كتاب : المقامات الزينية
المؤلف : ابن الصيقل الجزري

حكَى القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: لم أزل مذ جلَّتْ مآربي، وتجلَّتْ تَجاربي، وفازَ ساربي، وحسُنت مَساربي، وطرَّ شاربي، وذرَّ قمرُ مشاربي، أمارجُ الأظغانَ، ومنْ نضب وعان، وأمازُج الرِّهانَ، ومن عَظُمَ وهانَ، وانكّبُ عن الآنس، وانقبُ عن المؤانس والتفّ بالمُلاحف، واشتفُّ قَرْقَفَ المواقفِ، إلى أنْ قطفتُ ثمارَ التجاريبِ، وعرفتُ خصائصَ الخالص والضريبِ، فلم أحظَ بمَنْ يَصونُ، ولم أظفرْ بخليلٍ لا يخونُ، خصوصاً المصريُّ ذو المكائدِ الواقصة، والحبائل القانصة، الذي جبذَ المصاعبَ بإرسانها، وذلَّلَ نفوسَ شوس المعاركِ وفرسانها، وأبادَ الجُثَّم في جبالها، واقتادَ أبالسةَ المُوالسةِ في جبالها، ولما قذفني بحجرِ غدرٍ رزين، وضربَني بعَصَا إحَنِه حيناً بعد حين، أشرفت منه على سحائب الإستحاءِ، ولقيتُ من تلقائهِ قبائلَ البُرحاءِ، فحينَ مُنيتُ بوخْز صَعْدةِ صُداعه، ولُسعْتُ بإبَرِ قلب برقع خداعه، نبذته نبذ ترابِ المجْنوزِ، خشيه وخيم مَكرَه المكنوزِ، معَ ما كنتُ أودِعه من أسرارِ الإجتنان، وأُتحفُهُ بملاحف الإمتنان، وأساعده بعساكر الاآدِ، وأشاهدُهُ بالعَشيِّ والأرآدِ، وأحامي عنهُ بمضاربِ الحُسام، مُحاماةَ الطبائع عن الأجسام، وأطرِفه بلطائفِ الطيباتِ، وأكتنفهُ اكتنافَ المُلتحمَ الرُّطوباتِ، وأرتوي بمفاكهته لدى الجُلوس وأحتوي عليه احتواءَ المعِدةِ على الكَيْلوس، واضطربُ لاضطرابه اضطرابَ النابض، وألجُ إليه ولوج الحلاوة بطونَ المرابض، وأصاحبُ كلَّ منْ يَنويه، وأجانبُ وداد نِدِّه ومناويه، وأحتملُ لعدم مَنْ يساويه، أعباء عظم مساويه: الطويل:
وكنتُ أواسي الناسَ فيما أسيمه ... منَ السَّمْع في أنفاسه وأُنافسُ
فلمّا سَمَا في سُلّم السُّوءِ سالكا ... خسيسَ سراطٍ يحتذيه المجالسُ
حَسَمْتُ بسَيْفِ اليأس أسبابَ سِلمه ... كما حَسَمَتْ قبلي الرؤوسُ الأحامسُ
ولما اشرأب لشراب بغيه وباح، واستباح من حرم مصاحبتي ما استباح، وطبق كر نكره البطاح، وطبق بحسام سفهه عنق المعاهدة فطاح، آليتُ ألاَّ أميلِ لقرن قربه المقاتل، حتىَ يشارك المرض جُرْح القاتل، وتُهْدَرَ ديَةُ وَرَم غَرْز الإبر في المَقاتلِ، فبينا أنا أترنحُ في سكك الإسكندريةِ، وأتبختر تبخترَ القروم العبدريّة، ألفيتُه على فرس أشهبَ، وقد راش المَعاش سهامَ حاله وأسهبَ، وحَوْل صافنه السِّلاحُ، وتِلْوَ علندائه العبدان الملاح، فحين أبصرني وأبصرته، ونصرني صوبَ صيِّب بصرَه ونصرتُهُ، نكصتُ منْ مَكره الوَحفِ، نكوصَ الخارج من الزَّحْفِ، مخافةَ أن يسجرَ قلبي بحرارة بيانِه، أو يسحرَ لُبِّي بطِيْبِ نَضَارة لَيانه، فلما لمحَ نِفاري، وحقَّق عدم قراري، وقفلتُ إلى مُناخي: بعدَ طولِ التراخي، سَمِعْتُ صوتَ قارع، حَسَنِ التلطُّفِ بارعٍ، فأذِنتُ لَهُ بالمُثولِ، فدخلَ فتى أحلَى من اللؤلؤ المنثولِ، فوقفَ وسلَّمَ، وأحسن إذ تكلمّ، ثم إنّهُ وضعَ لديَّ طَبَقاً مشحونَاً بهدايا لطيفة، ظاهرةِ المزايا وريفةٍ، مشفوعاً برُقعةٍ مَطْويَّة، تُسْفِرُ عَنْ محاسنِ طَويَّةٍ، فأشلْتُ الطينَ، وفتحتُ المَطين، فإذا هي من ذي الفضلِ الوَضيّ، أبي نصر المصريِّ، مُشتملة على رسالةٍ خيفاءَ ناصعةِ البراعةِ وطفاءَ، تتضمن نثّ كثر إعراضي، وتطاولَ طُوال قطيعتي وارتكاضي، وما يكافحُ من قواضبِ القلقِ والصِّعادِ، وتباريح ريح إرعاد الإبعادِ، وهي:
المملوكُ فيّضَ اللهُ ... نُخَبَ حلْمِكَ، يبُثُّ هَمِّا
يَجُثُّ، لَهَمّاً يُغِثُّ، طَبعا ... يضبًّ، وصَدْراً يَذُبّ،
ودَلاً يَبُز، ووصْلاً يفِزّ، ... وحَرْداً يُذَبِّ، وحَرَداً
يُشَذِّبُ، وصدّاً يَغينُ، ... ووُداً يبين، ودهراً يَضَنُّ،
وسحْراً يَشُنُّ، وعللاً تَخُبُّ، ... ومَلَلاً يَجبُّ، مَع
شين كَدَرٍ ذَفَّفَ، وسَهَرٍ جَفَّ ... فَ، وإعمال يُخَضْخض، وآمالٍ
تقضقضُ، وأهوال تُنضنض ... وأعوال، يُغَضغضُ، وسُهاد
جنن ومهاد خنن وسواد جَنَّب، ومراد تجنّبَ، وملال
قذذ ومآلٍ جَذَّذَ، وحَسَدٍ فَتَّتَ، ولَدَدٍ شَتتَ، وحَسودٍ بغض

وودودٍ نَغَضَ، وسَموم خُبْثِ ألم نَفَخَ، وسَموم ضَبثِ
سدمٍ، نضخَ، وهو ضيفُ داركِ، ضيفنُ سَحِّ غَيْثِ
مدرارك، نظيفُ عودِ فنَنِ العهودِ، يُزْجى لكَ فَيْضَ ودادٍ
بَيَّنَ، وحلَلَ قَشيبِ ولاءً زَيَّنَ، والمسؤولُ في سؤددكَ، بت طِوَلَ
شغبٍ أوعدَ، فَفَضَّ وطُول نَغَبٍ أرعدَ، وسُلْوٍّ بخَبَبِ
مكروهٍ شَنَّفَ، ومُعادٍ بشنْفِ سَماع قَيْظِ صدُودِكَ تشنَّفَ، لأسرح
بخضِب إلمام فَتِيٍّ، وأمرَحَ في دَوْح تيقُّظِ صُلح جَنِي،
أمدَّكَ بِضُبَى وَصْلٍ نقيٍّ، وعَدْلٍ فَضِيِّ، وإحكام يَتَقَنَّنُ،
وأحكام تتفنَّنُ، وسعودٍ تضيءُ، ووعودٍ تَجيءُ، وحَوْلٍ ينيفُ،
وطولٍ يَزيفُ، وحِلْم يَبُذُّ، وحُكم يَجُذُّ، ومراس يُشيبُ،
ورَأسُ نشب كَرَم يَشُبُّ، وَلا يَشيبُ والسَّلام.
قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فلمّا وقفتُ على مكاتبته، ورشفْتُ شَمول معاتبته، بكيتُ لكآبتِه ورثيْتُ لانصباب صبابتهِ، ثم ملْتُ إلى السَّلم، لعلمي أنّ الغَضبَ غولُ الحلِم وقلتُ: تالله لا أكونُ مِمَّنْ يلابسُ الأضغانَ، ولو ستر الظَّفَرُ وجهَ عَفْوهِ وغان، لأنَّ قلبَ الحليم ينقادُ، ولا تَحُلُّ بيتَ قلبه الأحقاد، ثم إنِّي نهضتُ معَ الوَصيفِ، بعدَ هَدْم أسِّ الصَّخَبِ والرَّصيفِ وجعلتُ أوجِفُ إيجافَ المشوقِ إلى لِقاءِ المعشوقِ، وأركضُ ركضَ الظليم، إلى لِيم إلمامه المُليم، فحين تحقّقَ انسرابي، وتيقَّنَ مقاطعةَ قرابي، بادَر مبادرَةَ الحريص، وسُرَ سرورَ يعقوبَ حين رُدّ بصرُه بالقميص، ثُمَّ قال لي: يا بنَ جريالِ لا يعيشُ في الخَلِّ، إلاّ دودُهُ، ومعَ الخِلِّ إلا وَدودُه، فاغتفر هذه النَّوبة، واعلم بأن التوبة تمحو الحَوْبةَ، ثم إنّه قَطَنَ في التَّلطُّف وأصعدَ، وأخذ بجمْع أرداني وأنشدَ: الطويل:
أجلُّ سنا ساميك أن يَنْقُضَ العَهدا ... وأنْ تُصحِبَ الأصحابَ مِنْ صَوبك الصَّدَّا
وأنْ تَحسِمَ الإحسانَ والحمدَ والحيا ... وأنْ تمنَحَ الأحبابَ مَعْ حِلمِكَ الحِقْدا
فليس رئيسُ الناس مَنْ سُل سلْمُهُ ... وليسَ سَنيُّ السرِّ منْ أنُسى الوُدا
وليسَ شريفُ الشأو منَ شفَّ شِفّهُ ... وليسَ نقيّ العِرْض مَن ضَيّعَ العَهْدَا
فإنْ أنتَ لم تغفِرْ وإنْ أنتَ لم تجُدْ ... كفاكَ بأنْ تُمسي حليفَ القِلى فَرْدا
قال: ولمّا رعيتُ ضَرَبَ قَريضهِ، وأوعيتُ دُرَرَ تَعْريضِه، ورأيتُ خَليّةَ خلابته، حدْتُ عن حرّةْ الحَرَد ولابته، ولَمْ أزلْ عندَهُ إلى أنْ توسَّدَ زَنْدَه، فانسللتُ إلى عريني، وقد افعوعَمَ منْ ثَمَرِ مُنافثته جريني، فصرمتُ جذوع الإقامةِ، وهدمْتُ ربوعَ المقامةِ، وقاطعتُ السّكنَ، وفارقت مَنْ سَكنَ، وودعت من عدن، وطِرْتُ بجناح الإقالة إلى عدن.
المقامة الثلاثون الآمديّة
حدَّث القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: زمَّني زِمامُ الزمنِ الزَّنيم، يومَ نَوْم جَفْنِ الأشَرِ النَّويم، بعدَ إسعافِ العديم، وانعطافِ الخِدْن القديم، ومُناسمةِ الرسيم، ومُساعفةِ نسيم الوسيم، بألم مرضٍ ممدودِ المعارج، مسدودِ المناهج، فلمّا عزَّني رعيلُ ذلكَ الإعلالِ، وهزَّني ذميلُ ذيَّالكَ الإذلالِ، وبتُّ بينَ غُرئْبةٍ قاتمةِ الإضرار، وعُزْبَةٍ قائمةِ الإصرار، جعلتُ أخبُّ في بيداء داءَ الدَّنفِ، وأعُبُّ من ماءَ دأماءَ ذيَّاكَ الجَنَفِ، حتى عُدْتُ بعدَ لُبْس سِربالِ السُّعودِ، وامتطاءَ سناسن سَعْدِ السُّعود أنادم الأمراض وأصادم بجؤجؤ الجزع جآجيء العرض العراض الطويل:
وأجني بجسم قَلّبَ السقمُ قَلبَه ... ملابسَ بؤس سابغاتِ الغَلائل
تردّ عيونَ النّاظرينَ ضروبها ... إذا انبجستْ من غَور غَمْر الغوائل

فلمّا تجرى صبْرُ قلبي المكسور، تجزّى ضربِ الكسورِ في الكسور، وتضاعفَ هَمِّي لمفارقة الصِّحاح، تضاعفَ ضَربِ الصحاح في الصحاح، قصدتُ آمدَ بعدَما اجتديتُ الجامدَ، واجتبيتْ الحامدَ، وامتريْتُ الثاقب والخامدَ، عَل أن أجدَ لعُرام هذه الغاية معوانا، أو لغَرام غُلب هته الغابة أعوانا، فحين ألقيتُ بها هِراوتيَ، وألفيتُ البلدَ موافقاً لإعادة غَراوتي، حُدِّثت بطبيب دَرأ برداء الدِّرايةِ أعراضها وتدثَرَ أَثباج جُلِّ التَّجاربِ وراضَها، فأرسلت غلامي إليهِ، لأقُصِّ قَصصَ علّتي عليه فلم يكن إلا كنَشقةِ ناشق، أو شدة باشق راشقَ حتى أذنتُ له في الدخولِ، على الجَسَدِ الدارج المدخولِ، فحين قعدَ بازائي، واستحلسَ مَعْزائي، واحتملَ ذراعي، وجعلَ سنن الأدب يُراعي، ألفيتهُ شيخَنا المصريَّ ساحرَ الألبابِ، والساخرَ باللّبابِ فقلتُ لَهُ: إلامَ تَنهبُ الأذهانَ، وتمارسُ ما صَعُبَ وهانَ، وتُخْرجُ السُّبّحَ مع حركاتِها، وتُزعجُ الجُثّمَ في وُكناتها، فقال لي: خلني من شَظَفِ ظَرافتك، واشتغلْ عنِّي بفَيْض ضَفَفِ آفتك، وإنَي لراج أنْ أعالجَكَ وتُبلّ، واكتسبُ من ثَنائِكَ الحِل البلَّ، ثم إنَّهُ شرع لرفع شُرُع الأعلالِ وشرْبِ حَمْأَة طينة ذاكَ الخَبالِ فزالَ عني بجودة علاجه، ومداومة انعياجه، ما أعاني منَ المَرَض ومصاعبِ العَرض، ولم يزل مدَّة ذاكَ المُقام، والرُّسوبِ في سيب ذَلِكَ السَقام، ينشُرُ حُسْن حُزونه والسهولِ، ويَطوي الطمعَ عن وطنِ همتي المأهولِ، إلى أنْ غابَ عنِّي في يوم عظيم الزَّمهرير، وافر نباح الأهويةِ والهريرِ، فجعلتُ أكابِدُ لغيبتهِ ما أُكابِدُ، حتّى ضاقَتْ عليَّ بسَعَةِ أرجائها آمدُ، كُنَّا نستعينُ في ذلك السَّقَم، ومقاتلةِ قَنابلِ النِّقَم بجارٍ جميلِ اللّقَم، جَميلِ اللقم، يسعِفُنا بيواقيتِ افتنانه، ويَشغَفُنا بانهمارِ ماءِ امتنانه، فدفَع البابَ، ورجَّعَ الانتحابَ، فقصَدَ وصيفي الوصيَدَ، ليستعلم بأيِّ نقودِ صُروفِ الصُّروفِ صِيدَ، فلمّا جثَم لديَّ، وعطَّر بمجاورة أرجِهِ برْدَيّ، قلتُ لهُ: ما الذي أبكاك، وسكبَ كأسَ أذاك فأذكاكَ، فقال: اعلم أنَّ طبيبكَ الطَّمطامَ، وصارمَ صولتِكَ الصَّمصامِ، وردَ إليَّ في هذا اليوم، قبل إشالةِ فُرُش النوم وموجُ عبْرتِه يترقرقُ، وفوْجُ زَفْرته يتدفَّقُ، وجيوشُ أفكارهِ تتراكمُ، وأحبوشُ أحزانهِ تتزاحمُ، وقال لي: يا دواءَ الجُرْح الجائف، ورداءَ الحَرِجِ الخائفِ، أعلِمُكَ أنَّ خليلي، ومَنْ كانَ في الجَلَل خليلي، وبه يشتدُّ قِيلي، وإليه في الشدائد مَقبلي، قد دَرَجَ وفي شُعوبَ شعوبَ قد مَرَجَ، وما فتئَ مكفوفاً بإكرامك، محفوفاً بحللِ احترامك، وقد جئتُكَ قبل أن ينقرِضَ الجديدان، وتقرُضَ أديمَهُ مقارضُ الدِّيدانِ، فتخلَّقْ بأخلاقِ عبدِ المَدان، في هذا الميدان، وأنا أساعِدُ بما عليهِ أقوى، بعدَ ما اندرسَ رَسْمُ سَعْدهِ وأقوى، فساعِدْ بما بهِ تنهضُ وتَقْوى، وتعاونُوا على البرِّ والتقوى: الطويل:
فإنك ركنٌ يركَنُ الناسُ كلُهمْ ... إلى حالقٍ مِنْ حَولهِ غير حائرِ
رفيع منيعٍ حَيَّرَ الشّمَّ شأوه ... عزيزٍ حريزٍ جابرٍ غَيْر جائِر

