سمع الثالث: لهم قرون ولها حافر، زاد في حيرته وقال: لسن هؤلاء ولا أمهن من الأناسي. فإذا سمع الرابع: يكلمون الناس في المهد، تأكدت حيرته، ثم رجع إلى أنهن من الأناسي لإثبات المهد والكلام، وأخذ يعمل فكرته في موجود متصف بهذه الصفات. فإذا أعيى مال إلى الألفاظ المشتركة، ونزله بقوة فكرته وإصابة حدسه على أن ذلك لا يصدق إلا على الدست الذي للقاصد وريشه وما أحلى ما استعمل هذا الشاعر، السير والحافر والتكليم، وهكذا يكون اللغز.
وحكاية ثعلب رحمه الله مشهورة مع الأعرابي الذي وقف عليه وأنشده ملغزا بيتا بعد بيت وثعلب يقول: هذا كذا، ثم ينتقل في الثاني إلى غير التفسير الأول، حتى إذا فرغ الأعرابي من إنشاده قال ثعلب: هذا قلم.
وإذا ثبت هذا في اللغز، فليس الذي ساقه ابن الأثير من الألغاز، وإنما ذلك من باب التعريض والإشارة، كأن المتكلم بمثل هذا يعرض للمخاطب بما قيل ويشير له إلى واقعة وقعت. وما رأيت من عد مثل هذا لغزا غير ابن الأثير رحمه الله تعالى على أنه قال في المثل في الكناية والتعريض: إنما سمي التعريض بهذا لأن المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ، أي: من جانبه، وعرض كل شيء جانبه.
أقول: وكذا واقعة عمر وشريك، كل منهما فهم مقصود صاحبه من عرض كلامه. فإن غض جانب من قول الشاعر:
فغض الطرف... البيت.
وكذا الكتب جانب من قوله: واكتبها بأسيار. فتعين أن التعريض غير اللغز. وهذا شريك صاحب أجوبة حادة. يقال: إن أهل الكوفة كانوا إذا تمنى منهم أحد شيئاً يقول: أتمنى أن يكون لي فقه أبي حنيفة، وحفظ سفيان وورع مسعر بن كدام وجواب شريك.
ومثل حكاية عمر وشريك، ما ذكره صاحب الأغاني. قال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحكم خيله، فمر به فرس فقال: كيف تراه ؟ قال: هذا سابح. ثم عرض عليه آخر. فقال: وهذا ذو علالة. ثم مر به آخر فقال: وهذا أجش هزيم. فقال له معاوية: أبي تعرض ؟! قد علمت ما أردت، إنما عرضت بقول النجاشي:
ونجّى ابن حربٍ سابحٌ ذو علالةٍ ... أجشّ هزيمٌ والرّماح دوان
اخرج فلست تساكنني في بلد.
فانظر إلى كلام معاوية رضي الله عنه كيف صرح بلفظة التعريض في الموضعين.
وقد ساق علماء الأدب من هذا الباب جملة في كتبهم. وأما أبو عبد الله محمد بن السيد البطليوسي فقد ساق واقعة شريك وعمر بن هبيرة هذه في شرح أدب الكاتب، ثم قال بعد الفراغ منها: عرض له ابن هبيرة بقول جرير، وعرض له شريك بقول سالم بن دارة. وساق أمثال هذه الواقعة، وفي الكل يقول: عرض. وهذا صريح من مثل هذا الرجل وهو إمام فيما يقوله وقوله حجة.
وما أحسن قول من قال وما ألطفه:
إسقني خمرةً كرقّة ديني ... أو كعقلي ولا أقول كحالي
خيفةً من توهّم النّاس أني ... قلت هذا في معرضٍ للسّؤال
ومن التعريض قول السراج الوراق يعرض بطلب صابون:
بعثت لك الكتاب وقلّ سعيي ... على رأسي لبابك بالكتاب
وعذري عنك في التأخير أنّي ... تبددت الدّواة على ثيابي
ونقلت من خط السراج الوراق رحمه الله ما صورته: كان أبو الحسين النحوي يجلس عند شرابي، فجاء يوماً فوجد في موضعه قمقم ما ورد. فقال له الشرابي: يا سيدنا نشيل القمقم وتجلس. فقال له: كيف وقد أمرتني بالقيام مرتين بقولك: قمقم ؟! واتفق أن أهدى إلي شخص قمقما فأنشدته:
إن كان ذلك قال: قم قم طاردا ... لجليسه بإشارةٍ في القمقم
فأنا الذي قعد الزمان بحظه ... فأتى بذاك له ونادى: قم قم

المبادىء والافتتاحات
قال في النوع الثاني والعشرين في المبادىء والافتتاحات:

ومن الحذاقة في هذا الباب، أن يجعل الدعاء في أول المكاتبات السلطانيات والإخوانيات وغيرهما مضمنا من المعنى ما بني عليه ذلك الكتاب، وهذا شيء انفردت بابتداعه، وتراه كثيراً فيما انشأته. ثم قال: ومن ذلك ما ذكرته في الهناء بمولود وهو: جدد الله مسرات المجلس الفلاني، ورسل صبوح هنائه بغبوقه، وأمتعه بسليله المبشر بطروقه، وأبقاه حتى يستضيء برأيه ويرمي عني فوقه، وسر به أبكار المعالي حتى يخلق أعطافها بخلوقه، وجعله كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه.
أقول: هذا وقد عاب على الصابي وعلى جماعة من الشعراء في الافتتاحات، وادعى هذه الدعوى، ثم أتى بمثل هذا الافتتاح في الهناء بمولود.
وليس في أول سجعة ما يدل على أن الهناء بمولود أو ختان أو عرس أو فتح أو عيد أو برء من مرض أو غير ذلك من أنواع المسار، وإنما دلت على مطلق الهناء.
وأما قوله: وسر به أبكار المعالي حتى تخلق أعطافها بخلوقه، ما أدري ما في هذا من البلاغة.
وكتبت أنا في هناء بمولود: وزان أفق السعادة بنجمه الذي أصبح بازغا ، وبلغه في صباه أعلى المفاخر حتى يكون قبل البلوغ لغايات المعالي بالغا ، وشغل به السيادة فإن قلبها إلا من هذا البيت لا يزال فارغا .
وكتبت أيضاً : وحفظ على غاب الممالك شبله، وجعله طليعة بشرى لما بعده كما جاء ساقة خير لما قبله، وأهله لأن يكون أمام صفوف الحرب إماما ، كما جعل وجهه للحسن جامعا ويده للقبل قبلة.
وكتبت أيضاً : وأقر عينه بهذه القرة، وبلغه نهايات آماله فيه من السعود فإنها مترجمة في هذه الطرة، وجعل الأصيل زعفران هذا الخلوق والشفق عقيقة هذه الدرة.
وقد كتبت جوابا عن كتاب ورد قرين تفاصيل قماش مطاير. فقلت يقبل الباسطة لا زالت جمل جودها مشكورة التفاصيل، وتحف برها المرقومة تعمل لوليه ما يشاء من محاريب وتماثيل، ونقوش هداياها ترمي نفوس العدى بالهلاك من طيورها الأبابيل.
وعلى ذكر الهناء بالولد. فمما جاء في كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى وهذا الولد المبارك هو الموفي لاثنى عشر ولدا ، بل لاثنى عشر نجما متقدا ، فقد زاده الله في أنجمه عن أنجم يوسف نجما ، ورآهم المولى يقظةً ورأى تلك حلما ، ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق لهم سجودا ، وهو قادر أن يزيد حدود المولى إلى أن يراهم أبا وجدودا .
ومن كلامه أيضاً : ونهي أن الله وله الحمد رزق الملك العزيز عز نصره ولدا مباركا عليا ، ذكرا سويا ، نقيا تقيا ، من ذرية بعضها من بعض، ومن بيت كادت ملوكه تكون ملائكةً في السماء ومماليكه ملوكا في الأرض، في غرة الهلال من جمادى فلهذه الليلة غرتا هلالين، بشرتا بالأنواء صادقتين. وأصدر المملوك هذه الخدمة مبشرا بأن الله تعالى لا يخلي مولانا في كل وقت من زيادة أولاد يمنحها، أو زيادة بلاد يفتحها. فهو في كل يوم مبشر، بما هو له ميسر، والفلك بما نرجوه له جار وله مسمر، فيطلع عليه نجومه نجما نجما ، وتستهل سحبه عليه سجما سجما ، وقد ورد في الأثر أن الولد ريحان الجنة، فالبيوت الكريمة على هذه بساتين، والأولاد البررة على هذه رياحين، فلا عفا بستاننا، ولا ذوى ريحاننا، وعلا جد بني مولانا الذي هو جدهم وأبوهم وسلطاننا.
وقد ادعى ابن الأثير أنه الذي انفرد بمناسبات المبادىء، وهذا ما زال غالب الناس يراعيه. وقد نص على ذلك ابن خلف في المنثور البهائي قال: ومن ذلك مفتتح كتاب إلى ديوان الخلافة، وساق مقدمة الكتاب، وفي آخرها: وقد يعبر عن الكتاب ونائله، بالسحاب ووابله، فإن صدر عن يد كيد الديوان العزيز فقد وقع التشبيه موقع الصواب، وصدق حينئذ قول القائل، إن البحر عنصر السحاب.
أقول: ليس هذا من التحقيق في شيء، ومن ادعى أن السحاب من البحر، فليس عنده علم بحقيقة ذلك وكيف والبحر ملح أجاج، والقطر المنزل من السحب عذب فرات ؟.
وقد فسر قوله تعالى: " وفي السماء رزقُكم وما تُوعدون " أنه السحاب التي تمطر، ولو كان كما زعمه، لقال: وفي البحر رزقكم.
وقال الله تعالى: " الله الذي يُرسِل الرّياح فتُثير سَحابا " ، فجعل علة منشأ السحاب إرسال الرياح، ولم يذكر البحر.
وما أحسن قول ابن زيدون:
للشفيع الغناء والحمد في صو ... ب الحيا للرّياح لا للغيوم

