كتاب : مباهج الفكر و مناهج العبر
المؤلف : الوطواط

بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
الحمد لله الذي أرسل جود جوده على الأنام فهمي وخلق الإنسان وكلفه ليكون بكمالات نفسه الناطقة قيماً، وابدع إذ أطلع في سماء ذاته من شرائف صفاته انجما، وغاير بين حركات الحيوانات فمكبوب، ومنساب، وسابح وطائر بالجناح سما، ومنح كلاً منها الهاما يقرطس غرض المرام سهمه متى رمى، وأقامه فيها مقام العقل الغريزي الذي نبل به قدر المرء ونمى، والصلاة على سيدنا محمد أشرف خلق ولج القول سمعه، وشق له اللسان فما وعلى آله وصحبه ما أضاف الخالق في تركيب البدن إلى اللحم دماً.
وبعد: فهذا الفن الثالث من الفنون التي دعت النفس إلى جمعها أحاديث أمانيها ولجأت إلى الانقياد بوضعها من وساوس أغراض تعانيها قصرته على ذكر الحيوان بجملة أنواعه وما اشتمل عليه كل ذي روح من أخلاقه وطباعه ولم التفت إلى ما تحدث عن استعمال شيء منها من النفع والضر، ولا إلى ما ذكرته الأطباء من تشريح أعضاء الصور وذلك موضوع لهم في كتب مروية عدت باختلاف الأسماء والنعوت معنونة فمتى أرادت الافهام إستفصاحاً عن أسراره واستصباحاً من أشعة أنواره فسبيلها إلى تعرف مقصودها منه، مقسوم إلى تسعة أبواب جعلتها معربة عنه: الباب الأول: " في ذكر خصائص نوع الإنسان " الباب الثاني: " في ذكر طبائع ذي الناب والظفر " الباب الثالث: " في ذكر طبائع الحيوان المتوحش " الباب الرابع: " في ذكر طبائع الحيوان الأهلي " الباب الخامس: " في ذكر طبائع الحشرات والهوام " الباب السادس: " في ذكر طبائع سباع الطير " الباب السابع: " في ذكر بغاث خشاش الطير " الباب الثامن: " في ذكر طبائع الطير الليلي والهمج " الباب التاسع: " في ذكر طبائع البحر والمشترك " وهنا أنا ابتدي قاصداً إن شاء الله تعالى سواء السبيل مستعيناً بالله تعالى، فهو حسبي ونعم الوكيل.
مما يكون فاتحة الكتاب.
الباب الأول
وهو القول في بيان شرف الإنسان على سائر المخلوقات
قال الله تعالى: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً(. فعلم بهذه الآية أن الإنسان صفوة العالم وخلاصته وسلالته، وخاصته، ونخبته، وثمرته، وزبدته فمن أدوات التكريم فيه قول الله تعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه( ومن خلقت من أجله، وسببه جميع المخلوقات علويها وسفليها، خليق بأن يرفل في ثياب الفخر على من تعداه، وتمتد إلى اقتطاف زهرات النجوم يداه ومنها أنه واسطة بين شريف وهو الملائكة، ووضيع وهو الحيوان ولأجل ذلك، جمع فيه قوى العاملين، وأهل لسكنى الدارين، فهو كالحيوان في الشهوة والغذاء، وكالملائكة في العلم، والعقل، والعبادات، ووجه الحكمة فيه أنه تعالى لما رشحه لعبادته وخلافته في عمارة أرضه وهيأة مع ذلك لمجاورته في جنته ودار كرامته، جمع فيه القوتين، فإنه لو كان كالبهيمة معرى عن العقل لما صلح لخلافة الله تعالى، وعبادته، ومجاورته في جنته كما لم تصلح البهائم، ولو خلق كالملائكة معرى عن الحاجة البدنية لم يصلح لعمارة أرضه كما لم تصلح الملائكة لذلك.
ومنها أنه خصه برتبة النبوة، واقتضت الحكمة الإلهية أن تكون شجرة النبوة صنفاً مفرداً ونوعاً واقعاً بين الإنسان والملك، ومشاركاً لكل واحد منهما على وجه فإنه كالملائكة في الاطلاع على ملكوت السماوات والأرض، وكالبشر في أحوال المطعم والمشرب ومثله واقعاً بين نوعين، مثل المرجان مكونه شبيهاً للنبات والمعدن فإنه بما فيه من الحجرية يشبه المعدن، وبما فيه من النمو وتشذب الأغصان يشبه النبات ومنها أنه إذا طهر من نجاسته النفسية، وقاذوراته البدنية جعل في جوار الله تعالى يكون حينئذ أفضل من الملائكة لقوله تعالى )والملائكة يدخلون عليهم من كل باب( وفي الحديث )الملائكة خدم أهل الجنة(.
القول في مبدأ خلق الإنسان
قال أصحاب النظر في أسباب حدوث الموجودات: إن الحكمة اقتضت إن تكون المخلوقات أربعة أقسام: قسم له عقل ولا شهوة له.
قسم له شهوة ولا عقل له.
وقسم له عقل وشهوة.
وقسم لا عقل ولا شهوة.

فسبق إيجاد ما له عقل، وليس له شهوة، وهو الملائكة، وما له شهوة ولا عقل له، وهو كل الحيوان خلا الإنسان، وما ليس له شهوة ولا عقل وهو الجماد وبقي من الأقسام الأربعة قسم، وهو الذي له عقل وشهوة فأوجدت القدرة التامة والمشيئة الكاملة، نوع الإنسان وتممت به الأقسام التي كانت في ضمان الإمكان، فإن رجحت شهوته على عقله التحق بالبهائم، وإن رجح عقله على شهوته التحق بالملائكة وقال آخر: جزوى الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس هوى، والإنسان بجمع الكل ابتلاء، فإن غلب الروح على النفس والهوى فضلته البهائم.
وذهب بعض الإخباريين في سبب إيجاد الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام إن الله تعالى خلق السماوات وعمرها بالملائكة، وخلق الأرض وعمرها بالجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فبعث الله تعالى لمحاربتهم جنداً من السماء فاجتاحوهم قتلاً وأسراً إلا القليل ممن سكن الجزائر، وأعماق البحر فكان فيمن أسر )عزازيل(، وهو إبليس فلما خلت بقاع الأرض من الجن ولم يبق فيها إلا الدواب، شاء الله تعالى أن يخلق من بعدهم فيها من يعبده ويوحده وذلك لا يتأتى إلا ممن له وعقل فبعث الله تعالى إلى الأرض ملكاً يقال له جبريل عليه السلام ليأخذ من ترابها ما يخلق منه خلقاً يعمرها به فناشدته الله تعالى في ذلك خوفاً أن يخلق منها ما يعصيه، فتركها، وصعد، فانزل الله تعالى ملكاً يقال له عزرائيل، فسألته في ذلك فقال: لا أعصي أمر ربي فأخذ من سهلها وحزنها وطيبها، وخبيثها، وأحمرها، وأسودها، ثم صعد به فخلق الله من ذلك بشرا عجن طينته بيده، وخمرها أربعين سنة، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وسماه آدم لأجل أنه خلق من أديم الأرض أي من وجهها، وكان خلقه لمضي أحد عشر ساعة من يوم الجمعة وأهبط إلى الأرض عند انقضاء اليوم فكان لبثه في الجنة إلى حين خروجه منها ساعة واحدة من أيام الآخرة، مقدارها ثلاث وثمانون سنة وثلاثة أشهر من سني الدنيا، ويقول الناس في خرافاتهم: إن آدم - عليه السلام - لما هبط إلى الأرض اجتمعت الطير والهوام، والوحوش، والحشرات، وانطلقت إلى الضب وكان قاضيها حينئذ، فذكرت له حال الإنسان ووصفته بصفته فقال: أراكم تصفون خلقاً ينزل الطير من السماء، ويخرج الحوت من الماء، فمن كان ذا جناح فليطر، ومن كان ذا مخلب فليحتفز، وتزعم اليهود في التوراة: إن الله تعالى فرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، وقال هذا يوم راحة ودعة، تعالى الله أن يمسه فيما خلق لغوب ونصب، وهل ذلك إلا حالة من جبل جسمه من لحم وعصب، ولم يكفهم كفرهم حتى وصفوا هيئة الاستراحة بصفة هي عين التجسيم وركبوا في حكايتها الخطر العظيم، والهول الجسيم.

فصل
وخلق الإنسان على أربعة أضرب
إنسان من غير أب ولا أم، وإنسان من أب لا غير، وإنسان من أم لا غير، وإنسان من أب وأم.
الضرب الأول:

إنسان من غير أب ولا أم وهو آدم - عليه السلام - خلقه من تراب، وركب فيه روحا مؤيدا بالعقل ليقارن في العبادة من جعلت السماء مركزاً له وهم الملائكة، ونفسا متسلطة بالشهوة ليقارن في التناسل من جعلت الأرض مركزا له وهم الحيوانات، ومبدأ خلقه أن الله تعالى لما أراد إبرازه من العدم إلى الوجود، وامتحان إبليس له بالسجود قلبه في سنة أطوار، طور التراب وهو قوله تعالى: )ومن آياته أن خلقكم من تراب إذا أنتم بشر تنتشرون( وطور الحمأ وذلك قوله تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون(، وهذا الكلام يقتضي التقديم والتأخير، لأن الطين لا يكون صلصالا إلا بعد أن يكون حمأ، يقتضي ذلك، قال الزمخشري معناه )من صلصال كائن من حمأ( فيكون صفة لصلصال، وطور الطين اللازب وذلك قوله تعالى: )فاستفتهم أهم أشد خلقا من خلقنا، إنا خلقناهم من طين لازب(، وطور الصلصال وذلك قوله تعالى: )خلق الإنسان من صلصال كالفخار(، ولما كان في هذا الطور كان إبليس إذا مر به، وقف ليتأمله، وفي رواية يركذه برجله، ويقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ويقال كان يدخل من فيه، ويخرج من دبره لأنه كان أجوف، وطور التسوية وهو جعل الخزفة التي هي الصلصال عظما ولحما ودما، وإنما كانت الأطوار على هذا الترتيب لأن التراب الذي هو المبدأ الأول كان متفرق الأجزاء فجبل بالماء حتى اجتمعت أجزاؤه، فصار حمأ مسنونا أي طينا مائعا متغير الرائحة إذ من عادة الماء إذا خالطه شيء غير لونه وطعمه وريحه لا سيما إذا كان ما خالطه ترابا، ثم ترك الحمأ برهة حتى نقصت رطوبته، واشتد فصار طينا وهو المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة، واللازب الذي يلصق بما لامسه، وهو اللازم أيضا، وفي هذا الطور كان تخطيط الصورة وتشكيلها، وتقدير أعضائها، وتفصيلها، ثم ترك الطين حينا صار صلصالا كالفخار، وهو الطين الذي أصبح خزفا وترك حتى جف وسمعت له صلصلة، أي صوت كما يسمع للفخار إذا طبخ بالنار، ثم كانت التسوية وهي إحالة هذه الخزفة إلى جسم حيواني يصلح مسكنا للروح الروحاني وكل طور من هذه الأطوار على ما حكاه ابن منده، أربعون سنة فيكون مجموع كونه حمأ مسنونا إلى أن صار طينا لازبا، إلى أن صار صلصالا كالفخار ثم إلى سوي مائة وعشرون سنة من سني الدنيا، ثم نفخ فيه الروح فصار حيا ناطقا وقال علي عليه السلام، مشيرا إلى ما أودع جسد آدم عليه السلام من أسرار التخليق: جمع سبحانه من حزن الأرض، وسهلها وعذبها، وسبخها تربة شنها بالماء حتى اختلطت، ولاطها بالبلة حتى لزبت فجبل منها صورة ذات احناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمعها حتى استمسكت، وأجلدها حتى صلصلت لوقت معدود وأجل محدود ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يتخيلها وفكر يتصرف فيها، وجوارح يختدمها وأدوات تقلبها، فيعرف بها الأذواق والمشام والألوان، والأنواع والأجناس، وبهذا الاعتبار تكون تمام الحكمة الآلهية في تخليق الإنسان أظهر مما في سائر المخلوقات، لأنه خلقه من ضدين متباينين، وجوهرين متغايرين، وذلك أن الروح علوي، والبدن سفلي والعلوي والسفلي ضدان، والروح نوراني، والجسد ظلماني والنور والظلمة ضدان " والروح لطيف والبدن كثيف واللطافة والكثافة ضدان " والروح سماوي والبدن أرضي، والسماوي والأرضي ضدان، ويستظرف قول أبي إسحاق الصابي في معنى هذا:
جملة الإنسان جيفة ... وهيولاه سخيفة
فبماذا ليت شعري ... قبل النفس الشريفة
إنما ذلك فيه ... حكمة الله اللطيفة
وقال آخر:
من أين للطين القيام بنفسه ... أو أين للفخار أن يتكلما
لو لم يكن روح الحياة تمده ... ما كان من أسمائه يتعلما
وقال آخر:
لم يكن الون غير نكر ... سلافة الكرم عرفته
فآدم أصله تراب ... ونفخة الروح شرفته
الضرب الثاني

إنسان خلق من أب لا غير وهي حواء عليها السلام، ويذكر الاخباريون في مبدأ خلقها أن آدم عليه السلام نام في الجنة، ثم استيقظ فرأى حواء إلى جانبه فقال: يا رب ما هذه؟ قال: زوجك تسكن إليها خلقتها من ضلعك القصراء التي في جانبك الأيسر، ولهذا يوجد عدد أضلاع الجانب الأيمن في الرجل اثنا عشر وعدد أضلاع الجانب الأيسر أحد عشر، وقد خرج البخاري في صحيحه مصداق ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضل وإن أعلى الضلع أعوج وإنك إن قومته كسرته، وإن تركته استمتع به على عوج فيه(.
الضرب الثالث: إنسان من أم لا غير وهو عيسى عليه السلام قال الله تعالى )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب(. ذهب بعض المفسرين للكتاب العزيز أن الله تعالى لما خلق آدم، بقي من التراب الذي خلقه منه جزء، وقال آخرون لما تم خلقه عطس فسقط من أنفه تراب فلما أراد خلق عيسى عليه السلام بعث جبريل إلى مريم عليها السلام فنفخ ذلك التراب في فرجها، وهو جيب درعها أو ذيلها، فحملت بعيسى من ساعتها، وجاءها المخاض إلى جذع النخلة فوضعته عندها، وهذه السرعة في الحمل والوضع نتيجة قوله تعالى: )كن فيكون(، والمستقبل في موضع الحال، وقيل في مدة الحمل ثمانية أشهر ولا يمكن هذا الحمل لغيره لأنه لا يعيش ولد لثمانية، وقيل سبعة أشهر، وقيل ستة أشهر، وقيل ثلاث ساعات حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، وقال ابن عباس كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته نبذته، وقيل حملته وهي بنت ثلاث عشر سنة وقيل عشر سنين ويؤيد القول الأول قوله تعالى: )إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه(، والكلمة كن، وبهذه الكلمة صار التراب المتفرق الأجزاء جسدا ملتئما ذا عظم ولحم وعصب وعروق ودم، قابلا لنفخ الروح فيه، ومعنى وروح منه أي: من عنده.
الضرب الرابع:

إنسان من أب وأم، هو الذي خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، يعني من صلب، وترائب الأم، ودافق بمعنى مدفوق، وقال الله تعالى: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى( يعني آدم وحواء ولهذا قال أرباب العقول الصافية والأذهان الوافية: إن آثار التركيب في البشر أكثر مما هي في الملائكة لأنهم خلقوا من شيء واحد وهو النور والبشر خلقوا من جوهرين الروم والبدن، وظهروا من اثنين الأب والأم وركبوا من شيئين المني والدم، وغذوا بغذائين الطعام والشراب فهم أكمل وأتم وهذا الضرب تم بعد أن تم عليه ستة أطوار أيضا، وهي النطفة ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم كسوة العظام لحما، ثم الإنشاء، وهو نفخ الروح فيه قال الله تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضعة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر( أي: حيا ناطقا، أما قوله )من سلالة من طين( فذهب بعض المفسرين للكتاب العزيز إلى أن هذا القول إشارة إلى آدم عليه السلام، ثم ذكر نسله ونبه على أنهم مخلوقون من نطفة وذهب بعض الحذاق: منهم إلى مراده بالطين الأغذية التي استحالت دما بعد أكلها لأن منبتها فيها ثم استحال الدم منبتا لحركة الوقاع والجماع وبهذا يكون مبدأ الإنسان من النطفة، ويكون في مقابلة التراب لكونها مواتا وهي إذا وقعت في الرحم امتزجت بمني المرأة فصار شيئا واحدا، ثم يكون بعد أيام قلائل بطبخ الرحم له علقة وهي دم قدمه جفاف ما، وهو في مقابلة الحمأ المسنون فما فيه من الاختلاط والامتزاج ولا تزال حرارة تدأب في التخفيف حتى تصير العلقة مضغة بعد برهة، وهي في مقابلة الطين اللازب الذي يمكن معه قبول الصورة ثم يكون عظاما بعد حين وهي مقابلة الطين الصلصال، لاستحكام الجفاف، واليبس عليها بحيث أنها إذا قرعت صلت، فإذا صارت عظاما كسيت لحما فاشتد به البدن واعتدل واشتد ما بين العظام من الخلل، وهذه في مقابلة، فإذا سويته، وقوله ثن أنشأناه خلقا آخر، في مقابلة ونفخت فيه من روحي، ومقدار كل طور على ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعون يوما إلا أنه لم يذكر غير ثلاثة أطوار وهي النطفة ثم العلقة ثم المضغة، فذلك مائة وعشرون يوما فإنه قال عليه السلام: )إن أحدكم يجمع مثل ذلك ثم يرسل الله عز وجل إليه الملك فينفخ الروح، ويؤمر بأربع كلمات، رزقه، وأجله وعمله، وسعيد أم شقي، وفي رواية أن الملك يقول: يا رب ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ فيقول الله عز وجل ويكتب الملك( ولهذا السر جعل الشارع عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا لإستبراء الرحم فيها.

القول في الشيء الموكل بتدبير الإنسان
قالوا: )الإنسان أشياء كثيرة، فلكثرة ما هو به كثير يعجز عن إدراك ما هو به واحد(، ويكفي أن نعلم أن النفس قوة إلهية واسطة بين الطبيعة المصرفة للاسطقسات والعناصر المتهيئة بين العقل المنير لها، الطالع عليها، السائر فيها، المحيط بها، فكما أن الإنسان ذو طبيعة لآثارها البادية في بدنه، فكذلك هو ذو نفس لآثارها الظاهرة في آرائه وأبحاثه ومطالبه ومآربه، وشكه وكذلك هو ذو عقل لتميزه وتصفحه واختياره وفحصه، واستظهاره، ويقينه وشكه وظنه وفهمه ورويته وبديهيته، فإن قيل: كفت الطبيعة، قلنا: قد كفت في مواضعها التي لها الولاية فيها من النفس كما كفت النفس في الأشياء التي لها عليها الولاية من قبل العقل في الأمور التي له الولاية عليها من قبل الإله وإن كان مجموع هذا كله راجعا إلى الإله فإنه في التفصيل محفوظ الحدود على أربابها وهو كالملك الذي في بلاده وجماعة يصدرون عن رأيه وينتهون إلى أمره ويتوخون في كل ما يعقدونه ويملونه ويبرمونه وينقضونه، ما يرجع إلى وفاته ومراده وكل ذلك منه وله وبه.
وقالوا الحيوان ينقسم بالقسمة الأولى إلى ثلاثة أقسام
أحدهما: حي مالك: وهو الذي تدبره نفسه الناطقة، وتدبره الطبيعة بالقوى الطبيعية وهذا هو الإنسان.
والثاني: حي مملوك: وهو الذي تدبره الطبيعة بقواها، ويدبره العقل من خارج، أعني من قبل الإنسان، ولهذا لا يوجد هذا النوع إلا حيث يوجد الإنسان كما يكون الزرع حيث يكون الزارع، وهكذا كالخيل والبغال والحمير والبقر وما أشبه ذلك.

والثالث: هي لا مالك ولا مملوك: وهذا النوع تدبره الطبيعة وهو مثل الكلأ، وهو سائر السباع والأنعام والسمك والطباشير والحشرات فتبين لنا من هذه القسمة أن الإنسان أكمل الحيوان لاشتراك النفس الناطقة التي هي العقل والطبيعة في تدبيره فأما الطبيعة فإنها قوة الباري تعالى وجل مدبرة لبدن الحي، وإنما قيل لها طبيعة لأنها تلزم شيئا واحدا، ولا تقوى على الشيء وضده، كما في الآلات الصناعية لأن المناشير لا تفعل فعل الفأس والفأس لا يفعل فعل القدوم، وقال بعضهم: هي قوة نفسية، ثم قال فإن قلت عقلية أو إلهية لم يبعده وهي التي تسري في أثناء هذا العالم محركة ومسكنة ومحددة، ومبلية، ومنشئة، وهي بالمواد أعلق، والمواد لها أعشق، وقال آخرون: الإنسان هو كالشيء المتقوم بتدبير الطبيعة للمادة المخصوصة بالصور البشرية، المؤيدة بنور العقل من قبل الإله، وهذا وصف يأتي على الشائع عن الأولين في حد الإنسان، إنه حي ناطق ميت أي حي من قبل الحس والحركة، ناطق من قبل الفكر والتمييز ميت من قبل السيلان والاستحالة، فمن حيث ما هو حي مشارك للحيوان، ومن حيث ما هو مشارك لما يتبدل ويتحلل، ومن حيث ما هو ناطق هو إنسان حصيف، ومن حيث ما يبلغ مشابهة الملائكة بقوة الاختيار البشري، والنور الإلهي هو ملك.

وأما النفس: فقد اختلف في ماهيتها فقال قوم هي امتزاج الأركان وقال أفلاطون: جوهر بسيط عقلي يتحرك من ذاته بعدد مؤلف، وقال فيثاغورس جوهر نوري ولا خلاف عندهم أن الباري عز وجل جعلها كمالا أولا لجسم طبيعي آلي، وذهب أرسطو إلى أنها ليست متصلة بالبدن اتصال انطباع فيه ولا حلول وإنما اتصلت إلى تدبير وتصرف، وإنها حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده، وذكر على ذلك دلالة استطلناها فتركناها، واستدلوا على وجودها بالتصورات العلمية، والاختبارات الإرادية، وقالوا: لا نشك في أن الحيوان يتحرك إلى جبهات مختلفة حركة إرادية، إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية لتحرك إلى جهة واحدة لا تختلف البتة، فلما تحرك إلى جهات مختلفة علم أن حركته اختيارية والإنسان مع أنه مختار في حركاته كسائر الحيوان إلا أنه تحرك بمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال، وهو معرفة عاقبة كل حال، والحيوان وليست حركاته بطبعه على هذا المنهج فيجب أن يميز الإنسان بنفس خاص كما يتميز سائر الحيوان عن سائر الموجودات واستدلوا على أنها جوهر فقالوا: من شرط الجوهر أن يكون قابلا للأضداد من غير تغير وقد رأينا النفس قابلة للشيء وضده، مثل العدل والجور، والذكاء والبلادة والعلم والجهل، والبر والفجور، والشجاعة والجبن، إلى غير ذلك من الأضداد التي لا يحصرها التعداد، واستدلوا أيضا فقالوا يمتنع أن يكون المدبر لهذا الجسم جسما لأن الجسم لا يقبل صورة أخرى من جنس صورته الأولى إلا من بعد مفارقة الصورة الأولى البتة، مثاله أن الجسم إذا قبل صورة وشكلا كالتثليث وليس يقبل شكلا آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول، وكذا إذا قبل نقشا ومثالا، ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز، وهذه الخاصية ضد خاصية الجسم، ولهذا يزداد الإنسان بصيرة كلما نظر وبحث وارتأى وكشف، )ويمتنع أن يكون المدبر أيضا للبدن عرضا لأن العرض لا يتفق زمانين لقبوله التغير والاستحالة، ولأنه لا يوجد إلا في غيره فهو محمول لا حامل، ويمتنع أن يكون هيولى، فإنها لو كانت، لكانت قابلة للمقدار والعظم، واستدلوا أيضاً على أنها جوهرة بكونها لا يدخل عليها ضد ولا يصل إلى شيء منها بلى، والإنسان إنما يبلى ويفسد ويموت، ويفقد لأنه يفارق النفس، والنفس تفارق ماذا حتى يكون في حكم البدن وشكله، ولو كانت كذلك لكانت تموت وتنفى، فأما الإنسان بها حي وجب أن لا يكون حكمها حكم البدن، ولا يخص على من كان عريا عن الهوى عاشقا للحق، فالفرق بين النفس المحركة للبدن، وبين البدن المتحرك بالنفس فإن البدن معجون من الطين، والنفس تدبره بالقوة الإلهية، ولهذا احتاج إلى الأجناس والمواد والاقتباس والالتماس حتى تكون هذه الحياة الحسية تالفة إلى آخرها من ناحية الجسر، ويكون مبدأ الحياة النفسية موصولا بالأبد بعد الأبد ولو لم تكن النفس لا تموت ولا تفسد بفساد البدن عند المفارقة لما قال الله تعالى مخاطبا لها مفارقتها للبدن )يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية( ولما قال في حق الشهداء )ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين( ولما قال في حق آل فرعون )النار يعرضون عليها غدوا وعشيا(، وهذا منبه على أن النفس بعد مفارقتها للبدن تنتقل أما إلى خير وأما إلى شر، ولهذا قال عليه السلام: )القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار(.
وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري بقوله:
خلق الناس للبقاء فظلت ... أمة يحسبونها للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما ... ل إلى دار شقوة أو رشاد

وكل ما ذكرته القدماء في النفس ذكرته العلماء في الروح وألجأهم الحال في ذلك إلى أن قالوا: هما اسمان موضوعان على مسمى واحد، هو: مدبر بدن الإنسان، وذلك بالاستقراء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب قوم: إلى انهما متغايران، وقالوا الإنسان ذو روح ونفس، فالروح جسم لطيف تنبت في البدن به يحس ويتحرك، ويلتذ، ويألم، ويضعف، ويقوى، ويصلح، ويفسد، والنفس جوهر بسيط عالي الرتبة بعيد عن الفساد منزه عن الاستحالة، فالإنسان بالنفس ما هو إنسان لا بالروح، وإنما هو بالروح حي فقط، ولو كان إنسانا بالروح لم يكن بينه وبين الحمار فرق فإن له روحا وليس له نفس، وقالوا: الروح تغني عن النفس في جنس الحيوان الذي لم يكمل فيكون إنسانا، ولا تغني النفس عن الروح في الإنسان، فإن الروح كالآلة للنفس تدبرها بواسطة، وليس ذلك لعجز النفس، ولكن لعجز ما ينفذ فيه التدبير، وقال ابن عباس في ابن آدم وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هو الذي به النفس، والتحرك، فإذا نام العبد قبض نفسه ولم تقبض روحه، وإذا مات قبض نفسه وروحه.
وقالوا: للنفس ثلاث قوى: قوة نباتية، ويشترك فيها النبات والحيوان، وقوة حيوانية ويشترك فيها الحيوان والإنسان، وقوة إنسانية وهي خاصة بالإنسان، وبعضهم يسمي هذه القوى، ويقول: النفس كجنس انقسم إلى ثلاثة أنواع، أو كعين تفجرت منها ثلاثة ينابيع، أو كشجرة تفرعت منها ثلاثة أغصان أو كرجل يعمل ثلاث صنائع، فالنفس النباتية محلها الكبد، ومنه مبدأ النشوء والنمو، ولهذا جعلت فيه عروق دقاق غير ضوارب ينفذ فيها الغذاء إلى الأطراف، وقوى النفس الحيوانية، محلها القلب، ومنه مبدأ الحرارة الغريزية، ولهذا فتحت منه عروق ضوارب إلى الدماغ ليصعد إليه من حرارته ما يعدل ما فيه من برودة، ويترك فيه من أثاره ما يدبر به الحركة والحس وقوى النفس الإنسانية محلها تصريفا وتدبيرا الدماغ، ومنه يبدأ الفكر والتعبير عن الفكر ولهذا فتحت له أبواب الحواس مما يلي هذا العالم، وأبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم، فالحواس خمس وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، والمشاعر خمس، وهي: الحس المشترك وهي قوة مرتبة في مقدمة الدماغ من شأنها قبول ما حصل في الحواس من المحسوسات.
والخيال: وهو قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ من شأنها حفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس، وتبقى فيها بعد غيبة المحسوسات فهي خزانته.
والفكر: وهو قوة مرتبه في التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها أن تركب الصور والمعاني بعضها من بعض بحسب الاختيار.
والوهم: وهي قوة مرتبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها أن تحكم في الصور المحسوسة بمعان غير محسوسة، كإدراك الشاة معنى في الذئب فتنفر منه ومعنى في النوع فتنفر إليه.
والحفظ: وهو قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ من شأنها حفظ المعاني المدركة بالوهم، واسترجاعها عند النسيان، ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك، إلا أن تلك في الصور، وهذه في المعاني.

وأما العقل: فقال: العقل أشرف من النفس لأنه يستخلفها ولهذا إشراقه ألطف، ومنافعه في إشراقه أشرق، وحدده: بأنه قوة إلهية أبسط من الاسطقسات، كما أن الاسطقسات أبسط من المركبات وهو خليفة الله، وهو الفائض الفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى، وإن قيل هو نور في الغاية لم يكن ببعيد، وإن قيل اسمه يعبر عن نعته لم يكن بمنكر هذا الحديث، إذا لحظ في ذروته التي يشرق منها فوق إشراق الشمس وأما إذا فحص عن أثاره في حضيضته فإنه تميز وتحصيل وتصفح، وحكم، وتصويب وتخطئة، وإجازة وإيجاب وأباحة، وأما إذا فحص عن أنحائه، فأنحاؤه على قدر ما يقال فلان عاقل، وفلان أعقل، وفلان في عقله لوثة، وفلان ليس بعاقل وهذا الاختلاف بحسب الاختلاف في الألوان، والصور، والقصر، والحسن والقبح والاعتدال والانحراف، وذلك مدروك بالحس مشهود بالعيان، وأما إذا فحص عن صنيعته فهو الحكم في قبول الشيء ورده، وتحسينه، وتقبيحه وحقه وباطله وذلك إن الأشياء أما أن تكون حسية أو عقلية، أو مركبة منهما، أو متولدة عنهما، وتكون أما صحيحة، وأما فاسدة، أو حقا أو باطلا، فالعقل يتصفح هذه كلها بنوره ويحكم لها وعليها بحكمه، ويعطي كلا منها الذي حقه وتسميته التي هي له ويقال: الإنسان بين طبيعة هي عليه وبين نفس هي له كالمنتهب المتوزع، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه، قوى ما هو له من النفس، وضعف ما هو عليه من الطبيعة، وإن لم يستمد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو من النفس.
وقال أصحاب الكلام في الطبيعيات في الإنسان قوة عالمية نظرية من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، ثم لها نسب إلى هذه الصورة وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة، وقد يكون بالقوة والفعل، والقوة تنقسم إلى ثلاثة أوجه: قوة هيولانية وهي الاستعداد المطلق من غير فعل ما، وهو الاستعداد الأول الذي للفعل الساذج، وبه يهتدي إلى الثدي إذا خرج من الرحم، ويبكي إذا جاع. وقوة ممكنة وهو استعداد فعل ما كقوة الطفل على الكتابة بعد ما يعلم بسائط الحروف. وقوة ملكة وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة.
فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور تشبه الاستعداد المطلق وتسمى عقلا هيولانيا، وإذا حصلت فيها المعقولات الأول التي تتوصل إلى المعقولات الثنائية تسمى عقلا بالفعل، وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت مخزونة بالفعل، متى شاء طالعها، فإن كانت حاضرة عنده بالفعل سمي عقلا مستفادا، وإن كانت مخزونة بالقوة سمي عقلا بالملكة، وها هنا ينتهي النوع الإنساني، وعنده يتشبه بالمبادئ الأول أن يتصل بالعقل الفعال، فيصرف كل شيء من نفسه، لا تقليدا، أما دفعة فيزمان واحد، وأما دفعات في أزمنة شتى، وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس، وأدناها الولاية، وأعلاها النبوة.
واختلف في مسكنه فذهب جالينوس من الحكماء، وأبو حنيفة من العلماء إلى أن مسكنه الدماغ، واحتجوا بأن العقل أشرف القوى فوجب أن يكون مكانه أشرف، وأشرف الأمكنة أعلاها يكون مكان العقل الدماغ وهو بمنزلة الملك العظيم الذي يسكن القصر العالي المشرف، وأيضا أن الحواس محيطة بالرأس كأنها خدم الدماغ، واقفة حوله على مراتبها، وأيضا إن محل الرأس من الجسد، محل السماء من العالم، وكما أن السماء محل الروحانيات فكذلك الدماغ فوجب أن يكون مستكن العقل وقد اعتبر اختلاط العقل إنما يكون بما يطرأ على الدماغ من مرض أو عرض، وذهب الجمهور إلى أن مسكنه القلب وعلى ذلك تضافر الكتاب، والسنة والعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: )إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب( أي: عقل فعبر عن الحال بمحله، وقال تعالى )أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها(.
أما السنة: فقوله عليه السلام: )إن في ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب( وصلاحه يكون بزيادة ما فيه من العقل الهادي إلى الخير، وفساده يكون بنقصانه الحاوي على الشر.
وأما المعقول: فإن العقل لما كان شريفا وجب أن يكون مكانه أشرف الأعضاء وأشرف الأعضاء القلب، لأنه الرئيس الأعظم، لو أنه أول عضو يخلق من الإنسان ولما كان الأهم في الخلق كان الأشرف في الأعضاء ولأن محله من البدن في الوسط، والأعضاء محيطة به فكان كالملك حوله وأشياعه وعبيده

القول فيما امتاز به الإنسان من التخليق والتركيب
ونجعل الكلام فيه: بأن الاحتلام، أعني يبتدئ في الصبي إذا بلغ أسبوعين منت السنين، وفي هذا السن تنبت عانته، ويخشن صوته، وتتغير رائحة عرقه وتنفلق أرنبته من طرف الروثة، وهذه علامات البلوغ، وكذلك النساء يطمثن إذا مر عليهن السن، ويرتفع ثديهن، وتتغير أصواتهن، ومتى طمثت الصبية هاجت إلى الجماع، وتتلذذ بذكره من غير فعل، وبعض الذكور لا يحتلم، وكذلك بعض النساء لا تطمث.
ومنها أن المني لا يوافق الولادة إلا بعد مضي ثلاثة أسابيع سنينا وهذا المعتاد، وقد رأيت أن ولدا للمقتدر حملت منه جارية وهو ابن إحدى عشرة سنة، وفي صحيح البخاري: )إن المغيرة بن سعيد قال احتلمت وأنا ابن اثنتي عشرة سنة وفيه أيضاً عن أن الحسن ابن صالح قال أدركت جارة لنا جدة وهي ابنة إحدى وعشرين سنة(، وكان بين عمرو بن العاص وبين ولده عبد الله اثنتا عشرة سنة وإذا جامع الرجل المرأة، وبقي المني في رحمها ستة أيام، ولم يقع فذلك دليل على الحمل فإذا تم الحمل لا يكون خروج الدم طبيعيا بل يرجع إلى الناحية العليا إلى الثديين فيستحيل لبنا عند قرب الولادة.
ومنها أن الرجل يستفرغ ولد امرأتين لأنه يولد له وهو ابن تسعين سنة، والمرأة لا تلد بعد الخمسين إلا نادرا، ولا تحيض، إلا ما حكي أن موسى بن عبد الله بن حسين حملت به أمه وهي بنت ستين سنة وكان بين موسى بن عبده المريدي وبين أخيه ثمانين سنة ومنها أن المرأة تفرط في السمن فتكون عاقرا، والرجل يكون فلا يطرأ عليه ذلك، والمرأة تهيج في الصيف والرجل في الشتاء.
ومنها أن المرأة إذا حملت أحست بما في بطنها، ولا سيما في نواحي الحالبين فإذا كان الحمل ذكرا فالحس من الناحية اليمنى، يوجد بعد أربعين يوما وإذا كان أنثى فإنه يكون في الناحية اليسرى بعد تسعين يوما في الغالب ومنها أنه أكثر الحيوانات شهوة للجماع، وأقدرها عليه، وإن ضرب المثل في ذلك بالعصفور، فإن العصفور يسفد في فصل وزمان معلوم والإنسان يقدر على ما قدر عليه العصفور في كل حين لا سيما إذا توفرت الدواعي من الغلة والجمال والشبيبة، والرفاهية، وأحد ما يكون الغلام أشبق وألح، وأحرص عند أول بلوغه ثم لا يزال كذلك حتى يقطعه الكبر أو آفة تعرض له، والجارية لا تزال من وقت إدراكها وحركة شهوتها على شيء واحد من ضعف الإرداة حتى تكتهل فإذا اكتهلت قوي عليها سلطان الحرص والشهوة للباه فيكون هيجانها عند سكون هيجان الكهل، وإدبار شهوته.
ومنها أن حد الولادة في الناس مختلف بخلاف سائر الحيوانات فإن مدد حمل الحيوان في كل نوع على حد سواء من الكثرة والقلة إلا النساء، فإن منهن من تلد لستة أشهر وعلى هذا حمل قوله تعالى: )وحمله وفصاله ثلاثون شهرا(، وبذلك أفتى علي عليه السلام في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها فكف عنها، ومنهن من تلد لسبعة أشهر يقال أن الشعبي ولد لهذا العدد، ومنهن من تلد لثمانية أشهر، وقلما يعيش لعلة ذكرها المنجمون على زعمهم ليس هذا موضع ذكرها وهذه المدد مختلفة، وقد ذكر أصحاب التواريخ جماعة ولدوا فيها، فأما من ولد لثمانية أشهر فعيسى عليه السلام، والشعبي ولد لسبعة أشهر، وكذلك جرير الشاعر وعبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، ومنهن من تنقضي مدة الحمل التي هي تسعة أشهر وتستأنف مدة أخرى، ولا تيأس من الولد كما حكي أن هرم بن حيان حملت به أمه أربع سنين، ولذلك سمي مرة هرما وإن امرأة لابن عجلان ولدت له بعد أن حملت خمس سنين، وحملت مرة أخرى ثلاث سنين ثم ولدت غلاما وكانت تسمى حامل الفيل، وروي أن الضحاك بن مزاحم حملت به أمه ستة عشر شهرا، وولد شعبة لسنتين، ومالك بن أنس - رضي الله عنه - لثلاث سنين، وخرج من بطن أمه، وقد بدت أضراسه، وسمع نساء الحجاز من ولد عمر بن الخطاب يقلن ما حملت امرأة منا أقل من ثلاثين شهرا، وولدت بنت أبي عبيدة محمد بن حسن على رأس أربع سنين.