فقلتُ لَهُ: ما الذي تريدُهُ، لينقادَ لكَ ليتُ الأرب ووريدُهُ، فقالَ: اعلم أنَّ مَحْتدَ هذا المسكين، ما برِحَ حميدَ التمكينِ، وسيعَ البقاع، رفيعَ اليفاع، وارفَ الجودِ، مُنْجدَ، المنجود فهل يسمح إحسانُك الذي لم نَزَلْ نرتجيه، بعارية خَلَق ملاءة يسجّيه، وتتوخى مواردَ توخيهِ، فإنَّ اللهَ في عَونِ العبدِ ما دامَ العبدُ في عَوْنِ أخيه، قال: فنبذتُ لَهُ ثوباً من أنفس الملابسِ، لم يتدنَّسْ بممارسةِ المُلابس، مشفوعاً بدينارينِ، لرِقَةِ رقَّةِ قولِه الليَّنِ، فتناولَهُم وصَرَفَ، وتصرَّفَ فيهما وانصرف، قال القاسم بنُ جريال: فحينَ عُمْتُ فيما شرحَهُ، وقُمْتُ على قَدَم معرفةِ ما استشرحتُهُ طَرقْتُ حَلْقَةَ النَّدم، وأطرقْتُ نحو القَدَم، ثم نهضتُ أخوضُ أقطارَهَا، وأعالجُ أمطارَهَا، وأرومُ قَطْعَ سككها وأقومُ على دكادك دِككها، إلى أنْ وجدتُهُ بالسوقِ، نَزيفاً في سرابيلِ الفُسوق، يتحرَّكُ من نَشوةِ المُدام، تَحَرُّكَ الغُصُن تحتَ تغريدِ الحَمام، فهممْتُ بأنْ أجُضَّ عليهِ بِحُسام العتابِ، وأنقضَّ إليهِ بسنانِ السِّبابِ، فغمدتُ مِخْذَمَ الصَّخَبِ، وعَدَلْتُ عن مَهْيَع اللَّعِبِ، وقُلْتُ له: هكذا تكونُ شِنشنةُ المكاشرينَ، أم هكذى تُمْطِرُ شآبيب المعاشرينَ، فقبضَ كفِّي وانقبضَ، وأعرضَ بعارضِه وامتعض، وقال لي: أتخالُني مِمَّنْ يَنْصِبُ لصديقه الحبالاتٍ، ويقرنُ أضغاثَ ضبثِ خداعه بالإبالات، أو يُمعِنُ في عِبادةِ لاتِ هذهِ الخُزَعْبلاتِ، أف لَقُبْح نِيَّتِكَ، وخبثِ طويَّتك، وغَثاثةِ مناسمتك، ورثاثةِ مُنافستك، فأقبلتُ أخدعُهُ، وأودُّ لَوْ خَدَعَ أَخْدَعُهُ، ثم قلتُ لهُ: ما حمَلَك على أخذِ ذَيْنِكَ، فأَرِحْني من مساورةِ مَيْنِكَ، وإن شِئتَ فاركبْ سبيلَ بينِكَ، وقُلْ: هذا فراق بيني وبينك قال: اعلم أنَّه وردَ عليَّ صديقٌ أودُّهُ غايةَ الودادِ، وأعدُّهُ للنّوَب الشداد، وأجلُهُ إجلالَ الأفراد، وأحِلُّهُ مَحِلَّ النكتةِ من الفؤادِ، ولم يحَضرْني ما أحضر إليه، وأمطِرُ من عَنانِ المعونةِ عليهِ، ففعلتُ ما صدرَ إليكَ إدلالاً عليكَ، وقد رهنتُهُ عندَ خَمّارٍ، على نِصْفِ دينارٍ، مِنْ ثَمَنِ مصطارٍ، وفي غدٍ يَصِلُ إلى دارِكَ، وينفصِلُ غَم جارِكَ، قال الراوي: وكنتُ لا أملك من ثَمَنِ خَمْرهِ، معْ ما اصطليتُ من حرارةِ جَمرهِ، وأغضيتُ على مَضَضِ المرض وعُسرهِ، سوى ثلاثة أمثال تُسعهِ وعُشرِهِ، فألقيتُ إليه عمامتي، وأيقنتُ قُبْحَ مُنقلبِ مَقامتي، وقلتُ له: اتركها عِوَضاً عمَّا رهنْتَ، واستُر قبيحَ ما استحسنتَ، وهَزيلَ ما استسمنتَ، ثُمَّ سِرْتُ معهُ بعدَ قَذْفِ الجِمارِ، وكَشْفِ قِناع الخَفَرِ والخِمارِ، وتَذَكُّر وقعةِ الحمار، إلى مسكنِ الخَمَّارِ، ولما مِلت إليه ميل القانط وشممت ريح الأحمر الحانط، قال لي: إنِّي لأظنَّكَ تعافُ أريجَ هذا الألنجوج، وتَخافُ مريج خَيْلِ هذي المُروج، فاحذر مجاورةَ هذا الأنام، واحرس سُورَ نفسِك من تسلق الأثام، واحفظْ عرضَكَ مَدَى الأيام، ولا تخامرْ خمرة هذا الإيام. وإن كنتَ تَخشى أن أجمعَ لكَ بهذه الحيلةِ، بين الحَشفِ وسوءِ الكيلة، فسارعْ إلى استرجاع العمامةِ، وأرحني من سحوح مِننِ هذه الغمامة، ثم إنه وقفني بباب الحانةِ، وألبسني جلابيبَ الإهانة، فلمّاَ طلع ناب فم افتكاري، وأنجمَ سحابُ سماء صَفْوِ اصطباري، ألقيتُ الدسكرةَ ذاتَ بابين، وقد امتطى طريقَ البَيْنِ، فأقبلتُ أقلِّبُ الكَفَّين، وأحترقُ احتراقَ المِرَّتينِ وأقولُ بعد عَلِّ تَيْنٍ المُرَّتين المؤمنُ لا يُلْسَعُ من جُحْرٍ مرتين.
المقامةُ الحاديةُ والثلاثون البصريّةُ

أخبرَ القاسمُ بنُ جريال، قالَ: أمطْتُ مُذْ نظَرْتُ بعَينِ العِنايةِ، وكَحَلتُ بؤبؤَ البصيرةِ بمِرْودِ الدّرايةِ، ثِيابَ الطّمَع عن إهاب الشَّهواتِ، ونزعتُ سِنانَ الطَّبَع في مُحرَّم شِدَّةِ الهَفواتِ ولَقيتُ النّوبَ بالعَزْم المنوع، وألقيتُ جَرير الجَنفِ عن غارب القُنوع، لعلمي أنَّ سَنَةَ الزمان سِنة، وسِنَةُ إنسان سَهْوه سَنَةٌ، وكنتُ حينَ هَبّ قبولُ هذا القبوِل وانصبَّ قِطَقِطُ مقاطعةِ الطِّفلةِ العُطْبولِ، أصاحبُ الزُّهَّادَ، ومَنْ حَسُنَ سَننُ نُسْكهِ وهادَ، فلمّا خلعْتُ البِدَعَ خَلْعَ الحَسَن الخِلافةَ، ولبستُ الورع لبس الكتم عذار أبي قحافة، جعلت أقترع إكام السباسب، على هذا التناسب، وأعومُ بهذا العابر، لإصلاح الغابر إلى أنْ كَلِفتُ بمداومة الفدافدِ، وألفتُ مفاجأة الأوابدِ وقُذفْتُ بأنامل البُرحاء إلى معالم البصرةِ الفيحاءِ، فأحببتُ زيارةَ رُموسها، ومعاشرةِ شُموسها، لا خبر جرجرةَ سُوسها من شموسها، وزمجرة هموسِها من نموسها، وكنتُ سمعت مِمن بصر، وأسهبَ بحسن وصفِها وقصَّرَ، أن مَنْ بصّر تبصَّرَ وشفَى جُرح ساعِد المساعدةِ بعدما تنصرًّ، فحينَ حللْتُ بغَريفِها، ونزلْتُ بوريفِ ريفِها، ورأيتُ صالحَ صَريفها، وحَويت خالصَ صريفِها وصريفها، طفِقتُ أقتطفُ ثِمارَ افتنانها، وأرتضع فِرصادَ الفُرَص من دناتِها، وأبتَلِي أزهارَ المَرَح بأغصانها، وأَجتلي بدورَ المبادرةِ قبلَ نقصانِها، وأجنَحُ لزُبَدِ مستّطابها، لا زُبَدِ وَطابِها، ومُلَح انعطافها لا بُلَح قِطافها، وملاحةِ أعطافها، لا حلاوةَ نِطافها، فألفيتُها مشحونةً بزواهر الزِواهر، مسجونةً بنواظرِ النواضرِ، يرتحِلُ الإنصافُ إنْ رحَلُوا وينزلُ الإسعافُ حيثُما نزَلوا، وتَحْمَدُ الأيامُ ما فعلوا، وتحسدُ هامة العلياء ما انتعلوا: البسيط:
ناس سمَوا بسماتٍ سادَ أيسرُها ... أحامس الناس لم تُطْمَسْ لهُمْ سُبلُ
إنْ أوعدوا أخلفُوا أو ما عدوا صدقُوا ... أو حُوكموا شَرَعوا أو حُكِّموا عَدَلُوا
أو أنعَموا أسرفُوا أو جالسوا نطقوا ... أو سُولموا سمعوا أو قُوتلوا قَتلوا.
أو ناظروا أنصَفوا أو ناضلوا خَسقُوا ... أو صوحبوا نَفعوا أو صولحوا فعلوا.
أو بادروا أوجفوا أو طاولوا سمقوا ... أو حوربوا منعوا أو نوزلوا نزلوا.
أو بارزوا أرهَفُوا أو سابَقُوا سبقوا ... أو خُوطِبوا بَرَعوا أو قُوطعوا وَصلوا.

قالَ: فما فتئتُ أترقَّبُ مواضعَ العباداتِ، وأتطلَّبُ مواطنَ الزياراتِ، إلى أنْ ألفيت فتًى فَتِيَّ الشبابِ، ظاهرَ الأحبابِ، أحلى مِنَ الكَعابِ، بريئاً من العابِ، عليه شَملةُ، العَسيفِ، ولديهِ شِمِلَّةُ التعاسيفِ، فملتُ إليهِ مَيْلَ الظمآنِ إلى ورودِه، والشِّبِقِ إلى مراودةِ رُودِهِ، وقلتُ له: يا ذا الملاحةِ السَنِيَّةِ، والفصاحةِ السًحبانيةِ، أقْسمُ عليكَ بمَنْ صَوَّرَ البصائرَ، ودوَّرَ الفَلَكَ الدائرَ، إلاَّ عرَّفَتني مَغْرِسَ شَجَرتِكَ، ومُعَرَّسَ عِترتك وأينَ موردُ فارطِكَ وحلولُ حِلَّةِ أراهطِكَ، فارفَعْ عنِّي هذهِ الحرارةَ، وأصدُقني صدْقَ حاجب بني زرارة، فقالَ لي: أما شعبةُ الشجرةِ فمِنْ هذهِ السَّحَرةِ، وأما مُقامُ عِترَتي المعَدّينَ لإقالة عثرتي فبهذهِ الرَّوضةِ الزاهرةِ والدوحة الباهرةِ ثم أومأ بيدهِ إلى البصرةِ ط وقَرَنَ بين الشّهيق والزفرةِ، فقلتُ لَهُ: ما الذي هيّجَ حِزق لَهيبِكَ، وأجّجَ حُرَقَ نَحيبِك ثم معَ ذلكَ فإلى أينَ انسحابُكَ، وبأي الرِّحال يسحُّ سَحابُكَ فقالَ لي: أما البكاءُ فلانحرافي إلى الحُوب، واعتكافي بخليةَ نُوب هذه الذنوبِ، وأما غاية الانسحاب، في هذه الرِّحابِ، فإلى طلحةِ الطلحات، المنتاب على ممرِّ اللمحاتِ، علّ أنْ يكونَ سبباً لتسهيلِ صِعابي، والنزولِ عن صهوةِ عابي، لا سيَّما وقد حَلَّ بضريحهِ رجلٌ تنزِلُ لزُمَر زهدهِ الوعولُ، وسهام سُهُوم وجهِ وَجَلهِ أبداً تعولُ، عسى أن يساعدَني بدَعوةٍ مُستجابةٍ، ولو بقبولِ تجابةٍ بعد إجابةٍ، قالَ القاسمُ بنُ جريالٍ، فبكيتُ لبكائه، ورثيتُ لحَلِّ وِكاءِ مُكائهِ، ورجوتُ قبول توبته، وأفُولَ حُفولِ حَوبتِه وقلتُ لَهُ: أتأذن لي في متابعتِك إليهِ، ومبايعتِكَ على ما تُعوّلُ عليهِ فقال لي: أنا من جملةِ عُبدانِك،ُوفسكل حَلْبَة مَيْدانكَ، والمجبوذُ بأرسانكَ، والملحوظُ بإنسان إحسانكَ، فلمّا وقفتُ على غَثِّه والسَّمين وحًلَّ عندي محلَّ اليمينِ باليمينِ، ورضيتُ بحَمْلِ ثقَيلِه، واستطبتُ ظلالَ مقيلِ قيله، دعتْني مَعاصم عِصْمتِه، إلى مباسم سِمَته، واستدعتني روضةُ نَضْرته، إلى حضرةِ مناظرته، ثم سِرْنا برئَيْنِ مِن الإخفاق، عرّيينِ من ملابس الإشفاق، إلى أنْ وردْنا جنابَهُ، وشدَدْنا على بابه نابهُ، فدَخلتِ التلامذةُ مُعْلِمينَ، وبطرازِ ذلك الطرازِ معْلَمينَ، ثم عادوا آذنين، وصاحبي يمزجُ بدَرِّ دَمعِهِ الذَّنَين، لا تنبو بواترُ عبراته، ولا تخبو زواخرُ حَسَراته، فحين حَصَلَ لنا الوصول، وعَمَّ رَبْعَ سعينا ذلك المحصولُ، ألفيتُ الزاهد المختار، أبا نصرٍ الخائن المختارَ، فشُدِهْتُ من ذلكَ الصَّمتِ، وبُهِتُّ بحُسنِ ذيّالكَ السَّمْتِ، ثّم بادرتُ إلى تقبيلِ يمينهِ، لاستخراج نُخَب كمينهِ، فرفَعَ رأسَهُ إليَّ، ثم كرَّ بطِرْفِ طَرْفهِ عليَّ، وقال لي: يا بن جريال لفحْتك أنّةُ هذا القاصد، وأنحفتك سُمومُ هذه المقاصِد، وأقلقَكَ تفاقُمُ فَرَقِ فَرَقهِ ومُدِّهِ، وتلاطُم طُول جَزْرِ زَجرهِ ومَدِّهِ، فأبْشِرْ بتخفيفِ آلامِه، وتجفيفِ أَيْكِ أَثْل إثْمه وثُمامِهِ قالَ: فعجبتُ لحسنِ مكاشفتِه وطربتُ من عثورِهِ على مكاشفتِه، ولمّا أزِفَ مُعَسكرُ السّباتِ، نهضنا لإقامةِ الصَّلاةِ، فأدَّينا الفريضةَ بِسُننها، وفدّينا انتفاع يفاع الزَّورةِ وقُننِها، فوضعَ بعد أداءِ فَرْضه، ونَشْر أنواع عَرْضِه ونَضِّه، مُصلاَّهُ على عاتمه، واندرأ إلى طاعةِ ناتقه وحينَ أدلهمَّ وجهُ الوجودِ وجَنَّ وهمَّ القانت بالسجودِ، ومَن، قابلَ مِحْرابهُ، ونزَعَ عن حُسام السهر قرابَه، ولم يَزَلْ ما بينَ أرَق مُذيب وقَسورهِ قلق وذيب، إلى أن برزَ فَلَقُ المشرقين وسعت بين سماطي طعامه إقدامُ القَين، فعند ذلكَ طلع إلينا طلوعَ الثريا علينا، فقمتُ للقائه، ولثمتُ مواضعَ تِلقائه، وقلتُ لَهُ: قد عزم الأمرُ وظهرَ، ونجمَ نجم المفارقةٍ وبَهَر، فامنحني من عِظاتِكَ لا مِنْ أضاتِكَ، ورأفة التفاتِكَ لا مكافأتِكَ، فقالَ: أكرمَكَ اللهُ إكرام المُحقِّ، وألهمَكَ امتطاءَ بازلِ الزَّهادةِ والحقِّ، وأعاذَكَ من كسادِ الحاذق، وحَرْمانِ المستحِقِّ، ثم أنشدَ بعدَ شُرْبِ حَميم همِّهِ ومُهله، وعَلِّ شرْبي المقاطعةِ ونَهلله: الكامل:

الدهرُ يَسعى للجَهولِ لجَهله ... ويحطُّ من رُتَبِ العَقولِ لعَقْلهِ
ويُقيم فَدْماً ثم يخفِضُ عالماً ... وَرِعاً تُحيِّرُنا محاسنُ فعْلهِ
فاصبرْ إذا نزلَ القضاءُ فإنّه ... بالصَّبْر يُعْرَفُ نابه في أهله
ودع الخيانةَ واجتنبْ في عِفِّةٍ ... فِعلَ الفَجور جزيلَهُ معْ قلِّه
واغمد لسانكَ لا يُسَلُّ فإنَّه ... سيف يسوءك إن سمحت بسله
واحفظْ عهودَ ذوي العهودِ ولا ... تَجُدْ أبداً بعرضِكَ ما استطعتَ وثلِّهِ
وتجنب النذلَ اللئيمَ فإنَّهُ ... يهوَى المعائب أنْ تكونَ بخِلّهِ
يدنو إليكَ بجسمِهِ وفؤادُهُ ... متباعِد بُعْدَ العُلى من أصلِه
والوغدُ يغتابُ العليمَ لكونهِ ... فوق السِّماكِ على مجرّة نُبلهِ
ويُريهِ حُسْنَ تودّدٍ وبقلبه ... نار تَضَرَّمُ من حرارةِ غِلِّهِ
وإذا نظرتَ بعينِ عقلك قِسْتَهُ ... دونَ الجذاذةِ من جذاذةِ نعلهِ
فاقنعْ بأيسرِ عيشةٍ إنَّ النُهى ... رَبَطَ القناعةَ والجَلاَلَ بحَبْلِهِ
وانظرْ إلى العلماءِ نظرةَ راغب ... واسلُكْ إلى الرحمن أوضحَ سُبْلِه
وتحلَّ بالعلم المُعِزّ لأنّهُ ... رَيع يعينك أو تجلّ لأجْله
واسمحْ مما ملكتْ يمينُكَ واعترفْ ... أنَّ الإله يُعيدُهُ من فَضْلِه
واخلَعْ ثيابَ مَكارهٍ وفواحشٍ ... والبسْ لفرْجِكَ جُنَّةً في قتلهِ
واحذرْ منَ الطمع الذي في طيّهِ ... طبَعٌ يطبّقُ مَعْ طلائع ذُلِّه
قالَ: فحين زَبَرْتُ ما أملاهُ، وشكرتُ طولَ مُلأةِ ما أولاهُ، نفحني بحلاوةِ فحواهُ، ومنحنيِ مِنَ التُّحَفِ بما حِواهُ حواهُ، فحرْتُ من نظافةِ زواياهُ، ولطافةِ مزاياهُ، ورَدَدْتُ في الحافرةِ صفاياهُ، وأبيتُ الصِّلةَ إلا وصاياه.
المقامةُ الثانيةُ والثلاثونَ الحمصيّة

