كتاب : كتاب الصناعتين
المؤلف : أبو هلال العسكري

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وليّ كلّ نعمة، وصلواته علة نبيّه الهادي من كلّ ضلالة، وعلى آله المنجبين الأخيار، وعترته المصطفين الأبرار.
قال أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل رحمه الله لبعض إخوانه: اعلم علّمك الله الخير، ودلك عليه، وقيضه لك، وجعلك من أهله أنّ أحقّ العلوم بالتعّلم، وأولاها بالتحفّظ بعد المعرفة بعد المعرفة بالله جلّ ثناؤه علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعزف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرّشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحّة النبوة، التي رفعت أعلام الحقّ، وأقامت منار الدّين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشّك بيقينها.
وقد علمنا أنّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصّه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمّنه من الحلاوة، وجلّله من رونق الطّلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيّرت عقولهم فيها.
وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته، في حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه. وقبيح لعمري بالفقيه المؤتمّ به، والقارئ المهتدي بهديه، والمتكّلم المشار إليه في حسن مناظرته، وتمام آلته في مجادلته، وشدّة شكيمته في حجاجه، وبالعربيّ الصّليب والقرشي الصريح ألاّ يعرف إعجاز كتاب الله تعالى إلاّ من الجهة التي يعرفه منها الزّنجي والنّبطي، أو أن يستدلّ عليه بما استدلّ به الجاهل الغبيّ.
فينبغي من هذه الجهة أن يقدّم اقتباس هذا العلم على سائر العلوم بعد توحيد الله تعالى ومعرفة عدله والتصديق بوعده ووعيده على ما ذكرناه، إذ كانت المعرفة بصحة النبوة تتلو المعرفة بالله جل اسمه.
ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة، منها أنّ صاحب العربية إذا أخلّ بطلبه، وفرّط في التماسه، ففاتته فضيلته، وعلقت به رذيلة فوته، عفّى على جميع محاسنه، وعمّى سائر فضائله، لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيّد، وآخر ردئ، ولفظ حسن، وآخر قبيح، وشعر نادر، وآخر بارد، بان جهله، وظهر نقصه.
وهو أيضاً إذا أراد أن يصنع قصيدة، أو ينّشئ رسالة وقد فاته هذا العلم مزج الصّفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر، واستعمل الوحشي العكر، فجعل نفسه مهزأة للجاهل، وعبرةً للعاقل، كما فعل ابن جحدر في قوله:
حلفتُ بما أرقلتْ حولَهُ ... همرجلةٌ خلقُها شيظَمُ
وما شبرقتْ من تنوفيَّةٍ ... بها من وحي الجنِّ زيزيَمُ
وأنشده ابن الأعرابي، فقال: إن كنت كاذباً فالله حسيبك وكما ترجم بعضهم كتابه إلى بعض الرؤساء: مكر كسة تربوتاً ومحبوسة بسريتا فدلّ على سخافة عقله، واستحكام جهله، وضرّه الغريب الذي أتقنه ولم ينفعه، وحطّه ولم يرفعه، لمّا فاته هذا العلم وتخلّف عن هذا الفن.
وإذا أراد أيضاً تصنيف كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطّى هذا العلم ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه، فأخذ الردئ المرذول، وترك الجيد المقبول فدل على قصور فهمه، وتأخّر معرفته وعلمه.
وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله، كما أنَّ شعره قطعةٌ من علمه. وما أكثر من وقع من علماء العربية فيه هذه الرذيلة منهم الأصمعي في اختياره قصيدة المرقش:
هل بالدّيارِ أنْ تجيبَ صممْ ... لو أنَّ حيَّا ناطقاً كلّمْ
ولا أعرف على أي وجهٍ صرف اختياره إليها، وما هي بمستقيمة الوزن، ولا مونقة الروى، ولا سلسلة اللفظ، ولا جيّدة السّبك، ولا متلائمة النسج.
وكان المفضّل يختارُ من الشعر ما يقلُّ تداول الرواة له، ويكثر الغريب فيه، وهذا خطأ من الاختيار، لأنَّ الغريب لم يكثر في كلام إلاّ أفسده، وفيه دلالة الاستكراه والتكلُّف.
وقال بعض الأوائل: تلخيص المعاني رفق، والتّشادق من غير أهله بغض، والنظر في وجوه الناس عيّ، ومسّ اللّحية هلل، والاستعانة بالغريب عجز، والخروج عمّا بنى عليه الكلام إسهاب. وكان كثير من علماء العربية يقولون: ما سمعنا بأحسن ولا أفصح من قول ذي الرّمة:
رمتني ميٌّ بالهوى رمىَ ممضعٍ ... من الوحشِ لوطٍ لم تعقه الأوانِس

بعينينِ نجلاوينِ لم يجرِ فيهما ... ضمانٌ وجيدٍ حلِّىَ الدُّرَّ شامسِ
وهذا كما ترى كلامٌ فجّ غليظ، ووخم ثقيل، لاحظَّ له من الاختيار.
وحكى العتبي عن الأصمعي أنه كان يستحسنُ قول الشاعر:
ولوْ أرسلت من حب ... ك مهبوتاً من الصينْ
لوافيتُك قبل الصْب ... ح أو حين تصلينْ
وهما على ما تراهما من دناءة اللّفظ وخساسته، وخلوقة المعرض وقباحته.
وذكر العتبي أيضاً أن قول جرير:
إن العيونَ الَّتي في طرفِهَا مرضٌ ... قتلْننَا ثمَّ لم يحينَ قتلانَا
يصرعْنَ ذا اللُّب حتى لا حراك به ... وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانَا
وقوله:
إنَّ الذين غدوا بلبِّكَ غادرُوا ... وشلاً بعينِكَ لا يزالُ معينَا
غيَّضنَ من عبراتهِنَّ وقلنَ لي ... ماذا لقيتَ منَ الهوى ولقينَا
من الشعر الذي يستحسن لجودة لفظه، وليس له كبير معنى، وأنا لا أعلم معنى أجود ولا أحسن من معنى هذا الشعر.
فلما رأيت تخلي هؤلاء الأعلام فيما راموه من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل، ومكانه من الشرف والنبل، ووجدتً الحاجة إليه ماسة، والكتب المصنّفة فيه قليلة، وكان أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهو لعمري كثير الفوائد، جمّ المنافع، لما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفقر اللطيفة، والخطب الرائعة، والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء الخطباء والبلغاء، وما نبّه عليه من مقاديرهم في البلاغة والخطابة، وغير ذلك من فنونه المختارة، ونعوته المستحسنة، إلا أنّ الإبانة عن حدود البلاغة، وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومنتشرةٌ في أثنائه، فهي ضالّة بين الأمثلة، لا توجد إلا بالتأمل الطويل، والتصفّح الكثير، فرأيت أن أعمل كتابي هذا مشتملا على جميع ما يحتاج إليه في صنعة الكلام: نثره ونظمه، ويستعمل في محلوله ومعقوده، من غير تقصير وإخلال، وإسهاب وإهذار. وأجعله عشرة أبواب مشتملة على ثلاثة وخمسين فصلا: الباب الأول: في الإبانة عن موضوع البلاغة في أصل اللغة وما يجري معه من تصرف لفظها وذكر حدودها وشرح وجوهها وضرب الأمثلة في كل نوع منها وتفسير ما جاء عن العلماء فيها، ثلاثة فصول.
الباب الثاني: في تمييز الكلام جيده من رديه ومحموده من مذمومه فصلان.
الباب الثالث: في معرفة صنعة الكلام، فصلان.
الباب الرابع: في البيان عن حسن السبك وجودة الرصف، فصل واحد.
الباب الخامس: في ذكر الإيجاز والإطناب، فصلان.
الباب السادس: في حسن الأخذ وقبحه وجودته ورداءته، فصلان.
الباب السابع: القول في التشبيه، فصلان.
الباب الثامن: في ذكر السجع والازدواج، فصلان.
الباب التاسع: في شرح البديع والإبانة عن وجوهه وحصر أبوابه وفنونه، خمسة وثلاثون فصلا.
الباب العاشر: في ذكر مقاطع الكلام ومباديه والقول في الإساءة في ذلك والإحسان فيه، ثلاثة فصول.
وأرجو أن يعين الله على المراد من ذلك والمقصود فيما نحونا إليه ويقرنه بالتوفيق ويشفعه بالتسديد، إنه سميع مجيب.

الباب الأول
الإبانة عن موضوع البلاغة
الفصل الأول
في الإبانة عن موضوع البلاغة في اللغة، وما يجري معه من تصرف لفظها،
والقول في الفصاحة، وما يتشعّب منه
البلاغة من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبلّغتها غير. ومبلغ الشيء منتهاه. والمبالغة في الشيء: الانتهاء إلى غايته. فسمّيت البلاغة بلاغة لأنها تنهى المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. وسمّيت البلغة بلغة لأنك تتبلّغ بها، فتنتهي بك إلى ما فوقها، وهي البلاغ أيضاً. ويقال: الدنيا بلاغ، لأنها تؤدّيك إلى الآخرة. والبلاغ أيضاً: التبليغ، في قول الله عز وجل: " هذا بلاغٌ للنّاس " أي تبليغ. ويقال: بلغ الرجلُ بلاغة، إذا صار بليغاً، كما يقال نبل نبالة، إذا صار نبيلا. وكلامٌ بليغ وبلغ بالفتح، كما يقال: وجيز ووجز. ورجل بلغ بالكسر: يبلغ ما يريد. وفي مثل لهم أحمق بلغ. ويقال: أبلغت في الكلام إذا أتيت بالبلاغة فيه. كما تقول: أبرحت إذا أتيت بالبرحاء وهو الأمر الجسيم. والبلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكّلم.

فلهذا لا يجوز أن يسمّى الله جلّ وعزّ بأنه بليغ، إذ لا يجوز أن يوصف بصفةٍ كان موضوعها الكلام. وتسميتنا المتكلم بأنه بليغ توسعٌ. وحقيقته أنّ كلامه بليغ، كما تقول: فلان رجل محكم، وتعنى أن أفعاله محكمة. قال الله تعالى: " حكمةٌ بالغة " . فجعل البلاغة من صفة الحكمة، ولم يجعلها من صفة الحكيم، إلاّ أن كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنه بليغ كالحقيقة، كما أنها جعلت تسمية المزادة راوية كالحقيقة، وكان الراوية حامل المزادة وهو البعير وما يجري مجراه.
ولهذا سمّي حامل الشعر راوية، وكما صار تسمية البقيّ المكتسبة بالفجور القحبة حقيقة، وإنما القحاب السّعال. وكانوا إذا أرادوا الكناية عن زنت وتكسّبت بالفجور قالوا: قحبت، أي سعلت.
ومن ذلك النّجو، لأنَّ الرجل كان إذا أراد قضاء الحاجة استتر بنجوة، والنّجوة: الارتفاع من الأرض، فسمّى ذلك الشيء نجوا مجازاً، ثم كثر استعمالهم له فصار كالحقيقة وصرّفوه، فقالوا: ذهب ينجو، كما يقال: ذهب يتغوّط، إذا صار إلى الغائط، وهو البطن من الأرض لقضاء الحاجة، وسمّوا الشيء الغائط، وصار كالحقيقة حين كثر استعمالهم له. وقالوا، إذا غسل ذلك الموضع من النجو: يستتجى، ومثل هذا كثير ليس هذا موضع استيعابه.
فأما الفصاحة فقد قال قوم: إنها من قولهم: أفصح فلانٌ عما في نفسه إذا أظهره، والشاهد على أنها هي الإظهار قول العرب: أفصح الصبح إذا أضاء. وأفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر. وفصح أيضاً. وأفصح الأعجميّ إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين، وفصح اللحان إذا عبّر عما في نفسه وأظهره على جهة الصواب دون الخطأ.
وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما، لأن كلَّ واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له.
وقال بعض علمائنا: الفصاحة تمام آلة البيان، فلهذا لا يجوز أن يسمّى الله تعالى فصيحاً، إذ كانت الفصاحة تتضمّن معنى الآلة ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضّمن من تمام البيان.
والدليل على ذلك أن الألثغ والتمتام لا يسمّيان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. وقيل زيادة الأعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف، وكان يعبّر عن الحمار بالهمار، فهو أعجم، وشعره فصيح لتمام بيانه.
فعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين، وذلك أنّ الفصاحة تمام آلة البيان فهى مقصورة على اللفظ، لأن الآلة تتعلّق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى.
ومن الدليل على أنّ الفصاحة تتضمّن اللفظ، والبلاغة تتناول المعنى أنّ الببغاء يسمى فصيحاً، ولا يسمى بليغاً، إذ هو مقيم الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه.
وقد يجوز مع هذا أن يسمّى الكلام الواحد فصيحاً بليغاً إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فج، ولا متكلّف وخم، ولا يمنعه من أحد الأسمين شيء، لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.
وشهدت قوماً يذهبون إلى أنّ الكلام لا يسمّى فصيحاً حتى يجمع مع هذه النعوت فخامة وشدة جزالة، فيكون مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق، فإنّ المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " . ومثل كلام الحسين بن علي رضى الله عنهما: إن الناس عبيد الأموال، والدين لغو على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم فإذا محصوا بالابتلاء قلّ الديانون. ومثل المنظوم قول الشاعر:
ترى غابة الخطىّ فوق رؤوسهم ... كما أشرفتْ فوق الصّوارِ قرونُها
قالوا: وإذا كان الكلام يجمع نعوت الجودة، ولم يكن فيه فخامةٌ وفضل جزالة سمّى بليغاً ولم يسمّ فصيحاً، كقول بعضهم وقد سئل عن حاله عند الوفاة فقال: ما حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد، ويقدم على ملك عادل بغير حجة، ويسكن قبراً موحشاً بلا أنيس.
وقول آخر لأخ له: مددت إلى المودة يداً فشكرناك، وشفعت ذلك بشيء من الجفاء فعذرناك، والرجوع إلى محمود الود أولى بك من المقام على مكروه الصّدّ.
وأنشدنا أبو أحمد عن أبي بكر الصولي لإبراهيم بن العباس:
تمرُّ الصّبَا صفحاً بساكنةِ الغضَا ... ويصدَعُ قلبي أن يهبّ هبوبُها
قريبة عهدٍ بالحبيب وإنّما ... هوى كلِّ نفس حيث حلَّ حبيبُها

فالبيت الأول فصيح وبليغ، والبيت الثاني بليغ وليس بفصيح واستدلوا على صحّة هذا المذهب بقول العاص بن عدي: الشجاعة قلبٌ ركين، والفصاحة لسان رزين. واللسان ها هنا: الكلام، والرّزين الذي فيه فخامةٌ وجزالة.
وليس الغرض في هذا الكتاب سلوك مذهب المتكلّمين، وإنما قصدت فيه مقصد صنّاع الكلام من الشعراء والكتاب، لهذا لم أطل الكلام في هذا الفصل.

الفصل الثاني
في الإبانة عن حدّ البلاغة
فنقول: البلاغة كلّ ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكّنه في نفس كتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن.
وإنما جعلنا حسنَ المعرض وقبول الصورة شرطاً في البلاغة، لأنَّ الكلام إذا كانت عباراته رثّة ومعرضه خلقاً لم يسمَّ بليغاً، وإن كان مفهوم المعنى مكشوف المغزى.
ألا ترى إلى معنى الكاتب الذي كتب إلى بعض معامليه: قد تأخّر الأمر فيما وعدت حمله ضحوة النهار، والقوم غير مقيمين، وليس لهم صبري، وهم في الخروج آنفا، فإن رأيت في إزاحة العّلة مع الجهبذ فعلت إن شاء الله. فمعناه مفهوم ومغزاه معلوم، وليس كلامه ببليغ.
فهذا يدلّ على أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى مفهوماً واللفظ مقبولاً على ما قدمناه.
ومن قال: إن البلاغة إنما هي إفهام المعنى فقط، فقد جعل الفصاحة، واللّكنة، والخطأ، والصواب، والإغلاق، والإبانة سواء.
وأيضاً فلو كان الكلام الواضح السهل، والقريب السّلس الحلو بليغاً، وما خالفه من الكلام المستبهم المستغلق والمتكّلف المتعقد أيضاً بليغاً لكان كلّ ذلك محموداً وممدوحاً مقبولاً، لأنّ البلاغة اسم يمدح به الكلام.
فلمّا رأينا أحدهما مستحسنا، والآخر مستهجنا علمنا أنّ الذي يستحسن البليغ، والذي يستهجن ليس ببليغ.
وقال العتّابي: كلّ من أفهمك حاجته فهو بليغ. وإنما عنى: إن أفهمك حاجته بالألفاظ الحسنة، والعبارة النيّرة فهو بليغ.
ولو حملنا هذا الكلام على ظاهره للزم أن يكون الألكن بليغا، لأنه يفهمنا حاجته، بل ويلزم أن يكون كلّ الناس بلغاء حتى الأطفال، لأنّ كلّ أحد لا يعدم أن يدلّ على غرضه بعجمته أو لكنته أو إيمائه أو إشارته، بل لزم أن يكون السّنور بليغا، لأنّا نستدل بضغائه على كثير من إرادته. وهذا ظاهر الإحالة.
ونحن نفهم رطانة السوقي. وجمجمة الأعجمي للعادة التي جرت لنا في سماعها. لا لأنّ تلك بلاغة، ألا ترى أنّ الأعرابي إن سمع ذلك لم يفهمه، إذ لا عادة له بسماعه.
وأراد رجل أن يسأل بعض الأعراب عن أهله فقال: كيف أهلك؟ بالكسر. فقال له الأعرابي: صلبا، إذ لم يشك أنه إنما يسأله عن السبب الذي يهلك به.
وقال الوليد بن عبد الملك لأعرابي شكا إليه ختناً له، فقال: من ختنك؟ ففتح النون. فقال معذر في الحي، إذ لم يشكّ في أنه إنما يسأله عن خاتنه.
وقال رجل لأعرابي: ألقى عليك بيتاً. فقال: ألق على نفسك. وسمع أعرابيّ قصيدة أبي تمام:
طللَ الجميع لقدْ عفوتَ حميدا
فقال: إنّ في هذه القصيدة أشياء أفهمها، وأشياء لا أفهمها، فإما أن يكون قائلها اشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. ونحن نفهم معاني هذه القصيدة، لعادتنا بسماع مثلها، لا لأنّا أعرف بالكلام من الأعراب.
ومما يؤيّد ما قلنا من أنّ البلاغة إنما هي إيضاح المعنى وتحسين اللفظ قول بعض الحكماء: البلاغة تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. إلى غير ذلك مما سنذكره ونفسّره في هذا الباب إن شاء الله.
وقال محمد بن الحنفية رضى الله عنه: البلاغة قول تضطر العقول إلى فهمه بأسهل العبارة، فقوله: تضطر العقول إلى فهمه عبارة عن إيضاح المعنى وقوله بأسهل العبارة تنبيه على تسهيل اللفظ وترك تنقيحه. ومثل ذلك من النثر قول بعضهم لأخ له: ابتدأتني بلطف من غير خبرة، ثم اعقبتني جفا من غير هفوة، فأطمعني أوّلك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشكّ في حالك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف.

وقول الآخر: لم يدع انقباضك عن الوفاء، وانجذابك مع سوء الرأي في ملاحظة الهجر، والاستمرار على العذر، محركا من القلب عليك، ولا خاطراً يومي إلى حسن الظنّ بك. هيهات انقضت مدة الانخداع لك حين أخلقت عدة الأماني فيك، وما وجدنا ساتراً من تأنيب النصحاء في الميل إليك، والتوفّر عليك، إلا الإقرار بطاعة الهوى، والاعتراف بسوء الاختيار.
وكتب بعض الكتّاب إلى أخ له: تأخرت عني كتبك تأخرا ساء له ظني، إشفاقاً من الحوادث عليك، لا توهماً للجفاء منك، إذ كنت أثق من مودّتك بما يغنيني عن معاتبتك.
ومما هو في هذه الطريقة، وهو أجزل مما تقدّم ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبي بكر بن دريد، عن عبد الرحمن، عن عمه، قال: وقف علينا أعرابي ونحن برملة اللوى، فقال: رحم الله امرأ لم تمجّ أذناه كلامي، وقدم معاذه من سوء مقامي، فإنّ البلاد مجدبة،والحال مسغبة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرء أمر بمير، أو دعا بخير.
وقول بعضهم يمدح رجلاً: كان والله بعيد مسافة الرأي، يرمى بهمّته حيث أشار الكرم، يصافح عن صاحبه نوب الزمان، ويتحسّى مرارة الإخوان، ويسيغُهم العذب، ويعطفهم منه على ما جد ندب.

الفصل الثالث
وهو القول في تفسير ما جاء عن الحكماء والعلماء في حدود البلاغة
فحقيقة البلاغة هي ما ذكرته. وقد جاء عن الحكماء فيه ضروبٌ أنا ذاكرها ومفسّرها لتكمل فائدة الكتاب إن شاء الله.
قال إسحق بن حسان: لم يفسر أحد البلاغة تفسير ابن المقفّع، إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجرى في وجوه كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون خطباً، وربما كانت رسائل. فعامّة ما يكون من هذه الأبواب فالوحى فيها والإشارة إلى المعنى أبلغ، والإيجاز هو البلاغة.
فقوله: " منها ما يكون في السكوت " ، فالسكوت يسمّى بلاغة مجازا، وهو في حالة لا ينجع فيها القول ولا ينفع فيها إقامة الحجج. إما عند جاهل لا يفهم الخطاب، أو عند وضيع لا يرهب الجواب، أو ظالم سليط يحكم بالهوى، ولا يرتدع بكلمة التقوى. وإذا كان الكلام يعرى من الخير، أو يجلب الشرّ فالسكوت أولى، كما قال أبو العتاهية:
ما كلّ نطقٍ له جوابٌ ... جوابُ ما يكرهُ السكوتُ
وقال معاوية رضى الله عنه لابن أوس: ابغ لي محدّثاً. قال: أو تحتاج معي إلى محدث؟ قال: أستريح منه إليك، ومنك إليه، وربما كان صمتك في حال أوفق من كلامك.
وله وجه آخر، وهو قولهم: كلّ صامت ناطق من جهة الدلالة، وذلك أنّ دلائل الصنعة في جميع الأشياء واضحة، والموعظة فيها قائمة.
وقد قال الرقاشي: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً.
ولما مات الإسكندر وقف عليه بعض اليونانيين فقال: قد طالما وعظنا هذا الشخص بكلامه، وهو اليوم لنا بسكوته أوعظ، فنظم هذا الكلام أبو العتاهية في قوله:
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... وأنت اليوم أوعظُ منك حيّا
وأحسن من هذا الكلام كلّه وأبلغ قول الله عز وجل: " وإن من شيءٍ إلاَّ يسبّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم " وقوله تعالى: " ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابّة " . معناه يدل على الله بصنعته فيه، فكأنه يسجد، وإن لم يسجد ولم يقر بذلك. وقوله تعالى: " ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرهاً وظلالهم بالعدوِّ والآصال " . وقوله سبحانه: " تسبّح له السموات السّبع والأرض ومن فيهنَّ، وإن من شيء إلاَّ يسبّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم " . أي لا تفهمونه من جهة السمع، وإن كنتم تفهمونه من جهة العقل.

وقد قال بعض الهند: جمّاع البلاغة: البصر بالحجّة، والمعرفة بمواقع الفرصة. ومن البصر بالحجّة أن يدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان طريق الإفصاح وعراً، وكانت الكناية أحصر نفعاً. وذلك مثل ما أخبرنا به أبو أحمد، عن أبيه، عن عسل بن ذكوان، قال: دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عبد الملك بن مروان، وأراد أن يقعد معه على سريره، فقال له عبد الملك: ما بال العرب تزعم أنّك لا تشبه أباك؟ قال: والله لأنا أشبه بأبي من اللّيل بالليل، والغراب بالغراب، ولكن إن شئت خبرتك عمّن لا يشبه أباه قال: من ذلك؟ قال: من لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن ذاك؟ قال سويد بن منجوف. قال عبد الملك: أكذاك أنت يا سويد؟ قال: نعم. فلما خرجا قال عبيد الله لسويد: وريت بك زنادي، واله ما يسرُّني بحلمك عني حمر النعم قال سويد: وأنا والله ما يسرّني أنك نقصته حرفاً، وإن لي سود النعم.
وإنما كان عرّض بعبد الملك وكان ولد لسبعة أشهر.
وربما كانت البلاغة سبباً للحرمان. وأسباب الأمور طريفة والاتفاقات عجيبة أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان، قال: كتب بعضهم إلى المنصور كتاباً حسناً بليغاً يستمنحه فيه. فكتب إليه المنصور: البلاغة والغنى إذا اجتمعا لامرئ أبطراه، وأمير المؤمنين مشفق عليك من البطر، فاكتف بأحدهما.
وقوله: " ربما كانت البلاغة في الاستماع " ، فإنّ المخاطب إذا لم يحسن الاستماع لم يقف على المعنى المؤدّى إليه الخطاب. والاستماع الحسن عونٌ للبليغ على إفهام المعنى. وقال إبراهيم الإمام: حسبكَ من حظّ البلاغة ألاَّ يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. وقال الهندي أيضاً: البلاغة وضوح الدّلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقول عبيد الله بن عتبة: البلاغة دنوّ المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير.
فأما البصر بالحجّة فمثل ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه عن عسل قال: قال الهيثم بن عدي: أنبأني عطاء بن مصعب، قال: كان أبو الأسود شيعة لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، وكان جيرانه عثمانية فرموه يوماً، فقال: أترمونني؟ قالوا: بل الله يرميك. قال: كذبتم، إنكم تخطئون، وإن الله لو رماني لما أخطأ. وقال بعضهم لأبي على محمد بن عبد الوهاب: ما الدليل على أنّ القرآن مخلوق؟ قال: إن الله قادر على مثله. فما أحار السائل جوابا.
ومثل ذلك ما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو يومئذ خليفة وكان على المنبر يخطب في يوم جمعة، فدخل عثمان بن عفان رضى الله عنه عليه. فقال عمر: ما بال أقوام يسمعون الأذان ويتأخّرون؟ فقال عثمان: والله ما تأخّرت إلا ريثما توضّأت. فقال عمر: وهذا أيضاً، أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أتى الجمعة فليغتسل " .
ومثله قول أبي يوسف بعرفة وقد صلى خلف الرّشيد فلما سّلم في الرّكعتين قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. فقال بعض أهل مكة: من عندنا خرج العلم إليكم. فقال أبو يوسف: لو كنت فقيهاً لما تكلمت في الصلاة.
وأخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان، قال: أقام شاعر بباب معن بن زائدة حولاً لا يصل إليه، فكتب إليه رقعة ودفعها إليه:
إذا كان الجوادُ له خجَاب ... فما فضلُ الجوادِ على البخيلِ
فكتب معن فيها:
إذا كان الجواد قليل مال ... ولم يعذر تعلّلَ بالحجابِ
فانصرف الرجل يائساً، ثم حمل إليه معن عشرة آلاف درهم.
ومن ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان قال: بلغ إلى ابن الحسين رضى الله عنهما أن عروة بن الزبير وابن شهاب الزهري يتناولان عليا ويعبثان به، فأرسل إلى عروة، فقال: أما أنت فقد كان ينبغي أن يكون في نكوص أبيك يوم الجمل وفراره ما يحجزك عن ذكر أمير المؤمنين، والله لئن كان عليّ على باطل لقد رجع أبوك عنه، ولئن كان على حقّ لقد فرّ أبوك منه.
وأرسل إلى ابن شهاب، فقال: وأما أنت يا بن شهاب فما أراك تدعني حتى أعرفك موضع كير أبيك.
ومن وضوح الدلالة وقرع الحجة قول الله سبحانه: " وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه. قال: من يحيي العظام وهي رميم. قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " .

فهذه دلالة واضحة على أن الله تعالى قادر على إعادة الخلق، مستغنية بنفسها عن الزيادة فيها، لأن الإعادة ليست بأصعب في العقول من الابتداء. ثم قال تعالى: " الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقودون " ، فزادها شرحاً وقوة، لأنّ من يخرج النار من أجزاء الملك وهما ضدان، ليس بمنكر عليه أن يعيد ما أفناه. ثم قال تعالى: " أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم " . فقوّاها أيضاً، وزاد في شرحها، وبلغ بها غاية الإيضاح والتوكيد، لأنَّ إعادة الخلق ليست بأصعب في العقول من خلق السموات والأرض ابتداء.
وحضر أبو الهذيل جنازة فلما دفن الميت قال رجل: يا أبا الهذيل، الإيمان برجوع هذا صعب. فقال أبو الهذيل: يعيده الذي أنشأه أول مرة، إنه على رجعه لقادر.
وأما انتهاز الفرصة فمثاله أيضاً قول أبي يوسف مع أكثر ما جرى في هذا الفصل.
ومنه ما أخبرني به أبو أحمد قال أخبرني الحلواني، قال حدثني محمد بن زكريا، قال حدثنا محمد بن عبد الله الجشمي، عن المدائني، قال: دخل عمرو ابن العاص على معاوية وهو يتغدى فقال له: هلم يا عمرو. فقال هنيئاً يا أمير المؤمنين، أكلت آنفاً. فقال: أما علمت يا عمرو أن من شراهة المرء ألاَّ يدع في بطنه مستزاداً لمستزيد فقال: قد فعلت يا أمير المؤمنين. فقال ويحك لمن بقّيته؟ ألمن هو أوجب حقّاً من أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن لمن لا يعذر عذر أمير المؤمنين. قال: فلا أراك إلا ضيعت حقا لحقّ لعلك لا تدركه. فقال عمرو: ما لقيت منك يا معاوية ثم دنا فأكل.
وقال أبو العيناء لابن ثوابة: بلغني ما خاطبت به أبا الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلاّ أنه لم ير عرضاً فيمضغه، ولا مجداً فيهدمه. وبعد فإنه عاف لحمك أن يأكله، وسهك دمك أن يسفكه، فقال: ما أنت والكلام يا مكدى؟ فقال: لا ينكر على ابن ثمانين سنة، قد ذهب بصهر، وجفاه سلطانه، أن يعوّل على إخوانه، فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا أن تستنزل ماء أصلاب الرجال فتستفرغه في حقيبتك. فقال ابن ثوابة: الساعة آمر أحد غلماني بك. فقال: أيهما؟ الذي إذا خلوت ركب، أم الذي إذا ركبت خلا؟ فقال ابن ثوابة: ما تسابّ اثنان إلاّ غلب ألأمهما. قال أبو العيناء: بها غلبت أبا الصقر.
فانظر إلى انتهاز الفرصة في قوله: بها غلبت أبا الصقر.
ومنه أن بعض الكتاب لقى أبا العيناء في السّحر، فجعل يتعجّب من بكوره، فقال: أتشاركني في الفعل وتنفرد بالتعجّب.
وقالت له قينةٌ: هب لي خاتمك أذكرك به. قال: اذكريني بالمنع.
وقيل له: لا تعجل فإن العجل من عمل الشيطان. فقال: لو كانت من عمل الشيطان لما قال موسى عليه السلام: " وعجلت إليك ربّ لترضى " .
وقال عبيد الله بن سليمان: إنّ الأخبار المذكورة في السخاء وكثرة العطاء من تصنيف الورّاقين وأكاذيبهم. فقال أبو العيناء: ولم لا يكذبون على الوزير أيده الله وأما الإشارة فسنذكرها في موضعها إن شاء الله.
وقال حكيم الهند: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، متخيّر اللفظ، يكلّم سيد الأمّة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السّوقة. ويكون في قواه التصرف في كل طبقة، ولا يدقّق المعاني كل التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كلّ التّنقيح، ويصفّيها كلّ التصفية، ويهذّبها كل التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادق حكيماً، وفيلسوفاً عظيماً، ومن تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ، ونظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة فيها، لا على وجهة الاستطراف والتطرّف لها.
قال: واعلم أنّ حق المعنى أن يكون الاسم له طبقاً، وتلك الحال له وفقاً، ولا يكون الاسم فاضلاً، ولا مقصّرا، ولا مشتركا، ولا مضمّنا، ويكون نصفّحُه لمصادر كلامه بقدر تصفّحه لموارده، ويكون لفظه مونقاً، ومعناه نيّراً واضحاً. ومدار الأمر على إفهام كلّ قوم بقدر طاقتهم، والحمل عليهم على قدر منازلهم، وأن تواتيه آلته، وتتصرف معه أداته، ويكون في التهمة لنفسه معتدلا، وفي حسن الظن بها مقتصدا، فإنه إن تجاوز الحقَّ في مقدرا لحسن الظن أودعها تهاون الآمنين، وإن تجاوز بها مقدار الحق في التهمة ظلمها وأودعها ذلّ المظلومين. ولكلِّ ذلك مقدار من الشغل، ولكلِّ شغلٍ مقدارٌ من الوهن، ولكل وهن مقدارٌ من الجهل.

فقوله: " أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة " وأول آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان. وذلك من فعل الله تعالى، لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها.
ومن الناس من إذا خلا بنفسه وأعمل فكره أتى بالبيان العجيب، والكلام البديع المصيب، واستخرج المعنى الرائق، وجاء باللفظ الرائع. وإذا حاور أو ناظر قصّر وتأخّر. فحقُّ هذا ألاّ يتعرض لارتجال الخطب، ولا يجاري أصحاب البدائه في ميدان القريض، ويكتفي بنتائج فكره.
والناس في صناعة الكلام على طبقات: منهم من إذا حاور وناظر أبلغ وأجاد، وإذا كتب وأملى أخلَّ وتخلّف. ومنهم من إذا أملى برّز، وإذا حاور أو كتب قصر. ومنهم من إذا كتب أحسن، وإذا حاور وأملى أساء. ومنهم من يحسن في جميع هذه الحالات. ومنهم من يسئ فيها كلّها.
فأحسن حالات المسيء الإمساك، وأحسن حالات المحسن التوسّط، فإنّ الإكثار يورثٌ الإملال، وقلّما ينجو صاحبه من الزّلل والعيب والخطل.
وليس ينبغي للمحسن في أحد هذه الفنون المسيء في غيرها أن يتجاوز ما هو محسن فيه إلى ما هو مسيء فيه، فإن اضطر في بعض الأحوال إلى تجاوزه فخير سبله فيه قصد الاختصار، وتجنّب الإكثار والإهذار، ليقلَّ السقط في كلامه، ولا يكثر العيب في منطقه.
وقيل لابن المقفّع: لم لا تطيل القصائد؟ قال: لو أطلها عرف صاحبها. يريد أن المحدث يتشبّه بالقديم في القليل من الكلام، فإذا أطال اختل، فعرف أنه كلام مولد. على أن السابق في ميادين البلاغة إذا أكثر سقط، فكيف المقصّر عن غايتها، والمتخلّف عن أمدها؟ ومن تمام آلات البلاغة التوسع في معرفة العربية، ووجوه الاستعمال لها، والعلم بفاخر الألفاظ وساقطها، ومتخيّرها، ورديئها، ومعرفة المقامات، وما يصلح في كل واحد منها من الكلام، إلى غير ذلك مما سنذكره في الباب الثاني عند ذكر صنعة الكلام إن شاء الله.
وقوله: وهو " أن يكون الخطيب رابط الجأش " ساكن النفس جداً، لأنّ الحيرة والدّهش يورثان الحبسة والحصر، وهما سبب الإرتاج والإجبال.
وقد بلغك ما أصاب عثمان بن عفان رضى الله عنه أول ما صعد المنبر فأرتج عليه، فقال: إن اللذين كانا قبلي كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل، وستأتيكم الخطبة على وجهها. ثم نزل.
وصعد بعض العرب منبراً بخراسان فأرتج عليه، فقال حين نزل:
لئنْ لمْ أكنْ فيكمُ خطيباً فإنني ... بسيفِي إذا جدَّ الوغى لخطيب
ومن حسن الاعتذار عند الإرتاج ما أخبرنا به أبو أحمد، قال: أخبرنا الشطنى: قال: أخبرنا الغلابي قال: أخبرنا العتبى عن أبيه، قال: خطب داود بن علي، فحمد الله جلّ وعزّ وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال: أما بعد، امتنع عليه الكلام، ثم قال: أمّا بعد فقد يجد المعسر، ويعسر الموسر، ويفلّ الحديد، ويقطع الكليل، وإنّما الكلام بعد الإفحام كالإشراق بعد الإظلام. وقد يعزب البيان، ويعتقم الصّواب، وإنما اللسان مضغة من الإنسان. يفتر بفتوره إذا نكل، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل ألا وإنا لا ننطق بطراً، ولا نسكت حصراً، بل نسكت معتبرين، وننطق مرشدين، ونحن بعد أمراء القول، فينا وشجت أعراقه، وعلينا عطفت أغصانه، ولنا تهدّلت ثمرته. فنتخير منه ما احلو لي وعذب، ونطّرح منه ما املولح وخبث، ومن بعد مقامنا هذا مقام، وبعد أيامنا أيام، يعرف فيها فضل البيان، وفصل الخطاب، والله أفضل مستعان. ثم نزل.
وعلامة سكون نفس الخطيب ورباطة جأشه هدوءه في كلامه، وتمهّله في منطقه.
وقال ثمامة: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهّل، والجزالة والحلاوة. ولو كان في الأرض ناطق يستغنى عن الإشارة لكانه.
وقوله: متخيّر الألفاظ. فمدار البلاغة على تخيّر اللفظ، وتخيّره أصعب من جمعه وتأليفه. وسنشبع الكلام في هذا إن شاء الله.
وقوله: " يكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة، وهو أن يكون صائغ الكلام قادراً على جميع ضروبه، متمكناً من جميع فنونه، لا يعتاص عليه قسم من جميع أقسامه. فإن كان شاعراً تصرّف في وجوه الشعر، مديحه وهجائه ومرائيه وصفاته ومفاخره، وغير ذلك من أصنافه.
ولاختلاف قوى الناس في الشعر وفنونه ما قيل: كان امرؤ القيس أشعر الناس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.

