كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

همام تبيت المأثرات همومه ... فيصبح منها بين مغنى ومغنم
بعيد حدود الفضل لا صفةً له ... سوى أنّه من جوهر متجسّم
صفا فلو انّ الشّمس تعطى شعاعه ... لما احتجبت في ليل أربد أقتم
ورقّ فلولا أن فيه جزالة ... من البأس لاستنشقته في التّنسّم
كأنّ سجاياه ربيع مفوّف ... تفتّح عن زهر نضير منعّم
كأن تخاطيط الحياة بخدّه ... حواشي رداء مذهب النّسج معلم
كأنّ سنا مرآه في جود كفّه ... سنا الشمس ... في حِبا الغيث ينهمي
كأنّ الذي في نوره من تلألؤ ... شقيق الذي في ناره من تضرّم
كأنّ تواقيع الرضا بعد سخطه ... مواقع مزن في عواقب صيلم
كأن مذاقيه لياناً وشدّة ... حلاوة شهد في مرارة علقم
كأنّ لدى هيباته وهِباته ... جنى جنّة محفوفة بجهنّم
كأنّ ثبوت الراسيات ثبوته ... إذا خفّ من خوف الرّدى كلّ محجم
كأنّ أديم الأرض راحة كفّه ... وفي بسطها قبض على كلّ مجرم
منها:
إذا ضلّ أملاك الزمان فإنّه ... الى رشده أهدى من اليد للفم
يزفّ الى الأعداء من حومة الوغى ... عروس خمار عطرها عطر منشم
ويركب في أرحالهم ظهر شيظم ... فيحملهم منهم على ظهر شيهم
فيرجوه حتى الطير مما تعوّدت ... بلحم عداه مطعماً بعد مطعم
نفى العدم حتى ردّ كل مكانة ... وأغرب من عنقائها شخص معدم
ومنها في وصف مراكب الغزو:
لك المنشآت الجاريات كأنّها ... ضواري شواهين على الماء حوّم
فظلّت بها بين النّواظر والكرى ... فمن محرم يسري الخيال لمحرم
حمدنا لها فضل التأخّر إنّه ... يقال يكون الفضل للمتقدّم
أقامت عذاري بالعذارى حواملاً ... ولم تر إلا أن تجيء بتوأم
هي الغيد وافت منك في العيد عيدها ... فمن موسم في موسم طيّ موسم
محاسن آثار ... لو تمثّلت ... بمثل شجي كان عدّة أرهم
وقوله من أخرى يمدحه ويهنّيه بعيد النّحر، استهلالها:
غنّته في شجر الأراك بلابل ... فتحرّكت في الصدر منه بلابل
وتذكّر العهد القديم فشاقه ... وتذكّر الأحباب شغل شاغل
أيّام للنّعمى عليه رفارف ... ولطلّ أوراق الشباب ذلاذل
والعيش يقطر نضرة فكأنّه ... خدّ به ماء الشبيبة جائل
والسّجف مرفوع عن القمر الذي ... قمر الدّجنّة من سناه آفل
غصن تحرّك في الحليّ وفي الحلى ... عن مائل قلبي إليه مائل
ومخيّم بين الجوانح راحل ... تحكي سلالتهنّ لمّة راحل
وسنان ورد جماله في خدّه ... غضّ ونرجس مقلتيه ذابل
كرمت عليه لواحظي بدموعها ... ذلاً له وهو العزيز الباخل
وكأنّما هي في السّماحة طيّئ ... وكأنّما هو في السماحة وابل
يا صاحب الحدق التي قد ضمّنت ... من سحرها ما لم تضمّن بابل
ومنها المخرج الى المدح:
عذلوا عليك وخنت عهد مبشّر ... إن كنت أعلم ما يقول العاذل
ملك تهلّل واستهلّ فخلته ... صبحاً منيراً فيه غيث وابل
وكأنّما نَوْر الربيع ونُوره ... في الحسن أخلاق له وشمائل
وكأنّ نشر زمانه مع بشره ... بكر لأيّام الصبا وأصائل
أغنى العفاة عن السؤال تبرّعاً ... بالجود حتى ليس يوجد سائل
وأخاف في الأجم الأسود فلم يكن ... ليصول منها في البسيطة صائل
منها:

وكأنّ سطوته معاينة الرّدى ... وغرار صارمه القضاء النازل
حبك السّحاب دروعه لكن له ... فوق السحاب من الصباح غلائل
ساع بنور الهدي في صون الذي ... هو للمكارم من يديه باذل
فمواطن الأقدام منه مشاعر ... ومحاسن الأفعال منه مشاغل
لو رام رُومَةَ جاءه أربابها ... والبيض أغلال لهم وسلاسل
ولو الجبال يهزّها ليهدّها ... عادت أعاليها وهنّ أسافل
منها:
يعطي ويمطي العالمين ففضّة ... أو عسجد أو سابح أو صاهل
أو ملبس نسج النعيم جلاله ... نسج الربيع وقد سقاه الهطل
وقفت عليه من النفوس بواطن ... وظواهر وأواخر وأوائل
وتجاذبته مشارق ومغارب ... فتلطّفته وسائل ورسائل
ولقلّ ذاك فإنّه القرم الذي ... شمل البريّة منه فضل شامل
لكم إذا اختصم الملوك لمفخر ... حسب يناظر عنكم ويناضل
فسخت مكارمكم مكارم غيركم ... والحق يفسخ ما يخطّ الباطل
أضحى بك الإضحى رياضاً تُجتلى ... وضح السرور به ونيل النائل
زرت المصلّى يومه في جحفل ... أعلامه للعالمين مواثل
غدر الحديد عليهم وكأنّما ... بأكفّهم للمرهفات جداول
وأتاك جيشهم على الجيش الذي ... يختال بالمحمول منه الحامل
ومن الجنائب في الطريق جنائب ... حسنت فقلنا إنّهنّ عقائل
مرحت فقلت قطا البطاح وربّما ... رُفِعَتْ هواديها، فقلت مطائل
وقوله من قصيدة يمدحه ويصف النيروز والملاهي التي حضرت بين يديه، أوّلها:
عاوده الشوق وكان استراح ... وانبرت الطير تغنّي فناح
ذكّره عهدَ الصبا ساجع ... مدّ جناحاً والتوى في جناح
بلّله قطر الندى فاغتدى ... ينفض ريشاً سندسيّ الوشاح
أورقُ قد أورق من تحته ... غصن رطيب فوق حِقف رداح
إن ينسكب ماء الغمام اغتذى ... وإن ... محجره الشمس فاح
وإن سقته الريح راحاً لها ... مال ونام ونشوان صاح
أعطافه تشبه أعطاف من ... راح فؤادي معه حيث راح
وزارني طيف خيال لهم ... فألحف الليل رداء الصّباح
بتّ به تحت ظلال المنى ... أشتمّ ريحاناً وأستَفّ راح
سقانيَ الخمرة من ريقه ... وقام لي من برد بالأقاح
يا طاعن الخيل غادة الوغى ... طاعنك النّهد فألق السّلاح
فالحدق السوق إليك ارتمت ... فما عسى تغنيك بيض الصّفاح
الحمد لله فإنّي امرؤ ... قد تُبْتُ إلا من وجوه الملح
وقبلتي ناصر شرع العلا ... فوجهه وجه الهدى في البطاح
الدّيمة الوطْفاءُ يوم النّدى ... والأسد الباسل يوم الكفاح
مغالق الأرزاق من كفّه ... قد أذن الله لها بانفتاح
ولم يضق دهر على أمّة ... إلا أصابوا بذراه انفساح
تبصره إن هاجه صارخ ... كالحيّة انساب وكالماء ساح
منها:
مُوَطّأ الأكناف رطب الجنى ... مقدّم السّبق معلّى القداح
من رام عن مورده مصدراً ... قالت له نعماؤه: لا براح
آلاؤه بالبشر ممزوجة ... مزج الحُمَيّا بالزّلال القراح
تحكي لياليه بأيّامه ... خِيلان مسك في خدود صِباح
ينشر يوم الفخر من نفسه ... عرضاً مصوناً ظن مالاً مباح
يا مستميح المال من غارة ... وما له من كرم مستماح
لك البسيطان فمن ضمّر ... تُردى ومن طير تباري الرّياح
أغربة للورق في ظهرها ... أجنحة خفّاقة بالنّجاح
منها في وصف النيروز:

يا كوكب النيروز في بهجة ... أسنى من البدر المنير اللياح
جاءت عطاياك تهادى به ... تهاديَ الغيد غداة اقتراح
لو أنّ لي قوة عهد الصبا ... لم أترك النيروز دون اصطباح
يوم رقيق فاتر ناظم ... كافوره فوق الرّبا والبطاح
تلعب فيه كل مياسة ... ميس غصون تحت روح الرّواح
في ملتوى الأرقم في جلده ... في خيلاء الخيل عند المزاح
إن قعدت قلت رُبًىفي بُرىوإن مشت قامت مَهًى في مراح
غيْداءُ جيداءُ لها معطف ... يرفل من ديباجه في اتّشاح
إنْسيّةُ وحشيّة ركِّبَتْ ... من صورة الجدّ وشكل المزاح
ساكنة في جوفها ناطق ... ينطق عنها بمعان فصاح
كأنّما حليتها ألسنٌ ... تملأ سمع الدهر فيك امتداح
يخدمها كلّ كميّ له ... وجه حييّ وفؤاد وقاح
يجزع روع الروع صمصامه ... وحدّه يخرجه الالتماح
مرهفه نار وفضفاضه ... ماء وبين الحالتين اصطلاح
وقوله:
تحيّيك حتى الشهب عنّي وقلّ لك ... فإنّك نور الشمس تجلي لي الحلك
أكذّب ظنّي أنني لك أرتقي ... ومن ذا الذي يرقى من الفلك الفلك
وأعلم أني لست عندك عالماً ... أفي تلك أجرى ... لحاظي أم ملك
لك الله حلاّك الضّحى من سمائه ... وختّمك الجوزاء والنّجم أنعلك
وبوّأك المجد الذي في جلاله ... تبوّأت من وادي المجرة منزلك
تراودك الدنيا الى ذات نفسها ... فلا دولة إلا تناديك: هِيتَ لَكْ
قطعت إليك البحر أستصحب الصبا ... وأسلك حيث البرق في حفظه سلك
وآمل من ذاك الحجاب رُفوعه ... لعلّي بعين الشّوق أن أتأمّلك
أنا العبد أهّلْني الى البِشر والرضا ... لمن للمعالي والمكارم أهّلك
أقاسمك النفس التي في جوانحي ... مقاسمك المعطيك غاية ما ملك
فما اسودّ فيها من ظلام يكون لي ... وما ابيضّ فيها من ضياء يكون لك
وله في المرثية:
أصيب بفارسه الموكب ... وضاق على وسعه المذهب
وغُيّب في طبقات الثّرى ... سنا واضح وجنى طيّب
ذوت زهرة من رياض الثّرى ... وغاض بأفق العلا كوكب
شباب يزفّ بريعانه ... فَرِيع لميقاته الأشْيَب
وقد كان قيس بنجم الدُجى ... فلم يُدْرَ أيّهما أثْقبُ
خلا الغاب من خير أشباله ... وزلّ بجارحه المَرْقَب
زكت خلفاً بنجيع القلوب ... عيون بأدمعها تندب
وفي أمره عجب أنّه ... بمشرقه جاءه المغرب
فخفّ وشامخه ثابت ... وجفّ وريحانه مخصب
وعبّسَ وهو نَدٍ مشرق ... كما ضحك العارض الأشنب
سقى قبره واكفٌ ينهمي ... وظلّله وارق يرطب
ولا برحت فوقه روضة ... بأزهار رحمته تعشب
وفي أخويه لمن يرتجي ... غياث وغيث لمن يطلب
... إنه ساعد ... ... بدا أنه يركب
ومهما غدوت لنا سالماً ... فلسنا نبالي بمن يذهب
ومن كنت بحراً له لم يَسَلْ ... إذا لم يَسِلْ حوله مِذْنَبُ
فما ضرّ نبت زكا منسب ... لأنصاره ورقى منصب
إليك بها من بيان الضمير ... حيّك الغر لها مطلب
وعذراً فما لي من منطق ... يقول ولا من يد تكتب
وفي الفضل ... ... محاسن ديباجها مذهب
بقيت ... بقاء التي ... لسعدك تسري فما تغرب
وله يشكو:
رماني الدّهر من كلّ النّواحي ... فأثبت في مقاتِليَ النِّبالا

وصيّرني غريباً في مكان ... به الغرباء تكتسب العِيالا
وثاري ممكن عند الليالي ... ولكن قد تعذّر أن يُنالا
فما أعطت نجادي شِسْعَ نعْلٍ ... ولا أدّت بسابحتي عقالا
ولو كاشفت فيه لكنت صبحاً ... ولكنّي انخدعت فكنت آلا
ضمير علاك يفهم عن رجائي ... فلست مؤكّداً في ذاك حالا
فأنت السّتر بعد الله فوقي ... فزدني من خزائنك انسلالا
أدر نظر السّيادة في حديثي ... فكم جرح بك اندمل اندمالا
وكم وردتك آمالي خفافاً ... فجاءت تحمل المنن الثقالا
أكلّ العالمين لك اتباع ... فإنّ الرزق حيث تميل مالا
ومما نقلته من قلائد العقيان:
عرّج بمنعرجات واديهم عسى ... تلقاهُمُ نزلوا الكثيب الأوعسا
اطلبهم حيث الرياض تفتّحت ... والريح فاحت والصباح تنفّسا
مثل وجوههم نجوماً طُلَّعاً ... وتخيل الخيلان شهباً كنّسا
وإذا أدت تمتّعاً بقدودهم ... فاهصر بنعمان الغصونَ الميّسا
بأبي غزال منهم لم يتخذ ... إلاّ القنا من بعد قلبي منكسا
لبس الحديد على لجين أديمه ... فعجبت من صبح توشح حندسا
وأتى يجرّ ذوائباً وذوابلاً ... فرأيت روضاً بالصّلال تحرّسا
لا ترهب السيف الصقيل بكفّه ... وارهب بعارضه العذار الأملسا
رام العدى قتلي عليه فَفُتُّهم ... والنجم ليس بممكن أن يُلمسا
وفللت بغيهم ففزت وهكذا ... فلّ الصحيفة خلّص المتلمّسا
كابد الى العزّ الهجير ولا تكن ... في الذلّ ما بين الظلال معرّسا
وإذا وصلت الى الأمير مبشّرٍ ... فاجعل بساطك في ثراه السندسا
نوّع وجنّس في مناك فإنّه ... ملك تنوّع في العلا وتجنّسا
وقال:
نسيمك حتّامَ لا ينبري ... وطيفك حتّامَ لا يعتري
أعيذك من عرض أن يكون ... وأنت الذي كنت من جوهر
أتذكر أيّامنا بالحمى ... وأيّامنا بذوي الأعصر
ألا رأفة من وفيَّ صفيّ ... ألا عطفة من سنيّ سري
رمى زُحَلٌ في أظفاره ... وحَلّ يداً عنّيَ المشتري
عطارد هل لك من عودة ... فأرجع منك الى عنصري
سيطلبني الملك مهما أراد ... لباس نسيج من المفخر
ولو أنّ كلّ حصاة تزين ... لما جعل الفضل للجوهر
وقال من قصيدة:
تكرّ وشتى الخيل والرجل دونها ... فصيرتها شتّى المسالك والسّبل
تخالهُمُ رجل الجراد فعندما ... دلفت لهم طاروا بأجنحة النّمل
ومنها:
وحسبك عند الله حسبتك التي ... دعت شدّة التّقوى الى كرم الفعل
جلوت سنا الإصباح في غسق الدّجى ... وأنشأت غُرّ المزن في كلب المحل
فما كنت إلا رحمة أنزلت على ... ثرى الأرض فامتدّت الى الوعر والسّهل
وله يتغزل في صاحب خيلان:
لحظ النّجوم بمقلتيه فراعها ... ما أبصرت من حسنه فترَدّت
فتساقطت في خدّه فنظرتها ... عمداً بمقلة حاسد فاسودّت
وله في صبي ناسخ:
أبصرت أحمد ناسخاً فرأيت ما ... أعنى وأعيى أن يحدّ ويوصفا
وكأنّما منح السماء صحيفة ... والليل حبراً والكواكب أحرفا
وله في غلام التحى:
أبصرته قصّر في المشيه ... لما بدت في خدّه اللحيه
قد كتب الشعر على خدّه ... أو كالذي مرّ على قريه
وله:
غناءٌ يلذّ ولا أكؤس ... تسكّن من أنفس طائشه
وأعجب كيف شدا طائر ... بروض منابته عاطشه
وله عندما فارق المتوكل ببطليوس:
رضا المتوكّل فارقته ... فلم يرضني بعده العالم
وكنت ببطلوس في جنّة ... فجئت بما جاءه آدم
وله:

أذكّر من لم ينس عهداً ولا ينسى ... وأبسط في أكناف سرحته النّفسا
وألبسها خلقاً جديداً وأغتدي ... بظلّ غلام أغتدي معه الأنسا
وألبس ريعان الشباب وطالما ... لبست الخطوب الحمر ما دونه ورسا
وإنّي وإياه لمزن وروضة ... يباركني سقياً وأزكو له غرسا
صفا بيننا من خالص الودّ جوهر ... علونا به في نور جوهره الشّمسا
وما أنا إلا من علاه مكوّن ... غدوت له نوعاً وأصبح لي جنسا
مكارمه مرعى الى جنب معقل ... أرود إذا أضحى وآوي إذا أمسى
وأورد خمساً كلّ يوم بمائه ... وكم لي دهراً قد مضى لم أرد خمسا
أبا القاسم اشرب قهوة العزّ وانتقل ... ثنائي ومن فضل الكؤوس اسقني كأسا
وخذ بيدي من عثرة قصرت يدي ... وكنت أخا بأس فلم تبق لي بأسا
رميت لها فضفاضتي ومهنّدي ... وخطيّتي والنّبل والقوس والتّرسا
ثغور المعالي قابلتك ضواحكاً ... فصل لثمها وامصص مراشفها اللعسا
وأجيادها مالت عليك نواعماً ... كما مالت الأغصان فانعم بها لمسا
ولا ذكر في الأفواه حاشاك إنّما ... صفاتك آيات ولعناً بها درسا
إليك بها داراً تلقب أحرفاً ... وقطعة ديباج يسمّونها طرسا
وفضلك في الإغضاء عمّا بعثته ... فليس يَحيك الشعر من عدم الحِسّا
وله من أخرى:
ملك إذا عقد المعاقد للوغى ... حلّ الملوك معاقد التّيجان
وإذا غدت راياته منشورة ... فالخافقان لهنّ في خفقان
وقال من أخرى:
إن ضعت والشعر مما قد شُهِرْتُ به ... ونال جودك أقواماً وما شعروا
فأنت كالغيث إذ تسقي بصيّبه ... شوك القتاد ولا يسقى به الزّهر
هذا كثير. ومنه:
والحظ مثل الغيث تظمأ روضة ... موشية منه ويروى بلقع
ومنه:
وما أنت إلا كمثل السحاب ... يسقي النّبات ويعدو الزهر
وقال من أخرى:
نزل الحيا بنزوله في معهد ... لبس المسرّة ربعه المأنوس
فكأنّما ماء الغمام مدامه ... وكأن ساحات الديار كؤوس
بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلّة ريشه الطاووس
وقال يصف قصيدة:
أتيت بها تقيم العذر عني ... فقدرك مثل مقدرة اللّسان
ولو وفّيت حقّك في امتداح ... لقال الشعر فيك الشّعرَتان
وقال من أخرى:
وعمّرْتَ بالإحسان أفق مَيُرْقَة ... وبنيت فيها ما بنى الإسكندر
فكأنّها بغداد أنت رشيدها ... ووزيرها وله السلامة جعفر
قال أبو الصلت في الحديقة: قوله، وله السلامة في باب الحشو أوضح وأملح من قول أبي الطيب في كافور:
وتحتقر الدّنيا احتقار مجرّب ... يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا
قال: وهو عندي أقرب الى أن يكون احتراساً، كقول طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
من أن يكون حشواً.
وقال من أخرى:
كأنّ علاك أفلاك وفلك ... بأرزاق البريّة جاريات
كأنّ هباتها من غير وعد ... نتائج ما لهنّ مقدّمات
قال: النتيجة لا تكون إلاّ عن مقدّمات أقلّها اثنان، إلا أن هذا لا يطالب بحقيقته من حيث هو شاعر.

أبو الحسن جعفر بن ابراهيم بن الحاج
اللرقي
من مدينة يقال لها لُرْقَة، عاش بعد الخمسمائة طويلاً، وعمّر كثيراً.
قال:
أذوب اشتياقاً ثم يحجب شخصه ... وإنّي على ريب الزّمان لقاس
وأذعر منه هيبة وهو المنى ... كما يذعر المخمور أوّل كاس
وقال من أبيات:
من لي بطرف كأنني أبداً ... منه بغير المدام مخمور
ما أصدق القائلين حين بدا ... عاشق هذا الجمال معذور
وقال يخاطب غلاماً التحى:

أبا جعفر مات فيك الجمال ... فأظهر خَدّك لبْسَ الحِداد
وقد كان ينبت نَوْر الربيع ... فقد صار ينبت شوك القتاد
أبن لي متى كان بدر السّما ... ءِ يُدرَكُ بالكون أو بالفساد
فهل كنت في الملك من عبد شمس ... فأخنى عليك ظهور السّواد
وكتب الى ابن لبون يتقاضاه جدْياً، من أبيات أوّلها:
يا قمر المجد وبحر النّدى ... ومن غدا محيّاه هلك العدى
منها:
جَدْيٌ إذا استجديت فيه فما ... يمّمت إلا موضعاً للجدى
يَسْوَدّ كالكفر ولكنه ... من داخل يَبْيَضّ مثل الهدى
وقال:
يا عجبي من بائع دينه ... بلذّة يبيع فيها مُناه
وإنّما أعجب من خاسر ... يبيع أخراه بدنيا هواه
وقال في مخمّسة يرثي فيها ابن صمادح، ويندب الأندلس في زمن الفتنة:
من لي بمجبول على ظلم البشر ... صحّف في أحكامه حاء الحور
مرّ بنا يسحب أذيال الخفر ... ما أحسد الظبي له إذا نظر
وأشبه الغصن له إذا خطر
نهيت قدماً ناظري عن نظري ... علماً بما يجني ركوب الغرر
وقلت عرّج عن سبيل الخطر ... اليوم قد عاين صدق الخبر
إذ بات وقفاً بيْنَ دمع وسهر
يا رُبّ أرض قد خلت قصورها ... وأصبحت آهلة قبورها
يُشْغَلُ عن زائرها مزورها ... لا يأمل العودة من يطورها
هيهات ذاك الورد ممنوع الصدر
تَنْتَحِبُ الدّنيا على ابن معن ... كأنّها ثكلى أصيبت بابن
أكرم مأمول ولا أستثني ... أثني بنُعماه ولا أثنّي
والروض لا ينكر معروف المطر
عهدي به والملك في ذماره ... والنصر في ما شاء من أنصاره
يطلع بدر التّمّ في أزراره ... وتكمن العفّة في إزاره
ويحضر السّؤْدَدُ أيّان حضر
قل للنّوى جَدّ بنا انطلاق ... ما بعدت مصر ولا العِراق
إذا حَدا نحوهما اشتياق ... ومن دواء الملل الفراق
ومننأى عن وطن نال وطر
وذكره أبو الصّلت في الحديقة قال: أبو الحسن جعفر المعروف بابن الحاج اللورقي يعاقب صديقاً له:
تقلّص ظِلّ منك وازْوَرّ جانب ... وأحرز حظّي من رضاك الأجانب
وأصبح طرْقاً من صفائك مشرعي ... وأيَّ صفاء لم تشبه الشّوائب
رويداً فلي قلب على الخطب جامد ... ولكن على عتب الأخلاّء ذئب
وأكبر ظنّي أنّ عندك غير ما ... ترجّمه تلك الظّنون الكواذب
قوله: لي قلب على الخطب جامد، وعلى العتب ذائب، من قول أبي تمّام:
جليدٌ على عتب الخطوب إذا التوت ... وليس على عتب الأخلاّء بالجلَدْ
أرُد يدي عن عِرْضِ حُرّ ومنطقي ... وأملؤها من لِبْدَةِ الأسد الوَرْد
وتمام شعر ابن الحاج:
أعد نظراً في سالف العهد إنه ... لأوْكَدُ ممّا تقتضيه المناسب
ولا تعقب العتبى بعتب فإنّما ... محاسنها في أن تتمّ العواقب
يخبّ ركابي أنّني بك هائم ... ويثني عناني أنّني لك هائب
وحسبك إقراري بما أنا منكر ... وأنّي مما لست أعلم تائب
وقال:
تَوَقّ الموت واعلم كم عدوّ ... طواه الموت عنك وكم صديق
مشَوْا قُدّامنا نسعى جميعاً ... فقد وصلوا ونحن على الطريق
وله:
تَعَزَّ على الدّنيا ومعروف أهلها ... إذا عُدِم المعروف من آل عبّاد
نزلت بهم ضيفاً ثلاثة أشهر ... بغير قِرًى ثم ارتحلت بلا زاد
وله:
لي صاحب خفيت عليّ شؤونه ... حركاته مجهولة وسكونه
يرتاب بالأمر الجليّ توهّماً ... فإذا تيقّن نازعته ظنونه
ما زلت أحفظه على شرقي به ... كالشّيب تكرهه وأنت تصونه
من قول مسلم:
الشّيب كره وكره أن يفارني ... أعجب لشيء على البغضاء مودود

وذكره مؤلّف قلائد العقيان، وصفه بالكرم والإحسان، والشّيم الغُرّ الحسان والتنسّك في ...، والتمسّك بالتقوى، وقال: هو شيخ الجلالة وفتاه، ومبدأ الفضائل ومنتهاها، وأورد من شعره في المحرم سنة تسع عشرة وخمسمائة ما كتبه الى ذي الوزارتين أبي بكر ابن رحيم وهو:
يا دوحة ما يريمها ثمر ... وروضة كلّ نبتها زهر
يا مُزْنَة ما تَغِبّ نافعة ... والمزن في طول صوبه ضرر
يا منهلاً قد صفا فلا كدر ... يصدّ عن ورده ولا حظر
يا عصرة الحرّ حين لا عصر ... يوجد في حادث ولا أسر
برّك ذاك الخفيّ أثقلني ... وحمل ما لا أطيقه خطر
فلتعفني من نداك تتبعه ... حسبك ما قد لقيت يا عمر
قد ذهبت جملة الوفاء فما ... في النّاس خبر لها ولا خبر
وصرت في معشر حقودهم ... تبدو إذا كلّموك أو نظروا
بني رحيم ركبتمُ سنناً ... في المجد لا يُقْتَفى له أثر
كلّ أفانين دهركم عجب ... وكلّ أيّام دهركم غرر
ووجدت في نسخة أخرى أنّ هذه الأبيات كتبها في محرم سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
وله:
إذا كان يزري كلّ ضيف بضيفه ... فإنّي بضيفي حين يقدم أفرح
وذاك لأنّ الضّيف يأتي برزقه ... فيأكله عندي ويمضي فيمدح
وله:
عجباً لمن طلب المحا ... مد وهو يمنع ما لديه
ولباسط آماله ... في المجد لم يبسط يديه
لم لا أحبّ الضّيف أو ... أرتاح من طرب إليه
والضيف يأكل رزقه ... عندي ويشكرني عليه
وله
طفقت تؤنِّبُني على البذل ... وتقول نِعْمَ سجيّة البخل
قد أصبح البخلاء في شرف ... وبقيت في شرف وفي أزل
هي شيمة ممّا جبلت به ... والطّبع ليس بممكن النّقل
نشَبٌ أبدّده ويرفعني ... ...... ويستعلي
وله:
أسهر عيني ونام في جذل ... مدرك حظّ سعى الى أجلي
دنياه موقوفة عليه فما ... يطورها طائر لذي أمل
قد لُفِّقَتْ بالمحال فاجتمعت ... من خُدَعٍ جمّة ومن حيل
كم محنة قد بُليت منه بها ... وهو يرى أنّها يَدٌ قِبلي
وله في ذلك:
أخ لي كنت آمنه غرورا ... يُسَرَّ بما أساءُ به سرورا
هو السّمّ الزُّعاف لشاربيه ... وإن أبدى لك الأرْيَ المشورا
ويوسعني أذًى فأزيدُ حِلْماً ... كما جُذَّ الذبال فزاد نورا
وله:
كل من تهوى صديقٌ مُمْحِضٌ ... لك ما لا تتّقي أو ترتجي
فإذا حاولتَ نصْراً أو جَدًى ... لم تقف إلا ببابٍ مُرتَجِ
وله من ... في الغزل:
يا مُديراً من سحر عينيه خمراً ... أنا ممّا أدرت جدّ نزيف
علّل المستهام منك بوعد ... وإليك الخيار في التسْويف
وله في الغزل:
وبيضاء ينبو اللحظ عند التفاتها ... وهل تستطيع العين تنظر في الشمس
وهبت لها نفساً عليّ كريمة ... وقد علمت أنّ الضّنانة بالنّفس
أعالج منها السّخط في حالة الرّضا ... ولا أعدم الإيحاش في ساعة الأنس
وله مع تفّاح أهداه:
بعثت بها ولا آلوك حمداً ... هديّة ذي اصطناع واعتلاق
خدود أحبّة وافين صبّاً ... وعدن على ارتماض واحتراق
فحمّر بعضه خجل التلاقي ... وصفّر بعضها وجل الفراق
وله في زرزور:
يا ربّ أعجم صامت لقّنته ... طرف الحديث فصار أفصح ناطق
جون الإهب أعير فوه صفرة ... كاللّيل طرّزه وميض البارق
حِكَمٌ من التدبير أعجزن الورى ... ورأى بها المخلوق لطف الخالق
وله:
كفى حزَناً أن المشارع جمّة ... وعندي إليه غلّة وأوام
ومن نكد الأيام أن يعدم الغنى ... كريم وأنّ المكثرين لئام

ولده أبو محمد

ذو الوزارتين. أورد له صاحب قلائد العقيان نثراً صالحاً، ولم يذكر من شعره. وأورد لوالده فيه:
شعرك كالشعراء في حسنه ... يجمع بين الآسِ والضرو
فاصنع به إن كنت لي طائعاً ... ما تصنع الهرّة بالخرو
فدل على أنّه لا يستحق شعره الإثبات.

ابن خفاجة الأندلسي
هو أبو إسحاق ابراهيم بن أبي الفتح ابن خفاجة الخفاجي الأندلسي الجزيري، أنشدني ببغداد أبو الفتح نصر بن عبد الرحمان الفزاري الاسكندراني قال: أجاز لي القاضي أبو محمد العثماني قال أنشدني الفقيه إبراهيم بن محمد بن المتقن بن ابراهيم اللخمي السبتي قدم علينا الاسكندرية قال: أنشدني أبو إسحاق ابراهيم ابن خفاجة لنفسه في صفة فرس أشهب محلّى:
ربّ طِرف كالطَّرف سُرعة عدو ... ليس يسري سراه طيفُ الخيال
إن سرى في الدجى فبعض الدراري ... أو سعى في الفلا فإحدى السعالي
لست أدري إن قيل ليلة أسري ... أو تمطّيته غداة قتال
أَجَنوب تقاد لي عن جنيب ... أم شَمال عِنانها بشِمالي
أشهب اللون أثقلته حُليٌّ ... خبّ فيهنّ فهو ملقى الجِلال
ولأبي الصّلت في وصف أشهب هذا المعنى بعينه ما أخطأه:
من ألجم الصُبح بالثُّريا ... وأسرع البرق بالهلال
قال أمية: عمِلت هذه قبل أن أسمع بشعر ابن خفاجة. ولابن خفاجة ديوان وهو رواية العثماني عن اللخمي عنه، وذكر أنه عاش الى عصرنا القريب.
وأنشدني في بغداد محمد بن عيسى اليماني:
للّه نورّة المُحَيّا ... تحمِل ناريّة الحُمَيّا
تديرها تحت ظل دَوْح ... قد طال رِيّاً وطاب رَيّا
تجسّم النّور فيه نَوْراً ... فكلّ غصن به ثُرَيّا
أخذه من قول ابن سكرة الهاشمي في غلام رأى بيده قضيب لوز منوّر:
غصن بان بدا وفي اليد منه ... غصُن فيه لؤْلؤٌ منظوم
فتحيّرت بين غُصْنَيْن في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم
وأنشدني أيضاً لابن خفاجة:
ومهفهَفٍ طاوي الحشا ... كالغصن يخطر إذْ خطر
ملأ العيون بصورة ... تُلِيَتْ محاسنها سور
فإذا دنا وإذا شدا ... وإذا سى وإذا سفر
فضح المدامة والحما ... مة والغمامة والقمر
هذه في غاية الرّقة، رقّت وراقت، وسادت كل نظم وفاقت، ورفأت القلوب السليمة لما أصيبت فضاقت، وأعيت النفوس القوية لما أطاقت. أخذ تشبيهه بالغمامة من قول الأعشى:
مرّ السحابة لا ريْثٌ ولا عجَلُ
ومن شعر ابن خفاجة:
كتبت وقد خَصِرَتْ راحتي ... فهل من رحيق بكأس الرحيق
فقد أعوزت نارُها جملة ... فلولاك شبّهتُها بالصّديق
وقال في أسود يسبح:
وأسودٍ يسبحُ في لُجّة ... لا يكتُمُ الحصباءَ غُدْرانُها
كأنّها في صفوها مقلة ... زرقاءُ والأسود إنسانها
وللغزي في سابح أبيض:
وسابح في لُجّةٍ شَقّها ... شقَّ شِهابٍ جَيْبَ ظلماء
سال من اللطف ولم أستطع ... تمييزه من جملة الماء
ولي قصيدة في وصف بغداد نظمتها في الصبا، وزدت على معنى الغزيّ:
تسبح في دِجْلَةَ غِزلانها ... سِباحة الحيتان في البحر
ما مازها للّطف من مائها ... سوى سواد اللحظ والشَّعْر
قال ابن خفاجة:
حيّا بها ونسيمها كنسيمه ... فشربتها من كفّه في ودّه
منساغة فكأنّها من ريقه ... محمرّة فكأنّها من خدّه
ما أحسن قول ابن حيّوس الشامي وأجمعه للتشبيه في بيت واحد، وهو:
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه
قال ابن خفاجة في غلام حسن الوجه والصوت:
أمسى يقرّ لحسنه قمر الدجى ... وغدا يذوب لصوته الجُلْمود
فإذا بدا فكأنّما هو يوسُفٌ ... وإذا تلا فكأنّه داوود
وقال:
كتابي وقلبي في يديك أسير ... أقيم كما شاء الهوى وأسير

ولي كل حين من نسيبي وأدمُعي ... بكلّ مكان روضة وغدير
وقال في قوس:
عوجاء تُعْطَف ثم تُرْسَل تارة ... فكأنّما هي حيّة تنساب
وإذا انحنت والسّهم منها خارج ... فهي الهِلال انقضّ منه شهاب
وقال:
وعسى الليالي أن تَمُنّ بنظمنا ... عِقْداً كما كنّا عليه وأفضلا
فلربّما نُثِر الجُمان تعمّداً ... ليُعاد أحسن في النظام وأجملا
وهو من قول مِهْيار:
عسى الله يجعلها فُرْقةً ... تعود بأكرم مستجمَع
وقال ابن خفاجة:
لقد نثر الأستاذ منثور عِقدنا ... وعهدي به من قبلها وهو ناظم
فعدنا كبيت غيّر الكسر نظمه ... فألفاظه كُسْرٌ ومعناه قائم
وقال:
لله نهر سال في بطحاء ... أشهى وروداً من لَمَى الحسناء
وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدب يحفّ بمقلة زرقاء
ولربّما عاطَيْت فيه مدامة ... صفراء تخضِب أيْديَ الندماء
والريح تعبث بالغصوم وقد جرى ... ذهب الأصيل على لُجَيْن الماء
من أحسن ما سمعته في وقوع الشعاع على الماء وقد أوردته في موضعه قول علي ابن أبي البشر الكاتب الصّقِلّي قوله:
وضوء الشمس فوق النيل باد ... كأطراف الأسنّة في الدّروع
ولأبي الصّلت أميّة:
إذا جمّشَتْهُ الصَّبا بالضُحى ... توهّمته زَرَداً مُذْهَبا
ولابن المعتز:
وتبدّى لهنّ بالنّجف المق ... فر ماء صافي الجمام عريّ
فإذا صادفته ذرّة شمس ... خلته كسِّرت عليه الحُلِيُّ
ولابن وكيع التنِّسيّ:
غدير يدرّج أمواهه ... هبوب الشّمال ومرّ الصَّبا
إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهّمته جوشناً مُذْهَبا
ولأبي منصور في اليتيمة:
قام الغلام يديرها في كفّه ... فحسبت بدر التّمّ يحمل كوكبا
والبدر يجنح للأُفول كأنّه ... قد سُلّ فوق الماء سيفاً مُذهبا
وللقاضي أبي القاسم علي ابن فهم في اليتيمة:
أحْسِنْ بدِجلة والزمان مصوّب ... والبدر في أفق السماء مغرّب
فكأنّها فيه بساط أزرق ... وكأنّه فيها طِراز مُذْهَب
وللتمّار الواسطي يصف ضوء القمر على دجلة، قوله:
قُمْ فانتصف من صروف الدهر والنُّوَب ... واجمع بكأسك بين اللهو والطرب
أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... مهزومة وجيوش الصبح في الطلب
والبدر في الأفُق الغربيّ تحسبه ... قد مَدّ جِسْراً على الشّطّين من ذهب
ولمحمد السلامي:
ونهر تمرح الأمواج فيه ... مِراح الخيل في رَهْج الغُبار
إذا اصفرّت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يُمْزجُ بالعقار
وقال ابن خفاجة:
أقسُ على خلّك أو ساعد ... عشت بجَدّ في العلا صاعد
فقد همى جفني دماً سائلاً ... حتّى لقد ساعده ساعدي
وقال:
إياب كما آب الحسام إلى الجفن ... وعود كما عاد المنام الى الجفن
وأُنْس تلاق عن توحّش فُرقة ... كما افترّ ثغر البرق عن عابس الدّجن
وبشرى ورود عن بكاء تودّع ... كما راق وجه الرّوض عن واكف المُزْن
وأنفس ما في الجسم عين ومسمع ... لمرءاك في حين ونجواك في أُذْنِ
وقال في صفة الثلج:
لله ندمان صدق بات مصطلياً ... ناراً من القدَح الملآن تستعر
والأرض فِضّيّة الآفاق تحسبها ... شمطاء حاسرة قد مسّها الكِبَر
بكل نجد ووهد قد أظلّ به ... روض تحلّى بنور ما له ثمر
وللأقاحي ثغور فيه باسمة ... لها من الثلج ريق بارد خَصِر
كأنّ في الجوّ أشجاراً منوّرةً ... هبّ النسيم عليها فهي تنتثر
وقال:
قُدِّسْتِ من ياقوتة حمراء ... في حقّة من دُرّة بيضاء