روى القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: أَلمَ بي أَحيانَ مجاورةِ الجآذرِ، ومسالمةِ الحذرِ الحاذرِ، طُوفانَ جَدْبٍ بَرقت لبَرْقهِ أساوِدُ الأبصارِ، وعرِقْت لأعبائهِ أظفارُ أولى الاصطبارِ، ونعقتْ لقِصرِ سيلهِ عُريانُ الأكدارِ، ونعَقَتْ لطولِ ويلهِ غِربانُ الإنكدارِ، إلى أنْ جزَّ جُرازَ الجَزَع وقطَّ، وحزَّ حسامُ حَرِّ الحُرَق واشتطَّ، وكَلَّ كُلُّ مُحتالٍ فدانَ، وأنكلَّ كلُّ مختال فهانَ، وأَذْعَنَتِ العِيالُ للإعلال، وتمسكنَتِ الأقيال للإقلال، وواصلَ القُعَدَةُ الارتحالَ، وتَغَيَّرَ الحالُ وحال، فلمّا أخذت البشر تتضاغى، وأخدرت خمْساً لم أذقْ بها مَضاغا، أقبلتُ أفكرُ فيما ينقِذني مِن صبرِ ذاكَ الوصَالِ، ويستخلِصُني من مصائبِ صائب تلكَ النّصالِ، فبينَما أنا أضطَربُ لذاكَ التَّوَى، وأشتهِبُ لَشهب أنواءِ النوَى، ألفيتُ أبا نصرٍ المصري يتقلَّب على طَنَافس الإركاس، ويتَقَلْقَلُ لسَرَفِ سُكْر ذلكَ الكأسِ، فأرقلَ نحوي إرقال التَّبار، وأقبلَ إليَّ إقبال الأدبار، وقالَ لي: يا بنَ جريالٍ أراكَ تقومُ مِنَ النَّصَبِ فيما أقومُ، وتعومُ من الوَصَب فيما أعومُ، فأخْبرنِي ماذا ترومُ، لأخبركَ ماذا أرومُ، فَقلتُ لَهُ: أطوِّحُ المطامِعَ وأسوحُ، وأسِّرحُ سفينَ السَّفَرِ وَلَو سَحَّتِ السوحُ، علّ أنْ يُراشَ من جَنَاح الأملِ ما اَنْحَصَّ ويُخاطَ من قميص المَصالح ما اَنقَصَّ، فقالَ لِي: تاللهِ لقد نظرْتَ ببصرِ مُقلتيَّ ونطقتَ بلسانِ شفَتيّ فطالما رشَدَ مَنْ شَرَدَ، وقلمّا عَقَدَ مَنْ قَعَدَ، وإنْ كنتَ تُريدُ رُوْدَ مزاملِتي وتُديرُ مزاء دُور ملازَمتي، فاصبرْ عَلَى مفارقة مَهونكَ، ومواظبة أمونكَ، عَسَى أن يجزم الزمن طماحك، وينصب رماحكَ، ويخفضَ صُماحَك، ويرفعَ من ماحَكَ ولو ماحَكَ، فَمَنْ أحبَّ الحِبَرَ ركَبَ أماليتَهُ، ومنْ رامَ رَيْمَ العلاُ عطفَ نحوَ العُلا ليَتهُ قالَ: فتقبّلتُ قُبلَ تَيكَ العَروبِ، وإنْ كنتُ أدري أنَّ قمر مرافقتهِ يُفْضِي إلى الغُروبِ، ثُمَّ أقبلَ كلّ على مِنْسأتهِ، ونَدِم على ما فَرَطَ من إساءتهِ، ولَمْ يَحْضُرْني في المزادةِ المعدودة، سوى بدلِ لبنِ المُصَرَّاةِ المردودةِ، فأخذت بالدَّينِ، عددِ عضلِ العضُدَينِ، إلى سَعَةِ اليدينِ، أو بيع أحد البُرْدَين، ثمَّ لَمْ نَزل نجتذِبُ عرائِسَ المسايرةِ ونعتَبِقُ، ونصطبح بمفازة المناهزةِ ونغتبقُ، إلى أنْ نزْعنا سنانَ الرِّحْلَةِ بحِمْصَ، وقَدْ أخلقَ الخَوَرُ صِدارَ التَّصَبُّرِ والقُمْصَ، فلمّا وصلْنَا إلى عَرصَاتِها، واهتصرنا بذوائب ناصاتِها قال لي: أرى أن نَفْصِمَ حِبَالَ التحويلِ، ونصرِم وضين عويل هذا التعويلِ، ونطأ صعيد هذهِ المدينةِ، ونرقأ بسلم ما يسد خلةَ اليَدِ المدينةِ، فإلامَ نَخِدُ بخمائلِ الخُمولِ، ونرتَعُ بينَ الحُمولِ في حنَادس المُحُول، فإن كنتَ على عَهدِكَ السالفِ، وما عهدتُكَ من حُسْن التحالُفِ، فأخِّرِ الخَبَبَ اللازمَ، والتعبَ المُلازمَ، إلى أنْ ينكسرَ سمُّ سمُوم السَّغَبِ والحرورِ، وينهزمَ جيشُ دَيلم الكُرَب الكرور وإن كنتَ تَخشى أنْ يلحقَكَ رِقُّها، وتسحقكَ شُقّةُ مَشَقَةِ لا تستحقُّها، فعلىّ زامورُ المَكادح ورَقهُا، وراووق كأس المكاسب وزِقُّها، وإنباتُ ريش فراخِكَ وَزقُّها، وما مِنْ دابِة في الأرض إلاَّ على اللهِ رزقُهاْ، فقلتُ لَهُ: أنا بنَانُكَ إنْ رحلْتَ، وجنَانُكَ حيثما حَلَلْتَ، فأعرِفكَ لراحتي تجادلُ، ولرفع باحتي تقاتِلُ، ولكنْ كيفَ تَلجُهَا وأنتَ العُقربانُ القاتلُ، فَقْهْقَهَ قهقهةَ القَسيب، وشَكَرَ سَلْسالَ سَحِّ ذلكَ السِّيْب، ثم نهضَ يُنغِضُ هامتِهِ، وينفض ثغامتهُ، فجعلتُ أقتافُهُ وأتلوهُ، وأستنشق تَفَلَ تَفل نَكْره وأبلوهُ، حتى ولجَ بي غيرَ ضَجُورِ، إلى مسجد مهجورِ، تضارعُ وحشتَهُ القبورُ، وتسوقُ وكف جدرانهِ الدَّبورُ، فَربضَ كُل بزاويةِ واكفة، مِنَ الهتُونِ هاويةٍ، فعطفتُ لِيتي إليهِ، وأرسلتُ سِباعَ المعاتبةِ عليهِ، فقالَ لي: أظنّكَ تتبرَّمُ بمصاحبتي، وتحتقرنِي لعدم حَبَّتي، ففي غَدٍ تَحْمَدُ مسعاكَ، وتشكُرُ مَرْعَاكَ وتملأ عياب قَبْقَبك، وتُقامُ عروشُ ذَبْدبكَ فقلتُ لَهُ: قاتلكَ اللهُ أما يشغُلكَ اندفاقُ جُوعِكَ، وإباقُ موجوعِكَ وهجوعِكَ، عن علِّ هَذي الدُّعابةِ، وسلِّ

سيوفِ هذي المداعبةِ، فقال لي: يا بنَ جريالٍ اجعلِ الصعيدَ وِسادَكَ، وتأسَ بمن بجُوعهِ شَرُفَ وسادَكَ، فما الفخرُ بنيلِ رِيِّكَ، ولا بما يلِجُ بمجارِي مَرِيك، وإنّما المفخرُ بالصَّبرِ عن الموائدِ، ونهلِ الصبْرِ عندَ نزول الشدائدِ، ثمّ إنَّهُ أقبلَ يعاملني معاملةَ الأطفال، إلى أن أعلنَ ظليمُ الظلام بالانجفالِ، وعندما بزغتِ الغزالة، ونفدَتْ لطافة المعاتبةِ والجزَالةُ، أقعدني وولّى، وطلبَ فوزَ فذِّهِ والمُعَلَّى، ثم عادَ وَقَدْ صبغَ لحيتَهُ، ودَبَغَ بقَرَظِ التّبحُّرِ حيلَتَهُ، فتنفّسَ المجهودِ، وقالَ: غيِّروا شيبكم ولا تشبَّهُوا باليهودِ وحينَ قعدَ واستقرَّ، وبردَ عَرَقُ مَفْرقِه وقَرَّ، وضَعَ شَمْلَةً مشحونة بثلثي عَرِيكَةٍ، وفخْذَيْ دَجاجةٍ وديكةٍ، ثمَّ حاذرَ الافتياتَ وقالَ: التقِمْ عَمَّا سَلَفَ وفاتَ، فأنا أحيَلُ مَنْ نفحَ بالطَّبنِ، وجَمَعَ لكَ بينَ الرئمانِ واللَّبنِ، فقلتُ لَهُ كيفَ نَعْطِشُ أو نَجوُع، وأنتَ الزَّادُ والماءُ النَّجوعُ، ومَعَ هذهِ المِيرةِ اللطيفةِ، ونَشْرِ ألويَةِ ألوَّةِ هذِي الطريقةِ، فإلى أينْ انتهى بكَ سبَبُ الرسيم، ومن أينَ حصلَ في انتهابِكَ طِيْبُ هذا النسيم، فقالَ لي: خَلِّ ما يؤدِّي إلى الانفصالِ، وجَلِّ فيما يُزيلُ ألَم تفرُّقِ الاتصالِ، فقلتُ لَهُ، قَسماً بمَنْ رَفَعَ السِّماك، وحَباكَ بأحسن الكُنَى وسَمَّاكَ، ونشرَ شوازبَ شَذاكَ، ورَّوَعَ رُوعَ الضّبارم بذاك، لا صرفتُ إليهِ جَنابي، ولا لطختُ بغَمَرهِ بناني، أو تعرِّفُني من أينَ قصدتَهُ، وبأيِّ حِبالةِ الحِيلِ صدْتَهُ، فقالَ: اعلم أننّي حِيْنَ أزمعْتُ الرواحَ ورُحتُ، وحثّني على فِراقِكَ السُّحْتُ وسُحْتُ، جَعَلْتُ أفَصِّلُ وأجملُ، وأتّقحُ وأجْمِلُ إلى أنْ وقفْتُ بالقَلْبِ القَليِّ، بباب الباقليِّ، فاكتنفتُ كفَّ فُولٍ مُضطَبع يَهمُلُ، يَسعَى بينَ مروَتَيْ القصْعة، ويرمل فملْتُ لعدَ ذاكَ إلى المَيْن، وقلتُ: هذا لا يذودُ جُوعَ يومين، فوردتُ الحمّامَ، وأردتُ الاستحمامَ لحِيلةٍ أضعُها، أو مَكيدةٍ أَصنعها، فإذا أنا بخادم قادم، ظاهرِ الكِبَرِ متقادم، فجثَمَ قُبالتِي، وأقبلَ يَرمُقُ كِبَرَ آلتِي، فلمَّا رأيتُهُ وارفَ الهمولِ، دائم النظرِ إلى الغُرْمُولِ، دلَفْتُ إليهِ، وعلمتُ أنَّهُ يَغْبُطُني عليْهِ، وقُلْتُ لروُحي: هذهِ فرصةٌ ساقَها القدرُ إليَّ، وقُرْصةٌ سَمحَ بها تَنًّورُ الظَفَرِ عليَّ، ثم إنّي مِلْتُ إليه مَيْلَ الحَنونِ، ودُرْتُ لمخاتلتهِ دَوَرانَ الجُنونِ، فلمّا أَنَسَ بموانستي، وآنسَ من جانبِ طُورِ الطَمَع نارَ موالستِي، قالَ لي: حينَ حنأتُ لحيَتي، وهنأتُ بمقدَمهِ حيلَتي، تاللهِ لقد جُدْتَ بالمناسمةِ فأحسنتَ، وأذبْتَ جامدَ القرائح وألنْتَ، وأذنْتَ بولوج جامع زُبَدِكَ وأذَّنت وآذنت، بحُلْوُ ملحِكَ وأذْعَنْتَ، وأنعمتَ بالمفاكهةِ فأمعنتَ فباقعةُ أيِّ البقاع أنتَ، فقلتُ لَهُ، أمَّا الموطنُ فطوسُ، وأمَّا الاسمُ فأبو الطُرَفِ فَطوسُ، وأمّا الصناعةُ فطِبّ يُبرئ الأسقامَ ويطفئُ العَرَّ العُقَامَ، ويُنطقُ السبّارَ، ويُنبِتُ الغَراميلَ الكِبارَ، فلمّا سِمعَ مقالتي، وشكر مِقتي، واستنفِد المحْمَدَة لمقامتِي، قالَ: سِرْ مَعي إلى الدّارِ، فلنا حاجة جليلةُ المِقدارِ، فأَجَبْتُ كواعبَ دَعوتهِ، تأملتُ مطائبَ دِعوتهِ، ولمّا فصلتُ إلى دُورهِ وقصلْتُ عصائدَ قُدورهِ، قالَ لي: أيها الحاذقُ المجرِّبُ، والكاملُ المتدرِّبُ، سَمِعْتُكَ تقول حينَ خلوْتُ بِكَ، وبلوتُ خرائدَ نُخَبِكَ، أنَا مِمَّن يُنطِقُ السِّبارَ، وينيتُ الغَراميلَ الكِبار، فإن كنتَ تقدرُ على ذلكَ، وتتجنَّبُ مواردَ آنذاكَ، فأنا أحُسِّنُ عاقبةَ حالِكَ، وأقُوِّمُ حَدَبَ ارتحالِكَ فقلتُ لَهُ: ستَرى مَقْدَمي إليكَ، نِعمةً من الدَّهْرِ المساعدِ عليكَ، وتنظرُ بين فخذيْكَ لديَّ، عَصَاً تتوكأ عليها إليَّ، وتجمَعُ شوارِدَ نَعَمكَ، وتَهشُّ بها على غنمِكَ فأعجبَهُ الكَلامُ، ولم يدرِ أنْ سيتبعُ الكَلامَ الكِلامُ، فعمدْتُ إلى مُدْيةٍ ماضيةِ الغُروبِ، مجرّبةِ المضاربِ في الحروبِ، فقالَ لِي: ما تصنعُ؟ قُلْتُ: أشُقُّ ما سَفَلَ مِنْ عَانتِكَ، ومِنَ اللهِ صولُ إعانتك، وأَضعُ مِنَ الدَواءِ حَولَيْهِ، ما يكونُ سبباً لإنباتِ المُشَار

إليهِ، فقالَ: دونك وما تريده، ففي يَدَيْك أخدَعُ المخادعةِ ووريده، فبادرتُ لرعانتهِ، إلى شقِّ عانتهِ، فجر إليهِ رجْلَيْهِ وخَرَّ مغشيّاً عليهِ، فوثبتُ وثبةَ الواقبِ، أو القَسْور المُراقبِ، مخافةَ أنْ يُحْرِقَني نفطُهُ، أو يُدرِكَني رَهْطُهُ، وهذا آخِرُ ما توخَيْتُهُ، من طُولِ حَبْلِ الحِيْلَةِ الذي أرخَيتُهُ، قالَ القاسمُ بنْ جريال: فلمّا حَذَقْتُ قِيلَهُ، وحَملْتُ مِنْ حَرِّ الحَذَرِ ثقيلَهُ، جَذَبْتُ بيديَّ أخدَعًيّ، وضربْتُ براحَتيًّ، على ركبَتيَّ، وقلتُ لَهُ: قَبَحَكَ اللهُ يا مُضْغَةَ العائبِ، وعيبةَ المعائبِ، وذُبحةَ الطيالسة، وسُبْحةَ الأبالسةِ، أفَما تَحْذَرُ مِنْ وَرْطة هائلةٍ، وغُرة غائلةٍ سائلةٍ، فلا ردَّم للهُ مَنْ ردَّمَكَ، وقَدَّ قَدَّ مَنْ قَدَّمكَ، وخدَّ خدَّ مَنْ خَدَّمَكَ، فلقد ضَلَّ من نادمَكَ، وفازَ منْ صَادَمَك، ورأى قَدَمَكَ، فأراقَ دَمَكَ، فالتفتَ إليَّ وقال: يا للعَجَبِ العجيب، والغضبِ الغريب الغريبِ، أجْنِي لكَ وتلتَقِمُ، وتجني عليَّ وتنتقِمُ، وأرفَعُكَ وتخفِضُني، وأَحملُكَ وتَحْفُضِني وأصلُكَ وتَحرِمُني وأواصلُكَ وتجزمُني، وأروِّقُ شرابَ حِبابكَ وتُدَفِّقُ لديَّ حبابَ حُبابِكَ، بعد أن رَهَزْتُكَ وهززتُك، وأَعْزَزْتُكَ وعزَّزْتُكَ، ومارستُكَ أحسنَ مِراس، وأوقدْتُ لاَنقيادِكَ أشرَفَ نِبراس، وزِدْتُ فَم عدِم فَهمِكَ أربعةَ أضراس، ولَمْ يكْفِ أنْ سعَيْتَ لانتصارك، مَع انحسارِكَ، حتّى تَجْعلَني عندَ مسارِكَ على يسارِكَ، فأفّ لِمَنْ يَلْمِزُ بمقلتيهِ، ويضَعُ مِلْحَهُ على رُكْبَتَيْهِ، وحيثُ قد أجْبَنْتُكَ عِندمَا عجنتك واَستهجنتُكَ بعدما اَحتجنتُكَ، فلا حاجة لي في مُحاججتِك، وطُول زمجرةِ ممازجَتِك، قال: فبينا نحنُ نتنازعُ عُقارَ الشقاق، ونتضرج بوَخزِ هاتيك الدِّقَاقِ، ألفينَا الخادِمَ يَدورُ، والجلاوزِةُ حولَهُ تمورُ وشِواظُ الصُّراخ يَتّقِدُ، وعجَاجُ العِياطِ ينعقدُ، فما لَبِثَ أنْ نَقَبَ الجِدارَ، ونقَضَ الأحجار، ثُمَّ انسربَ خلفَ المحرابِ، بحُسام الحِيَلِ والحِرابِ، فتبِعْتُهُ وَرِيْفَ الغُلواءِ، وارفَ العُرواءِ، وبينَما نحنُ نَهربُ ونتكَفَّتُ، ونُهْرِبُ ونتلفّتُ، إذ زَلِقَتْ قَدَمهُ، فانفجرَ دَمُهُ، فقلتُ لَهُ: هذا عُنوانُ قصَاص يوم الوعيدِ، ذلكَ ما قدَّمَتْ يداكَ وأن اللهَ ليسَ بظلاّم للعَبيدِ، ثم احتملتُهُ بينَ العاتقِ والوريدِ، وجريتُ بهِ جَرْيَ خَيْلِ البريد، ولما استوى على عاتقي استواءَ الظاعنين، قالَ: سبحانَ الذي سخَّرَ لنا هذا وما كناَ له مقرنينَ، فقلتُ لَهُ: أتهزأ بي والفِرَقُ خلفَكَ يتألبون، وللقيانِك فقالَ: دونك وما تريده، ففي يَدَيْك أخدَعُ المخادعةِ ووريده، فبادرتُ لرعانتهِ، إلى شقِّ عانتهِ، فجر إليهِ رجْلَيْهِ وخَرَّ مغشيّاً عليهِ، فوثبتُ وثبةَ الواقبِ، أو القَسْور المُراقبِ، مخافةَ أنْ يُحْرِقَني نفطُهُ، أو يُدرِكَني رَهْطُهُ، وهذا آخِرُ ما توخَيْتُهُ، من طُولِ حَبْلِ الحِيْلَةِ الذي أرخَيتُهُ، قالَ القاسمُ بنْ جريال: فلمّا حَذَقْتُ قِيلَهُ، وحَملْتُ مِنْ حَرِّ الحَذَرِ ثقيلَهُ، جَذَبْتُ بيديَّ أخدَعًيّ، وضربْتُ براحَتيًّ، على ركبَتيَّ، وقلتُ لَهُ: قَبَحَكَ اللهُ يا مُضْغَةَ العائبِ، وعيبةَ المعائبِ، وذُبحةَ الطيالسة، وسُبْحةَ الأبالسةِ، أفَما تَحْذَرُ مِنْ وَرْطة هائلةٍ، وغُرة غائلةٍ سائلةٍ، فلا ردَّم للهُ مَنْ ردَّمَكَ، وقَدَّ قَدَّ مَنْ قَدَّمكَ، وخدَّ خدَّ مَنْ خَدَّمَكَ، فلقد ضَلَّ من نادمَكَ، وفازَ منْ صَادَمَك، ورأى قَدَمَكَ، فأراقَ دَمَكَ، فالتفتَ إليَّ وقال: يا للعَجَبِ العجيب، والغضبِ الغريب الغريبِ، أجْنِي لكَ وتلتَقِمُ، وتجني عليَّ وتنتقِمُ، وأرفَعُكَ وتخفِضُني، وأَحملُكَ وتَحْفُضِني وأصلُكَ وتَحرِمُني وأواصلُكَ وتجزمُني، وأروِّقُ شرابَ حِبابكَ وتُدَفِّقُ لديَّ حبابَ حُبابِكَ، بعد أن رَهَزْتُكَ وهززتُك، وأَعْزَزْتُكَ وعزَّزْتُكَ، ومارستُكَ أحسنَ مِراس، وأوقدْتُ لاَنقيادِكَ أشرَفَ نِبراس، وزِدْتُ فَم عدِم فَهمِكَ أربعةَ أضراس، ولَمْ يكْفِ أنْ سعَيْتَ لانتصارك، مَع انحسارِكَ، حتّى تَجْعلَني عندَ مسارِكَ على يسارِكَ، فأفّ لِمَنْ يَلْمِزُ بمقلتيهِ، ويضَعُ مِلْحَهُ على رُكْبَتَيْهِ، وحيثُ قد أجْبَنْتُكَ عِندمَا عجنتك واَستهجنتُكَ بعدما اَحتجنتُكَ، فلا حاجة لي في مُحاججتِك، وطُول زمجرةِ ممازجَتِك، قال: فبينا نحنُ نتنازعُ عُقارَ الشقاق، ونتضرج بوَخزِ هاتيك الدِّقَاقِ، ألفينَا الخادِمَ يَدورُ، والجلاوزِةُ حولَهُ تمورُ وشِواظُ الصُّراخ يَتّقِدُ، وعجَاجُ العِياطِ ينعقدُ، فما لَبِثَ أنْ نَقَبَ الجِدارَ، ونقَضَ الأحجار، ثُمَّ انسربَ خلفَ المحرابِ، بحُسام الحِيَلِ والحِرابِ، فتبِعْتُهُ وَرِيْفَ الغُلواءِ، وارفَ العُرواءِ، وبينَما نحنُ نَهربُ ونتكَفَّتُ، ونُهْرِبُ ونتلفّتُ، إذ زَلِقَتْ قَدَمهُ، فانفجرَ دَمُهُ، فقلتُ لَهُ: هذا عُنوانُ قصَاص يوم الوعيدِ، ذلكَ ما قدَّمَتْ يداكَ وأن اللهَ ليسَ بظلاّم للعَبيدِ، ثم احتملتُهُ بينَ العاتقِ والوريدِ، وجريتُ بهِ جَرْيَ خَيْلِ البريد، ولما استوى على عاتقي استواءَ الظاعنين، قالَ: سبحانَ الذي سخَّرَ لنا هذا وما كناَ له مقرنينَ، فقلتُ لَهُ: أتهزأ بي والفِرَقُ خلفَكَ يتألبون، وللقيانِك