وكذلك الكاتب ربما تقدم في ضرب من الكتابة وتأخر في غيره، وسهل عليه نوع منها وعسر نوع آخر.
وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر الصولي، قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم بن العباس، قال: سمعت أحمد بن يوسف يقول: أمرني المأمون أن أكتب إلى النواحي في الاستكثار من القناديل في المساجد في شهر رمضان، فبتّ لا أدري كيف أحتذي، فأتاني آت في منامي فقال: قل: " فإنّ في ذلك عمارة للمساجد، وأنساً للسابلة، وإضاءةً للمتهجّدين، ونفياً لمكامن الرّيب، وتنزيهاً لبيوت الله جلّ وعزّ عن وحشة الظّلم " . فانتبهت وقد انفتح لي ما أريد، فابتدأت بهذا وأتممت عليه.
والمقدّم في صنعة الكلام هو المستولى عليه من جميع جهاته، المتمكّن من جميع أنواعه، وبهذا فضّلوا جريراً على الفرزدق. وقالوا: كان له في الشعر ضروب لا يعرفها الفرزدق. وماتت امرأته النّوار فناح عليها بشعر جرير:
لولا الحياءُ لها جنِى استعبارُ ... ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ
وكان البحتريّ يفضّل الفرزدق على جرير، ويزعم أنه يتصرّف من المعاني فيما لا يتصرّف فيه جرير، ويورد منه في شعره في كلّ قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى. قال: وجرير يكرّر في هجاء الفرزدق ذكر الزبير، وجعثن، والنوار وأنه قينُ مجاشع. لا يذكر شيئاً غير هذا.
وسئل بعضهم عن أبي نواس ومسلم، فذكر أن أبا نواس أشعر، لتصرفه في أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه، قال: ومسلم جار على وتيرة واحدة لا يتغيّر عنها.
وأبلغُ من هذه المنزلة أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرّة بالجزل، وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتدّ إذا أراد. ومن هذا الوجه فضّلوا جريراً على الفرزدق، وأبا نواس على مسلم. قال جرير:
طرقتْك صائدةُ القلوبِ وليس ذا ... وقتُ الزيارةِ فارجِعي بسلامِ
تجرِي السّواكَ على أغرَّ كأنهُ ... بردٌ تحدَّرَ من متونِ غمامِ
فانظر إلى رقّة هذا الكلام. وقال أيضاً:
وابنُ اللّبونِ إذا مالزَّ في قرنٍ ... لم يستطعْ صولةَ البزلِ القناعيسِ
فانظر إلى صلابة هذا الكلام والفرزدق يجري على طريقة واحدة، والتصرف في الوجوه أبلغ.
وقال أبو نواس:
قل لذي الوجهِ الطَّريرِ ... ولذى الرّدفِ الوثيرِ
ولمغلاق همُومي ... ولمفتاح سُرُورِي
يا قليلاً في التَّلاقي ... وكثيراً في الضَّمير
فانظر إلى سلاسة هذا الكلام وسهولته، وقال:
وما هوىً إلاّ له سببُ ... يبتدى منْه وينشعبُ
فتنتْ قلبي محجبَّةٌ ... برداءِ الحسنِ تنتقبُ
خلّيتَ والحسنَ تأخذهُ ... تنتقى منه وتنتخِبُ
فانتقتْ منه طرائفَه ... واستزادتْ فضل ما تهبُ
صار جدّاً ما مزحتُ به ... ربَّ جدٍّ جرَّهُ اللَّعبُ
فهذا أجزلُ من الأول قليلاً. وقال في صفة الكلب:
أنعتُ كلباً جالَ في رباطه ... جولَ مصابٍ فرَّ من إسعاطه
عند طبيبٍ خافَ من سياطهِ ... هجنا به وهاجَ منْ نشاطهِ
كالكوكبِ الدُّرِّي في انحطاطهِ ... عند تهاوى الشدِّ وانبسَاطِهِ
يقحِّم القائدَ في حطاطِه ... وقدِّه البيداء في اغتبَاطهِ
لمّا رأى العلهبَ في أقوَاطه ... سابحَهُ ومرَّ في التباطِه
كالبرق يقرى المروَ بالتقاطِه ... مثلَ قلىٍّ طارَ في أنفاطِه
وانصاعَ يتلوهُ على قطاطِه ... أغضفت لا ييأسُ من خلاطِهِ
يصيد بعد البعد وانبساطِه ... إن لم يبتّ القلب من نياطِهِ
فلم يزل يأخذ في لطاطه ... كالصّقرِ ينقضُّ على عظاطهِ
يقشر جلد الأرض من بلاطهِ ... بأربع يذهَب في إفراطه
لشدّةِ الجرىِ ولاستحطاطِهِ ... ما أن يمسّ الأرض في أشواطِه
قد خدشتْ رجلاهُ في آباطهِ ... وخرقَ الأذنينِ بانتشاطِه
خلجُ ذراعيهِ إلى ملاطهِ ... ينقدّ عند الضيّق بانعطاطِه
في هبوات الضّيقِ أو رياطهِ ... فأدركَ الظّبيَ ولم يباطِهِ
ولفّ عشرين إلى أشراطِه ... فلم نزلْ نقرَن في رباطِهِ
ويعجلُ الشّاوون من خماطه ... ويطبخ الطابخ من أسقاطه
حتى علا في الجوِّ من شياطه

فانظر إليه كيف يتصرّف لين الشدة واللّين، ويضع كلّ واحد منهما في موضعه، ويستعمله في حينه.
وقوله: " ولا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة " . لأنَّ ذلك جهل بالمقامات، وما يصلح في كلِّ واحد منهما من الكلام. وأحسن الذي قال: لكلِّ مقام مقال. وربما غلب سوء الرأي، وقلة العقل على بعض علماء العربية، فيخاطبون السّوقيّ والمملوكَ والأعجميّ بألفاظ أهل نجد، ومعاني أهل السراة، كأبي علقمة إذ قال لحجّامه: اشدد قصب الملازم، وأرهف ظباة المشارط، وأمرّ المسح، واستنجل الرشح، وخفّف الوطء، وعجّل النزع، ولا تكرهنَّ أبيّا، ولا تمنعنَّ أتيّا. فقال له الحجّام: ليس لي علمٌ بالحروب.
ورأى الناس قد اجتمعوا عليه، فقال: ما لكم تكأ كأتم عليّ كأنكم قد تكأ كأتم على ذي جنّة، افرنقعوا عني.
وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن علي بن محمد الأسدي، عن محمد بن أبي المغازل الصبي، عن أبيه، قال: كان لنا جار بالكوفة لا يتكلّم إلا بالغريب، فخرج إلى ضيعة له على حجر معها مهر، فأفلتت، فذهبت ومعها مهرها، فخرج يسأل عنها، فمر بخيّاط، فقال: يا ذا النّصاح، وذات السّمّ، الطاعن بها في غير وغي، لغير عدىً، هل رأيت الخيفانة القبّاء، يتبعها الحاسن المسرهف. كأنّ غرّته القمر الأزهر، ينير في حضره كالخلّب الأجرد. فقال الخيّاط: اطلبها في تزلخ. فقال: ويلك. وما تقول قبّحك الله؟ فما أعلم رطانتك. فقال: لعن الله أبغضنا لفظا، وأخطأنا منطقا.
ومثله ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبي بكر الصولي قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل، قال حدثني سعيد بن حميد، قال: نظر رجلٌ إلى أبي علقمة، وتحته بغلٌ مصري حسن المظهر، فقال: إن كان مخبر هذا البغل كمنظره فقد كمل. فقال أبو علقمة: والله لقد خرجت عليه من مصر، فتنكّبت الطريق، مخافة السراق، وجور السلطان، فبينما أنا أسير في ليلة ظلماء فتماء طخياء مدلهمة حندس داجية، في صحصح أملس، إذ أحسَّ بنبأة من صوت نغر، أو طيران ضوع، أو نغض سيد، فحاص عن الطريق متنكّبا لعزّة نفسه، وفضل قوّته، فبعثته باللّجام فعسل، وحركته بالركاب فنسل. وانتعل الطريق بغتاله معترماً، والتحق الليل لا يهابه مظلما. فوالله ما شبهته إلا بظبية نافرة، تحفزها فتخاء شاغية. قال الرجل: ادع الله وسله أن يحشر هذا البغل معك يوم القيامة، قال: ولم؟ قال: ليجيزك الصّراط بطفرة.
وقال أبو علقمة لطبيب: أجد رسيساً في أسناخي، وأرى وجعاً فيما بين الوابلة إلى الأطرة من دايات العنق. فقال الطبيب: هي هي هذا وجع القرشي، قال: وما يبعدنا منهم يا عديّ نفسه؟ نحن من أرومة واحدة، ونجل واحد. قال الطبيب: كذبت، وكلما خرج هذا الكلام من جوفك كان أهون لك، قال: بل لك الهوان والخسار والحقارة والسباب، اخرج عني قبحك الله.
وقال لجارية كان يهواها: يا خريدة، قد كنت إخاً لك عروبا، فإذا أنت نوار، مالي أمقك وتشنئيني قالت: يا رقيع، ما رأيت أحداً يحبّ أحداً فيشتمه وإذا كان موضع الكلام على الإفهام فالواجب أن تقسّم طبقات الكلام على طبقات الناس، فيخاطب السّوقي بكلام السّوقة، والبدويّ بكلام البدو، ولا يتجاوز به عما يعرفه إلى ما لا يعرفه، فتذهب فائدة الكلام، وتعدم منفعة الخطاب.
وقوله: " ولا يدقق المعاني كلَّ التدقيق " . لأنَّ الغاية في تدقيق المعاني سبيل إلى نعميته، وتعمية المعنى لكنةٌ، إلا إذا أريد به الإلغاز وكان في تعميته فائدة، مثل أبيات المعاني، وما يجري معها من اللّحون التي استعملوها وكنوا بها عن المراد لبعض الغرض.
فأما من أراد الإبانة في مديح، أو غزل، أو صفة شيء فأتى بإغلاق دلّ ذلك على عجزه عن الإبانة، وقصوره عن الإفصاح، كأبي تمام حيث يقول:
خانَ الصفاءَ أخٌ خانَ الزمانَ أخاً ... عنهُ فلمْ يتخوَّنْ جسمهُ الكمدُ
وقوله:
يومٌ أفاضَ جوىً أغاضَ تعزِّياً ... خاضَ الهوى بحري حجاه المزيدُ
وقوله:
وإنَّ نجريّة بانتْ جأرتُ لها ... إلى يدي جلدي فاستوهكَ الجلدُ
وقوله:
جهميّة الأوصاف إلاَّ أنّهم ... قد لقبوها جوهرَ الأشياءِ
وقوله: " ولا تنقّح الألفاظ كل التنقيح " . وتنقيح اللفظ أن يبنى منه بناءٌ لا يكثر في الاستعمال. كما قال بعضهم لبعض الوزراء: أحسن الله إبانتك. فقال له الوزير: عجّل الله إمانتك.

ويدخل في تنقيح اللفظ استعمال وحشيّة وترك سلسه وسهله. وقد أخذ الرواة على زهير قوله:
نقىّ تقيّ لم يكثر غنيمة ... بنهكةِ ذي القربَى ولا بحقلّد
فاستبشعوا الحقلّد وهو السيئ الخلق. وقالوا: ليس في لفظ زهير أنكرُ منه.
وقال يحيى بن يعمر لرجل حاكمته امرأته إليه: أثن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلّها وتضهلها.
الشكر: الرضاع. والشّبر: النّكاح. وتطلّها: تسعى في بطلان حقها. وتضهلها: تعطيها الشيء القليل.
قال أبو عثمان: رأيتهم يديرون في كتبهم هذا الكلام، فإن كانوا إنما رووه ودوّنوه لأنه يدلّ على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة الفصاحة والبلاغة، وإن كانوا فعلوا ذلك لأنه غريب فأبيات من شعر العجاج، وشعر الطرماح، وأشعار هذيل، يأتي لهم من الرصف الحسن على أكثر من ذلك. ولو خاطب أحد الأصمعيّ بمثل هذا الكلام لظننت أنه سيجهل بعضه. وهذا خارج عن عادة البلغاء.
وقوله: " ويصفّيها كلّ التصفية، ويهذّبها كل التهذيب " . فتصفيته تعريته من الوحشيّ، ونفى الشواغل عنه. وتهذيبه تبرئته من الرديّ المرذول، والسوقيّ المردود.
فمن الكلام المهذّب الصافي قول بعض الكتاب: مثلك أوجب حقاً لا يجب عليه، وسمح بحقّ وجب له، وقبل واضح العذر، واستكثر قليل الشكر، لا زالت أياديك فوق شكر أوليائك، ونعمة الله عليك فوق آمالهم فيك.
ومثله قول آخر: ما انتهى إلى غاية من شكرك إلاّ وجدت وراءها حادثاً من برّك، فلا زالت أياديك ممدودة بين آمل فيك تبلّغه، وأمل فيك تحقّقه، حتى تتملّى من الأعمار أطولها، وتنال من الدرجات أفضلها.
وقول أحمد بن يوسف: يومنا يوم ليّن الحواشي وطئ النّواحي، وهذه سماء قد تهلّلت بودقها، وضحكت بعابس غيمها ولامع برقها، وأنت قطب السرور، ونظام الأمور، فلا تغب عنا فنقلّ، ولا تفردنا فنستوحش، فإن الحبيب بحبيبه كثير، وبمساعديه جدير.
وقوله: ولا يفعل ذلك حتى يلقى حكيماً، وفيلسوفاً عليما، ومن تعود حذف فضول الكلام، ومشتركات الألفاظ، ونظر إلى المنطق على جهة الصناعة فيها، لا على جهة الاستطراف والتظرّف لها.
يقول: ينبغي أن يتكلّم بفاخر الكلام، ونادره ورصينه ومحكمه عند من يفهمه عنه، ويقبله منه، ممن عرف المعاني والألفاظ علماً شافياً، لنظره في اللغة والإعراب والمعاني على جهة الصناعة، لا كمن استطرف شيئاً منها، فنظر فيه نظراً غير كامل، أو أخذ من أطرافه، وتناول من أطراره، فتحلّى باسمه، وخلا من وسمه. فإذا سمع لم يفقه، وإذا سئل لم ينقه. وإذا تكلّم عند من هذه صفته ذهبت فائدة كلامه، وضاعت منفعة منطقه، لأنّ العاميّ إذا كلمته بكلام العلية سخر منك، وزرى عليك، كما روى عن بعضهم أنه قال لبعض العامّة: بم كنتم تنتقلون البارحة؟ يعنى على النبيذ. فقال: بالحمّالين. ولو قال له: أي شيء كان نقلكم لسلم من سخريته. فينبغي أن يخاطب كلّ فريق بما يعرفون، ويتجنّب ما يجهلون.
وأما قوله: " من تعوّد حذف فضول الكلام " . فحذف فضول الكلام هو أن يسقط من الكلام ما يكون الكلام مع إسقاطه تامّاً غير منقوص، ولا يكون في زيادته فائدة.
وذلك مثل ما روى عن معاوية أنه قال لصحار العبدي: ما البلاغة؟ فقال: أن تقول فلا تخطئ، وتسرع فلا تبطيء. ثم قال: أقلني، هو ألاّ تخطى ولا تبطئ. فألقى اللفظتين، لأن في الذي أبقى غنيً عنهما، وعوضاً منهما.
فأما إذا كان في زيادة الألفاظ وتكثيرها، وترديدها وتكريرها، زيادة فائدة فذلك محمود، وهو من باب التذييل. ونشرحه في موضعه إن شاء الله.
وقوله: ومشتركات الألفاظ، وقول جعفر بن يحيى: وتخرجه من الشركة، فهو أن يريد الإبانة عن معنى فيأتي بألفاظ لا تدلّ عليه خاصة، بل تشترك معه فيها معان أخر، فلا يعرف السامع أيها أراد. وربما أستبهم الكلام في نوع من هذا الجنس حتى لا يوقف على معناه إلى بالتوهم. فمن الجنس الأول قول جرير:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلتُ ما لم أفعلِ

فوجه الاشتراك في هذا أن السامع لا يدري إلى أيّ شيء أشار من أفعاله في قوله: فعلت ما لم أفعل. أراد أن يبكي إذا رحلوا، أو يهيم على وجهه من الغمّ الذي لحقه، أو يتبعهم إذا ساروا، أو يمنعهم من المضيّ على عزمة الرحيل، أو يأخذ منهم شيئاً يتذكرهم به، أو يدفع إليهم شيئاً يتذكرونه به، أو غير ذلك، مما يجوز أن يفعله العاشق عند فراق أحبته، فلم يبن عن غرضه، وأحوج السامع إلى أن يسأله عما أراد فعله عند رحيلهم.
وليس هذا كقولهم: لو رأيت عليا بين الصفين، لأن دليل البسالة والنكاية في هذا الكلام بين، وأمارة النقصان في بيت جريري واضحة، فمن يسمعه وإن لم يكن من أهل البلاغة يستبرده ويستغثّه، ويسترجع الآخر ويستجيده.
ومثله قول سعد بن مالك الأزدي:
فإنك لو لاقيتَ سعد بن مالك ... للاقيت منه بعض ما كان يفعلُ
فلم يبن عما أراد بقوله يلقى. أخيراً أراد أم شرّا؟ إلا أن يسمع ما قبله أو ما بعده، فيتبيّن معناه، وأما في نفس البيت فلا يتبيّن مغزاه.
ومثله قول أبي تمام:
وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى ... به ما يقال في السحابة تُقلعُ
فقول الناس في السحاب إذا أقلع على وجوه كثيرة، فمنهم من يمدحه، ومنهم من يذمّه، ومنهم من كان يجبّ إقلاعه، ومنهم من يكره إقشاعه، على حسب ما كانت حالاتها عندهم، ومواقعها منهم، فلم يبن بقوله ما يقال في السحابة تقلع معنى يعتمده السامع. وأبين منه قول مسلم:
فاذهبْ كما ذهبتْ غوادِي مزنةٍ ... أثنى عليها السّهلُ والأوعارُ
على أنّ المحتجّ له لو قال: إن أكثر العادة في السحاب أن يحمد أثره، ويثنى عليه بعده لما كان مبعداً. ولم أزد عيب أبي تمام بما قلت، وإنما أردت الإخبار عن وجوه الاشتراك، وذكر ما يتشعّب منه، وما يقرب من بابه، وينظر إليه من قريب أو بعيد.
ومثل قول أبي تمام قول ابن قيس الرقيات:
إن تعشْ لا نزلْ بخيرٍ وإن تهْ ... لكْ نزل مثل ما يزول العماءُ
والعماء: السّحاب. بل هذا أجود من بيت أبي تمام وأبين.
ومن اللفظ المشترك قول أبي نواس:
وخبن ما يخبن من آخرٍ ... منه وللطّابن أمهارُ
الأمهار هاهها جمع مهر، من قولهم: مهر يمهر مهراً. والمصادر لا تجمع، ولا يشكّ سامع هذا الكلام أنه يريد جمع مهر فيشكل المعنى عليه.
وخطب بعض المتكلمين، فقال في صفة الله تعالى: لا يقاس بالقياس، ولا يدرك بالألماس. أراد جمع لمس، فأصاب السجعَ وأخطأ المعنى.
وأمّا ما يستبهم فلا يعرف معناه إلا بالتوهّم فهو مثل قول أبي تمام:
جهميّة الأوصاف إلاّ أنهم ... قد لقّبوها جوهر الأشياءِ
فوجه الاشتراك في هذا: أن لجهم مذاهب كثيرة، وآراء مختلفة متشعبة، لم يدلّ فحوى كلام أبي تمام على شيء منها يصلح أن يشبّه به الخمر وينسب إليه، إلا أن يتوهّم المتوهم فيقول: إنما أراد كذا وكذا، من مذاهب جهم، من غير أن يدلّ الكلام منه على شيء بعينه.
ولا يعرف معنى قوله: " قد لقّبوها جوهر الأشياء " إلا بالتوهّم أيضاً.
ومن الكلام الخالي من الاشتراك قول بعضهم لأخ له أراد فراقه: لما تصفّحت أخلاقك فوجدتها مباينة لمشاكلتي، زائغة عن قصد طريقتي صبرت عليها، رياضة لنفسي على الصبر لمساوئ أخلاق المعاشرين، ولعلمي بكامن العدوان في جميع العالمين، والذي رجوت من مذمّة خصالك بما أقابلها به من التجاوز، وأسحب على سوء آثارها أذيال التّغاضي، وأنت مع ذلك دائبٌ لا تقوّم اعوجاج مذاهبك، ولا يعطف بك الرأي إلى رشدك، فلمّا فنيت جيلتي فيك، وانقطعت أسباب أملي منك، ورأيت الداء لا يزيد على التعهّد بالدواء إلاّ فساداً، والخرق على التّرقيع إلا اتّساعاً قدّمت اليأس منك على الرجاء فيك، واحتسبت أيّامي السالفة في استصلاحي لك.
وقوله: وحقّ المعنى أن يكون له الاسم طبقاً، أي يكون الاسم طبقاً للفظ بقدر المعنى غير زائد عليه، ولا ناقص عنه. وكأن ذلك من قول امرئ القيس:
طبقُ الأرضِ تحرَّى وتدرّ
أي هي على الأرض كالطّبق على الإناء لا ينقص مه شيء. وسنأتي بالكلام على هذا في فصل الإيجاز إن شاء الله.
وقوله: ولا يكون الاسم فاضلاً ولا مقصّراً. فهذا داخلٌ في الأول من قوله: وحق المعنى أن يكون الاسم له طبقا.
ومثال الفاضل من اللفظ عن المعنى قول عروة بن أذينة:

واسقِ العدوّ بكأسه واعلم له ... بالغيب أن قد كان قبلُ سقاكها
واجز الكرامةَ من ترى أن لولَهُ ... يوماً بذلت كرامةً لجزاكَها
ومعنى هذا الكلام محصور تحت ثلاث كلمات: أجز كلاّ بفعله. وكان السكوتُ لعروة خيراً منه.
ومن الكلام الفاضل لفظه عن معناه قول أبي العيال الهذلي:
ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأسِ والوصبُ
فذكر الرأس مع الصداع فضلٌ.
وقول أوس بن حجر:
وهمْ لمقلّ المالِ أولادٌ علّةٍ ... وإن كانَ محضاً في العمومة مخولا
فقوله: المال مع المقل فضلة.
والمقصّر من الكلام: مالا ينبيك بمعناه عند سماعك إيّاه ويحوجك إلى شرح، كبيت الحارث بن حلّزة:
والعيش خيرٌ في ظلا ... لِ النُّوك ممَّنْ رامَ كدَّا
وسنذكر وجه العيب فيه بعد هذا.
وقوله: ولا مضمّنا: التضمين أن يكون الفصل الأوّل مفتقراً إلى الفصل الثاني، والبيتُ الأول محتاجاً إلى الأخير كقول الشاعر:
كأنَّ القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامريّة أو يراحُ
قطاةٌ غرّها شركٌ فباتتْ ... تجاذبهُ وقد علقَ الجناحُ
فلم يتمّ المعنى في البيت الأول حتى أتمّه في البيت الثاني، وهو قبيح.
ومثاله من نثر الكتاب قول بعضهم: وجعل سيدنا آخذاً من كل ما دعى ويدعى به في الأعياد، بأجزل الأقسام وأوفر الأعداد.
وقد تسمى استعارتك الأنصاف والأبيات من شعر غيرك، وإدخالك إياه ي أثناء أبيات قصيدتك تضميناً، وهذا حسنٌ وهو كقول الشاعر:
إذا دلّه عزمٌ على الحزمِ لم يقلْ ... غداً غدها إن لمْ تعقْها العوائقُ
ولكنَّه ماضٍ على عزم يومِه ... فيفعل ما يرضاهُ خلقٌ وخالقُ
فقوله: غداً غدها إن لم تعقها العوائق من شعر غيره وهو هاهنا مضمن.
وكقول الآخر:
عوَّذَ لمَّا بتُّ ضيفاً له ... أقراصهُ بخلاً بياسين
فبتُّ والأرضُ فراشي وقد ... غنّت قفانبك مصاريني
وقول الآخر:
ولقد سما للخرَّميّ ولمْ يقلْ ... بعد الوغا لكن تضايقَ مقدَمي
وقول ابن الرّومي في مغنّ:
مجلسِه مأتم اللذاذة وال ... قصفِ وعرس الهموم والسقمِ
ينشِدُها اللّهوَ عندَ طلعتِه ... منْ أوحشتْهُ الديارُ لم يقمِ
وكقول جحظة:
أصبحتُ بين معاشرٍ هجروا الندى ... وتقبّلُوا الأخلاقَ عن أسلافِهمْ
قومٌ أحاولُ نيلهُم فكأنَّما ... حاولتُ نتفّ الشَّعر من آنافهم
هاتٍ اسقينها بالكبير وغنِّنى ... ذهبَ الذينَ يعاشُ في أكنافِهِم
وباقي كلامه يتضمّن صفة المتكلم لا صفة الكلام. إلا قوله: ويكون تصفّحه لموارده بقدر تصفّحه لمصادره. وسنأتي على الكلام في هذا ونستقصيه في فصل المقاطع والمبادئ.
وقال بعض الحكماء: البلاغة قولٌ يسير، يشتمل على معنى خطير. وهذا مثل قول الآخر: البلاغة حكمة تحت قول وجيز. وقول الآخر: البلاغة علمٌ كثير في قول يسير.
ومثاله قول الأعرابي، وقد سئل عن مال يسوقه، لمن هو؟ فقال: الله في يدي. فأيّ شيء لم يدخل تحت هذا الكلام القليل من الفوائد الخطيرة، والحكم البارعة الجسيمة.
وقال الله عز وجل اسمه: " ومن يتوكّل على الله فهو حسبه " . قد دخل تحت قوله: فهو حسبه من المعاني ما يطول شرحه من إيتاء ما يرجى، وكفاية ما يخشى.
وهذا مثل قوله عز وجل: " وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين " .
وسئل بعض الأوائل: ما كان سبب موت أخيك؟ قال: كونه. فأحسن ما شاء.
وقد تنازع الناس في هذا المعنى. أخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد عن الرياضي، قال: قيل لأعرابي: كيف حالك؟ فقال: ما حال من يفنى ببقائه، ويسقم بسلامته، ويؤتى من مأمنه.
وأخبرنا أبو أحمد قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا الغلابي، قال حدثنا ابن عائشة، قال: قلت لأبي: حدّثني حماد بن سلمة، عن حميد بن ثابت، عن أنس والحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كفى بالسّلامة داء. قال: يا بني، ولا أراه إلا مسنداً، فقد قال حميد بن ثور:
أرى بصرِى قد رابنِي بعدَ صحَّةٍ ... وحسبكَ داءً أن تصحَّ وتسلمَا
وقال آخر:
كانتْ قناتي لا تلينُ لغامزٍ ... فألانَهَا الإصباحُ والإمساءُ
ودعوتُ ربّي بالسلامة جاهداً ... ليصحنى فإذا السلامةُ داءُ

وأوّل من نطق بهذا المعنى النّمر بن تولب في الجاهلية:
يودُّ الفتى طول السلامة والغنى ... وكيف يرى طول السلامة تفعل
يرد الفتى بعد اعتالٍ وصحةٍ ... ينوءُ إذا رام القيام ويحملُ
وقال آخر:
ما حالُ من آفتُه بقاؤه ... نغَّصَ عيشي كلَّه فناؤه
وقال ابن الرومي:
لعمرك ما الدنيا بدارِ إقامةٍ ... إذا زالَ عن نفسِ البصيرِ غطاؤُها
وكيف بقاءُ العيش فيها وإنما ... ينالُ بأسبابِ الفناءِ بقاؤُها
ونقله إلى موضع آخر فقال:
فإنّ الداءَ أكثر ما تراهُ ... من الأشياء تحلُو في الحلوقِ
وقريبٌ من ذلك قول محمد بن علي رضي الله عنهما: مالك من عيشك إلاّ لذة تزدلف بك إلى حمامك، وتقرّبك من يومك، فأية أكلة ليس معها غصص، وشربة ليس معها شرق، فتأمّل أمرك، فكأنك قد صرت الحبيب المفقود، أو الخيال المحترم. وقال أبو العتاهية:
أسرع في نقص امرئٍ تمامُه
ومن الأمثال: كلّ من أقام شخص، وكلّ من زاد نقص، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الداء. وقال آخر:
إذا تمَّ أمرٌ دنا نقصُه ... توقّع زوالاً إذا قبلٍ تَم
وقلت:
ما خير عيشٍ صفوُه يكدِّرُه ... لا بدَّ أن يشكوه من يشكرُهْ
والمرءُ ينسَى والمنايا تذكرُه ... يميتُه بقاؤُه فيقبرُهْ
وكسرُه منه الذي لا يجبرُهْ ... يطويهِ من مداهُ مالا ينشُرُه
في كلَّ مجرى نفسٍ يكرّرُه ... يهدمُ من عمرِكَ مالا تعمرهْ
وقلت:
قد قرُبَ الأمرُ بعد بعدهِ ... وأسعف الإلف بعدَ صدّهِ
وبعدَ بؤسٍ وضيقِ عيشٍ ... صرتُ إلى خفضِهِ ورغدِهِ
لكنّهُ ملبسٌ معارٌ ... لا بدَّ من نزعهِ وردِّهِ
وهل يسرُّ الفتى بحظٍّ ... وجودُه علَّةٌ لفقدِهِ
وقال الرومي: البلاغة حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة عند الإطالة.
الاقتضاب: أخذُ القليل من الكثير، وأصله من قولهم: اقتضبت الغصن إذا قطعته من شجرته. وفيه معنى السرعة أيضاً، فيقول: البلاغة إجادة في إسراع، واقتصارٌ على كفاية.
فمن البديهة الحسنة ما أخبرنا به أبو أحمد قال أخبرنا إبراهيم بن محمد الشطني قال: حدثني أحمد بن يحيى ثعلب قال: دخل المأمون ديوان الخراج فمرّ بغلام جميل على أذنه قلم فأعجبه ما رأى من حسنه، فقال: من أنت يا غلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الناشئ في دولتك، وخرّيج أدبك، والمتقلّب في نعمتك، الحسن بن رجاء. فقال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول. ثم أمر أن يرفع عن مرتبة الديوان ويعطى مائة ألف درهم.
ومن الاقتضاب الجيد: ما أخبرنا به أبو أحمد قال: أخبرني أبو أحمد الواذاري عن شيخ له قال: قال أبو حاتم: سمعت أبا عبيدة يقول: استفتحت غلامين في الصبا. فزكنت منهما بلوغ الغاية، فجاءا كما زكنت: بلغني أن النظام يتعاطى علم الكلام فمر وهو غلام على حمار يطير به، فقلت له: يا غلام، ما عيب الزّجاج؟ فالتفت إليّ وقال: يسرع إليه الكسر، ولا يقبل الجبر. وبلغني أن أبا نواس يتعاطى قرض الشّعر، فتلقّاني وهو سكران ملتخ، وما طرّ شاربه بعد، فقلت له: كيف فلان عندك؟ فقال: ثقيل الظل، جامد النّسيم. فقلت: زد. فقال: مظلم الهواء، منتن الفناء. فقلت: زد. فقال غليظ الطّبع، بغيض الشّكل. فقلت: زد. فقال: وخم الطلعة، عسر القلعة. قلت: زد. قال: نابي الجنبات، بارد الحركات. ثم قال: زدني سؤالاً أزدك جواباً. فقلت: كفى من القلادة ما أحاط بالعنق.
ومن جيد البدائه ما أخبرنا به أبو أحمد أبي عسل بن ذكوان قال: قال المأمون ليحيى بن أكثم: صف لي حالي عند الناس. فقال: يا أمير المؤمنين قد انقادت لك الأمور بأزمّتها، وملّكتك الأمة فضول أعنّتها، بالرغبة إليك والمحبة لك، والرّفق منك، والعياذ بك، بعد لك فيهم، ومنّك عليهم، حتى لقد أنسيتهم سلفك، وآيستهم خلفك. فالحمد لله الذي جمعنا بك بعد التقاطع، ورفعنا في دولتك بعد التواضع.
فقال: يا يحيى، أتحبيراً، أم ارتجالا؟ قال: قلت: وهل يمتنع فيك وصفٌ، أو يتعذّر على مادحك قول، أو يفحم فيك شاعر، أو يتلجلج فيك خطيب؟

وقدم على المهدي رجل من أهل خراسان، فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إنّا قومٌ نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخطب، وأمير المؤمنين يعلم طاعتنا، وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منا باليسير عن الكثير، ويقتصر على ما في الضمير دون التفسير. فقال المهدي: أنت أخطب من سمعته.
وأخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد الكاغذي، قال: أخبرنا أبو بكر العقدي، قال: أخبرنا أبو جعفر الخراز، قال: أخبرنا المدائني: أن أعرابياً دخل على المنصور فتكلّم فأعجب بكلامه، فقال له: سل حاجتك، فقال يبقيك الله، ويزيد في سلطانك. فقال: سل حاجتك، فليس في كل وقت تؤمر بذاك. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما أستقصرُ عمرك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن سؤالك لشرف، وإن عطاءك لزين، وما بامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين.
أخذ المعنى الأخير من أمية بن الصلت في عبد الله بن جدعان:
عطاؤُك زينٌ لامرئٍ إن حبوتَه ... بسيبٍ وما كلّ العطاءِ يزينُ
وليس بشينٍ لامرئٍ بذلُ وجههِ ... إليكَ، كما بعضُ السؤالِ يشينُ
وقال جعفر بن يحيى: البلاغة أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويجلّى عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة، ويكون سليما من التكلّف، بعيداً من سوء الصّنعة، برياً من التعقيد، غنيّاً عن التأمّل.
وقله: أن يكون الاسم يحيط بمعناك. فالاسم هاهنا: اللّفظ، أي يحصر اللفظ جميع المعنى ويشتمل عليه. فلا يشذّ منه شيء يحتاج أن يعرف بشرح، أو تفسير، فإذا سمعت اللفظ عرفت أقصى المعنى، وهذا مثل قول الآخر: البليغ من طبّق المفصل فأغناك عن المفسر.
ولا يكون الكلام بليغاً مع ذلك حتى يعرى من العيب، ويتضمّن الجزالة والسهولة وجودة الصنعة، كما ذكرنا قبل.
ومثال ذلك ما كتب بعضهم إلى أخ له: أما بعد فإنّ المرء ليسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءُه فوتٌ ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك فيما قدمت من خير، وأسفك على ما فاتك من برّ.
وقول أعرابي لابنه: يا بنيّ، إن الدنيا تسعى على من يسعى لها، فالهرب قبل العطب. فقد أذنتك ببينٍ، وانطوت لك على حين. قال الشاعر:
حلالٌ لليلَى أن تروع فؤادَه ... يهجرٍ ومغفورٌ لليلَى ذنوبُها
تطّلع من نفسِي لليلَى نوازِع ... عوارف أنّ اليأسَ منك نصيبُها
وزالتْ زوالَ الشمس عن مستقرّها ... فمن مخبري في أيّ أرضٍ غروبُها
وقال آخر:
وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثوا ... سوى أن يقولوا إنّني لك عاشقُ
أجلْ صدق الواشون أنت حبيبةٌ ... إلىّ وإن لم تصف منك الخلائقُ
وقوله: ويجلّى عن مغزاكَ. أي يوضّحُ مقصدك، ويبيّن للسامع مرادك، ينهى عن التعمية والإغلاق.
وقوله: يخرجه من الشّركة. فقد مضى تفسيره.
وقوله: ولا يستعين عليه بطول الفكرة. هذا لأنّ الفكرة. هذا لأنّ الكلام إذا انقطعت أجزاؤه، ولم تتّصل فصوله ذهب رونقه، وغاض ماؤه، وإنما يروق الكلام إذا جرى جريان السيل، وانصبّ انصباب القطر.
وقال ثمامة: ما رأيتُ أحداً إذا تكلّم لا يتحبّس، ولا يتوقّف، ولا يتلفّف، ولا يتلجلج، ولا يتنحنح، ولا يترقّب لفظاً استدعاه من بعد، ولا يتلمّس التخلّص إلى معنى قد اعتاص عليه بعد طلبه، إلا جعفر بن يحيى.
فمن الكلام الجاري مجرى السيل قول بعض العرب لبعض ملوك بنى أميّة: أقطعت فلاناً أرضاً، وسط محلّتنا، وسواء خطّتنا، ومركز رماحنا، ومبرك لقاحنا، ومخرج نسائنا، ومنقلب إمائنا، ومسرح شائنا، ومندي بهمنا، ومحلّ ضيفنا، ومشرق شتائنا، ومصبحنا في صيفنا. فقال: تكفون. وعوّضه عنها وردّها عليهم.
وأخبرنا أبو أحمد قال: أخبرني أبي عن عسل بن ذكوان أن الحسن بن علي رضى الله عنهما خطب فقال: اعلموا أنّ الحكمة زين، والوقار مروءة، والصلة نعمة، والإكثار صلف، والعجلة سفه، والسّفه ضعف، والغلق ورطة، ومجالسة أهل الدّناءة شين، ومخالطة أهل الفسوق ريبة.
فهذه هي البلاغة التامة، والبيان الكامل.
وكما قال بعضهم: البلاغة صوابٌ، في سرعة جواب، والعيُّ إكثار في إهذار، وإبطاء يردفه أخطاء.

وقال بعضهم: لست ممن يتوهّم بجله، ويظن بقلة عقله، أن الديانة، والأمانة، والنزاهة، والصيانة، إنما هي في تشمير ثوبه، وإحفاء شاربه، وكشفه عن ساقه، وزهوه بأطماره، وإنعال خفّه، وترقيع ثوبه، وإظهار سجّادته، وتعليق سبحته، وخفض صوته، وخشوع جسمه دون قلبه، واختلاس مشيته، وخفّة وطئه بين قومه. ولا يرتشي في حكمة، ويأخذ على علمه، ويطلب الدنيا بدينه، ولا يرفع طرفه عن عظمته وكبريائه، ولا يكلّم الناس من تصنعه وريائه.
فهذا الكلام وأمثاله في طول النّفس يدل على اقتدار المتكلم، وفضل قوّته في التصرّف.
وقوله: ويكون سليما من التكلّف. فالتكلّف طلبُ الشيء بصعوبة للجهل بطرائق طلبه بالسهولة. فالكلام إذا جمع وطلب بتعب وجهد، وتنولت ألفاظه من بعد فهو متكلّف. مثاله قول بعضهم في دعائه: اللهم ربّنا وإلهنا، صلّ على محمد نبيّنا، ومن أراد بناء سوءاً فأحط ذلك السوء به، وأرسخه فيه كرسوخ السّجّيل على أصحاب الفيل، وانصرنا على كل باغ وحسود، كما انتصرت لناقة ثمود.
وقوله: برّيا من سوء الصّنعة. فسوء الصنعة يتصرّف على وجوه: منها سوء التقسيم وفساد التفسير، وقبح الاستعارة والتطبيق، وفساد النّسج والسّبك. وسنذكر المحمود من هذه الأبواب، والمذموم منها فيها بعد إن شاء الله.
وروى أنه قال: بريّاً من الصنعة. فالصّنعة النقصان عن غاية الجودة، والقصور عن حدّ الإحسان. وهو مثل قول العائب في هذا الأمر بعد عمل معناه إنه لم يحكم.
ولمّا دخل النابغة يثرب وغنى بقوله:
أمن آل ميّة رائحٌ أو مغتدِى
ومن هذه القصيدة:
عنمٌ يكادُ من اللّطافةِ يعقدُ
وعرف أنه عيب خرج وهو يقول: دخلتُ يثرب فوجدتُ في شعري صنعة، فخرجت منها وأنا أشعر العرب، أي وجدت نقصانا عن غاية التمام.
وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر الصولي، قال: كان ابن الأعرابي يأمر بكتب جميع ما يجرى في مجلسه، قال: فأنشده رجل يوماً أرجوزة أبي تمام في وصف السحاب على أنها لبعض العرب:
سارية لم تكتحل بغمض ... كدراء ذات هطلان محضِ
موقرة من خلّةٍ وحمضِ ... تمضي وتبقى نعما لا تمضِي
فقال ابن الأعرابي: اكتوبها، فلمّا كتبوها قيل له: إنها لحبيب بن أوس، فقال: خرّق خرّق، لا جرم إن أثر الصّنعة فيها بيّن.
وقال الفرزدق القصائد تصنّعاً، أي معابا ومنقصة عن حدّ الإحسان.
وقوله: بعيداً عن التعقيد. والتعقيد، والإغلاق، والتقعير سواء. وهو استعمال الوحشيّ، وشدة تعليق الكلام بعضه ببعض، حتى يستبهم المعنى. وقد ذكرنا أمثاله ذلك فيما تقدم، ونذكر هاهنا منها شيئاً: فمثال الوحشيّ قول بعض الأمراء وقد اعتلّت أمّه فكتب رقاعاً وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام: صين امرؤ ورعى، دعا لامرأة إنقحلة مقسئنّة، قد منيت بأكل الطّرموق، فأصابها من أجله الاستمصال، أن يمنَّ الله عليها بالاطر غشاش والإبرغشاش. فكلّ من قرأ رقعته دعا عليها، ولعنه ولعن أمه.
الطرموق، الطين. والاستمصال: الإسهال، واطرغش، وابرغش: إذا أبلّ وبرأ.
ومثال الشديد التعليق بعض ألفاظه ببعض حتى يستبهم المعنى، كقوله أبي تمام:
جاري إليه البينُ وصلُ خريدةٍ ... ماشتْ إليه المطلَ مشى الأكبدِ
يا يوم شرّد يومُ لهوى لهوَهُ ... بصبابتي وأذلَّ عزَّ تجلّدي
يومٌ أفاضَ جوىً أغاض تعزِّياً ... خاض الهوى بجري حجاهُ المزبدِ
جعل الحجا مزبداً.
وقوله أيضاً:
والمجدُ لا يرضَى بأن ترضى بأن ... يرضى المعاشرُ منكَ إلاّ بالرّضا
وبلغنا أنّ إسحاق بن إبراهيم سمعه ينشد هذا وأمثاله عند الحسن بن وهي، فقال: يا هذا، لقد شدّدت على نفسك. والكلام إذا كان بهذه المثابة كان مذموماً.
وقوله: غنيّاً عن التأمل، أي هو مستغن لوضوحه عن تأمّل معانيه، وترديد النّظر فيه. كقول بعضهم لصديق له: وجدت المودّة منقطعة، ما دامت الحشمة عليها مسلّطة، ولا يزال سلطان الحشمة إلا بملكة المؤانسة.
ومما يؤيّد ما قلناه قول الجاحظ: من أعاره الله عز وجل من معونته نصيباً، وأفرغ عليه من محبته ذنوباً، حبّب إليه المعاني، وسلّس له نظام اللّفظ. وكان قبل قد أعفى المستمع من كدّ التلطّف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهّم.