كشقيقة في نَوْرَةٍ أو برْقة ... في مُزْنة أو جذْوَةٍ في ماء
وقال:
لعمرِيَ لو أوضعت في منهج التقى ... لكان لنا في كل صالحة نَهْج
فما يستقيم الأمر والملك جائر ... وهل يستقيم الظِّلِّ والعود معوجّ
ومن هنا أورده له صاحب قلائد العقيان. وقال في وصف ورد نثر عليه نُوّار نارنج:
ونديّ أنس هزّني ... هزّ الشراب من الشباب
والليل وضّاح الجبي ... ن قصير أذيال الثياب
فقنَصْتُ منه حمامة ... بيضاء تسنح من غراب
والنّور مبتسم وخد ... دُ الورد محْطوط النّقاب
يندى بأخلاق الصِّحا ... ب هناك لا بندى السحاب
وكلاهما نثر كما ... نثروا القوافي بالخطاب
وكأنّ كأس سُلافة ... ضحِكت إليه مع الحَباب
وقال في صفته أيضاً:
وصدر ناد نظمنا ... له القوافي عِقدا
بمنزل قد سحبنا ... بظلّه العزّ بُردا
قد طنّب المجد بيتاً ... فيه وغرّس وفدا
تذكو به الشهب جمراً ... ويعبق الليل ندّا
وقد تأرّج نَوْر ... غضّ يخالط وردا
كما تبسّم ثَغْر ... عذْب يقبّل خدّا
وقال في وصف شجرة نارنج:
ألا أفصح الطّير حتّى خطب ... وخفّ لنا الغصن حتّى اضطرب
فمل طرباً بين ظلّ هنا ... رطيب وماء هناك انثعب
وجُل في الحديقة أخت المنى ... ودِن بالمدامة أمّ الطرب
وحاملة من بنات القنا ... أماليد تحمل خُضْر العذَب
تنوب مورّقة عن عِذار ... وتضحك باهرة عن شنب
وتندى بها في مهبّ الصَّبا ... زبَرْجَدَة أثمرت عن كثَب
تفاوح أنفاسها تارة ... وطوراً تُغازلها عن كثَب
فتَبْسَمُ من حالة عن رِضًى ... وتنظر آونة عن غضب
وقال يتغزّل:
وأهيف قام يسقي ... والسُّكر يعطف قدّه
وقد ترنّح غصناً ... واحمرّت الكأس ورده
وألهب السُّكر خدّاً ... أورى به الوجد زَنْده
فكاد يشرب نفسي ... وكدت أشرب خدّه
وقال في وردة طرأت في غير أوانها:
وغريبة هشّت إليّ غريرة ... فوددت لو نسج الضّياء ظلاما
طرأت عليّ مع المشيب تشوقني ... شيخاً كما كانت تشوق غلاما
مقبولة قبّلتها عن لوعة ... نظراً يكون إذا اعتبرت كلاما
عذرت وقد أحللتها عن نشوة ... كبراً وأوسعت الزمان ملاما
عبِقت وقد حنّ الربيع على الندى ... كرماً فأهداها إليّ سلاما
وقال يتذكر العهد القديم مع محبوبه تحت أيكة:
ألا أذكرتني العهد بالأُنس أيكة ... فأذكرتها نوح الحمام المطوَّق
وأكببت أبكي بين وجد أناخ بي ... حديث وعهد للشبيبة مُخْلِق
وأنشق أنفاس الرياح تعلّلاً ... فأعْدَم فيها طيب ذاك التنشُّق
ولما علت وجه النهار كآبة ... ودارت به للشمس نظرة مُشفق
عطفت على الأجداث أُجْهِش تارة ... وألثم طوراً تُرْبها من تشوّق
وقلت لمُغْفٍ لا يهُبّ من الكرى ... وقد بتّ من وجد بليل المؤرَّق
لقد صدعت أيدي الحوادث شطّنا ... فهل من تلاق بعد هذا التفرق
وإن يك للخلين ثم التقاءة ... فيا ليت شعري أين أو كيف نلتقي
فأعزز علينا أن تباعد بيننا ... فلم يدر ما ألْقَى ولم أدر ما لَقِي
وقال يتوجّع لفقد الشباب:
أما وشباب قد ترامت به النوى ... فأرسلت في أعقابه نظرة عبرى
لقد ركِبت ظهر السُّرى بيَ نومة ... فأصبحت في أرض وقد بتّ في أخرى

فها أنا لا نفس يخفّ بها الفتى ... فيلهى ولا سمع تطور به بشرى
أقلّب جفناً لا يجفّ فكلّما ... تأوّهت من شكوى تأمّلت في شَكْرى
وإنّي إذا ما شقاني لحمامة ... رنين وهزّتني لبارقة ذكرى
لأجمع بين الماء والنار لوعة ... فمن مقلة ريّا ومن كبد حرّى
وقد خفّ خطب الشيب في جانب الرّدى ... فصارت به صُغْرى التي كانت الكبرى
وقال يستطيل الليل:
يا ليل وجد بنجد ... أما لطيفك مسرى
وم لدمعي طليقاً ... وأنجم الليل أسرى
وقد طمى بحر ليل ... لم يُعْقِب المدّ جزرا
لا يعبر الطّرْف منه ... غير المجرة جسرا
وقال في الشقيق:
يا حبّذا والبدر يزحف بكرة ... جيشاً حريق دونه ورحيق
حتى إذا ولّى وأسلم عَنْوَة ... ما شئت من سهل وذِرْوَة نيق
أخذ الربيع عليه كل ثنيّة ... فبكلّ مرقبة لواء شقيق
وقال:
حمراء نازعت الرياح رداءها ... وهْناً وزاحمت السماء بمَنْكِب
ضربت سماء في دخان فوقها ... لم تدر فيها شُعلة من كوكب
وتنفّست من كلّ لفحة جمرة ... باتت لها ريح الجَنوب بمرقب
تذكو وراء رمادها فكأنّها ... شقراء تمرح في عَجاج أكهب
والليل قد ولّى يقلّص برده ... كرّاً ويسحب ذيله في المغرب
وكأنّما نجم الثّريا سحرة ... كفّ تمسح عن معاطف أشهب
وقال في الأخذ بالجدّ والهزل:
إنّي وإن كنت هضْبة جلَداً ... أهتزّ للحسن لوعة غُصُنا
قسوت بأساً ولنت مكرمة ... لم ألتزم حالة ولا سنَنا
لست أحب العهود في رجل ... تحسبه في خموده وثنا
لم يكحَل السُّهد جفنه كلَفاً ... ولا طوى جسمه الغرام ضنى
فلي فؤاد أرقّ من ظُبَة ... يأبى الدّنايا ويعشق الحسَنا
طوراً مُنيب وتارة غزِلٌ ... يبكي الخطايا ويندُب الدِّمَنا
تحمّل الى قبر الغريب مزادة ... من الدمع تندى حيث سرت وتَنْضَح
وطيب سلام يعْبُر البحر دونه ... فيندى وأزهار البطاح فتنفح
وعرّج على قبر الحميم بنظرة ... تراه بها عني هناك وتلمح
ومما أورده له أبو الصّلت أميّة في الحديقة قوله في غلام التحى:
تغشّى نَوْر وجنته القَتاد ... وغطّى نُورَ صفحته السواد
فما يهفو الى مرآه طرْف ... ولا يصبو لذكراه فؤاد
يموت المرء ثم يعود حيّاً ... وموت الحسن ليس له معاد
وقوله:
كأنّنا ولديه البدر ندمان ... وعندنا لكؤوس الراح شُهبان
والقُضْب مائسة والطير ساجعة ... والأرض كاسية والجوّ عُريان
وقوله في أسود يسبح:
وأسود يسبح في لُجّة ... لا تكتم الحصباء غُدْرانها
كأنّها في شكلها مقلة ... زرقاء والأسود إنسانها
ووصفه صاحب قلائد العقيان بهذا الفصل وقال: مالك أعنّة المحاسن وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها، الناظم لعقودها، الراقم لبرودها، المجيد لإرهافها، العالم بجلائها وزفافها. تصرف في فنون الإبداع كيف شاء، واتبع ذكره في الإجادة الرشاء، فشعشع القول ورَوّقَه، ومدّ في ميدان الإعجاز طلقه، فجاء نظامه أرقّ من النسيم العليل، وآنق من الروض البليل. وذكر أنّه كان في ريعان عمره ذا مجون وتهتك، وعاد في زمن كهولته ذا ورع وتنسّك، وأورد له، يندب أيام شبابه:
ألا ساجل دموعي يا غمام ... وطارحني بشجوك يا حمام
فقد وفّيتها ستين عاماً ... ونادتني ورائي: هل أمام
وكنت ومنلُباناتي لُبَيْنى ... هناك ومن مراضعي المدام
يطالعنا الصباح ببطن حَزْوى ... فيُنْكِرنا فيعرفنا الظلام
وكان به البَشام مَراح أُنس ... فماذا بعدنا صنع البَشام

فيا شَرْخ الشباب ألا لقاء ... يُبَلُّ به على برَح أُوام
ويا ظِلّ الشباب وكنت تندى ... على أفياء سرحتك السلام
ومما أورده غيره: وقال ابن خفاجة في الحمّام:
أهلاً ببيت النار في منزل ... شيد لأبرار وفجّار
نقصده ملتمسي لذّة ... فندخل الجنّة في النّار
وقال من أبيات يرثي فيها صديقاً له:
تيقّن أن الله أكرم جيرة ... فأزمع عن دار الحياة رحيلا
فإن أقفرت منه العيون فإنّه ... يعَوَّض منها القلوب بديلا
ولم أر أُنساً قبله عاد وحشة ... وبَرْدً على الأكباد عاد غليلا
ومَنْ تك أيّام السرور قصيرة ... به كان ليل الحزن فيه طويلا
وكتب الى ابن درّاج النحوي جواباً عن كتاب كتبه إليه وجعل الجواب في ظهر الكتاب:
ومعرّض لي بالهِجاء وهُجْرِه ... جاوبته عن شعره في ظهره
فلئن نكن بالأمس قد لُطنا به ... فاليوم أشعاري تلوط بشعره
هو من قول الآخر:
وأجيب في ظهر الكتاب إذا أتى ... فيلوط خطي في الكتاب بخطّه
وقال في أسود وجّهه في حاجة فأبطأ:
قبّحت من أسود غبيّ ... لا يفهم الوحي حين يوحي
أبطأ في سعيه فحاكى ... في حالتيه غراب نوح
وقال في تفضيل أخ على أخ:
تفاوت نجلاً أبي جعفر ... فمن مُتَعال ومن مستفل
فهذا يمين بها أكله ... وهذا شِمالٌ بها يغتسل

راشد بن عريف الكاتب
أورده أبو الصّلت في الحديقة. قال:
جُمِّع في مجلسي نَدامى ... تحسدني فيهم النجوم
فقال لي منهم ظريف ... ما لي إذا قمت لا تقوم
فقلت إن قمت كلّ حين ... فإن حظّي بكم عظيم
فليس عندي إذن ندامى ... بل عندي المقعِد المقيم
وقال:
يا حاسد الأقوام فضل يسارهم ... لا ترض رأياً لم يزل ممقوتا
في المِصْر ألف فوق رزقك رزقهم ... وبه ألوف ليس يملك قوتا
لو قُسِّمت أرزاقهم بسويّة ... لم تُعْطَ إلا دون مما أعطيتا
أبو الحسن الشاغتني الراعي
قال:
إلام أمنّي النفس ما الناس دونه ... كمنخدع يأوي الى شرّ خادع
قضى زمني أني له شرّ نادم ... لتقرعني عنه صنوف القوارع
فإن يك ذا غيظ فإنّ بنانه ... يسيل دماً من عضّه المتتابع
لمحمد بن شرف:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنّني سبّابة المتندّم
وله:
لئن كان حظّي من زمانيَ ما أرى ... فيا شؤم ميلادي ويا شؤم طالعي
ألا ربّ ليل بتّ ألبس جُنْحه ... على ظهر عزم للمفاوز قاطع
ولم أكُ مثل الطيف إن رام وجهة ... مضى آخذاً إذن العيون الهواجع
وهيهات إدراك المنى ووسائلي ... من الأدب المجفوّ فيها موانعي
ابن معلّى البريّاني
من حصن بشرق الأندلس يقال له بريّانة، قال من قصيدة:
أمعتنق الصعيد وكان يغدو ... عليه وهو معتنق الصِّعاد
أرى لُبْس الحداد عليك ممّا ... يشقّ على المهنّدة الحداد
أبو مروان بن عيسى البلنسي
قال:
أدِر كأس المدامة في نَدامى ... هم من فقد دائرها عِطاش
فأوطار السرور بها تُقَضّى ... وأجنحة السرور بها تُراش
المنفتل
قال:
في خدّ أحمد خال ... يصبو إليه الخَليّ
كأنّه روض ورد ... جنّانه حبشيُّ
أبو مروان بن غصن الحجاري
قال:
فديتك لا تخَفْ منّي سلوّاً ... إذا ما غيّر الشّعَرُ الصِّغارا
أهيم بدنّ خَلّ كان خمراً ... وأهوى لحية كانت عِذارا
أبو محمد
عبد الله بن عبد البر الكاتب
كاتب المعتمد، قال:
لا تكثرنّ تأمّلاً ... وامْسِك عليك عِنان طرْفك

فلربّما أرسلته ... فجرى الى ميدان حتفك

أبو محسن بن أبي عامر الباكري
قال في مصلوب:
ورَأت يداه عظيم ما جنتا ... ففررن ذي شرقاً وذي غربا
وأمال نحو الصدر منه فماً ... ليلوم في آرائه القلبا
والى هذا نظر عُمارة اليمني من أهل عصرنا في وصف مصلوب، وقد أوردته في موضعه:
أراد عُلُوّ مرتبة وقدر ... فأصبح فوق جِذع وهو عال
ومَدّ على صليب الجذع منه ... يميناً لا تطول الى الشمال
ونكّس رأسه لعتاب قلب ... دعاه الى الغواية والضلال
أبو القاسم السميسر
هو أبو القاسم خلف بن فرج الألبيري المعروف بالسميسر. ذكره أبو الصّلت في الحديقة. كان كثير الهجاء وله كتاب لقّبه شفاء الأمراض في أخذ الأعراض. فمن شعره قوله:
يا آكلاً كل ما اشتهاه ... وشاتم الطبّ والطبيب
ثمار ما قد غرست تجني ... فانتظر السقم عن قريب
يجتمع الداء كل يوم ... أغذية السوء كالذنوب
وله في هذا المعنى:
أآكل ما تشتهي ... نُهِيتَ ولم تَنْتَهِ
لأكلك ما تشتهي ... بقيت وما تشتهي
وله:
يا مشفقاً من خمول قوم ... ليس له عندنا خَلاق
ذلّوا وكم طالما أذلّوا ... دعهم يذوقوا كما أذاقوا
وله:
خنتم فهنتم وكم أهنتم ... زمان كنتم بلا عيون
فأنتم تحت كلّ تحت ... وأنتم دون كل دون
سكنتم يا رياح عاد ... وكل ريح الى سكون
وله:
جاء القليل مكدّراً ... ومقتّراً مثل العصاره
دُهن الحجارة جاءني ... وعجبت من دُهن الحجاره
وله يهجو أبا الحسن علي العامري:
جاد عن بُخلٍ عليّ ... تلك في العالم نُدْرهْ
فهي كالنار اعترتها ... عصر ابراهيم قِرّهْ
جاد نزراً فقبلنا ... درهم الساقط بدرهْ
عجب الناس وقالوا ... كيف نيلت منه ذرهْ
هل رأيتم بعد موسى ... أحداً فجّر صخرهْ
ابن حنظلة البطليوسي
قال يمدح ابن الأفطس:
زعم الناس أن حاتم طيّ ... أول في الندى وأنت الثاني
كذب الناس ليس ذاك صحيحاً ... هو مرعى وليس كالسّعدان
أبو الفتح عبد العزيز ابن جعفر العدوي
قال:
نظر الناس الى حس ... ن الذي أهوى وحزني
فرأوا يوسف منه ... ورأوا يعقوب منّي
أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي وهب
أورده أبو الصّلت في الحديقة، قال:
قالوا تدانيت من وداعهم ... ولم نر الصبر منك مغلوبا
فقلت للعلم إنني لغد ... أسمع لفظ الوداع مقلوبا
نظيره لأبي عبد الرحمان النيلي من شعراء اليتيمة:
إذا دعاك الوداع فاصبر ... لا يَروعَنّك البعاد
وانتظر العود من قريب ... فإن قلب الوداع عادوا
ولابن جاخ الصبّاغ في المقلوب:
وتحت البراقع مقلوبه
وقد مضى ذكره.
وقال ابن أبي وهب:
قم فاسقني والرياض لابسة ... وشياً من النور حاكه القَطْر
والشمس قدعصفرت غلائلها ... والأرض تندى ثيابها الخضر
والنهر مثل المجَرّ حفّ به ... من الندامى كواكِبٌ زُهْر
والرّوض مثل السماء حلّ به ... من وجه من قد هويته بدْر
وقال ابن أبي وهب من أبيات في النِّيلوفر:
تلاقى الدجى نوماً بأجفان هاجر ... وتلقى الضحى سُهْداً بأجفان مهجور
وقال:
ما أنس لا أنس حمّاماً صُلِيتُ به ... من حرّ وجدي بحرّ النار أضعافا
من كلّ أغيد مجدول الحشا غَنِج ... قد أتلفت صبرنا عيناه إتلافا
قد كدت أحسبه من حرّه سقراً ... لو لم يطف بي من الوِلدان من طافا
أبو محمد الأعشى النحوي
قد ذكرنا الاستشهاد في شعر ابن البين بقوله وهو:

ملك إذا ادّرع الدِّلاص حسبته ... لبس الغدير وهزّ منه جدولا
فحذارِ ليثاً لا يُنَهْنَه باسلاً ... تَخِذَ الصّوارم غيلَهُ والذُّبَّلا

أبو زيد بن العمة
قال في الشطرنج:
هلمّ الى تدبير جيشين جُمِّعا ... رِخاخٌ وأفيال وجُرْدٌ سوابح
تكبّرن عن حمل السلاح الى الوغى ... فأرماحها ألبابنا والقَرائِحُ
أبو الفضل جعفر ابن شرف
هو ولدأبي عبد الله محمد مصنّف أبكار الأفكار، توفّي في حدود سنة ثلاثين وخمسمائة، قال في وصف فرس من قصيدة:
لبست أعكافه ثوب الدجى ... وتجلّى خدّه بالفلق
وانبرى تحسبه أجفْل عن ... لسعة أو حية أو دلق
وقال:
أوجست في الحرب من وخز القنا ... فتوارت حَلقاً في حلَقِ
وقال مرة أخرى:
وعصرك مثل الزمان الربي ... ع لا يهجر الشمس فيها الحمل
تسامت عُلاك سموّ النجوم ... وسارت أياديك سير المثل
ومن أخرى:
قدمت لنصف شهر الصوم برءاً ... لما يشكو لبعدك من سقام
ولما أن طلعت لنا هلالاً ... حسبنا الفطر في نصف الصيام
وصرت البدر لاح فما عجبنا ... لنصف الشهر من بدر تمام
فإن تمكث فطود في ثبات ... وإن ترحل فسهم في اعتزام
وقال من أبيات:
ألمي لفقد الدمع بعد فراقكم ... ألم الجراحة بالدم المحصور
وقال وتروى لأبيه:
صنم من الكافور بات معانقي ... في حُلّتين تعفف وتكرم
فكرت ليلة وصله في صدّه ... فجرت بقايا أدمعي كالعندم
فطفِقت أمسح مقلتيّ بجسمه ... إذ عادة الكافور إمساك الدم
وسنورد شعر أبي عبد الله محمد ابن شرف وكلامه. وكان معاصراً لابن رشيق عند ذكره إن شاء الله تعالى. أنشدني أبو علي الحسن بن علي بن صالح الأندلسي وقد قدم العراق سنة سبع وخمسين وخمسمائة. قالأنشدني غير واحد لابن شرف أنه قال عند وفاته:
رحلت وكنت ما أعددت زاداً ... وما قصّرت عن زاد المُقيم
فها أنا قد رحلت بغير شيء ... ولكنّي نزلت على كريم
فما أدري أنشدنيهما لهذا ابن شرف أو لأبي عبد الله ابن شرف. وذكر لي الفقيه اليسع بن عيسى اليسع الغافقي الأندلس أن أبا الفضل جعفر بن محمد ابن شرف شيخه وهو يروي عنه. وقال أدركته سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقد بلغ خمساً وتسعين سنة وتوفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة وقد أناف على المائة وكان يروي العمدة لابن رشيق عنه بالإجازة، وأجاز لي روايتها عنه بالإجازة عن ابن شرف عن ابن رشيق، وأنشدني لابن شرف هذا:
مطل الليل بوعد الفلق ... وتشكّى النجم طول الأرق
ووصفه الفتح صاحب قلائد العقيان وقال: الأستاذ الأديب، الحكيم الناظم الناثر، الكبير المعالي والمآثر، وذكر أنه زاخر العباب، فاخر الآداب، وله يد في علم الأوائل بها خبرة الألباب، وله تصانيف منها كتابه المسمى سر البر ورجزه الملقب بنجح النصح. ومن حكمه قوله:

العالم مع العلم كالناظر في البحر يستعظم منه ما يرى والغائب عنه أكثر. لولا التسويف لكثر العلم. الفاضل في الزمان السوء كالمصباح في البراح، قد كان يضيء لو تركته الرياح. لتكن بالحال المتزائدة أغبط منك بالحال المتناهية. والقمر آخر إبداره أول إدباره. لتكن بقليلك أغبط منك بكثير غيرك. فإن الحي برجليه وهما ثنتان، أقوى من الميت على أقدام الحَمَلة وهي ثمان. المتلبّس بمال السلطان كالسفينة في البحر إن أدخلت بعضه في جوفها أدخل جميعها في جوفه. التعليم فلاحة الأبدان وليست كل أرض منبتة. الحازم من أيقن فبادر وشك وروى. قول الحق من كرم العنصر كالمرآة كلما كرم حَديدُها أدّت حقائق الصفات. رب سامح بالعطاء على باخل بالقبول. ليس المحروم من سأل فلم يعط، وإنما المحروم من أعْطِيَ فلم يأخُذْ. ابن آدم تذمّ أهل زمانك وأنت منهم كأنّك وحدك البريء وكلهم الجريء، كلا بل جنيت، وجني عليك فذكرت ما لديهم ونسيت ما لديك. اعلم أن الفاضل الذكي لا يرفع أمره أو يظهر قدره، كالسّراج لا تظهر أنواره أو يرفع مناره. الناقص الذي لا يبلغ الى نقصه إلا بوضعه، كهوجل السفينة لا ينتفع بضبطه إلا بعد الغاية من حطّه.
وله من رسالة:
توسُّلُ الهمم، أعزّك الله، كتوسل الذمم. ورب راق بوسيلة ذي اشتياق فاستباق الى فضيلة رصد فقصد واحتشد فتحرى الرشد. ولمّا طلع بك المجد من معالمه وأينع لك الحمد في كمائمه فلاح محيّاك قمراً زاهراً، وفاحت سجاياك زهراً عاطراً، وأنار بأفقك منار الأنوار، ودار على قطبك مدار الفخار، وخفّ إليك بالقلوب ارتياحها وطار إليك بالنفوس جناحها، فجوامع الجوامع لديك حضور، ونواظر الخواطر إليك صور. وقد تخيلتك نظرات العيون وتيممتك خطرات القلوب فحنت إليك حنين اليفَن الى صِباه، واهتزت اهتزاز الغصن الى صَباه. ولا غرو أن رمت إليك القلوب بأرواحها وتلقتك العيون بالتماحها فقد يرقب الصباح ويلمح القمر اللّيَاح وليس على عاشق الفضل من جناح.
وكتب الى وزير:
أطال الله بقاء الوزير وأعلى مرتقاه في رفعة العز ومنعة الحرز، الوزير الأجل كالمطر الجَوْد يملأ الحياض، وينبت الرياض، بل كالقمر يقذف بالنور، ويذهب بالديْجور، وقد ألحفني من سناه، وسقاني من سقياه، بما أنار فأضوى، وجاد فأروى. فلله أياديه ما أنزلها بكل فناء، وأسمعها لكل نداء، حين رعى قصدي وهو مجفيّ، ووعى صوتي وهو خفيّ. فالآن أضرب بحسام اعتناؤك جرّده، وآوي الى ذمام عَلاؤك أكّده، والله بفضله يديم نعماءه، ويعلي ارتقاءه، حتى أظهر بسمائه واشتهر بأرفع أسمائه.
ومن شعره قوله:
قامت تجر ذيول العَصْب والحَبَر ... ضعيفة الخطو والميثاق والنظر
تخطو فتولي الحَصا من حَليها نُبَذاً ... وتخلط العنبر الوردي بالعَفَر
غيري يخلي بما تبديه من قلق ... في الوُشْح أو غَصَص تخفيه في الأُزُرِ
لم أدر هل حنق الخلخال من غضب ... عليه أم لعب الزنار من أشر
تلفّتت عن طَلَى وسنان وابتسمت ... عن واضح مثل نَوْر الروضة العطر
إن نلت ريّاه لم أطمع بمطمعه ... لأن روض الصِّبا نَوْر بلا ثمر
ما لذّ للعين نوم بعدما ذكرت ... ليلاً سمرناه بين الضال والسَّمُر
تساقط الطل من فوق النحور به ... تساقط الدرّ في اللبات والثُّغَرِ
ومفرَق الليل قد شابت ذوائبه ... فبِتّ أدعو له بالطول والعمر
والليل يعجب والظلماء داجية ... من ساهر يتشكّى الليل بالقصر
فبتُّ أجزع من ليل بواضحة ... تبدو وأبخل من روض على سحر
يا من جفا فجفاني الطيف هجرك لي ... بأي عذر فعذر الطيف في السهر
ذكرت بالسفح شملاً غير منصدع ... بالنائبات ونظماً غير منتثر
ومنها في وصف السيف:
إن قلت نارٌ أتندى النار مُلْهَبَة ... أو قلت ماء أيرمي الماء بالشرر
ومنها في وصف الدرع:
من كل ماذيّة أنثى فلا عجب ... كيف استهانت بوقع الصارم الذكر
وله من أخرى أوّلها:

ما الرسم من حاجة المَهْريّةِ الرُّسُمِ ... ولا مرام المطايا عند ذي أرم
رُدّي شَبا اللحظ تدين الركاب فما ... بالبِيد للرّكب من هادٍ ولا علَمِ
حثّي المطي وشدّي في دوائرها ... هذا أوان انقضاء الشدّ من زِيَمِ
ريعت لنَبْأةِ سامي السّوط فالتفتت ... صُعْر الخدود الى سوّاقة حُطُم
ثَبْتٌ على صهَوات الناجيات وقد ... أخفت سروج المطايا صولة اللُّجُم
منوطة بغواشي البِيض راحته ... كأنّما اختلطت بالصارم الخَذِم
بتنا نكالئ طرف العين عن سِنَة ... فالطيف يستأذن الأجفان في الحُلُم
معرِّسين بأغفال البطال لنا ... تحت الوشيج مبيت الأُسد في الأجُمِ
قامت تغبّطني بالحرص سالكة ... بين السبيلين لم تقعد ولم تقم
ظنّت بي العجز وارتابت فخاصمها ... جور الزمان فلم تعذر ولم تلم
إني وإن عزّني نيل المنى لأرى ... حرص الفتى خِلّة زيدت الى العدم
فما عكفت بآمالي على وثَن ... ولا سجدت بأشعاري الى صنم
أهل المناظر والألباب خالية ... لا يعدمون من الدنيا سوى الفهم
نالوا الحظوظ فحازوها موفّقة ... كما تقاسمت الأيسار بالزّلَم
لمّا رأيت الليالي قد طُبعن على ... جدْب الأسود وخِصْب الشاء والنعم
رجعت أضحك والإعوال أجدر بي ... من ميْسِر كان فيه الفوز للبَرم
تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنّني صارم في كف منهزم
ذهبت بالنفس لا ألْوي على نفس ... وإن دعيت به ابن المجد والكرم
وللمصاع وأطراف اليراع يد ... بنت لي المجد بين السيف والقلم
ومن مدائحها:
وإنّ أحمد في الدنيا وإن عظمت ... لواحد مُفْرَد في عالم أمَم
تهدى الملوك به من بعد ما نكصت ... كما تراجع فلّ الجيش بالعلم
رحب الذّراع طويل الباع متضح ... كأنّ غرّته نار على عَلَمِ
من الملوك الألى اعتادت أوائلهم ... سحب البرود ومَسْحَ المسك باللِّمَم
زادت مرور الليالي بيتهم شرفاً ... كالسّيف يزداد إرهافاً على القدم
تسنّموا نكبات الدهر واختلطوا ... مع الخطوب اختلاط البرء بالسقم
وله من أخرى أولها:
سروا ما امتطوا إلا الظلام ركائبا ... ولا اتخذوا إلا النجوم صواحبا
وقد وخطت أرماحهم مفرق الدجى ... فبات بأطراف الأسنة شائبا
وليل كطيّ المِسْح جُبْنا سواده ... كأنّا امتطينا من دجاه النوائبا
خبطنا به الظلماء حتّى كأنّما ... ضربنا بأيدي العيس إبْلاً غرائبا
وركب كأنّ البِيض أمست ضرائباً ... لهم وهم أمسَوا لهنّ ضرائبا
إذا أوّبوا ساروا شموساً منيرة ... وإن أدلجوا أمسوا نجوماً ثواقبا
طوال طوال الباع والخيل تحتهم ... تخالهم فوق الجياد أهاضبا
فما يحملون السُّمر إلا عوالياً ... ولا يركبون الخيل إلا سلاهِبا
إذا اعتقلوا للطعن سُمْراً عواليا ... أو اتّشحوا للضرب بيضاً قواضبا
وله من أخرى أولها:
أرِحْ خُطاكَ فحَلْيُ النّجم قد نُهبا ... وقد قضى الشرق من وصل الدجى طربا
إنّا ركبنا من الظلماء جانحة ... كأننا من دجاه نمتطي نُوَبا
سلِ النّجوم هل ارتابت بصحبتنا ... لما أثرن إليهنّ القنا السُّلُبَا
إذا استمرّت لمجرى النجم سالكة ... خلنا المجرّة من آثارها ندبا
تهفو الركاب فتهدينا أسنّتنا ... كأنّما عارضت أطرافها الشُّهُبا
وباتت الخيل يقدحن الحصا حنقاً ... حتى تضرّم ذيل الليل والتهبا

تلك الفوارس لا تثنى أعنّتها ... عن وِجهة أو ينالَ السيف ما طلبا
باتوا على نشوة ما هاجها طرب ... وقد أداروا لطاسات السرى نَخَبا
إذا أثاروا القنا عن جُنْح مُظْلِمَةٍ ... شالوا النجوم على أطرافها عذَبا
وله:
خيال زارني عند الصباح ... وثغر الشرق يبسم عن أقاح
وقد حشر الصباح له ونادى ... فأصغى النجم منه الى الصباح
وفاض على الكواكب وهو طام ... وطار النسر مبلول الجناح
وزائرة طردت لها منامي ... وقد عقد الكرى راحاً براح
وأدناها الهوى حتى أذلّتْ ... وباتت بين ريحان وراح
تهزّ الغصن في حِقْف مَهيل ... وتفري الليل عن قمر لياح
وأضناني الهوى فنَعتْ نُحولي ... وهل يُنْعى النحول على الصِّفاح
وقد حمّلتُ ثِقل الحبّ ضعفي ... كحمل الخِصر للكفل الرَّداح
أحنّ الى رضاك وفيه برئي ... كما حن العليل الى الصباح
وقد أحللت حبك في فؤادي ... مَحَلَّ المال من أيدي الشِّحاح
سأفزع في هواك لحسن صبري ... كما فزَع الجبان الى السلاح
وأقتدح الرغيبة من ركاب ... بَراهُنّ السُّرى برْيَ القِداح
تعنِّفُ أنْ رأت شأْوي بعيداً ... ومن يثني الجواد من الجِماح
سُرًى جُبْنا به الظلماء حتى ... سبقنا البائتين الى الصباح
إذا وَنَت الكواكب عن مداها ... حفزناها بأطراف الرماح
ومن كان الوزير له ظهيراً ... يَسُمْ راعيه في حيّ لِقاح
بحيث الرعي في أحوى أحمّ ... وحيث الوِرد في شم قَراح
من القوم العزيزيّين أهل ال ... على والطَّول النسب الصُّراح
أقاموا المجد في سَمْك عَليّ ... ومدّوا العزّ في أرض فَياح
فيأوي كل عاف من ذراهم ... الى بيض النهى خضر البطاح
وقد قام العُلى فيهم خطيباً ... وصاح الجود حيّ على الفلاح
بأبنية وأعمدة طوال ... وراحات وساحات فِساح
أبا بكرٍ كتمت عُلاك حِلْماً ... فنَمّ على الرُّبا طيب الفواح
فكم تحيي المواليَ بامتنان ... وكم تُرْدي المعاديَ باجتياح
يمينٌ ملّكت رقّ المساعي ... وكفّ أُعْذِبَتْ ماء السماح
وفضل لا يُنيب الى نصيح ... وجود لا يُصيخ لقول لاح
وحكم أوسع الدنيا وقارا ... وقد خفقت له خَفْقَ الجناح
ومنها:
دعوت المتقين لخير مأوى ... وأحللت الطريد أعزّ ساح
فما للفضل منها من زوال ... وما للمجد عنها من بَراح
لقد أنسى زمانك كل عيد ... بعزّ ثابت وأسى مُزاحِ
وذي الأيام أعياد الأيادي ... فكيف تضيفهن الى الأضاحي
وله:
يا منجدي والدهر يبعث حربه ... شعثاء قد لبست رداء عَجاجها
لله درّك إذ بسطت الى الرضى ... نفساً تمادى الدهر في إحراجها
وأرقت ماء الورد في نار الأسى ... كالراح يُكْسَر حدّها بمزاجها
فيأتني تلك الغمام فبرّدت ... من غُلّة كالنّار في إنضاجها
فأويت تحت ظلالها ووجدت برْ ... د نسيمها وكرعت في ثجّاجها
حاولت منّي أن أطارد حاجة ... مرضت فأعيا الناسَ بابُ علاجها
قل كيف تُنْعَشُ بعد طول عِثارها ... أم كيف تُفْتَحُ بعد سدّ رِتاجها
وله وقد استدعي الى حضرة المتوكل فنزل الغيث عليه في طريقه إليه:
صاحبنا الغيث الى الغيث ... لكنّه غيث بلا عيث
سحابة تهمي حياها سرى ... لا تخلط الإعجال بالريث
يا ليث غاب حسنه باهر ... والحسن لا يعرف لليث

أحَلّني قربك في موضع ... يجلّ عن أينٍ وعن حيثِ

أبو الفضل عبد الله بن الغابر الأندلسي
قال من قصيدة:
كن كالزمان فقد لانت معاطفه ... ونلت منه بفضل الواثق الوطرا
وما خصصت ولكن عمّ نائله ... فاستعبد الثقلين: الجنّ والبشرا
عدل يمدّ رواق العزّ سيرته ... فيشمل الموطنين: البدو والحضرا
وتكشف الظلم والإظلام غرته ... فيُخجل النّيرين: الشمس والقمرا
ويستوي ذكره حسناً ومنظره ... فيشغل الممتعين: السمع والبصرا
مرأى وخُبْراً أتانا عن جلالته ... فزكّيا الشاهدين: العين والأثرا
سرّح منالي الى ساحات أنْعُمِه ... وضمّن الصادقين: الخُبْر والخَبَرا
قال يهنئ بمولود في رجب:
نجم تراءى في سماء الحسب ... للشُّهْب في أيامه منتسبْ
وأغربَت ليلة ميلاده ... فليلة القدر أتت في رجبْ
وقال:
مني ومنك تدلّل وتذلّل ... والصبر عنك تعلّل وتجمّل
فالعين عين ما يعين معينها ... والقلب فيك على العويل معوّل
في كل جزء من جفونك صارم ... وبكل جزءٍ من فؤادي مقتل
أبو عبد الله محمد بن عبادة القزاز
قال يمدح ابن صمادح وخلط النسيب بالمديح:
نفى الحب عن مُقلتَيَّ الكرى ... كما قد نفى عن يدي العدم
فقد قرّ حبّك في خاطري ... كما قرّ في راحتيه الكرم
وفرّ سلوّك عن فكرتي ... كما فرّ عن عرضه كل ذم
فحُبّي ومفخره باقيا ... ن لا يذهبان بطول القدم
فأبقى لي الحب خال وخدّ ... وأبقى له الفخر خال وعم
ووجدت في قلائد العقيان شعراً لابن عبادة في المعتمد يوم العروبة مشهود له بالإجادة:
وقالوا كفه جُرحت فقلنا ... أعاديه تواقعها الجراح
وما أثر الجراحة ما رأيتم ... فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل البأس منها ... ففيها من مجاريه انسياح
وقد صحّت وسحّت بالأماني ... وفاض الجود منها والسّماح
عبادة بن محمد بن عبادة القزّاز
قال:
إنما الفتح هِلال طالع ... لاح من أزراره في فلك
خدّه شمس وليل شعره ... من رأى الشمس بدت في حلَك
محمد بن يوسف المعروف ب
ابن الرفّا البلنسي
ذكره أبو الصّلت في الحديقة وقال: يوسف بن الرفا البلنسي قال في شمعة:
وصفراء لم تدر الهوى غير أنّها ... رثت لي وباتت تُسْعد الليل أجمعا
نحولاً وسُهداً واصفراراً وحُرْقة ... وخَفْقاً وسقماً واصطباراً وأدمعا
وقال من قصيدة:
وإذ تنْثني حولي غصون معاطف ... تُأَطَّر من حَلْي بورْق سواجع
فأرعى ثُريّا كلّ قُرْط خفوقه ... لقلبي ولكن دَرّهُ لمدامعي
ولابن الرفّا أيضاً:
يا ضيا الصّبح بخبت الغَبش ... أطِراز فوق خدّيك وُشِي
أم رياض رنّحتها مُزنة ... وبدا الصُّدغ بها كالحنشِ
لست أدري أسهام اللحظ ما ... أتّقي أم لدغ ذاك الأرقش
بأبي منك قِسِيّ لم تزل ... راميات أسهماً لم تَطش
رشقت قلباً خفوقاً يلتظي ... كضِرام في يدي مرتعش
ربّ ليل بتّه ذا أرق ... إبر بياض أم قتاد فرشي
سابحاً في لُجَج الدمع ولك ... نني أشكو غليل العطش
ونجوم الليل في أسدافه ... كسيوف بأكفّ الحبش
وسماء الله تبدي قمراً ... واضح الغرّة كابن القُرَشي
أبو مروان عبيد الله بن سرية
قرأت في رسالة أبي الصّلت أميّة وقد ذكر لنفسه شعراً وقال: هذا نظير ما أنشدنيه عبيد الله بن سريّة لنفسه:
راقني النّهر صفاء ... بعد تكدير صفائه
كان مثل الورد غضّاً ... فهُوَ اليوم كمائه
وشعر أبي الصلت:

ولله مجرى النيل فيها إذا الصّبا ... أرتنا به في مرّها عسكراً مَجْرا
فشطّ يهزّ السمهريّة ذُبَّلاً ... وموج يهزّ البيض هنديّة بُتْرا
إذا مدّ جا كالورد غضّا وإن صفا ... حكى ماءَه لوناً ولم يعْدُه نشرا
وقال عبيد الله بن سرية أيضاً:
لما رأيت الغرب قد غصّ بالدجى ... وفي الشرق من ضوء الصباح دلائل
توهّمت أن الغرب بحر أخوضه ... فإنّ الذي يبدو من الشرق ساحل