يتقلّبونَ، وأنا إلى ربّنا لمنقلبونَ، ثم ألقيتُهُ فصاحَ، وسبَّ نفسهُ والفِصاحَ فغشيني يم رحمته، وأدركَنيُ مدركة مضر مرحمته، فاحتملتُهُ احتمال الأجواد، وأعدتُهُ إلى مكان النجادِ، فأنشدَ بعدَ ما صبَّ صيِّبَ صًبْرهِ صبّاً، وضممتُ إلى فِتْرِ رأفتي بُصماً وَرتْبا: الطويل:
تجملْ رعاكَ اللهُ لا تُظهرِ العَتبا ... ولا تُسكنِ الأحزانَ منْ صَدْرِكَ القَلْبا
ولا تلبس الأوجالَ إنْ لاحَ مكْسَبٌ ... فتُمسِي وقد أهْدَتْ إلى قلبِكَ القُلبا
فأفٍّ لليثٍ لا يعفِّر أنفَهُ ... بعِثْيَره حِرصاً إذا ساور السِربَا
وتُفٍّ لَه إنْ ضاقَ ذَرعاً وخِيْسهُ ... خَلِيٌّ من الأشلا إذا شاهدَ السَّربا
وليس بعار أنْ يبيتَ وجوعُهُ ... يضِبُّ وفيضُ الرزقِ قد يشبع الضبا
فما عزَّ من أمسى من الذّلِّ كاسياً ... ولا سادَ ذو ضَنٍّ على المالِ إذ ضبَّا
قال: فسِرت تحته سير الجليدِ، إلى تربةِ خالدِ بنِ الوليدِ، وقلتُ لهُ: أقسِمُ بمسخِّرِ الرِّيْح، وجابرِ القَلْبِ القريح، لَئِنْ لَمْ تجتوِ هذهِ الإحساءَ، لا صحبتُكَ أو يصحبَ صخرُ الخنساءَ، ويعتري النِقْرسُ النساءَ، ثم إنّي رقدتُ رِقدةَ الأجير، واضطجعَ لإدبارِ جيوش الهَجيرِ، فاستيقظتُ وقد ولَّتْ قنابل الوقودِ، فألفيتُهُ قد أرقَلَ إرقالَ القرودِ، فبتُّ وأنا منَ الكُرَبِ صادٍ، مِنَ الوجلِ على مِرْصاد، كأننَّي صريعُ فِرصادٍ، لا أنطقُ بحاءٍ وميمٍ وصادٍ.
المقامةُ الثالثةُ والثلاثونَ الواسطيَّةُ
حكَى القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: اتَّخذْتُ مدَّةً مِنَ الدهر الأدهم، والعصر المحلولكِ الأسحم، بالحبشةِ داراً، وقد قدَّني الملوانِ إِذعاراً، لا يرتضيها الضِّبعانُ غاراً، والثعْلُبانُ أَنَفَةً وعاراً، فحينَ كرِهْتُ مُعاقرةَ عروشها، ونَدِمْتُ على معاشرةِ أحبوشِها، اعروريتُ سنامَ العَيْسجورِ، وفَريْتُ إهابَ البحر المسْجورِ، ولم أزل أخِد بأقدام الفِرارِ، إلى مواطن القرارِ، وأجدُ مَعْ مكابرةِ البِكار، حرّ حَزِّ مرارةِ الإفتكار، إلى أنْ سَرَطَني سراطُ واسط، وأنا ما بينَ قابضٍ منَ القلقِ وباسط

فأرَقْتُ كَؤوسَ النُّحوس، وفارقتُ لَبُوسَ الحَظِّ المَنْحوسِ وكسرتُ كؤوسَ الوُكوس، وهجرتُ عروسَ العُكوس، فلمّا عُمْتُ بمعارج أسواقها، وأقمتُ سُوقَ المَيْسُرةِ على ساقِها، ألفيتُها ذاتَ رُواءٍ وارفٍ، ولواءٍ وطارفٍ، يَصْبو إلى أركانها الوليدُ، ويَنْبو عَنْ مُناسمة سُكّانِها البَليدُ، فجعلتُ أقْصِدُ مُنادمةِ المدُاني، وأقصِدُ يدَ دِنانِ التداني، وكنتُ أيّامَ مُبادرةِ ثمارها، ومُذاكرة أذْمارها، أنْخرِطُ إلى حاكم المدينةِ، وأًلْتَقِطُ من نَثْر مآثرهِ المتينة، وكانَ مِمّنْ يَقْلِي لقاءَ البارح، ويقضِي بَيْنَ المُقيم والنازح، فبينما أنا عندَهُ في يوم مُسْهَوْهبِ الذَّائب، مُغْلَولبِ السَّحائبِ، إذ أقبلَ شَيْخ مُسْبل سِرارَ سَاجِه، مُرْهِف غِرارَ انزعاجه، نافضٌ رِفْلَ ثوبهِ العَمَرِ، قابضٌ غِلالةَ غلام كالقمرِ، فلمّا مثلا لدَى القاضي، ونثلا وفاضَ التغاضي، شهرَ الشيخُ لساناً كالِمخْصلِ الماضي، وقالَ: أيَّدَ اللهُ سُطَا سَيْفِكَ العمري، وشيدَ رَبْعَ عِزِّ عدلِك العُمَريِّ، ولا بَرحَ لِدانُ إنصافِك مُثقّفَ الأنابيب، وعنانُ انتصافِكَ مفوَّقَ الشآبيبِ، أنُهِي إلى وَلِيِّ إفضالِكَ، وجليِّ إجلالِكَ، أنَّني وَلدْتُ هذا الغلامَ، الماهرَ العُلامَ، وعَلَّمْتُهُ الكلام، وثقفتُهُ مُذْ قامَ حتَّى استقامَ، فحينَ شَبَّ في شِبابه ودبَّ لهَبُ هِبابه جَعَلَ يَحصِبُني بشَنيع مُنازعته، ويضرْبُني بقطيع مُقاطعتهِ، ويتحفني بامتنانهِ، ويَقْصِفُني بأهوية هَوانه، ويَخْذفُني بحصى حصانهِ، ويَحْذِفُني بعصا عِصيانهِ، ويُنشِقُني رياحَ عُقارِه، ويرشُقُني بقُذَذِ نقاره، ولم أزل مذ أتَّسقَ شفق بدره، وظهرَ ثَمَرُ نَدْرهِ، وراحَ للحِكمَ واشتغل، وفاح عَرفُ مَعْرفتهِ واشتلَ، وكَملَ شاربُهُ وبَقَلَ، ودَرَأَ دَرَنَ درايته ونقلَ، وصبا ركامُ ذِهْنهِ وصبَّ، واستيقظَ مِنْ سنَة وَهْنه وهبَّ، وعدنَ بدار الأدب وألب، وامتلأ صِدار صَدْرهِ بالدّرر واتلأب، أخِيط إذا طَرَّ، وألينُ إذا اقمطَرَّ، وأقترضُ إذا اضطرَّ، وأنقبضْ إذا اسبطرّ، وهو لا يَهْبِطُ عن ساحج عَجاجهِ، ولا يَعْدِلُ عن لاحب لَجاجه، ولَمْ يَكْفِهِ كُفْرُ فَيْض إفضالي، وطول مَدِّ طُلْيَةِ الطَّمَع إلى نضالي، حتّى عادَ يُطفِئُ وميضي، ويُرفئُ سفينةَ السَّرَقِ إلى قَريضي، وقَدْ تطرَّق هواهُ، وتدفَّق شرُّهُ وشَذَاهُ، إلى أنْ أفسدَ عليَّ بشاطئ هذا العبُور، شِعراً يُشابِكُ شناتِر الشِّعرى العَبورِ، فرفعَ منه ألفاظاً يسيرةً فأف لها سيرة، ووضَعَ عِوضها حقيرةً، فتُفٍّ لها جَريرةً، ولم يزلْ يا ذا الجُودِ، وفاطر الفَلَك الموجودِ، نسبةُ حَظِّي الموؤد، مع أمِّه الولود، نسبةَ الوالدِ إلى المولودِ، من طاعة هذا المولودِ، قالَ: فأقبلَ القاضي على فَتاهُ، وقالَ لهُ: إنِّي لأخالُهُ صادقاً فيما تَعيهِ، صابراً على ما يدَّعيهِ، فاتَّقِ اللهَ في مُناقشتهِ، واصبر على شدَّة شِرّةِ معاشرته، فقالَ له الغلام: أقسِم بِمَنْ أيَّدك بالعَلاءٍ، ورفَعها بعدد حروف الاستعلاء، وجعلَ بحارَ حِكَم الحكّام، في شامخ أحكام حِكَمِك كالرُّكام، أنَّني ما أطفأتُ وميضَهُ، ولا احتقرْتُ حَضِيضَهُ، ولا رفضتُ فريضَهُ، ولا انتحلتُ قَرِيْضَهُ وها هو مُدع أِّنَني ادعيت قصيده، وهدمت أبنية شعره ووصيده وليس الحال كما ادعاه وضمه وعاء سمعك ووعاه، وإنَّماَ سمح خاطري قبله، بشعر لو رآه الأخطل قبله، ولم أكنْ رفعتُ قَبْلُ قناعَهْا، ولا تدبَّرتُ اختراعها، فإنْ أحببت شيم شرر لددنا، وتبَلُّجَ صُبْح حَقَ أَحَدِنا، فمُرْنا بإيرادِ الدُّرَّتينِ، ليتضح لكَ اختلافُ كَلم الكلمتين، فقالَ لَهُ القاضي: تالله لقد وضعت محاسنَ سِراطِكَ وأنصفتَ برفع نَصيف أشراطِكَ، وهَرَفت بمدحِكَ على نشاطِكَ، وأرهفْتَ لهياج دَم ذمِّهِ شَباةَ مِشْراطِكَ فإن شِئْتَ أن تُجَلِّي فجلِّ، وإن رُمتَ أن تُصَلِّي فصَلِّ، فقالَ الغُلامُ أما عَلِمْتَ أنَّ البركة في الأكابرِ، ولا سيما المأخوذَةَ عن الكابرِ بَعْدَ الكابرِ، فقال الحَكمُ للشَّيْخ: أتْلُ شعْرَكَ لَدَيْهِ، وقَدْ خَصَّكَ بخلاص التقدّم عليهِ، فقالَ، وقد سعَّرَ لنزاله لهيبا، وجَرَّدَ لكفاحه لساناً مهيباً: الطويل:

متى أمتَري رَوْض النَّجاءِ قريباً ... ويُصبحُ حُر الوجْهِ فيَّ قشيبا
وأخْلُصُ من شدِّ الإرانِ وأنثني ... أخا حَنَفٍ يهوَى المُقامَ نصيبا
فوَيْل إذا أجني الرجاء، وأجتدي ... سليم نوالٍ في الأنام عَسيبا
فإن عُدّتُ منصوراً بجَونِ سعادةٍ ... أظلُّ لأعناق القطوع قضيبا
وإنِّي وإنْ صلَّيتُ في السَّبْتِ مدَّةًوأضحيتُ دَهْراً للترابِ نسيبا
وأمسيتُ عَنْ وَصْلِ الخَليلِ مقيَّداً ... يرى جَسدي بعد المسيح صليبا
لأعلَمُ حقًّاً سوفَ أحيا وأغتدي ... إلى يَوم عَرْض للحسابِ جذيبا
وأصبحُ بعدَ الفَن في لاجبِ البِلى ... أبا جَذَلٍ حُلْوَ الشبابِ حَبيا
فلا تحسبِ الإنسانَ إلا سحابةً ... تقشَّعُ من ريح المَماتِ قَريبا
فلمّا تحيَّرَ الحَكَمُ بإنشادها، وتَعَجَّبَ بمشيد شيدِ إرشادِها، قالَ للغُلام: أخرجْ يدَ برهانِكَ، مِنْ جَيْبِ غَمائم تهتانِكَ، وتَوَّقَ مواقعَ بُهتانِكَ، قبْلَ شُرْب شَراب امتهانك، فأنْشَدَ عندما أعادَ عُوْدَ حُرمتهِ لحيبا، وملأ حَضْرةَ الحَكَم نحيباً رحيباً: الطويل:
متى أرتعي روض النّجاءِ قريباً ... وأرسو بصبْر ظلَّ فيَّ قشيبا
وأفكرُ في شَدِّ الإُرانِ وأزدَري ... أبا حَنَفٍ يَرضَى المَلامَ نصيبا
فسحقاً إذا أجْنى الرَّجاء وأنثنى ... سَليمَ نِزالٍ ظَلْت فيه عَسيبا
فإن بِتُّ منصوراً بجَوْنِ سَحابةٍ ... مِنَ الحرْص أمسى بالعَنَاءِ قضيبا
ولو أنَّني صلَّيْتُ للسَّبتِ عامداً ... لأنشأتُ دَهْراً لا تضُم نسيبا
سأضرب بالعضب الخَليل مقوِّماً ... أخا صَعَر ظن المسيحَ صَليبا
وأحيا إذا أحيي من الجودِ جانباً ... ليمسي خصيباً للعُفاة جذيبا
فمن حب هذا الفنِّ تاللهِ لم أزلْ ... مقيماً لأصحاب السؤال حَبيبا
ولم أخفض الإنسانَ إلا تعفّفاً ... لئلا يَبيتَ العارُ فيّ قريبا