وقال العربي: البلاغة التقرّب من المعنى البعيد، والتباعد من حشو الكلام، وقرب المأخذ، وإيجازٌ في صواب، وقصدٌ إلى الحجّة، وحسنُ الاستعارة.
ومثله قول الآخر: البلاغة تقريب ما بعد من الحكمة بأيسر الخطاب.
والتقرّب من المعنى البعيد، وهو أن يعمد إلى المعنى اللّطيف فيكشفه، وينفى الشواغل عنه، فيفهمه السامعُ من غير فكر فيه، وتدبّر له. مثل قول الأول في امرأة:
لم ندر ما الدّنيا وما طيبُها ... وحسنُها حتى رأيناهَا
إنكَ لو أبصرتَها ساعةً ... أجللتهَا أن تتمنَّاها
وقال بعضهم لملك من الملوك: أمّا التعجّبُ من مناقبك فقد نسخه تواترها، فصارت كالشيء القديم الذي قد كسى به أي ألف لا كالشيء البديع الذي يتعجّب منه. ومن هذا أخذ أبو تمام قوله:
على أنها الأيامُ قد صرنَ كلها ... عجائبَ حتى ليس فيها عجائبُ
وقول آخر لبعض الملوك أيضاً: أخلاقك تجعل العدوّ صديقاً، وأحكامك تصيّر الصديق عدواً، ويشهد عدم مثلك فيما يكون.
وقال بعض القدماء: لكل جليلة دقيقة ودقيقة الموت الهجر.
وقلت:
اسم التفرُّقِ بيّنٌ ... لكنَّ معناه موتُ
وجدانُنا كلَّ شيءٍ ... إذا تباعدتْ فوتُ
والرواية الصحيحة أن العربي قال: البلاغة التقرب من المعنى البعيد، ولكن رأيته في بعض أصولي كما ذكرته قبل، فأوردته هاهنا، وفسّرته على ما رأيته في الأصل.
وقوله: والتباعد من حشو الكلام. فالحشو على ثلاثة أضرب: اثنان منها مذمومان، وواحد محمود: فأحد المذمومين هو إدخالك في الكلام لفظاً لو أسقطته لكان الكلام تاما، مثل قول الشاعر:
أنعى فتىً لم تذرَّ الشمسُ طالعةً ... يوماً من الدهر إلاّ ضرَّ أو نفعَا
فقوله: يوما من الدّهر حشوٌ لا يحتاج إليه، لأن الشمس لا تطلع ليلا.
وقول بعض بني عبس: أنشدنا أبو أحمد عن الصولى عن ثعلب عن ابن الأعرابي:
أبعدَ بني بكرٍ أؤمِّل مقبلاً ... من الدهر أو آسي على إثرِ مدبرِ
وليسَ وراءَ الفوت شيء يردّه ... عليك إذا ولّى سوى الصّبرِ فاصبر
أولاكَ بنو خيرٍ وشرٍّ كليهما ... جميعاً ومعروفٍ أريد ومنكرِ
قوله: أريد حشو وزيادة. وقوله: كليهما يكاد يكون حشواً، وليس به بأس، وباقي الكلام متوازن الألفاظ والمعاني، لا زيادة فيه ولا نقصان. وهذا الجنس كثيرٌ في الكلام.
والضرب الآخر العبارة عن المعنى بكلام طويل لا فائدة في طوله ويمكن أن يعبّر عنه بأقصر منه. مثل قول النابغة:
تبينّت آياتٍ لها فعرفتُها ... لستّة أعوامِ وذا العامُ سابعُ
كان ينبغي أن يقول لسبعة أعوام ويتمّ البيت بكلامٍ آخر يكون فيه فائدة، فعجز عن ذلك، فحشا البيت بما لا وجه له.
وأما الضرب المحمود فكقول كثيّر:
لوَ أنَّ الباخلين وأنت فيهم ... رأوك تعلّمُوا منك المطالا
قوله: وأنت فيهم حشوٌ إلاّ أنه مليح. ويسمّى أهل الصنعة هذا الجنس اعتراض كلام في كلام.
ومنه قول الآخر، وهو جرير:
إنّ الثمانين وبلّغتَها ... قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمان
وسنأتي على هذا الباب فيما بعد إن شاء الله.
ومن الكلام الذي لا حشو فيه قولُ صبرة بن شيمان حين دخل على معاوية مع الوفود فتكلّموا فأكثروا، فقال صبرة: يا أمير المؤمنين، إنّا حيّ فعال، ولسنا حيّ مقال، ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن مقالهم.
فقال معاوية: صدقت.
ومن هذا قول الشاعر:
وتجهل أيدينا ويحلمُ رأينا ... ونشتُمُ بالأفعال لا بالتّكلّمِ
وكتب رجلٌ إلى أخ له: ثقتي بكرمك تمنعُ من اقتضائك، وعلمي بشغلك يحدو على ادّكارك.
وقال آخر: في الناس طبائع سيئة وحسنة، فارتبط بمن رجحت محاسنُه.
وقال الحسن: نعم الله على العبد أكثرُ من أن تشكر، إلا أن يعان عليها. وذنوبه أكثر من أن يسلم منها، إلا أن يعفى له عنها.
وأما قرب المأخذ فهو أن تأخذ عفو الخاطر، وتتناول صفو الهاجس، ولا تكدّ فكرك، ولا تتعب نفسك. وهذه صفةُ المطبوع.
وروى أن الرشيد، أو غيره، قال لندمائه وقد طلعت الثريّا: أما ترون الثريّا؟ فقال بعضهم: كأنها عقد ريا.
وقال بعضهم لأبي العتاهية: عذب الماء فطابا فقال أبو العتاهية:
حبّذا الماء شرابا
وقال بشار وقد حبسه يعقوب بن داود على بابه:

طال الثّواء على رسوم المنزل
فرفع إليه قوله، فقال:
فإذا تشاءُ أبا معاذٍ فارحل
ومن قرب المأخذ أنّ الجاحظ أو غيره قال للجماز: أريد أن أنظر إلى الشيطان، فقال: انظر في المرآة.
وقال بعض الولاة لأعرابي: قل الحقَّ وإلا أوجعتك ضرباً فقال الأعرابي: وأنت أيضاً فاعمل به، فوالله لما أوعدك الله به منه أعظم مما أوعدتني به منك.
ومنه أن المأمون قال لأمّ الفضل بن سهل بعد قتله إياه: أتجزعين ولك ولدٌ مثلي؟ قالت: وكيف لا أجزع على ولدٍ أفادنيك.
وهذا على حسب ما قال أبو حنيفة: إذا أتتك معضلة فاجعل جوابها منها.
ومن ذلك ما أخبرنا به أو أحمد قال حدثنا الجوهري، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا مهدي بن سابق، قال: حدثنا عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان، قال: دعا عبد الملك بن مروان يوماً بالغداء وبحضرته رجل فدعاه إلى غدائه، فقال ليس: بي غداء يا أمير المؤمنين، قد تغديت. فقال عبد الملك: أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا يكون فيه فضلٌ للطعام. فقال يا أمير المؤمنين، فيّ فضلٌ، ولكن أكره أن آكل فأصير إلى ما استقبحه أمير المؤمنين.
وأمّا قوله: إيجاز في صواب، فسنذكره في بابه. وأمّا الاستعارة فسنصنعها في مواضعها.
وأما قوله: وقصد إلى الحجّة، فقد ذكرنا الكلام فيه.
وقال محمد بن علي رضى الله عنهما: البلاغة قولٌ مفقه في لطف، فالمفقه: المفهم، واللّطيف من الكلام: ما تعطف به القلوب النافرة، ويؤنس القلوب المستوحشة، وتلين به العريكة الأبيّة المستصعبة، ويبلغ به الحاجة، وتقام به الحجّة، فتخلص نفسك من العيب، ويلزم صاحبك الذنب، من غير أن تهيجه وتقلقه، وتستدعي غضبه، وتستثير حفيظته.
كقول بعض الكتّاب لأخ له: أنفذ إليّ أبو فلان كتاباً منك، فيه ذرّ من عتاب، كان أحلى عندي من تعريسة الفجر، وألذّ من الزّلال العذب، ولك العتبى داعياً مستجاباً له، وعاتباً معتذراً إليه. ولو شئت مع هذا أن أقول: إنّ العتب عليك أوجب، والاعتذار لك ألزم لفعلت، ولكني أسامحك ولا أشاحك، وأسلّم إليك ولا أرادّك، لأن أفعالك عندي مرضية، وشيمك لديّ مقبولة، ولولا أن للحجّة موقعها لأعرضت عما أومأتُ إليه وما عرضت مما بدأت به، وقلت:
إذا مرضنا أتيناكمْ نعودُكمْ ... وتذنبون فنأتيكُمْ فنعتذرُ
فانظر كيف خلّص نفسه من الجرم، وأوجبه لصاحبه في ألطف وجه، وألين مس.
ومن الكلام الذي يعطف القلوب النافرة قول آخر لأخ له: زيّن الله ألفتنا بمعاودة صلتك، واجتماعنا بترادف زيارتك، وأيامنا الموحشة لغيبتك برؤيتك، توعّد تسنى بالانتقام على إخلالي بمطالعتك، وحسبي من عقوبتك ما ابتليت به من عدم مشاهدتك.
وقال عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه: البلاغة إيضاح الملتبسات، وكشف عوذار الجهالات، بأسل ما يكون من العبارات.
وقريبٌ منه قول الحسن بن علي رضى الله عنهم: البلاغة تقريب بعيد الحكمة بأسهل العبارة.
ومثله قول محمد بن علي رضى الله عنهما: البلاغة تفسير عسير الحكمة بأقرب الألفاظ. وقد مضى فيما تقدّم من كلامنا ما يكون مثالاً لهذه الفصول.
وأنا أورد هاهنا فصلاً ينشرح به أبوابها، ويتّضح وجوهها. أخبرني أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان، قال: قال المأمون لمرتد عن الإسلام إلى النصرانية: أي شيء أوحشك من الإسلام فتركته، قال: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم. فقال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كاختلافنا في الأذان، وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد، وفي صلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفتيا، وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف، وإنما ذلك توسعة وتخفيفاً من المحنة. والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل وإنما ذلك توسعة وتخفيفاً من المحنة. واختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الخبر عن نبّينا عليه الصلاة والسلام، مع إجماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر.

فإن كان الذي أوحشك هو هذا حتى أنكرت هذا الكتاب فينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله، كما يكون متفقاً على تنزيله، ولا يكون بين النصارى اختلاف في شيء من التأويلات. ولو شاء الله أن ينزّل كتبه ويجعل كلام أنبيائه، وورثة رسله كلاما لا يحتاج إلى التفسير لفعل، ولكننا لم نر شيئاً من الدّين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت المحنة والبلوى، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضلٌ وليس على هذا بنى الله الدنيا.
فقال المرتدّ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ولد، وأن المسيح عبد الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنك أمير المؤمنين حقاً.
وقال ابن المقفّع: البلاغة كشف ما غمض من الحقّ، وتصوير الحقّ في سورة الباطل.
والذي قاله أمرٌ صحيح لا يخفى موضع الصواب فيه على أحد من أهل التمييز والتحصيل، وذلك أنّ الأمر الظاهر الصحيح الثابت المكشوف ينادي على نفسه بالصحّة، ولا يحوج إلى التكلّف لصحّته حتى يوجد المعنى فيه خطيباً.
وإنما الشأن في تحسين ما ليس بحسن، وتصحيح ما ليس بصحيح بضرب من الاحتيال والتحيّل، ونوع من العلل والمعاريض والمعاذير، ليخفى موضع الإشارة، ويغمض موقع التقصير، وما أكثر ما يحتاج الكاتب إلى هذا الجنس عند اعتذاره من هزيمة، وحاجته إلى تغير رسم، أو رفع منزلة دنئ له فيه هوى، أو حطّ منزلة شريف استحقّ ذلك مه، إلى غير ذلك من عوارض أموره.
فأعلى رتب البلاغة أن يحتجّ للمذموم حتى يخرجه في معرض المحمود، وللمحمود حتى يصيّره في صورة المذموم. وقد ذمّ عبد الملك بن صالح المشورة، وهي ممدوحة بكل لسان، فقال: ما استشرت أحداً إلا تكبّر على وتصاغرت له، ودخلته العزّة ودخلتني الذلة، فعليك بالاستبداد فإن صاحبه جليلٌ في العيون، مهيب في الصدور، وإذا افتقرت إلى العقول حقرتك العيون، فتضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك، واستحقرك الصغير، واستخفّ بك الكبير، وما عزّ سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصائحه.
ومدح بعضهم الموت فقال:
قد قلتُ إذ مدحُوا الحياةَ فأكثرُوا ... في الموت ألفُ فضيلةٍ لا تعرفُ
فيه أمان لقائه بلقائه ... وفارق كلِّ معاشرٍ لا ينصفُ
فالمتمكّن من نفسه يضعُ لسانه حيث يريد.
ومثل هذا كثيرٌ لا وجه لاستيفائه في مثل هذا الموضع.
ذكرت في هذا الباب وهو ثلاثة فصول من نعوت البلاغة، ووجوه البيان والفصاحة ما فيه كفاية، وأتيت من تفسير مشكلها على ما فيه مقنع، ولم يسبقني إلى تفسير هذه الأبواب وشرح وجوهها أحد، وإنما اقتصر من كان قبلي على ذكر تلك النعوت عارية مما هي مفتقرة إليه من إيضاح غامضها، وإنارة مظلمها، فكان المنفعة بها للعالم دون المتعلّم، والسابق دون اللاحق، وربما اعترض الشكُّ فيها للعالم المبرز، فسقطت عنه معرفة كثير منها. وأنت أيّدك الله تعتمد ما ذكرته من ذلك، وتأتمُّ بما شرحته منه، وتستدلُّ به على ما ألفيته من جنسه إذا عثرت به، لتستغنى عن جميع ما صنّف في البلاغة، وسائر ما ذكرى من أصناف البيان والفصاحة إن شاء الله.

الباب الثاني
تمييز الكلام جيده من رديه
ونارده من بارده والكلام في المعاني فصلان
الفصل الأول من الباب الثاني
في تمييز الكلام
الكلام أيدك الله يحسن بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخيّر لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشابه أعجازه بهواديه، وموافقة مآخير لمباديه، مع قلّة ضروراته، بل عدمها أصلاً، حتى لا يكون لها في الألفاظ أثر، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه.
فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حقيقا، وبالتحفظ خليقاً، كقول الأول:
هم الألى وهبُوا للمجدِ أنفسهم ... فما يبالونَ ما نالوا إذَا حمدُوا
وقول معن بن أوس:
لعمركَ ما أهويتُ كفِّى لريبةٍ ... ولا حملْتني نحوَ فاحشةٍ رجلِى
ولا قادنِي سمعِي ولا بصري لها ... ولا دلَّني رأي عليها ولا عقلِى
ولا أعلمُ أنّي لم تصبنِي مصيبةٌ ... من الدَّهرِ إلاّ قد أصابتْ فتى قبلِى

ولستُ بماشٍ ما حييتُ لمنكرٍ ... من الأمرِ لا يمشي إلى مثلهِ مثلِى
ولا مؤثراً نفسي على ذي قرابةٍ ... وأوثر ضيفي ما أقامَ على أهلِى
وقول الآخر:
ولستُ بنظّار إلى جانبِ الغنَى ... إذا كانتِ العلياءُ في جانبِ الفقرِ
وقال الآخر:
ذريني أسيِّرْ في البلاد لعلَّني ... أصيبُ غنيً فيه لذي الحقِّ محملُ
فإنْ نحنُ لم نسطعْ دفاعاً لحادثٍ ... تجئُ به الأيَّامُ فالصبرُ أجملُ
أليسَ كثيراً أنْ تلمَّ ملمَّةٌ ... وليس علينا في الحقوقِ معوَّلُ
ومما هو فصيح في لفظه جيدٌ في رصفه قولُ الشنفري:
أطيلِ مطالَ الجوعِ حتى أميته ... وأضرب عنه القلبَ صفحاً فيذهلُ
ولولا اجتنابُ العارِ لم يلفَ مشرب ... يعاشُ به إلاَّ لديَّ ومأكلُ
ولكن نفساً مرةً ما تقيمني ... على الضّيمِ إلاَّ ريثما أتحوَّلُ
وقول الآخر:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُه
وقول الآخر:
وما إن قتلناهم بأكثر منهم ... وتلن بأوفى للطعان وأكرما
وقال دعبل:
وإنَّ امرءًا أمستْ مساقطُ رحلِه ... بأسوان لم يترك له الحزم معلمَا
حللتُ محلاّ بقصرُ الطّرفُ دونهُ ... ويعجز عنه الطّيفُ أن يتجشَّما
وقول النابغة:
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمّهُ ... على شعتٍ، أيّ الرجال المهذّبُ؟
وليس لهذا البيت نظيرٌ في كلام العرب. وقال بعضهم: نظيره قول أوس بن حجر:
ولست يخابئ أبداً طعاما ... حذارَ غدٍ، لكلِّ غدٍ طعامُ
وهذا وإن كان نظيره في التأليف فإنه دونه لم تكرّر فيه من لفظ غد.
فإذا كان الكلام قد جمع العذوبة، والجزالة، والسهولة، والرّصانة، مع السلاسة والنصاعة، واشتمل على الرّونق والطّلاوة، وسلم من حيث التأليف، وبعد عن سماجة التركيب، وورد على الفهم الثاقب قبله ولم يردّه، وعلى السّمع المصيب استوعبه ولم يمجّه، والنفس تقبلُ اللطيف، وتنبو عن الغليظ، وتقلق من الجاسي البشع، وجميع جوارح البدن وحواسّه تسكن إلى ما يوافقه، وتنفر عما يضادّه ويخالفه، والعين تألف الحسن، وتقذى بالقبيح، والأنف يرتاح للطيب، وينغر للمنتن، والفم يتلذذ بالحلو، ويمجّ المرَّ، والسمع يتشوّف للصواب الرائع وينزوي عن الجهير الهائل، واليد تنعم باللّين، وتتأذّى بالخشن، والفهمُ يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن إلى المألوف، ويصغى إلى الصواب، ويهربُ من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخّر عن الجافي الغليظ، ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب، والرويّة الفاسدة.
وليس الشأن في إيراد المعاني، لأنَّ المعاني يعرفها العربيُّ والعجميُّ والقرويُّ والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السّبك والتركيب، والخلوّ من أود النّظم والتأليف. وليس يطلبُ من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدّمت.
ألا ترى إلى قول حبيب:
مستسلِم لله سائسُ أمةٍ ... بذوي تجهضمهَا له استسلام
فإنه صوابُ اللفظ، وليس هو بحسنٍ ولا مقبول الجهضمة، الوثوب والغلبة.
وقال أبو داود: رأس الخطابة الطّبع، وعمودها الدّربة، وجناحها رواية الكلام، وحليُها الإعراب، وبهاؤها تخيّر الألفاظ، والمحبّة مقرونةٌ بقلّة الاستكراه. وأنشد:
يرمون بالخطبِ الطوالِ وتارةً ... وحي الملاحظ خشيةَ الرُّقباءِ
ومن الدليل على أنّ مدار البلاغة على تحسين اللفظ أنّ الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعاني فقط، لأنَّ الردئ من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام، وإنما يدلُّ حسن الكلام، وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مطالعه، وحسن مقاطعة، وبديع مباديه، وغريب مبانيه على فضل قائله، وفهم منشئه.

وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني. وتوخّي صواب المعنى أحسن من توخّي هذه الأمور في الألفاظ. ولهذا تأنّق الكاتب في المعنى أحسن من توخي هذه الأمور في الألفاظ. ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخطبة، والشاعر في القصيدة. يبالغون في تجويدها، ويلغون في ترتيبها، وليدلُّوا على براعتهم، وحذقهم بسناعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كدّاً كثيراً، وأسقطوا عن أنفسهم تبعاً طويلاً.
ودليل آخر، إنّ الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً، وسلساً سهلاً، ومعناه وسطاً، دخل في جملة الجيّد، وجرى مع الرائع النادر، كقول الشاعر:
ولمّا قضينا من منىً كلَّ حاجةٍ ... ومسّحَ بالأركانِ من هوَ ماسحُ
وشدَّتْ على حدبِ المهارى رحالنَا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنَا بأطراف الأحاديثِ بيننا ... وسالت بأعناقِ المطيّ الأباطح
وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى، وهي رائقة معجبة، وإنما هي: ولمّا قضينا الحجَّ ومسحنا الأركان وشدّت رحالنَا على مهازيل الإبل ولم ينتظر بعضنا بعضاً جعلنا تتحدَّثُ وتسير بنا الإبل في بطون الأودية.
وإذا كان المعنى صواباً، واللفظ بارداً وفاتراً، والفاتر شرُّ من البارد، كان مستهجناً ملفوظاً، ومذموماً مردوداً، والبارد من الشعر قول عمرو بن معدي يكرب:
قد علمت سلمَى وجاراتُها ... ما قطَّر الفارسَ إلاَّ أنَا
شككت بالرُّمح سرابيلَه ... والخيلُ تعدو زيماً حولنا
وقول الفند الزماني:
أيا تملكُ ياتملِ ... وذاتَ الطوقِ والحجلِ
ذريني وذرى عذلِي ... فإنَّ العذلَ كالقتلِ
وقول النمر:
يهينُون منْ حقرُوا شيبَه ... وإنْ كانَ فيهم يفِي أو يبرْ
وقول أبي العتاهية:
ماتَ واللهِ سعيدُ بنُ وهبِ ... رحمَ اللهُ سعيدَ بنَ وهبِ
يا أبا عثمانَ أبكيتَ عيني ... يا أبا عثمان أوجعتَ قلبِي
والبارد في شعر أبي العتاهية كثير، والشعر كلامٌ منسوجٌ، ولفظٌ منظوم، وأحسنه ما تلاءم نسجه ولم يسخف، وحسن لفظه ولم يهجن، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام، فيكون جلفاً بغيضاً، ولا السوقيّ من الألفاظ فيكون مهلهلاً دوناً، فالبغيض كقول أبي تمام:
جعل القنَا الدرجات للكذجات ذَا ... ت الغيل والحرجات والأدحال
قد كان حزنُ الخطبِ في أحزانِه ... فدعاهُ داعي الحينِ للأسهالِ
وقوله:
يا دهرُ قوِّم من أخدعيكَ فقدْ ... أضججتَ هذا الأنامَ من خرقِك
ولا خير في المعاني إذا استكرهت قهراً، والألفاظ إذا اجترّت قصراً، ولا خير فيما أجيد لفظه إذا سخف معناه، ولا في غرابة المعنى إلاَّ إذا شرف لفظه مع وضوح المغزى، وظهور المقصد.
وقد غلب الجهل على قوم فصاروا يستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكدّ، ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزّة غليظة، وجاسيةً غربية، ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلساً عذباً وسهلاً حلواً، ولم يعلموا أنَّ السهل أمنع جانباً، وأعزّ مطلباً، وهو أحسن موقعا، وأعذب مستمعاً.
ولهذا قيل: أجود الكلام السهل الممتنع.
أخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا الصولي، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل، قال وصف الفضل بن سهل عمرو بن مسعدة فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أنّ كلّ أحد يظنّ أنه يكتب مثل كتبه، فإذا رامها تعذرت عليه.
وأخبرنا أيضاً قال: أخبرنا أبو بكر قال: حدثني عبد الله بن الحسين قال: حدثنا الحسن بن مخلد، قال: أنشدنا إبراهيم بن العباس لخاله العباس ابن الأحنف:
إليكَ أشكو ربِّ ما حلَّ بي ... من صدِّ هذا التائهِ المعجبِ
إنْ قالَ لم يفعلْ وإن سيل لمْ ... يبذلْ وإن عوتب لم يعتِب
صب بعصياني ولوْ قالَ لِي ... لا تشرَب الباردَ لم أشربِ
ثم قال: هذا والله الشعرُ الحسن المعنى، السهل اللفظ، العذب المستمع، القليل النظير، العزيز الشّبيه، المطمع الممتنع، البعيد مع قربه، الصّعب في سهولته قال: فجلعنا نقول: هذا الكلام والله أبلغ من شعره.

وأخبرنا أبو أحمد عن الصولى عن الغلابي عن طائع وهو العباس بن ميمون، من غلمان ابن ميثم، قال: قيل للسيد: ألا تستعمل الغريب في شعرك. فقال: ذاك عيٌّ في زماني، وتكلُّفٌ منٍّي لو قلتُه، وقد رزقتُ طبعاً واتساعاً في الكلام، فإنا أقول ما يعرفه الصغير والكبير، ولا يحتاج إلى تفسير. ثم أنشدني:
أيَا ربٍّ إني لم أردْ بالذي بهِ ... مدحتُ عليّاً غيرَ وجهكَ فارحِم
فهذا كلام عاقلٍ يضعُ الشيء موضعه، ويستعمله في إبَّانه، ليس كمن قال وهو في زماننا:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم
فأشمت عدوَّوه بنفسه ومن الكلام المطبوع السهل ما وقع به على بن عيسى: قد بلّغتك أقصى طلبتك، وأنلتك غاية بغيتك، وأنت مع ذلك تستقلُّ كثيري لك، وتستقبح حسنى فيك، فأنت كما قال رؤبة:
كالحوتِ لا يكفيهِ شيءٌ يلهمُهْ ... يصبحُ ظمآنَ وفي البحرِ فمُهْ
ومن المنظوم المطمع الممتنع قول البحتري:
أيها العاتبُ الذي ليسَ يرضى ... نم هنيئاً فلستُ أطعم غمضاً
إنَّ لي من هواكَ وجداً قد استه ... لكَ نومي ومضجعاً قد أقضَّا
فجفونِي في عبرةٍ ليسَ ترقَا ... وفؤادي في لوعةٍ ما تقضَّى
يا قليلَ الإنصافِ كم أقتضى عن ... دكَ وعداً إنجازُهُ ليسَ يقضَى
أحيني بالوصالِ إن كان جوداً ... وأثبني بالحبِّ إن كان قرضاً
بأبي شادنٌ تعلَّقَ قلبِي ... بجفونٍ فواتر اللّحظِ مرضَى
لست أنساهُ إذْ بدا منْ قريبٍ ... يتثنَّى تتثنِّىَ الغصنِ غضَّا
واعتذاري إليه حين تجافى ... ليَ عنْ بعض ما أتيتُ وأغضى
واعتلاقِي تفَّاحَ خدَّيْه تقبي ... لاً ولثماً طوراً وشمّاً وعضّاً
أيُّها الرَّاغبُ الذي طلبَ الجو ... دَ فأبلَى كوم المطايَا وأنضَى
ردْ حياضَ الإمامِ تلقَ نوالاً ... يسعُ الرَّاغبين طولاً وعرضاً
فهناك العطاءُ جزلاً لمن را ... مَ جزيلَ العطاءِ والجود محضاً
هو أندَى من الغمامِ وأوحَى ... وقعاتٍ من الحسامِ وأمضَى
يتوخَّ الإحسانَ قولاً وفعلاً ... ويطيعُ الإلهَ بسطاً وقبضَا
فضَّل اللهُ جعفراً بخلالٍ ... جعلتْ حبَّهُ على النَّاسِ فرضَا
ومنها يقول فيه:
وأرى المجدَ بينَ عارفةٍ من ... كَ تردَّى وعزمةٍ منكَ تمضَى
وقوله:
يتأبَّى منعاً وينعمُ إسعا ... فاً ويدنُو وصلاً ويبعد صدّا
أغتدِي راضياً وقد بتّ غضبا ... نَ وأمسِي مولىً وأصبحُ عبدَا
رقِّ لي من مدامعٍ ليسَ ترقا ... وارث لي من جوانِح ليسَ تهدَا
أتراني مستبدلاً بكَ ما عشْ ... تُ بديلاً أو واجداً منكَ بدّا
حاشَ للهِ أنتَ أفتنُ ألحَا ... ظاً وأحلى شكلاً وأحسنُ قدّا
خلقَ اللهُ جعفراً قيّم الدّن ... يا سداداً وقيّمَ الدِّين رشدَا
أكرمُ الناسِ شيمةً وأتمّ الن ... ناسِ حلماً وأكثرُ الناسِ رفدَا
هو بحرُ السَّماحِ والجودِ فازددْ ... منهُ قرباً تزددْ من الفقرِ بعدَا
يا ثمالَ الدُّنيَا عطاءً وبذلاً ... وجمال الدُّنيا ثناءً ومجدَا
فابقَ عمرَ الزَّمانِ حتى نؤدِّى ... شكرَ إحسانكَ الذي لا يؤدَّى
ومما هو أجزلُ من هذا قليلاً وهو من المطبوع قول ابن وهب:
مازالَ يلثمنِي مراشفَه ... ويعلُّنِي الإبريقُ والقدحُ
حتى استردَّ الليلُ خلعتَهُ ... ونشا خلالَ سوادِهِ وضحُ
وبدا الصَّباحُ كأنَّ غرَّتَه ... وجهُ الخليفة حينَ يمتدحُ
أنتَ الذي بكَ ينقضِي فرجاً ... ضيقُ البلادِ لنا وينفسِحُ
نشرتْ بك الدُّنيا محاسِنها ... وتزيَّنتْ بصفاتِك المدحُ
ومن السهل المختار الجيّد المطبوع قولُ الآخر:
صرفتَ القلبَ فانصرفَا ... ولم ترعَ الذي سلفَا
وبنتَ فلم أذبْ كمداً ... عليك ولم أمتْ أسَفا
كلانَا واجدٌ في النا ... سِ ممن ملَّه خلَفا
وقول الآخر:
أما والحلقِ السّود ... على سالفة الخسفِ
وحسن الغصنِ المهتز ... ز بين النَّحرِ والرِّدفِ
لقد أشفقتُ أن يجرَ ... حَ في وجنتها طرفِي
وقول الآخر:

كم من فؤادٍ كأنّه جبل ... أزاله من مقرِّه النَّظرُ
وما كان لفظه سهلاً، ومعناه مكشوفا بيّنا فهو من جملة الردئ المردود كقول الآخر:
يا ربِّ قد قلَّ صبرِي ... وضاقَ بالحبِّ صدرِي
واشتدَّ شوقي ووجدِي ... وسيّدي ليسَ يدرِي
مغفَّلٌ عن عذابي ... وليسَ يرحمُ ضرِّي
إن كان أعطّى اصطباراً ... فلستُ أملكُ صبرِي
أنَا الفِدا لغزالٍ ... دنا فقبَّل نحرِي
وقال لي من قريبٍ: ... يا ليت بيتكَ قبرِي
وإذا لان الكلامُ حتى يصير إلى هذا الحد فليس فيه خيرٌ، لا سيّما إذا ارتكب فيه مثل هذه الضّرورات.
وأما الجزل والمختار من الكلام فهو الذي تعرفه العامّة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها. فمن الجيد الجزل المختار قول مسلم:
وردنَ رواقَ الفضلِ فضلِ بن خالدٍ ... فحطَّ الثناءَ الجزلَ نائلُه الجزلُ
بكفِّ أبي العبّاسِ يستمطرُ الغنى ... وتستنزلُ النُّعمى ويسترعفُ النَّصلُ
ويستعطف الأمرُ الأبيُّ بحزمهِ ... إذا الأمرُ لم يعطفه نقضٌ ولا فتلُ
ومما هو أجزلُ من هذا قول المرار الفقعسي:
فقال يديرُ الموتَ في مرجحنة ... تسفّ العوالي وسطَها وتشولُ
وكائن تركنَا من كرائم معشرٍ ... لهنَّ على إبائهنَّ عويلُ
على الجرد يعلكنَ الشّكيم كأنَّها ... إذا ناقلتْ بالدارعين وعولُ
على كلِّ جيّاشٍ إذا ردّ غربُه ... يقلّبُ نهد المركلين رجيل
مجنبة قبلُ العيونِ كأنَّها ... قسىّ بأيدي العاطفين عطول
فللأرض من آثارهنَّ عجاجةٌ ... وللفجِّ من تصها لهنَّ صليلُ
منعتُ بنجدٍ ما أردتُ غلبَّةً ... وبالغور لي عزٌّ أشمُّ طويلُ
فهذا وإن لم يكن من كلام العامّة فإنهم يعرفون الغرض فيه، ويقفون على أكثر معانيه، لحسن ترتيبه، وجودة نسجه. وقول المرار أيضاً:
لا تسألي القوم عن مالِي وكثرتِه ... قد يقترُ المرءُ يوماً وهو محمودُ
أمضى على سنَّةٍ من والدي سلفتْ ... وفي أرومَته ما ينبتُ العودُ
ومن النثر قول يحيى بن خالد: أعطانا الدهر فأسرف، ثم عطف علينا فعسف وقول سعيد بن حميد: وأنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك عن جرمه، ولا يلتمس رضاك إلاّ من جهته، ولا يستدعي برّك إلاّ من طريقته، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذّنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالجرم، نبت بي عنك غرّة الحداثة، وردَّتني إليك الحنكة، وباعدتني منك الثقة بالأيام، وقادتني إليك الضرورة. فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر،وتجدّد النّعمة باطّراح الحقد فإن قديم الحرمة، وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة. فإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليلة فعلت.
وفي هذا الكلام وما قبله قوة في سهولة.
ومما هو أجزل من هذا قول الشعبي للحجاج وقد أراد قتله لخروجه عليه مع ابن الأشعث: أجدب بنا الجناب، وأحزن بنا المنزلُ، واستحلسنا الحذر، واكتحلنا السّهر، وأصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. فعفا عنه.
وأجود الكلام ما يكون جزلاً سهلاً، لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدوداً مستكرها، ومتوعّراً متقعّرا، ويكون بريئاً من الغثاثة، عارياً من الرّثاثة.
والكلام إذا كان لفظه غثّاً، ومعرضه رثّاً كان مردوداً، ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله، وأرفعه وأفضله. كقوله:
لما أطعناكم في سخطِ خالِقنا ... لا شك سلَّ علينا سيلَ نقمتِهِ
وقول الآخر:
أرى رجالاً بأدنَى الدِّين قد قنعُوا ... وما أراهم رضوا في العيشِ بالدُّونِ
فاستغنِ بالدِّين عن دنيا الملوكِ كما اس ... تغنَى الملوكُ بدنياهُمْ عن الدِّين
لا يدخل هذا في جملة المختار، ومعناه كما ترى نبيلٌ فاضل جليل.
وأما الجزل الردئ الفجّ الذي ينبغي ترك استعماله فمثل قول تأبّط شرّا:
إذا ما تركتُ صاحبي لثلاثةٍ ... أو اثنين مثلينا فلا أبتُ آمنا
ولما سمعتُ العوضَ تدعو تنفّرتْ ... عصافيرُ رأسِي من نوىً فعوائنَا
وحثحثتُ مشعوفَ الفؤاد فراعَنِي ... أناسٌ بفيفانٍ فمزتُ القرائِنا

فأدبرتُ لا ينجُو نجَائي نقنقٌ ... يبادرُ فرخيه شمالاً وداجنا
من الحصِّ هزروفٌ بطيرُ عفاؤُه ... إذا استدرج الفيفاءَ مدَّ المغابنَا
أزجٌّ زلوجٌ هزرفيٌّ زفازفٌ ... هزفٌّ يبذُّ النّاجياتِ الصّوافِنَا
فهذا من الجزل البغيض الجلف، الفاسد النَّسج، القبيح الرّصف، الذي ينبغي أن يتجنّب مثله.
وتمييز الألفاظ شديد. أخبرنا أبو أحمد عن الصولي عن فضل اليزيدي، عن إسحق الموصلي عن أيوب بن عباية: أن رجلاً أنشد ابن هرمة قوله:
بالله ربكَ إن دخلتَ فقلْ لها ... هذا ابن هرمةَ قائما بالبابِ
فقال: ما كذا قلتُ، أكنتُ أتصدَّق؟ قال: فقاعدا. قال: كنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: واقفا. ليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى.
ولولا كراهةُ الإطالة وتخوف الإملال لزدت من هذا النوع، ولكن يكفى من البحر جرعة. وقالوا: خير الكلام ما قلَّ وجلّ، ودلّ ولم يملّ. وبالله التوفيق.