أبو الطيب بن البزاز
قال في أبي زيد المتطبّب المعروف بابن زهر، وأرورده أبو الصّلت في رسالته:
قل للوبا أنت وابن زُهْر ... قد جُزْتما الحد في النِّكايه
ترفّقا بالورى قليلاً ... في واحد منكما كفايه
أحمد بن علي الفرسقي
قال يهنئ ابن صمادح بقدومه من بعض أسفاره:
إيابُك ردّ الشباب القشيبا ... وأمّن مسودّه أن يشيبا
تبين وتدنو كما تفعل الشم ... س حيناً طلوعاً وحيناً غروبا
أبو محمد بن هند
قال:
لما رأيت سهام لحظك أقصدت ... قلبي وسُخطك سدّ باب رضاك
لم أدر أيّ معذّبَيْك يميتني ... أسقيم جفنك أم صحيح جفاك
الحصري الأعمى المريني
هو أبو الحسن علي بن عبد الغني من الأندلس، صاحب تصنيفات وتأليفات وإحسان في النظم قال في غلام اسمه هارون:
يا غزالاً فتن النا ... س بعينيه فُتونا
أنت هاروت ولكن ... صحّفوا تاءك نونا
وقال يهجو أبا العرب الصقلّي:
مُعْجَب كالمتنبّي ... وهو لا يُحسن شيّا
إن هذا يَحْيَوِيّ ... أوتيَ العلم صبيّا
وقال:
كم من أخد قد كان عندي شَهْدة ... حتى بلوت المرّ من أخلاقه
كالملح يُحْسَب سكّراً في لونه ... ومجسّه ويحول عند مذاقه
وقال يرثي المعتضد عبّاداً أبا المعتمد:
مات عبّاد ولكن ... بقي الفرع الكريم
فكأنّ الميت حيّ ... غير أن الضاد ميم
وقال:
أقول له وقد حيّا بكأس ... لها من مِسْك راحته ختام
أمن خدّيك تُعْصَر قال كلاّ ... متى عُصرت من الورد المدام
وقال:
وشاعر من شعراء الزمان ... يفخر عندي بالمعاني الحسان
وإنّما أطيب أشعاره ... نصف خراسان أو القيروان
وقال:
إذا كان البياض لباس حزن ... بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي ... لأني قد حزِنت على شبابي
وقال:
مما يبغّضني في أرض أندلس ... سماع معتصم فيها ومعتضد
أسماء مملكة في غير موضعها ... كالهِرّ يحكي انتفاخاً صَوْلة الأسد
أبو الحسن عبد الكريم
ابن فضال الحلواني
قال:
ولما تدانَوا للرحيل وقُرِّبت ... عِتاق المطايا والرِّكاب تسير
وضعت على قلبي يديّ مبادراً ... فقالوا محبّ للعناق يشير
فقلت ومن لي بالعناق وإنّما ... تداركت قلبي حين كاد يطير
وقال:
قالوا غداً رمضان فاستعدّ تُقًى ... وتب على الصوم واهجر لذّة الكأس
إنّ الهلال يُرَى حتماً فقلت لهم ... حتَمْتُمُ بشَتات بين جلاّسي
فقال لي الغيم لا تحفل بقولهم ... عليّ سُتْرته فاشرب بلا بأس
فقمت أعثر في ذَيْل المجون إلى ... جمع المسرّة بين الكأس والطاس
وقال من قصيدة:
ويختال بك الطِّرف ... كما يختال نشوان
تراه وهو لا يدري ... درى أنّك سلطان
وقال في العِذار:
إذا كنت تهوى خدّه وهو روضة ... به الورد غضّ والأقاح مُفلَّج
فزد كلَفاً منه وفرط صبابة ... وقد زيد فيه من عذارٍ بنَفْسَجُ
أبو علي كاتب مؤنس
قال:
تقوّس بعد طول العمر ظهري ... وداستني الليالي أيّ دَوْس

فأمشي والعصا تمشي أمامي ... كأن قَوامها وَتَر لقَوْسي
ولابن حمديس أيضاً هذا المعنى بعينه وقد أوردنا من شعره - وأوقع ما سمعته في العصا ما أُنْشِدْتُه بأصفهان لنظام الملك الوزير:
بعد الثمانين ليس قوّهْ ... لهفي على قوّة الصبوّهْ
كأنّني والعصا بكفي ... موسى ولكن بلا نبوّهْ
وأنشدني خازن دار الكتب النظامية بأصفهان لبعض فضلاء العصر بها، وهو عزيز الشملكي، أنه دخل دار الكتب وبيده عصا، فقلت له: كبرت وضعفت. قال وقلت له: إن العصا للشيخ رجل ثالثة. فارتجل في الحال بديهة:
ضَعْف جسمي لمشيبي ... لم يدع مني وقارا
صار حالي عبرة العا ... قل إن رام اعتبارا
العصا صارت حماري ... ولها صرت حمارا
الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد الوَقَّشي
ذكره أبو الصّلت في الحديقة. هو من بيت كنانة من القديم الى الآن ويعيش لهم في زماننا هذا، وأحد كاتب بليغ مشهور لم يقع إليّ من كلامه شيء، وأورد له هذه الأبيات في غلام خصيّ وضيء الوجه:
وفارِه يحمِله فاره ... مرّ بنا معتقلاً صَعْدَهْ
سِنانها مشتمل لحظَهُ ... وقدّها منتحل قَدّه
قلت لنفسي حين مدّت لها ال ... آمال وامال ممتدّه
لا تطمعي فيه كما الشَّعْر لا ... يطمع في تسويده خَدّه
قال: هذا كالذي أنشدته لبعض أهل البلاد وهو أبو محمد بن مالك
أما الغرام فقد ألحّ فزادا ... بأغنّ لا يعطي المحبّ قيادا
حلَفت صحيفة خده أن لا يرى ... في صحْنها أبد الزمان مدادا
قال القاضي الفاضل: وهذا كقول بعض المغاربة:
إني عَلِقْتُ مُهَفْهَفاً ... كالبدر في غسَق الظُّلَم
آلت صحيفة خدّه ... أن لا يخطّ بها قلم
ولأبي الوليد الوقشي أيضاً:
عجباً للمدام ماذا استعارت ... من سجايا معذّبي وصفاته
طيب أنفاسه وطَعْم ثنايا ... ه وسُقْم العقول من لحظاته
وهي من بعد ذا عليّ حرام ... مثل تحريمه جَنى رشفاته
وللفقيه أبي الوليد هشام بن أحمد الوقشي أيضاً:
قد بيّنت فيه الطبيعة أنّها ... ببديع أعمال المهندِس ماهره
عُنِيَتْ بمَبْسَمِه فخطّت فوقه ... بالمسك قوساً من محيط الدائره
وفي كتاب ابن بشرون المرسوم بالمختار أنشدت للوقشي في وصف رمح وأظنّه لغيره:
جرى الموت في عِطْفَيْه بدءاً وعَوْدة ... كما كان يجري فيهما الماء من قبل
وأصبح ميّاداً ومغرِسُه الحشا ... كما كان مُنْآداً ومنبته الرمل

ناقد الكاتب
قال في وصف القلم من قصيدة:
لله درّك إذ ترويه ... ... من المداد وفي عدّ من الكلم
الوليد حسان ابن المصيصي
قال:
نُسْقَى ونسجد إجلالاً لهيبته ... فنحن نشرب خمراً في مساجيد
وقال من أبيات وتروى لأبيبكر ابن عمّار:
قَسا قلباً وسنّ عليه درعاً ... فباطنه وظاهره حديد
ابن شاطر السرقسطي
قال، وعادة أهل الأندلس لبس البياض في العزاء:
قد كنت لا أدري لأيّة علة ... صار البياض لباس كل مصاب
حتى كساني الدهر سَحْق مُلاءَة ... بيضاء من شيبي لفقد شبابي
فلذا تبيّن لي إصابة من رأى ... لُبْس البياض على نوى الأحباب
أبو عامر محمد بن عبيد
قال:
روض إذا حثّ السحاب كؤوسه ... شرب النبات على غِناء البُلبُل
عبد الصمد بن عبد الصمد
قال يصف فرساً:
على سابح فرد يفوت بأربع ... له أربعاً منها الصبا والشمائل
من الفُتْخِ خوّار العِنان كأنّه ... مع البرق سارٍ أو مع السيل سائل
أبو محمد الطبيب المصري
قال:
أخذتَ مني غلامي ... لأيْره لا لغيره
وكان غِمداً لأيْري ... فصرتَ غِمداً لأيره
وأورد صاحب قلائد العقيان في حديث المعتمد أنه قام في مجلسه فأنشده:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... بِشاذَ مَهْرٍ ودع غُمدان لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بنِ عليّ وابنِ ذي يزنِ

أبو علي حسن ابن هادة
قال:
رأيت عند الصباح أيْراً ... مضمّخ الرأس بالرجيع
فقلت من أين جئت قل لي ... فقال من فَقْحة البديع
أبو الوليد البجلي
قيل: قال أبو يحيى ابن الطوفان: كان أبو الوليد عندي وأنا أسقيه فناولته كأساً مترعة فقال:
لأبي يحيى أياد ... قلّ فيها مُشْبهوه
ملأ الطاسات حتّى ... قيل في البيت أبوه
من هذا الباب قول الصاحب بن عباد في مغني يعرف بابن عذاب:
أقول قولاً بلا احتشام ... يفهمه كل من يعيه
ابن عذاب إذا تغنّى ... فإنني منه في أبيه
ولابن الحدّاد في شاعر يعرف بابن الفرّاء:
وإذا ما قال شعراً ... نفقت سوق أبيه
أبو محمد عبد الجبار ابن حمديس
الصقلّي الأصل، من أهل صقلّية، وهو أقربعصراً، وقيل مات بعد الخمسمائة. ووجدت في ديوان أبي الصلت أميّة الأندلسي أنه كتب إليه ابن حمديس الصقلي:
ولو أن من عظمي يراعي ومن دمي ... مدادي ومن جلدي الى مجده طِرْسي
وخاطبت بالعلياء لفظاً منقّحاً ... وخطّطت بالظلماء أجنحة الشمس
لكان حقيراً في عظيم الذي له ... من الحقّ في نفس الجلال فدع نفسي
ومالكة نفسي ملكت بها المنى ... وقد شرّدت عني التوحّش بالأُنس
وقابلت منها كل معنى بعدّه ... يلوّح نفس الوهم في دُهْمة النِّقْس
كأني في روض أنزّه ناظري ... جليل معانيه يدقّ عن الحسِّ
مقَلْت بعيني منه خطّ ابن مُقلة ... وفضّ على سمعي الفصاحة من قُسِّ
وخِفت عليه عين سحر تصيبه ... فصيّرت تعويذي له آية الكُرسي
فأجابه أبو الصلت:
ولم تهد نجوى الروح منه الى الأسى ... ولكن نفخت الرّوح في ساكن الرمس
وما روْضة بالحَزْن جِيدَتْ بواكف ... من المُزْن محجوب به حاجب الشمس
سرى زَجِل الأكناف حتّى تحلّبتْ ... مدامعه بالرِّيِّ في تُرْبها اليَبْس
تمرّ بها ريح الجنوب عليلة ... فتبعث أنفاس الحياة الى النفس
بأبدع من خطّ ولفظ تداعيا ... بدا الحسن في تلك اليراعةِ والطِّرس
كأني من مِيماتِه مترشّف ... حروف شفاه عاطرات اللّمى لُعْسِ
بعثتَ به أُنسي وقد كان غارِباً ... فلا غرو أن أسميتُه باعِثَ الأُنس
وها إنّني عارضته في رَويّةٍ ... كملتمس نَيْل الكواكب باللّمس
وقرأت في مجموع لابن حمديس في المعتمد ابن عباد لما خلع وأخرج:
جرى بك جَدّ بالزّمان عثور ... وجار زمان كنت منه تُجير
لقد أصبحت بيض الظُّبى في غموده ... إناثاً لترك البيض وهي ذكور
ولما رحلتم والندى في أكفّكم ... وقُلْقِل رَضْوَى منكم وثَبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تطير
وتمام الأبيات:
الى اليوم لم يَذْعَرْ قطا الليل شُرَّبٌ ... يُغير بها عند الصباح مغير
ولا راح من نادي المكارم بالغنى ... يقلّبه في راحتَيْهِ فقير
وهذه القطعة جواب ما كتبه إليه المعتمد ابن عباد من محبسه:
غريب بأقصى المشرقين أسير ... يُبَكّي عليه منبر وسرير
أذلّ بني ماء السماء زمانُهم ... وذُلُّ بني ماء السماء كبير
وأنشدت له ببغداد ونسب الى أبي الصّلت وصح أنها لابن حمديس:
ومطَّرد الأرجاء يصقل متنه ... صَباً أوْدَعَت سرّ الهوى في ضميره
جريح بأطراف الحصا كلّما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره
كأن حُباباً ريع فوق حَبابِه ... فأسرع يلقي نفسه في غديره

كأن الدجى خطّ المجرّة بيننا ... وقد كُلِّلت حافاته ببدوره
شرِبنا على حافاته كأس خمرة ... وأقتل ما في الكأس عينا مديره
قال أبو الصّلت في الحديقة: كان عبد الجبار ابن حمديس جيد السبك، حسن الأخذ، وأنا أذكر هاهنا طُرَفاً من سرقاته التي زاد فيها على المسروق منه فمن ذلك قوله يصف فرساً:
كأنّ له في الأذْن عينا بصيرة ... يرى اليوم أشباهاً تمرّ بها غدا
أقيّد بالسيف الأوابد فوقه ... ولو مرّ في آثارهن مقيّدا
أخذه من قول امرئ القيس وهو أوّل من قال قيد الأوابد:
وقد أغتدي والطير في وُكناته ... بمُنْجَرد قيدِ الأوابد هيْكَل
ومن قول ابن مقبل:
إني أقيّد بالمأثور راحلتي ... فلا أبالي وإن كنّا على سفر
وقال من قصيدة يصف إبلاً:
ضربت لدى الإعناق أعناق الفلا ... بحسام ماء في حشاها مُغْمَد
وهو من قول ابن المعتز:
وأغمدن في الأعناق أسياف لُجّة ... مصقلّة تُفْرَى بهنّ المفاوز
وقال ابن حمديس من أخرى:
لم رياض حتوف فالذباب بها ... تشدوهم في الهوادي كلما اقتحموا
بيض يضعن المنايا السود صارخة ... وهي الذكور التي افْتُضّت بها الغُمَم
وهي من شعر أبي نصر ابن نباتة:
ومن العجائب أنّ بِيض سيوفه ... تلِدُ المنايا السود وهي ذكور
وقال من أخرى:
وجيشك هنديّ الخوافي بهزّه ... جناحي عقاب سمهريّ القوادم
وهو من قول أبي الطيب المتنبي:
يهزّ الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحَيْها العقاب
ومن قوله أيضاً:
ضمَمْت جناحيهم على القلب ضمّةً ... تموت الخوافي تحتها والقوادم
وقال من أخرى:
وكأنّهم في السابغات صوارِمٌ ... والسابغات لهم من الأغماد
ومن قول المتنبي:
وسيفي لأنت السيف لا ما تسلّه ... لضرب وممّا النّصل منه لك الغِمْدُ
وبيت ابن حمديس أجود لأنّه سهل وقريب مما فيه من التشبيه والترتيب. وقال من أخرى:
له حملة عن فتكتين انفراجها ... كضربك من وجهين شاه الملاعب
من قول امرئ القيس:
نطعنهم سُلْكى ومخلوجةً ... كرّك لامَيْنِ على نابِل
وقال:
أصَبْتُ رشادي في الغرام ولم أخط ... بثابتة الخَلْخال خافقَة القُرْط
إذا مشَطَت فرْعاً تفرّع ليله ... وطال من القَيْنات فيه سُرى المشْط
من قول كشاجم:
ومُرَجَّل بالمشط يتعب في ... مسراه حين يحِلُّه المشْطُ
وقال من أخرى:
بتُّ منها مستعيداً قُبَلاً ... كان لي منها على الدّهر اقتراح
وأُروّي غُلَل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القَراح
من قول البحتري:
وبي ظمأ لا يملك الماء دفعه ... الى نَهلة من ريقها البارد العذب
وقال من أخرى يصف سفينة:
طيّارة ولها فرخان وا عجباً ... إذ لا تزقُّهما حتى ترقّاها
كأنّما البحر عَيْن وهي أسوده ... فسَبحها فيه والعَبْران جفناه
وهو من قول السلامي في زورق:
جرى فظننت أنّ الأرض وجه ... ودِجلة ناظر وهو السواد
ومما أورده أبو الصّلت في حديقته قوله من قصيدة في مدح علي بن يحيى بن تميم:
وبلدة لطمت أيدي القِلاص بنا ... منها وجوه قِفار بُرْقِعَت ظُلَما
سارَيْت فيها سَراة خلتهم ركبوا ... رُبْدَ النقانق فيها أيْنُقاً رُسُما
حادت بهم عن بِقاع المَحْل جامحةً ... الى بنان عليّ تَطلب الدِّيَما
مملّك برواق المجد محتجب ... له تبَرَّجُ نُعْمَى تغمرُ الأمما
لا يقدح العفو في تمكين قدرته ... ولا يواقع ذنباً كلّما انْتَقَما
وقوله من أخرى سبق أولها:
مجتمع الطعمين، في طبعه ... توقُّد البأس وفَيْض السّماح
يُضحِك في الحرب ثغور الظُّبَى ... وهنّ يُبْكين عيون الجِراح

وقوله في مدح أبي يحيى الحسن بن عليّ بن يحيى بن تميم من قصيدة عيديّة:
فَرِدِ المصلّى في جلالِ معظَّم ... ووقار مختشع وسَمْت منيب
بعرمرم، ركبت لآجال العِدى ... عقبانَ جوّ فيه أسْدُ حروب
عُقِدَ اللّواء به على ذي هيبة ... حالي المناسِب بالكرام حسيب
والبُزْلُ تجنح بالقِباب تهادياً ... عَوْمَ السفين بشَمْأل وجنوب
من كل رَهْو في المقادة مشيه ... نَقْل الخطى منه على ترتيب
وكأنّما تعلو غواربها ربى ... روْضٍ بثَجّاج الحيا مهضوب
ونجائب مثل القِسِيّ ضوامر ... خلقت لقطع سباسِبٍ وسُهوب
ترعى الفلا بفم وترعى نَحْضَه ... من مَنْسِم بالمرو، ذي تشذيب
في صفة الأعلام:
ومُطِلّةٍ في الخافِقَيْنِ خوافِقٍ ... كقلوب أعداء ذوات وجيب
من كلّ منشور على أفُق الوغى ... مسطوره كالمُهْرَقِ المكتوب
جاءت تُتَرِّبُهُ العِتاق بركضها ... والريح تنفُضه من التتريب
صُوَر خُلِقن على الموات فخُيِّلت ... فيه الحياة بسَوْرَة ووثوب
وفغَرْن أفواهاً رِحاباً عُطِّلَتْ ... أشداقها من ألْسُنٍ ونُيوبِ
من كل جسم يحتشي من ريحه ... روحاً يحرّك جسمه بهبوب
قال القاضي الفاضي هذا مليح جداً. وقد قيل في زقّ نُفِخَ:
مات لما سَلَلْت منه مداما ... فأعدنا له من الريح روحا
وترى بها العنقاء تنفُض سِقْطَها ... في نفنف للحائمات رحيب
وصلَتْ ذرَى المهديّتين وهاجرت ... وكراً لها بالهند غير قريب
كيْما تفوز ونَيْلُه فوق المنى ... من حسن وجهك عينها بنصيب
وفي وصف الخيل المجنونة:
وصواهلٍ مثل العواسل عَدْوُها ... أبداً لحرب عدوّك المحروب
من كل ورْد ما يشابه لونه ... إلا تورّد وجنة المحبوب
وكأنّما كنزت ذخيرة عتقه ... منه عُبابَ البحر في يَعْبوب
أو أدْهَمٍ أحْوى الإهاب كأنّما ... صُبِغ الغُراب بلوْنه الغِرْبيبِ
أرساغه درر على فيْروزج ... لان الصَّفا من وقعها لِصليب
أو أشهَبٍ مثل الشّهاب ورجمه ... صافي الضّلوع أقبّ كاليَعْسوب
لا فرق ما بين الصباح وبينه ... إلا بعَدْوٍ مِنه أو تقريب
أو أصفر مثل النهار مغبر ... بسواد عَرْفٍ عن سواد عسيب
أو أشْعَلٍ للنّار فيه شُعلة ... تُذْكى بريح منْه ذاتِ هُبوب
وكأنّه مِرْداة صخر حطّه ... من عُلْو سَيْل ماج في تصويب
وكأنّما سكِر الكُمَيت بلونه ... فله بمشيته اختيال طروب
وكأنّ حِدّة طرفه وفؤاده ... من خَلْفِه في الأذْن والعُرْقوب
وقال:
قم هاتها من كف ذات الوِشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
واحْلُل عرى نومك عن مقلة ... تمقل أجفاناً مِراضاً صحاح
وقال من أبيات:
زادت على كُحُل العيون تكحّلاً ... ويُسَمّ نِصْل السهم وهو قتول
وقال أبو الصّلت في الحديقة لم أسمع في اجتماع الكحل والكحل أحسن من هذا البيت. وقال:
لو كنت زائرتي لراعك منظري ... فرأيت بي ما يصنع التفريق
ولحال من دمعي وحَرّ تنفسي ... بيني وبينك لُجّة وحريق
وقال مما أورده أبو الصّلت في الحديقة:
تخالفت النّيّات يوم تحمّلوا ... فرَكْب الى شرق وركب الى غرب
وما قُدَّ قَدُّ السير بالسير بينهم ... ولكنّما المنقَدّ بينهم قلبي
وقال:
قضت في الصِّبا النفس أوطارها ... فأعقبها الشيب إنذارها
نعم وأُجيلت قداح النوى ... عليها فقَسّمن أعشارها

وراهبة غلقت دَيْرها ... فكنّا مع الليل زوّارها
هدانا إليها شذا قَهوة ... تُذيع لأنفك أسرارها
فما فاز بالمسك إلا امرُؤ ... تيمّم دارينَ أو دارها
طرحتُ بميزانها دِرْهمي ... فأجرت من الدّنِّ دينارها
وقد سكّنت حركاتِ الأسى ... قيانٌ تحرّك أوتارها
فهذي تغازل لي عودها ... وتلك تقبّل مِزْمارها
وراقصة لقطَتْ رجلها ... حساب يد نقَرتْ طارها
وساقية زرّرت كفّها ... على عنق الظبي أزرارها
تدير بياقوتة درّة ... فتغمس في مائها نارها
وقُضْب من الشمع مصفرّة ... تريك من النور نوّارها
تقلّ الدياجي على رأسها ... فتهتك بالنّور أستارها
كأنا نسلّط آجالها ... عليها فتمحق أعمارها
ومنها:
ذكرت صِقِليّةً والمنى ... تهيّج للنفس أوطارها
فإن كنت أخرجت من جنّة ... فإني أحدّث أخبارها
وقال:
طرَقَتْ والليل ممدود الجناح ... مرحباً بالشمس من غير صباح
سلّم الإيماء عنها خجلاً ... أوَ ما كان لها النطق مباح
غادة تحمل في أجفانها ... مرضاً فيه منيّات الصِّحاح
بتّ منها مستعيداً قُبَلاً ... كان لي منها على الدهر اقتراح
ألثم الدرّ حصى ينبع لي ... بزلال ناقعاً فيه التياح
وأُرَوّي غُلَل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القَراح
باعتناق ما اعتنقناه خنًى ... والتزام ما التزمناه سفاح
ما على من صاد في النوم له ... شرك الحلُم مهَاة من جُناح
همت بالغيد فلو كنت الصِّبا ... لم يكن منّي عنهنّ براح
ورددت الشيب عنها جاهداً ... بكلام السِّلم أو كَلْم الكفاح
علِّل النفس برَيْحان وراح ... وأطِع ساقيها واعص اللواح
وأدِر حمراء يسْري لطفُها ... سُكْرُها من شمسها في كل صاح
لا يغُرّنّك منها خجل ... إنّما تبديه عن خدّ وَقاح
واعْلُها بالماء تعلم منهما ... أنّ بين الماء والنار اصطلاح
وإذا الخمر حماها صِرفها ... ترك المزج حِماها مستباح
خلني أفني شبابي مرِحاً ... لا يُرَدُّ المُهْر عن طبع المراح
وانتظر للحِلم مني كرّة ... كم فساد كان عقباه صلاح
فالقضيب اهتزّ والبدر بدا ... والكثيب ارتجّ والعنبر فاح
والثريّا رجع الجوّ بها ... كابن ماء ضم للوكر جناح
فكأنّ الغرب منها ناشق ... باقة من ياسمين أو أقاح
وكأن الصبح ذا الأنوار من ... ظلَمَ الليل على الظِّلمان صاح
ثَقّل الراحة من كاساتها ... برَداح من يد الخَوْد الرَّداح
في حديق غرس الغيث به ... غدِق الأرواح مَوْشيَّ البطاح
تعقِد الطّرف أزاهيرُ به ... ثمّ تعطيه أزاهير صراح
أرضَع الغيم لِباناً بانَه ... فتربّت فيه قامات المِلاح
من شعر ابن سنان الخفاجي:
نشأت للحُسْنِ فيهم مزنة ... أنبتت في كل حِقْف غصنا
كلّ غصن تعتري أعطافه ... رَعْدَة النشوان من كأس اصطباح
لابس صبغة ورد كلّما ... ودّعت في طرَف اليوم بَراح
فكأنّ التُّرب مِسك أذْفَرٌ ... وكأن الطّلّ كافورُ رَباح
وكأنّ الروض رشّت زهرَه ... بمياه الورد أفواه الرياح
أفلا تغنم عيشاً يقتضي ... سيره عنك غدوٌّ ورواح

وإذا فارقت ريعان الصِّبا ... فالليالي بأمانيك شِحاح
وقال في الشيب والعصا:
ولي عصا من طريق الذمّ أحمدها ... بها أقدّم في تأخيرها قدمي
كأنّها وهي في كفي أهشٌ بها ... على ثمانين عاماً لا على غنمي
كأنني قوس رام وهي لي وتر ... أرمي عليه رمِيّ الشيب والهرم
في الأصل قوس عام أملح منه للمكربل العسقلاني:
قوّس الدهر قامتي ... فاتّخذت العصا وتر

ولده محمد ابن حمديس
ذكره ابن بشرون في المختار وذكر أنّه أشعر من والده عبد الجبار وأورده في شعراء الغرب الأوسط ووصفه في الشعر بحسن النمط وأورد له بائية اخترت منها أبياتاً سوية. فمنها:
وإن مردّ الهيّنات الى الألى ... حَوَوْا بك حُلْو العيش محضاً لأعذب
وما صدّني عن أن أزورك جفوَة ... ولكنْ حياء مسني وتهيّب
ومن الهناء بالصوم والعيد:
ليَهْنِئْكَ شهر الصوم لا زلت مُدْرَكاً ... بأمثاله تأتي عليه وتذهب
صلات كفيه رحمة ومَشوبة ... وصومك رضوان به وتقرّب
لأوليته في الله أحسن صحبة ... ولا زلت تدعى محسناً تُصحب
وصمت به عن كل إثم ومَحْرَم ... صيام الورى أن يأكلوه ويشربوا
الى أن لقِيت العيد بالجِدّ في التقى ... وغيرك بالأيام يلهو ويلعب
أبو الطيب الأزدي
قال وذكر ابن شرف إنهما له في كتابه أبكار الأفكار:
قلم قلّم أظفار العِدى ... فهو كالإصبع مقصوص الظُّفُر
أشْبَه الحيّة حتى أنّه ... كلّما عمّر في الأيدي قصُر
أبو مروان عبد الملك ابن أغلب الشاطبي
قال:
يا مُعْطِشي كم أصيح وا عطشي ... إلى الرُّضاب الشهيّ من بَرَدك
لَيْتَ كما قد سكَنت في خلَدي ... لو أنّني خاطر على خلَدِك
إن كنت لا ترتضي بلثم فمي ... فإنني أرتضي بلثم يدِك
بُرْد بن أحمد بن بُرْد
قال:
اسمَع لعبدك شعرا ... وإن أردت فسحرا
وما تخيّرت لفظاً ... لكن تخيّرت دُرّا
نظمته لك عِقْداً ... فوافق العِقد نَحْرا
أبو الحسن اليسع بن اليسع
قال:
راموا ملامي فكان إغراء ... وذمّ حبّي فكان إطْراء
لو علم العاذلون ما خبري ... لانقلبت فيه لامهم راء
وقال:
لمّا قدِمت وعندي ... شطر من الشوق واف
قدّمت قلبي قبلي ... فصُنْه حتى أُوافي
عبد الحميد بن عبد الحميد البرجي
برجة حصن من نواحي المَرِيّة. قال:
أرِح متْن المُهنَّد والجواد ... فقد تعِباً بجِدّك في الجهاد
قضَيت بعزمة حقّ العوالي ... فقضّ براحة حق الهوادي
ابن معرّف المنجّم
قال:
يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كُهّان
لا طَرْفة منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دَوْرَةٌ إلا لها شان
أبو الحسن البَلَنْسي
قال:
وجرى النسيم معطَّراً فكأنّما ... أهدت إليك سلامها أسماء
وبدت ذُكاء مع العشِيّ كأنّما ... خلعت عليها بُرْدَها الصهباء
أبو طالب عبد الجبّار المعروف بالمتنبّي
من شعراء الأندلس وجدت كنيته في تاريخ الأندلسيين بمصر: أبا طالب. ووجدت في مجموع ابن الصيرفي المصري كنيته أبا الوليد. وعاش بعد سنة خمسمائة فإنه ذكر علي بن يوسف بن تاشفين وهو أمير المسلمين في أرجوزته المحتوية على فنون من العلوم والمحيطة بتاريخ الدول. وكان موت علي بن يوسف بن تاشفين في سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وكانت ولايته عند وفاة أبيه أمير المسلمين، سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
ومن أرجوزته ما أورده في التاريخ قوله:
لما رأى أعلام أهل قرطبه ... أنّ الأمور عندهم مضطربه
وعُدِمَتْ شاكلة للطاعه ... استَعْمَلَتْ آراءَها الجماعه

فقدّموا الشيخ من آل جَهْوَر ... المكتنى بالحزم والتدبّر
ثمّ ابنه أبا الوليد بعده ... وكان يحدو في السَّداد قصده
فجاهرت بجَوْرها الجهاوره ... وكل قُطر حلّ فيه الفاقره
من كلّ مُنتَزٍ بها وثائر ... وعادل من كل عدل جائر
بالثّغر الأعلى ثار فيه منذر ... ثم ابن هُود بعد مِمّا يذكر
وابن يعيش ثار في طُلَيْطُلة ... ثم ابن ذي النون تصفّى الملك له
وثار في حِمْصٍ بنو عبّاد ... والحرب والفتون في ازدياد
وشاع عن هِشامٍ المؤَيِّد ... بأنّه حيّ ولمّا يُلْحَد
وأنّه جاء من الحجاز ... واحتلّ في حِمْصٍ على المجاز
وقال عبّاد به فصدّقوا ... بأنّه حيٌ لديه يرزق
فنسبوا دعوته طِلَّسْما ... وقد محا الممات منه والرّسما
فعبدوه مدّة أعواما ... إذ عَدِموا الألباب والأحلاما
ثم نعاه بعد ذا عبّاد ... من بعد ما طاعت له البلاد
وثار في غَرْناطة حبّوس ... ثم ابنه من بعده باديس
وآل مَعْن ملكوا المَرِيّه ... بسيرة محمودة مرضيّه
ذكرهمُ في غير ما قصيد ... يشرق مثل النحر بالفريد
وثار في شرق البلاد الفِتْيان ... العامِريّون ومنهم خَيْران
ثم زُهَيْر والفتى لبيب ... ومنهم مُجاهد اللبيب
سلطانه رَسا بمرسى دانيه ... ثم غَزا حتّى الى سردانيه
ثم أقامت هذه الصقالبه ... لابن أبي عامرهم بشاطبه
وجُلّ ما ملَكه بَلَنْسِيَهْ ... وثار آل طاهر بمُرْسِيَهْ
وبلد البونْت لآل قاسم ... وهو حتى الآن فيه حاكم
وابن رزين جاره بالسّهله ... أُمهِل أيضاً ثَمّ كُلّ المُهْلَه
ثم تمادت هذه الطوائف ... تخلُفهم من آلِهم خوالف
وبعد عشرة أبيات في وصف الحال، يذكر دولة لمتونة وخبر وقعة الزلاقة:
وإذ أراد الله نصر الدين ... استصرخ الناس ابن تاشِفين
فجاءهم كالصُّح في إثْر غَسَق ... مبتدراً كالماء ينفي في رَنَق
وافى أبو يعقوب كالعقاب ... فجرّد السيف عن القِراب
وواصل السير الى الزلاّقه ... وساقه ليومها ما ساقه
لله درّ مثلها من وقْعه ... قامت بنصر الدين يوم الجمعه
وثلّ للشرك هناك عَرْشَهْ ... لم يُغْنِ عنه يومه إذْفونْشَهْ
فوجب الخلع لذي الجماعه ... وصرّحوا ليوسفٍ بالطاعه
فاتّصل الأمر على النظام ... وامتدّ ظلّ الله للإسلام
ثمّ ولِي عليٌّ ابن يوسُفِ ... مُقْتَدياً حكم أبيه يقتفي
ومن شعر عبد الجبّار المتنبي قوله:
أهديت مُشْبه قَدِّك الميّاس ... غُصْناً نضيراً ناعماً من آسِ
فكأنّما تحكيه في حركاته ... وكأنّما يحكيك في الأنفاس
وقال:
بعوض جعلْنَ دَمي نُهْزَةً ... وغَنّيْنَني بضروب حِسان
كأنّ عُروقيَ أوتارهنّ ... وجسمي رَباب وهنّ القِيان

أبو عبد الله محمد بن عائشة البلنسي
قال:
ودَوْحة قد بدت سماء ... تطلع أنوارها نجوما
هبّ نسيم الصَّبا عليها ... فخِلتُها أُرسِلت رجوما
ومن شعره أيضاً:
لله ليل بات في جنحه ... طوع يدي من مهجتي في يديه
رأيته أسهر أيامه ... ولم أزل أسهر شوقاً إليه
عاطيته صفراء مشمولة ... كأنّها تعصر من وجنتيه
لله قول القائل:

أمن خديك تعصر قال كلا ... متى عصرت من الورد المدام
ولابن عائشة قوله، وهو مما أبدع فيه وزاد على من تقدم:
إذا كنت تهوى وجهه وهو روضة ... بها نرجس غض وورد سميرج
فزد كلفاً فيه وفرط صبابة ... فقد زاد فيه من عذار بنفسج
أكثر هذه الأسماء، علّقتها من تعليق أبي القاسم بن منجب المصري وذكرت في كل شيء ما وقع لي وأضفت إليه ما سمعته. وفي التعليق: ومن الطارئين على الأندلس:

أبو الحسين الفكيك
هو أقدم عصراً ولم يلحق سنة خمسمائة. قال من قصيدة في بعض ملوك الأندلس وهو الملقب بالمقتدر:
لعزّك ذلت ملوك البشر ... وعفّرت تيجانهم في العفر
وأصبحت أخطرهم بالقنا ... وأركبهم لجواد الخطر
سهرت وناموا على المأثرات ... فما لهم في المعالي أثر
وجلّيت في حيث صلى الملوك ... فكلٌ بذيل المنى قد عثر
بدور تجرد سيف الندى ... وتغمده في رؤوس البدر
وأنتم ملوك إذا شاجروا ... أظلتهم من قناهم شجر
وقال:
غنّى حسامك في أرجاء قرطبة ... صوتاً أباد العدى والليل معتكر
حيث الدماء مدام والقنا زهر ... والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا
ومما ينسب إليه:
ووعدتني وعداً حسبتك صادقاً ... فجعلت من طمعي أجيء وأذهب
وإذا اجتمع أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب
وكان مشهوراً بالهجاء. وله في الشريف فخر الدولة النقيب، وفي رقبته غدّة:
بلع الأمانة فهي في حلقومه ... لا ترتقي صعداً ولا تتنزّل
وقال في الوزير البابلي وقد احترقت تَرْقوتُه وصارت رقبته تسيل:
إن الوزير أبا علي لم يزل ... للنيل لا لوزارة مخلوق
مخلوق مرفوع جعله خبر إنّ أي أن الوزير مخلوق لم يزل لكذا لا لكذا:
وأنه صنم الجماد إذا مشى ... وعذاره في خدّه محلوق
يمشي كما يمشي العلوق وخلفه ... بالدار بكه يلعب المحروق
وقال في ناصر الدولة حسين ابن حمدان وكانت يده شلاّء:
لئن غلطت بأن مدحتك راجياً ... جدواك مع علمي بأنك باخل
فالدولة الغراء قد غلطت بأن ... سمتك ناصرَها وأنت الخذل
إن تمّ أمرك مع يد لك أصبحت ... شلاء فالأمثال شيء باطل
وأنشدني بعض الأصدقاء أبياتاً في طبيب مزوق بمصر، قال هي لابن الفكيك المصري ولم أعرف غير أبي الحسين الفكيك وهي:
قل للطبيب الديلمي وإن غدا ... فيالطب ربّ تنطس وجراح
يَمّمت طبك جاهلاً بأصوله ... فغدوت كالساري بلا مصباح
وحكمت في المرضى برأي مزوق ... فتركتهم صوراً بلا أرواح
أبو العرب
مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي ولد بصقلية في سنة ثلاث وعشرين وأربعمئة وخرج عنها لما تغلب الروم عليها في سنة أربع وستين وأربعمئة قاصداً المعتمد محمد بن عباد. قال أبو القاسم علي منجب في تعليقه: وبلغني في سنة سبع وخمسمائة أنه حي بالأندلس. قال من قصيدة مدح بها المعتمد أول ما لقيه في سنة خمس وستين وأربعمائة:
أحَادِيَنا هذا الربيع فخيّم ... وأمنية المرتاد والمتيمم
وحط به عن ناجيات كأنّها ... قسيٌّ رمت منا البلاد بأسهم
ومنها:
يشاهد أسرار الزمان جلية ... بفطنة مدلول البصيرة ملهم
أياد أبانت عنه وهي صوامت ... وربّ مبين ليس بالمتكلّم
فلا الغرض الأقصى عليه بعازِبٍ ... بعيد ولا المعتاص عنه بمبهم
وقال:
تخشى بوادِرُه والحلم حاجزها ... أنّ السّيوف لتخشى وهي في القرب
ويضرب الذكر صفحاً عن مواهبه ... كأنّه لم يجُد يوماً ولم يهب
أولها:
اهجر رشادك في وصل ابنة العنب ... ولا تعقّنّ أمر اللهو واللعب
متّع شبابك واستمتع بجدّته ... فهو الحبيب إذا ما بان لم يؤب