إشارةً إلى معنى الآية الكريمة. وإن كان جاء في ذلك نقل يوثق بصدقه، يرد بالتأويل إلى هذا.
وقد قال أبو العلاء المعري:
وقد يجتدى فضل الغمام وإنّما ... من البحر فيما يزعم الناس نجتدي
فاحترز بقوله: فيما يزعم الناس. يعني: في الظاهر. وإن كان الأمر في الباطن بخلاف ذلك.
وما أحسن قول الحسين بن مطير يصف مطرا :
لو كان من لجج السّواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السّواحل ماء
وربما كابر بعض الجهال وقال: إن السحاب من البحر ولكن الرياح تقصره فيحلو. ومن هذا قول التهامي:
كالبحر تمطره السّحاب ومالها ... فضلٌ عليه لأنّه من مائه
وما يليق بهذا المكان غير التنبيه على أن المطر ليس من البحر، وأن البحر ليس بعنصر السحاب. وغير ذلك يؤخذ من كتب هذا الفن في الطبيعيات.
وما أحلى قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: وصل كتابه وقد انقضى الربيع وعهده، وصدر وارده وقوض ورده، فنابت سطوره فأحسنت النيابة، وعرف الناس ما بينه وبين الربيع من القرابة، بل الأخوة فإن أمهما السحابة.
قال: ومن جملة الكتب المشار إليها، مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وأرسلته إليه من الموصل ثم ذكر الكتاب.
ولما فرغ منه، بخبخ لنفسه وأثنى، وساق كتبا أخر في معنى الثناء على المراسلات الواردة، ومنها من الحسن بعض إحسان، وإذا قرنتها بكلام الفاصل قلت فتى ولا كمالك ومرعىً ولا كالسعدان.

من المحاسن افتتاح الكتاب بآية أو حديث أو بيت شعر
قال: ومن محاسن هذا الفن، أن يفتتح الكتاب بآية من آيات القرآن، أو بخبر من الأخبار النبوية، أو بيت من الشعر، ثم يبنى الكتاب عليه.
فمن ذلك ما كتبته في ابتداء كتاب يتضمن البشرى بفتح. وهو:
ومن طلب الفتح الجليل فإنّما ... مفاتحه البيض الخفاف الصّوارم
وقد أخذنا بقول هذا الشاعر الحكيم، وجعلنا السيف وسيلة إلى استنتاج الملك العقيم.
أقول: من محاسن ما وجدته من هذا النوع، كتاب كتبه القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالى، جوابا إلى الأمير شمس الدين آقسنقر، عن كتاب ورد منه بفتح بلاد النوبة، استفتحه بعد البسملة بقوله تعالى: " وجعلنا الليل والنَّهار آيتين، فمحونا آيةَ الليل وجعلنا آيةَ النهار مُبصِرة " أدام الله نعمة المجلس، ولا زالت عزائمه مرهوبة، وغنائمه مجلوبة ومجنوبة، وسطاه وخطاه هذه تكف النوب وهذه تكف النوبة، ولا برحت وطأته على الكفار مشتدة، وآماله لإهلاك الأعداء كرماحه ممتدة، ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي ترى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة.
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي واتت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء " وما ربُّك بظلاّم لِلعبيد " . حيث شكرت الضمر الجرد وحمدت العيس، واشتبه يوم النصر بأمسه بقيام حروف العلة مقام بعض فأصبح غزو كنيسة سوسن كغزاة سيس.
ونفهه أنا علمنا فضل الله بتطهير البلاد من رجسها وإزاحة العناد، وحسم مادة معظمها الكافر وقد كاد وكاد، وتعجيل عيد النحر بالأضحية بكل كبش حرب يبرك في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد. وتحققنا النصر الذي شفى النفوس وأزال البوس، ومحا آية الليل بخير الشموس، وخرب دنقلة بجريمة سوس، وكيف لا يخرب شيء يكون فيه سوس.