ومنها أن النساء وإن اختلفن في مدة الحمل، وبين سائر الحيوانات في ذلك فقد يشتركن معها في أن تلد المرأة فذا وتوأمين، وربما ولدت ثلاثة أو أربعة وخمسة بقالب البخاري: بنو راشد السلمي أربعة ولدوا في بطن واحد، عامتهم محدثون، وكان شريك لهذه الأعجوبة يقول: إذا مات الرجل وله حمل وأرادوا أن يقسموا الميراث عزلوا نصيب أربعة ذكور لما شاهد من بني راشدة، والمرأة إذا وضعت توأمين، وكان أحدهما ذكرا فقلما يسلمان.
ومنها أن المرأة تحتمل الجماع بعد الحمل بخلاف سائر الحيوانات وربما علقت، وهي إذا علقت بعد زمان يمضي عليها بالذي حملت به أولا يتم ويهلك الأول والثاني، فإن علقت بعد الحمل بزمان يسير يسلمان كلاهما وهما التوأمان، وحكى أرسطو في كتاب الحيوان: أن امرأة ولدت لتسعة أشهر ثم ولدت بعد ذلك بشهرين فعاش الثاني وهلك الأول.
ومنها أنه قد يولد لذوي العاهات ما يشبههم من الأولاد، فيولد للأعرج أعرج وللأعمى أعمى، وربما كانت العاهة في ولد الولد وكذلك في اللون.
ومنها أن جميع الحيوانات التي لها أربعة أرجل يكون ولده في الرحم ممتدا منبسطا ما خلا ولد الإنسان فإنه يكون قاعدا القرفصاء شبه المتفكر وأنفه بين ركبتيه وأذناه خارجتان عنه ويداه عليهما، وهو يتنفس في خلاء ووجهه إلى الصلب لتحدر الطعام على صلبه ولا يتأذى به.
ومنها أن يتقدم الجنين عند خروجه ماء، وذلك عند انقلاب الرحم والمشيمة ومتى لم تربط سرته لساعة وقوع المشيمة، وسال منها دم قبل أن يجمد هلك.
ومنها أن المولود إذا نعر لساعته وأومئ بيده إلى فيه، وطلب الثدي ويلازمه السهر أربعين يوما، ويقال أن ذلك من وحشة يجدها لفراق وطنه الذي كان فيه وهو الرحم، وما أحسن قول علي بن العباس بن جريح الرومي وقد ذكر هذه الحالة، وما الحكم فيها:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون الطفل ساعة يوضع
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأوسع
إذا عاين الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها يفزع
وقد ورد أن ذلك من طعن الشيطان له في خاصرته.
ومنها أنه إذا خرج من الرحم يخر مقبوض الكف، ويقول أصحاب الإشارات أن ذلك دليل حرصه على الدنيا، وإذا مات فتح كفه، يشير بذلك أني مع حرصي عليها خرجت منها بلا شيء، وقد نظم هذا بعض الفقهاء فقال:
وفي قبض كف الطفل عند ولاده ... دليل على الحص الموكل بالحي
وفي بسطها عند الممات إشارة ... ألا فانظروني قد خرجت بلا شيء
ومنها أنه قد يولد مختونا وتسميه العرب ختان القمر، ويزعمون أن السبب في ذلك، ولادة أمه له في مكان صاح للقمر لا يستره سقف ولا جدار.
قال أمرؤ القيس يهجو قيصر ملك الروم:
إني حلفت يمينا غير كاذبة ... لأنت اقلف ألا ما جنى القمر
إذا طعنت به مالت عمامته ... كما تجمع تحت الفكة الوتر
وقد ولد جماعة من الأنبياء - صلوات الله عليهم - كذلك منهم سيد البشر الشفيع المشفع في المحشر - الذي ختم به النبيين وأعلا درجته في عليين - محمد المبعوث إلى الأحمر والأسود صلى الله عليه صلاة دائمة يوم بنعث ونحشر ومنه أنه حين يولد تكون عينيه زرقاء ثم يتغير إلى اللون الذي شأنه أن يوجد له، ولا يوجد ذلك شيء من الحيوان، وهو في طفولته يحلم ولهذا نرى - حين ينتبه - أما مذعورا يبكي وأما مسرورا يضحك والإنسان وحده يولد، ولا أسنان له، لقلة الأرضية فيه، فإذا كبر صلبت مواده، وصلحت لمادة الأسنان، وجميع عظامه من الكون الأول سوى الأسنان فإنها تتجدد مرتين في العمر مرة في الشهر السابع وما بعده، ومرة في العام السابع وما بعده.
والذي يختص بالصورة أمور منها: إن الله تعالى ميزه على سائر الحيوانات بأن خلقه في أحسن تقويم فجعله منتصب القامة عريض الظفر معرى البشرة عن الوبر، وجعل عقله في دماغه، وصرامته في قلبه، وغضبه في كبده، وسروره في كليته وضحكه في طحاله، ورعبه في رئته، وفرحه في وجهه.
ومنها أن جعل الحلاوة في عينيه، والجمال في أنفه، والصباحة في وجهه والوضاءة في نشرته، والملاحة في فمه، والظرف في لسانه، والحسن في شعره والرشاقة في قده واللباقة في شمائله

ومنها أن جعل لعينيه أهدابا عليا وسفلى بخلاف سائر الحيوانات فإن ذوات الربع لها أهداب لأجفانها العليا دون السفلى، وليس لعيون الجناح أهداب البتة.
ومنها أن ميز أنفه بالشم والقنا وجعله مثلث الشكل مستطيلا مبرأ من الفطس والخنس.
ومنها النطق الذي لولاه كان صورة ممثلة أو بهيمة مهملة، وهو فصيح وإن عبر عن نفسه باللفظ والخط، والعقد، والإشارة.
ومنها ما في يده من المنافع فإنه، لما كان محتاجا إلى الخياطة والكتابة وسائر الصنائع العملية قسمت الأصابع، وقسمت الأصابع إلى أنامل، وهو وإن شاركه الصنائع الحيوان في حاستها المدركة للملامسة، والخشونة، واللين، واليبس، والحرارة، والبرودة فقد امتاز عنه بأن أضيف إليه معرفة الثقل والخفة، وكذا إن شاركه الهر والقرد في إجهاز ما يأكلانه إلى الفم فليس فيها من المرافق ماله، فإنه إذا بسط كفه كان طبقا، وإن قعره كان مغرفة، وإن ضم الكفين بعضهما إلى بعض في التقعير كان قبعا وإن ضم أصابعه كان له سلاحا يقاتل به عدوه.
وقال بعض الباحثين عن خلائق الإنسان أنه جمع فيه جميع ما تفرق في الحيوان ثم زاد عليها ثلاث خصال بالعقل للنظر في الأمور النافعة لتجلب والضارة لتتجنب، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بواسطة النظر، وباليدين لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثلة لما في الطبيعة من قوة النفس ولما انتظم له هذا كله جمع الحيل للطلب والهرب، والمكايدة والحذر، وهذا بدل من السرعة والخفة التي في الحيوان، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمخلب والقرن، واتخذ الجنن لتكون رقابة له من الآفات مكان الشعر والوبر.
وقال الجاحظ: وهم يجعلون كل إنسان وطائر ذا أربع، فجناحا الطائر يداه ويدا الإنسان جناحاه، ولهذا كان كف الطائر في رجله وكف الإنسان في يده، ولما كانت يد الإنسان جناحه صار إذا عدا يحركهما، ومتى قطعتا لم يجد العدو كما، لو قطعت رجلا الطائر لم يجد الطيران، وفي الناس من إذا فقد يديه عمل برجليه كل ما كان يعمل بيديه لو كانتا له، وركب ذوات الأربع في يديها، وركب الإنسان في رجليه، وفي الناس من يعمل بيساره ما يعمل بيمينه، ويسمى أعسر يسر، وبهم من يقصر بيمينه عما يعمل بيساره، ويسمى الأعسر، وإذا كان أعسر مصمتا فليس سوى الخلق.
ومنها أنه ليس في الحيوان ماله ثدي في صورة غير الفيل والإنسان لكن هما في الفيل بين الحالبين، والصدر، وربما حني الرجل على الطفل فدرت له ثدياه وكذلك المرأة العاقر.
ومنها أن سائر الحيوان الناحية العليا منه أنبل من الناحية السفلى خلا الإنسان، فإنه بالعكس إذا كان حدثا، وإذا أسن كان على التساوي وهذه علة اختلاف سيره وحركته، وكذلك رجلاه أكبر من يديه، وليس ذوات الأربع من ذوي البراثن والحوافر، فإن أيديها أكبر من أرجلها.
ومنها أن المرأة إذا غرقت رسبت، فإذا انتفخت طفت منقلبة على وجهها والرجل بخلاف ذلك، وإذا ضربت عنقه لا تتحرك له جثة بخلاف سائر الحيوان إذا ذبح وإذا وقعت جثته في الماء بعد بينونة الرأس عنها لم ترسب، وبقيت قائمة في الماء، ولم تظهر أكان الماء جاريا أو راكدا، فإذا جاف وانتفخ وانقلب وظهر بدنه كله.
ومنها أن كل أخرس أصم حكمة من الله تعالى، ولطفا إذ لو سمع الكلام ولم يجب مات حسرة، وأصحاب الكلام في الطبائع يقولون: إن الخرس طارئ عن الصم، وإنما كان ذلك لأنه حين لم يسمع صوتا قط مؤلفا، أو غير مؤلف لم يعرف كيفيته، فيقصد إليه ويحكيه.
ومنها أن في طبع الإنسان، أنه متى انهزم نزل عن جواده ليحضر ببدنه لأنه يظن أن إحضاره أنجى له، وأنه إذا كان راكبا على ظهر فرسه كان أقرب إلى الهلاك.
ومنها أن في الناس من يحرك فروة رأسه ومنهم من يحرك أذنه من بين أعضائه، وربما حرك إحداهما وترك الأخرى ساكنة، ومنهم من يبكي إذا شاء من غير سبب محدث للبكاء، ومنهم من يبكي بإحدى عينيه، وبالتي يقترحها المنعت له.

ومنها أنه متى خصي صلب عظمه، وعظمت رجلاه، وساوى الصبي في الأمن من الصلع، وغيره من الحيوان إذا خصي دق عظمه واسترخى لحمه، ومتى خصي الإنسان في أي سن كان، حفظ عليه الخصاء حال تلك السن من الأفعال السياسية والطبيعية مدة حياته فمتى خصي قبل العشر سنين لم يتغير دمه عن دم الطفولية ويبقى في مزاج الصبي لابثا لا يتحرك، وإن تعالت سنه، والدليل على ذلك أنه إذا غضب بكى، وإذا غلب سطى، ويرضيه الخداع أكثر مما يرضيه الحق ويعرض له الشر عند حضور الطعام، والبخل عليه والشح الغالب في كل شيء وكل ذلك من أخلاق الصبيان، ومن خصي وهو في النحو لا يؤثر الخصاء في مزاجه وذلك بعد ثماني عشرة سنة ولم تسقط لحيته لكنه يعدم الشهوة أما كلها أو بعضها، ويسلم له جميع ما للفحول، وهو مع الخصاء يحتلم ويرى الماء إلا أنه غير دافق، وليس له رائحة الطلع، ويجامع النساء كثيرا لكنه ينزل بعد الجهد الشديد ماء يسيرا متغير الريح، وقال الجاحظ: الخصي تقوى شهوته، وتسخن معدته وتتسع فقحته، وتنتن جلدته، وتنجرد شعرته، وتكثر دمعته، ويخرج من أكثر معاني الفحول وصفاتهم، فصار كالبغل الذي ليس بحمار، ولا فرس، وتصير أخلاقه مقسومة على طبائع الذكر والأنثى، وربما لم يخلص له خلق، ولم يصف بل يصير مركبا ممزوجا مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن العجب خروجه عن شطر طباع الذكورة إلى شطر طباع الأنوثة، ولا يعرف له التخنيث، وكان ينبغي أن يكون في الخصيان عاما.

القول في السبب الموجب لتغاير أخلاق الإنسان
قد تقرر بالاختبار الباحث عن الإنسان وطرائق ما فيه، وبه أن أحواله مختلفة لسبب أن كل ما يدور ويجوز عليه مقابل بالضد أو شبهه كالحياة والموت والنوم واليقظة، والحسن والقبح والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف والعدل والجور، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والحلم والسفه والرضا والغضب إلى غير ذلك مما يطول تعداده، ويكثر ترداده، وما ذاك إلا ليظهر امتيازه على سائر الحيوانات فإنها لم يوجد منها شيء يزول عن خاصيته، ولا يتعداها إلى خلافها لأن الأسد لا يوجد جبانا، ولا الأرنب جريئا ولا الغزال بطيئا لا الدب سريعا وقد يوجد الإنسان جريئا كالأسد، جبانا كالأرنب سريعا كالغزال، بطيئا كالدب، خبيثا كالثعلب، سليما كالفيل، ذليلا كالكلب، عزيزا كالفهد، وحشيا كالنمر، أنيسا كالحمار، ويقال الإنسان صفو الجنس الذي هو الحيوان، والحيوان كدر النوع الذي هو الإنسان، فالإنسان هو الشخص الذي هو واحد النوع، وما كان صفوا وخلاصة بهذا النظر فيه من كل ضرب من الحيوان خلق أو خلقان، أو أكثر، فظهر بذلك عليه ويظن أيضاً فيه بالأقل والأكثر، والأغلب والأضعف كالكمون الذي في طبائع الخنزير والفأرة والبيات الذي في طباع الذئب والتحرز الذي في طبائع الجاموس من بنات الليل، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلا بصاحب المقدمة، والحذر الذي في طباع الخنزير، والكمن تمثلا بصاحب الساقة، وكأوبة الطير إلى أوكارها، وغيرها من الدغل والأعشاب والغياض التي تراها كالمعاقل ولما وهب الإنسان الروية وأعين بالفكر، ورفد بالعقل جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه، وفي نفسه بما خصصه به خالقه وميزه حين أظهره للوجود وأبرزه قال الشاعر:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد

وبهذه المزية فضل جميع الحيوانات حتى بلغ منها مراده بالتسخير والأعمال واستخراج المنافع منها وإدراك الحاجات بها وهذه المزية استفادها بالعقل لأن العقل ينبوع العلم والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكر بينهما مستمد منها فصواب بديهة الفكر من سلامة العقل وصواب روية الفكر من صحة الطباع وصحة الطباع من موافقة المزاج بالبدن الاتفاقي والاتفاق الغيبي. وأصحاب الكلام في تهذيب الأخلاق يرون أن اختلاف الأخلاق في الإنسان كائن عن اختلاف قوى النفس الناطقة فإنهم يسمون القوة التي محلها الدماغ النفس الإنسانية وعنها تصدر الأفعال الملكية والقوة التي محلها القلب، النفس الغضبية وعنها تصدر الأفعال الشيطانية، والقوة التي محلها الكبد النفس الشهوانية وعنها الأفعال البهيمية، ولا يخلو أن تقوى كلها حتى تبدو أفعالها متكافئة من غير مطاوعة منها لغيرها وتكون كعدة أقوام ترافقوا ولهم أغراض بعددهم ليس للواحد منهم على الباقين رئاسة، فهم مترافقون متعاضدون حتى تسلم لهم الحياة في سبيلهم، ويتم لكل واحد منهم إدراك غرضه، وإذا كانت كذلك كانت نفوس الملوك الجبابرة والساسة القاهرة لما فيها من علو الهمة التي في خاصة بالنفس الإنسانية، ولما فيها من التغلب والاعتصام ومنع اجانب، وانتهاك الحرمة، وذلك خاص بالنفس الغضبية، ولما فيها من الحرص والطمع والنشوة والاستئثار بالأموال من غير اعتقاد كغاية أو وقوف عند غاية، وذلك خاص بالنفس الشهوية وأما أن تضعف النفوس الثلاث ضعفا متكافئا حتى لا تصل واحدة إلى حقها إلا أنها في هذا لا يقال لها سقيمة ومن كانت هذه حال أنفسهم كانوا إسقاط الناس ورعاعهم وأهل الضعف والسكينة، ومن لا يوجد لهم تقدم في معاشه ولا تدبير في نفسه ولا يأخذ نفسه بدقيق الصنائع ولا بمعالي الأمور، ولا يلتمس قوته في نفسه إلا عند نوع قليل الفكر كثير النوم لا تسؤوه اللأواء ولا تسره النعماء، وأما أن تقوي النفس الإنسانية، وترأس الغضبية والشهوية مع سلامتها، ولزومهما الحال الأفضل ومن كانت نفوسهم كذلك كانوا حكماء الناس وفلاسفتهم، والمعلمين الحكمة فإن كانتا ضعيفتين مسامتين ليستا على المجرى الطبيعي، ومن كانت هذه الحال أنفسهم كانوا عبادا زهادا، خائفين لله عز وجل، هينين لينين أو ظباء الأخلاق قليلي الشهوة للمآكل والمشارب، والمناكح زاهدين في المكاسب والتجارات محبين لله تعالى راغبين فيما عنده منقطعين إليه، وذلك أنهم لما بطل تعلق النفس الغضبية والنفس الشهوانية ظفرت النفس الإنسانية بنفسها فاشتاقت إلى عالمها، وزهدت فيما سواه، وأما سقم الثالثة فتبطل أفعالها ولا يوجد لشيء منها المجرى الطبيعي فيكون من ذلك البله والمعتوهون، ومن لا يحصل من أمر دينه ولا ماكله ولا مشربه شيئا البتة حتى أنه يوجد هؤلاء من لا يلتمس قوته، ومنهم يثب على الناس، ومنهم من يخاف الناس، ومنهم من فيه مداراة للناس وخبث، وأما أن تقوى الغضبية وتملك الاثنتين وتستولي عليهما مع سلامة فيها وهذه نفوس المحاربين وأهل النجدة والإقدام والبطش والمنافسة والتغلب لأن تدبير النفس الإنسانية كله هو فيما كان فيه لذة النفس الغضبية وأما أن تقوي النفس الغضبية مع سقم الاثنين وخروجها عن الحالة الطبيعية فتكون هذه نفوس السراق وقطاع الطريق، وأهل الدعارة وقتلة النفوس، والصابرين على العقوبات فهذه الطبقة تستلذ أن تؤذي من لا يؤذيها، وترى ذلك مغنما، قاسين القلوب على نفوسهم فضلا على من سواهم، وأما أن تقوى الشهوانية وتملك الاثنين مع سلامة منهما، فإن هذه نفوس التجار وكسبة الأموال، وأهل الثراء، وأما أن تقوى وتستقيم الاثنتان، ويبطل فعلهما إلا أنهما ليستا بسقيمتين البتة، فتكون هذه النفوس نفوس الملاحين والنقلة والرعاع وكل من تعبه لشبع بطنه، وقد تقوي نفسان وتستقم واحدة أو تسقم نفسان وتقوى واحدة ولهذا ضرب من التركيب لا يخفى على من له ذهن وفكر

فصل
وها هنا أمثلة ضربت لذي العقل الرزين ليتبوأ منها معقل الرشد الحصين، قربت فيها الحكماء بعد الأرب، وجعلتها فارقة في الاختلاف بين الضارب والضرب.

ومنها أنهم مثلوا النفس الإنسانية بالملك المستولي، وأفضل أحواله أن يكون عالماً عادلا لينا مهيبا مطاعا قويا من غير غلطة، رؤوفا من غير مهانة والنفس الغضبية مقال جنده الذين يسدون ثغوره ويقهرون أعداءه، ويقومون رعيته، وينفذون أمره وأفضل أحوالها أن تكون عزيزة الجانب في نفسهم سهلة الانقياد لسلطانها المستخدم لها، والنفس الشهوانية مثال رعيته الذين يجب أن يكون عريكتهم لينة مواتية ورهبتهم منه، ومن جنده ثابتة مستحكمة فمتى أخذت هذه القوى مأخذها، وتعادلت في أوزانها وأقسامها كان الإنسان كاملا وإن زال عن ذلك نقص، وكان نقصانه بمقدار زواله، والنفس الإنسانية، لا تسلم من معارضتها إلا أن تكون صارمة قوية أبية، فإنها إذا كملت شدتها واستحكمت قوتها ثبتت لمقابلة العدوين اللذين معها، إذ قيل للقوي بين الضعيفين، فأما إن كانت وضعيفة بين قوتين فهناك تجتمع المعايب والمثالب وترتفع المحاسن والمناقب.
ومنها أن البدن كالمدينة، والنفس الإنسانية كالملك، والحواس الباطنة والظاهرة كالجنود، والأعضاء كالرعية، والغضب والشهوة كعدوين ينازعانه الملك ويسعيان في هلاك رعيته، فإن قصد الملك قهرها استقامت مملكته وصارت إلى العاقبة رعيته وإن لم ينازعهما، وضيع الحزم اختلت مملكته وصارت عاقبة أمره إلى الهلاك.
ومنها أنهم قالوا: مثل النفس الإنسانية مثل الفارس ركب لأجل الصيد فشهوته فرسه وغضبه كلبه، فمتى كات الفارس حاذقا، وفرسه مرتاضا، وكلبع معلما كان جديرا بالنجح، ومتى كان الفرس جموحا والكلب عقورا، ولا فرسه تنبعث تحته على حسب إرادته، ولا كلبه يسترسل بإشارته، فهو خليق بالعطب فضلا عن أن ينال ما طلب.
ومنها أن البدن كبيت فيه إنسان وسبع، وخنزير، فالإنسان النفس الإنسانية، والسبع الغضب، والخنزير الشهوة، فأي الثلاثة غلب فالمسكن له فيجب أن تكون هاتان النفسان تحت سلطان النفس الإنسانية فيجريهما مجرى المركب الذي يركبه عند الحاجة بسرج يذلله وشكيمة تحنكه، وحنان يلينه وسوط يخفيه فإذا نزل عنه ألزمه الشكال والرباط لئلا يجد على حال من الأحوال شيئا إلى أن يشرد فيهلك ويجني على صاحبه، والقول الحق أن الخلق مشتق من الخلق وكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق ولكن لا مندوحة على الاستبصار، وقمع التلون بعزائم الاستبصار حتى يصير المحمود من الأخلاق بحتا والموصوف لا يشتغل بالأرزاء به وقتا ولو لم يكن ذلك ممكنا لما وضعت الحكماء الكتب في الحض على تهذيب الأخلاق وإصلاحها، وليس ذلك بالعبث فيها بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة، مثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضا، ولكن ليستفيد نقاء شبيها بالبياض والنفس الإنسانية إذا ساست القوتين أعني " الغضبية والشهوية " ، فحذفت زوائدهما ونقت فواضلهما ووفت نواقصهما، وذيلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمة في الشهوة أخمدت نارها، وإذا وجدت السرف في الغضبية قصرت عنائها فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم فيعود السفه حلما، أو تحالما، والحسد غبطة، أو تغابطا، والغضب كظما أو تكاظما، وصرفت هذه الكوامن في هذه المكامن إذا سارت سورتها، وثارت ثورتها على مناهج الصواب تارة بالعظمة واللطف، وتارة بالزجر والعنف، وتارة بالأنفة وكبر النفس وتارة بإشعار الحذر وتارة بعلو الهمة، وهناك يصير العفو عند القادر ألذ من الانتقام، والعفاف عند الهائج أحلى من قضاء الوطر، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف، والصداقة عند الموتور آثر من العداوة والمرارة عند المحفظ أطيب من المماراة على أن الأمرين بالتخلق والتطبع غير منكرين

إن الأخلاق تابعة لمزاج البدن في الأصل يقال: إن الخلق من الخلق، والولد شبيه بوالده لكنهم لما رأوا كل ما يمكن أن يقال فيه للإنسان لا تفعل هذا أو قلل منه وكف عنه كما يقال لبصير سدد طرفك، واكحل عينيك وقر ناظرك، وكذا يقال للطويل تكامن في هذا الزقاق حتى دخلن وتقاصر حتى تصل لمرور به، وحرضوه عليه لوجود الأمكان، وعدم العجز عن وطئ الجسر في امتثال الأمر، ولا كان الحال هذه، فرقوا ما تقدم التمثيل به في الاستطاعة وبين تكليف ما لا في الوسع، وهذا إن يقال للأعمى لم لا تكون بصيرا وللطويل لم لا تكون قصيرا، فإن الأول من باب الخلق الذي مكن أن ينتقل، والثاني من باب الخلق الذي لا يمكن أن يتبدل، والإمكان مخلوق في المكلف، ولولا هذا لما قال تبارك وتعالى: )ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها( ثم قال: )قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها( فلو لم يكن ممكنا لما لاح الفلاح ليحضه بالحرص على تزكية النفس والاجتهاد في إزالة لبس الدين وقد قالوا ونفائس الأخلاق وخسائسها تكون بحسب التمايز والغرائز فإن كرمت أواصره فمحمول إلا أن تغلب النفس هواها فيشوب من أخلاقها بالمذموم، ومن لومت عناصره مطبوع على الشر إلا أن تحدث بقواها فيمتزج المذموم من أخلاقها بالمحمود، لكن لا يدومان، فإن الطبع أملك للنفس التي هي محله وعلة تضاد أخلاق الكريم إن نفسه الإنسانية ربما ضجت أو اهتضمت فتبعثها أنفتها من العار على المكافأة والانتصار، كما قال الجاهلي:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال أعرابي:
أنا الصاب إن " شورست " يوما وإنني ... جني النخل إن سومحت يوما لأكلي
بسيط يد بالعرف والنكران أقل ... بوعد وإيعاد أقل قول فاعلي
صؤول على الضعف المنيخ وممسك ... غرامي عن الواهي المضلل
وكما قال البحتري:
متى أخرجت ذا كرم ... إليك ببعض أخلاق اللئيم
وكما قال أبو تمام:
أخرجتموه بكره عن سجيته ... والنار قد تنقضي من ناصر السلم
ومن كلام الحكماء كن من الكريم حذرا إن أهنته، ومن اللئيم إن أكرمته ومن العاقل إن أحرجته، ومن الأحمق إن مازحته، ومن الفاجر إن عاشرته، وقد تظرف بعض المتأخرين في قوله:
تكرمت لا طبعا وجدت تكلفا ... فقام خطيب في البرية يخطب
فلما أتاك الناس من كل جانب ... منعتهم بالطبع والطبع أغلب
وعلة ذلك في اللئيم أنه ربما كان له صديق يصفي له الود لا يعبأ به جريا على سجيته، فإذا ألم وتكلف من التودد ما لا في وسعه فيعجز، ويقصر ولهذا قال القائل في ذلك:
هيهات لا تتكلفن في الهوى ... فضح التطبع شيمة المطبوع
والسابق إلى هذا القول زهير بن أبي سلمى حيث قال:
ومن يبتدع ما ليس من حتم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس حتمها
وقد أبان بعض المتكلمين في الخلاق السبب في تباينها واختلافها، وتغلب بعضها على بعض فقال المخلوقات على ثلاثة أقسام: إما كامل لا تتطرق إليه النقصانات، وهم أصحاب العالم العلوي )أجسادهم السماوات وأرواحهم الملائكة، ونفوسهم الكواكب. وإما ناقص لا تتطرق إليه الكمالات وهو الحيوان والمعادن والنبات. بقي من التقسيم قسم وهم الذين يكونون كاملين مرة، وناقصين أخرى فإذا صاروا في الكمال كانوا جالسين مع الملائكة في حضرة رب العالمين معتكفين على بابه مواظبين على ذكره متوكلين على رجمته، وأما إذا صاروا في النقصان ومقام الغضب والشهوة، أما في الغضب فتارة يكون كالكلب العقور، والجمل الصؤول، وتارة كالنار المحرقة، والمياه المغرقة وأما في الشهوة فتارة يكون كخنزير أجيع ثم أرسل إلى النجاسات، وتارة كالذباب يدب على القاذورات فهو مع كونه شخصا واحدا، يصدق عليه أنه ملكي نوراني بالفضائل، وشيطاني ظلماني بالرذائل، وقالت الأطباء تباين أخلاق الإنسان عن اختلاف الطبائع فيه فغن الحرارة إذا غلبت على مزاج القلب يكون شجاعا سريع الحركة والغضب قليل الحقد، ذكي الخاطر حسن الأخلاق، وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليدا غليظ الطبع ثقيل الروح، وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون لين الجانب سمح النفس كثير الإنسان، وإذا غلب عليه اليبس يكون صبورا ثابت الرأي، صعب الانقياد والمراس، يضبط ويحقد، ويمسك، ويبخل، وقد لمح بعض الشعراء فقال:

تحمل أخاك على ما به ... وإلا فما فيه مستمتع
وأنى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
وعلى أثر ذكر الطبائع سئل جالينوس عن الإنسان فقال سراج ضعيف بين أربع رياح، يريد البروج والطبائع الأربع.
وقال آخرون إنما اختلفت أخلاق الإنسان عن اختلاف الطينة التي خلق منها، لأنها كانت مجموعة من طيب الأرض وخبيثها وسهلها وحزنها، وأحمرها وأسودها وقد أشار بعض الشعراء إلى ذلك بقوله:
والناس كالأرض ومنها هم ... واثمد يجعل في الأعين
ومن تشتكي الرجل منه الأذى ... من خشن قاس ومن لين
ومن أحسن ما يقال من القول الذي يفي بحق الإنسان في التكريم وتعلية درجة التعظيم: إن الله تعالى ركب فيه الضدين بدليل قوله تعالى )وهديناه النجدين( وهما على بعض الأقوال مختلفان، اختلاف المطعم والماء، يصدر أحدهما حالة الأفاقة، والآخر حالة الإغماء وإلى هذا أشار الشاعر بقوله هذا:
تمر على المرء أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
فهذا عذب فرات صلح لأحياء ما هو ن الفضائل في عداد المرات، وهذا ملح أجاج قطع عبابه ما نهج للمدح من المسلك، والفجاج، ولما اقتضت الحكمة الإلهية جبلة على ذلك جعل بازاء كل مذموم من الملائم محموداً من المكارم لتغشى الظلمة بالنور فبصيرته في خير المستور فتغلبه بعض هذه الأخلاق على بعض، في الإنسان تعلو فيعلو، أو تنقص فيرخص، فإن علا استحق قول الشاعر:
يا كامل الآداب منفرد العلا ... والمكرمات ويا كبير الحاسد
شخص الإمام كمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد
وقول الآخر:
قد قلت حين تكاملت وغدت ... أخلاقه زيناً بلا شين
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين
وإن نقص استحق أن يقال فيه:
تأنست بذميم الفعل طلعته ... تأنس المقلة الرمداء بالظلم
القول في معنى تسميتهم الإنسان بالعالم الصغير فذلك كمن وجوه: منها أن معنى تسميتهم أوجد المخلوقات خمسة ضروب الجماد والنبات والحيوان والشيطان، والملك، وكلها مجموعة في الإنسان فهو جماد حيث يكون نطفة ولا حركة فيه ولا حس وهو نبات حيث ينمو ويغتذي، وهو حيوان يلد ويألم وهو شيطان حيث يقوى ويضل، وهو ملك حيث يعرف الله تعالى ويعبده.
ومنها أنه يصور كل شيء بيده، ويحكي كل صوت بفيه، ولأنه ينهش اللحم كما تنهش السباع، ويأكل البقول كما تأكله البهائم، ويقضم الحب كما تقضمه الطير، ولهذا قالوا لا متفرق لو جمع كان منه إنسان إلا العالم، ولا مجتمع لو فرق كان منه العالم إلا الإنسان، فهو إنسان بالفعل عالم اكبر بالقوة، وعالم أكبر بالفعل إنسان بالقوة.
ومنها أن الله تعالى خلق المخلوقات في عالم الأجساد على أربعة أصناف قائم كالأشجار، وراكع كالبهائم، وساجد كالحيات، والحيتان، وجالس كالجبال، فخلق الإنسان حيث يكون تارة قائماً، وتارة راكعاً، وتارة ساجداً، وتارة قاعداً ويقال إنما بالعالم الصغير لأنهم مثلوا رأسه وروحه بالشمس إذ قوام للعالم إلا بها، كما لا قوام للجسد إلا بالروح، وعقله بالقمر لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود، ومثلوا حواسه ببقية الكواكب السيارة، وآراؤه بالنجوم الثابتة ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد وضحكة بالبرق، وظهره بالبر وبطنه بالبحر ولحمه بالأرض وعظامه بالجبال، وشعره وأعضاؤه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، ومغار عروقه بالعيون.

ومنها أن فيه ما يشاكل الجمع، والشهور، والأيام، والسنة، أما الجمعة فإن بدنه سبعة أجزاء وهم: اللحم، والعظام، والأعصاب، والعروق، والدم، والجلد، والشعر وأما الشهور فإن لبدنه اثنا عشر جزء مدبراً منها ستة باطنة وهي الدماغ والقلب، والكبد والطحال، والمعدة والأنثيان، وستة ظاهرة وهي العقل والحواس الخمس، وأما الأيام فان فيه ثلاثمائة وستين عظماً منها ما هو لبنيه الجسد، مائتان وخمسة وستون عظماً، والباقي سمسانية لسد الفروج التي تكون بين العظام، فإن فيه أربعة أخلاط طبعها طبع الفصول الأربعة، فالدم الربيع في حرارته ورطوبته، والمرة الصفراء كالصيف في حره ويبسه، والمرة السوداء كالخريف في برده ورطوبته وسئل أرسطو طاليس: فما تقول في البلغم؟ قال الملك الأكبر إن فتحت عليه باباً، فتح باباً، قيل فما تقول في الدم؟ قال عبدك وبيدك، وربما قتل العبد مولاه، قيل فما تقول في المرة الصفراء؟ قال كلب عقور في حديقة، قيل فما تقول في المرة السوداء؟ قال هيهات تلك الأرض إذا ماجت ماج عليها وقال جالينوس: البلغم في الجسد كالسبع الذي لا يضرب شيئاً إلا قتله، وإن منه السودان، كاللص إذا دخل الدار عمد إلى خير شيء فيه فسرقه، يغلب على القلب والدماغ فيفسدهما، والدم كعبد السوء ربما قتل سيده فدواؤه إخراجه لأن التصفية لا تنفع فيه، والصفراء يرضيه اليسير، ويصلحه القليل فهي تهيج بالثمرة وتعمقها شربة باردة وهذه الأخلاط من أول مزاج الأركان التي هي العناصر الأربعة، وهي النار، والهواء، والماء، والأرض، ومزاجها تقابلها وازدواج بعضها ببعض، ومن هذه الأركان يبتدئ التركيب، واليها ينتهي التحليل وهي على الجملة، فالإنسان وعاء القوي وظريف المعاني وطينة والصور ومعدن الآثار، وهدف الأعراض، ولكل شيء فيه نصيب، ومن كل شيء عنده حلية وله إلى كل شيء مسلك، وبينه وبين كل شيء نسبة ومشاكلة، وهو جملة أشياء لا تنفصل، وتفصيل حقائق لا تتصل، وهو لب العالم بين المتوسط بين العالمين وله نزاع إلى الطرفين إلى ما حط عنه بالتشوف إلى الكمال، وإلى ما يعلو عنده بالتنزه عن النقصان، وهو تابع للغالب، ومنجذب مع الجاذب، وفاعل فيما علا عليه، وقبل أثره، وقابل مما انحط عنه وسرى إليه أثره والله اعلم بالصواب.