من ضيّع اللهو في بدء الشباب طوى ... كشحاً على أسف لم يغن في العقب
والحلم قيدٌ فدعه واخْطُ في مرح ... والجد داء فداو النفس باللعب
والهمّ للنفس شيطان يوسوسها ... فاقذفه من أنجم الصهباء بالشهب
لله درّه لقد أجاد:
بكر حَصَانٌ إذا ما الماء واقعها ... أبدت لنا زبداً في سورة الغضب
كادت تطير نفاراً حين نافسها ... لولا الشباك التي صيغَتْ من الحبب
هذا معنى بديع. وقال:
وما لحظت عيناي في الدهر قبله ... فريداً أرى كل الورى منه وحده
ومن معجزات المجد والفضل أنّني ... أشاهد منه الضد ينصر ضده
دنا كرماً لما تباعد رفعة ... دنو الغمام المستهل وبعده
أقرت به هام الأعادي فحالفت ... قلوباً عرفن الحق واعتدن جحده
وقال:
أبهى المناظر في عيني وأحسنها ... كأس بكف رخيم الدل سحّار
كأنّه إذ يسقّي سادة زهراً ... نجم يوزع نجماً بين أقمار
وقال:
كأنّ فجاج الأرض يمناك إن يسر ... بها خائف تجمع عليه الأناملا
فأنّى يفرّ المرء عنك بجُرْمِه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا
ليس يخرج هذا في الجودة عن قول النابغة الذبياني:
فإنّك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقال:
لم لقوا جيشك المنصور منتظماً ... ظلت رؤوسهم بالبيض تنتثر
أولغت شبلك في الهيجا دماءهم ... حتى تورد منه الناب والظفر
إنّ الدماء لمكروه مغبّتها ... لكنّها عند آساد الهدى هدر
وقال:
وإنّي لأستشفي بطيف مسلّم ... يبلّ غليلي باللقاء ويبرد
وما خاف طيف في الزيارة رِقْبَةً ... ولكن رقيب الطيف طرف مسهّد
وهل في ضمير الدهر للقرب عودة ... فتغني كما كنا أم الصبر أعود
ليالي ترضينا الليالي كأنّها ... إلينا بإهداء المنى تتردد
همام يجر الجيش جماً عديدُه ... لأرض الأعادي زائر متعمد
كأنّ الضحى يعتل منه فيكتسي ... شُحوباً وعين الشمس تُقْذَى وترمد
فقل هو ليل في الظّهيرة مظلم ... وقل هو بحر في البسيطة مزبد
كأنّ الردى فيه تضل نفوسهم ... فيهديه من صوت القواضب منشد
نجوت فعمري مستجد وإنّما ... نجاة الفتى بعد المخافة مولد
وأحسنت الأيام حتى كأنّما ... تنافس في الإحسان يومي والغد
وقال:
عرفت فودعت الصبا والغوانيا ... وقلت لدعي الحلم لبيك داعيا
فما يزدهيني دل كل غَريرةٍ ... تزيّن للكهل الحليم التصابيا
ولكن قصرت العين عن كل منظر ... فما أرسلت لحظاً على القلب جانيا
غضوب لدين الله في كل موطن ... يعاف الرضى حتى يرى الدين راضيا
ألا إنني لما عددتك أولاً ... ختمت وما استثنيت بعدك ثانيا
استثنيت هاهنا عددت ثانيا، لا من الاستثناء الذي هو إخراج بعض من كل. وقال:
إلى مَ اتّباعي للأماني الكواذب ... وهذا طريق المجد بادي المذاهب
أهم ولي عزمان عزم مشرق ... وآخر يُغْري همتي بالمغارب
نسخة يثني همتي للمغارب:
ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على أخفافها والغوارب
عليّ لآمالي اضطراب مؤمل ... ولكن على الأقدار نجح المطالب
فيا نفس لا تستصحبي الهون إنّه ... وإن خدعت أسبابه شرّ صاحب
ويا وطني إن بنت عنّي فإنّني ... سأوطن أكوار العتاق النجائب
إذا كان أصلي من تراب فكلّها ... بلادي وكل العالمين أقاربي
وهذا من قول ابن المعتز:
إذا كنت في الناس ذا ثروة ... فأنت المسوّد في العالم
وحسبك من نسب صورة ... تخبّر أنّك من آدم
وكقول الآخر:

الناس من جهة التمثال أكفاء ... أبوهمُ آدم والأم حوّاء
رجعنا الى القصيدة:
وما ضاق عنّي في البسيطة جانب ... وإن جل إلا اعتضت منه بجانب
إذا كنت ذا هم فكن ذا عزيمة ... فما غائب نال النجاح بغائب

ابن كاتب كرامة القيرواني
وجدت في تعليق بعض المصريين: أنشد الفقيه أبو عبد الله محمد بن عذرة القيرواني لابن كاتب كرامة القيرواني:
ولقد قطعت الليل في دعة ... من غير تأثيم ولا ذنب
بأعزّ من بصري على بصري ... وأحبّ من قلبي الى قلبي
ابن شرف
أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني وأظنه والد جعفر وقد أوردنا شعره.
هو أقدم عصراً من الذين أوردناهم وكان في عصر ابن رشيق والجميع متقاربو العصر. طالعت مصنف محمد ابن شرف الموسوم بأبكار الأفكار ومن منثور كلامه فيه: أذى البراغيث إذا البَرّ أغِيث - بريءَ عليلٌ بَرانا، وأثرى فقيرٌ ثرانا، وتاريخ ذلك انصرام بآخر، وقد بلغت القلوب الحناجر، بحمّارة احمرّت لها خضرة السماء، واغبرّت مرآة الماء، حتّى انهلّ طالع وسميّ، وتلاه تابع وليّ، دنا فأسفّ، ووكف فما كفّ، فما فَتِئ ثرثاراً قَطْرُهْ، مجوباً شمسه وبدره، حتى إذا جاء ركيّه بالطام، وخيف إعظام الاطام، وقال حوض الأرض لماتح المزن حسبي، قد ملأت وطبي، رفع حجاب السماء، وغيض طاغي الماء، وأطلق طلق الهواء، من عقال الظلماء، وجلّيت عروس الشمس، معتذرة من مغيبها بالأمس، وطفقت ترشف ريق الغدران حتى جفت عبراتها، وتعانق أعناق الغدران حتى خفت حسراتها، فعندها مزق عن الدقعاء صحيح إهابها، واختزن درّ البرّ في أصداف ترابها، فلا وأبي الأيام ما مرّت بهن عاسِرة، إلا والقيعان مسندسة، والآكام مطرّسة، قد تجدد الشمل، وتفسح الأمل، وحمل الشمس الحمل، وظهرت تباشير النهاية، في شمائل البداية، فرجاؤنا في التمام، أخْذاً بقول أبي تمام:
إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملا
فخف من أعباء الهموم ما آد، واطمأن قلب القانط وما كاد، فسبحان مطفئ نيران الجدب الحامية، بمياه الخصب الهامية، وتعالى كاشف تلك الكروب، وآسي تلك الندوب.
من فصل في وصف زرع برد: كان زرعاً يرجى ليوم الحصاد، منتظراً فيه آخر صاد، فأكلته ثغو الغما، قبل ثغور الأنام.
وله يستهدي عمامة: قد اقترحت تاج الملابس، وسماء اللابس، والنازلة بأشرف الحلة مكاناً، وأعلى المحلة بنياناً، ولك بإنفاذها من الثناء، مثل مكانها من البناء.
وله على لسان محبوس: قد حكمت بسجن الأشباح، وهي سجون الأرواح، فامنن على ما شئت منهما بالسراح. فالحبس نزاع الأرواح، والعقلة أخت القتلة، وكلاهما فقد، ومهر للخطوب ونقد، وإنما بينهما نفس متصاعد، وأجل متباعد، فالحق منهما ما أجلت، بما عجلت، وقد أخرنا طلب الدين، الى يوم الدين.
وعلى لسان محبوس أيضاً: لان لنا القوم وخشنت، ورقوا وغلظت، فأصلحت نقمتك ما أبْطرته نعمة سواك، وأدبت غلظتك من يُسحب عن هوى غير هواك، فإطلاق بامتنان، وتسريح بإحسان، أو نزل من حميم، وتصلية جحيم.
ومن منثور كلامه في أبكار الأفكار: لما فنى عمر الأمس، وطفئ سراج الشمس، لاحت بروق الثغور اللوامع، وخلخلت رعود الأوتار في المسامع، وبعث مخارق وابن جامع، فلم يزل ذلك دأبنا ما أقلع سحابنا حتى متنا بالهجعة، وكلنا يقول بالرجعة.
أخرى: شربنا وقد سحبت أذيال السحب، وضُمِّختْ ترائب الترب، وبكت عين المزن، من غير حزن، مطلنا القيظ بالراح، الى برد الرواح، وعملنا بالمصير، الى الليل القصير، فسألنا غريم النوم، النظرة الى ضحى اليوم، فأجابنا، ولم يهتك حجابنا.
وله في وصف نعيم العيش: ضمّ القدّ المجرد، ولثم الخد المورد، وفقدان المراقب، ونسيان العواقب.
في القرابة: الوجيه بين أقاربه، كالوادي بين مذانبه، يجذبن ماءه، ويطلبن إظماءه.
في العداوة: كم قاطعك، من راضعك، وقابحك، من مالحك، ونافقك، من وافقك، وناصبك، من صاحبك، وحادّك، من وادّك.
في الجود والبخل: الجود، أنصر من الجنود، من بخل بماله، سمح بعرض آله.
في أنواع شتى:

إذا انضمّ جناح الطيش، تم صلاح العيش. ما أحسن، إلا لَسِن. لا كرم، لمن حرم، كيف ينجز، من يعجز. إيّاك وإخلاف العِدَهْ، مع إسعاف الجِدَهْ، إياك والطعام، مع الطغام، كثرة الأيْمان، من قلة الإيمان، احذر الكريم إذا افتقر، واللئيم إذا قدر.
احذر التقي إذا أنكر، والذكي إذا فكّر، قد ينجز المطول، ويوجز المطيل، المطل أحد المنعين، واليأس أحد الصنفين، العشق أحد الرقين، والسلو أحد العتقين، رفث الكلام أحد السفاحين، وموالاة القبل أحد الناكحين، جميل الرد أحد الجودين، وبقاء الذكر أحد الخلودين، طول الخمول أحد القبرين، وبقاء الثناء أحدالعمرين، بئس النّصير، التقصير، المتجاسر خاسر، الباذل، كثير العاذل، الكريم، كثير الغريم. لا رياضة للأحداث، على الأحداث. أول العقد، وواسطة العقد. من كثُر هُجْرُه، وجب هجره، من كرمت خصاله، وجب وصاله، عيبه عيوب، وذنوبه ذنوب، سحابة صيف، وزيارة طيف، عشرة الصّغار، صَغار، حيث ما حل، عقد وحلّ، وأين ما نزل، ولّى وعزل، المستلئم، أحزم من المستسلم، غرس الإحن، يثمر المحن، نسيم الريح، نسيب الروح، الوسيلة جناح النجاح، ربّ عين إذا رَنَتْ زَنَتْ، إن ظمئت فريقك وِردي، وإن شربت فخدّك وَردي، إذا انحلت عقد السماء، انتظم عقد الندماء. جمالي جمال الغصن بثمره، والأفق بقمره.
ومن أشعاره بيتان لا يختلط فيهما حرف بحرف:
ودرّة نارت ودرّت داري ... لا درّ درّي إنّ درّي داري
ولا روى راو أداه ولا ... ودّت ودادي إنّ زرّي زار
وقال:
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... بالأرض فيها والسماء تذوب
والكأس كاسية القميص كأنّها ... لوناً وقدّاً معصم مخضوب
مشروبة للّبّ شاربة وما ... شيء سواها شارب مشروب
منّي إليه ومن يديه الى يدي ... كالشمس تطلع بيننا وتغيب
وقال:
خليل النفس لا تخل الزجاجا ... إذا بحر الدجى في الجو ماجا
وجاهر في المدامة من ترائي ... فما فوق البسيطة من يُداجَى
أمط عنا الكرى والليل ساج ... ودعنا نلبس الظلماء ساجا
وهات على اهتمام الروح راحاً ... تعيد هموم أنفسنا افتراجا
إذا مرّيخها اتّقد احمرارا ... صببنا المشتري فيها مزاجا
وله:
إنْ تلقك الغربة في معشر ... تظافروا فيك على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
وله في مثله:
يا ثاوياً في معشر ... قد اصطلى بنارهم
فما بقيت جارهم ... وفي هواهم جارهم
وأرضهم في أرضهم ... ودارهم في دارهم
وله:
سأبغي على الدنيا بصولة محرب ... وإلا على الأخرى بوصلة محراب
ولا خير في عيش يكون قوامه ... بمنحة مكذوب ومدحة كذّاب
وله في عود:
يا عود من أيّة الأشجار أنت فلا ... جفا ثراها ولا أغصانه الماء
غنّى القيان عليه وهي يابسة ... بعد الحمام زماناً وهي خضراء
وله في مثله:
سقى الله أرضاً أنبتت عودك الذي ... زكت منه أغصان وطابت مغارس
تغنّى عليها الطير وهي رطيبة ... وغنّى عليها الناس والعود يابس
وله في متجسّس:
وناصب نحو أفواه الورى أذناً ... كالقُعب يلقط منهم كلما سقطا
تراه يلتقط الأخبار مجتهداً ... حتّى إذا ما وعاها زقّ ما لقطا
ومن شعره في الألغاز قوله في ميزان البنّاء:
ومعلّق بذؤابة في رأسه ... من غير ذنب بل له إحسان
ما زال يسأله معذّب جسمه ... فيجيبه وجوابه تبيان
فيقول ملت كذا وعجت كذا ولم ... يَعْدُ الصواب وما لديه لسان
وقال في مكمدة الثياب وأرزبتها:
ومضروبة في ظهرها حين تكتسي ... فإن نزعت عنها كساها فلا ضرب
وذات ابنة ما إن تزال تعقّها ... وتضربها حتّى يرقّ لها القلب
وما تشتكي منها العقوق ولا الأذى ... وبينهما مع ذا وذا الحب والقرب

وقال في الحبل الذي تنشر عليه الثياب للغسيل:
ما ضئيل له الهواء مقيل ... مكتس يومه وفي الليل عار
وترى فوقه صنوف ثياب ... وهو ذو فاقة حليف افتقار
تعتليه الكسى ثقالاً ويُلقي ... ها خفافاً في أخريات النهار

أبو علي الحسن ابن رشيق
وحيث ذكرنا ابن شرف، وليس من غرض الكتاب، فنذكر لمعة من شعر ابن رشيق وكانا في زمان المعزّ بن باديس بالقيروان وبالمهدية في سنة نيف وأربعين وأربعمائة.
قال من قصيدة:
إذا لذّة لم يبق إلا ادّكارها ... فحسبي من اللّذات ذكري لها حسبي
وما اللهو إلا حلم يقظان صادق ... وقد يحلم النّوّام بالصدق والكذب
ومنها:
فقل لصروف الدهر ضرِّي أو انفعي ... فإنّي من مثوى علي على قرب
هو المء أما جاره فهو آمن ... وأما العدى والمال منه ففي رعب
متى يدعه الراجي لدفع ملمّة ... تجاوبه منصور اليدين على الخطب
وقال:
ورب ساق لنا مليح ... لحظي على وجهه حبيس
بدر ولكنّه قريب ... ظبي ولكنّه أنيس
إن لم يكن قدّه قضيباً ... فما لأعطافه تميس
وقال:
من ذا يعالج عنّي ما أعالجه ... من حرّ شوق أذاب القلب لاعجه
ومن يكن لرسيس الشوق داخله ... يكن لفرط الضنى والسقم خارجه
كادت خلاخل من أهوى تبوح به ... سرّاً وغصّت بما فيها دمالجه
ومنها:
فهاك من محكمات القول معلمة ... بالشعر فيك وشرّ الشعر ساذجه
فإن حولك قوماً زاد شعرهم ... في البرد حتّى أصاب النّاس فالجه
وقال:
أحبّ أخي وإن أعرضت عنه ... وقلّ على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطي راض ... كما قطّبت في وجه المدام
وربّ تقطّب من غير بغض ... وبغض كان من تحت ابتسام
وقال:
معتقة يعلو الحباب جيوبها ... فتحسبه فيها نثير جمان
رأت من لجين راحة لمديرها ... فجادت له من عسجد ببنان
وقال في مرثية المعز بن باديس:
لكل حيّ وإن طال المدى هلك ... لا عزّ مملكة يبقى ولا ملك
ومنها:
لحادث منه في أفواهنا خرس ... عن الحديث وفي أسماعنا سكك
يهاب حاكيه صدقاً يبوح به ... فكيف ظنك بالحاكين لو أفكوا
أودى المعزّ الذي كانت بموضعه ... وباسمه جنبات الأرض تمتسك
فالصوت في صحن ذاك القصر مرتفع ... والستر عن باب ذاك البهو منتهك
مضى فقيداً وأبقى في خزائنه ... هام الملوك وما أدراك ما ملكوا
فهل يزول حداد الليل عن أفق ... وهل يكون لصبح بعده ضحك
وقال من قصيدة في القاضي جعفر بن عبد الله الكوفي:
أرى الناس من ضدين صيغت طباعهم ... فظاهرهم ماء وباطنهم نار
وإن ابن عبد الله قاضي عصره ... لأفضل من يثنى عليه ويختار
كريم أراد الله إتمام فضله ... فأخلاقه أرض وجدواه أمطار
له بدهات حين لا ينطق الورى ... ورأي إذا ما استعجز السيف بتّار
ولم أرَ بحراً قطّ يدعى بجعفر ... سواه وإلاّ فالجعافر أنهار
كنت قد نظمت من قصيدة ببغداد قبل أن أسمع بهذا الشعر واعتقدت أني ابتكرت المعنى:
وأعجب منه كيف سمي جعفراً ... وراحته بحر الندى يردونه
وقال:
ألا ساعة يمحو بها الدهر ذنبه ... فقد طال ما أشكو وما أتبرّم
فلم أر مثلي بين عينيه جنة ... وبين حشاه والتراقي جهنّم
عبد الله السمسطي
كان معاصر أبي الصّلت بالمهدية، وممدوحهما واحد. قال من قصيدة في مدح يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب المهدية وهي:
وإن لأبكاري عليك تبرجاً ... وحق لها إذ حسن قدّك يجتلي
وحيث بفضل البحتري توكّلا ... على ملك أعلى من المتوكّل
وقد أبطل في القول فما بلغ درجة المتوكل أحد:

وأشعرت شعري أن مدحك فرضُه ... فلم يبق فيه حصّة للتنقّل
وكدت وإني إن أمِرْتُ لَفاعِلٌ ... أحرّم ألفاظ الهوى والتغزّل
الأمير تاج الدّولة جعفر
ابن الأمير ثقة الدولة ملك صقلية: وجدت في تعليق المصريين، وقد كتب في سنة سبع وعشرين وخمسمائة أحسن ما سمع لأهل عصرنا من الارتجال قول هذا الأمير وقد رأى غلامين على أحدهما ثوب ديباج أحمر وعلى الآخر ثوب ديباج أسود، فقال:
أرى بدرين قد طلعا ... على غصنين في نسق
وفي ثوبين قد صبغا ... صباغ الخد والحدق
فهذا الشمس في شفق ... وهذا البدر في غسق

أبو سليمان بن هبة الله الكاتب
كتب الى أبي الحسن علي بن عبد الرحمان ابن أبي البشر الأنصاري الصقلّي:
فديتك ما هذا القلى والتجنب ... فإن تك ذا عتب فإنّي معتب
وإن تكن الأخرى فعد لي إلى الرضا ... فودّك لي من بارد الماء أعذب
وإن اصطباري عنك صعب مرامه ... ولا سيما في حين نلهو ونلعب
فأجابه علي ابن أبي البشر:
وعيشك مع علمي بأنّك تمزح ... لقد نالني من ذاك وجد مبرّح
ووالله ما فارقت أمرك ساعة ... وما لي عما ترتضي متزحزح
وإني على قرب المزار وبعده ... حليف اشتياق ليس ينأى فيبرح
فلا عيش لي إلا بظلّك يجتنى ... ولا لهو لي إلا بزندك يقدح
وما كان إلا ما تحقّقت علمه ... على أنّني منه الى الغدر أجنح
ولكنّني من بعد ذا لابك الأذى ... حليف ضنى أمسي به ثم أصبح
فأجابه أبو سليمان الكاتب:
عتاب المحب ليس في الود يقدح ... أكان مجدّاً فيه أم كان يمزح
ووالله ما لي يوم بعد لذّة ... ولا لي نشاط والمسرّة تسنح
فمن لي أن أعصى إذا ما هجرتني ... وهل يمكننّي في البِعاد التّسمّح
أبا حسن إنّي بودّك واثق ... فلا قادح بيني وبينك يقدح
ويا ليت لي شكواك أحمل ثقلها ... وتمسي مُعافَى من أذاها وتصبح
وقد جاءني وعد علقت بذيله ... فحققه لي فالعين نحوك تطمح
أبو بكر يحيى بن بقيّ القرطبي الأندلسي
الشاعر، توفي سنة أربعين وخمسمائة. أنشدني عبد الله المغربي قال أنشدني أبو عبد الله ابن مطرّز المغربي لابن بقي قطعة استحسنت هذا البيت فيها وهو:
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على فراش خافق
وتمام القطعة:
بأبي غزال، غازلته مقلتي ... بين العذيب، وبين شطي بارق
وسألت منه زيارة تشفي الجوى ... فأجابني منها بوعد صادق
بتنا ونحن من الدجى في لجّة ... ومن النّجوم الزهر تحت سرادق
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق
وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي
حتى إذا أخذت به سنة الكرى ... زحزحته عنّي وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على فراش خافق
لما رأيت الليل آخر عهده ... قد شاب في لمم له ومفارق
ودّعت من أهوى وقلت تأسّفاً ... أعزز عليّ بأن أراك مفارقي
وأورده عثمان ابن بشرون المهدوي في كتابه المختار، وذكر أنه ذو النظم الرائق المليح، وإن جلّ شعره في التوشيح، وله ما ينيف على ثلاثة آلاف موشحة، ومثلها قصائد ومقطعات منقّحة. أورد لابن بقي هذه القصيدة مصححة:
منازل لك يا سلمي بذي ضال ... هيّجن لاعج أوصابي وبلبالي
تعاقرتها الليالي بعد قاطنها ... بماجنين لها ساف وهطّال
هنّ المنازل قد أودت معالمها ... وبدّلت من برود سحق أسْمال
وإن عهدت بها الآرام كامنة ... لله ما هاجني من رسمها البالي
كالوشم في أذرع كالوحي في صحف ... كالحبل في حلل، أفضت لإحلال

لم يبق مما يهيج الشوق باقية ... إلا تلوّم عشاق بأطلال
حقاً سلوت ولم تحفظ عهودهم ... وإنما ذاك فعل الخائن السالي
هلا حننت الى ربع أقمت به ... مع الكواكب في تجرير أذيال
وكم قضيت مع الحسناء في أرب ... الدهر قد نام عنا نوم إغفال
تضمنا حيث لا يدري الرقيب بنا ... زنجية بالدراري جيدها حالي
كأنما البدر إذا عمّ البلادَ سنا ... ملك تطلع من إيوانِه العالي
فرقعة الأرض قد أبدت مساحتها ... شهب أفاضت زواياها بأشكال
ليت الغزال الذي وافى المساء به ... كانت إقامته من غير ترحال
وليت مكتوبة الظلماء ما محيت ... له بماء من الأشباح سيّال
يا مشفقاً من سقام كنت ألبسه ... أنا جنيت على نفسي وأولى لي
هي الصبابة إلا أنّها مرض ... لا قرّب الله منه يوم إبلالي
بيض الكواعب لا بيض القواضب لي ... فمن لصبّ مشوق رهن بلبال
دع الكماة لدَى الهيجاء بينهم ... رجم الأسنّة وارجمني بخلخال
وإن تساقوا كؤوس الموت عن حنق ... فسقِّني الريَّ من صهباء جريال
ما لي وللهمّ ليس الهم من أربي ... أنا الغني بنفسي ليس بالمال
وقد وثقت على العلات من زمني ... أن سوف ينسخ إدباري بإقبالي
أما وتبريز بختي في السيادة لا ... بكيتُ دهريَ من حط وإخمال
أليس في الأرض للطاوي مسارحها ... مندوحة بين إملال وإقبال
قالوا تغربت عن أقطار أندلس ... ومن يقيم على هون وإقلال
ما لي وإيطانها داراً وقد سئمت ... من المقام بها خيلي وأحمالي
نفضت فيها من العيش الهنيّ يدي ... وهل يعيش كريم بين بخّال
وكم لئيم تجافي بي فصلت به ... إذ غرّه اللين من مسّي وتسهالي
لم ينجه أحد مني وقد كثرت ... له القصائد عن أبيات أعوال
اليوم أهللت من سلمى الى قمر ... يجلو الظلام الذي استولى على حالي
حسبي به من أبيّ الدهر مبتغض ... أرمي به الدهر رءّاباً لأبال
لا بالقنوط إذا ما الدهر أسحته ... ولا بمستكثر في الخصب مُحْتال
له من المجد أخلاق معشّقة ... من يسل عنه فإني لست بالسالي
مشبّه الناس في الفضل المبين به ... شتان ما بين صلصال وسلسال
يا من تظلّم في أيامه فغدا ... يرعى العشيم ويستسقي من الآل
إن شئت قطف الأقاحي من حدائقها ... فارم العقود على وجناء شملال
ففي يد ابن عليّ ما تؤمله ... سحاب جود كفانا كل إمحال
كأنّما الضيف إذ يحتل ساحته ... في روضة من رياض الحسن محلال
كم نلت منه بلا منّ ولا عدة ... من المكارم ما لم يجر في بالي
ما كنت في مدحه إذ هزه كلمي ... إلا كما شعف المهوة الطالي
أقالني من عثاري آخذاً بيدي ... ندب به أورقت أغصان آمالي
ولم تفق نفسه حتى تملكني ... بالمسترقين من بِرّ وإجمال
حملت أثقال نأي الدهر معترفاً ... إن الكريم لحمّال لأثقال
فخذ مديحاً أبا بكر يعنّ الى ... زهر النجوم ويَلقاها بإخجال
من أجل تشريفكم بالجود أرض سلا ... مات الحسود بنيران الهوى صال
سلا: بلد في المغرب.
فأصبحت من تحلّيها بسؤددكم ... كالقود أعلمته من بعد إغفال
وقد ورثت عن القاضي أبيك علا ... أضحى قسيمك فيها صنوك الغالي
وكلكم سيد يُنْمَى الى نفر ... شمّ الأنوفِ كفاة غير أكفال
تنافسوا في معاليهم كأنّهم ... كعوب رمح من الخطيّ عسّال

يا أيّها الدهر أغمد كل ذي شطب ... فلا سبيل الى تضييق أوصالي
إنّي استجرت بميمون نقيبته ... ماضي العزيم كريم العم والخال
إذا بدا لك في نادي عشيرته ... أبصرت أروع هوناً غير مختال
إذا جرى الذكر في حلم وفي كرم ... فما أملّ به من ضرب أمثال
أهدي له من قريضي كل شاردة ... رمح لأعزل أو حلي لمعطال
وحاش لله أن أرضى به بدلاً ... والمرء ما بين تعويض وإبدال
أو أن أكون وأيدي العيس توضع بي ... إلا الى قصده نصي وإرقالي
أما الصيام فقد قضّيت لازمه ... ولم تكله لتضييع وإهمال
وإن لوى رمضان من سروركم ... وعدا فمنجزه إقبال شوّال
ما أبتغي بهلال الفطر أرقبه ... أنت الهلال الذي يُلقى بإهلال
وذكره صاحب قلائد العقيان وحكى أنه بلي من الزمان بالحدثان، ومن الحظ بالحرمان، وأورد من شعره قوله:
وقالوا ألا تبكي وتلك مطيّهم ... على الشّهب يحملن الأوانس كالدمى
لئن نفدت مني الدموع تغامزوا ... وقالوا سلا أو لم يكن قبل مغرما
فهلا أقاموا كالبكاء تنهدي ... إذا ما بكى القمريّ قالوا ترنما
وقوله:
عندي حشاشة نفس في سبيل ردى ... إن شنتها اليوم لم أمطل بها لغد
وكيف أقوى على السلوان عنك وقد ... ربيت حبك حتى شب في خلدي
خذها وهات ولا تمزج فتفسدها ... الماء في النار شيء غير مطرد
وقوله:
أكلّ بني الآداب مثلي ضائع ... فأجعل ظلمي أسوة في المظالم
ستبكي قوافي الشعر ملء جفونها ... على عربيّ ضاع بين أعاجم
قوله من قصيدة:
وضيّعني قومي لأني لسانهم ... إذا أفحم الأقوام عند التكلم
وطالبني دهري لأني دنته ... وإني فيه غرة فوق أدهم
وقوله:
وفتية لبسوا الأدراع تحسبها ... سلخ الأراقم إلا أنها رسب
إذا الغدير كسا أعطافهم حلقاً ... طفا من البيض في هاماتهم حبب
وقوله:
أما ترى الليل قد أدهبته شمعاً ... مثل الكواكب بانت حوله حرسا
من كل ناشرة فرعاً له شعب ... عند القيام وإسبال إذا نكسا
تطغى إذا نهنهوها من سجيتها ... كالماء إن دفعوا في صدره انسجما
وقوله:
يا أقتل الناس ألحاظاً وأطيبهم ... ريقاً، متى كان فيك الصاب والعسل
في صحن خدك وهي الشمس طالعة ... ورد يزيدك فيه الراح والخجل
إيمان حبك في قلبي يجحّده ... في خدك الكتب أو من لحظك الرسل
إن كنت تجحد أني عبد مملكة ... مرني بما شئت آتيه وأمتثل
لو اطلعت على قلبي وجدت به ... من فعل عينيك جرحاً ليس يندمل
وقوله من قصيدة يشكو أهل المغرب وقد ذم عندهم مثواه وصفرت من نائلهم يداه:
أقمت فيكم على الإقتار والعدم ... لو كنت حراً أبي النّفس لم أقم
وظلت أبكي بكم عذراً لعلكم ... تستيقظون وقد نمتم عن الكرم
فلا حديقتكم يجنى لها ثمر ... ولا سماؤكم تنهلّ بالديم
لا رزق لي عندكم لكن سأطلبه ... في الأرض إن كانت الأرزاق بالقسم
أنا امرؤ إن نبت بي أرض أندلس ... جئت العراق فقامت لي على قدم
إن كان سهماً فلا تنمي رميّته ... أو كان سيفاً فمسلول على البهم
ما العيش بالعلم إلا حيلة ضعفت ... وحرفة وكلت بالقعدد البرم
لا يكسر الله متن الرّمح إن به ... نيل العلى وأتاح الكسر للقلم
ولا أراق دماً من باسل بطل ... ومات كل أديب غبطة بدم
أوغلت بالمغرب الأقصى وأعجزني ... نيل الرّغائب حتى أبت بالندم
ومنها:

وساقط نال من عرضي فقلت له ... إليك عنّي فليس السبّ من شيمي
أعرضت عنه ولو أنّي عرضت له ... سقيته حمة الأفعى من الكلم
وقوله من قصيدة:
لا ينفذ العزم إلا أن تنفّذه ... والسيف يكهم إلا في يد البطل
تهويمة في بساط البيد يهجعها ... أشهى إليه من التهويم في الكلل
ونَوبةٍ من صهيل الخيل يسمعها ... بالرّمل أطرب ألحاناً من الرمل
يا كوكباً يغرق العافون في دفع ... منه ويحترق الأعداء في شعل
لا يدرك الناس لو راموا ولو جهدوا ... بالريث بعض الذي أدركت بالعجل

جماعة من شعراء الأندلس العصريين
أوردهم ابن بشرون الصقلي المهدوي ونقلته من خطّه في مصنفه
ابن الوضّاح المرسي المعروف ب
البقيرة
وصفه بالآداب البارعة، والعلوم الجامعة، والكتابة الرائقة، والإجادة الرائعة، وذكر أنه توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وهو طرير الشبا، طريّ الشباب، نضير العود، نمير الشراب. قال أنشدني له محمد بن محمد اليثربي أنه أنشده لنفسه بقرطبة:
هل تذكرون غريباً عاده طرب ... من ذكركم وجفا أجفانه الوسن
أخفى لواعجه والدمع يفضحها ... فقد تساوى لديه السر والعلن
يا ويلتي كيف يبقى في جوانحه ... فؤاده وهو بالأطلال مرتهن
هل شاق صحبي ما قد شاقني سحراً ... ورقاء قد شفّها أو شفني شجن
فبت أشكو وباتت فوق أيكتها ... وبات يهفو ارتياحاً تحتها الغصن
يا هل أجالس أقواماً أحبهم ... كنا وكانوا على عهد وقد ظعنوا
ما للركائب ما تهدي لنا خبراً ... سدّت مسالكها أم صمّت الأذن
أسائل البرق هل وافى بربعكم ... وهل أناخ عليه الوابل الهتن
إن كان عادكمُ عيدٌ فربّ فتى ... بالشوق قد عاده من أجلكم حزن
قد أفردته الليالي عن أحبته ... فبات يشدوكم مما جنى الزمن
بمَ التعلل؟ لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن
وقوله في الفراق:
حرام على عينيّ أن تطعم الكرى ... الى أن يعود الحي ملتئم الشعب
وكيف تنام العين بعد رحيلهم ... وقد رحل القلب المشوق مع الركب
يقولون: سلّ القلب بعد فراقهم ... فقلت: وهل قلب فيسلو عن الحب
أبو بكر محمد المرسي
ذكر أنّ أصله من إشبيلية وتهذبه بمرسية فعرف بها ونسب إليها. هو شبل عرين أسود إشبيلية لكنه غاب عن الغاب، وألقى مرساه بمرسية. وحكى ابن بشرون في كتابه، من سبب اغترابه أنه قبل أن يكتسي عذاره، ويُقْرَن بالنفسج بهاره، وبالليل نهاره، حضر في مجلس أنس أنيق نواره، وأشرقت أنواره، وغنّت أطياره، وراقت أزهاره، ودارت على الشرب عقاره، فتقدم أحدهم إليه ليَجْتَنيَ ورده، وهمّ ليجني عليه، فصدّه وردّه، ثم قبّله، وسامه ما أبى أن يفعله، ثم أخرج سكيناً فلم يخطئ بها مقتله، فيا لها من قبله، تقومت بقتله، ولذة أفضت الى ذله، فلما رفع الى قاضي البلد، أقر بالقتل وهو ماضي الجلد، وذكر الواقعة وأظهر له ما خفي فسجن شهر ثم أخرج ونفي. وذكر أن شعره خفيف الروح، متمكّن القوافي، ناهض في جو التجويد بالقوادم والخوافي، وله يد في التوشيح قوية، وكلم بالمعاني البديعة موشية، وأورد في النّحول من شعره:
نحولي شذّ عن باب النعوت ... فجسمي دون خيط العنكبوت
تفهّم منطقي إذ لا تراني ... فلي صوت أرض من السكوت
فألف مثل خلقي دون فلس ... وبعض الفلس طول الدهر قوتي
أبو بكر أحمد بن الجنان المرسي
الشاعر. وصفه بتدفق الطبع، وتأنق الصنع، وبلاغة الترصيع والتجويد، وبراعة التقطيع والتقصيد. وأورد له هذه القصيدة في مدح القاضي أبي بكر بن أسد الشاطبي:
ألا طرقتنا في الدجى ربة الخدر ... وقد جنحت في الأفق أجنحة النسر
ومالت الى الغرْبِ الثريا كأنّها ... مطار حمام رام نهضاً الى وكر

فهبت مع الفجر النعامى فجررت ... ذيولاً على الغيطان عاطرة النشر
لويت بها من معطفيّ صبابة ... كما لوت الصهباء أعطاف ذي السكر
فمن مبلغي والدار بالقوم غربة ... شطون، وصدق القول أجدر بالحر
عن الروض بالروحاء كيف نسيمه ... وهل جاده بعدي ملث من القطر
وهل حل قلبي في معاهد زينب ... بذات النقا أم راح في ذلك السفر
وما وسن الأجفان غرّ أصابه ... من القيظ لفح فاستظل بذي سدر
يقطع ترجيع النّغام كأنّه ... أنين محب شفّه ألم الهجر
بأحسن منها يوم أومت بلحظة ... وجادت برطب الدر من منطق نزر
في وصف البرق:
وممّا شجا نفسي تألق بارق ... يقدّ جلابيب الدجنّة إذ يسري
مليح إذا ما اهتاج قلت صفيحة ... من الهند أو رجم من الأنجم الزهر
ينوء به مستمطر ذو هيادب ... كما نهضت بدن الحجيج الى النّحر
الى كم أطيع القلب في طلب الصبا ... وأجهد نفسي في هوى البيض والسمر
سأثني عنان الشعر عن سبل الهوى ... الى مدحة القاضي الأجل أبي بكر
فتى أنهض الإسلام في سبل الهدى ... وصير طيّ المَعْلُواتِ الى النشر
وشيّد أركان الديانة فاغتدت ... تزاحم أشباح النعائم والنسر
حفيظ على ذات الإلاه ودينه ... مليء بما يرضيه في السر والجهر
يكشّف إظلام الخطوب بهديه ... كما صدعت جنح الدجى غرة الفجر
ويخدم أنحاء المعالي برأيه ... فيجمع بين النفع فيهنّ والضر
تحدث عن آثاره فتية السرى ... كما حدثوا في المحل عن سبل القطر
به نظمت للمجد أفراد عقده ... وتوجت الأيام كالغادة البكر
فناهيك من عقد تحلى به العلى ... وناهيك من تاج على مفرق الدهر
ألست الذي فرّجت كل عماية ... كما انفرجت سحم الغمام عن البدر
وإنّك من قوم لهم تعقد الحُبا ... وتعقد آباط المحبسة الضمر
لهم عنفوان الماء في كلّ منهل ... وإن نظرت خزر القبائل عن شزر
أسود الشرى والمرقلون الى الردى ... بحور الندى والجابرون من الفقر
في وصف القلم:
وأصفر مصقول الأديم أجلته ... فريعت متون البيض والذبل السمر
إذا استنطقت يمناك منه مُفَوّهاً ... أجاب بما تثنى به نُوَبُ الدهر
وإن خضبت أعلاه مجة حبره ... قضى بالحبور الجم عن ذلك الحبر
إليك أبا بكر بعثت عقيلة ... وما أن لها إلا قبولك من مهر
ولست كمن يبغي نوال ممدح ... ولو نولتني الشِّعْرَيَيْنِ يد الشعر
ودونكها غراء أما نسيمها ... فكالروض يندى أو كعنبرة السحر
بقيت مكين العزّ مقتبل العلا ... فسيح المدى سامي المراتب والذكر
وله:
خليلي من وادي اليمامة خبّرا ... هل البان في أرجائه يتأوّد
وهل سرحة القاع المريع جنابه ... تصيح إذا غنى الحمام المغرّد
وما هي إلا للوداع مواقف ... يراق بها دمع ويفنى تجلّد
فيا راكب الوجناء هل أنت مبلغ ... ديار سليمى ما أقول وأنشد
متى يلتقي جسم برامة متهم ... وجسم بأكناف العقيقين منجد

المخزومي الأعمى الغرناطي
وصفه الحكيم يحيى وقال: رأيته وهو نذل هجاء. وصفه بالإجادة في الهجاء والإغارة على الأعراض، والإصابة فيها الى الأغراض، وكان مهيب الصولة، مرهوب الجولة، مخصوصاً بالتحايا والتحف، والهدايا والطرف، وكانت وفاته في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وله في ابن أبي الخصال الكاتب:
طويس الشؤم يا ابن أبي الخصال ... لقد نكّبت عن كرم الخصال

ترغّب في النقائص والمخازي ... وتزهد في المكارم والمعالي
نُكِحْتَ حَزَوّراً وسلكت طفلاً ... ولم تقلع وشيبك في اكتهال
ففي وجعاك آثار الفياشي ... كما في البئر آثار الحبال
وقال:
ابن وحيد له طباع ... وقد تشين الفتى طباعه
إن ذكروا فيشلا لديه ... يرشح من جانبيه قاعه
وللمخزومي الأعمى أيضاً في هجو بعض ......:
خلا نجل إبراهيم ليلاً بعرسه ... فجامعها في ساعة الدّبران
فجاءت به مأبون أشوه خلقة ... كريم عجان لا كريم بنان
وتزورّ إحدى مقلتيه لأختها ... كأنّهما عنزان تنتطحان
وما وقع المأبون من حِرِ أمّه ... الى الأرض إلا فوق رأس ختان

