كتاب : التذكرة الفخرية
المؤلف : بهاء الدين الإربلي

شرب كوران المغني عند بعض الرؤساء فافتقد رداءه وزعن أنه سرق، فقيل له: ويحك أتتهمنا به أما علمت أن بساط الشراب يُطوى بما عليه، فقال: انشروا هذا البساط حتى آخذ ردائي واطووه إلى يوم القيامة.
المريمي في بعض التائبين:
إنْ كنتَ تبتَ عن الصهباءِ تشربها ... نسكاً فما تبتَ عن برٍّ وإحسانِ
تبْ راشداً واسقنا منها وإن عذلوا ... فيما فعلت فقل ما تابَ إخواني
وقد أحسن القاضي ابن سناء الملك غاية الإحسان في قوله:
أتاني حديثٌ ليتَني لا سمعته ... فعنديَ منه مقعدٌ ومقيمُ
بأنَّ الحكيمَ الآنَ قد هجرَ الطِّلى ... وتابَ فقلنا ما الحكيمُ حكيمُ
أتُهجرُ شمسُ الراحِ وهي منيرةٌ ... ويتركُ بدرُ التمّ وهو وسيمُ
على الكوبِ من بعدِ الحكيمِ كآبةٌ ... وللجامِ من بعدِ الحكيمِ وجومُ
ومن بعدهِ زوجُ الخلاعةِ طالقٌ ... ومن بعدهِ أمُّ السرورِ عقيمُ
وعادت كؤوس الراح وهي سمائم ... لدينا وأنفاسُ المدامِ سمومُ
وكم منَّةٍ عند الحكيمِ لكأسهِ ... غدتْ ولها حقٌّ عليه عظيمُ
أنامتْ له منْ لا ينامُ وربَّما ... أقامتْ له ما لا يكادُ يقومُ
وذلك إنعامٌ قضى بنعيمهِ ... ومن جحدَ الإنعامَ فهو لئيمُ
فإنْ قالَ إني قد سقمتُ بشربها ... فقد يعشقون الجفنَ وهو سقيمُ
وإن قال إني قد سلمتُ فإنه ... كما قيل قدماً للديغِ سليمُ
وسكّتني إبليسُ حين عتبتهُ ... بأن قال هذا الأمرُ ليسَ يدومُ
فإن تسألوني بالحكيمِ فإنني ... حكيمٌ بأدواء الحكيمِ عليمُ
إذا ما خبا وهجُ المصيفِ فإنني ... بتحليلِ ناموسِ الحكيمِ زعيمُ
على أنه كان قد تابَ مخلصاً ... وخافَ عقابَ الله وهو أليمُ
فتوبتهُ من سوء ظنٍّ بربه ... قبيحٌ وإلا فالكريمُ كريمُ
أخر، وأنشدنيه زين الدين الحافظي:
يعجبني شربيَ بالدور على ... تسلسل الماء ببطنِ الجدولِ
أنا الذي حدثت عنه وتري ... أقول بالدور وبالتسلسلِ
أنشد محيي الدين بن زيلاق لنفسه:
أنا في منزلي وقد وهب الل ... ه نديماً وقينةً وعُقارا
فابسطوا العذرَ في التأخر عنكم ... شغلَ الحلي أهله أن يعارا
آخر:
راحٌ إذا علتِ الأكفّ كؤوسها ... فكأنها من دونها بالراحِ
وكأنما الكاسات مما حولها ... من نورها يسبحن في ضحضاحِ
لو بثَّ في غسق الظلام ضياؤها ... طلع المساءُ بغرةِ الإصباحُ
نفضتْ على الأجسام صبغة لونها ... وسرتْ بلذّتها إلى الأرواحِ
ومدامةٍ يخفى النهار لنورها ... وتذلّ أكناف الدجى لضيائها
صبّتْ فأحدق نورها بزجاجها ... فكأنها جعلتْ إناء إنائها
وتكادُ إن مزجت لرقّة جسمها ... تمتازُ عندَ مزاجها من مائها
تزدادُ من كرمِ الطباعِ بقدر ما ... يودي به الأزمانُ من أجزائها
لا شيء أعجب من تولد برئها ... من سقمها ودواؤها من دائها
ابن المعتز:
بينَ أقداحهم حديثٌ قصيرٌ ... هو سحرٌ وما عداه كلامُ
وكأنَّ السقاةَ بين الندامى ... ألفاتٌ على سطورٍ قيامُ
الناجم:
فخذها مشعشعةً قهوةً ... تصبّ على الليل ثوبَ النهارِ
ينازعها الخدّ جريالها ... فتهديه للعينِ يومَ الخمارِ
الجريال الخمر، ويقال: جريال الخمر لونها، قال الأعشى:
وسبيةٌ مما تعتَّقُ بابلٌ ... كدمِ الذَّبيحِ سلبتها جريالها
يقول: شربتها حمراء وبلتها بيضاء.
ابن دريد، وأجاد ما شاء:
وحمراءَ قبلَ المزجِ صفراءَ بعدهُ ... بدتْ بين ثوبيْ نرجسٍ وشقائقِ
حكتْ وجنةَ المعشوقِ صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجاً فاكتستْ لونَ عاشقِ
ويعجبني قول القائل، وتروى ليزيد بن معاوية:
وإنيَ من لذاتِ دهري لقانعٌ ... بحلو حديثٍ أو بمرِّ عتيقِ
هما ما هما لم يبق شيء سواهما ... حديث صديقٍ أو عبيق رحيقِ
وفي وصف سكران:
فبتُّ أرى الكواكبَ دانياتٍ ... ينلنَ أناملَ الرجلِ القصيرِ
أدافعهنّ بالكفين عني ... وأمسحُ عارضَ القمرِ المنيرِ
ابن المعتز:

شربنا بالكبيرِ وبالصغيرِ ... ولم نحفلْ بأحداثِ الدهورِ
فقد ركضتْ بنا خيلُ التصابي ... وقد طرنا بأجنحةِ السرورِ
وقال وأحسن:
سقتنيَ في ليلٍ شبيهٍ بشعرها ... شبيهةَ خدَّيها بغير رقيبِ
فما زلتُ في ليلينِ في الشعر والدجى ... وصُبْحينِ من كأسٍ ووجهِ حبيبِ
أبو نواس:
نبّهْ نديمك قد نعس ... يسقيك كأساً في الغلسْ
صرفاً كأنّ شعاعها ... في كفّ شاربها قبسْ
مما تخير كرمها ... كسرى بعانة واغترسْ
تذر الفتى وكأنما ... بلسانه منها خرسْ
يدعى فيرفعُ رأسه ... وإذا استقلَّ به نكسْ
السّريّ يستهدي شراباً:
تجنّبني حسنُ المدامِ وطيبها ... فقد ظمئتْ نفسي وطالَ شحوبها
وعندي ظروفٌ لو تظرَّفَ دهرها ... لما باتَ مغرىً بالكآبةِ كوبها
وشعثُ دنانٍ خاوياتٍ كأنها ... صدورُ رجالٍ فارقتها قلوبها
فسقياكَ لا سقيا السحاب فإنما ... بيَ العلةُ الكبرى وأنتَ طبيبها
وقال:
كبوةُ الهمِّ بين كأسٍ وكوبِ ... واغتباطِ المحبِّ بالمحبوبِ
حبذا أسهمٌ تفوِّقها الألحا ... ظُ لا تتقى بغير القلوبِ
وبواطٍ كأنهنَّ وهادٌ ... أترعتها سجالُ غيثٍ سكوبِ
السجل: مذكر الدلو إذا كان فيه ماء قل أو كثر، ولا يقال لها وهي فارغة: سجل، والجمع السجال، وسجلت الماء فانسجل، أي صببته فانصب، وأسجلت الحوض: ملأته.
وكأنَّ الكؤوسَ فيها جنوحاً ... أنجمُ الليلِ صوّبتْ للمغيبِ
نحنُ أبناءُ هذه الكأسِ لا نعْ ... دلُ عن شربها إلى مشروبِ
أدَّبتنا الأيامُ حتى أرتنا ... بطشَ أحداثها بكلّ أديبِ
وعلمنا أنا نصيبُ المنايا ... فأخذنا من المنى بنصيبِ
وقال:
خذوا من العيشِ فالأعمارُ فانيةٌ ... والدهر منصرمٌ والعمرُ منقرضُ
في حاملِ الكأسِ من بدر الدجى خلفٌ ... وفي المدامةِ من شمسِ الضحى عوضُ
كأنَّ نجمَ الثريا كفُّ ذي كرمٍ ... مبسوطةً للعطايا ليسَ تنقبضُ
دارت علينا كؤوسُ الراحِ مترعةً ... وللدجى عارضٌ في الجوِّ معترضُ
حتى رأيتَ نجوم الليلِ غائرةً ... كأنهن عيونٌ حشوها مرضُ
قعد قوم يشربون في غرفة فغنى مغنيهم:
ومقعد قوم قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه ثلاثاً فأبصرا
فطرق عليهم الباب، فقالوا: ذا من، فقال: رجل أعور يطلب قدحاً ونصفاً لعل عينه تفتح.
قال رجل من الشرّاب: وجهت إليك رسولاً فلم يجدك. قال: ذاك وقتٌ لا أكاد أجد فيه نفسي.
حمل سكران على قفا حمّال إلى منزله فسأل الناس الحمّال، وقالوا: ما هذا؟ فرفع السكران رأسه وقال: بقية مما ترك آل موسى وهارون تحمله الملائكة.
قيل لشيخ: كم مقدار ما تشرب من الشراب؟ قال: مقدار ما أتقوى به على ترك الصلاة.
قال ابن عياش: كنت وسفيان الثوري وشريكاً نمشي بين الحيرة والكوفة فرأينا شيخاً أبيض الرأس واللحية حسن السمت، فقلنا: هذا شيخ جليل قد سمع الحديث وقد رأى الناس، فتقدم إليه سفيان وكان أطلبنا للحديث ثم سلم عليه، وقال له: أعندك شيء من الحديث، فقال: أما الحديث فلا ولكن عندي عتيق سنتين فنظرنا فإذا هو خمّار.
قال الجاحظ: رأيت أسود بيده قنينةٌ وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك، قال: أخاف أن تنكسر هذه القنينة قبل أن أسكر.
محمد بن علي الدينوري:
هبّوا إلى شرب الصبوح فإنما ... لصبوحكم لا للصلاة أذاني
طلعت نجوم الراح في أيديهم ... مثل النجوم وغبنَ في الأبدانِ
أخذه من شعر وجدته يروى ليزيد بن معاوية:
وشمسة كرمٍ بروجها قعر دنّها ... ومطلعها الساقي ومغربها فمي
مسلم بن الوليد:
كأنها وسنانُ الماءِ يقتلها ... عقيقةٌ ضحكتْ في عارضٍ بردِ
دارت عليه فزادتْ في شمائلهِ ... لين القضيب ولحظ الشادن الغردِ
مشته لما تمشت في مفاصله ... لعب الرياح بغصن البانةِ الخضدِ
يقال: خضدت العود فانخضد أي ثنيته فانثنى من غير كسر.
آخر:
سقني الخمر صراحا ... لا تخف فيّ جناحا
أقراحٌ أنا حتى ... أشرب الماء القراحا
آخر:

بدرٌ غدا يشرب شمساً غدتْ ... وحدّها في الحسن من حدّهِ
تغرب في فيه ولكنها ... من بعد ذا تطلع في خدِّهِ
ومثله، وهو أجود:
لو رام بحلف أنَّ الشمس ما غربت ... في فيه كذّبه في وجهه الشّفقُ
وأحسن من هذا:
وشادن طاف بالكؤوس ضحى ... وحثَّها والصبحُ ما وضحا
والروض مبد لنا زخارفه ... وآسه العنبريّ قد نفحا
قلنا فأينَ الأقاح قال لنا ... أودعتهُ ثغر من سقى القدحا
فظل ساقي المدام ينكر ما ... قال فلما تبسّمَ افتضحا
ومثله:
أصبحتْ شمساً وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيي مشرقا
فإذا ما غربت في فمهِ ... أطلعت في الخدِّ منه شفقا
آخر:
ومهفهفٍ تمت محاسنه ... حتى تجاوز منيةَ النفس
في هذا البيت نظر لا يخفى على صاحب نظر.
أبصرته والكأس بين فم ... منه وبينَ أنامل خمسِ
فكأنه والكأسُ في فمهِ ... قمرٌ يقبّلُ عارض الشمسِ
عبد الله بن المعتز:
إن راحاً قال الإله لها كوني ... فكانتْ روحاً وريحاً وراحا
درةٌ حيثما أديرتْ أضاءتْ ... ومشمٌّ من حيثُ ما شمّ فاحا
وقال أبو تمام:
إذا عوتبتْ بالماء كانَ اعتذارها ... لهيباً كوقعِ النارِ في الحطبِ الجزلِ
إذا هي دبّتْ في الفتى ظنَّ قلبهُ ... لما دبَّ فيه قريةً من قرى النملِ
إذا ذاقها وهي الحياةُ رأيته ... يعبّسُ تعبيسَ المقدّمِ للقتلِ
ومن ها هنا قال الحسن بن رجاء لرجل شرب بحضرته كأساً فعبّس وجهه: ما أنصفتها تعبّس في وجهها وتضحك في وجهك. ومن هنا قال الآخر:
ما أنصفَ الندمانُ كأسَ مدامةٍ ... ضحكت إليه فذاقها بتعبُّسِ
وقال آخر:
ظفرنا بها في الدَّن بكراً وبينها ... وبين قطاف الكرم عادٌ وتبّعُ
فلما استقرت في الزجاج حسبتها ... سنا النار في داجٍ من الليل يلمعُ
وقد أحسن أبو تمام وقد أنفذ له بعض أصدقائه شراباً غير مرضيّ فكتب إليه:
قد رأينا دلائلَ المنعِ أو ما ... يشابه المنعَ باحتباسِ الرسولِ
وافتضحنا عند الندامى بما شا ... عَ لدينا من قبحِ وجهِ الشمولِ
فاجأتنا كدراءُ لم تسبَ عن تس ... نيم جريالها ولا السلسبيلِ
لا تهدَّى سبلَ العروق ولا تن ... سابُ في مفصل بغيرِ دليلِ
وهي نزرٌ لو أنها من دموع الصبِّ ... لم يشفَ منه حرُّ غليلِ
وكأنَّ الأناملَ اعتصرتْها ... بعدَ كدٍّ من ماء وجهِ البخيلِ
كم صديقٍ قد امتحنّا نداهُ ... واعتبرنا كثيرهُ بالقليلِ
ابن المعتز يصف الزق:
في مجلسٍ غابَ عنه عاذلهُ ... نطردُ عنّا الهمومَ بالطربِ
والزِّقُّ في روضةٍ تسيلُ دماً ... أوداجهُ جاثياً على الركبِ
قال أبو العباس عبد الله بن المعتز: سألت محمد بن يزيد يعني المبرد عن قول المسيب بن علس:
وصهباءَ يستوشي بذي اللّبِّ مثلها ... قرعتُ بها نفسي إذا الديكُ أعتما
تمزَّزتها صرفاً وقارعتُ دنَّها ... بعودِ أراكٍ مدَّةً فترنَّما
فلم يجيبني بجواب أرتضيه ثم سألت عنه أبا أحمد عبيد الله بن طاهر في دار أمير المؤمنين المعتضد فقال لي: معنى تستوشي أي تستخرج ما عند ذي اللب مثلها به، وذلك كما تقول: استوشيت الحديث من فلان إذا استخرجته، وقوله: قرعت بها نفسي أي شربتها فقرعتني، ويقال: امتلأت بها نفسي، ويروى مثلها ثم وقف عن تفسير قارعت دنها وخرج أمير المؤمنين من دار الخلوة ونحن في المنازعة فأمر بكتب رقعة إلى أبي العباس أحمد بن يحيى، يعني ثعلباً، فورد الجواب مسنداً عن أبي عمرو بن العلاء: إن المعنى ضربت دنّها بالعود فلما طنّ علمت أني قد شربت ما فيه وقرعته. وعن الأصمعي غنيت ووقعت على الدن بعود أراكٍ فترنم وعلا صوته.
إبراهيم بن سيار النظام:
ما زلتُ آخذ روح الدنّ في لطفٍ ... وأستبيح دماً من غير مذبوحِ
حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدي ... والدّنّ مطّرحٌ جسم بلا روحِ
وقال آخر:
إذِ الأباريق حولي ... كأنهنَّ ظباءُ
مملآت ملاءً ... دموعهنَّ طلاءُ
ابن المعتز:

خلِّ الزمانَ إذا تقاعسَ أو جمحْ ... واشكُ الهمومَ إلى المدامة والقدحْ
واحفظْ فؤادكَ إن شربتَ ثلاثةً ... واحذرْ عليه أنْ يطيرَ من الفرحْ
هذا دواءٌ للهمومِ مجرّبٌ ... فاقبلْ مشورةَ ناصحٍ لك قد نصحْ
ودعِ الزمانَ فكم رفيقٍ حازمٍ ... قد رامَ إصلاحَ الزمانِ فما صلحْ
وقال بعض الأعراب، إنما الأبيات لأبي نواس وله سبب وحكاية مع الرقاشي:
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتيةٍ باصطباح الراح حذّاقِ
وكلّ شيء رآه ظنّه قدحاً ... وكل شخص رآه ظنّه الساقي
وقيل لبعض خلفاء بني أمية: ما يطيب في هذا اليوم؟ فقال: قهوة صفراء في زجاجةٍ بيضاء تناولنيها مقدودة هيفاء مضمومة لفّاء أشربها من يدها وأمسح فمي بفمها.
أقول: مقدودة أي حسنة القد معتدلة، يقال: قُدَّ قَدَّ السيف أي جعل حسن التقطيع، وهو صفة حركاته وأعضائه ومضمومة أي عقصت شعرها. واللفّاء: الضخمة الفخذين المكتنزة.
وقال ابن المعتز:
غدوتُ إلى كأسٍ ورحتُ إلى كاسِ ... ولم أرَ فيما تشتهي النفسُ من باسِ
وملتبسٍ بالبدرِ في أعينِ الورى ... من الناسِ إلاّ أنه أملحُ الناسِ
سقانيَ خمراً من يديهِ وريقهِ ... فأسكرني سكرينِ من دونِ جُلاسي
وكمْ من نديمٍ سابقٍ إلى الكرى ... وكمْ من نديمٍ قد سبقتُ إلى كاسِ
العطوي:
جارة لي أجارها الحس ... ن من كلّ عائبِ
هي بينَ النساءِ كال ... بدرِ بينَ الكواكبِ
لحظها قبل لفظها ... من جليلِ المواهبِ
سألتني هل النبي ... ذُ حلالٌ لشاربِ
قلت إي والذي يُري ... نيك رغم الأقاربِ
اشربيهِ فإنَّ في ... ه لإحدى العجائبِ
يُنبتُ الوردَ في نقا ... ءِ خدودِ الكواعبِ
وأجيبي بغيرِ قو ... لٍ عن الحقِّ عازبِ
هل حلالٌ دماؤنا ... للظباءِ الربائبِ
قالت استفتِ غيرَ ... خصمك فعل الملاعبِ
وقال المأمون:
ردَّا عليَّ الكأسَ إنكما ... لا تعلمانِ الكأسَ ما تجدي
خوفتماني الله ربّكما ... وكخيفتيهِ رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوفَ العقاب شربتُها وحدي
ابن المعتز:
معتّقة صاغَ المزاجُ لرأسِها ... أكاليلَ درٍّ ما لمنظومِها سلكُ
جرتْ حركاتُ الدهرِ فوقَ سكونها ... فذابتْ كذوْب التبرِ أخلصهُ السبكُ
وقال الأعشى:
في فتيةٍ كسيوفِ الهندِ قد علِموا ... أنْ ليسَ تدفعُ عن ذي الحيلةِ الحيلُ
نازعتهمْ قضبَ الريحانِ متكئاً ... وقهوةً مزَّةً راووقها خضلُ
يقال: أخضلت الشيء فهو مخضل إذا بللته، وشيء خضل: رطب، والخضل: النبات الناعم، والخضيلة: الروضة وأخضل اخضلالاً واخضوضل: ابتلّ.
وكتب أحمد بن أبي العلاء إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
أنا سيفٌ على العِدى لك في الحر ... بِ وفي السلم فابتذلني وصنِّي
ونديم إن لم يزرك نديم ... ومغنّ إن لم يجئك مغنِّي
كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أخيه عبيد الله:
يومنا طيّب يطيب به القص ... ف وشُرب الأرطال والجامات
ولدينا ساقٍ أغرُّ أديبٌ ... قد غنينا به عن القيناتِ
إنْ تخلفت عندما تصل الر ... قعة عنّا فأنت في الأمواتِ
فأجابه:
أنا لو لم أُدعى تطفّلت حتى ... أشتفي من حديث هذا المواتي
فاجعل الشرط بيننا لا تقل لي ... قد تثاقلت فانصرف بحياتي
قال المأمون لجبريل بن بختيشوع: ما أخف النقل؟ ق نقل أبو نواس يا أمير المؤمنين، قال: وما هو؟ قال: قوله:
ما لي في الناس كلّهم مثلُ ... ما بي خمر ونُقلي القبلُ
حتى إذا ما العيون قيل هدت ... وحان نومي فمضجعي كفلُ
وقد قال أهل الأدب: لا فضيلة في السُّكر سوى فقدان الهموم، وذلك عند النظر لا يفي بفقدان العقل، قالوا: وفيه مع ذلك فضيلة خفية نافعة وهي جسارة من كان متيماً على إلفه.
قال العباس بن الأحنف:
أراني سأُبدي عندَ أولِ سكرةٍ ... لديها هواها في ملاءٍ وفي سترِ
فإنْ رضيتْ كانَ الرِّضا سببَ الهوى ... وإنْ غضبتْ منه أحلتُ على السكرِ

والناس لا يعتدّون بالسخاء المتولد على السكر.
قال زهير:
أخو ثقةٍ لا يُذهبُ الخمرُ مالهُ ... ولكنّه قد يُذهبُ المالَ نائلهْ
وقال عنترة:
فإذا سكرتُ فإنَّني مستهلكُ ... مالي وعِرضي وافرٌ لم يُكلمِ
وإذا صحوتُ فما أُقصِّرُ عن ندًى ... وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمي
وقد أحسن القائل:
يعيد عطايا سكره عند صحوه ... ليعلمَ أنّ الجودَ منه على علمِ
ويسلم في الأنعام من قول قائلٍ ... تكرّم لمّا خامرته ابنة الكرمِ
وقال بعضهم في معربد:
ومعربد أخرجته ... للريح إذ آذى الندامى
أغلقتُ بابي دونه ... وتركته يرعى الخُزامى
يرنو بعيني مبغضٍ ... نظر الوصيّ إلى اليتامى
ولآخر يعتذر:
قد جرت بيننا هناتٌ من الشك ... رِ كثار كبيرةٌ وصغارُ
وعثَار النبيذ عند ذوي الأخ ... طارِ ما لا يكون منه اعتذارُ
فارمِ بالحقد عن فؤادِك فالأح ... قادُ مما تُرمى بها الأحرارُ
ولبعد وجهه الذي كان لي ... منه إذا ما لقيته استبشارُ
ليس ذنبٌ جنيته سالم الع ... قل كذنبٍ جنت عليّ العقارُ
وقال بعضهم:
على قدر عقل المرء في حال صحوه ... تؤثر فيه الخمر في حال سُكرهِ
فتأخذ من عقلٍ كثيرٍ أقلّه ... وتأتي على العقل القليل بأسرهِ
قال عطية الشاعر: بينا أنا مع الحسن بن عبد الملك بن صالح ونحن مصطبحان نشرف على طريق إذ نحن برجل ليس معه ثقل ولا غلام فأقبل إلى باب الأمير، فقال: يا غلام خذ دابتي، وقال للحاجب: ادخل بين يدي، قال: إنه ليس منزل سوقة هذا منزل الأمير أبي الحسن بن عبد الملك ابن صالح، قال: قد علمت فادخل بين يدي، فدخل فلما صار إلى صدر المجس سلّم على أبي الحسن ثم قال: يا غلام خذ ثيابي، فأخذ ثيابه، فقيل: أتأكل شيئاً، قال: إن جدد لي طعام أكلت فإني لا آكل فضلةً فجدد له لحم طير، فأكل، قال أبو الحسن: اسقوه، فسقوه ثلاثاً، ثم قال: يا غلام انطق السنارة فخفقت العيدان فلما سكتن قال: يا غلام بقي على الجارية في صوت كذا وكذا فغضب الحسن فلما تبين الغضب في وجهه، قال: يا غلام خذ العود من يدها فأخذه وضرب وتغنَّى:
ولما توافقنا غداة وداعنا ... أشرْنَ إلينا بالجفونِ الفواترِ
ولا شيء أقوى شاهداً عند ذي هوًى ... من اللحظ يأتيه بما في الضمائر
قال: اجز، يا غلام خمسمائة دينار فوضعت بن يديه ثم قال: يا غلام طنبوراً، فضرب به وتغنّى:
ولما توافقنا غداةَ وداعنا ... ولم يبقَ إلاّ أنْ تزمّ نجائبي
طلبنا من الركب المحشر عوجةً ... فعجن علينا من صدور الركائب
فلما توافقن كتبنَ بأعينٍ ... لنا كتباً أعجمنها بالحواجبِ
فلما قرأناهن سرّاً طوينها ... حذار الأعادي بازورار المناكبِ
ثم قال: يا غلام طبلاً، فضرب به وتغنَّى:
وشادنٍ مكتحلٍ بسحرِ ... تنفث عيناه به في صدري
فيوهنان عزماتِ صبري ... مضطمرٌ أسفله عن خصرِ
كأنّما نجمعه في فتر ... كأنّ أطراف البنان الحمرِ
عنه عقيق في سلوك درّ ... مكّنتُ جنبي عينه من أسري
فاحتكما فيَّ احتكام دهري
ثم قال: يا غلام دفاً، فضرب به وتغنَّى:
كملت فلو قسم الإله ضياءها ... في الخلق كانوا كلهم أنوارا
تعنو لها أبصارُنا فكأنما ... بالحسن منها تملك الأبصارا
لو دُرِّع الليل البهيم ضوئها ... لغدا دجاه مع النهار نهارا
ما جال طرف في محاسن وجهها ... إلاّ تحيّر دونها أو حارا
قال: يا غلام خمسمائة دينار، فوضعت بين يديه، ثم قال: أي بني عمنا أنت فلم يكن ليقدم عليّ إلاّ هاشمي، قال: لست من بني عمك، أنا أبو نواس غضب عليّ أمير المؤمنين فأمرني بالخروج عن بغداد وأنا عائد إليها في غد إن شاء الله.
وأقول: إنه يتغلب عندي أن هذه القصة موضوعة إذ كان أبو نواس معروفاً مشهوراً عند جميع أصحاب السلطان ولو خفيت حاله على كل واحد لما خفيت عن هذا الأمير والله أعلم.
وقال آخر:
من كفّ جاريةٍ كأنّ بنانَها ... من فضةٍ قد طرّفت عنابا
وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... ألقتْ عليّ يد الشمال حسابا
وقال حسان بن ثابت:

ولقد شربتُ الكأسَ في حانوتها ... صهباءَ صافيةً كطعمِ الفلفلِ
يسعى أليّ بكأسِها منتطفٌ ... فيعلُّني منها وإنْ لم أنهلِ
المنتطف: الذي في آذانه القرطة، وهي الحلق، واحدتها نطفة، بالتحريك، والعلّ: شرب ثان، يقال: علل بعد نهل، والنهل: الشرب الأول.
إنَّ التي ناولتني فرددتها ... قُتلتْ قُتلتَ فهاتها لم تُقتلِ
كلتاهُما حلبُ العصيرِ فعاطني ... بزجاجةٍ أرخاهُما للمفصلِ
بزجاجةٍ رقصت بما في قعرِها ... رقصَ القلوصِ براكبٍ مستعجلِ
وقال الأخطل:
يدبّ دبيباً في العظام كأنَّه ... دبيبُ رمالٍ في نقا يتهيّلُ
يتهيّل: يتصبب.
فقلتُ اقتلوها عنكمُ بمزاجِها ... وحِبّ بها مقتولةً حينَ تُقتلُ
ومن التشبيه الجيد قوله فيها يصف زقاق الخمر:
أناخوا فجرُّوا شاصياتٍ كأنَّها ... رجالٌ من السودانِ لم يتسربلوا
يقال للزقاق والقرب إذا ملئت أو نفخت فارتفعت قوائمها: شاصية، والجمع شواص. وقال آخر وزاد في التشبيه:
فحطّوا إلينا شاصيات كأنَّها ... من المزج مسلوب القميص وراعفُ
وقال أبو الهندي:
أتلفَ المالَ وما جمعتهُ ... طلبُ اللذاتِ من ماءِ العنب
واستباء الزقّ من حانوتهِ ... شائلَ الرجلينِ معصوبَ الذنبْ
وأخذ مسلم بن الوليد قول حسان:
فهاتها لم تقتل
فقال:
خلطْنا دماً من كومةٍ بدمائِنا ... فأظهرَ في الألوان منا الدمَ الدمُ
إذا شئتما أنْ تسقياني مدامةً ... فلا تقتُلاها كلُّ ميتٍ محرَّمُ
فقوله:
كلّ ميتٍ محرمُ
زيادة حسنة.
قال الملتمس:
صبا من بعدِ صبوتهِ فؤادي ... وسمّحَ للقرينةِ بانقيادِ
كأنّي شاربٌ يومَ استقلّوا ... وحث بهم وراءَ البيدِ حادِ
عقاراً عتِّقتْ بالدنِّ حتى ... كأنَّ حبابها حدقُ الجرادِ
وقال أبو نواس:
ألا دارِها بالماءِ حتّى تُلينَها ... فلنْ تُكرمَ الصهباءَ حتّى تهينَها
أُغالي بها حتّى إذا ما ملكتُها ... أذلتُ لإكرامِ النديمِ مصونَها
وصفراءَ قبلَ المزجِ بيضاءَ بعدهُ ... كأنَّ شعاعَ الشمسِ يلقاكَ دونَها
ترى العينَ تستعفيكَ من لمعانِها ... وتحسرُ حتّى ما تُقلُّ جفونَها
وقال أبو نواس أيضاً:
وذي حلفٍ بالراحِ قلتُ له اصطبحْ ... فليسَ على أمثالِ تلكَ يمينُ
شمولاً تخطّاها الزمانُ فقد مضتْ ... سنونٌ لها في دنّها وسنونُ
تراثُ أُناسٍ عن أُناسٍ تُخرَّموا ... توارثها بعدَ البنينِ بنونُ
فأدركَ منها الغابرونَ حشاشةً ... لها هيجانٌ مرةً وسكونُ
لذي نرجسٍ غضِّ القطافِ كأنَّه ... إذا ما منحناهُ العيون عيونُ
مخالفةٌ في شكلهنَّ فصفرةٌ ... مكانَ سوادٍ والبياضُ جفونُ
فلما رأى وصفي ارعوى واستزادني ... فقلتُ لجوجٌ عزَّ ثمَّ يهونُ
وصدَّق ظنِّي صدقَ اللهُ ظنَّه ... إذا ظنَّ خيراً والظنونُ فنونُ
وقال:
غنِّنا بالطلولِ كيفَ بكينا ... واسقِنا نُعطكَ الثناءَ الثمينا
من كميت كأنَّها كلُّ طيبٍ ... يتمنى مخيّرٌ أنْ يكونا
فإذا ما اجتليتَها فهباءٌ ... يمنعُ الكفَّ ما يبيحُ العيونا
ثمَّ شُجَّت فاستضحكت عن جمانٍ ... لو تجمعنَ في يدٍ لاقتُنينا
في زجاجٍ كأنَّهنّ نجومٌ ... جارياتٌ بروجُها أيدينا
طالعاتٌ مع السقاةِ علينا ... فإذا ما غربْنَ يغرُبنَ فينا
لو ترى الشربَ حولَها من بعيدٍ ... قلتَ قومٌ من قرةٍ يصطلونا
وغزالٍ يديرُها ببنانٍ ... ناعماتٍ يزيدُها الغمزُ لِينا
كلما شئتُ علّني برضابٍ ... يتركُ القلبَ للسرورِ قرينا
ذاكَ عيشٌ لو دامَ لي غيرَ أنِّي ... عفتهُ طائعاً وخفتُ الأمينا
وقال:
عتّقتْ في الدنّ حتّى ... هي في رقةِ ديني
ثمَّ شجّت فأدارت ... حولها مثلَ العيونِ
حدقاً ترنو إلينا ... لمْ تحجَّرْ بجفونِ
حدقٌ تثمر درّاً ... كلّ إبّانٍ وحينِ
السريّ الرَّفَّاء:
قمْ فانفِ بالكاساتِ سلطانَ الكرى ... واجعلْ مطايا الراحِ منَّا الراحا

لا تأسفنَّ على الصباحِ فحسبُنا ... ضوءُ السوالفِ والسلافُ صباحا
فضَّ النديمُ ختامَها فكأنَّما ... فضَّ الختامَ عن العبيرِ ففاحا
لم ندرِ إذ حثَّ السقاةُ كؤوسَها ... أكواكباً يحملنَ أمْ أقداحا
وقال عبد الله بن المعتز:
سقى المطيرةَ ذاتَ الظلِّ والشجرِ ... وديرَ عبدونَ هطّالٌ من المطرِ
فطالما نبّهتْني للصبوح به ... في عزَّةِ الفجرِ والعصفورُ لم يطر
أصوات رهبانِ دير في صلاتِهم ... سودِ المدارعِ نعّارينَ في السحرِ
مُزنَّرين على الأوساطِ قد جعلوا ... على الرؤوسِ أكاليلاً من الزهرِ
كم فيهم من مليحِ الوجهِ مُكتحلٍ ... بالسحرِ يكسرُ جفنيهِ على حورِ
لاحظتهُ بالهوى حتّى استقادَ له ... طوعاً وأسلفني الميعاد بالنظرِ
هذا شعر يحير الألباب، ويعرّف كيف تؤتى البيوت من الأبواب، فإنه بديع في المعنى المراد، وما أطيب ما قد أسلفه هذا الميعاد.
وجاءني في قميصِ الليلِ مستتراً ... يستعجلُ الخطوَ من خوفٍ ومنْ حذرِ
ولاحَ ضوءُ هلالٍ كادَ يفضحهُ ... مثل القلامةِ إذْ قُصتْ من الظفرِ
فقمتُ أفرشُ خدِّي في الطريقِ له ... ذلاًّ وأسحبُ أكمامي على الأثرِ
وكانَ ما كانَ مما لستُ أذكرهُ ... فظنَّ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ
ومغرمٍ باصطباحِ الراحِ نادمَني ... لم تُبقِ لذَّته وفراً ولم تذرِ
ما زلتُ أسقيهِ من حمراءَ صافيةٍ ... عجوزِ دسكرةٍ شابتْ من الكبرِ
راحَ الفراتُ على أغصانِ كرمتِها ... بجدولٍ من زلالِ الماءِ منفجرِ
حتّى إذا نارُها جاشتْ بمرجلِها ... بفائرٍ من هجيرِ الشمسِ مستعرِ
ظلَّت عناقيدُها يبرزنَ من ورقٍ ... كأنَّها الزنجُ في خضرٍ من الأرزِ
وطافَ قاطفُها فيها فسلَّمها ... إلى خوابيَ قد عُممنَ بالمدرِ
وقال أبو دلف القاسم بن عيسى:
وقهوةٍ كشعاع الشمس رونقها ... ليست من الخمر إلاّ في معانيها
تخال منها حواشي الكأس خاليةً ... لولا أكاليل درٍّ في أعاليها
ابن المعتز:
وكرخيّةِ الأنسابِ أو بابليّةٍ ... ثوتْ حقباً في ظلمةِ القار لا تسري
أرقتُ صفاءَ الماءِ فوقَ صفائِها ... فخلتُها سُلاّ من الماءِ والبدرِ
وقال أبو عبد الله بن الحجاج:
يا صاحبيّ استيقظا من رقدةٍ ... تزري على عقلِ اللبيبِ الأكيسِ
هذي المجرَّةُ والنجومُ كأنَّها ... نهرٌ تدفَّقَ في حديقةِ نرجسِ
وأرى الصبا قد غلّستْ بنسيمِها ... فعلامَ شربي الراحَ غيرَ مغلسِ
قوما اسقياني قهوةً روميةً ... مذ عهدِ قيصرَ دنُّها لم يُمسسِ
بكرٌ تضيفُ إذا تسلطَ حكمُها ... موتَ العقولِ إلى حياةِ الأنفسِ
وقال أبو عبادة البحتري:
فاشربْ على زهرِ الرياضِ يشوبهُ ... زهرُ الخدودِ وزهرةُ الصهباءِ
من قهوةٍ تُنسي الهمومَ وتبعث ال ... شوقَ الذي قد ظلَّ في الأحشاءِ
تخفي الزجاجةَ لونُها فكأنَّها ... في الكفِّ قائمةٌ بغيرِ إناءِ
وقال أبو نواس:
ويعجبني حثيث الكأ ... سِ بين الناي والوترِ
ترى جثمانها معنا ... وريَّاها على سفرِ
وقال آخر:
كميت إذا شجَّت وفي الكأس وردةٌ ... لها في عظام الشاربين دبيبُ
تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوبُ
البحتري:
وليسَ للهمِّ إلاّ كلُّ صافيةٍ ... كأنَّها دمعةٌ في عينِ مهجورِ
أبو نواس:
نور تحدّر من فمِ الإبريقِ ... في ريح كافورٍ ولونِ خلوقِ
فكأنَّها وشرارُها متطايرٌ ... والماءُ يُطفئها ضرامُ حريقِ
وقال آخر:
صفراءُ ضمّخ لونها في خدرها ... بالزعفران تقادمُ الأزمانِ
وكأنَّ للذهب المذاب بكاسها ... بحراً يجيش بأعين الحيتانِ
في مجلسٍ جعل السرور جناحه ... ستراً لنا من ناظرِ الحدثانِ
وقال علي بن جبلة:
دعِ الدنيا فللدنيا أناسٌ ... ألذُّ العيش إبريقٌ وطاسُ
وصافيةٍ لها في الكفّ لينٌ ... ولكنْ في العقولِ لها شماسُ

معتقةٍ إذا مُزجتْ أضاءتْ ... وأمكنَ قابساً منها اقتباسُ
كأنَّ يدَ النديمِ يُديرُ منها ... شعاعاً ما يحيطُ عليهِ كاسُ
وقال آخر:
وصافيةٍ كعينِ الديكِ صرفٍ ... تنسّي الشاربينَ لها العقولا
إذا شربَ الفتى منها ثلاثاً ... بغيرِ الماءِ حاولَ أنْ يطولا
أبو تمام:
بمدامةٍ تغدو المُنى لكؤوسِها ... خولاً على السرَّاء والضرَّاءِ
صعُبتْ فراضَ الماءُ سيِّئَ خلقِها ... فتعلَّمتْ من حسنِ خلقِ الماءِ
وكأنَّ زهرتها وبهجةَ كأسِها ... نارٌ ونورٌ قُيِّدا بوعاءِ
آخر:
ومدامةٍ حمراءَ في قارورةٍ ... زرقاءَ تحملها يدٌ بيضاءُ
فالراحُ شمسٌ والحبابُ كواكبٌ ... والكف قطبٌ والإناءُ سماءُ
وقال أبو الهندي:
رضيعُ مدام فارقَ الراحَ روحهُ ... فظلّ عليها مستهلّ المدامعِ
أديرا عليَّ الكأسَ إنِّي فقدتُها ... كما فقدَ المفطومُ درَّ المراضعِ
الوليد بن يزيد، ويحكى أنه لما ولي الخلافة جمع جماعة من أهل بيته وخاصته، فقالوا: ما تريد يا أمير المؤمنين، فقال: أنشدكم أبياتاً قلتها وهي:
أُشهدُ اللهَ والملائكةَ الأب ... رار والعابدينَ أهلَ الصلاحِ
أنَّني اشتهي السماعَ وشرب ال ... راح والعضّ في الخدودِ الملاحِ
واستماعَ الحديثِ والكاعبَ الحس ... ناءَ ترتجُّ في سموط الوشاحِ
السموط: القلائد، والوشاح: سيور تُضقر وترصع وتكون في العنق.
والنديمَ الكريمَ والخادمَ الفا ... رهَ يسعى عليَّ بالأقداحِ
ثم قال: انصرفوا إذا شئتم.
وقال آخر:
العيش عندي في ثلاث أكملت ... لفتًى يريد لذاذة الأيامِ
مال يجود به على ذي حاجةٍ ... ووصال غانيةٍ وشرب مدامِ
فإذا الفتى فقد الثلاثة كلّها ... كان الفتى كبهيمةِ الأنعامِ
وأذكرتني هذه الأبيات أبياتاً أنشدنيها محيي الدين ولم يسم قائلاً، وإن كان لا ذكر للخمر:
فالمنى صحةٌ وأمنٌ ويسرٌ ... وحبيبٌ يرضى ودهرٌ يسرُّ
فإذا ساعد الزمان بهذا ... ثمَّ ضيّعته فما لكَ عذرُ
ومثل هذا التقسيم لأهل العصر:
ما العيش إلاّ خمسة لا سادس ... لهم وإن قصرت بها الأعمارُ
زمن الربيع وشرخ أيام الصبا ... والكأس والمعشوق والدينارُ
لعبد الله بن جدعان ولا يعرف له غيرها:
شربتُ الخمر حتّى قال صحبي ... ألستَ عن السقاةِ بمستفيقِ
وحتّى ما أوسد في مبيتٍ ... أبيتُ به سوى الترب السحيقِ
وحتّى أغلق الحانوت دوني ... وآنستُ الهوانَ من الصديقِ
وقال سليمان بن علي الهاشمي:
فما زلتُ أسقيه وأشربُ فضلَه ... ويشربُ والأوتارُ ذاتُ حنينِ
إلى أنْ رأيتُ السكرَ ميّلَ رأسهُ ... على الكأسِ حتّى ذاقَها بجبينِ
وقال السريّ:
ومستطيلٍ على الصهباءِ باكرَها ... في فتيةٍ باصطباحِ الراحِ حذّاقِ
فكلُّ شيءٍ رآهُ ظنّهُ قدحاً ... وكلُّ شخصٍ رآه ظنَّه الساقي
وقال آخر:
أقبلتْ قرّة عينِ ... في يدي قرة عينِ
قمرٌ يحمل شمساً ... مرحباً بالزائرينِ
مرحباً بالراح والر ... يحان والرائحتينِ
وقال ابن الفارض، أحد شعراء العصر من الزهاد العارفين وأصحاب القلوب المكاشفين:
شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامةً ... سكرنا بها من قبلِ أن يخلق الكرْمُ
لها البدرُ كأسٌ وهي شمس يديرها ... هلالٌ وكم يبدو إذا مزجتْ نجمُ
ولولا شذاها ما اهتديتُ لحانها ... ولولا سناها ما تصوَّرها الوهمُ
ومنها:
ولو عبقتْ بالشرقِ أنفاسُ طيبها ... وفي الغربِ مزكومٌ لعادلهُ الشمُّ
تهذِّبُ أخلاقَ الندامى فيهتدي ... بها لطريقِ العزمِ من لا له عزمُ
يقولون لي صفها فأنتَ بوصفها ... عليمٌ أجل عندي بأوصافها علمُ
صفاءٌ ولا ماءٌ ولا لطفٌ ولا هوًى ... ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ
وقال محيي الدين، رحمه الله:
اقض حقّ الصبوحِ قبلَ الصباحِ ... واكسُ راحاتنا بكاسات راحِ
واجلُ جنح الدّجى بجذوةِ نارٍ ... قدحتها السقاةُ بالأقداحِ

كلّما حلّها أرتنا كيفَ مس ... رى السرورِ في الأرواحِ
من يدي مخطف المعاطف مشوق ... التثني مجدول مجرى الوشاحِ
وقال أحد الخالديين، وكان محيي الدين نظر إليه:
غادني بالصبوح قبل الصباحِ ... واجرِ في حلبةِ الصبا والمراحِ
عاطنيها كالجلّنار إذا ما ... كللت من حبابها بالأقاحِ
في اختصاص التفّاح بالطيب والحم ... رةِ لا في كنافة التفاحِ
غير نكران تستمدّ شعاع الشم ... س منها كواكب الأقداحِ
ألفتها الأجسام بالطبع لمَّا ... عرفت قربها من الأرواحِ
فتدارك بها حشاشة أفرا ... حي وحرّك بها سكون ارتياحي
بين وردين من نبات وخدٍّ ... وشرابينِ من رضابٍ وراحِ
فألذّ الحياة ما خلط العا ... قلُ فيها فسادهُ بصلاحِ
وقال محيي الدين أيضاً:
ما وجه عذرك والكؤوس تدارُ ... ضاقتْ بمن جهل الصبا الأعذارُ
سفرتْ لك اللذات واتّسعت بها ... الأوقات واجتمعتْ بها الأوطارُ
ساقٍ يسوقُ لك السرورَ ومطربٌ ... حسنُ الغناء وروضةٌ وعقارُ
أوَ ما ترى وجه الربيعِ وقد بدا ... يختالُ في حبراتهِ آذارُ
وقال الخالديان:
قامرَ بالنفسِ في هوى قمرِ ... فباعَ وصلَ البدورِ بالبدرِ
وافتضَّ أبكارَ لهوهِ طرباً ... إلى عشايا المدامِ والبكرِ
قد ضُربتْ خيمةُ الغمام لنا ... ورشَّ جيشُ النسيمِ بالمطرِ
وعندنا عاتقانِ حمراءَ كالشم ... سِ وأخرى بيضاءَ كالقمرِ
بكرانِ هذي تُزانُ بالكبرِ ال ... بادي وهذي تزانُ بالصغرِ
وقال المجد بن الظهير الحنفي الإربلي:
ومدامةٍ مثل العقيق شربتها ... والنجم في كبد السماء معلقُ
عاطيتها بدر الدجى والليل من ... وجه المدير ومن سناها يُشرقُ
في روضةٍ حسنتْ وطابَ نسيمها ... فكأنَّ مسكاً في ثراها يعبقُ
وقال أيضاً:
فاشربْ على وجه الربيع مدامةً ... قد قلِّدتْ في كأسها بجواهرِ
جُليتْ فنقَّطها المزاجُ بلؤلؤ ... متساقط من كأسهِ متناثرِ
يُغنيكَ عن ضوء النهار شعاعُها ... كالشمس في فلك السرور الدائرِ
وقال أيضاً:
لله كم من ليلةٍ عاطيته ... كأساً لها من وجنتيه لهيبُ
حمراء قابلها بوردةِ خدِّهِ ... فتشابه المشمومُ والمشروبُ
ومثل هذا رباعي:
قد طاف بها مزاجها تنسيم ... وسنان شعار طرفه التهويمُ
ما قابلها بالورد من وجنته ... إلاّ اشتبه المشروب والمشمومُ
وقال المجد أيضاً:
يا مضيّعاً زمانه بالأماني ... قم بحقّ الربيع حقّ القيامِ
واغتنمْ غفلةَ الحوادث واشربْ ... غير مستكبر لكوبٍ وجامِ
من كميت راقت ورقَّت فما ... تدرك لطفاً بالفكر والأوهام
أودعتها الدنان أيدي أناسٍ ... عتَّقوها من قبل سام وحامِ
ثم أبقت منها السنون كما أب ... قى الهوى من حشاشةِ المستهامِ
تورث الشرب نشطةً وفتوراً ... وافراً في نفوسهم والعظامِ
ذات خدٍّ مصونة العرض خفّت ... في هواها رواجح الأحلامِ
وقال أيضاً:
طاف بدر الدجى بشمس النهار ... في رياض أنيقة الأزهارِ
مشرقاتٍ يضمُّ شمل الأماني ... في رباها مفتّح النوّارِ
وأتانا بها يقدّ أديم ال ... ليل منها صوارمُ الأنوارِ
بنت كرمٍ حفّت بكاس زجاجٍ ... ثمَّ زفت بنعمة الأوتارِ
سلكت مسلك الضمير صفاءً ... فغدونا نبوحُ بالأسرارِ
جاء يسعى بها إلينا وقد خا ... طت يدُ النوم أعينَ السمّارِ
وكأنَّ النجومَ نورُ رياض ... وكأنَّ المريخَ شعلةُ نارِ
وغزال راضته لي سورة الكأ ... س وقد كان آنساً بالنفارِ
مسكر باللحاظ تحسبُ في أج ... فانِ عينيه حانةَ الخمّارِ
وقال أيضاً:
مشمولةٌ خطأ المواصل ... شربها عين الصواب
تبدو لنا في كأسها ... كالشمس في خلل السحاب
فترى النهار بنورها ... والليل مسدول الحجاب
كالماء تلمسها ولك ... ن فعلها فعل الحباب
يضحي بها المقرور وهو ... كأنَّه في شهر آبِ
البدر الدمشقي:

حمراءُ صافيةٌ كأنَّ حبابَها ... طلٌّ ترقرقَ في شقيق أحمرا
راقت ورقت منظراً ولطافةً ... وشفَت وشفّت في الكؤوس فلن ترى
خافت سيوف الماء فاتّخذت لها ... في الكأس من زرد الفواقع مِغفرا
وقال أيضاً:
فعاطني صهباء مشمولةً ... عذراء فالواشون نوّامُ
واكتم أحاديث الهوى بيننا ... ففي خلال الرّوض نمّامُ
وقلت من قصيدة في الصاحب الأعظم شمس الدين، عز نصره:
ومدامٍ جلوتها بعد وهنٍ ... فأعادتْ جنحَ الظلام نهارا
رقصت للدجى فكان حباب ال ... كأس من أنجم عليها نثارا
وأشارت إلى الكؤوس فمالت ... وإلى ساقي المدامِ فجارا
وأدار الكبير منها ونادى ... إنما يشرب الصغير الصغارا
ونديم حلو الفكاهة معشوق ... المعاني يرضيك أنَّى أشارا
ليس يعصيك ما أمرت ولا ... تلقاه يوماً في حالةٍ أمَّارا
وصريع المدام ما دارتِ الكأ ... سُ عليه إلاّ تصابي ودارا
جعل الشربَ والغناء شعارا ... ومديحي شمس الأنام شعارا
وقلت من أخرى في الصاحب الأعظم:
طاف بدر الدجى بشمس المدامِ ... بنت دنّ يفتضها ابن الغمامِ
قهوة تجلب السرور وتجلو ... بسناها المنير صبغَ الظلامِ
كلَّما شجّها المزاجُ أرتنا ... كيفَ مجرى الأرواحِ في الأجسامِ
من يدي فاتن اللواحظ معشو ... ق التثني رشيق معنى القوامِ
مثل بدر السماء لو كان للبد ... رِ عذارٌ يقيم عذر الغرامِ
ثغره لا عدمتُ رشف ثنايا ... ه وشعري كالدرّ عند النظامِ
في رياض يبوح فيها نسيم ال ... ريحِ أنَّى سرى بسرِّ الخزامِ
وكأنَّ الشقيقَ فيها خدود ... ضرّجتها قساوةُ اللوامِ
وتخالُ الأغصانَ هيفَ قدودٍ ... راقصاتٍ على غناءِ الحمامِ
ونديم مهذب الرأي مأمون ... السجايا يُصيبُ حرَّ لكلامِ
همّه والهوى هوانٌ كما قا ... ل الأولى في غلامةٍ أو غلامِ
ويحث المدام فهو صريع ... بين كأسٍ ملأى وطاسٍ وجامِ
وقال البهاء زهير المصري:
خذ فارغاً وهاتهِ ملآنا ... من قهوةٍ قد عُتِّقت أزمانا
أقلّ ما عدّ لها مالكُها ... أنْ لحقتْ ملكَ أنوشروانا
ذخيرة الراهب كي يجعلها ... إذا أتتْ أعيادهُ قربانا
مدامةٌ ما ذُكرت أوصافها ... إلاّ انثنى سامعُها سكرانا
تكاد من لألائها إذا بدتْ ... تُهدي إلى مكانها العميانا
كالنار إلاّ أنَّها ما وقدتْ ... في الكأس إلاّ أطفأت نيرانا
ما الملك الأعظم في سلطانه ... إلاّ الذي أضحى بها نشوانا
كم رفعت متّضعاً وكرمت ... مبخّلاً وشجَّعت جبانا
بتُّ أعاطيها فتاة جمعت ... لعاشقيها الحسن والإحسانا
مخضوبة البنان في يمينها ... كأس مدام تخضب البنانا
ولي نديم ماجد لا أرتضي ... عنه بديلاً كائناً من كانا
أخو فكاهات متى حاضرته ... في مجلس وجدته بستانا
حلو الأحاديث وإن غنَّاك لم ... تجدهُ في ألحانهِ لحَّانا
لا يعرف الهمّ فتًى يعرفه ... ولا يرى ندمانهُ ندمانا
ومن شعر الفلاسفة:
شربنا على الصوتِ القديمِ مدامة ... لكلّ قديمٍ أوّل هي أولُ
فلو لم تكن في حيّزٍ قلتُ إنَّها ... هي العلَّة الأولى التي لا تعللُ
آخر وأحسن:
وربَّ ليلٍ شربت فيه ... وما استفزَّني العقارُ
أجهل فيها مع الغواني ... والجهل في مثلها وقارُ
وقال آخر:
ما العيش إلاّ في زمان الصبا ... فإن تولَّى فزمان المدام
كأس إذا ما الشيخ والى بها ... خمساً تردى برداء الغلام
وقد رأيت أن أقتصر على هذا المقدار من وصف الشراب وما قيل فيه فقد ذكرت ما يقتضيه الحال، ويستحقه هذا المختصر. وها أنا أذكر ما قيل في تركه ومراعاة العقل وحراسته من عادتيه حسبما يوصيه شرطي الاختصار وبالله أستعين وعليه أتوكل.
قال الحيص بيص وهذا معنى ما أظنه سُبق إليه:
لا تضع من شريف قوم وإنْ كن ... ت مشاراً إليه بالتعظيمِ
فالشريفُ العظيمُ يصغرُ قدراً ... بالتعدي على الشريفِ العظيمِ

ولعُ الخمرِ بالعقولِ رمى الخم ... رَ بتنجيسها وبالتحريمِ
وقال مقيس بن صبابة الكناني:
تركتُ الراحَ إذ أبصرتُ رشدي ... فلستُ بعائدٍ أبداً لراحِ
أأشربُ شربةً تُزري بعقلي ... وأصبحُ ضحكةً لذوي الفلاحِ
معاذ الله أن أزري بنفسي ... ولا أشري الخسارة بالرّباحِ
قيس بن عاصم:
وجدتُ الخمر معصية وحوبا ... تفيد الجهل والشين العظيما
فلا والله أشربها صحيحاً ... ولا أشفى بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ... ولا أدعو لها أبداً نديما
إذا دارت حميّاها تبدَّت ... طوالع تسفه الرجل الحليما
وقال آخر:
تركتُ الشرابَ وشُرَّابه ... وصرتُ خديناً لمن عابَه
شراباً يضلُّ سبيلَ الرشادِ ... ويفتحُ للشرِّ أبوابهُ
وقال آخر:
لعمرك أنّ الخمر ما دمت شارباً ... لمذهبة مالي وسالبتي عقلي
وتاركتي مثل الضعاف قواهم ... ومجشمتي حربَ الصديقِ بلا ذحلِ
آخر:
لم أترك الراحَ من زهدٍ تجدّد لي ... فيها ولا أنّ قلبي ليس يهواها
لكن رأيت نداماها ذوي سفهٍ ... فنهنهتْ شُربي عنها نداماها
أبو نواس:
أنت يا ابن الربيع علمتني الخي ... رَ وعودتنيه والخيرُ عادهْ
فارعوى باطلي وراجعني الحل ... م وأحدثتُ رهبةً وزهادهْ
لو تراني ذكرت بي الحسن البص ... ري في حال نسكه أو قتادهْ
المسابيح في يميني والمص ... حف في لبّتي مكان القلادهْ
فإذا شئتَ أن ترى طرفةً تع ... جبُ منها طريفةً مستفادهْ
فادعُ بي لا عدمتَ تقويم مثلي ... وتأمَّل بعينك السجَّادهْ
ترى أثراً من الشحوب بجسمي ... توقن النفس أنه من عبادهْ
من صلاةٍ أديمها بخشوعٍ ... واصفرار مثل اصفرار الجرادهْ
ولقد طالما شقيتُ ولكن ... أدركتني على يديك السعادهْ
وقال آخر وقد تاب وعاد إلى الشرب:
قد كنتُ تبتُ عن الشراب فلم أجد ... أحداً من الأخوان إلاّ يشربُ
فحلفتُ لا أدع الشرابَ ولا أُرى ... إلاّ إلى أصحابه أتقرّبُ
ما من صديقٍ منذ كانت توبتي ... إلاّ تجنبني كأنِّي أجربُ
ويقولُ بعضهم لبعضٍ تائبٌ ... إنْ كنتُ تبتُ فقد رجعتُ فجرّبوا
وقال آخر:
تركتُ الشراب سوى شربةٍ ... إذا ما أكلتُ تحطّ الطعاما
فتلك وأخرى بها شربتي ... وقد كنتُ أشرب زقّاً تماما
وقال ابن المقفع:
سأشرب ما شربت على طعامي ... ثلاثاً ثمَّ أتركه صحيحا
فلست بقارف منه آثاماً ... ولستُ براكب فيه قبيحا
وقد أحسن ابن وهيب في وصف ساقٍ:
وساقيةٍ من الأشباهِ ... مضروب بها المثلُ
إذا مالت إلى الإبري ... ق جاذب خصرها الكفلُ
تلاحظني مخالسةً ... إذا سنحت لها العللُ
وتجرحني وأجرحها ... ويفصل بيننا الخجلُ
آخر:
وأحلى العالمين مذاق ريح ... أصار إليّ عذباً مستطابا
أصاب شبيهه في كلّ فنٍّ ... صفاءً ثمَّ نشراً والتهابا
ولم يكن الشراب كذا لذيذاً ... ولكن طابَ حاملهُ فطابا
وقال أبو الشيص:
كأنَّ اطّرادَ الماءِ في جنباتها ... ترددُ ماءِ الدرِّ في شبكِ الذهبْ
سقاني بها والليلُ قد شابَ رأسهُ ... غزالٌ بحنّاءِ الزجاجةِ مختضبْ
العطوي في تخيّر النديم:
يقولون قبلَ الدارِ جارٌ مجاورٌ ... وقبلَ الطريقِ النهجِ أُنسُ رفيقِ
فقلت وندمانُ الفتى قبل كأسهِ ... وما حثَّ كأسَ المرِ مثلُ صديقِ
آخر:
وما أنا للندمان في الشرب مكرهٌ ... على الكأس يأباها ولا قائل هُجرا
ولكنني مما أقول له اشربَنْ ... هواك ودع ما خفت من شربهِ الضرا
وأفديه تارات بنفسي ووالدي ... وأجعل ما أهوى لما فاته سترا
وإن ردّ فضلاً في الإناء شربته ... ولم أسقه كرهاً لأصرعه سُكرا
وإن نام لم يوقظ وإن قام لم يُرم ... وإن قال لي يا صاح لبيته عشرا
أرى ذاك حقّاً للنديم وإنني ... لأحفظه سرّاً وأحفظه جهرا
وقال أبو نواس:
ولست بقائل لنديم صدقٍ ... وقد أخذ الشراب بوجنتيه

تناولها وإلا لم أذقها ... فيشربها وقد ثقلت عليه
ولكنِّي أصدّ الكأس عنه ... وأصرفها بغمزة حاجبيه
وإن مُدّ الوساد لنوم سكرٍ ... مددت وسادتي أيضاً إليه
العطوي يحث على الشرب بكرةً:
لعنَ اللهُ أول الناس سنّ الش ... ربَ ظهراً وما أتى من خسارِ
إنَّ شربَ الشراب سير إلى اللهو ... و خير المسير صدرُ النهارِ
آخر:
نبهت ندماني فهبُّوا ... قبل الصباح لما استحبوا
هذا أجاب وذا أثا ... بَ إلى الصبوح وذاك يحبو
أنشدتهم شعراً يعلّ ... مُ ذا التصابي كيف يصبو
ما العيش إلاّ أن تح ... بّ وأن يحبّك من تحبُّ
فتطربوا والأريحي ... ة شأنها طربٌ وشربُ
ولقد شربت مدامةً ... وكأنَّها قبس تشبُّ
ولقد جريت مع الزما ... نِ فما كبوتُ وكان يكبو
وممن ذكر الغبوق بعضهم:
قد تولَّى النهار واستقبل الليلُ ... خليليّ فاشربا واسقياني
قهوةً تترك الفقير غنيّاً ... حسن الظنّ واثقاً بالزمانِ
وقال آخر في إقامة عذر نديمه:
ولستُ بلاحٍ لي نديمي بزلّةٍ ... ولا هفوةٍ كانت ونحن على الخمرِ
عركتُ بجنبي قول خدني وصاحبي ... ونحن على صهباءَ طيبةِ النشرِ
فلما تمادى قلتُ خذها عريقةً ... فإنّك من قوم جحاجحة زهرِ
وما زلتُ أسقيه وأشربُ مثلما ... سقيتُ أخي حتّى بدا وضح الفجرِ
وأيقنتُ أنّ السكر طار بلبِّه ... فأغرق في شتمي وقال وما يدري

وصف الغناء
وما يتعلق به
قال أبو نواس:
لا أرحلُ الكاسَ إلاّ أن يكون لها ... حادٍ بمنتحلِ الألحانِ غرِّيدُ
فاستنطقِ العودَ قد طال السكوتُ به ... لا ينطقُ اللهو حتّى ينطقَ العودُ
يعجبني قول القائل:
وعود لهو فيه أثمار المنى ... قد طابَ جانيه وطابَ الغارسُ
غنّت عليه الورقُ وهو ناضرٌ ... والغانياتُ الغيدُ وهو يابسُ
أنشد ابن الخباز النحوي في مثل هذا المعنى:
وطنبورٍ رشيق القدّ يحكي ... بنغمته الفصيحةِ عندليبا
حكى لما انتهى نغماً فصيحاً ... رواها عن عنادله قضيبا
كذا من جالسَ العلماءَ طفلاً ... يكونُ إذا انتهى شيخاً أديبا
كشاجم:
ولما عبثنَ بعيدانهنّ ... قبيل التبلُّج أيقظنني
أردنَ بذاكَ إصلاحهنَّ ... فأصلحنهنَّ وأفسدنني
وقال بعض المحدثين:
أخٌ ما يزالُ الدهرُ يكسوك حلّةً ... من البرّ لا تبلى على الطيّ والنشرِ
يشوقك أحياناً غناءً وتارةً ... حديثاً معانيه أدق من السحرِ
له نبرات تطرب الصمّ لو دعا ... بها الوحش لانقادت من السهل والوعرِ
وقال آخر:
إذا ما فاتن غنّت بصوتٍ ... ترجّعه فويل للجيوبِ
غناء تجتني الأسماع منه ... ثماراً تجتني ثمر القلوبِ
وأحسن من هذا جميعه قول القيسرانيّ في مغنٍّ وجماعة يرقصون:
والله لو أنصف الأقوام أنفسهم ... أعطوك ما ادخروا منها وما صانوا
ما أنت حين تغنّي في مجالسهم ... إلاّ نسيمُ صبا والقومُ أغصانُ
وقد ظرف القائل:
بيضاءُ يحضر طيب العيش ما حضرت ... وإن نأت غاب عنك اللهوُ والفرحُ
كلّ الثياب عليها معرضٌ حسنٌ ... وكلما تتغنى فهو مقترحُ
المعرض: ثياب تجلى فيها الجواري.
وقال آخر:
لريّا غناءٌ إذا ما شدتْ ... تميتُ قلوباً وتحيي قلوبا
تغنيكَ أوتارها قبلها ... فتتركُ ذا الشوق صبّاً طروبا
أرقُّ من الماءِ ماءِ الزلالِ ... وأشهى من الراحِ حسناً وطيبا
وأنعمُ من لذَّةِ العاشقين ... إذا ما أطاعَ حبيبٌ حبيبا
وقال آخر:
عيداننا من خير ما تسمع ... يشفى بها ذو السقم الموجعُ
أوتارها تنطق حتّى ترى ... أجفان ذي الشوق لها تدمعُ
لقد تمنيتُ لها أنّ لي ... في كل عضوٍ أذناً تسمعُ
الناجم:
ما تغنّت إلاّ تكشّفَ همٌّ ... عن فؤادٍ وأقشعتْ أحزانُ
تفضل المسمعين طيباً وحذقاً ... مثل ما يفضل السماعَ العيانُ
وقال أيضاً:
لقد برعت عاتبٌ في الغناء ... وزادت وأربت على البارعِ

يسبّحُ سامعها معجباً ... فأصواتها سبحةُ السامعِ
وقال آخر:
إذا ما حنّ مزهرها إليها ... وحنّت نحوه أذنَ الكرامُ
وأصغوا نحوها الآذان حتّى ... كأنهم وما ناموا نيامُ
وقال آخر يصف عوداً في حجر مغنية:
وكأنه في حجرها ولدٌ لها ... ضمّته بين ترائب وليانِ
أبداً تدغدغ بطنه فإذا هفا ... عركت له أذناً من الآذانِ
وقال ابن المعتز:
وندامايَ فتيةٌ وكهولٌ ... أتلفت ما لهمْ نفوسٌ كرامُ
بينَ أقداحهم حديثٌ قصيرٌ ... هو سحرٌ وما عداهُ كلامُ
وغناء يستعجلُ الراحَ بالرا ... حِ كما ناحَ في الغصونِ الحمامُ
وكأنَّ السُّقاةَ بينَ الندامى ... ألفاتٌ على سطورٍ قيامُ
وقال آخر:
شدوٌ ألذُّ من ابتدا ... ءِ العينِ في إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفسي وصدقِ رجائها
وقال:
إذا احتضنت عودها عاتبٌ ... وناغته أحسن أن يعربا
تدغدغ في مهل بطنه ... فيسمعنا ضحكاً معجبا
وقال:
إذا نوتِ الضرب قبل الغناء ... أنشدنا شعرها عودها
وقال كشاجم:
وترى لها عوداً تحرّكهُ ... وكلامه وكلامها وفقا
لو لم تحرّكه أناملها ... كانَ الهواءُ يفيدهُ نطقا
جسّته عالمةً بحالته ... جسَّ الطبيبِ لمدنفٍ عرقا
فحسبتُ يمناها تحركها ... رعداً وخلتُ يسارها برقا
وقال:
أشتهي في الغناءِ بحةَ حلقٍ ... ناعم الصوتِ متعبٍ مكدودِ
كأنينِ المحبِّ أضعفهُ الشو ... قُ فضاهى به أنينَ العودِ
كهبوبِ الصبا توسّطَ حالاً ... بينَ حالينِ شدةٍ وركودِ
ابن الرومي:
تتغنّى كأنَّها لا تغنّي ... من سكونِ الأوصالِ وهي تجيدُ
مدَّ في شأوِ صوتها نفسٌ ... كافٍ كأنفاس عاشقيها مديدُ
قيل لرجل: أي المغنين أحذق؟ فقال: ابن سريح كأنه خلق من كل قلب، فهو يغني لكل إنسان ما يشتهيه، نظمه ابن الرومي فقال:
كأنه قالب لكلّ هوًى ... فكلّهُ والمنى على قدرِ
قال بعض الملوك لجليس له: صف لي هاتين المغنيتين، فقال: هما كالعينين أيهما فتحت أبصرت بها.
وقال بعض الحكماء: إذا وقع في يدك يوم السرور فلا تخله فإنك إذا وقعت في يوم الغم لم يخلك.
ومن النادر في هذا:
جاءت بوجهٍ كأنَّهُ قمرٌ ... على قوام كأنهُ غصنُ
غنّتْ فلم تبقَ فيّ جارحةٌ ... إلاّ تمنّتْ أنها أذنُ
وقال آخر:
ومطربٌ صوته وفوهُ ... قد جمعا الطيباتِ طرّا
لو لم يكن صوتهُ بديعاً ... ما ملأ الله فاه درّا
ومما قيل في الرقص:
إذا اختلسَ الخطا واهتزَّ ليناً ... رأيتَ لرقصهِ سحراً مبينا
يمس الأرضَ من قدميه وهنٌ ... كرجعِ الطرفِ يخفى أن يبينا
ترى الحركاتِ منه بلا سكونٍ ... فتحسبها لخفتها سكونا
رويَ أن أبا مليكة بينا يؤذن إذ سمع الأخضر الجدي يغني من دار العاص بن وائل:
تعلّقتُ ليلى وهي ذاتُ ذوائب ... ولم يبدُ للأترابِ من ثديها حجمُ
صغيرينِ نرعى البهمَ يا ليتَ أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
فأراد أن يقول حيّ على الصلاة، فقال: حي على البهم حتّى سمعها أهل مكة فغدا معتذراً إليهم.
قال إبراهيم الموصلي: كان عندنا مغنّ يغني بنصف درهم ولا يسكت إلاّ بدرهم.
وقال رجل لآخر: غنني صوت كذا وبعده صوت كذا، فقال: أراك لا تقترح صوتاً إلاّ بوليّ عهد.
وقال الناجم:
تأتي أغاني عاتبٍ ... أبداً بأفراح النفوس
تشدو فنرقص بالرؤوس ... لها ونزمر بالكؤوس
قال أبو عثمان الناجم: بحوحة الحلق الطيب تشبه مرض الأجفان الفاترة.

قال مالك بن أبي السمح: سألت ابن سريح عن قول الناس: فلان يصيب وفلان يخطئ وفلان يحسن وفلان يسيء، فقال: المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدّل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النبرات، ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النقرات، فعرضت ما قال على معبدٍ، فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلاّ هكذا، وقال الناجم:
لها غناءٌ كالبرءِ في جسدٍ ... أضناه طول السّقام والترحِ
يعبدها الراح كلما صدحتْ ... إبريقها ساجد على القدحِ
حدّث أحمد بن يزيد عن أبيه، قال: كنا عند المنتصر بالله فغناه بنان:
يا ربّة المنزل بالفرك ... وربّة السلطان والملكِ
تحرّجي بالله من قتلنا ... لسنا من الديلم والتركِ
فضحكت، فقال: مم ضحكت، قلت تعجباً من شرف قائل هذا الشعر وشرف من لحنه وشرف مستمعه، الشعر للرشيد، والغناء لعليّة وأمير المؤمنين مستمعه، فأعجبه واستعاده.
وأنشدت في ذمّ مغنّ:
ومغنٍّ إذا تغنّى بلحنٍ ... أورثَ السامعين داءً عضالا
سامنا خلعةً فقمنا إليه ... وخلعنا على قفاه النعالا
آخر:
ومسمعٍ قوله بالكرهِ مسموع ... محجّبٌ عن بيوت الناس ممنوع
غنّى فبرّق عينيه وحرّك لح ... ييه فقلت الفتى لا شك مصروعُ
وقطع الشعر حتّى ودّ أكثرنا ... أن اللسان الذي في فيه مقطوعُ
لم يأتِ دعوة أقوام بأمرهم ... ولا مضى قطّ إلاّ وهو مصفوعُ
وقال آخر:
كنتُ في مجلس فقال مغني ... القوم كم بيننا وبين الشتاءِ
فشربتُ البساط منّي إليه ... قلتُ هذا المقدارُ وقتَ الغناءِ
وقال آخر:
غنّتْ فلم تبقَ لنا جبّةٌ ... دفيّةٌ إلاّ لبسناها
فلو ترانا لو نرى جمرةً ... من شدّةِ البرد أكلناها
فقال بعض القوم كفّي فلم ... تقبل فقمنا وتركناها
آخر:
تغنّى فلان لنا ليلةً ... وكان إلينا بغيضاً مقيتا
وقال اقترح بعض ما تشتهي ... فقلتُ اقترحت عليك السكوتا
آخر:
خارج ليس يدخل الضربَ والضر ... بُ له بالسيوف في الإيقاعِ
وقال آخر:
غناؤك والشتم عندي سواءُ ... وصمتكَ من كلّ داءٍ دواءُ
فإن شئتَ غنّ فأنتَ السقامُ ... وإن شئتَ فاسكتْ فأنتَ الشفاءُ
وقال الصنوبري يهجو زامرة سوداء:
وكأنّما المزمارُ في أشداقها ... غرمولُ عيرٍ في حياءِ أتانِ
وترى أناملها على مزمارها ... كخنافسٍ دبَّتْ على ثعبانِ
آخر:
شهدتُ أبا الفضل في مجلسٍ ... وقد نبهونا لشرب الغلسْ
فغنّى غناءً له بارداً ... فأرعدَ بعضٌ وبعضٌ نعسْ
فقال انتخب واقترح ما تشاء ... فقلتُ اقترحتُ عليكَ الخرسْ
وقال آخر:
ومغنّ إن تغنّى ... أفسدَ الندمان غمّا
أحسن الندمان حالاً ... كلّ من كانَ أصمّا

وصف في الربيع وأزهاره
وما يلازمه من نعت أنهاره وتغريد أطياره وصوت بلبله وهزاره.