قال: فحين فَرَغَ من استجلاءِ عجائبه، وأفرغَ غَيْثَ غِمام غرائبه قالَ له القاضي: إنّهَا لأبياتُ أبيكَ، ولا أحابيكَ، ولم تُلْقِ سوى قيلٍ قليل فسلالا لكَ من سليلٍ، فقال الغلامُ: أقسمُ بمَنْ أتاحَ لنا قصدَ هذا الطريقِ، وأباحَ للمتمتع صيامَ أيام التَّشريق، إنَّها لفريدةُ نصاحي، ووليدةُ اجتراحي ونفيسةُ عفاصِي، وفريسة اقتناصي، غيرَ أن معنى ألفاظهما متغايرٌ، وغبار شدةِ مباينتهما متطايرٌ، وأنا - أعزَّكَ الله - أبيِّنُ حقيقةَ الحالِ، وأعيِّنُ عدمَ الانتحالِ، ثم إنُّه مضى في شرح القصيدتينِ، مُضِيَّ الفَرْقَدَيْن، فحينَ فتح أبوابَهُما، وأوضحَ أسبابَهما، قال القاضي للشيخ: ها هو قد بسطَ إليكَ عَشْرَهُ، وشرحَ لديكَ شِعرَهُ، فهل بقي بوفاضِكَ سِهام، أم تخلف بشهرَيْ ناجرِ احتجاجِكَ سَهام، فقالَ لهُ: اعلم - طَوَّلَ الله بِكَ ذَلاذِلَ الذيولِ القصار، وقلَّدَ عُنُقَ اقتداركَ بتقصار الانتصار - أنَّني جئتهُ حينَ تَمَّم إحكامَها، ونمَّر طخاريرَ الشكالة وركامَها فأنكرت عليهِ، ما أفضتِ القضيةُ إليهِ، وقلتُ لَهُ: تَعساً لك من سَروقٍ، وراكب عُجلزة عقوق، وتباً لكَ من ذي لَفْظ رخيم، وصاحبِ خيم وَخيم، أتهزأ - ويلك - بأشعاري، وترزأ بقواضب القِحةِ حلائلَ ابتكاري، ثُمَّ إنّهُ قَدْ حَصَل لك حال قُبْح هذِي الخِصال، واتِّصالِ خُمْصانَةِ هذا الوصال، مَعْ ما توخيتْ من جَودةِ هذا الارتفاقِ، صياغةُ الصِّناعةِ بالاتِّفاق، فكنتُ كمُشْتارٍ قَصدَ الصابَ، أو عابثٍ قذفَ حَجَراً فأصابَ، ثم إنِّي شَرَحْتُ لَهُ ما زعم أنَّهُ اقتضبَهُ، وقدحت في حدب قرا الجهْلِ الذي ارتكبَهُ، فحين حَذقَ ما شرحتهُ، وطفقَ يُتقن ما له أبَحتُهُ، قالَ لي: يا للعَجَبِ أتسبقُني لشرح ما به دَلَّهتُ، وتُناضِلُني بالكنائنِ التي بها تنبهت، فيا خيبة من يرجو روح أرواحكَ، والرجوعَ إلى مُراحكَ، والطيرورة بجناحك، وقد جرح بخناجر اطراحك، وها أنا قد أحضرتُهُ إليكَ، وعرضتُ عُروض انتحاله عليكَ، فنظر القاضي إلى الغلام وقال له: ما الذي تُجيبُ، وقد احتدَمَ بين حربكُما الوجيبُ، فقال له: إنْ كنتَ تُحِبّ بأنْ يُحَصْحِصَ لكَ الحقُّ ويَبينَ، ويلين لَدَيكَ الظالم ويستكينَ، فَمُرْهُ بأنْ نتساجلَ بالقَريض، أو بإغريض النثرِ الأريض، فقالَ له الحكمُ: قد سَمِعْتُ نظمكما، ووعيتُ وعظَكما، ولكِنْ تساجلا بنثرٍ يشاكلُ المنثورَ، ويشاكِهُ اللؤلؤَ المنثورَ، مشابهاً لهذي الصِّناعة، مماثلاً لها في عبارة البراعة، فلمّا سَمِعا كلامَهُ، وعلِما ما رامَهُ، تَلبَّبا وتناهزا، وتصلّبا وتبارزا، ثُمَّ شَحَذَ الشيخُ النِّصالَ الصِّقَالَ، وجالَ في حَلْبَةِ المُنافرةِ وقالَ: مُجانبة الجَنَفِ نجائبُ النَّجاء، فقالَ الغلام: ومجاورةُ النجَفِ مكاسبُ النّجاءِ، قالَ: طُوبَىْ لمن اصطبحَ في السماءِ، فقال: طُوبى ولو سبَّحَ في سماءِ السماءِ، قال: بئسَ الضّرَرُ بالبَدَن الحر، فقالَ: نَعَمْ ولكن لا يَضُرُّ الفَرَسَ الحَرُّ، قال: أولى الناس بالكرامة الحرُّ، فقال: وأحقُّ الأشياءِ بضربِ الكرامةِ الحُرُّ، قال: خَابَ مَنْ هَجَمَ عفافَه ولاطَ، فقال: وطابَ من هجم، أخلافَهُ ولاطَ، قالَ: السعيدُ مَنِ اعتبرَ بهزال الهلال، فقال: والجليدُ مَنْ ساورَ هلال الهِلالِ، وقالَ: لا تؤسِّد ذا اللَّبَنِ اللَّبِنَ، فقال: ولا تُعالج باللّبَنِ اللَّبِنَ، قَالَ: رَبحَ مَنْ تعلَّمَ خاءً وطاءً، فقال: وخَسِرَ من طلقه الأطيبان وطاء، قالَ: تَعِبَ مَنْ جوَّدَ ألفاً وباءَ، فقال: وأتعب مِن زَوَّدَ ألفاً وباءَ، قالَ: اعتيام البُكَرِ للغُرابِ، فقالَ: وقِوامُ القيام بالغراب، قالَ: الحظيُّ مَنْ كذَّبَ المسيحَ، فقال: والوفي مَنْ صَدَّقَ المسيحَ المسيح، قال: أسْوَغُ مشَروبنا الفَصيحُ، فقال: وأبلغُ أريبنا الفَصيحُ الفصيحُ، قالَ الراوي: فلمّا استدلّ القاضي بما استدعاهُ، وعَلَّ رحيقَ ما أبدعاهُ، قالَ لهما: لقد صحَّ عندي مُحالُ حكايَتِكما، وإبطالُ محاكمتِكما، فكلُّ منكما شَرٌّ من صاحبه، جارٌّ ذيلَ خَتْرِه على مساحبه، لكن أنا مِمَّنْ يُحْسِنُ الإيالة، ويستحسنُ لصَيْد الكرام الحِبالةَ، ثمَّ إنَّهُ قبضَ لهما قبضةَ منَ اللُجينِ، مُذْ وَجَدَهُما محوَجَينِ، وبتاج الفصاحة متوَجَيْن، وقالَ: تغمَّرا بهذي الإراقة، وتقنَّعا

بهذِه المُراقةِ، واقصدا دُوركُما، واشْرَحا صدوركما، فعلَى الخُبْزِ كانت المقاتلةُ، وعندي يوجدُ الجَبْرُ لا المُقابلة، فتبسَّم الشّيْخُ وقالَ له: تالله ما قَصَدْتُ مَجْلسَكَ لشكاية، ولا لطَلب صلَةٍ ولا نكايةِ، ولمْ يَزَل الصَّلاح بَيْنَنا منظوماً، والاصطلاح عندنا مَسْجوماً، وما فتئتُ أهذِّبُ قلبَهُ المتعَبَ، وأَجَنَبُ لُبَّهُ عَنْ مَطامع أشْعَبَ وإنَّما جئناكً مَعْ معاملةِ الرِّئمانِ، لِتَذُمَّ لنا معانَدَةَ الزَّمانِ، فَرَّقَ لهُما الحَكَمُ ورقَّقَ، وتحرَّقَ لحُرقهما وحرَّقَ، ثمَّ انصرفا بعدَ ذلكَ الاختراع، مشكورَيْنِ بإجادة الافتراع قال القاسمُ بن جريال: فلمّا زهدَ في التقاطِ ذلكَ الشّيْلَم، وعامَ عَوْمَ الغَيلْم في العَيلم، وَقفت تجاهه، وشكرْت انتباهَهُ، فإذا به المصريُّ ذو الغرائبِ الغريبةِ، والعجائب العَجيبةِ، فقلت لَهُ: يا ما أُمَيْلح ما تناضلمتا، وأُحَيْسنَ ما تساجلتما، فلم حرَصْتَ راس حِرْصكَ وهَشَمْتَ، وغفْتَ غفَّةَ عُفَّة الحَكَم واحتشَمْتَ، فقال لي: يا بن جريال، دَعْني منَ العتابِ، ولومِكَ المُرتاب، فَقَدْ تُقْتُ إلى المَتابِ، وبَرقْتُ لرشق ذلكَ البَرتابِ، قالَ فجعلتُ أعجَبُ لدَرِّ ذلكَ الانصبابِ، وردّ ذيّالكَ البابِ، بعد الاعتجاب، باحتقارِ التِّجابِ، وقبض منْسأةِ التّجوابِ، بعدَ حُسنِ الجواب.بهذِه المُراقةِ، واقصدا دُوركُما، واشْرَحا صدوركما، فعلَى الخُبْزِ كانت المقاتلةُ، وعندي يوجدُ الجَبْرُ لا المُقابلة، فتبسَّم الشّيْخُ وقالَ له: تالله ما قَصَدْتُ مَجْلسَكَ لشكاية، ولا لطَلب صلَةٍ ولا نكايةِ، ولمْ يَزَل الصَّلاح بَيْنَنا منظوماً، والاصطلاح عندنا مَسْجوماً، وما فتئتُ أهذِّبُ قلبَهُ المتعَبَ، وأَجَنَبُ لُبَّهُ عَنْ مَطامع أشْعَبَ وإنَّما جئناكً مَعْ معاملةِ الرِّئمانِ، لِتَذُمَّ لنا معانَدَةَ الزَّمانِ، فَرَّقَ لهُما الحَكَمُ ورقَّقَ، وتحرَّقَ لحُرقهما وحرَّقَ، ثمَّ انصرفا بعدَ ذلكَ الاختراع، مشكورَيْنِ بإجادة الافتراع قال القاسمُ بن جريال: فلمّا زهدَ في التقاطِ ذلكَ الشّيْلَم، وعامَ عَوْمَ الغَيلْم في العَيلم، وَقفت تجاهه، وشكرْت انتباهَهُ، فإذا به المصريُّ ذو الغرائبِ الغريبةِ، والعجائب العَجيبةِ، فقلت لَهُ: يا ما أُمَيْلح ما تناضلمتا، وأُحَيْسنَ ما تساجلتما، فلم حرَصْتَ راس حِرْصكَ وهَشَمْتَ، وغفْتَ غفَّةَ عُفَّة الحَكَم واحتشَمْتَ، فقال لي: يا بن جريال، دَعْني منَ العتابِ، ولومِكَ المُرتاب، فَقَدْ تُقْتُ إلى المَتابِ، وبَرقْتُ لرشق ذلكَ البَرتابِ، قالَ فجعلتُ أعجَبُ لدَرِّ ذلكَ الانصبابِ، وردّ ذيّالكَ البابِ، بعد الاعتجاب، باحتقارِ التِّجابِ، وقبض منْسأةِ التّجوابِ، بعدَ حُسنِ الجواب.
المقامةُ الرابعةُ والثلاثونَ الحَمَويَّةُ

حدّث القاسمُ بن جريالٍ، قالَ: شملني حينَ عصيتُ الاشتباهَ وأطعتُ الانتباهَ، وباينْتُ مياهَ مَاهَ، أحْويةُ حاضرِ حَمَاهَ، فجعلتُ بعدَ دَعِّ الباطل، ودَفْع الناطِلِ، ومخالطةِ القساطلِ، ومصادمةِ قُبِّ الأياطلِ، أَسْرحُ في نِعَم دائمةٍ، وهِمع داميةٍ، وسُوح سامية، وسروح سائمة فلمْ أزلْ أجود بمُجمَل الصحاح، وأستر تكملة الصلة فراراً من الإيضاح وأسمح لأرباب الأصول بجمل نهاية المحصول وأورد لطلاب المصالح، وأسود باصطحاب الجليس الصالح، إلى أن ذهب لجيني لحيني، ونضبَ ماء عينتي لعيني، ولمَّا ساءني مسامرة الانخفاض، وطيّرَ غربانَ فوري بُزاةُ الابيضاض، ورَبَضتْ بهُوةِ هالةِ هَواني، وقبضتُ توقيعَ العِزْلة منْ رواجبِ حواجبِ الغَواني، وألقتِ العذارى معاذيرَ بُغْضِها المُضاجِرِ، وجادت الجآذرُ بهَجر هجَّرَتْ بهِ هِجانُ الهواجرِ، وغطَّيْن عَنِّي الطُّلى بالمَعاجر، وفتحنَ أبوابَ القِلَى بعد سدِّ الكُوى بالمحاجر، أجريتُ دُرَّ دَمعي المَصُون، وبكيتُ بكاءَ الحمائم على الغصونِ، وكنتُ قبلَ انسدادِ بابٍ اقتداري، واحتدادِ نابِ الضّرر لانهدام دارِ مِقداري، مشعوفاً بجاريةِ شَرَيْتُها أيامَ الاقتدارِ، وجعلتُها عُدَّةً لكسرِ عساكر الأقدارِ، واعتقدتُ ديْنَ حبِّها عَيْنَ الاعتقادِ، وصيّرتُ أَهْجيراي لوصلِها هجر الرُّقادِ، فحينَ قضبَ قاضبَ الغِيَرِ أسبابُ الاكتسابِ، وكفر كافور الكِبَرِ إنابَ اشتدادِ الشبابِ، قوَّضَتْ خِيامَ طاعتي، ونَقَضَتْ جِدارَ مطاوعتي، فأمسيْتُ بعدَ مَسِّ سَمِّ إلحاحها الوحِيّ، وحَسِّ سَحِّ أعراضِها المَضرَحي، أنشد للشيب والفَلَس الرَديّ، بيتي ابن الحارث الكندي، وبَيْنا أنا في ظلِّ النَواعير، أتلقى زفيرَها تلقِّي العِيرِ، أضاهِي بأنيني أنينَها، وأحاكي بحنيني حنينَها ألفيتُ أبا نصرٍ المصريَّ معْ مِراحه الزخًّار، وحُلْوِ حديث مِسْحَلهِ السحّار يهتز هزة الأفنان، منطلقَ الاعتنان، وقد أبدَى نواجذَ أفراحه، وأردَى قبائل أتراحِه، فأقبلتُ إليه إقبالَ من سَجَر، وأهملتُ ما كانَ بينَنا شَجَر، وجعلْتُ أبُلّ بوصالِه النجَرَ، وأستلم يمينهُ استلامَ الحَجيج الحَجَرَ، فقال لي: يا ابنَ جريال ما الذي حمّلك أعباءَ المُحولِ، وحَملكَ على التحافِ هذه القُحولِ، فقلتُ لَهُ: طلوعُ طلائع المعاطبِ، وأفولُ وصال السُّرْعُوبةِ الكاعبِ، ثم انطلقت إلى أناسي، بعدَ سَمْلِ إنسانِ التَّناسِي، ولّما أبثَثْتُهُ حالي مع الرَّداح، وقاسمته مالي مقاسمةَ أبي الدحداح، أعرض عن الضخام والرِّشاق، وأَخَذَ في قَصِّ قَصص مصارع العشَاق، ليُسلَي حَبَّةَ قلبي المتبول، ويجلي بإخراجي من حبالِ تلكَ الحبول، ولم يزلْ يعدُني بفناءَ الليائل، ويُسْعِدُني بحديثِ عُشّاق الأوائلِ، ومع ذلك فمَسمعي شديدُ الرتاج، ومدمَعي زاخرُ الانثجاج، فلمَّا يئسَ من علاجي وأعضلَ داءُ الدّلَه وانزعاجي، وضربَ طبلُ رحيل النوم، وانسكب وبلُ وبيلِ اللَّوم، قالَ لي، وقد اسَحَنْكَكَ الغَسَقُ وعسا، وصَلبَ جَفن طولِ المجانبة وجسا: الكامل.
ما بالُ قلبك في الغَوايةِ غلَسا ... يا منْ تعلّلَ بالوصالِ وأبلسَا
رفهْ فؤادَكَ ما استطعتَ فإنَّما ... قَلبُ الذي يَحكي الغزالةَ قَدْ قَسا
واصبر ونَفسْ من همومِك ما نرى ... فعسَى يَرُقُّ فؤادُهُ القاسي عسَى
لا تطمعن فليسَ يبلغ قصدَهُ ... رجًلٌ يَبيتُ من الدراهم مفْلِسا
قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فشفعتُ زفراتي بالنحيبِ، حتّى ضاقتْ بأرجاءَ الجوِّ الرحيبِ، ثم إنَي استعدتُه فآلَ، واستزدتُهُ فقالَ: الكامل.
كيف الدّنو إلى حَبيبٍ دَأبُهُ ... طول الصدودِ وإنْ تدانىَ طلمسا
ملكَ الجمالَ بصارم من عِزَّةٍ ... قبلَ المِلاح وفي الملاحةِ عرّسا
فبوجهه صُبْحُ الصبَّاحة طالع ... وبشَعْرِه ليلُ القِلى قد عَسعَسا
وبفدِّهِ وحسامه من جفْنه ... قَدَّ القُدودَ وطاعنَ القلب الأسى
ولريقه ركعَ المدامُ وخالِه ... سجدَ الظلامُ وتابعَ الصبحُ المسا
فكأنَّهُ وكأنَّ حُمْرةَ خَدّه ... مِسْك علا ورداً وجالسَ نَرجسا

جَلَّ الذي هزَّ القوامَ وأرهفَ ... الطرفَ الكحيلَ إذا الحواجب قوسا
فاقَ الصِّباحَ لما الصَّباحُ بنُورهِ ... فاق المساءَ أخا المساءةِ إذ عسا
فجعلتُ أسكبُ وَسْميَّ المدامع، وأرسبُ في سَيْل سَحابِ الجَفنِ الدامع، وقلت لَهُ: أتحفتني بجَلْوةِ عروسِكَ رَسيسا، وسلبْتَ مني بالنَّفيس نَسيسا فأقرِن بَقرنِ ما قدّمتَهُ تخميسا، وإنْ عادَ وًجْدي بالخَميس خميسا فقالَ: الكامل.
يا مَنْ تجزَعَ بالكآبةِ أكؤوسَا
سَلِّ الفؤادَ مع التّباعُدٍ بالأسى
يا مَنْ تحمَّل في الصبابة أبؤسا
ما بالُ قلبِكَ في الغَوايةِ غلسا ... يا مَنْ تعلّلَ بالوصالِ وأبلسا
فَوِّضْ أمورّكَ للقضاءَ وسلِّما
وانصِبْ إلى رُتَب المعالي سُلّما
وَدَع الرجاءَ فما يفيدُكَ مَغْنَما
رفه فؤادك ما استطعتَ فإنَما ... قَلبُ الذي يَحْكي الغزالةَ قدْ قسا
متًع جفونكَ إن قَدَرْتَ على الكَرى
يا غاغلا سلبَ الفؤادَ وما دَرَى
لا تعتبن على الزمانِ وما جرى
واصبر ونفس مِن هُمومِكَ ما نرى ... فعسى يرِقُّ فؤاده القاسي عَسَى
يا باكيَاً تسقي المآقي خَدَّهُ
رِفقاً بقلبك كي يفيقَ وصُدهُ
يا هائمَاً يشكو الحَبيبَ وصَدَّهُ
لا تطمعن فليسَ يبلغُ قَصدَهُ ... رجلٌ يبيتُ مِنَ الدراهم مُفلسا
قالَ:. فَلَمْ تَزَل جيوشُ الوَجَلِ تجولُ، وليوثُ لَوثهِ الراحةِ تحولُ، حتّى كدت أكسِرُ بحَرِّ ماءَ الصُّراخ، سورةَ بحْرِ جَمِّ التَجلّد النُّقاخ، وما رأى أنْ قَدْ نشب شص الشجن واعتاصَ، وتحقق أنَّ الإخلاصَ مِنْ حِبالةِ الحَزَن ولا مناص، سترَ سره والعَلَنَ، وَعادل الظَّعَنَ وظَعَنَ، بَعْدَ أنْ تمنى لي الوَسَنَ، وأَجررتُهُ الرَّسن، وشكرتُ إحسانَهُ الحسنَ البَسن.
المقامةُ الخامسةُ والثلاثونَ السَّروجيّة