أبو جعفر ابن سلام الشاطبي
ذكر أنّه لم يسمع به إلا من محمد بن محمد القرطبي المعروف بابن اليثربي وأنشد له:
يا سرحة قد كان فيها مسرحي ... من تحت أغصان لها وفروع
يتهافت العشاق بين ظلالها ... ما بين مكلوم وبين صريع
قد عجت فيها حيث عاج بنو الهوى ... وربعت منها في رسوم ربوع
وبنفسي الرشأ الذي ودعته ... والنفس تأبى وقفة التوديع
ألصقت خدي في الوداع بخدّه ... وخلطت منه بالدموع دموعي
أبعدته من غيرة عن ناظري ... وجعلته بالحب بين ضلوعي
لما أشارت للوداع بكفها ... خضب النوى أطرافها بنجيع
ولقد طربت الى الفرات وماؤه ... متسلسل قد حيك حوك دروع
والشمس من هول المطالع تتّقي ... فرقاً وترتعد ارتعاد مروع
قد حشرجت فبدا كليلاً طرفها ... فكأنّها ألمت غداة نزوع
فشعاعها بشعاعها وغروبها ... بغروبها وطلوعها بطلوع
الأرقم السلمي
أورد له:
يا ذا الذي يخشى سوى من حكمه ... ما بين كاف الأمر منه ونونه
لا تخش إن الله كاف عبده ... أيخوّفونك بالذي من دونه
أبو بكر الملقّب بالقمندر
أورد له في وصف المرية:
قالوا المريّة صفها ... فقلت جبْلٌ وشيحُ
قالوا أفيها معاش ... فقلت إن هب ريح
وله في المعنى:
قالوا المرية عدن ... فقلت إذ ذاك إيه
كأنّها طست تبر ... ويبصق الدم فيه
أبو بكر محمد المعروف بالأبيض
توفي بعد سنة ثلاثين وخمسمائة. أورد له في أبي محمد الزبير صاحب مدينة قرطبة من الملثمة:
يا سائلي عن زبير أين مسكنه ... هيهات تطلب شمساً ما لها وضح
لا تطلبنّ زبيراً في مساكنه ... واسأل عرابة عنه حين يصطبح
نشوان يكرع في فرج وفي قدح ... والملك تحت لبان العود مطرح
يا ضيعة الجيش لن يبقى لهم سبَدٌ ... أودى السماع ببيت المال والقدح
والهندنية في حلي وفي حُلَلٍ ... بها يتم المنى واللهو والفرح
وهذا الزبير قتل في سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. استشهد في حرب الفرنج في موضع يقال له وادي الدروع:
ولأبي بكر ابن الأبيض:
يا خير مغن وأولاها بعارفة ... شكراً لنعماء عنها الدهر قد نفسا
ليهنك الفارس الميمون طائره ... لله أنت لقد أوليته قبسا
أصاخت الخيل آذاناً لصرخته ... واهتزّ كلّ هزبر عندما عطسا
تعلم الركض أيام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلا وهو قد فرسا
تعشق الدرع إذ شدت لفائفه ... وأنكر المهد لما أبصر الفرسا
محمد بن محمد يعرف بابن اليثربي

القرطبي. معظم ما يذكره ابن بشرون في المختار من الأندلسيين يرويه عنه ويذكر أنه لقيه في مدينة صقلية وقد صنف لمتملكها رجار الإفرنجي في مسالك الأرض وممالكها كتاباً كبيراً سماه نزهة المشتاق في مخترق الآفاق، ثم ألّف بعده لولده غليوم صاحب صقلية كتاباً في المعنى أكبر منه سماه روض الأنس ونزهة النفس. ووصف ابن بشرون بتوليد المعاني في الشعر وتجويدها، وتوطيد المباني في السحر وتشييدها، لا سيما في توشية التوشيح، وتوشيع نظمه المليح، فإنّه حاذق زمانه، وسابق ميدانه، وهو قريب في عصرنا هذا. وقد أورد من شعره ما يروع ويروق، ويضوع ويفوق، ويطرب ويشوق، ويحسد عقوده وسعوده العقيان والعيوق، ويصف مزجه ووهجه الرحيق والحريق. فمن ذلك قوله:
وزائر زار في الظلماء إذ هجعت ... عين الرقيب ولم يشعر بنا بشر
فقلت أهلاً وسهلاً قال من دهش ... دعني من القول إنّي خائف حذر
فقلت لا خوف إن الحي قد رقدوا ... والليل محلولك الأرجاء معتكر
ثم اعتنقنا كغصني بانة وفمي ... بين الترائب أشكو وهو معتذر
حتى إذا نمّ واشي الفجر قام وقد ... خاف الفضيحة مغتاظاً له ضجر
وقال لما اعتنقنا للوداع وقد ... رأى التياعي ودمعي مسبل همر
لا تَبْكِ عيناك بعدي سوف يضحكها ... مني اقتراب وزورات لنا أخَر
ثم افترقنا ولو أعطى الخيار به ... لما افترقنا ولكن عاقنا القدر
وقوله:
كم ليلة جمعتنا دار بارقة ... في عصبة من ذوي الأخطار والرتب
حيتهم الراح في ثوب معصفرة ... وقلدت جيدها عقداً من الحبب
بتنا بها والرحيق الصرف تصرعنا ... بين الجداول والأنهار والعشب
حتى أتى الصبح في جيش النهار وقد ... ولت عساكر ليل جدّ في الهرب
قمنا حيارى ندير الكأس ثانية ... بقهوة ترتمي للمزج باللهب
الى عشاء نهار عيب آخره ... بفرقة سلبتنا بردة الطرب
وقوله من أخرى:
بأبي الذي أذكى الجوانح نارا ... وفّى فوافى في الظلام وزارا
متحملاً من صرف راح نمة ... صفراء يخطف نورها الأبصارا
ناولته كأساً فظل يشجها ... متمززاً لمذاقها إطهارا
ثم استمر يسيغها وكأنّه ... ينوي العتاب ويؤثر الإسرارا
حتى إذا لوت المدام بعقله ... وسطا به والي الخمار وجارا
نبذ الوقار وقام يثني طرفه ... غضباً وأعلن بالعتاب جهارا
ما زال يسقيني مدامة عتبه ... حتى سكرت وما شربت عقارا
ونوى المسير فلم تجبه لسيره ... قدم وقيده الخمار عثارا
قبلت أخمص نعله وصددته ... عما أراد من المسير وحارا
منها:
حتى إذا ما الليل شمر ذيله ... وغدا الصباح يضاحك الأنوارا
نبهته من نومه وكأنّه ... شمس تجلّت للعيون نهارا
أعلمته ما كان منه بسكره ... فأتى الجحود ولازم الإنكارا
وأجاب يمزح عند آخر قوله ... من حبّ ذلّ ومن تعزّز جارا
وقوله في لزوم ما لا يلزم:
أفدي التي زارت وجنح الدجى ... منسدل تخطو بنا ساريه
أثقلها المشي فلاحت لنا ... كأنّها في ذاتها ساريه
قلت لها أمزح: من أنت ذي ... قالت أنا جئتك من ساريه
فبت مسروراً بها ليلتي ... والجوّ صاف ما به ساريه
وقوله في الزهد:
أرى كل يوم للمقيمين رحلة ... ولا شك أنّي فيهم سوف أرحل
وليس معي زاد أعد لرحلتي ... ولا لي عذر عندما أنا أسأل
وعندي ذنوب لا أقوم بعدِّها ... يقلّ لها وزن الجبال وتثقل
وليس سوى عفو الإله فإنّه ... كريم له عند الرجوع التفضّل

الأسعد ابن بليطة الشاعر الأندلسي

ذكر أنّه شاعر الأندلس، وأديبها ومصقعها وخطيبها، ووصفه بانفجار عيون الأدب بخاطره، والغوص في بحر المعاني الأبكار واستخراج جواهره، والنفث في عقد السجر بنكته ونوادره، ومعظم أشعاره في بني صمادح ملوك المرية، وأنه كان سمح البديهة والرويّة، ولم يمت حتى نيف على التسعين، ونزف برشائها من ركية العمر ماءها المعين، وقد أورد من شعره ما يناسب نسيبه النسيم ويماثل مزاجه التسنيم.
فمن ذلك قوله:
دع دمي بالدمع يمزج ... والهوى بالنفس يلهج
ربّت الحزن لقلبي ... ربة الصدغ المصولج
ودجى الفرع على صب ... ح الجبين المتبلج
والقضيب المتثنّي ... والكثيب المترجرج
أحسني يا عمرة الحس ... ن فقتلي بك يسمج
وقوله:
عج بذي الأيْكتين عج ... وهج الأدهمين هج
وصل الوخد نحو من ... ترك الوجد يعتلج
وارق نجد الغوير واه ... بط على دوحة الأرج
والتمس روضة المحا ... سن في روضه البهج
فعسى أن ترى نوي ... رة والعين تختلج
وعسى غمّة الفؤا ... د بمرأى تنفرج
فدوائي بها دوا ... ئي فقل لي متى الفرج
قمر في دقائق ... من ضميري وفي درج
أيها المعرض الذي ... بات رحماه مرتج
فنهاري به ظلا ... م وليلي به حجج
أجملن أيها الجمي ... ل فاعراضكم سمج
وترفق بمهجة ... هي من أنفس المهج
وتحرّج فقتلنا ... في أناجيلكم حرج
فبعيسى بن مريم ... وبما فيكم نهج
والصليب الذي علي ... ه على زعمكم عرج
وبتثليثك الذي ... ليس بالعقل يزدوج
وفصوحاتك التي ... بك تزهى وتبتهج
يوم يأتون بالدوا ... جن والصلب والسرج
والسواقين في الأنا ... شيد كالطير في الهزج
وبأجفانك التي ... هي للسحر والدعج
وبخدين كالعقي ... ق وصدغين كالسبج
وبثغر وددت لو ... ثلج الصدر بالفلج
وبأعطافك التي ... طوت الخصر فاندمج
وبزنّارك الشحي ... ح وخلخالك الحرج
عطفة عطفة على ... مستهام بكم لهج
دينه في هواكم ... دون أمت ولا عوج
قل لمن لجّ في الملا ... م وتَهْيامُنا ألج
كيف أسطيع ترك من ... هو بالنّفس ممتزج
فالهوى في نويرة ... غرق العين في لجج
وفؤادي الى نوي ... رة ما دمت منزعج
وقوله:
ليل حبي فيك داج ... فاجعل الوصل سراجي
فبمنآك اكترابي ... وبلقياك ابتهاجي
وبقلبي نار شجو ... وكذاك البعد شاج
وهوى العشاق يرجو ... وهوانا غير راج
واحتياج الناس شتّى ... ولكم كل احتياجي
والهوى حين ومن ين ... ج فإنّي غير ناج
وقوله:
بنفسي من دهري إذا غاب ليلة ... محيّاه حيّاه الإلاه سراجها
إذا رمت عنه الصبر عزّ مرامه ... وإن لمت فيه النفس زاد لجاجها
وكيف بقلبي أن يسكن لوعة ... أبى الشوق إلا أن يدوم اهتياجها
وقوله من قصيدة في صفة الديك:
وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضرباً من قوادمه الإبطا
ومهما أطابت نفسه قام صارخاً ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كفّ مارية القرطا
ومنها في العذار:
أرى صورة المسواك في حمرة اللّهى ... وشاربك المخضرّ بالمسك قد خطّا

عسى قُزَحٌ قبّلته فإخاله ... على الشّفة اللمياء قد جاء مختطّا
توهّم عطف الصّدغ نوناً بخدّها ... فباتت بمسك الخال تنقطه نقطا
وقوله:
من لمشتد لوعتي بانفراج ... ولممتدّ كربتي بابتهاج
من مجيري من أجوَر الناس حكماً ... وعَذيري من داء صعب العلاج
يجمح القلب فيه أي جماح ... وتلج الدموع أي لجاج
فضلوعي كالجاحم المتلظّي ... ودموعي كالوابل الثّجاج
برشا القصر لا رشا القَفْرِ أصبحْ ... ت ويومي شبيه ليلي داج
وجفوني من فقده في ظلام ... وبتخييل طرفه في سراج
قمر للقنا لديه نجوم ... ولمجرى الجياد ليل عجاج
وقوله:
بنيت للمنى لعل وليْت ... ولشكوى الغرام كيت وكيْت
فبماذا تعللي من معلّ ... مؤيس من جنابه ما ارتجيت
قد شجاني جفاؤه وبراني ... وطواني من حبّه ما طويت
فيخال العذول أني حي ... وأنا من هوى نويرة ميت
فهي ظبي له فؤادي كناس ... وهي شمس لها ضلوعي بيت
فرعى الله بالغوير مقيماً ... لا يراعي من حبّه ما رعيت
عجباً للجمال دلّه لبّي ... بعدما طعت للهوى فارعويت
فبقصر اللوى رأيت محباً ... سلب اللب منه ما قد رأيت
أسفر الصبح منه إذ سفر النق ... ب فأجلى تصبري ما اجتليت
وكميت الصبا تميل بعيني ... ه وعطفيه لا العقار الكميت
ليتني ما رميت أسهم لحظي ... ففؤادي أصبت حين رميت
لذّ لي ما جنيت من وجنتيه ... وعلى ناظري جنا ما جنيت
ومنها:
واتباع الهوى ضلال وإنّي ... لو تهدّيت للسلوّ اهتديت
أيها المبعدي ونفسي لديه ... هات نفسي فيا لها منك هيت
وقوله:
قلبي في ذات الأثيلات ... رهين لوعات وروعات
فعرسا من عقدات اللوى ... بالهضبات الزهريّات
وعرّجا يا فتيي عامر ... بالفتيات العيساويات
فإن بي للروم رئمية ... تكنس ما بين الكنيسات
أهيم فيها والهوى ضلة ... بين صواميع وبيعات
وفي ظباء البدو من يزدري ... بالظبيات الحضريات
أفصح وحدي يوم فصح لهم ... بين الأريطى والدويحات
وقد أتوا منه الى موعد ... واجتمعوا فيه لميقات
بموقف بين يدي أسقف ... ممسك مصباح ومنساة
وكل قس مظهر للتقى ... بآي إنصات وإخبات
وعينه تسرح في عِينِهمْ ... كالذئب يبغي فرس نعجات
وأي مرء سالم من هوى ... وقد رأى تلك الظبيات
فمن خدود قمريات ... على قدود غصينات
وقد جلوا صحف أناجيلهم ... بحسن ألحان وأصوات
والشمس شمس الحسن من بينهم ... تحت غمامات لثامات
وناظري مختلس لمحها ... ولمحها يضرم لوعاتي
ففي الحشا نار نويرية ... صليها منذ سنيات
لا تنطفي وقتاً فكم رمتها ... بل تلتظي في كل أوقات
فحي عنّي رشأ المنحنى ... وإن أبى رجع تحيات
قوله:
نأت باصطباري مثلها يصل النأيا ... ولم ترع مني هائماً يدمن الرعيا
وفي الجنة الالفاف للحسن جنة ... تلازم أنهار الدموع بها جريا
وفي شرع التثليث فرد محاسن ... تنزل شرع الحب من طرفه وحيا
وأذهل نفسي في هوى عيسوية ... بها ضلت النفس الحنيفية الهديا

غزالية المرأى هلالية الرنا ... منارية المجلى نوارية اللقيا
رمتنا بألحاظ تلذ سهامها ... فيا ليتها في القلب لم ترم الرميا
ومن لجفوني بالتماح نويرة ... فتاة هي المردى لنفسي والمحيا
سبتني على عهد من السلم بيننا ... ولو أنّها حرب لكانت هي السَّبْيا
فقد صاد ليثَ الغاب ظبيُ كنيسة ... فاعجب به ليثاً وأعجب به ظبيا
ومن أشعاره في الأوصاف والتشبيهات قوله في وصف الياسمين والنارنج معاً:
قد أعجز الياسمين حسناً ... فويق نارنجه صفاتي
كأنّه لؤلؤ نظيم ... فوق ثديّ مزعفرات
أو كفراش اللجين صيغت ... على كرات مذهبات
وقوله:
وروضة غنّاء أزهارها ... معلنة أسحار هاروت
رَوْحاءُ في ضفّتي جدول ... كأنّه أزرق ياقوت
والكأس تجري منه في زورق ... كأنّها البِرْجِيسُ في الحوت
وقوله في الخمر:
أشرقت في الكؤوس هذي المدام ... وأنارت حتّى أنار الظلام
فاسقنيها مسنة إن تمشت ... في عظام المسنّ فهو غلام
فبها للسرور فيك احْتِلالٌ ... وبها للهموم عنها انهزام
ولابن بلّيطة:
سكران لا أدري وقد وافى بها ... أمن الملاحة أم من الجريال
تتنفّس الصهباء في لهواته ... كتنفّس الريحان في الآصال
وكأنّما الخِيلانُ في وجناته ... ساعات هجر لا زمان وصال
وقوله:
جرت بمسك الدّجى كافورة السَّحَر ... فغاب إلاّ بقايا منه في الطُّور
صبح يفيض وشخص الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجيّ في نهر
قد حار بينهما عن برزخ قمر ... يلوح كالشّنف بين الخدّ والشَّعر
وقال في مجدور الوجه:
من رأى الورد تحت قطر نداه ... لم يعب فوق وجنتي جدريّا
أنا شمس أردت في الأرض شيئاً ... فنثرت النجوم فوقي حُليّا
وقوله ينسب الى غيره:
لبسوا من الزرد المضاعف نسجه ... ما قد طفا للبيض فيه حباب
صفٌّ لحاشية الرّداء يؤمه ... صفّ القنا فكأنّه هدّاب
وإليه ينظر قول ابن خفاجة:
وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدب يحفّ بمقلة زرقاء
وقوله في تهيّب المحبوب:
ألا بأبي رشأ مرّ بي ... وكنت الى لمحه شيّقا
فمادت بي الأرض من هيبة ... فكاد ذمائي أن يزهقا
كأني موسى دعا ربّه ... فألزمه الروع أن يصعقا
وقوله في العناق:
ألا بأبي ليلة أسمحت ... بوصل لذيذ الجنى والمذاق
فبتّ وجسمي بها لاصق ... عناقاً لصوق السها بالعناق

أبو عبد الله محمد بن عثمان
المعروف بابن الحداد من شعراء المغرب المتأخّرين. سألت القاضي الفاضل عنه، وقوله حجة، فقال: كان في الصمادحية وهو أديب فاضل وله القصيدتان المهموزتان وكل واحدة أكثر من مائة بيت وليس في العرب أشعر منه. ووجدت له في مجموع من قصيدة في ابن صمادح الفهري:
لعلّك للوادي المقدّس شاطئ ... فكالعنبر الهندي ما أنا واطئ
ولي في السّرى من نارهم ومنارهم ... هداة حداة والنجوم طوافئ
لذلك ما حنت ركابي وحمحم ... عرابي وأوحى سيرها المتباطئ
فهل هاجها ما هاجني أو لعلها ... الى الوخد من نيران وجدي لواجئ
رويداً فذا وادي لبيني وإنّه ... لورد لباناتي وإني لظامئ
ويا حبّذا من آل لبنى مواطن ... ويا حبّذا من أرض لبنى مواطئ
ميادين تهيامي ومسرح خاطري ... فللشوق غايات بها ومبادئ
فلا تحسبوا غيداً حوتها مقاصر ... فتلك قلوب ضمنتها جآجئ
محا ملّة السلوان مبعث حسنها ... فكل الى دين الصبابة صابئ
وآل الهوى جرحى ولكن دماؤهم ... دموع هوام والجروح مآفئ

وداريت إعتاباً ودارأت عاتباً ... فلم يغني أني مُدارٍ مُدارئ
ولازمت سمت الصمت لا عن فدامة ... ولي منطق للسمع والقلب مالئ
ومنه:
ولولا حلى الدين ابن معن محمد ... لما برحت أصدافهن اللآلئ
لآلئ إلا أن ذهني غائض ... وعلمي دأماء ونطقي شاطئ
ولولاه كانت كالنسيء وخاطري ... لها كفُقَيم للمحرم ناسئ
هو الحبّ لم أخرجه إلا لمجده ... ومثلي لا علاق النفاسة خابِئُ
كأنّ علاه دولة أموية ... وما ناب من خطب عمير وضابئي
وإن يمسس العاصين قرحك آنفاً ... فأيدي الوغى عما قليل توالئ
عسوا فعصوا مستنصرين بخاذل ... وأخذل أخذ الحين ما منه لاجئ
وشهب القنا كالنقب والنقع ساطع ... هناء وأيدي المقربَات هوانئ
يعود تخضيب النصول وإن رأى ... نصولخضاب فالدمء برايئُ
وله:
أربرب بالكثيب الورد أم نشأ ... ومعصر في اللثام الورد أم رشأ
وباعث الوجد سحر منك أم حور ... وقاتل الصبّ عمدٌ منك أم خطأ
وقد هوت بهوى نفسي مها سبأ ... وهل درت مضر من تيمت سبأ
كأن قلبي سليمان وهدهده ... لحظي وبلقيس لبنى والهوى النبأ
فاعجب لهم وتروا نفسي وما شعروا ... ولا دروا من بعيني ريمهم وجأوا
جلالة لسليمان وملتمح ... ليوسف يوم للنسوان متّكأ
ومنها:
تحيد عن أفقك الأملاك مجفلة ... ولا تُحَوّمُ حيث اللقوة الحدأ
وما صوارمهم إبلاً وقد سرحوا ... وليس إفرندها عرا وقد هنئوا
وله:
هم في فؤادك خيموا أو قوضوا ... ومنى جفونك أقبلوا أو أعرضوا
وهم رضاك من الزمان وأهله ... سخطوا كما زعمت وشاتك أم رضوا
أهواهم وإن استمر قلاهم ... ومن العجائب أن يحب المبغض
ينهى النهى عنهم ويأمرني الهوى ... والنفس تعرض والمنى تتعرض
وفويق ذاك الماء من شهب القنا ... جثث ومن حصر الصوارم عرمض
ومنها بيت أنشدنيه القاضي الفاضل:
الناس أغربة إذا قايستهم ... وأخو المصافاة الغراب الأبيض
وقال:
واصل أخاك وإن أتاك بمنكر ... فخلوص شيء قلّما يتمكّن
ولكل حسن آفة موجودة ... إن السراج على سناه يدخن
وقال من قصيدة في تشبيه الرمح والنبل:
والسّمر من قلب القلوب مواتح ... وكأنّها موصولة الأشطان
والنّبل في حلق الدلاص كأنّها ... وبل الحيا في مائج الغدران
وقال من قصيدة:
أما أنها الأعلام من هضباتها ... فكيف تكف العين عن عبراتها
دراني وإذراء الدموع لعله ... يسكن ما قد هاج من ذكراتها
فقد عبقت ريح النعامى كأنّها ... سلام سليمى فاح من نفحاتها
وتيماء للقلب المتيم منزل ... فعوجا بتسليم على سلماتها
مشاعر تهيام وكعبة فتنة ... فؤادي من حجاجها ودعاتها
فكم صافحتني في مناها يد المنى ... وكم هبّ عرف اللهو في عرفاتها
عهدت بها أصنام حسن عهدنني ... هوى عبد عزّاها وعبد مناتها
وقال:
أهل بأشواقي إليها وأتّقي ... شرائعها في الحب حق تقاتها
فتى البأس والجود اللذين تباريا ... الى غاية حازا له قصَباتها
تدين يداه دين كعب وحاتم ... فحتم عليها الدهر وصل صلاتها
يجاهد في ذات الندى بيت مالها ... ولا جيش إلا من أكف عفاتها
إذا البِدَرُ انثالت عليهم تخالها ... بأيدي مواليها رؤوس عداتها
وقال من قصيدة:
تكاد تغني إذا شاهدت معتركاً ... عن أن يسل حسام أو يُسال دَم

بلحظة منك تثني القِرن منعقراً ... كأن لحظك فيه صارم خذم
أقدمت حيث الكماة الشّوس محجمة ... وجدت حيث المنايا السود تزدحم
وما احتدى الموت نفساً من نفوسهم ... إلا وسيفك كعب الجود أو هرم
منها في وصف هام المصلبين:
وقد تلم بها الغربان واقفة ... كأنّها فوق مخلوقاتها لمم
وقال من قصيدة هائية طويلة:
وسقم فؤادي من سقام جفونه ... فإن نقهت عيناه فالقلب ناقه
مراد هوى حفت به مرد العدى ... ودون جنان الخلد تلقى المكاره
وما خيلاء الخيل فيها سجية ... ولكنها لما امتطوها توائه
فلا تكرهن إن خاسَ قوم بعهدهم ... عسى الخير في الشيء الذي أنت كاره
فنصرك أيّا ما سلكت مساير ... وفتحك أيّاً ما اتجهت مواجه
ومن وصفها:
ففي أنفس الحساد منها هزاهز ... وفي ألسن النقاد منها زهازه
وقال من أخرى في وصف ضيافة:
سمت السوام به الحمام كأنّها ... أخذت لشأن من ذوي الشنآن
وتبعتها ذات الجناح كأنّما ... فعلت جناحاً قبل في الطيران
حتى غدا حمل السماء وثورها ... حذرين مما حلّ بالحملان
نار بأرجاء المرية سقطها ... مزر ببيت النار في أرجان
المرية بلدة.
فلو المجوس تجوس بين ديارنا ... أمّت لديك عبادة النيران
وقال من أخرى:
فلا مهجة إلا إليك نزاعها ... وما زال يُطوى عن سواك لها كشح
وليس يحيق المكر إلا بأهله ... وكم موقد يغشاه من وقده لفح
ومن تكن الأقدار مسعدة له ... يعد شَبِماً عذباً له الآجن الملح
إذا خيف أن تشتد شوكة مأزق ... فلا رأي إلا ما رأى السيف والرمح
ومن أخرى:
مضاؤك مهما رمى قرطسا ... ولو يمّم الأنجم الخُنّسا
إذا رمت أمراً غدا ممكناً ... وإن كان ممتنعاً مؤيسا
ومن قصائده قوله من قصيدة في أبي يحيى ابن معن الصمادحي:
عج بالحمى حيث الأراك العين ... فعسى تعن لنا الظباء العين
واستقبلن أرج النّسيم فدارهم ... ندية الأرجاء لا دارين
واسلك على آثار يوم رِهانِهم ... فهناك تُغلق للقلوب رهون
حيث القباب الحمر سامية الذرى ... والأعوجيات الجياد صفون
والسمهرية كالنهود نواهد ... والمشرفية في الجفون جفون
أفق إذا ما رمت لحظ شموسه ... صدّتك للنقع المثار دجون
يغشاك من دون الغزال صوارم ... فيه ومن قبل الكناس عرين
أنّى أراعُ لهم وبين جوانحي ... شوق يهوِّن خطبهم فيهون
أو هل يهاب ضرابهم وطعانهم ... صبّ بألحاظ العيون طعين
وكأنّما بيض الصفاح جداول ... وكأنّما سمرالرماح غصون
ذرني أسر بين الأسنة والظبا ... والقلب في تلك القباب رهين
فلعله يروي صداي بلمحه ... وجهاً به ماء الجمال معين
ولعي بذات القلب أفقد أضلعي ... قلباً عليه ما يريم يرين
تلهو وأحزن مثل ما حكم الهوى ... لا يستوي المسرور والمحزون
وتذللي لم يجد غير تدَلُّلٍ ... والحسن عز للحسان مكين
لا غرو أن أصل الغرام بمعرض ... غير المحب بما يدان يدين
يا ربّة القرط المعير خفوقه ... قلبي فما لحراكه تسكين
توريد خدك للصبابة مورد ... وفتور طرفك للنفوس فتون
وإذا رمقت فوجي حبك منزل ... وإذا نطقت فإنّه تلقين
لولاك ما أودى الجوى بتجلدي ... ولقاك أنك لي منى ومنون
ومنها في التخلص الى الممدوح ووصف قصره:
أنت الهوى لكن سلوان الهوى ... قصر ابن معن والحديث شجون

فالحسن أجمع ما يريك عيانه ... لا ما رأته سوالف وعيون
والروض ما اشتملت عليه شموله ... لا ما حوته أباطح وحزون
قد عطل الأزهار زاهر حسنه ... لا الورد ملتفت ولا النّسرين
فأجل جفونك تجل منه فتوره ... نور الخدود له الأكف جفون
ومنها:
فنجومه زهر ثوابت لم يرم ... تعديلها زيج ولا قانون
والمجلسان النيران تألّقا ... هذا لهذا في البهاء قرين
كالمقلتين أو اليدين تأيّدا ... والحسن يعضد أمره التحسين
ومنها:
عطفت حناياه وضمن بعضها ... بعضاً وسحر ذلك التضمين
كتقاطع الأفلاك إلا أنه ... متباينان تحرك وسكون
فلكية لو أنّها حركية ... لاعتدّ منها الرأس والتنين
تتعاقب الأعصار فيه وجوّه ... أبداً به آذار أو تشرين
وكأنّ هرمس بثّ حكمته به ... وأدار فيه الفكر أفلاطون
وكأنّ راسم خطّه إقليدس ... فسوائل الأشكال فيه فنون
من دائر ومكعب ومعين ... ومحجن تقويسه التحجين
وقسيُّ محنيّ سواريها لها ... نبل ولا يرمي بها فتبين
فهنالك التضعيف والتثليث وال ... تربيع والتسديس والتثمين
نسب جلت نسب الفناء لبعثها ... طرب النّفوس وسمعها تعيين
وكأنّ طرفي مسمعي وكأنّه صوت وشكل خطوطه تلحين
متلألئ فكأنّما سال المها ... فيه وذابَ اللؤلؤ المكنون
وكأنّ مبيض الخدود وضاءة ... صحن له لا المرمر المسنون
تُغشى بمذهب لمعه فكأنّما ... أبدى لديه كنوزه قارون
هو ثالث القمرين في ضوءيهما ... فيه تضيء لنا الليالي الجون
لو أبصرته الفرس قدس نوره ... كسرى وأخبت نارها شيرين
أو لو بدا للرّوم معجز صنعه ... بدأ السجود إليه قسطنطين
ومنها:
هو جنّة الدنيا تبوّأ نزلها ... ملك تملكه التقى والدين
فكأنّما الرحمان عجلها له ... ليرى بما قد كان ما سيكون
ومنها في المدح:
عفّ فلا مال يباح ولا دم ... بل آمنان ذخيرة ووتين
وإذا دعا داع بطول بقائه ... خرقت له سمع السما آمين
ملك القلوب بسيرة عمرية ... يحيا بها المفروض والمسنون
لا تألف الأحكام حيفاً عنده ... فكأنها الأفعال والتنوين
لو كان أدنى بشره وذكائه ... للنصل ما شحذت ظباه قيون
لو كان لج البحر مثل نواله ... غمر الربا مسجوره المسجون
وقوله من أخرى:
هنّ الأماني مدمنات جران ... فصل اعتزاماً لات حين توان
وإذا انقضى زمن الفتاء عن الفتى ... فبقاؤه وفناؤه سيان
ومنها:
لا تخدعن فما لإحسان الصبا ... عوض ولا لرُوائِه الحُسّان
واخلع على ريعانه حلل المنى ... فمحاسن الأشياء في الريعان
وزيادة الأقمار بدء شهورها ... وتعقب الأعقاب بالنقصان
والشمس في الحمل الذي هو أول ... تسمو كما تنحط في الميزان
ليس الصبا زمن الصبا لكنه ... قمع العدى ورعاية الخلان
حال يحول الهم فيها يافعاً ... والخمر تثني الشيب كالشبان
غيري تتيمه وتقلب قلبه ... حدق المها وسوالف الغزلان
فالنفس تزداد النفاسة والهوى ... هون وما أرضى لها بهوان
ولرب ذي أيد سعى ليضمها ... فرمته بالأيهاء والإيهان
ووعيد أقوام صممت لسمعه ... سمع الأذى من آفة الآذان
وتغطرس من معشر قد أنبأوا ... أن الوهاد تعود شم رعان
قلب الزمان عيانهم وعيالهم ... وكذا الزمان مغير الأعيان

يا سائلاً عما زكنت من الورى ... والسر قد يفضي الى الإعلان
إيهاً سقطت على الخبير بحالهم ... عند العروض حقائق الأوزان
هم كالقريض وكسرهم من وزنه ... يبدو من التحريك والإسكان
ومت يحل حالاهما من كنهها ... أنكرت منه واضح العرفان
كم من خليل ساعدته سعادة ... وطوى بها كشحاً على الأضغان
من كل ذي حسد يشانئ شانئ ... إن التحاسد باعث الشنآن
هاجوا سكوني فاستدمت هياجه ... إن الحراك لآلة الحيوان
لما فضلت رموا بكل عظيمة ... والفضل موقع أسهم البهتان
يا ما لدهري ليس يعدل حكمه ... أتراه خال العدل في العدوان
أوردت حظي في الحظوظ مصلياً ... إن كان ذهني سابق الأذهان
هلا تناءت في التسابق حلبة ... حتى تبرز ربّ كل رهان
لو مدّ ميدان التناظ بيننا ... علم الورى من فارس الميدان
ذكر الفتى يبدي خفي سنانه ... والنار حامية بغير دخان
وعسى إثارته تري آثاره ... ولكم تُدال إدالة بضمان
وملاك بغيتك المليك محمد ... يمِّمْهُ تحمد صرف كل زمان
وقال من أخرى في المدح مهموزة، وقد سبق غزلها، والتزم فيها ما لم يلزمه، وذكر أنها قصيدة تنيف على أربعمائة بيت:
إذا تجلّى الى أبصاهم صعقوا ... وإن تغلغل في أفكارهم همأوا
لو أغلظ الملك أمراً فيهم ائتمروا ... لو اقتضى الجيش رداً منهم ردأوا
وكل ما شاء من حكم محتكم ... يمضي على ما أحبوا منه أو ندأوا
أغرّ في مجده الأعلى وغرّته ... للّب منحسن واللحظ منخسأ
وفي سناه ومسناه ونائله ... للشّهب والسّحب مستحياً ومنضنأ
سلالة لسليمان وملتمح ... ليوسف يوم للنسْوان متّكأ
وللملوك اختفاء أن تشابهه ... وليس تشتبه العيدان والحفأ
والكلّ معترف بالسابقات له ... ومن زكا فله بالحق منزكأ
مملك هو من سمت الهدى ملك ... وواحد هو في شيد العلا ملأ
يقل أن يطأ العيوق أخمصه ... وكل ملك على أعقابه يطأ
حوى المحاسن في قول وفي عمل ... فمثل مهنئة الأملاك ما هنأوا
وللثغور بذكرى عدله ولع ... وللقلوب لمثى حبّه لَطَأ
والمالكون سواه مثل عصرهم ... فكلما دنأت أحداثه دنأوا
والعدل ألزم ما تعني الملوك به ... فليزجروا عن سبيل الحيف وليزأوا
وكيف يلقي قناة الدهر قائمة ... وفوقنا لقسي الشهب منحنأ
وما الزمان على حال بمعتدل ... كأنّما أهله في شخصه دنأوا
فالدهر ظلماء والمعصوم نور هدى ... يضيء والشمس في أنوارها تضأ
فخل ما قيل عن كعب وعن هرم ... فللأقاويل منهار ومنهرأ
وتلك أنباء غيب لا يقين لها ... وقلما في التناهي يصدق النبأ
وما اختبار كأخبار وما ملك ... إلا ابن معن وذر قوماً وما ذرأوا
تغني أياديه ما تغني صوارمه ... وللغناء هو الإقلال والقنأ
سيّان منه فتوح في العدى طرأت ... ومعتفون على إنعامه طرأوا
فكم أناس أقاص عنده نبهوا ... كأنهم قربة في حجره نشأوا
وكيف تحصى عوافي مرتع مرع ... للهائمين به مروى ومحتصأ
ومن نبا وطن منه كمثلهم ... مضى به منتأى عنه ومنتبأ
وللظبى والطلى لثم ومعتنق ... وللقنا والكلى ضم ومتشأ
وحيث ما أزمعت علياك واعتزمت ... جدا جحافلك التأييد والجدأ

فلا تضع مربأ للجيش تنهده ... فالنصر مرتبئ والسعد مرتبأ
فويحهم يوم للأعلام ملتطم ... عليهم وبهم للجرد ملتطأ
وويلهم إن شآبيت القنا همأت ... وحاق باللام والأجسام منهمأ
والحين يظهر في وادي سوالهم ... كما به في ثغور البيض منكمأ
وقد بدا من عرانين الظبى شمم ... وفي أنوفهم الإرغام والغطأ
وللقنا منهوى فيهم ومنسرب ... وللظبى مُنْبَرى فيهم ومنبرأ
كأنّ سمرك والإقبال يعطفها ... بنان قوم إليهم بالردى ومأ
وقد غدوا قضباً بالهام مثمرة ... ومجتنيها من الصمصام مجتنأ
وصال منطعن فيهم وممتصع ... فسال منهزم منهم ومنهزأ
وقال حوضهم والسيل يغمره ... قطني فقد هدم الأرجاء ممتلأ
هناك يبغون لو يلقونه لجأ ... وما لخلق عن المقدور ملتجأ
وكم لبأسك فيهم من مصال وعى ... للّيث من سمعه روع ومحتبأ
وكان في ذألهم ود ومتعظ ... لو صح من مثلهم وعظ ومتّدأ
هاجوا ظباك التي بالسلم قد هجئت ... فسوف يسكن منها الظمأ والهجأ
راعيت تقواك حتى في جزائهم ... وما راعوا ما تراعيه ولا كلأوا
والآن قد آن من شهب الصفاح لهم ... درّ ومن صافنات الخيل مندرأ
يهوي لقلب أعاديه مُكايَدَةً ... كأنّها قتر للأسد أو برأ
فدهية الشمس ما في نورها كلف ... وراية الشهب ما في سيرها خطأ
وهمة فوق ما ظن الغواة به ... والقوم آمنة إن أمكن الغوأ
وبالمعاقل للأملاك مقتنع ... وما له بسوى الأفلاك مجترأ
ولو يروم نزال الطود يبلغه ... أو ينزلوا من صياصيه كما زنأوا
وبرد أيامهم مرفو سلمهم ... والحرب تخرق منهم كلما رفأوا
ملك له العز من ذات ومن سلف ... فحسب كل الملوك الهون والجزأ
نمته بدراً نجوم السرو من يمن ... وما كمثل النجوم النقع والحيأ
تكسبا عصره فخراً وعنصره ... فقد علا الفلك الأعلى به سنأ
إذا صمادحه أبدى وعامره ... وللمنيرين مستخفى ومنطفأ
ومنها في مدح أولية الممدوح:
من الألى ملكوا الدنيا وما برحوا ... يبنون أسمية العليا وما فتئوا
فالحسن في سير منهم وفي صور ... إن موجدوا مجدوا أو روضئوا ضأوا
وأبدعوا في صنيع الجود وابتدعوا ... فكلّما سئلوا من معوز سلأوا
فالولاهم يصوب المزن مسّهم ... متى رَوى سيّبا من وبله متأوا
وبيت وفرهم إيمان وفدهم ... فهم مياسير من حمد الورى فكأ
أقمار ملتئم آساد ملتحم ... يروعنا مجتلى منهم ومختلأ
وما صوارمهم إبلاً وقد سرحوا ... وليس إفرندها عرا وقد هنأوا
ولا عواملهم غيداً وقد ومقوا ... ولا أسنتها شيباً وقد حنأوا
ومن مناهم مناياهم إذا حملوا ... وليس بالخالد الهيابة الحيأ
إن قوضوا خلت أن الهوج ما ركبوا ... أو خيموا خلت أن الشهب ما خبأوا
لا يعبأون بمكر في مقاومهم ... وليس للأسد بالسيدان معتبأ
إذا خطوا وتروا في الأرض شانئهم ... وللخطوب بها مسرى ومنسرأ
فإن رميت بهم أقصى الندى بلغوا ... وإن منيت بهم شوس العدى نكأوا
والخلق من ملكات الظلم في ظلم ... وقد مضت هنأ من بعدها هنأوا
ومحلب منه للأهواء محتلب ... ومرتم فيه للعلياء مرتمأ