فالحمد لله على أن صبحتهم عزائم المجلس بالويل، وعلى أن أولج النهار من السيف منهم في الليل، وعلى أن رد حرب حرابهم إلى نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وبين خط السيف الأبيض من الخيط الأسود من فجر فجورهم، وأطلع على مغيبات النصر ذهن المجلس الحاضر، وأورث سليمان الزمان المؤمن ملك داوود الكافر، وقرن النصر بعزم المجلس الأنهض، وأهلك العدو الأسود بميمون طائر النصر الأبيض، وكيف لا وآقسنقر هو الطائر الأبيض. وأقر لأهل الصعيد كل عين، وجمع شملهم فلا يرون من عدوهم بعدها غراب بين، ونصر ذوي السيوف على ذوي الحراب، وسهل صيد ملكهم على يد المجلس وكيف يعسر على السنقر صيد الغراب ؟. والشكر لله على إذلال ملكهم الذي لان وهان، وأذاله ببأسه الذي صرح به شر كل منهم في قتاله فأمسى وهو عريان، وإزهاقهم بالألسنة التي غدا طعنها كفم الزق غدا والزق ملآن، ودق أقفيتهم بالسيف الذي أنطق الله بفاله أعجم الطير فقال: دق قفا السودان.
ورعى الله جهاد المجلس الذي قوم هذا الحادث المنآد، ولا عدم الإسلام في هذا الخطب سيف الذي قام خطيبا وكيف لا وقد ألبسه منهم السواد، وشكر له عزمه الذي استبشر به وجه الزمن القطوب، وتحققت بلاد الشمال به صلاح بلاد الجنوب، وأصبحت به سهام الغنائم في كل جهة تسنهم، ومتون الفتوحات تمتطى فتارةً يمتطي السيف كل سيس وتارةً كل أدهم، وحمد شجاعته التي ما وقف لصدمتها السواد الأعظم.
ولله المنة على أن جعل ربوع العدو بعزائم المجلس حصيدا كأن لم تغن بالأمس، وأقام فروض الجهاد بسيوفه المسنونة وأنامله الخمس، وقرن ثباته بتوصيل الطعن لنحور الأعداء ووقت النحر قيد رمح من طلوع الشمس. ونرجو من كرم الله إدراك داوود المطلوب ورده على السيف بعيب هربه والعبد السوء إذا هرب يرد لا محالة بعيب الهروب.
والله يشكر تفصيل مكاتبات المجلس وجملها، وآخر غزواته وأولها، ونزال مرهفاته ونزلها، ويجعله إذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو يعود سالما إلى مستقره والشمس تجري لمستقر لها.
أثبت هذا الكتاب بمجموعه لما فيه من النكت المطربة، والتوريات المغربة. وللقاضي محيي الدين رحمه الله تعالى في هذه الواقعة بيتان، وقيل لابن النقيب. وهما:
يا يوم دنقلةٍ وقتل عبيدها ... في كلّ ناحيةٍ وكلّ مكان
من كلّ نوبيٍّ يقول لأمّه ... نوحي فقد دقوا قفا السّودان

في التخلص والاقتضاب
قال في النوع الثالث والعشرين في التخلص والاقتضاب، وقد أورد قول أبي تمام من جملة أبيات:
لا والذي هو عالمٌ أنّ النوى ... أجلٌ وأنّ أبا الحسين كريم
ثم قال: وهذا خروج من غزل إلى مديح.
أقول: المشهور في هذا البيت أن أبا تمام قاله:
لا والّذي هو عالمٌ أنّ النوى ... صبرٌ...
وما رأيت من أورده كذا، ولا وقفت عليه في ديوان على كثرة النسخ به إلا وهو مثبت كما ذكرته. وأما أرباب البلاغة، فقد ذكروا البيت وعدوه من العيوب، لأنه لا مناسبة بين الصبر والكرم. ولو قيل: إن الزمان بخيل وأبا الحسين كريم، أو يقول إن النوى صبر وإن الوصال شهد، كان مناسبا . وما ذكره أحد فيما علمت إلا وعده عيباً، وهذا عده من المحاسن ومثل به وغير لفظه. والعدالة غير هذا، وليته أصلحه لما غيره.
ولا بأس بإيراد نبذ مما جاء للشعراء في هذا النوع. من ذلك قول المعري أبي العلاء وقد ذكر النوق:
سألن فقلت مقصدنا سعيدٌ ... فكان اسم الأمير لهنّ فالا
وقول مسلم بن الوليد:
يقول صحبي وقد جدّوا على عجلٍ ... والخيل تستنّ بالرّكبان في اللّجم
أمطلع الشّمس تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلت: كلاّ ولكن مطلع الكرم
وقد أخذه أبو تمام أخذا وفلذه فلذا فقال:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلت: كلاّ ولكن مطلع الجود
وأخذه الغزي أيضاً ، وسبكه فلبكه إذ قال:
تقول إذا حثثناها وظلّت ... تناجينا بألسنة الكلال
إلى أُفق الهلال مسير ركبي ... فقلنا: بل إلى أُفق النّوال
وقول علي بن الجهم:
وليلةٍ كحلت بالنقس مقلتها ... ألقت قناع الدّجى في كلّ أُخدود

تكاد تغرقني أمواج ظلمتها ... لولا اقتباسي سنا من وجه داوود
وقول القائد أبي عبد الله السنبسي يمدح سيف الدولة صدقة بن منصور:
ونرجسٍ خضلٍ تحكي نواظره ... أحداق تبرٍ على أجفان كافور
كأنّما نشره في كل باكرةٍ ... مسكٌ تضوّع أو ذكر ابن منصور
وقول ابن سناء الملك:
لا يرجع الكلف المشوق عن الهوى ... أو يرجع الملك العزيز عن النّدى
وقوله أيضاً :
فالوجد لي وحدي دون الورى ... والملك لله وللظّاهر
وقول ابن الساعاتي:
وجدي وان كنت الذّليل ببيضه ... وجد العزيز بكلّ لدنٍ أسمر
وقوله أيضاً :
كم وقفنا فيها مع الغيث مثلي ... ن جفونا وكّافةً وغماما
أثخنته ظبى البروق جراحا ... منهراتٍ سالت عليه ركاما
وكأنّ الغمام نقعٌ وقد جر ... رد فيه الملك المعزّ حساما
وأحسن من هذا كله قول الشيخ شرف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ بحماة من غزل قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:
فمن رأى ذلك الوشاح الص ... ائم صلّى على محمّد
وقول أبي الحسين الجزار يمدح جمال الدين موسى بن يغمور:
جسرت على لثم الشّقيق بخدّها ... ورشف رضابٍ لم أزل منه في سكر
ولست أخاف السّحر من لحظاتها ... لأنّي بموسى قد أمنت من السحر
وقوله أيضاً يمدح فخر القضاة نصر الله بن بصاقة:
وكم ليلةٍ قد بتّها معسرا ولي ... بزخرف آمالي كنوزٌ من اليسر
أقول لقلبي كلما اشتقت للغنى ... إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر
وعلى ذكر المخلص، فما أحلى قول السراج الوراق:
لئن خفّ صدري للقوافي ونظمها ... ففي من وظل الجود عني مقلّص
وكم مطلعٍ حبّرته من قصيدةٍ ... يقول عيسى لي أو عسى لك مخلص
وظرف من ذم التخلص في بيت واحد حيث قال:
بينا ذوائب من يحبّ بكفّه ... حتى تعلّق لحية الممدوح