أخبر القاسمُ بنُ جريال، قالَ: سكنتُ سَروجَ أحيانَ ممازجةِ الرِّحابِ، ومجالسةِ الأنجاب، ومُجانبةِ المِنجاب، ومشاهدة الشادنِ المُجاب، فباشرتُها مباشرةَ البَشيرِ، وعاشرتهَا معاشرةَ العشيرِ المَستشيرِ، وكنتُ يومئذٍ لَهِجاً بحبِّ المُدْلَجِيّات، مبتهجاً بامتطاء الأعوجياتِ، أشتريها ولا أماكسُ، وأبالغ في أثمانِها وأنافس، فتواصينا ذات يوم للسِّباقِ، على متونِ العِتاقِ، فخرَجنا مصحوبينَ بالسَّبَقِ، على عدد حروفِ النَّسَق، فنشِطْنا نشاطَ مَنْ شارفَ الشَّبقَ، وشرطنَا السبقَ لمَن سَبَقَ، ولمّا قُمنا بعدَ قِصَرِ الحِينِ، ورُمنَا المسابقةَ بينَ السَّراحينِ، أقبلَ ذو سابح نَحيفٍ، جانح من الوَصَبِ ضعيفٍ، يسحبُ أرساغهُ لكلالهِ، ويخضِبُ عُرقوبَهُ من صككِ هُزالهِ، يبينُ عاتقُ شِمالهِ، من تَحتِ عنقِ أسمالهِ، ويَلوحُ بياضُ ثغامتِهِ، من بَيْن أدوارِ عمامتهِ، فحينَ وَصَلَ إلينا، وبزغَ قمرُ قُربهِ علينَا، قالَ أسعدَ اللهُ العِصابةَ السَّروجيَّةَ، وجدَّدَ أيامَ إنعامَها اليلنجوجِيَّةَ، فقُلْنا لهُ: حُيِّيْتَ يا ذا اللسانِ الطليقِ، واللِّثام الوَثيقِ، ثم شرعَ معهُ بعضُ الجماعةِ، في نوع من الخَلاعةِ، وقالَ لهُ: هَلْ لكَ يا ذا الشارةِ، في أنْ تسابقَ على هذهِ الفارةِ، فقال له: أنَّى أسابقُ بما لو سابقَ الدَّبا لدَبا، أو أزدفرَ زبالَ الكَبا لكبا، شازباً لو انتُدِبَ لسباقَ الصَّبا لصَبا، أو أمِرَ بمصادمةِ الرُّبا لربَا، لكن أسابقُ على رَبوةِ يفاع، بصَهوةِ صافِن صِفاع، لو خامر عُبابَ القَفا لقفا، أو جاورَ كدرَ أصحاب الصفا لصَفَا، فَمَنْ شاءَ فليبرُزْ لابِسَ لامةٍ، ومَنْ شاء فلينصرِفْ عنِّي لا بسلامةٍ، قالَ: فلّما تألقَ قمرُ فَلَكِ فُكاهتِهِ، وتعلَّق بنانُ مُداعبتنا بأَهدابِ مُفاكهته، قلنا تالله لنُرْجيَنَّ السِّباقَ، ولنرخيُنَّ لهذا الشيخ الشباقَ، فإنَّ ساعات الدُعابة بعده تموتُ، وطيبَ أوقات المسابقة متجدِّدةٌ لا تفوتُ، فتجرّدوا عن السَّوابح، وإنْ كان في خلاعتهِ عينَ الرابح، فنزلَ كلٌّ عن صَاهلهِ، وجذبَ بجلابيبِ كاهلهِ، رغبةً في عذوبةِ تأهِلهِ، وودودِ حَلاوةِ مناهلهِ، فحينَ عاين ميلنا إليه، وعَلِمَ ما نجد من المَسرَّةِ لديهِ، ألقَى رداءهُ على منكبيهِ، ثم نكصَ على عَقبيهِ، فاَعتلَقَ كل بعنانه، ومنعناهُ عن استيفاءِ مَيدانه، وقلنا لهُ: قسماً بمَنْ سخَّرَ الإعصارَ، وخفف بأيد أيدي نصرهِ الآصار، لا نفارقُك ولو لغايةِ عامِنا، أو ترتعَ في رياض طعامنا، فلمَّا سمِعَ كلامنا، وحمِدَ إلمامَنا، قال إلينا واَنضَوى، بعدَ أنْ نوى ذلكَ الهوى وهوى، فجَعَلَ كلّ مِنَّا يَجْذبُهُ إليهِ، ويتوّكأ لاستخراج نُخَبهِ عليهِ، فحينَ شاهدَ قشوفَنَا لكَشفِ أهلّةِ هالاتهِ، وتأففنَا لقلّةِ قلّةِ مُبالاتهِ، وتأثفنا حولَ مَلة ملة عُزّى لَعبهِ وَلاتهِ، قال: إنْ شِئْتُم قعدتُ بالقرعة، وإن أحببتُمْ ربضتُ بازاءِ هذا القَرعةِ، وأَومأ إليَّ، وضحِكَ ضَحِكَ المفتضِح عليَّ، وقالَ: أأقعدُ بجنْبِ هذا المولى الفاخرِ، السيّد الأجَلِ الحُرِّ المفاخرِ، فَقُهقَتُ إلى أن فحصتُ بأخمصَي، وسقطَتْ مهابةُ تقمصي، وقلتُ لهم: أتدرونَ إذْ لطَّفَ المقالَ ماذا قالَ، فقالوا: ما الذي قالَ، ألهمَهُ اللهُ القِيلَ والقالَ، وقلّدَهُ النِّقالَ، وحمَّلَهُ السحابَ الثقال، وألبَسُهُ مِنَ المَنحَسَةِ إزاراً، وجعلَ عنفقتَهُ لقَلْبِ قلبِ أخي موسى مزاراً، فقلت: قالَ اقعدُ إلى جَنبِ هَذا العبدِ الفاجرِ، التيس الكلبِ الحيةِ المفاجرِ، فلصقوا به لصوقَ العَنونةِ باللِّصاقِ، وصافحوا بينَ يدِ وجههِ وأناملِ البُصاق، ثم التفتَ إليهِ مَنْ عَنْ يميني، ومَنْ في حَلْبةِ المُلَح يَليني، وقالَ لهُ: مِن أي الأمكنةِ الشَّيَيخُ، القَذِرُ الضُّحكَةُ الوُسَيْخُ، فقالَ لَهُ: أنا مِنْ بُقْعَةٍ تَرْقُصُ بِهَا غانياتُ نَتْفِ سِبالِكَ، على إيقاع كَفِّي وقَذَالِكَ، ويُحلقُ حِينَ تحجها شعر رأسِكَ، بحدِّ حسم موسى مَداسِكَ، فقالَ لَهُ الذي يليهِ: فما أنتَ عدَاكَ العِيُ، أيهَّا اللَّوذَرِعي، فقال طبيب يُضارعُ بقراطَ، ومن وطئ بقدم قُدرتهِ هذا البِساطَ، فمتى انحرف مِزاجُك، وتعذَّرَ عِلاجُك، أسقِكَ ما يمنع سلاسةَ مسعاكً، ويقطعُ جداولَ مِعَاكَ، فلا حرسَكَ ربّكَ ولا رعاكَ

فقال له الذي يليهِ: ما تقولُ وقيتَ مَصارعَ الحِذَاءِ، في الرياضةِ بعَيْدَ الغذاءِ، فقال: تُخرج طعامك غير نضيج، وتُوقعُ رقابَ مرابِضكَ في صَفْع منَ السُّددِ مَريج، وتفتقِر في قهر هذهِ الأعلالِ، إلى شُرْبِ شَرابِ أصولِ النِّعالِ، ثم أنَّهُ عَطَفَ إليهِمْ وقالَ: تاللهِ إنكم لكمن عرَّضَ قفَاهُ لنَعْلهِ الخَصيفِ، وسألَ الفاجرةَ إلقاءَ النّصيفِ، واستبزلَ قَذَرَ كَنيفه الرصيف أيامَ شَبَا شِدَّة المَصيفِ، فأفٍّ لكم من أسافلةٍ، وشُموس في عينِ حَمْأةِ الحماقة آفلة، قال القاسمُ بنُ جريالٍ فعجبوا لِعَوَج مَطاه، وعدم عِوَج ما تعاطاه، وأحبوا كَشْفِ لِثامهِ فامتنعَ، ورَضِيَ بمقَةِ مُقاطعتهِم واقتنعَ، فكشفتُهُ حِرصاً على عِرفَتهِ، بعدَ اختبارِ خُرافتهِ، فألفيتُهُ عندَ كَشْفهِ، ونَهْلِ شَمول شُهدهِ ورشْفهِ، أبا نصر المصريَّ ذا الفنونِ الفائقةِ، والشُّجون الشائقةِ، فقلتُ له: إلامَ تَجْنَعُ للّهُي، وتهزأ بذوي النهي، وتسخر بالبدور والسهى، وتَجْمَعُ بينَ مَجْدَل المجادلة والرهى، ثم إنِّي أثنيتُ على شيءٍ من صفاتهِ، وأخذت في وصفِ صحُف مُنصفاتِهِ، فقالَ لي: يا بنَ جريالٍ خَلِّني من مَلَقك، وانهضْ لاكتسابِ سَبقكُ، فنهضَ كل لأمرهِ، وجَمَعَ بينَ نابِ المطاوعةِ وَعمرهِ، ولمَّا امتطينا السوابقَ، لنسبرَ الفِسكلَ والسابقَ، جَلَّى صاحبُ مُلمْلَم مَحبوكٍ، كعمودِ إنابٍ مَسبوك، خالِصٍ قَرونٍ وقرونٍ، وخُصَل كالخَصْلِ غير قرونٍ، يُضارعُ الزّعزعَ في اعتراضِها، والثواقبَ في اَنقضاضِها، صُلْبِ الحوافر، سليل زاد المُسافر لا يعبأ بوُحولهِ ولا يكترثُ بعُورِ النَّصَبِ وحُولهِ، يُطيعُ فارسَهُ، ويَعصِي فوارسَهُ، يجوعُ لشبَعهِ النَّسيبُ ويَحكِي قِصَرَ غُرمولهِ العسيبُ، فاَستحسنَ القومُ حُسْنَ هِمَّتهِ وهامتهِ، وشَرعوا في رفع شُرُع شُكْرِ شَهامتهِ، واقترحوا بأن يَصِفَهُ كل بقصيدةٍ، وارفةِ الفصاحة مجيدةٍ، قالَ: فأجابتِ القرائحُ، وتبيَّن المُكدي والمائحُ، وبرزت المفاتحُ، وتُحَقِّقَ المُجبل والماتحُ، فكنت مِمَّنْ أجبلتْ قَحَتُهُ، وأكدتْ قريحتُهُ ونضَب عُبابهُ، وانقصبَ لبابهُ، فلمّا رأى أبو نصر حلوك عاهتي، وحفولَ آهتي، قال لي: يا بن جريال لِمَ تعجَلُ لدَىَ حُمْسكَ بعض خَمسك، وتخجلُ لكُسوفِ شمسِك، وقد جُرِّبَتْ. منك الشجاعةُ بأمسِكَ، فإن شِئْتَ سقيتكُ مِن قلالي، إلى وقتِ إقلالي، وأقرضتُكَ من حبالي إلى حين إحبالي، فقلتُ لَهُ: أعلى اللهُ حشاكَ، ذاك إلى مرؤتكَ وحاشاكَ، وإنِّي لمفتقرٌ إلى فِقركَ السنيَاتِ، افتقارَ الكناياتِ إلى النيّاتِ، فقالَ: سأجمع بين لباءِ لُبانتكَ والمجيع، وأسجعُ لكَ قصيدةً تخنسُ لها أسودُ الأساجيع، أذكر لك فيها من ملاحةِ مِدَح تَصطفيها ومن طمّني بهذَا المُطير، عشرينَ اسماً من الطير،، يشهدُ بفضلِها البليغُ العادل، وتُطرِّبُ بطيبِ إفصاحِها العنادلُ، فلّما سمعت ما نطق بهِ، ومنطقَ بذهبهِ، قلتَ لهُ: الحمدُ للهِ الذي نَصرني، بعدما حصرني، ورحمني حين أفحمَني، فجدْني بإنجاز وعْدِكَ وأنجِدني بصواعقِ رعْدِكَ، فأومأ إيماءَ البَيسريّ، ذي الشرفِ القعسَرِيِّ واهتزّ لذلكَ الجوهريّ، اهتزازَ السمهريِّ، وقالَ: الكامل: له الذي يليهِ: ما تقولُ وقيتَ مَصارعَ الحِذَاءِ، في الرياضةِ بعَيْدَ الغذاءِ، فقال: تُخرج طعامك غير نضيج، وتُوقعُ رقابَ مرابِضكَ في صَفْع منَ السُّددِ مَريج، وتفتقِر في قهر هذهِ الأعلالِ، إلى شُرْبِ شَرابِ أصولِ النِّعالِ، ثم أنَّهُ عَطَفَ إليهِمْ وقالَ: تاللهِ إنكم لكمن عرَّضَ قفَاهُ لنَعْلهِ الخَصيفِ، وسألَ الفاجرةَ إلقاءَ النّصيفِ، واستبزلَ قَذَرَ كَنيفه الرصيف أيامَ شَبَا شِدَّة المَصيفِ، فأفٍّ لكم من أسافلةٍ، وشُموس في عينِ حَمْأةِ الحماقة آفلة، قال القاسمُ بنُ جريالٍ فعجبوا لِعَوَج مَطاه، وعدم عِوَج ما تعاطاه، وأحبوا كَشْفِ لِثامهِ فامتنعَ، ورَضِيَ بمقَةِ مُقاطعتهِم واقتنعَ، فكشفتُهُ حِرصاً على عِرفَتهِ، بعدَ اختبارِ خُرافتهِ، فألفيتُهُ عندَ كَشْفهِ، ونَهْلِ شَمول شُهدهِ ورشْفهِ، أبا نصر المصريَّ ذا الفنونِ الفائقةِ، والشُّجون الشائقةِ، فقلتُ له: إلامَ تَجْنَعُ للّهُي، وتهزأ بذوي النهي، وتسخر بالبدور والسهى، وتَجْمَعُ بينَ مَجْدَل المجادلة والرهى، ثم إنِّي أثنيتُ على شيءٍ من صفاتهِ، وأخذت في وصفِ صحُف مُنصفاتِهِ، فقالَ لي: يا بنَ جريالٍ خَلِّني من مَلَقك، وانهضْ لاكتسابِ سَبقكُ، فنهضَ كل لأمرهِ، وجَمَعَ بينَ نابِ المطاوعةِ وَعمرهِ، ولمَّا امتطينا السوابقَ، لنسبرَ الفِسكلَ والسابقَ، جَلَّى صاحبُ مُلمْلَم مَحبوكٍ، كعمودِ إنابٍ مَسبوك، خالِصٍ قَرونٍ وقرونٍ، وخُصَل كالخَصْلِ غير قرونٍ، يُضارعُ الزّعزعَ في اعتراضِها، والثواقبَ في اَنقضاضِها، صُلْبِ الحوافر، سليل زاد المُسافر لا يعبأ بوُحولهِ ولا يكترثُ بعُورِ النَّصَبِ وحُولهِ، يُطيعُ فارسَهُ، ويَعصِي فوارسَهُ، يجوعُ لشبَعهِ النَّسيبُ ويَحكِي قِصَرَ غُرمولهِ العسيبُ، فاَستحسنَ القومُ حُسْنَ هِمَّتهِ وهامتهِ، وشَرعوا في رفع شُرُع شُكْرِ شَهامتهِ، واقترحوا بأن يَصِفَهُ كل بقصيدةٍ، وارفةِ الفصاحة مجيدةٍ، قالَ: فأجابتِ القرائحُ، وتبيَّن المُكدي والمائحُ، وبرزت المفاتحُ، وتُحَقِّقَ المُجبل والماتحُ، فكنت مِمَّنْ أجبلتْ قَحَتُهُ، وأكدتْ قريحتُهُ ونضَب عُبابهُ، وانقصبَ لبابهُ، فلمّا رأى أبو نصر حلوك عاهتي، وحفولَ آهتي، قال لي: يا بن جريال لِمَ تعجَلُ لدَىَ حُمْسكَ بعض خَمسك، وتخجلُ لكُسوفِ شمسِك، وقد جُرِّبَتْ. منك الشجاعةُ بأمسِكَ، فإن شِئْتَ سقيتكُ مِن قلالي، إلى وقتِ إقلالي، وأقرضتُكَ من حبالي إلى حين إحبالي، فقلتُ لَهُ: أعلى اللهُ حشاكَ، ذاك إلى مرؤتكَ وحاشاكَ، وإنِّي لمفتقرٌ إلى فِقركَ السنيَاتِ، افتقارَ الكناياتِ إلى النيّاتِ، فقالَ: سأجمع بين لباءِ لُبانتكَ والمجيع، وأسجعُ لكَ قصيدةً تخنسُ لها أسودُ الأساجيع، أذكر لك فيها من ملاحةِ مِدَح تَصطفيها ومن طمّني بهذَا المُطير، عشرينَ اسماً من الطير،، يشهدُ بفضلِها البليغُ العادل، وتُطرِّبُ بطيبِ إفصاحِها العنادلُ، فلّما سمعت ما نطق بهِ، ومنطقَ بذهبهِ، قلتَ لهُ: الحمدُ للهِ الذي نَصرني، بعدما حصرني، ورحمني حين أفحمَني، فجدْني بإنجاز وعْدِكَ وأنجِدني بصواعقِ رعْدِكَ، فأومأ إيماءَ البَيسريّ، ذي الشرفِ القعسَرِيِّ واهتزّ لذلكَ الجوهريّ، اهتزازَ السمهريِّ، وقالَ: الكامل:

ومطهم عال شديدِ نَعامةٍ ... ضَاهى النعامةَ في العَراءِ تقدُّما
حسنَتُ سُماناه وأحكمِ دِيكهُ ... في هامةٍ تحكى السنامَ تسنما
وسَمَتْ سَمامتهُ وسُوِّدَ نَسْرُه ... بسواد لَوْنِ سَرارهِ وتطهَّمَا
وجَفَتْ دَجاجتهُ وحيَّر صَقرُهُ ... بعد الصُّفوفِ مُكافحاً ومسوَّما
وأضاءَ صلصلهُ وكُمّلَ فرخُهُ ... وحَلاَ المديحُ لحُسنهِ فتَعظمّا
وحكَى اللُجينَ برأسهِ عُصفورُهُ ... لمّا سَما عندَ السباقِ وتمما
وتلألأ الخَرَبُ المجاوزُ حَجْبَهُ ... لمّا استدارَ لدىَ الغُرابِ وتمِّما
واحلولكَ الحرُّ الحَميدُ وحملَقَتْ ... لقطاتهِ أهلُ الزمانِ تفخُّما
وتخطّفَ الخُطّافُ أبصار الوَرَى ... بوَميض بارقِ حُسنهِ لما طما
وصفا مِنَ الصرَد المتين نفاسةً ... وعلا بحدأته التليلُ وأفْعِما
وامتازَ منه الناهضانِ ضخَامةً ... والقر تحكى في القُنُوءَ العَنْدَما
لو ظلَّ أعوجُ في المضيِّ يَرومُهُ ... لكبَا بمَهْمه هَمِّهِ لما هَمى
قال الراوي: فحينَ تحيَّرتِ الجماعة بحذاقته، وحمِدَت طيب لذاذةِ مَذاقَتهِ، قبَلت قرا قدميهِ، وأقبلتُ بتُحَفِ اعتذارِهم إليهِ، وجعَلُوا يثنونَ على فَصاحتِهِ، وَينثنون إلى استحضار نُضارِ راحتهِ، فقلت لهم: تاللهِ ما خصَّكُم بصُبابةٍ منِ فُنونهِ، ولا بَعشر عُشْرِ العُشْرِ من مَكنونهِ، فحذارِ مِنْ أنْ تستخفّوا بانخفاض نجاده، وسَحْقِ نِجاده وبجادهِ، وهُزالِ جَوادهِ، وطُولِ جودِهِ، وجواده، فإنَه صبورٌ على مجاعتهِ، مشكورٌ على شَجاعتهِ، ولو اَمتطى طِرْفاً يَرتضيهِ، ويَميل إلى مراضيه، لرأيتم العجب، والجحفل اللّجِب، ولعلمتم أنَّ اللهَ قد منحَهُ مع هذهِ المِنة بجَودةِ التُّلنّةِ، ومكافحةِ ملاعبِ الأسنة، فلما وعَى صاحبُ الفرس ما ذكرتُهُ، وسعَى في مَدارج ما تذكّرتهُ، قالَ: إنِّي لأحبُّ أنْ ابصِرَ ركوبهُ، وأشاهدَ كأسَ ركضهِ وكُوبَه، أفتأذَنُ لي بأن أسلِّمَهُ إليهِ، قلتُ لهُ: إنَّ وعَن سلَّمْت الغزالةُ عليهِ، فناولُهُ عِنانَهُ، وأباحَ له امتحانَهُ، فلّما استوى بثَجَج قَطاتهِ، وتذكّرتُ قبائحَ وَرَطاتهِ، وندمْتُ على ما فرّطتُ، ولبِستُ سربالَ السَّدَم إذ تورّطْتُ، ثم إنَّ أبا نصر قَبَضَ لِدانَهُ، واَستقبلَ مَيدانَهُ، وجعلَ يعرِضُ علينا اَنثيالَ سُرحوبهِ، وينشرُ لدينا حُلَلَ حُروبهِ، ويُظهِرُ ضوءَ ظهيرةِ اَرتكاضهِ، وطُلاوة طِوال ضَرَبِ ضُروبهِ وعِراضهِ، إلى أن اقتنصَ قلوبَ الحاضرينَ، وملأ للملأ إشرارةَ جريهِ والجرين، وبينما هو يتفنّنُ في استنانهِ وَيَتَبخْتَر بمحاسنِ سِنانهِ، وَيتقلّبُ على سراتهِ ساحباً سرابيلَ مسرَّاته، إذ صرخَ صرخةَ المُماصِع، فخرجَ بهِ كالبرقِ القاصع، فلم نر سوى عَجاجه، بين خروقِ فجَاجِهِ، فلما رأى إباقهُ، واصطباحَهُ في الحِيلِ واغتباقَهُ، بادرَ إلى شَقِّ مُلاءتهِ، أسفاً على شَرخ شبابِ حُضره وعُلالتهِ، ثُمَّ لم يَمْضِ قَدْرُ قَطع كراع، أو خَلع يَلْمَق قِراع، حتى أقبلَ علينا رجلٌ، أشيبُ، يضع بهُ مُهر أشهب، متأبط عُكّازَةً، فدفعَ إلينا جُزازةً، وقالَ لنا: إنّ رجلاً من البادية، عَلى فرَس وافرِ الهادية، كالنخلةِ المتهاديةِ، مرَّ بي عجلانَ، مترنحاً من المَرَح جذلانَ، فأعطانيها، وقال لي: إذا مررْتَ بأولئكَ القعودِ، مؤسسي أُسَّ السيادةِ والعُقود، فانبذِ الورقة إليهم، وأحسِنِ التحيةَ عليهم، بعد أن تُقبِّلَ لديهم السّلامَ، وتقول لهم: صاحب القاسم يُقْرِيكُمُ السَّلامَ، قال القاسم بن جريال: ففضضناها بعدَ أن فضّضناها، وقبلناها قبيلَ أن قلبناها، رجاء أن يكونَ قدِ اَنخرط في نِصاح مزاحهِ مَعْ تقاصرِ أمَدِ انتزاحهِ، إذ كُلٌّ بصارم مَكْرهِ مشطورٌ، فإذا فيها مسطور: الكامل:
بسروج أسرجتُ الصباحَ سوابحا ... من حيلتي قد تخرِقَْ الأفهاما
عاشرتُهم عندَ الغَداةِ وقد غَدَتْ ... تعدو بأدهَمَ لا يَرى الإحْجاما

سام سما السِّرحانَ أيطلُ بَطنهِ ... وحكَى السحابَ مع المَدى إقداما
حتًّى إذا انبسطوا وجالَ حديثُهم ... في صهوةِ المَزْح المُباح وحاما
قنصَتهُ كفّ الحادثاتِ بكفّتي ... لّما تسامىَ في السِّباقِ وعاما
فأمنحهُم منّى السَّلام وقُلْ لَهُمْ ... مِلْتُم فَنِلْتُم بالكلام كِلاما
فاستنجدوا بأبي زُيَيدٍ إنّهُ ... مِمَّن يراني للحِمام حِماما
قال: فلّما بهَرنا بتسجيلهِ، وأمطرنا حجارةَ سجّيلهِ، حَمَلني رَب الفَرَس إلى الوالي، في قاربِ مَدِّ دمعه المتوالي، وكنتُ لا أملِكُ مِنَ النُّضار، سوى خُمْسَي ألفٍ مع الإنظارِ، فأحلتهُ بها على الغَريم، وانسلخَتُ منها انسلاخَ صَريم الصّريم، بعد أن أعريتُ البنين، ورهنْتُ الظاهر والجنينَ، وادّرعتُ العِلَلُ والأنينَ، وضارعتُ يوسف في السجنِ، بضعَ سنينَ.
المقامةُ السادسةُ والثلاثون السَّمنانيَّة الطبيّةُ
روى القاسمُ بنُ جريال، قالَ: ألبَّ بي إبّانَ بُدُوِّ الهياج، وسَعَةِ سَلامةِ المِنهاج، واحتمال الزِّجاج، وشَمِّ أفواهِ الزَّجاج، خيولُ وَخَم لا يخيمُ، يشيب لشربِ شَرابه الرَّشأ الرَّخيمُ، مشفوعاً بجيوش دَنف فادح، وزِناد كَمَدٍ في كَبد المكابدةِ قادح، فلمّا أرسيتُ للسَّقَم الوَبيلِ، ونسيتُ فَوح نسيم السلسبَيلِ، وجمعتُ في بُوس الجَسَدِ المريض، بين ضُرِّ المَرَض ومرارةِ التمريض جعلتُ أنظرُ في شِدَّةِ السدرِ، وأفكرُ في كَرِّ كتائب الكَدر، وأمخض وطَابَ الفِكَر، لإماطةِ سُكْر ذلك السكَرِ، عَسى أن تظفرَ يمينُ ميمنتي، بمن يُعيدُ عِيدَ مُنّتي، أو يُبيِّضُ صحائفَ تَعِلتي، حالَ حلول عرام عِلَّتي، بعد أنْ أقمتُ قريحتي مَقامَ سمسارِها، وأربابَ الجِدَةِ مكانَ تِجّارها، وطفِقتُ أطوفُ بطَرفَي المكلوم، وأعرضُ عليهم أمتعةَ العلوم، فألفيتُ إقبالَهُم كالخُشُبِ المسندةِ، وإدبارهم كالصوارم المهندة، يفضِّلون على الفِصاح الفَصيحَ، ولا يؤثرونَ على الصِّحاح، الصَّحيح فحينَ شارفتُ مشاهدةَ الحَنوط، وجدعت رجائي بحدِّ قاضبِ القُنوطِ أخذت في إصلاح ما بي، وقَطْع نِصاح طولِ اضطرابي، فإنصرم كالظلام من صباحه، والسليط من مصباحه، فحمدتُ اللهَ تعالى على ما غاضَ لديَّ، وأفاضَ من حياض التلطفِ عليَّ، ثم إنِّي شرعتُ بعدَ معاودةِ القسام، ومفارقة فِرَق فَرَف قَسام السَّقام، في تثريب قرونتي، على ما فرّطتُ أيام مُنة مؤونتي، وعظَم ماعونِ معونتي، في جَنبِ حِفْظِ صحةِ الإنسان، وحيلةِ البُرءَ وتقويم الأَبدانِ، لعلمي أنَّ علمَها شريفٌ، والاكتسابَ بها وريفٌ وريف، ولظنِّي أنَّ مَنْ فسدتْ مَعِدَتُه، لا تنفعُه عُمدتُه، ومن استحكمت ذبحتُهُ، لا تصلِحهَ مُلْحَتُهُ، ومن تنصرت جراحُهُ لا يبرئها إيضاحهُ، ومن

نشبت نصوله، لا يُخرِجُها مَحصولُه، ومن تألمتْ أحشاؤهُ، لا يُنْعِشُه إنشاؤه، ومَنِ انكسرَ عظمه لا يجبرهُ نظمهُ، ومن ظهرَ بَثْرهُ، لا يسترُه نَثْرهُ، ومَنْ اضطرب عقلُهُ، لا يقنعهُ نقْلُهُ، ومن بَطَلَ جماعهُ، لا يعملُه إجماعه، ومَنْ تأكَّلَتْ أضراسُهُ، لا يسعدُهُ قياسُه، قالَ: فلمَّا استقامَ قوامُ الجسَدِ الناس، وبَرَزَ بحيرَ النَّظَر من صومعةِ الحواسِّ، وحُسِدْتُ لنتاج ولَدِ الرفاهة الرِّبعيّ، ومراجعةِ حلائل حلاوةِ النوم الطبيعي، بادرتُ لهذِه الخِيرَةِ، إلى استصحاب الذَّخيرةِ، واقتنعتُ بالإقناع، بعد كَشف القِناع، واخترتُ الجوامعَ والمختارَ، مَعْمن اصطفاهما واختارَ، عَلَّ أنْ أحظَى بطبيبٍ مُعالج، ولو بإنفاقِ عددِ رملِ عالج، لأجدِّدَ ما اخلولق من بَدني واختلَّ، وأبدِّدَ لتحصيلِه جُلَّ جُملِ ما اعظوظَم وقلَّ، فبينا أنا أطأ الهالكَ، وأقطعُ المهالك، وأحذو السالكَ، وأخترِقَ المسالكَ، ألفيتُ راكبَ شِملَّةٍ، يَمْرَحُ بينَ حُسام وألةٍ، فرجوتُ أنْ أرافقَهُ، وألتمِسَ مرافقَهُ، فمِلْتُ إليه، مسلِّماً عليهِ، وعرَّضْتُ له بموافقتي، وشكوتُ إليه ألمَ مفارقتي، فقالَ لي: كيفَ تَصْبِرُ على مرافقةِ الجانِّ، أم كيفَ تَقْدِرُ على مُواهقةِ الجَنوبِ ذي المِجانِّ، فعالِ عن نَسْج هذا الصَّفيقِ، وعليكَ بُمرافقةِ الرفيقِ الرفيق، قالَ: فلمّا تحَسّيت حازِرَ إنذارهِ، وتخشَّيتُ شدَّةَ شَرَرِ انتهارهِ، أخذتُ أتردَّدُ بينَ مُصاحبتِه والهُجوع، وأجمعُ خِلافاً لبقراطَ بين التعبِ والجوع، ولم أزلْ مع الحِسِّ الحريز والإشرافِ على تثلّم الإفريز، ألِجُ بالفِجاج، ولوجَ المُقَلِ في الحِجاج، إلى أن قتلتُ الحِرمانَ، وأهزلتُ السمانَ، وكففتُ الاستنان وحققْت بحَوذانَ المناسمةِ سَمنانَ، وحينَ بزلْتُ دَنَّ وُدِّها الدَّاني، ونزلتُ لقَطفِ ثَمَرِ لُطفها المتداني، أقبلتُ أرتقبُ حَلْقَةً ألِجُها، لا خَلِفَةً استنتجُها، وفائدةً أحصرُها، لا مائدةً أحضرُها، ولما خَلَعتُ خِلافةَ الخَوَرِ ونَبَذْتُ، واطّرحْتُ نَشْوةَ سكر السَّهر بعدما انتبذْتُ، جعلتُ أتجلَّل جوادَ مجالساتِها، أتحلل بطيبِ طيبِ مؤانساتها، وأبيتُ ببيتِ مبَرّاتها، وأدوفُ مسِكَ التَّمسّك بأمراس مسرَّاتها، وأنظر إلى رُواء رزانتها، وأسبُرُ سَبْقَ نَبْلِ نُبْلِها وزانتها، فألفيتُهم ممِّنْ ارتضعوا حبَبَ المحامدِ، وازدرعوا حَبَّاتِ المحبَّةِ في قلوبِ الأماجدِ، وعرضوا عُروضَ أعراضهم على المُشيرِ، وقبضوا بديوانِ مَشْرق الشرفِ مناشيرَ التَّباشير: البسيط:
قوم لهم سُورة في المَجْدِ جامعةٌ ... آياتِ فَخْرٍ مَدَى الأيام تُسْتَطَرُ
ما إنْ لهم أبداً في نَسْخِها أرَبٌ ... مر الدُّهور ولا في طَيِّها وَطَرُ

قال: فبينما أنا ذاتَ ليلةٍ بمجلس رَضيٍّ، مَعْ مُجالس مَرضيٍّ، ذي حَضْرةٍ حاضرة، ومُحاضرةٍ ناضرةٍ، إذا التفتَ إليَّ التفاتَ العاتبِ، ونظر نحوي نظرَ المعاتبِ، وقال لي: أراكَ غزيرَ التّقلْقُل عازماً على التنقُّلِ، كأنكَ سَبُعَةٌ مُشْبلةٌ، أو سحابةٌ مُسْبلةٌ، فاتّخذْني لسِرِّكَ خِزانةً، ولسِهام مَشورتِكَ كِنانةً، وأشركني فيما أصابك، لأدرأ أوصابكَ، وفيما هالَكَ، لأدفع أهوالكَ، فقلتُ لهُ: ليسَ بي ما يفتقرُ إلى تطول، أو يتوقَّف على إعانةِ متطوِّلٍ، ولا انطويتُ على ما يحتاجُ إلى كِتمانٍ، ويضطر إلى معاونةِ مِعْوانٍ، ولكنَّني أعرِّفُكَ ما لَهُ غَرَبْتُ، ولجرِّ جلابيبه تغرَّبْتُ، ثمَّ قلت له: اعلم أنَّني مِمَّنْ زَهِدَ في الغِيلِ، ورغبَ في الإرقالِ والتبغيل، وفارقَ النقادَ، وانقادَ للأدبِ مَعْ مَنْ انقادَ، وسايرَ الركائبَ، وبارز الكتائبَ، وجانبَ من غَمَطَ واعترَّ، وواصلَ مُنْ قَنعَ واعترَّ، حتى وُصِفت بنفاقٍ الأَلمعيَّةِ وإنفاقِ المَعمَعيّةِ، وعُرِفْتُ بينَ الرعيةِ، بهذِه اللوذعيَّةِ، وكنتُ معْ هذا الصّيتِ الصادحِ، والمثابرةِ على ثِنْي ثنايا المادح، كثيرَ المواكلِ، قليلَ التحفُظِ في المآكلِ، أبالغُ في مناهبةِ بيضةٍ، ولا أحذرُ من أذى حُمةِ هَيْضَةٍ، إلى أن صرتُ ذا جسدٍ مِمْراض، ممنو بنصال أمراض عِراض، يُعْجزُ جالينوسَ إخراجها، ويعسُرُ على اسقليبيوس إنضاجُها، أعِد فيها لمصائبِ الأوصاب، صنوفَ العصائبِ والعِصابِ فحينَ أحلولك يَقَقُ الِحيل وحالَ، واعجوجلَ وَجَلُ الَجللِ وجَالَ، جرَعْتُ ماءَ لسان حمل الجُمل فما رَدَعَ، وبلعت بنادق بزور البراعةِ فما نَقَعَ وسَرِطْتُ حَبَّ أيارج الأوارج فما اندفعَ، وسفِفْتُ سفوف سِرِّ الصناعةِ فما رجَعَ، وشربِتُ شرابَ فاكهةِ المفاكهةِ فما نَجَعَ، فعاهدتُ اللهَ أنَّهُ متى كفاني، وكفَّ بهذه الكِفَّةِ كُفوفَ أكفاني، أتركُ التغزُّلَ بدعدٍ وليلى، وأهجرُ لنَدمانِه منادمةَ أمِّ ليلى، فكمَّلَ إحسانَهُ، وقَصَّرَ أعنَّةَ السَّقَم وأرسانَهُ، وها أنا ساع إلى تحصيله وإيصالِ ضُحى محافظته بأصيلهِ، فقالَ لي: تالله لقد وردتَ إلى رُبى أربِكَ، وبردْتَ عينَ طلبِ مطلبِكَ، وفُزْتَ بنتاج ما أحبلت، وحُزْتَ حلاوة فَتح تاج الغَرَض وما أجبلْت، ولا ريب أنَّ بهذا البلدِ مَنْ يتيهُ على سُقراطهِ،ويستهلك قِنْطارُ بقُراطه، في غواربِ قيراطه، وأنا عندَهُ عينُ الوَجيهِ، وستظفرُ بما تؤمله وترتجيه، وفي غد تزورُهُ وتراهُ، وتصافحُ قدمُكَ ذُرى دَاره وذراهُ، فاقنَ لديهِ الانخضاعَ، واشكر ضَرْعَ مواظبتهِ والارتضاعَ، واعلَمْ بأن ذلكَ الإيضاعَ ما ضاع، قال الراوي: فشكرتُ وعدَهُ، وحمِدْتُ برقَ أنعامه ورعدَه، وبِت أترنَّحُ في حلل الاستماع، وأتمايَحُ من سُكْرَي سَكرنا والاجتماع، حتى كدت أطيرُ بقوادم العِقبانِ، إلى نَشْقِ نَشُوقِ فَيْض فضله واللَّبانِ، ولما نَشرَ ميتَ الانتشار، وانتشرَ جَناحُ الاستبشار، بادر مَعْ مَعْددتهِ، إلى إنجاز ريح أعجاز عِدتهِ، وذهبَ بي إلى عَطَنه، واقتادني بربقةِ لُطْفه وشَطَنِهِ، وحينَ أولجني وولَجَ، وحازَ حظِّي ذلك البلجَ وفَلَجَ، ألفيتُهُ المصريّ ذا العارفةِ، والفنونِ الوارفةِ، فقبّلتُ حَجَرَ مصاحبتهِ، وأقبلتُ على تقبيل راحتهِ، فلمَّا قمَّصني بصرَهُ، وبصُرَ بانصبابه مَنْ أبصرَهُ، بش كمن بُشِّرَ بأحبّائهِ، وتُقبّلتْ منائحُ حِبائه، وحِينَ جَلَتْ صِحابُه، وخَلَتْ رِحابه وأماطَ احتشامَهُ، وسَلَّ حُسامَ المُلَح وشامه، قالَ لي: يا بنَ جريال أَأنسيتَ مسابقة الأعْوَجيّةِ، بين ألالِكَ السَّروجيَّةِ، فقلتُ له: خلِّ ذكرَ ما أنقدَّ ولو قدَّ، ودَعْ حديثَ ما انهدَّ ولو هدَّ، وتسلَّ عمّا مضَى وقد نضا، وعد عمّا انقضى ولو قضى، فالكريمُ مَنْ عَفا ولو عفا، والحُلاحِلُ من طفا ولو انطَفا، ولما وقفَ على جليَّة مرادي، وعرَف طلوع أشعةِ أرآدي، قال لي: قسماً بمَنْ مَنَّ بالزلالِ الباردِ، ومَنَّ حَبْل الحَذَرِ عن فؤادِ الحَذِرِ الفاردِ، لقد استوكفتَ النُّغَبَ من حَبابها، والزُّبَدَ من عُبابها، وأتيت المعيشةَ من بابها، وحيثُ ترجو أن تعومَهُ ويذوقَ لسانُ إرادتِك طعومَهُ، فلأجعلنّكَ جالينوسَ الأوانِ، وأربياسيّوس دَست هذا الإوانِ، ليحسدَك كلُّ مَنْ يعيشُ، وينوشَكَ كلَّما