إذا جلا النصر من خرصانه وضح ... علا الغزالة من قسطاله صدأ
من كل أحوش نثر النثر ديدنه ... إذا يرى لدنه مستلئماً يرأ
يجيء كالهصر الفضفاض مقتتلاً ... أصمّ كالأرقم النضناض إذ يجأ
وللمنون بيمناه عيون دما ... في جدول يتحامى ورده الظمأ
فراح نحو دم الأبطال تحسبه ... راحاً لها بالقنا العسال مستبأ
في موقف للمنايا فيه مرتكض ... على الجياد وللأجناد منهدأ
في وصف الشعر:
وتلك عنقاؤنا وافتك مُغرِبَةً ... بحسنها فاستوى العقبان والحدأ
بدع من النظم موشيُّ الحُلى عجَبٌ ... تنسي الفحول وما حاكوا وما حكأوا
وكل مخترع للنفس مبتدع ... فمنه للروح روح والحجى حجأ
أنشأتها للعقول الزهر مصبئة ... كأنّها للنفوس الخرد النشأ
لم يأت قبلي ولن يأتي بها بشر ... وحق أن يخبئوا عنها كما خبأوا
قضيت منها ليوث النظم مجترئاً ... وغير بدع من الضرغام مجترأ
وفي القريض كما في الغيل مأسدة ... والقوم حوز بمرعى البهم قد جزأوا
وجمع بعض قوافيه يؤودهم ... ولو منوا بمبانيها إذ ودأوا
تشجى مسامعهم منها بما سمعوا ... ولا تقر لهم عين إذا قرأوا
وقوله في المراثي من قصيدة:
هيهات ما تغني القبائل والقنا ... والمشرفية في ملاقاة المنى
فعلى مَ تُسْتاقُ العِتاق وإن جرى ... وجرين جاهدة ونين وما ونى
فعلى مَ تُجْتابُ الدّلاصُ فإنّها ... ليست موانع سمره أن تطعنا
إن المنية ليس يدرك كنهها ... فنوافذ الأفهام قد وقفت هنا
في كل شيء للأنام محذّر ... ما كان حذّره شعيب مدينا
وحياتنا سفر وموطننا الردى ... لكن كرهنا أن نحل الموطنا
والعيش أضنك أن تعذر مطلب ... كم من ضناك في مطالبه ضنى
ولربما أعطى الزمان مقاده ... لا تيأسن من قرب صعب أمكنا
لا بد أن تتلو الحياة منية ... من شك أن اليوم يرجي الموهنا
لا ترج إبقاء البقاء على امرئ ... كل النفوس تحل أفنية الفنا
تجد الحياة نفيسة ونفوسنا ... غرباء ترغب عندها متوطنا
لو أنّها شعرت لها وسقت درت ... أن الوفاة هي الحياة تيقنا
لكنها عميت ولم تر رشدها ... ما كل من لحظ الأمور تبينا
فتبصرن مصاب سيدة الورى ... تبصر دناءة ذي الحياة وذي الدنا
ومنها:
أعظم به من حادث جبنوا له ... ما ظن قبل شجاعهم أن يجبنا
وتروا وما علموا بوتر ضئع ... من ذا يطالب بالتِّراتِ الأزمنا
ذابت سيوفهم أسى فظباتها ... تحكي المدامع والجفون الأجفنا
وتقصدت أرماحهم إن لم تكن ... شجراً وشيك الموت منه يجتنى
لم يذكروا إحسانها إلا نسوا ... حسن العزاء وبعدها أن يحسنا
فكأنّما أنفاسهم ومقالهم ... نار تحرق بينهم عود الثنا
ما جف من دمع عليها مدمع ... والحزن ما والى الدموع الهتنا
أعقيلة الأملاك والملك الذي ... لبس السناء به جلابيب السنا
فسقاك مثل نداك أو كدموعنا ... مزن يعيد ثراك روضاً محزنا
إن كنت متّ فذا ابنك الملك الرضى ... يحيي البرايا والعطايا والمنى
كثرت محامده فحق بها اسمه ... وأدام إحياء المكارم فاكتنى
فإذا بنى الأعداء هدّم ما بنوا ... والدهر لا يسطيع يهدم ما بنى

يا أيها الملك الذي أوصافه ... تعيى البليغ ولا تطيع الألسنا
إن كان عظم الرزء أصبح كافراً ... بتجلّد لا تمس إلا مؤمنا
صبراً وإن جلّ المصاب وسلوة ... فإليهما حكم الحجى أن تركنا
والدهر أهون أن يجيء بحادث ... لم يثنه حسن التجلّد أهونا
والبر يقضي أن تكون معظّماً ... والحِجْرُ يقضي أن تكون مهونا
فلئن صبرت فإن فضلك باهر ... ولئن حزنت فحكمه أن تحزنا
ومن شعره أيضاً في فنون شتى، قوله في المعمى في اسم هنيدة:
يا ليت ملكي مائة ليتها ... فهي اقتراحي فافهم التعميه
وليس في الأعداد لي بغية ... لكن لها اسم وافق التسميه
وقوله في معمى حسن:
من لي بأن أشكو إليك مدامعاً ... تهمي عليك وأضلعا بك تحترق
فترق لي يا من غدا قلب اسمه ... متصحفاً ما ضده ماضي ترق
ماضي ترق: رقّ؛ وضدّ رقّ: خشن، ومصحفه حسن.
وقوله في قوس:
حقيق أن تصول بي الرماة ... وأن تعنو بصولتي الكماة
إذا فوقت في الأبطال سهماً ... فما تغني الدروع السابغات
وإنّي كالمجرة في اعتلاء ... ونبلي الشهب والجن العداة
وقوله في مهد:
مهد جدير أن يسمى أفق ... فإن فيها كوكباً يأتلق
كأنّه إنسان عين به ... شاخصة الأبصار لا تنطبق

أبو حفص عمر بن رحيق
قال من قصيدة يندب مدينة الروم وقد فتحه الروم في سنة أربعين وخمسمائة:
نفسي تحن الى أهلي وأوطاني ... وهل رأيتم محباً غير حنّان
كانوا لقلبي أحبّاء وفي كبدي ... نار تأجج من شجوي وأحزاني
ما ضر حين نأوا لو ودعوا دنفاً ... رهن الحوادث في كف الأسى عان
عزّ اصطباري لرزء قد دهيت به ... وبان عني لوشك البين سلواني
الفقيه الطرطوشي
هو أبو بكر بن أبي محمد الفهري المعروف بالطرشوشي كبير الشان، جليل المقدار والميزان، سكن مصر وانتفع به الفقهاء وتفقهوا عليه، وشدت رواحل الطلبة إليه، ورشدت لديه. حكي أنه سعى بولده الى القصبة المصرية، فخرج أمرها بنفيه الى الاسكندرية، وطالت عليه غيبته واشتدت لوعته فكتب إليه بهذه الرسالة وليس فيها من شعره إلا القصيدة التي ختمها بها، أولها: جُرَعُ الفراق شراب الأحبة والأصفياء، وغصص النأي والبعاد كؤوس أهل المودة والوفاء، كأس وأي كأس، تزعج الأرواح، وتضني الأشباح، كأس أمر من المنون، وأدهى من الحرب الزبون:
يقولون ثَكْلاً ومن لم يذقْ ... فراق الأحبة لم يثكل
لقد جرعتني لياي الفراق ... كؤوساً أمرّ من الحنظل
فيا ليلة الوصل عودي لنا ... كما كنت في الزمن الأول
ومنها: يا بني، فارقتكم على حكم الأقدار، ونأيت عنكم بسبب الاضطرار:
وما كان تركي للأحبة عن قلى ... ولكنه حكم تناهى وأقدار
أراع لذكر البين في كل حالة ... كأنّ صروف البين عندي لها ثار
يا بني، إذا هاج شوقي وتضعضع اصطباري، واضطرب عزائمي واضطرمت بلابلي، أسَرّحُ طرفي فلا أراكم، وأستقبل الركبان فلا ألقاكم، فلا نسيمك أشمه، ولا شخصك أعتنقه وأضمه، ولا وجهك أستدنيه وألتزمه، وأبسط كفاً، وأرفع الى السماء طرفاً، وأذرف الدموع ذرفاً، وأقول كما قال من فهم عن الله أمره، ولم يعارض قضاءه وقدره، لما ابتلي بفراق أحبّائه، وصبر على بلائه: صبر جميل، والله المستعان على ما تصفون. يا بني كلما ذكرتكم، هاج شوقي الى رؤيتكم، ألحظ السماء لعلّي ألحظ النّجم الذي تلحظونه وأنا أقول:
أقلب طرفي في السماء مردّداً ... لعلي أرى النّجم الذي أنت تنظر
وأستعرض الركبان في كل وجهة ... لعلي بمن قد شمّ ريحك أظفر
وأستقبل الأرواح عند هبوبها ... لعل نسيم الريح عنك تخبر
وأمشي وما لي في الطريق مآرب ... عسى نعمة باسم الحبيب تذكر

وألمح من ألقاه من غير حاجة ... عسى لمحة من حسن وجهك تسفر
وإن قرعت سمعي بذكراك قرعة ... فمن مقلتي تبكي السحاب وتقطر
ومنها:
ومن ظلّ في عيد يسر بأهله ... فما لي من الأهلين إلا التحيّر
وإن زار إلفاً إلفه زرت منزلاً ... وحولي من أهل الحفيظة معشر
يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... وما لي منكم من أناجي وأنظر
يؤوب الى الأوطان من كان غائباً ... وما لي من الأوطان إلا التذكّر
ويأوي الى الأحباب من كان حاضراً ... ومن دون أحبابي ليالي وأشهر
كأنّا خلقنا للنوى وكأنّما ... على شملنا خُطّت من البين أسطر
أأحبابنا هل يجمع الله شملنا ... عسى نلتقي قبل الممات ونحضر
أما حذر الواشي من الدهر صرعة ... فللدهر واش لا ينام ويسهر
لعل الذي لا يرتجي الخلق غيره ... يُجمع ذا الشمل الشتيت ويُجْبِرُ
وأرجو من الرحمان إنجاز وعده ... فتقوى أجور الصابرين وتظفر
فيا ربّ فاحكم بين عبديك واحد ... ضعيف وعبد يستطيل ويقدر
توفي رحمه الله في حدود سنة ستين وخمسمائة.

ابن الحبير
أبو محمد بن حسن الكاتب القرطبي المعروف بابن جبير وصفه في البراعة بالجري في حلبتها، والجرأة بصولتها، وهو أبرع أهل بلده وأحوكهم لحلل النظم والنثر وحليها وأصوغهم، وأورد له رسالة كتب بها الى قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن حمدين، يشفع في قريب له سجن من غير ذنب احتجن، أولها:
قولوا لصخرة إذ تسائل جرمها ... جيئي جهينة ترجعي بيقين
أقذيت عيني بالزمان وأهله ... حتى نظرت الى بني حمدين
قوم إذا حضروا الندي تميزوا ... بغلو مرتبة ونور جبين
ومنها:
متبتلين الى الإلاه فشأنهم ... إصلاح دنيا أو إقامة دين
فمحمّد للّه درّ محمّد ... من مستهامٍ بالعلا مفتون
طود من الفضل استقلّ زماعه ... بإغاثة الملهوف والمحزون
قاض كأنّ الحقّ نور ساطعٌ ... يغشى الورى من وجهة الميمون
وهي قطعة طويلة.
ومن النثر في الرسالة: لما أذابتني نفحات الأشواق، الى تلك الآفاق؛ التي يشرقون به أقماراً ويقهقهون بحاراً، قلت:
وما ذكري بحب تراب أرض ... ولكن حبّ من سكن الديارا
وإنما هو كما قيل:
أحب الحمى من أجل من سكن الحمى ... ومن أجل أهليها تحب المنازل
فرابتني زفرات الوجد بذلك المجد، العالية قلله، البارع تبريزه، الغالية حلله، الرائع تطريزه، الخالص إبريزه كما راب العليل تغامز العواد، عاينتها نفساً صبّة، وقلباً قد حشي محبة، بما رقمته لعلاك من برود، كصفحات الخدود:
جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم
ونظمته من حلاك كلاماً، لو شرب لكان مداماً، ولو ضرب به لكان حساماً، ثم أنهيته، بعدما أمهيته:
ليعلم مولاي بأني عبده ... وإن فؤادي عنده وهو في صدري
وإني لا أنفك أخدم مجده ... بكل بديع من قريضي ومن نثري
ويأخذ بأذيال، ما وصفت من هذه الحال، أنه:
رماني الزمان بأحداثه ... فبعضاً أطعت وبعضاً قدح
ومن أثقلها وأفدحها وأعلنها وأفضحها وأغلبها وأعزها وأسلبها وأبزّها أنه كان لي نسيب قريب، وربيب حبيب:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في ريشه زغبا
فلما شب، دب، ليلقط الحب، فما قمص، حتى قنص، ولا أخذ في الحركة، حتى وقع في الشركة:
ويعدو على المرء ما يأتمر
وذلك أنّه أمّ قرطبة طالباً جذم مال كان قد تصدق به عليه جدّه فإذا هو قد ألفى هناك عاصبه، وقد نصب له مجانبه، وفتح أشراكه، وبسط تحت هذا الطمع شباكه، فما ترك حتّى كنف، ولا وصل حتى نتف.
وأصبح مغلوباً مسلوباً محزوناً مسْجوناً:
إذا قام غنته على الرجل حلية ... لها خطوه وسط البيوت قصير

هكذا، أعزك الله أورد، بعض من ورد، فأخذر، بعض من استخبر، وفي النّوى يكذبك الصادق، فإنّه قد حدث غيره أنه في الوثاق، ولكنه غير محلى الساق، وتحت اعتقال شديد، ولكنه في غير حديد.
ومن يسأل الركبان عن كل غائب ... فلا بد أن يلقى بشيراً وناعيا
فلو ترى أمّه أمتك سترها الله، وهي من أليم إشفاقها، وعظيم وجدها وتطباقها، قد ذهبت أو كربت، بل فاتت أو كادت، لولا ناظر غريق يطرف، وعين سخية تذرف.
ربّ عيش أخف منه الحمام
لاحتدمت فيما رحمت، ولا استعبرت فما أبصرت وهذا المظلوم المسجون المكظوم المحزون الذي غلب صبرها همه، وملأ صدرها ملمّه، فقتلها مما أذهلها فتى يعرف بفلان عبدك ومحل ولدي وسيدي وأعلى عددي أقال الله عثرته، وأزال عسرته، فهل لك بتدراك هذه المسكينة بحسنة تعدل عند الله سبحانه عبادة ألف سنة لقول عزّ وجل: (ومن أحياها فكأنّما أحيى الناس جميعاً) وإنّي لا أدري أني تيممت للخير أهله حين خاطبت مولاي فهززت نصله.

القاضي أبو بكر محمد ابن العربي
قاضي الجماعة بمدينة إشبيلية، ورد العراق، وطاف الآفاق، وقرأ على أبي حامد الغزالي، وتحلّى من فضله البَهيّ، بأبهج الحلي، وعاد الى بلاد الأندلس في سنة سبع وخمسمائة. وألّف على نمط الغزالي كتباً، وفرع بها رتباً. قال ابن بشرون في كتابه: أنشدني محمد بن محمد القرطبي أبياتاً قالها ابن العربي في صباه وهي:
قف بالمطي قليلاً أيها الساري ... إذا مررت بذات الدوح والحَارِ
واستنطق الركب من تَيْمٍ وسابِلهم ... عن أهيف خنث الأعطاف معطار
يشكو الذي منه أشكو غير أن له ... قلباً صبوراً وقلبي غير صبّار
أبو العباس أحمد بن حمدين
قاضي القضاة بقرطبة في عصرنا، له مصنفات شانَها بالرد على الغزالي، وشابها بالتعصب الغالي. ذكر أنّه حضر مجلس حكمه عبد أسود وامرأة له بيضاء يتحاكمان إليه. فقال بديهة:
رأيت غراباً على سوسنه ... وذاك دليل لسوء السنه
فيا مرود الآبنوس افتخر ... ويا مكحل العاج زد معونه
وله:
وزائرة ليلاً فقلت لها أما ... خشيتِ رقيباً عن طريقكِ يقطع
فبادرتها لثماً وأسرعت ضمها ... عناقاً وما كنّا بذلك نطمع
وأبدت تعاطيني كؤوس مدامها ... وتسمعني من ذاك ما ليس يسمع
فقلت لها حِلي النِّقاب تفضلاً ... فعما قليل ضوء صبحك يطلع
فأنّتْ كما أنّ السليمُ لما به ... وقلبي بتذكار التفرق يصدع
وبتنا وأيم الله لا إثم بيننا ... بريئين من حدس به الظن يقطع
الى أن دعا داعي الصباح فودعت ... ومرت كمرّ البرق بل هي أسرع
أبو عبد الله محمد المعروف بابن الحنّاط
له رسالة طردية أورد منه في وصف الظباء وصيدها: فلما توسطنا وهَدات الربا، عنّت لها أسراب الظبا، كأنّما ألبسن الدمقس سربالاً، واتخذن السندس سروالاً:
من كل مخطفة الحشا وحشية ... يحمي مداريها ذمار جلودها
فكأنّما أقلام مسك كُتِّبت ... بمداد عينيها رسوم خدودها
فأرسلنا أولى الخيل على آخرها، وخلينا إياها، فمضت مضي السهام، وهوت هوي السلام، وهي تجول في أجوالها يميناً وشمالاً، فكأنّما أنتجت لآجالها آجالاً، فغادرناها بين جريح مضرج بدمائه، وقتيل يجود بذمائه.
فصل في وصف معرس القوم وأكلهم وشربهم فيه ووصف الساقي
فنزلنا معرسين، وأقمنا مخيمين، وشبت النار، وتناثر الشرار:
وظل طهاة اللّحم من بين منصف ... صفيف شواء أو قديد معجّل
فلما قرب، وصُفّ الشواء وصهب، تعاطينا لحماً كالعقيق، وتهادينا شحماً كالشقيق ثم قام كلّ الى جواده يمَشُّ بعرفه كفّيه، ويمسح لشُعَبِه بين عينيه، ونحن إذ ذاك بحيث تضاحك الورد والبهار، وتفاوح النور والأنوار، وأرضنا بمخضر نبت صاغ النور تاجه، وحاك القطر ديباجه، وسماؤنا غُداقِيَةُ الإهاب، جامعة السحاب، فماء النّدى مسكوب، ورواق الطل مضروب، والريح تصفق والغصن يتثنى، والقنبرة تصرصر والبلبل يتغنى، وقد خيم السرور، وجعلت الكأس تدور، ولا حديث لسقاتها، غير هاك وهاتها:

إذ دعا النّدمان ظبياً سقني ... فضلة الكأس فقد طال العطش
من سلاف سلفت في دنّها ... قبل عاد وهي صرف لم تغش
من يدي ساق يحاكي خده ... قهوة فيها حباب كالنمش
خلع الياقوت ثوباً فوقها ... وكساها وشيه جلد الحنَش
غزال يدير في كفه منها الغزالة، وهلال تحُفُّه من أصداغه هالة، تنفس الصبح من طوقه وعسعس ليل الشَّعَر من فوقه، كأنّ الجلّنار من خدّه خلق، والأقحوان من ثغره شَرِق، ذو خصر جوّال الوشاح، وبشر كالدّر بنهد كالتفاح، لو مشى الذّرّ عليه لأدماه، أو جرى النفس عليه أجراه.
فصل في وصف ركوبهم في البحر وتصيّدهم لأصناف السمك منه:
ثم رحنا الى شاطئ البحر، وقد سكن هائجه، وركد ثبجه، وأقبلت الزوارق تهفو بقوادم غربان، وتعطو بسوالف غزلان، تخالها في سمائه أهلة مكسوفة، وتحسبه فوق مائة رعيل دهم مصفوفة، فلما ضمت إلينا ودخلناها، قلنا اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها، ولا فرش غير ريحان منضد، ولا سقف غير كتان ممدد، فصفعنا بأجنحتها قفاه، ودللنا بمجاذفها مطاه، وابتدر الملاحون فبعض الى شباك الحرير، وبعض الى صنانير كأظفار السنانير، قد عطفها القَيْنُ كالرّاء، وصيّرها الصقل كاللألاء، فجاءت أحدّ من الإبر، وأرقّ من الشّعر، كأنّها مخلف صرد، أو نصف حلقة زرد، فتقلّدوا سموطها، وأرسلوا خيوطها، مضمنة أكلاً وبيّاً، وسُمّاً لآكلِه وحِياً، فأهووا الى مقر السمك، وقذفوها في سماء لازوردية الحبك، فما هو إلا ريث قذف تلك الرجوم من فوره، وطلوع النِّينانِ أشبه النجوم من غوره، تبرق بريق الصوارم المسلولة، وتلمع لمعان الذوابل المصقولة، مدنّرة الأصلاب، مفضضة البطون، مذهبة الأفواه، مجزّعة العيون، تصلّ صليل السيوف في اضطرابه، وتخطر خطران الفحول بأذنابها، فاستخرجنا لحماً طرياً واشتوينا، فأكلنا هنيّاً مريّا، ورحلنا عنه، وقد تزودنا منه.

فصل في وصف المكان الذي أفضوا إليه عند خروجهم من البحر:
وأفضى بنا الرّكب الى رملة بيضاء، مفضية الى قرارة خضراء، تتفجر فيها عين كعين زرقاء، صفاء مائها، كصفاء إنسانها، وقد أحدق بها النبت كهدب أجفانها، فنهلنا من نميرها، وكرعنا في غديرها، وركزنا رماح الخط، وجعلنا عالينا رباط العصب، وافترشنا مطارف الوشي فوق درائك العشب وجعلنا من اللُّجُمِ أوتاداً موتودة، واتخذنا من الأعنّة أسباباً ممدودة، فقام الخِبا، واستوى البِنا، والماء يقهقه في خريره، والقمري يُقرقر في هديره، والنسيم يعبق عن الروض الزكي، والجو مضمخ بزعفران العشي:
تشدو بعيدان الأراك حمامة ... شدو القيان عزفن بالأعواد
مال النسيم بغصنه فتمايلت ... مهتزة الأعطاف والأجياد
هذي تودع تلك توديع التي ... قد أيقنت منها بوشك بعاد
واستعبرت لفراقه عين النّدى ... فابتل مئزر غصنها الميّاد
وإنّا لكذلك، إذ برقت السماء فسلت مُذهب نصولها، ورعدت فضربت مُنذِرَ طبولها، وجعل يُعَبّئُ مواكبه، وأخذ الرباب يرتب كتائبه، فبعدنا أغذّ السير وامتدّ طلقه، غلبه البهر فتصبب عرقه، فخر هنالك لقى، فعند ذلك نام الروض فغنّى وسقى، فتنفست الأرض عن نكهة العروس، وتبرجت في حلية الطاووس:
وكأنّ صوت الرعد خلف سحابه ... حاد إذا ونت السحائب صاحا
مرتجة الأرجاء يحبس سيرها ... ثقل فتعطيه الرياح سراحا
أخفى مسالكها الظلام فأثبتت ... من برقها كي تهتدي مصباحا
جادت على التلعات فاكتست الربا ... حللاً أقام لها الربيع وشاحا
فساعة خمد البرق، وانقشع ذلك الودق، واعتزمنا على الرحيل، والتحول في برد الأصيل، فبصرنا بمطوّقة قد أفردها الدهر عن إلفها، واستاقها الحَيْن الى حتفها، تصرف من الياقوت طرفاً، وتقلب من المرجان كفّاً، كأنّ الزبرجد نظم عقدها، والفيروزج نمنم بردها، فبينا هي في سرحها تلتقط بفرخي جلم، وتَسْرُطُ بفِلْقَيْ قلم:
أهوى لها أسفع الخدّين مُطّرِقُ ... ريش القوادم لم يُنصَب له شرك

فكأنّما اكتحل بلهب، وانتعل بذهب، ملتفت من شَذْرَهْ، وملتحف في حَبْرَهْ، من رماحه أظفاره، ومن سيوفه منقاره، من اللواتي تنافس الملوك فيها، وتمسكها عجباً بها على أيديها، آية بادية، ونعمة من الله نامية، تبذل لك الجهد سراحا، وتُعيرك في بغيتك جناحا، وتتفق معك على طلب الأرزاق، على اختلاف الخلق والأخلاق، ثم تلوذ بك لواذ من يرجوك، وتفي لك وفاء لا يلزمه لك ابنك ولا أخوك، فلما ارتقت في السماء، اتخذ إليها سلماً من الهواء، وهي تبعد منه بعد الأمل، وهو يقرب منها قرب الأجل، واختطفها أسرع من اللحظ، ولا محيد لها عنه، وانحدر بها أقرب من اللفظ، فكأنما هي منه، فجعل يتناولها بمثل السبعين، وقد أدخلها في أضيق من التسعين، فكان لها موتاً عاجلاً، وكانت له قوتاً حاصلاً، والحمد لله الذي منّ بهذه النعمة على الإنسان، وفضّله بما سخر له من الحيوان، وفيه أقول:
فانقض مثل الدلو خلاه الرشا ... ليس يشا غير الذي منه يُشا
إن طار عنه صيده وإن مشى ... أو غاب عنه في السماء فتّشا
أو غاص عنه الأرض عليه نبشا ... يسفر عن خد صباح أبرشا
طارت بقايا الليل فيه نمشا ... يخاله من قد رآه أرقشا
عاجا بآبنوسه محرشا
وما زلنا في ذلك نتحول عن تلك المنازل، ونتجول في تلك الخمائل، حتى ثار من حُمُرِها أفراد حِران، كأنّهن أولاد غزلان، قد جمع الأجل منها ما افترق، وأخرجها من كل نفق، فأخذت في الهرب، وأخذنا في اطلب، إثر كل رواع ينعطف انعطاف البرة، ووثّاب يجتمع اجتماع الكرة، وحاك الغضب إزاره، وصاغ التبر حلوقه وسواره، وحلك بالعنبر متنه، وضمخ بالكافور بطنه، ونضج بعبير، ولفّع بحرير، ينام بعيني ساهر، ويفوت بجناحي طائر، قصير اليدين، طويل الساقين، هاتان في الصعود تنجده، وتانك عند الوثوب تؤيّده. فلما طال به الجري، وظن أنّه نجي، ثم أشلينا كلباً حللناه من ساجوره، وخلّيناه الى مسروره، فمرّ يخفي شخصه غباره، وفي شدقه شقرته ناره، إن تنكّب ارتقبه طرفه، وإن تغيّب أشخصه أنفه، من القَبّ الطامحة العيون، والهُرْت اللاحقة البطون، معرق في نجابته، معم مخول في فراهته، يسمع منك إيماء، ويفهم عنك إيحاء، يمشي فلا يمس الأرض بأربعه، ويجري فلا يسبقه الريح الى منزعه، معترض كالسمهري المعرض، وأبلق كالإبريق المفضض، طرز بالكافور على قدته، ورسم بالمسك على لبّته:
إذا عدا واشتد في طلابه ... يكاد أن يخرج من إهابه
متقداً كالنار في التهابه ... لا يطعن الصيد بغير نابه
فغشيه كالغيث، وأخذه كالليث، ففقر فقاره بشفاره، وقد قميصه بأظفاره، وتلاحقنا به وقد أكبّ على صيده وقعد، كأنها فريسة بين ساعدي أسد، فروّيناه من دمه، وحللنا بينه وبين أدمه، فتهيّز لنا من السوانح ما أردناه، وتمكن بالجوارح ما قصدناه، وحمدنا الله تعالى إذ علمنا فعلمناها، وجعلها آلة من آلات الرزق فاستعملناها، ثم أظلّنا ليل كظهر الفيل التف جنحه بإهابه، وافترّ فجره عن نابه، فكأنّ بدره ينبس عن صبحه بمصباح ومرّ يحدوه النسر، الى أن لفّ الرُّبا في ملاءة الفجر، فنمنا نومة النصب، وهدأنا هدأة الوصب، فما صحت العين من رقادها، إلا لتغريد الطير في أعوادها، وذكاء قد أذكت نفسه علينا، وسفت فكشفت عن صفحتها إلينا:
بتنا وبات البرد يضربه الندى ... من كل أخضر بارد الأنداء
والليل يخفي نفسه في نفسه ... والصبح كشاف لكل غطاء
وكأنّما الإصباح تنشر مهرقاً ... أثر المداد به من الإمساء
وقُرّبت السوابق فجلنا في متونها، واطمأنت الأوابد فخليناها لشؤونها وعدنا من تلك النزهة وقد تسلّت النفوس، ورجعنا من تلك الوجهة ولا عطر بعد عروس. فتفرغت إذ ذاك للجواب، وتذكرت ما أوتيه الحاجب أعزه الله من الحكمة وفصْل الخطاب. فسقط في يديّ، واستد دوني باب القول فارتج عليّ، غير أني تخيلت، أبقاه الله، صفاته، فجعلت أكتب ما يحكى، وتأملت مكرماته، فأخذت أنسخ ما يُملى:
يقولون هذا أبلغ الناس كلهم ... فقلت المعاني علمتني المعاليا
وما لي في قول تضمّن لفظه ... مناقب قوم غير ما كنت راويا

وعسى الأيام أن تسعف فنلتقي، أو تنصف فنسْتقي، فلو أمكنني مكان كتابي السير، لاستعرت أجنحة الطير، فوافيت حضرة المجد، أسرع من الطرف، ولاقيت غرة السعد، أطوع من الكف، وقلت:
والشعر يُبْدي عطفه ويهزّ لي ... سيف القريض ورمحه الداسا
من طرّقت عنه صروف زمانه ... سمعاً أزل وحية نهاس
يسري الى ملك تهلل وجهه ... شمساً وراحَتُه نَدًى رجّاسا
يرمي مع الأقدار رمي مؤيد ... جعلت لأسهم رأيه أقواسا
قد غادرت عين الزمان وأذنه ... ما تسأم الإيناس والإنحاس
وكتيبة مكتوبة بفوارس ... يلقون لا كشفاً ولا إنكاسا
فإذا تفهمت الجيوش كتابه ... دانت لمن راض الأمور وساسا
وكأنّما النقع المثار دجنة ... تفِدُ الأسنّةُ منهمُ أقباسا
وكأنّما غرر الجياد أهلّة ... يقطفن من هفواته أغلاسا
وتخاله سلّ المجرة سيفه ... وتحرّك العيوق فيه لباسا
على أنّي أتمهّد من برّ أمير المؤمنين أعزه الله رق الرئال، وأحل من إكرامه محل الهلال، قد أينع لي روض المنى، وانتظم زهره، وطاب عن غرس الندى، واجتني حلوه، وفيه أقول أيده الله ونصره:
أيَا ناصر الدين لم أنتصر ... بغيرك من زمن ظالم
إذا ما تحرك أسكنته ... كما أسكن الفعل بالجازم
يفيض نداك على المجتدي ... كبحر يفيض على العالم
بمكارم هاشمية، وأفعال علوية:
من القوم الذين سمعت عنهم ... بني الزهراء واختصر المقالا
وفيهم أقول:
أبناء فاطمة رسل العلا رضعوا ... وبالسماح غُذُوا والجود إذ فطموا
قوم إذا حلف الأقوام أنهم ... خير البرية لم يحنث لهم قسم
سما لهم في سماء المجد من شرف ... بيت تداعت إليه العرب والعجم
مناقب سمحت في كل مكرمة ... كأنّما هي في أنف العلا شمم
والفقيه المذكور يُؤويني كنف رعايته ويُلْحِفُني جناح عنايته، فألوذ بما غمر من فضله، وشمل القريب والبعيد من عدله، وفيه أقول:
فتى واحد في عصره غير أنّه ... يقوم لراجيه مقام ألوف
وما هو إلا رحمةالله مدها ... على كل ملهوف وكل ضعيف
وأنفذ في الأحكام آراء فيصل ... لها في قضاياه مضاء سيوف
فقل لليالي عن أياديه إنها ... حصوني التي أعددتها وكهوفي
حكم فعدل، وقال ففعل، وزير وضعت به الحرب أوزارها، ومدير جعلت عليه الخلافة مدارها، فتنزّه عن الكبر والعجب ووضع الهِناءَ مواضع النُّقْبِ، وفي ذلك أقول:
لما قدر الأقوام هذا أن يرى ... أبداً ولكن ذاك فعل قدير
يلقاك بسّام بوجه ضاحك ... سار السفير إليه دون سفير
ما يسرت يده الكريمة في الورى ... إلا لوضع يد وجبر كسير
إن جئته يوماً لدهرك شاكياً ... أغنته فطنته عن التذكير
خشن الزمان لديّ حتى جئته ... فرفلت من نُعماه فوق حرير
والفقيه القاضي وفقه الله، ركني الذي آوي إليه من الزمان، ومِجَنّي الذي أتّقي به طوارق الحدثان، علم العلم الذي دل على الفضل دلالة الخطوط على المهارق، وفقيه العصر الذي حلّ من المجد محلّ النواصي من الخيل في المفارق، وفيه أقول:
حسنت بحسون خلافة هاشم ... قاض تخيّره الخليفة وانتقى
وأغرّ وضاح الجبين مبارك ... يلقي الحياء قناعه عند اللقا
شرفت به الدنيا وأمسى شخصه ... في المغرب الأقصى فأضى مشرق
صلى الجميع وصام شكراً واجباً ... لما تولى أمرهم وتصدّقا
هُديَ في حكمه الى أقوم الطرق، وحُبي على علمه بحسن الخلق، صنع من حكيم عليهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
يا هادي الضُّلاّل نهج طريقه ... وموفي الإسلام كنه حقوقه
وإمام علم الدين والقمر الذي ... كشف العمى بسنا الهدى وشروقه

وأخا القضاء العدل والحكم الذي ... سوّاه بين عدوّه وصديقه
ووقفت فاسقصيت أنك واحد ... وجدوا صلاح الكل في توفيقه
وما حرك الحاجب أعزّه الله سكناً، ولا نبّه بقصده نائماً، وقد طلعت الشمس التي صار بها الغرب شرقاً، وهبت الريح التي عاد بها الحرمان رزقاً، لواء المجد، فارس العقد، يسير صدر الجيش وهو ربه، ويتقلب فيه وهو قلبه:
بكلّ خميس بعيد المدى ... يضيق بمذهبه المذهب
ثقيل الخطى قاده أدهم ... ولكنّه بالظّبَى أشهب
كأنّ الحديد على متنه ... لجين بشمس الضّحى مذهب
مياه ترَقْرَقَ رَجْراجُها ... وللنقع من فوقها طحلب
يسِحُّ به للندى حاجب ... إذا جاءه الضيف لا يحجب
تهزّ به الخيل أعطافها ... إذا مرّ من فوقه الموكب
عفاها السرور به كأسه ... فظلّت على ودّه تشرب
وقالت: أفي الحق لو أنّني ... أرى مثل هذا ولا أطرب
كلما لاح بارق ارْتحتُ إليه، أو ذر شارق سلّمت من البعد عليه، فإذا بدت النجوم توهمت همته، وإن نهجت الغيوم تذكرت موهبته ولا أسمع العربية إلا قلت إنه من كلماته، ولا رأيت النّجيبة إلا تيقنت أنها من فعلاته، ولا أحل الرياض إلا وأحسبها شمائله، ولا أرِدُ البحار إلا وخلتها نوافله، وفي ذلك أقول:
وما شبهوا بالبحر كفّيه في الندى ... ولكنها إحدى أنامله العشر
يدان إذا أوما بها اشتاق ضارب ... وحنّ سنان وانبرى سارب يجري
وأظهرت الأيام نخوة قده ... تزيد بحسن الذكر كبراً على كبر
أمنت به من كل شر أخافه ... من الدهر حتى نمت في مقلة الدهر
يعزّ الملك، ويذل الشرك، ويرفع أعلام الحق، ويبسط العدل بين الخلق، شنشنة أعرفها من أخزم، ومن أشبه أباه فما ظلم، ولا بد أن يمد لي الأمل كفيه، ويهز لي الجذل عطفيه، فلئن أزهى بنظمه، فإنّه من شعره، ولئن أعتزي بفضله، فإنني متعلق بحبله، ومعترف بأن الدر يغترف من بحره، وغير منكر على أن أحلب منأخلاف دره، فخذني أعزك الله إليك، فقد تطارحت بنفسي عليك، ورغبت في حلول فنائك، وآثرت أن أصير تحت لوائك.
وإذا كان عند قلبك قلبي ... لم يضِرْنا تنازح الأبدان
وتصفح بعين صفحك نظماً ... قد غدا عن محبّتي ترجمان
قل لريب الزمان كيف تراني ... شاكياً بعدها وأنت تراني

أصبغ بن محمد القرطبي
له في معذر:
بارك الله في سواد الخدود ... إنّه سؤدد لكل عميد
لم تجد بالوصال إذ كنت حيا ... يا قتيل العذار جد بالصدود
لو إلينا يكون دفنك حيا ... لدفنّاك في قبور اليهود
أبو عامر محمّد بن الأصيلي
له من رسالة كتب بها الى ذي الوزارتين أبي محمد بن أبي الفرج يعرفه ما لقيه من رؤساء أهل جزيرة شقر ويذمهم:
كتبت إليك أوان الخروج ... حزيناً مهيناً الى دانيه
أسائل ربي أن لا أعود ... الى أرضكم مرة ثانيه
حللت الجزيرة سحقاً لها ... كأنّي حللت بسردانيه
منعت الدخول الى أهلها ... فدرت كما دارت السانيه
وبتّ ثلاثاً بها طاوياً ... قراي همومي وأحزانيه
فقل لابن ذي النون ما باله ... يولّي الحصون بني الزانيه
وإنّ فعال بني آدم ... لتبقى وأشخاصهم فانيه

فارقتك، لا فارقتك السلامة، ولا تخطت إليك الملامة، وحالي على ما أحطت به خبراً، وبلوته سراً وجهراً، من إخفاق سعي، واستيلاء عري، إذ كان الذي وصل إليّ، وحصل في يدي، بكريم عنايتك، وجميل سعايتك يسيراً أنفقت عليه كثيراً، وقليلاً، أقمت عليه طويلاً، فلم أسدد به خللاً، ولا استجلبت به جذلاً، بل كلّما سترت جانباً انكشفت جوانب، وكلما قضيت مأربة عرضت مآرب، لكنني شددت عليه يد البخيل، وأعددته لمؤونة الرّحيل، وخرجت على بلنسية جبَرَها الله، راكب حمار، ولابس أطمار، كأنّني سُلِبْتُ في الطريق، أو أفْقِيتُ مرحلة الذريق، الى أن وافيت الجزيرة، وآمالي بها كثيرة، ونزلت منها على مقدار شأوي وقدمت كتابك الى الوزيرين الجليلين أبي جابر وابن طريف، أكرم الله بما أعواد الكنيف، وكان من برهما أني نزلت خلف السور، أخزى نزول.
حتى إذا رمت دخولاً أبت ... نفس أبي الحجاج لي بالدخول
راسلته مستنزلاً راغباً ... فكاد أن يقطع رأس الرسول
أكرم به من قائد ماجد ... يصلح للحرث ورعي العجول
لا بدّ لي إن عشت والله أن ... أخرى على لحيته أو أبول
فجعلت عند ذلك أعض أنامل المغبون، وأقول لله درّ ابن ذي النّون، فلقد تخير للمعاقل، كل جواد عاقل، وأكثر ما ظهر حسن الاختيار في البيرشة والمنار، وكم سواهما من حصن حصين، فوض أمره الى غير أمين، فجاء من ذلك ما قد ظهر، وتولد منه ما قد عرف واشتهر، والله لقد جُبْتُ البلاد، وبلوت العباد، فلا شك عندي ولا مرية، أن أرذل الناس أهل شنت برية، الأوغاد الحثالة، معادن الخساسة والنّذالة، أخلاق اللوم، وروايح الثوم، أحلام البغال، وأقْفاء النِّعال. قوم شغلتم الوراعة والطماعة، عن التحلي بالجود والشجاعة، ناموا عن المكارم، وتجنّبوا أخلاق الأكارم، شرق الشرق بدهمائهم، وفسد بآرائهم، فليس لحمد إليهم سبيل، ولا لمجد عليهم دليل، لا أستثني منهم في كل الأمور إلا أنت، والفاضل أبا مخفور فكلاكما شريف جواد، هاد الى سبيل الرشاد، إن رأى زللاً غضى، أو همّ بمكرمة أمضى، لا يتعرض للسباب، ولا يقف قصاده بالباب:
فأقسم بالبيت الذي طاف حوله ... رجال كرام من قريش وجرهم
يميناً لنعم السّيدان وجدتما ... على كل حال من مخيل ومبرم
فأما الوزير أبو الحجاج، فقد تقعدد في مرتبة الحَجّاج، لا ينقصه من الخلافة إلا التاج، يختال اختيال ذي رعين، ويتوهم أنه ولي الحرمين، يذلّك إذ يُحترم، ولا يُكَلّم إلا حين يبتسم، وذاك شأن اللئيم إذا أكرم، وعادة المتأخر إذا قُدّم، ولطالما عشش الفار في سرجه، وتخالفت الرقاع في خرجه، فواحدة من بدنه سليخة، وأخرى من جلده بطيخة. والوزير أبو المظفر، إذا لبس الفرو الأحمر، وتبرج في مشيته وتبختر، قد أسبل أكمامه، ورتب حشمه أمامه، قابضين على العصي والسّكاكين، لابسين السلاهم والبرانس، لا يكلم الناس إلا إيماء. ولا يسلم عليهم نخوة وازدهاء:
مغائظ ليس لها حيلة ... إلا انتظار الحين والوقت
قل لابن ذي النون الرئيس الذي ... ليس له شيء من البخت
يا مالكاً يجعل قواده ... قوماً غدوا عليه باللفت
جاءوا الى الشرق جياعاً فما ... يشبعهم شيء من السّحت
من كل حرّاث له لحية ... تدهن بالشحم وبالزيت
إن صار في حصن رأى أنه ... قد أدخل العالم في تخت
يحسد فرعون على قوله ... وهذه الأنهار من تحتي
لا جبر الله بني جابر ... وزادهم مقتاً الى مقت
وابن طريف لا رنا طرفه ... في جسمه إلا الى بَرْتِ
إن تأته في حاجة يعتذر ... عذر يهود غدوة السبت
ما هذه الأشباح تبّاً لها ... قد ملئت بالسفه البحت
هيهات لا حر ولا حرّة ... في باب إقليش الى البونت

طالعتك أعزّك الله بما نلته من المضرة، ولقيته من عدم المسرة، لتعلم ما به دهيت، وعن أي قوس دناءة رميت، ولتدري أن كتابك لم ينفع، وأن خطابك لم ينجع، وأن الكلبين لم يكفهما أن منعاني لقاهما، حتى حجباني عن سواهما:
وإن امْرأ ضنّتْ يداه على امرئ ... بنيل يد من ماله لبخيل
أسأل الله أن يكفلنا برزقه، ولا يحوجنا الى أحد من خلقه، وأن يجعل سعيك مشكوراً، وفضلك مأثوراً، وأن يبقي عليك وارف نعمه، وجزيل كرمه، والسلم.