الفصل الثاني
في التنبيه على خطأ المعاني وصوابها ليتبع من يريد العمل يرسمنا مواقع
الصواب فيرتسمها، ويقف على مواقف الخطأ فيتجنّبها
فنقول: إن الكلام ألفاظٌ تشتمل على معان تدلّ عليها ويعبر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ، لأنَّ المدار بعد على إصابة المعنى، ولأنّ المعاني تحلّ من الكلام محلَّ الأبدان، والألفاظ تجري معها مجرى الكسوة، ومرتبة إحداهما على الأخرى معروفة.
ومن عرف ترتيب المعاني واستعمال الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات، ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيّأ له فيها من صنعة الكلام مثل ما تهيأ له في الأولى، ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي، فحوَّلها إلى اللسان العربي، فلا بكمل لصناعة الكلام إلا من يكمل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ والمعرفة بوجوه الاستعمال.
والمعاني على ضربين: ضربٌ يبتدعه صاحب الصناعة من غير أن يكون له إمام يقتدى به فيه، أو رسوم قائمة في أمثلة مماثلة يعمل عليها. وهذا الضرب ربما يقع عليه عند الخطوب الحادثة، ويتنبه له عند الأمور النازلة الطارئة.
والآخر ما يحتذيه على مثال تقدم ورسم فرط.
وينبغي أن يطلب الإصابة في جميع ذلك ويتوخّى فيه الصورة المقبولة، والعبارة المستحسنة، ولا يتكل فيما ابتكره على فضيلة ابتكاره إياه، ولا يغرّه ابتداعه له، فيساهل نفسه في تهجين. صورته، فيذهب حسنه ويطمس نوره، ويكون فيه أقرب إلى الذم منه إلى الحمد.
والمعاني بعد ذلك على وجوه: منها ما هو مستقيم حسن نحو قولك: قد رأيت زيداً. ومنها ما هو مستقيمٌ قبيح نحو قولك: قد زيداً رأيت. وإنما قبح لأنك أفسدت النظام بالتقديم والتأخير. ومنها ما هو مستقيم النظم، وهو كذبٌ، مثل قولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر. ومنها ما هو محال، كقولك: آتيك أمس وأتيتك غداً. وكلّ محال فاسد، وليس كلّ فاسد محالا، ألا ترى أن قولك: قام زيد فاسد، وليس بمحال. والمحال ما لا يجوز كونه البتة، كقولك: الدنيا في بيضة. وأما قولك: حملت الجبل وأشباهه فكذب، وليس بمحال، إن جاز أن يزيد الله في قدرتك فتحمله.
ويجوز أن يكون الكلام الواحد كذباً محالاً، وهو قولك: رأيت قائماً قاعداً، ومررت بيقظان نائم، فتصل كذباً بمحال، فصار الذي هو الكذب هو المحال بالجمع بينهما، وإن كان لكل واحد منهما معنىً على حياله، وذلك لمّا عقد بعضها ببعض حتى صارا كلاماً واحداً.
ومنها الغلط، وهو أن تقول: ضربني زيدٌ، وأنت تريد ضربت زيداً، فغلطت، فإن تعمدت ذلك كان كذبا.
وللخطأ صورٌ مختلفة نبّهتُ على أشياء منها في هذا الفصل، وبيّنت وجوهها، وشرحت أبوابها لتقف عليها فتجتنبها، كما عرفتك مواقع الصواب فتعتمدها، وليكون فيما أوردت دلالة على أمثله مما تركت، ومن لا يعرف الخطأ كان جديراُ بالوقوع فيه. فمن ذلك قول امرئ القيس:
ألم تسألِ الرَّبْع القديمَ بعسْعسَا ... كأني أنادي إذ أكلّمُ أخرسَا
هذا من الشبيه فاسد لأجل أنه لا يقال: كلّمت حجرا فلم يجب فكأنه كان حجراً، والذي جاء به امرؤ القيس مقلوب.
وتبعه أبو نواس فقال يصف داراً:
كأنها إذ خرستْ جارِم ... بين ذوي تفنيده مطرق
والجيد منه قول كثير في امرأة:

فقلتُ لها: يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وطّنت يوماً لها النّفسُ ذلّت
كأنّي أنادي صخرةً حينَ أعرضتْ ... من الصّمِّ لو تمشي بها العصمُ زلَّتِ
فشبَّه المرأة عند السكون والتغافل بالصخرَةِ.
قالوا: ومن ذلك قول المسيب بن علس:
وكأن غاربَها رباوةُ مخرمٍ ... وتمدّ ثنىَ جديلهَا بشراعِ
أراد أن يشبِّه عنقها بالدَّقل فشبَّهها بالشّراع. وتبعه أبو النجم فقال:
كأنَّ أهدامَ النَّسيلِ المنسلِ ... على يديها والشّراع الأطول
والجيد منه قول ذي الرمة:
وهادٍ كجذع الساج سامٍ يقوده ... معرقُ أحناءِ الصّبيّينِ أشدق
وقال أبو حاتم: الشّراع: العنق، يقال: للعنق الشراع والثليل والهادي، فإذا صحّت هذه الرواية فالمعنى صحيح في قول أبي النجم.
وقال طفيل:
يرادَى على فأسِ اللّجامِ كأنما ... يرادي على مرقاةِ جذعٍ مشذَّبِ
ومن ذلك قول الراعي:
يكسو المفارقَ واللّبّاتِ ذا أرجٍ ... من قصبِ معتلف الكافورِ درّاجِ
أراد المسك، فجعله من قصب الظبي، والقصب: المعى، وجعل الظبي يعتلف الكافور فيتولّد منه المسك، وهذا من طرائف الغلط.
وقريبٌ منه قول زهير:
يخرجنَ من شرباتٍ ماؤها طحلٌ ... على الجذوعِ يخفنَ الغمَّ والغرقا
ظن أنّ الضفادع يخرجن من الماء مخافة الغرق. ومثله قول ابن أحمر:
لم تدرِ ما نسجُ اليرندجِ قبلَهَا ... ودراسُ أعوصَ دارس متخدّد
ظنّ أنّ اليرندج مما ينسج، واليرندج: جلدٌ أسود، تعملُ منه الخفاف فارسي معرب، وأصله رنده، وفسره أبو بكر بن دريد تفسيراً آخر، وقال: إنما هذه حكاية عن المرأة التي يصفها ظنّت لقلة تجربتها أنّ اليرندج شيء منسوج، ولم تدارس عويص الكلام، وألفاظ البيت لا تدلّ على ما قال.
ومثله قول أوس بن حجر:
كأن رثقتها بعد الكرى اعتبقت ... من ماء ادكنَ في الحانوتِ نضاح
ومن مشعشعةٍ كالمسكِ يشربها ... أو من أنابيب رمانٍ وتفاحِ
ظن أنّ الرمّان والتفّاح في أنابيب، وقيل: إنّ الأنابيب الطرائق التي في الرمان، وإذا حمل على هذا الوجه صحّ المعنى.
ومن فساد المعنى قول المرقش الأصغر:
صحا قلبُهُ عنها على أنَّ ذكرةً ... إذا خطرتْ دارتْ به الأرضُ قائماً
وكيف صحا عنها من إذا ذكرت له دارت به الأرض، وليس هذا مثل قولهم: ذهب شهر رمضان إذا ذهب أكثره، لأنّ الناس لا يعرفون أشدّ الحب إلاَّ أن يكون صاحبه في الحد الذي ذكره المرقش.
والجيد في السلو قول أوس:
صحا قلبه عن سكره وتأملا ... وكان بذكرَى أمّ عمرو موكلا
فقال: وكان بذكرى أم عمرو موكلا.
ومثل قول المرقش في الخطأ قول امرئ القيس:
أغرَّكِ منّى أنّ حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلبَ يفعلِ
وإذا لم يغررها هذه الحال منه فما الذي يغرُّها وليس للمحتجِّ عنه أن يقول: إنما عني بالقتل ههنا التّبريح، فإنّ الذي يلزمه من الهجنة مع ذكر القتل يلزمه أيضاً مع ذكر التّبريح.
ومما أخذ على امرئ القيس قوله:
فللسّوط ألهُوبٌ وللسّاقِ درَّةٌ ... وللزّجر منه وقعُ أخرج مهذبِ
فلو وصف أخسَّ حمارٍ وأضعفه ما زاد على ذلك.
والجيد قوله:
على سابحٍ يعطيك قبلَ سؤالهِ ... أفانينَ جرى غيرَ كزّولا وانِ
وما سمعنا أجود ولا أبلغَ من قوله أفانين جرى.
وقول علقمة:
فأدركهنَّ ثانياً من عنانه ... يمر كمرّ الرائح المتحلّب
فأدرك طريدته وهو ثانٍ من عنانه ولم يضر به بسوطٍ، ولم يمره بساق، ولم يزجره بصوت.
ومما يعاب قول الأعشى:
ويأمرُ لليحمومِ كلَّ عشيّةٍ ... بقتٍّ وتعليقِ فقد كان يسنقُ
يعنى باليحموم فرس الملك، يقول: إنه يأمرُ لفرسه كلّ عشية بقت وتعليق، وهذا مما لا يمدح به الملوك، بل ولا رجل من خساس الجند.
وقريب منه قول الأخطل:
وقد جعل اللهُ الخلافة منهم ... لأبلجَ لا عارِى الخوانِ ولا جدبِ
يقوله في عبد الملك. ومثل هذا لا يمدح به الملوك.
وأطرف منه قول كثير:
وإنّ أمير المؤمنين برفقهِ ... غزا كامناتِ الودِّ منى فنالَها
فجعل أمير المؤمنين يتودَّدُ إليه.
وقوله لعبد العزيز بن مروان:

وما زالتْ رقاكَ تسلُّ ضغنى ... وتخرج من مكامنها ضبابي
ويرقيني لكَ الرّاقونَ حتى ... أجابت حية تحت التراب
وإنما تمدح الملوك بمثل قول الشاعر:
له هممٌ لا منتهَى لكبارِهَا ... وهمَّتُه الصّغرى أجلُّ من الدَّهرِ
له راحةٌ لو أن معشارَ جودها ... على البرِّ كان أندَى من البحرِ
ومثل قول النابغة:
فإنكَ كاللّيلِ الذي هو مدركي ... وإن خلتُ أنَّ المنتأى عنك واسعُ
وقوله:
ألم ترَ أنَّ اللهَ أعطاكَ سورةً ... ترى كلَّ ملكٍ دونها يتذبذبُ
بأنكَ شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ
ومن غفلته أيضاً قوله يعنى كثيرا:
ألا ليتنا يا عزَّ من غير ريبةٍ ... بعيرانِ نرعى في خلاءٍ ونعزبُ
كلانا به عرٌّ فمن يرنا يقلْ ... على حسنِها جرباء تعدى وأجربُ
نكون لذي مالٍ كثيرٍ مغفلٍ ... فلا هو يرعانا ولا نحنُ نطلبُ
إذا ما وردنا منهلاً هاجَ أهلهُ ... إلينا فلا ننفكُّ نُرمى ونضرَبُ
فقالت له عزّة: لقد أردت بي الشقاء الطويل، ومن المنى ما هو أوطأ من هذه الحال. فهذا من التمنّي المذموم.
ومن ذلك أيضاً قول الآخر:
سلاّم ليتً لساناً تنطقينَ به ... قبلَ الّذي نالني من خبله قطعا
فدعا عليها بقطع لسانها.
ومثله قول عبد بني الحسحاس:
وراهنَّ ربِّي مثل ما قد ورينني ... وأحمَى على أكبادهنَّ المكاويا
ومن ذلك قول جنادة:
من حبِّها أتمنَّى أن يلاقيني ... من نحوِ بلدتهَا ناعٍ فينعاها
لكي يكونَ فراقٌ لا لقاءَ لهُ ... وتضمرَ النفسُ بأساً ثم تسلاها
فإذا تمنّى المحبُّ لحبيبته الموت فما عسى أن يتمنّى المبغض لبغيضته؟ وشتّان بين هذا وبين من يقول:
ألا ليتنا عشنَا جميعاً وكانَ بي ... من الداء ما لا يعرفُ الناسُ ما بيَا
فهذا أقرب إلى الصواب. ولو أن جنادة كان يتمنى وصلها ولقاءها لكان قد قضى وطراً من المنى ولم تلزمه الهجنة، كما قال العباسُ بن الأحنف:
فإن تبخلوا عني ببذل نوالكُم ... وبالوصل منكم كيْ أصبَّ وأحزنَا
فإني بلذّات المنى ونعيمها ... أعيشُ إلى أنْ يجمعَ اللهُ بيننَا
ومن المختار في ذكر المنى قول الآخر:
منىً إن تكنْ حقاً تكن أحسنَ المنَى ... وإلاَّ فقد عشنَا بها زمناً رغدا
أمانيَّ من ليلَى حسانٌ كأنّما ... سقتكَ بها ليلَى على ظمأ بردَا
وقول الآخر:
ولما نزلنَا منزلاً طلّهُ النَّدَى ... أنيقاً، وبستاناً من النّور حاليا
أجدَّ لنا طيبُ المكان وحسنُهُ ... منىً فتمنّينا فكنتِ الأمانيا
وقال الآخر:
فسوّغيني المُنى كيمَا أعيشَ به ... ثمّ أمسكي المنعَ ما أطلقتُ آمالي
على أن عنترة ذمّ جميع المنى حيث يقول:
ألا قاتل الله الطّلولَ البواليا ... وقاتل ذكراكَ السنين الخواليَا
وقولكَ للشيءِ الّذي لا تنالُهُ ... إذا هويته النّفسُ: يا ليتَ ذا ليَا
وقيل أيضاً:
إن ليتاً وإنَّ لوّا عناء
ومن الفاسد قول النابغة:
ألكنِي يا عيينُ إليكَ قولاً ... ستحملُهُ الرّواةُ إليكَ عنِّي
وليس من الصواب أن يقال: أرسلني إلى نفسك ثم قال ستحمله الرواة إليك عني.
ومن خطل الوصف قول أبي ذؤيب:
قصرَ الصّبوحَ لها فضرّجَ لحمهَا ... بالنَّيِّ فهي تثوخ فيها الإصبعُ
تأبَى بدرَّتها إذا ما استكرِهتْ ... إلاّ الحميمَ فإنهُ يتبضَّعُ
قال الأصمعي: هذه الفرس لا تساوي درهمين، لأنه جعلها كثيرة اللّحم رخوة تدخل فيها الإصبع. وإنما يوصف بهذا شاء يضحى بها، وجعلها حرونا إذا حرّكت قامت، إلا العرق فإنه يسيل.
والجيد قول أبي النجم:
جرداً تعادى كالقداح ذبُله ... نطىَ اللحم ولسنَا نهزلهُ
نطويهِ والطّي الدَّقيق يجد لهُ ... طيَّ التجار العصبَ إذ بتجله
حتّى إذا اللحمُ بدا تذبُّلهْ ... وانضمَّ عن كلِّ جوادٍ رهلُهْ
راح ورحنا بشديدٍ زجلُه
وقال غيلان الربعي:
يمتاحُ عصريها قرون مائها ... متحَ السّباع الحسىَ من بطحائِها

حتّى اعتصرنَا البدنَ من اعفائهَا ... بعدَ انتشار اللحم واستعصائِهَا
تجريدكَ القناةَ منْ لحائهَا ... مكرمَة لا عيب في احتذائِهَا
وقد قال غيلان أيضاً:
قد صارَ منها اللّحم فوقَ الأعضَا ... مثلَ جلاميدِ الضّفاةِ الصّلغا
وقال أيضاً:
فوق الهوادِى ذابلات الأكشُح ... يشقينَ أشوالَ المزادِ النزّحِ
وقال أيضاً:
حتّى إذا ما آضَ عبلاً جرشعاً ... قد ثمَّ كالفالج لا بل أضلعَا
هجنا به نطوِيه حتى استوكعَا ... قد اعتصرنَ البدنَ منهُ اجمعَا
ثم اتَّقانَا بالَّذي لنْ يدفعَا ... وآضَ أعلى اللّحم منهُ صومعا
فوصفه بعظم الجسم، وصلابة اللّحم، وما وصف أحدٌ الفرس بتركِ الانبعاث إذا حرك غير أبي ذؤيب. وإنما توصفُ بالسرعة في جميع حالاتها، إذا حرّكت وإن لم تحرّك، فتشبّه بالكوكب، والبرق، والحريق، والريح، والغيث، والسيل، وانفجار الماء في الحوض، والدّلو ينقطع رشاؤها، ويد السابح، وغليان المرجل، والقمقم، وبأنواع الطير: كالبازي، والسّوذنيق، والأجدل والقطامي، والعقاب، والقطا، والحمام، والجراد، وأنواع الوحش، كالوعل، والظّبي، والذّئب، والتّتفل، ويشبه بالخذروف، ولمعان الثّوب، وبالسّهمِ وبالريح وبالحسى.
قال أعرابي وقد سئل عن حضر فرسه: يحضر ما وجد أرضاً.
وقال آخر: همها أمامها، وسوطها عنانها. أخذ بعض المحدثين فقال:
فكان لها سوطاً إلى ضحوة الغدِ
وأخذه ابن المعتزّ، فلم يستوفِه قوله:
أضيعُ شيءٍ سوطهُ إذْ يضربهْ
فذكر إذ يضربه. وقال في أخرى:
صببنَا عليها ظالمينَ سياطنا ... فطارت بها أيدٍ سراعٌ وأرجل
وقيل لامرأة: صفى لنا النَّاقة النّجيبة. فقالت: عقاب إذا هوت وحيّةٌ إذا التوت، تطوى الفلاة وما انطوت.
وكتب ابن القرّية عن الحجاج إلى عبد الملك: بعثت بفرس حسن المنظر، محمود المخبر، جيّد القد، أسيل الخدّ، يسبق الطّرف، ويستغرقُ الوصف.
وأجود ما قيل في العدو قول عبدة بن الطبيب:
يخفى التّرابَ بأظلافٍ ثمانية ... في أربعٍ مسّهنّ الأرضَ تحليلُ
والتحليل، من تحلّة اليمين، وهو أن يقول إن شاء الله، فقول الحالف: إن شاء الله، لا يكون إلا موصولاً باليمين. يقول: إن مواصلة هذا الثور بين خطواته كمواصلة الحالف بالتحلّة يمينه من غير تراخ. أخذه المحدث فقال:
كأنّما برفعنَ ما لمْ يوضعِ
وقال أبو النجم:
جاءَ كلمعِ البرقِ جاشٍ ماطرُه ... يسبحُ أولاهُ ويطفُو آخرُهْ
فما يمسُّ الأرضَ منه حافرُهْ
وأخذ على أبي النجم قوله: " يسبحُ أولاه ويطفو آخره أنشده الأصمعي فقال: حمار الكسّاح أسرع من هذا، لأنّ اضطراب مآخيره قبيح، وقد أحسنَ في قوله: ويطفو آخره. وقوله: فما يمس الأرض منه حافره جيد.
وقال أبو نواس:
ما إنْ يقعنَ الأرضَ إلا فرطَا ... كأنما يعجلن شيئاً لقطاً
وقال:
فانصاع كالكوكب في انحدارِهِ ... لفتَ المشير موهِناً بنارِهِ
وقال ذو الرمة:
كأنه كوكبٌ في إثر عفريةٍ
أخذه ابن الرومي، فقال:
فخذها تبُوعاً لمنْ ولى مسومةً ... كأنها كوكبٌ في إثر عفريت
وقال ابن المعتز في كلبة:
وكلبةٍ زهراء كالشهاب ... تحسبها في ساعةِ الذّهابِ
نجماً منيراً لاح في انصبابِ ... خفيفةَ الوطء على التّراب
وقال خلف بن الأحمر:
كالكوكبِ الدرِّي منصلتاً ... شدا يفوتُ الطّرفَ أسرعُهُ
وكأنما جهدتْ أليتُه ... أن لا تمسَّ الأرض أربعُهُ
أخذهُ من قول الأعشى:
بجلالةٍ أجدٍ مداخلةٍ ... ما إنْ تكاد خفافها تقعُ
وقال أبو نواس:
أرسلهُ كالسّهم إذ غلا بهِ ... يسبق طرفَ العينِ في التهابِه
يكادُ أن ينسلَّ من إهابهِ ... كلمعانِ البرقِ في سحابهِ
مأخوذ من قول ذي الرمة:
لا يذخرَانِ من الإيغال باقِية ... حتَّى تكاد تفرَّى عنهما الأهُبُ
وقال كثير:
إذا جرى معتمداً لأمه ... يكادُ يفرِي جلدَه عن لحمِهِ
وقال أعرابي:
غايةُ مجدٍ رفعت فمنْ لهَا ... نحنُ حويناهَا وكنَّا أهلَهَا
لو أرسلَ الرِّيح لجئنا قبلَهَا
وقال أبو النجم:

كأنَّ في المروِ حريقاً يشعلهُ ... أو لمعَ برقٍ خافقٍ مسلسله
ومما عيب على طرفة قوله:
وإذا تلسُنني ألسُنُها ... إنني لستُ بموهونٍ فقرْ
والعاشقُ يلاطف من يحبّه ولا يحاجّه، ويلاينُه ولا يلاجّه.
وقد قال بعض المحدثين:
بُنِى الحبُّ على الجورِ فلوْ ... أنصفَ العاشقُ فيهِ لسمُجْ
ليسَ يستحسنُ في وصفِ الهوَى ... عاشقٌ يعرفُ تأليفَ الحجَجْ
ومن خطأ المعاني قول الأعشى:
وما رابَها من ريبةٍ غيرَ أنَّهَا ... رأتْ لمَّتِى شابتْ وشابتْ لدَاتِيَا
وأي ريبة عند امرأة أعظم من الشيب.
ومثله قوله:
وأنكرَتني وما كانَ الَّذي نكرتْ ... من الحوادثِ إلاَّ الشَّيبَ والصَّلعَا
وأعجب منه قوله أيضاً:
صدَّتْ هريرةٌ عنَّا ما تكلَّمنا ... جهلاً بأمّ خليْد حبلَ منْ تصلُ
أإنْ رأتْ رجلاً أعشَى أضرَّ بهِ ... ريبُ الزَّمانِ ودهر خاتلٌ خبلُ
وأيّ شيء أبغض عند النساء من العشا والضر يتبينّه في الرجل؟ وأعجب ما في هذا الكلام أنه قال: حبلَ من تصل هذه المرأة بعدِي وأنا بهذه الصفة من العشا والفقر والشّيب؟ فلا ترى كلاماً أحمق من هذا.
ومن اضطراب المعنى قول امرئ القيس:
أراهنّ لا يحببنً منْ قلَّ مالُهُ ... ولا من رأينَ الشَّيبَ فيه وقوَّسَا
وهن يبغضنَه من قبل التقويس، فما معنى ذكر التّقويس؟ فأما بغضهن لمن قوّس فجدير وليس ببديع.
ومن الجيد في هذا الباب قول بعض المتأخرين:
لقد أبغضتُ نفسِي في مشيبِي ... فكيفَ تحبني الخودُ الكعَابُ
وقلت:
فلا تعجبا أنْ يعبنَ المشيبَ ... فما عبنَ من ذاكَ إلاّ معيباً
إذا كان شيبي بغيضاً إليَّ ... فكيفَ يكونُ إليهَا حبيباً
ومن فساد المعنى قول النابغة:
تحيدُ عن أستنٍ سودٍ أسافلُهُ ... مشى الإماء الغوادي تحمِلُ الحُزَمَا
وإنما تحملُ الإماء حزمَ الحطب عند رواحهنّ، فأما غدوهنَّ إلى الصحراء فإنهن مخفّات.
والجيد قول التغلبي:
يظلُّ بها ربذ النّعامِ كأنَّها ... إماءٌ تزجَّى بالعشيِّ حواطبُ
وقد روى مثل الإماء. وإذا صحّت هذه الرواية سلمَ المعنى.
والأستن: شجر بشع المنظر تسميّه العرب رؤوسَ الشياطين. وجاء في بعض التفسير في قوله تعالى: " طلعها كأنّه رؤوسُ الشياطين " : إنه عنى الأسنن.
وقد أساء النابغة أيضاً في وصف الثور حيثُ يقول:
منْ وحشِ وجرةَ موضيٍّ أكارعُهُ ... طاوِى المصيرِ كسيفِ الصّيقلِ الفردِ
أراد بالفرد أنه مسلولٌ من غمده، فلم يبينْ بقوله: الفرد عن سلِّه بياناً واضحاً.
والجيد قول الطّرمّاح وقد أخذه منه:
يبدُو وتضمرُهُ البلادُ كأنَّه ... سيفٌ على شرفٍ يسلُّ ويغمدُ
وهذا غايةٌ في حسن الوصف.
وربما سامح الشاعرُ نفسه في شيء فيعود عليه بعيبٍ كبير. وقد قال المتلمس:
وقد أتناسَى الهمَّ عندَ احتضارهِ ... بناجٍ عليهِ الصّيعريّة مكدمِ
كميت كناز اللَّحمِ أوْ حميريّةٍ ... مواشكةٍ تنفى الحصَى بمثلم
والصيعرية: سمةٌ للنوق فجعلها للجمل.
وسمعه طرفة ينشدها، فقال: استنوق الجمل. فضحك الناس وسارت مثلاً. فقال له المتلمّس: ويلٌ لرأسكَ من لسانك، فكان قتلُه بلسانه وروى هذا الحديث له مع المسيّب بن علس.
وأخبرنا أبو أحمد عن مهلهل بن يموت عن أبيه، عن الجاحظ أنه قال: وممن أراد أن يمدح فهجا الأخطلُ وانبرى له فتى، فقال له: أردت أن تمدح سماكا الأسدي فهجوته، فقلت:
نعم المجيرٌ سماكاً من بني أسدٍ ... بالطَّفِّ إذْ قتلتْ جيرانَها مضرُ
قد كنتُ أحسبُهُ قيناً وأنبؤُهُ ... فاليومَ طيّر عن أثوابه الشّررُ
وأردتَ أن تهجُو سويد بن منجوف فمدحته، فقلت:
وما جذعُ سوءٍ خرَّبَ السَّوسُ جوفَهُ ... بما حمَّلتهُ وائلٌ بمطيقٍ
فأعطيته الرياسة على وائل، وقدرُه دون ذلك.
وأردت أن تهجو حاتم بن اليعمان الباهلي وأن تصغِّر من شأنِه وتضعَ منه، فقلت:
وسوَّدَ حاتماً أنْ ليسَ فيها ... إذا ما أوقدَ النِّيرانَ نارُ
فأعطيته السودد في الجزيرة وأهلها ومنعته ما لا يضره.
وقلت في زفر بن الحرث:

بَنِى أميَّةَ إِني ناصحٌ لكم ... فلا يبيتنّ فيكمْ آمناً زفَرُ
مفترشٌ كافتراشِ اللَّيثِ كلكلُه ... لوقعةٍ كائنٍ فيها لكمْ جزرُ
فأردتَ أن تغرى به فعظّمتُ أمره، وهوَّنتَ أمر بني أمية.
ومن اضطراب المعنى ما أخبرنا به أو أحمد عن مبرمان، عن أبي جعفر بن القبسي، قال: لما قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب السلمى أنشد الأخطل عبد الملك والجحّاف السلمى عنده:
ألا سائلِ الجحافَ هل هو ثائرٌ ... بقتَلى أصيبتْ من سليمٍ وعامِر
فخرج الجحّاف مغضباً حتى أغار على البشر وهو ماءٌ لبنى تغلب فقتل منهم ثلاثة وعشرين رجلاً، وقال:
أبا مالِكٍ هلْ لمتني مذ حضضتَنِي ... على القتلِ أو هلْ لا منِى لكَ لائم
متَى تدعُنِي أخرَى أحبكَ بمثلهَا ... وأنتَ امرؤٌ بالحقِّ ليسَ بعالم
فخرج الأخطلُ حتى أتى عبد الملك، وقد قال:
لقد أوقَع الجحَّافُ بالبشرِ وقعةً ... إلى الله منها المستَكَى والمعوَّل
فإلاَّ تغيِّرهَا قريش بمثلِهَا ... يكنْ عنْ قريش مسمارٌ ومزحَل
فقال له عبد الملك: إلى أين يا بن اللّخناء؟ فقال: إلى النّار. فقال. والله لو غيرها قلت لضربتُ عنقك.
ووجه العيبِ فيه أنه هدّد عبد الملك، وهو ملكُ الدنيا بتركهِ إياه والانصراف عنه إلى غيره. وهذه حماقة مجردة، وغفلة لا يطار غرابها. ثم قال:
فلا هدى اللهُ قيساً منْ ضلالتَها ... ولا لعّاً لبنى ذكوانَ إذ عثرُوا
ضجُّوا من الحربِ إذ عضَّتْ غواربَهُمْ ... وقيس غيلانَ من أخلاقِها الضَّجرُ
فقال له عبد الملك: لو كان الأمر كما زعمت لما قلت:
لقدْ أوقعَ الجحّاف بالبشرِ وقعةً
وممن أراد أن يمدح نفسه فهجاها جرير في قوله:
تعرَّضَ التَّيمُ لي عمداً لأهجوها ... كما تعرَّضَ لاستِ الخارِئ الحجرُ
فشبَّه نفسه باستِ الخاري.
وقريبٌ من ذلك قول الرّاعي:
ولا أتيتُ نجيدةَ بن عويمرٍ ... أبغى الهدَى فيزيدني تضليلاً
فأخبر أنه على شيء من الضلال، لأن الزيادة لا تكون إلا على أصل، وأراد أن يمدح نفسه فهجاها.
وأراد جريرٌ يذكر عفوه عن بني غدانة حيث شفع فيهم عطية بن جمال، فهجاهم أقبح هجاء حيث يقول:
أبِني غدانة إنني حرَّرتكم ... فوهبتُكم لعطيَّةَ بن جعال
لولا عطيَّةُ لاجتدعتُ أنوفكم ... ما بين الأم آنفٍ وسبالِ
فلما سمع عطية هذا الشعر قال: ما أسرعَ ما رجع أخي في عطيّته.
ومثل ذلك سواء قول يزيد بن مالك العامري حيث يقول:
أكفُّ الجهلَ عن حلماءِ قومِي ... وأعرضُ عن كلامِ الجاهلينَا
فأخبر أنه يحلم عن الجهّال ولا يعاقبهم، ثم نقض ذلك في البيت الثاني، فقال:
إذا رجلٌ تعرَّضَ مستخفّاً ... لنا بالجهلِ أوشكَ أنْ يحينَا
فذكر أنه كاد أن يفتكَ بمن جهل عليه.
وقريب منه قول عبد الرحمن بن عبد الله القس:
أرى هجرها والقتلَ مثلين فاقصروا ... ملامكم فالقتلُ أعفى وأيسَرُ
فأوجب أنَّ الهجر والقتل سواء، ثم ذكر أنَّ القتلَ أعفى وأيسر، ولو أتى بيل استوى.
ومن عجائب الغلط قول ذي الرمة:
إذا انجابت الظّلماء أضحت رؤوسُها ... عليهنَّ من جهد الكرى وهي ظلَّعُ
وقال ابن أبي فروة: قلت لذي الرّمة: ما علمتُ أحداً من الناس أظلع الرؤوس غيرك فقال: أجل.
ومن الغلط قول العجّاج:
كأنَّ عينيهِ من الغؤورِ ... قلتَانِ أو حوجَلتا قارورِ
صيّرتا بالنَّضجِ والتَّصبير ... صلاصلَ الزَّيتْ إلى الشّطورِ
فجعل الزّجاج ينضج.
ومن الخطأ قول رؤبة في صفة قوائم الفرس: " يهوين شتى ويقعن وقعا " فقال له سلم: أخطأت، جعلته مقيّداً، فقال له رؤبة: أدنني من ذنب البعير، أي لستُ أبصر الخيل، وإنما أنا بصيرٌ بالإبل.
ومن الغلط قول رؤبة أيضاً:
وكلُّ زجَّاجٍ سخام الخملِ ... يبرى له في رعلاتٍ خطلِ
جعل للظليم عدّةَ إناث، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأخطأ في قوله:
كنتمْ كمن أدخل في جحرٍ يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقَى الأسودَا
فجعل الأفعى دونَ الأسودِ في المضرَّةِ، وهي فوقهُ فيها.
ومن خطأ الوصف قول أبي النّجم:
أخنسَ في مثل الكظام المخطمه

والأخنس: القصير المشافر، وإنما توصف المشافر بالسّبوطة.
ووصف أعرابي إبلا، فقال: كوم بهازر، مكد خناجر، عظام الحناجر، سباط المشافر، أجوافها رغاب، وأعطانها رحاب، تمنع من البُهُم، وتبذل للجممِ.
ناقة مكود وخنجورة: كثيرة اللبن. والبهازر: العظام. والكوم: المرتفعة الأسنمة. ولم يحسن أيضاً صفة ورود الإبل. قال:
جاءت تسامي في الرَّعيلِ الأوَّلِ ... والظَّلُّ عن أخفافِهَا لم يفضُل
ذكر أنها وردتْ في الهاجرة، وهذا خلاف المعهود، وإنما يكون الورود غلسا، كقول الآخر:
فوردتْ قبلَ الصّباحِ الفاتقِ
وقال الآخر:
فوردن قبل تبين الألوانِ
وقول لبيد:
إن من وردى تغليس النَّهلْ
ومن الغلط قول أبي النّجم:
صلبُ العصا جافٍ عن التغزُّل
يصف راعي الإبل بصلابة العصا، وليس بالمعروف.
والجيّد قول الراعي:
ضعيفُ العصا بادي العروق ترَى لهُ ... عليهَا إذا ما أجدبَ الناسُ إصبعاً
وإنما يقال: فلانٌ صلب العصا على أهله إذا كان شديداً عليهم.
ومن الغلط قول أبي النّجم أيضاً في وصف الفرس، وهو غلط في اللّفظ
كأنّها ميجنة القصَّار
وإنما الميجنة لصاحب الأدم، وهي التي يدقُّ عليها الأدمُ من حجرٍ وغيره.
ومن فساد المعنى قول الشمَّاخ:
بانتْ سعاد وفي العينينِ ملمُولُ ... وكانَ في قصرٍ من عهدها طولُ
كان ينبغي أن يقول: في طول من عهدها قصر، لأنَّ العيش مع الأحبّةِ بوصف بقصر المدة، كما قال الآخر:
يطولُ اليومُ لا ألقاكَ فيه ... وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ
ومن اضطراب المعنى قول أبي دواد الأيادي:
لو أنها بذلتْ لذي سقمٍ ... حرض الفؤادِ مشارف القبضِ
حسنَ الحديثِ لظلَّ مكتئباً ... حرَّان من وجد بها مضِّ
وكان استواء المعنى أن يقول: لبرأ من سقمه كما قال الأعشى:
لو أسندتْ ميتاً إلى نحرِهَا ... عاشَ ولم ينقلْ إلى قابرِ
وقال تأبط شراً:
قليلُ غرارِ النّومِ
تقديره قليل يسير النوم، وهذا فاسد، ووجهُ الكلام أن يكون ما ينام إلاَّ غراراً، فإن احتلت له قلت: يعنى أن نومه أيسر من اليسير.
وقول أبي ذؤيب:
فلا يهنأ الواشونَ أن قد هجرتُها ... وأظلمَ دوني ليلُها ونهارُها
هذا من المقلوب، كان ينبغي أن يقول: وأظلم دونَها ليلى ونهاري.
وقول ساعدة:
فلو نبأتك الأرضُ أو لو سمعتَه ... لأيقنتَ أني كدتُ بعدكَ أكمدُ
كان ينبغي أن يقول: إنِّ بعدك أكمَد.
ومن الخطأ قول طرفة يصف ذنب البعير
كأنَّ جناحي مضرحيٍّ تكنَّفَا ... حفافيه شكَّا في العسيب بمسردِ
وإنما توصفُ النجائب بخفّة الذنب ... وجعله هذا كثيفاً طويلاً عريضاً
وقول امرئ القيس:
وأركبُ في الرَّوعِ خيفانةً ... كسا وجههَا سعفٌ منتشرْ
شبّه ناصية الفرس بسعف النخلة لطولها، وإذا غطى الشعرُ العين لم يكن الفرس كريماً.
وقول الحطيئة:
ومن يطلب مساعِي آل لأي ... تصعّدُهُ الأمورُ إلى علاهَا
كان ينبغي أن يقول: من طلب مساعيها جز عنها وقصّر دونها، فأما إذا تناهى إلى علاها فأي فخر لهم، فإن قيل: إنه أراد به أنه يلقى صعوبة كما يلقى الصاعد من أسفل إلى علو، فالعيبُ أيضاً لازم له، لأنه لم يعبّر عنه تعبيراً مبيناً.
وقول النابغة:
ماضِي الجنان أني صبرٍ إذا نزلتْ ... حربٌ يوائلُ منها كل تنبالِ
التّنبال: القصير من الرجال، وليس القصير بأولى بطلب الموئل من الطوال، وإن جعل التّنبال الجبان فهو أبعد من الصواب، لأن الجبان خائف وجل اشتدت الحرب أم سكنت.
والجيد قول الهمداني:
يكرُّ عل المصافِّ إذا تعادَى ... من الأهوالِ شجعانُ الرّجالِ
وقول المسيب بن علس:
فتسلَّ حاجتَها إذا هي أعرضتْ ... بخميصةٍ سرح اليدين وساعٍ
وكأنَّ قنطرةً بموضع كورِها ... وتمدّ ثنى جديلها بشراعِ
وإذا أطفتَ بها أطفتَ بكلكلٍ ... نبضِ الفرائص مجفَر الأضلاعِ
وهذا من المتناقض، لأنه قال خميصة، ثم قال: كأن موضع كورِها قنطرة، وهي مجفرة الأضلاع، فكيف تكون خميصة وهذه صفتها.
وقول الحطيئة:
حرج بلاوذُ بالكناس كأنّه ... متطوّف حتى الصباح يدورُ

حتى إذا ما الصّبح شقَّ عمودهُ ... وعلاه أسطعُ لا يردُّ منيرُ
وحصى الكئيب بصفحتيْه كأنه ... خبثُ الحديدِ أطارَهنّ الكيرُ
زعم أنه يطوفُ حتى الصباح، فمن أين صار الحصى بصفحتيه؟ وقول لبيد:
فلقد أعوصُ بالخصمِ وقدْ ... أملأُ الجفنةَ من شحمِ القللْ
أرد السنام، ولا يسمّى السنام شحما.
وقوله:
ولو يقوم الفيلُ أو فيّالهُ ... زلَّ عن مثل مقامي وزحلْ
ليس للفيّال من الشدّة والقوة ما يكون مثلا.
ومن الخطأ قول أبي ذؤيب في الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطميّةٍ ... يدومُ الفراتُ فوقَها ويموجُ
والدّرّة إنما تكون في الماء الملح دون العذب. وقال من احتج له: إنما يريد بماء الدّرة صفاءه فشبّه بماء الفرات، لأنَّ الفرات لا يخطئه الصفاء والحسن.
وقوله أيضاً:
فما برحتْ في الناسِ حتى تبينّتْ ... ثقيفاً بزيزاءِ الأشاةِ قبابُها
يقول: مازالت هذه الخمرة في الناس يحفظونها حتى أتوابها ثقيفا. قال الأصمعي: وكيف تحمل الخمرة إلى ثقيف وعندهم العنب.
وقول عدي بن الرقاع:
لهم رايةٌ تهدِي الجموعَ كأنها ... إذا خطرتْ في ثعلبِ الرُّمحِ طائرُ
والراية لا تخطر، وإنما الخطران للرمح.
ومما لم يسمع مثله قط قول عدي بن زيد في الخمرة ووصفه إياها بالخضرة حيث يقول:
والمشرفُ الهيدبُ يسعى بها ... أخضرَ مطموثاً بماء الحريصِ
والحريص: السّحابة تحرص وجه الأرض، أي تقشرها بشدّة وقع مطرها.
ومن وضع الشيء في غير موضعه قول الشاعر:
يمشِي بها كل موشّى أكارِعهُ ... مشى الهرابذِ حجّوا بيعة الّدونِ
فالغلظ في هذا البيت في ثلاثة مواضع: أحدها أن الهرابذ المجوس لا النصارى. والثاني أن البيعة للنصارى لا للمجوس. والثالث أنّ النصارى لا يعبدون الأصنام ولا المجوس.
ومن المحال الذي لا وجه قول القس:
وإنّي إذا ما الموتُ حلَّ بنفسها ... يزال بنفسِي قبلَ ذاكَ فأقبرُ
وهذا شبيه بقول قائل لو قال: إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله. وهذا عين المحال الممتنع الذي لا يجوز كونه.
ومن عيوب المعنى مخالفة العرف وذكر ما ليس في العادة كقول المرار:
وخالٍ على خدّيكَ يبدو كأنَّه ... سنا البدرِ في دعجاءَ بادٍ دجونُها
والمعروف أن الخيلان سود أو سمر، والخدود الحسانُ إنما هي البيض، فأتى هذا الشاعر بقلب المعنى.
وهكذا قول الآخر:
كأنَّما الخيلان في وجهه ... كواكبُ أحدقنَ بالبدرِ
ويمكن أن يحتج لهذا الشاعر بأن يقال: شبّه الخيلان بالكواكب من جهة الاستدارة لا من جهة اللّون.
والجيد في صفة الخال قولُ مسلم:
وخالٍ كخالِ البدرِ في وجه مثله ... لقينا المنَى فيه فحاجزَنا البذلُ
وقال العباس بن الأحنف:
لخال بذاتٍ الخال أحسنُ عندنا ... من النكتةِ السّوداء في وضحِ البدرِ
ومن المعاني ما يكون مقصراً غير بالغ مبلغ غيره في الإحسان، كقول كثير:
وما روضةٌ بالحزنِ طيبة الثّرَى ... تمجُّ الندى حوذانُها وعرارُها
بأطيبَ من أردانِ عزَّةَ موهِنا ... وقدْ أوقدتْ بالمندلِ الرَّطب نارُها
وقد صدق، ليس ريح الروض بأطيب من ريح العود، إلا أنه لم يأت بإحسان فيما وصف من طيب عرق المرأة، لأن كلّ من تجمّر بالعود طابت رائحته.
والجيد قول امرئ القيس:
ألم ترى أنِّي كلَّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيَّبِ
والعود الرطب ليس بمختار للبخور، وإنما يصلح للمضع والسواك، والعود اليابس أبلغ في معناه.
وأنشد الكميت نصيباً:
كأنَّ الغطامط في غليهَا ... أراجيزُ أسلمَ تهجُو غفارا
فقال نصيب: لم تهجُ أسلم غفاراً قط، فقال الكميت:
إذا ما الهجارِس غنَّينَها ... تجاوبنَ بالفلواتِ الوبارَا
فقال نصيب: لا يكون بالفلوات وبار، فاستحى الكميت وسكت.
ومن عيوب المديح عدولُ المادح عن الفضائل التي تختصّ بالنفس: من العقل، والعفّة، والعدلِ، والشجاعة، إلى ما يليق بأوصاف الجسم: من الحسن، والبهاء والزينة، كما قال ابن قيس الرقيّات في عبد الملك بن مروان:
يأتلقُ التّاجُ فوقَ مفرقهِ ... على جبينٍ كأنَّهُ الذَّهبُ