التخلص في القرآن الكريم
قال: وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي: إن كتاب الله خال من التخلص. إنما هو الخروج من كلام إلى كلام آخر بلطيفة تلائم بين الكلامين، الذي خرج منه، والذي دخل إليه.
حول أمثلة من ذلك أوردها ابن الأثير من القرآن الكريم
ثم قال ابن الأثير: وفي القرآن مواضع كثيرة. من ذلك: وأخذ يورد ما أورده. كقوله تعالى: " واتلُ عليهم نبأَ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومِه ما تَعبدون... " إلى آخر القصة، وغير ذلك.
أقول: الذي ذكره ابن الأثير لا يخرج عما قاله الغانمي؛ فإن القرآن جميعه متعلق بعضه ببعض، كالخروج من الوعظ والتذكير إلى الإنذار أو إلى البشارة، أو إلى أمر أو نهي أو وعد أو وعيد، إلا ما خفي تعلقه في الظاهر. والإمام فخر الدين راعي هذا في تفسيره، وتكلم على علاقة الآية بما بعدها.
وابن الأثير ما فهم كلام الغانمي ولا علم مراده، وهو أنه أراد التخلص الذي اصطلح عليه الشعراء، وهو أن يتخلص الشاعر في البيت الواحد، من غزل أو عتاب أو وصف إلى مديح. ومثل هذا لم أعلم أنه ورد في الآية الواحدة. وأما تعلق الآية بما قبلها، فما شذ من هذا إلا اليسير وذلك في الظاهر، وإلا متى تدبر الإنسان ذلك وتأمله حق التأمل، لم يجده مقطوعا إلا فيما هو معلوم الاقتضاب.
نماذج من التخلص في إنشاء ابن الأثير
قال: وقد جاءني من التخلصات في الكلام المنثور أشياء كثيرة. فمن ذلك ما أوردته في كتاب إلى بعض الإخوان أصف فيه الربيع، ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الأشواق. فقلت: وكما أن هذه الأوصاف في شأنها بديعة، فكذلك شوقي في شأنه بديع، غير أنه بحره فصل مصيف وهذا فصل ربيع.

أقول: قد أورد هذا الرجل من تخلصات الشعراء، كأبي تمام وأبي الطيب والبحتري وغيرهم أمثلة وما تنبه للتخلص وحسنه. أترى مثل هذا يعد من التخلصات ولو كان قال: وشقيق شق أكمامه، ورفع أعلامه، وملأ من المدام جامه، وجلا خده الأحمر وفيه من السواد شامه، وأوقد ناره فحكت جمر أشواقي وضرامه، لعد الناس هذا تخلصا . ثم ذكر فصلا آخر في البرد، وادعى أنه تخلص إلى الشوق، وهو من هذه النسبة. ثم ذكر فصلا آخر في الهدية، تخلص منها إلى الشفاعة، وهو من هذا الضرب. ثم ذكر فصلا في ذكر المودة، وتخلص إلى طلب رطب. وهو من هذا القبيل.

التناسب بين المعاني ومناقشة أمثلة من ذلك
قال في النوع الرابع والعشرين في التناسب بين المعاني، بعد أن أورد أمثال قول الشاعر:
ألا يا بن الذين فنوا فماتوا ... أما والله ما ماتوا لتبقى
ومالك فاعلمن فيها مقامٌ ... إذا استكملت آجالا ورزقا
وأنكر عدم المناسبة بين إفراد الرزق وجمع الأجل، وقبحه: كنت أرى هذا الضرب واجبا في الاستعمال، وأنه لا يحسن المحيد عنه، حتى مر بي في القرآن ما يخالفه. كقوله تعالى: " أوَلم يَروا إلى ما خلَق اللهُ مِن شيءٍ يَتفيَّأ ظِلالَه عَن اليَمين والشمائل. وأورد قوله تعالى: " أولئك الذين طبَعَ اللهُ على قُلوبهم وسمْعِهم وأبصارِهم " .
وقوله تعالى: " حتى إذا ما جاؤوها، شَهِد عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم " .
أقول: لا مرية في قول الشاعر: آجالا ورزقا ، أنه معيب معدود في عدم تناسب المعاني، وقد ذكره علماء البلاغة ونصوا عليه. ولو كان قال: أجلا وأرزاقا لكان أهون، فإن الأجل واحد، والرزق متعدد. وصحة الذوق تأبى مثل هذا.
وأما إيراده هذه الآيات، فإنه لم يرد الجمع مع الإفراد إلا لحكمة لم يطلع عليها ابن الأثير. وتلك الحكمة أكبر وأعظم من مراعاة المناسبة.
ويضرب إلى جهة اليسار فهو واحد، فإذا زالت الشمس وعادت إلى جهة الغرب، انعكس الظل وأخذ عن الشمال ثم صار شيئاً ف شيئاً وتعددت زياداته وفرضت النصبة. كذا لاستقبال القبلة وشرف جهتها.
ودع ذا فإن لفظة الشمائل أعذب في الجمع من الإفراد وأحلى، والعرب من عادتها مراعاة خفة الألفاظ وعذوبتها مع عدم تناسب المعاني. وأنت قررت أن من الألفاظ ما يثقل مفردا ويخف جمعا .
وأما السمع في الآيتين الكريمتين فإنما أفرد لأنه مصدر، والمصدر يصدق على القليل والكثير، فإذا اندرج بين جموع كان له حكمها، وإذا اندرج بين مفردات، كان في حكمها.
وعلى الجملة فالمصادر جمعها عيٌ، لأن معنى الكثرة موجود فيها، أو لأنه بتقدير حذف مضاف لم يحسن في غيره، كأنه تعالى قال: وعلى حواشي سمعهم. ولا يستقيم مثله في الأبصار والقلوب.
أما الأبصار، فلأنها غير مطبوع عليها ولكنها مغشاة. وأما القلوب، فلأنها غير محوية فيما له حواش يقع الختم عليها، فكان الطبع على القلوب نفسها لا على حواشيها. ومن هذا قوله تعالى: " وجعل الظُّلماتِ والنُّور " لأن الظلمات من أجرام متكاثفة، والنور من النار. فكذا اليمين والشمائل.
مناقشة ابن الأثير في الاقتصاد والتفريط والإفراط
قال في النوع الخامس والعشرين في الاقتصاد والتفريط والإفراط، عند ذكر التفريط: وأعلم أن للمدح ألفاظا تخصه، وللذم ألفاظا تخصه، وقد تعمق قومٌ في ذلك حتى قالوا: من الأدب أن لا يخاطب الملوك ومن يقاربهم بكاف الخطاب. وهذا غلط باردٌ، فإن الله الذي هو ملك الملوك، قد خوطب بالكاف في أول كتابه العزيز فقيل: " إياك نعبد وإياك نستعين " . وقد ورد أمثال في مواضع من القرآن محصورة.
أقول: استشهاده بهذا ليس مما يرد قول من ذهب إلى أن الأدب في خطاب الملوك ومن قاربهم أن لا يكون بالكاف، لأن هذه فاتحة الكتاب ومما يتلى في كل ركعة، والقرآن الكريم إنما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ومن جملة فوائده تنزيه الله عز وجل عن الشريك والولد والزوجة. فلو قيل: إياكم نعبد وإياكم نستعين، لكان فيه إشعار للمشركين والنصارى بما يقولونه من تعدد الآلهة، وكان شبهةً لمدعي ذلك.