الباب الثاني
في ذكر طبائع ذي الناب والظفر
قال ابن أبي الأشعث: الحيوان السبعي أرضي ناري، وإنما قيل له أرضي ناري لما فيه من العدو والخفة والافتراس، وأكل الدم واللحم الحي، وجميع ذلك بطبعه الناري، وإنما قيل له الأرضي لأن اليبس فيه مفرط لغلبة يبس الأرض على حر النار، وحر النار مساعد غير معاند فلهذا هو أشد الحيوان واجرؤه، وهو قوي الصلب شديد الختل عاسي الجسم شرس الأخلاق لا يألف كل نوع من أبناء نوعه لشراسته واستئثاره هو نفسه، ولا يتزوج، ولا تربي الذكور أولادها لقساوة قلوبها، وإن وجدت جراها أكلتها، ولنجعل أول ما نذكر من هذا النوع
القول في طباع الأسد

وإنما بدأنا به أولا لأنه أشرف هذا النوع لأن منزلته في منزلة الملك المهيب لقوته، وشجاعته، وقساوته، وجهامة خلقه، وشارسة خلقه، والذي يعرفه الناس منه صنفان أحدهما مستدير الجثة، والاخر طويلها كثير الشعر، وعد أرسطو في هذا النوع ضروياً كثيرة، وحكى عن بعض من تكلم في طبائع الحيوان قلبه أن في أرض الهند سبعا سماه باليونانية في عظم الأسد وخلقته، ما خلا وجهه فإنه شبيه بوجه الإنسان ولونه شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، وفي طرفه جمة وله صوت يشبه الزمارة وهو قوي يأكل لحوم الناس وذكر أن في السباع ما يكون في عظم الثور وفي خلقته، له قرون سود طولها في قدر شبر إلا أنه لا يحرك الفك الأعلى كما يحركه الثور، ولرجليه أظلاف مشقوقة، قصير الذنب بالنسبة إلى نوعه، ويحفر بخرطومه، وينسف التراب، وإذا جرح هرب، وإذا ضعف رمح برجليه، ورمي برجعيه على بعد، فأما السبع الذي صدق فيه الخبر فإن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون: إن اللبوة لا تضع إلا جروا واحد وتضعه بضعة لحم ليس فيها حس ولا حركة، فتحرسه من غير حضان ثلاثة أيان ثم يأتي أبوه ذلك فينفخ في تلك البضعة المرة بعد المرة حتى تتحرك، وتتنفس فتنفرج الأعضاء، وتتشكل الصورة ثم تأتي أمه فترضعه، ولا يفتح عينيه إلا بعد سبعة أيام من تخلقه، وهي ما دامت ترضع لا يقربها الذكر البتة، فإذا مضت على الجرو ستة أشهر كلف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب، وطارد الذكر الأنثى، فإن كانت صارفة أمكنته من نفسها، وإن لم تكن دفعته ومنعته، وبقيت مع شبلها بقية الحول وستة أشهر من الثاني، وحينئذ تألف الذكر وتمكنه من نفسها، وللأسد بعد: الوثبة واللصوق بالأرض والإسراع في الحضر إذا هرب، والصبر على الجوع، وقلة الحاجة إلى الماء ما ليس لغيره من السباع وهو إذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها ولو جهده الجوع ولا يأكلها غيره، وإذا أكل يقيم يومين وليلتين بلا طعام لكثرة امتلائه ويجعر بعد ذلك جعرا يشابه جعر الكلب، وإذا بال رفع إحدى رجليه كالكلب وإذا فقد أكله صعب خلقه، وإذا امتلأ بالطعام، فهو وادع، وأكل الجيف أحب إليه من اللحكم العريض الغض، وهو لا يثب على الإنسان للعداوة، ولكن للطعم، فإنه لو مر به وهو شبعان لم يتعرض له، وهو مع ذلك حريص نهم، واسع النحر ينهش ولا يمضغ، قليل الريق ولهذا يوصف بالبخر، ولحم الكلب أحب اليه، ويقال إنما ذلك لخفته عليه فإنه إذا أراد الطواف في جنبات القرى الح الكلب بالنباح عليه والإنذار به، فيرجع خائبا لنهوض الناس عليه، فإذا أراد ذلك بدأ بالكلب ليأمن إنذاره، ومن شأنه إذا أكثر من حسو الدم واكل اللحم، وحلت نفسه منهما طلب الملح وجعله كالحمض بعد الحلة فهو يطلبه، ولو كان بينه وبين عريسه خمسون فرسخا، ويوصف بالجبن والجرأة، فمن جبنه أنه يذعر بصوت الديك، ومن نقر الطشت، والضرب على الطنبور والحبل الأسود، والديك الأبيض، والسنورة، والفأرة، وقد تكون النار من أسباب اغتراره واغتياله لأنه يعتريه ما يعتري الظباء والوحوش عند رؤيتها النار من الحيرة والعجب بها وإدمان النظر إليها، والفكر بها حتى تشغله عن التحفظ والتيقظ، ومن جرأته أنه يقدم على المقنب الكبير، والجمع الكثير، والأسد الأسود أكثر جرأة وجهالة وكلبا على الناس ويقال: إن الأنثى أجرأ من الذكر، والجاحظ لا يعجبه هذا القول ويقول: إنما هي أنزق ومن عادته إذا عاين أحدا لا يفزع ولا ينهزم، وإن ألجئ إلى ذلك وأحس بالصيادين تولى، وهو يمشي مشيا رفيقا، وهو مع ذلك ملتفت يضمر الخوف ويظهر عدم الاكتراث، فإن تمكن منه الخوف هرب عجلا حتى يبلغ مكانا يأمن فيه فإذا علم أنه آمن مشى ميادا، وإن كان في سهل وألجئ إلى الهرب جرى جريا شديدا كالكلب، وإن رماه أحد ولم يصبه شد عليه، فإن أخذه لم يضره وإنما يخدشه، ثم يخليه كأنه من عليه بعد الظفر به، وإذا شم رائحة الصيادين عفا أثره بذنبه وفيه من شدة البطش ما أنه يأتل الجمل فيضرب جنبه بيده فيثني الجمل عنقه كأنه يريد عضه بيساره إلى مشعره فيجذبه جذبة يفصل بها بين دأيات عنقه، وإن ألفاه قائما وثب عليه، فإذا هو في ذروة سنامه فعند ذلك يضربه كيف شاء ويتغلب به كيف أحب ومن عجيب أمره أنه لا يألف شيئا من السباع لأنه لا يرى فيها ما هو كفؤ له فيصحبه، ولا يطئ على اثره شيء منها، ومتى وضع جلده مع سائر

جلودها تساقطت شعورها، ولا يدنو من المرأة الطامث، ومتى مس قوائمه لحاء شجر البلوط خدر ولم يتحرك من مكانه وإذا غمره الماء جاء الصبي حتى يركب على ظهره ويقبض على أذنه، ولا تفارقه الحمى ولذلك الأطباء يسمون الحمى داء الأسد، وعظامه عاسية جدا، وإن دلك بعض عظامه ببعض خرجت منها نار كما يخرج من الحجارة، وكذلك في جلده من القوة والصلابة، ما لم يعمل فيه السلاح إلا من مراق من بطنه، وليس في الأسود إلا وحشيا، وقد يطول مثوى الواحد مع الناس حتى يهرم وهو في جميع حالاته صعب شديد العزم لا تؤمن شروره إن انفرد من سوامه وأبصر غيضة بين يديها صحراء، ويبلغ من العمر كثيرا، وعلامة ذلك أن يصاد فيوجد مهشوم الأسنان وليس ذلك إلا من الكبر.

الوصف والتشبيه
وصفه أبو زيد الطائي في حكاية حكاها لعثمان بن عفان رضي الله عنه وقد لقيه فقال: )أقبل يتظالع من بغيه، ولصدره غيظ، ولبلاعيمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض كأنما تخبط هشيما، أو يطأ صريما، ذا هامة كالمجن، وخد كالمسن، وعينان سجراوان كانهما سرجان، وقصرة ربلة، ولهزمة رهلة وساعد مجدول وعضد مفتول، وكف شثنة البراثن، ومخالب كالمحاجن وفم أشدق كالغار الأخرق يفتر عن معاول مصقولة غير مغلولة، فهجهجنا به قرقر وبربر ثم زأر فجرجر، ثم لحظ البرق يتطاير من جفونه عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل، وجحظت العيون، وساءت الظنون، ولحقت الظهور بالبطون، وقد روى آخرون في حكايته وصفا آخر، وكان الوصفان مصنوعين على لسانه، إذ العرب قلما تسترسل في السجع.
وهو له عينان حمراوان مثل وهج الشرر كأنما نقرتا بالمناقر عرض حجر لونه ورد، وزئير رعد، هامته عظيمة، وجبهته سقيمة، نابه شديد، وشره عتيد، إذا استقبلته قلت أقرع، وإن استدبرته قلت أقرع، لا يهاب إذا الليل عسعس، ولا يجبن إذا الصبح تنفس ثم أنشد:
عبوس شموس مصلخد مكابر ... جريء على الإقدام للقرن قاهر
براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغصا في وجهه الشر طائر
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر
ومن التهويلات في الأسد نظما قول القائل:
إياك لا تستوش ليثا مخدرا ... للهول في غسق الدجى دواسا
مراسا كأمراس القليل جدوله ... لا يستطيع له الأنام مراسا
شثن البراثن لمحاجن عطفت ... أظافره فتخالها أقواسا
لان الحديد لجلده . . . فإهابه ... يكفيه من دون الحديد لباسا
مصطكة أرساغة بعظامه ... فكأن بين فصولها أجراسا
وإذا نظرت إلى وميض جفونه ... أبصرت بين شفورها مقباسا
وقال آخر يصفه:
توق وقاك رب الناس ليثا ... حديد الناب والأظفار وردا
كأن بملتقى اللجين منه ... مذربة الأسنة أو حدا
وتحسب لمح عينيه هدوء ... ورجع زئيره برقا ورعدا
تهاب الأسد حين تراه منه ... إذا لاقته في الغاب فردا
تصيد من الفرائس حين يبدو ... وكانت قبل تأنف يصيدا
وقال الناشئ يصفه:
رب ذي شبلين قسورة ... قد أجم الحين في اجمه
لا يرى حيا يطيف به ... لا ولا يدنو إلى حرمه
كمجن الحرب هامته ... وكغفور النار غور فمه
وكجدل الجذع قصرته ... وكهضيب صعب ملتزمه
وتظفر القد ساعده ... وتلف رحب مبتسمه
وكوقب الشعب فعلته ... وكلصب شعب ملتقمه
ولناب الناب مخلبه ... حين ينجيه بمختطمه
وكأن الموت معترض ... بين لحييه وملتثمه

وكأن البرق ما قدحت ... عينيه باللحظ من ضرمه
وكأن الرعد ما انتزعت ... نفسه بالزأر من سدمه
وكأجناد المخاشب ما ... بين منبته إلى قممه
وكوشك الدهر خطفته ... حين تلقيه على وجهه
وكأجال تسير إلى ... عمر إمضاء مغترمه
وكأن السيف منصلتا ... كرة إذ ذاد عن حرمه
وكأن السهم منخرقا ... حصره قصدا إلى نهمه
أن يكون رزق الورى قسما ... فجميع الناس من قسمه
وقال أبو الطيب المتنبي يصفه من أبيات:
ورد إذا ورد البحيرة واردا ... ورد الفرات زئيره والنيلا
مخضب بدم الفوارس لابس ... في غيله من لبدتيه غيلا
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
وقعت على الأردان منه بلية ... نضدت بها هام الرفاق تلولا
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا ... تحت الدجى نار الفريق حلولا
يطأ الثرى مترفقا من تيهه ... فكأنه آس يجس عليلا
ويرد عفرته إلى يافوخه ... حتى تصير لرأسه إكليلا
وتظنه فيما يزمجر نفسه ... عنها لشدة غيظه مشغولا
قصرت فخامته الخطى فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا
ثم خرج إلى ذكر الممدوح، وقال عبد الجبار بن حمديس يصفه:
ليث مقيم في غياض منيعه ... أمين على الوحش المقيمة في القفر
يلحم شبليه لحوم فوارس ... ويقطع كاللص السبيل على السفر
هزبر له في فيه نار وشفرة ... فما يشتوي لحم القتيل على الجمر
سراجان عيناه إذا أظلم الدجى ... فإن بات يسري باتت الوحش لا تسري
له جبهة مثل المجن ومعطس ... كأن على أرجائه صبغة الحبر
يصلصل رعد من عظيم زئيره ... ويلمع برق من حماليقه الجمر
له ذنب مستنبط منه سوطه ... ترى الأرض منه مضروبة الظهر
ويضرب جنبيه به فكأنما ... له منهما طبل يحض على الكر
ويضمك في التعبيس فكيه من مدى ... نيوب صلاب ليس تهتم بالفهر
يصول بلف عرض شبرين عرضها ... خناجرها أقصى من القضيب المبتر
يجرد منها كل ظفر . . . كأنه ... هلال بدا للعين في أول الشهر
ثم خرج إلى ذكر الممدوح . . . وذكر كيف صرعه وقتله

القول في طبائع الببر
وهو سبع هندي، ويقال: حبشي وهو في صورة أسد كبير ازب ملمع بصفرة وسواد ويقال إنه متوالد بين الزبرقان واللبوة، ومن طبعه أن يسالم النمر وغيره من السباع، فإذا استكلب خافه كل شيء كان يسالمه، وهو والأسد متوادان أبدا ومودته معه كمودة الخنافس، والعقارب، والحيات والوزغ، ويقال: أن الأنثى منه تلقح بالريح ولهذا يقال أن عدوه يشبه الريح سرعة، ولا يقدر أحد على صيده وإنما تسرق جراه فتحمل في مثل القوارير من زجاج عظام، فيركض بها على الخيول السابقة فإن أدركهم أبوها رمي إليه بقارورة منها فينشغل بالنظر إليها والحيلة في إخراج جروه منها فيفوته الآخذون لها، وقد زعم قوم أنه إذا استكلب ورآه الأسد رقد حتى يبول في اذنه خوفا منه ورهبة له.
القول في طباع النمر

ومزاج هذا الحيوان كمزاج السبع، وهو صنفان عظيم الجثة صغير الذنب وبالعكس، وزعم أصحاب البحث عن طباع الحيوان أن النمرة لا تضع ولدها إلا وهو مطوق بأفعى وهي نعيش وتنهش إلا أنها لا تقتل، ومنزلته من السباع في الرتبة الثانية من الأسد، وهو خفيف الجرم شديد الحضر، يقضان الحراك، وفي طبعه عداوة الأسد، والظفر بينهما سجال وهو وإن كان ينتصف من الأسد فإن قوته على سائر الحيوان قوة الأسد، وهو نهش خطوف بعيد الوثبة، وربما وثب أربعين ذراعا صعدا إلى مجثمه الذي يأوي إليه، وفي طبعه أنه؟ يشبع لثلاثة أيام يقطعها بالنوم، ثم يخرج في اليوم الرابع، ومتى لم يصد لم يأكل ولا يأكل من صيد غيره كالأسد وينزه نفسه من أكل الجيفة، ولو مات جوعا، ولا يأكل لحوم الناس إلا للتداوي من داء يصيبه، وفيه زعارة خلق، وحد نفس وتجهم وجه، وشدة غيظ، ولهذا يقال: إذا كثر حنق الرجل على عدوه، واشتد غيظه لبس له جلد النمر أي تخلق باخلاقه، والمعضوض من هذا النوع يطلبه الفأر ليبول عليه فإذا ظفر به وبال عليه مات، وهو يحب شرب الخمر، وبها يصاد، فإنه إذا سكر نام، وزعموا أنه يتولد بينه وبين اللبوة سبع يسمى الذراع، على قدر الذئب العظيم جريء لا يأوي معه شيء من السباع والوحش.

الوصف والتشبيه
قال أبو الفتح كشاجم من طردية:
وكالح كالمغضب المهيج ... جهم المحيا ظاهر التشنيج
يكشر عن مثل مدى العلوج ... أو كشبا أسنة الوشيج
مدبج الجلد بلا تدبيج ... كأنه من نمط منسوج
تريك فيه لمع التدريج ... كواكبا لم تك فيه بروج
فصل
ومن أطرف ما يحكى أن مروان بن الحكم دس القتال الكلابي لابن هبار فقتله ثط طلبه ليقتله به ليزيل عن نفسه التهمة فهرب منه، ولجأ إلى غار فيه نمر فاعتركا طويلا، فلما لم يظفر واحد منهما بصاحبه تآلفا، فكان هذا يأكل من صيد هذا وهذا يأكل من صيد هذا، إلا أن القتال كان يأكل مما تمسه النار فقال يذكر حاله:
أيرسل مروان إلي رسالة ... لآتيه أني أذن لمضلل
وما بي عصيان ولا بعد مرحل ... ولكني من شخص مروان أوجل
ولصاحب في الغار هذا الصاحب ... أبو الجون إلا أنه لا يعلل
إذا ما التقينا كان أذكى حديثنا ... ضمات وطرف كالمعابل اطحل
كلانا عدو ولو يرى في عدوه ... مهزا وكل في العداوة مجمل
تضمنت الأروى لنا بشوائنال ... فكل له منها صديق مخردل
وأفضله في صنعة الزاد إنني ... أميط الأذى عنه ولا يتمهل
القول في طبائع الفهد
زعم أرسطو أنه متولد بين أسد ونمرة، أو بين لبوة ونمر ومزاجه كمزاج ما تقدم وفي طبعه مشابهة لطبع الكلب في أدوائه والنوم الذي يعتريه، ويقال: إن الفهدة إذا حملت وثقلت حملها، حنى عليها كل ذكر يراها من الفهود، يواسيها من صيده، فإذا أرادت الولادة هربت إلى موضع قد اعدته لها حتى إذا علمت أولادها الصيد تركتها، وهذا الحيوان يضرب به المثل في شدة النوم، وقال الشاعر وقد عيره بكثرة النوم:
رقدت مقلتي وقلبي يقظا ... ن يحس الأمور حسا شديدا
يحمد النوم في الجواد كمالا ... يمنع الفهد نومه أن يصيدا
وليس شيء في جرم الفهد من الحيوان، إلا والفهد أثقل منه، وأحطم لظهر الدابة والإناث أصعب خلقا، وأكثر جرأة، وإقداما من الذكور، وفي أخلاق الفهد الحياء وذلك أن الرجل يمر بيده على سائر جسده، فيسكن لذلك حتى تصيب اليد مكان الثفر فيقلق حينئذ ويغضب، ومن خلقه الغضب، وذلك إذا وثب على طريدة لا يتنفس حتى ينالها، فيحمى لذلك، وتمتلئ رئتيه من الهواء الذي حبسه وسبيله أن يراح ريثما يخرج النفس، ويبرد تلك الغلة، ويشق له عن قلب الطريدة ويشم إياه ثم يطعمه منه، ويسقي رية ماء إن كان الزمان قيضا، ودون الري إن كان الزمان بردا، وإن لم يروح لم يفلح بعد ذلك، وإذا أخط

أ صيده رجع مغضبا، وربما قتل سائسه وقتئذ، ومن أخلاقه أن يأنس لمن يحسن إليه، ويقال أنه لص من لصوص السباع وهو وإن كان وحشيا فإنه يقبل الأدب إلا أن كبارها أقبل، وإن تقادمت في التوحش، وإناثها أصيد من ذكورها، وفي طبعه أنه يحب الحسن ويصغي إليه وربما كان سببا في صيده، ومما ركب فيه أن ما عجز عن التكسب منها لهرم تجتمع على فهد يصيد لها في كل يوم شبعها، وقال أرسطو: والسباع تشتهي رائحة الفهد وتسدتل بها على مكانه وتعجب به أشد العجب، فهو يتغيب عنها لذلك، وربما قرب بعضها من بعض فيطمع في نفسه، فإذا أحس السبع منه ذلك وثب عليه فأكله، وهو ألطف شما لأرايح السباع القوية الشم فإذا مر به أيل مفاجأة وثب عليه وأنشب مخالبه في مخالغه ومص دمه حتى يضعف الأيل، ويسقط فتجتمع عليه الفهود فتأكله، فإن اجتاز به أسد نهض وترك الفريسة له تقربا إليه والفهد يعتريه داء يسمى خناقة الفهود، وقد ألهم أنه إذا اعتراه ذلك يأكل العذرة فيبرأ ويقال إن الأدواء التي تعتري الكلب تصيبه، وهي الكلب والذبحة والنقرس والفالج والجرب، وهذا الداء يعرض له فيصيبه الجرب، ويقال أنه يفسد الدبة فيتولد من بينهم سبع مختلف المنظر لا يتناول الناس ولكن يصيد الكلاب ويأكلها.

فصل
وينبغي إذا صيد أن تغطى عيناه ويدخل في جواليق، ويجعل في بيت قد وضع فيه سراج، ويلازمه سائسه ليلا ونهارا، ولا يدخل عليه غيره إذا أنس به اركبه ظهر دابة، وأطعمه على يده، وأول من صاد به كليب بن وائل ويقال همام بن وبرة، وكان صاحب لهو وطرب، وأول من حملها على الخيل يزيد بن معاوية، وأكثر من اشتهر باللعب بها أبو مسلم الخراساني، وأول من استأنس الحلقة في الصيد وأولع بها كثيرا المعتضد والمواضع التي يوجد بها هذا الحيوان ما يلي: بلاد الحجاز إلى اليمن، وما يليها إلى بلاد العراق، وفيما يلي بلاد الهند إلى التبت.
الوصف والتشبيه
قال أبو إسحاق الصابي من رسالة طردية: ومعنا فهود أخطف من البروق وأرسع من السهم حين المروق، وأثقف من الليوث، أجرى من الغيوث وأمكر من الثعالب وأدب من العقارب خمص الخصور، قب البطون رقش المنون حمر الاماق حزر الأحداق ، هرت الأشداق، عرض الجباه غلب الرقاب. كاشرة عن أنياب كالحراب تلحظ الظباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسنها من أقصى نهاياتها تتبع مرابضها، وآثارها، وتشم روائحها وانشارها.
ومن رسالة طريدة لضياء الدين المعروف بابن الأثير الجزري يصف فهدا وذكر ظبيا، فأرسلنا عليه فهدا سلس الضريبة ميمون النقية منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبة كأنما ينظر من جمرة، ويسمع من صخرة، ويطأ من كل برثن على شفرة وله أهداب قد حيك من ضدين بياض وسواد، مصور على أشكال العيون فتطلعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد، وهو يبلغ المدى الأقصى في أدنى وثباته ويسبق الفريسة، قلا يقتنصها إلا عند التفاتة، وقال بعض الأعراب يصف فهدا من أبيات:
بذلك أبغي الصيد طورا وتارة ... بمخطفة الاكفال رحب الترائب
مرفقة الأذناب نمر ظهورها ... مخططة الآذان غلب الغوارب
مدنرة ورق كأن . . . عيونها ... حواجل تستذري متون الرواكب
إذا قلبتها في الحجاج حسبتها ... سني ضرم في ظلمة الليل ثاقب
مولعة فطس الأنوف عوابس ... تخال على أشداقها خط كاتب
نواصب للأذان حتى كأنها ... مداهن للأجراس من كل جانب
ذوات آشاف ركبت في أكفها ... نوافذ في صم الضمور نواشب
فوارس ما لم تلق حربا ورجله ... إذا التبست بالبيد شهب الكتائب
تضاءل حتى ما تكاد تبينها ... عيون لدى الصرات غير كواذب
حراص يفوت البرق أمكث جريها ... ضراء مدلات بطول التجرب
توسد اجياد الفرائس أذرعا ... مرملة تحكي عناق الحبائب
وقال عبد الله بن المعتز يصف فهدة:
ولا صيد إلا بوثابة ... تطير على أربع كالعذب
معلمة من نتاج الرياح ... تريك على الأرض شيئا عجب
تضم الطريد إلى نحرها ... كضم المحبة من لا يحب
إذا ما رأى عدوها خلفه ... تناجت طمائره بالعطب
لها مجلس من مكان الرديف ... كتركية قد سبتها العرب
وفعلتها سائل كحلها ... وقد حليت سبجا من ذهب

متى أطلقت من قلادتها ... وطار الغبار وجد الطلب
غدت وهي واثقة أنها ... تقوم بزاد الخميس اللجب
وقال عبد الصمد بن المعذل:
قد اغتدى والشمس في رواقها ... لم تأذن السدفة في إشراقها
وصحبتي الأمجاد في . . . أعراقها ... على عتاق الخيل من عتاقها
نمر بنات القفر من أرزاقها ... تغدو منايا الوحش في أطواقها
وفية الغدر من أخلاقها ... ترى بأيديها لدى استباقها
مثل أشا في العين في إنزلاقها ... كأنها والخزر من أحداقها
والخطط السود على اشداقها ... ترك جرى الاثمد من اماقها
نظارة تخفى على رماتها ... من ختلها الوحش ومن إشفاقها
كأنها الحيات في إطراقها ... أما رأيت الريح في انخراقها
أو لمعة البارق في ائتلافها ... تهوى هوى السيل في ارشاقها
ما أدرك الطرف سوى لحاقها ... وهصرها الأقران واعتناقها
وقال آخر يصفه:
قد أسبق العصم وغير العصم ... بجيد القلب حديد الفهم
مركب من عصب وعظم ... ما فيه وزن ذرة من لحم
تخاله بعض نجوم الرجم ... فكم دم أراقه من قرم
معصفر يشبه ماء الكرم ... وأنفع لي من شاهد لخصم
وقال بعض الكتاب يصف حيله، ودسيسه:
قد أسبق الأذان بالتغليس ... قبل غناء القس والقسوس
بذي دهاء ضاحك عبوس ... جهم كسي من صنعة القدوس
ديباجه من أحسن اللبوس ... كأنما تبتز من عروس
إبليس أو أمكر من إبليس ... طب بصيدها عفرها والعيس
لاط لطو الخامل الخسيس ... والسطو سطو القادر الرئيس
له دبيب ليس بالمحسوس ... مثل دبيب الماء في الغروس
فعل كمين الجحفل . . . الخميس ... وحش يضاهي حيلة الأنيس
حتى إذا أفضى من التأنيس ... إلى سكون النافر الشموس
وحمت الاجال للنفوس ... أبدلها من نعمة ببؤس
أسرع من عين إلى نفيس ... لاه عن الخشفان بالتيوس ولا مزيد في الحسن على قول فارس الدولة محمد بن أحمد السراج يصفه:
واهرت الشدق فيه وفي يده ... ما في الصوارم والخطية الذبل
تساهم الليل فيه والنهار معا ... فقمصاه بجلباب من المقل
والشمس مذ لقبوها بالغزالة لم ... تطلع لناظره إلا على وجل
وتبعه من قال ناسجا على منواله وحاويا على مثاله:
واهرت الشدق بادي السخط مطرح ال ... حياء جهم المحيا سيء الخلق
والشمس مذ لقبوها . . . بالغزالة أعط ... تهما الرشا حدا من ثوبها اليقق
ونقطته حياء كي يسالمها ... على المنايا نعاج الرمل بالحدق

القول في طبائع الكلب

قال المتكلمون في طبائع الحيوان الكلب لا سبع ولا بهيمة تامة حتى كأنه من الخلق المركب، لأنه لو تم له طباع السبعية ما ألف واستوحش في البراري، وجانب القفار، ولو تم له معنى البهيمية في الطبع ما أكل لحم الحيوان وكلب على الناس، وإنما جعلناه تبعا للفهد، وهذه حاله لمشاركته له في حرفة الصيد، واعتناء الناس بتربيته، وتعليمه، كما اعتنوا بالفهد في ذلك وهو نوعان أهلي وسلوقي، وكلاهما في الطبائع سواء، وفي طبائع الكلب أنه يحلم ويحتلم، وتحيض إناثه في كل سبعة أيام وعلامة ذلك ورم اثفارها والأنثى تحمل ستين يوما، ومنها ما تحمل خمس السنة، ومنها ما تحمل ربعها وما ولدته قبل الستين لا يعيش، وتضع جراها عميا، ولا تفتح عينها إلا بعد اثني عشر يوما، ويظهر لبنها بعد حملها بثلاثين يوما، والذكور تهيج قبل الإناث وهي تنزو إذا مضى عليها سنة، وربما عرض لها ذلك إذا تمت لها ثمانية أشهر وإذا وضعت الأنثى ينزى عليها بعد ستة أشهر وتحمل إلى تمام عشرين سنة ويسفدها كلب أبيض وكلب أسود، وكلب أبقع، وكلب أصفر، فتؤدي إلى كل سافد منها شبهه وشكله، وفي الكلب من الاهتداء إلى الأثر وشم الروائح لغيره ولهذا تراه أبدا يشمم ويتروح ولو كانت الأرض ذوية جرداء، وهذا من شدة الحرص والجشع، ومن جشعه أنه لا يرمي بحجر إلا رجع إليه وعض عليه لما كان لا يأكل إلا شيئا رمي به إليه صار يتوهم، لفرط شهوته أن الرامي لم يرد عقره وقتله، وإنما أراد إطعامه والإحسان إليه، والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض، وهو يأكل العذرة ويرجع في قيئه، ويشغر ببوله، وبينه وبين الضبع عداوة شديدة وذلك أنه إذا كان في مكان مرتفع ووطئت الضبع ظله في القمر رمى نفسه إليها مخذولا فاكلته، والظريف في ذلك أن الإنسان متى حمل لسان ضبع لم سنبح عليه كلب، ومتى دهن كلب بشحمها جن واختلط وفي طبعه أنه يحرس ربه ويحمي حريمه شاهدا، وغائبا، وذاكرا وغافلا، ونائما ويقضانا، وهو أيقظ الحيوان عينا في وقت حاجته إلى النوم، وإنما نومه نهارا عند استغنائهم عن حراسته، وهو في نومه أسمع من فرس، وأحذر من عقعق، وهو إذا نام كسر أجفان عينيه ولا يطبقهما وذلك من خفة نومه، وسبب خفته أن دماغه بارد باالنسبة إلى دماغ الإنسان ومن عجيب حاله أنه يكرم الجلة من الناس، وأهل الوجاهة، فلا ينبح على أحد منهم وربما حاد عن طريقه، وينبح على الأسود، والوسخ الثوب، والصغير الحال، ومن طباعه البصبصة والترضي والبشاشة، والتودد، والألف، بحيث إذا دعي بعد الضرب والطرد رجع وليس شيء عنده آثر من أن ينظر إليه صاحبه بوجه طلق، وتمكنه من ملاعبته وهو لا يلاعب كلبا ما دام ربه يلاعبه، وفي ملاعبته له يعضه العض الذي لا يؤثر ولا يؤلم، وهي الأضراس التي لو نشبها في الحجر لنشبت وقد وصف بأنه أشد الحيوان فكا وأرهفها حدا يرى العظم المدبج، فيعلم بالطبع والغريزة أنه إذا عضه رضه وإذا ابتلعه استمرأه، وفي طبعه أنه يأكل للقناعة لا للشبع، والشبعة الواحدة تؤثر في جسمه، وفي نومه، ومن عاداته إذا طرح له الطعام أكل منه نهمته، فإن فضل عنه شيء خبأه بحيث يأمن ليجده إذا احتاج إليه وإذا طرح إليه الشيء وهو شبعان احتمله حتى يحوزه لوقت ضرورة ولقد حكى بعض الكبراء أنه بالدرب الذي يسكن فيه كلبة ولدت أجراء كثيرة، فذهبوا موتا واحدا بعد واحد، وبقي معها واحد، فدخلت يوما بيت بعض جيرانه، فأخذت منه رغيفا، فأغلق بابه وعاقبها حتى ألجأها إلى طاقة في البيت على الطريق فرمت بنفسها منها فماتت، فكنت أشفق على الجرو لصغره وكيسه فأطعمه، وأسقيه لعجزه عن الاكتساب فدخل يوما الدرب كلب كبير ظن الجرو أنه أمه فبادر إليه وتعلق به، ودار حوله فرأيت الكلب قد قاء له شيئا من فيه وانصرف، فأكله الجرو مكانه، عندما حن بره بما وصلت إليه قدرته إليه، خلق لو تخلق الإنسان بمثله لم ينطق لسان يلوم على البخل وعذله والكلب يقبل التأديب والتعليم والتلقين وهو في ذلك أهدى من الفيل والدب والقرد، والغنم المكية، والببغاء والزرزور حتى أن في أجناسها من لو وضع على رأسه المسرجة، ورمى له قطعة لحم لا يلتفت إليها ما دام على حالته، فإذا أخذت المسرجة عنه وثب على اللحم فأكله وهو يعيش على الجراح التي لا يعيش عليه غيره، وتعرض له أمراض سوداوية منها الكلب، وهو جنون يعترضه وقت طلوع نجم الكلب، وقد ألهم أنه إذا

كان في بطنه دود أكل السنبل ثم يقيئه، فيرميه معه ما في بطنه من الدود ومن الأمراض الذبحة، والنقرس، والجرب، والهزال، وحدوث قروح لا تبرأ، والكلب إذا أصابه الكلب، وعض إنسانا أصاب الإنسان نباح مثله وألحقته العضة باجراء صغار يراها علقا في صورة الكلاب، والفأر المعضوض ليبول عليه، ومتى بال عليه مات، وتعرف سلامة المعضوض من عطبه أنه يرى وجهه في المرآة، فإن رأى صورته فلا بأس عليه، وإن رأى فيها صورة كلب فجزع، وحرص على الهرب فإنه وشيك الموت، وقد يعالج بأنفحة الكلاب يسقاها مع الماء فيبرأ

في فصل ما يختص به الكلب السلوقي من الطباع
سبب نتاج الكلب السلوقي على ما حكاه أصحاب الكلام في الكلبزة: أن الكلاب تسفد الذئاب في سلوقية من أرض اليمن فيتولد بينهما السلوقي، وقال آخرون الثعالب والكلب السلوقي، ويقال سلوق مدينة إلى الآن وإليها تنسب الدروع والكلاب، وله نفس متولعة بتناول ما يرسله عليه أهله، ويطلبه بالإحضار خلفه حتى يدركه فيأخذه لهم لأن حرصه على الصيد، وغضبه ليس من أجل نفسه كما يغضب الفهد لأن الجوارح تعمل لأنفسها إلا الكلاب، فإنها تعمل لأصحابها، وهي إذا كثرت عليها الآثار أو اختلطت تلتفت لذلك، وتذهب في كل وجهة، حتى تستثبت، الأثر وتتحقق جهته وذلك من حرصها على مطاوعة أربابها، واستعدادها لنكاية أعدائه، ومسارعتها إلى تحصيل غرضه الذي أسلاها بسببه، ومن أعجب الأحوال فيه أنه إذا عاين الظباء قريبة منه كانت أو بعيدة عنه، عرف المقبل من المدبر، وعرف العنز من التيس، وإذا أبصر القطيع لم يقصد غير التيس لعلمه أنه إذا عدا شوطين لم يستطع البول مع شدة الحضر ورفع القوائم معا فينتقص مدى خطاه، ويعتريه البهر فيلحقه الكلب والمعزى إذا اعتراها البول في العدو لم تمسكه وقذفت به لسعة المسلك، ولأجل ذلك لا يطلبها، ومن عجيب أمره أنه يعرف الميت من المتماوت حتى يقال: إن الروم لا تدفن ميتا حتى يعرضونه على الكلاب فتظهر من شمه إياه علامة يستدلون بها على حياته أو موته، ويقال أن هذا الحذق لا يوجد إلا في الكلب القلطي وهو صغير الجرم قصير القوائم جدا ويسمى أيضا الصيني وهو مع هذا لا يبلغ رتبة الذئب في الشم والاسترواح، وإناث الكلاب السلوقية أسرع تعلما من الذكور، والفهد بالعكس، وهذا النوع يعيش عشرين سنة على ما زعم أرسطو وربما تبلغ الإناث هذا السن، ودلائل النجابة والفراهة في الكلاب السلوقية أما في الخلقة فطول ما بين اليدين والرجلين، وقصر الظهر وصغر الرأس وطول العنق، وغضف الأذنين، وبعد ما بينهما، وسعة العينين، وبعد ما بينهما وزرقة العين ونتوء الجبهة وعرضها وقصر اليدين أما الألوان فيقال: السوداء أقل صبرا على الحر والبرد، والبيض أفره إذا كن سود العيون، وقد قال قوم أن السود أصبر على البرد وأقوى، وكذا كل أسود من الحيوان، ودلائل الفراهة في الجراء، إذا ولدت كلبة واحدا كان افره من أبويه وإن ولدت ذكرا أو أنثى كان الذكر أفره، وإن ولدت ثلاثا فيها أنثى في شبه الأم، كانت أفره الثلاثة، وإن كان في الثلاثة ذكر واحد فهو أفرهها.
الوصف والتشبيه
الأحسن في أوصاف الكلاب الأهلية على أن الناس قد نظموا في هذا كثيرا لا سيما العرب، فإنهم أهل الطعام وإكرام، وكانوا يسمون الكلب هادي الضمير وداعي الضيف، ومتهم النعم، ومشيد الذكر، بما يجلب من الأضياف بنباحه، والضمير: القريب من قولهم أضمرته البلاد أي غيبته وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حول بيوتهم، وجعلوا لها مطاول، وربطوها على العمد لتتوحش فتهدي الطلاب بنباحها، وقال ابن هرمة في هذا المعنى وقد أهدى كلبا:
أوصيك خيرا به فإن له ... سجية لا أزال أحمدها

يدل ضيفي علي في غسق ال ... ليل إذا النار نام موقدها
وله أيضاً من أبيات:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه ترحبة وهو أعجم
وقال حاتم الطائي يفتخر:
وإذا تنور طارق مستنبح ... نبحت فدلته علي كلابي
وعوين يستعجلنه ولقينه ... يرشدنه بشراشر الأذناب
قوله: مستنبح يريد أن الضيف الطارق ليلا إذا لم يهتد إلى البيوت بنار ولا كلاب، وذلك لشدة البرد نبح، فإذا سمعت الكلاب نبيحه نبحث فيقصدها حيث كانت وعابه البديع الهمذاني
يزين حين يسمن ... ولا يتبع حين يشبع
وعند الجوع يهتم بالرجوع
ومما تختص به الكلاب السلوقية من الوصف، قال أبو إسحاق الصابي من رسالة: ومعنا كلب عريق المناسب، نجيح المكاسب، حلو الشمائل نجيب المخامل حديد الناظرين اغضف الأذنين، أسيل الخدين، مخطف الجنبيبن عريض الزور متين الظهر أبي النفس ملهم الشكر لا يمس الأرض إلا تحليلا، وإيماء، ولا يطؤها إلا بإشارة وانحناء، ولبعض الأندلسيين يصفه من رسالة: فحللناه من ساجوره، وأطلقناه، فبلغنا إلى سروره، ومر يخفي شخصه غباره في سدفة سفرته تارة من النصف الطامحة العيون، والهرت اللاحقة البطون معرق في نجابته منعم مخول في فراهته يسمع منك إيماء، ويفهم عنك إيماء المشي، فلا يمس الأرض بأربعة، ويجري فلا يسبقه الريح إلى منزعه:
إذا عدا واشتد في طلابه ... يكاد أن يخرج من إهابه
وقال:
متقد كالنار في التهابه ... لا يطعن الصيد بغير نابه
أعده للحرب من جرابه ... فكل من يرمي به لمأبه
ومن المنظوم في ذلك قول ذي الرمة من أبيات يصفه بسرعة الحضر من أبيات:
كأنه كوكب في إثر عقربه ... سوم سوداء الليل مغتصب
وقال آخر يصف كلبا:
أنعت كلبا يكسر اليحمورا ... مجربا مدربا صبورا
يأنف أن يشاكل الصقورا ... منفردا بصيده مغيرا
ذا شية تحسبها حريرا ... قد حبرت نقوشها تحبيرا
إذا جرى حسبته المقدورا ... يكاد للسرعة أن يطيرا
حتفا لمن عن له أسيرا ... أعجز أن يرى له نظيرا
وقال أبو نؤاس يصف كلبا:
هجنا بكلب طالما هجنا به ... ينتسق المقود من جذابه
كأن متينه لدى انسلابه ... متنا شجاع لج في انسيابه
كأنما الاظفور في قنابه ... موس صناع رد في نصابه
تراه في الحضر أذاها هي به ... يكاد أن يخرج من أهابه
ترى سوام الوحش إذ تحوي به ... يرحن أسرى ظفره ونابه
وقال الناشئ قافيا أثره وواردا نهره:
واغضف عيشي من عذابه ... براح أن يدعي ليغتذي به
روحه ذي النشوة من شرابه ... يخط بالبراثن في ترابه
خط يد الكاتب في كتابه ... ملتقطا للخطو في انتدابه
لقط يد الماهر في حسابه ... يستأسر المعظم عن طلابه
في نأيه عنه وفي اقترابه ... تسلبه الحتفة من أسلابه
ولا يحس ما به لما به ... ينتصل الاظفور من قنابه
كما يسل السيف من قرابه ... تخاله ماجد في التهامه
مجردا بالحضر من أهابه
وقال أبو الطيب المتنبي:
فحل كلابي وثاق الاحبل ... عن أشدق مستوجر مسلسل
اقب ساط شرس شمردل ... مؤجد الفقرة رخو المفصل
له إذا أدبر لحظ المقبل ... يعدو إذا أحرز عدو السهل
إذا تلا جاء المدى وقد تلي ... يقعي جلوس البدوي المصطلي
بأربع مجدولة لم تجدل ... فتل الأيادي رابذات الأرجل
أثارها أمثالها في الجندل ... يكاد الوثب وفي التفتل
يجمع بين متنه والكلكل ... وبين أعلاه وبين الأسفل
شبيه وسمي الحضار بالولي ... كأنه مصور من جندل
موثق على رماح ذبل ... ذي ذنب أجرد غير أعزل
يخط في الأرض حساب الجمل ... كأنه من جسمه . . . بمعزل
نيل المنى وحكم نفس المرسل ... وعقلة الظبي وحتف التتفل
لا يأتلي في تركه لا يأتلي ... مقتحما على المكان الأهول
حتى إذا قلت له نلت افعل ... افترعن مذروبة كالانصل
لا تعرف العهد بصقل الصيقل ... مركبات في العذاب المنزل
كأنها من سرعة في الشمأل ... كأنها من ثقل في يذبل