أقول: إن الربيع حياة النفوس، وبشر الزمن العبوس، وواسطة عقد الدهر، وغرة جبهة العصر، وطبع الحياة ورونق العمر ونزهة النواظر والقلوب والمشبه بصفة المحبوب، فيه تأخذ الأرض بهجة زينتها وزخارفها، وتبرز في حللها الأنيقة ومطارفها، وتجلي في ملابسها السندسية، وتضوع الآفاق بنفحاتها المسكية الذكية، وفيه بعث النبات ونشوره ونضارة العيش ونوره، كلما بسمت ثغوره بكى الغمام، ومتى رقصت غصونه غنى لها الحمام، ومتى انتظم نواره فاق اللآلئ في النظام، فكأن أغصانه هيف قدود تتعاطى ميلاً وتأوداً، وكأن شقيقه خدود زادها العتب نضارة وتورداً، وكأن نرجسه عيون ينفث سحرها في العقد، وكأن أقاحه ثغور تفتر عن طلع كالبرد، وقد جالت دموع الطل في وجنات ورده الجني، ولاح بنفسجه كالعذار في حسن الرواء ونضارة الري، وقد باح نسيمه بسر الخزام ونبه أطياره نشر القداح والنمام، قد اتخذت من عذبات الأغصان منابر، وأغنت عن أصوات العيدان والمزاهر، اعتدل فيه عمر الليل والنهار، وأشبهت أرضه السماء بنجوم الأزهار، فكأن الأرض فيه مرآة صقلتها يد الأنواء، فانطبعت في جرمها صور كواكب السماء.
وقد وصفه الشعراء فأحسنوا في أوصافه وبالغوا في نعوت مجالسه وألطافه.
وها أنا أذكر ما جرت عادتي بذكر مثله في هذا المختصر، وبالله جلت عظمته أستعين وعليه أتوكل.
قال الأعشى في وصف امرأة، قال أبو عبيدة ولم يقل في الروض أحسن من هذه الأبيات:
ما روضةٌ من رياضِ الحزنِ معشبةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مسبلٌ هطلُ
يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزّرٌ بعميم النبتِ مكتهلُ
يوماً بأطيبَ منها نشرَ رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذْ دنا الأصلُ
وقال عبد الله بن المعتز:
ما مثل منزلةِ الدُّويرةِ منزلٍ ... يا دارُ جادكِ وابلٌ فسقاكِ
بؤسي لدهرٍ غيّرتكِ صروفهُ ... لم يمحُ من قلبي الهوى ومحاكِ
لم يحلُ للعينينِ بعدكِ منظرٌ ... ذمَّ المنازلُ كلهنَّ سواكِ
أيُّ المعاهدِ منكِ أندبُ طيبة ... ممساكِ ذا الآصالِ أمْ مغداكِ
أمْ برد ظلكِ ذي الغصونِ وذي الجنى ... أم أرضكِ الميثاءَ أم رياكِ
وكأنَّما سطعتْ مجامرُ عنبرٍ ... أوْ فُتَّ فأرُ المسكِ فوقَ ثراكِ
وكأنَّما حصباءُ أرضكِ جوهرٌ ... وكأنَّ ماءَ الوردِ قطرُ نداكِ
وكأنما أيدي الربيع نديّةً ... نشرتْ ثيابَ الوشي فوقَ رباكِ
وكأنَّ درعاً مُفرغاً من فضةٍ ... ماءُ الغديرِ جرتْ عليه صباكِ
وقال يصف الروض:
قد أغتدي على الجيادِ الضمّرِ ... والنجمُ في طرّةِ صبحٍ مسفرِ
كأنهُ غرَّة مهرٍ أشقرِ ... والوحشُ في أوطانها لم تنفرِ
والليلُ معسولٌ بلبلٍ ممطرِ ... كالعصبِ أو كالوشي أو كالجوهرِ
من أبيضٍ وأصفرٍ وأحمرِ ... والأرضُ ريَّا ذاتُ عودٍ أخضرِ
ملتحف بالورقِ المنتشرِ ... فيه الندى مستوقف لم يقطرِ
كدمعةٍ حائرةٍ في محجرِ
وقال البحتري:
أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً ... من الحسنِ حتّى كادَ أنْ يتكلَّما
وقد نبَّه النيروزُ في غسقِ الدجى ... أوائلَ وردٍ كنَّ بالأمسِ نوَّما
يُفتِّحه بردُ الندى فكأنه ... يبثُّ حديثاً كانَ قبلُ مكتَّما
ومن شجرٍ ردَّ الربيعُ لباسَه ... عليه كما نشرتْ وشياً منمنما
أحلّ فأبدى للعيونِ بشاشةً ... وكانَ قذًى للعينِ إذ كان مُحرما
وقال ابن الرومي:
ورياضٍ تخايلُ الأرضُ فيها ... خيلاءَ الفتاةِ في الأبرادِ
ذات وشيٍ تكلفته سوارٍ ... لبقاتٌ تحوكها وغوادي
شكرتْ نعمةَ الوليِّ على الوس ... مي ثم العهاد بعد العهادِ
فهي تثني على السماءِ ثناءً ... طيّب النشر شائعاً في البلادِ
بنسيم كأنَّ مسراه في الأرْ ... واح مسرى الأرواح في الأجسادِ
تتداعى فيها حمائم شتَّى ... كالبواكي وكالقيان الشوادي
وقال أبو هلال العسكري:
وروضةٍ حاليةِ الصدورِ ... كاسيةِ البطونِ والظهورِ
شقائق كناظرِ المخمورِ ... وأقحوان كثغور الحورِ
ونرجس كأنجم الديجورِ ... والطلّ منثورٌ على المنثورِ

يرصّعُ الياقوت بالبلورِ
وقال آخر:
وروضٍ ناضرٍ قد أضحكته ... شآبيبُ السحائبِ بالبكاءِ
كأنَّ شقائقَ النعمانِ فيه ... ثيابٌ قد روينَ من الدماءِ
وقال ابن المعتز:
كأنَّ عيونَ النرجسِ الغضِّ بيننا ... مداهنُ درٍّ حشوهنَّ عقيقُ
إذا بلّهنَّ القطرُ خلتَ دموعَها ... دموعَ عيونٍ كحلهنَّ خلوقُ
وقال أيضاً:
ظللتُ بملهى حرّ يومٍ وليلةٍ ... تدورُ عليَّ الكاسُ في فتيةٍ زهرِ
لدى نرجسٍ غضٍّ وسروٍ كأنَّه ... قدودُ جوارٍ رحنَ في أُزرٍ خضرِ
وكتب إلي شخص بيتين للمغاربة في تفضيل الورد على النرجس وهما:
من فضَّل النرجس في حلمه ... وهو على الورد الذي يرأسُ
أما ترى الورد غدا قاعداً ... وقامَ في خدمته النرجسُ
وطلب أن أعكس المعنى وأفضل النرجس فقلت بديهاً:
لم يكن الوردُ كما أخبروا ... واعتقدوا في جهلهم قاعدا
لكن رأى النرجس لمَّا بدا ... فخرَّ من هيبته ساجدا
وقلت أيضاً بديهاً:
النرجس الغضّ له حشمةٌ ... مكتومةٌ لكنها تُعلمُ
يقوم في الخدمةِ من فضله ... وسيّد القوم الذي يخدمُ
وكلفت المعين إبراهيم بن المحتسب الإربلي أن يعمل فقال:
إنْ أشبهَ الجوريُّ يوماً أعيناً ... في حسنها يستهتر العشاقُ
فالنرجسُ الغضُّ المضاعفُ سابقٌ ... ومواددٌ فلودّه يُشتاقُ
ما قيمة الوجه المدلّ بحسنه ... إنْ لم تزنه بحسنها الأحداقُ
فقلت: يا أخي يقول لك الخصم وما قيمة الأحداق إذا لم يزنها وجه مدل بحسنه فما أعاد جواباً.
وقال آخر:
سقياً لأرضٍ إذا ما نمتُ نبَّهني ... بعد الهدوّ بها قرعُ النواقيسِ
كأنَّ سوسنها في كلِّ شارقةٍ ... على الميادين أذنابُ الطواويسِ
وقال سعيد بن حميد:
وترى الغصون إذا الرياح تنسَّمت ... ملتفَّةً كتعانقِ الأحبابِ
وله في وصف السرو:
فكأنَّها والريحُ يخطرُ بينها ... تنوي التعانقَ ثم يمنعها الخجلُ
وفي الدولاب:
سقى الرياض وغنَّاها فأغصنُها ... سكرى ترنّح من شربٍ وتطريبِ
وقال ابن المعتز:
ظللتُ بها أُسقى سلافةَ بابلٍ ... بكفِّ غزالٍ ذي جفونٍ صوائدِ
على جدولٍ ريَّان لا يكتمُ القذى ... كأنَّ سواقيهِ متونُ المبادرِ
وللمغاربة فيه:
ومطّرد الأجزاء تصقل متنه ... صبا أبرزت للعين ما في ضميرهِ
جريح بأطراف الحشا كلما جرى ... عليها شكا أوجاعَه في خريرهِ
وقد أحسن القائل ما شاء في وصف واد:
وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ ... وقاه تضاعف النبتِ العميمِ
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيمِ
وأرشفناعلى ظمأٍ زلالاً ... ألذّ من المدامة للنديمِ
يروع حصاهُ حاليةَ العذارى ... فتلمس جانبَ العقدِ النظيمِ
يصدُّ الشمس أنَّى واجهتنا ... فيحجبها ويأذنُ للنسيمِ
وقد أبدع الجدلي في قوله وأجاد:
لدى أقحوانات حُففنَ بناصعٍ ... من الورد مخضر الغصون نضيدِ
تميلها أيدي الصبا فكأنَّها ... ثغورٌ هوتْ شوقاً لِعَضّ خدودِ
وقال السيد الرضي:
ونيلوفرٍ صافحتهُ الرياحُ ... وعانقهُ الماءُ صفواً ورنْقا
تخيلُ أوراقهُ في الغديرِ ... كألسنةِ النارِ حمراً وزرقا
وقال آخر:
وكأنَّ البنفسج الغضّ يحكي ... أثرَ اللطمِ في الخدودِ الغيدِ
وقال آخر:
إنَّ البنفسجَ ترتاحُ القلوبُ له ... ويعجزُ الوصفُ عن تحديدِ معجبهِ
أوراقُه شُعل الكبريت منظرها ... وريحه عنبرٌ تُحيا القلوبُ بهِ
وقال عبد الصمد بن المعذل:
ونازعني كأساً كأنَّ رضابها ... دموعي لمَّا صدَّ عن مقلتي غمضي
عشيةَ حيَّاني بوردٍ كأنهُ ... خدودٌ أُضيفتْ بعضهنَّ إلى بعضِ
وولَّى وفعلُ الكأسِ في حركاتهِ ... من السُّكر فعل الريح بالغصنِ الغضِّ
وقال علي بن الجهم:
ما أخطأ الوردُ منكَ لوناً ... وطيبَ ريحٍ ولا ملالا
وقام حتّى إذا أنِسنا ... بقربهِ أسرعَ انتقالا
وله فيه:
زائرٌ يُهدي إلينا ... نفسَه في كلّ عامِ

حسنُ الوجهِ ذكيُّ الرِّ ... يحِ إلفٌ للمدامِ
عمرهُ عشرون يوماً ... ثمَّ يمشي بسلامِ
وله أيضاً:
لم يضحكِ الورد إلاّ حينَ أعجبهُ ... حسنُ الرياضِ وصوتُ الطائرِ الغردِ
بدا فأبدتْ له الدنيا محاسنها ... وراحتِ الريحُ في أثوابها الجددِ
وباشرتهُ يدُ المشتاقِ تسندهُ ... إلى الترائبِ والأحشاء والكبدِ
بينَ النديمينِ والخلِّينِ مصرعهُ ... وسيرهُ من يدٍ موصولةٍ بيدِ
ما قابلتْ قضبُ الريحانِ طلعتهُ ... إلاّ تبيَّنتْ فيها ذلَّةَ الحسدِ
قامتْ بحجَّته ريحٌ معطرةٌ ... تجلو القلوبَ من الأوصابِ والكمدِ
لا عذَّب اللهُ إلاّ منْ يعذَّبهُ ... بمسمعٍ باردٍ أو صاحبٍ نكدِ
وقال السروي:
مررنا على الروضِ الذي طلّه الندى ... سُحيراً وأوداجُ الأباريقِ تُسفكُ
فلم أرَ شيئاً كانَ أحسنَ منظراً ... من الروضِ يجري دمعهُ وهو يضحكُ
الأخيطل:
الآن عادت وجوه الأرض لابسةً ... روضاً يميس من الأنوارِ في حللِ
مدَّ الربيعُ عليها من ملابسه ... وشياً وشايعه للعارض الهطلِ
أما ترى قضبَ الريحان حاملةً ... من الزبرجد عقداً غير متصلِ
تنقادُ من نعمةٍ أعناقها فإذا ... جرى النسيمُ بها استهوتْ من الميلِ
تُمسي إذا ما سقيطُ الطلِّ ألقحها ... مطويّة وهي أبكارٌ على جبلِ
جحظة:
أما ترى أعينَ النوارِ ناظرةً ... ترنو إليك بأحداقٍ وأجفانِ
والأرضُ في حللٍ من أمرِها عجب ... ليست بصيغةِ إنسيّ ولا جانِ
حاكَ السحابُ لها ثوباً وألحمه ... نوعين من لؤلؤ رطب ومرجان
وقال ابن المعتز:
ما ترى نعمةَ السماءِ على الأر ... ضِ وشكرَ الرياضِ للأمطارِ
وكأنَّ الربيعَ يجلو عروساً ... وكأنَّا من قطره في نثارِ
وقال البحتري:
أمّا الرياضُ فقد بدتْ ألوانُها ... صاغتْ حليَّ فنونها أفنانُها
دقَّت معانيها ورقَّ نسيمُها ... وبدتْ محاسنها وطابَ زمانُها
الصنوبري:
ما الدهرُ إلاّ الربيعُ المستنيرُ إذا ... أتى الربيعُ أتاكَ النّورُ والنُورُ
فالأرضُ فيروزجٌ والجوُّ لؤلؤةٌ ... والروضُ ياقوتةٌ والماءُ بلّورُ
أحمد العلوي:
في رياضٍ تخالُ نرجسها الغ ... ض عيوناً رواني الأحداقِ
ناظرات كأنَّما الطلُّ فيه ... ن دموعٌ تحيّرتْ في المآقي
وتخالُ الغصونَ عند تلاقيها ... تحاكي تعانقَ العشّاقِ
آخر، وهو الكندي:
أهدى الحيا للورد في وجناته ... خجلاً وزاد الياسمين غراما
وتشققت قمص الشقيق فخلته ... في الروضِ كاساتٍ مُلئنَ مداما
آخر:
الورد أحسن منظرٍ ... تتمتع الأبصار منه
فإذا تصرّم وقته ... أتت الخدودُ تنوبُ عنه
وقال أبو هلال العسكري:
أتاه بريدُ المزن ينشده الصبا ... فدوَّم من أعلى رُباه وديّما
ولاحَ إليه بالبروقِ مطرزاً ... فأصبحَ منها بالزواهرِ معلما
القاضي التنوخي:
أما ترى الروض قد وافاك مبتسماً ... ومدَّ نحو الندامى للسلام يدا
فأخضرٌ ناضرٌ في أبيضٍ يققٍ ... واصفر فاقعٌ في أحمرٍ نضدا
مثل الرقيب بدا للعاشقين ضحًى ... فاحمرَّ ذا خجلاً واصفرَّ ذا كمدا
وفي الورد الموجّه:
وردةُ بستانٍ لها رونقٌ ... زِينتْ من الحسنِ بنوعينِ
باطنها من لبّ ياقوتةٍ ... وظهرها من ذهبٍ عينِ
كأنَّا خدّي على خدّه ... لمَّا اعتنقنا غدوةَ البينِ
السري الرَّفَّاء:
وجناتِ تحيي الشربَ وهناً ... جنى وهداتها وجنى رُباها
إذا ركد الهواء جرت نسيماً ... وإن طاح الغمام طفت مياها
يفرّج وشيها غمّاءَ وردٍ ... يفيضُ على لآلئ من حصاها
ويأبى زهرها إلاّ هجوعاً ... ويأبى عرفُها إلاّ انتباها
البحتري:
قطراتٌ من السحابِ وروضٌ ... نثرتْ وردَها عليه الخدودُ
فالرياحُ التي تهبُّ نسيمٌ ... والنجومُ التي تطلُّ سعودُ
وقال أيضاً:
ولا زالَ مخضرٌّ من الروضِ يانعٌ ... عليه بمحمرٍّ من النورِ جاسدِ

يذكِّرنا ريَّا الأحبةِ كلما ... تنَّفس في جنحٍ من الليلِ باردِ
شقائقُ يحملنَ الندى وكأنَّها ... دموعُ التصابي في خدودِ الخرائدِ
ومثل هذا قول ابن الرومي:
لو كنتَ يوم الوداع حاضرنا ... وهنَّ يطفين غلّةَ الوجدِ
لم ترَ إلاّ الدموع سائلةً ... تقطرُ من مقلةٍ على خدِّ
كأنَّ تلك الدموع قطر ندى ... تقطرُ من نرجس على وردِ
والبيت الثالث أردتُ، ومثله:
كأنَّ الدموع على خدِّها ... بقيّة طلّ على جلّنار
ومثله أيضاً، ولم يذكر الندى:
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت ... ورداً وعضَّت على العنّاب بالبردِ
وقال أبو نواس:
لنا نرجسٌ غضُّ القطافِ كأنَّه ... إذا ما منحناهُ العيونَ عيونُ
مخالفةٌ في شكلهنَّ فصفرةٌ ... مكانَ سوادٍ والبياضُ جفونُ
وقال أبو هلال العسكري في الورد:
مرّ بنا يهتزّ في خطوهِ ... ما بينَ أغصانٍ وأقمارِ
يدير في أنملهِ وردةً ... جاءتْ عن المسكِ بأخبارِ
يلوحُ في حمرتِها صفرةٌ ... كالخدِّ منقوطاً بدينارِ
وقال ابن المعتز:
ولازورديّةٍ أوفتْ بزرقتِها ... بينَ الرياضِ على زوقِ اليواقيتِ
كأنَّها بين طاقاتٍ ضعفنَ بها ... أوائلُ النارِ في أطرافِ كبريتِ
ابن الرومي:
اشرب على زهر البنفس ... ج قبل تأنيب الحسودِ
فكأنما أوراقهُ ... آثارُ قرصٍ في الخدودِ
السري الرفاء:
أما ترى الوردَ قد باحَ الربيعُ به ... من بعدِ ما مرَّ حولٌ وهو إضمارُ
وكانَ في خلعٍ خضرٍ قد خُلعتْ ... إلاّ عرًى أُغفلتْ منه وأزرارُ
وقال آخر في روضة وأحسن:
بكين فأضحكنَ الثرى عن زخارفٍ ... من الروضِ عنهنَّ الندى متهايلُ
ترى قضبَ الياقوتِ تحتَ زبرجدٍ ... تنوءُ به أعناقهنَّ الموائلُ
تلقحها الأنداءُ ليلاً بريقها ... فيصبحنَ أبكاراً وهنَّ حواملُ
ولأبي هلال في باقات الريحان:
وخضرٍ تجمعُ الأعجازَ منها ... مناطقُ مثل أطواقِ الحمامِ
لها حسنُ العوارضِ حين تبدو ... وفيها لينُ أعطافِ الغلامِ
وللسري الرفاء:
وبساط ريحان كماءِ زبرجد ... عبثتْ بصفحتهِ الجنوبُ فأرعدا
يشتاقه الشّرب الكرام فكلّما ... مرضَ النسيمُ سَعَوا إليه عوّدا
وقال أبو هلال:
لبس الماءُ والهواء صفاءَ ... واكتسى الروض بهجةً وبهاءَ
وتخالُ السماءَ بالليلِ أرضاً ... وترى الأرضَ بالنهارِ سماءَ
جلَّلتْها الأنوارُ زهراً وصفراً ... يوم ظلَّت تُنادم الأنواءَ
وترى السروَ كالمنابرِ تزهي ... وترى الطيرَ فوقها خطباءَ
وقال ابن طباطبا العلوي:
أوَما ترى الأيامَ كيف تتوَّجت ... وربيعها والٍ عليها قيِّمُ
حليت به الدنيا وكانت عاطلاً ... فقعودُها في كلّ فجّ ينظمُ
فانظر إلى زهر الرياضِ كأنَّه ... وشيٌ تنشره الأكفُّ منمنمُ
فالنور يهوى كالعقود تبددت ... والوردُ يخجلُ والأقاحي يبسمُ
ويكاد يضحي الدمع نرجسه إذا ... أضحى ويقطرُ من شقاشقه الدمُ
البشامي:
أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... بخضرةٍ واكتسى بالنورِ عاليها
فللسماء بكاءٌ في جوانبِها ... وللربيعِ ابتسامٌ في نواحيها
وقال ابن منير الطرابلسي:
اليوم قرّ وجيبُ الدجنِ مزرورُ ... والظلُّ منتظمٌ والطلُّ منثورُ
كأنّ ما اصفرَّ مهما احمرَّ ترقبه ... في محفل النور مخزونٌ ومسرورُ
كأنَّ أكمامه من تحتِ زاهرهِ ... في الدّوح ضدَّان مهتوكٌ ومستورُ
كأنَّ نّواره والريحُ تقذفهُ ... في الماءِ جيشانِ مخذولٌ ومنصورُ
كأنَّ أظلاله والشمس ينسخها ... عنه رداءان مطويّ ومنشورُ
كأنَّما الثلج والنارنج مرتدياً ... به مجامر نارٍ فوقها نورُ
عرسُ الربيع الذي فُضَّت دراهمه ... عليه وانتثرت فيه الدنانيرُ
فالجو والنورُ والوادي وتربته ... مسكٌ ووردٌ وديباجٌ وكافورُ
تهدي نوافحه ما في نوافجه ... فعيشه مطلق والهمُّ مأسورُ

ما شئت من ملحٍ فيه يصفّقها ... شادٍ وحادٍ وملاحٌ وناطورُ
وقال ابن مكلِّم الذئب:
شموسٌ وأقمارٌ من الزهر طلّعُ ... لدى الدهر في أكنافها متمتعُ
كأنَّ عليها من مجاجةِ ظلّها ... لآلئ إلاّ أنها هي أنصعُ
نشاوى تثنّيها الرياحُ فتنثني ... فيلثم بعضٌ بعضَها ثمَّ ترجعُ
آخر في طلوع الشمس من خلل الأوراق:
كأنَّ شعاع الشمسِ في كلّ غدوةٍ ... على ورقِ الأشجارِ أولَ طالعِ
دنانير في كفّ الأشلّ يضمّها ... لقبضٍ وتهوي من فروج الأصابع
علي الأسواري:
أوائل رسلٍ للربيع تقدَّمت ... على حسن وجه الأرض خير قدومِ
كأنَّ اخضرار الروض والزهر طالعٌ ... عليه سماء زُيِّنت بنجومِ
إذا افتضَّها طرف البصير بلحظه ... توهمها مفروشةً برقومِ
تردَّت بظلّ دائم وتضاحكت ... بضحك بروقٍ في بكاء غيومِ
فأوردها فحل السحاب غرائساً ... ضعاف القوى من مرضعٍ وفطيمِ
كمثل نشاوى الراح تلثم دائباً ... إذا الريحُ جادتْ بينها بنسيمِ
وقال الزاهي:
هذا الربيع وهذه أزهاره ... طابت لياليه وطاب نهارهُ
دريّةٌ أنواره فضيةٌ ... أنهاره ذهبيةٌ أشجارهُ
والماءُ فضيُّ القميصِ مُفروزٌ ... ببنفسج واللازورد شعارهُ
وترنمت عجم الطيور كأنها ... سرب القيان ترنمت أوتارهُ
فاشرب على ورد الخدود يحثّه ... وردُ الربيع تحفّه أنوارهُ
آخر:
حظّ عينٍ وحظّ سمعٍ ربيعا ... ن وتغريد بلبلٍ وهزارِ
في جلاء من الزمان ووجه ال ... أرضِ يُكسى وشائع النوّارِ
كلما أشرفت شموس الأقاحي ... خلت إحدى الشموس شمس النهار
ابن الرومي:
حيّتكَ عنَّا شمالٌ طابَ ريقُها ... تحيّةً فجرَّتْ روحاً وريحانا
حيَّت سُحيراً فناجى الغصنُ صاحبهُ ... سرّاً بها وتنادى الطيرُ إعلانا
وُرقٌ تغنَّى على خضرٍ مهدّلةٍ ... تسمو بها وتمسُّ الأرضَ أحيانا
تخالُ طائرها نشوانَ من طربٍ ... والغصنُ من هزِّه عطفيهِ نشوانا
عبد الكريم المغربي:
بارقٌ في خفاف غيم سكوب ... صدع الليل كالصباح الصديع
قائماً ينثر الحباب على ور ... د خدودِ الربيع نثر الدموع
في فضاء مضمّخٍ من عبيرٍ ... وهواء مخلّق من ردوع
يعتلي الفجر فيهما ذا حياءٍ ... وتمرّ الرياح ذات خضوع
شجر ذاب فوقه الحسن فاختا ... ل من القطر في رداءٍ وشيع
في الاذريون للحافظ:
عيون تبرٍ كأنَّما سرقت ... سواد أحداقها من الغسقِ
فإنْ دجا ليلها بظلمته ... ضممنَ من خوفها على السّرقِ
ابن المعتز في الأقحوان:
قد نسج القطرُ حله الزهر ... فالعين محورةٌ على النظرِ
وأبدتِ الأرضُ حسنها وغدتْ ... مثلَ عروسٍ تُجلى على البشرِ
ولؤلؤُ الأقحوان منتظمٌ ... على قميصٍ لها من الخضرِ
أحمد الصقلي في البنفسج:
بنفسجٌ يانعٌ ذكي ... زاد على طيب كل وردِ
كأنَّه عند ناظريه ... آثار قرص في صحن خدِّ
في الريحان:
قضيب من الريحان شاكلَ لونهُ ... إذا ما بدا للعين لون الزبرجد
أشبهه لمَّا بدا متجعداً ... عذاراً تبدَّى في سوالفِ أغيدِ
آخر في الشقائق:
ورياضٍ بديعةِ الألوان ... لاح فيها شقائق النعمانِ
كخدود مضرّجات عليها ... من غوالٍ كهيئة الخيلانِ
وقلت من أبيان أنسيتها في روضة:
وكأنّ الشقيق فيها خدود ... وتخال الخيلان كالخال فيها
المهلبي:
كأنَّما النرجس في روضه ... إذا أتته الريحُ من قربِ
أقداح ياقوت تعاطينها ... أنامل من لؤلؤٍ رطبِ
الفهمي:
سقياً لنرجس روضةٍ ... أبدى لنا بدعَ الفنونِ
أحداقه من زعفرا ... ن بين كافور الجفونِ
فنسيمهُ روحُ الحياةِ ... ولحظهُ داعي الفتونِ
لم لا تهيم به العيو ... ن وقد غدا مثل العيونِ
آخر:
سعى ساعٍ أليَّ بكاس خمرٍ ... وباقة نرجسٍ فسقى وحيَّا
تعالوا فانظروا قمراً منيراً ... سقى شمساً وحيَّا بالثريا
آخر:

الكأس تضحك والأوتار ناطقةٌ ... والزهر في حسنه والشملُ مشتملُ
نارٌ تلوح في النارنج في شجرٍ ... لا النار تطفى ولا الأشجار تشتعلُ
حكم بن عمر في ورد:
ومعشّقٍ حيَّا المحبّ بوردةٍ ... بيضاء قد شربت روائح ندّه
كأنَّها وبها احمرار جائل ... ماء الحياة على صحيفةِ خدِّه
البحتري:
أمَا ترى الورد يحكي خجلةً ظهرت ... في صحن خدٍّ من المعشوق منعوتِ
كأنَّه فوق ساق من زبرجدةٍ ... نثرٌ من التبر في محمرّ ياقوتِ
البياضي:
جاء وفد الريح فاعتنقت ... في أوراقٌ وأغصانُ
كلّ فرعٍ مال جانبهُ ... فكأنَّ الأصلَ سكرانُ
وكأنَّ الروضَ مكتسياً ... بسقيط الطلّ عريانُ
كلّما قبّلتُ زهرتَه ... خلتُ أنّ القطرَ غرثانُ
كشاجم في الشقائق:
انظر بعينك أغصانَ الشقائقِ في ... فروعِها زهرٌ في الحسنِ أمثالُ
من كلِّ مشرفةِ الأغصانِ ناضرةٍ ... لها على الغصنِ إيقادٌ وإشعالُ
كأنَّها وجناتٌ أربعٌ جُمعتْ ... وكلُّ واحدةٍ في صحنِها خالُ
محمد بن عبد الله بن طاهر:
أما ترى شجرات الورد مظهرةً ... لنا بدائع قد ركّبنَ في قضبِ
كأنَّهنّ يواقيت تطيف بها ... زمردٌ وسطه شذرٌ من الذهبِ
ابن المعتز:
وعُجنا إلى الروضِ الذي طلّهُ النَّدى ... وللصبحِ في ثوبِ الظلامِ حريقِ
كأنَّ عيونَ النرجسِ الغضِّ بينهُ ... مداهنُ درٍّ حشوهنَّ عقيقُ
إذا بلّهنَّ القطرُ خلتَ دموعها ... بكاءَ جفونٍ حشوهنَّ خلوقُ
ابن الساعاتي:
لله يومُ النيِّرينِ ووجههُ ... طلقٌ وثغرُ اللهوِ ثغرٌ أشنبُ
وكأنَّما فننُ الأراكةِ منبرٌ ... وهزارهُ فوقَ الذؤابةِ يخطبُ
والرعد يشدو والحيا يسقي وغص ... ن البانِ يرقصُ والخمائلُ تشربُ
وكأنَّما الساقي يطوفُ بكأسهِ ... بدرُ الدجى في الكفّ منه كوكبُ
بكر بها نقعُ الغليلِ ومعجبٌ ... نقعُ الغليلِ بجذوةٍ تتلهّبُ
حمراء حاربنا الصروفَ بصرفها ... فزجاجها بدمِ الخطوبِ مخضّبُ
والقطر نبلٌ سوابغٌ ... موضونةٌ والبرقُ سيفُ مذهبُ
وقال أيضاً:
يا نديميّ والنديمُ معينُ ... وخليليّ والخليلُ شفيقُ
ما لوجه الدنيا يُذمّ وقد أص ... بح وجهاً جماله موموقُ
فقضيبٌ عليه للطيرِ شدوٌ ... وغديرٌ لمائهِ تصفيقُ
هُزّت البان كالقدود وقد ض ... رّج فيها مثل الخدود الشقيقُ
حيث ذيل الصبا بليلٌ بها يس ... حبُ وجيب نشرها مفتوقُ
وصباحاك ضوءُ كأس وثغرٍ ... ومداماك كأسُ خمرٍ وريقُ
وقال:
ما جلّقُ الفيحاءُ إلاّ جنةً ... فضلها وحي الغمام المُنزلُ
كم نعمٍ للغيثِ في أرجائها ... يفصحُ عنها سهلُها والجبلُ
بنفسجٌ مثلُ الخدودِ قُرّصت ... ونرجس ما هو إلاّ المقلُ
بكى الغمامُ فالثرى مبتسمٌ ... ورقصَ الدوحُ فغنَّى الجدولُ
كم جدولٍ باكرهُ مرُّ الصبا ... فهو نسيمٌ والحسامُ صقيلُ
وبعدَ كلّ ناشقٍ لا سامعٍ ... ما حدّثتْ عن الرياضِ الشمألُ
وقال أيضاً:
انظر إلى نسجِ الربيعِ وحوكهِ ... والشمس ترقمُ ما السحائبُ تحبكُ
والأرضُ تُجلى في معارض سندسٍ ... والنهي ردنٌ والنسيمُ يُفرّكُ
حيثُ الوجوهُ من البقاعِ سوافرٌ ... والأقحوانُ بها ثغورٌ تضحكُ
وفضاءُ هاتيك السماءِ معنبرٌ ... ونسيمُ ذاك الجو منه ممسَّكُ
والطلُّ في جيدِ الغصونِ منظمٌ ... وعلى السهولِ مُبددٌ لا يُسلكُ
كم فضَّ في بطحائها من فضةٍ ... بددٍ وتبرٍ لو يُصاغُ ويُسبكُ
وقال أيضاً:
يا حبَّذا زمنُ الربيعِ ودوحهُ ... قيدُ الخواطرِ بل عقالُ الأنفسِ
جُليتْ عرائسها فهمّ قلوبنا ... واللهو بين مقوّض ومعرّسِ
أنفاسه من عنبرٍ وسماؤه ... من لؤلؤ وبساطهُ من سندسِ
وقال:
أوَ ما ترى الأطيارَ في أشجارِها ... كمغرّدٍ قد دبَّ فيه شرابُ
وكأنَّ معتلَّ النسيمِ تحيةٌ ... وكأنَّما أغصانها أحبابُ
وقال ابن قلاقس:

أيّ يومٍ مضى لنا في رياضٍ ... عرّست في عراصها الأمطارُ
كلّ شيء أكنّ كانون فيها ... لم يذره حتّى بدا آذارُ
أقحوان غضٌّ وورد نضير ... وشقيق قانٍ بها وبهارُ
وبها للغصونِ رقص إذا ما ... أنشدت في جنوبها الأطيارُ
وقال أيضاً:
شقّ الصباحُ غلالةَ الظلماء ... وانحلَّ عقد كواكب الجوزاءِ
وتكللت تيجان أزهار الرّبى ... بغرائب من لؤلؤ الأنواءِ
وجرى النسيم فجرّ فضل ردائه ... متحرشاً بمساقط الأنداءِ
وعلا الحمام على منابر أيكه ... يبدي فصاحة ألسنِ الخطباءِ
ودعا وقد رقّ الهواءُ منمّقُ ال ... سربال طابت زهرة الصهباءِ
وقال آخر:
لله أيامي به وكؤوسنا ... تكسو بأردية الطّلى وجه الطّلا
في روضةٍ تبدي البنفسج أوطفاً ... والورد أحمر والشقائق أكحلا
وتريك خدّ الجلّنار ملثّماً ... مرأى وثغر الأقحوان مقبّلا
وتثير أنفاس الشمائل عنبراً ... وتدير أكواس الجداول سلسلا
وقال يعقوب بن محمد المزيدي:
تأمّل ثغور النور في نفس الظلّ ... وقبِّل خدودَ الوردِ في عرق الطلّ
وعانق إذا ما ماس في خطوة الصبا ... قوام القضيب اللدن في زرد الوبلِ
وخذ من غصون الجلّنار كؤوسه ... فقد أصبحت تسخو بهنّ على بخلِ
على شجو طيرٍ أطرب النهر شجوه ... فقد قميصَ النبتِ للوجد من قبلِ
وقال ابن التعاويذي:
يا صاح قم فوجوه اللهو سافرةٌ ... وناظم الهمّ بالأفراحِ قد طرفا
أما ترى الأرض في حلي الرياض وقد ... أهدتْ لطرفك من أزهارها طرفا
كسا الربيعُ ثراها من خمائله ... ريطاً وألقى على كثبانها قطفا
والغيمُ باكٍ وثغر النور مبتسم ... وطائر البان في الأغصان قد هتفا
والغصن ريانُ لدنُ العطفِ قد عقدتْ ... لآلئُ الطلِّ في أوراقه شنفا
فانهض إلى الراح واعذر في الغرام بها ... لا تُلحِ من باتَ مشغوفاً بها كلفا
وقال أيضاً:
للهِ زورته وقد ... مالت إلى الغربِ النجومُ
والروضُ يصقلهُ الندى ... وهناً ويوقظه النسيمُ
وقد انتشى خوطُ الأرا ... كةِ والحمامُ له نديمُ
والزهر يضحك في خما ... ئلهِ إذا بكتِ الغيومُ
وقال أيضاً:
لاوجدتمْ يا أهلَ نعمانَ وجدي ... وسلمتمْ سلامةَ العهدِ عندي
وسقى دارةَ الحمى كلّ منهلِّ ال ... غوادي سقيا دموعي لخدِّي
واكتست من خمائل النو ... ر أفوافاً ينير الربيع فيها ويسدي
سافراتٍ رياضُها عن ثغورٍ ... وخدودٍ من أقحوان ووردِ
وتمشت بها سحائبُ وطفٌ ... تتهادى ما بين برق ورعدِ
وصبا تلبس الغدير إذا البر ... ق نضا بيضهُ مفاضةَ سردِ
حبَّذا والنسيم يبعث أنفاساً ... ضعافاً من نفح ضالٍ ورندِ
ناقلاً عن ذوائب الزهر السب ... ط حديثاً إلى ثراها الجعدِ
وقال أيضاً:
حباكَ ربيعٌ من فصاحٍ أعاجمِ ... بأخضرَ ميادٍ من البانِ ناعمِ
وطرتنَّ في خضراءَ مونقةِ الثرى ... قريبةِ عهدٍ بالعهاد الروازمِ
لقد هاجَ لي تغريدُ كنَّ عشيةً ... لواعجَ شوقٍ من هوًى متقادمِ
وتذكارَ أيامٍ قصارٍ تصرَّمت ... كما اكتحلت بالطيف أجفانُ حالمِ
نعم واكتسى مغناكِ يا دارةَ الحمى ... ملابس من وشي الرياض النواجمِ
إذا أسبلت فيها الغوادي دموعها ... حكت ثغر مفترٍّ عن النورِ باسمِ
وقال محيي الدين، رحمه الله، من قصيدة ذكر فيها الربيع وأنا أذكرها جمعاء لأن لها حظاً من الاستحسان:
هنيئاً لقد أعطتك أيامك المنى ... وناجاك بالوصلِ الحبيبُ فأعلنا
فلا تبغِ في ذاك التستر لذةً ... وبحْ باسمِ من تهوى وذرني من الكنى
ألستَ ترى أرضَ الحمى حلّها الحيا ... فحلّى رباها بالنباتِ وزيّنا
جلاها على أبصارِنا فانجلتْ لنا ... وقد كُسيتْ زهرَ الرياضِ ملوّنا
معاني من نظم الربيع دقيقةٌ ... يُرى فضل هذا الفضل فيهنّ بيّنا
حلا العيش فيها فاملأ الكأس مرةً ... يطوف بها مستعذب اللفظ والجنى

يميسُ ويشدو فالأراكةُ رجّحت ... على عودها ورقاء محسنة الغنى
فتثني إليه كلّ قلب إذا شدا ... ويثني عليه كلُّ غصنٍ إذا انثنى
وأصبح من وجه الغزالةِ إذ بدا ... وأملح من لحظ الغزال إذا رنا
غدا جفنهُ والخصر منه وعهدهُ ... وجسميَ كلٌّ يشتكي سورة الضنا
يُطاع وإن عاصى ويُدني وإن نأى ... ويهوى وإن عادى ويعذرُ إن جنى
رآنيَ محنيّ الضلوعِ على جوًى ... فما رقَّ لي مما ألاقي ولا حنا
وقال، رحمه الله:
أدمشقُ لا زالتْ تجودُك ديمةٌ ... يزهو بها زهرُ الرياضِ ويونقُ
أهوى لك السقيا وإن ضنَّ الحيا ... أغناك عنه وماؤك المتدفقُ
ويودّ قلبي لو تصحّ لي المنى ... أني أنال بك المقام وأُرزقُ
وإذا امرؤٌ كانت ربوعك حظّه ... من سائر الأمصار فهو موفّقُ
أنَّى التفتَ فجدولٌ متسلسلٌ ... أو جنةٌ مرضيّةٌ أو جوسقُ
وإذا رأيتَ الغصنَ ترقصه الصبا ... طرباً رأيتَ الماء وهو يصفّقُ
وترى من الغزلان في ميدانها ... فرقاً أسود الغيل منها تفرقُ
والقاصدون إليه إمَّا شائقٌ ... متنزهٌ أو عاشقٌ متشوقُ
لا تكذبنَّ فما اللذاذة والهوى ... ومواطن الأفراح إلاّ جلّقُ
وقال المجد بن الظهير:
هذا الربيع وإنه ... عمر الفتى وزمانهُ
زمن يروقك حسنهُ ... ويشوق نفسك شانهُ
قد زخرفت جنّاتهُ ... وتصندلت غدرانهُ
وألمّ بالدوح النسي ... م أريجةٌ أردانهُ
فتجاوبت أطيارهُ ... وتحركتْ أفنانهُ
والعود أصبح مزهراً ... ورق الحمام قيانهُ
وشدا الحمام بدوحه ... فتمايلت أغصانهُ
فكأنَّ ألحان الغري ... ض ومعبدٍ ألحانهُ
وقال:
قم فانتهز فرص السرور ولا تبع ... زمن الصبا واللهو بيعةَ خاسرِ
وافتْكَ أيامُ الربيعِ منيرةً ... ساعاتها بشموس زهرٍ ناضرِ
والأرض قد لبست ملاءة سندسٍ ... تثني على نوءِ الغمام الباكرِ
نسجتْ لها أيدي السحاب مطارفاً ... موشيّةً من كلّ لونٍ باهرِ
من أحمر باك وأبيض باسمٍ ... أو أصفر شاكٍ وأخضر شاكرِ
قد شقّ لطم القطر خدّ شقيقه ... وحبت عليه يد السحاب الماطرِ
والجدول الريَّان حُفّ بنرجسٍ ... يرنو إليك بطرف ظبي فاترِ
وإذا سهام القطر جاءته اغتدى ... متحصناً من وقعها بمغافرِ
والدّوح خُصّ بنوح طيرٍ في ذرى ... أشجاره بلغاتهِ متشاجرِ
فاشرب على وجه الربيع مدامةً ... قد قلّدت في كأسها بجواهرِ
جليت فنقطها المزاج بلؤلؤ ... متساقطٍ من كأسه متناثرِ
يغنيك عن ضوء النهار شعاعها ... كالشمس في فلك السرور الدائرِ
وقال:
ضحك الروض من بكاء الغمام ... فاجلُ بنت الكروم بين الكرامِ
فجميل خلع العذار وقد ح ... رّك عطف القضيب سجع الحمامِ
في زمانٍ أيامهُ ولياليه ... لها دولة على الأيامِ
ورياضٍ أنيقةٍ من أقاحٍ ... وعرارٍ ونرجسٍ وثمامِ
وبهار يحكي اصفرار محبّ ... وشقيق مثل الخدود الدوامي
وغدير صافٍ كدمعةِ سروٍ ... وصقيلٍ يحكيه متن الحسامِ
يلبس الزعف والمغافر إنْ ... وافته ريح ووابل كالسهامِ
يا مضيعاً زمانَه بالأماني ... قم بحقّ الربيع حقّ القيامِ
واغتنم غفلة الحوادث واشرب ... غير مستكبر لكوبٍ وجامِ
من كميت راقت ورقّت فما ... تدرك لطفاً بالفكر والأوهامِ
أودعتها الدنان أيدي أناس ... عتَّقوها من قبل سامٍ وحامِ
ثمَّ أبقت منها السنون كما ... أبقى الهوى من حشاشةِ المستهامِ
فهي في دنِّها المزفّت تحكي ... درّةً مستنيرة في ظلامِ
ذات خدرٍ مصونة العرض خفّت ... في هواها رواجح الأحلامِ
وقال:
وروضٍ عَرفهُ يشك ... ر عُرف البرق والرعدِ
وأنفاس خُزاماه ... كنشر المسك والندِّ
وسبط الزهر منثور ... على جدوله الجعدِ
أرقنا في نواحيه ... دم الزق على عمدِ
وبتنا نتعاطى خم ... رةً حمراءَ كالوردِ

بكفّي شادنٍ شادٍ ... رشيقٍ أهيف القدِّ
فلو عاينتنا عاين ... تنا في جنَّة الخلدِ
وقال:
هبَّ نسيم السحر ... وطاب نشر الزهرِ
وشاجرت أمثالها ... حمائم في الشجرِ
فكلّ غصنٍ مزهرٍ ... من شدوها كالمزهرِ
وراق كلّ ناظرٍ ... حُسن عيون الزهرِ
والروض من مبتسم الثغ ... ر ومن مستعبرِ
والطلّ في أوراقه ... كاللؤلؤ المنتثرِ
وفي الشقيق نكهةٌ ... تبدو لعين المبصرِ
كأنَّها خال على ... صفحةِ خدّ أحمرِ
فبادر الفرصة من ... قبل نفادِ العمرِ
وباكر الشرب على ... وجه الربيع المسفرِ
من بنت كرم زُوّجت ... بابن الغمام الممطرِ
نقطها مزاجها ... إذا جليت بالجوهرِ
من كفّ معشوق الدلا ... ل ذي رضاب مسكرِ
يصون زهر الحسن أن ... تجنى بغير النظرِ
وقلت:
جاد السحاب على الثرى بعوارفٍ ... أهدتْ إليه الوشي من صنعائه
وكسا الربيع ثرى البسيطة ملبساً ... قد حاكه صوبُ الغمام بمائه
فسماؤه للناظرين كأرضهِ ... تبدي النجوم وأرضه كسمائه
باحَ النسيمُ بسرّه إذ أصبح ال ... قدّاحُ والنمّامُ من أمنائه
والفصل ليلٌ في الرياض دموعه ... والزهر يضحك في خلال بكائه
وتخال أنفاس النسيم عليلةً ... عجباً وتنفي الصبّ من برحائه
وكأنَّما الأغصان فيه منابر ... والناطقات العجم من خطبائه
فاشرب على زهر الرياض مدامةً ... تثني الحليم أخا الحجى عن رائه
من كفّ ممشوق القوام مقرطق ... يصبي القلوب بحسنه وغنائه
وقلت:
وافى بما تبغيه آذار ... وغرّدت في البان أطيارُ
وابتسم الروض فدمع الحيا ... على ابتسام الروض مدرارُ
وعطّر الأفق شذا زهره ... كأنَّما في الأفق عطّارُ
واكتست الأرضُ به سندساً ... طرازه نور وأنوارُ
ولاح في أرجائه نرجس ... ناظره للصبّ سحّارُ
وحملَ النمامُ ريح الصبا ... سرّاً فذاعت منه أسرارُ
فحثّها حمراء مشمولة ... كأنَّها في كأسها نارُ
من كفّ هيفاء غلاميّةٍ ... في فمها المعسول خمّارُ
وقلت:
هذا الربيعُ ونشره ... قد فاح طيباً نشرهُ
والورد وجنته ون ... وارُ الأقاحي ثغرهُ
وبدا يروقك نبته ... الحسنُ البديع وزهرهُ
وتراقصتْ أغصانهُ ... طرباً وصفّق نهرهُ
وأذاع أسرار النبات ... به النسيم ومرُّهُ
وكأنَّ عطّاراً تصوّع ... في رُباه عطرهُ
شكر الثرى صوب الحيا ... فبدا لعينك شكرهُ
وأجاز في تقريظه ... نظم الربيع ونثرهُ
فاشرب على الزهر الجنيّ ... فعمر عيشك عمرهُ
فالصبّ فيه هل يجو ... ز عن المدامةِ صبرهُ
وقلت من قصيدة:
قسماً بالرياضِ باكرها ص ... وبُ سحاب فأبدت الأزهارا
ضحكت اذ بكى السحاب وماست ... اذ كساها حوك النسيم إزارا
وأرتنا منابراً من غصونٍ ... وسمعنا خطيبهنَّ الهزارا
وحسبنا الشقيق فيها خدوداً ... زادها العتب نضرةً واحمرارا
وكأنَّ الأغصان هيف خدودٍ ... تتعاطى تمايلاً واهتصارا
هو أزهى من طيب مدحك ما ن ... ظمتُ في وصف مجدكَ الأشعارا
ومن أخرى في مدح المولى الصاحب الأعظم علاء الدين عز نصره:
فما روضة جادها وابلٌ ... وسحّ عليها ملثّ ركامْ
يميس بها زهرها ضاحكاً ... فيا عجباً من بكاء الغمامْ
ويفترّ ثغر الأقاحي بها ... كما انجاب عن ثغر صبحٍ ظلامْ
ويحمرُّ من خجل وردها ... كخدّ الحبيب لسمع الملامْ
إذا أرقص الدّوحَ مرُّ الصبا ... تغنّى على العذبات الحمامْ
كأنَّ الشقيق خدود الحبيب ... ودمعُ المحبّ ولون المدامْ
وتحلف إنْ نفحتْ نفحةٌ ... بأنَّ النسيم مطايا الخزامْ
بأحلى لديّ وإن غبتُ عنك ... من القرب منك وحقّ الإمامْ
ومن أخرى في الصاحب شمس الدين:
في رياض يبوح فيها نسيمُ ال ... ريح أنَّى سرى بسرّ الخزامِ

وكأنَّ الشقيق فيها خدودٌ ... ضرجتها قساوة اللّوامِ
وتخال الأغصان هيف خدودٍ ... راقصات على غناء الحمامِ