أبو الفتح الوزير
وصفه في الأدب بالغزارة، وفي النظم والنثر بالمهارة، أورد له من رسالة الى المقتدر في ذم قوم: استبدلوا بالخير شراً، واعتاضوا من العرف نكراً، واختاروا بالعلم جهلاً، وآثروا على الحياة قتلاً، ولم تزل تعاملهم بطول التؤدة، وتفسح لهم في مجال التوبة، وتتوكف بهم غفران الحوبة، وتبسط لهم وفيهم بالغ المقدرة، وتترفق بهم ترفق من لا يزال سيبه يسبق سيفه، ورجاؤه يغلب خوفه، ورحمته تفثأ عذابه، وأناته تدرأ عقابه، حتى جرّهم السّفه، واستولى عليهم العَمَهْ. وسول لهم الشيطان، واستدرجهم وأوبقهم العصيان، وأزعجهم فبذروا الوقائع حتّمه عليهم خلع الطاعة والى مصارع حكم بهم فيه فراق الجماعة.
ومنها:
فما كان بين مُناهُم وتمنّيهمإلا ريثما اشتملت عليهم الحرب، واستوعبهم الطعن والضرب، وتحكمت فيهم الرماح والسيوف، وتراءت لهم في أقبح صورها الحتوف، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، فالحمد لله معطي الحق أهله، ومؤتي كل ذي فضل فضله، الذي ينصر من اتقاه، ويخذل من عصاه، ولا أعدم الله مولاي برهاناً يبهر وسلطاناً يقهر، وحقاً يظهر، وذكراً يخلد، وفتحاً يغور وينجد.
أبو عمرو الباجي
ّ
ذكر أنّه كان من الأيمة الفقهاء، والكتاب البلغاء، وله التصانيف الحسنة الشرعية، والمؤلفات المرضية المرعية، وأورد له من رسالة عن المقتدر، الى الوزير أبي الفتح في قبول العذر: ورد كتابك الأثيل، واجتليت ما حواه من القول الجميل، المشتمل على العذر المقبول، وتأملت جميعه تأمل العارف بقدرك، الحامل لبرك، المطيب لذكرك، ومثلك يقرب إذا تعرب؛ ويعتب إذا استعتب، ويمنح صدق المودة إذا تودد وتحبب، وما سلف محمول على ما أوضحته، موضوع حيث وضعته، منسيٌ لا يذكر، مدفون لا ينشر، منسوخ العين والأثر بالميل إليك، والحرص عليك، والظن بك، والإيثار لك، والرغبة فيك، والاستكثار منك، وبحسن هذا ينبغي أن يستحكم بجانبي ثقتك، وتصح إليه استنامتك.
ابن الجودي
وصفه بصفاء جوهر الكلام، وطيب عنصر القول، وتفرده بالاستعارة الرقيقة، والإشارة الدقيقة، والعبارة اللطيفة الرشيقة، وأورد من شعره قوله:
أدر كأس المدام فقد تغنّى ... بفرع الأيك أورقها الصدوح
ونمّ على الرياض نسيم صبح ... تضوع نشره مسك يفوح
وسال النهر يشكو من حصاه ... جراحات كما أنّ الجريح
وقوله:
رعى الله ذي الدّنيا لقاء وموقفاً ... تأتّى اتفاقاً لا لوعد ولا عهد
بميثاء تعلوها الرياح بليلة ... وتنظر فيه الشمس بالأعين الرمد
على صخب لمّاعِ متنٍ كأنّه ... سنا البرق أو سل الحسام من الغمد
وقوله في تسهيل الحجاب:
هو الحرّ يهوى النّدى والعلى ... ويرعى عوارف أربابها
فهل لي لبابك من آذن ... فآتي حقوقك من بابها
وإلا طويت عروض البلا ... د طيّ البحار بأثوابها
وطوّفت أشكر نُعْمَى مضت ... وأرجو اللحاق بغُيّابِها
وقوله:
عساك تغضّ الطّرف والنقد أنه ... هنات، وما بُقْيا الهِنات على النقد
تجاوز لها واحقد على باعث لها ... فإنّ الهوى والدهر أهلان للحقد
وقال:
هل يقدر الدهر والدنيا وعائدها ... والأرحبيات والمهرية القود
أن تدنو الدار لي في فتية سُمُحٍ ... يندى ويخضر في أرجائها العود
أفديهم طوقوا النّعمى مؤملها ... طوق الحمامة لا يشقى به الجيد
من كل أروع مثل السيف منصلت ... تنضى له النجب أو تُطوى له البيد

نعم الأحاديث إن حلوا وإن رحلوا ... كالماء والروض مورود ومودود
أبناء زهرة لم يفهم مواضعها ... إلا العلاء وإلا السرو والجود
كالأنجم الزهر لا مرقاتها لمدى ... ولا تلألؤها في الدهر مفقود
وددتهم للعلى والقوم ودهم ... رغبى ورهبى ومأمول ومقصود
لولا القضاء وإن المرء تغلبه ... أحكامه الغر أو أحكامه السود
لقد رجعت على نفسي بلائمة ... ولَوْمُها عذَلٌ منى وتفنيد
أشكوك يا دهر قد مل السرى فرسي ... وغال مهري تحديد وتصعيد
عاوِدْني الخفْضَ ليس المرء في خلد ... ولا فؤاد الفتى في الصدر جلمود
أفي ذمام العلى إني لها وبها ... وإنّ حظي مطلوب ومنشود
لا بأس جد الفتى من جد منجده ... إن الذي يعلق المجدود مجدود
أبو محمد عبد الله ابن سارّة الإشبيلي
توفي بعد سنة خمسمائة رحمه الله ذكره بالعراق الفقيه أبو علي الحسن بن صالح المالقي وقد قدم وأنشدني لابن سارة في الوراقة:
أما الوراقة فهي أنكد حرفة ... أغصانها وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بإبرة خائط ... تكسو العراة وجسمها عريان
ثم طالعت بالشام حديقة أبي الصلت فوجدته قد أورد من شعره البيتين وأورد أيضاً قوله:
أسنى ليالي الدهر عندي ليلة ... لم أخل فيه الكأس من أعمال
فرّقت فيها بين جفني والكرى ... وجمعت بين القرط والخلخال
وقوله:
ومهفهف رقّت حواشي حسنه ... فقلوبنا شفقاً عليه رقاق
لم يكس عارضه السواد وإنّما ... نفضت عليه صبغها الأحداق
وقوله:
أبدى سوالف رئم زانها العطل ... واستلّ صارم لحظ هابه البطل
وافتر عن رتل ألمى فعلّمني ... ترتيل وصفي فيه ذلك الرتل
وما جريت قصار السبق مرتجلاً ... في الشعر حتى بدا لي شعره الرجل
وقوله وقد جلس الى جنبه غلام حسن الصورة، ثم قام وأعقبه رجل أسود:
مضت جنة المأوى وجاءت جهنّم ... فأصبحت أشقى بعدما كنت أنعم
وما هي إلا الشمس حان غروبها ... فأعقبها جنح من الليل مظلم
وقوله في فروة خليعة:
أودى بذات يدي ذماء قرية ... كفؤاد عروة في الضنا والرقة
يتجشّم الفراء في ترقيعها ... طول المشقّة في قريب الشقة
لو أنّ ما أنفقت في ترقيعها ... يحصى لزاد على رمال الرقة
إن قلت باسم الله عند لباسها ... قرأت عليّ إذا السماء انشقّت
وذكره الفتح صاحب قلائد العقيان وقال:
نادره الدهر، وزهرة الأيام، المثبت في الأعناق من ذمه أو مدحه مياسم كأطواق الحمام، وتراه دميث الهيئة وقورها، طيب النفس صبورها، حتى إذا حرشت ضبابه، ونوزِعَ السبق فانبرى غلابه، طبع من سانح طبعه منصلاً، وطبق من ضريبته مفصلاً، وأورد من شعره قوله في وصف روض:
أما الرياض فإنّهن: عرائس ... لم يحتجبن حذار عين الكالي
جاد الربيع لها بنقد مهورها ... دفعاً ولم يبخل بوزن الكالي
تثني الصبا منها أكف زبرجد ... منظومة أطرافها بلآلي
وقوله في وصف نار:
لابنة الزند في الكوانين جمر ... كالدّراريّ في دجى الظلماء
خبروني عنها ولا تكذبوني ... ألديها صناعة الكيمياء
سبكت فحمها صفائح تبر ... رصعتها بالفضة البيضاء
كلما رفرف النسيم عليها ... رقصت في غلالة حمراء
ولابن سنان الخفاجي:
وكأنّها والريح عابثة بها ... تزهى فترقص في قميص أحمر
وأصله قول أبي تمام:
كأن نيراننا في رأس قلعتهم ... مصبغات على أرسان قصار
عاد الى شعر ابن سارة:
لو ترانا من حولها قلت شرب ... يتعاطون أكؤس الصهباء
وهذا البيت مقلوب قول أبي نواس:
لو ترى الشرب حولها من بعيد ... قلت قوم من قرة يصطلونا

عاد الى شعر ابن سارة:
سفرت في عشائها فأرتنا ... حاجب الشمس طالعاً بالعشاء
وقوله فيها أيضاً:
جاءتك في تنوّرها المسجور ... زهراء في حلل من الديجور
لما تهلل في الظلام جبينها ... لبس الظلام بها غلالة نور
يا حسنها وقد ارتمت جنباتها ... شرراً كمثل العسجد المنثور
والجمر في خلل الرماد كأنّه ... ورد عليه ذريرة الكافور
في ليلة خلنا دجاها إثمداً ... ونجومها مرضى عيون الحور
وقوله فيها أيضاً:
قد شابت النار بكانوننا ... لما تناهى عمرها واكتهل
كأنّها لما خبا جمرها ... مطيب الورد إذا ما ذبل
وقوله فيها أيضاً:
باتت لنا النار درياقاً وقد جعلت ... عقارب البرد تحت الليل تلسعنا
زهراء قدّت لنا من دفئها لحفاً ... لم يعلم البرد فيها أين موضعنا
لها حريق بكانون نطيف به ... كمثل جام رحيق فيه مكرعنا
تبيحنا قربها حيناً وتبعدنا ... كالأم تفطمنا حيناً وترضعنا
وقوله في وصف النارنج:
يا رب نارنجة يلهو النديم بها ... كأنّها كرة من أحمر الذهب
أو جذوة حملتها كف قابسها ... لكنها جذوة معدومة اللهب
وقوله في وصف النارنج أيضاً:
أجَمْرٌ على الأغصان زادت غضارة ... به أم خدود أبرزتها الهوادج
وقضب تثنّتْ أم قدود نواعم ... أعالج من وجدي بها ما أعالج
أرى شجر النارنج أبدت لنا جنى ... كقطر دموع ضرجتها اللواعج
جوامد لو ذابت لكانت مدامة ... تصوغ الثرى منها الأكف الموازج
كرات عقيق في غصون زبرجد ... بكف نسيم الريح منها صوالج
نقلبها طوراً وطوراً نشمها ... فهنّ خدود بيننا ونوافج
نهى صبوتي أن لا تُصيخَ الى النهى ... عروس من الدنيا عليها دمالج
وقوله يصف نجماً في السماء انقض ونزل فرآه مستطيل ضياء:
وكوكب أبصر العفريت مسترقاً ... للسمع فانقضّ يذكي اثره لهبا
كفارس حل إحْضارٌ عمامته ... فجرها كلها من خلفه عذب
وقوله في غلام أزرق:
ومهفهف أبصرت في أطواقه ... قمراً بآفاق المحاسن يشرق
تقضي على المهجات منه صعدة ... متألق فيها سنان أزرق
وقوله في الزهد:
يا من يُصيخُ الى داعي السِّفاهِ وقد ... نادى بك الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ال ... أعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلنّ عن الدنيا وإن كرهت ... فراقها الثاويان البدو والحضر
وقوله من كلمة:
تنمّر الدهر حتى ما فرقت له ... من قسوريّ الدجى في فروة النمر
لا بد أن يقع المطلوب في شركي ... ولو بنى داره في دارة القمر
قاضي الجماعة في دار الإمارة لي ... قاض على الدهر إن لم يقض لي وطري
لولا ضلوع تواري نار فطرته ... لأحرقت وجنات الشمس بالشرر
ومن قصائده في المدح، قوله من قصيدة في مدح قاضي القضاة أبي أمية ابن عصام:
قدّمت بين يدَيْ مديحك هذه ... والوبل يبدو أولاً برذاذه
والسهم يبدو في ترنّم قوسه ... مقدر غلوته وكنه نفاذه
والطرف يعلم عتقه من طرفه ... قبل احتماء الخصر في أفخاذه
وكذا المهند يستبان مضاؤه ... في صفحتيه ولم يقع بجذاذه
كم ذا يعذبني الرجاء ولا أرى ... للحظ إقبالاً على إغذاذه
الذكر منك على لسان مودتي ... أحلى من البرنيّ أو آزاذه

في قلب ليل قطعته عزائمي ... فبكت فراقده على أفلاذه
أو في رداء ضحى تراه معصفراً ... عند الأصيل بحمرة من حاذه
وسراب كل ظهيرة مترقرق ... يختال عطفي في ملاءة لاذه
والركب من كأس الكرى مترنح ... كالشرب في المأخور من كلواذه
والشمس في كف الهواء سجنجل ... يتوقد الهنديّ من فولاذه
إن قابلت مرآة رأيك أبصرت ... منها شبيهاً في يدي إنفاذه
لو أنّ عدْلَكَ يحتذيه زماننا ... لم يلقنا بالجور في استحواذه
ولكان بالإسعاف يلقى ناظري ... فيطوف منك بركنه وملاذه
أصبحت فيلاً في مخالب ثعلب ... من مطلبي في روعه ولواذه
أستاذه الدهر الخبيث وللفتى ... شيم تلوح عليه من أستاذه
للنّاس عيش درّت الدنيا لهم ... من دوننا بنعيمه وبزاده
أخذوه موفوراً كما شاؤوا ولم ... يؤذن لنا فنكون من أخّاذه
حضروا وغبنا شذذاً ولربّما ... حرم الغنى من كان من شذاذه
وأراهم هذّوا وأبْطأنا وقد ... يدنو بعيد الخطو من هذّاذه
ليست تود أخا اقتصاد عيلة ... مستظهراً فيها بخفة حاذه
فَذّاً إذا زحف الزمان بجمعه ... رفض الجميع وحل في أفذاذه
والمرء قد يجني الرضا من سخطه ... كالليث يفرس وهو في إسفاذه
وقذ الزمان جوانحي ووقذته ... فانظر الى موقوذه ووقاذه
إن صدّ عن رمحي بثغرة نحره ... فسنان عمري واقع في كاذه
لما ذكرتك لاذ بين صروفه ... يبغي النجاة ولات حين لياذه
إني منيت من الزمان بصاحب ... قاسي الفؤاد حبيئه لوّاذه
وافيت مُرْسِيَةً فوافى قائلاً ... بتصلف ما شاء ليست هذه
فمى أصول عليه بابن عصامها ... سباق ميدان العلى بَذّاذه
ومتى أرى سعيي بدهري هازلاً ... وعلاه منه يجِدّ في استنقاذه
يا ويحَ قلبي كم يضيق وكلّه ... يسع الفجاج الفيح في إنقاذه
زادت عوائق دهره في برجه ... إذ حان منها عوذه بمعاذه
قاض يقابلنا حبى أبراده ... بأبي هُريرة في التُّقى ومُعاذه
ظمئت الى ماء الفرات جوانحي ... وأنا مقيم في ذرى بغداذه
ناديت بدر التمّ إن شئت السرى ... في غير نقص فالقه أو حاذه
فلألْقَيَنّ به الزمان وأهله ... في تيه قيصره وزهو قباذه
وله يمدحه:
يا من عزائمه أمضى إذا انتضيت ... من الحوادث إذ يسطو به القدر
ومن إذا ما بدا في أفق طرته ... جبينه المسفر استخذى له القمر
عين الرجاء الى علياك شاخصة ... في حاجة أنت فيها السمع والبصر
ومنها:
في حبوتيه إذا استقبلته ملك ... مقدّس الروح إلا أنّه بشر
أضفى على الدين أبرادالشباب فقل ... صدِّيقه البرّ أو فاروقه عمر
من ادعى الشرك في أكرومة معه ... فاغلظ عليه وقل للعاهر الحجر
وقل له ما ترى في روضة أنف ... وافت ليسقيَه من جودك المطر
وقال يمدحه:
هاكه كالجنوب تزجي القطارا ... صافح الورد نفحه والعرارا
في جبين من حالك الحبر تبدي ... لك ليلاً من طرسه ونهارا
رقّ ديباجه فكان زلالاً ... حيث دارت به النواسم دارا
تتلألأ من المعاني شموس ... فوق صفحيه تخطف الأبصارا
خجل الصبح من شكاتي فأبدى ... سوسن الخد منه لي جلّنارا
ورآني بلا عقار فكادت ... صفحة منه تستهلّ عقارا
ورآني الصباح أصبحت حالاً ... ذات عُدم فذاب ماء ونارا

عثر الدهر بي وقد جئت حراً ... زاكي الأصل ينعش الأحرارا
إن تكن عصمة فإن عصاماً ... جده لم يزل يقبل العثارا
قاضي الشرق أشرقتني بريقي ... نائبات يطلبن عندي ثارا
لا لذنب إلا لأني أديب ... طاب عود منه فكان نضارا
أجل درا يزف حسناً وإن كا ... نت ضلوعي تهفو عليه حرارا
حاش لي أن أزفها ثيبات ... عنّساً بل كواعباً أبكارا
لفحت أضلعي بها فاستهلت ... بين كفيك تنشد الأشعارا
طلعت في أهلة من ضلوع ... لي تجلو بناتها أقمارا
أرضعتها در البلاغة منها ... أمهات لم تحتلب أظآرا
وأرتك الرياض منها كمام ... جادها النَّيْلُ وابلاً مدرارا
ما على بابل لو استقبلتها ... واجتنت من ثمارها الأسحارا
كل خمرية ولم تسق خمراً ... تلبس الحسن والدلال خمارا
تذر السامعين يثنون أعطا ... ف سكارى وما هم بسكارى
لو تغلغلن في مسامع رضوى ... لانثنى راقصاً وخلى الوقارا
ليس في فسحة من العذر إلا ... من صبا خالعاً إليها العذارا
وبها أجزل المهور فلولا ... أنت ما أدلجت بهن المهارى
أبصرتها النجوم أشرق منها ... فسرت تخبط الظلام حيارى
وقال يمدح الأمير أبا يحيى ابن إبراهيم وقد قدم والياً:
اليوم أخمدت الضلالة نارها ... فاسترجعت دار الهدى عمارها
واستقبلت حدق الورى غرناطة ... وهي الحديقة فوّفت أزهارها
وكأنّ تشريناً بها نيسان إذ ... يكسو رباها وردها وبهارها
في غبّ سارية ترقرق أدمعاً ... يحكي الجمان صغارها وكبارها
ما شئت من نهر كصدر عقيلة ... شقت أناملها عليه صدارها
أو جدول كالنصل في يد ثائر ... أمهى صفيحته وهز غرارها
ما بين أشجار تميد كأنّها ... شراب جريال يدير عقارها
مترنحون إذا لحاها عاذل ... تركت سكون حلومها ووقارها
لله أروع من ذوائب حمير ... راع العداة فما تقرّ قرارها
وافت به أرض الجزيرة عزمة ... خلعت على حب الجمان عذارها
ما هالها بِيدٌ تعسفها ولا ... لجج كجنح الليل خض بحارها
في فتية تسري الى نصر الهدى ... فتظنهم سدف الدجى أقمارها
خضبوا السواعد وبالرقاق تفاؤلاً ... أن سوف تخضب بالنّجيع شفارها
وتلثموا صوناً لرقة أوجه ... جعل السماح شارها ودثارها
المنعمين على العفاة إذا شتوا ... والناقضين على العدى أوتارها
غرسوا الأيادي في ثرى معروفهم ... فجنوا بألسنة الثناء ثمارها
لم لا تراح شريعة التقوى بهم ... وجفونها منهم ترى أنصارها
ضربوا سرادق بأسهم من دونها ... وقد اشرأبّ الكفر يهدم دارها
فَوَقَوْا بخرصان الرماح جنابها ... وحموا بقضبان الصفاح ذمارها
ومسومات شُزَّبٍ إن أحضَرَتْ ... نفضت على ثوب السماء غبارها
لبسوا الدّروع على القلوب فدوخوا ... أرض العدى واستأصلوا أنفارها
شهب إذا أوفت على أفق الوغى ... جعلت أبا يحيى الأمير مدارها
متلثم بالصبح فوق أسرة ... تهدي الى شمس الضحى أنوارها
أورت زناد المسلمين له يد ... بالنّجح تقدح مرخها وعفارها
حاشا لأزند شرعنا من كبوة ... ويد ابن إبراهيم توري نارها
أصفى مواردها أزاح سقامها ... أحيى خواطرها أقال عثارها

أوَلِيَّ أمّةِ أحْمَدِ أبهجتَها ... مذ صرت من جور الحوادث جارها
حلبت لك الأنعام ضرعاً حافلاً ... فرأت على أفنانها أطيارها
وأرى زناد الرأي منذ قدحتها ... أوريت في مثل النّجوم شرارها
فحُطِ الرعية في مريع جنابها ... وارْأبْ ثآها واصطنع أحرارها
وزد الأكابر من بنيها خطة ... واردد كباراً بالحباء صغارها
واقذف نحور المشركين بجحفل ... يمحو معالم أرضها ومنارها
لجب تظن السابقات به أصى ... زرقاً ونفع السابحات بحارها
واحلل عرى تلك الجماجم إنّها ... عقدت على نقض العدى زنارها
وكأنني بك قد ثللت عروشهم ... وسلبت بيضة ملكه جبارها
وقتلت بين نجادها أنجادها ... وصرعت في أغوارهم أغوارها
لا ترض منهم بالنفوس تحوزها ... سمر القنا حتى تحوز ديارها
وترى بها عيناك ليل ضلالها ... ويد الهدى فيها تشق زرارها
ضمنت سيوفك في الغمود وجردت ... يوم النزال فحدثت أخبارها
لما احتست خمر الهياج نصالها ... أهدت الى هام الطغاة خمارها
زارتك في قصر الإمارة كاعب ... زانت محاسن جيدها تقصارها
وضعَتْ من الآداب محض لبانها ... وتجنبت ممذوقها وسمارها
تثني الليالي هائمات كلما ... نفثت على أسحارها أسحارها
فأجِل جفون رضاك في أعطافها ... كرماً وشرِّف بالقبول مزارها
وقال يمدح الفقيه القاضي أبا بكر ابن العربي:
أيها البدر لا عداك التمام ... وسقانا من راحتيك الغمام
لح طليقاً لنا بصفح جميل ... مثلما رقرق الفرندَ الحسام
واجل ثغراً نشيم منه الأماني ... بارقاً للسماح فيه ابتسام
قد حطَطْنا الرحال في ظل دوح ... أثمر البر فيه والإكرام
ورأينا تواضعاً من مهيب ... بمعاليه توّج الإعظام
قاعد والزمان بين يديه ... قائم والصروف والأيام
كلها سامع إليه مطيع ... ينفذ النقض فيه والإبرام
من يطع ربه تطعه الليالي ... وتجِيهِ الورى وهم خدام
هو رضوان في سكينة رضوى ... رضي الله عنه والإسلم
يا كتابي بالله قبل يديه ... بدلاً من فمي فيه احتشام
ثم بيّن له بأن ثوابي ... كان عاماً والآن قد جاء عام
ولبيد لم يشترط لبكاه ... غير حول مضى وقال سلام
قل له قد أتته منا قوافي ... كالأزاهير شق عنها الكمام
جالبات من المديح إليه ... مسك دارين فض عنه الختام
فأزرنا فرائد المدح بحراً ... يغرق الدر فيه وهو تؤام
والأماني شبائب لم تفارق ... غرة العيش والرجاء غلام
يتغنّى من المديح بلحن ... فهمته منه الأيادي الجسام
رش وطوِّق فإنما أنت دوح ... رفّ بالمكرمات وهي حمام
حثنا للرحيل عنك اضطرار ... ولأرواحنا لديك مقام
وطالعت كتاب الجنان لابن الزبير فوجدت فيه منسوباً الى ابن سارة قوله يصف بركة وسلاحفها:
لله مسجورة في شكل ناظرة ... من الأزاهير أهداب لها وطف
فيها سلاحف ألهاني تقامسها ... في مائها ولها من عرمض لحف
تنافر الشط إلا حين يحضرها ... برد العشي فتستدني وتنصرف
كأنّها حين يبديها تصرفها ... جيش النصارى على أكتافها الحجف
قال الرشيد ابن الزبير: هذا معنى بديع لا يفطن لحسنه إلا من رأى فرسان الفرنج في طوارقها ورؤوسهم أشبهُ الأشياء برؤوس السلاحف لما عليها من البَخانق. وقوله:

ومعذر رقت حواشي حسنه ... فقلوبنا حذَراً عليه رقاق
لم يكس عارضه السواد وإنّما ... نفضت عليه صباغها الأحداق
وقوله يرثي امرأة:
تفطرت كبد العليا للؤلؤة ... لم تودع الترب إلا من كرامتها
نوارة ملأت أفق التقى أرجا ... وردها الزهر صوناً في كمامتها
وقوله:
ولما رأيت الغرب قد غصّ بالدجى ... وفي الشرق من ضوء الصباح دلائل
توهمت أن الغرب بحر أخوضه ... وأن الذي يبدو من الشرق ساحل
وقوله يمدح:
متى تلتقي عيناي بدر مكارم ... تود الثريا أنّها من مواطئه
ولما أهل المدلجون بذكره ... وفاح تراب البيد مسكاً لواطئه
عرفنا بحسن الذكر حسن صنيعه ... كما عرف الوادي بخضرة شاطئه
أيا من محل النجم في جنباته ... منيف مدى الأيام ليس بلاطئه
عليك بأغراض ودع ما وراءها ... فما صائبات النبل مثل خواطئه
وقوله في فقهاء الأندلس:
يا ذئاباً بدت لنا ... في ثياب ملونه
أحلالاً رأيتم ... أكلنا في المدونه
وقوله:
ومهفهف يختال في أبراده ... مرح القضيب اللدن تحت البارح
أبصرت في مرآة فكري خده ... فحكيت فعل جفونه بجوارحي
لا غرو إن جرح التوهم خدّه ... فالسحر يفعل في البعيد النازح
وقوله يصف سيفاً:
وصقيل مدارج النمل فيه ... وهو مذ كان ما درجن عليه
أخلص اليقين صقله فهو ماء ... يتلظى السعير في صفحتيه
وقوله في الزهد:
بنو الدنيا بجعل عظموها ... فجلت عندهم وهي الحقيره
يهارش بعضهم بعضاً عليها ... مهارشة الكلاب على عقيره
وقوله في صفة نهر:
النهر قد رقت غلالة صبغه ... وعليه من صبغ الأصيل طراز
تترقرق الأمواج فيه كأنّه ... عكن الخصور تهزها الأعجاز
وقوله في موت بنت:
ألا يا موت كنت بنا رؤوفاً ... فجددت الحياة لنا بزوره
حمدت لفعلك المأثور لمّا ... كفيت مؤونة وسترت عوره
فأنكحنا الضريح بغير مهر ... وجهزنا الفتاة بغير شوره

أبو بكر بن الصائغ المعروف ب
ابن باجة السرقسطي
لم يبلغ درجته أحد من أهل عصرنا في الحكمة، وله تصانيف في الرياضيات والمنطق والهندسة فاق فيها المتقدمين، وله من قصيدة في الخمر قافية:
قبضنا بها روح الظلام لأنّنا ... نرى الغبن أن نفنى وأوقاتنا تبقى
ومنها:
ولم تبك منها العين لكنّ لحظَها ... حسام بماء الدّمع أحسبه يسقى
وذكره ابن بشرون المهدوي في كتابه الموسوم بالمختار من النظم والنثر لأفاضل أهل العصر، ووصفه بالتفرد بعلم الهيئة والهندسة العلمية والنظرية، وسائر العلوم الحكمية والأدبية، وذكر أنّه استوزره أبو بكر، يحيى بن تاشفين مدة عشرين سنة وكانت شكيمته حسنة، وانتفع به الناس، وأمن به البؤس والباس، وصلحت الأحوال، ونجحت الآمال، وحسده أطباء البلد فكادوه، ونالوا بقتله مسموماً ما أرادوه، فكانت وفاته في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وأورد من شعره قوله عند الموت وقد أحس بالفوت:
آه من حادثات صرف الليالي ... فلِحالي انظُرْ أعِظْكَ بحالي
أمْسِ أبكيتُ حاسدي شَرقاً بي ... وهو اليوم رحمة قد بكى لي
وقوله قبل ذلك:
خليليّ لا والله ما القلب صاحياً ... وإن ظهرت منه الشمائل صاح
وإلا فما لي حين لم أشهد الوغى ... أبيت كأنّي مثقل بجراح
وقال:
هم رحلوا يوم الخميس غدية ... فودعتهم لمااستقلوا وودعوا
ولما تولوا ولت النفس إثرهم ... فقلت ارجعي قالت الى أين أرجع
الى جسد ما فيه لحم ولا دم ... ولا هو إلا أعظم تتقعقع
وعينين قد أعماهما كثرة البكا ... وأذن عصت عذالها ليس تسمع
وقال يرثي أبا بكر بن تافلويت المرابط:

سلام وإلمام ووسميّ مزنة ... على الجدث النائي الذي لا أزوره
أحق أبو بكر تقَضّى فلا يُرى ... ترد جماهير الوفود ستوره
لئن أنِست تلك القبور بلحده ... لقد أوحشت أمصاره وقصوره
وقال:
يا صاحب القبر الغريب ... بالشام في طرف الكثيب
بالشِّعْب بين صفائح ... صلد ترصص بالجنوب
تبكي عليه حمائم ... ورق ترنّح في قضيب
لما سمعت بكاءها ... وحنينها عند المغيب
علق الغرام بأضلعي ... والداء يعلق بالطبيب
وقال في وصف مصلوب. قال ابن بشرون وأظنه لغيره:
وسنان لا قرّة الظلماء توقظه ... ولا الهجيرة في البيداء تؤذيه
أغفى فيا ليت شعري هل يلم به ... إذا دجا الليل طيف كان يأتيه
خط السنان كتاباً بين أضلعه ... فمال يقرأه سراً ويخفيه
كأنّه مصقع من فوق منبره ... يبدي الخشوع لرب كان باريه
وله:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء طاهره ... فمن لحر على الأحشاء يتقد
البيتان عليهما تشطيب بغير خط هما لبعض الصحابة:

ابن الفخار المالقي الأندلسي
الفقيه المشاور، هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن كامل المعروف بابن الفخار. أنشدني الشيخ الصالح أبو علي الحسن بن علي بن صالح الأندلسي وقد قدم البصرة في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وخمسمائة قال: أنشدني الفقيه المشاور هذا لنفسه، وذكر أنّه عمله ارتجالاً يخاطب شاعراً جاراه في التوحيد وهو موشح العروض:
رويدك أيها الرجل المعنّى ... فإن الرفق أجمل باللبيب
ولا تجعل فرب فتى تأنّى ... فأدرك غاية القرم النجيب
فكم عقد سديد قد تسنّى ... بلا تعب ولا طرب مريب
فإن الجيش ليس يطيق شناً ... لغارته بلا قدر مصيب
ولا يَمضي الحسام يُسَنُّ سَنّاً ... إذا لم يقض علاّم الغيوب
أخوك محمد لما تغنّى ... أصاخت نحوه أذن الغريب
وقَفّاها بواحدة فثنّى ... كمثل الرمح قوّي بالقضيب
فخذها غادة خضبت يُرَنّا ... لها ثوب قد اقْدِمَ بالصّبيب
اليُرَنّا: الحنّاء.
إذا ما رامها من قد تبنّى ... تعرض دونها شبح الحروب
جميع بيانها لفظاً ومعنى ... كما جمع الحبيب مع الحبيب
وذكر أنه توفي بالمغرب سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وأورده أبو النصر القيسي في كتاب قلائد العقيان وقال: صاحب لسن، وراكب هواه من قبيح وحسن، لا يصد إذا صمم، ولا يرد عما يمم، حمي الأنف لا ينام، قوي الشكيمة لا يُضام، وأورد من شعره قوله:
بأي حسام أم بأي سنان ... أنازل ذاك القِرن حين دعاني
لئن عري اليوم الجواد لعلة ... فبالأمس شدوا سرجه لطعان
وإن عطل السهم الذي كنت رائشاً ... ففيه دم الأعداء أحمر قاني
ألا إن درعي نثرة تبعية ... وسيفي صدق أن هززت يمان
وما قَصَباتُ السبق إلا لأدهمي ... له الخيل جالت في مجال رهان
تمنى لقائي من حللت وثاقه ... وأعطى غداة المن ذلة عان
وقد علم الأقوام من صحّ ودّه ... ومن كان منا دائم الشنئان
وما يزدهيني قول كل مموه ... وليس له بالمعضلات يدان
وإني لنهاض بكل عظيمة ... يضيق عليها ذرع كل جبان
ويزعم أني في البيان مقصر ... ويأبى بياني واقتدار لساني
نهضت بها وحدي وغيري مدع ... يشارك أهل القول شرك عناني
أينسى مقامي إذ أكافح دونه ... وقد طار قلب الذعر بالخفقان
ويذكر يوماً قمت فيه بخطبة ... كآثار عهد الماء بالسيلان

فقرّي جعارُ إن دونك حارِشاً ... يمنّيك بالإخلاف والولعان
وما هو إلا المرء يقطع رأسه ... وإن دهنوه حيلة بدهان
تهاون بالأنصاف حتى أحله ... وقد كان ذا عز بدار هوان
ولو كان يعطي الزائرين حقوقهم ... لما تركوه في يد الحدثان
وقوله:
الى كم يجدّ المرء والدهر يلعب ... ويبعد عنه الأمن والخوف يقرب
وهل نافعي إن كنت سيفاً مصمماً ... إذا لم يكن يلقى بحدي مضرب
أبيّتُهُم والليل كالنفس أسود ... وأهجمهم والصبح كالطرس أشهب
فلا أنا عما رمت من ذاك مُقْصِرٌ ... ولا خيل عزمي للمقادير تغلب
أبا حسن سائل لمن شهد الوغى ... لئن كنت لم أصبح أهش وأطرب
وأعتنق الأبطال حتى كأنّما ... يعانقني عنهم من البيض ربرب
ومنها:
وفي كل باب قد ولجت لكيدهم ... ولكن أمور ليس تقضى فتصعب
فوا أسفاً كم قد أبيت بذلة ... وسيفي ضجيعي والجواد يقرب
وقوله:
أمستنكر شيب المفارق في الصبا ... وهل ينكر النور المفتح في الغصن
أظن طلاب المجد شيّبَ مفرقي ... وإن كنت في إحدى وعشرين من سنّي
وقوله في أبي عبد الله بن أبي زنغي:
بمن حلّ في سرْغٍ فؤادك هائم ... وهيهات منك اليوم من حل في سرْغِ
وتكلف بالداعي هلم الى الوغى ... طماعاً بأن ندنو من ابن أبي زنغي
وكنا به نبغي قضاء لبانة ... ولو أنّه يبغي لقضّى الذي نبغي
سلام عليه عذّب النفس بعده ... عقارب همّ لا تفيق من اللدغ
وشوقاً إليه أصبح القلب عنده ... ولم تثنه خود معقربة الصدغ
وقوله:
أقلّ عتابك ليس الكريم ... يجاري على حبّه بالقلا
وخل اجتنابك أن الزمان ... يمرّ بتكديره ما حلا
وواصل أخاك بعلاته ... فقد يُلبس الثوب بعد البلى
وقل كالذي قاله شاعر ... نبيل وحقك أن تنبلا
إذا ما خليل أسا مرّة ... وقد كان في ما مضى مجملا
ذكرت المقدم من فعله ... فلم يفسد الآخر الأوّلا
أبا حسن إن أتى حادث ... يجرد لي سيفك المنصلا
إذا صيد للشعر طير بغاث ... رُئِيتَ لها الطائر الأجدلا
ومما أنشدنيه لنفسه في الأمير محمد بن سعد بن مردنيش ملك شرق الأندلس من قصيدة أولها:
إهتز منسم عرفه عن عنبر ... وافترّ مبسم ثغره عن جوهر
ولوى ذوائب ليله في نومه ... فأنار عن وجه الصباح المسفر
واختال في ثوب الشبيبة وانثنى ... كالغصن بين مورق ومنوّر
زارت تَثَنّى في الوشاح تفتراً ... والردف يُنْبي عنه عقد المئزر
ظنت بأن الليل يكتم سرها ... والحسن يفضحُ غرة المتستر
كالنور لم يفتنك رائق حسنه ... حتى تبسم في القضيب الأخضر
وأقام زهرة وردها في خدها ... ماء الصبا وحيا الشباب الأنضر
بَخِلَتْ عليّ وقد سألتُ قطافه ... وجنته أزرار الرِّدا والمعجر
ساومت هذا الحِبَّ طيب وصاله ... والهجر يغمزني بأن لا أشتري
فالحسن ينكرني ويعرفني الهوى ... شان بين معرف ومنكّر
إن جارَ هذا الحِب في أحكامه ... فالجَوْرُ في ذا الحب ليس بمنكر
نفسي ألومك كان ينهاني الهوى ... فأمر قاسي صعبه وتصبري
من منصفي من ظالم ومحلل ... غصَبَ الهوى مني جميل تصبّري
إلاّ المُهَنّا بالسرور الأكبر ... إلا المُمَدّح بالثناء الأعطر
أمؤمل غير الأمير محمد ... ذاك ابن سعد يا مدائح فابشري