كأنها من سعة في هوجل ... كأنه من علمه . . . بالمقتل
وعلم بقراط . . . فصاد الأكحل ... فصار ما للقفز للتجدل
وصار ما في جلده في المرجل ... فلم يضرنا معه فقد الأجدل
وقال آخر يصف كلباً من أرجوزة:
منسوبة كريمة العراق ... ضارية مشعلة الاحداق
تخالها في حلق الأطواق ... ضواحكا من سعة الأشداق
وقال ابن هذيل الأندلسي:
واغضف تلقى أنفه فكأنما ... يقود به نور من الصبح نير
إذا لهبته شهوة الصيد طامعاً ... رأيت عقيم الريح عنه تقصر
وقال أبو إسحاق بن خفاجة الأندلسي يصفه:
وأخطل لو تعاطى سبق ريح ... لطار من النجاح بلا جناح
يسوق الأرض يسأل عن بنيها ... فتخير أنفه عنها الرياح
أقب إذا طردت به قنيصا ... تنكب قوسه الأجل المتاح
وله:
ومورس السربال يخلع قده ... عن نجم رجم في سماء غبار
تستن في سنن الطريق وقد عفا ... قدماً فيقرأ أحرف الآثار
عف الغمور سراته فكأنه ... والنقع يحجبه هلال سرار
يفتر عن مثل النصال وإنما ... يمشي على مثل القنا الخطار
ولآخر:
ومؤدب الاساد يمسك صيده ... متوقفاً عن أكله كالصائم
صب إذا ما صاد عانق صيده ... طرب المقيم إلى لقاء القادم
ولآخر:
وما الضبي منها في حشاشة نفسه ... ولكنه كالطفل في حجر أمه
يلازمه دون اخترام كأنما ... تعلق خصم عند قاض بخصمه

القول في طبائع الذئب
قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: الذئب كلب بري متوحش إلا أنه مخالفة لغدره، وقلة محافظته، وكان الشاعر إنما عناه بقوله وقد هجا إنساناً:
هو الكلب إلا أن فيه نذالة ... وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب

ويقال أيضاً: الأسد والذئب مختلفان في الجوع، والصبر عليه لأن الأسد شديد النهم رغيب حريص شره، وهو مع ذلك يحتمل أن يبقى أياماً لا يأكل شيئاً، والذئب وإن كان أقفر منزلاً، وأقل خصباً، وأكثر كمداً وإخفاقاً فلا بد له، من شيء يلقيه في فيه، فإذا لم يجد شيئاً استعان بإدخال النسيم فيقتات، ومن عجيب أمره أن جوفه يذيب العظم المصمت ولا يذيب نوى التمر. ويقول من سر طباع الحيوان أنه لا يوجد الالتحام عند السفاد إلا في الذئب والكلب، ومتى التحم الذئب والذئبة وهجم عليهما هاجم قتلهما كيف شاء، إلا أنهما لا يكادان يوجدان كذلك أبداً لأن الذئب إذا أراد السفاد توخى موضعاً لا يطأه أنيس خوفاً على نفسه، وهو يفسد مضطجعاً على الأرض، وذكره عظم، وهو موصوف بالانفراد والوحدة وشدة التوحش وذلك يدل على غلظ طباعه، وحدتها وميلها إلى الخلط السوادي ويوصف بالقزل فإذا حث المشي فكأنه يتوجى، وإذا أراد العدو فإنما هو النقز والوثب ورفع القوائم، وفي طبعه أنه إذا خفي عليه موضع الغنم عوى ليؤذنهم بمكانه ويخبرهم بقربه، فإذا حضرت الكلاب إلى الناحية التي هو فيها زاغ عنها إلى ناحية من الغنم ليس فيها كلب يحرسها، فاختطف، والذي يخاف من الذئب السلة والخطفة والاستلاب والاختلاس، وهو لا يعود إلى فريسته بعد أن شبع منها آخر الدهر، وهو ينام بإحدى مقلتيه والأخرى يقظاء حتى تكتفي العين النائمة من النوم، فإذا اكتفت فتحها ونام بالأخرى ليحترس باليقظاء ويستريح بالنائمة، فهو أبداً يراوح بين عينيه وهو أكثر تضوراً وعواء إذا كان مرسلاً، وإذا أخذ وضرب بالعصى والسيوف حتى يقطه قطعاً أو تهشم عظامه كلها لم تسمع له صوت إلى أن يموت، وفيه من قوة حاسة الشم ما أنه يشم ويستروح من فرسخ، وأكثر ما يعرض للغنم من الصبح وإنما يتوقع فترة الكلب، ونومه، )وكلامه لأنه يظل طول ليلته حارساً متيقظاً وميز أصحاب الكلام في طبائع الحيوان بينه وبين الكلب فقالوا إن الذئب وحشي وصاحب قفار والكلب الوف، وصاحب ديار، والذئب خئون غدار، والكلب وفي مناصح، وفي تركيب الذئب، إن الذئبين متى افترسا شاة قسماها نصفين بالسوية، ومن عجيب أمره أنه إذا وطئ ورق العنصل مات من ساعته، وعداوته للغنم بحيث أنه متى جمع بين وتر عمل من أمعاء الغنم وضرب به لم يسمع لها صوت، وإذا جمع مع جلد ذئب تمعط جلد الشاة والذئب إذا كده الجوع عوى فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض فمن ولي منها وثب الباقون فأكلوه، وقال بعض الشعراء يعاتب صديقاً له أعان عليه في مصيبة نزلت به، من أبيات:
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه أحال على الدم
وإذا عرض للإنسان وخان العجز عنه عوى عواء استعانة، فتسمعه الذئاب فتقبل إلى الإنسان إقبالاً واحداً، وهم سواء في عداوته، والحرص عليه وعلى أكله، فأن أدمى الإنسان منها واحداً وثب الباقون على المدمي فمزقوه، وتركوا الإنسان، وإن كان دمدمي، وإذا طمع فيه الإنسان خافه، وإذا خافه الإنسان طمع فيه، وإذا سبقت رؤية الإنسان رؤية الذئب لم يقدر على الكلام زماناً، وإن سبقت رؤية الذئب رؤية الإنسان اعتراه مثل ذلك حتى أنه ربما ضرب بلحييه الأرض من شدة الاصطكاك، وهو لا يواجه الإنسان، وإنما يأتيه من ورائه، فإذا وجد الإنسان ما يسند ظهره إليه لم يقدر الذئب عليه، وهو يقطع العظم بلسانه، ويبريه بري السيف، ولا يسمع له صوت، ويقال إن أسنانه ممطولة في أجزاء فكيه عظماً واحداً، وكذلك الضبع.
فصل وتقول الأعراب: إن الذئب يسفد الكلبة فيسمى الولد الذي يخرج بينهما الديسم وتقول أيضاً: أن الدببة تحمل من الضباع ولذا يسمونه السمع وقد اجتمع فيه شدة الضبع وقوتها وجرأة الذئب وخفته، ويزعمون أنه كالحية لا يمرض ولا يموت حتف أنفه وأنه أسرع من الريح والطير عدواً والله أعلم.
وقال بعض الأعراب يصف السمع:
أنعت سمعاً قفزة مجرساً ... فجالسا إذا اشتهى لحم أكل
أبوه سرحان وذيخ جده ... فمن كلا لونيهما فيه مثل
وفيه من لون الضباع غرة ... وفيه من لون السراحين طحل

الوصف والتشبيه
قد أكثر الناس في وصف الذئب ونعته، والذي أتى في ذلك على الأمر الأقصى واستوفى ذكر خلائقه، واستقصى ابن عنقا الغزاري وذكر جواداً شبهه بالذئب فقال:

وأعوج من ال الصريح كأنه ... بذي الشث سيد آبه الليل جائع
بغي كسبه أطراف ليل كأنه ... وليس به ضلع من الخمص ظالع
فلما اباه الرزق من كل وجهة ... جنوب الملا وأيأسته المطامع
طوى نفسه طي الحرير كأنه ... حوى حية في ربوة فهو هاجع
فلما أضاءت متنه الشمس حكه ... باعضل في أطرافه السم ناقع
وقام فألقى مدة قدر طوله ... يديه ومطى صلبه وهو قابع
وفك لحييه فلما تعاديا ... صأى ثم أقعى والبلاد بلاقع
فهم بأمر ثم أجمع غيره ... وإن ضاق رزق مرة فهو واسع
وعارض أطراف الصبا فكأنه ... رجاع غدير هزه الريح راجع
والأبيات الشهيرة في وصفه أبيات حميد بن ثور التي يقول فيها:
ونمت كنوم الفهد عن ذي حفيظة ... أكلت طعاماً دونه وهو جائع
ترى طرفيه يعلان كلاهما ... كما اهتز الساسم المتتابع
خفيف المعي إلا مصيرا يبله ... دم الجوف سؤر من الحوض نافع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقضان هاجع
إذا نال من بهم النحيلة قوته ... على غفلة مما يرى وهو جائع
لحقه ولو كان ابنها خرجت به ... أذاهب أرواح الشتاء الزعازع
وإن خال من أرض مضيفاً رمت به ... محافظة والجانب المتواسع
وإذا بات وحشاً ليلة لم يضق بها ... ذراعاً، ولم يصبح بها وهو خاشع
إذا ما عدا يوماً رأيت عبابه ... من الطير ينتظرن الذي هو صانع
هو البعل الداني من القوم كالذي ... له حرمة وهو العدو المنازع
وقال الشريف الرضي ناسجاً على المنوال هاتين القصيدتين:
عاري الشوى والمنكبين من الطوى ... اتيح بالليل عاري الاشاجع
اغيبر مقطوع من الليل ثوبه ... أنيس بأطراف البلاد البلاقع
قليل نعاس الليل إلا غبابة ... تمر بعيني جاثم القلب جائع
إذا جن ليل طارد النوم طرفه ... ونص سرى الحاظه بالمطامع
يراوح بين المناظرين إذا التقت ... على النوم أطباق الجفون الهواجع
له خطفة حذاء من كل قلة ... كنشطة أقنى ينقض الطل واقع
ألم وقد كان الظلام نقيضاً ... يشرد فراط النجوم الطوالع
طوى نفسه وأنساب في شمله الدجى ... وكل إمرءٍ ينقاد تحت المطامع
إذا فات شيء سمعه دل أنفه ... وإن فات عينيه رأى بالمسامع
تظالع حتى حك بالأرض زوره ... وراع وقد روعته غير ظالع
إذا غالبت إحدى الفرائس حظه ... تداركها مستنجداً بالأكارع
جري يسوم النفس كل عظيمة ... ويمضي إذا لم يمض من لم يدافع
إذا حافظ الراعي على الشاء غرة ... خفي الشرى لا يتقى بالطلائع
يخادعه مستهزئاً.... بلحاظه ... خداع ابن ظلماء كثير الوقائع
ولما عوى والرمل بيني وبينه ... تيقن صحبي أنه غير راجع
تأوى والظلماء تضرب وجهه ... إلينا بأذيال الرياح الزعازع
له الويل من مستطعم عاد طعمه ... لقوم عجال في السي نوازع
قال أبو نصر بن نباتة قافيا أثر ما تقدم من قصيدة حميد بن ثور وابن عنقا ولقد أجاد كل الإجادة، وأتى بالحسنى وزيادة وهو قوله:
واطلس ما في سعيه غير أنه ... يضيق عليه الرزق والخرق واسع
يخاف أخوه حرصه وهو طاعم ... وتهرب عنه عرسه وهو جائع
علا شرف البيداء يسأل أنفه ... بياناً وقد أكدت عليه المسامع
فنمت إليه الريح إن شظية ... وبهما بأكفاف السماوة رائع
فزعزع من قطريه يدأل ظالعاً ... وما هو إلا للخديعة ظالع
على كل حال من يسار... وفاقة ... يسير بما أهدت إليه المطامع
إذا غمرة هاب الجبان حياضها ... توردها ماض على الهول طالع
سرى ما له تحت الظلام وسيلة ... إلى الحي إلا خطمه والأكارع
وأبصرها فوضى فسارع تاركاً ... مجاهرة إن الحريص مسارع
وإن سخطه فانظم يسرق شطره ... أزل كصدر الرمح بالخيل بارع

فويلمه إن كان يوم غواره ... عن المجد يحمي أو عليه يقارع وهذه الأربع قصائد إنما ذكرتها على نسق لكونها على قافية واحدة ولكونها عملت في قالب المناظرة والمماثلة، وعرضت في معرض المجاورة والمساجلة ليوازن بين قرائح شعرائها، وتثبيت الحكم فيها، ويعطي كل قريحة قسطها من أنصافه على أن للبحتري قصيدة وصف الذئب فيها تقصر عنها شيئاً، وكل نظم عمل في معناها، وتتمنى القرائح أن تأتي بمثلها فيحول العجز بينها وبين مناها، وهي طويلة جاء منها:
وليل كأن الصبخ في أخرياته ... حشاشة نصل ضم أفرنده غمد
تسربلته والذئب وسنان هاجع ... بعين ابن ليل ماله بالكرى عهد
أثير القطا الكدري عن جثماته ... وتألفني فيه الثعالب والربد
وأطلس ملئ العين يحمل زوره ... وأضلاعه من جانبيه شوى نهد
له ذنب مثل الرشاء يجره ... ومتن كمتن القوس أعوج مناد
طواه الطوى حتى استمر مريره ... فما فيه إلا العظم والروح والجلد
سما وبي من شدة الجوع ما به ... ببيداء لم تعرف بها عشية رغد
تقضقض عصلا في أسنتها الردى ... كقضقضة المقرور أرعده البرد
عوى ثم أقعى وارتجزت وهجته ... فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
واوجرته عرجاء تحسب ريشها ... على كوكب ينقض والليل مسود
فما زاد إلا جرأة... وضراوة ... وأيقنت أن الأمر منه هو الجد
واتبعتها أخرى فأظلت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد
فخر وقد أوردته منهل الردى ... على ظمأ لو أنه عذب الورد
وقمت فجمعت الحصى فاشتويته ... عليه وللرمضاء من تحته وقد
ولبعض الأعراب يصفه فقال:
فباتت وبات الذئب يعوي كأنه ... حبيب لها باليد يهوى ويعسل
أزل كعود الخبز رانة لونه ... كلون دخان النار أطلس المحل
عسوب السرى لا يملأ الليل صدره ... على الهول مقدام كسوب معبل
متى ما يفد يكن ذخره ... له مشرب في صدر يوم ومأكل
ولم ير إلا وهو في كل ليلة ... مع الكسب منه معوز الزاد مرحل
مفيد مبيد ما أفاد فما به ... إلى أحد فقر... ولا يتحول
وكل هذه القصائد عيال على قول من قال يصفه
هو الخبيث عنه فراره ... أطلس يخفي لونه غباره
في فمه شفرته وناره ... لهم بني سنجاب مر داره
والطريف من وصفه قول الآخر وهو المشهو لأبي إسحاق إبراهيم بن خفاجة من أبيات يصف ذئباً:
ولرب رواغ هنالك أنبط ... ذلق المسامع أطلس الأطمار
يجري على حذرٍ فيجمع بسطه ... تهوى فتعطف انعطاف سوار
ممتد حبل الشأو يعسل رائعاً ... فتكاً ويغلب أيدي الأقدار

فصل
ويلحق بالذئب في الذكر ابن آوى وهو عند المتكلمين في طبائع الحيوان ذئب أهلي لأنه لا يكون أبداً إلا قريباً من الناس، وعمارة الأرض وإنما سمي ابن آوى لأنه يأوي إلى عواء أبناء نوعه، ولن يعوي إلا ليلاً، وذلك أنه إذا استوحش وبقي وحده عوى فلا يسمع عواءه ابن آوى عن قريب ولا بعيد إلا أسرع إليه حتى يصير معه فيستأنس به، وهو شديد الختل لصائده، ولهذا قيل أن بعض المحترفين بالصيد يذكر أن قيمته لا تفي بالتعب عليه، وهو قوله:
إن ابن آوى لشديد المقتنص ... وهو إذا ما صيد ريح في قفص
ويقال أن صياحه يشبه صياح الصبيان وهي والضباع والثعالب تتسافد وتتلاقح
القول في طبائع الضبع
وهي سبع مهيمن لأكلها الجيفة، والميتة، يقول أصحاب الكلام في طبائع الحيوان أنها كالأرانب تصير مرة ذكراً ومرة أنثى، فيلقح في حال الأنوثة، ويلقح في حال الذكورية ولها في الليل قوة وسورة، وتوصف بالعرج وفيها يقول بعض العرب:
من الغبر لا يدري أرجل شمالها ... بها الضلع لما هرولت أم يمينها

وقال ابن أبي الأشعث: يوصف الضبع بالعرج، وليست عرجاء، وإنما يخيل ذلك للناظر وسبب ذا التخيل لدونة في مفاصلها، وزيادة الرطوبة في الجانب الأيمن على الجانب الأيسر منها، وهي مولعة بنبش القبور، وإنما ذلك لشهوتها في لحوم الناس إذا لم تجدها ظاهرة، ومن عاداتها إذا صار القتيل بالعراء، وانتفخ ذكره وقلبه، تجيء فتركبه وتقضي حاجتها منه، ثم تأكله، ومتى رأت إنساناً نائماً حفرت تحت رأسه، وأخذت بحلقه قتلته وشربت دمه، وهي فاسقة لا يمر بها حيوان من نوعها إلا علاها وتضرب العرب بها المثل في الفساد، فإنها إذا وقعت في الغنم عاثت ولم تكتف بما يكتفي الذئب فإذا اجتمع الضبع والذئب في الغنم سلمت فإن كل واحد منهما يمنع صاحبه والعرب تقول في دعائها للغنم اللهم ضبعاً وذئباً، أي اجمعهما فيها لتسلم والضبع إذا وطئت ظل الكلب في القمر وهو على سطح وقع فأكلته، وإذا دخل الرجل عليها وجارها ولم يسد خروق الموضع بنفسه أو بثوبه، ثم صار إليها من الضياء بقدر سم الخياط، وصبت إليه وقطعته وإن أخذ معه حنضلاً أمن سطوتها وتوصف بالموق والحمق، وذلك إن الصيادين لها يقفون على باب وجارها، ويقولون أطرقي أم طريق خامري أم عامر فإذا سمعت كلامهم انقبضت، فيقولون أبشري بكمر الرجال أبشري بشاة هزيل، وجواد عظلي، وهم مع ذلك يشدون يديها ورجليها وهي لا تتحرك، ولو شاءت لأجهزت عليهم فقتلهم وهذا عند من له أدنى فهم في الخرافات التي للعرب، وهي تلد من الذئب جرواً يسمى العسبار يكون منفرداً لا يألف السباع ويثب على الناس والدواب والله أعلم بالصواب.

الوصف والتشبيه
قال متمم بن نويرة يصفها:
يا لهف من عرفاء ذات فليلة ... جاءت إليّ على ثلاث تضلع
ظلت تراصدني وتنظر حولها ... ويريبها رمق وإني مطمع
وتظل تنشطني وتلحم أجريا ... وسط العرين وليس شيء يمنع
لو كان سيفي باليمين ضربتها ... عني ولم أوكل وجنبي الأضيع
القول في طبائع الخنزير

وهو صنفان: أهلي ووحشي، وكأنه مشترك بين السبعية والبهيمية فالذي فيه من السبعية الناب، وأكله الجيف، والذي فيه من البهيمية الظلف وأكله العشب، والعلف، وهذا النوع يوصف بالشبق، وكثرة السفاد حتى أن الأنثى منها يركبها الخنزير، وهي ترجع، وربما قطعت أميالاً، وهو على ظهرها ويرى أثر ستة أرجل من لا يعرف ذلك فيظن أن في الدواب ما له ستة أرجل وذكر الخنازير يطرد الذكور عن الإناث، وربما قتل واحد منهما صاحبه، وربما هلكا جميعاً وإذا كان زمان هياج الخنازير تطاطئ رؤوسها، وتحرك أذنابها، وتتغير أصواتها وتضع للخنزيرة عشرين خنوصا، وتحمل من نزوة واحدة، والخنزير ينزو إذا تمت له ثمانية أشهر، وإذا بلغت الخنزيرة خمسة عشر سنة لا تلد، ويقال أنه ليس للخنازير زمان للنزو، لأنها تنزو إذا شبعت، والخنزيرة أنسل الحيوان، والذكر أقوى الفحول على السفاد وأطولها مكثاً فيه، ويقال: إنه ليس لشيء من ذوات الأنياب ما للخنزير من القوة في نابه، حتى أنه يضرب بنابه صاحب السيف والرمح فيقطع كل ما لقي من جسده من عظم وعصب، وربما طال ناباه حتى يلتقيان فيموت عند ذلك جوعاً لأنهما يمنعانه من الأكل، وهو متى عض كلباً سقط شعر الكلب وهو وإن صار أهلياً بعد أن كان وحشياً، لا يقبل التأديب على حال حتى كأنه بهيمة في طباع ذئب، وإذا رأى الأسد جرب نفسه لمحاربته وذلك أنه يضرب الشجر بنابه، فإن قطعها حارب الأسد، وإلا هرب، وفي طبعه أنه يحذر الكمين، كما يحذر الجاموس من البيات فترى الخنازير إذا طردت وأريعت تقسم الحذر بين الشخصين شخص تتوقعه، وآخر تعاينه، ويجعل لها في سيرها حامية منها وساقه، ومنها استفادت المقاتلة حذر الكمين، وإعداد الحامية، والساقة في الحرب، وهو يطلب العذرة وليست كالجلالة، وإنما يطلب أحرها وأنتنها وأقربها عهداً بالمخرج، وهو في القرى يتعرف أوقات الصبح والفجر، وقبيل ذلك وبعده يزور الناس للغائط فيعرف من كان قائماً في بيته أنه قد أسحر، بأصواتها، ومرورها ووقع أرجلها في الغيطان، ولذلك يضرب المثل ببكوره، ويعتري ذكوره داء الحلاق، واللواط، فربما يرى الخنزير وقد ألجأه أكثر من عشرين خنزيراً إلى مضيق ثم ينزو عليه الأمثل فالأمثل حتى يبلغ آخرهم، وهذا إنما يكون عن ضعف في ذكر بعينه، أو تأنيث في طبعه، أو يكون في أعينها من الاستحسان شبيهاً بالذي يراه بعض الرجال في الغلمان، والأحداث والشبان، وهو إذا قلعت إحدى عينيه هلك عاجلاً، وتقول الأطباء: أنه متى فسد من عظام الإنسان عظم ووضع في مكانه عظم خنزير قبلته الطبيعة، ونبت عليه اللحم وفيه من الشبه به إنه ليس له جلد يسلخ إلا أنه يقطع ما تحته من اللحم، وهو يعيش من خمس عشرة سنة إلى العشرين على ما حكاه أرسطو في كتاب الحيوان.

الوصف والتشبيه
لم أجد في صفته لأحد من الشعراء شيئاً، وإنما عثرت لعطاء بن يعقوب الغزنوي في رسالة كتبها يعرض فيها بقاض: وما مثل فلان في استتابته إلا كمثل رجل رأى في المنام أنه يضاجع خنزيراً، فبكر إلى المعبر ليعبر منامه تعبيراً فقال له المعبر: يا برذعة الحمير ما غرك بالخنزير؟ ألين ملمسه أم حسن معطسه، أم شكله الشريق أم طرفه العشيق، أم لقاؤه البهيج أم قبيعة الغنج أم شعره الرجل أن ثغره الرتل.
القول في طبائع الدب

والدب مختلف الطباع يأكل ما تأكله السباع، وما ترعاه الدواب، وما يأكله الناس وفي طبعه أنه إذا كان أوان السفاد خلا كل ذكر بأثناه، والذكر يسفد أنثاه مضطجعة على الأرض وهي تضع جروها فدرة لحم غير متميز الجوارح فتهرب به من موضع إلى موضع خوفاً عليه من النمل وهي مع ذلك تلمسه حتى تنفرج أعضاؤه ويتنفس وفي ولادتها صعوبة وربما أشرفت على التلف حالة الوضع ويزعم بعض من فحص عن طباع الحيوان أنها تلده من فيها، وإنما تلده ناقص الخلق شوقاً إلى الذكر، وحرصاً على السفاد، ولشدة شهوتها تدعو الآدمي إلى وطئها، وهذه الحيوان يختفي ف الشتاء في مجاثمه، ويكون إن كان يفعل ذلك لبرد أو علة أخرى، وهو يوجد في ذلك الزمان سميناً جداً، ولذلك يكون عسر الحركة، والإناث تضع حينئذ وتقيم حتى تبلغ وقت خروج جراها، وتفعل ذلك في الشهر الثالث وهو إذا جثم في مكان لا يتحرك منه إلا بعد أن يمر عليه أربعة عشر يوماً، وبعد ذلك يتدرج في الحركة، وهو في تلك الأيام لا يأكل شيئاً، وإنما يمص يديه، ورجليه وربما صيد منها شيء، فيشق جوفه فيوجد معاؤه وليس فيه شيء من الطعم وهو يشد على الثور، فإذا هم الثور بضربه تناول قرنه ونهشه بين كتفيه حتى يقع ولا حراك به، ولما فيه من القوة يقاتل الايايل، وخنازير البر خاصة إذا فاجأها قبل أن تحس به الإنثى إذا هربت دفعت جراها بين يديها، وإذا اشتد خوفها عليها حملتها، وإذا لحقها طالبها صعدت بها الأشجار وفي هذا الحيوان من القوة والشدة، ما يقطع العود الضخم من الشجرة العادية الذي لا يقطعه الفأس، ثم يأخذه بيديه... قائماً ويشد بها على الفارس فلا يصيب شيئاً إلا هتكه، وفي طبعه فطنة عجيبة لقبول التأديب والتعليم لكنه لا يطيع معلمه إلا بعنف وضرب شديد.

القول في طبائع التفة
وتسمى عناق الأرض وهي في نحو الكلب الصغير وأحسن من الكلب وصيدها في غاية الحسن، وربما واثبت الإنسان فعقرته، ولا تطعم غير اللحوم، وتضرى على صيد الكركي، وما قاربه من الطير فتفعل فيها فعلاً حسناً، وتؤخذ صفته من أبيات صنعها الناشئ شعراً منها:
من كان للصيد كساباً فقانصه ... ذو مرةٍ في سباع البيد معدود
لكنه كفتاة الحي ... بارزة ... من خدرها مالئ للعين مودود
حلو الشمائل في أجفانه وطف ... صافي الأديم هضيم الكشح ممسود
فيه من البدر أشباه موافقه ... منها له سفع في وجهه سود
كوجه ذا وجه هذا في تدوره ... كأنه منه في الأشكال مقدود
له من الليث ناباه ومخلبه ... ومن غرير الظباء النحر والجيد
يصغي بأذنين يدني وشك سمعمها ... له الذي عييت في غولها البيد
كآستين على غضين تعطفها ... من جانبيه وفي الرأسين تحديد
كعنبر عوجته في سوالفها ... من بعد ما قوته الغادة الرود
كأنه لابس من جلده فنكا ... في لينه كبنان الكف تمهيد
حكته في لونه نمر الغطاط وفي ... لطف المكائد منه السمع والسيد
إذا رأى الصيد أخفى شخصه أربا ... وقلبه باقتناص الصيد معقود
يكاد من سدكه الأرض يخرقها ... كأنه لحثيث الذعر مزءود
ينساب كالايم هبالا لبغيته ... حتى إذا أمكنته وهو مكدود
سطت عليها به كف المنون فما ... تبغي نجا ورد الحين مورود
القول في طبائع الثعلب

وهو سبع جبان مستضعف خبث، ذو مكر، وخديعة، ولكنه لفرط الخبث والحيلة، يجري مع كبار السباع، ومن حيلته في طلب الرزق أنه يتماوت وينفخ بطنه ويرفع قوائمه، حتى يظن أنه قد مات، فإذا قرب منه حيوان وثب عليه وصاده وهذه الحيلة، لا تتم على كلب الصيد، ومنها أنه إذا دخل على برج حمام، وكان شبعاناً قتلها، ورمى بها لعلمه أن لا ينتفع بها فترمى حتى إذا جاع عاد إليها فأكلها وهو من الحيوان الذي سِلاحه سُلاحه وهو أنتن من سلاح الحباري فإذا تعرض للقنفذ ولقيه شوكه، واستدار كالكرة سلح عليه فانسدخ، فعندها يقبض على مراق بطنه، ومن طريف ما حكي عنه أن البراغيث إذا كثرت في فروته تناول صوفه بفمه ثم يدخل النهر قليلاً قليلا، والبراغيث تصعد فراراً من الماء حتى يجتمع في الصوفة التي في فمه فيلقها ويهرب، والذئب يطلب أولاد الثعلب فإذا ولد له وضع ورق العنصل على باب وجاره ليهرب الذئب، ويقال إنما يفعل ذلك إذا أحس بالصيادين، ويقال: قضيب الثعلب في خلقة الأنبوب أحد شطريه عظم في صورة المثقب، والآخر عصب ولحم وربما سفد الكلبة فولدت كلباً في خلقة السلوقي الذي لا يقدر على مثله، وفرو الثعلب أفضل الأوبار منه الأسود والأبيض الخلنجي، وادونه الأعرابي لقلة وبره وما كان منه ببلاد الترك سمي البرطاسي لكثافة وبره، وحسن لونه، وهذا قول عبد اللطيف في كتاب الحيوان الذي صنفه.

الوصف والتشبيه
قال بعض الأعراب يصفه:
جاء بصيد عجب من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب
تبرق عيناه إلى ضوء الشهب
وقال الببغاء:
وأعفر المسك تلقاه فتحسبه ... من ادكن الخز مخبوء بخيفان
كأن أذنيه في حسن ... انتصابهما ... إذا هما انتصبا للس زجان
يسري ويتبعه من خلفه ذنب ... كأنه حين يبدو ثعلب ثان
فلا يشك الذي بالبعد يبصره ... فردا بأنهما في الخلق اثنان
القول في طبائع النمس
وهذا الحيوان تسميه العرب الظربان، قال أبو عبيد في كتابه الغريب المصنف والظرباء على وزن فعلاء، وهو على قدر الهر، وفي قدر الكلب القلطي، وهو منتن الريح ظاهراً وباطناً، وقال الواصف له: لونه إلى الشبهة، طويل الخطم جداً ليس له إذنان إلا صماخان، قصير اليدين، وفيهما براثن حداد، طويل الذنب ليس لظهره فقار، ولا فيه مفصل، بل عظم واحد من مفصل الرأس إلى مفصل الذنب، وربما ظفر الناس به فيضربونه بالسيوف فلا تعمل فيه حتى تصيب طرف أنفه لأن جلده مثل قد في القوة والصلابة، ولفسوه ريح كريهة، حتى أنه يصيب الثوب فلا يذهب ريحه منه حتى يبلى، وهو يفسو في الهجمة من الإبل فتتفرق ولا تجتمع لراعيها إلا بعد جهد، والعرب تضرب به المثل في تفريق الجماعة فيقولون: فسا بينهم الظربان وهو لأهل مصر كالقنافذ لأهل سجستان في قتله الثعابين إذ لولاه لأكلتهم الثعابين، والنواطير عندهم يتخذونها إذا خافوا منها، ومن عاداته أنه إذا رأى الثعبان دنا منه ووثب عليه فإذا أخذه تضاءل في الطول حتى يبقى شبيهاً بقطعة حبل فينطوي الثعبان عليه، فإذا انطوى نفخ بطنه ثم زفر زفرةً، فينقطع الثعبان قطعاً، قال الجاحظ: وفسو الظربان أحد سلحته، لأنه يدخل على الضب في حجره، وفيه حسوله وبيضه، ويأتي أضيق موضع في الحجر فيسده ويحول دبره، فلا يزال يفسو ثلاث فسوات حتى يخر الضب سكراناً مغشياً عليه فيأكله، ثم يقيم في حجره حتى يأتي على آخر حسولة، وله جرأة على تسليق الحيطان في طلب الطير، فإن هو سقط نفخ بطنه حتى يمتلئ جلده ريحاً فلا يضره السقوط
فصل
ويشبه هذا الحيوان السمور، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه هو وإنما البقعة التي هو فيها فعلت في تغير وبره، وحكى عبد اللطيف البغدادي في كتاب الحيوان عن ابن ماسة: وإن السمور حيوان ليس في الحيوان أجرأ منه على الإنسان وهو سريع الحضر، لا يؤخذ إلا بالحيل في صيده بأن تدفن جيفة فيغتال بها، ولحمه حلو والترك يأكلونه، وجلده لا يدبغ كسائر الحيوان ويقرب منه حيوان يسمى الدلق، وهو أيضاً يفترس ويكرع الدم، وذكر ابن فارس في كتاب المجمل في اللغة أنه النمس أيضاً.

والسنجاب وهو حيوان سريع الختلة، وإذا أبصر الإنسان صعد الشجر العالي، وفيها يأوي، ومن ثمرها يأكل، وهو كثير ببلاد الصقالبة، والخزر، ومزاجه بارد رطب بالإضافة إلى مزاج السباع وبالإضافة إلى مزاج الإنسان حار رطب لسرعة حركته على حركة الإنسان.
قال أبو الفرج الببغاء:
قد بلونا الذكاء في كل ناب ... فوجدناه صنعة السنجاب
حركات تأبى على السكون وألحا ... ظ حداد كالنار في الالتهاب
خف جدا على النفوس فلو ... شاء ترامى مجاوراً للتصابي
واشتهت قربه العيون إلى أن ... خلته عندها أخا للشباب
لابس جلده إذا لاح خلنا ... ه بها في مزرة من سحاب
لو غدا كل ذي ذكاء نطوقا ... رد في ساعة الخطاب جوابي

القول في طبائع الهر
وهو ضربان وحشي وأهلي، وكل منهما له نفس غضوبة يفترس، ويأكل اللحم الحي وهو شبيه بالأسد في الصورة والأعضاء والوثب والافتراس والإحضار إلا أنه أقل حرارة من السبع، وأكثرها من سائر الحيوانات، وهو واسع الأهاب وكل حيوان مسلوخه أوسع فهو خفيف العدو، ويناسب الإنسان في أمور منها أنه يعطس ويتثاءب، ويتمطى، ويتناول الشيء بيده، ويغسل وجهه وعينيه بلعابه، وفيه أنه تحدث للأنثى قوة وشجاعة، ولهذا إذا كامنها الذكر هرب منها عند فراغه فلو لحقته قطعته، وربما رمى بنفسه من خالف، وهذه الشجاعة تكون في الذكر قبل السفاد وهي إذا هاجت آذت بصياحها أهل المكان ليلاً ونهاراً بشيء ظاهر لا يعتريها فيه فترة ولا سآمة، ولا يفعل الذكر مثل ذلك، وهي تحمل في السنة مرتين ومدة حملها خمسون يوماً، وهي تأكل أولادها، ويقال أن هذا من فرط حبها لهم ويقال إنما يعتريها ذلك من جنون يعرض لها عند الولادة أو جوع، ويضرب المثل بالهر بالتلطف عند الاستجداء والطلب وترى منه حينئذ ما يبعث المتمقت له على إيثاره وبره والميل إليه والحنو عليه، وله أصوات مختلفة عند صياحه لجراه وعند طلب ما يأكل وعند الخصام، حتى أنه يكاد يفهم عنه نفسه ما يروم من المحاورة لخصمه وعند هياجه للسفاد، وعند شربه، وفي طبعه الألف، ومعرفة الصاحب والمنزل حتى أنه ينفي إلى الأماكن البعيدة لفساد يكون منه فيعود إلى منزله بعد الأيام العديدة، وفيه من الأخلاق الحميدة أنه يراعي حق التربية والإحسان إليه ويقبل التأديب حتى أنه ربما يضرب على فعل المكروه منه فلا يعود لمثله، وربما رؤى في حانوت السمان والجزار، وبين الدجاج والحمام، ومما يخاف عليه من سائر المطاعم ولا يتعرض لها بفساد، وربما خطفها من غيره وقاتل دونها مع ما فيه من الافتراس، والاختلاس، وفي طبعه أنه إذا أطعم شيئاً أكله في مقصعه ولم يهرب، وإذا سرقه أو خطفه هرب به، فعل من سرق شيئاً من حرزه، وفيها ما يغالب الرجل على ما في يده، ويأخذ منه، ويخطفه من بين يديه ولا يخافه ولا يهابه لما فيه من الجرأة، وفي بعضها من الجرأة والشجاعة ما يقتل الحية العظيمة، والعقرب وعنده من الفطنة، وعلمه بما فيهما من السم القاتل، أنه إذا قاتلهما يضع إحدى يديه على أنفه صيانة من نفس الحية ولسع العقرب، فإنه مقتله، فإذا أكلها ترك من الحية رأسها ومن العقرب ذنبها لمكان السم فيهما، وفي ذكر السنانير ما يكون الواحد الآخر متى أراد ذلك منه غير أكراه، كما ذلك موجود في الخنازير والحمير ومن عادة الهر أن يحتاط في دفن رجيعه، وإخفاء رائحته لئلا يشمه الفأر فيهرب، وفي طبعه أنه يألف الدار لا رب الدار، فإنه ربما رحل أهله فلا يتبعهم وإن هو حمل إلى دار غير الدار التي ربي فيها لا يقيم، وربما هرب منها إلى الدار الأولى، فأما يهتدي إليها وأما يضيع ويبقى متردداً، أما وحشياً، وأما مأخوذاً وأما مقتولاً، وهو يؤثر على نفسه وذلك أن الأنثى يلقى إليها الشيء وهي جائعة فتدعو أولادها إليه وربما حملته إليهم من المكان البعيد، ولا تشاركهم فيه وفي طبعه أنه لا يأكل الحار ولا الحامض، ومتى دهن أنفه بدهن الورد مات سريعاً وجميع ما ذكرناه في طباع الأهلي، وأما الوحشي فيصيده الكلب، وغيره فيربى ويعلم الصيد فيصيد، وهو في جميع الصور، شرس الأخلاق جلده يشبه الذئب وربما سفد الثعلب الأنثى من هذا النوع فتأتي بولد لا يشبه أحدها.
فصل

ويشبه الهر من الحيوان دابة الزباد وهذه الدابة في قدر الهر وصورته وذنبه، وأذنيه، لا يغادر شيئاً منه، إلا أنه أطول خطماً وذنباً، وأكبر جثة، وله وبر إلى السواد ما هو، وربما كان أنمر، وقد يوجد في جسدها رائحة المسك ويجلب من بلاد السند واليمن، والزباد فيه شبيه بالوسخ الأسود اللزج زعر الرائحة وله زفرة يخالطها طيب كطيب المسك، وتوجد في أرفاغه وما يلي بواطن أفخاذه، وباطن ذنبه حوالي دبره فيحك من هذه المواضع بمعلقة فضة أو بدرهم رقيق الحرف وبعضهم يقول: إن الزباد في هذا الحيوان في ضروع كهيئة العيون، ومثل الأدهان الجامدة ترشح من مسام الجلد، وذكر أنه يفتح عينيه ويعصر منها، ومن عجائب ما يحكى أن بالرانج سنانير لها أجنحة كأجنحة الخفاش من آذانها إلى آذانها