وصف في السحاب والغيث
والبرق والمياه وما يتصل بذلك
قال سعيد بن حميد الكاتب:
بكرت أوائل للربيعِ فبشّرتْ ... نورَ الرياضِ بجدّةٍ وشبابِ
وغدا السحابُ يكادُ يسحبُ في الثرى ... أذيالَ أسحمَ حالك الجلبابِ
يبكي ليضحكَ نورهنَّ فيا لهُ ... ضحكاً تولَّدَ من بكاءِ سحابِ
وترى السماءَ وقد أسفَّ ربابُها ... وكأنَّها لحفتْ جناح غرابِ
وقال آخر:
بيضاء جاءت بعد طول العهدِ ... من غير تسويفٍ وغير وعدِ
كأنَّها معتبة من صدِّ ... فابتسمت عن بارقٍ ذي وقدِ
كأنَّها تقدحها من زندِ ... وزفرت زفيرَ أهلِ الوجدِ
ثمَّ بكتْ بكاءَ أهلِ الفقدِ ... فأضحكت وجهَ الجديبِ الصلدِ
بكلّ غور وبكلّ نجدِ ... كأنَّ رشحَ طلِّها في الوردِ
دموع صبّ سُفحتْ في خدّ
لو قال دموع حبّ لكان أنسب وأدل على المعنى إذ ليس من المعلوم المستعمل أن يشبه الصب بالورد ولكن هذا يحتاج إلى ذهن نقاد وخاطر وقاد فيضع الهناء مواضع النقب ويفرق بين ذوي العمائم وذوات النقب.
وقال أبو تمام:
ساريةً مُسمحةَ القياد ... مُسودةً مُبيضةَ الأيادي
قد جُعلتْ للمحلِ بالمرصادِ ... سِيقتْ ببرقٍ ضرمِ الزّنادِ
كأنَّه ضمائرُ الأغمادِ ... سهّادةً نوّامةً بالوادي
نزّالةً عند رضى العبادِ
وله:
ساريةٌ لم تكتحلْ بغمضِ ... مُوقرةٌ من خلّةٍ وحمضِ
قضتْ بها السماءُ حقَّ الأرضِ
وقال أيضاً:
سهرت للبرق الذي استطارا ... باتَ على رغمِ الدُّجى نهارا
حتّى إذا ما أوسعَ الأمصارا ... وبلاً جهاراً وندًى سرارا
عاد لنا ماءً وكان نارا ... أرضى الثرى وأسخطَ الغبارا
وأحسن ما قيل في قوس قزح قول القبيصي:
وقد نشرتْ أيدي الجنوب مطارفاً ... على الأفقِ دكناً والحواشي على الأرضِ
يطرزها قوس السحاب بأحمر ... على أصفر في أخضر تحتَ مبيضِّ
كأذيال خودٍ أقبلت في غلائلٍ ... مصبّغة والبعضُ أقصرُ من بعضِ
وقد أجاد السيد الرضي:
من كلّ ساريةٍ كأنَّ رذاذها ... إبرٌ تُخيِّطُ للرياضِ برودا
نثرتْ فرائدها فنظّمتِ الربى ... من درّهنَّ قلائداً وعقودا
وقد أحسن نصيب ما شاء في قوله:
أعِنِّي على برق أُريكَ وميضهُ ... تُضيء دُجنّات الظلامِ لوامعهْ
إذا اكتحلتْ عينا محبٍّ بومضهِ ... تجافتْ به حتّى الصباحِ مضاجعهْ
وقال ابن مطير وأجاد:
مُستضحكٌ بلوامعٍ مُستعبرٌ ... بمدامعٍ لم تمرِها الأقذاءُ
فله بلا حزنٍ ولا بمسرّةٍ ... ضحكٌ يُؤلِّف بينه وبكاءُ
لو كانَ من لُججِ السواحلِ ماؤهُ ... لم يبقَ في لججِ السواحلِ ماءُ
قال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطرُ
فقيل له: هذا بالدعاء عليها أشبه لأن القطر إذا دام عليها فسدت، والجيد قول طرفة:
فسقى ديارَكَ غيرَ مُفسدِها ... صوبُ الربيعِ وديمةٌ تهمي
وقال أبو هلال:
والرعدُ في أرجائهِ مترنمٌ ... والبرقُ في حافاتهِ متلهّبُ
كالبُلقِ ترمحُ والصوارمُ تُنتضى ... والحورُ تبسمُ والأناملُ تحسبُ
وقال:
تزورُ رُباها كلَّ يومٍ وليلةٍ ... غيومٌ كأنَّ البرقَ فيها مقارعُ
فتبسم بالأنوار منها مضاحك ... وتسجم بالأنواءِ فيها مدامعُ
وقال:
وبرقٌ سرى والليلُ يُمحى سوادهُ ... فقلت سوارٌ في معاصمِ أسمرا
وقد سدّ عرض الأفقِ غيمٌ تخالهُ ... يزرُّ على الدنيا قميصاً معنبرا
تخال به مسكاً وبالقطر لؤلؤاً ... وبالروض ياقوتاً وبالتربِ عنبرا
سواد غمام يبعث الماء أبيضاً ... وغرّة أرض تنبت الزهر أصفرا
إذا ما دعتْ فيه الرعود فأسمعتْ ... أجابَ حداةٌ فاستهلّ وأغزرا
ويبكي إذا ما أضحك البرقُ سنّه ... فيجعل نار البرق ماءً مفجّرا

كأنَّ به رؤدَ الشبابِ خريدةً ... قد اتخذتْ ثني السحابةِ معجرا
فثغرٌ يُرينا من بعيدٍ تبلُّجاً ... ودمعٌ يُرينا من قريبٍ تحدُّرا
وقال بعض الهاشميين:
وبدا لهُ من بعدِ ما اندمل الهوى ... برقٌ تألَّق موهناً لمعانهُ
يبدو كحاشيةِ الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنّع أركانهُ
فالنارُ ما اشتملتْ عليه ضلوعهُ ... والماءُ ما سمحتْ به أجفانهُ
كشاجم:
ثلج وشمس رصوبُ غاديةٍ ... فالأرضُ من كلّ جانبٍ غرَّهْ
باتتْ وقيعانُها زبرجدةٌ ... وأصبحتْ قد تحوَّلت درَّهْ
وقلت:
وصوبُ سحاب غادرَ الأرض لجّةً ... فأضحى بها ضبُّ الفلاة مُلجّجا
وأضرم فيه البرقُ شعلةَ نارهِ ... على فحمةِ الليلِ البهيمِ فأجَّجا
وسيقت به كوم السحائب حفّلاً ... وحركها حادي الرعودِ فأزعجا
وعاد بها ضوءُ النهار ولبسهُ ... ثيابُ حدادٍ تُستعار من الدجى
وألقحها مرُّ النسيم فأنزلت ... سحاباً غدا للأرضِ بالنورِ مُنهجا
فأحدق فيها النرجس الغضّ طرفَه ... ولاحَ بها خدّ الشقيقِ مضرَّجا
وأبدت لنا ورداً جنيّاً نباتهُ ... وثغرَ أقاحٍ ناضرٍ وبنفسجا
وصفّقتِ الأنهارُ فيها ومالت ال ... غصون وغنَّاها الحمام فهزّجا
وقلت:
ومزنةٍ صادقةِ الأنواءِ ... سوداء تأتي باليد البيضاءِ
تسير مثل سير ذي البطحاءِ ... تجري بنار البرق دمعَ الماءِ
تثني بها الأرض على السماءِ ... بألسنِ الصفراءِ والحمراءِ
فالأرضُ في سندسةٍ خضراء ... كأنَّها للريّ والرواءِ
أُهدي إليها الوشي من صنعاءِ
وقال أبو تمام:
ديمةٌ سمحةُ القياد سكوبُ ... مستغيثٌ بها الثرى المكروبُ
لذَّ شؤبوبها فطابَ فلو تس ... طيعُ قامتْ فعانقتها القلوبُ
آخر:
وأرَّقني برقٌ سرى في غمامةٍ ... يهيِّج أحزانَ الفؤادِ ابتسامُها
كأنَّ سناه موهناً نارَ موقدٍ ... تلهبُ أحياناً ويخبو ضرامُها
البحتري:
ذات ارتجازٍ بحنينِ الرعدِ ... مجرورة الذيل صَدوق الوعدِ
مسفوحة الدمعِ لغيرِ وجدِ ... لها نسيمٌ كنسيمِ الوردِ
ورنّةٌ مثلُ زئيرِ الأُسدِ ... ولمحةٌ مثلُ سيوفِ الهندِ
جاءتْ بها ريحُ الصبا من بُعدِ ... فانتثرتْ مثلَ انتثارِ العقدِ
وراحتِ الأرضُ بعيشٍ رغدِ ... كأنَّما غدرانها في الوهدِ
يلعبنَ من حبابِها بالنردِ
وقال المجد بن الظهير الإربلي في البرق وأجاد:
أإنْ شمتُ برقاً بالشآمِ لائحاً ... غدوتُ لدمعي في ثرى السفح سافحا
أتى رافعاً سترَ الظلام ومالئاً ... بأنوارهِ هضبَ الفلاةِ الأباطحا
فأدنى ثغوراً دونها كل مهمهٍ ... تظلّ به هوجُ الرياحِ طلائحا
وأقدمُ أنواعِ المسرّة قادماً ... وعاد لزند الشوق إذ عاد قادحا
وقلت:
وساريةٍ غنَّى لها الرعد فانبرتْ ... تفضّ شؤونَ الدمعِ في كلِّ منزلِ
وطبّقت الدنيا فلم تخلُ بقعةٌ ... لما نسجتها من جنوب وشمألِ
وأضرم فيها البرق ناراً كأنَّه ... منارةُ ممسى راهبٍ متبتّلِ
إذا قدحتْ في أبيض السحب خلتها ... عصارة حنَّاءٍ بشيبٍ مرجّلِ
فجادتْ بمنهل العزالى كأنَّه ... جلاميدُ صخرٍ حطَّهُ السيلُ من علِ
وأفعمت الغدران حتّى كأنَّما ... ترائبها مصقولة كالسّجنجلِ
وأبدتْ لنا زهراً أريجاً كأنَّه ... نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفلِ
الزاهي في قوس قزح:
ضحك الزمان لدمعِ غيم مقبل ... ينهلّ بين شمائل وجنائبِ
وكأنَّ وجه الجوِّ نيطَ ببرقعٍ ... وكأنَّ شمس الدجن وجنةُ كاعبِ
وكأنَّ قوسَ المزنِ في تخطيطه ... شفةٌ بدتْ من تحتِ خضرة شاربِ
الحيص بيص في السحاب:
دانٍ يكادُ الوحشُ يكرعُ وسطه ... وتمسُّهُ كفُّ الوليدِ المرضعِ
متتابعٍ جمٍّ كأنَّ ركامه ... كبّاتُ أو قيصراً وسرايا تبّعِ
فهمَى وألقى بالعراءِ بعاعهُ ... سحّاً لمندفعِ الآتيِّ المترعِ
فتساوتِ الأقطارُ من أمواهه ... فالقارةُ العلياءُ مثلُ المدفعِ

وغدا سرابُ القاعِ بحرَ حقيقةٍ ... فكأنَّه لتيقنٍ لم يُخدعِ
مُتغطمطاً سلبَ الوحوش مكانها ... تيارهُ فالضبُّ جارُ الضفدعِ
أخذ البيت الأول من قول الأول وزاده:
دانٍ مسفٍّ فُويقَ الأرضِ هيدبهُ ... يكادُ يدفعه من قامَ بالراحِ
وقال أبو تمام:
كأنَّ السحابَ الغرَّ غنّينَ تحتها ... حنيناً فما ترقا لهنَّ مدامعُ
ربًى شفعتْ ريحُ الصبا لرياضها ... إلى الغيثِ حتّى جادَها وهو هامعُ
فوجه الضحى غدواً لهنَّ مضاحكٌ ... وجنبُ الندى ليلاً لهنَّ مضاجعُ
وقال ابن الحنفي في البرق:
أرقت لبرقٍ من دياركم عنَّا ... ألمَّ فكم أصبا فؤاداً وكم عنّى
بدا حاكياً تلك الثغور ابتسامه ... وعاد نحيلاً حاكياً جسميَ المضنى
وسلَّ كسيف الهند من غمد أفقه اخ ... تلاساً لقتل الغمض في مقلتي وهنا
فلو لم تحل من دونه دم عبرتي ... جعلتُ له جفني غراماً به جفنا
ولو قال: لقتل الغمض في مقلتي الوسنى، كان أجود وأكثر ملاءمة، وكأني به قد خاف أن يصف مقلته بأنها وسنى، وليت شعري لو أنها كذلك وإلا أي شيء كان يقتل البرق في جفنه، وفي قوله الغمض دليل على ما فرَّ منه.
وقال جابر بن رالان يصف ماء:
فيالهف نفسي كلما التحتُ لوحةً ... إلى شربةٍ من بعض أحواض مأربِ
بقايا نِطاف أودع الغيمُ صفوها ... مصقلة الأرجاء زرق المشاربِ
ترقرقَ ماءُ المزنِ فيهنّ والتقت ... عليهنَّ أنفاسُ الرياحِ الغرائبِ
وقال ابن المعتز:
ظللتُ بها أسقى سُلافة قهوةٍ ... بكفّ غزال ذي جفونٍ صوائدِ
على جدول ريّان لا يكتم القذى ... كأنَّ سواقيه متون المباردِ
ابن الرومي:
وماءٍ جلتْ عن حرِّ صفحتهِ القذى ... من الريحِ معطارُ الأصائلِ والبكرِ
به عبقٌ مما تُسحِّب فوقهُ ... نسيمُ الصبا تجري على الروضِ والزهرِ
ولأبي هلال العسكري يصف سفناً:
شققن بنا تيار بحر كأنَّه ... إذا ما جرتْ فيه السفينُ يعربدُ
ترى مسترق الماء منه كأنَّه ... سبيبٌ على الأرضِ الفضاءِ يُمدَّدُ
فطوراً تراهُ وهو سيفٌ مهنّدٌ ... وطوراً تراهُ وهو درعٌ مسرَّدُ
نصعَّدُ فيه وهو زورقٌ حمامه ... فنحسب أنَّا في السماء نصعّدُ
السري الرفاء:
ولا وصل إلاّ أنْ أروحَ مُلجّجاً ... بأدهمَ في تيارِ أخضرَ مُزبدِ
شوائلُ أذنابٍ يُخيّل أنها ... عقاربُ ذنبٍ فوقَ صرحٍ ممرَّدِ
وقال في المد وانقطاع الجسر ببغداد:
أحذركم أمواج دجلةَ إذ غدتْ ... مصندلةً بالمدِّ أمواجُ مائها
فظلّت صغارُ السفن ترقصُ وسطها ... كرقصِ بناتِ الزنجِ عند انتشائها
السلامي:
ونهرٌ تمرحُ الأمواجُ فيه ... مراحَ الخيلِ في رهجِ الغبارِ
إذا اصفرَّت عليه الشمسُ خِلنا ... نميرَ الماءِ يُمزجُ بالعقارِ
وقال أيضاً:
لم أنس دجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغربُ
فكأنها منه رداء أزوق ... وكأنه فيها طرازٌ مذهب
وقال أيضاً:
لنا بركٌ مثل المرايا تريك ما ... تأخَّر في حافاتها وتقدَّما
إذا عبَّ فيها شاربُ الطيرِ خِلته ... يمدُّ إليه الفرخ جيداً ليُطعما

وصف في الليل والنجوم
والمجرة والهلال والصبح والشمس وما يتعلق بذلك
قال مسكين الدارمي:
ومطوي أثناء اللسان بعثته ... يخالُ النعاس في مفاصله خمرا
بأرضٍ كساها الليلُ ثوباً كأنَّما ... كساها مُسوحاً أو طيالسةً خضرا
وقال محمد بن علي الفهمي:
والليل في ثوبٍ كأنَّ أديمه ... نفضتْ عليه سوادهنَّ جفونُ
مسودّة أقطاره فكأنَّه ... مطل تلاه نائل ممنونُ
والأرض شوهاء العراص كأنَّها ... صدٌّ إلى يوم النَّوى مقرونُ
والليلُ مكبوب عليه مطرقٌ ... ما يستفيقُ كأنَّه محزونُ
وقال علي بن الجهم:
كمْ قد تجهَّمني السُّرى وأزالني ... ليلٌ ينوءُ بصدرهِ متطاولُ
وهززتُ أعناقَ المطيَّ أسومها ... قصداً ويحجبُها السوادُ الشاملُ
حتّى تولَّى الليلُ ثانيَ عطفه ... وكأنَّ آخره خضابٌ ناصلُ

وخرجتُ من أعجازه فكأنَّما ... يهتزُّ في بُرديَّ رمحٌ ذابلُ
ورأيتُ أغباشَ الدجى فكأنَّما ... حزقُ النَّعامِ ذُعرن فهي جوافلُ
الغبش: البقية من الليل، وقيل: ظلمة آخره، والحزق: الجماعات.
وحميتُ أصحابي الكرى وكأنَّهم ... فوقَ القلاصِ اليعملاتِ أجادلُ
وقال آخر:
ربَّ ليلٍ كالبحر هولاً وكالده ... ر امتداداً وكالمداد سوادا
خضته والنجوم يوقدن حتّى ... أطفأ الفجرُ ذلك الإيقادا
قال أحمد بن محمد المصيصي:
كأنَّ بينَ هزيعيهِ نوًى قذفاً ... وبُعد ما بين قلب الصبِّ والجلدِ
كأنَّما فرقداه في ائتلافهما ... ياقوتتا ملكٍ أو ناظرا أسدِ
حتّى تنبَّه فجرٌ من خلال دجَى ... كأنَّه مقلةٌ زرقاء في رمدِ
البحتري:
ولقد بعثنا اليعملاتِ قواصداً ... لفنائكَ المأنوسِ قصدَ الأسهمِ
تطوي الفيافي والنجومُ كأنَّها ... خلل الحنادسِ شعلةٌ في أدهمِ
وقال أبو فراس الحارث بن سعيد وأجاد:
لبسنا رداءَ الليلِ والليلُ راضعٌ ... إلى أنْ تردَّى رأسهُ بمشيبِ
وبتنا كغُصني بانةٍ عانقتهُما ... مع الصبحِ ريحاً شمألٍ وجنوبِ
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادي نصولٍ في عذارِ
فيا ليلُ قد فارقتَ غيرَ مذمَّمٍ ... ويا صبحُ قد أقبلتَ غيرَ حبيبِ
وقال آخر:
زارني والدجى أحمّ الحواشي ... والثريا في الغرب كالعنقودِ
وكأنَّ الهلال طوق عروسٍ ... حلّ منها على غلائل سودِ
ليلةَ الوصل ساعدينا بطولٍ ... طوَّل اللهُ فيك غيظ الحسودِ
ومن أحسن ما قيل في استتار النجوم بالغيم قول أبي المعتصم:
وليلٍ كأنَّ نجوم السماء ... به أعينٌ رُنِّقت للهجوعِ
ترى الغيم من دونها حاجباً ... كما احتجبت مقل بالدموعِ
وأحسن ما قيل في الهلال قول ابن المعتز:
وجاءني في قميصِ الليلِ مستتراً ... يستعجل الخطو من خوفٍ ومن حذرِ
ولاحَ ضوءُ هلالٍ كادَ يفضحهُ ... مثل القُلامةِ إذ قُصَّت من الظفرِ
وقال آخر:
وكأنَّ الهلال شطر سوارٍ ... والثريا كفّ تشير إليه
وقد أحسن أبو عبد الله بن الحجاج ما شاء في قوله:
يا صاحبيّ تنبّها من رقدةٍ ... تُزري على عقلِ اللبيبِ الأكيسِ
هذي المجرَّة في السماءِ كأنَّها ... نهرٌ تدفَّق في حديقةِ نرجسِ
وقال أبو هلال العسكري:
ليل كما نفضَ الغرابُ جناحَه ... متلونُ الأعلى بهيمُ الأسفلِ
تبدو الكواكبُ في المجرَّة سُرّعاً ... مثل الظباءِ كوارعاً في منهلِ
وقال أيضاً:
قم بنا نذعر الهموم بكأسٍ ... والثريا لفرقِ الليلِ تاجُ
وقد انجرَّت المجرّة فيها ... كسبيب يمدُّه نسّاجُ
وقال آخر:
يا ليلةً طلعت بأيمن طائر ... تاهت على ضوءِ النهارِ الناصعِ
بمحاسنٍ مقرونةٍ بمحاسنٍ ... وبدائعٍ موصولةٍ ببدائعِ
ضوءُ العُقار وضوءُ وجهك مازجَا ... ضوءَ الهلال وضوءَ برقٍ لامعِ
وقال أبو بكر الضبي:
وليلةٍ كالرفرف المعلم ... محفوفة الحندس بالأنجمِ
تعلَّق الصبح بأعجازها ... تعلُّقَ الأشقر بالأدهمِ
وقال ابن طباطبا:
يا ليلة حليت بزهر نجومها ... وسهرتها حتّى بدت لي عاطلا
لم يرضَ ليلي إذ تجلَّى بدرهُ ... حتّى أراني فيه منك مخائلا
فطفقت أرمق منه بدراً طالعاً ... وطفقت اذكر منك بدراً آفلا
ابن المعتز:
في ليلةٍ أكلَ المحاقُ هلالها ... حتّى تبدَّى مثلَ وقفِ العاجِ
والصبح يتلو المشتري فكأنَّه ... عريانُ يمشي في الدجى بسراجِ
وقال أيضاً:
يا ليلة ما كانَ أطي ... بها سوى ليلِ البقاءِ
أحييتُها وأمتُّها ... وطويتُها طيَّ الرداءِ
حتّى رأيتُ الشمس تتل ... و البدرَ في أفقِ السماءِ
فكأنَّها وكأنَّه ... قدحانِ من خمرٍ وماءِ
وقال:
كأنَّ سماءنا لمَّا تجلَّت ... خلالَ نجومِها غبَّ الصباحِ
رياضُ بنفسجٍ خضلٍ نداهُ ... تفتَّح بينها نورُ الأقاحِ
محمد بن الآمدي:

ورثّ قميص الليل حتّى كأنَّه ... سليبٌ بأنفاسِ الصبا متوشحُ
ولاحت بطيَّات النجوم كأنَّها ... على كبدِ الخفراءِ نورٌ مفتّحُ
وقال ابن الزمكدم وأجاد ما شاء، وهي بباب الهجاء أنسب، ولكنها تضمنت تشبيه الليل والصبح فذكرتها هنا:
وليلٍ كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبرد أغانيه وطول قرونهِ
سريت ونومي فيه نومٌ مشرّدٌ ... كعقلِ سليمان بن فهد ودينهِ
على أولقِ فيه اختباط كأنَّه ... أبو جابر في خبطهِ وجنونهِ
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنَّه ... سنا وجهِ قرواش وضوء جبينهِ
أبو هلال:
وكأنَّ الهلالَ مرآةُ تبرٍ ... تنجلي كلَّ ليلةٍ إصبعينِ
آخر:
والجوُّ صافٍ والهلال مشنّفٌ ... بالزهرة البيضاء نحو المغربِ
كصفيحةٍ زرقاءَ فيها نقطةٌ ... من فضةٍ من تحت نون مُذهبِ
فيه أنه جعل النقطة تحت النون وهذا غير معروف.
وقد أحسن ابن النبيه في قوله:
والليلُ تبدو الدَّراري في مجرَّته ... كالماءِ تطفو على روضٍ أزاهرهُ
وكوكبُ الصبح نجّابٌ على يده ... مخلّقٌ تملأُ الدنيا بشائرهُ
وقال ابن الحنفي:
لله زورته وقد حلَّى الدجى ... جيد السماء بكلّ نجم زاهرِ
وغدت نجوم الأفق ليلة زارني ... كالبدر بين مراقبٍ ومسامرِ
فالقلب منها مثل قلبي خافق ... والطرفُ منها مثل طرفي الساهر
وقال أيضاً:
وكأنَّ النجومَ نورُ رياضٍ ... وكأنَّ المريخَ شعلةُ نارِ
ابن طباطبا:
والصبح في صفو الهواء مورّدٌ ... مثل المدامة في الزجاج تشعشع
وقال أيضاً:
وليل نصرت الغيّ فيه على الرشدِ ... وأعديتُ فيه الهزل منِّي على الجدِّ
إلى أن تجلَّى الصبح من خلل الدجى ... كما انخرط السيفُ اليمانيّ من غمدِ
ابن المعتز:
تظلُّ الشمسُ ترمقُنا بلحظٍ ... خفيٍّ مدنفٍ من تحتِ سترِ
تحاولُ فتقَ غيمٍ وهو يأبى ... كعِنِّينٍ يرومُ نكاحَ بكرِ
أبو هلال:
ملأ العيون غضارةً ونضارةً ... صحوٌ يطالعنا بوجه مونقِ
والشمس واضحة الجبين كأنَّها ... وجهُ المليحة في الرداءِ الأزرقِ
وكأنَّها عندَ انبساطِ شعاعها ... تبرٌ يذوبُ على فروعِ المشرقِ
وأحسن ما قيل في غروب الشمس:
إذ رنَّقت شمسُ الأصيلِ ونفّضتْ ... على الأفقِ الغربيِ ورساً مزعزعا
ولاحظتِ النوّار وهي مريضةٌ ... وقد وضعتْ خدّاً إلى الأرضِ أضرعا
كما لا حظت عواده عين مدنفٍ ... توجع من أوصا به ما توجعا
وظلّت عيونُ النورِ تخضلُّ بالندى ... كما اغرورقتْ عينُ الشجيَّ لتدمعا
وقال المجد بن الظهير الإربلي من قصيدة يمدح بها السعيد تاج الدين رحمه الله تعالى:
وفلاةٍ فليتها بأمونٍ ... هلَّت البيدُ وخدها والذّميلا
الأمون: الناقة الشديدة التي أُمن عثارها.
مثل ظهر المجنّ لا يجد الخرّي ... ت فيها إلى سبيل سبيلا
تجد الآل خافقاً قلبه في ... ها إذا أمّت الوجوه المقيلا
جبتُها والظلام راهب ليلٍ ... جاعلٌ كلّ كوكبٍ قنديلا
أو عظيم للزنج يقدم حبشاً ... قد أعدُّوا أسنّةً ونصولا
وكأنَّ السماءَ روض أريض ... نوره بات بالندى مطلولا
وكأنَّ النجوم درّ عقودٍ ... عاد عقدُ سلكها محلولا
ليلة كالغداف لو لم يرعها ... باز فجر ما أوشكت أن تزولا
رقّ جلبابُ جنحِها وبدا شفاً ... كما شارف الخضاب النصولا
وتولَّت وأشهب الصبح يتلو ... أدهم الليل وانياً مشكولا
وكأنَّ الصباحَ ميلُ لجينٍ ... كاحل للظلام طرفاً كحيلا
ما انتهت والسهاد حتّى انتهى ... الصبر ورحنا من حمرة السهد ميلا
وثنى النجم عن سراهُ عِناناً ... مطلقاً وانبرى النسيم عليلا
واجتلينا النهار فيه كوجه ال ... صاحب الصدر مجتدًى مأمولا
وقلت من أبيات:
وليلٍ غُدافيّ الإهابِ ارتديته ... وصحبي نشاوى من نعاس ومن لغبِ
كأنَّ السماء اللازوردي مطرفٌ ... وأنجمه فيه دنانير من ذهبْ
قد اطَّردت فيه المجرَّة جدولاً ... فلاح عليها من كواكبها جنبْ