فغضب عبد الملك، وقال: قد قلت في مصعب:
إنما مصعبٌ شهابٌ من اللَّ ... هِ تجلَّتْ عن وجههِ الظّلماءُ
فأعطيته المدح بكشفِ الغمم، وجلاء الظّلم، وأعطيتني من المدح مالاً فخر فيه، وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذّهب في النضارة.
ومثل ذلك قول أيمن بن خزيم في بشر بن مروان:
يا بنَ الأكارِم من قريشٍ كلّها ... وابن الخلائِفَ وابنَ كلِّ قلمِّسِ
من فرع آدمَ كايراً عن كابرٍ ... حتَّى أتيتَ إلى أبيك العنبسِ
مروانَ، إنَّ قنانهُ خطّيّةٌ ... غرست أرومتُها أعزَّ المغرسِ
وبنيتَ عند مقامِ ربك قبَّةً ... خضراء كلّلَ تاجًها بالفسفسِ
فسماؤها ذهبٌ وأسفَل أرضِها ... ورق تلألأ في صميم الحندسِ
فما في هذه الأبيات شيءٌ يتعلَّقُ بالمدح الذي يختصّ بالنفس، وإنما ذكر سؤدد الآباء، وفيه فخرٌ للأبناء، ولكن ليس العظامى كالعصاميّ، وربما كان سؤدد الوالد وفضيلته نقيصة للولد إذا تأخّر عن رتبة الوالد، ويكون ذكر الوالد الفاضل تقريعاً للولد الناقص.
وقيل لبعضهم: لم لا تكون كأبيك؟ فقال: ليت أبي لم يكن ذا فضل، فإنّ فضله صار نقصاً لي.
وقد قال الأوّل:
إنَّمَا المجدُ ما بنَى والدُ الصِّدْ ... قِ وأحيا فعالهُ المولُودُ
وقال غيره في خلافهِ:
لئنْ فخرتَ بآباء ذوِي شرفٍ ... لقدْ صدقتَ ولكنْ بئسَ ما ولدوا
وقال آخر:
عفَّتْ مقابحُ أخلاقٍ خصصتَ بها ... على محاسنَ أبقاهَا أبوكَ لكا
لئنْ تقدمتَ أبناء الكرامِ به ... لقد تأخَّر آباءُ اللِّئامِ بِكا
ثم ذكر أيمن بناء قبة حسنة، وليس بناء القباب مما يدل على جودٍ وكرم، بل يجوز أن يبنى اللئيم البخيل الأبنية النفيسة، ويتوسّع في النفقة على الدور الحسنة مع منع الحق، وردّ السائل، وليس اليسار مما يمدح به مدحاً حقيقياً، ألا ترى كيف يقول أشجع السّلمى:
يريدُ الملوكُ مدىَ جعفرِ ... ولا يصنعونَ كما يصنعُ
وليسَ بأوسعِهِمْ في الغنى ... ولكنَّ معروفَهُ أوسعُ
ومن عيوب المدح قول أيمن بن خريم أيضاً في بشر بن مروان:
فإنْ أعطاكَ بشرٌ ألفَ ألفٍ ... رأى حقّاً عليهِ أن يزيدا
وأعقبَ مدحتي سرجاً خلنجاً ... وأبيضَ جوزجانيّا عنودَا
وإنَّا قدْ رأينا أمَّ بشرٍ ... كأمّ الأسدِ مذكاراً ولودَا
جميع هذا الكلام جار على غير الصواب، إلاَّ في ابتداء وصفه في التناهي في الجود، ثم انحطّ إلى مالا يقع مع الأول موقعاً وهو السّرج وغيره. وأتى في البيت الثالث بما هو أقرب إلى الذّم منه إلى المدح، وهو قوله:
وإنا قد رأينَا أمَّ بشر ... كأمّ الأسدِ مذكاراً ولوداً
لأنّ الناس مجمعون على أنَّ نتاج الحيوانات الكريمة أعسر وأولادها أقلّ كما قال الأول:
بغاثُ الطّيرِ أكثرُها فراخاً ... وأمُّ الصّقرِ مقلاتٌ نزورُ
ومن عيوب المدح قول بعضهم هو عبيد الله بن الحويرث لبشر بن مروان:
إنّي رحلتُ إلى عمروٍ لأعرفهُ ... إذْ قيلَ بشرٌ ولم أعدلْ به نشباً
فنكّرَ الممدوح وسلبه النباهة، وكان ينبغي أن يقول: ليعرفني.
والنادر العجب الذي لا شبه له قول عديّ بن الرّقاع، وذكر الله سبحانه، فقال:
وكفكَ سبطةٌ ونداكَ غمرٌ ... وأنتَ المرءُ تفعلُ ما تقولُ
فجعل إلهه امرءاً، تعالى الله عما يقول: وأخبرنا أبو أحمد عن الصولي، قال: أخبرنا أبو العيناء عن الأصمعي قال: اجتمع جرير والفرزدق عند الحجّاج. فقال: من مدحني منكما بشعرٍ يوجزُ فيه ويحسن صفتي فهذه الخلعة له، فقال الفرزدق:
فمن يأمنِ الحجاجَ والطيرُ تتَّقى ... عقوبتَهُ إلاَّ ضعيفُ العزائم
فقال جرير:
فمن يأمنِ الحجّاجَ أمَّا عقابُه ... فمرٌّ وأمَّا عقدُهُ فوثيق
يسرُّ لكَ البغضاءَ كلُّ منافقٍ ... كما كلُّ ذي دينٍ عليكَ شفيقُ
فقال الحجاجُ للفرزدق: ما عملت شيئاً، إنّ الطير تنفر من الصبيّ والخشبة، ودفع الخلعة إلى جرير.
والجيد في المديح قول زهير:
هنالك أنْ يستخوَلُوا المالَ يخولُوا ... وإن يسألوا يعطُوا وإن ييسرُوا يغلُوا
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههُا ... وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ

فلما استتم وصفهم بحسن المقال، وتصديق القول بالفعل، وصفهم بحسنِ الوجوه.
ثم قال:
على مكثريهم حقُّ من يعتريهُم ... وعندَ المقلّينَ السماحةُ والبذلُ
فلم يخل مكثراً ولا مقلاًّ منهم من برٍّ وفضل.
ثم قال:
فإن جثتهُمْ ألفيتَ حولَ بيوتِهم ... مجالسَ قد يشفَى بأحلامِهَا الجهْل
فوصفهم بالحلم.
ثم قال:
وإن قامَ منهمُ قائمٌ قال قاعدٌ ... رشدتَ فلا غرمٌ عليكَ ولا خذلُ
فوصفهم أيضاً بالتّضافرِ والتّعاون.
فلما آتاهم هذه الصفات النفيسة ذكر فضل آبائهم فقال:
وما يكُ من خيرٍ أتوهُ فإنَّما ... توارثهُ آباءُ آبائِهم قبلُ
وهل ينبتُ الخطىَّ إلاَّ وشيجُهُ ... وتغرسُ إلاَّ في منابتها النَّخلُ
وكقول ذي الرمة:
إلى ملكٍ يعلو الرّجالَ بفضِله ... كما بهرَ البدرُ النّجومَ السّوارِيا
فما مرتعُ الجيرانِ إلاَّ جفانكُم ... تبارونَ أنتم والرياحَ تباريا
أخذه بعضهم، فقال وأحسن:
رأيتكم بقيّةَ حيّ قيسٍ ... وهضبتُهُ التّي فوق الهضابِ
تبارونً الرّياحَ إذا تبارت ... وتمتثلونَ أفعالَ السّحاب
يذكرني مقامي في ذراكم ... مقامي أمسِ في ظلِّ الشَّبابِ
وكقول الراعي:
إني وإياكَ والشكوى التي قصرتَ ... خطوى وبابكَ والوجدُ الذي أجدُ
كالماء والظالعُ الصَّديانُ يطلبُه ... وهو الشّفاءُ له لوْ أنَّه يردُ
ضافى العطيّة، راجيه وسائلهُ ... سيّانِ، أفلحَ من يعطى ومن يعدُ
وقول مروان بن أبي حفصة:
بنو مطرٍ يومَ اللّقاءِ كأنَّهمْ ... أسودٌ لهم في غيلِ خفَّانَ أشبلُ
هم المانعون الجارَ حتّى كأنَّما ... لجارهمُ فوقَ السّما كينِ منزلُ
بها ليلُ في الإسلامِ سادُوا ولم يكنْ ... كأوَّلهمْ في الجاهليّة أوّلْ
هم القومُ إن قالوا أصابُوا وإن دُعُوا ... أجابُوا وإن أعطوْا أطابُوا وأجزلُوا
ولا يستطيعُ الفاعلونَ فعالَهُمْ ... وإن أحسنوا في النَّائباتِ وأجملُوا
ثلاثُ بأمثال الجبالِ حباهُم ... وأحلامُهم منها لدى الوزنِ أثقلُ
ويقول الآخر:
علم الغيثَ الندى حتى إذا ... ما حكاهُ علَّمَ البأسَ الأسَدْ
فلَهُ الغيثُ مقرٌّ بالنَّدَى ... ولهُ اللّيثُ مقرٌّ بالجلدْ
وكقول الآخر:
شبه الغيث فيه والليث وال ... بدْر فسمحٌ ومحربٌ وجميلُ
ومع ما ذكرناه فإنه لا ينبغي أن يخلو المدح من مناقب لآباء الممدوح، وتقريظ من يعرف به وينسبُ إليه.
وأنشد أبو الخطاب الفضل بن يحيى:
وجدْ لهُ يا بنَ أبي عليٍّ ... بنفحةٍ من ملكٍ سخىّ
فإنَّهُ عودٌ على بديّ ... فإنَّما الوسميّ بالوليِّ
فقال الفضل: بنفحة من نفح برمكي، فجعله كذلك.
وأنشده مروان بن أبي حفصة:
نفرتَ فلا شلّتْ يدٌ خالديَّةٌ ... رتقتَ بها الفتقَ الذي بينَ هاشِم
فقال له الفضل: قل برمكية، فقط يشركنا في خالد بشرٌ كثير، ولا يشركنا في برمك أحدٌ.
والهجاء أيضاً إذا لم يكن يسلب الصفات المستحسنة التي تختصّها النفس، ويثبتُ الصفات المستهجنة التي تختصها أيضاً لم يكن مختاراً.
والاختيارُ أن ينسبَ المهجوّ إلى اللؤم والبخل والشّره وما أشبه ذلك.
وليس بالمختار في الهجاء أن ينسبه إلى قبحِ الوجه وصغر الحجم وضؤولة الجسم، يدلُّ على ذلك قول القائل:
فقلتُ لها: ليسَ الشّجوب على الفتَى ... بعارٍ ولا خيرُ الرجالِ سمينُها
وقول الآخر:
تنالُ الخيرَ ممّنْ تزدريهِ ... ويخلفُ ظنّكَ الرَّجلُ الطّريرُ
وقول الآخر:
رأوهُ فازدروه وهو خرقٌ ... وينفعُ أهله الرجلُ القبيحُ
وذكر السموءل أنّ قلة العدد ليست بعيب، فقال:
تعيّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنَّ الكرامَ قليلُ
ومن الهجاء الجيد قولُ بعضهم:
اللّؤمُ أكرمُ من وبرٍ ووالدهِ ... واللّؤمُ أكرم من وبرٍ وما ولدَا
قومٌ إذا ما جنى جانيهُمُ أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قوَدا
وقول أعشى باهلة:
بنو تيمٍ قرارةُ كلِّ لؤُمٍ ... كذاك لكلِّ سائلة قرارُ
وتبعه أبو تمام، فقال:

ملقى الرجاء وملقى الرَّحلِ في نفرِ ... الجودُ عندهمُ قولٌ بلا عملِ
أضحوا بمستنِّ سبل اللُّؤم وارتفعتْ ... أموالهُم في هضابِ المطلِ والعلَل
ونقله إلى موضع آخر، فقال:
وكانتْ زفرةً ثمَّ اطمأنَّتْ ... كذاكَ لكلِّ لكلِّ سائلةٍ قرارُ
وقول الآخر:
لو كان يخفى على الرّحمنِ خافيةٌ ... من خلقِهِ خفيتْ عنه بنو أسدٍ
وقول الحكم الحضري:
ألم تر أنَّهم رقمُوا بلؤمٍ ... كما رقمتْ بأذرُعها الحميرُ
ومن خبيث الهجاء قول الآخر:
إنْ يغدروا أو يجبنُوا ... أو يبخلوا لا يجفلُوا
يغدوا عليك مرجِّلي ... ن كأنَّهم لم يفعلُوا
وقول الآخر:
لو اطَّلع الغرابُ على تميمٍ ... وما فيها من السّوءاتِ شابَا
وقول مرة بن عدي الفقعسي:
وإذا تسرُّك من تميمٍ خصلةٌ ... فلما يسوءكَ من تميمٍ أكثرُ
ومن المبالغة في الهجاء فول ابن الرومي:
يقتِّرُ عيسَى على نفسِهِ ... وليسَ بباقٍ ولا خالدِ
ولو يستطيعُ لتقتيره ... تنفَّسَ من منخرٍ واحدِ
والناس يظنون أنَّ ابن الرومي ابتكر هذا المعنى، وإنما أخذه ممن حكاه أبو عثمان أنّ بعضهم قبر إحدى عينيه وقال: إنّ النظر بهما في زمان واحد من الإسراف.
وقول البحتري:
وردّدتُ العتابَ عليكَ حتَّى ... سئمتُ وآخرُ الودِّ العتابُ
وهان عليكَ سخطي حين تغدُو ... بعرضٍ ليسَ تأكلُه الكلابُ
ومن خطأ الوصف قولُ كعب بن زهير:
ضخمٌ مقلَّدها فعمٌ مقيَّدها
لأن النجائب توصف بدقّة المذبح.
ومن خطأ اللفظ قول ذي الرّمة:
حتَّى إذا الهيق أمسى شام أفرخَه ... وهنَّ لا مويسٌ نأياً ولاكثبُ
لأنَّه لا يقال شام إلاَّ في البرق.
ومن ردئ التشبيه قول لبيد:
فمتى ينقع صراخٌ صادقٌ ... يحلبوها ذات جرسٍ وزجلْ
فخمةٌ ذفراءُ ترتَى بالعرَا ... قردمانيّاً وتركا كالبصلْ
فشبَّه البيضة بالبصل، وهو بعيد، وإن كانا يتشابهان من جهة الاستدارة لبعد ما بينهما في الحنس.
وقول أبي العيال:
ذكرتُ أخي فعاودني ... صداعُ الرأسِ والوصبُ
فذكر الرأس من الصّداع لا يكون في الرّجل ولا في غيرها من الأعضاء. وفيه وجهٌ آخر من العيب، وهو أن الذّاكر لما قد فات من محبوب يوصفُ بألم القلب واحتراقه بالصّداع.
وقول أوس بن حجر:
وهم لمقلِّ المالِ أولادُ علّةً ... وإن كان محضاً في العمومةِ مخولا
فقوله: المال من المقلِّ فضلٌ.
وقول عبد الرحمن بن عبد الله الخزرجي:
قيدتْ فقد لان حاذاها وحارِكُها ... والقلبُ منها مطار القلبِ مذعورُ
فما سمعنا بأعجب من قوله: فالقلبُ منها مطارُ القلب.
وقول الآخر:
ألا حبذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ ... وهندٌ أتى من دونِها النّأيُ والبعدُ
فقوله: النّأى مع البعد فضلٌ، وإن كان قد جاء من هذا الجنس في كلامهم كثير، والبيت في نفسه باردٌ.
ومن عيوب اللفظ ارتكابُ الضرورات فيه كما قال المتلمس:
إنْ تسلُكِي سبلَ الموماةِ منجدةً ... ما عاش عمرٌ وما عمرتَ قابوسُ
أراد ما عاش عمرو وما عمّر قابوس وقول الأعشى حكاه بعض الأدباء وعابه:
منَ القاصراتِ سجوفَ الحجَا ... ل لم تر شمسا ولا زمهريرا
قال: لا توضع الشمسُ مع الزمهرير. قال: وكان يجبُ أن يقول، لم تر شمساً ولا قمراً، ولم يصبها حرٌّ ولا قر، وقد أخطأ لأنَّ القرآن قد جاء فيه موضعُ هاتين اللفظتين معا.
ومن المطابقة أن يتقارب التضاد دون تصريحه، وهذا كثير في كلامهم. وقد أوردناه ي باب الطباق.
وكقول علقمة:
يحملنَ أترجةً نضخُ العبيرِ بها ... كأنَّ تطيابَهَا في الأنفِ مشمُومُ
والتطباب ها هنا على غاية السماجة. والطيب أيضاً مشموم لا محالة، فقوله: كأنه مشموم هجنة. وقوله: في الأنف أهجن، لأن الشمّ لا يكون بالعين.
وقول عامر بن الطفيل:
تناولتُهُ فاحتل سيفي ذبابُه ... شراشيفَه العليا وجذَّ المعاصما
وهذا البيت على غاية التكلف.
وقول خفاف بن ندبة:
إنْ تعرضِي وتضنِّى بالنَّوالِ لنا ... تواصلين إذا واصلتِ أمثالي

وكان ينبغي أن يقول: إن تضنّى بالنوال علينا، على أنّ البيت كله مضطرب النّسج.
وقول الخطيئة:
صفوف وماذىُّ الحديدِ عليهم ... وبيض كأولادِ النّعام كثيف
جعل بيض النّعامِ أولادها.
ومن عيوب اللّفظ استعماله في غير موضعه المستعمل فيه، وحمله على غير وجهه المعروف به، كقول ذي الرمة:
نغارُ إذا ما الرّوعُ أبدى عن البرَى ... ونقرِى عبيطَ اللّحمِ والماءُ جامسُ
لا يقال: ماءٌ جامس، وإنما يقال: ودكٌ جامس.
وقول جرير:
لمَّا تذكَّرتُ بالدّيرينِ أرَّقنى ... صوتُ الدّجاجِ وقرعٌ بالنّواقيسِ
قالوا: لا يكونُ التّأريقُ إلاَّ أوّل الليل. والدجاج: الديكة ها هنا.
وقول عديّ بن زيد في الفرس: فارها متابعا. لا يقال: فرسٌ فاره، إنما يقال بغلٌ فاره.
وقول النابغة:
رقاق النّعال طيّبٌ حجزاتُهم ... يحيّون بالرّيحانَ يومَ السّباسبِ
يمدح بذلك ملوكا بأنهم يحيّون بالريحان يومَ السباسب، ويوم السباسب يومُ عيد لهم، ومثل هذا لا يمدح به السوقة فضلاً عن الملوك.
ومنه قوله فيهم:
وأكسيةٌ الإضريح فوق المشاجب
جعل لهم أكسية حمراً يضعونها على مشاجب. فترى لو كان لهم ديباج أين كانوا يضعونه، وليس هذا مما يمدح به الملوك.
ومن الردئ أيضاً قول امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمرٍ غيبٍ ... ونسحر بالطعام والشراب
عصافيرٌ وذبَّانٌ ودودٌ ... وأجرٍ منْ مجلَّحةِ الذِّئابِ
هذا وإن لم يكنْ مستحيلاً، فهو على غاية القباحة في اللفظ وسوء التمثيل.
وقول بشر:
على كل ذي ميعة سابحٍ ... يقطع ذو أبهريه الحزاما
وإنّما له أبهر واحد.
ومن الأبيات العارية الخربة من المعاني قولُ جرير للأخطل:
قال الأخيطل إِذ رأى راياتكم ... يا مار سرجسَ لا أريدُ قتالا
ومن المتناقض قولُ عروة بن أذينة:
نزلوا ثلاثَ منىً بمنزلِ غبطةٍ ... وهمُ على غرضٍ لعمركَ ما همُ
متجاورين بغير دارِ إقامةٍ ... لو قد أجدَّ رحيلُهم لم يندَموا
فقال: لبثوا في دار غبطة، ثم قال: لو رحلوا لم يندموا.
ومثله قول جرير:
فلم أر داراً مثلها دارَ غبطةٍ ... وملقىً إذا التفَّ الحجيجُ بمجمع
أقلَّ مقيما راضياً بمقامه ... وأكثرَ جاراً ظاعناً لم يودَّع
وهل يغتبطُ عاقلٌ بمكان من لا يرضى به.
وقول جميل:
خليليَّ فيما عشتما هل رأيتُما ... قتيلا بكى من حبِّ قاتِله مثلي
فلو تركتْ عقلى معي ما طلبتُها ... ولكنْ طلابيهَا لمَا فاتَ منْ عقلِي
زعم أنه يهواها لذهاب عقله، ولو كان عاقلاً ما هويها.
والجيّد قول الآخر:
وما سرني أنّي خليٌّ من الهوَى ... ولو أن لي من بين شرقٍ إلى غربِ
فإن كان هذا الحبّ ذنبي إليكم ... فلا غفر الرّحمنُ ذلكَ من ذنبِ
وقول الآخر:
أحببتُ قلبي لما أحبّكُم ... وصارَ رأيي لرأيه تبعا
وربَّ قلبٍ يقول صاحبُه ... تبّاً لقلبي فبئسَ ما صنعا
والجيد في هذا المعنى قول البحتري:
ويعجبني فقرى إليكَ ولم يكنْ ... ليعجبَني لولا محبَّتُك الفقرُ
وقول العرجى:
من ذكرِ ليلى وأيُّ الأرض ما سكنتْ ... ليلى فإني بتلك الأرض محتبسُ
ومنه:
مثل الضفادع نقّاقون وحدهمُ ... إذا خلوا وإذا لاقيتَهم خرسُ
وقال ابن داود: من التشبيه الذي لا يقع أبرد منه قول أبي الشيص:
وناعسٍ لو يذوق الحبَّ ما نعسا ... بلى عسى أنْ يرى طيف الحبيبِ عسَى
وللهوى جرسٌ ينفى الرّقاد به ... فكلما كدتُ أغفى حرّك الجرَسا
وقول الآخر:
إن قلبي سلَّ من غير مرضْ ... وفؤادي من جوى الحبِّ غرضْ
كجرابٍ كان فيه جبن ... دخل الفأرُ عليه فقرضْ
وقال عبد الملك يوماً لجلسائه: أعلمتم أنّ الأحوص أحمق لقوله:
فما بيضةٌ بات الظّليم يحفها ... ويجعلها بين الجناح وحوصلهْ
بأحسن منها يوم قالت تدللا ... تبدَّلْ خليلي إنني متبدّله
فما أعجبه وهي تقول هذه المقالة والجيد قول أبي تمام:
لا شيءَ أحسنُ منهُ ليلةَ وصلِهِ ... وقدْ اتخذتُ مخدَّةً من خدِّه
وأنشد عبد الملك قول نصيب:

أهيم بدعدٍ ما حييتُ فإنْ أمتْ ... فواحزنا من ذا بهيمُ بها بعدِي
فقال بعض من حضر، أساءَ القول، أبحزنُ لمن بهيمُ بها بعده؟ فقال عبد الملك: فلو كنت قائلاً ما كنت تقول؟ فقال:
أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ فإنْ أمتْ ... أوكِّلْ بدعدٍ من يهيم بها بعدِي
فقال عبد الملك: أنتَ واللهِ أسوأ قولا، أتوكِّلُ من يهيم بها ثمَّ قال: الجيد:
أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ فإنْ أمتْ ... فلا صلحتْ دعدٌ لذي خلَّةِ بعدِي
وأخذ الأصمعيّ على الشّماخ قوله:
رحى حيزومِها كرَحَى الطّحينِ
وقال: السعدانة توصف بالصّغر. فقال من احتجّ للشماخ: إنما شبهها بالرّحى لصلابتها، كما قال:
قلائص يطحنّ الحصى بالكراكرِ
ومن المعيب قول عمر بن أبي ربيعة هذا:
أومتْ بكفَّيهَا من الهودَجِ ... لولاكَ في ذا العام لم أحجُجِ
أنتَ إلى مكةَ أخرجتنِي ... حبّاً ولولا أنتَ لم أخرجِ
لا ينبئ الإيماء عن هذه المعاني كلها.
ونحوه قول المثقب العبدي:
تقول إذا درأتُ لها وضيني ... أهذا دينُه أبداً ودينِي
أكلّ الدهر حلٌّ وارتحالٌ ... أما يبقى علىَّ ولا يقينِي
والذي يقارب الصواب قول عنترة:
فأزورّ من وقع القنا بلبانِه ... وشكَا إلىّ بعبرةٍ وتحمحُمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكَى ... ولكان لو علمَ الكلامَ مكلِّمِى
ومن النسيب الردئ قولُ نصيب:
فإن تصلى أصلك وإن تعودى ... لهجرٍ بعدَ وصلك لا أبَالي
وذلك أنّ التجلّد من العاشق مذموم. وفي خلاف ذلك قولُ زهير:
لقد باليتُ مطعن أمِّ أوفى ... ولكنْ أمّ أوفى لا تبَالِي
وقول عمر بن أبي ربيعة:
قالت لها أختها تُعاتِبُها ... لا تفسدنّ الطّواف في عمرِ
قومي تصدَّى له ليبصرَنا ... ثم اغمزيِهِ يا أختِ في خفرِ
قالت لها قد غمزتُه فأبَى ... ثم اسبكرّت تشتدّ في أثرى
فشبَّبَ بنفسه ووصفها بالقحة، وناقض في حكايته عن صاحبتها، فذكر نهيها إياها عن إفساد الطّواف فيه، ثم إنها قالت لها: " قومي انظري " .
ومما جاء في ذلك من أشعار المحدثين قول بشّار:
إنّما عظمُ سليمَى حبَّتي ... قصبُ السّكر لا عظم الجملْ
وإذا أدنيت منها بصلاً ... غلبَ المسكُ على ريح البصلْ
وقوله:
وبعض الجود خنزير
ومن المعاني البشعة قول أبي نواس:
يا أحمد المرْتجى في كلِّ نائبةٍ ... قم سيِّدي نعص جبَّارَ السَّمواتِ
فهذا مع كفرِه ممقوتْ وكذا قوله:
لو أكثر التسبيح ما نجّاه
وقوله:
من رسول الله من نفرَه
وقد تبع في هذا القول حسان بن ثابت في قوله:
أكرِم بقومٍ رسولُ الله شيعتُهم ... إذا تفرَّقَتِ الأهواءُ والشِّيَع
والخطأ من كل واحد خطأ.
وقول أبي نواس أيضاً:
أحبب قريشاً لحبّ أحمدها
وقوله:
تنازعَ الأحمدان الشبهَ فاشتبَها ... خلقاً وخُلقاً كما قدَّ الشَّرَا كانِ
فزعم أنَّ ابن زبيدة مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه وخلقه.
ومثل ذلك قول أبي الخلال في يزيد بن معاوية:
بأيها الميتُ بحوّارينا ... إنّك خيرُ النَّاس أجمَعينا
وقول أبي العتاهية:
غنيتَ عن الوصلِ القديم غنيتَا ... وضيّعتَ ودّاً كان لِي ونسيتَا
ومن أعجبِ الأشياءِ أن ماتَ مألَفي ... ومن كنتَ ترعانِي له وبَقِيتَا
تجاهلتَ عمَّا كنتَ تحسنُ وصفَه ... ومتَّ عن الإحسانِ حينَ حييتَا
وليس من العجب أن يموت إنسانٌ ويبقى بعده إنسان آخر، بل هذه عادةُ الدنيا والمعهود من أمرها، ولو قال: من ظلم الأيام كان المعنى مستوياً.
وسمعت بعض العلماء يقول: ومن المعاني الباردة قول أبي نواس في صفة البازي:
في هامةٍ علياءَ تهدِى منسرَا ... كعطفة الجيم بكفٍّ أعسَرا
فهذا جيد مليح مستوفى ثم قال:
يقول من فيها بعقلِ فكَّرا ... لو زادَها عيناً إلى فاء ورا
فاتَّصلت بالجيم صار جعفرا
فمن يجهل أن الجيم إذا أضيف إليها العين والفاء والراء تصير جعفرا وسواء قال هذا، أو قال:
لو زادَها جاء إلى دال ورَا ... فاتصلت بالجيم صارَ جحدَرا

وما يدخل في صفة البازي من هذا القول.
وتبعه أبو تمام فقال:
هنّ الحمام فإنْ كسرتَ عيافةً ... من حائهنَّ فإنَّهنَّ حمامُ
فمن ذا الذي جهل أنَّ الحمام إذا كسرت حاؤُها صارت حماماً.
وإنما أراد أبو نواس أنه يشبه الجيم لا يغادرُ من شبهها شيئاً، حتى لو زدت عليها هذه الأحرف صارت جعفرا لشدّة شبهها به، وهو عندي صوابٌ، إلا أنه لو اكتفى بقول " كعطفة الجيم بكف أعسرا " ولم يزد الزيادة التي بعدها كان أجود وأرشق وأدخل في مذاهب الفصحاء، وأشبه بالشعر القديم.
وأما قول أبي تمام فله معنى خلافُ ما ذكره، وذلك أنه أراد أنك إذا أردتَ الزّجرَ والعيافة أدّاك الحمام إلى الحمام، كما أنّ صوتها الذي يظنّ أنه بكاء إنما هو طرب، ويؤدّيك إلى البكاء الحقيقي، وهذا المعنى صحيح، إلا أن المعنى إذا صار بهذه المنزلة من الدّقة كان كالمعمّى والتعمية حيث يراد البيانُ عيٌّ.
ومن عيوب المعنى قول أبي نواس في صفة الأسد:
كأنما عينُه إذا نظرت ... بارزة الجفن عينُ مخنوق
فوصف عين الأسد بالجحوظ، وهي توصف بالغؤور، كما قال الرّاجز:
كأنّما ينظر من خرق حجرْ
وكقول أبي زبيد:
كأن عينيه في وقبين من حجرٍ ... قيضا اقتياضاً بأطرافِ المناقِيرِ
وقوله أيضاً:
وعينان كالوقبين في قلب صخرة ... يرى فيها كالجمرتين تسعر
وأنشد مروان بن أبي حفصة عمارة بن عقيل بيته في المأمون:
أضحى إمام الهدَى المأمونُ مشتغلاً ... بالدّين، والناسُ بالدنيا مشاغيلُ
فقال له: ما زدتَه على أن وصفتَه بصفةِ عجوزٍ في يدها مسباحُها، فهلا قلتَ: كما قال جدّي في عمر بن عبد العزيز:
فلا هوَ في الدنيا مضيعٌ نصيبَه ... ولا عرض الدّنيَا عن الدين شاغِلُه
ومن الغلط قول أبي تمام:
رقيقُ حواشِي الحلم لو أنَّ حلمَهُ ... بكفّيك ما ماريتَ في أنه بردُ
وما وصف أحدٌ من أهل الجاهلية ولا أهل الإسلام الحلم بالرّقة، وإنما يصفونه بالرجحان والرزانة، كما قال النابغة:
وأعظمُ أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضلُ مشفوعاً إليه وشافعا
وقال الأخطل:
صمٌّ عن الجهل عن قيل الخناخرُس ... وإن ألمَّت بهم مكروهةٌ صبرُوا
شمسُ العداوةِ حتى يستقادَ لهمْ ... وأعظمُ النّاسِ أحلاماً إذا قدرُوا
وقال أبو ذؤيب:
وصبرٌ على حدثِ النّائباتِ ... وحلمٌ رزينٌ وعقلٌ ذكىّ
وقال عديّ بن الرّقاع:
أبتْ لكم مواطِن طيّبات ... وأحلام لكم تزنُ الجبالا
وقال الفرزدق:
إنَّا لتوزنُ بالجبال حُلومنا ... ويزيد جاهلُنا على الجهَّالِ
ومثل هذا كثير.
وإذا ذمّوا الرجل قالوا: خفّ حلمه وطاش، كما قال عياض بن كثير الضبي:
تنائلةٌ سودٌ خفافٌ حلُومُهُم ... ذوو نيربٍ في الحيِّ يغدو ويطرقُ
وقال عقبة بن هبيرة الأسدي:
أبنُوا المغيرةِ مثلُ آل خويلدٍ ... يا للرِّجال لخفَّةِ الأحلامِ
لا، بل أحسبني سمعت بيتاً لبعض المحدثين يصف فيه الحلمَ بالرّقةِ وليس بالمختار.
ومن خطئه أيضاً قوله:
من الهيف لو أنّ الخلاخل صيّرت ... لها وشحاً جالتْ عليها الخلاخِلُ
ولو قال: نطقا لكان حسناً، وهذا خطأٌ كبير، وذلك أن الخلخال قدرُه في السعة معروف، ولو صار وشاحاً للمرأة لكانت المرأة في غاية الدّمامة والقصر، حتى لو كانت هي في خلقة الجرذ والهرة، ولو قال: حقبا لكان جيّداً، كما قال النمري:
ولوْ قستَ يوماً حجلَها بحقَابِها ... لكان سواء، لا، بل الحجلُ أوسَعُ
فجعل الحجلَ أوسع من الحقاب، لأنّ امتلاء الأسوق محمود ودقّة الخصور ممدوح.
والجيد في ذكر الوشاح قول ذي الرمة:
عجزاء ممكوَرة خمصانة قلقٌ ... عنها الوشاحُ وتم الجسمُ والقصبُ
وقال ابن مقبل:
وقد دقّ منها الخصر حتَّى وشاحُها ... يجول، وقد عمّ الخلاخيلَ والقلبَا
وقال طرفة:
وملء السوار من الدُملجين ... وأما الوشاحُ عليها فجالا
وقال كثير:
يجولُ الوشاحُ بأقرَابِها ... وتأبَى خلاخِلُها أن تجُولا
ومن الخطأ قوله أي أبو تمام:
قسم الزّمانُ ربوعها بينَ الصّبا ... وقبولَها ودبورَها أثلاثا
والصّبا: هي القبول.

أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: مهب الجنوب من مطلع سهيل إلى طرف جناح الفجر، وما يقابل ذلك من ناحية المغرب، فهي الشمال، وما يجئ من وراء البيت الحرام فهي دبور، وما يقابل ذلك فهي القبول، والقبول والصّبا واحدة.
والجيد ما قال البحتري:
متروكةٌ للريح بين شمالها ... وجنوبها ودبورها وقبولها
وأما قوله:
شنئت الصّبا إذْ قيلَ وجّهنَ قصدَها ... وعاديتُ من بين الرياح قبُولها
فإنما يعنى شنئت هذين الأسمين، لأنَّ حمول الظاعنينَ توجّهت نحوها.
ومن الخطأ قول أبي المعتصم:
كأنما أربعُه إذا تناهبنَ الثّرَى ... ريح القبول والدّبُور والشّمال والصّبا
ومن الخطأ قوله أي أبو تمام:
الودُّ للقربَى ولكنْ عرفُه ... للأبعدِ والأوطانِ دونَ الأقربِ
ولا أعرف لم حرم أقارب هذا الممدوح عرفه وصيره للأبعدين؟ فنقصه الفضل في صلةِ الرحم، وإذا لم يكن مع الود نفعٌ لم يعتدّ به. قال الأعشى:
بانتْ وقد أسأرتْ في النفسِ حاجتَها ... بعد ائتلافٍ وخيرُ الودّ ما نفعَا
وقال المقنع:
جعلتُ لهم منّى معَ الصّلةِ الودَّا
وقد أغرى أبو تمام بهذا القول أقرباء الممدوح، لأنّهم إذا رأوا عرفة يفيض في الأبعدين ويقصر عنهم أبغضوه وذمّوه.
وقد ذمّ الشاعر الطريقة التي يمدح بها أبو تمام، فقال:
كمرضعةٍ أولادَ أخرى وضيّعتْ ... بنيها فلم ترقعْ بذلكَ مرقَعا
وقال آخر وهو ابنُ هرمة:
كتاركةٍ بيضها بالعراءِ ... وملبسةٍ بيضَ أخرَى جناحَا
وقال أبو دواد الإيادي:
إذا كنتَ مرتاد الرِّجالِ لنفعهِم ... فرشْ واصطنعْ عندَ الذينَ بهم ترمِى
وقال آخر:
وإذا أصبت من النّوافلِ رغبةً ... فامنحْ عشيرتَك الأدَاني فضلها
وذمّ قديماً المذهب الذي ذهب إليه أبو تمام مسافر العبشمي، فقال:
تمدّ إلى الأقصى بثديك كلِّهِ ... وأنت على الأدنى صرور مجدّدُ
فإنَّكَ لو أصلحتَ من أنتَ مفسدٌ ... تودَّدكَ الأفصَى الذي تتودّدُ
وقال المسيب بن علس:
من الناس من يصلُ الأبعدينَ ... ويشقى به الأقربُ الأقرَبُ
وقال الحارث بن كلدة:
ومن الناس من يغشَى الأباعدَ نفُعه ... ويشقى به حتّى الممات أقارِبه
وقد ذهب البحتري مذهب أبي تمام، فقال:
بل كان أقربُهم من سيبِه سبباً ... من كان أبعدَهم من جذمه رحِما
إلا أنه لم يخرجهُمْ من معروفه، وإن كان قد دخل تحت الإساءة.
والجيّد قوله:
ظل فيه البعيد مثل القري ... ب المجتَبَى والعدوُّ مثلُ الصديقِ
وقوله أيضاً:
ما إن يزالُ النَّدَى يدنى إليه يداً ... ممتاحةً من بعيد الدّارِ والرَّحمِ
ومن الخطأ قوله:
ورحبَ صدرٍ لو أنَّ الأرضَ واسعةٌ ... كوسعِهِ لم يضقْ عن أهلهِ بلدُ
وذلك أنّ البلدان التي تضيق بأهلها لم تضق بأهلها لضيق الأرض، ومن اختطّ البلدان لم يختطّها على قدر ضيق الأرض وسعتها، وإنما اختطّت على حسب الأتّفاق، ولعل المسكون منها لا يكون جزءاً من ألف جزء، فلأي معنى تصييره ضيق البلدان الضيقة من أجل ضيق الأرض. والصواب أن يقول: ورحب صدر لو أن الأرض واسعة كوسعه لم يسعها الفلك، أو لضاقت عنها السماء، أو يقول: لو أن سعة كلّ بلد كسعة صدره لم يضق عن أهله بلد.
والجيّد في هذا المعنى قول البحتري:
مفازة صدر لو تطرقُ لم يكنْ ... ليسلُكَها فرداً سليكُ المقانبِ
أي لم يكن ليسلكَها إلاّ بدليل لسعتها، على أن قول مفازة صدر استعارة بعيدة.
ومن الخطأ قول أبي تمام:
سأحمدُ نصراً ما حييتُ وإنّني ... لأعلمُ أن قد جلَّ نصرٌ عن الحمدِ
وقد رفع الممدوحَ عن الحمد الذي رضيه اللهُ جل وعزّ لنفسه، وندب عبادَه لذكره ونسبه إليه، وافتتح به كتابه. وقد قال الأول: الزيادة في الحدّ نقصان، ولم نعرف أحداً رفع أحداً عن الحمد، ولا من استقلّ الحمد للمدوح.
قال زهير بن أبي سلمى:
متصرّف للحمدِ معترف ... للرزءِ نهّاض إلى الذكرِ
وقال الأعشى:
ولكنْ على الحمد إنفاقُه ... وقد يشتريه بأغلى ثمنْ
وقال الحطيئة:
ومن يعطَ اثمانَ المحامدِ يحمدِ

وقالت الخنساء:
ترى الحمدَ يهوى إلى بيتِه ... يرى أفضلَ المجدِ أن يحمَدا
والجيّد قولُ البحتري:
لو جلّ خلقٌ قطّ عن أكرومةٍ ... تنثى جللتَ عن النّدَى والباسِ
ومن الخطأ قوله:
ظعنوا فكان بكاى حولاً بعدهُم ... ثم ارعويتُ وذاكَ حكمُ لبيدِ
أجدرْ بجمرةِ لوعةٍ إطفاؤها ... بالدّمع أن تزدادَ طولَ وقودِ
هذا خلافُ ما يعرفه الناس، لأنهم قد أجمعوا أنّ البكاء يطفئ الغليل، ويبرد حرارة المحزون، ويزيل شدّة الوجد.
وذكروا أن امرأةً مات ولدُها فأمسكتْ نفسها عن البكاء صبراً واحتساباً، فخرج الدم من ثدييها، وذلك لما ورد عليها من شدّة الحزن مع الامتناع من البكاء.
وقد شهد أبو تمام بصحّة ما ذكرناه، وخالف قوله الأوّل، فقال:
نثرت فريدَ مدامعِ لم تنظمِ ... والدمعُ يحملُ بعضَ ثقل المغرَمِ
وقال:
واقع بالخدود والبردُ منه ... واقعٌ بالقلوبِ والأكبادِ
وقال امرؤ القيس:
وإنّ شفائي عبرة مهراقة ... فهل عندَ رسمٍ دارسٍ من معوَّل
وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثنا محمد بن كناسة، قال، قال أبو بكر بن عياش: كنتُ وأنا شابّ إذا أصابتني مصيبة لا أبكي فيحترق جوفى، فرأيت أعرابياً بالكناس على ناقة له والناس حوله وهو ينشد:
خليليَّ عوجَا من صدورِ الرّواحلِ ... ببرقة حزوَى فابكيَا في المنازلِ
لعلَّ انحدارَ الدّمعِ يعقبْ راحةً ... من الوجد أو يشفى نجىَّ البلابلِ
فسألت عن الأعرابي، فقيل: هو ذو الرّمة، فكنت بعد ذلك إذا أصابتني مصيبةٌ بكيت فاشتفيت. فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره وقال الفرزدق:
فقلت لها إنّ البكاءَ لراحةٌ ... به يشتفى من ظنَّ أن لا تلاقيَا
وقد تبعه البحتري على إساءته، فقال:
فعلام فيض مدامعٍ تدقُ الجوَى ... وعذابَ قلبٍ في الحسان معذّبِ
تدق: من الوديقة، وهي الهاجرة لدنوِّ الحرِّ فيها. والودق: أصلُه الدنو، يقال: أتان وديق، إذا دنت من الفحل. والودق: القطر، لدنوِّه من الأرض بعد انحلاله من السحاب.
والخطأ الفاحش له قوله، أي أبو تمام:
رضيتُ وهل أرضى إذا كان مسخطى ... من الأمر ما فيه رضَا منْ لهُ الأمر
والمعنى: لستُ أرضى إذا كان الذي يسخطني هو الذي برضاه الله عزّ وجل، لأنّ هل تقريرٌ لفعل ينفيه عن نفسه، كما تقول: هل يمكنني المقام؟ وهل آتى بما تكره؟ معناه لا يمكنني المقام. ومعنى قوله: هل أرضى إذا كان مسخطى؟ أي لا أرضى.
ومن الخطأ قوله:
ويومٍ كطولِ الدَّهرِ في عرضِ مثلِهِ ... ووجدىَ من هذا وهذاكَ أطوَل
قد استعمل الناسُ الطولَ والعرض فيما ليس له، استعمالا مخصوصاً، كقول كثير:
أنت ابنُ فرعي فريشٍ لو تقايسها ... في المجد صار إليك العرضُ والطولُ
أي صار إليك المجدُ بتمامه.
وقول كثير أيضاً:
بطاحيٌّ له نسبٌ مصفَّى ... وأخلاقٌ لها عرضٌ وطولُ
فعلى هذا استعمل هذان اللفظان.
وقالوا: هذا الشيء في طول ذلك وعرضه، إذا كان مما يرى طوله وعرضه، ولا يستعمل فيما ليس له طولٌ وعرض على الحقيقة، ولا يجوز مخالفة الاستعمال البتة.
وكان أبو تمام قد استوفى المعنى في قوله: " كطول الدهر " ولم يكن به حاجةٌ إلى ذكر العرض.
ومن الخطأ قول البحتريّ ورواه لنا أبو أحمد عن ابن عامر لأبي تمام، والصحيح أنه للبحتري:
بدتْ صفرةٌ في لونه إنَّ حمدهم ... من الدرِّ ما اصفرَّتْ حواشيه في العقدِ
وإنما يوصف الدرّ بشدّة البياض، وإذا أريد المبالغة في وصفه وصفَ بالنصوع، ومن أعيب عيوبه الصفرة. وقالوا: كوكب درِّى، لبياضه، وإذا اصفرّ احتيل في إزالة صفرته. ليتضوّأ. واستعمال الحواشيّ في الدر أيضاً خطأ، ولو قال نواحيه، لكان أجود، والحاشية للبرد والثوب، فأما حاشية الدرّ فغير معروف، وفيها:
وجرَّتْ على الأيدي مجسة جسمه ... كذلك موج البحر ملتهبُ الوقدِ
وهذا غلطٌ، لأنَّ البحر غير ملتهب الموج ولا متقّد الماء، ولو كان متقّداً أو ملتهباً لما أمكن ركوبه، وإنما أراد أن يعظّم أمر الممدوح فجاء بما لا يعرف. وفيها:

ولست ترى شوك القتادةِ خائِفاً ... سمومَ رياحِ القادِحات من الزَّندِ
وهذا خطأ، لأنه شبّه العليل بشوك القتاد على صلابته على شدّة العلّة، وزعم أنّ شوك القتاد لا يخاف النّارَ التي تقدح بالزّناد. وقد علمنا أن النار تفلق الصّخر وتلين الحديد، فكيف يسلم منها القتاد؟ وليس لذكر السّموم والرياح أيضاً في هذا البيت فائدة ولا موقع.
ولما مات المتوكل أنشد رجل جماعة:
ماتَ الخليفةُ أيُّها الثّقلانِ
قالوا: جيد نعى الخليفة إلى الجنّ والإنس في نصف بيت، فقال:
فكأنني أفطرتُ في رمضانِ
فضحكوا منه.
ونورد هاهنا جملة نتمّم بها معاني هذا البيت: ينبغي أن تعرف أن أجود الوصف ما يستوعب أكثر معاني الموصوف، حتى كأنه يصوّر الموصوف لك فتراه نصب عينك، وذلك مثل قول الشماخ في نبالة:
خلتْ غير آثار الأراجيلِ ترتمِي ... تقعقعُ في الآباطِ منهَا وفاَضُها
فهذا البيت يصوّر لك هرولة الرجالة، ووفاضُها في آباطها تقعقع.
وإفاض جمع وفضة وهي الجعبة. وقول يزيد بن عمرو الطائي:
ألا من رأى قومي كأنَّ رجالهم ... نخيلٌ أتاها عاضد فأمالَهَا
فهذا التشبيه كأنه يصوّر لك القتلى مصروعين.
وقال العتابى في السحاب:
والغيمُ كالثوب في الآفاق منتشرٌ ... من فوقه طبقٌ من تحته طبقُ
تظنه مصمتاً لا فتقَ فيه فإن ... سالتْ عزاليهِ قلت الثوب منفتقُ
إن معمعَ الرّعدُ فيه قلت منخرق ... أو لألأَ البرقُ فيه قلتَ محترقُ
وينبغي أن يكون التشبيبُ دالاّ على شدة الصبابة، وإفراط الوجد، والتهالك في الصبوة، ويكون برياً من دلائل الخشونة والجلادة، وأمارات الإباء والعزّة. ومن أمثلة ذلك قول أبي الشيص:
وقفَ الهوى بي حيثُ أنتَ فليسَ لي ... متأخّرٌ عنهُ ولا متقدّمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبّاً لذكرك فليلمني اللُّوَّمُ
أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أحبُّهم ... إذْ كانَ حظِّى منكِ حظِّ منهمُ
وأهنتني فأهنتُ نفسِيَ صاغراً ... ما منْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أكرِمُ
فهذا غايةُ التهالك في الحب، ونهايةُ الطاعة للمحبوب.
ويستجاد التشبيب أيضاً إذ تضمّن ذكر التشوق والتذكر لمعاهد الأحبة، بهبوب الرياح، ولمع البروق، وما يجرى مجراهما من ذكر الدّيار والآثار.
فمن أجود ما قيل في الديار قول الأزدى:
فلم تدع الأرياح والقطرُ والبلى ... من الدارِ إلاَّ ما بشفّ ويشغف
وفي ذكر البروق قولُ الأول:
سرى البرقُ من نحوِ الحجازِ فشاقنِي ... وكلُّ حجازي له البرقُ شائقُ
وفي ذكر البروق قول الأول:
سرى البرقُ من نحوِ الحجازِ فشاقنِي ... وكلُّ حجازيٍّ له البرقُ شائقُ
بدا مثل نبض العرق والبعدُ دونه ... وأكنافُ لبنَ دوننا والأسالقُ
نهاري بأشرافِ التّلاعِ موكّل ... وليلى إذا ما جنّنى اللّيل آرقُ
فوا كبدي ممّا ألاقي منَ الهوَى ... إذا حنَّ إلفٌ أو تألَّقَ بارقُ
وكذا ينبغي أن يكونَ التشبيبُ دالاًّ على الحنين، والتحسّر، وشدة الأسف، كقوله:
وليستْ عشيّاتُ الحمَى برواجعٍ ... إليكَ ولكنْ خلِّ عينيك تدمعَا
وأذكُر أيامَ الحمَى ثم أنثنِى ... على كبدِي من خشيّةٍ أن تصدَّعا
وقال ابن مطير:
وكنت أذودُ العينَ أنْ ترد البُكا ... فقد وردت ما كنتُ عنه أذودُهَا
خليليَّ ما في العيشِ عيبٌ لو أنَّنا ... وجدنا لأيّامِ الحمَى منْ يعيدُها
فهذا يدلّ على تحسّرٍ شديد، وحنين مفرط.
وقول الآخر:
وددتُ بأبرق العيشُومِ أنّى ... ومنْ أهوَى جميعاً في رداءِ
أباشره وقد نديت عليه ... وألصقُ صحَّةً منهُ بدائِي
فحنَّ إليه حنينَ السقيم إلى الشفاء ومن الشعر الدالِّ على شدَّةِ الحسرةِ والشوق قول الآخر:
يقر بعينِي أنْ أرَى رملةَ الغضَا ... إذا ما بدتْ يوماً لعيني قلالُها
ولستُ وإن أحببتُ من يسكُن الغضَا ... بأوَّلِ راجٍ حاجةً لا ينالُها
وينبغي أن يظهرَ الناسبُ الرغبة في الحبّ، وألاّ يظهرَ التبرّمَ به، كأبي صخر حين يقول:
فيا حبَّها زدنِي جوىً كلَّ ليلةٍ ... ويا سلوةَ الأيَّامِ موعدُكِ الحشرُ

وقول الآخر:
تشكَّى المحبُّونَ الصَّبابَة ليتني ... تحّملتُ ما يلقون من بينِهم وحدِي
فكانت لنفسِي لذةُ الحبِّ كلُّها ... ولم يلقَهَا قبلى محبٌّ ولا بعدِي
وينبغي أن يكون في النسيب دليلُ التدلّه والتحيّر، كقول الحكم الحضري:
تساهمَ ثوباها ففي الدرع رأدةٌ ... وفي المرط لّفاوان ردفُهما عبلُ
فوالله ما أدري أزيدتْ ملاحةً ... وحسناً على النسوان أم ليس لي عقلُ
وقيل لبعضهم: ما بلغ من حبّك لفلانة؟ فقال: إني أرى الشمس على حيطانها أحسن منها على حيطان جيرانها.
ولما كانت أغراض الشعراء كثيرة، ومعانيهم متشعبة جمّة، لا يبلغها الإحصاء كان من الوجه أن نذكر ما هو أكثر استعمالا، وأطول مدارسة له، وهو المدح، والهجاء، والوصف، والنسيب، والمزائي، والفخر، وقد ذكرت قبل هذا المديح والهجاء وما ينبغي استعماله فيهما، ثم ذكرت الآن الوصف والنسيب، وتركت المرائي والفخر، لأنهما داخلان في المديح. وذلك أنّ الفخر هو مدحك نفسك بالطهارة، والعفاف، والحلم، والعلم، والحسب، وما يجرى مجرى ذلك. والمرثيّة مديح الميّت، والفرق بينهما وبين المديح أن تقول: كان كذا وكذا، وتقول في المديح: هو كذا وأنت كذا. فينبغي أن تتوخّى في المرثية ما تتوخّى في المديح، إلا أنك إذا أردتَ أن تذكر الميت بالجود والشجاعة تقول: مات الجود، وهلكت الشجاعة، ولا تقول: كان فلاناً جوادا وشجاعا، فإنّ ذلك باردٌ غير مستحسن، وما كان الميت يكده في حياته فينبغي ألا يذكر أنه يبكي عليه مثل الخيل والإبل وما يجري مجراهما، وإنما يذكر اغتباطهم بموته. وقد أحسنت الخنساءُ حيث تقول:
فقدْ فقدَتكَ طلقةُ واستراحتْ ... فليتَ الخيلَ فارسُها يراهَا
بل يوصف بالبكاء عليه من كان يحسنُ في حياته إليه كما قال الغنويّ:
ليبككَ شيخٌ لم يجد من يعينه ... وطاوى الحشَا نائي المزارِ غريب
فهذه جملة إذا تدبّرها صانع الكلام استغنى بها عن غيرها، وبالله التوفيق.

الباب الثالث
معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ
فصلان
الفصل الأول
في كيفية نظم الكلام والقول في فضيلة الشعر وما ينبغي استعماله في تأليفه
إذا أردت أن تصنع كلاما فأخطر معانيه ببالك، وتنوّق له كرائم اللفظ، واجعلها على ذكر منك، ليقرب عليك تناولُها، ولا يتعبك تطلّبها، واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور، وتخوّنك الملال فأمسك، فإنَّ الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضّجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك من الرّى، وتنال أربك من المنفعة. فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقلّ عنك غناؤُها.
وينبغي أن تجرى مع الكلام معارضة، فإذا مررتُ بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلّقت بذيله، وتحذّر أن يسبقك فإنه إن سبقك تعبت في تتبّعه، ونصبت في تطلّبه، ولعلك لا تلحقه على طول الطلب، ومواصلة الدأب، وقد قال الشاعر:
إذا ضيَّعتَ أولَ كل أمرٍ ... أبتْ أعجازهُ إلاّ التواءَ
وقالواك ينبغي لصانع الكلام ألاَّ يتقدَّم الكلام تقدما، ولا يتبع ذناباه تتبّعا، ولا يحمله على لسانه حملا، فإنه إن تقدّم الكلام لم يتبعه خفيفه وهزيله وأعجفه والشارد منه. وإن تتبعه فاتته سوابقه ولواحقه، وتباعدت عنه جياده وغرره، وإن حمله على لسانه ثقلتْ عليه أو ساقه وأعباؤه، ودخلت مساويه في محاسنه. ولكنه يجرى معه فلا تندّ عنه نادّة معجبة سمناً إلاّ كبحها، ولا تتخلّف عنه مثقلة هزيلة إلاّ أرهقها. فطوراً يفرّقه ليختار أحسنه، وطوراً يجمعه ليقرب عليه خطوة الفكر، ويتناول اللفظ من تحت لسانه، ولا يسلّط الملل على قلبه ولا الإكثار على فكره. فيأخذ عفوه، ويستغزر درّه، ولا يكره أبيّاً، ولا يدفع أتياً.
وقال بشر بن المعتمر: خذ من نفسك ساعة لنشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها لك، فإنّ قلبك في تلك الساعة أكرم جوهراً، وأشرق حسناً، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل غرّة من لفظ كريم، ومعنى بديع.
واعلم أنّ ذلك أجدى عليك ممّا يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطالبة والمجاهدة والتكلّف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، وخفيفاً على اللسان سهلا، وكما خرج عن ينبوعه، ونجم من معدنه.

وإياك والتوعّر، فإن التوعّر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً، فإنَّ حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يدنّسهما ويفسدهما ويهجنهما، فتصير بهما إلى حدّ تكون فيه أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس منازل البلاغة، وترتهن نفسك في ملابستهما، فكن في ثلاث منازل: فأول الثلاث أن يكون لفظك شريفاً عذباً، وفخماً سهلا، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً. فإن كانت هذه لأتواتيك، ولا تسنح لك عند أوّل خاطر، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى مركزها، ولم تتصل بسلكها، وكانت قلقة في موضعها، نافرة عن مكانها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإنك إن لم تتعاط قريض الشعر المنظوم، ولم تتكلّف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بذلك أحد، وإن تكلّفته ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا محكماً لشأنك بصيراً عابك من أنت أقلّ عيباً منه، وزرى عليك من هو دونك.
فإن ابتليت بتكلّف القول، وتعاطى الصناعة، ولم تسمح لك الطبيعة في أوّل وهلة، وتعصّى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل، ودعه سحابة يومك ولا تضجر، وأمهلة سواد ليلتك، وعاوده عند نشاطك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة وجربت من الصناعة على عرق، هي المنزلة الثانية.
فإن تمنّع عليك بعد ذلك مع ترويح الخاطر، وطول الإمهال، فالمنزلة الثالثة أن تتحوّل عن هذه الصناعة إلى اشهى الصناعات إليك، وأخّفها عليك، فإنك لم تشتهها إلاّ وبينكما نسب، والشيء لا يحنّ إلا إلى ما شاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات، فإنّ النفوس لا تجود بمكنونها، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود مع الرّغبة والمحبّة.
وينبغي أن تعرف أقدار المعاني، فتوازن بينها وبين أوزان المستمعين، وبين أقدار الحالات، فتجعل لكلّ طبقة كلاما، ولكلّ حال مقاما، حتى تقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات.
وأعلم أن المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكلّ مقام من المقال، فإنْ كنت متكلما، أو احتجت إلى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب، أو قصيدة لبعض ما يراد له القصيد، فتخط ألفاظ المتكلمين، مثل الجسم والعرضِ والكون والتأليف والجوهر، فإنّ ذلك هجنةٌ.
وخطب بعضهم فقال: إن الله أنشأ الخلق وسوّاهم ومكّنهم ثم لا شاهم، فضحكوا منه، وقال بعض المتأخرين:
نورٌ تبين فيه لاهوتيه ... فيكاد يعلم علم ما لنْ يعلما
فأتى من الهجنة بما لا كفاء له، وكذلك كن أيضاً إذا كنت كاتبا.
واعلم أنّ الرسائل والخطب متشاكلتان في أهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية، وقد يتشاكلان أيضاً من جهة الألفاظ والفواصل، فألفاظ الخطباء تشبه ألفاظ الكتّاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطب، مثل فواصل الرسائل، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ الخطبة يشافه بها، والرسالة يكتب بها، والرسالة تجعل خطبة، والخطبة تجعل رسالة، في أيسر كلفة، ولا يتهيأ مثل ذلك في الشعر من سرعة قلبه وإجالته إلى الرسائل إلاّ بكلفة، وكذلك الرسالة والخطبة لا يجعلان شعراً إلا بمشقّة.
ومما يعرف أيضاً من الخطابة والكتابة أنّهما مختصّتان بأمر الدين والسلطان، وعليهما مدارُ الدّار، وليس للشّعر بهما اختصاص.
أمّا الكتابة فعليها مدار السلطان.
والخطابة لها الحظّ الأوفر من أمر الدّين، لأنَّ الخطبة شطرُ الصلاة التي هي عماد الدّين في الأعياد والجمعات والجماعات،وتشتمل على ذكر المواعظ التي يجب أن يتعهّد بها الإمام رعيّته لئلاَّ تدرس من قلوبهم آثار ما أنزل الله عزّ وجلّ من ذلك في كتابه، إلى غير ذلك من منافع الخطب.
ولا يقع الشّعر في شيء من هذه الأشياء موقعاً، ولكنّ له مواضع لا ينجعُ فيها غيره من الخطب والرسائل وغيرها، وإن كان أكثره قد بنى على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة، والنعوت الخارجة عن العادات والألفاظ الكاذبة، من قذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، لا سيما الشعر الجاهليّ الذي هو أقوى الشعر وأفحله، وليس يراد منه إلاّ حسن اللفظ، وجودة المعنى، هذا هو الذي سوّغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه.

وقيل لبعض الفلاسفة: فلان يكذب في شعره، فقال: يراد من الشاعر حسن الكلام، والصّدق يراد من الأنبياء.
فمن مراتبه العالية التي لا يلحقه فيها شيء من الكلام النظم الذي به زنة الألفاظ، وتمام حسنها، وليس شيء من أصناف المنظومات يبلغ في قوة اللفظ منزلة الشعر.
ومما يفضل به غيره أيضاً طول بقائه على أفواه الرّواة، وامتداد الزمان الطويل به، وذلك لارتباط بعض أجزائه ببعض، وهذه خاصة له في كلّ لغة، وعند كل أمة، وطول مدة الشيء من أشرف فضائله.
ومما يفضل به غيره من الكلام استفاضته في الناس وبعد سيره في الآفاق، وليس شيء أسير من الشعر الجيّد، وهو في ذلك نظير الأمثال.
وقد قيل: لا شيء أسبق إلى الأسماع، وأوقع في القلوب، وأبقى على الليالي والأيام من مثل سائر، وشعر نادر.
ومما يفضل به غيره أنه ليس يؤثر في الأعراض والأنساب تأثير الشعر في الحمد والذم شيء من الكلام، فكم من شريف وضع، وخامل دنئ رفع، وهذه فضيلة غير معروفة في الرسائل والخطب.
ومما يفضلهما به أيضاً أنه ليس شيء يقوم مقامه في المجالس الحافلة، والمشاهد الجامعة، إذا قام به منشد على رءوس الأشهاد، ولا يفوز أحد من مؤلّفي الكلام بما يفوز به صاحبه من العطايا الجزيلة، والعوارف السنّية، ولا يهتزّ ملك، ولا رئيس لشيء من الكلام كما يهتزّ له، ويرتاح لاستماعه، وهذه فضيلةٌ أخرى لا يلحقه فيها شيء من الكلام.
ومنه أنّ مجالس الظرفاء والأدباء لا تطيب، ولا تؤنس إلاّ بإنشاد الأشعار، ومذاكرة الأخبار، وأحسن الأخبار عندهم ما كان في أثنائها أشعار، وهذا شيء مفقودٌ في غير الشعر.
ومما يفضل به الشعر أن الألحان التي هي أهنى اللّذات إذا سمعها ذوو القرائح الصافية، والأنفس اللطيفة، لا تتهيّأ صنعتها إلا على كل منظوم من الشعر، فهو لها بمنزلة المادّة القابلة لصورها الشريفة، إلاّ ضرباً من الألحان الفارسية تصاغ على كلام غير منظوم نظم الشعر، تمطّط فيه الألفاظ، فالألحان منظومة، والألفاظ منثورة.
ومن أفضل فضائل الشّعر أنّ ألفاظ اللغة إنما يؤخذ جزلُها وفصيحُها، وفحلُها وغريبها من الشعر، ومن لم يكن راويةً لأشعار العرب تبيّن النقص في صناعته.
ومن ذلك أيضاً أنّ الشواهد تنزع من الشعر، ولولاه لم يكن على ما يلتبس من ألفاظ القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد.
وكذلك لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيّامها ووقائعها إلاَّ من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها، فإذا كان ذلك كذلك فحاجة الكاتب والخطيب وكلّ متأدبٍ بلغة العرب أو ناظر في علومها إليه ماسّة وفاقته إلى روايته شديدة.
وأمّا النقص الذي يلحق الشّعر من الجهات التي ذكرناها فليس يوجب الرغبة عنه زالزّهادة فيه، واستثناء الله عزّ وجل في أمر الشعراء يدلّ على أنّ المذموم من الشعر إنما هو المعدول عن جهة الصواب إلى الخطأ والمصروف عن جهة الإنصاف والعدل إلى الظلم والجور.
وإذا ارتفعت هذه الصفات ارتفع الذم، ولو كان الذمّ لازماً له لكونه شعراً لما جاز أن يزول عنه على حال من الأحوال. ومع ذلك فإنّ من أكمل الصفات صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شعاعرين كما أن من أتمّ صفات الشاعر أن يكون خطيباً كاتباً. والذي قصّر بالشعر كثرته وتعاطى كلّ أحد له حتى العامة والسفلة، فلحقه من النقص ما لحق العود والشّطرنج حين تعاطاهما كلّ أحد.
ومن صفات الشعر الذي يختصّ بها دون غيره أنّ الإنسان إذا أراد مدبح نفسه فأنشأ رسالة في ذلك أو عمل خطبة فيه جاء في غاية القباحة، وإن عمل في ذلك أبياتاً من الشعر احتمل.
ومن ذلك أنّ صاحب الرياسة والأبّهة لو خطب بذكر عشيق له، ووصف وجده به، وحنينه إليه، وشهرته في حبّه، وبكاءه من أجله لاستهجن منه ذلك، وتنقّص به فيه، ولو قال في ذلك شعراً لكان حسناً.
وإذا أردت أن تعمل شعراً فأحضر المعاني التي تريد نظمها فكرك، وأخطرها على قلبك، واطلب لها وزناً بتأنّي فيه إيرادُها وقافيةً يحتملها، فمن المعاني ما تتمكّن من نظمه في قافية ولا تتمكّن منه في أخرى، أو تكون في هذه أقرب طريقاً وأيسر كلفة منه في تلك، ولأن تعلو الكلام فتأخذه من فوق فيجئ سلساً سهلاً ذا طلاوة ورونق خير من أن يعلوك فيجئ كزّاً فجّا ومتجعداً جلفاً.

فإذا عملت القصيدة فهذّبها ونقّحها، بإلقاء ماغثّ من أبياتها، ورثّ ورذل، والاقتصار على ما حسن وفخم، بإبدال حرف منها بآخر أجود منه، حتى تستوى أجزاؤها وتتضارع هواديها وأعجازها.
فقد أنشدنا أبو أحمد رحمه الله قال: أنشدنا أبو بكر بن دريد:
طرقتكَ عزَّةُ من مزارٍ نازحٍ ... يا حسنَ زائرةٍ وبعدَ مزارِ
ثم قال أبو بكر: لو قال: " يا قرب زائرة وبعد مزار " لكان أجود. وكذلك هو لتضّمنه الطّباق.
وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر عن عبد الرحمن عن عمه عن المنتجع بن نبهان، قال: سمعت الأشهب بن جميل يقول: أنا أوّل من ألقى الهجاء بين جرير وابن لجأ، أنشدت جريراً قوله:
تصطكُّ إلحيها على دلائِهَا ... تلاطمَ الأزدِ على عطائِهَا
حتى بلغتُ إلى قوله:
تجرُّ بالأهونِ من دعائِهَا ... جزَّ العجوزِ الثّنىَ منْ كسائِهَا
فقال جرير: ألا قال: " جر الفتاة طرفي ردائها " فرجعت إلى ابن لجأ فأخبرته. فقال: والله ما أردت إلا ضعفه العجوز، ووقع بينهما الشرّ. وقول جرير: " جرّ العروس طرفي ردائها " . أحسن وأظرف وأحلى من قول عمرو بن لجأ: " جرّ العجوز الثنى من كسائها " . وليس في اعتذار ابن لجأ بضعفه العجوز فائدة، لأنّ الفتاة معها من الدلال ما يقوم في الهوينا مقام ضعفة العجوز. وإنكار جرير قوله: " الثّنى من كسائها " نقدٌ دقيق، وإنما أنكرهُ لأنَّ فيه شعبة من التكلف. وقول جرير: " طرفى ردائها " أسلس وأسهل وأقلّ حروفاً.
وقولك: رأيت الإيعاز بذلك أجود من قولك: رأيت أن أوعز بذلك، كذا وجدتً حذّاق الكتّاب يقولون. وعجبت من البحتري كيف قال:
لعمرُ الغوانِي يوم صحراءِ أربَد ... لقد هيَّجتْ وجداً على ذي توجُّدِ
ولو قال: " على متوجد " لكان أسهل وأسلس وأحسن.
وفي غير هذه الرواية قال، فقال ابن لجأ لجرير: فقد قلت أعجب من هذا، وهو قولك:
وأوثق عند المردفاتِ عشيّةً ... لحاقاً إذا ما جرّد السيف لامعُ
والله لو لم يلحقنَ إلا عشيّا لما لحقن حتى نكحن وأحبلن.
وقد كان هذا دأب جماعة من حذّاق الشعراء من المحدثين والقدماء، منهم زهير، كان يعمل القصيدة في ستة أشهر ويهذّبها في ستة أشهر، ثم يّظهرها، فتسمّى قصائده الحوليات لذلك.
وقال بعضهم: خير الشعر الحولي المنقّح، وكان الحطيئةُ يعمل القصيدة في شهر، وينظر فيها ثلاثة أشهر ثم يبرزُها. وكان أبو نواس يعمل القصيدة ويتركها ليلةً، ثم ينظر فيها فيلقى أكثرها ويقتصر على العيون منها، فلهذا قصر أكثر قصائده.
وكان البحتري يلقى من كل قصيدة يعملها جميع ما يرتاب به فخرج شعره مهذبا.
وكان أبو تمام لا يفعل هذا الفعل، وكان يرضى بأوّل خاطر فنعى عليه عيب كثير.
وتخيّر الألفاظ، وإبدال بعضها من بعض يوجب التئام الكلام، وهو من أحسن نعوته وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك منظما من حروف سهلة المخارج كان أحسن له وأدعى للقلوب إليه، وإن اتفق له أن يكون موقعه في الإطناب والإيجاز أليق بموقعه، وأحقّ بالمقام والحال كان جامعاً للحسن، بارعاً في الفضل، وإن بلغ مع ذلك أن تكون موارده تنبيك عن مصادره، وأوّله يكشف قناع آخره، كان قد جمع نهاية الحسن، وبلغ أعلى مراتب التمام.
ومثاله ما أنشدنا أبو أحمد قال: أنشدنا أبو الحسن أحمد بن جعفر البرمكي، قال: أنشدنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لنفسه:
اشارتْ بأطرافِ البنانِ المخضَّبِ ... وضنَّتْ بما تحت النقابِ المكتَّبِ
وعضَّتْ على تفاحة في يمينها ... بذي أشُرٍ عذبِ المذاقة أشنبِ
وأومتْ بها نحوِي فقمتُ مبادراً ... إليها فقالت: هل سمعت بأشعبِ
فهذا أجودُ شعرٍ سبكا وأشده التئاما وأكثره طلاوة وماء.
وينبغي أن تجعل كلامك مشتبها أوله بآخره، ومطابقاً هادية لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، وتكون الكلمة منه موضوعة من أختها، ومقرونة بلفقها، فإنّ تنافر الألفاظ من أكبر عيوب الكلام، ولا يكون ما بين ذلك حشوٌ يستغنى عنه ويتم الكلام دونه.
ومثال ذلك من الكلام المتلائم الأجزاء، غير المتنافر الأطرار قول أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمُ يا عمرُو لو نبّهاكَ ... إذاً نبَّهَا منكَ داءً عضالا
إذاً نبّها ليثَ عرّيسةٍ ... مفتياً مفيداً نفوساً ومالا

وخرقٍ تجاوزتَ مجهوله ... بوجناء حرف تشكّى الكلالا
فكنتَ النهارَ به شمسه ... وكنتَ دجى اللّيل فيه الهلالا
فجعلته الشمس بالنهار، والهلال بالليل. وقالت: مفيتا مفيدا، ثم فسرت فقالت: نفوساً ومالا.
وقال الآخر:
وفي أربع منّى حلتْ منكِ أربعٌ ... فما أنا دارٍ أيُّها هاجَ لي كربي
أوجهُك في عيني أم الرّيق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحبُّ في قلبي
وأخبرني أبو أحمد، قال: كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب تختلف إلى مدرك نتعلّم منه علم الشعر، فقال لنا يوماً: إذا وضعتم الكلمة مع لفقها كنتم شعراء، ثم قال: أجيزوا هذا البيت:
ألا إنَّما الدنيا متاعُ غرورِ
فأجازه كلّ واحد من الجماعة بشيء فلم يرضه، فقلت:
وإنْ عظمتْ في أنفسٍ وصدورِ
فقال: هذا هو الجيّدُ المختار.
وأخبرنا أبو أحمد الشطني، قال: حدّثنا أبو العباس بن عربي، قال: حدثنا حماد عن يزيد بن جبلة، قال: دفن مسلمة رجلاً من أهله، وقال:
نروحُ ونغدُو كلَّ يومٍ وليلة
ثم قال لبعضهم: أجز، فقال: " فحتّى متى هذا الرواح مع الغدو " فقال مسلمة: لم تصنع شيئاً. فقال آخر: " فيالك مغدى مرة ورواحا " فقال: لم تصنع شيئاً. فقال لآخر: أجز أنتَ، فقال: " وعمّا قليل لا نروح ولا نغدُو فقال: الآن تمَّ البيت.
ومما لم يوضع فيه الشيء مع لفقه من أشعار المتقدمين قول طرفة:
ولستُ بحلاَّلِ التّلاعِ مخافةً ... ولكن متى يسترْفد القوم أرفدِ
فالمصراع الثاني غير مشاكل الصورة للمصراع الأول، وإن كان المعنى صحيحا، لأنه أراد: ولست بحلاَّل التّلاع مخافة السّؤال، ولكنّي أنزل الأمكنة المرتفعة، لينتابوني فأرفدهم، وهذا وجه الكلام، فلم يعبّر عنه تعبيراً صحيحاً، ولكنه خلطه وحذف منه حذفاً كثيراً فصار كالمتنافر، وأدواء الكلام كثيرة.
وهكذا قول الأعشى:
وإنّ امرء أسرى إليك ودونَه ... سهوبٌ وموماة وبيدَاء سملَق
لمحقوقةٌ أن تستجِيبي لصوتهِ ... وأنْ تعلمِي أنَّ المعانَ موفّقُ
قوله: " وأن تعلمي أنَّ المعانَ موفَّق " غير مشاكل لما قبله.
وهكذا قول عنترة:
حرقُ الجناحِ كأنَّ لحيي رأسِه ... جلمان بالأخبارِ هشّ مولعُ
إنَّ الذين نعبتَ لي بفراقِهم ... هم أسلموا ليلى التمام وأوجَعوا
ليس قوله " بالأخبار هشّ مولع " في شيء من صفة جناحه ولحييه.
وقول السموءل:
فنحنُ كماء المزنِ ما في نصابِنا ... كهامٌ ولا فينا يعدُّ بخيلُ
ليس في قوله: " ما في نصابنا كهام " . من قوله: " فنحن كماءِ المزنِ " في شيء، إذ ليس بين ماء المزن والنصاب والكهوم مقاربة، ولو قال: ونحن ليوث الحرب، أو أولو الصارمة والنّجدة ما في نصابنا كهامٌ لكان الكلام مستويا. أو نحن كماء المزن صفاء أخلاق وبذل أكفّ لكان جيدا.
وجعل بعض الأدباء من هذا الجنس قول امرئ القيس:
كأنٍّيَ لمْ أركبْ جواداً للذَّةٍ ... ولمْ أتبطَّنْ كاعباً ذاتَ خلخالِ
ولم أسبَإ الزِّقَّ الرَّوىَّ ولمْ أقلْ ... لخيليَ كرِّى كرَّةً بعدَ إجفالِ
قالوا: فلو وضع مصراعُ كل بيت من هذين البيتين في موضع الآخر لكان أحسن وأدخل في استواء النّسج، فكان يروى:
كأنّيَ لم أركبْ جواداً ولم أقلْ ... لخيليَ كرِّى كرَّةً بعد إجفالِ
ولم أسبإ الزِّقَّ الرَّوى للذَّةٍ ... ولم أتبطَّن كاعباً ذات خلخال
لأنَّ ركوبَ الجواد مع ذكر كرور الخيل أجود، وذكر الخمر مع ذكر الكواعب أحسن.
قال أبو أحمد: الذي جاء به امرؤ القيس هو الصحيح، وذلك أن العرب تضع الشيء مع خلافه فيقولن: الشدة والرخاء، والبؤس والنعيم، وما يجرى مع ذلك. وقالوا في قول ابن هرمة:
وإني وتركى ندى الأكرمينَ ... وقدحِي بكفِّىَ زنداً شحاحَا
كتاركةٍ بيضهَا بالعراءِ ... وملبسةٍ بيضَ أخرَى جناحَا
وقول الفرزدق:
وإنك إذْ تهجُو تميماً وترتشِي ... سرابيلَ قيسٍ أو سحوقَ العمائمِ
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغرَّهُ ... سرابٌ أذاعتهُ رياحُ السّمائِم
كان ينبغي أن يكون بيت ابن هرمة مع بيت الفرزدق وبيت الفرزدق مع بيت ابن هرمة، فيقال:

وإني وتركي ندى الأكرمينَ ... وقدحِي بكفٍّىَ زنداً شحاحا
كمهريق ماءِ بالفلاة وغرَّة ... سرابٌ أذاعته رياح السمائم
ويقال:
وإنكَ إذ تهجُو تميماً وترتشِي ... سرابيلَ قيسٍ أو سحوق العمائم
كتاركةٍ بيضَها بالعراءِ ... وملبسَة بيضَ أخرى جناحَا
حتى يصحّ التشبيه للشاعرين جميعاً.
ومن المتنافر الصدر والأعجاز قول حبيب بن أوس:
محمد إنّ الحاسدين حشودُ ... وإنّ مصاب المزنِ حيث تريدُ
ليس النصف الأول من النصف الثاني في شيء.
وقريبٌ من ذلك قول الطالبي:
قومٌ هدى اللهُ العباد بجدِّهم ... والمؤثرونَ الضيفَ بالأزوادِ
ومن الشعر المتلائم الأجزاء المتشابه الصدور والأعجاز قول أبي النجم:
إنّ الأعادي لنْ تنالَ قديمَنا ... حتّى تنالَ كواكبُ الجوزاء
كمْ في لجيمٍ من أغرّ كأنه ... صبح يشقُّ طيالسَ الظَّلماء
ومجرّبٍ خضل السنانِ إذا التقَى ... زحفٌ بخاطرة الصدورِ ظماء
وكقول القطامى:
يمشين رهواً فلا الأعجازُ خاذلة ... ولا الصّدورُ على الأعجازِ تتّكلُ
فهنَّ معترضاتٌ والحصَى رمضٌ ... والريح ساكنةٌ والظلُّ معتدلُ
إلاّ أنّ هذا لو كان في وصف نساء لكان أحسن، فهو كالشيء الموضوع في غير موضعه.
وينبغي أن تتجنّب إذا مدحتَ أو عاتبت المعاني التي يتطيّر منها ويستشنع سماعها، مثل قول أبي نواس:
سلامٌ على الدُّنيا إذا ما فقدتم ... بني برمكٍ من رائحين وغادِي
وإذا أردت أن تأتي بهذا المعنى فسبيلك أن تسلك سبيل أشجع السلمى في قوله:
لقدْ أمسَى صلاح أبي عليّ ... لأهل الأرض كلِّهم صلاحا
إذا ما الموتُ أخطأه فلسنَا ... نبالِي الموتَ حيث غدَا وراحَا
فذكر إخطاءَ الموت إياه وتجاوزه إلى غيره، فجاد المعنى وحسن المستمع. وقد أحسن القائل:
ولا تحسبنَّ الحزنَ يبقى فإنه ... شهابُ حريقٍ واقدٌ ثم خامدُ
ستألفُ فقدان الّذي قد فقدتُه ... كإلفكَ وجدان الّذي أنتَ واجدُ
فجعل ما يتطيّر منه من الفقدان لنفسه وما يستحبّ من الوجدان للممدوح، وقد أساء أبو الوليد أرطاة بن شهبة، حين أنشد عبد الملك:
رأيتُ الدهر يأكلُ كلَّ حيٍّ ... كأكلِ الأرضِ ساقطةَ الحديدِ
وما تبِقى المنّية حينَ تغدُو ... على نفس ابن آدمَ من مزيدِ
وأعلمُ أنها ستكرّ حتّى ... توفِي نذرَها بأبي الوليدِ
وكان عبد الملك يكنَّى أبا الوليد فتطيّر منه، ومازال يرى كراهةَ شعره في وجهه حتى مات.
وإذا دعتِ الضرورةُ إلى سوق خبر واقتصاص كلام، فتحتاج إلى أن تتوخّى فيه الصدق، وتتحرّى الحقّ، فإن الكلام حينئذ يملكك ويحوجك إلى اتّباعه والانقياد له.
وينبغي أن تأخذ في طريق تسهل عليك حكايته فيها، وتركب قافية تطيعك في استيفائك له، كما فعل النابغة في قوله:
واحكمْ كحكمِ فتاةَ الحيِّ إذْ نظرَتْ ... إلى حمامِ شراعٍ واردِ الثَّمدِ
يحفّه جانباً نيقٍ وتتبعُه ... مثل الزّجاجةِ لم تكحَل من الرَّمدِ
قالتْ ألا ليتمَا لهذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتنَا أو نصفه فقدِ
فكمّلتْ مائةً فيها حمامتُها ... وأسرعتْ حسبةً في ذلك العدد
فحسبُوهُ فألفوهُ كما حسبتْ ... تسعاً وتسعينَ لم تنقص ولم تزدِ
فهذا أجود ما يذكر في هذا الباب، وأصعب ما رامه شاعر منه، لأنه عمد إلى حساب دقيق، فأورده مشروحا ملخّصا، وحكاه حكاية صادقة. ولمّا احتاج إلى أن يذكر العدد والزيادة والثّمد بنى الكلام على قافية فاصلة الدال فسهل عليه طريقه، واطّرد سبيله.
ومثل ذلك ما أتاه البحتري في القصيدة التي أولها:
هاجَ الخيالُ لنا ذكرَى إذا طافَا ... وافى يخادعُنَا والصبحُ قد وافى
وكان قد احتاج إلى ذكر الآلاف، والإسعاف، والأضعاف، والإسراف، وترك الاقتصار على الأنصاف، فجعل القصيدة فائية، فاستوى له مرادُه وقرب عليه مرامه، وهو قوله:
قضيتَ عني ابن بسطامٍ صنيعتَه ... عندِي وضاعفتَ ما أولاه أضعافا
وكانَ معروفُه قصداً إلىَّ وما ... جازيتَهُ عنه تبذيراً وإسرافَا
مئونَ عينا توليتَ الثّوابَ بها ... حتى انثنتْ لأبي العباسِ آلافَا

قد كان يكفيه ممّا قدمتْ يده ... ربّا يزيد على الآحادِ أنصافا
ولا ينبغي أن يكون لفظك وحشياً بدوياً، وكذلك لا يصلح أن يكون مبتذلا سوقيا.
أخبرنا أبو أحمد عن مبرمان عن أبي جعفر بن القتبي عن أبيه، قال، قال خلف الأحمر: قال شيخٌ من أهل الكوفة: أما عجبت أن الشاعر قال: أنبت قيصوما وجثجاثا فاحتمل، وقلت أنا: أنبت إجاصاً وتفاحا فلم يحتمل.
والمختار من الكلام ما كان سهلاً جزلا لا يشوبه شيء من كلام العامة وألفاظ الحشويّة، وما لم يخالف فيه وجه الاستعمال، ألا ترى إلى قول المتنبي:
أين البطاريقُ والحلفُ الّذي حلفُوا ... بمفرقِ الملك والزَّعمُ الَّذي زعمُوا
هذا قبيحٌ جداً، وإنما سمع قول العامّة حلف برأسه، فأراد أن يقول مثله، فلم يستو له، فقال: بمفرق الملك، ولو جاز هذا لجاز أن يقول: حلف بيافوخ أبيه، وبقمحدوة سيّده.
وقبح هذا يدلّ على أنّ أمثاله غير جائز في جميع المواضع، وهذا النوع في شعر المتنبي كبعد الاستعارة في شعر أبي تمام.
ومن الألفاظ ما يستعمل رباعيّة وخماسيّة دون ثلاثيّة، ومنها ما هو بخلاف ذلك، فينبغي ألاَّ تعدل عن جهة الاستعمال فيها، ولا يغرّك أن أصولها مستعملة، فالخروجُ عن الطريقة المشهورة والنّهج المسلوك ردئ على كل حال. ألا ترى أنّ الناسَ يستعملون التعاطي فيكون منهم مقبولا، ولو استعملوا العطو وهو أصل هذه الكلمة وهو ثلاثيّ، والثلائيُّ أكثر استعمالا، لما كان مقبولا ولا حسناً مرضيا، فقس على هذا.
ومن الألفاظ ما إذا وقع نكرة قبح موضعه وحسن إذا وقع معرفة، مثل قول بعضهم:
لمّا التقينا صاح بينٌ بيننا ... يدنى من القرب البعاد لحقاقَا
فقوله: " صاح بينٌ بيننا " متكلّفٌ جداً. فلو قال: البين كان أقرب، على أنَّ البيتَ كلّه ردئ، ليس من وصف البلغاء.
وينبغي أن تجتنب ارتكاب الضرورات وإن جاءت فيها رخصةٌ من أهل العربية، فإنها قبيحةٌ تشين الكلام وتذهب بمائة، وإنما استعملها القدماء في أشعارهم لعدم علمهم بقباحتها، ولأنَّ بعضهم كان صاحب بداية، والبداية مزلة، وما كان أيضاً تنقد عليهم أشعارهم، ولو قد نقدت وبهرج منها المعيب كما ننقد على شعراء هذه الأزمنة ويبهرج من كلامهم ما فيه أدنى عيب لتجنَّبوها، وهو كقول الشاعر:
له زجلٌ كأنَّه صوتُ حادٍ ... إذا طلب الوسيقةَ أو زميرُ
فلم يشبع.
وقول الآخر:
ألمْ يأتيكَ والأنباء تنمِى ... بما لاقتْ لبونُ بنى زيادِ
فقال: " ألم يأتيك " ، فلم يجزم.
وقال ابن قيس الرقيات:
لا باركَ الله في الغوانيَ هلْ ... يصبحنَ إلاَّ لهنَّ مطَّلبُ
فحرّك حرف العلة.
وقال قعنب بن أم صاحب:
مهلاً أعاذل قدْ جرَّبتِ من خلُقي ... إنّي أجودُ لأقوامٍ وإن ضننُوا
فأظهر التضعيف.
ومثله قول العجاج:
تشكُو الوجَى من أظللٍ وأظلل
وقال جميل:
ألا لا أرَى اثنينِ أحسن شيمةً ... على حدثانِ الدَّهرِ منِّي ومنْ جملِ
وقال:
إذا جاوز الاثنين سرٌّ فإنَّه ... بنشرٍ وتكثير الوشاةِ قمينُ
فقطع ألف الوصل.
وقال غيره:
من الثّعالي ووخزٌ من أرانيهَا
إلى غير ذلك مما يجري مجراه، وهو مكروه الاستعمال وينبغي أن تتحامى العيوبَ التي تعترِي القوافي، مثل السّناد والإفواء والإبطاء، وهو أسهلها، والتوجيه وإن جاء في جميع أشعار المتقدمين وأكثر أشعار المحدثين.
وينبغي أن نرتب الألفاظ ترتيباً صحيحاً، فتقدّم منها ما كان يحسن تقديمه، وتؤخر منها ما يحسن تأخيره، ولا تقدّم منها ما يكون التأخير به أحسن، ولا تؤخّر منها ما يكون التقديم به أليق.
فما أفسد ترتيبُ ألفاظه قول بعضهم:
يضحكُ منها كلُّ عضوٍ لها ... من بهجةِ العيشِ وحسنِ القوامْ
ترفلُ في الدّارِ لها وفّرة ... كوفرةِ الملط الخليع الغلامْ
كان ينبغي أن يقول: كوفرة الغلام الملط الخليع، أو الغلام الخليع الملط، فأمّا تقديم الصفة على الموصوف فردئ في صنعة الكلام جداً. وقوله أيضاً: " بهجة العيش وحسن القوام " متنافرٌ غير مقبول.
وقول ابن طباطبا:
وعجلةٌ تشدو بألحانها ... وكانتِ الكيّسة الخادمهْ
لو قال: " وكانت الخادمة الكيّسة " لكان أجود.

وينبغي ألاّ يذكر في التشبيب اسماً بغيضاً، فقد أنشد جريرٌ بعض ملوكِ بني أميّة:
ونقول بوزعُ قد دببتَ على العصَا ... هلاَّ هزئتِ بغيرِنَا يا بوزَعُ
فقال له الملك: أفسدتها ببوزَع.
وقد يقدح في الحسن قبح اسمه، ويزيد في مهابة الرجل فخامةُ اسمه، ولهذا تكنّى البحتري بأبي عبادة، وكان يكنّى أبا الحسن، وشهد رجلٌ عند شريح وكان الرجلُ يكنّى أبا الكويفر، فردَّ شهادته، ولم يسأل عنه.
وسمع عمر بن عبد العزيز رحمه الله رجلاً يكنى أبا العمرين، فقال: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما.
وأتى ظالم بن سرّاق عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليستعمله فردّه، وقال: أنت تظلم وأبوك يسرق، وظالم هذا جدّ المهلّب بن أبي صفرة.
وهذه جملة كافية إذا تدبّرت، وبالله التوفيق.
ومن عيوب الكلام تكرير الكلمة الواحدة في كلام قصير: مثل قول سعيد بن حميد: ومثّل خادمك بين ما يملك فلم يجد شيئاً يفي بحقّك، ورأى أنّ تقريظك بما يبلغُه اللسانُ وإن كان مقصّرا عن حقك أبلغُ في أداء ما يجب لك.
فكرر الحقّ في المقدار اليسير من الكلام.
وينبغي أن يتجنّب الكاتب جميع ما يكسب الكلام تعميةً، فيرتب ألفاظه ترتيباً صحيحاً، ويتجنّب السقيم منه، وهو مثل ما كتب بعضهم: لفلان وله بي حرمة مظلمة. وكان ينبغي أن يقول: لفلان وأنا أرعى حرمته مظلمة. وما يجرى هذا المجرى من الترتيب المختار البعيد من الإشكال.

الفصل الثاني
فيما يحتاج الكاتب إلى ارتسامه وامتثاله في مكاتباته
ينبغي أن تعلم أنّ الكتابة الجيدة تحتاج إلى أدوات جمّة، وآلاتٍ كثيرة، مع معرفة العربية لتصحيح الألفاظ، وإصابة المعاني، وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلة، وغير ذلك مما ليس ها هنا موضع ذكره وشرحه، لأنّا إنما عملنا هذا الكتاب لمن استكمل هذه الآلات كلّها، وبقى عليه المعرفة بصنعة الكلام، وهي أصعبها وأشدّها.
والشاهد ما روى لنا أبو أحمد عن مبرمان عن المبرّد، أنه قال: لا أحتاج إلى وصف نفسي لعلم الناس بي، إنه ليس أحدٌ من الخافقين يختلج في نفسه مسألةٌ مشكلةٌ إلا لقيني بها، وأعدّني لها، فأنا عالمٌ ومتعلمٌ وحافظٌ ودارسٌ، لا يخفى علي مشتبه من الشّعر والنّحو والكلام المنثور والخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار من فلتةٍ أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عيني، ثم لا أجد سبيلاً إلى التعبير عنه بيد ولا لسان. ولقد بلغني أن عبيد الله بن سليمان ذكرني بجميل، فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره فيها، وأعرض ببعض أموري، فأتعبتُ نفسي يوماً في ذلك فلم أقدر على ما ارتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عمّا في ضميري، فينصرف لساني إلى غيره. ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب خدعة، وزيادة الأدب على المنطق هجنة.
فأوّل ما ينبغي أن تستعمله في كتابتك مكاتبة كلّ فريق منهم على مقدار طبقتهم وقوتهم في المنطق، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.
والشاهد عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى أهل فارس كتب إليهم بما يمكن ترجمته، فكتب: من محمد رسول الله إلى كسرى إبرويز عظيم فارس: سلامٌ على من اتّبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، فأدعوك بداعية الله، فإني أنا رسول الله إلى الخلق كافّة لينذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإثم المجوس عليك.
فسهّل صلى الله عليه وسلم الألفاظ كما ترى غاية التسهيل حتى لا يخفى منها شيء على من له أدنى معرفة في العربية.
ولما أراد أن يكتب إلى قوم من العرب فخم اللفظ، لما عرف من فضل قوّتهم على فهمه وعادتهم لسماع مثله.
فكتب لوائل بن حجر الحضرمي: من محمد رسول الله إلى الأقيالِ العباهلة من أهل حضرموت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، على التّبعة الشاة، والتّبعة لصاحبها، وفي السّيوبِ الخمس، لا خلاطَ ولا وراطَ ولا شناقَ ولا شغار، ومن أجبى فقد أربَى، وكلُّ مسكر حرام.
وكذلك كتابه صلى الله عليه وسلم لأكيدر صاحب دومة الجندل: من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله.

إنّ لنا الضاحية من الضّحل والبور والمعاهي وأغفال الأرض، والحلقة والسّلاح، ولكم الضّامنة من النّخل، والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤدّون الزكاة، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه.
واعلم أنّ المعاني التي تنشأ الكتب فيها من الأمر والنّهي سبيلها أن تؤكّد غاية التوكيد بجهة كيفية نظم الكلام، لا بجهة كثرة اللّفظ، لأنّ حكم ما ينفذ عن السلطان في كتبه شبيهٌ بحكم توقيعاته، من اختصار اللفظ وتأكيد المعنى هذا إذا كان الأمر والنهي واقعين في جملة واحدة لا يقع فيها وجوه التمثيل للأعمال. فأمّا إذا وقعا في ذلك الجنس فإنّ الحكم فيهما يخالف ما ذكرناه، وسبيل الكلام فيها أن يحمل على الإطالة والتكرير دون الحذف والإيجاز، وذلك مثل ما يكتب عن السلطان في أمر الأموال وجبايتها واستخراجها، فسبيل الكلام أن يقدّم فيها ذكر ما رآه السلطان في ذلك ودبّره، ثم يعقّب بذكر الأمر بامتثاله، ولا يقتصر على ذلك حتى يؤكد ويكرّر لتأكّد الحجة على المأمور به، ويحذّر مع ذلك من الإخلال والتقصير.
ومنها الإحماد والإذمام والثناء والتّقريظ، والذمّ والاستصغار، والعدل والتوبيخ، وسبيل ذلك أن تشبع الكلام فيه، ويمد القول حسب ما يقتضيه آثار المكتوب إليه في الإحسان والإساءة والاجتهاد والتقصير، ليرتاح بذلك قلب المطيع، وينبسط أمله، ويرتاع قلب المسئ ويأخذ نفسه بالارتداع.
فأما ما يكتبه العمال إلى الأمراء ومن فوقهم، فإنّ سبيل ما كان واقعاً منها في إنهاء الأخبار، وتقرير صور ما يلونه من الأعمال، ويجري على أيديهم من صنوف الأموال أن يمدّ القول فيه حتى يبلغَ غاية الشفاء والإقناع، وتمام الشرح والاستقصاء، إذ ليس للإيجاز والاقتصار عليه موضع، ويكون ذلك بالألفاظ السهلة القريبة المأخذ، السريعة إلى الفهم، دون ما يقع فيه استكراه وتعقيد، وربما تعرض الحاجة في إنهاء الخبر إلى استعمال الكناية والتّورية عن الشيء دون الإفصاح، لما في التصريح من هتك الستر، في حكايته عن عدوّ أطلق لسانه به، وفيه اطّراح مهابة الرئيس، فيجب إجلاله عنه، وفي الصدق ما يسوءه سماعه، ويقع بخلاف محبّته، فيحتاج منشئ الكلام إلى استعمال لفظ في العبارة لا تنخرق معه هيبة الرئيس، ولا يعترض فيه ما يشتدّ عليه، ولا يكون أيضاً معها خيانةٌ في طيّ ما لا يجب ستره، ولا يكمل لهذا إلا المبرّز الكامل المقدّم.
وسبيل ما يكتب به في باب الشكر أّلا يقع فيه إسهابٌ، فإن إسهاب التابع في الشكر، إذا رجع إلى خصوصية، نوع من الإبرام والتثقيل، ولا يحسن منه أن يستعمل الإكثار من الثناء والدعاء أيضاً، فإن ذلك فعل الأباعد الذين لم تتقدَّم لهم وسائل من الخدمة مقدّمات في الحرمة، أو تكون صناعتهم التكسّب بتقريظ الملوك وإطراء السلاطين. فلا يقبح إكثار الثناء من هؤلاء.
وليس يحسن منه أيضاً تكرير الدعاء في صدر الكتاب والرّقاع عندما يجريه من ذكر الرئيس، فإن ذلك مشغلة وكلفة، والحكم فيما يستعمله من ذلك في الكتب مشبّه بحكم ما يستعمل منه شفاهاً. ويقبح من خادم السلطان أن يشغل سمعه في مخاطبته إياه بكثرة الدعاء له وتكثيره عند استئناف كلّ لفظة.
وسبيل ما يكتب به التابع إلى المتبوع في معنى الاستعطاف ومسألة النّظراء ألا يكثر من شكاية الحال ورقّتها، واستيلاء الخصاصة عليه فيها، فإنَّ ذلك يجمع إلى الإبرام والإضجار شكاية الرئيس لسوء حاله وقلّة ظهور نعمته عليه. وهذا عند الرؤساء مكروهٌ جداً، بل يجب أن يجعل الشكاية ممزوجة بالشكر والاعتراف بشمول النعمة وتوفير العائدة.
وسبيل ما يكتب به في الاعتذار من شيء أن يتجنّب فيه الإطناب والإسهاب إلى إيراد النكت التي يتوهم أنها مقنعة في إزالة الموجدة، ولا يمعن في تبرئة ساحته في الإساءة والتقصير، فإن ذلك مما يكره الرؤساء، والذي جرت به عادتهم الاعتراف من خدمهم وخولهم بالتقصير والتفريط في أداء حقوقهم وتأدية فروضهم، ليكون لهم فيما يعقبون ذلك من العفو والتجاوز موضع منّة مستأنفة تستدعي شكراً، وعارفة مستجدّة تقتضي نشراً، فأما إذا بالغ المتنصّل في براءة ساحته من كلّ ما قذف به فلا موضع للإحسان إليه في إعفائه عن ترك السخط، بل ذلك أمرٌ واجبٌ له، وفي منع الرئيس حصّته منه ظلمٌ وإساءةٌ.

وينبغي أن يكثر الألفاظ عنده، فإن احتاج إلى إعادة المعاني أعاد ما يعيده منها بغير اللّفظ الذي ابتدأه به، مثل ما قال معاوية رضى الله عنه: من لم يكن من بني عبد المطلب جواداً فهو دخيل، ومن لم يكن من بني الزبير شجاعاً فهو لزيق، ومن لم يكن من ولد المغيرة تيّاها فهو سنيد. فقال: دخيل ثم قال: لزيق ثم قال: سنيد. والمعنى واحد والكلام على ما تراه أحسن، ولو قال لزيق، قم أعاده لسمج.
هذا، أدام الله عزك، بعد أن تفرّق بين من تكتب إليه، " فإن رأيت، وبين من تكتب إليه " فرأيك. وأن تعرف مقدار المكتوب إليه من الرؤساء والنظراء والغلمان والوكلاء، فتفرق بين من تكتب إليه بصفة الحال وذكر السلامة، وبين من تكتب إليه بتزكها إجلالاً وإعظاما، وبين من تكبت إليه: أنا أفعل كذا، وبين من تكتب إليه: نحن نفعل كذا، فأنا من كلام الإخوان والأشباه، ونحن من كلام الملوك. وتكتب في أول الكتاب سلامٌ عليك، وفي آخره والسلام عليك، لأنَّ الشيء إذا ابتدأت بذكره كان نكرةً، فإذا أعدته صار معرفة، كما تقول: مرَّ بنا رجلٌ فإذا رجع قلت: رجع الرّجل.
وكان الناس فيما مضى يستعملون في أوّل فصول الرسائل أما بعد. وقد تركها اليوم جماعةٌ من الكتّاب، فلا يكادون يستعملونها في شيء من كتبهم، وأظنّهم ألمّوا بقول ابن القرية وسأله الحجاج عما ينكره من خطابته، فقال: إنك تكثّر الردّ، وتشير باليد، وتستعين بأمّا بعد. فتحاموه لهذه الجهة مع أنهم رووا في التفسير أن قول الله تعالى: " وآتيناه الحكمةَ وفصل الخطاب " هو قوله أما بعد، فإن استعملته اتباعاً للأسلاف، ورغبة فيما جاء فيه من التأويل فهو حسن، وإن تركته توخّياً لمطابقة أهل عصرك، وكراهةً للخروج عمّا أصّلوه لم يكن ضائراً.
وينبغي أن يكون الدعاءُ على حسب ما توجبه الحال بينك وبين من تكتبُ إليه وعلى القدر المكتوب فيه.
وقد كتب بعضهم إلى حبّة له: عصمنا الله وإيّاك مما يكره. فكتبت إليه: يا غليظ الطّبع، لو استجيبت لك دعوتك لم نلتق أبداً.
واعلم أنّ الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط، ولا يلزمك فيها السّجع، فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن، ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيدٌ، وكثر ما يقع ذلك في السّجع، وقل ما يسلم إذا طال من استكراه وتنافر.
وينبغي أن تتجنَّب إعادة حروف الصلات والرباطات في موضع واحد إذا كتبت مثل قول القائل: منه له عليه. أو عليه فيه. أو به له منه. وأخفها له عليه، فسبيله أن تداويه حتى تزيله بأن تفصل ما بين الحرفين، مثل أن تقول: أقمت به شهيداً عليه. ولا أعرف أحداً كان يتتبّع العيوب فيأتيها غير مكترث إلا المتنبي، فإنه ضمّن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئاً منها حتى تخطّى إلى هذا النوع فقال:
ويسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوحٌ له منها عليها شواهدُ
فأتى من الاستكراه بما لا يطارُ غرابُه فتدبّر ما قلناه، وارتسمه تظفر ببغيتك منه إن شاء الله.

الباب الرابع
البيان عن حسن النظم وجودة الرّصف والسّبك
وخلاف ذلك
أجناس الكلام المنظوم ثلاثة: الرسائل، والخطب، والشّعر، وجمعيها تحتاج إلى حسن التأليف وجودة التركيب.
وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحاً وشرحاً، ومع سوء التأليف ورداءة الرّصف والتركيب شعبة من التّعمية، فإذا كان المعنى سبيّاً، ورصف الكلام رديّاً لم يوجد له قبول، ولم تظهر عليه طلاوة. وإذا كان المعنى وسطا، ورصف الكلام جيّداً كان أحسن موقعاً، وأطيب مستمعاً، فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائعاً في المرأى وإن لم يكن مرتفعا جليلا، وإن اختلّ نظمه فضمّت الحبّة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمتهُ العين وإن كان فائقاً ثميناً.
وحسن الرّصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديمُ والتأخيرُ، والحذف والزيادةُ إلا حذفاً لا يفسد الكلام، ولا يعمى المعنى، وتضمّ كل لفظة منها إلى شكلِها، وتضاف إلى لفقِها.
وسوء الرّصفِ تقديمُ ما ينبغي تأخيرهُ منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها.

وقال العتابي: الألفاظ أجساد، والمعاني أرواح، وإنما تراها بعيون القلوب، فإذا قدّمت منها مؤخّراً، أو أخَّرت منها مقدّما أفسدتَ الصورة وغيّرتْ المعنى، كما لو حوّل رأس إلى موضع يد، أو يدٌ إلى موضع رجل، لتحوّلت الخلقة، وتغيّرت الحلية.
وقد أحسن في هذا التمثيل وأعلم به على أنَّ الذي ينبغي في صيغة الكلام وضعُ كلّ شيءٍ منه في موضعه ليخرج بذلك من سوء النظم.
فمن سوء النّظم المعاظلة، وقد مدح عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه زهيراً لمجانبتها. فقال: كان لا يعاظل بين الكلام، وأصل هذه الكلمة من قولهم: تعاظلت الجرادتان إذا ركبت إحداهما الأخرى، وعاظل الرجل المرأة إذا ركبها، فمن المعاظلة قول الفرزدق:
تعالَ فإنْ عاهدتنِي لا تخونني ... تكنْ مثلَ من يا ذئبُ يصطحبَانِ
وقوله:
هو السّيف الذي نصر ابن أروَى ... به عثمانَ مروانُ المصابَا
وقوله للوليد بن عبد الملك:
إلى ملك ما أمُّهُ من محاربٍ ... أبوه ولا كانتْ كليب تصاهِرُهْ
وقوله يمدح هشام بن إسماعيل:
وما مثلُه في الناسِ إلاّ مملّكاً ... أبو أمّه حيٌّ أبوه يقاربُهْ
وقوله:
الشمسُ طالعة ليستْ بكاسفةٍ ... تبِكي عليكَ نجومَ اللّيلِ والقمَرا
وقوله:
ما من ندى رجلٍ أحقّ بما أتى ... من مكرماتِ عظائمِ الأخطارِ
من راحتينِ يزيد يقدحُ زندَهُ ... كفّاهُما وأشدّ عقد إزارِ
وقوله:
إذا جئتهُ أعطاكَ عفواً ولم يكنْ ... على ماله حال الردى مثل سائِلهْ
إلى ملك لا تنصفُ الساقَ نعلُه ... أجلْ وإنْ كانت طوالاَ محامِله
وقال قدامة: لا أعرف المعاظلة إلا فاحش الاستعارة، مثل قول أوس:
وذات هدمٍ عارٍ نواشِرُها ... تصمتُ بالماءِ تولباً جدعَا
فسمى الصبي توليا، والتّولب: ولدُ الحمار.
وقول الآخر:
وما رقدَ الولدان حتى رأيتَهُ ... على البكرِ يمر به بساقٍ وحافرِ
فسّمى قدم الإنسان حافراً. وهذا غلطٌ من قدامة كبيرٌ، لأنَّ المعاظلة في أصلِ الكلام إنما هي ركوب الشيء بعضه بعضاً، وسمى الكلام به إذا لم ينضد نضداً مستوياً، وأركب بعض ألفاظه رقاب بعض، وتداخلت أجزاؤه، تشبيهاً بتعاظل الكلاب والجراد، على ما ذكرناه، وتسمية القدم بحافر ليست بمداخلة كلامٍِ في كلام، وإنما هو بعدٌ في الاستعارة.
والدليل على ما قلنا أنك لا ترى في شعر زهير شيئاً من هذا الجنس، ويوجد في أكثر شعر الفحول نحو ما نفاه عنه عمر رضى الله عنه وحد، فما وجد منه في شعر النابغة قوله:
يثرنَ الثَّرَى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجّتْ ريقها بالكلاكِل
معناه: يثرنَ الثَّرى حتى يباشرن برده بالكلاكِل إذا الشمس مجّت ريقها. وهذا مستجهنٌ جدّاً، لأنَّ المعنى تعمّى فيه.
وقول الشماخ:
تخامصُ عن برد الوشاحِ إذا مشتْ ... تخامص حافي الخيلِ في الأمعزِ الوحِى
معناه تخامص الحافي الوجى في الأمعز.
وقول لبيد:
وشمولٍ قهوةٍ باكرتُها ... في التّباشير مع الصُّبْح الأوَلْ
أي في التباشير الأول مع الصّبح.
وكقول ذي الرمة:
كأنَّ أصواتَ منْ إيغالهنَّ بنا ... أواخر الميس أصواتُ الفراريج
يريد كأن أصوات آخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن.
وقوله أيضاً:
نضا البرد عنه وهو من ذو جنُونِه ... أجاريّ تصهالٍ وصوتَ صلاصلِ
كأنه من تخليطه كلامُ مجنونٍ أو هجرُ مبرسم يريد: وهو من جنونه ذو أجارّي.
وكقول أبي حية النميري:
كما خط الكتاب بكفّ يوماً ... يهوديٍّ يقاربُ أو يزيلُ
يريد: كما خط الكتابُ بكف يهوديّ يوما يقارب أو يزيل.
وقول الآخر:
همَا أخوا في الحربِ من لا أخاً لهُ ... إذا خاف يوماً نبوةً فدعَاهُما
يريد: أخوا من لا أخ له في الحرب.
وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجةً، ويبنى عليها، فإنه لا يعذر في شيء منها، لاجتماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها، واستجادة ما يصحّ من الكلام ويستبين، واسترذال ما يشكل ويستبهم.
فمن الكلام المستوى النظم، الملتئم الرّصف قولُ بعض العرب:
أيَا شجرَ الخابورِ مالكَ مورقاً ... كأنَّكَ لم تحزن على ابنِ طريفِ

فتىً لا يحبُّ الزَّادَ إلاّ من التّقَى ... ولا المالَ إلاَّ من قناً وسيوفِ
ولا الخيل إلا كل جرداء شطبَةٍ ... وأجرد شطبٍ في العنان خنوفِ
كأنك لم تشهدْ طعاناً ولم تقمْ ... مقاماً على الأعداءِ غير خفيفِ
فلا تجزعا يا بني طريفٍ فإنَّني ... أرى الموتَ حلاَّلاً بكلِّ شريف
والمنظوم الجيد ما خرج مخرج المنثور في سلاسته، وسهولته واستوائه، وقلة ضروراته، ومن ذلك قول بعض المحدثين:
وقوفكَ تحتَ ظلالِ السيوفِ ... أقر الخلافة في دَارها
كأنك مطَّلع في القلُوب ... إذا ما تناجتْ بأسرَارِها
فكرَّاتُ طرفِك مردُودة ... إليكَ بغامض أخبَارِها
وفي راحتيكَ الرَّدَى والنَّدَى ... وكلتاهُما طوعُ ممتارهَا
وأقضيةُ اللهِ محتومَةٌ ... وأنت منفِّذُ أقدارها
ولا تكاد القصيدة تستوى أبياتها في حسن التأليف، ولا بدّ أن تتخالف، فمن ذلك قول عبيد بن الأبرص:
وقدْ إلا لمّتِي شيبٌ فودَّعنِي ... منْه الغوانِي وداعَ الصّارمِ القالِي
وقد أسلِّي همومي حين تحضرُنِي ... بجسرةٍ كعلاةِ القينِ شملالِ
زيّافةٍ بقتودِ الرَّحل ناجيةٍ ... تفرى الهجير بتبغيلٍ وإرقالِ
وفيها:
تحتى مسوَّمةٌ جرداءٌ عجلزةٌ ... كالسَّهمِ أرسلهُ من كفّه الغالِي
والشّيبُ شينٌ لمن أرسَى بساحتِهِ ... للهِ درُّ سوادِ اللمَّة الخالِي
فهذا نظم حسن وتأليف مختار.
وفيها ما هو ردئ لا خر فيه، وهو قوله:
بانَ الشّبابُ فآلى لا يلمُّ بنا ... واحتلَّ بي من مشيبٍ كل محلالِ
وقوله:
فبت ألعبُها طوراً وتلعبُني ... ثم انصرفتُ وهي منى على بالِ
قوله: واحتل بي من مشيب كلّ محلال بغيضٌ خارج عن طريقة الاستعمال وأبغض منه قوله: وهي مني على بال.
وفيها:
وكبش ملمومة بادٍ نواجذُها ... شهباء ذات سرابيلٍ وأبطالِ
السرابيل: الدروع، فلو وضع السيوف موضع الدروع لكان أجود.
وفيها:
أوجرتُ جفرتهُ خرصاً فمالَ به ... كما انثنى خضدٌ من ناعِم الضّال
النصف الثاني أكثر ماءً من النصف الأول.
وفيها:
وقهوةٍ كرضابِ المسك طالَ بها ... في دنِّها كرُّ حولٍ بعدَ أحوالِ
هذا البيت متوسط.
باكرتُها قبلَ أن يبدُو الصّباحُ لنَا ... في بيتِ منهمرِ الكفّينِ مفضالِ
النصف الثاني أجودُ من النصف الأول.
وقوله:
أما إذا دعيتْ نزال فإنهم ... يجثون للركبات في الأبدَانِ
هذا ردئ الرّصف.
وبعده:
فخلدت بعدَهم ولستُ بخالد ... والدهرُ ذو غيرٍ وذو ألوانِ
متوسط.
وبعده:
إلاَّ لأعلم ما جهلتُ بعقبِهم ... وتذكرى ما فاتَ أيّ أوانِ
مختلّ النظم، ومعناه لست بخالد إلا لأعلم ما جهلت، وتذكري ما فات، أيّ أوانٍ كان.
وقول انمر بن تولب:
لعمرِي لقد أنكرتُ نفسي ورابني ... مع الشّيب أبدالي التي أتبدلُ
فضولٌ أراهَا في أديميَ بعدَما ... يكون كفاف اللّحم أو هو أفضلُ
بطئٌ عن الدَّاعي، فلستُ بآخذٍ ... سلاحي إليه مثلَ ما كنتُ أفعلُ
كأنّ محطّاً في يدي حارثيَّةٍ ... ضباعٍ علتْ مني به الجلدَ من علُ
تدارك ما قبلَ الشبابِ وبعده ... حوادثُ أيَّامٍ تمرُّ وأغفلُ
يودُّ الفتى طولَ السّلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامةِ تفعلُ
يردُّ الفتى بعد اعتدالٍ وصحّةٍ ... ينوءُ إذا رام القيامَ ويحملُ
فهذه الأبيات جيدة السبك حسنة الرصف.
وفيها:
فلا الجارة الدُّنيا لها تلحينَّها ... ولا الضيف فيها إن أناخَ محوَّلُ
فالنّصف الأول مختلٌّ، لأنه خالف فيه وجه الاستعمال، ووجه أن يقول: فهي لا تلحى الجارة الدنيا، أي القريبة.
وكذلك قوله:
إذا هتكتْ أطناب بيتٍ وأهله ... بمعطنها لم يوردوا الماء قيّلوا
هذا مضطربٌ لتناوله المعنى من بعيد. ووجهُ الكلام أن يقول: إذا دنت إبلُنا من حيّ ولم ترد إبلهم الماء قيلوا من إبلنا. والقيل: شرب نصف النهار.
وأشدُّ اضطراباً منه قوله:
وما قمعنا فيه الوطاب وحولنا ... بيوتٌ علينا كلها فوه مقبلُ

ووجهُ الكلام: أن يقول: لسنا نحقن اللبن فنجعل الأقماع في الوطاب، لأنّ حولنا بيوت أفواههم مقبلةٌ علينا، يرجون خيرنا، فاضطرب نظمُ هذه الأبيات لعدوٍ لها عن وجه الاستعمال.
ومثله:
رأتْ أمّنا كيصا يلفّف وطبَه ... إلى الأنُس البادينَ فهو مزمّل
فقالت فلان قد أغاثَ عيالَه ... وأودَى عيالٌ آخرون فهزّلُوا
ألم يكُ ولدانٌ أعانوا ومجلسٌ ... قريب فيجرى إذ يكفّ ويجملُ
الكيص: الذي ينزل وحده. والوطب: وعاء اللبن. والأنس البادون: أهله لأنه يرده إليهم، فمنهم من يتذمم فيسقى لبنه ومنهم من يرده كيصا مثل فعل الذي ينزل وحده. مزمل: مبرد.
فهذه الأبيات سمجة الرّصف، لأنّ الفصيح إذا أراد أن يعبّر عن هذه المعاني، ولم يسامح نفسه عبّر عنها بخلاف ذلك.
وكان القوم لا ينتقد عليهم، فكانوا يسامحون أنفسهم في الإساءة.
فأما مثال الحسن الرّصف من الرسائل فكما كتب بعضهم: ولولا أنَّ أجود الكلام ما يدلّ قليله على كثيره، وتغنى جملته عن تفصيله، لو سّعتُ نطاق القول فيما انطوى عليه من خلوص المودّة، وصفاء المحبة، فجال مجال الطّرف في ميدانه، وتصرّف تصرّف الرّوض في افتنانه، لكن البلاغة بالإيجاز أبلغ من البيان بالإطناب.
ومن تمام حسنِ الرصف أن يخرج الكلام مخرجاً يكون له فيه طلاوةٌ وماءٌ، وربما كان الكلام مستقيم الألفاظ، صحيح المعاني، ولا يكون له رونق ولا رواء، ولذلك قال الأصمعي لشعر لبيد: كأنه طيلسان طبراني، أي هو محكم الأصل ولا رونق له.
والكلام إذا خرج في غير تكلّف وكد وشدّة تفكر وتعمّل كان سلساً سهلاً، وكان له ماء ورواء ورقراق، وعليه فرند لا يكون على غيره مما عسر بروزه واستكره خروجه، وذلك مثل قول الحطيئة:
همُ القومُ الذين إذا ألمّت ... ومن الأيام مظلمة أضاءوا
وقوله:
لهم في بني الحاجل أيد كأنها ... تساقطُ ماءِ المزنِ في البلدِ القفرِ
وكقول أشجع:
قصرٌ عليه تحيةٌ وسلامُ ... نشرتْ عليه جمالَها الأيَّامُ
وإذا سيوفك صافحتْ هامَ العدَا ... طارتْ لهنَّ عن الفراخِ الهامُ
برقتْ سماؤك للعدوِّ فأمطرتْ ... هاماً لها ظلُّ السيوفُ غمام
رأى الإمام وعزمهُ وحسَامه ... جندٌ وراءَ المسلمينَ قيامُ
وكقول النمر:
خاطرْ بنفسك كيْ تصيبَ غنيمةً ... إنّ الجلوسَ مع العيالِ قبيحُ
فالمالُ فيه تجلَّةٌ ومهابةٌ ... والفقرُ فيه مذلة وقبُوح
وكقول الآخر:
نامت جدودهم وأسقط نجمُهم ... والنجمُ يسقط والجدودُ تنامُ
وكقول الآخر:
لعن الإله تعّلة بن مسافرٍ ... لعناً يشنُّ عليه من قدَّام
ففي هذه الأبيات مع جودتها رونق ليس في غيرها مما يجرى مجراها في صحة المعنى وصواب اللفظ.
ومن الكلام الصحيح المعنى واللفظ، القليل الحلاوة العديم الطلاوة قول الشاعر:
أرى رجالاً بأدنى الدّين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدّونِ
فاستغنِ بالله عن دنيا الملوكِ كما اس ... ستغنى الملوك بدنيَاهم عن الدِّينِ
ومن الشعر المستحسن الرونق قول دعبل:
وإنَّ امرءاً أمستْ مساقطُ رحله ... بأسوانَ لم يتركْ له الحرصُ معلمَا
حللتُ محلاًّ يقصرُ البرق دونَهُ ... ويعجز عنه الطيفُ أن يتجشَّما

الباب الخامس
ذكر الإيجاز والإطناب
فصلان
الفصل الأول من الباب الخامس
في ذكر الإيجاز
قال أصحاب الإيجاز: الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضلٌ داخل في باب الهذر والخطل، وهما من أعظم أدواء الكلام، وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة.
وفي تفضيل الإيجاز يقول جعفر بن يحيى لكتّابه: إن قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا.
وقال بعضهم: الزيادة في الحدّ نقصان. وقال محمد الأمين: عليكم بالإيجاز فإنَّ له إفهاما، وللإطلالة استبهاما. وقال شبيب بن شبة: القليل الكافي خيرٌ من كثير غير شاف. وقال آخر: إذا طال الكلام عرضت له أسباب التكلّف، ولا خير في شيء يأتي به التكلّف. وقد قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: الإيجاز. قيل: وما الإيجاز؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد.

وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول لرجل: كفاك الله ما أهمّك. فقال: هذه البلاغة. وسمع آخر يقول: عصمك الله من المكاره. فقال: هذه البلاغة. وقوله صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم.
وقيل لبعضهم: لم لا تطيل الشّعر؟ فقال: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل ذلك لآخر، فقال: لستُ أبيعه مذارعة.
وقيل للفرزدق: ما صيّرك إلى القصائد القصار بعد الطوال؟ فقال: لأني رأيتها في الصدور أوقع، وفي المحافل أجول.
وقالت بنت الحطيئة لأبيها: ما بال قصارك أكثر من طوالك؟ فقال: لأنها في الآذان أولج، وبالأفواه أعلق. وقال أبو سفيان لابن الزبعري: قصرت في شعرك؟ فقال: حسبك من الشّعر غرّة لائحة، وسمةٌ واضحة.
وقيل للنابغة الذبياني: ألا تطيل القصائد كما أطال صاحبك ابن حجر؟ فقال: من انتحل انتقر.
وقيل لبعض المحدثين: مالك لا تزيد على أربعة واثنين؟ قال: هنّ بالقلوب أوقع، وإلى الحفظ أسرع، وبالألسن أعلق، وللمعاني أجمع، وصاحبها أبلغ وأوجز.
وقيل لابن حازم: ألا تطيل القصائد؟ فقال:
أبَى لِي أن أطيلَ الشعرَ قصدِي ... إلى المعنى وعلمِي بالصَّوابِ
وإيجازي بمختصرٍ قريبٍ ... حذفتُ به الفضولَ من الجوابِ
فأبعثهنَّ أربعةً وستّاً ... مثقفةً بألفاظٍ عذابِ
خوالدَ ما حَدَا ليلٌ نهاراً ... وما حسنَ الصّبا بأخي الشّبابِ
وهنّ إذا وسمتُ بهنَّ قوماً ... كأطواقِ الحمائم في الرّقابِ
وكنَّ إذا أقمتُ مسافراتٍ ... تهادَاها الرّواةُ مع الرّكابِ
وقال أمي المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ما رأيت بليغاً قطّ إلاّ وله في القول إيجاز، وفي المعاني إطالة.
وقيل لإياس بن معاوية: ما فيك عيبٌ غير أنك كثير الكلام. قال: أفتسمعون صواباً أم خطأ؟ قالوا: بل صواباً. قال: فالزيادة من الخير خيرٌ. وليس كما قال، لأنّ للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن مقدار الاحتمال دعا إلى الاستثقال، وصار سبباً للملال، فذلك هو الهذر والإسهاب والخطل، وهو معيب عند كل لبيب.
وقال بعضهم: البلاغة بالإيجاز أنجعُ من البيان بالإطناب. وقال: المكثار كحاطب الليل. وقيل لبعضهم: من أبلغ الناس؟ قال: من حلّى المعنى المزبز باللفظ الوجيز، وطبّق المفصل قبل التحزيز.
المزيز: الفاضل، والمزّ: الفضل. وقوله: " وطّبق المفصل قبل التّحزيز " . مأخوذ من كلام معاوية رضى الله عنه وهو قوله لعمرو بن العاص لما أقبل أبو موسى: يا عمرو، إنه قد ضمّ إليك رجلٌ طويل اللسان، قصير الرأي والعرفان، فأقلل الحزّ، وطبّق المفصل، ولا تلقَه بكلّ رأيك. فقال عمرو: أكثر من الطعام، وما بطن قومٌ إلا فقدوا بعض عقولهم.
والإيجاز: القصر والحذف.
فالقصر تقليل الألفاظ، وتكثير المعاني، وهو قول الله عزّ وجل: " ولكم في القصاص حياةٌ " .
ويتبيّن فضل هذا الكلام إذا قرنته بما جاء عن العرب في معناه، وهو قولهم: " القتل أنفى للقتل. فصار لفظ القرآن فوق هذا القول لزيادته عليه في الفائدة، وهو إبانة العدل لذكر القصاص وإظهار الغرض المرغوب عنه فيه لذكر الحياة، واستدعاء الرّغبة والرّهبة لحكم الله به ولإيجازه في العبارة. فإنّ الذي هو نظير قولهم: " القتلُ أنفى للقتل " إنما هو " القصاص حياة " وهذا أقلّ حروفاً من ذاك، ولبعده من الكلفة بالتكرير، وهو قولهم: " القتل أنفى للقتل " . ولفظ القرآن برئ من ذلك، وبحسن التأليف وشدة التلاؤم المدرك بالحسّ، لأنَّ الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة.

ومن القصر أيضاً قوله تعالى: " إذاً لذهب كلّ إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " لا يوازي هذا الكلام في الاختصار شيء. وقوله تعالى " يا أيّها الناسُ إنما بغيكُم على أنفسكمْ " . وقوله عزّ اسمه: " ولا يحيقُ المكرُ السيئُ إلا بأهله " وإنما كان سوء عاقبة المكر والبغي راجعاً عليهم وحائقاً بهم، فجعله للبغي والمكر اللّذين هما من فعلهم إيجازاً واختصاراً. وقوله سبحانه: " أفنضرب عنكم الذّكر صفحاً " . وقوله تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم " . وقوله تعالى: " فلما استيأسوا منه خلصوا نجيّاً " تحيّر في فصاحته جميع البلغاء، ولا يجوز أن يوجد مثله في كلام البشر. وقوله تعالى: " ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " . وقوله تعالى: " يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماءُ أقلِعي " الآية. تتضمّن مع الإيجاز والفصاحة دلائل القدرة. وقوله تعالى: " ألا له الخلق والأمر " كلمتان استوعبتا جميع الأشياء على غاية الاستقصاء. وروى أن ابن عمر رحمه الله قرأها، فقال: من بقي له شيء فليطلبه. وقوله تعالى: " واختلاف ألسنتكم وألوانكُم " اختلاف اللغات والمناظر والهيئات. وقوله تعالى في صفة خمر أهل الجنّة: " لا يصّدّعون عنها ولا ينزفون " انتظم قوله سبحانه ولا ينزفون عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب. وقوله تعالى: " أولئك لهم الأمن " دخل تحت الأمن جميع المحبوبات، لأنه نفى به أن يخافوا شيئاً أصلاً من الفقر والموت وزوال النّعمة والجور، وغير ذلك من أصناف المكاره، فلا ترى كلمة أجمع من هذه.
وقوله عز وجل: " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " جمع أنواع التّجارات، وصنوف المرافق التي لا يبلغها العدّ والإحصاء. ومثله قوله سبحانه: " ليشهدوا منافع لهم " جمع منافع الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر " ثلاث كلمات تشتمل على أمر الرسالة وشرائعها وأحكامها على الاستقصاء، لما في قوله فاصدع من الدلالة على التأثير، كتأثير الصدع.
وقوله تعالى: " وكلّ أمرٍ مستقر " ثلاث كلمات اشتملت على عواقب الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: " وله ما سكن في الليل والنهار " وإنما ذكر الساكن ولم يذكر المتحرّك، لأنَّ سكون الأجسام الثقيلة مثل الأرض والسماء في الهواء من غير علاقة ودعامة أعجب وأدلّ على قدرة مسكنها.
وقوله عز وجل: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " فجمع جميع مكارم الأخلاق بأسرها، لأنّ في العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالعرف تقوى الله وصلة الرّحم، وصون اللسان عن الكذب، وغضّ الطّرف عن الحرمات، والتبرّؤ من كل قبيح، لأنه لا يجوز أن يأمر بالمعروف وهو يلابس شيئاً من المنكر، وفي الإعراض عن الجاهلين الصّبر والحلم وتنزيه النفس عن مقابلة السفيه بما يوتغ الدين ويسقط القدرة.
وقوله تعالى: " أخرج منها ماؤها ومرعاها " ، فدلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للناس، من العشب والشجر والحطب واللّباس والنّار والملح والماء، لأنّ النار من العيدان والملح من الماء، والشاهد على أنّه أراد ذلك كلّه قوله تعالى: " متاعاً لكم ولأنعامكم " .
وقوله تعالى: " تسقَى بماءٍ واحدٍ ونفضِّ بعضها على بعضٍ في الأكل " ، فانظر هل يمكن أحداً من أصناف المتكلمين إيراد هذه المعاني في مثل هذا القدر من الألفاظ.
وقوله عز وجل: " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " جمع الأشياء كلها حتى لا يشذّ منها شيء على وجه.
وقوله تعالى: " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين " جمع فيه من نعم الجنة ما لا تحصره الأفهام، ولا تبلغه الأوهام.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدِّمن " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " حبّك الشيء يعمِي ويصم " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنّ من البيان لسحراً " . وقوله عليه الصلاة والسلام: " مما ينبُ الربيعُ ما يقتل حبطاً أو يلمّ " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " الصحة والفراغ نعمتان " . وقوله عليه الصلاة والسلام: " نيّة المؤمن خيرٌ من عمله " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " ترك الشرّ صدقة " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " الحمى في أصول النخل " .
فمعاني هذا الكلام أكثر من ألفاظه، وإذا أردت أن تعرف صحّة ذلك فحلها وابنها بناء آخر، فإنّك تجدها تجئ في أضعاف هذه الألفاظ.

قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أعطاك الله خيراً فليبين عليك، وابدأ بمن تعول وارتضح من الفضل، ولا تلم على الكفاف، ولا تعجز عن نفسك " .
وقوله صلى الله عليه وسلم: فليبن عليك أي فليظهر أثره عليك بالصدقة والمعروف، ودلّ على ذلك بقوله: " وابدأ بمن تعول، وارتضخ من الفضل " ، أي اكسر من مالك وأعط، واسم الشيء الرضيخة. " ولا تعجز عن نفسك " أي لا تجمع لغيرك وتبخل عن نفسك، فلا تقدّم خيراً.
وقول أعرابي: اللهم هب لي حقك، وأرض عن خلقك.
وقال آخر: أولئك قومٌ جعلوا أموالهم مناديل لأعراضهم، فالخيرُ بهم زائد، والمعروف لهم شاهد، أي يقون أعراضهم بأموالهم.
وقيل لأعرابي يسوق مالاً كثيراً: لمن هذا المال؟ فقال: لله في يدي.
وقال أعرابي لرجل يمدحه: إنه ليعطي عطاء من يعلم أنّ الله مادته.
وقول آخر: أما بعد فعظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك، واستحى من الله بقدر قربه منك، وخفه بقدر قدرته عليك.
وقال آخر: إن شككت فاسأل قلبك عن قلبي.
ومما يدخل في هذا الباب المساواة، وهو أن تكون المعاني بقدر الألفاظ والألفاظ بقدر المعاني لا يزيد بعضها على بعض، وهو المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب، وإليه أشار القائل بقوله: كأنّ ألفاظه قوالب لمعانيه، أي لا يزيد بعضها على بعض.
فما في القرآن من ذلك قوله عزّ وجل: " حورٌ مقصوراتُ في الخيام " . وقوله تعالى: " ودّوا لو تدهن فيدهنون " ومثله كثير.
ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنما والزكاة مغرما " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " إياك والمشارّة فإنها تميت الغرّة وتحي العرّة " .
ومن ألفاظ هذه الفصول ما كانت معانيه أكثر من ألفاظه، وإنما يكره تميزيها كراهة الإطالة.
ومن نثر الكتّاب قول بعضهم: سألت عن خبري وأنا في عافية لا عيب فيها إلا فقدك، ونعمة لا مزيد فيها إلا بك.
وقوله: علمتني نبوتك سلوتك، وأسلمني بأسى منك إلى الصّبر عنك. وقوله: فحفظ الله النعمة عليك وفيك، وتولّى إصلاحك والإصلاح لك، وأجزل من الخير حظّك والحظّ منك، ومنّ عليك وعلينا بك.
وقال آخر: يئست من صلاحك بي، وأخاف فسادي بك، وقد أطنب في ذم الحمار من شبّهك به.
ومن المنظوم قول طرفة:
ستبدى لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ
وقول الآخر:
تهدى الأمورُ بأهلِ الرّأي ما صلحتْ ... فإن تأبّت فبالأشرار تنقادُ
وقول الآخر:
فأمّا الّذي يحصيهم فمكثّر ... وأمّا الذي يطريهم فمقلّلُ
وقول الآخر:
أهابُكِ إجلالاً وما بكِ قدرةٌ ... عليَّ ولكن ملءُ عينٍ حبيبُها
وما هجرتْكِ النّفسُ أنكِ عندها ... قليلٌ، ولكن قلَّ منكِ نصيبها
وقول الآخر:
أصدّ بأيدي العيس عن قصد أهلِهَا ... وقلبِي إليها بالمودّة قاصدُ
وقول الآخر:
يقولُ أناسٌ لا يضيركَ فقدُها ... بلى كل ما شفّ النفوس يضيرها
وقال الآخر:
يطولُ اليومُ لا ألقاكَ فيه ... وحولٌ نلتَقِي فيه قصير
وقالوا: لا يضيرُكَ نأيُ شهرٍ ... فقلتُ لصاحبيّ: فمن يضير
قوله: لصاحبي يكاد يكون فضلاً.
وأما الحذف فعلى وجوه، مها أن تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه وتجعل الفعل له، كقوله الله تعالى: " واسأل القرية " ، أي أهلها.
وقوله تعالى: " وأشربوا في قلبوهم العجل " ، أي حبّه وقوله عز وجل: " الحجُّ أشهرٌ معلومات " ، أي وقت الحج وقوله تعالى: " بل مكرُ الليلِ والنهار " ، أي مكركم فيهما.
وقال المتنخل الهذلي:
يمشِّي بيننا حانوتُ خمرٍ ... من الخرس والصّراصرة القطاطِ
يعنى صاحب حانوت فأقام الحانوت مقامه.
وقال الشاعر:
لهمْ مجلسٌ صهبُ السّبال أذلَّةٌ ... سواسيةٌ أحرارُها وعبيدُها
يعنى أهل المجلس.
ومنها أن يوقع الفعل على شيئين وهو لأحدهما ويضمر للآخر فعله، وهو قوله تعالى: " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " معناه: وادعوا شركاءكم، وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود.
وقال الشاعر:
تراه كأنَّ اللهَ يجدعُ أنفَه ... وعينيه إنْ مولاهُ ثابَ له وفرُ
أي ويفقأ عينيه.
وقول الآخر:
إذا ما الغانياتُ برزنَ يوماً ... وزجّجنَ الحواجبَ والعيونَا

العيون لا تزجّج، وإنما أراد وكحّلنَ العيون.
ومنها أن يأتي الكلامُ على أنّ له جوابا فيحذف الجواب اختصاراً لعلم المخاطب، كقوله عزّ وجلّ: " ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبالُ أو قطّعتْ به الأرض " أو كلّمَ به الموتى بل للهِ الأمرُ جميعاً " أراد لكان هذا القرآن، فحذف.
وقوله تعالى: " ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه وأنّ الله رؤوفٌ رحيم " ، أراد لعذّبكم.
وقال الشاعر:
فأقسمُ لو شيءٌ أتانا رسولُه ... سواكَ ولكن لم نجد لك مدفعَا
أي لرددناه.
وقوله تعالى: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمّة قائمة " ، فذكر أمةً واحدة ولم يذكر بعدها أخرى، وسواء يأتي من اثنين فما زاد.
وكذلك قوله تعالى: " أمّنْ هو قانتٌ آناءَ الليلِ ساجداً وقائماً " ، ولم يذكر خلافه، لأنَّ في قوله تعالى: " قل هل يستِوي الّذين يعلمون والذين لا يعلمون " دليلاً على ما أراد.
وقال الشاعر:
أراد فما أدرى أهمٌّ هممتُه ... وذوالهمّ قدماً خاشعٌ متضائلُ
ولم يأت بالآخر.
وربما حذفوا الكلمة والكلمتين، كقوله تعالى: " فأما الذين اسودّتْ وجوهُهم أكفرتُم " . وقوله تعالى: " وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا " ، أي ووصّى بالوالدين إحسانا.
وقال النمر:
فإنَّ المنيّة من يخشَها ... فسوفَ تصادفَه أينما
أي أينما ذهب وقال ذو الرمة:
لعرفانها والعهدُ ناءٍ وقدْ بدا ... لذي نهية أن لا إلى أمّ سالمِ
المعنى أن لا سبيل إليها ولا إلى لقائها، فاكتفى بالإشارة إلى المعنى، لأنه قد عرف ما أراد، كما قال النمر بن تولب:
فلا وأبي الناس لا يعلمو ... ن لا الخير خير ولا الشر شر
أي ليسا بدائمين لأحد. والنهية: العقل، والجمع نهى.
وقوله تعالى: " في يوم عاصف " ، أي في يوم ذي عاصف. وقوله تعالى: " وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء " ، أي ولا من في السماء بمعجز.
ومثل قول الشنفري:
لا تدفنونِي إنّ دفنى محرَّمُ ... عليكم ولكن خامرِي أمَّ عامرِ
أي ولكن دعوني للتي يقال لها: خامري أمّ عامر إذا صيدت، يعنى الضبع.
ومنها القسم بلا جواب، كقوله تعالى: " ق والقرآن المجيد بل عجبوا " ، معناه والله أعلم: ق والقرآن المجيد لتبعثنّ، والشاهد ما جاء بعده من ذكر البعث في قوله: " أئذا متنا وكنا ترابا " .
ومن الحذف قوله تعالى: " إلاَّ كباسط كفّيه إلى الماء ليبلغَ فاهُ " ، أي كباسط كفّيه إلى الماء ليقبض عليه.
وقال الشاعر:
إني وإيّاكم وشوقاً إليكم ... كقابض ماءٍ لم تسقْهُ أناملُه
ومن الحذفِ إسقاط لا من الكلام في قوله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلّوا " ، أي " لأن لا تضلّوا " . وقوله تعالى: " أن تحبط أعمالكم " ، أي لا تحبط أعمالكم.
وقال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرحُ قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصَالِي
أي لا أبرح قاعدا.
وقال آخر:
فلا وأبي دهمانَ زالتْ عزيزةً ... على قومِها ما فتّل الزّند قادح
ومن الحذف أن تضمر غير مذكور، كقوله تعالى: " حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس بدأت في المغيب. وقوله تعالى: " ما ترك على ظهرها من دابّةٍ " يعني على ظهر الأرض. وقوله تعالى: " فأثرن به نقعاً " ، أي بالوادي. وقوله تعالى: " والنهار إذا جلاَّها " يعني الدنيا أو الأرض. " ولا يخاف عقباها " ، يعني عقبى هذه الفعلة.
وقول لبيد:
حتى إذا ألقتْ يداً في كافرٍ ... وأجنَّ عوراتِ الثُّغُور ظلامُها
يعني المس تبدا في المغيب.
وضربٌ منه آخر قوله تعالى: " واختار موسى قومه سبعين رجلا " ، أي من قومه.
وقال العجاج:
تحت الذي اختار له الله الشّجر
أي من الشجر وضربٌ منه ما قال تعالى في أول سورة الرحمن: " فبأيّ آلاء ربِّكما تكذِّبان " وذكر قبل ذلك الإنسان، ولم يذكر الجانّ ثم ذكره.
ومثله قول المثقب:
فما أدري إذا يمّمتُ أرضاً ... أريد الخير أيّهما يليني
أألخيرُ الذي أنا أبتغِييه ... أم الشر الذي هو يبتغِيني
فكنى عن الشر قبل ذكره، ثم ذكره.

ومن الحذف قوله تعالى: " يشترون الضّلالة ويريدون أن تضلّوا السّبيل " ، أراد يشترون الضلالة بالهدى. وقوله تعالى: " وتركنا عليه في الآخرين " ، أي أبقينا له ذكراً حسناً في الباقين فحذف الذكر. ومن ذلك قوله تعالى: " فبعث الله غراباً يبحثُ في الأرضِ " ، أي يبحث التّراب على غراب آخر ليواريَه، فيرى هو كيف يواري سوأة أخيه. وقوله تعالى: " فترى الّين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم " ، أي في مرضاتهم.
ومن الحذف قول صعصعة وقد سئل عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فقال: لم يقل فيه مستزيد: لو أنه، ولا مستقر: إنه، جمع الحلم، والعلم، والسلم، والقرابة القريبة، والهجرة القديمة، والبصر بالأحكام، والبلاء العظيم في الإسلام.
وقال علي رضي الله عنه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلّى أبو بكر، وثلت عمر، وخبطتنا فتنة فما شاء الله.
وقال القيسي: مازلت أمتطي النهار إليك، وأستدل لفضلك عليك، حتى إذا جنّنى الليل، فقبض البصر، ومحا الأثر، أقام بدني، وسافر أملي، والاجتهادُ عاذرٌ، وإذا بلغتك فقط.
فقوله: فقط من أحسن حذف وأجود إشارة.
وأخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن الزغل العبشمي، قال: حدثنا المبرد أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالداً، فقال: يا أخي، لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك. فقال خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولىّ عهد المسلمين فقال: إنّ خيلي مرّت به فعبث بها وأصغرني فيها. فقال: أنا أكفيك، فدخل على عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الوليد ابن أمير المؤمنين مرّت به خيل ابن عمّه عبد الله بن يزيد، فعبث بها وأصغره فيها. وعبد الملك مطرقٌ، ثم رفع رأسه وقال: " إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة " . فقال خالد: " وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنَا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرا " . فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلّمني، لقد دخل عليّ فما أقام لسانه لحناً؟ فقال خالد: أفعلى الوليد تعوّل؟ فقال عبد الملك: إن كان الوليدُ يلحن فإن أخاه خالد. فقال له الوليد: اسكت، فوالله ما تعدّ في العير ولا في النّفير. فقال اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل عليه فقال: ويحك فمن للعير والنّفير غيري؟ جدّي أبو سفيان صاحب العير، وجدّي عتبة بن ربيعة صاحب النّفير، ولكن لو قلت غنيمات وحبيلات الطّائف ورحم الله عثمان قلنا صدقت.
وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طرد الحكم بن أبي العاص فصار إلى الطائف يرعى غنيمة ويأوى إلى حبلة وهي الكرمة ورحم الله عثمان، أي لردّه إياه. فهذا حذفٌ بديع.
وكذلك قول عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإنّ أخاه سليمان. وقول خالد: إن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد، حذفٌ حسنٌ أيضاً. ومثل هذا كثيرٌ في كلامهم، ولا وجه لاستيعابه.
ومن الحذف الردئ قول الحارث بن حلزة:
والعيشُ خيرٌ في ظلا ... ل النوكِ ممّن عاشَ كدّا
وإنما أراد: والعيش الناعم خيرٌ في ظلال النوك من العيش الشاقّ في ظلال العقل، وليس يدلّ لحن كلامه على هذا، فهو من الإيجاز المقصر.
ومن الحذف الردئ أيضاً قول الآخر:
أعاذِل عاجلُ ما أشتهي ... أحبُّ من الأكثرِ الرائثِ
يعني عاجل ما أشتهي مع القلّة أحبّ إلىّ من رائثه مع الكثرة.
ومثله قول عروة بن الورد:
عجبت لهم إذْ يقتلونَ نفوسَهم ... ومقتلُهم عندَ الوغَى كانَ أعذرَا
يعني إذ يقتلون نفوسهم في السلم.
ومثله من نثر الكتّاب ما كتب بعضهم: فإنّ المعروف إذا زجا كان أفضل منه إذا توافر وأبطأ. وتمام المعنى أن يقول: " إذا قل وزجا " . فترك ما به يتمّ المعنى، وهو ذكر القلّة.
وكتب بعضهم: فما زال حتى أتلف ماله، وأهلك رجاله، وقد كان ذلك في الجهاد والإبلاء أحق بأهل الحزم وأولى. والوجه أن يقول: فإن إهلاك المال والرجال في الجهاد والإبلاء أفضل من فعل ذلك في الموادعة.
ومثل هذا مقصر غير بالغ مبلغ ما تقدم في هذا الباب من الحذف الجيد.
وأقبح من هذا كله قول الآخر:
لا يرمضون إذا جرَّتْ مشافرُهم ... ولا ترى مثلهُم في الطَّعنِ ميَّالا
ويفشَلُونَ إذا نادى ربيئهم ... ألا اركبنَّ فقد آنستُ أبطالا
أراد: ولا يفشلون فتركه، فصار المعنى كأنَّه ذمّ.

وقول المخبل في الزّبرقان:
وأبوكَ بدرٌ كان ينتهسُ الحصَى ... وأبى الجواد ربيعةُ بن قبالِ
فقال الزبرقان: لا بأس، شيخان اشتركا في صنعة.

الفصل الثاني من الباب الخامس في ذكر الإطناب
قال أصحاب الإطناب: المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يكون إلا بالإشباع، والشفاء لا يقع إلاّ بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشدّه إحاطةً بالمعاني، ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامّة إلاّ بالاستقصاء، والإيجاز للخواصّ، والإطناب مشتركٌ فيه الخاصة والعامة، والغبي والفطن، والريض والمريّاض، ولمعنى ما أطيلت الكتب السلطانية في إفهام الرعايا.
والقول القصد أنّ الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما في جميع الكلام وكلّ نوع منه، ولكلّ واحد منهما موضع، فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه، فمن أزال التدبير في ذل عن جهته، واستعمل الإطناب في موضع الإيجاز، واستعمل الإيجاز في موضع الإطناب أخطأ.
كما روى عن جعفر بن يحيى أنه قال مع عجبه بالإيجاز: متى كان الإيجاز أبلغ كان الإكثار عيّاً. ومتى كانت الكناية في موضع الإكثار كان الإيجاز تقصيراً.
وأمر يحيى بن خالد بن برمك اثنين أن يكتبا كتاباً في معنى واحد، فأطال أحدهما، واختصر الآخر، فقال للمختصر وقد نظر في كتابه: ما أرى موضع مزيد. وقال للمطيل: ما أرى موضع نقصان.
وقال غيره: البلاغة الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل. ولا شكّ في أنّ الكتب الصادرة عن السلاطين في الأمور الجسيمة، والفتوح الجليلة، وتفخيم النّعم الحادثة، والترغيب في الطاعة، والنّهي عن المعصية، سبيلها أن تكون مشبعة مستقصاة، تملأ الصدور، وتأخذ بمجامع القلوب، ألا ترى أنّ كتاب المهلب إلى الحجاج في فتح الأزارفة: الحمد لله الذي كفى بالإسلام فقد ما سواه، وجعل الحمد متصلاً بنعمته، وقضى ألاّ ينقطع المزيد من فضله، حتى ينقطع الشكر من خلقه، ثم إنّا كنا وعدوّنا على حالتين مختلفتين، نرى فيهم ما يسرّنا أكثر مما يسوءنا، ويرون فينا ما يسوؤهم أكثر مما يسرهم. فلم يزل ذلك دأبنا ودأبهم، ينصرنا الله ويخذلهم، ويمحّصنا ويمحقهم، حتى بلغ الكتاب بنا وبهم أجله، فقطع دابر القوم الذي ظلموا والحمد لله ربّ العالمين.
وإنما حسن في موضعه مع الغرض الذي كان لكاتبه فيه، فأما إن كتب مثله في فتح يوازي ذلك الفتح في جلالة القدر وعلوّ الخطر، وقد تطلّعت أنفس الخاصة والعامة إليه وتصرّفت فيه ظنونهم، فيورد عليهم مثل هذا القدر من الكلام في أقبح صورة وأسمجها وأشوهها وأهجنها كان حقيقاً أن يتعجّب منه.
وكذلك لو كتب عن السلطان في العدل والتوبيخ وما تجب القلوب منه من التغيير والتفكير بمثل ما روى أن الوليد بن يزيد كتب إلى والي العراقين حين عتب عليه: إني أراك تقدّم في الطاعة رجلاً وتؤخّر أخرى، فاعتمد على أيتهما شئت، والسلام.
وبمثل ما كتب جعفر بن يحيى إلى عامل شكى: قد كثر شاكوك، وقلّ شاكروك، فإمّا عدلت، وإما اعتزلت.
ومثل هذا ما كتب به بعض الكتّاب إلى عامله على الخراج، وقد وقع عليه تحاملٌ على الرعيّة: إنّ الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا ستنزر بمثل الجور.
فهذا الكلام في غاية الجودة والوجازة، ولكن لا يصلح من مثل صاحبه وبالإضافة إلى حاله، فالإطناب بلاغة، والتطويل عيٌّ، لأن التطويل بمنزلة سلوك ما يبعد جهلاً بما يقرب. والإطناب بمنزلة سلوك طريق بعيد نزه يحتوي على زيادة فائدة.
وقال الخليل: يختصر الكتاب ليحفظ، ويبسط ليفهم. وقيل لأبي عمرو ابن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم، كانت تطيل ليسمع منها، وتوجز ليحفظ عنها.
والإطناب إذا لم يكن منه بدٌّ إيجاز، وهو في المواعظ خاصّة محمود، كما أن الإيجاز في الإفهام محمود ممدوح.
والموعظة كقول الله تعالى: " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمنُ مكرَ اللهِ إلى القومُ الخاسرون " . فتكرير ما كرّر من الألفاظ ها هنا في غاية حسن الموقع.
وقيل لبعضهم: متى يحتاج إلى الإكثار؟ قال: إذا عظم الخطب. وأنشد:
صموتٌ إذا ما الصّمتُ زيَّن أهلهُ ... وفتّاق أبكارِ الكلامِ المحبّرِ
وقال آخر:

يرمونَ بالخطبِ الطّوالِ وتارةً ... وحيَ الملاحظِ خشيةَ الرُّقباءِ
وقال بعضهم:
إذا ما ابتدى خاطباً لم يقلْ ... له أطِلِ القولَ أو قصّرِ
طبيبٌ بداءِ فنونِ الكلا ... مِ لم يعي يوماً ولم يهذِرِ
فإنْ هو أطنبَ في خطبةٍ ... قضى للمطيلِ على المقصِر
وإنْ هوَ أوجزَ في خطبةٍ ... قضى للمقلِّ على المكثرِ
ووجدنا الناس إذا خطبوا في الصّلح بين العشائر أطالوا، وإذا أنشدوا الشّعر بين السّماطين في مديح الملوك أطنبوا، والإطالة والإطناب في هذه المواضع إيجاز.
وقيل لقيس بن خارجة: ما عندك في حمالات داحس؟ قال: عندي قرا كلّ نازل، ورضا كلّ ساخط، وخطبة من لدن مطلع الشّمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتّواصل وأنهى عن التقاطع. فقيل لأبي يعقوب الخريمي: هلا اكتفى بقوله: " آمر فيها بالتواصل " عن قوله: " وأنهى عن التقاطع " ؟ فقال: أو ما علمت أنّ الكناية والتعريض لا تعمل عمل الإطناب والتكشيف.
وقد رأينا الله تعالى إذا خاطب العربَ والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا.
فمما خاطب به أهل مكّة قوله سبحانه: " إنَّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا، ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهُم الذُّبابُ شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعفَ الطالبُ والمطلوب " . وقوله تعالى: " إذاً لذهبَ كلٌّ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " . وقوله تعالى: " أو ألقى السَّمع وهو شهيد " ، في أشباه لهذا كثيرة.
وقل ما تجد قصةً لبني إسرائيل في القرآن إلا مطوّلة مشروحة ومكرّرة في مواضع معادة، لبعد فهمهم كان، وتأخّر معرفتهم.
وكلام الفصحاء إنما هو شوب الإيجاز بالإطناب والفصيح العالي بما دون ذلك من القصد المتوسّط، ليستدلّ بالقصد على العالي، وليخرج السامع من شيء إلى شيء فيزداد نشاطه وتتوفّر رغبته، فيصرفوه في وجوه الكلام إيجازه وإطنابه، حتى استعملوا التكرار ليتوكّد القول للسامع.
وقد جاء في القرآن وفصيح الشعر منه شيءٌ كثير، فمن ذلك قوله تعالى: " كلاّ سوف تعلمون، ثم كلاّ سوف تعلمون " . وقوله تعالى: " فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسرِ يسرا " . فيكون للتوكيد كما يقول القائل: ارم ارم، واعجل اعجل. وقد قال الشاعر:
كم نعمةٍ كانتْ لكمْ ... كمْ كمْ وكم كانتْ وكمْ
وقال آخر:
هلاَّ سألت جموع كندَ ... ة يومَ ولّوا أبنَ أينَا
وإنما جاءوا بالصّفة وأرادوا توكيدها فكرهوا إعادتها ثانية، فغيّروا منها حرفا، ثم أتبعوها الأولى، كقولهم: عطشان نطشان كرهوا أن يقولوا: عطشان عطشان، فأبدلوا من العين نونا. وكذلك قالوا: حسن بسن. وشيطان ليطان، في أشباه له كثيرة.
وقد كّرر الله عزّ وجل في سورة الرحمن قوله: " فبأيِّ آلاءِ ربّكما تكذّبان " ، وذلك أنه عدَّد فيها نعماءه وأذكر عباده آلاءه، ونبّههم على قدرها، وقدرته عليها، ولطفه فيها، وجعلها فاصلة بين كل نعمة ليعرف موضع ما أسداه إليهم منها.
وقد جاء مثل ذلك عن أهل الجاهلي، قال مهلهل:
على أن ليسً عدلاً من كليبٍ
فكرّرها في أكثر من عشرين بيتاً.
وهكذا قول الحارث بن عبّاد:
قرّبا مربط النعامة منّي
كرّرها أكثر من ذلك، هذا لمّا كانت الحاجةُ إلى تكريرها ماسّة، والضرورة إليه داعية، لعظم الخطب، وشدّة موقع الفجيعة، فهذا يدلّك على أنّ الإطنابَ في موضعه عندهم مستحسن، كما أنَّ الإيجاز في مكانه مستحبّ.
ولا بدَّ للكاتب في أكثر أنواع مكاتباته من شعبة من الإطناب يستعملها إذا أراد المزاوجة بين الفصلين، ولا يعاب ذلك منه. وذلك مثل أن يكتب: عظمت نعمنا عليه، وتظاهر إحساننا لديه. فيكون الفصل الأخير داحلا في معناه في الفصل الأول، وهو مستحن لا يعيبه أحد.
ولما أحيط بمروان قال خادمه باسل: من أغفل القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفّي حتى يظهر أصابه مثل هذا.
وهذا كلام في غاية الحسن، وإن كان معنى الفصلين الأخيرين داخلا في الفصل الأول.
وهكذا قول الشاعر:
إن شرخَ الشّبابِ والشعر الأسْ ... ود ما لم يعاصَ كانَ جنُونا
فالشعر الأسود داخل في شرخ الشباب.
وكذلك قول أبي تمام:
رب خفضٍ تحتَ السرَى وغناءٍ ... من عناءٍ ونضرةٍ من شحوبِ

الغناء داخلٌ في الخفض، والعناءُ داخلٌ في السّرى فاعلم.
وممّا هو أجلّ من هذا كلّه قول الله عز وجل: " إنّ الله يأمر بالعدلِ والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " ، فالإحسان داخلٌ في العدل، وإيتاء ذي القربى داخلٌ في الإحسان، والفحشاء داخلٌ في المنكر، والبغي داخلٌ في الفحش.
وهذا يدلّ على أنّ أعظم مدار البلاغة على تحسين اللّفظ، لأنّ المعاني إذا دخل بعضها في بعض هذا الدخول، وكانت الألفاظ مختارة حسن الكلام، وإذا كانت مرتبة حسنة المعارض سيئة كان الكلام مردوداً. فاعتمد على ما مثّلته لك، وقس عليه إن شاء الله.

الباب السادس
حسن الأخذ وحل المنظوم
فصلان
الفصل الأول من الباب السادس
في حسن الأخذ
ليس لأحد من أصناف القائلين غنىً عن تناول المعاني ممّن تقدّمهم والصعبّ على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظاً من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويوردوها في غير حليتها الأولى، وبزيدوها في حسن تأليفها وجودة تركيبها وكمال حليتها ومعرضها، فإذا فعلوا ذلك فهم أحقّ بما ممّن سبق إليها، ولولا أنّ القائل يؤدّى ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطقُ الطّفلُ بعد استماعه من البالغين.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه: لولا أن الكلام يعاد لنفد. وقال بعضهم: كل شيء ثنيته قصر إلاّ الكلام فإنّك إذا ثنيته طال. على أنّ المعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيّد للسوقيّ والنبطي والزّنجي، وإنما تتفاضلُ الناس في الألفاظ ورصفها وتأليفها ونظمها. وقد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدّم من غير أن يلمَّ به، ولكن كما وقع للأوّل وقع للآخر. وهذا أمرٌ عرفته من نفسى، فلستُ أمتري فيه، وذلك أنّي عملت شيئاً في صفة النساء:
سفرنَ بدوراً وانتقبنَ أهلَّةً
وظننتُ أني سبقتُ إلى جمع هذين التشبيهين في نصف بيت، إلى أن وجدته بعينه لبعض البغداديين، فكثر تعجّبي، وعزمتُ على ألا أحكم على المتأخّر بالسّرق من المتقدّم حكما حتماً.
وسمعت ما قيل: إنّ من أخذ معنى بلفظه كان له سارقا، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخا، ومن أخذه فكساه لفظاً من عنده أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدّمه.
وقالوا: إن أبا عذرة الكلام من سبك لفظه على معناه، ومن أخذ معنى بلفظه فليس له فيه نصيب.
على أنّ ابتكار المعنى والسّبق إليه ليس هو فضيلة يرجع إلى المعنى، وإنما هو فضيلةٌ ترجع إلى الذي ابتكره وسبق إليه، فالمعنى الجيّد جيّدٌ وإن كان مسبوقاً إليه، والوسط وسط، والردئ ردئ، وإن لم يكونا مسبوقاً إليهما.
وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم، فليس على أحد فيه عيبٌ إلاّ إذا أخذه بلفظه كلّه، أو أخذه فأفسده، وقصّر فيه عمّن تقدمه، وربما أخذ الشاعر القول المشهور ولم يبال، كما فعل النابغة فإنه أخذ قول وهب بن الحارث ابن زهرة:
تبدو كواكِبه والشمسُ طالعَةِ ... تجري على الكاسِ منه الصّابُ والمقرُ
وقال النابغة:
تبدُو كواكبُه والشمسُ طالعةِ ... لا النّور نورٌ ولا الإظلام إظلامُ
وأخذ قول رجل من كندة في عمرو بن هند:
هو الشمس وافتْ يومَ دجنٍ فأفضلتْ ... على كلِّ ضوءِ والملوك كواكبُ
فقال:
بأنكَ شمسٌ والملوكُ كواكب ... إذا طلعتْ لم يبدُ منهنَّ كوكبُ
وسنشبع القول في هذا الباب.
والحاذق يخفى دبيبه إلى المعنى يأخذه في سترة فيحكم له بالسّبق إليه أكثر من يمرّ به.
وأحد أسباب إخفاء السّرق أن يأخذ معنى من نظم فيورده في نثر، أو من نثرٍ فيورده في نظم، أو ينقل المعنى المستعمل في صفة خمر فيجعله في مديح، أو في مديح فينقله إلى وصف، إلا أنه لا يكمل لهذا إلا المبرّز، والكامل المقدّم، فممّن أخفى دبيبه إلى المعنى وستره غاية السّتر أبو نواس في قوله:
أعطتكَ ريحانَهَا العقارُ ... وحانَ من ليلكَ انسفارُ
إن كان قد أخذه من قول الأعشى، على ما حكوا، فقد أخفاه غاية الإخفاء، وقول الأعشى:
وسبيئةٍ ممَّا تعتِّقُ بابل ... كدم الذبيح سلبتُها جربالهَا

أقسام الكتاب
1 2 3