الوصف والتشبيه
من رسالة لبعض الأندلسيين يصفه: هر نبيل، ينتهي من القطاط إلى أشرف قبيل له رأس كجمع الكف، وأذنان قد ماتا على صف ذواتا لطافة ودقة، وسباطة ورقة يقيمهما عند التشوف، ويضجعها عند التخوف، ومقلة كأنها مقتطعة من المجزع، وكأن ناظرها من عيون الباقلاء منتزع، قد استطال الشعر حول أشداقه، وفوق آماقه، كأبر مغروزة على العيون، وقد حددت أطرافها القيون له ناب كحد المطرد، ولسان كظهر المبرد، ونف أخنس وعنق أوقص، وخلق سوي غير منتقص، أهرت الشدقين، موشى الساعدين والساقين ململم اليدين والرجلين يرجل بهما وبره ترجيل ذوي الهمم لما تشعث من اللحى ينفض بضربه الغبار ويميط ما علق به من الأدبار، ثم يجلوه بلسانه جلاء الصقيل للحسام، والحمام للأجسام، فينقى قفاه، ويواري آذاه، ويقعي الأسد إذا جلس، ويثب وثبة الدببة إذا اختلس، له ظهر شديد وذنب مديد تارة يهزه هز السمهري المثقف وتارة يلويه لي الصولج المعقف يعب على الماء حيث يلفه ويدني منه فاه ولا يبلغه من لسانه رشاء ودلوا يعلم بها إن كان ملحاً أو حلواً، يحمي داره حماية ويحرسها حراسة الرقيب، فإن رأى فيها كلباً صار عليه البا، وصعر خده وعظم قده حتى يصير أنفه من حماه أن يطرق، وغيره على حجابه أن يخرق، وإن رأى فيه هراً وجف إليه مكفهراً ودافعه بالساعد الأسد، ونازعه منازعة الخصم الألد وأبرز برثنه لمبادرته وجوشنه لمصادرته، ثم تسلل إليه لواذا، واستحوذ عليه وشد عليه شدة، وضمه من غير مورد فينسل وبره نسالاً، وأرسل دمه إرسالاً بأنياب عضل أمضى من النصل، ومخلب كمنقار الصقر درب الأقناص، والعقر، قفر قرنه ممزق الأهاب مستبعراً في الذهاب، قد افلت من بين أظفار وأنياب ورضي من الغنيمة بالإياب هذا وهو بحاله دون جنة وتقاتله بلا سيوف ولا أسنة، وإنما جنته متنه، وشفاره أظفاره، وسنانه أسنانه، إذا سمعت منه الفأرة مغاء لم تستطع له أصغاء، وتصدعت قلوبها من الحذر، وتفرق جمعها شذر مذر تهجع العيون وهو ساهر، وتستتر الشخوص وهو ظاهر، ويرى من عينيه نيرين وضاحين تخالهما في الظلام مصباحين، يسوق الأركان ويطوف بكل مكان ويحكي في ضجعته السرار تمنياً، وقضيب الخيزران تثنياً يغط إذا نام ويتمطى إذا قام ويستقبل الرياح بشمه، ويجعل الاستدلال أكبر همه، ويمكن للفأر حيث يجد لها عبثاً أو يعلم لها لبثاً أو يسمع لها صيا، أو يلمح من شياطينها ريباً، فيلصق بالأرض، وينطوي بعضه في بعض حتى يستوي منه الطول والعرض فإذا تشوفت الفأرة من جحرها، وأشرفت بصدرها ونحرها دب إليها دبيب الصل وامتد إليها امتداد الظل ثم وثب في الحين عليها وساق الحين إليها، فأثخنها جراحاً ولم يعطها براحاً وإن كان جرداً مسناً لم يضع عليه سنا وإن كان درصا صغيراً فغر عليه فاه، وقبض مترفقاً على قفاه يزداد منه منتهياً وبه تلهياً، ثم يتلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنة والأبطال بالأسنة فإذا أوجعه عضاً، وأوعبه رضاً أجهز في الفور عليه وعمد بالأكل إليه فازدرد منه أطيب طعمه واعتقده أهنأ نعمة، ثم أظهر بالالتعاق شكره وأعمل في غير فكره فيرجع إلى حيث أثاره وتبع فيه آثاره راجياً أن يجد في رباعه ثانياً من اتباعه فيلحقه بصاحبه في الردى حتى يفني جميع العدى، وربما أنحرف عن هذه العوائد، والتقط فتات الموائد بلا غاية في الاحتماء وبروراً بالنعماء فماله على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن وقال آخر يصف هراً:
وخبعشٍ في مشيه متناهش ... خطف المؤخر كامل التصدير

مما اعر معراً اغظف ضيغم ... عن كل أعضل كالسنان هصور
متسربلاً ثوب الدجى أو عبشه ... شببت على مكتنيه بالتنمير
وقال ابن طباطبا العلوي، وقد تضارف يصف هرة:
فتنتني بظلمة وضياء ... إذ تبدت بالعاج والأبنوس
تتلفى الظلام من مقلتيها ... بشعاع يحكي شعاع الشموس
ذات دل قصيرة كلما قا ... مت تهادت طويلة في الجلوس
لم تزل تسبغ الوضوء وتنقي ... كل عضو لها من التنجيس
دأبها ساعة الطهارة دفن ... العنبر الرطب في الحنوط اليبيس
وقال أبو بكر الصنوبري من أبيات وذكر الجرذان:
زاد همي بهن أورق تركي ... السبالين أنمر الجلباب
ليث غابٍ خلقا وخُلقا فمن عاينه ... قال أنه ليث غاب
قنفذ في إزبراره وهو ذئب ... في افترار وجه في انسياب
ناصب طرفه إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب
ينقضي الظفر حين يظفر في الحر ... ب وإلا فظفره في قراب
يسحب الصيد في أقل من اللم ... ح ولو كان صيده في السحاب
غسل وجهه بإحدى يديه ... مستعين في غسله باللعاب
ويعي الصوت إذا يعي في طوى ... وهو يرنو إذا رنا من شهاب
ثم تطرق فقال:
قرطوه وقلدوه وعالو ... ه أخيراً وأولاً بالخضاب
فهو طوراً يبدو بنحر عروس ... وهو طوراً يمشي على عناب
حبذا ذاك صاحباً فهو في الصح ... ة أوفى من سائر الأحباب

الباب الثالث
في طبائع الحيوان الوحشي
ولنجعل أول ما نبدأ به في الذكر لشرفه وعظمه، وجلالته عند الملوك هو الفيل.
القول في طبائع الفيل

زعم بعض الباحثين عن طبائع الحيوان أن الفيلة مائية الطباع بالجاموسية والخنزيرية التي فيها، وبعضها يسكن الماء، وبعضها لا يسكنه، وزعم آخرون أن الفيلة ضربان فيل، وزندفيل، وهما كالبخث والعراب، والبقر والجواميس والبراذين والخيل، والفأر والجرذان والنمل والذر، وبعضهم يقول: الفيل الذكر والزند فيل الأنثى، وهذا النوع لا يتلاقح إلا في بلاده، ومعادنه ومغارس أعراقه وإن صار أهلياً، وهو إذا اغتلم أشبه الجمل في ترك الماء، والعلف حتى ينظم ايطلاه، ويتورم رأسه، ولم يكن لسواسه غير الهرب منه، وربما صار وحشياً، وجهل جهلاً شديداً، والفيل ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، واقل من ذلك قليلاً، وزمان نزوه الربيع، والأنثى تحمل سنتين وإذا حملت لا يقربها الذكر ولا يمسها وهي تفذ ولا تتئم، ولا ينزو الذكر عليها إذا وضعت إلا بعد ثلاث سنين، ولا ينزو إلا على فيلة واحدة، وله عليها غيرة شديدة، وإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها في الماء لأنها تلد قائمة إذ لا فواصل لقوائمها فتبرك، والذكر بعد ذلك يحرسها وولدها من الحيات وذلك لعداوة أصلية بينهما، ووضع ذكر الفيل شبيه بوضعه في الفرس لكنه صغير عند جنبه وهو في الفرس العتيق صغير أيضاً، وانثيا الفيل داخله ببدنه قريباً من كليته، ولذلك يسفد سريعاً كالطير، لأن كونها داخلاً وقريباً من القلب فتنضح المني بسرعة، ويقال أن الفيل يحقد سريعاً كالجمل ويحفظ الشيء الذي يكرهه على القيم عليه حتى يقابله عند تمكنه منه وربما قتله، وزعم الهند أن لسانه مقلوبة ولولا ذلك لتكلم وهو صغير، ويجعلون نابيه قرنيه يخرجان مستنبطين حتى يخرقا الحنك وعلم ذلك من تشريحه ويوجد فيها الأعقف والمستقيم، قال المسعودي: وربما بلغ الناب منها خمسين ومئة من ذلك، والفيل يحمل بهما على الجدار الوثيق البنيان فيلقيه على الأرض وقد فتح به محمود بن سبكتكين مدينة الطاق، وهي من أعظم الحصون التي ببلاد سجستان فإنه جعل نابيه تحت بابها فاقتلعه، وهو أسرع الحيوان الوحشي أنساً بالناس وسرعة الأنس دليل على حسن الطباع واعتدال الأخلاط ودماثة الأخلاق، وخرطومه من غضروف، وهو أنفه ويده التي يوصل بها الطعام إلى فيه، ويقاتل بها وبه ويصيح، وليس صياحه على مقدار جثته لأنه كصياح الصبي وينزل منه منزلة عنقه، وله فيه من القوة بحيث يقلع به الشجر من منابتها، وفي طبع الفيل، أنه إذا سمع صوت الخنزير ارتاع ونفر، واعتراه الفزع والجزع، وإذا ورد الغدران والأنهار للشرب وكان الماء صافياً، فهو أبداً يثيره ويكدره كالخيل لأنها ترى صورتها على سطح الماء فيتوهم أنه غيرها فينفر منه، وهو قليل الاحتمال للشتاء، والبرد، ويعوم ويسير منغمساً ما عدا خرطومه، لأنه منه يتنفس ولا يقدر على السباحة لثقل جثته، وفيه من الفهم أنه يقبل التأديب، ويفعل ما يأمره به سائسه من السجود للملوك وغير ذلك من الخير والشر في حالتي السلم والحرب، وفيه من الأخلاق أنه يقاتل بعضه بعضاً قتالاً شديداً، والمقهور بخضع للقاهر ويخاف من سطوته، ويقال: أنه يصاد باللهو والطرب واللعب والزينة وريح الطيب والنساء يصدنه بذلك، وربما احتيل على صيده، بأن يترقب حالة سكونه، وهدوئه وذلك أنه لا ينام إلا معتمداً على ساق شجرة إذ لا يمكنه الاضطجاع لكون قوائمه لا مفاصل لها لكنها كالأساطين المصمتة، والسواري الوثيقة، والصيادون يأتون الشجرة التي غالب أوقاته يعتمد عليها فيضعفون أصلها فإذا أتى على عادته إليها ليعتمد عليها، انكسرت فسقط، وبقي عاجزاً لا يقدر لنفسه بشيء فيصيدونه كيف شاءوا، والهند تعظم الفيل وتشرفه، لما اجتمع فيه من الخصال المحمودة من علو سمكه وعظم صورته وبديع منظره، وطول خرطومه، وسعة إذنه وطول عمره، وثقل حمله وخفة وطئه فإنه ربما مر بالإنسان فلا يشعر به لحسن خطوه واستقامته، وللهند طيب يجمعونه من جباه الفيلة ورؤوسها، فإنها إذا اغتلمت عرقت هذه الأماكن منها عرقاً كأنه المسك ويستعملونه لظهور الشبق في الرجال والنساء، ويزعمون أنه يشجع القلب ويقوي النفس ويبعثها على الإقدام، والفيل يشب إلى تمام مئة وستين سنة، ويعمر مائتي سنة وأكثر، وحكى أرسطو أن فيلاً ظهر عمره أربعمائة سنة، وحكى بعض المؤرخين أن فيلاً سجد لابرويز، ثم سجد ثم سجد للمعتضد، وبينهما الزمان الذي ذكره أرسطو

واعتبر ذلك بالوسم، وهذا الحيوان يعتريه من الأمراض وجع المفاصل لطول قيامه وثقل جثته لأنه لا يضطجع والله أعلم.

الوصف والتشبيه
قال رؤية بن العجاج يصفه من أرجوزة:
أجرد كالحصن طويل النابين ... مشرق اللحي صغير الفقمين
عليه إذنان كفضل الثوبين
وقال ابن طباطبا العلوي:
أعجب بفيلٍ آنس وحشي ... بهيمة في فطنة الإنسي
يفهم من سائسه الهندي ... غيب معاني رمزه الخفي
مثل السدلى الموثق المبني ... يطوف كالمزدجر المنهي
منزه في خلقه السوي ... عن لين مشي ركب المطي
ذي ذنب مطول ثوري ... في مثل ردف الجمل البختي
منخفض الصوت طويل العي ... يرنو بطرف منه شادي
في قبح وجه منه خنزيري ... خرطومه كجعبة التركي
كالدلو إذ يهوى إلى القرى ... يصب في مصهرج مطوي
ناباه في هولهما المخشي ... كمثل قرني ناطح طوري
إذناه في صبغهما الفضي ... كطيلساني ولدى ذمي
سائسه عليه ذو رقي ... منتصب منه على كرسي
يطيعه في أمره المأتي ... كطاعة القرقور للنوتي
وقال علي بن جريح الرومي يصفه:
واعطل عبد الناس حامل مخطم ... به حجز طوراً وطوراً به فغم
يقلب جثماناً عظيماً... موثقا ... يهد بركنيه الجبال إذا زحم
ويسطو بخرطوم يطاوع أمره ... ومشتبهات ما أصاب بها حطم
ولست ترى بأساً يقوم لبأسه ... إذا أعمل النابين في الناس أو صدم وقال عبد الكريم النهشلي يصفه:
وأضخم هندي النجار تعده ... ملوك بني ساسان وإن نابها الدهر
من الورق لا من ضربة الورق مرتعي ... أصاخ ولا من ورده الخمس العشر
يجيء كطود جائل فوق أربع ... مضبرة لمت كما لمت الصخر
له فخذان كالكثيبين لبدا ... وصدر كما أوفى من الهضبة الصدر
ووجه به أنف كروواق خمرة ... ينال به ما تدرك الأنامل العشر
وجبان لا يروي القليب صداهما ... ولو أنه بالقاع منهرت حضر
وإذن كنصف البرد تسمعه الندا ... خفياً وطرف ينفض العيب مزور
ونابان شقا لا يريد سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما نثر
له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو صوت الصقر
ولأبي بكر الأرجاني يصفه من أبيات يصف فيها مجلس ممدوحه شعراً فقال:
والفيل في ذيل السماط له ... زجل يهال له الفتى ذعرا
في موقف الحجاب يؤمر أو ... ينهي فيمضي النهي والأمرا
إذنان كالترسين تحتهما ... نابان كالرمحين إن كسرا
يعلو له فياله ظهرا ... فيظل مثل من اعتلى قصرا
القول في طبائع الكركدن
وتسميه الهند البوشان، ويسمى أيضاً الحمار الهندي وهو عدو الزبرقان والفيل، ومعادنه بلاد الهند والنوبة والبجة وهو دون الجاموس، ويقال: إنه متولد بين الفرس والفيلة، وله ضلف واحد، وقرن واحد عظيم على أنفه فلا يستطيع لثقله أن يرفع رأسه، وهذا القرن مصمت قوي الأصل حاد الرأس مرهفه يقاتل به الفيل فلا تفد معه ناباه، ويقال: إنه إذا نشر رؤي في داخله صورة بياض في سواد كصورة إنسان ودابة وسمكة، وما ذلك وأهل الصين يتخذون منه المناطق، ويغالون في ثمنه، ويقال أن حمل الأنثى من هذا النوع كأيام حمل الأنثى من الفيلة، والأنثى تأكل ولدها، ولا يسلم منها إلا القليل، والولد يخرج قوياً ثابت الأسنان والقرن قوي الحافر، وقد زعم أنه إذا كان في بطن أمه، وقارب الوضع يخرج رأسه من فرجها، ويرعى من أطراف الشجر ما يقوم به ثم يرجع به وقد أنكر الجاحظ هذا القول، وجعله ضرباً من الخرافات، ويزعم الهند أنه إذا كان في ناحية من البلاد لا يقربها حيوان أصلاً، ويكون بينها وبينه من البعد مئة فرسخ من أربع جهاته هيبة له وهرباً منه، وليس في الحيوان ذي القرن ما هو مشقوق الضلف غيره، وهو يجتر كما يجتر البقر والغنم والإبل ويأكل الحشيش، ويقال: إنه شديد العداوة للإنسان حتى أنه إذا شم رائحته أو سمع صوته جد في طلبه فإذا أدركه قتله، وإن لم ينتفع به لأنه لا يأكل اللحم.
القول في طبع الزرافة

والزرافة في كلام العرب الجماعة لأنها اجتمع فيها صفات لكثير من الحيوان وهي عنق الجمل وجلد النمر، وقرن الظبي، وأسنان البقر، ورأس الإبل زعم بعض المتكلمين في طبائع الحيوان أنها متولدة بين الحيوانات، وقال أن السبب في ذلك اجتماع الوحوش، والدواب في حمارة القيظ على شرائع المياه فتتسافد فيلقح منها ما يلقح ويمتنع منها ما يمتنع، فربما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة فيختلط مياهها فيجيء منها خلق مختلة الصور والألوان والأشكال والفرس تسمي الزرافة )اشتر كاو بلنك( وتأويل أشتر بالفارسية بعير، وكاو بقرة، وبلنك الضبع وهذا كما رأيت موافق لما ذهبت إليه العرب من كونها مركبة الخلق من حيوانات شتى، والجاحظ لا يعجبه هذا القول ويقول أنه جهل شديد لا يصدر عمن لديه تحصيل لأن الله تعالى يخلق ما يشاء على ما يشاء وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمير، وما يحقق ذلك أنه يلد مثله وقد شوهد، وهي طويلة اليدين والعنق جداً حتى تكون في مجموعها عشرة أذرع وأكثر، قصيرة الرجلين جداً، وليس لها ركب، وإنما الركب ليديها كسائر البهائم وإذا أكلت مما على الأرض تفحجت لقصر عنقها عن يديها، ومن عادتها أنها تقدم عند المشي اليد اليمنى والرجل اليسرى، بخلاف ذوات الأربع، فإنها كلها تقدم اليد اليمنى، والرجل اليمنى، وفي طبعها التآلف والتودد، والتأنس بأهلها وهي تجتر وتبعر.

الوصف والتشبيه
قال ابن حمديس يصفها:
ونوبية في الخلق فيها خلائق ... متى ما ترق العين فيها تسفل
إذا ما أسمها ألقاه في السمع ذاكر ... رأى الطرف منها ما عناه بمقول
لها فخذا قرم وأظلاف مرهب ... وناظرتا رئم وهامة أيل
كأن الخطوط البيض والصفر أشبهت ... على جسمها ترصيع عاج بصندل
ودائمة الاقعاء في في أصل خلقها ... إذا قابلت أدبارها عين مقبل
تلفت أحياناً بعين كحيلة ... وجيد على طول اللواء المضلل
وتنفض رأساً في الزمام كأنما ... تريك له هاو على السحب معتلي
وعرف رقيق الشعر تحسب نبته ... إذا الريح هزته ذوائب سنبل
وتحسبها من مشيها إن تبخترت ... تزف إلى بعل عروساً وتنجلي
فكم منشد قول امرئ القيس عندها ... " أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل "
وقال أبو علي بن رشيق يصفها وذكر ممدوحة:
وأتاك من كسب الملوك زرافة ... شتى الصفات لكونها أثناء
جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... في خلقها وتنافت الأعضاء
تحثها بين الخوافق نسبة ... بادٍ عليها الكبر والخيلاء
وتمد جيداً في الهواء يزينها ... فكأنه تحت اللواء لواء
حطت مآخرها وأشرف صدرها ... حتى الثرى لو لمت الأجزاء
وتخيرت دون الملابس حلة ... عيت بصنعة مثلها صنعاء
لوناً كلون الذبل إلا أنه ... حلى وجزع بعضه الجلاء
أو ملثما صدئت صفائح جوشن ... وجرى على حافاتهن جلاء
نعم التجافيف التي قد درعت ... من جلدها لو كان فيه وقاء
ومن أبيات للفقيه عمارة اليمني، وصف فيها داراً جاء منها في وصف تصاويرها وذكر الزرافة:
وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألويةً تؤم العسكرا
نوبية المنشأ تريك من المها ... روقا ومن بزل المهاري مشفرا
جبلت على الإقعاء من إعجابها ... فتخالها للتيه تمشي القهقري وقال أبو علي بن رشيق:
ومجنونة أبداً لم تكن ... مذللة الظهر للراكب
قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السنام بلا غارب
ملمعة مثلما... لمعت ... بحناء ومشي يد الكاعب
كأن الجواري كنفها ... تخلج من كل جانب
القول في طبائع البقر الوحشية

وهذا النوع أربعة وهي المها والأيل واليحمور والثيتل وتعد كلها من الجواري وهذا الاسم يقع على الذئب والثعلب، وابن آوى، والسمع، وبقر الوحش وحمرة، والغزلان، والأرانب، لأنها كلها تشرب الماء في الوصف، إذا ظفرت به وإذا عدمته صبرت عنه واجترأت باستنشاق النسيم إلى أن تجده، وقال ابن أبي الأشعث في كتابه الذي وضعه في طبائع الحيوان البقر والأراوي واليحامير والظباء وجميع هذا النوع ليس بأرضي خالص، ولا ينبغي أن يسمى الحيوان الهوائي الأرضي لأنه خفيف الحركة متململ العدو على الأرض لأنه حرارة الهواء ليست فيه ذاتية، ولا برودة الأرض كذلك، إلا أن برودتها غالبة لحر الهواء، لأنها فيه أكثر، ولما كان كذلك صار بينه وبين الطائر ممازجة ومناسبة ما وذلك أنه إذا أراد العدة انتصب في وقفته، وطلب مهب الريح ثم استنشقها استنشاق الطائر حال طيرانه، ثم يزج نفسه مستقبلاً للريح، وربما أخافه مخيف، وكانت الريح تجيء من جهته فيحمل نفيه على الجهة التي فيها المخيف، وأيضاً فإنه يؤثر الهواء صيفاً وشتاءً لا يستتر منه ميلاً إليه ومحبة فيه.
فأما المها فيقال أن من طباعها الشبق والشهوة، وإذا حملت الأنثى هربت من الذكر خوفاً من عبثه بها وهي حامل، والذكر لفرط شهوته يركب ذكراً آخر، وإذا ركب واحد منهما شم رائحة الماء الباقون فيثبون عليه بعد.
والبقر الوحشية أشبه شيء بالمعزى الأهلية، ولذلك تسمى نعاجاً، وقرونها صلاب جداً تمنع بها عن نفسها، وأولادها كلاب الصيد، والسباع التي تطبق بها ويقال: إن أول من طارد البقر الوحشية على الخيل ربيعة بن نزار بن معد، وأنه لما كدها لجأت منه إلى ضالة فاستترت منه بها فرقً لها ورجع عنها

الوصف والتشبيه
كاتب أندلسي يصف بقراً وحشية في رسالة طردية: عن لنا سرب نعاج يمشين رهوا كمشي العذارى، وينثنين زهواً تثني السكارى، تخلج بالكافور جلودها، وتضمخ بالمسك قوائمها وخدودها، وكأنما لبست الدمقس سربالاً واتخذت السندس سروالاً .
من كل مهضمة الحشا وحشية ... تحمي مداريها دماء جلودها
وكأنما أقلام حبر كتبت ... بمداد هينيها طروس خدودها
فأرسلنا أول الخيل على آخرها، وخليناها وإياها، فمضت مضي السهام وهوت هوى السمام، فمالت في أسرابها يميناً وشمالاً، فكأنما أهدت لآجالها آجالاً فمن متقٍ بروقه وكابٍ أتاه حتفه من فوقه.
وقال الأخطل يصف ثوراً وذكر وادياً:
فما به غير موشى أكارعه ... إذا أحس بشخص ماثل مثلا
كأن عطارة باتت تطيف به ... حتى تسربل ماء الورس وانتقلا
كأنه ساجد من نفح ديمته ... مقدس قام تحت الليل فابتهلا
يلقي التراب برد فيه وكلكله ... كما استماز رئيس المقنب الثقلا
وقال أيضاً يصفه في أبيات:
أو مقفر خاضب الإطلاق جاد له ... غيث يظاهر في ميثاء مبكار
فبات إلى جنب أرطاة تكفئه ... ريح شمالية هبت بأمطار
إذا أراد به التنغيص أرقه ... سيل يدب بهدم الترب موار
حتى إذا إنجاب عنه الليل وانكشفت ... سماؤه على أديم مصحر عار
أنسن أصوات قناص أحس بهم ... كالجن يهفون من جرم وأنمار
فأنصاع كالكوكب الدري يتبعه ... غضبان يخلط من معج وإحضار
وقال عدي بن الرقاع يصف ثورين يعدوان:
يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة نسجاها
تطوى إذا وردا مكاناً جاسياً ... وإذا السنابك أسهلت شرها
والوصف البديع لسرعة عدوه قول الطرماح يصف ثوراً:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد

وأما الأيل فإن أصحاب البحث عن طبائع الحيوان يقولون أن ذكره من عصب لا لحم فيه ولا غضروف، ولا عظم، وإن قرنه مصمت لا تجويف فيه، والأنثى تقلق لنزو الذكر قلقاً شديداً، ولهذا لا تثبت لنزوه إلا في الفرط مرة واحدة، وإذا حملت لا تضع إلا على السب، والطرق لهرب السباع من الجادة المسلوكة، وإذا وضعت أكلت الجعدة لإصلاح لبنها، وهي تحب الكينونة في القمر، وتأتي بولدها إلى أماكن الماء، وتعرفه المواضع التي ينبغي أن يهرب إليها إذا احتاج إلى الهرب، وهي صخور فيها صدوع، وتجويفات، ليس لها مدخل واحد، وتقف على ذلك المدخل وتقاتل بجهدها كل حيوان يطلب ضرر ولدها، والأيل يسمن جداً، فإذا سمن اختفى في موضع لا يعرف خوفاً أن يصاد لسمنه، وهو مولع بالحيات يطلبها في كل موضع فإذا انجحرت منه أخذ في فمه ماء ثم نفخه في الجحر فتخرج له ذنبها فيأكلها حتى ينتهي إلى رأسها فيتركه خوفاً من السم، وربما لسعته فتسيل دموعه إلى نقرتين تحت محاجر عينيه يدخل الأصبع فيهما، فتجمد تلك الدموع وتصير كالشمع يتخذ ترياقاً لسم الحيات، وهو البادزهر الحيواني، وإذا لسعته أكل السراطين فيبرأ، وكذلك يأكل التفاح الحامض إن كان زمانه، أو ورق شجره فيبرأ، ولا تنبت له القرون إلا بعد أن يمضي عليه سنتان من عمره وإذا نبت قرناه نبتا مستقيمين كالوتدين، وفي الثالثة يتشعب، ولا تزال الشعب في زيادة إلى تمام ست سنين، وحينئذ يكونان كالشجرتين على رأسه ثم بعد ذلك يلقي قرونه في كل مرة ثم تنبت، وإذا نبتا له تعرض بهما للشمس ليصلبا وإذا صارا كالشجرتين منعاه الإحضار، فلا يكاد يفلت إذا طردته الخيل وهو إذا ألقاهما انجحر حتى ينبتا لأنهما آلته وليس له سلاح غيرهما يدافع بهما عن نفسه كالترس للجبان لأنه لا ينطخ بهما إلا إذا صلحا لذلك زعم أرسطو: أن هذا النوع يصاد بالصفير والغناء، فهو ينام ما دام يسمع ذلك، والصيادون يشغلونه بالتطريب ويأتون إليه من خلفه فإذا رأوه مسترخية أذناه وثبوا عليه، وإن لم يكن فليس لهم إليه سبيل وإذا اشتد عليه العطش من أكل الحيات أتى غدير الماء، واشتمه ثم انصرف عنه يفعل ذلك أربعة أيام، ثم يشرب في اليوم الخامس، وإنما يمتنع عن شرب الماء لخوفه على نفسه من سريان السم في الجسد مع الماء.

الوصف والتشبيه
شاعر يصفه يصد عن الماء مع حاجته ويذكر محبوبته:
هجرتك لا قليً مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الظامئات الماء لما ... تيقن المنايا في الورود
تذوب نفوسها ظمأ وتخشى ... هلاكاً فهي تنظر من بعيد
وقال آخر في مثل ذلك:
وما ظامئات طال في القيظ ظمؤها ... فجاءت وفي الأحشاء غلي المراجل
فلما رأين الماء عذباً وقد أتت ... إليه رأين الموت لون المناهل
فولت ولم تشف صداها وقد طوت ... حشاها على وخز الأفاعي القواتل
بأعظم من شوقي إليك وحسرتي ... عليك ولم التذ منك بطائل
وأما اليحمور: ويسمى اليامور، فإن قرونه كقرون الأيل إلا أنها أصغر وهو يلقيها في كل سنة، وهي صامتة لا تجويف فيها، ولونه إلى الحمرة، وهو أسرع من الأيل.
وأما الثيتل: فينعت ببقر بني إسرائيل، وهو لا يعرف بالشام ولا بالعراق ولا بالحجاز، وإنما يوجد في غور بيسان، وبنواحي مصر، ولونه في لون الأصفر من البقر، ودونه بقليل، لكنه أطول وجهاً منها، وقرونه كقرون الغزلان إلا أنها أجفى، ولسرعة حضره لا يكاد يلحقه إلا الفرس الجواد.
القول في طبائع الحمار الوحشي

ويسمى العير، والفرا وهو لا ينزو إلا إذا بلغ ثلاثين شهراً، ويوصف بشدة الغيرة وهو يحمي عانته الدهر كله، ويضرب فيها كضربه لو أصاب إناثاً من غيرها ويقال أن الأنثى إذا ولدت جحشاً كدم الذكر قضيبه فالإناث تعمل الحيلة في الهرب به عنه حتى يسلم وهذا حتى لا يكون في العانة ذكر غيره، وحكى الجاحظ: أن أبا الأخضر ذكر عن فحل العانة أنه يستبهم مواضع الذرء ويجهلها، وإن الولد لم يجيء منه عن طلب، ولكن النطفة البريئة عن الاسقام انتجت. وذكر أن نزوه على الإناث من شكل نزوه على الذكر من نوعه، وإنما ذلك على قدر ما يحضره من الشبق لأنه لا يلتفت إلى دبر من قبل، ولا إلى ما يلقح مما لا يلقح، فلا هو يريد الولد، ولا يعزل ويقال: إن الحمار الوحشي يعمر مائتي سنة وأكثر، وكلما بلغ مائة سنة صارت له مبولة ثانية، وشوهد منها ما له ثلاث مباول وأربع، وهو كشكل المصير المحشو بين المبولة والمبولة، حتى كان بينهما حاجزاً مشدوداً ومعادنه بلاد النوبة وزغاوة ويوجد منها ما يكون مسنة معمدة ببياض وسواد مستطيلان فيما استطال من أعضائه، ومستديران فيما استدار بأصح قسمة، وأحسن ترتيب ومن الحمر الوحشية صنف يسمى الأخدري، وهي أطول الحمر عمراً، ويقال: أنه من نتاج الأخدر، وهو فرس لاردشير بن بابك أفلت من خيله فصار وحشياً فحمي عدة عانات فضرب فيها فجاءت أولاده منها أعظم من سائر الحمر وأحسن وخرجت أعمارها عن أعمار الخيل، وفي هذه الحكاية نظر لذوي الفكر لأنه لا يكون على نوعين مختلفين من الحيوان حيوان يشبه أحدهما، وإنما يكون ممتزجاً كالبغل بين الحمار والفرس، والسمع بين الضبع والذئب، وحكى القولين أبو علي بن رشيق في كتاب العمدة.

الوصف والتشبيه
قال الشماخ من أبيات يصف عيراً في غابة :
فواجهها قوارب فاتلأبت ... شطر ثانيله مثل القنا المتأودات
يعض على ذوات الضعن منها ... كما عض الثقاف على القناة
وهن يثرن بالمعزاء.. نقعاً ... ترى لهن . . . سرادقات
وقال عبد الكريم النهشلي يصف حماراً أخدرياً:
واضرح صلصال لا خدر ينتمي ... أمين الفصوص لم يدمث له ظهر
كأن العيون الكحل صيغت بجلده ... فنافس فيها فهي مسطورة حرز
تولع منه الجلد حتى كأنما صبا ... حاً وليلاً فيه حظهما قدر
كأن الجمارة الصلبة قدرت فجاءت ... لها وفقاً حوافره الحفر
إذا احتال واستولى به رديانه ... توالى صغير منه ترجيعه زمر
ومن رسالة كتبها أبو الفرج الببغاء يصف فيها أتانا معمدة ببياض وسواد كان صاحب اليمن أهداها لبختيار: وأما الاتان الناطقة، في كمال الصنعة، بأفصح لسان فإن الزمان لاطف مولانا أيده الله تعالى منها بأنفس مذخور، وأعجب مرئي، وأغرب موشى، وأفخر مركوب، واشرف محبوب، وأعجز موجود وأبهى مخدود، كأنما وسمها الكمال بنهايته، والحظها الفلك بعنايته، فصاغها من ليله ونهاره، وحلاها بنجومه وأقماره، ونقشها ببدائع ثاره، ورمقها بنواظر سعوده، وجعلها أحد جدوده، ذات أهاب مسير، وفراء محبر، وذنب مشجر وشوى مسور ووجه مرجح ورأس متوج، تكتنفه إذنان كأنهما زجان، سبجية الأنصاف، بلورية الأطراف جامعة شيتها بالترتيب، بين زمن الشبيبة والمشيب، فهي قيد الأبصار وأمد الأنكار ونهاية الاعتبار غني عن الحلي عطلها مزرية بالزهر حللها واحدة جنسها وعالم نفسها صنعة المنشئ الحكيم وتقدير العزيز العليم.
القول في طبائع الوعل

وهو التيس الجبلي، والأنثى تسمى أروية، وهي شاة الوحش وفي طباع هذا النوع أنه يأوي الأماكن الوعرة الخشنة، ولا يزال مجتمعاً، فإذا كان وقت الولادة تفرق، وإذا اجتمع في ضرع الأنثى لبن امتصه والذكر إذا ضعف عن النزو أكل البلوط، فتقوى شهوته، ومتى لم يجد الأنثى انتزع المني بفيه بالامتصاص، وذلك إذا جد به الشبق، وفي طبعه أنه إذا أصابه جرح طلب الخضرة على الحجارة فيمتصها ويجعلها على الجرح، فيبرأ، وإذا أحس بقناص وهو في مكانه المرتفع استلقى على ظهره ثم يزج نفسه فينحدر ويكون قرناه وهما من رأسه إلى عجزه يقيانه ما يخشى من الحجارة، ويسرعان به لملوستهما على . . .، وفي طبعه الحنو على ولده، والبر بوالديه، وأما الحنو فإنه إذا صيد شيء من سخاله تبعته أمه ورضيت بأن تكون معه في الشرك وأما البر بوالديه، فإنه يختلف إليهما بما يأكلانه، وإذا عجزا من الأكل مضغ لهما وأطعمهما، ويقال أن في قرنيه ثقبين يتنفس بهما فمتى سدا هلك سريعاً.

الوصف والتشبيه
قال الشماخ يصف محبوبة له تسمى أروى:
وما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقفه حرون
تطيف بها الرماة وتنفتهم ... بأوعال معقفة القرون
وقال الصاحب بن عباد:
وأعين كالذرى في سفلاته ... سواد وأعلى ظاهر اللون واضح
موقف أنصاف اليدين كأنه ... إذا راح يجري بالصريحة رامح
وما أطرف قول أبي الطيب المتنبي :
وأوفت الغدر من الأوعال ... مرتديات بغي الضال
نواخس الأطراف للاكفال ... يكدن ينفذن من الأطال
لها لحى سود بلا سبال ... يصلحن للإضحاك لا الإجلال
كل اثيث نيته متعال ... لم يغد بالمسك ولا الغوالي
يرضى من الأدهان بالأبوال
القول في طباع الظباء
وهي ألوان تختلف بحسب مواضعها، فصنف منها يسمى الأرام وألوانها بيض ومساكنها الرمل، وهي أشدها حضراً، وصنف يسمى العفر وألوانها حمر، وصنف منها يسمى الأدم وهي تسكن الجبال، وفي هذا النوع أسرار الطبيعة أنه ما يرى ذا روح إلا ويعلم ما يريد منه خير أو شر، وإذا فقد الماء استنشق الهواء فاعتاض به عنه، وإذا طلب لم يجهد نفسه في حضره من أول وهلة وإذا رأى طالبه قد قرب منه زاد في الحضر حتى يفوت الطالب، وهو يخضم الحنضل حتى يرى ماؤه يسيل من شدقيه، ويرد البحر فيشرب منه الماء الأجاج كما تغمس الشاة لحييها في الماء العذب لطلب النوى المنقع فيه وهو لا يدخل كناسه إلا مستديراً يستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وله نومتان في مكنسين، مكنس الضحى، ومكنس العشي، وإذا أسن الضبي ونبت لقرونه شعب نتج وإذا هزل أبيض وهو شيج النساء لا يسمح بالمشي فإذا أراد فأنما النقز والوثب، ورفع القوائم معاً كما يفعل الغراب فهو أبداً يحجل كما يحجل المقيد، وليس له حضر في الجبال، ويصاد بنار توقد له فيذهل لها لا سيما إذا أضيف إلى ذلك تحريك أجراس، فإنه ينخذل، ويرقد ويصاد بالعطش الشديد بأن يجعلوا بينه وبين الماء فينخذل، ولا يبقى به حراك البتة، وبين الظباء والحجل ألفة، ومحبة والحذاق في الصيد يصيدون بعضها ببعض، ويوصف بحدة البصر، ويسمى باليونانية اسماً معناه النظارة والبصرة
فصل

ويلحق بهذا النوع غزال المسك ولونه أسود ويشبه ما تقدم في القد، ودقة القوائم وافتراق الأظلاف، وانتصاب القرون، وانعطافها غير أن لكل واحد منها نابين خفيفين أبيضين خارجين من فيه في فكه الأسفل قائمين في وجهه كنابي الخنزير كل واحد منهما دون الفتر على هيئة ناب الفيل ويكون بالتبت وبالهند، ويقال أن الغزلان تسافر من التبت إلى اهند بعد أن يرعى من حشيش التبت وهو غير طيب فيلقى ذلك المسك بالهند فيكون رديئاً، وترعى حشيش الهند الطيب ويعقد منه مسكاً، وتأتي بلاد التبت فتلقيه فيكون جيداً، والمسك فضل دموي يجتمع من جسدها إلى سررها في وقت من السنة معروف بمنزلة المواد التي تنصب إلى الأعضاء، وهذه السرر جعلها الله تعالى معدناً للمسك فهي تثمره كل سنة بمنزلة الشجرة التي تؤتي أكلها كل حين فإذا حصل هذا الدم في السرر ورمت وعظمت فتمرض لها الظبي وتألم حتى تتكامل فإذا بلغ حكته بأظلافها وتمرغت في التراب فتسقط في تلك المفاوز والبرار فيخرج الجلابون فيأخذونه ويقال أن أهل التبت يضربون لها أوتاداً في البرية تحك بها إذا المتها السرر فتنقطع، وتسقط، فإذا سقطت عن الظبي كان في ذلك إقامته وصحته، فانتشرت حينئذ في المراعي.. وورد الماء، ومنها ما يموت لشدة ألمه.