كأنَّ سوادَ الليلِ زنجٌ بدا لهم ... من الصبح ترك فاستكانوا إلى الهربْ
كأنَّ ضياء الشمس وجه محمد ... إذا أمَّه الراجي فأعطاه ما طلبْ

وصف في المدح والفخر
والتهاني وما يضاف إليها
قال كعب بن زهير يمدح النبي، صلى الله عليه وسلّم:
إنَّ الرسول شهابٌ يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلولُ
في فتيةٍ من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لمَّا أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميلٌ معازيلُ
شمّ العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داوود في الهيجا سرابيلُ
لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا
لا يقع الطعن إلاّ في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليلُ
وقال حسان بن ثابت:
إنَّ الذوائبَ من فهرٍ وأخوتهم ... قد بيَّنوا سنّةً للناسِ تُتَّبعُ
قومٌ إذا حاربوا ضرُّوا عدوَّهم ... أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفعوا
لا يجهلونَ إذا حاولتَ جهلهمُ ... في فضلِ أحلامهم عن ذاكَ متَّسعُ
سجيّةٌ تلكَ منهم غيرُ محدَثةٍ ... إنَّ الخلائقَ فالعمْ شرُّها البدعُ
إنْ كانَ في الناسِ سبَّاقونَ بعدهمُ ... فكلُّ سبقٍ لأدنى سبقهم تبعُ
ر يرقعُ الناسُ ما أوهتْ أكفُّهمُ ... عند الدفاعِ ولا يوهونَ ما رقعوا
لا يبخلونَ على جارٍ بفضلهم ... ولا يمسّهمُ من مطمعٍ طبعُ
أعفّةٌ ذُكرتْ في الوحي عفّتهمْ ... لا يطمعونَ ولا يرديهمُ طمعُ
كأنَّهم في الوغى والموتُ مكتنعٌ ... أُسدٌ بخفّانَ في أرسانِها فدعُ
لا فرحٌ إنْ أصابوا من عدوّهم ... وإنْ أُصيبوا فلا خورٌ ولا جزعُ
خذْ منهم ما أتى صفواً إذا غضبوا ... ولا يكنْ همّكَ الأمرُ الذي منعوا
فإنّ في حربهم فاحذرْ عداوتهم ... سمّاً يُدافُ عليه الصَّابُ والسلعُ
أكرِم بقومٍ رسولُ اللهِ شيعتهم ... إذا تفرَّقت الأهواءُ والشّيعُ
وقال أبو طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلّم:
وأبيض يُستسقى الغمامُ بوجههِ ... ثُمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ
يطوفُ به الهلاكُ من آل هاشم ... فهم عندهُ في نعمةٍ وفواضلِ
وقال أبو الجويرية العنزي:
على موسريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلّين اتساع الخلائقِ
لهم من نزارٍ حين ينسب أصلهم ... مكان النواصي من وجوه السوابقِ
بهم يُجبرُ العظم الكسير ويطلق ال ... أسير وينجو من عظام البوائق
وقال عقيل بن العرندس الكلابي يمدح بني عمرو الغنويين:
يا دارُ بينَ كُليَّاتٍ وأظفارِ ... والحمّتينِ سقاكِ اللهُ من دارِ
على تقادمِ ما قد مرّ من زمنٍ ... مع الذي مرَّ من ريحٍ وأمطارِ
وقد أرى بك والأيامُ صالحةٌ ... بيضاً عقائلَ من عونٍ وأبكارِ
فيهنّ عثمةُ لا يمللنَ عشرتها ... ولا علمنَ لها يوماً بأسرارِ
بل أيّها الرجلُ المفني شبيبتهُ ... يبكي على ذاتِ خلخالٍ وإسوارِ
خبّر ثناء بني عمرٍو فإنهم ... ذوو أيادٍ وأحلامٍ وأخطارِ
هَينونَ لينونَ أيسارٌ ذوو يسرٍ ... سوّاسُ مكرمةٍ أبناءُ أيسارِ
لا ينطقونَ على العمياءِ إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثارِ
إن يسألوا الخير يعطوه وإن جهدوا ... فالجهدُ يخرجُ منهم طيبَ أخبارِ
وإن تودَّدتهم لانوا وإن شهموا ... كشّفت أذمار حربٍ أيّ أذمارِ
من تلقَ منهم تقلْ لاقيتُ سيّدهم ... مثلَ النجومِ التي يسري بها الساري
دخل أعرابي على معن بن زائدة فأنشده:
أضحت يمينك من جودٍ مصوّرةٍ ... لا بل يمينك منها صورة الجودٍ
بنور وجهك تضحي الأرض مشرقةً ... ومن بنانك يجري الماء بالعودِ
مروان بن أبي حفصة:
بنو مطرٍ يومَ اللقاءِ كأنّهمْ ... أسودٌ لها في غيل خفّانَ أشبلُ
همُ المانعونَ الجارَ حتّى كأنما ... لجارهمُ فوقَ السماكينِ منزلُ
بهاليلُ في الإسلامِ سادوا ولم يكنْ ... كأوَّلهمْ في الجاهليةِ أوَّلُ

همُ القومُ إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلونَ فعالهم ... وإن أحسنوا في النائباتِ وأجملوا
للخنساء:
وما بلغتْ كفُّ امرئٍ متناولاً ... من المجدِ إلاّ والذي نلتَ أطولُ
وما بلغَ المهدونَ في القولِ مدحةً ... وإن أطنبوا إلاّ الذي فيكَ أفضلُ
إبراهيم بن هرمة:
إذا قيل أيُّ فتىً تعلمونَ ... أهشُّ إلى الطعنِ بالذّابلِ
وأضربُ بالسيفِ يومَ الوغى ... وأطعمُ في الزمنِ الماحلِ
أشارت إليكَ أكفُّ الأنامِ ... إشارةَ غرقى إلى ساحلِ
مسلم بن الوليد:
موفٍ على مهجٍ في يوم ذي رهجٍ ... كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ
ينالُ بالرّفقِ ما يعيا الرجالُ بهِ ... كالموتِ مستعجلاً يأتي على مهلِ
تكسو السيوفَ نفوسُ الناكثينَ به ... ويجعلُ الهامَ تيجانَ الفتى الذُّبلِ
قد عوَّدَ الطير عاداتٍ وثقنَ بها ... يتبعنهُ في كلِّ مرتحلِ
لله من هاشم في أرضهِ جبلٌ ... وأنت وابنكَ ركنا ذلك الجبلِ
أبو تمام:
ستصبح العيس بي والليلُ عندَ فتىً ... كثيرِ ذكرِ الرِّضا في ساعةِ الغضبِ
صدفتُ عنه فلم تصدفْ مواهبهُ ... عنّي وعاودهُ ظنّي فلم يخبِ
كالغيثِ إن جئتهُ وافاكَ ريِّقهُ ... وإن ترَّحلتَ عنه جدَّ في الطلبِ
وقال:
أحوامل الأثقال إنك في غدٍ ... بفناء أحمل منك للأثقالِ
كالغيثِ ليسَ له أريدَ غمامهُ ... أو لم يردْ بدٌّ من التّهطالِ
آخر:
إنَّ للناس غايةً في المعالي ... وقفوا عندها وأنتَ تزيدُ
قد تناهيت في المكارم والمج ... د وجزتَ المدى فأينُ تريدُ
مثله لابن نباتة:
قل لي فأين تريد قد جزتَ المدى ... وعلوتَ حتّى صرتَ بالمرصادِ
إبراهيم بن العباس:
ألا إن عبد الله لما حوى الغنى ... وصار له من بين إخوانه مالُ
رأى خلّةً منهم تسدُّ بمالهِ ... فساهمهم حتّى استوت بهم الحالُ
مثله:
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتّى تجلّتِ
ما أحسن قوله: من حيث يخفى مكانها، فإنه غاية الحسن لمتأمله.
حسان بن ثابت:
لله درُّ عصابةٍ نادمتهمْ ... يوماً بجلّقَ في الزمان الأفضلِ
أولادُ جفنةَ حول قبرِ أبيهمِ ... قبرِ ابن ماريةَ الكريمِ المفضلِ
قوله: حول قبر أبيهم، يريد أنهم ملوك مقيمون في بلدهم ودارهم وليسوا من العرب الذين يتنقلون من موضع إلى موضع ولا مستقر لهم.
يغشونَ حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبلِ
يريد: أن كلابهم قد أنست بالضيوف فلا تهرّ عليهم وهم شجعان لا يسألون لنجدتهم وعزهم عن السواد المقبل وهذا مثل بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
ومثله:
إذا ما دعوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّةِ حربٍ أم لأيّ مكانِ
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطراز الأوّلِ
وقال جرير وأجاد، فلله درّه:
فيومانِ من عبد العزيز تفاضلا ... ففي أيّ يوميهِ تلومُ عواذلهْ
فيومٌ تحوط المسلمين جيادهُ ... ويومُ عطاءٍ ما تغبُّ نوافلهْ
فلا هو في الدنيا مضيعٌ نصيبه ... ولا عرضُ الدنيا عن الدينِ شاغلهْ
البيت الثاني أخذه المتنبي برمته فقال:
فيومٌ بخيلٍ تطردُ الرومَ عنهم ... ويومٌ بجودٍ يطردُ الفقرَ والجدبا
ابن هانئ أنشدنيهما السعيد المرحوم تاج الدين قدّس الله روحه:
المدنفانِ من البريَّةِ كلها ... جسمي وطرفٌ بابليٌّ أحورُ
المشرقاتُ النيِّراتُ ثلاثةٌ ... الشمسُ والقمرُ المنيرُ وجعفرُ
ابن الرومي:
كم من يدٍ بيضاء قد أسديتها ... تثني إليكَ عنانَ كلِّ ودادِ
شكرَ الإلهُ صنائعاً أسديتها ... سلكتْ مع الأرواحِ في الأجسادِ
السيد الرضي:
ألبستني نعماً على نعمِ ... ورفعتَ لي علماً على علمِ
وعلوتَ بي حتّى مشيتُ على ... بسطٍ من الأعناق والقممِ
فلأشكرنَّ نداكَ ما شكرتْ ... خضرُ الرياضِ صنائعَ الديمِ

فالحمدُ يبقي ذكرَ كلِّ فتىً ... ويبينُ قدرَ مواقعِ الكرمِ
والشكرُ مهرٌ للصنيعةِ إن ... طلبتْ مهورُ عقائلِ النّعمِ
إبراهيم بن العباس:
ولكنّ الجواد أبا هشام ... وفيّ العهد مأمون المغيبِ
بطئٌ عنك ما استغنيتَ عنه ... وطلاّعٌ إليك مع الخطوبِ
السريّ:
أعزمتكَ الشّهابُ أمِ النهارُ ... أراحتكَ السّحابُ أمِ البحارُ
خلقتَ منيّةً ومنىً فإما ... تمورُ بكَ البسيطةُ أو تمارُ
تحلّي الدينَ أو تحمي حماهُ ... فأنتَ عليه سورٌ أو سوارُ
البحتري:
سلام الله منك على جواد ... إذا جارى حوى قصب السباقِ
سما للمجد مبيّض الأيادي ... فسيح الظل ممدود الروّاقِ
ابن الرومي:
فلي من بطنِ راحتهِ ارتواءُ ... ولي في ظهرِ راحتهِ استلامُ
ظللتُ بمأمنٍ منه حريزٍ ... يخيّل أنه البلدُ الحرامُ
وقال:
وقلَّ من ضمنتْ خيراً طويَّتهُ ... إلاّ وفي وجههِ للبشرِ عنوانُ
تلقاه وهو مع الإحسانِ معتذرٌ ... وقد يسيءُ مسيءٌ وهو منّانُ
إذا تيممهُ العافي فكوكبهُ ... سعدٌ ومرعاهُ في واديهِ سعدانُ
إذا بدا وجهُ ذئبٍ فهو ذو سنةٍ ... وإن بدا وجهُ خطبٍ فهو يقظانُ
أحيا بكَ الله هذا الخلقَ كلّهمُ ... فأنتَ روحٌ وهذا الخلقُ جثمانُ
أبو تمام:
فافخرْ فما من سماءٍ للعلى رفعت ... إلاّ وأفعالكَ الحسنى لها عمدُ
واعذرْ حسودكَ فيما قد خصصتَ به ... إنَّ العلى حسنٌ في مثلها الحسدُ
وله:
له كرمٌ لو كانَ في الماءِ لم يغضْ ... وفي البرقِ ما شامَ امرؤٌ برقَ خلّبِ
أخو عزماتٍ بذلهُ بذلُ محسنٍ ... إلينا ولكن عذرهُ عذرُ مذنبِ
أحمد بن أبي طاهر:
إذا ما أتاه السائلون توقّدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشرِ
له في ذوي المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماءِ المزن في البلد القفرِ
البحتري:
لو أنَّ كفّكَ لم تجدْ لمؤمّلٍ ... لكفاهُ عاجلُ بشركَ المتهلِّلِ
وإذا أمرت مما يقال لك اتئدْ ... وإذا قضيت فما يقال لك اعدلِ
وله:
ولقد جريتَ إلى المعالي سابقاً ... وأخذتَ حظَّ الأوّلِ المتقدّمِ
وكبا عدوّكَ حينَ رام بكَ الذي ... يخشى فقلنا لليدينِ وللفمِ
وله:
كلّهم عالمٌ بأنّكَ فيهم ... نعمةٌ ساعدتْ بها الأقدارُ
فوقتْ نفسك النفوس من السو ... ءِ وزيدت في عمركَ الأعمارُ
وله:
إذا ساغَ كفَّ اللحظُ عن كلِّ منظرٍ ... سواه وغضَّ الصوتُ عن كلِّ مسمعِ
فلستَ ترى إلاّ إفاضةَ شاخصٍ ... إليه بعينٍ أو مشيراً بإصبعِ
آخر:
فتىً إذا عدَّتْ تميم معاً ... ساداتها عدوّه بالخنصرِ
ألبسه الله ثياب العلى ... فلم تطل عنه ولم تقصرِ
أبو تمام:
ملكٌ تضئُ المكرماتُ إذا بدا ... للملك منه غرَّةٌ وجبينُ
ساسَ الأمورَ سياسةَ ابن تجاربٍ ... رمقتهُ عينُ الملكِ وهو جنينُ
لانت مهزَّتهُ فعزَّ وإنما ... يشتدّ بأسُ الرمحِ حين يلينُ
الخنساء:
طويلَ النّجادِ رفيعَ العما ... دِ سادَ عشيرتهُ أمردا
يحمّلهُ القومُ ما عالهمْ ... وإن كانَ أصغرهمْ مولدا
ترى الحي وفداً إلى بابهِ ... يرى أفضلَ الكسبِ أن يحمدا
مروان بن أبي حفصة:
يفيضُ ندى كفّيهِ طوراً وتارةً ... تمجُّ دماً أرماحهُ ومناصلهْ
تروكُ الهوى لا السُّخطُ منه ولا الرّضى ... لدى موطنٍ إلاّ على الحقِّ حاملهْ
أبو نواس:
يا ناقُ لا تسأمي أو تبلغي ملكاً ... تقبيلُ راحتهِ والركن سيّانِ
متى تحطّي إليه الرّحلَ سالمةً ... تستجمعي الخلقَ في جثمانِ إنسانِ
طريح بن إسماعيل:
في وجههِ النورُ يستبانُ كما ... لاحَ سراجُ النهارِ إذ تقدُ
ما ولدت حرّةٌ على عقر ال ... أرض شبيهاً له ولا تلدُ
شبيب بن البرصاء:
طويل يد السّربال عارٍ جبينه ... كنصل اليماني أخلصته صياقلهُ
إذا همَّ بالمعروف لم تجر طيره ... نحوساً ولم تسبق نداه عواذلهْ
أبو نواس:

يا ابن أبي العباس أنت الذي ... سماؤه بالجود مدرارُ
يرجو ويخشى حالتيك الورى ... كأنكَ الجنّةُ والنارُ
أبو العتاهية:
عليه تاجانِ فوقَ مفرقهِ ... تاجُ بهاءٍ وتاجُ إخباتِ
يقولُ للريحِ كلّما ارتفعتْ ... هل لكِ يا ريحُ في مباراتي
كثيّر:
كثيرُ عطايا الفاعلينَ مع الذي ... تجودُ به إن كاثروكَ قليلُ
وأنت ابن ليلى والسماحة والندى ... قبيلٌ معاً والعاذلات قبيلُ
يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... وليس عليه في الملام سبيلُ
آخر:
وكأنّما ظفرت يداه بالمنى ... فرحاً إذا ظفرت يداه بمجتدي
لو يعلم العافون كم لك في الندى ... من لذّةٍ وقريحةٍ لم تخمدِ
أبو تمام:
هو البحر من أيِّ النواحي أتيتهُ ... فلجّتهُ المعروفُ والجودُ ساحله
تعوَّدَ بسطَ الكفِّ حتّى لو أنهُ ... ثناها لقبضٍ لم تطعهُ أنامله
ولو أنَّ ما في كفّهِ غيرُ نفسهِ ... لجادَ بها فليتّقِ الله سائله
آخر:
فلو كان ما يعطيه من رمل عالجٍ ... لأصبح من جدواك قد نفد الرّملُ
وماريتَ وبل الغيث بالجود والندى ... فدام ندى كفّيك وانقطع الوبلُ
آخر:
رأيتُ يحيى أتمّ الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحدُ
ينسى الذي كان من معروفه أبداً ... إلى الرّجال ولا ينسى الذي يعدُ
حماد عجرد:
فأنتَ أكرمُ من يمشي على قدم ... وأنضرُ الناسِ عندَ المحلِ عيدانا
لو مجّ عودٌ على قومٍ عصارته ... لمجّ عودك فينا المسك والبانا
مسلم بن الوليد:
سبقتْ مواهبهُ منى مرتادها ... واستحدثتْ همماً لمن لم يرتدِ
يتجنبُ الهفواتِ في خلواتهِ ... عفُّ السّريرةِ غيبهُ كالمشهدِ
ولأنتَ أمضى في اللقاء وفي الندى ... من باسلٍ وغدٍ وغادٍ مرعدِ
أعطيتَ حتّى ملَّ سائلكَ الغنى ... وعلوت حتّى ما يقالُ لك ازددِ
علي بن مرزوق:
أنتَ الذي تنزل الأيامَ منزلها ... وتنقل الدهرَ من حالٍ إلى حالِ
تزورّ سخطاً فتمسي البيض راضيةً ... وتستهلّ فتبكي أوجه المال
وما نظرتَ بطرقٍ عن مدى أملٍ ... إلاّ قضيتَ بأرزاقٍ وآجالِ
أبو علي البصير:
كفاني عبيد الله لا زال كافياً ... به الله همّاً كان ضاق به صدري
فتًى لا يفيد المال إلاّ لبذله ... ولا يتلقى صفحة الحق بالعذرِ
علي بن جبلة وأجاد:
ولا عتب للأيام عندي ولا يد ... بعتبي وعندي من أبي دلف حبلُ
على كلّ نشرٍ وطأةٌ من نكاله ... وفي كلّ حيّ من مواهبه سجلُ
هو الأملُ المبسوطُ والأجلُ الذي ... يمرّ على أيامهِ الدهرُ أو يحلو
فعشْ واحداً أمّا الثراءُ فمسلمٌ ... مباحٌ وأّما الجار فهو حمًى بسلُ
علي بن الجهم:
يعاقبُ تأديباً ويعفو تطوُّلاً ... ويجزي على الحُسنى ويُعطي فيجزلُ
ولا يُتبع المعروفَ منّاً ولا أذًى ... ولا البخلُ من أخلاقهِ حينَ يُسألُ
تأمَّل تجدْ للهِ فيهِ بدائعاً ... من الحسنِ لا تخفى ولا تتبدَّلُ
إذا نحنُ شبَّهناكَ بالبدرِ طالعاً ... بخسناكَ حظّاً أنتَ أبهى وأجملُ
وتُظلم إنْ قسناكَ بالليثِ في الوغى ... لأنَّك أحمى للحريمِ وأبسلُ
ولست ببحرٍ أنت أعذبُ مورداً ... وأنفعُ للراجي نداكَ وأسهلُ
فلا وصفَ إلاّ قد تجاوزتَ حدَّه ... ولا عرفَ إلاّ سيْبُ كفّكَ أفضلُ
رعاكَ الذي استرعاكَ أمرَ عبادهِ ... وكافاكَ عنَّا المُنعمُ المتفضِّلُ
أبو تمام:
مجرَّدٌ سيفَ رأيٍ من عزيمتهِ ... للدهرِ صيقلهُ الإطراقُ الفكرُ
عضباً إذا هزَّه في وجهِ نائبةٍ ... جاءتْ إليه صروفُ الدهرِ تعتذرُ
إبراهيم بن العباس وأجاد:
أسدٌ ضارٍ إذا مانعتهُ ... وأبٌ برٌّ إذا ما قدرا
يعرف الأقصى إذا أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
عبد الله بن قيس الرقيات:
إنَّما مصعبٌ شهابٌ من اللهِ ... تجلَّت عن وجهه الظلماءُ
مُلكهُ ملكُ رأفةٍ ليس فيه ... جبروتٌ منه ولا كبرياءُ