وقد وردت رسالة من جزيرة قبرص على يد كليام الفرنجي التاجر في سنة عشرين وسبعمائة تقريبا ، ووقفت عليها بمدينة صفد، فوجدت واضعها قد استدل على صحة مذهب النصارى في القول بالثالوث، بأشياء نقلية من القرآن العظيم. بمثل قوله تعالى: " قال ربِّ ارجعون " " وكفى بنا حاسبين " . وبمثل هذه الآيات، وبأشياء أخر يضحك من الاستدلال بها.
ثم أخذ يستدل على الثالوث بقوله تعالى: " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق " فذكر ثلاثة، وهذا شيء يضحك منه.
على أن بعض الرافضة، له في القول بصحة الزواج بتسعة دليل من هذا النوع. وهو قوله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع " وقال: هذه العدة مجموعها تسعة، والنبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة.
وأما هذه الرسالة القبرسية؛ أجاب عنها الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله في مجلدين، وعبث بها مدةً وأولع بها.
فإن قلت بمثل قوله تعالى: " ربِّ ارجعون " " وكفى بنا حاسبين " يشكل عليك فيما قررته في الفاتحة، قلت: ثبت لنا في القرآن من غير هذا، وقامت الأدلة على الوحدانية بمثل قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسَدتا " ، وإذا جاء مثل هذا علمنا أنه المراد به التعظيم. وما أخذ الناس خطاب العظيم بلفظ الجمع إلا من القرآن العظيم.
والعلة في أن المعظم نفسه يقول: نحن فعلنا وأمرنا .. وما أشبه ذلك، هو أنه لا يقول هذا إلا من هو مطاع معظم في قومه، ولا يكون المطاع إلا من له أتباع وخدم يقولون بقوله، ويرجعون إلى ما يقوله. كصاحب المذهب يقول: رأينا، ومذهبنا. أي أنا ومن يقول بهذا القول.
ولهذا، الفقهاء والنظار يقول الواحد منهم: لا نسلم. ويكون واحدا لا غير، والمراد أن هذا أمنعه أنا ومن وافق قولي.
فلما كان المتكلم إذا كان عظيما قال: نحن فعلنا، حمل على ذلك خطابه فقيل له: أنتم فعلتم ليكون ذلك مقابلة لما يقوله.
وأما في هذا العصر، فقد استراح الناس من خطاب الملوك في مكاتباتهم وغير مكاتباتهم من الكاف ومن ضمير الجمع. فإنه لا يقال إلا: المراسم الشريفة، والآراء الشريفة، والصدقات الشريفة، والأبواب الشريفة، إلا ما كان يجل الشرف أن ينعت به مثل: الاسطبل، والمناخ والمطابخ وأشباه ذلك، فإنه ينعت بالسعيدة.
وان كان المتكلم بين يدي السلطان قال: رأس مولانا السلطان خلد الله ملكه وكل شيء يذكره، أضافه إلى هذه الجملة.

المفاضلة بين التسميتين الإرصاد والتوشيح
قال في النوع الثامن والعشرين في الإرصاد: ورأيت أبا هلال العسكري قد سمى هذا النوع: التوشيح. وليس كذلك، بل تسميته بالإرصاد أولى.
أقول: هذا الإرصاد الذي ذهب إلى أنه أليق من التوشيح بالمعنى الذي قرره، مثاله قول البحتري:
أحلّت دمي يوم الفراق وحرّمت ... بلا سببٍ يوم اللقاء كلامي
وليس الذي حلّلته بمحلّلٍ ... وليس الذي حرّمته بحرام
وهو أن الشاعر يأتي بنصف بيت يفهم منه النصف الثاني، أو صدر يفهم منه العجز، أو من البعض يفهم الكل، وهو دليل التمكن وجودة الطبع.
ووجه المناسبة بين هذا المعنى وبين التوشيح، أن ينزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح، وينزل دلالة ما في أوله على آخره منزلة الوشاح الجائل عليهما. وهذا معنى لائق بهذا المسمى، ونفس اللفظ أعذب في السمع من الإرصاد.
قال: وقد سلك قوم في منثور الكلام ومنظومه طرقا خارجةً عن موضوع علم البيان وهي بنجوة عنه، لأنها في واد وعلم البيان في واد.
فممن فعل ذلك الحريري صاحب المقامات، فإنه ذكر تلك الرسالة التي هي كلمة معجمة وكلمة مهملة، والرسالة التي هي حرف من حروف ألفاظها معجم والآخر غير معجم.
ونظم غيره شعرا ، آخر كل بيت منه، أول البيت الذي يليه. وكل هذا وإن تضمن مشقةً من الصناعة، فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة.
أقول: إن الحريري رحمه الله تعالى لم يأت بما أتى به من هذه الأنواع وادعى أن هذا هو الفصاحة والبلاغة، وإنما أتى بذلك ليستوعب أنواع الأدب، ويبين للأديب ما يلزمه معرفته، وكل ذلك دليل القدرة والتمكن.
ولو أن الحريري فعل ذلك في المقامات كلها لكان غير حسن.

ومثل هذه الأشياء من اللغز والأُحجية والأغاليط، والإتيان بالكلمة المعجمة وبعدها المهملة، وبالحرف المعجم وبعده المهمل، أو صدر بيت كذا وعجزه كذا .. كل ذلك لائق بالمقامات. أما في الترسل والخطب، فإنه يكره ويستثقل. لأن الترسل ليس المراد منه التفقه في الأدب وإنما هو إما لهناء أو عزاء أو شكر أو مدح أو وصف أو استعطاف أو عتب أو شوق أو غير ذلك. ومثل هذه الأشياء لا يليق بها التكلف.
على أنه وإن كان هذه الأنواع في المقامات، فينبغي أن يكون كاللمع اليسيرة، فإنها إذا كثرت سمجت. ألا ترى أن العماد الكاتب رحمه الله تعالى لما جعل كلامه مشحونا بالجناس لا تكاد كلمة تخلو من ذلك، ثقل على الأسماع والقلوب، ولم يكن له خفة كلام القاضي الفاضل على القلوب.
وقد يكون الشاعر مجيدا ، فيأتي بنوع من التكلف وليس عليه أثر الكلفة. كقول ابن حمديس:
مزرفن الصدغ يسطو لحظه عبثا ... بالخلق، جذلان أن أشك الهوى ضحكا
لا تعرضنّ لوردٍ فوق وجنته ... فإنما نصبته عينه شركا
فالأول يجمع حروف المعجم كلها على عدم تبين الكلفة عليه.
وكذلك قول القائل:
لبقٌ أقبل فيه هيفٌ ... كلّ ما أملك إن غنّى هبه
فإن كل كلمتين من هذا لا يتغير معناهما بالانعكاس إلا القافية فإنها في نفسها معلومة. وليس عليه أثر الكلفة.
ومثله أيضاً :
أرضٌ خضرا فيها ... أهيف ساكب كاس
وكذا قول القائل:
أرانا الإله ... هلالا أنارا
وكذلك قول القائل:
تقتل تأثم ... تجور تندم
إذا عكس وصحف كان:
مذيب روحي متى نلتقي
ومثله قول القائل:
رفّت شمائل قاتلي ... فلذاك روحي لا تقرّ
ردّ الحبيب جوابه ... فكأنّه في اللفظ درّ
أول كل بيت، عكس الكلمة الأخيرة منه. وليس عليه كلفة.
وأما ابن الأثير، فكأنه يظن أن الأدب عبارة عن الترسل فقط، ولم يعلم أنه جزء منه وإن كان جزءا كبيرا ، ونوعا جليلا .
وأقل هذه التكلفات استثقالا ما كان كله مهملا ، لا بل لا يعد في شيء من الاستثقال، بل هو خفيف عذب في السمع والقلب. كقول الحريري:
أعدد لحسّادك حدّ السّلاح ... وأورد الآمل ورد السّماح
القصيدة كلها في غاية الحسن.
وقد وجدت للقاضي الفاضل رحمه الله تعالى خطبة وضعها لدخول العام الجديد، وهي طويلة كلها عري عن الإعجام، وهي في غاية الحسن. ولولا خوف الإطالة لأثبتها.
وقد وجدت الوراق الحظيري قد تكلف أشياء من هذه الأنواع، من ذلك بيتان كل كلمة منهما مهموزة. وهما:
بأبي أغيدٌ أذاب فؤادي ... إذ تناءى وأظهر الإعراضا
رشأٌ يألف الجفاء فإن أق ... بل أبدى لآمليه انقباضا
وفي انقباض نظر؛ كاد قول أبي الطيب:
أُمّي أبا الفضل المبرّ أليّتي ... لأُيممنّ أجلّ بحرٍ جوهرا
يكون من هذا اللزوم، وفيه مع تكرار الهمز تكرار الشدات.
ومن ذلك قطعة إذا قرئت لا تتحرك فيها الشفتان. وهي:
ها أنذا عاري الجلد ... أسهرني الذي رقد
آهٍ لعينٍ نظرت ... إلى غزالٍ ذي غيد
أريتني يا ناظري ... صيد الغزال للأسد
إنّ الضّنى لهجره ... يا عاذلي هدّ الجسد
حشا حشاي إذ نأى ... نار الغضا حين شرد
يا غادرا غادرني ... على لظى نارٍ تقد
ألاّ اصطنعت ناحلا ... لا يشتكي إلى أحد
ومن ذلك قطعة، أنصافها الأول معجمة، والثواني مهملة. منها:
بي شغفٌ شبّ بين جنبي ... دواؤه الودّ والوصال
يبثّ بثّي خفيّ غيظٍ ... أحور موعوده محال
زين بشيئين غنج جفنٍ ... وملح دلٍّ له كمال
قال: وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم:
وفتىً من مازنٍ ... قد فاق أهل البصره
أمّه معرفةٌ ... وأبوه نكره
وهل يشك في حسن هذا المعنى ولطافته.