الوصف والتشبيه
قد ينبغي أن نعلم أن هذا قليل جداً لأن الشعراء نقلوا محاسن الغزال إلى الغزل، وشرحوا بها حال من جذبه الحل وهزل، والصفة التي يصفون بها الظبي، وصفوا بها الجارية والغلام، وصرفوا الحقيقة إلى المجاز فيما أرادوه من الكلام.
قال بعضهم:
فما معزل تعطو بجيد كأنه ... عان بأيدي الصارمين صقيل
هضيم الحشى مغضوضة الطرف ... عالها بذات الأراك مرتع ومقيل
إذا نظرت من نحو أو تفرست ... دعاها أحمر المقلتين كحيل
بأحسن منها حين قالت صرمتنا ... وأنت صروم للحبال وصول
وقال ذو الرمة وذكر محبوبته:
ذكرتك إن مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تشرأب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء صرة ... شعاع الضحى في متنها يتوضح
هي الشبه أعطافاً وجيداً ومقلة ... ومية أبهى بعد منها وأملح وقال أبو الطيب المتنبي من طردية وذكر منزلاً للصيد:
ومنزل ليس لها بمنزل ... ولا لغير العاديات الهطل
بذي الخزمي ذفر القرنفل ... محلل ملحوش لم يحلل
عن لنا فيه مراعي معزل ... محين النفس بعيد الموئل
أعناه حسن الجيد عن لبس الحلي ... وعاده العري عن التفضل
كأنه مضمخ . . . . بصندل ... معترضا بمثل قرن الأيل
وقال آخر:
وحالية بالحسن والجيد عاطل ... ومكحولة العينين لم تكتحل قط
على رأسها من قرنها الجعد وفرة ... وفي خدها من صدغها شاهد سبط
تجللها من غبرة الجلد فروة ... وتجمعها من بيض أباطها مرط
وقد أدمجت بالشحم حتى كأنما ... ملأتها من فرط ما اندمجت قمط
القول في طبائع الأرنب

يقول أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: إن قضيب الذكر من هذا النوع كذكر الثعلب أحد شطريه عظم، والآخر عصب، وربما ركبت الأنثى الذكر حين السفاد لما فيها من الشبق، وتسفد وهي حبلى وهي قليلة الإدرار على ولدها ويزعمون أنه يكون شهرين ذكراً وشهرين أنثى، وكنت أستبعد هذا وأقول أنه ضرب من الخرافات حتى وقفت عند مطالعتي للكتاب الذي وضعه ابن الأثير في التاريخ، وسماه الكامل، على حكاية أوقفتني على الأعراف بين الإنكار والاعتراف، ذكر في حوادث سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وفيها اصطاد صديق لنا أرنباً فرآه وله انثيان، وذكر وفرج فلما شقوا بطنه وجدوا فيه خريقين، فإن كان ما زعموا منه أنه تارة يكون ذكراً وتارة يكون أنثى، وإلا فتكون الأرانب كالخنثى في بني آدم يكون لأحدهما فرج الرجل، وفرج الأنثى، ثم أعقب هذه الحكاية بما هو أعجب منها قال كنت بالجزيرة، ولنا جار له بنت أسمها صفية، فبقيت كذلك نحو خمسة عشر سنة فإذا قد طلع لها ذكر رجل وثبت لها لحية فكان لها فرج امرأة، وذكر رجل، والأرانب تنام مفتوحة العين، وربما جاء القناص إليها حتى يأخذها من جهة وجهها، وهي نائمة لا تبصر وسبب ذلك حجاجي عينيها لا يلتقيان فهي فاتحة لهما في النوم واليقظة، يقال: أن الأرانب إذا رأت البحر ماتت، ولذلك لا توجد في الساحل، وهذا هذيان فإن المشاهد غير ذلك، وتزعم العربان أن الجن تهرب منها لموضع حيضها قالوا: وهي تحيض كالمرأة، وتأكل اللحم وغيره وتجتر وتبعر، وفي باطن أشداقها شعر، وكذلك تحك رجليها، وليس شيء قصير اليدين أسرع منها حضراً، ولقصرهما يخف عليها الصعود والتوقل وهي تطئ الأرض على زمعاتها، وهي آخر قوائمها مغالطة للطالب حتى لا يعرف أثرها إلا أن الكلب الفاره والقانص الحاذق لا يخفى عليهما ذلك لأنها لا تفعل ذلك إلا في السهل الذي يثبت فيه الأثر، وربما مشت في الثلج فتعفى أثرها بكثرة الترداد فيه وإذا قربت من الموضع الذي تريد أن تجثم فيه، وثبت إليه وثباً.

الوصف والتشبيه
بعض الشعراء يكر روضه
وخيفاء ألقى الليث فيها ذراعه ... فسرت وسار كل ماش ومضرم
تمشي بها الدرماء تسحب قصبها ... كأن بطن حبلى ذلت أو نين متئم
وهذان البيتان من أبيات المعاني ومن رسالة لبعض الأندلسيين يصف جماعة أرانب: أفراد إخوان كأنهن أولاد غزلان، بين رواغ ينعطف إنعطاف البره ووثاب يجتمع اجتماع الكره حاك القصب إزاره، وصاغ التبر طوقه، وسواره، قد علل بالعنبر بطنه وجلل بالكافور متنه كأنما تضمخ بعبير، وتلفع في حرير ينام بعيني ساهر ويفوت بجناحي طائر، قصير اليدين طويل الساقين، هاتان في الصعود تنجده، وتانك عند الوثوب تؤيده
القول في طبائع القرد

وهذا الحيوان عند المتكلمين في الطبائع، مركب من إنسان وبهيمة، وهو تدريج الطبيعة من البهيمة إلى الإنسان وهو يحاكي الإنسان بصورته وفعاله جميعاً، وله أضراس كأضراسه، وثنايا عليا كما له، ويثني يديه ورجليه كالإنسان، وللقردة فرج مثل فرج المرأة، والذكر شبيه بذكر الكلاب وأجواف القرود شبيهة بجوف الإنسان، ولذلك يستغني المشرحون بتشريح القرد عن تشريح الإنسان، وله صدر كصدر الإنسان عريض، وظهر مثل ظهره في مقابل صدره، ومن شبهه بالإنسان في سائر حالاته بأنه يضحك، ويطرف، ويقعي، ويحكي، ويتناول الشيء بيده، وله أصابع خمسة مفصلة إلى أنامل، وأظفار، ويقبل التلقين، ويأنس للأنس الشديد، ويمشي على أربع مشيه الطبيعي، ويمشي على اثنتين حيناً يسيراً ولشفر عينيه السفلين أهداب وليس لشيء من الحيوان ذلك سواه والإنسان وإذا سقط في الماء غرق مثل الإنسان الذي لا يحسن السباحة، ويأخذ نفسه بالزواج، والغيرة على الأواج، وهما خصلتان كريمتان من مفاخر الإنسان على سائر الحيوان، وهو أيضاً يقمل وإذا قمل تفلا ويرمي وبالقمل إلى فيه ويأكله، وإذا ألح به الشبق استمنى بفيه، والأنثى تلد قروداً عديدة نحو العشرة وأكثر كما تلد الخنزيرة، وتحمل بعض أولادها كما تحمل المرأة، وقال من سبر حال هذا الحيوان أن الطائفة من القرود إذا أرادت النوم ينام الواحد في جنب الآخر حتى يكونوا سطراً واحداً، فإذا تمكن النوم منها نهض أولها من الطرف الأيمن فيمشي وراء ظهورها حتى يقعد من وراء الأقصى من الطرف الأيسر فإذا قعد صاح فنهض الذي كان يليه، وفعل فعله، يكون هذا من الطائفة الليل كله، فيبيت في أرض ويصبح في أخرى، وفيه من قبول التأديب والتعليم والإخفاء به على أحد، ولقد درب قرد ليزيد بن معاوية على ركوب وحشي وسابق به الخيل، وفيه يقول شاعر وقد سبق باتان ركبها فرساً:
من مبلغ القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان
تمسك أبا قيس بفضل عنانها ... فليس عليها إن هلكت ضمان
والعامة تقول: القرد قبيح لكنه مليح، يشيرون إلى خفة روحه وكيسه، وحكى المسعودي في كتاب المروج إن القرود من أماكن كثيرة من المعمورة عد منها وادي نخلة وهو بين الجند، وبلاد زبيد، قال: وفي هذا الوادي عمائر كثيرة، ومصبات للمياه، وبقعته بين جبلين، وفي كل جبل منها طائفة من القرود يسوقها هزر )والهزر القرد العظيم المقدم منها( قال: ولهم مجالس يجتمع فيها خلق عظيم كثير منهم فيسمع لهم حديث ومخاطبات، والإناث في ناحية الذكور، والرئيس متميز عن المرؤوس، وربما سمعهم من لا يعلم أنهم قرود فظن أنهم ناس يتحدثون وباليمن قرود كثيرة في نواحٍ متعددة منها، في ذفار من بلاد صنعاء في برار وجبال كأنها السحب، وتكون القرود بأرض النوبة، وأعلى بلاد الأحابيش وهذا الضرب من القرود حسن الصورة خفيف الروح ذو وجه مدور وذنب مستطيل سريع الفهم لما يرشد إليه، ومنها بخلجان نهر الزانج، وبحر الصين، وبلاد المهراج وفي ناحية الشمال نحو أرض بلاد الصقالبة أجام وغياض فيها ضروب من القرود منتصبة القامات مستديرة الوجوه والأغلب عليها صور الناس وأشكالهم، ولها شعور، وربما وقع في النادر منها إذا احتيل عليه فاصطيد، فيكون في نهاية الفهم والدراية، إلا أنه لا لسان له يعرفه عما في نفسه، ولكنه يفهم كلما يخاطب بالإشارة، من النواحي التي بها القرود، جبل موسى المطل على مدينة سبتة من بلاد المغرب، والقرود التي فيها قباح الوجوه جداً، عظام الجثث وجوهها وجوه الكلاب لها خطوم، وليس أذانب، وأخلاقها صعبة لا تكاد تتطلب فيها ما تعلم إلا بعد جهد.

القول في طبائع النعام

وإنما ذكرناه مع ذوات الأربع من الوحوش، وإن كان ذا جناح لأنه عند المتكلمين في طبائع الحيوان ليس بطائر، وإن كان يبيض وله جناح وريش ويعدون الخفاش طيراً وإن كان يحبل ويلد وله إذنان بارزتان وليس له ريش لوجود الطيران فيه ومراعاة لقوله: )وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بأذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني( وهم يسمون الدجاجة طيراً، وإن كانت لا تطير، والنعامة تسمى بالفارسية " اشترمرغ " وتأويل اشتر: جمل، وتأويل مرغ: طائر، فكأنهم قالوا جمل طائر، ولما وجد هذا الاسم ظن الناس أنها نتاج ما بين الإبل والطير، وبهذا أجري عليها في قولهم: قيل للظليم أحمل قال أنا طائر، قيل له: فطر قال: أنا جمل، ومما أكد عندهم القول بالتوكيد أنهم رأوا فيه من الجمل المنسم، والوظيف والعنق والكرش، والخف، والخرالة ومن الطير الريش والجناح، والمنقار، والبيض، ويشبه النعام بالإبل، تسمى الأنثى منها قلوصاً، وفي طبع النعامة أنها تحضن أربعين بيضة أو ثلاثين بيضة، ومن أعاجيبها أنه تضع بيضها طولاً حتى لو مد عليها خيط لما وجد لشيء منها خروج عن الآخر ثم يعطي كل بيضة منها نصيبها من الحضن إذ كان بدنها لا يشمل على عدد بيضها، وهي تخرج لطلب الطعم فتمر ببيض نعامة أخرى فتحضنه، وتنسى بيضها، ولعلها أن تصاد فلا ترجع إليه فهلك، ولهذا توصف بالموق والحمق، ويضرب المثل بها في ذلك، وعلى هذا ينشد قول ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شماخا
كتاركة بيضها . . . بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
ويقال: أنها تقسم بيضها أثلاثاً منه ما تحضنه، ومنه ما تجعل صفاره غذاء ومنه ما تفتحه وتتركه للهواء حتى يعفن ويتولد من عفنه دود فتغذي به فراخها إذا خرجت، وهو من الحيوان الذي يتراوح، ويعاقب الذكر الأنثى في الحضن، وهو لا يأنس بالإبل ولا بالطير مع مشاركته لهما، وكل ذي رجلين إذا انكسرت له إحداهما استعان في نهوضه وحركته بالباقية ما خلا النعامة فإنها تبقى في مكانها جاثمة حتى تهلك جوعاً، قال الشاعر واصفاً هذه الحالة:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على اختها نهضاً ولا بأستها حبوا ويقال: إن الحيوان الوحشي ما لم يعرف الإنسان لا ينفر منه إذا رآه ما خلا النعام شارد أبداً وبه يضرب المثل في الشرود، وعظامه، وإن كانت عظيمة وشديد العدو بها لا مخ فيها، ولا مجرى بها تزعم العرب أن الظليم أصلم وإن لما كان كذلك عوض عن السمع بالشم فهو يعرف بأنفه ما لا يحتاج معه إلى السمع فربما كان على بعد فشم رائحة القناص على أكثر من غلوة، والعرب تضرب به المثل في شدة حاسة الشم قال الشاعر:
فهو يشم اشتمام الهيق
ولآخر:
أشم من هيق وأهدى من جمل

وفسر بعض المعتنين بتفسير أمثال العرب قولهم )أحمق من النعامة( إن من جمقها إذا أدركها القانص أدخلت رأسها في كثيب رمل تقدر أنها قد اختفت منه، وهو قوي الصبر من الماء شديد العدو وأشد ما يكون عدواً إذا استقبل الريح، وكلما كان أشد لعصوفها كان أشد حضراً، وهو في عدوه يضع عنقه على ظهره ثم يخرق الريح، وهو يبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فيميعه بحر قانصه حتى يصير كالماء، ويبتلع الجمر حتى ينفذه إلى جوفه فيكون جوفه هو العامل في إطفائه، ولا يكون الجمر هو العامل في إحراقه، وفي ذلك أعجوبتان أحدهما التغذي بما لا يغذو، والآخر الاستمراء والهضم، وهذا غير منكر لأن السمندل وهو على ما زعم بعضهم دابة توجد ببلاد الهند، وبلاد السند دون الثعلب خلنجية اللون، حمراء العين، ذات ذنب طويل ينسج من وبرها مناديل إذا اتسخت القيت في النار المتأججة فيزول منه الزهم، ولا تحترق وببلاد الترك جرذان تسلخ جلودها، وتتخذ من وبرها مناديل إذا اتسخت غسلت بالنار بأن يلقى فيها ولا تحترق، وزعم آخرون أن السمندل طائر ببلاد الهند يبيض ويفرخ، وفيه من الخاصية أن يدخل النار ويخرج منها ولا يحترق ريشه، ويعمل جلده مناديل العمر فكما أن خاصية هذا الحيوان في ظاهره كانت خاصية النعام في باطنه، والباطن كله من الحيوان أنعم من الظاهر وقد حكى أبو عبيد البكري في كتاب المسالك والممالك لما ذكر قابس أن بعض أهل البادية دخل على أميرها بطائر على قدر الحمامة ذكر أصحابه أنهم لم يروه قبل ولا عهدوه، وكان فيه من كل لون، وهو أحمر المنقار فأمر بقص جناحيه، وأن يرسل في مصره فلما كان الليل أوقد بين يدي الأمير مشعل فلما رآه الطائر قصده وأراد الطلوع إليه، فلم يستطع النهوض فما زال يجهد نفسه حتى صعد إليه واستوى في وسطه وجعل يتفلى فيه كما يفعل الطائر في الشمس، فلما قضى وطره منه نزل، والنعام يصاد بالنار كما يصاد سائر الوحش فإنه إذا رآها دهش لها واعتراه فكر فيها فيقف وقوف حيرة فيتمكن منه الصائد حينئذ.

الوصف والتشبيه
قال بعض آل بني طالب شعراً:
قد ألبس الليل حتى ينثني خلقاً ... واكب الهول بالغر الغرانيق
وانتحي لنعام الدو سهلبة ... كأنها بعض أحجار المجانيق
تسدى الرياح بها ثوباً وتلحمه ... كما تلبس من نسج الخداريق
كأنما ريشها والريح . . . تغرقه ... أسمال راهبة شيبت بتشقيق كأنها حين هزت رأسها فرقاً سود الرجال تعادي بالمزاريق
كأن أعناقها وهنا إذا خفقت ... بها البلاقع أدقال الزواريق
فما استلذ بلحظ العين ناظرها ... حتى تغصص أعلاهن بالريق
وقال ذو الرمة من قصيدته المذهبة وذكر ناقة:
أذاك أم حاصب بالشيء مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب
شخت الجزآرة مثل البيت سائره ... من المسوح جذب شوقب خشب
كأن رجليه مسما كان من عشر ... صقبان لم يتقشر عنهما النجب
هجنع راجع في سوداء مخمله ... من القضائف أعلى ثوبه الهدب
تبرى له صلعة خرجاء خاصعة ... فالخرق دون بنات البيض منتهب
كأنها دلو بئر جد ماتحها ... حتى إذا ما رآها خانه الكرب
لا يدخران من الإيغال باقية ... حتى تكاد تفر عنهما الأهب
فكل ما هبطا في شاؤ شوطهما ... من الأماكن مفعول به العجب
لا يأمنان سباع الجو أو برداً ... إن أظلما دون أطفال لهم لجب
جاءت من البيض زعر الألباس لها ... إلا الدهاس وأم برة وأب
كأنما فلقت عنها ببلقعة ... جماجم يبس أو حنظل خرب
حتى يفيض عن عوج معطفه ... كأنها شامل أبشارها الجرب
أشداقها كصدوع النبع في قلل ... مثل الدحاريج لم ينبت لها الزغب
كأن أعناقها كرات سائغة ... طارت لفائقه أو هيشر سلب
الباب الرابع
في ذكر الحيوان الأهلي

ومجموعه يسميه ابن أبي الأشعث: الحي المملوك الذي يدبره القعل والطبيعة معاً، وهو ينقسم إلى ما يؤكل فقط، وإلى ما يركب فقط، وإلى ما يركب ويؤكل معاً، ومن أجل هذه المنافع ملك، ولتدبير العقل له قرب مزاجه من مزاج الإنسان وإنما الفرق بينهما أن العقل يدبر الإنسان من ذاته ومن خارج ذاته ونجعل بدء قولنا في الحيوان المركوب أهم ما تقدم الكلام فيه.

القول في طبائع الفرس
وإنما بدأنا به لأنه قريب من الاعتدال الخالص، وأحسن ذوات الأربع صورة وأفضل من سائرها، وأشببها بالإنسان لما يوجد فيه من الكرم، وشرف النفس وعلو الهمة، وتزعم العرب: أنه كان وحشياً، وأول من ذلل صعبه وركبه إسماعيل - عليه السلام - وهو جنسان: عتيق وهو المسمى فرساً، وهجين وهو المسمى برذوناً، والفرق بينهما أن عظم البرذون أغلظ من عظم الفرس وأمتن وعظم الفرس أصلب وأثقل من عظم البرذون، والبرذون أحمل من الفرس، والفرس أسرع من البرذون، والعتيق بمنزلة الغزال، والبرذون بمنزلة الشاة ولكل واحد منهما نفس تليق بفعله وآلات مواتية له، وفي طبع الفرس الزهور والخيلاء والعجب والسرور بنفسه، والمحبة لصاحبه، ومن أخلاقه الدالة على كرمه، وشرف نفسه، ومن شرفها أنه لا يأكل بقية من علف غيره، وعلو همته، كما حكى المؤرخون أن أشقر مروان كان سائسه لا يدخل عليه إلا بأذن، وهو أنه يحرك له المخلاة فإن حمحم دخل، وإن دخل ولم يحمحم شد عليه، وناهيك لهذا الخلق في علو الهمة، والأنثى من الخيل ذات شبق شديد لشدة شبقها تطيع الفحل من غير نوعها، ويقال: أنه متى اشتد شبقها، وقص من عرفها سكن عنها، والذكر يشتد به الشبق ويزسد حتى يؤثر أن يؤتى لفرط شهوته وقصر آلته عن الوفاء بتسكين ما يجد، وربما اقتتل الفحلان بسبب الأنثى، حتى تكون لمن يغلب منهما، ويقال أن الإناث تمتلئ في أوان السفاد ريحاً، وإذا أصابتها ذه الآفة يركض بها ركضاً متتابعاً، ولا يؤخذ بها لا إلى الغرب، ولا إلى الشرق، بل إلى الشمال والجنوب حتى يخرج من أرحامها، كما يخرج عند ولادتها، وهي في زمان السفاد تطاطئ رؤوسها وتحرك أذنابها، ويسيل من قبلها شيء شبيه بالمني غير أنه رقيق، وإذا تودقت الرمكة، وأفرطت وكان بها هزال من ضعف أو علة، ولم تمكن أن ينزى عليها لتلك العلة أنزى عليها بغل لأنه لا يلقحها وهو بالغ أقصى شقائها وغاية شهوتها بالذي معه من الطول والغلظ فيسكن ذلك عنها، والذكر يكون مع ثلاث إناث أو أكثر، وإذا دنى ذكر آخر من الأنثى التي اختارها قاتله وطرده، والطمث يعرض للإناث أقل من طمث النساء، والذي ينزو إذا تمت له سنتان، وكذلك الإناث، والإناث تحمل أحد عشر شهراً وتضع في الثاني عشر وهي تضع ولداً واحداً، وربما وضعت في النادر اثنين، والذكر ينزو إلى تمام أربعين سنة، وربما عمر إلى التسعين، والأنثى تأنف من نزو الحمار عليها فإذا أريد ذلك منها أخذت بعرفها فتذل وتسكن، وكذلك الفحل يأنف من أن ينزو على أخته أو على أمه ، وقد حكي: أنه أريد أن يحمل على رمكة ولد لها، يريدون بذلك العتق فأنف فسترت بثوب فنزى عليها فلما رفع الثوب ورآها مر بحضر حتى رمى نفسه في بعض الأودية فهلك، والخيل قد ترى الأحلام، وتحتلم كبني آدم، وذلك لفرط الشهو فيها، ومتى خلت الأنثى أو هلكت، وكان لها فلو أرضعته الإناث وربته، وإذا لم يكن فيها لبن يرضع عطفت عليه العواقر وتعاهدته، ولكنه يهلك إذ ليس فيها لبن، وربما ضل الفلو عن أمه فرضع من غيرها، فإذا فعل ذلك ماتت أمه، ويعتري الفرس داء شبيه بالكلب، وعلامته استرخاء في أذنيه إلى ناحية عرفه، وامتناعه من العلف وليس لهذا الداء علاج إلا الكسن، وفي طبع الفرس أنه لا يشرب الماء إلا كدراً حتى أنه يرد الماء صاف فيضربه بيده حتى يكدره، ويبين عكره، وربما ورد الماء الصافي وهو عطشان، ويرى فيه خيالاً له ولغيره فيحاماه ويأباه، وذلك لفزعه مما يراه، يوصف بحدة البصر حتى أن بعض المغالين فيه يقولون: لو اجري بالفرس في يوم ضباب من شوط بعيد، واعترضت بين يديه شعره، لوقف عندها ولم يتعد حدها، وفي، وفي طبعه أنه إذا وطئ على أثر الذئب خدرت قوائمه حتى لا يكاد يتحرك، وخرج الدخان من جلده، وإذا وطئته الأنثى وهي حامل أزلقت.
فصل

والعلامات الجامعة للنجابة في الفرس ما ذكره أيوب بن القربة وقد سأله الحجاج عن صفة الجواد من الخيل فقال: القصر الثلاث الصافي الثلاث، الطويل الثلاث الرحب الثلاث، فقال: صفهن، فقال: أما الثلاث الصافية، فالأديم، والعينان والحافر، وأما الثلاث القصار، فالعسب، والساق، والظهر، وأما الثلاث الطوال فالأنف، والعنق، والذراع، وأما الثلاث الرحبة فالجوف والمنخر والجبهة، وقد جمع بعض الشعراء هذه الأوصاف فيقوله:
وقد اغتدي قبل ضوء الصباح ... وورد القطا في الغطاط الحثاث
بصافي الثلاث عريض الثلاث ... قصير الثلاث طويل الثلاث
وأهدى عمرو بن العاص ثلاثين فرسا من خيل مصر، فعرضت عليه وعنده عتبة بن سنان بن يزيد الحارثي، فقال له: معاوية كيف ترى هذا يا أبا سفيان فإن عمرا أطنب في وصفها، فقال: أراها يا أمير المؤمنين كما وصفت إنها لسامية العيون لاحقة البطون مصغية الآذان قراء الأسنان ضخام الركبات مشرفات الحجبات رحاب المناخر صلاب الحوافر، وقعها نحليل، ورفعها تعليل، فهي إن طلبت سبقت، وإن طلبت لحقت قال معاوية: اصرفها إلى دارك فإن بنا عنها غنى وبفتيانك إليها حاجة، وهذه الخلال قلما توجد في جواد، ولو بذل فيه سواد العين، وسويداء القلب.
وقد قال أبو الطيب المتنبي مؤيدا لما قلت:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في غبن من لا يجرب
وإذا لم يشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
ووصف أعرابي فرسا أجرى في حلبة فقال: لما أرسلت الخيل جاءوا بشيطان في اشطان، فارسوله، فلمع البرق واستهل الودق فكان أقرب الخيل إليه نقع عينه من بعد عليه.
ووصف محمد بن الحسين بن الحروف فرسا فقال: هو حسن القميص جيد الفصوص وثيق القصب نقي العصب يبصر بأذنيه ويتبع ويتبوع، بيديه، ويدخل برجليه، وكتب عبد الله بن طاهر مع فرس أهداه إلى المأمون، وقد بعث إلى أمير المؤمنين فرسا يلحق الأرانب في الصعداء، ويجاوز الظباء في الاستواء ويسبق في الحدود جري الماء إن عطف جار وإن أرسل طار وإن حبس صفن، وإن استوقف قطن، وإن رعى أبن فهو كما قال تأبط شرا.
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدة المتدارك
ووصف آخر فرسا، فقال: وإذا هبط قعى كأنه محلول من قول أبي بكر بن دريد يصف فرسا:
إذا جرى لم يعلق الطرف به ... ولم يجعل لونه ولم يحط
مثل دعاء مستجاب إن علا ... أو كقضاء نازل إذا هبط ووصف آخر فرسا، فقال: أسيل الخد حسن القدر لقد سبق الطرف ويستغرق الوصف وقال محمد بن عبد الملك لصديق له ابلغ لي برذونا، وثيق اليدين سالم الأذنين ذكي العينين، يأنف من تحريك الرجلين، وساير شبيب بن شيبة علي بن هشام فاستبطأه فقال له: أنت على جواد إن تركته سار وإن ضربته طار وأنا على معرف إن تركته وقف وإن شربته قطف وقال بعض الشعراء يصف فرسا سبق حلبة فقال:
جاء كلمع البرق جاش ناظره ... يرسب أولاه ويطفو آخره
فما يمس الأرض منه حافره
وقال أبو عبادة البحتري:
كالهيل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل
جد لأن ينقض عذرة في غرة ... يقف تسيل حجولها في جندل
صافي الأديم كنا عنيت له ... لصفاء نقبته مدارس صيقل
هزج الصهيل في نفحاته ... فبرات معبد في الثقيل الأول
وقال أبو الفرج الببغاء:
إن لاح قلت أدمية أم هيكل؟ ... أو عن قلت أسابح أم جدال؟
تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمل
فكأنه في اللطف منهم ثاقب ... وكأنه في الحسن حظ مقبل
وقال محمد بن هاني الأندلسي:
عرفت بساعة سبقها لأنها ... علقت بها الرهان عيون
واجل علم البرق فيها إنها ... مرت بجانحيته وهي ظنون
ولآخر:
منع القوائم أن تمس بها الثرى ... فكأنه في جريه متعلق
وكأن أربعة تراهن طرفه ... فيكاد يسبقه إلى ما يرمق
وقال عبد الجبار بن محمد بن حمد يس الصقلي:
شطر أولومجرر في الأرض ذيل عسيبه ... حمل الزبرجد منه جسم عقيق
يجري فلمع البرق في آثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق
ويكاد يخرج سرعة من ظله ... لو كان يرغب في قران صديق وقال أبو الفتح كشاجم:

ماء تدفق طاعة وسلاسة ... فإذا استدر الحضر فيه فنار
وإذا عطفت به على ناورده ... لتديره فكأنه بركار
قصرت قلادة نحره وعذاره ... والرسغ وهي من العتيق فصار
يرد الضماضح غير ثان سنبكا ... ويرود طرفك خلفه فيحار
لو لم تكن للخيل نسبة خلقه ... حاكته من أشكالها الأطيار
وقال أبو الفضل المكيالي:
خير ما استظرف الفوارس طرف ... كل طرف بحسنه مبهوت
هو فوق الجبال وعلى وفي السه ... ل نعام وفي المعابر حوت ولآخر:
فوق طرف كالطرف في سرعة ال ... شد كالقلب قلبه في الذكاء
ما تراه العيون لا خيالا ... شطر ثانيوهو مثل الخيال في انطواء
وقال أبو بكر الصنوبري:
طرف نأت سماؤه عن أرضه ... وما نأى كاهله عن الكفل
ذو أربع من أربع من القبو ... ل والدبور والجنوب والشمل
وهو إذا أعلمها ألقى لها ... فوق الذي تطلبه من العمل
كالبرق إن أومض أو كالرعد إن ... أجلب أو صوب الحيا إذا احتفل
وقال أبو الطيب المتنبي، ناهيك به وصفا للخيل والحرب:
يعلم وجه كل سابحة ... أربعها قبل طرفها تصل
إن أدبرت لا قبيل لها ... أو أقبلت قلت ما لها كفل
وقال أيضاً:
وجردا مددنا آذانها القنا ... فبتن خفافا يتبعن العواليا
تماشى بأيد كلما وافت الصفا ... نقشن به صدر البزاة حوافيا
وتنظر من سود صوادق في الدجى ... يرين بعيدان الشواخص كما هيا
وتنصت للجرس الخفي سوامعا ... يخلف مناجات الضمير تناديا
تجاذب فرسان الصباح أعنة ... كأن على الأعناق منها أفاعيا

طرائف في ذم الخيل بالهزل والعجز عن الحركة
كتب بعضهم إلى صديق له:
ما فعلت حجرك تلك التي ... أفضل من فارسها الراجل
عهدي بها تبكي وتشكو الضنا ... لما احتشاه البدن الناحل
وهي تغنيني غناء ضبة ... غايتها وجدان ما تأكل
يا رب لا أقوى على كل ذا ... موت وإلا فرج . . . عاجل
ولآخر:
يا نصر حجرك أبلى الجوع جدتها ... وأصبحت شبحا تشكو تجافيكا
إذا رأت تبنة قالت مجاهرة ... يا تبن لي حسة ما تنقضي فيكا
ترجوه طورا وتبكي منه آيسة ... حتى إذا عرضت باتت تغنيكا
هذي فدتك حالي قد علمت بها ... فكم يكون الجفا أفديك أفديكا
وقال آخر:
أعطيتني شهبا ملهوبة ... تذكر نمرود بن كنعان
سفينة الحشر إلى عدوها ... أسبق من أشقر مروان
كأنني منها على زورق ... بلا مجاذيف وسكان
فانظر إلى حجري ترى شهرة ... أخبارها جامع سفيان
وقال آخر:
حلمتني فوق معرف زمن ... ليس الذي رحله بنفاع
جلد على أعظم . . . مخلخلة ... فليس يمشي إلا بدفاع
كأنني إذا علوت صهوته ... ركبت منه سرير فقاع
وأنشدت لزهير بن محمد الصعيدي:
وفرس على المسا ... وي كلها محتوية
فما مساوئها لمن ... عددها مستوية
يا قبحا . . . مقبلة ... وقبحها مولية
راكبها في خجلة ... كأنه في معصية
مستقبحا ركوبها ... مثل ركوب المعصية
وللقاضي برهان الدين ابن الفقيه نصر:
لصاحب الأحباش برذونة ... بعيدة العهد من القرط
إذا رأت خيلا على مربط ... تقول سبحانك يا معطي
تمشي إلى خلف إذا ما مشت ... كأنها تكتب بالقبطي
القول في طبائع البغل

وقال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: البغل مركب من الفرس والحمار ومركب من فساد بينهما ولما كان ممتزجا بينهما صار له صلابة الحمار، وعظم آلات الخيل، وكذلك شجيحة، مولد بين نهيق الحمار، وصهيل الفرس، وقال الجاحظ: البغل يخرج بين حيوانين يلدان حيوانين مثلهما و يعيش نتاجهما، ويبقى بقائهما وهو لا يعيش له ولد وليس بعقيم، ولا يبقى للبغلة ولد، وليست بعاقر، وخرج أطول عمرا من أبويه وأصبر على الأفعال من طرفيه كابن المذكرة من النساء والمؤنث من الرجال فإنه يكون نتاجهما أخبث نتاجا من البغل، وافسد أعراقا من السمع، وأكثر عيوبا من العسبار وشر الطبائع ما تجاذبته الأعراق المتضادة والأخلاق المتعادية، والعناصر المتباعدةويقال: إن أول من أنتجها قارون وقيل أفريدون أحد ملوك الفرس.
وقال الشاعر في كون البغل مركبا جامعا لخلقي الفرس والحمار:
البغل فيه لمن يمارسه ... صبر الحمار وقوة الفرس
وقال ابن رشيق في ذمه لميله في الطبائع إلى أمه دون أبيه:
أوصيكم بالبغل شرا فإنه ... من العير في سوء الطباع قريب
وكيف يجني البغل يوما بحالة ... يسرو فيه للحمار نصيب
والبغل يوصف برداءة الخلق والتلون لأجل التركيب، وينشد على طريق المصل:
خلق جديد كلوم ... مثل أخلاق البغال
ومن أخلاق البغال الألف لكل دابة، ويذكر بالهداية في طل طريق يسلكه مرة واحدة، ويقول أصحاب الكلام في الطبائع أن ابوال إناث البغال تنقية لأجسادها كما تنقي النساء بدم الطمث.
مخايل النجابة في هذا النوع: قال بعضهم: )إذا اشتريت بغلة فاشترها طويلة العنق تجده في نجابتها مشرقة الهادي تجده في طاعتها مجعدة الجوف تجده في صبرها(، والأحسن في مدحها قول عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة لحارث بن عبد المطلب جوابا لصفوان بن عمرو بن الاهتم، وقد أنكر عليه ركوب البغل: إنه يطأطئ عن خيلاء الخيل، وارتفع عن ذلة العير، وخير الأمور أوسطها، ولقي أحمد بن زيد، محمد بن الحسن على بغل، فقال أجرى الله تعالى البغال فإن أخلاقها ذميمة وأفعالها لئيمة، وخزيها دائم وسبقها قائم، فقال له محمد: هي مع ذلك مراكب الملوك في أسفارها، وقعد الصعاليك في قضاء وإطارها مع احتمالها للأثقال، وصبرها على طول الأبغال والإناث منها أحمد أثرا، ولذلك يقال فيه نظما.
عليك بالبغلة دون البغل ... وإنها جامعة للشمل
مركب قاض وغمام عدل ... وعالم وسيد كهل
يصلح في الوحل وغير الوحل
وقال آخر:
عزمت على ذم البعير موفقا ... وإن ليس في المركب أجمع من بغل
وليس له بذخ الخيول وكبرها ... ولا ذلة العير الضعيف عن الرحل
وفي البغل من كل الأمور موافق ... ومركب قاض أو شيوخ ذوي الفضل
وساير عبد الحميد الكاتب، مروان بن الجعدي على بغلة، فقالت له: طالت صحبة هذه الدابة لك فقال من بركة الدابة طول صحبتها، فقال: صفها فقال: همتها أمامها وسوطها أمامها، وما ضربت قط إلا ظلما.