يتَّقي الله في الأمور وقد أف ... لحَ من كانَ شأنهُ الاتّقاءُ
آخر:
فتًى مثل صفو الماء ليس بباخلٍ ... عليك ولا مهدٍ سلاماً لباخلِ
ولا قائل عوراء تؤذي رفيقَه ... ولا رافعٍ رأساً لعوراء قائلِ
ولا مسلم مولًى لأمرٍ يضيمه ... ولا خالطٍ حقّاً مضيئاً بباطلِ
أبو تمام:
ونفى عنكَ زخرفَ القولِ سمعٌ ... لم يكنْ فرصةً لغيرِ السّدادِ
ضربَ الحلمُ والوقارُ عليه ... دونَ عمرِ الكلامِ بالأسدادِ
وحوانٍ أبتْ عليها المعالي ... أنْ تُسمى مطيّةَ الأحقادِ
حملَ العبءَ كاهلٌ لك أمسى ... لصروفِ الزمانِ بالمرصادِ
عاتقٌ معتقٌ من الهونِ إلاّ ... من مقاساةِ مغرمٍ أو نجادِ
ملأتك الأحسابُ أيّ حياءٍ ... وحيا أزمةٍ وحيّة وادِ
آخر:
فتًى مثل عذب الماء أمّا لقاؤه ... فبشرٌ وأمّا وجهه فجميلُ
غنيّ عن الفحشاء أما لسانه ... فعفّ وأمّا طرفهُ فكليلُ
آخر:
يذكرنيك الجود والبخل والنُّهى ... وقول الخنا والحلم والعلم والجهلُ
آخر:
فألقاك عن مذمومها متنزهاً ... وألقاك في محمودها ولك الفضلُ
وأحمد من أخلاقك البخل إنه ... بعرضك لا بالمال حاشى لك البخلُ
النابغة الذبياني:
أخلاقُ مجدكَ جلّتْ ما لها خطرٌ ... في البأسِ والجودِ بينَ البدوِ والحضرِ
متوَّجٌ بالمعالي فوقَ مفرقهِ ... وفي الوغى ضيغمٌ في صورةِ القمرِ
وقد أحسن أبو العتاهية حيث يمدح الرشيد وولده ويصفهم بالحسن والشجاعة، وقد تقدم أمثال هذا وسيأتي فيما بعد ما يخطر إن شاء الله تعالى:
بنو المصطفى هارونُ حولَ سريرهِ ... فخيرُ قيامٍ حولهُ وقعودِ
يقلِّب ألحاظَ المهابةِ بينهم ... عيونُ ظباءٍ في قلوبِ أسودِ
وقال بعض الأعراب في رجل: ما دفعته في سواد إلاّ محاه ولا قابلت به مهماً إلاّ كفاه. وقال آخر:
فذلّل أعناق الصّعاب ببأسه ... وأعناق طلاّب الندى بالفواضلِ
فما انقبضت كفّاه إلاّ بصارمٍ ... وما انبسطت كفّاه إلاّ بنائلِ
وقال محمد بن بشر الأزدي:
فتًى وقف الأيام بالعتب والرضى ... على بذل مال أوْ على حدّ منصل
وما إنْ له من نظرة ليس تحتها ... غمامة غيثٍ أوْ صبابة قسطلِ
وقال آخر وأجاد:
فتًى دهره شطران فيما ينوبه ... ففي بأسهِ شطرٌ وفي جوده شطرُ
فلا من بغاة الخير في عينه قذى ... ولا من زئير الأُسد في سمعه وقرُ
وقال أبو عبادة البحتري:
هو العارضُ الثجّاجُ أخضلَ جودهُ ... وطارت حواشي برقهِ فتلهّبا
إذا ما تلظَّى في وغًى أصعقَ العدى ... وإنْ فاضَ في أكرومةٍ غمرَ الدُّبى
رزينٌ إذا ما القومُ خفّتْ حلومهمُ ... وقورٌ إذا ما حادثُ الدهرِ أحلبا
حياتُك أنْ يلقاكَ بالجودِ راضياً ... وموتُك أنْ يلقاكَ بالبأسِ مُغضبا
حرونٌ إذا عازرْته في مُلمّةٍ ... وإنْ جئتهُ من جانبِ الذُّلِّ أصحبا
إذا كفَّ لم يقعدْ به العجزُ مَقعداً ... وإنْ همَّ لم يذهبْ به الخرقُ مذهبا
قال المفضل: أتاني رسول المهدي، فقال أجب أمير المؤمنين فهالني ذلك فمضيت حتّى دخلت وعنده علي بن يقطين والمعلى مولاه فسلمت فردوا، وقال: اجلس، فجلست، فقال: أخبرني بأمدح بيت قالته العرب، فتحيرت ساعة ثم جرى على لساني قول الخنساء:
وإنَّ صخراً لمولانا وسيِّدنا ... وإنَّ صخراً إذا نشتو لنحَّارُ
أغرُّ أبلجُ تأتمُّ الهداةُ بهِ ... كأنَّه علمٌ في رأسهِ نارُ
فقال: أخبرت هؤلاء فأبوا، فقلت: يا أمير المؤمنين كنت أحق بالصواب، واعترض ابن الرومي قولها فقال:
هذا أبو الصقرِ فردٌ في مكارمهِ ... من نسلِ شيبانَ بين الطلحِ والسلمِ
كأنَّه الشمس في البرجِ المنيفِ بهِ ... على البريّةِ لا نارٌ على علمِ
أبو تمام:
كم من وساعِ الخطوِ في طلقِ الندى ... لمّا جرى وجريتَ كانَ قَطوفا
أحسنتُما صفدي ولمن كنتَ لي ... مثلَ الربيعِ حياً وكانَ خريفا
وكلاكما اقتعد العُلى فركبْتها ... في الذروة العليا وكانَ رديفا
وقال أمية بن الصلت وأجاد:

عطاؤك زينٌ لامرئ إن حبوته ... بسيبٍ وما كلّ العطاء يزينُ
وليس بشينٍ لامرئٍ بذلُ وجههِ ... إليكَ كما بعضُ السؤالِ يشينُ
وقال زهير بن أبي سلمى:
منْ يلقَ يوماً على علاّتهِ هرماً ... يلقَ السماحةَ منه والنَّدى خلقا
لو نالَ حيٌّ من الدنيا بمكرمةٍ ... أُفقَ السماءِ لنالتْ كفُّه الأُفقا
قد يجعلُ المبتغون الخيرَ في هرمٍ ... والسائلونَ إلى أبوابه طُرقا
وقال آخر:
خلقت أنامله لقائم مرهفٍ ... ولبثّ فائدةٍ وذروة منبر
يلقى الرماحَ بوجههِ وبصدرهِ ... ويقيمُ هامتهُ مقامَ المغفرِ
ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا ... فهدمتُ ركن المجد إن لم تُعقرِ
وإذا تأمَّل شخص ضيفٍ مقبلٍ ... متسربل سربال ليلٍ أغبرِ
أوْمى إلى الكوماء هذا طارقٌ ... نحرتنيَ الأعداءُ إنْ لم تُنحري
هذه الأبيات قد استحسنها أبو هلال والأقسام التي فيها يمجها طبعي وينفر عنها حتّى يعافها نقدي.
مروان بن أبي حفصة:
تفاضل يوماهُ علينا فأشْكلا ... فما نحنُ ندري أيُّ يوميه أفضلُ
أيومَ نداهُ الغمرُ أم يومَ بأسهِ ... وما منهما إلاّ أغرُّ مُحجّلُ
وقال آخر:
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... خلقاً سواك إلى المكارم يُنسبُ
فاصبر لعادتنا التي عوّدتنا ... أو لا فأرشدنا إلى منْ نذهبُ
التنوخي:
وفتيةٍ من حميرٍ حمر الظبا ... بيض العطايا حين يسودّ الأملْ
شموس مجدٍ في سماوات علًى ... وأُسد موت بين غابات الأملْ
السري:
ملكٌ إذا مدَّ خمسَ أناملٍ ... في الجودِ فاضَ لنا بخمسةِ أبحرِ
تلقاه يومَ الروعِ فارسَ معركٍ ... ضنْكٍ ويومَ السلمِ فارسَ منبرِ
وقال أيضاً:
تألَّق والخطوبُ لها ظلامٌ ... وأسفرَ والظلامُ لها قطوبُ
إذا شيمتْ بوارقهُ استهلّتْ ... سماءً من مواهبهِ يصوبُ
فمن حزمٍ تدينُ له الليالي ... ومن رأيٍ تبينُ لهُ الغيوبُ
وقال:
وإذا تبسَّم واستهلّ فعارضٌ ... لاحتْ بوارقهُ وفاضَ غمامهُ
ووصلتَ للإسلامِ بأسكَ مُقدماً ... بيضاء عزمكَ فاستنارَ ظلامهُ
أخذ البيت الأول ابن هود البوازيجي فقال من قصيدة وأجاد:
إذا ما أتاه سائلٌ برق الحيا ... بعارضهِ ثمَّ استهلَّت غمائمُه
وقلت من أبيات في الصاحب شمس الدين، عز نصره:
وإذا افترَّ لراحٍ ثغره ... سال صوبُ العُرف من ديمته
وقال السري:
فتًى شرَّعَ المجدَ المؤثَّلَ فالعلى ... مآربهُ والمكرماتُ شرائعهْ
فلا الجودُ إلاّ ما تفيدُ يمينهُ ... ولا مجد إلاّ ما تشيدُ وقائعهْ
إذا وعدَ السراءَ أنجزَ وعدهُ ... وإنْ وعدَ الضرَّاءَ فالعفوُ مانعهْ
يحنُّ إلى وردِ المنيةِ حاسراً ... إذا جادَ عن وردِ المنيةِ دارعهْ
هو الدهرُ يجري في البرية بأسهُ ... ببُؤسي وتجري بالسعودِ صنائعهْ
يعود إلى الرمح الرديني ماؤه ... ويورق إن ضُمت عليه أصابعه
ملكتَ زمامَ الدهرِ في كلّ حالةٍ ... فليسَ يضرُّ الدهرُ منْ أنتَ نافعهْ
البيت الثالث مأخوذ من قول الأول:
وإني إذا أوعدتُهُ أو وعدتُهُ ... لمخلفُ إيعادي ومُنجزُ موعدي
وأما قوله:
يحنُّ إلى ورد المنيّة حاسراً
فقد وصفه بالخرق وترك الحزم، ومثل هذا ما يقال إن الأعشى مدح ممدوحاً فقال:
وإذا تكونُ كتيبةٌ ملمومةٌ ... شهباءُ يخشى الرائدون نِزالها
كنتَ المقدّمُ غيرَ لابسِ جُنّةٍ ... بالسيفِ تضربُ مُعلماً أبطالها
ومدح كثيّر عبد الملك بن مروان فقال:
لآلِ أبي العاصي دلاصٌ حصينةٌ ... أجادَ المُسدِّي نسجها فأذالها
فقال له هلاّ قلت فيّ كما قال الأعشى وأنشد البيتين فقال: يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق ووصفتك بالحزم. وقد أحسن القائل وظرف:
ألج العجاج إلى المقنع حاسراً ... وأزورها خوفَ الوشاةِ مقنّعا
وقال السري:
أمضى من القدرِ المحتومِ صارمهُ ... إلى النفوسِ وأمضى منه حاملهُ
مجرّدُ العزمِ في طاغٍ يقارعهُ ... عن حرمةِ الدينِ أو باغٍ يناضلهُ

فأعملَ السيفَ حتّى احمرَّ أبيضهُ ... وأنهلَ الرمحَ حتّى اخضرَّ ذابلهُ
وقال:
طلوبٌ لغاياتِ الكرامِ لحوقُها ... ركوبٌ لأعلامِ النّجادِ طلوعُها
إذا عدَّ من آلِ المهلّبِ أسرةً ... معاقلها أسيافُها ودروعُها
رأيتَ العلى منثالةً عن شعابها ... عليهِ ومجموعاً لديهِ جميعُها
هُمامٌ وقى الأعداءَ من سطواتهِ ... تباعدُها من سخطهِ ونزوعُها
فعدَّته أسيافهُ ورماحهُ ... وعدَّتها إذعانها وخضوعُها
وقال:
أغرُّ ما في أناتهُ عجلُ ... يُخشى ولا في عداته مهلُ
صاعقةٌ رعدُ بأسِها قصفٌ ... وعارضٌ صوبُ مُزنهِ هطلُ
وقال:
ملكٌ إصاختهُ لأولِ صارخٍ ... وسجالُ أنعمهِ لأولِ طالبِ
كالغيثِ يلقى الطالبينَ بوابلٍ ... سحٍّ ويلقى الحاسدينَ بحاصبِ
وقال في سيف الدولة:
اللهُ جاركَ ظاعناً ومُقيماً ... وضمينُ نصركَ حادثاً وقديما
أنْ تسرِ كانَ لك النجاحُ مُصاحباً ... أو تثوِ كانَ لك السرورُ نديما
تغشاكَ بارقةُ السحابِ إذا سرتْ ... غيثاً وتلقاكَ الرياحُ نسيما
للهِ همّتكَ التي رجعتْ بها ... هممُ الملوكِ الصاعداتُ هُموما
ورياحكَ اللاتي تهبُّ جنائباً ... ولربَّما أجريتهنَّ سُموما
وخلالكَ الزُّهرُ التي أنفتْ لها ... قممُ المراتبِ أنْ تكونَ نجوما
ألبستني نعماً رأيتُ بها الدجى ... صُبحاً وكنتُ أرى الصباحَ بهيما
فعدوتُ يحسدُني الصديقُ وقبلَها ... قد كانَ يلقاني العدوّ رحيما
وقال، وهي من محاسن شعره، يمدحه أيضاً:
فتحٌ أعزَّ به الإسلامَ صاحبهُ ... وردَّ ثاقبَ نورِ الملكِ ثاقبُهُ
سارتْ به البُردُ منشوراً صحائفهُ ... على المنابرِ محموداً عواقبُهُ
فكلُّ ثغرٍ له ثغرٌ يضاحكهُ ... وكلُّ أرضٍ بها ركبٌ يصاحبُهُ
عادَ الأميرُ به خُضراً مكارمهُ ... حُمراً صوارمهُ بيضاً مناقبُهُ
يومٌ من النصرِ مذكورٌ فواضلهُ ... إلى التنادي ومشكورٌ مواهبُهُ
هبَّتْ شمائلهُ من طِيبها أرجاً ... على القلوبِ وضاهتْها جنائبُهُ
سلِ الدمستقَ هل عنَّ الرُّقاد لهُ ... وهل يعنُّ له والرعبُ ناهبُهُ
لمّا تراءى لكَ الجمعُ الذي نزحتْ ... أقطارهُ ونأتْ بُعداً جوانبُهُ
تركتَهم بين مصبوغٍ ترائبهُ ... من الدماءِ ومخضوبٍ ذوائبُهُ
فحائدٍ وشهابُ الرُّمحِ لاحقهُ ... وهاربٍ وذبابُ السيفِ طالبُهُ
يهوي إليه بمثلِ النجمِ طاعنهُ ... وينتحيه بمثلِ البرقِ ضاربُهُ
يكسوهُ من دمهِ ثوباً ويسلبهُ ... ثيابهُ فهو كاسيهِ وسالبُهُ
يا ناصرَ المجدِ لمّا عزَّ ناصرهُ ... وخاطبَ الحمدِ لمّا قلَّ خاطبُهُ
حتّامَ سيفكَ لا تُروى مضاربهُ ... من الدماءِ ولا تُقضى مآربُهُ
أنتَ الغمامُ الذي تُخشى صواعقهُ ... إذا تنمَّر أو تُرجى سحائبُهُ
وقال من أخرى يمدح الوزير المهلبي:
ومبتسمٌ والطعنُ يخضبُ رمحهُ ... كأنْ قد رأى منه بناناً مخضَّبا
رأيناهُ يومَ الجودِ أزهرَ واضحاً ... ويومَ قِراع البيضِ أبيضَ مِقضبا
فخلْناهُ في بذلِ الألوفِ قبيصةً ... وخلناهُ في سل السيوفِ المهلبا
منها يصف الجيش:
ومجرٍ تردُّ الخيلُ رأدَ ضحائهِ ... بإرهاجها قطعاً من الليلِ غيهَبا
كأنَّ سيوفَ الهندِ بينَ رماحهِ ... جداولُ في غابٍ سما وتأشَّبا
تضايقَ حتّى لو جرى الماءُ فوقهُ ... حماهُ ازدحامُ البيضِ أنْ يتسرَّبا
وقفتَ به تُحيي المُغيرة ضارباً ... بسيفِكَ حتّى ماتَ حدّاً ومضربا
إليكَ ركبتُ فرداً ولم أقُل ... لعاذلَتي ما أحسنَ الليلَ مركبا
ليصدرَ عنكَ الشعرُ مالاً مسوَّماً ... إذا نحنُ أوردْناهُ درّاً مثقَّبا
يقول فيها:
تركتُ رحابَ الشامِ وهي أنيقةٌ ... تقولُ لطلاّبِ المكارمِ مرحبا
مدبّجةُ الأقطارِ مخضرَّةُ الثرى ... مصقّلةُ الغدرانِ موشيّةُ الرُّبى
أبو فراس التغلبي في سيف الدولة:
وما زلتُ مذْ كنتَ تأتي الجميلَ ... وتحمي الحريمَ وترعى الحسبْ

وتغضبُ حتّى إذا ما ملكتَ ... أطعتَ الرِّضى وعصيتَ الغضبْ
وقال فيه:
لسيفِ الدولةِ القدحُ المعلَّى ... إذا ازدحمَ الملوك على القداحِ
لأوسعهم مذانب ماءِ وادٍ ... وأغزرهم مدافعِ سيبٍ راحِ
وأروعَ جيشهُ ليلٌ بهيمٌ ... وغرَّتهُ عمودٌ من صباحِ
صفوحٌ عندَ قدرتهِ كريمٌ ... قليلُ الصَّفحِ ما بينَ الصّفاحِ
كأنَّ ثباتهُ للقلبِ قلبٌ ... وهيبتهُ جناحٌ للجناحِ
وقال فيه:
ألا قلْ لسيفِ الدولةِ القرمِ إنَّني ... على كلّ شيءٍ غيرِ وصفكَ قادرُ
فلا تلزمَنِّي خطةً لا أُطيقُها ... فمجدكَ غلاّبٌ وفضلكَ باهرُ
ولو لم يكنْ فخري وفخرُك واحداً ... لما سارَ عنِّي بالمدائحِ سائرُ
وقال أبو الطيب المتنبي:
هذا الذي أفنى النُّضارَ مواهباً ... وعداهُ قتلاً والزَّمانَ تجاربا
ومخيِّبُ العذَّال فيما أمَّلوا ... منه وليسَ يردُّ كفّاً خائبا
كالبدرِ من حيثُ التفتَّ رأيتَه ... يُهدي إلى عينيكَ نوراً ثاقبا
كالبحرِ يقذفُ للقريبِ جواهراً ... جُوداً ويبعثُ للبعيدِ سحائبا
كالشمسِ في كبدِ السماءِ وضوؤها ... يغشى البلادَ مشارقاً ومغاربا
وقال:
سرْ حيثُ شئت تحلُّه النوّارُ ... وأرادَ فيكَ مرادك المقدارُ
وإذا ارتحلتَ فشيَّعتكَ سلامةٌ ... حيثُ اتَّجهتَ وديمةٌ مدرارُ
وأراكَ دهركَ ما تحاولُ في العِدى ... حتّى كأنَّ صروفهُ أنصارُ
وصدرتَ أغنمَ صادرٍ عن موردٍ ... مرفوعةً لقدومكَ الأبصارُ
أبو نصر بن نباتة السعدي:
وقد زعموا أنِّي حنقتُ عليهم ... وما حنقي إلاّ على الدهرِ وحدهُ
فلستُ أخافُ الدهرَ بعدَ تشبُّثي ... بأثوابهِ فليبلغ الدهر جهدهُ
رميتُ به في نحرهِ وكأنَّه ... حسامٌ غداةَ الروعِ فارقَ غمدهُ
وحكّمني حتّى لو أنِّي سألته ... شبابي وقد ولَّى به الشيبُ ردَّهُ
ولولا قصور الشعر عن كُنه وصفه ... لكنتُ أظنُّ الشعر يعشق مجدهُ
فيا منْ إذا أفردته من جنودهِ ... رأيتَ المعالي والمحامدَ جندهُ
وقال أيضاً:
تخطَّتْ أكفَّ الباخلين فعرَّستْ ... بأروع معشوقِ الشمائلِ والفعلِ
يفرّق ما بين المكارم والغنى ... ويجمع ما بينَ الشجاعةِ والعقلِ
هو الماءُ للظمآن والنارُ للقِرى ... وحدُّ الظُّبى في الحرب والغيثُ في المحلِ
حباني ولم أستحبهِ متطوّلاً ... يرى جوده بعدَ السؤالِ من البخلِ
سأشكرُ ما أوليتني من صنيعةٍ ... ومثلُ الذي أوليتَ يشكرهُ مثلي
ومنها:
كشفتَ لها ثغراً نقيّاً وساعداً ... حميّاً وعيناً لا تنامُ على ذحلِ
تركتَ لهم صحنَ الرهانِ ونقعهُ ... وفزتَ بغاياتِ السوابقِ والخصلِ
كما ترك الظبيُ المنفّر ظلَّه ... لقانصهِ لو كانَ يقنعُ بالظلِّ
وقال:
جنى وهو طفلٌ ثمارَ العلى ... وسادَ الورى وهو لم يحتلمْ
تضام لرؤيته سجّداً ... وجوهُ الملوكِ التي لم تُضمْ
وفي التاجِ أبلجُ زانَ الجمالُ ... ديباجتي خدَّه بالشّممْ
قليل على المال إبقاؤه ... وما آفةُ المالِ إلاّ الكرمْ
وقال:
ولقد زهدتُ فكنتُ أكرمَ زاهدٍ ... ولقد رغبتُ فرمتُ خيرَ مرامِ
ومدحتُ من ولد الملوك متوّجاً ... متقابلَ الأخوالِ والأعمامِ
تسري قواضبهُ إلى أعدائهِ ... حتّى تعرِّسَ في مقيلِ الهامِ
ما زلتَ بالنعمِ الجسامِ تعمُّني ... وتخصّني بالبشرِ والإكرامِ
حتّى جرى جريالُ حبّكَ في دمي ... ومشى ودادكَ في مَشاشِ عظامِ
وقال:
غلبتَ على البلاغةِ كلَّ نطقٍ ... وعلّمتَ الإصابةَ كلَّ رامِ
وبات وميض برقك مستطيل ... يبشّرني بأنعمكَ الجسامِ
وقال:
ورجالٍ من فوز قدحك شكوا ... كنتَ منهم بالله أحسنَ ظنّا
كن عليهم في الجهر سيفاً ورمحاً ... وعليهم في السرّ عيناً وأُذنا
وقال:
فقل للطوالِ الشُّمِّ كعبِ بنِ عامرٍ ... وخصَّ سراةَ الحيِّ من غطفانِ

رِدوا وانزلوا عرضَ الفلاةِ فإنَّني ... نزلتُ من الدنيا أعزَّ مكانِ
فأصبحتِ الأقدارُ ترهبُ أسهمي ... وتأخذُ أحداثُ الزمانِ أماني
وإنَّ الخنا والغدرَ في الناسِ شيمةٌ ... كفى الله وهباً شرّها وكفاني
حماني من الظّنِّ الكذوبِ وقالَ لي ... همومُك من همّي وشأنُك من شاني
السري:
دعوْنا مفرِّقَ شملِ اللُّهى ... سماحاً وجامعَ شملِ الثناءِ
بكفٍّ تُرقرقُ ماءَ الحياةِ ... ووجهٍ يُرقرقُ ماءَ الحياءِ
نزلْنا بعقوتِه منزلاً ... خَصيبَ الجنابِ رحيبَ الفناءِ
أهبَّ لنا فيهِ ريحَ الندى ... رخاءً تُخبِّرنا بالرَّخاءِ
وقال:
أنا حرٌّ إذا انتسبتُ ولكنْ ... جعلتْني لكَ المكارمُ عبدا
لا أقولُ الغمامُ مثلُ أيادي ... ك ولا السيفُ مثلُ عزمكَ حدّا
أنت أمضى من الحسامِ وأصفى ... من حيا المزنِ في المُحولِ وأندى
وقال:
فكفَّاكَ الغمامُ الجونُ يسري ... وفي أحشائهِ ماءٌ ونارُ
يسارٌ من سجيّتها المنايا ... ويُمنى من عطيّتها اليسارُ
حضرْنا والملوكُ له قيامٌ ... تغضُّ نواظراً فيها انكسارُ
مكارمُ تعجزُ المدَّاحُ عنها ... فجلُّ مديحهم فيها اختصارُ
وقال:
منْ ذا يُنازعكم كريماتِ العُلى ... وهي البروجُ وأنتمُ أقمارُها
الحربُ تعلمُ أنَّكم آسادُها ... والأرضُ تشهدُ أنَّكم أمطارُها
فلتشكرنَّكَ دولةٌ جدَّدتها ... فتجدَّدتْ أعلامُها ومنارُها
حلَّيتها وحميتَ بيضةَ ملكِها ... فغرارُ سيفكَ سورها وسوارُها
وقال:
مكارمُ وضَّاحٍ إذا ما تكرَّمتْ ... ملوكُ الورى في المكرُماتِ تنوّعا
شمائل أبهى من حُلى الروضِ منظراً ... وأحسنُ من فعلِ السحائبِ موقعا
وقال:
غيث العُفاة إذا ما الغيثُ أخلفهم ... فما ربيعُهم إلاّ مراجعُه
يباشرُ الحربَ محمرّاً صوارمهُ ... ويلبسُ السِّلم مبيضّاً صنائعُه
يا واصلَ الحمدِ مهجوراً محاسنهُ ... وذاكرَ الجودِ منسيّاً شرائعُهُ
وقال:
أعليُّ آثرتَ العُلى فتجمّعتْ ... وأهنتَ مالَكَ بالنَّدى فتفرَّقا
فاخضِبْ يمينكَ بالمدامِ فطالما ... خضبتْ أناملُها السنانُ الأزرقا
وكِلِ الهمومَ إلى الحسودِ فحسبهُ ... أنْ يقطعَ الليلَ البهيمَ تأرُّقا
فضلُ الفتى يُغري الحسودَ بسبِّهِ ... والعودُ لولا طيبُهُ ما أُحرقا
وقال:
أنتَ الحيا الجودُ الذي آفاقُهُ ... ينهلُّ بالمعروفِ أو يتهلَّلُ
علمتْ ربيعةُ أنَّكَ العلمُ الذي ... تُهدي إلى سنَنِ الهُدى من يَجهلُ
فرغت من تعليقه بحمد الله وعونه من رابع عشر شهر رمضان المعظم من سنة ثلاث وتسعين وستمائة هجرية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بمدينة بغداد، ولم يقع إلي الدوبيتات والموشحات والمواليا التي وعد الجامع لهذا الكتاب بها لأثبتها، وإن رأيتها سطرتها إن شاء الله تعالى فيما بعد، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً.
كتبه أضعف العباد وأحوجهم إلى رحمة الكريم الجواد علي بن محمد.

أقسام الكتاب
1 2