كم جُبْتُمُ من أطهر في أطهر ... ونقلتم من أظهر في أظهر
وجنيتم ثمر الفتوح بروضة ... للرزق تنبت بالرعاف الممقر
وجلوتم صدأ الدهور فأصبحت ... كالسيف كشف صقله عن جوهر
وصقلتم مرأى الزمان فمن يشأ ... نظر السرور فهاكه فلينظر
جاءت بك الأفلاك في دورانها ... كالغيث جاد على الزمان المعسر
يهتز عطف الحمد منه نافحاً ... عن مدحة فتقت بمسك أذفر
ما عطرت بل عطرت أمداحه ... نفس الزمان فيا زمان تعطر
عهدي به شكل الضلوع بأبيض ... عهدي به نقط القلوب بأسمر
حتى إذا ما البأسُ حل ذماره ... صبغ الفضائل في النّجيع الأحمر
وأنشدني له من قصيدة في عبد المؤمن وأنشدني لنفسه في مراكش بأقصى المغرب:
وأرض سكنّاها فيا بئس مسكن ... بها العيش نكد والجناح مهيض
نروح ونغدو ليس إلا مروع ... عقارب سود أو أراقم بيض

أبو الحجاج يوسف بن محمد بن فاروا
الأنصاري الأندلسي من ثغر شرقي الأندلس من بلاد المغرب، أصله من مجريت تمريط ومولده باشكرب وتربيته ونشؤه بجيان، دخل بغداد ورحل الى خراسان في طلب الحديث، وتوفي ببلخ، سلخ ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
وقال السمعاني في تاريخه: أنشدنا أبو الحجاج المغربي لنفسه بهراة:
نسيم الصبا بالله حي ذوي ودّي ... وقولي لهم إني مقيم على عهدي
فيا ليت شعري هم على ما عهدتهم ... أم استبدلوا غيري بوصلهم بعدي
فو الله لا أنسى وإن شطّ بي النوى ... فلا حدت عن وصلي ولا حلت عن عقدي
وصلتم، قطعتم، أو ذكرتم، نسيتم ... فكونوا كما شئتم فهذا الذي عندي
عليكم سلامي دائباً لا عدمتم ... على قدر ما بي من ضنائي ومن وجدي
قال وأنشدني لنفسه ببلخ في الإجازة:
أجزت لهم رواية ما أحبوا ... من المسموع لي والمستجاز
لأحظى منهم بدعاء خير ... وفي الأخرى إلهي لي المجازي
وخط المغربي لهم شهيد ... على وجه الحقيقة لا المجاز
الفقيه خطاب التلمساني
أبو الحسن الخطاب بن أحمد بن عدي بن خطاب بن خليفة بن عبد الله بن الوليد بن أبي الوليد، ذكر الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي ببغداد أن خطاباً كان إماماً فاضلاً، وورد بغداد، وله شعر حسن ويد باسطة في اللغة، وأنه أنشده لنفسه:
حرام على نفسي لذاذة عيشها ... الى أن تقرّ النفس عيناً بما تدري
بعلم يزكي النفس عند مليكها ... وتؤنسها أنواره في دجى القبر
ويحشر إن أضحى الأنام بظلها ... لواء علوم يوم يدعى الى الحشر
فإن نلت ما أملته أبْتُ فائزاً ... وإلا فنفسي قد أقمت بها عذري
//باب في ذكر محاسن شعراء قلائد العقيان
تصنيف أبي نصر الفتح ابن خاقان القيسي الأندلسي بالأندلس والمغرب

طالعت كتاب قلائد العقيان في محاسن الأعيان بعد إيراد الذين ذكرتهم من الشعراء، فوجدته مشتملا على ذكر طائفة من أهل هذه العصر الفضلاء، شذوا عن الاثبات، وقد بذوا الغايات، فأوردتهم في هذا المجموع، ليشرقوا في آفاقه إشراق السعود في الطلوع، ولو نقلت كلام مصنف الكتاب المذكور لكان أشرح للصدور، وأوقع في نفوس الجمهور، فإنه كاللؤلؤ المنثور، والفرائد المستخرجة من البحور، والقلائد المتبلجة على النحور، لكنني أجريت جواد خاطري في جواد الخطر، وأنضيت ضامر ضميري في مضمار الفكر، المضيئة القطن بأضواء الفطر، فاستغنيت بعسلي الشافي، عن سكر غيري الكافي، ونسجت على منواله، وما عرجت على نواله، فالحكاية له واللفظ لي، وتركت له عمله ولي عملي، فمن سبق ذكره وورد شعره وألفيت له فائدة زائدة، بحسنها للألباب صائدة، وللأداب شائدة، ولأعطاف الاستحسان مائدة، ولأضياف الامتحان مائدة، رددت سمطه إلى عقده، وأوردت شرطه في عقده، ومن استفدت من هذا الكتاب اسمه ونظمه افردته في هذا الموضع، ونوهت بذكره في هذا المجمع ونبهت على نوره في هذا المطلع، فمنهم:

المتوكل أبو محمد عمر بن المظفر
كان قبل سنة خمسمائة أورده في الملوك بعد المعتمد وابنه الراضي، وأثنى على عزمه الماضي، ذوحزمه القاضي، ووصفه بسوق الحنود، وخفق البنود، وسبق الملوك في البأس والجود، واعتمار الآمال إلى كعبته، وائتمار الليالي والأيام لإمرتهن وحلاوة جنى جنابه، ورحب ساحته، وطلاوة لهجته، وحلاوة بهجته، وعذب فصاحته، وسياسته في نهيه وأمره، وسلاسته في نظمه ونثره، وصفاء أيامه، ومضاء أحكامه، ونمو مكارمه، وسمو دعائمه، حتى رمته مصيبات الأيام، بمصيبات السهام، وعدا عليه الدهر العادي، ووقع في الاسر حيث لا فادي، ونقل هو وابناه، إلى حيث أمرت المنون جنى مناه، قد ألحفوا أرداء الردى، وعطل منهم نادي الندي، وأنزلوا من الثريا إلى الثرى، وصاروا عبرة لمن يرى، واحل ذمام ذمائهم، وطل حرام دمائهم، وطلوا بنجيع طلاهم، وعلوا بكأس البؤس بعد رفيع علاهم، وحليت ترائبهم بالترب عاطلين من حلاهم، وخليت مطالبهم من النجح لما عراهم، من جور الزمان وعلاهم، وقتل ولداه بين يديه صبرا، وقام ليصلي فبادروه وكشفوا منه بدرا، وصار لأشلائهم بطن النسر قبرا، ولم يقبل كسرهم بعدها جبرا. وهذه عادة الأيام، غمة مصيبتها بالغم صائبة الغمام، وحمى حماتها المصون مبتذل بيد الحمام.
فمن شعره ما كتبه إلى يحيى المنصور أخيه وقد بلغه أنه ذكر بسوء في ناديه:
فما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينوطون بي ذاما وقد علموا فضلي
يسيئون فِيَّ القول جهلا وضلة ... وإني لأرجو أن يسوءهم فعلي
لئن كان حقا ما ادعوه فلا مشت ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح الباقين في زمن المحل
وكيف وراحي درس كل غريبة ... وورد التقى شمي وحرب العدى نقلي
ولي خلق في السخط كالشري طعمه ... وعند الرضا أحلى جنى من جنى النَّحْل
فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلا مهلا رويدك بالعل
لتطفئ نارا أضرمت في نفوسنا ... فمثلي لا يقلى ومثلك لا يقلي
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكيا ... فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي
فبادر إلى الاولى وإلا فإنني ... سأشكوك في الأخرى إلى الحكم العدل
قال: وصل أبو يوسف المغني والمتوكل مقلع عن الشرب، متورع بالجد عن اللعب، وقد لبس ثوب الخشوع، واستسقى واكف الدموع، وكثرة السجود والركوع، وقد أجيبت دعوته في إغاثة الغيث بتربة مجدب الثرى، وإنامة عيون الورى، بعد السهاد، لقدوم العهاد، في مهاد الكرى، وهو باق على التوبة، متوق على الحوبة، فكتب إليه:
ألمّ أبو يوسف والمطر ... فيا ليت شعري ما ينتظر
ولست بآب وأنت الشهيد ... حضور نديك فيمن حضر
ولا مطلعي وسط تلك السما ... ء بين النجوم وبين القمر
وركضي فيها جياد المدا ... م محثوثة بسياط الوتر
فبعث إليه المتوكل مركوبا وكتب معه:

بعثت إليك جناحا فطر ... على خفية من عيون البشر
على ذلل من نتاج البروق ... وفي ظلل من نسيج الشجر
فحسبي ممن نأي من دنا ... فمن غاب كان فدا من حضر
وكتب إليه الوزير أبو محمد بن عبدون مع خمر وورد أهداهما له:
إليكها فاجتلها منيرة ... وقد خبا حتى الشهاب الثاقب
واقفة بالباب لم يؤذن لها ... إلا وقد كاد ينام الحاجب
فبعضها من المخاف جامد ... وبعضها من الحياء ذائب
فقبلها وكتب إليه:
قد وصلت تلك التي زففتها ... بكرا وقد شابت لها ذوائب
فهبّ حتى نسترد ذاهبا ... من أنسنا ان استرد ذاهب
وكتب إلى أبي طالب بن غانم أحد وزرائه وكان وزير رأيه، ونديم أنسه، وحميم نفسه، يستدعيه:
أقبل أبا طالب إلينا ... وقع وقوع الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... إن لم تكن حاضرا لدينا

الحاجب ذو الرئاستين
أبو مروان عبد الملك بن رزين
وصفه بالجلالة والاصالة والبسالة، وموروث المجد التالد ومكتسبه الطارف. وترويجه سوق أولي المعارف بإيلاء العوارف، وتبليجه وجوه المكارم بشمس فضله الوافر في ظله الوارف، وأنه من قوم قوموا الجوانح، وذللوا الجوامح، وراضوا من الخطوب صعابا، وفاضوا ثوابا وعقابا، وهو واسطة عقدهم، ورابطة عقدهم، وأسد خيسهم، وهزبر عريسهم. وكانت دولته حافلة الاخلاف، كافلة بالإنصاف، رافلة في ثوب الائتلاف، مهتزة الأعطاف، معتزة الأطراف، ولكنه كثير الشطط على ندمانه، سريع السخط على خلانه، وربما عاد نواله وبالا، وإرغابه إرغاما، وإنعامه انتقاما، لا يرى الجاني صفحة صفحه ولا يرضى من دم المذنب إلا بسفكه وسفحه، وكان حيا النادي في الندى، وحية الوادي على العدى، وله نظم ونثر لم يقصرا عن الغاية، وكلاهما في الجود عالي الراية. فمما أورد من شعره الرائق، وسحره الفائق، قوله في وصف روضة أرجت أرجاؤها، وتلألأت آلاؤها، وتشابه لمقابلة الزهر الزهر أرضها وسماؤها، وحكت جلاؤها صفاء الصفاح ونشرت معاطفها ملاء الملاح، وأطلعت أسحارها صباح الصباح.
فروض كساه الطل وشيا مجددا ... فأضحى مقيما للنفوس ومقعدا
إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من العصف ميدا
إذا ما انسكاب الماء عاينت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا
وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساما صقيلا صافي المتن جُرَّدا
وغنت به ورق الحمائم حولنا ... غناء ينسّيك الغريض ومعبدا
فلا تَجْفَوَنَّ الدهر ما دام مسعدا ... ومد إلى ما قد حباك به يدا
وخذها مداما من غزال كأنه ... إذا ما سعى، بدر تحمل فرقدا
وركب في يوم غيم للصيد، وقد فصم المدام منه عرى الأيد، وشمس الضحى محجوبة، وكأس الودق مسكوبة، والسماء متدفقة، والأرض مزلفة، فعثر به جواده، وقد تفرد وغابت عنه أجناده وأنجاده، فآل تعثر كميته، إلى التأخر في بيته، وبلغه أن عدوا له سر بسقطته، وفرح بفرطته، في ورطته، فقال:
إني سقطت ولا جبن ولا خور ... وليس يدفع ما قد ساقه القدر
لا يشمتن حسودي إن سقطت فقد ... يكبو الجواد وينبو الصارم الذكر
هذا الكسوف يرى تأثيره أبدا ... ولا يعاب به شمس ولا قمر
وقال في خليط ودع، وأسال فراقه المدمع:
دع الدمع يفني الجفن ليلة ودعوا ... إذا انقلبوا بالقلب لا كان مدمع
سروا كاقتداء الطير لا الصبر بعدهم ... جميل ولا طول الندامة ينفع
أضيق بحمل الحادثات من النوى ... وصدري من الأرض البسيطة أوسع
وإن كنت خلاع العذار فإنني ... لبست من العلياء ما ليس يخلع
إذا سلت الألحاظ سيفا خشيته ... وفي الحرب لا أخشى ولا أتوقع
وقال فيمن سكر فمثل له سكره معترك النزال، ومقتحم الأبطال، فاستدعى حرب الحرب، واستحلى طعم الطعن وضرب الضرب:

نفس الذليل تعز بالجريال ... فيقاتل الأقران دون قتال
كم من جبان ذي افتخار باطل ... بالخمر تحسبه من الأبطال
كبش النديِّ تخَبُّطاً وعرامة ... وإذا تشد الحرب شاة نزال
وقال في الحنين والنزاع، إلى التلاقي والاجتماع:
أترى الزمان يسرنا بتلاقي ... ويضم مشتاقا إلى مشتاق
وتعض تفاح الخدود شفاهنا ... ونرى منى الأحداق للأحداق
ويعيد أنفسنا إلى أجسادنا ... فلطالما شردت على الآفاق
وقال:
برّح السقم بي فليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا
إن للأعبن المراض سهاما ... صيرت أنفس الورى أغراضا
وقال في شمعة:
ربّ صفراء تردت ... بشحوب العاشقينا
مثل فعل النار فيها ... تفعل الآجال فينا
وبقي بعد ملوك الأندلس وانقرض ملكهم، وانتقاض سلكهم، ملكا مطاعا، ضرارا نفاعا، لم تخطئه الأمنية إلى أن تخطت إليه المنية، وبقي ابنه على رسمه، يجري الزمان على حكمه، إلى أن دب إليه الكيد، ووهن منه الأيد، وأوحش منه عرشه، وأنس به نعشه، فتبارك الواحد الذي ليس له ثان، ولا يفنى ملكه وكل شيء فان.

الرئيس الأجل
أبو عبد الرحمان محمد بن طاهر
وصفه بالملكة في البراعة، والمملكة في تصريف اليراعة، والتفرد بالبيان، والتوحد في الإحسان، في جده طود الوقار، وفي مزحه مزج العقار، وعلى مفرقه تاج الملك، وفي مهرقه مزاج المسك، تسلطت عليه الخطوب في سلطانه، ونزع من أوطاره، ونزح من أوطانه، وبقي في أسر ابن عمار وزير المعتمد عانيا، للمحن معانيا، حتى خلصه الوزير أبو بكر بن عبد العزيز، وآواه ببلنسية إلى معقله الحريز، وتنقلت الأحوال به بين نعمى وبؤس، وبش وعبوس، وشدة ورخاء، وسعادة وشقاء. قال مصنف قلائد العقيان: شهدت وفاته سنة سبع وخمسمائة وقد نيف على التسعين، وجف ماء عمره المعين، وزعم أنه انقرض بانقراضه الكلام، وبدأ به وهو الختام، وأورد من رسائله كثيرا، ونظم من فضائله درا نثيرا. قال: ولم أسمع له شعرا إلا ما أنشدني في أبي أحمد بن جحاف عند قتله الملك الملقب بالقادر فظن أنه تتم له الرئاسة فقصده القدر الناثر.
أيها الأخيف مهلا ... فلقد جئت عويصا
إذ قتلت الملك يحيى ... وتقمصت القميصا
رب يوم فيه تجزى ... لم تجد عنه محيصا
ومن نثره من جملة كتاب إلى المعتصم أيام رئاسته يصف العدو العابث بالأندلس: كتابي - أعزك الله - ، وقد ورد كتاب للمنصور ملاذي والمعتمد بك أيده الله أودعه ما ودع من حياة، ولم يدع مكانا لمسلاة، فإنه للقوب مؤذ، وللعيون مقذ، وللظهور قاصم، ولعرى الحزم فاصم، فليندب الإسلام نادب، وليبك له شاهد وغائب. فقد طفيئ مصباحه، ووطيء ساحه، وهيض عضده، وغيض ثمده.
ومن أخرى: الآن عاد الشباب خير معاده، وابيض الرجاء بعد اسوداده وترك الزمان فضل عنانه، فلله الشكر المردد بإحسانه. وافاني أيدك الله لك كتاب كريم كما طرز البدر النهر، أو كما بلل الغيث الزهر، طوقني طوق الحمامة، وألبسني ظل الغمامة.

وله إلى إقبال الدولة برجوع أحد معاقله إليه من رسالة: جراحات الأيام هدر، وجنايتها قدر، وليس للمرء حيلة وإنما هي ألطاف لله جميلة، تستنزل الأعصم من هضابه، وتأخذ المعتر بأثوابه، أحمده عوداً وبدءاً بالنعمة التي ألبسك سربالها، والفتنة التي أطفأ عنك اشتعالها، والرئاسة التي حمى فيها حماك، فرد خاتمها بيمناك، وقد تناولته للباطل يد خشناء، فاستقالته يدك الحسناء، فأقر الله عز وجل الحال في نصابها، وأبرزها في كمالها، تتراءى بين أترابها، ووضعت الحرب أوزارها وأخفت الأسود أخياسها وزؤارها ومن كانت مذاهبه كمذاهبك وجوانبه للسلامة كجوانبك، أعطته القلوب أسرارها، وأعلقته المعاقل أسوارها، وانجلت عنه الظلماء، وأكرم قرضه والجزاء، فليهنئك الإياب والغنيمة، وهما المنة العظيمة، وليكن لها من نفسك مكان، ومن شكرك الله بالموهبة إعلان، وأما حظي منها فحظ مسلوب أمكنه سلبه، وذي مشيب عاوده شبابه وطربه، ولمكا اقترنا لي، وكانا معظم آمالي، وعلمت أن بهما زوال الخلاف، وتواطيء الأكناف، وأن بالصدر تثلج الصدور وينتهج السرور، بادرت إلى توفية الحق لك، وتعرف الحال بك، مشيعا بالدعاء في مزيدك، ضارعاً في الإدامة لتأييدك، فإن الوقت إساءة وأنت إحسانه، والخير عين وأنت إنسانه، فإن مننت بما سألته، أفضلت وأحسنت إن شاء الله.
وله إلى صاحب ميورقة ناصر الدولة: أطال الله بقاء الأمير منيفا حرمه، رفيعا علمه، إن الذي بينته الدنيا من مناقبك العليا فتجلت منه أقاصيها، وتكللت به نواصيها، لجاذب نحوك أحرارها، وجالب إلى ظلك أعيانها، وأخبارها، بقلوب تملكها هواها، وحركها نهاها، وهذا الوزير الكاتب أبو جعفر ابن البني عبدك الآمل صممت به إلى ذراك همم عوال، كأنها للرماح عوال يحملها السفين والعزم الناهد المكين، وريح جد ما تلين، إلى حلي من البيان يتقلدها، يكاد السحر يحسدها، وخلائق محمودة كأنها الخلوق، تنفح مسكا وتشوق، وإن للوشي ماخط، وربما أزرى به إذا حط، والخبر يغنيه عن الخبر، ويعلمه بالعين لا بالأثر لازلت كلفا بالإحسان، منصفا من الزمان، إن شاء الله تعالى.
وله إليه: أطال الله بقاء الأمير وأيده، وأعلى يده، الشفاعات على مقدار ملتحفيها، ولكل عندك منزلة توافيها، ولما تأمل ذو الوزارتين.. أبو الحسن العامري مالك في الناس، من الطول والإيناس، بما جبلت عليه من شرف السجية، والهمم السنية، حتى مالت إليك الأهواء ورفع لك بالحمد اللواء، قصد ذراك، واعتقد اليمن في أن يراك، فملأ من زهر العلى أجفانا، ومن نهر الندى جفانا، ويستبدل من صد الزمان إقبالا، ومن تهاون الأيام اهتبالا، وله قدم الوجاهة، وقدم النباهة، ويدل عليه عيانه، كما يدل على الجواد عنانه. وأرجو أن ينال بك الآمال غضة، والأيادي منك مبيضة، فأقوم عنه على منبر الثناء خطيبا، وأوقد على جمر الآلاء عودا رطيبا، لازلت للقاصدين ملاذا، وللراغبين معاذا، إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الوزير ابن عبد العزيز حين نجا من اعتقاله بسعيه، ونجا إلى بلنسية، راجيا لاجئا إلى فيئه: كتابي وقد طفل العشي، وسال بنا إليك المطي، لها من ذكراك حاد، ومن لقياك هاد، وسنوافيك المساء، فنغفر للدهر ما قد أساء، ونرد ساحة الأمن، ونشكر عظيم ذلك المن. فهذه النفس أنت مقيلها، وفي برد ظلك يكون مقيلها، فلله مجدك وما تأتيه، لازلت للوفاء تحميه، فدانت لك الدنيا، ودامت لك الأخرى العليا. إن شاء الله تعالى.
وكتب إليه: من ذا يضاهيك، وإلى النجم مراميك، فثناؤك لا يدرك، وشعبك لا يسلك، أقسم لأعقدن على علاك من الثناء إكليلا، يرد اللحظ من سناه كليلا، ولأطوفنه شرق البلاد وغربها، ولأحملنه عجم الرجال وعربها، وكيف لا، وقد نصرتني نصرا مؤزرا، وصرفت عني الصيم عفيرا معفرا، وألبستني البأو بردا مسهما، وأوليتني البر متمما.
وله في الاعلام بخبر السيل بمرسية:

ورد كتابه مستفهما لما طار إليه الخبر، من السيل الحامل الذي عظم منه الضرر. وقد كنت آخذا في الاعلام، بحوادثه العظام، فإنه أذهل الأذهان، وشغل الجنان، إذ أقبل يملأ السهل والجبل، والجنوب كما اضطجعت، والعيون قد هومت للنوم أو هجعت، فمن ماض قد استلبه، وناج قد حربه وفازغ قد أثكله، وحائر لا يدري ما حم له، والبرق يجب فؤاده، والودق ينسرب مزاده، قد استسلم للقدر، واعتصم بالله عز وجل ليس سواه من وزر، حتى أرانا آية إعجازه وبراهينه، وغيض الماء لحينه، وطلع الصباح على معالم قد غيرها، وآكام قد خربها، لا ينقضى منها عجب الناظر، ولا يسمع بمثلها في الزمن الغابر، فالحمد لله على وافي دفعه، ومتلافي عونه ونفعه، لا إلاه إلا هو.
وله من رسالة في وصف جوارح: قصدني مملوكه في ارتياد أفرخ من الشوذانقات عند أوانها والبعثة بها وقت تهيئها وإمكانها، فلم أفارق لها ارتقابا، ولا حدرت للمباحثة عنها نقابا، ولمظانها طلابا، إلى أن حان حين ظهورها وامتلأت منها حجور وكورها وبدا سعيها، واكتسى عريها، وجهت طبا رفيقا لاستنزالها، يرتقي إلى ذرى أجبالها، ويميز أفرهها ويحوز أشرهها، فحصلت منها عددا، جربت يدا فيداً، إلى أن تخرج منها ثلاثة أطيار، كأنها شعل نار، صيدها أجل كل صيد وقيدها أيما قيد، تقلب حوادق مقل، وتنظر نظر مختبل، وتسرع في الانقضاض، كالوحي والإيماض، وترجع إلى يد وثاقها، كأنما أشفقت من فراقها بمخلب دام، وأبهة مقدام.
وله في تولية حاكم: قلدت فلانا سلمه الله النظر في أحكاك فلانة وتخيرته لها بعدما خبرته واستخلفته، وقد عرفته واثقا بدينه، راجيا لتحصينه، لأنه ان احتاط سلم، وإن أضاع أثم، فليقم الحق على أركانه، ليضع العدل في ميزانه، وليسو بين خصومه، وليأخذ من الظالم لمظلومه، وليقف في الحكم عند اشتباهه، ولينفذه عند اتجاهه، ولا يقبل غير المرضي في شهادته، ولا يتعرف الاستقامة إلا من عادته، وليعلم أن الله مطلع على خفياته، وسائله يوم ملاقاته.
وكتب إلى صاحب قلبيرة يستدعي منه أقلاما: قد عدمت - أيدك الله - بهذا القطر الأقلام، وبها يتشخص الكلام، وهي حلية البيان وترجمة اللسان، عليها تفرع شعاب الفكر وذكرها منزل في محكم الذكر، ومنابتها بلدك، ويدك فيها يدك، وأريد أن ترتاد منها سبعة كعدد الأقاليم، حسنة التقليم، فضية الأديم، ولا يعتمد منها إلا صليبها والطوال أنابيبها، وإذا استمدت من أنفاسها، وافاك الشكر بطيب أنفاسها إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الوزير عبد الملك بن عبد العزيز عند الحادثة بقونكة: كتبت أعزك الله والحد فليل، والذهن كليل، بما حدث من عظيم الخرق، على جميع الخلق، فلتقم على الدين نوادبه، فقد جب سنامه وغاربه، ولتفض عليه مدامعه وعبراته، فقد غشيه حمامه وغمراته، وكان منيع الذرى، بعيدا عن أن يلحظ أو يرى، تحميه المناصل البتر، والذوابل السمر، والمسومة الجرد، ومشيخة كأنهم من طول ما التثموا مرد، فأبى القدر إلا أن يفجع بأشمخ مدائنه ومعاقله، ولا يترك له سوى سواحله، وكانت لطليطلة أختا، فاستلبها فجأة وبغتا، وقبل ما سلب الجزيرة وسطى عقدها، بلنسية جبرها الله. وأرجو أن يتلافى جميعها، من نظر أمير المسلمين ما يعيدها، فيملؤها خيلا ورجالا، وينفر بهم خفافا وثقالا، عليهم من قوادها شيبها وشبانها، وفيهم من أجناده زنجها وعربانها.
من كل أبلج باسم يوم الوغى ... يمشي إلى الهيجاء مشي غضنفر
يلقى الرماح بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
حتى يستقال جدها العاثر، ويحيا رسمها الدائر، فتبتهج الأرض بعد غبرتها، وتكتسي الدنيا بزهرتها، وما قصر القائد الأعلى في الجد والتشمير، والاحتفال بالأبطال المغاوير، حتى بلغ بنفسه أبلغ المجهود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ولكن نفذ حكم من له الحكم، ورمى قضاؤه فما أخطأ السهم، والله لا يضيع له مقامه في العام السالف، وما أورد المشركين فيه من المتالف، فما انقضى فتح إلا ورد فتح، كالفجر يتبعه صبح، مد الله بسطته، وثبت وطأته، ولا زال الصنع الجميل على هذا الدين مراميا، وله محاميا، بعزته.
وله:

كتبت - أعزك الله - عن ضمير اندمج على سر اعتقادك صدره، وتبلج في أفق مرادك بدره، وسال على صفحات ثنائك مسكه، وصار في راحتي سنائك ملكه، ولما ظفرت بفلان حملته من تحيتي زهرا جنيا، يوافيك عرفه ذكيا، ويواليك أنسه نجيا، ويقضي من حقك فرضا مأتيا، على أن شخص جلالك لي ماثل، وبين ضلوعي نازل، لا يمله خاطر ولا يمسه عرض دابر.
وله: كل المعالي إليك ابتسامها، وفي يدك انتظامها، وعليك إصفاقها، ولديك إشراقها، وإن كتابك الرفيع وافاني فكان كالزهر الجني، والبشرى أتت بعد النعي، سرى إلى نفسي فأحياها، وأجلى عني كرب الخطوب وجلاها، وتنبه لي وقد نامت عني العيون، وتهمم بي وقد أغفلني الزمن الخؤون، فملكني بإجماله، واستخفني باهتباله، فلتأتينه بالثناء الركائب، تحمله أعجازها والغوارب. وأما ما وصف به الأيام من ذميم أوصافها، وتقلبها واعتسافها، فما جهلتها، ولقد بلوتها خبرا، ورددتها على أعقابها صغرا فلم أخضع بجفوتها، ولم أتضعضع لنبوتها، وعلمت أن الدنيا قليل بقاؤها، وشيك فناؤها، فأعدت قول القائل:
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
وعلى حالاتها فما عدمت بها من الله صنعا لطيفا، وسترا كثيفا، له الحمد ما أومض بارق، ولمع شارق، وأما ما عرضه من الانتقال إلى ذراه، والتقلب في نعماه، والحلول بجنابه، فكيف، وأني به، وقد قيدني الهرم فما أستطيع نهضا، ولا أطيق بسطا ولا قبضا، ولو أمكنني لاستقبلت العمر جديدا، والفضل مشهودا، عند من تقر بسوابقه العجم والعرب، وتؤكل خلائقه بالضمير وتشرب، جازاه الله بالحسنى وأولاه، ثواب ما تولى بعزته تعالى.
وله وقد دعي إلى زفاف بعض الملوك: نعمه، أيده الله، قد أغرقتني مدودها، وأثقلتني لواحقها ووفودها. وافاني كتابه العزيز داعيا إلى المشهد الأعظم، والمحفل الأكرم، الذي ألبس الدنيا إشراقا، والمجد إبراقا، فألفى الدعاء مني سميعا، لا سيما وقد قلدتني به الشرف والسؤدد والبر جميعا، وسما لناظري فيه إلى حيث النجوم شوابك والمعالي أرائك، إلا أنه أيده الله أتم نظرا، وأوضح تدبرا من أن يلحق بخاصته الزلل، ويوقع عليهم الخلل. وقد علم أن الأيام تركن بالي كاسفا، وخطوي واقفا، فكيف يسوغ أن القاه بذهن كليل، وفكر عليل، إذن فقد أخللت بأياديه، وما أجللت رفيع ناديه، وأقسم القسم البربحياته - أطالها الله - ما كان من وطري أن أتأخر عنه ولي فيه الآمال العريضة، والقداح المفيضة، وفي يدي منه مواعد زهر النظام، ومواهب زرق الجمام، وإذا عرف الحقيقة رأى العذر واضحا، والسر لائحا، وعسى أن يلاحظ سعد، ويستنجز للمنى وعد، وينفسح خاطر، ويهتدي حائر، فيقف بببابه ملازما، ويخر على بساطه لاثما، إن شاء الله تعالى.
وحكى القيسي مؤلف قلائد العقيان أنه دخل بلنسية سنة ثلاث وخمسمائة فلقي أبا عبد الرحمان قد انحنى وهو يمسي بالعيش على صخر، ويمشي على ساق من الشجر، ودارت بينهما مراسلات. وكتب إليه الرئيس أبو عبد الرحمان: أنا - أعزك الله - عليك شحيح، ولك فيما تأتيه وتحتذيه نصيح، فالزمان لا يساعد، والأيام تعوق وتباعد، فاقصر من هذه الهمة، واقتصر من أمورك على المهمة، التي تفجأ مع الأوقات، ولا تلجأ فيها إلى ميقات، واقتصد في مواهبك، واقصد إلى العدل في مذاهبك، ولا تكلف في الجود بشرف، ولا تقف من التبذير على سرف، فلو أن البحر لك مشرب، والترب مكتسب، لنفدا معا، ولم يسدا موضعا، ولو كان النجم لك مصعدا، والفلك مقعدا، لما ثنيت إلى ذلك عنانا، ولا ارتضيتها لهمتك مكانا، وقد خطبتك في الحظوة سرا وجهرا، وبذلت لك الامرة اسنى مراتبك مهرا.
وكتب إليه بعد مفارقته: يا كوكب مجد أظلمت لغروبه منيرات الآفاق، وذهب ما كنت عهدته من الإشراق، لقد استرجعت مسراتي أجمعها، وأزلت عن نفسي في السلوة طمعها. فسقيا لعهدك، وقل له السقيا ويا لهفي بعدك، إن قضى لك البقيا وإن لي من الشوق ببعدك، والكدر لفقدك، ما لو كان بالفلك الدوار لم يدر، ولقد كانت غراء أيام تلاقينا، والأنس يساقينا، وإنها لممثلة لعيني، ما يحول السلو بينها وبيني، وعساها تعود، فتطلع معها السعود، إن شاء الله تعالى.
ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون

وصفه القيسي بعزة العظماء، وهزة الكرماء، والشغف بالجود، الكلف بالوفود، ونفاق بضائع البدائع في زمانه، واشراق مطالع الصنائع بإحسانه، واتسقت مناظم سلكه، في مراسم ملكه، وجرى مدار فلكه على مراد ملكه وكانت مربيطر مربض جياده، ومنهض أجناده، ومربط أفراس بأسه، ومسقط رأس إيناسه، والدهر مسالمه، والقدر مساعده، والأمل مساعفه، والوطر معاضده، فأخذها منه ابن رزين، وتركه على أرض السائب الحزين، وانعكس حظه، وانتكس لحظه، ونابه القدر في قدره النابه السلطان بنابه السلط، وشابه العير من دهره المتشابه الحدثان بعد الرفع بالحط، ورابه الزمن بالمكاره دون مكارمه، وحار مهتما في بحار مهامه بحارمه.
وله نظم نظمأ إلى مناهل ورده، ونجتلي الحسن من مطالع سعده، فمن ذلك قوله في خليط مزائل، وحبيب راحل:
سقى أرضا ثوَوْها كل مزن ... وسايرهم سرور وارتياح
فما ألوى بهم ملل ولكن ... صروف الدهر والقدر المتاح
سأبكي بعدهم حزنا عليهم ... بدمع في أعنّته جماع
وقال:
قم يا نديم أدر عليَّ القَرْقَفَا ... أو ما ترى زهر الرياض مفوّفا
فتخال محبوبا مدلا وردها ... وتظن نرجسها محبا مدنفا
والجلنار دماء قتلى معرك ... والياسمين حباب ماء قد طفا
وقال يعاتب بعض إخوانه ويخاطب بعض خلانه:
لحى الله قلبي كم يحنّ إليكم ... وقد بعتُمُ حظّي وضاع لديكم
إذا نحن أنصفناكم من نفوسنا ... ولم تنصفونا فالسلام عليكم
وقال بعد التسلط عليه في سلطانه، يحن إلى أوطاره في أوطانه:
يا ليت شعري وهل في ليت من أرب ... هيهات لا تنقضي من ليت آراب
وأين تلك الليالي إذ تلم بنا ... فيها وقد نام حرّاس وحجّاب
أين الشموس التي كانت تطالعنا ... والجو من فوقه لليل جلباب
تهدي إلينا لجينا حشوه ذهب ... أنامل العاج والأطراف عنّاب
وقال يندب أيامه الموسومة السعود بالإشراق، المنظومة العقود على الاتساق، ويذكر تعثر آماله، وتغير أحواله:
خليليّ عوجا بي على مسقط اللوى ... لعل رسوم الدار أن تتغيرا
وأسأل عن ليل تولى بأنسنا ... وأندب أياما تقضّت وأعصرا
لياليَ إذ كان الزمان مُسَالِماً ... وإذ كان غصن العيش فينان أخضرا
وإذ كنت أسقى الراح من كف أغيد ... يناولنيها رائحا ومبكرا
أعانق منه الغصن يهتز ناعما ... وألثم منه البدر يطلع مقمرا
وقد ضربت أيدي الأماني رواقها ... علينا وكف الدهر عنا وأقصرا
فما شئت من لهو وما شئت من ددٍ ... ومن مبسم يجنيك عذبا مؤشّرا
وما شئت من عود يغنيك مفصحا ... سما لك شوق بعد ما كان قصرا
ولكنّها الدنيا تخادع أهلها ... تَغُرُّ بصفو وهي تطوي مكدّرا
لقد اوردتني بعد ذلك كله ... موارد ما ألفيت عنهنّ مصدرا
وكم كابدت نفسي لها من ملمّة ... وكم بات طرفي من أساها مسهرّا
خليليّ ما بالي على صدق عزمتي ... أرى من زماني ونْيةً وتعذرا
ووالله ما أدري لأيّ جريمة ... تجنّى ولا عن أيّ ذنب تغيّرا
ولم أك عن كسب المكارم عاجزا ... ولا كنت في نيل أنيل مقصّرا
لئن ساء تمزيق الزمان لدولتي ... لقد رد عن جهل كثير وبصّرا
وأيقظ من نوم الغرارة نائما ... وكسّب علما بالزمان وبالورى
وقال:
يا رب ليل شربنا فيه صافية ... صفراء في لونها تنفي التباريحا
نرى الفراش على الأكواس ساقطة ... كأنّها أبصرت منها مصابيحا
وقال يأنف من المقام والربوض، ويتقاضى عزمه بالسير والنهوض، ويعاف ما رتب له من الإجراء، ويميل إلى الإدلاج والإسراء:
ذروني أجُبْ شرق البلاد وغربها ... لأسعى بنفسي أو أموت بدائي

فلست ككلب السوء يرضيه مَرْبض ... وعظم ولكنّي عقاب سماء
تحوم لكيما يدرك الخصب حومها ... أمام أمام أو وراء وراء
وكنت إذا ما بلدة لي تنكرت ... شددت إلى أخرى مطي إبائي
وسرت ولا ألوي على متعذر ... وصممت لا أصغي إلى النصحاء
كشمس تبدت للعيون بمشرق ... صباحا وفي غرب أصيل مساء
وقال عند زهده في الدنيا وانقباضه، ونفض يده عنها وإعراضه:
نفضت كفي عن الدنيا وقلت لها ... إليك عنّي فما في الحق أغتبن
من كِسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار مؤتمن
أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن
وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا

الوزير أبو عمرو الباجي
الكاتب، قرأت له من مجموع هذين البيتين:
غلطت يا دهر أكثر الغلط ... فارجع فإن الأنام في قنط
فلم تزل ترفع الخفاف على ... حال ولكن من غير ذا النمط
ووصفه كتاب قلائد العقيان بالإعجاز في البيان، والسبق في ميدان الإحسان، وأنه كان في زمان نفاق الفضائل، وإشراق الوسائل، وتزين سماء السماح بكواكب الأكارم، وترنم أطيار الأوطار في رياض النجاح بغناء الغنائم، وحظي من المعروف بالمقتدر، بكل معروف وقدر، وتمكن منه تمكن القلب في الصدر، ولقي من أهل سرقسطه، ما أجزل من كل عارفة قسطه، ثم رحل عنهم، فحن إلى لقائهم، فقال يخاطبهم ويثني على آلائهم:
سلام على صفحات الكرم ... على الغرر الفارجات الغمم
على الهمم الفارعات النجوم ... على الأيمن الغامرات الديم
سلام شج لانقلاب المزار ... نوى غربة عن جوار أمم
شجى عن نزاع يذيب الدموع ... بنار الجوانح لا عن ندم
وأيّ الندامة من مجمع ... على ما نوى همّه أي هم
وهل يتلوّن رأي الأريب ... إذا جدّ في أمره واعتزم
عزمت على رحلتي عنكم ... فسرت بقلب شديد الألم
أضاحك ضيفي وأطوي الفجاج ... وفي كبدي لاعج كالضرم
فما أنس لا أنس ذاك السّنا ... وذاك السناء وتلك الشيم
ودنيا بكم طلقة المجتلى ... ودهرا بكم واضح المبتسم
وساعة أنس تجول النفو ... س فيها مجال حمام الحرم
أحنّ إليكم فمن شاقه ... تذكر عهدكم لم يلم
وإن كنت مغتبطا ساحبا ... ذيول الرضى في قرار النعم
وأنشر من فضلكم ما حييت ... على أنه سافر كالعلم
فما روضة الحزن ذات الفنون ... إذا ما الصباح عليها ابتسم
وقد بلل الطل أحداقها ... كأنّ الفريد عليها انتظم
بأطيب من نفحات الثناء ... أسيّرها عنكم في الأمم
أروح وأغدو بها خاطبا ... لدى سامعي عرب أو عجم
لدى كل معترف تابع ... إذا قلت، ألقى إلي السلم
ومن حقكم شكر آلائكم ... ومن حق شانئكم أن يذم
ومن نثره كنظم السمط، يصف المطر غب القحط:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16