الوصف والتشبيه
من رسالة لبعض الكتاب: قد اخترت لسيدي بغلة وثيقة الخلق لطيفة الخرط رشيقة القد موصوفة اليد ميمونة الطير مشرفة العنق كريمة النجار حمدة الآثار.
إن أدبرت قلت لا قبل لها ... وأن أقبلت ما لها كفل
لم يطر العسيب بقوائهما، ولم يعلق الذم محاسنها قد جمعت إلى حسن القميص سلامة الفصوص، فسميت قيد الاوابر، وقرة عين المشاهد تزري في انظلاقها بالبروق في ائتلافها.
من رسالة الوزير أبي القاسم علي بن الحسين المعري يصف بغلة: بغلة تحل من فضائل البغال وسطا، وتنال من محاسن الدواب إنها قد استكملت ما يراد للسروجيات من خفة الأحلام، وما يراد لحاملات الثقل من وثاقة الأجسام أبعد جريانا من السيل، وأجود إحضارا من الخيل وأوطأ مهادا من الليل، وقد جمع فيها من المحاسن ما تعم فضيلتها، بل تبد قبيلتها وتشمل أسرتها بل تعمر عمارتها حتى لا تقيم للخيل وزنا، إلا بقدر ما تنل به أرحامها، ولا تعتد للضيف ولا أعوج إلا ما تراعي به واصرها، وإلا ما يربها من عقوق الخؤولة، والأمومة ونزها على اطراح حقوق الأبوة والعمومة فيه أحق من القول فيها:
جاءت به معتجرا ببرده ... سفواء تروي بنسج وحده
تقدح قيس كلها من زند

ولم يذكر أحد من الشعراء وصفا لبغل أجود من أبي عبادة البحتري قال:
واقب نهد للصواهل شطره ... يوم الفخار وللشج
وخرق يتيه على أبيه ويدعي ... عصبية لبني الضبيب وأعوج
مثل المذرع جاء بين عمومة ... في غافق وخؤوله للخزرج
طرائف في ذم البغال: المثل المضروب في ذلك ببغلة أبي دلامة، وأهل الأدب ينسبون إليه أبياتا ساقطة يصف فيها عيوب بغلته، اخترت منها:
أبعد الخيل أركبها كراما ... وبعد الفر من محضر البغال
رزقت بغيلة شوهاء فيها ... عيوبا ليس في المقال
وغني إن ركبت آذيت نفسي ... بضرب باليمين وبالشمال
برر فليس تبرح قدر شهر ... وقل لها على ذاك احتيالي
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس والموالي
فتقطع منطقي وتحول بيني ... وبين كلامهم مما توالي
ويدبرها ظهرها من مسح كف ... ويهزل في البراقع والجلال
ويخفي لو تمر على الحشايا ... ولو تمشي على دهش الرمال
إذا استعجلتها راثت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال
وكانت قارحا أيام كسري ... وتذكر تبعا عند النصال
وقد ولدت ونعمان صبي ... وآخر عمرها لهلاك مالي

القول في طبائع الحمال الأهلي
قال المتكلمون في طبائع الحيوان ليس في الحيوان شيء ينزو إلى غير نوعه، ويأتي فيه شبيهه إلا الحمار، وهو ينزو إذا مضى له ثلاثون شهرا، ولا يولد له قبل أن يتم ثلاث سنين ونصف، قالوا: هذا النوع صنفان صنف جاس عاس يصلح لحمل الأثقال، والآخر لدن دمث أحر وأيبس من نفس الفرس فتراه كبير الشعب، والحركة بمنزلة النار المتوقدة لا يهدأ اضطرامها، فهذا يصلح أن يرفه للركوب في قضاء الأوطار والحاجات، وأجود الحمير المصرية، وأهلها يعتنون بتربيتها والقيام عليها لما يجدون فيها من الفراهة، وسرعة الحضر، والمجابة ويتغالون في أثمانها بحسب فراهتها حتى بيع منها في بعض السنين حمار بمئة دينار، وعشرة دنانير، وكان صاحبه يسمع أذان المغرب بالقاهرة فيركبه ويسوقه ويلحقها بمصر، وبينهما ثلاثة أميال، ومن عادة الحمار أنه إذا شم رائحة الأسد رمى نفسه عليه من شدة خوفه له يريد بذلك الفرار منه.
قال حبيب بن أوس الطائي في أبيات يخاطب بها عبد الصمد بن . . . . وقد هجاه وحيث يقول:
أقدمت ويلك من هجري علي خطر ... والعير تقدم من خوف على الأسد
وفي الحمار داء الحلاق كالخنزير، وبعض أصحاب الحديث في الطبائع ينطر ذلك ويقول الحلاق داء يصيب قضيب الحمار يقال له حلق الحمار يحلق حلقا إذا احمر قضيبه وتقشر فإن لم يخص وإلا مات وقال قطرب الحلاق في الإناث إذا أصابها ذلك، ويوصف بالهداية لأنه لا يضل عن طريق سلكه ولو لمرة واحدة، ولا يخطئه وفإن ضل راكبه الطريق هداه وحمله على الحجة، ويوصف بحدة حاسة السمع بحيث أنه ينذر راكبه بما يتوقع خوفه فيحذر منه، وإن بعد مثواه، وهذا الحيوان يحس بالبرد، ويؤذيه أكثر من غيره، ولهذا لا يوجد في بلاد موغلة في الشمال، وبلاد الصقالبة، ويعتريه مرض في الدماغ مثل الزكام يعرض له لبرد دماغه، ويسيل من منخريه بلغم حار، فإن انحط إلى الرئة مات والظريف العجيب إذا نهق أضر بالكلب حتى يقال إن نهيقه يحدث بالكلب مغصا، ولذلك يطول نباحه.
الوصف والتشبيه
وللناس في مدحه وذمه أقوال متباينة بحسب الأغراض في الحب والبغض أما المدح، قال الرقاشي لما قيل له: إنك تكثر ركوب الحمير، قال: لأنها أكثر مرفقا قيل له: وما ذلك قال: لأنها تستدل بالمكان على اختلاف الزمان، وهي اقل المراكب داء، وأيسر دواء وأسلمها صريعا وأحفظها مهوى، وأقربها مرتقى، وأقلها جماحا، واشهرها فارها، يزهي به راكبه، وقد تواضع بركوبه ويكون مقتصدا وإن أسرف في ثمنه.
وأما الذم فإن أعرابية سئلت عنه فقالت لعنه الله لا يذكي ولا يزكي إن أطلقته ولى، وإن ربطته أدلى، عظيم الحرارة بطيء في الغارة لا تقرى به الدماء، ولا تمهر به النساء ولا يحلب في الإناء وقال جرير بن عبد الحميد: لا يركب الحمار فإنه إن كان فارها أتعب يديك وإن كان بليدا أتعب رجليك.

وكتب الوزير أبو القاسم علي بن الحسين المعري رسالة يرد فيها على من عاب حمارا، وكيف يعاب الحمار، وله نسب في الصالحين عريق، ومجد في الأولين وريق وباتخاذ المكرمين إلى البتول، وابن البتول صلى الله عليه وسلم مطية، وبأنه كان للعزيز عليه السلام آية، وقد اختير للمطهمة بعلا، وارتضى لها قرينا وشكلا، أم كيف يذم، وأعلى أمد الجواد كان أثاره، وأشرف مقام العرب للمعرب شق العبارة، ومن محاسن الأوصاف فيه قول أحمد بن طاهر من أبيات:
شية كأن الشمس فيها أشرقت ... وأضاء فيها البدر عند تمامه
وكأنه من تحت راكبه . . . . إذا ... ما لاح برق لاح تحت غمامه
ظهر كجري الماء لين ركوبه ... في حالتي أتعابه وجماحه
سفهت يداه على الثرى فتلاعبت ... في جريه بسهوله وأكمامه
عن حافر كالصخر إلا أنه.. ... أقوى وأصلب منه في استحكامه
ما الخيزران إذا انثنت أعطافه ... في لين معطفه ولين عظامه
عنق يطول بها فضول عنانه ... ومحزم يغتال فضل حزامه
وكأنه بالريح منتعل وما ... جري الرياح كجريه ودوامه
أخذ المحاسن آمنا من عيبه ... وحوى الكمال مبرأ من ذامه
ولأبي القسم علي بن الحسن الباخرزي من أبيات يرثي بها جمارا:
يواري بأجواف السباع مهملج ... متى أتذكر قوته اتسخط
مسرة محزون وقرة ناظر ... وجمال أعياء وراحة ممتط
وجواب آفاق وعدة راجل ... وحلية إصطبل وزينة مربط
يخاف الطريق الوعر وطأة رجلة ... ويعلو الصبا عن جريه المتوسط
شطر أولأناف به طول الثوى فعذاره ... بعيد المراقي سامح المتنوط
له ذنب ضاف به سد فرجه ... كما استرسلت أهداب برد نخطط
وأسنانه كالدر شتتها البلى ... وقد كن أشباها كعقد مسمط
على متنه جلد يروق رواؤه ... ولا كالد يبقى النسيج المخيط
يحاكي بترجيع النهاق فريده ... توافق بالا كان أوتار مربوط
وينصب أذنا لم تفتها لطافه ... سوى أنها بالشنف لم تنقرط
ثم خرج إلى التعزية فيه لمن أصيب، وعمل هذه الأبيات بسببه ولآخر:
لا تنظرن إلى هزال حماري ... وانظر إلى مجراه في الأخطار
متوقد جعل الذكاء إمامه ... فكأنما هو شعلة من نار
عادت عليه الريح عند هبوبها ... فكأنه ريح البور يباري
والمثل يضرب في الحمير المهزولة بحمار طياب كما يضرب المثل في ذلك ببغلة أبي دلامة، وللناس فيه أشعار كثيرة، الجيد منها شعرا:
وحمار بكت عليه الحمير ... دق حتى به الرياح تطير
كان فيما مضى يسير بضعف ... وهو اليوم واقف لا يسير
شطر أولكيف يمشي وليس يعلن شيئا ... وهو شيخ من الحمير كبير
لمح القت مرة فتغنى ... بحنين وفي الفؤاد زفير
ليس لي منك يا ظلوم تعير ... أنا عبد الهواء وأنت أمير
ولخالد الكاتب:
وقائل إن حماري غدا ... يمشي إذا صوب أو اصعدا
فقلت لكن حماري إذا ... حثثته لا يلحق المقعدا
يستعذب الضرب فإن زدته ... كان من اللذة أن يرقدا

القول في الإبل

وهذا النوع ينقسم ثلاث أصناف عرابي، ويماني، وبختي فاليماني هو النجيب وينزل منها منزلة العتيق من الخيل، والعرابي كالبرذون، والبختي كالبغل، ويقال البخت ضأن الإبل وهو متولدة عن مني العرابي فقط فإن مني البختي ينجب فكأنه حصل له نصف بلية البغل، فأما النجيب فزعم من حكي قول الجاحظ أن في الإبل ما هو وحشي، وأنه يسكن أرض وبار وهي غير مسكونة، وقالوا ربما ند الجمل في الهياج فيحمله ما يعرض له منه على أن يأتي أرض عمان فيضرب في أدنى هجمة من الإبل، فالمهربة من ذلك النتاج، وتسمى الإبل الوحشية )الجوش( ويقولون: أنها بغايا إبل عاد وثمود، ومن أهلكه الله من العرب العاربة، وأما البخت منها ما هو مثل البراذين، ومنها يجمز جمزا، ويرقل ارقالا والجمز في الإبل كالخبب في الخيل، وحكى أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من ريضت له الإبل على الجمز، أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، لما حجت، وقال الجاحظ: إذا ضربت الفوالج في العراب جاءت هذه الجوامز والبخت الكريمة، وفي البخت ماله سنامان في طول ظهره كالسرج، ولبعضها سنامان في عرض ظهره أحدهما ذات اليمين والآخر ذات الشمال، وقد يشق عن سنان البعير ويكشط جلده، ثم يجتث من أصله، كما يفعل بعض الناس ذلك بالكباش في قطع آلياتها إذا عظمت وعجزت عن النهوض بها، ويقول أصحاب السير لطبائع الحيوان أنه ليس شيء من الفحول مثل الجمل عند الهياج للسفاد من الازدياد، وسوء الخلق وهجران المرعى، وترك الماء حتى ينظم ايطلاوه، ويتورم رأسه، ويكون كذلك أياما كثيرة، وهو في هذا الوقت لا يدع إنسانا، ولا جملا يدنو منه، ولو حمل على ظهره حينئذ مع امتناعه عن الطعم ثلاثة أضعاف تحمله، وهو لا ينزو إلا مرة واحدة يقيم فيها النهار أجمع ينزل فيها مرارا كثيرة يجيء منها ولد واحد ويخلو في البراري حالة النزو ولا يدنو منه أحد غير راعية الملازم له، وذكره صلب جدا، إلا أنه من عصب، والأنثى تحمل أثني عشر شهرا، وتلقح إذا مضى عليها ثلاث سنين، وكذلك الذكر ينزو في هذه المدة ولا ينزو عليها إلا بعد أن تضع بسنة، وفيه من كريم الطباع أنه لا ينزو على أمهاته ولا أخواته، ومتى حمل على أن يفعل حقد على أن يفعل حقد على من يلزمه ذلك حتى يقتله، وليس في الحيوان من يحقد حقده، ومن حقده أنه يرصد من حقد عليه الفرصة والخلوة لينتقم منه، فإذا أصاب ذلك لم يبق عليه، وفي طبعه الاهتداء، والغيرة، والصولة، والصبر على الحمل الثقيل، ويقال: إن البعير إذا صعب وخافته رعاته، استعانوا عليه فركبوه، وعقلوه حتى يكومه فحل آخر، فإذا فعل ذلك ذل، والإبل تميل إلى شرب الماء الكدر الغليظ وهو الماء النمير، فهي أبدا إذا وردت من مياه الأنهار حركتها بأرجلها حتى تتكدر وهي من عشاق الشمس ولهذا ترى أبدا تضور إليها من أي جهة كانت من المشرق أو المغرب، ويعتري الجمل من الأمراض داء الكلب، فإذا أصابه ذلك نحر ولم يؤكل لحمه، والجمل يكون سنامه مثل الهدف فيكشط عنه جلده ويجتث من اصله بالشفار ثم يعاد عليه ويداوي فيبر ومن عجيب حاله أنه يقبض على أم غيلان، والسمر وعليها شكوك كصياصي البقر فيستمريء بها ويجعلها ثلطا ولا يقوى على هضم الشعير المنقع وهو يتعرف على النبات المسوم بالشم مرة واحدة عند رعيه، فيجتنبه ولا يغلط إلا في البيش وحده، ويعيش على ما زعم أرسطو ثلاثين سنة في الغالب وقد رأى منها ما عاش مائة سنة، ومن عجيب ما ذهبت عليه العرب في الإبل أنهم كانوا إذا أصاب ايبهم العر، كووا السليم ليذهب العر على السقيم، فهم سقموا الصحيح من غير أن يبرءوا السقيم وكانوا إذا كثرت إبل زحدهم، فبلغت الألف فقأوا عين الفحل، فإن زادت على الألف فقأوا عينه الأخرى، ويزعمون أن الفقأ يطرد عينهم العين.

الوصف والتشبيه
حكي عن بعض المعظمين من شأنها، ما اقتنعت العرب ما لا خيراً من الإبل، إن حملت أثقلت، وإن سارت: أبعدت، وإن حلبت أردت، وإن نحرت أشبعت، وما أظرف قول القائل:
جمال معيشة الساعي ... جمال تدمن الحركة
إذا بركت بباب الدار ... ألقت برجلها البركة
وصف سيرها، قال ذو الرمة يصف ناقة:
كأن راكبها يهوي بمنخرق ... من الجنوب إذا ما ركبها نصبوا
تشكو الخشاش ومجرى النستعين كما ... إن المريض إلى عواده
الوصب

وقال بشامة بن الغدير يصف ناقة أجدها السير:
كأن يديها إذا أرقلت ... وقد حرن ثم اهتدين السبيلا
يدا سابح جد في عومه ... وقد شارف الموت إلا قليلا
إذا أقبلت قلت مشحونة ... أطاعت لها الريح قلعا جفولا
إذا أدبرت قلت مذعورة ... من الربد تتبع هيقا ذمولا
وقال مسلم بن الوليد:
إلى الأمام تهادانا بأرجلنا ... خلق من الريح في أشباح ظلمان
كأن افلاتها والدهر يأخذها ... افلات صادرة عن قوس مرنان
وقال آخر وهو ابن المعتز:
خوص نواج إذا حث الحداة بها ... حسبت أرجلها قدام أيديها
وقال ابن المعتز:
وقفت بها عيشا تطير بزجرها ... ويأمرها وهي الزمام فترفل
طلوب برجليها يديها كما اقتضت ... يد الخصم حقا عند آخر بطل
والطريف المطبوع قول من قال من أبيات:
فسلي البيداء عن رجل ... يخصم الريح بثعبان
يريد بالريح الناقة وبالثعبان الزمام، ومن وصفها عقيب السير والسرى وقطعها البيداء ارقالا ونفحا في البر، قال سالم الخاسر من أبيات:
وكأنهن من الكلال أهلة ... أو مثلهن عواطف الأقواس
قود طواها ما طوت من مهمه ... نأى الصبا ومناهج ادراس
وقال أبو تمام حبيب بن آوس الطائي:
وبدلها السرى بالجهل حلما ... وقد أديمها قد الأديم
بدت كالبدر في ليل بهيم ... وآبت مثر عرجون قديم
مما وصف من ضمورها قول الخطيم الجزري وأجاد كل الإجادة وقال:
قد خمرت كأنها وخينها ... وشاء عروس حال منها على خصر
وقال ابن دريد في مقصورته:
خوص كأشباح الحنايا ضمر ... يرعفن بالأمشاج من جذب البرا
يرسبن في بحر الدجى وفي الضحى ... يطفون في الآل إذا الآل طفا
وقال عبد الله بن المعتز:
ترنو بناظرة كأن حجابها ... وقب أناف بشاهق لم يحلل
وكأن مسقطها إذا ما غرست ... أثار مسقط ساجد متبتل
وكأن آثار النسوع بدمها ... مسرى الأساود في كثيب اهيل
ويشد حاديها بحبل كامل ... كعسيب نخل خوصه لم ينخل
وعلى أثر ذكر السقط والمتبرك، فأحسن ما وقع في ذلك:
إذا بركت جرت على نقيانها ... مجافيه صلبا كقنطرة الجسر
كأن يديها حين تجري صفورها ... طريدان والرجلان كالبتا وفر
وعلى اثر ذكر الذئب فما أحسن ما وصفه أبو نؤاس حيث قال:
تثني على الحاذين ذا خصل ... تعماله الشذران والخطر
أما إذا رفعته شامذة ... فتقول رنق فوقها نسر
أما إذا وضعته خافضة ... فتقول أرخي خلفها ستر
وقد تطرق الشريف البياضي في قوله:
نوق ترها كالسفي ... ن إذا رأيت الآل بحرا
كتب الوجا بدمائها ... في مهرق البيداء سطرا
لا يشتكين من اللغوب ... إذا لا يعرفن زجرا
وير من سبق ظلالهن ... إذا المطي حسرا
فكأن أرجلهن تط ... لب عند أيديهن وترا

القول في طبائع البقر
قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: الفحل من هذا النوع ينزو إذا تمت له سنة من عمره، وهو الغالب، وقد ينزو لعشرة أشهر، وهو كثير المني، ومتى توقدت شهوته ولم يخص لم يذل قبل ولم يستكن، ولم يصح جسمه، والبقرة إذا ولدت تحدر لبنها من يومها ولا يوجد لها لبن قبل أن تضع، وكل إناث الحيوان أرق صوتا وأحد من ذكورها إلا البقر، فإن الأنثى أفخم وأجهر من الذكر، وقرونها أقوى، وهي تقلق لضرب الذكر، وتمشي تحته ولا سيما إذا أخطأ المجرى لصلابة ذكره، وهي إذا اشتاقت إلى السفاد تصعب وتنفر حتى لا يقوى الرعاة عليها، وتركب الذكور وتقف بين أيديها، وإذا نزى عليها بقيت عشرين يوما، وطلبت النزو مرة أخرى وهي تحمل تسعة أشهر، وضع في العاشر، فإن وضعت قبل هذا الوقت لا يعيش ولدها وربما وضعت اثنين، وإذا مات ولدها أو ذبح لا يسكن خوارها، ولا يدر لبنها ولذلك:

الرعاة يسلخون جلد ولدها ويحشونه، ويعلمون له قوائم تقف عليها بازائها لتدر له وتسكن، ويسمى هذا المثال )البو(، وفي طبع الذكر توفر الشهوة والاغتلام، فإذا صعب وامتنع كذلك على الرعاة ربطوا ركبته اليمنى بحبل صوف فيذل وينقاد، والأنثى إذا كان ولدها معها منعت منه السباع بقرونها أشد منع حتى تنجيه، أو تهلك دونه، والبقر يحب الماء الصافي ويختاره بضد ما يريده الخيل والإبل، وهي من الحيوان الذي يكون له قائد يتولى الحراسة والإيراد والإصدار، وهي من اقاطيعها تتألف فإذا جاء وقت هيجانها اقتتلت قتالا شديدا إن الواحد منها يريد أن يكون المستولي عليها ويقول أرباب الفلاحة: إن البقر تعرف الشتاء الشديد وتنذر به أهل القرية وذلك أنها تربض على جنبها اليمنى، وتديم شم الأرض، والثور والهرمتي لطخ منخريهما بدهن الورد هلك الهر وصرع الثور.

فصل
وبأرض مصر بناحية دمياط بقر يسمى بقر الخيس، وهي بقر رقاق طوال الرقاب قرونها كالأهلة، وبينها وبين سواها كما بين الغزال والغنم وفيها نفور ووحشية لا ينتفع بشيد منها غير اللبن وما يكون منه وهي وإن كانت وحشية فغنها مملوكة، ولها رعاة لكنها لا تعلف، ومأواها حيث يكون العشب والماء دائما ولهذا توجد إلا في جزائر بحر تنيسي، ورعاتها يسمون الإناث منها بأسماء متى دعيت بها إلى الحلب أجابت، إذا ولدت الأنثى وخفيت على راعيها مكان ولدها في حلقها جرسا وترصدها عند رجوعها من الرعي لتسقي ولدها فيستدل بحس الجرس على مكانه فإذا وقع به حمله إلى خصمه وارتبطه عنده فيغدو بعد ذلك إلى الرعي ويروح إليه، وتؤنس الفحول منها وتستعمل في السواقي ولكن بعد عناء وتعب شديد وممارسة لتفورها وعدم قبولها العلف لأنها في تعرفه، ولم تألفه فهم يجمعونها فتذل وتضطر للانقياد والأكل، وقال المسعودي: رأيت بالري نوعا من البقر يبرك كما تبرك الإبل وتثور بحملها كما تثور، والغالب عليه حمرة الحدق، وسائر البقر ينفر منه، وحكى ابن منقذ في كتابه أزهار الأنهار عن المدائني كأعراف الخيل، قال ابن منقذ: وأظنها الأبقار التي توجد فيها الراجم وسمعت من يقول أنها أبقار عمالة في بلاد يقال لها خم وتافة وبلجستان وهي ملونة بيض وسود وبلق، والبراجم تكون في رؤوس أذنابها وهي الكبار على كتفها وهي الصغار، وسمعت من يقول: أنها أبقار تخرج من الصين تلد وترضع، وكانت العرب إذا أوردوا البقر فلم تشرب أما للكدر وأما لقلته ضربوا الثور فيقتحم الماء لأن البقر تتبعه كما يتبع الشول الفحل قال شاعرهم في ذلك:
هجوني إذا هجرت جبال سلمى ... كضرب الثور للبقر الظماء
وكانوا يزعمون أن الجن هي إليّ تصد الثيران عن الماء حتى تهلك الأرض عطشا، وقال شاعرهم في ذلك:
لكا الثور والجني يضرب وجهه ... وما ذنبه إن كانت الجن ظالمة
الوصف والتشبيه
قال أحمد بن علوية الأصفهاني:
يا حبذا مخضها ورائبها ... وحبذا في الرجال صاحبها
عجولة سمحة مباركة ... ميمونة طفح . . . . محالبها
تقبل للحلب كلما دعيت ... ورامها للحلاب حالبها
فتية سنها . . . .. مهذبة ... معنف في الندى عائبها
كأنها لعبة مزينة ... تطير بها عجبا ملاعبها
كأن ألبانها جنى عسل ... يلذها في الإناء شاربها
عروس باقورة إذا برزت ... من بين أحبالها ترائبها
كأنها هضبة إذا انتسبت ... أو بكرة قد أناف غاربها
تزهى بروقين كاللجين إذا ... مسهما بالبنان طالبها
لو أنها مهرة لما عدمت ... من أن يضم السرور راكبها
وأنشدنا الأديب الفاضل شمس الدين محمد الموصلي )عرف بابن الجاووش( لنفسه وقد سألته أن يعمل في ذلك عملة حسنة فقال:
لله عجلة خيس ... صفراء ذات دلال
تريك عيني مهاة ... من تحت قرني غزال
قد سربلت باصيل ... وتوجهت بهلال
القول في طبائع الجاموس
وهو حيوان هندي، والفرس تجعله ضأن البقر، وتسميه )كلوميس( كأنهم قالوا ضأن بقري لأنهم وجدوا فيه شبه الكبش وكثيرا من مشابه الثور لأن الكباش ضربت في البقر فجاءت الجواميس.

قال الجاحظ: يزعم أن كل حيوان يلد حيوانا مثله لا يخلو أجناسه من المعز والضأن، فالجواميس عندهم ضأن البقر والبخت عندهم ضأن الإبل والبراذين ضأن الخيل، والجاموس شجيع شديد البأس وهو مع ذلك أجزع خلق من عض جرجسه وبعوضة واشد هربا منها إلى الماء وهو يمشي إلى الأسد رخي البال رابط الجأش، ثابت الجنان، ويقال: إن سبب إخراجها من معادنها هو أن الطريق الذي بين انطاكية ومصيصة كانت مسبعة فشكي ذلك إلى الوليد بن عبد الملك فحمل منها أربعة آلاف جاموس وجاموسة مما كان الحجاج بن يوسف بعث به لما فتح بلاط الزط )ومن أرض الزط( على يد محمد بن القاسم وجعل ألفي جاموس وجاموسة في آجام كسكر لما بنىواسط فهربت السباع حتى ما بقي منها شيء، وذكر الجاحظ: أن المعتصم أبرز للأسد جاموستين فغلباه ثم أبرز له جاموسة ومعها ولد فغلبته وحمت ولدها ومنعته، ثم أبرز له جاموسا واحدا فواثبه الأسد ثم أدبر عنه هذا الحيوان على غلظه وفدامته ذكي إذا رأى راعية الأسد صاح بإناثه يا فلانة بأسماء جعلها لها أعلاما على كل واحدة منها فتخرج إليه الجواميس التي في الآجام حتى يلقيها علي الزسد فتضع رؤوسها على الأرض وتمشي إليه، فإذا وثب على إحداهن قصدته بقرنيها فيقعان في جوفه فتقتله لوقته وفي طبع هذا الحيوان كثير الحنين لوطنه الذي يؤخذ منها فمتى هرب لا يعدوه، ويقال أنه لا ينام أصلاً لشدة حراسته لنفسه وأولاده، وإذا اجتمعت ضربت دائرة وتجعل رؤوسها إلى خارج تلك الدائرة وأذنابها إلى داخلها، والرعاة والأولاد من داخل فتكون الدائرة كأنها مدينة سورها صياحيها والذكور منها يناطح ذكرا آخر فإن غلب أحدهما الآخر دخل المغلوب جمة وأقام فيها حتى يعلم من نفسه أنه قد قوى ثم يخرج يطلب ذلك الجاموس الذي غلبه فيناطحه حتى يغلبه والغالب عليه القيام في الماء إلى خرطومه، ولهذا يجعله بعض المتكلمين في طبائع الحيوان مائيا أرضيا لسكناه الآجام. والغدران وإنما بفعل ذلك هربا من البعوض لأنه ينفذ جلده مع غلظه بخرطومه.

الوصف والتشبيه
قال الوزير أبو القاسم علي بن الحسين المعري من رسالة: وأما الجواميس فرسلها أقوى الألبان، وأغذاءها، ومسارحها أفره المسارح، وأعلاها لأنها أبدا خائضة في الغدران الصافية ومستظهرة بالأسلحة العادية، ولها من الرئاسة في العين الرائعة والعوامل النافعة، ما للبخت على العراب ومن القوة والصلابة، والشدة والنجابة ما للإبل الصلاب في الليوث العادية والسباع الضارية، ولها حق لكافة الجنسالذي تولت الرئاسة عليه والعمادة فيه، لأنها ألقت بالأنيس، ولم تضجر، وتوفرت على الخاصة فلم تقفر، ولعلها لو تدبرت تلك البراري، وظهرت إلى تلك الصحارى لما اشتغلت العرب من السوائح والبوارح إلا بها، ولا اتخذت أمثلة الزجر والعيافة إلا منها، ولكنها تكرمت على ذلك العيش المتيسر، واجتنت الأخبار في تخير ذلك البؤس المستمر، وإذا كانت البقر تضرب مشاهدتها فألا للسنين المقبلة، وينطق بذلك آيات القرآن المنزلة ويفسر على ذلك ما يرد منها في الأحلام الصادقة حتى كان من دلائل النبوة الصادقة فهذه بمثل ذلك أجدى، وبالتبرك عند مشاهدتها والتيمن بملاحظتها أولى وأشبه وقال بعضهم من أبيات:
وأما الجواميس فهي التي ... تفوق جميع ذوات الحلب
كأن الملم بأخلاقها ... ألم بملئ العوادي السرب
منيم الرعاة على أمنها ... ويسرح في كل عبء أشب
ويلقى الأسود بمثل الحراب ... فتلقى الأسود بهن الحرب
القول في طبائع الضأن

فصل الناس ما بين الضأن والمعز، فقالوا إذا ارتعت الضأنية والماعزة ينبت ما تأكله الضأنية، ولم ينبت ما تأكله الماعزة، لأن الضأنية تقرض ما تأكله باسنانها والماعزة تجذب بأسنانها من أصله، وقال أرسطو: الضأن رديء الشكل قليل العقل، ومن قلة عقله أن يكون في البراري في حضائر فإذا نزل الشتاء، وكثر المطر خرج منها إلى الفضاء والهواء، ويظن أن ذلك ينجيه من المطر، فإذا أصابه المطر خارجا عن الحضيرة لا يبرح عن مكانه، ولا يزول حتى يهلك ولا يكاد يتحرك إن لن تأت الرعاة إليه فتقدم ذكوره فإذا تقدمت تبعتها الإناث، وهي أكسل وأقل حركة من المعز، والمعز يدنو من الناس، ويحس بالبرد أكثر من الضأن، وإذا سمعت الرعد رمت ما في بطونها من ساعتها وهي تسمن من الماء، ولهذا الرعاة يطعمونها الملح بعد كل خمسة أيام إذا كان صيفا تشتد رغبتها في شرب الماء، وهي إذا سمعت دويا في المكان الذي يجمعها فيه التفت بعضها على بعض من الخوف، ومتى أسقيت في الخريف الماء الذي يصيبه ريح الشمال كان أوفق لها من الذي تصيبه ريح الجنوب وهي تهزل من التعب والطرف، ومن الرعايات فيما فضل الله به الضأن على الماعز، إن الله تعالى جعل الضأن مستورة العورة من قبله ومن دبره، والماعز بالضد من ذلك ويحلق بالضأن داء يسمى المجرى وهي أن تشرب الماء ولا تروى، وذلك من متأفه، قالوا ومن فضيلة الكباش أنها تناقف وتناطح الناس يرهنون على قتالها كما يرهنون على سباق الخيل، وقد جعل الله تعالى النماء والبركة، والعدد الضأن، وهي لا تلد في السنة إلا مرة واحدة وتفذ ولا تتئم.

فصل
ويقال: في هذا النوع أنه فيه ما هو وحشي، ويشمى كبش الجبل وخلقته خلقة الكباش الأهلية، وفي قدرها، وشكلها جلدا، وصوفا ووجها إلا أن قرونه جفاة جدا.
الوصف والتشبيه
لم أجد في هذا النوع إلا رسالة كتبها أبو الخطاب الصابي إلى الحسين ابن صبره جوابا عن بقعة وردت عليه في وصل حمل أهداه إليه: وصلت رقعتك ففضتها عن خط مشرق، ولفظ موفق وعبارة وصيبة ومعان غريبة واتساع في البلاغة يعجز عنه عبد الحميد في كتابته وسحيان في خطاباته وذكرت فيها جملا جعلته بصفتك جملا، وكان كالمعيدي أسمع به ولا أراه، وحضر فرأيت كبشا متقادم الميلاد من نتاج قوم عاد قد أفنته الدهور وتعاقبت عليه العصور فظننته أحد لزوجين اللذين حملهما نوح في سفينته وحفظ بهما جنس الغنم لذريته، صغر عن الكبر ولطف في القدر فبانت دمامته وتقاصرت قامته وعاد نحيلا ضئيلاً باليا هزيلا بادئ السقام عادي العظام جامعا للمعايب مشتملا على المثالب يعجب العاقل من حلول الروح فيه لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد، لا توجد فوق عظامه سلبا، ولا تلقي اليد منه إلا خشبا، لو ألقي للسبع لأباه أو طرح للذئب لعافه وقلاه، وقد أطال للكلأ فقده وبعد المرعى عهده لم ير القت إلا نائما، ولا الشعير إلا حالما، وقد خيرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون خصب الشهر، فملت إلى استبقائه لما تعلمه من محبتي في التوفير ورغبتي في التشهير، وجمعي للولد وادخاري لغد، فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للغناء، لأنه ليس بأنثى فيحمل، ولا بفتى فينسل ولا بصحيح فيرعى، ولا بسليم فيبقى، فملت إلى الثاني من رأيك وعملت بالآخر من قوليك، وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وألقمه رطبا مقام قديد الغزال، فأنشدني وقد أضرمت النار، وحددت الشفار، وشمر الجزار:
أعيذها نظرات منك صادقة ... إن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وقال: وما الفائدة لك من ذبحي: وإنما كما قيل:

لم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت ليس لي لحم يصلح للأكل، فغن الدهر أكل لحمي، ولا جلدي يصلح للدبغ، فإن الأيام مزقت أديمي، ولا صوف يصلح للغزل، فغن الحوادث قد حصت وبري، وإن أردتني للوقود فكف بعر أدفء من ناري، ولن تفي حرارة برائحة قتاري، ولم يبق إلا أن تطالبني بذهل أو بيني وبينك دم، فوجدته صادقا في مقالته ناصحا في شورته، ولم أعلم أي أموره أعجب؟ أمن مماطلته الدهر على البقاء؟ أم من صبره على الضر والبلاء، أم من قدرتك عليه من أعواز مثله؟ أم من إتحافك الصديق ينفذ في المعز والضأن وكل حمل ثمين، وكبش بطين مجلوب إليك، وموقوف عليك بقول فيه، فلا يرد، وتردفه فلا تصد، وكانت هديتك هذا الذي كأنه انشر من القبور أو أقيم عند النفخ في الصور، فما كنت مهديا، لو أنك رجل من عرض الكتاب كأبي علي وأبي الخطاب ما كنت تهدي إلا كلبا أجرب أو قردا أحدب.
وللمريمي في هذا المعنى:
ليت شعري عن الخوف الهزيل ... ألك الذنب فيه أم للوكيل؟
جاءني في الزنبيل حيا وقد شد ... . . . قضى في الزبيل
لم أجد فيه غير جلد وعظم ... وذنيب له دقيق طويل
ما أراني أراه يصلح إذا أصبح ... رسما على رسوم الطلول
لا لشيء ولا لطبخ ولا بي ... ع ولا بر صاحب وخليل
اعجف لو مطفل نال منه ... لغدا تائبا عن التطفيل

القول في طبائع المعز
روى الجاحظ في كتاب الحيوان له، أحاديث كثيرة نوهت بقدرها وفخمت من أمرها منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: القحة في أهل الخيل والخباء في أهل الإبل، والسكينة في أهل الغنم، ومما ذكره في فضلها أنه كان في الأنبياء من رعي الغنم، ولم يرع أحد منهم الإبل، وعد منهم سعيبا، وداود، وموسى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنم خديجة، وروي أن رجلا دعا أبا ذر لطعام، فلما أكمل قال الحمد لله الذي أطعمنا الحمير وألبسنا الحرير، وأنه رأى عندهم شاة، فقال لصاحب المنزل هذه لك قال: نعم، قال: أطب مرامها واغسل رغامها، فإنها من دواب الجنة، وهي صفوة الله تعالى من البهائم، ومن بركتها أن أمرؤ القيس وصفتها في قوله:
إذا لم تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
فتملأ بيتنا أقطأ وسمنا ... وحسبك من غني شبع وروي
قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان، والشاة تحمل بعد أن ينزى عليها ثلاث مرات أو أربع مرات، وإن وقع مطر بعد النزو نقض حملها، وهي تحمل خمسة أشهر مرة واحدة في السنة، فإن كانت ترعى في أماكن دافئة وكان مرعاها مخصبا تضع مرتين في السنة، ومنها ما تضع إناثا، ومنها ما تضع ذكورا، وذلك يعرض من قبل الأماكن أيضا، ومنها ما يفذ ويتئم، وما تضع ثلاثا أو أربعا، وفي طبع الشاة أنها من الذئب أشد فرقا من الأسد، وإن كانت تعلم أن الأسد يأكلها، ومن شدة فرقها منه، لو رأت الأسد والنمر، والنسر لما عبئت بها ولا خافتها، وليس ذلك من تجربة ولا لأن منظر الذئب أشنع، وأهيب لكن لما فطرت عليه، ومن شأنها إذا ظفر بها الأسد مانعته عن نفسها حتى ربما اضطرت الأسد إلى أن يجرها إلى عرصته فأما الذئب إذا أخذها عدت معه حتى لا يكون عليه مؤونة والتيس من شدة الغلمة التي فيه لا يعرض للنعجة من الضأن، وكذلك الكبش من الضأن لا يعرض للشاة حتى كان ذلك موادعة بينهما فلهذا لا يقع بين هذين الجنسين المتقاربين تلاقح ونتاج البتة كما يقع بين البخاتي والعراب، وبين الخيل والبراذين، والخيل، والحمير، وفي الماعز ما يعلم التعليم والتلقين، والحكاية، وتسمى بمصر لفرط ما يصدر عن ذلك )أبا العجب(، وقال أرسطو: والمعز كالضأن في البله، وذلك أنها لا تنبعث إلا إذا أخذ الراعي بناحية واحد مهما فأن لم يفعل وقفت كأنها تائهة لا تهتدي إلى طريق، والذكر من هذا النوع كالكلب يفرح ببوله فيرده في خيشومه، وهو من أحر البول وأنتنه، والمثل يضرب بنتن رائحة التيوس، والعجب من نتن ريحة مع تخلخل شعره، وبرودة جلده وجفوف عرق . . . . بدنه ونتنه في الصيف كنتنه في الشتاء، وقال الجاحظ وذكر كل شيء أتم حسنا من أناثه خلا هذا النوع.
الوصف والتشبيه
قال بعض الشعراء فيها:
راحت اصيلانا كأن ضروعها ... دلاء وفيها وائد القرن ليلب
له رعثان كالسوف وغبرة ... شريح ولون كالوديلة مذهب

وعينا احم المقلتين وعصمة ... تثنى وصلها دان من الظلف مكتب
إذا واجه من محرف الضأن اربلت ... عطاها كما يعطوني ذرى الضأن فرهب
ترى ضيفنا يأتي يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع يتوجب
طرائف من الوصف بالهزال، والمشهور مما وقع في ذلك ما وصف به الحمدوني شاة أهداها له أبو محمد سعيد بن أحمد جاء منها شعرا:
أسعيد قد أعطيتني أضحية ... مكثت عندكم زمانا لا تطعم
نضوا تغامزت الكلاب بها وقد ... نذرت عليها كي تموت فتؤلم
وإذا الملأ ضحكوا بها قالت لهم ... لا تهزؤا بي وارحموني ترحموا
وقف الهوى حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
وقال آخر:
أبا سعيد لنا في شأنك العبر ... جاءت وما إن لها بول ولا بعر
وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان الشمس والقمر
لو أنها أبصرت في نومها علفا ... غنت له ودموع العين تنهمر
يا مانعي لذة الدنيا بما رحبت ... إني ليقنعني من وجهك النظر
ولآخر:
لسعيد شويهة ... سلها الضر والعجف
وقد تغنت وأبصرت ... رجلا حاملا علف
بأبي من بكفه ... برء دائي من الدنف
فأتاها مطعما ... فأتته لتعتلف
فتولى وأقبلت ... تتغنى من الأسف
ليته لم يكن وقف ... عذب القلب وانصرف