أقول: ما أولى هذين البيتين بالشك، وأحق ناظمهما بالصك، أي حسن فيهما وأي لطف، مع هذه الألفاظ المستثقلة في استعماله البصرة بتحريك الصاد، وما فيهما من الزحاف وإن كان جائزا . وهل فيهما غير ذكر المعرفة والنكرة ؟ وأي كبير أمر في ذلك !.
ولو شاء كتاب هذا العصر أن يستعملوا أبواب النحو وألقاب الإعراب من أول الفن إلى آخره في أي معنى أرادوا لفعلوه.
أما في النثر، فقد وجدت للقاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالى رقعة كتبها شفاعة على يد شخص إلى كبير. وهي: لا زال علم علمه مرفوعا أبدا ، وبناء مجده منصوبا بخفض العدى، ولا برحت حروف أقلامه لأفعال الشك جازمة، ووفود السعود عن أعدائه متعدية ولأوليائه لازمة.
وينهى أن فلانا حضر وذكر أن اسمه رخم في غير النداء، وجزم والجزم لا يدخل على الأسماء، واستثني من غير موجب بخفض وليس الخفض من أدوات الاستثناء، وادعى أن العامل الذي دخل عليه منعه من التصرف ولزمه لزوم البناء، ودخل معه في الشرط وأفرده بالجزاء، والمؤثر أيده الله نصب محله على المدح لا على الإغراء، ورفع اسمه المعرى من العوامل على الابتداء ففيه من التمييز والظرف ما يوجب له العطف، ومن العدل والمعرفة ما يمنعه من الصرف. لا زال باب مولانا للعائد والصلة، وحال مكانته شائعة غير منتقلة.
فانظر إلى صناعة هذا المنشئ في هذه الرسالة ما ألطف ما أتى بهذا المصطلح النحوي في معنى الشفاعة والدعاء والثناء على من شفع له من أول كلامه وإلى آخره.
وأما النظم، فإنه قد عبث الشعراء به كثيراً ، وهو مشهور. وما أحلى قول البهاء زهير:
لم يقض زيدكم من وصلكم وطره ... ولا قضى ليله في هجركم سحره
تركتم خبري في الهجر مبتدا ... وكلّ معرفةٍ لي في الهوى نكره
وما في البيتين اللذين أوردهما ابن الأثير، غير الكناية عن المذكور أنه ولد زنا لا يعرف أبوه. وما أحسن قول ابن عنين يهجو ابن سيده:
قل لابن سيدةٍ وإن أضحى له ... خولٌ تدلّ بكثرةٍ وخيول
ما أنت إلاّ كالعقاب فأمّها ... معلومةٌ ولها أبٌ مجهول

حول السرقات الشعرية
قال في النوع الثلاثين، في السرقات الشعرية بعدما أورد بيت ابن الخياط:
أغار إذا آنست في الحي أنّةً ... حذارا عليه أن تكون لحبّه
وبيت عمارة:
وهل درى البيت أنّي بعد فرقته ... ما سرت من حرمٍ إلاّ إلى حرم
إن هذين مسروقان من قول المتنبي:
لو قلت للدّنف المشوق فديته ... ممّا به لأغرته بفدائه
ومن قول أبي تمام يمدح بعض الخلفاء وقد حج:
يا من رأى حرما يسعى إلى حرم ... طوبى لمستلم يأتي وملتزم
وأخد في الشناع على أهل الشام ومصر، في كونهم خفي عليهم مثل هذا، وزاد في التعجب.
أقول: إن سبب خفاء السرقة في هذين البيتين وغيرهما، أن الأصل يكون ركيكا غير مستعمل ولا دائرٍ على الألسنة في المكاتبات والمحاورات والأمثال، فيأتي بعض الشعراء إلى ذلك المعنى الخامل، ويبرزه في صورة حسناء، ويسبكه في قالب أرشق وألطف من الأول، فيحلو ويعذب ويتداوله الناس، ويعود الأول نسيا منسيا كأن لم يكن. كما إذا بدا النجم ثم يبدو البدر من بعده، فلا يشتغل البصر بالنجم ويدع البدر.
وما أحسن قول أبي تمام:
أعندك الشمس تزهى في محاسنها ... وأنت منشغل الأحشاء بالقمر
ولا يلتفت في الثاني إلا إلى حسنه من غير بحث عن أصله، وهل هو مسروق أو مبتدع. على أن الأديب لو أنه ما عسى أن يكون من النقل والاطلاع، ليس في إمكانه استخراج كل معنى يمر به من غير روية ولا تتبع لذلك. خصوصا فيما عذب وساغ، وبرز في صورة غير صورته الأولى.
ولا شك أن قول ابن الخياط أعذب من قول المتنبي، ولهذا اشتهر. وكذا قول عمارة أحسن وأرق من قول أبي تمام، ولهذا ساغ واشتهر، واستعمل مثلا على تأخر زمانه، وتقدم زمان أبي تمام. خصوصا عجز بيت عمارة، فإنه ذاع وضاع، وملأ الأفواه والأسماع.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فما أحلى قول عبد الحكم بن الخطيب العراقي في رجل وجب عليه القتل، فرماه المستوفي للقصاص بسهم فأصاب كبده فقتله من وقته:

أخرجت من كبد القوس ابنها فغدت ... تئنّ، والأمّ قد تحنو على الولد
وما درت أنّه لما رميت به ... ما سار من كبدٍ إلاّ إلى كبد
وأما الغيرة، فمن أبلغ ما جاء في ذلك قول ابن قلاقس من أبيات:
وابلائي من مخدّرةٍ ... دونها سورٌ وجدران
وأُسودٌ خاف سطوتها ... كلّ ما حازته خفّان
ورقيبٌ لو يلاحظها ... لتثنّى وهو غيران
وقول علي بن عبد الله الجعفري:
ربّما سرّني صدودك عنّي ... في طلابيك وامتناعك منّي
حذرا أن أكون مفتاح غيري ... وإذا ما خلوت كنت التّمنّي
وبالغت حفصة المغربية في قولها:
أغار عليك من غيري ومنّي ... ومنك ومن مكانك والزّمان
ولو أنّي خبأتك في جفوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني
وأخذ جمال الدين ابن مطروح بعض هذا وقال:
فلو أمسى على تلفي مصرا ... لقلت: معذّبي باللّه زدني
ولا تسمح بوصلك لي فإني ... أغار عليك منك، فكيف منّي
ومنه قول سعد الدين محمد بن عربي:
يا من أغار عليه منّي في الهوى ... فأصدّ عنه وقلبي المشتاق
صن حسن وجهك عن لحاظي إنّ لي ... قلبا يرى ولناظري إطراق
وما أحسن قول شهاب الدين ابن الخيمي:
وعذولٍ رابني في نصحه ... كلّما زدت هوىً زاد لجاجا
ما عذولي قطّ إلا عاشقٌ ... ستر الغيرة بالعذل ودجى
وقد نظمت أنا في معنى قول ابن الخيمي:
تداهى عذولي في الغرام ولم تكن ... مقاصده تخفى على عاشقٍ مثلي
أحبّ حبيبي ثم غار فخاف أن ... أفاتحه فيه فسابق بالعذل
على أن المتنبي في الأصل، أخذ المعنى من العباس بن الأحنف حيث يقول:
لم ألق ذا شجنٍ يبوح بحبه ... إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذرا عليك وإنني بك واثقٌ ... أن لا ينال سواي منك نصيبا
ومن الغيرة قول أبي تمام الطائي:
أغار عليك من قبلي ... وإن أعطيتني أملي
وأشفق أن أرى خدي ... ك نصب مواقع القبل
ومن الغيرة قول القائل:
خلص الهوى لك واصطفتك محبّتي ... حتى أغار عليك من ملكيكا
وأراك تخطر في محاسنك التي ... هي محنتي فأغار منك عليكا
ولو استطعت جرحت لفظك غيرةً ... إنّي أراه مقبّلا شفتيكا
وما ألطف قول عبد المحسن الصّوري، فإنه عكس المقصد لمّا قال:
تعلّقته سكران من خمرة الصبا ... به غفلةٌ عن لوعتي ولهيبي
يشاركني في حبّه كلّ أغيدٍ ... يشاركني في مهجتي بنصيب
فلا تلزموني غيرةً ما ألفتها ... فإنّ حبيبي من أحب حبيبي

الاقتصاد في اللفظ
قال: قال بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطّيّبات الفاتك اللّهج
أخذه سلم الخاسر وكان تلميذه فقال:
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللّذة الجسور
فبين البيتين لفظتان في التأليف ..
أقول: ما أنصف سلم الخاسر، وما يقال في هذا: بينهما لفظتان في التأليف إذ اللفظة تصدق على الحرفين، مثل: من وعن وما ... وغير ذلك. بل على الحرف الواحد كباء الجر ولامه، والأحسن في هذا أن يقال: بينهما تسعة أحرف. فإن الأول أربعة وأربعون حرفا ، والثاني خمسة وثلاثون حرفا وكذا قول أبي العتاهية:
وإني لمعذورٌ على فرط حبّها ... لأنّ لها وجها يدلّ على عذري
أخذه أبو تمام فقال:
له وجهٌ إذا أبصر ... ته ناجاك عن عذري
الأول أربعة وأربعون حرفا ، والثاني ستة وعشرون حرفا ، فبينهما ثمانية عشر حرفا . وسلم الخاسر ممن له القدرة على الاختصار. ألا ترى قوله:
أقبلن في رأد الضّحى ... يسترن وجه الشّمس بالشّمس
وقول الآخر:
وإذا الغزالة في السّماء تعرّضت ... وبدا النّهار لوقته يترحّل
أبدت لعين الشّمس عينا مثلها ... تلقى السّماء بمثل ما تستقبل
وكذا قوله أيضاً :

سقتني بعينيها الهوى وسقيتها ... فدبّ دبيب الخمر في كلّ مفصل
وقول عبيد الله من شعراء الحماسة:
شققت القلب ثمّ ذررت فيه ... هواك فليم والتأم الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
قال: وعلى هذا ورد قول ابن الرومي:
كأني أستدني بك ابن حنيّةٍ ... إذا النّزع أدناه من الصّدر أبعدا
أخذه بعض شعراء الشام وهو ابن قسيم الحموي، فقال
فهو كالسّهم كلّما زدته من ... ك دنوّا بالنّزع زادك بعدا
أقول: وأخذه أيضاً الأرجاني فقال:
فلا تنكروا حقّ المشوق فإننا ... لنا وعليكم أنجم اللّيل تشهد
أرانا سهاما في الهوى ونراكم ... حنايا فما تدنون إلاّ لتبعدوا
وكرره فقال:
قد قوّس القدّ توديعا وقرّبني ... سهما فأبعدني من حيث أدناني
وكرره أيضاً فقال:
كالسّهم راميه يقرّبه ... ولأجل بعدٍ ذلك القرب
وقال:
ما ضمّني يوم الرّحيل هوىً ... بل كان يدنيني ليبعدني
وقال:
والإلف قد عانقني للنّوى ... فالتفّ خدّاي وخدّاه
كأنه رام إلى غايةٍ ... تناول السّهم بيمناه
حتى إذا أدناه من صدره ... أبعده ساعة أدناه
وأخذه كشاجم قبل الأرجاني فقال:
أرى وصالك لا يصفو لآمله ... والهجر يتبعه ركضا على الأثر
كالقوس أقرب سهميها إلى عطفت ... عليه، أبعدها من منزع الوتر
وكرر ابن الرومي هذا المعنى في موضع آخر فقال:
رأيتك بينا أنت جارٌ وصاحبٌ ... إذا بك قد ولّيتنا ثانيا عطفا
وإنّك إذ تحنو حنوّك معقبا ... بعادا لمن بادلته الودّ والعطفا
لكالقوس أحنى ما تكون إذا حنت ... على السّهم أدنى ما تكون له قذفا
وولد ابن باك من هذا معنى آخر فقال:
أصبحت في صولجانه كرةً ... يبعدها قربها من الضّارب
وما أحسن قول ابن المغلس ملغزا فيها:
أراد دنوّها حتّى إذا ما ... دنت منه بكدٍّ أيّ كد
قلاها ثمّ أتبعها بضربٍ ... وبدّل قربها منه ببعد

بين النثر والنظم
قال في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب: إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة، ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي. والكاتب لا يؤتى من ذلك، بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة. وهو مجيد في ذلك كله.
وهذا لا نزاع فيه، لأننا رأيناه وقلناه. وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها. فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا ، وهو شرح قصص وأحوال، يكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف شاه نامه وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أنه لغة العرب بالنسبة اليها كقطرة من بحر.
أقول: قد ختم ابن الأثير رحمه الله تعالى كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال معمر بن المثنى ولا سهل بن هارون، ولا ابن غرسية في رسالته مثل هذا. وقد وجد في أهل اللسان العربي من نظم الكثير أيضاً ، وإن عد هو الفردوسي، عددت له مثل ذلك جماعة، منهم من نظم تاريخ المسعودي نظما في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب كليلة ودمنة في عشرة آلاف بيت ونظمها أبان اللاحقي أيضاً . وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي ابن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي عرف بابن الدجاجية، نظم كتاب المهذب قصيدة علي روي الراء سماها البديعة في أحكام الشريعة انتهى. قلت: والمهذب في أربع مجلدات.

وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة عدتها ثمانية عشر ألف بيت. ولابن الهبارية كتاب الصادح والباغم في ألفي بيت، كل بيت منها قصرٌ مشيد، ونكته ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها لو ولا ليت.
وأما من نظم الألف وما دونه فكثير جدا لا يبلغهم الحصر، وأما الشاطبية وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، حتى قال القائل فيها:
جلا الرّعينيّ علينا ضحى ... عروسه البكر وياما جلا
لو رامها مبتكرٌ غيره ... قالت قوافيها له الكل: لا
وأما أراجيز النحو والعروض والفقه، كالذي نظم الوجيز ومنظومة الحنفية وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم، فكثير جدا ، إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.
وما سمعنا بمن اشتغل من العجم بالعربية إلا وفضل اللغة العربية، برهان هذه الدعوى أن أبا علي الفارسي، وبندار، وأبا حاتم والزمخشري وغيره هؤلاء، لما اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها، هاموا بها وكلفوا بمحاسنها، وأفنوا الليالي والأيام في تحصيلها، وأنفقوا مدة العمر في تأليفها وتدوينها وتتبع محاسنها وقواعد أقيستها وغرائب فنونها، ومن المستحيل أن يكون هؤلاء القوم اجتهدوا هذا الاجتهاد في العربية وأفنوا مدة العمر وهي ما لا يخلف في شيء هو دون غيره. والأولى بهم وبكل عاقل الاشتغال بالأحسن والأفصح والأبلغ والأحكم، ولو علم هؤلاء القوم أن اللغة الأعجمية لها أفعل التفضيل، ما عرجوا على العربية إلا ريثما عرفوها، ثم عاجوا إلى لغتهم.
ومن الكلم النوابغ للزمخشري: فرقك بين الرطب والعجم، فرق بين العرب والعجم.
ومنها: العرب نبعٌ صلب المعاجم، والغرب مثلٌ للأعاجم.
فانظر إلى الزمخشري كيف جعل العرب رطبا والعجم عجما . والعجم بتحريك الجيم هو النوى. وكيف جعل العرب مثل شجر النبع، وهو صلب تتخذ منه القسي، وجعل العجم مثل شجر الغرب، وهو خوار.
قال المتنبي:
فلا تنلك الليالي إنّ أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
فإن قلت: ما كان علماء العربية من العجم عالمين باللغة العجمية كما ينبغي، قلت: أليس أنهم كانوا يعرفون العجمية، ثم أنهم تمهروا في العربية وبالغوا في إتقانها. ومن وصل في لغة من اللغات إلى ما وصل إليه أبو علي والزمخشري وغيرهما من معرفة الاشتقاق الأكبر والأصغر والأبنية والتصريف، في الاسم والفعل الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل والمفعول وصارت له تلك الملكة، كان عنده من الأهلية أن ينظر في كل لغة عرف لسانها، وأن يستخرج قواعدها ويتبع أصولها، فيقع على غرائب حكمها ومحاسن قواعدها، لاشتباك العلوم بعضها ببعض، واجتماع شملها في الغاية التي أوجبت وضعها. ولا يضع اللغة إلا حكيم.
ألا ترى أن بعض النحاة رتب اللغة التركية على القواعد النحوية، وميز الاسم من الفعل، والماضي من المضارع من الأمر، وضمير المتكلم من المخاطب من الغائب، والجمع من الإفراد، وعلامة الجمع، والمضاف من المضاف إليه إلى غير ذلك، وهذا أمر غير خاف.
وأما قوله: إن كتاب شاهنامة ستون ألف بيت، كلها في غاية الحسن من الفصاحة والبلاغة، وما فيها ما يعاب، فإن هذه الدعوى لا تسمع مجردةً عن البرهان الذي يؤيدها.
ومن يأتي بستين ألف كلمة، أو بستة آلاف كلمة تكون في غاية الفصاحة في الألفاظ، والبلاغة في المعنى حتى إنها لا تعاب بوجه ؟! هذا ليس في قوى البشر في لغة من اللغات.
سلمنا أن ذلك ما يعاب في تلك اللغة، فمن أين لك أن جيد شعر العجم في طبقة جودة شعر العرب. كما تقول: القمر أشد نورا من النجوم، والشمس أشد نورا من النجوم، فالشمس والقمر اشتركا في الفضيلة على النجوم، ولكنهما في نفسيهما لا يستويان مثلا .
وكلٌّ له فضله والحجو ... ل يوم التفاضل دون الغرر

فهل جيد العجم مثل جيد العرب. كوصف امرئ القيس في الخيل، والنابغة في الاعتذار، وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر ؟ أو كجيد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نواس وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم وإلى هذا العصر، وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لججهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب. هل يستويان مثلا في الجودة من حيث هي:
ألم تر أنّ السيف ينقص قيمةً ... إذا قلت إنّ السيف أمضى من العصا
وإنما قلّ الجيّد في الشعر، لأن البلغاء وعلماء الأدب انتقوا الجيد العالي الذي يكون نهاية في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجا ومثالا يحذى، على ما قرروه بقوة فكرهم وصحة انتقادهم. فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا. ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة، الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية. وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر.
ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية والاستخدام والجناس، على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع وتشعب أقسامه. إلى غير ذلك من أنواع البديع وهو ما يقارب المائة نوع. هيهات ما بينهما صيغة أفعل.
وذكر الحصري في زهر الآداب أن أعرابيا قال لشاعر من أهل الفرس: الشعر للعرب، وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمه رجل منا. انتهى.
وقد أنصف ابن خلف في قوله: وللعرب بيت وديوان، وللعجم قصر وإيوان وأما دعواه أن الشاعر لا يحسن في الأكثر، فالعذر في ذلك ظاهر. لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية. وهما: الوزن، ولزوم الروي الواحد. والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مخلىً ونفسه، إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر، وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين. ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجعه، وعدد مخصوص من كلمات السجع، لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب، لأن الشعر يروجه الوزن، ولا كذلك النثر. فحينئذ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.
وكيف ولم يزل للشعر ماءٌ ... يرفّ عليه ريحان القلوب
وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على المثل السائر وقد سامحته في كثير سقطه فيه ظاهر.
على أنني لا أنكر ما له فيه من الإحسان، والنكت التي هي لعين هذا الفن إنسان فإنه لم يأل جهدا في التوقيف الذي وقفه، ولم يقصر في التثقيف الذي ثقفه.
وقد نبه على محزات هذا الفن، وأشار إلى اقتناص ما شرد منه وما عن. وإذا اتفق للكاتب أو الشاعر مراجعة المثل السائر والفلك الدائر وهذه الأوراق، فلا مرية في أن ذلك يفيده فوائد جمة، ويتنبه لموارد الخطأ فيجتنبها، ويتيقظ لمواقع الحسن فينتجعها.
وقد أهديتها لك وهي عندي ... على الأيام من أزكى الهدايا
ولله الحمد أولا وآخرا ، والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين والسلام.

أقسام الكتاب
1 2