الباب الخامس
في طبائع الحشرات والهوام
ويسمى مجموعها ابن أبي الأشعث الحيوان الأرضي لأنه لا يمكنه مفارقتها إلى الهواء، ولا إلى الماء وهو منجحر فيها ويركن في بطنها، وإن سعى على الأرض لا يضطر إلى شرب الماء ولا يحتاج إلى شم النسيم ما دام لابثا في بطنها، لأنه يغتذي منها، وإن كان متنفسا فتنفسه من البخارات التي تتولد في احجرته، وهذا البخار قريب من طبيعة الماء وهو أبرد الحيوان مزاجا، وأثبته وأشده ذعرا، واستيحاشا وخوفا من الناس وضروبه: الأفاعي والحيات، والجرذان، البرية والأهلية، والخلد، واليربوع والضب، والحرذون، والقنفذ، والعقرب، والخنفساء، والوزغ، والنمل، وضروب غير ذلك وإنما ينبغي أن نبدأ من أشهرها وأضرها.
القول في طبائع الحيات

وإنما بدأنا بها لأنها تنزل منزلة السباع من هذه الأصناف إذ هي آكلة للحم، ومن ذوات الأنياب، وما فيها من العداوة للإنس، وسميت حية لأنها تحوت أي اجتمعت، ويطلق على الذكر ولأنثى، يقال حية ذكر، وحية أنثى وهي أصناف كثيرة لا تحصى وشرها الأفاعي، ومساكنها الرمال والجبال، ويضرب المثل فيها بأفاعي سجستان ومن التهويل في أمرها، ما حكاه ابن شبرمة: أن أفعى منها نهشت غلاما في رجله فانصدعت جبهته، ويحكى أن شبيب من شيبة دخل على المنصور فقال يا شبيب أدخلت سجستان فإنه بلغني أنها محواة أي كثيرة الحيات قال: نعم يا أمير المؤمنين، وقد دخلتها، قال: فصف لي أفاعيها، فقال: هي دقاق الأعناق صغار الأذناب مفلطحة الرؤوس رقش برش كأنما كسين أعلام الحبرات كبارهن حتوف وصغارهن سيوف قال أرسطو: وليست الأفعى من الحيوان الذي يلد حيوانا مثله وإن خرج من بطنها أولاد إنما ذلك لتكسر البيض بتلويها وتجمعها في بطنها فيتوهم من راى ذلك أنها تلد، وليس الأمر كذلك، ومن الأفاعي ما تتسافد بأفواهها، فإذا أعطى الذكر الأنثى وقع كالمغشي عليه فتعمد الأنثى إلى مواضع مذاكيره فتقطعها نهشا فيموت من ساعته فإذا بلغ بيضها لم يكن له مخرج لضيق مكان الولادة فتبقى في بطنها حتى تخرج الأولاد فتشقه ويخرجن وتموت الأم من ساعتها فيكون طلبها للولد هلاكا لها وللذكر، وذكرها يسمى الافعوان يأتيها أيام الصراف، فيصوت بها فتأتيه، وبيض الحيات مستطيل أكدر اللون، وأخضر وأصفر وأسود وأشقر وارقط، وفي بعضه نمش ولمع ولم يعرف السبب في اختلاف ذلك، وأما داخله فشيء أسمج من الصديد وأقذر، وهو في جوفها منضد طولا على خيط واحد، وليس للحيات سفاد معروف ينتهي إلى عمله وليس عند الناس في ذلك إلا الذي يروى عن ملاقاة الحيات والتواء كل واحد منهما على صاحبه حتى كأنهما زوج خيزران مقلود، والحية مشقوقة اللسان، ولذلك يظن بعض الناس أن لها لسانين وهي واسعة الشجر، ولها خطم، ولذلك ينفذ نابها، فلو كان لرأس الحية عظم لكان اشد لعظها ولكن جلد ينطبق على عظمين مستطيلين، وتوصف بالنهم والشره لأنها تبتلع الفراخ من غير مضغ كما يفعل الأسد، ومن شأنها أنها إذا ابتلعت شيئا فيه عظم أتت جرم شجرة أو حجرا شاخصا فتنطوي عليه انطواء شديدا فيقظم حتى يصير رفاتا، ومن عاداتها أنها إذا نهشت انقلبت فيتوهم أنها فعلت ذلك لتفرغ سمها، وليس الأمر كذلك، وإنما في نابها عضل فإذا عضت استغرق إدخال الناب كله، وهو أعضل، فيه شبه بالشص فإذا انقلبت كان أسهل لنزعه، وأسلس لسله، وفي طبعها أنها إذا لم تجد طعما تعيش بالنسيم وتقتات به الزمن الطويل، وتبلغ الجهد من الجوع فلا تأكل إلا لحم الشيء الحي، وربما بقيت أربعة أشهر في الشتاء صابرة على الجوع لا تغتذي بشيء البتة، وهي إذا هرمت صغرت في بدنها وأقنعها النسيم ولم تشتهي الطعام ومن عجيب أمرها أنها لا تطلب الماء ولا تريده لغلبة الأرضية عليها ولهذا تصبر على الغذاء مدة طويلة لأن حرارتها لا تسرع بتحليل مادتها لقلة الحرارة وغلط المادة وهي لا تضبط نفسها عن الشراب إذا شمته لما في طبعها من الشوق إليه إذا وجدت شربت منه حتى تسكر، وربما كان السكر سبب حتفها، لأنها إذا سكرت خدرت. والذكر من الحيات لا يقيم في الموضع الواحد وإنما تقيم الأنثى على بيضها بقدر ما يخرج فراخها وتقوم على الكسب ثم تخرج سائرة فمتى وجدت حجرا دخلته واثقة بأن ذلك الساكن فيه بين أمرين إما أن يقيم فيصير طعاما، وأما أن يهرب فيصير الجحر لها، ولهذا يضرب بها المثل في الظلم فيقال: أظلم من حية، وعين الحية لا تدور في رأسها، وكذلك عين الجرد كأنها مسمار مضروب وعينيها لا تنطبق، وإن قلعت عادت وكذلك نابها إن قلع عاد بعد ثلاثة أيام وكذلك ذنبها إن قطع عاد، وفي طبعها أنها تهرب من الرجل العريان، وتفرح بالنار وتطلبها وتعجب بها، وباللبن، ومتى ضربت بالقصب الفارسي ماتت وإن ضربت بسوط قد مسه عرق الخيل ماتت، وتذبح حتى تغري أوداجها فتبقى أياما لا تموت، ويقال: إنها لا تموت حتف أنفها إلا أن تقتل أو تصاد فتبقى في جوف الحواوين تذللها الأيدي وتكره على الطعم في غير أرضها حتى تموت أو تحملها السيول في الشتاء وزمن الزمهرير فتموت إذا صردت، والحية تسلخ كل عام قشرا عن جلدها في أوان الربيع والخريف، وتبتدئ بالسلخ من عيونها ثم من رؤوسها ويتم

سلخها في يوم وليلة، وإذا هرمت وارتخى جسمها، وعجزت عن سلخه أدخلت نفسها بين عودين أو في صدع ضيق حتى تنسلخ ثم تأتي إلى عين ماء فتنغمس فيه فيشتد بذلك لحمها، ويعود إلى قوته وشدته، وليس في الأرض شيء مثل جسم الحية إلا والحية أقوى منه بدنا أضعافا، ومن قوتها أنها إذا دخل صدرها في حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس - وقد قبض على ذنبها بكلتا يديه - أن يخرجها لشدة اعتمادها وتعاون أجزائها، وليست بذات قوائم وإنما تنساب على بطنها وليست لها أظافر ومخاليب واضلاف تتشبث بها وتعتمد عليها وربما انقطعت في يدي الجاذب لها وإنما اشتدت فقر ظهرها هذه الشدة لكثرة أضلاعها فإن لها ثلاثين ضلعا، وليست بذات قوائم، وإنما تنساب على بطنها فهي تدفع أجزاءها وتعاونها حركة الكل من ذات نفسها دليل على إفراط قوة بدنها، وذلك مشاهد في صعودها وسعيها خلف الرجل الشديد الحضر وعند هربها منه حتى تفوت وتسبق وهي تعيش في الماء إن صارت فيه )وتعيش في البر بعد أن يطول مكثها في الماء وصارت مائية(، ومن أصناف الحيات ما هو أزعر وذلك الغالب وفيها ما هو ازب ذو شعر، ومنها ذوات قورن، وأرسطو يقول: إنما تجعل ذوات قرون على طريق المجاز والاستعارة، وإنما ذلك يظهر بروز شيء جاس في رؤوسها شبيه بالقرون، ومنها ما هو أحمر، ومنها صنف يمسي الشجاع يواثب الإنسان ويقوم ذنبه، وربما طار العصفور فيظنه غصنا أو عود منصوبا ليستريح عليه من كثرة الطيران فإذا استوى عليه ابلعته، ومنها ما يسمى الأسود وهو إذا كان مع الأفاعي في جونة وجاع يبتلعها وبلعه لها قبل رؤوسها ومتى رام ذلك من غير جهة الرأس عضته فقتلته، وأشر ما يوجد من هذا الصنف بمصر في أرض الزرع وهي أرض سوداء إذا نزل عنها النيل تصدعت وتشققت شقوقا عظيمة لما يستولي عليها من اليبس، وهذا الصنف يعظم جدا فإذا رأى الإنسان قصده فإن كان في الإنسان يقظة أخذ حذره منه وقاتله إن كان معه سلاح وهو في قتاله كالشجاع المراوغ المخاتل، أو لاعب الشطرنج يقصد من مقاتله جهة فإذا رآه قد اشتغل بحفظها منه نهشه في غيرها، ونهشه والكفن في الحين الذي يفوت طبق الجفن على الجفن، ومن أصنافها ما يسمى أصلة وهو عظيم جدا وله وجه كوجه الإنسان، ويقال أنه يصير كذلك إذا مرت عليه ألوف السنين، يقتل بالنظر، ومن عجائب ما حكاه المؤرخون أنه أخرج من خزائن المستنصر بالله العبيدي بيضة محلاة بالذهب فجعل الناس يتعجبون من تحليتها فاستخبروا المستنصر عنها فقال أنها بيضة حية كان بعض الملوك أهداها لجدي القائم بأمر الله تعالى.

الوصف والتشبيه
ومن الأوصاف المهولة قول بعض الأعراب:
وحنش يردي الورى بالحس ... موكل تبرحات النفس
ينفر عن مأواه كل جنس ... ذي هامة مثل سراه الترس
وقامة مثل قضيب الغرس ... وعين فتخاء وناب نمس
أو تسعة مطفورة بجلس ... وجلدة شبيهة بطرس
طليته بالجص أو بالورس ... ثم رقمت فوقه بالنقس
يلين لو أمكن للمجس ... لكنه يقتل قبل اللمس
وقال آخر في ذلك:
أفعى زحوف الليل مطراق البكر ... داهية قد صغرت من الكبر
صل صفا لا ينطوي من القصر ... طويلة الاطراق من غير خفر
كأنما قد ذهبت بها الفكر ... شقت لها العينان طولا في شفر
مهروتة الشدقين حولاء النظر ... تفتر عن عوج حداد كالإبر
جاء بها الطوفان أيام زجر
وقال آخر من أبيات:
فإذا بداهية كأن حفيفها ... بين النمام حفيف ليث خادر
شزا مسخرة الجفون كأنما ... ترنو الينا من قليب غائر
صل يعرفها الزمان فأصبحت ... دون الذراع وفوق شبر الشابر
فإذا رأيت، رأيت خوط أراكة ... وإذا فرعت فرعت قرني قادر
صما لو نفخت ثبيرا نفخة ... لانساح أو لهوى هوي الطائر
جعلت حماما للنفوس وآية ... للسائلين وغيره للناظر
وقال النابغة الجعدي:
أفعى به تسطو اكف الدهر ... على ذوي الكيد وأهل المكر
تري المنايا حيث سار تسري ... عيناه حمراوان ذات طمر
كأنه مكتحل . . . . بجمر ... ذو هامة منحوتة من صخر
وجلدة مسلوخة من نمر ... وخطفة مخلوقة من نسر
وذو فم رحب شديد الفغر ... أنيابه مثل ظفور الصقر
له خطوط عدلت في الظهر ... سود كأن خططت بحبر
أنفاسه في سبرات القر ... يحدث في الحر شديد الوغر
يعدم وجه الأرض حسن الدهر ... كأنها ما بللت . . . بقطر
وقال آخر يصف حية وبالغ في التهويل:
لا ينبت العشب في واد به ... ولا يجاورها وحش ولا شجر
جرداء سافكة الأنياب ذابلة ... ينبو من اليبس عن يافوخها الحجر
لو شرحت بالمدى ما مسها بلل ... ولو تكنفها الحاوون ما قدروا
قد جاهدوها فما قام الرفاة لها ... وخاتلوها فما نالوا ولا ظفروا
يكبر لها الورل العادي إذا نفخت ... جبنا ويهرب عنها الحية الذكر
وقال خلف الأحمر من أبيات:
كأنما لبست بأعلى جسمها ... بردا من الأثواب انهجه البلى
في عينها قبل وفي خيشومها ... فطس وفي أنيابها مثل المدى
وقال أشجع السلمي:
وحنش كحلقة السوار ... غايته شبر من الاشبار
كأنه قضيب ماء جار ... يفتر عن مثل تلظي النار
وقال آخر وأجاد:
أرقم كالدرع فيه وشم ... منمنم الظهر واللبان
يزحف كالسيل من قلاع ... كأن عينيه كوكبان
يهمش ما مس من نبات ... ويجذب النفس بالعنان
كأن ألحاظه فضا ... ليس لخلق به يدان
قال عبد الله بن المعتز:
انعت رقشاء لا يحيى لديغها ... لو قدها السيف لم يعلق به بلل
تلقي، إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنه كم درع قده بطل
وقال أبو نصر عبد العزيز بن بنانه وأجاد كل الإجادة:
إذا عرس السارون في بطن دابق ... فسر وتعوذ من شرار الطوائق
ففي الهضبة الحمراء إن كنت ساريا ... اغيبر يأوي في صدوع الشواهق
سالم ركبان الطريق نهاره ... إلى الليل محنو لاحدى البوائق
يقصر عن يافوخه حين تنطوي ... حقيبة مملوء من السم زاهق
كأن بقايا ما سدى من قميصه ... على متنه اقواف برد سبارق
يبادره الحارون إذ يبصروا به ... تسارق عيناه لحظ المشارق
ودون الذي يرجون من سقطاته ... حفيظه مسنون اللحاظ مراحق
يطول إذا ما طلته الكيد سادر ... جرى إذا ما بدهته في الحقائق
ولم أقف فيما طالعت على أظرف ولا أطرب، ولا أعجب، ولا أغرب من قول أبي إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسي يصف حبابا رآه في روض معشب شعرا:
مثل الحباب بمنحاه ذؤابة ... خفاقة حيث الثريا أكفال
وانساب ثان معطفيه كأنه ... هيمان نشوان هناك مذال

اوطل أسمر باللوى متأطر ... عطفت جنوب منه وشمال
فلم أدر هل يزهى فتخطر نحوه ... أم لاعبت أعطافه الجريال
بيد الهجيزة منه سوط خافق ... وبساق ليلة صرصر خلخال
رزت عليه حبرة موشية ... بمقتله اخت لها أسمال
مزق كما ينقد في يوم الوغى ... عن لبتي مستلم سربال
ألقى به منها هنالك درعه ... بطل وجرد سيفه مختال

القول في طبائع الورل
قال عبد اللطيف البغدادي في كتاب الحيوان له، الورل، والضب والحرباء وشحمة الأرض والوزغ كلها متقاربة متناسبة في الخلق، فأما الورلوهو الحرذون، فزعم أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: أنه ليس في الحيوان أكثر سفادا منه ولا أبطأ فيه، وهو ألطف من الضب، وأقوى براثا منه، وربما خرش بينهما فيغلب الورل الضب فيقتله لكنه إذا قتله لا يأكله كما تفعل الحية، وهو لا يتخذ بيتا لنفسه، ولا يحفر اتقاء لبراثنه، بل يخرج الضب من حجره صاغرا ويستولي عليه، وإن كان أقوى براثنا منه لكن الظلم يمنعه من الحفر، ولهذا يضرب المثل به في الظلم كما يضرب بالحية، فكلما يلقى ذو جحر من الحية يلقى مثله من الورل ويكفي من ظلمه أنه يغتصب الحية جحرها، ويبتلعها، وربما قتل فوجد في بطنه الحية العظيمة، وهو لا يبتلعها حتى يشدخ رأسها، ويقال: إنه يقاتل الضب على معنى الصائد والطالب، والضب يقاتله على معنى الحرج، والجاحظ يقول: الحرذون غير الورل وصفته أنه دويبة تكون بناحية مصر مليحة موشاة بألوان كثيرة ونقط، لها كف ككف الإنسان مقسومة أصابعها إلى الأنامل.
وأما الضب فيقال: إن له نزكين، وللضبة فرجين، كمال للورل والحرذون ويحكى أن أبا حية سئل عن ذكر الضب فزعم أنه كلسان الحية أصل واحد وله فرعان، والضبة إذا أرادت أن تخرج بيضها حفرت في الأرض أدحيا، ثم رمت البيض فيه، وطمته بالتراب وتعاهدته كل يوم حتى يخرج وذلك في أربعين يوما، وهي تبيض سبعين بيضة، وأكثر، وبيضه شبيه ببيض الحمام، ويخرج الحسل وهو الفرخ من البيضة مطيقا للكسب، والضب يخرج من جحره كليل البصر فيجلوه بالتحديق في الشمس، وهو يغتذي بالنسيم ويعيش ببرد الهواء، وذلك عند الهرم، وقلة الرطوبات ونقص الحرارات، وبينه وبين العقارب مودة وهو يهبها في جحره لتلدغ المتحرش به إذا أدخل يده لأخذه، وقد أعطي في ذنبه من القوة نحو ما أعطيت العقارب في حمتها فربما ضرب به الحية فقطعها، ولا يتخذ جحره إلا في كرية جبلية خوفا من السيل والحافر، وكذلك توجد براثنه ناقصة كليلة، لحفره في الصلابة وفي طبعه النسيان، وعدم الهداية، وبه يضرب المثل في الحيرة، ولذلك يتخذ جحره عند أكمة أو صخرة لئلا يضل عنه إذا خر يطلب الطعم منه، ويوصف بالعقوق وبه يضرب المثل في ذلك لأنه يأكل حسوله، وهو إذا أراد أكلها وقف لها من جحره في موضع من منفذه إلى خارج، فإذا أحكم بدأ فأكل منها حتى يشبع، وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا في قوله يهجو:
أكلت بنيك أكل الضب حتى ... تركت بنيك ليس لهم عديد
وبعض المتكلمين في طبائع الحيوان ينكر ذلك، وإنما الضبة إذا دفنت بيضها يحفر عنها الظربان والثعلب فيأكلها، والضب طويل العمر وهو من هذه الجهة مناسب للحيات والأفاعي، ومن مناسبته لها أنه إذا هرم وعجز عن الحركة يبلع بالنسيم، وغني به عن الطعم والشرب، وفي طبعه أنه يرجع في قيئه، ويأكل بعره، وهو طويل الذماء بعد الذبح وهشم الرأس، ويقال أنه يمكث بعد الذبح ليلة ثم يقرب من النار فيتحرك.
قال بعض الشعراء يصفه وذكر أرضا:
ترى ضبها مطلعا رأسه ... كما مد ساعده الاقطع
له ظاهر مثل برد الوشى ... ويظن كما حسر الأصلع
هو الضب ما مد سكانه ... فإن ضمه فهو الضفدع

وأما الحرباء: فدويبة أكبر من العظاية، اغيبر ما كان فرخا ثم يصفر، وهو يأوى الجحر، ولهذا جعلت له الأصابع والأظفار لنبش التراب، ويكون لونه أسود كالتمساح، وأصفر كسام وابرص ومختلط الألوان، كالفهد وهو في الشمس كثير التلون، فإذا انتقل إلى الظل قل تلونه، وإذا قارب الموت أو مات اصفر، وهو أبدا يطلب الشمس فحين تبدو نحا بوجهه إليها حتى إذا أرمضت الأرض علا رأس شجرة وما يجري مجراها، وذلك عند انتصاف فإذا زالت وصارت على رأسه في قبه وغاب عنه جرمها فلا يراه أصابه مثل الجنون فلا يزال طالبا لها لا يفتر إلى أن يتصوب إلى جهة المغرب، فيرجع بوجهه إليها مستقبلا لها لا ينحرف عنها إلى أن تغيب، فإذا غابت ذهب يطلب معاشه ليله كله إلى أن يصبح، حتى إن طائفة من المتكلمين في طبائع الحيوان يقول: إنه مجوسي، ولسانه طويل جدا مقدار ذراع، وذلك دليل على أنه يكون مطوبا في حلقه، وهو يبلغ به ما بعد عنه الذباب، والأنثى من هذا تسمى أم حبين، وتوصف بالحزم مع تقلبه مع الشمس لا يرسل يده من خوط حتى يمسك بالأخرى خوطا آخر بيده الأخرى وفيه يقال:
أنى أتيح له حرباء تنضبه ... لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا
وكتب بعض الفضلاء إلى بعض أصدقائه رسالة يحثه فيها على الحزم والانفة والتغرب عن وطنه إذا نبأ عنه: اعجزت في الاباء عن خلق الحرباء، أدلى لسانه كالرشاء، يبلغ به ما يشاء، وناط همته بالشمس، مع بعدها عن اللمس وانف من ضيق الوجار، ففرخ في الأشجار وسئم العيش المسخوط، فاستدبل خوطا بخوط فهو كالخطيب على الغصن الرطيب.
وإن صواب الرأي والحزم لامرئ ... إذا بلغته أن لا يتحولا

الوصف والتشبيه
لم يأت أحد من الشعراء في وصف هذا الحيوان بمثل ما أتى به ذو الرمة:
كأن يدي حربائها متشمسا ... يدا مجرم يستغفر الله تائب
وقال أيضا في ذلك:
إذا جعل الحرباء يبيض لونه ... ويحضر من لفح الهجير غباغبه
ويشبح بالكفين شبحا كأنه ... أخو فجره عالى به الجذع صالبه
وقال أيضاً يصفه ويذكر هاجره:
يصلي بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذع إلا أنه لا يكبر
إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفا وفي وقت الضحى يتنصر
وأما العظاية: وتسمى شحمة الأرض، وشحمة الرمل، وهي أنوع كثيرة منها الأبيض، والأحمر، والأخضر، وكلها منقطات بالسواد، وهذه الألوان بحسب مساكنها فإن منها ما يسكن الرمال، ومنها ما يسكن قريبا من الماء والعشب وما يألف الناس، وقال أرسطو العظاية تبقى في جحرها زمن الشتاء أربعة أشهر لا تطعم شيئا، وفي طبعها محبة الشمس وتتصلب فيها، ومن خرافات الحكايات أن السموم لما فرقت على الحيوان المسموم احتبست العظاية عند التفرقة، حتى نفذ السم وأخذ كل حيوان قسطه على قدر السبق والبكور، فلم يكن لها فيه نصيب، داخلها من الحسرة والكرب ما جعلها تسكن في المزابل والخرابات وفي طبعها أنها تمشي سريعا ثم تقف كالمتحير، ويقال: إن ذلك لما تعرض لها من التفكر والأسف على ما فاتها منه.
وأما الوزع: وتسمى سام ابرص، فذكر أصحاب الآثار: إنه أصم، وادعوا أن السبب في صممه وفي برصه أن الداوب كلها حين ألقي إبراهيم عليه السلام في نار النمرود كانت تطفئ عنه، وإن هذا كان ينفخ عليه فصم وبرص وفي طبعه أنه لا يدخل شيئا فيه زعفران، والحيات تألفه كما تألف العقارب والخنافس، وهو يطاعمها ويزاقها، وهو يقبل اللقاح بفيه، ويبيض كما تبيض الحيات، وزعم زرادشت أن سام ابرص من ذوات السموم، ونصيبه من السم نصيب مقتصد لا يكمل بأن يقتل، ومتى دبر سام ابرص جاء منه سم قاتل، وفي تركيبه أنه إذا قتل ووضع على جحر حية هربت منه ولم تأوه وهو يقيم جحره زمن الشتاء أربعة أشهر لا يطعم شيئا البتة.
؟
القول في طبائع القنفذ

وهو صنفان قنفذ ويكون بأرض مصر في قدر الفأر، ودلدل ويكون بأرض الشم والعراق في قدر الكلب القلطي، والفرق بينهما كالفرق بين الفأر والجرذ، والذر والنمل ويقول الباحثون عن طبائع الحيوان أنه يسفد قائما وظهر الأنثى لاصق بظهر الذكر، والأنثى تبيض خمس بيضات، وليس هو بيض بالحقيقة بل هو على صورة البيض، تشبه اللحم، وفي طبعه أنه يجعل في جحره بابين أحدهما من جهة الجنوب، والآخر الشمال، فإذا هب الريح الجنوب سد باب جهتها، وفتح باب جهة الشمال، وإذا هبت الشمال سد باب جهتها وفتح باب جهة الجنوب، وبصره في الليل أكثر من النهار، ويستأنس في البيوت ويختفي أياما حتى يؤنس منه ويعود يظهر )ولا يدري أين كان( وقد الهم أنه متى جاع صعد الكرمة منكسا وقطع العناقيد ورمى بها ثم ينزل فيأكل منها ما أطاق، وإن كان له فراخ تمرغ على الباقي فيشتك في شوكه بعد تفريطه من عوده، وذهب به إلى فراخه، وهو لا يظهر إلا ليلا، ولذلك يشبه بالنمام والماحل وقال عبدة بن الطيب وذكر نمامين:
قوم إذا دمس الظلام عليهم ... حدجوا قنافذ بالنميمة تمرغ
وهو مولع بأكل الأفاعي، ولا يبالي أي موضع قبض من الأفعى إن قبض على رأسها أو على قفاها فذلك من أسهل الوجوه، وإن قبض على وسطها أو على ذنبها جذب ما قبض عليه واستدار وتجمع ونفخ سائر بدنه فمتى فتحت فاها لتعض شيئا منه تلقاها شوكه الذي في جسده فهي تهرب منه، وطلبه لها، وحرصه عليها على حسب هربها منها وضعفها عنه، وإذا صادفت الأفعى مراق بطنه حتى لدغته أكل الصعتر البري فيبرأ.
والدلدل إذا رأى ما يكرهه انتفض فتخرج منه شوك كالمداري تجرح ما تصيبه، وزعم أصحاب الكلام في الطبائع أن شوكه شعر وإنما لما غلط البخار واشتد غلطه، وغلب عليه اليبس عند صعوده من السام صار شوكا.

الوصف والتشبيه
قال الأمير شمس الدين أبو المعالي قابوس بن وشمكير من رسالة كتبها إلى بعض أصدقائه وقد أهدى له دلدلا: قد أتحفتك يا سيدي بعلق نفيس وتحفة رئيس، يعجب المتأمل من أحواله ويحار الناعت في أوصافه وأعماله، ويتلبد المعتبر في آياته، ويكل الناظر في معجزاته، فما يدري ببديهة النظر والفؤاد، أمن الحيوان هو الجماد؟ حتى إذا أمعن متدبره النظر في تعظمه والفحص عن اكمل شروطه علم أنه كمي، سلاحه في حضنه، ورام سهامه في ضمنه، ومقاتل رماحه على ظهره، ومخاتل سره خلاف جهره، يلقاك بأخشن من حد السيف ويستتر بألين من دبر الخيف متى جمع أطرافه وضم إليه أصوافه حسبته رابية ناتية، أو قلعة بادية وهو أمضى من الأجل، وأرجى من بني ثعل إن رأته الأراقم رأت حتف أنفها، أو عاينته الاساود أيقنت بفناء جنسها، صعلوك ليل لا يحجم عن دامسه، وفارس ظلام لا يخاف من حنادسه، فيه من الضب مثل، ومن الفأر شكل، ومن الورل نسب، ومن الدلدل سبب، ومن أوابده أنه يسود إذا هرم وشاب، ويصير كأكبر ما يكون من الكلاب.
وقال أبو محمد اليزيدي يذكر قنفذا رآه فأطعمه وسقاه:
وطارق ليل جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلا ما تحدث سامر
قريناه صفو الزاد حين رأيته ... وقد جاء خفاق الحسى وهو سادر
جميل المحيا في الرضا فإذا أتى ... حمته من الضيم الرماح الشواجر
ولست تراه واضعا لسلاحه ... مدى الدهر موتورا ولا هو واتر
وقال آخر من أبيات يرثيه فيها ويصفه:
عجبت له من شبهم متحصن ... نبيل من السرد المضاعف يمرق
وأنى اهتدى سهم المنية نحوه ... وفي كل عضو منه سهم مفوق
ولو كان كف الدهر يستخشن الردى ... لكان بكف الدهر لا يتعلق
وقال أبو بكر الخوارزمي يصفه:
ومدجج وسلاحه من نفسه ... شاكي الدوابر أعزل الاقبال
يمسي ويصبح لم يفارق بيته ... ولقد سرى عددا من الأميال
وتراه يكمن بعضه في بعضه ... فتطيشعنه أسهم الأهوال
عيناه مثل النقطتين وخطمه ... يحكي ثدي رضاعة الأطفال
وكأن أقلاما غرزن بظهره ... مس المداد رؤوسها ببلال
تتهارب الحيات حين يرينه ... هرب اللصوص رأت سواد الوالي
فكأنه الخنزير إلا جلده ... وصياحه وتقارب الأوصال
؟
القول في طبائع ابن عرس

وهذا الحيوان مليح الصور موثق الخلق جديد النفس شجيع فطن ويوجد في منازل أهل مصر، قال عبد اللطيف البغدادي: وأظنه الحيوان المسمى بالدلق، وإنما يختلف وبره ولونه بحسب البلاد، وفي طبعه أنه يسرق ما وجد من ذهب أو فضة وإن وجد حبوبا خلطها، وهو عدو الفأر ويقتله، ويقال إن عداوته له أشد من عداوة السنور، وخرف الفأر منه أشد من خوفه من السنور كما أن خوف الدجاج من ابن آوى أشد من خوفها من الثعلب، وقد حكي: من فطنته ما هو شبيه بالخرافات أن رجلا صاد فرخا منها فحبسه في قفص بحيث تراه أمه فلما رأته ذهبت ثم جاءت وفي فمها دينار فألقته بيد يدي الرجل كأنها تفدي ولدها، فلم يتناوله، وتركه مكانه فذهبت وعادت بدينار آخر حتى بلغت من العدد خمسا، فلما رأت أنه لا يضمها إليه ذهبت وعادت بخرقة كانت صرة للدنانير، تريه أنه لم يبق شيء، فلم يكترث بما فعلت فلما رأت ذلك منه عمدت إلى دينار منه فأخذته وعادت إلى جحرها فخشي أن تتفعل ذلك بالباقي، فبادر إلى الدنانير، وأخذها وأطلق ولدها.

القول في طبائع الفأر
أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون: جميع ما يقع عليه اسم الفأر: فأر البيت ويسمى الجرذ، والزباب، والخلد، واليربوع، وفأرة البيش، وفأرة المسك، وفأرة الإبل: فأما فأرة البيت فصنفان، جرذان وفأر، وهما كالجواميس والبقر، والبخت والعراب، والفأر من الحيوان الذي جمع له حاسة الشم والبصر، وليس في الحيوان أفسد منه لا يبقي على شيء من جليل ولا حقير إلا أهلكه وأتلفه، لا يقصر فعله عما فعله ريح قوم عاد، ويكفيه ما يحكى عن شدة رأيه وتدبيره في الشيء الذي يأكله ويحسوه أنه يأتي القارورة الضيقة فيحتال حتى يدخل طرف ذنبه في عنقها، فكلما ابتل بالدهن أخرجه وامتصه حتى لا يدع في القارورة شيئا، ويضرب به المثل في السرقة والنسيان والحذر، ويبلغ الفأر من حذره واحتياطه أنه يسكن السقوف وربما فاجأه السنور، وهو يريد أن يعبر بيته والسنور في الأرض، وهو في السقف ولو شاء أن يدخل بيته لم يكن للسنور عليه سبيلا، ويشير إليه السنور بيساره كالقائل له ارجع، فإذا رجع أولى إليه بيمينه كالقائل له: عد فيعود، وإنما يطلب بذلك أن يعي أو ينزلق، فلا يفعل ذلك إلى ثلاث مرات حتى يسقط إلى الأرض فيثب عليه، وفي طبع الجرد البري أنه لا يحفر بيته على قارعة الطريق ويتجنب الخفض والوطأ خوفا من الحافر أن يهدم عليه بيته، وحكى الجاحظ أن أناسا أنكروا أن يخلق الفأر في أرحام إناثها من أصلاب ذكورها، ولكن من أرحام بعض الأرض كطينة القاطول فإن أهلها يزعمون أنهم رأوا الفأر ولم يتم خلقه بعد وإن عينيها لتبصان ثم لا يريمون حتى يتم خلقها وتشتد حركتها، وكذلك يتولد بأرض مصر إذا انكشف ماء النيل عنها.
وأما الزباب: فأصم يكون في الرمل والعرب تضرب به المثل في السرقة فيقولون أسرق من زبابة، ولم أقف على أكثر مما ذكرت من أمره وأما الخلد: فأعمى أصم لا يعرف ما يريبه إلا بالشم إلا أن عينيه كاملتان لكن الجفن ملتحم على الناظر لا ينشق، وإنما خلق كذا لأنه يتنفس في البخار الغليظ والأرض له كالماء للسمك، وغذاه من باطن الأرض، الرطوبات والورق، وليس له على ظهر الأرض قوة، ولا نشاط، ولا حيلة بل يبقى مطروحا كالميت حتى يخطفه جارح أو يموت، ولما لم يكن له بصر عوض عنه بحدة حاسة السمع فيقال أنه يحس بالوطء الخفي، ومتى أحس بذلك جعل يحفر في الأرض، ويتحيل عليه حتى يصاد، بأن يجعل في باب جحره قملة فإذا سمعها، وأحس بها خرج إليها ليأخذها فيصاد، وفي طبعه أنه متى شم رائحة طيبة هرب، وهو يحب رائحة الكراث والبصل، وربما صيد بهما فأنه متى شمهما خرج إليهما، ومن دأبه طول الكد، ودوام الحفر للأنفاق والأسراب سواء انتفع بها أو لم ينتفع، وفي تركيبه أنه لا يفرط في الطلب، ولا يقصر فيها، ولا يخطئ الوقت الذي يظهر فيه، ولا يغلط في المقدار.

وأما اليربوع: فحيوان طويل الرجلين قصير اليدين جدا وله ذنب كذنب الجرد بين يرفعه صعدا في طرفه شبه الفوارة، لونه لون الغزال، قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان كل دابة حشاها الله تعالى خبثا فهي قصيرة اليدين لأنها إذا خافت شيئا لاذت بالصعود، فلا يلحقها شيء، وهذا الحيوان يسكن بطن الأرض لتقود رطوبتها له مقابل الماء، وهو يؤثر النسيم ويكره البخار، فتراه أبدا يتخذ جحره في نسز من الأرض ثم يحفر بيته ويفتح له أربعة أبواب على مهب الرياح الأربعة، وتسمى النافقاء والقاصعاء والدماء والراهطاء، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى نافق أي خرج من النافقاء، وإن طلب من النافقاء قصع أي خرج من القاصعاء، وفي طبعه أنه يطأ على زمعاته في السهل والأرض اللينة كي لا يعرف أثر وطئه كما يفعل الأرنب، وهو يجتر ويبعر، وله كرش وأسنان واضراس في الفك الأعلى والأسفل وهو من الحيوان الذي له رئيس ينقاد إليه وإذا كان فيها يكون من بينها في مكان مشرف أو على صخرة ينظر منه إلى الطريق في كل ناحية، فإن رأى ما يخافه عليها صر بأسنانه وصوت، فإذا سمعته انصرفت إلى أحجرتها، وإن أغفل ذلك، ورأت ما يخافه قبل أن يراه قتلته لتضييعه الحزم، وغفلته، وينصب غيره وإذا أرادت الخروج من جحرها تطلب المعاش، خرج الرئيس أولا يشرف فإن لم ير ما يخافه صر لها وصوت فتخرج ولليربوع من الفأرة ولد يسمى القريب.
وأما الفأرة البيش: فدويبة تشبه الفأرة، وليس بفارة، ولكن هكذا تسمى وتكون في الغياض والرياض وهي تتخللها طلبا لمنابت السموم ليأكلها فلا يضر بها وكثيرا ما تطلب البيش وهو سم قاتل.
وأما فأرة المسك: فزعم الجاحظ: أنها دويبة تكون ببلاد تبت تصاد لنوافجها وسررها، فإذا صيدت عصبت سرتها بعصاب، وهي مدلاة فيجتمع فيها دمها فإذا حكم ذلك ذبحت، وما أكثر من يأكلها، فإذا ماتت قورت السرة التي عصبت ثم تدفن في الشعير حينا حتى يستحيل ذلك الدم المختنق هناك الجامد بعد موتها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام سنا، ورأيت في بعض المجاميع أن هذه الدابة توجد ببلاد الزانج، وتحمل إلى بلاد السند وإن المسك يخرج من خصيتي ذكرانها بالعصر، ومن ضروع إناثها بالحلب، ورأيت في مجموع آخر: الفأر الفارسي أطيب من كل طيب، وربما ضاهى ريح المسك وهو جرد أشقر شعره إلى الصفرة وهو سديد كحيل العينين طويل الأذنين، قصير الذنب.
وأما فأرة الإبل: فليست بحيوان، وإنما هي رائحة تسطع من الإبل عند صدورها من الورود وهو يكون من طيب المرعى وقال الراعي وغيره يصف إبلا شعرا:
لها فأرة ذفراء كل عشية ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه

الوصف والتشبيه
قال بعض الأعراب:
عجل بعض الناس بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
كحل العيون وقص الرقاب ... مجررات فضل الأذناب
مثل مداري الكتاب والظريف في قول أبي بكر الصنوبري
بالحدب الظهور قعس الرقاب ... لدقاق الخرطوم والأذناب
للطاف آذانها . . . والخراطي ... م حداد الأظفار والأنياب
خلقت للفساد قد خلق الخل ... ق وللعبث والأذى والخراب
ناقبات في الأرض والسقف والحا ... ئط نقبا أعيا على النقاب
آكلات كل المآكل لا تس ... أمها شاربات كل الشراب
آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القوب قرض الثياب
والطريف المطبوع، الذي يدين بحسنه التابع والمتبوع قول القاضي المعروف بابن بصاقة يصف فارة بيضاء استظرفها فجعلها في قفص وأمر أن تطعم وتسقى ثم قال:
وفأرة بيضاء لم تبتذل ... يوما لاطعام السنانير
إذ فأرة المسك سمعنا بها ... وهذه فأرة كافور
القول في طبائع العقرب
أقسام الكتاب
1 2