تعيشُ المعيشُ، قالَ القاسمُ بنُ جريالٍ، فحمِدْتُهُ حَمْدَ منِ اعترفَ لَهُ، وشكرَ شِنْشَنَتَهُ ونبلَهُ، ثم إنِّي أخذتُ في إبعادِ كؤوسي، وإتقان دروسي، وشُكر ذلك الطّابع، والسهرِ المتتابع، إلى أنْ ضارعتُه بذلك النشب، مضارعةَ هاءِ التأنيثِ ياءَ النسبِ، وحينَ تكوثر مُجاجي، وتجوهر زُجاجي، قال لي: جَلَّ مَنْ جعلَكَ في نظام المحافظةِ نظيماً، وألبسَكَ مهابةً وتعظيماً، وعلَّمَكَ ما لم تكنْ تعلم وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ عظيماً، فعندما طمَّني ذلك المزيدُ، ودعاني يزيد يوم بالزّبدِ يزيد، ترفقْتُ بعَودي فشحَّ، بعد أنْ شَجَّ جبين تصبُّرهَ فسحَّ، ثم إني سألته فاستجابَ، وجذَّذَ جِلبابَ مخالفتِه والحِجابَ، ولمّا قضى أرب جلْدَةِ الحركةِ إذ أحِكَّت، وفَصَل فِصالَ مواصلته بعدما امتكَّتْ، وحَسَمَ حبالَ محالفته من حيثُ ركَّتْ، نهضتُ إلى أشطانِ الإقامة فجذذتُها وبسطتُ له أناملَ المسألةِ ومددتُها، وسألتُه بأن يزوِّدَني، بوصيةٍ يتبلّجُ لها سراطي، ويعِف عند أرْي سأبِ اكتسابها استراطي، فلما سَمِعَ، ذلكَ المقالَ، اقتربَ منِّي وقالَ: الطويل:تعيشُ المعيشُ، قالَ القاسمُ بنُ جريالٍ، فحمِدْتُهُ حَمْدَ منِ اعترفَ لَهُ، وشكرَ شِنْشَنَتَهُ ونبلَهُ، ثم إنِّي أخذتُ في إبعادِ كؤوسي، وإتقان دروسي، وشُكر ذلك الطّابع، والسهرِ المتتابع، إلى أنْ ضارعتُه بذلك النشب، مضارعةَ هاءِ التأنيثِ ياءَ النسبِ، وحينَ تكوثر مُجاجي، وتجوهر زُجاجي، قال لي: جَلَّ مَنْ جعلَكَ في نظام المحافظةِ نظيماً، وألبسَكَ مهابةً وتعظيماً، وعلَّمَكَ ما لم تكنْ تعلم وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ عظيماً، فعندما طمَّني ذلك المزيدُ، ودعاني يزيد يوم بالزّبدِ يزيد، ترفقْتُ بعَودي فشحَّ، بعد أنْ شَجَّ جبين تصبُّرهَ فسحَّ، ثم إني سألته فاستجابَ، وجذَّذَ جِلبابَ مخالفتِه والحِجابَ، ولمّا قضى أرب جلْدَةِ الحركةِ إذ أحِكَّت، وفَصَل فِصالَ مواصلته بعدما امتكَّتْ، وحَسَمَ حبالَ محالفته من حيثُ ركَّتْ، نهضتُ إلى أشطانِ الإقامة فجذذتُها وبسطتُ له أناملَ المسألةِ ومددتُها، وسألتُه بأن يزوِّدَني، بوصيةٍ يتبلّجُ لها سراطي، ويعِف عند أرْي سأبِ اكتسابها استراطي، فلما سَمِعَ، ذلكَ المقالَ، اقتربَ منِّي وقالَ: الطويل:
عليك رعاكَ اللهُ بالدينِ والتقى ... فليسَ أخو أمِنِ كمن باتَ يتقى
ولا تفضح المرضَى وقد بِتَّ خازِناً ... لأسرارِها والطبُّ بالفَضْح ما ارتقى
ولا ترفع الإلحاظَ في دار مَنْ لَهُ ... إلى طِبِّك المختار مَيْلٌ فتتّقى
ولا ترُج في الدنيا على الطبِ نائلاً ... وكُنْ واثقاً فالرزقُ آتٍ مَدَى البقا
ولا تمنع المسكينَ ظُلماً وتنثني ... إلىِّ كل جَبَّارِ جَنى المجد طَلَّقا
وكن في شديدِ البأس للناس رحمةً ... أعفَّ نطاسيٍّ يرى الفسْقَ موبقا
ولا تُعطِ في الداءٍ الدواء ولم تكنْ ... بإحكامه حَبْراً حكيماً محققا
فهذا الذي وصَّيتُ أوصي بمثلهِ ... أبقراطُ إذ أضحى لذا الشأوِ مَشْرِقا
قال: فلمّا وعيتُ من وصيتِه ما وعيتُ، وأوعيتُ من دُرَرِ درايته ما أوعيتُ، بكيتُ لفراقِهِ ما بكيتُ، وحكيتُ من حِكمََ محكماتِه ما حكيتُ.
المقامةُ السابعةُ والثلاثونَ البُزاعيّة

حكَى القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: أيقنتُ غِبَّ غلَب الجهالةِ، والنزولِ بمهمهِ هذهِ الهالةِ، ومناجاةِ النحولِ، ومفاجأةِ النُّوبِ الحُولِ، ومشاركةِ الشقاشق، ومشابكة الأشَر الراشقَ، أنَّ ثمارَ الشَّرَف أشرفُ ثمار والتقاط الطُرَف أطرَفُ نثارٍ، واستماعَ الجَهَلِ أفضحُ عُوارِ، وادِّراع الكسَلِ أقبحُ شِعارٍ وعارٍ، فجعلتُ أهيمُ هَيَمانَ المُراهقِ، وأعومُ عوْمَ المُواهق، وأسهب في اعتلاءِ الشاهق وأطنِب في اجتلاءِ النّخب الشواهقِ، فبيَنا أنا أجوب جَوْبَ الوَقور، وأمور خوْفَ العَقورِ، بأخامص التَّيقور، ألفيتُ وأنا على أضالع النَّاب، بَيْنَ مزَارع بزاعة والباب، ركباً يَضع وضعَ الجنائبِ، بَأزمّةِ النجائبِ، ويَخضع لوطئِه صُم الصَّخْرِ الراسب، بينَ السَّباسب، فسلّمتُ عليهم سَلاَم مَنْ ظَفِرَ بنَدىً، أو وجدَ على نارِ طُورِ مطْلَبَهِ هُدىً، فحينَ بصرُوا بأثقالي، وشكرُوا مواقعَ أرقالي، قالوا لي: حييت يا أخا الفَدافَدِ، والسَّيْر المُخافِدِ، فَمِنْ أيِّ المَشارقِ طُلوعُكَ، وبأيِّ المَغاربِ تحطُّ قُلوعُكَ، وما الذَي تَتَوخى بجَذْبِ سِفاركَ، مَعْ مُلازمةِ أسفارِك، فقلتُ لَهُم: أمّا مَسْقِطُ لِبدتي فبابُ جيْرونَ بلدتي، وأما مالَ إسراعي، واعتقالُ رماح المَرَح وإشراعِي، فإلى بَلْدَةٍ أضعُ بها بَلْدَة هَذهِ الرَّكوبةِ، وأرضعُ كؤوسَ أكوابِ التفقة المَسْكوبةِ، وها أنا ما بَيْنَ سَيْرِ وسُهاد، ووَطءِ هَوادٍ ووهادٍ، عًلّ أنْ يظفِرَ إسآدَي، بمَنْ يظفِّرُني بُمرادي، أو يُثِمِرُ رُقادِي، لأعْطِف عِطْفَ التّعَطّفِ على نِقادِي، فقالوا: يا لهذَا العُجاب، وضَيْعَةِ ضَيْعَةِ هذا الجوابِ، أتشكو وَيْكَ شِدَّةِ الصَّدَى، ومُمارسة الرَدى، وأنتَ بالقُرْبِ من ذَوي الشّراةِ، والبَحْر الفُراتِ، ثُمَّ

أومأ إلى بَلْدةٍ كثيرةِ الاشتغالِ، قليلةِ المِغَال، ضَيّقَةِ الوَجَارِ، جَزيلةِ الأحجارِ، وقالوا لي: يا هذا إنْ كنتَ صادقاً في مقالكَ، واثقاً من مُدَاومةِ إرقالكَ، فعليكَ بالوقوفِ عليها، وليَ ليتِ هامةِ اهتمامك إليها، لتعودَ سِباخُ فهْمِك مزروعة، وسرر أسرة سُروركَ مرفوعة، فإنْ أنتَ سَبَرْتَ أرْىَ هذهِ الخَلّيةِ المُشتارةِ، وتدبَّرتَ صُحُفَ صحة هذهِ الإشارةِ، حَمِدْتَ عاقبةَ إسراعِك، وفارقْتَ ضُروبَ مَضَضِ إيضاعِك، قالَ: فلما سعَيْتُ لمَقالِهم، وأثنيتُ على صفاءِ قالِهم، ونَظَرْتُ في مرآةِ التدبيرْ، ورشفْتُ شِهادَ إرشادهم بالكأس الكبيرِ، امتطيتُ الثّلوثَ وأرخيتُ الزِّمامُ المُثلوثَ، ثم مِلْتُ إلى التّرحالِ، ومواصلةِ الارتحالِ، ميلَ الكليتين إلى الطِّحالِ، ولم أزلْ ما بينَ شِقِّ تبغيل، وشَقّ غِيْلِ بعدَ غِيْلِ، وخَوْض بِرْغيل أمام بِرْغيلِ، أذيبُ بنَارِ السَّموم سنامَها، وأتركُ الرِّقْدة لمَنْ نامها، إلى أنْ أتيْتُ بدَّايةَ، وأضويتُ الجِنجَنَ والدايةَ، فواللهِ ما نَضبَ اضطرابُ الأرجاب، ولا خَضَبَ ذوائبَ الغَزالةِ حنَّاءُ الحجَابِ، أو وَلَجْتُها ولوجَ من ضَمَّرَ الآطالَ، وقصَّرَ سِرْبالَ بُوسهِ بَعْدَ ما طالَ، وبَيْنا أنا أتخيّرُ مبيتي، وأعْطِفُ لتحصيل عَلَفِ العيْرانةِ ليتي، ألفيتُ الهِزَبْرَ الِهبرزي، أبا نصر المِصريَّ، فحَيَّاني تحيةَ المُلتاح، وألقَى إليَّ ساعدَ مفتاح حَرَمهِ المُمتاح، ثمَّ قالَ لي: إلامَ تعيشُ عَيْش الأجُراءِ، وترغبُ عن مناظرةِ النُّظراء ويُصافحُ عُنُقُكَ نِجادَكَ وعَنقك أنجادكَ فقلتُ لَهُ: إلى أنْ يَنْصُلَ هذا الخِضابُ، ويجتمِعَ النّينانُ والضِّبابُ، فانثنى بي إلى مثَواهُ، وثَنَى جيدَ جَدِّ الجَدَد هيلمةُ هَواهُ، ثم قالَ لي: قَدْ رفَضْتُ لِكلالكَ السَّمرَ، وإنْ غَلَبُ السَّهرُ وقَمرَ، لعلمي أن لَيْثَ نَوْمكَ قدْ هَمَرَ، وغَيْثَ تَهْويمك قد انهمر، فَنَمْ آمِناً مِنْ نَفاقِ نفقتكَ، ونُفوق ناقتك، فأنَّهما في أماني، وبَيْنَ ظَهرانَي أعُبدي وغلماني، قال فأسلتُ لسِلمه سَليلَي وأملْتُ خَوْفَ سَلمهِ تَليلي، ثم إنّهُ أمرَ بإحضارِ زادِه، واقتداح زِنادهِ، وشىِّ شَائهِ، وإلحاق دَلْو جُودهِ برشائه، ولمّا نَزَعْنا النِّزاعَ، وحَلَّت سيولُ سلمِنا الأجزاعَ، أحلَّني من ظلًّه المَمدودِ، ورطْبِ مفاكهتهِ المَحْشُوِّ بالدُّودِ، فيما ألهاني برصْفه النّاصع، عن طِيْب أوتار المَناصع، ثُمَّ قالَ لي إنّي لأكرَهُ هَمْهَمْةَ اهتمامك وأعجب لملازمة زمم زمامك، وأنا راج بأن يزول رهبك، ويبوخ لهبك، فإلى أين مذهبك، وبأي المذاهب ذهب ذهبك، فقلت له: أما ذهاب ذهبي، ففي توقد لهبي، وأما غاية مذهبي فإلى حيثُ أتقن مذهبي، فقالَ لي: تالله لقد استريت ثروة ثوابك، وامتطيت صهوة صوابك، وجَريْتَ إلى الغاية وما ونيت، وحويت أعنّة المعاني وما وَهَيْتَ، وحفرتَ بئارَ الغرض وما أكديتَ، وأصبْتَ إذ نصبت هذهِ الكِفةَ فاكتفيْتَ، لتفخر بفنونِكَ الحِسَانِ، وتجمعَ بينَ القَبَاءِ والطيلسانِ، ومّعَ هذا الرأي الرزينِ، ووجْهِ هذهِ الوجهة الحَسَنِ التَّزيين، فمِنْ أينَ تروُم تحصيلهُ، وتَّضُمّ إلى حَبِّ هذي المحبةِ قصيلَهُ، وتَزُمّ إلى حِقِّ هذه الحركة فصيلَهُ، فذكرتُ لَهُ البلدةَ التي نَصَّ الركب عليها، وأشار بالتوجُّهِ إلى إليها، فالتفتَ إلي التفاتَ منْ رمُي ببُهتان، أو كُلّفَ كفَّ كَفّ تَّهْتان، ثم فَحَّ فَحيحَ العرْبَدِّ، وزمَجَرَ زَمْجَرةَ السِّلغَدِّ، وقال لي: قَسَماَّ بمَنْ دَبَّرَ أحكامَ الفُرقانِ، وقَدَّرَ التحامَ الأذقان، لقد كنتُ أراكَ ذا عقلٍ وارف، وفَضْل مُتضاعف، وحَزْم مستثير وفهمٍ كثيرٍ بثير، أو ما بلَغَك أنَّ بها منْ يَميلُ عن الأتَيّ، ويتعظَّم تعظّمُ الملك الأبيّ، ويتبجَّحُ بحَطِّ حقوقِ الجَحاجح، ويهرأ لقَنْص نَقْصهِ بالفصيح الراجح، ويتثَبّتُ لنَحْتِ الأصولِ العَليّةِ، تشبُّثَ أقْطيقُوسَ بالأعضاءِ الأصليّةِ، ومتى حلَلْت بَحَوْمةِ هذا الانهمارِ، ألفيتُهم مَعْ خِبْثَةِ خَاثر دِخْلتِهم والسِّمارِ، سَواسية كأسنانِ الحمارِ ما بهرَبهم ذو براعةٍ، ولاَ اَشتهر لهم أخو شَجاعةٍ، ولا طفح لهم مسيلُ وادٍ، ولا عَرِقَ لَهُم في جهادٍ، مُذ مَرَّ أذُن جوادٍ، وسَلْ يَوْمَ بها نُنيخُ

تَنْطِقْ بصحة ما قُلتهُ التواريخُ، فارجعْ فأنا بهم عَيْنُ الخَبيرِ، وحَذارِ من نزولِ هذهِ البِيْرِ، وتَمْر اقترنَ بإبر هذي الزَّنابيرِ، ثم إنهُ سَفّهَ ذلكَ المَقال، وأشارَ بأناملهِ وقال: الطويل:طِقْ بصحة ما قُلتهُ التواريخُ، فارجعْ فأنا بهم عَيْنُ الخَبيرِ، وحَذارِ من نزولِ هذهِ البِيْرِ، وتَمْر اقترنَ بإبر هذي الزَّنابيرِ، ثم إنهُ سَفّهَ ذلكَ المَقال، وأشارَ بأناملهِ وقال: الطويل:
ألا إنَّ عيشَ الحُرِّ بينَ الأراقم ... أحَبُّ وصالاً مِنْ وصالِ المُصارم
وأهْوَنُ مِنْ هُون الهُمام ووَهْنهَ ... مُصافحة الأعناقِ بِيْضَ الصَّوارم
وأصعَبُ مِن كَوْرِ الكُروبِ وحَورِها ... محاورةٌ تُؤذي قُلوبَ الأكارِمَ
وأفظع مِنْ ضَرْبِ النُّحورِ وأسْرها ... مجاورة تؤذي رجالَ المكارم
فتُبّاً لِذمْرِ باتَ في الذّلِ رافلاَ ... يَجُرُّ رداءَ الهَمِّ بينَ الزَّراقمَ
وسحُقاً لمنْ يَهْوي المُقَامَ ببلدةٍ ... يَرَى الرِّزَقَ فيها في شُدوقِ الأراقم
فما ذاك إلا طالب فظ ضامرٍ ... ضَليع لدى لَيْثٍ ضَليع ضبارم
يُزاحِمهُ حِرْصاً على عَلِّ فَظِّه ... فَيهوي صريعاً بينَ ضَبْعَى الضبارِمَ
فويلٌ لمن أضحَى حَليفَ معُاندٍ ... ولو باتَ تَحميهِ صدورُ السَلاجِم
وويحٌ لحُرٍّ حَالَف الحُرَّ حُرُّهُ ... وحَقَّقَ أنّ الحُرَّ حامي المحاجِم
وويب لمفْضال يبيتُ مُزَاحَماً ... ويُمسْي بذّياكَ المَحَلِّ المُزاحِم
ووٌيس لمسكين يُساقُ سَفَاهةً ... إلى سُوق فسّاق حُسُول أساحم
وتعساً لمنْ لاهت عليهِ مذلَّةٌ ... تعانِقُها العِقبان فوقَ الغَمائِم
فلا خيرَ في رَبْعٍ تَظَلُّ نعالهُ ... بأقدام أهْلِ العِيِّ فَوْقَ العَمائم
فلا تَرُجُ من جِنِّ التّعدِّي فاقَةً ... وبادِرْ إلى التأخير خَيْر التمائِم
فأفٍّ لفذٍّ صَيَّرَ السَّيْرَ سُلّماً ... إلى كلِّ يقْظان الفَظاظةِ نائم
وتف لمغرورٍ بأزهارِ دِمْنَةٍ ... يُنادمُهُ فيها رَجيعُ البَهائم
فإن كنتَ ذا رأي فقوضْ مقُهقَرا ... تَعِشْ في محًلٍّ راجح غيْرَ هائم
وإنْ كنتَ ذا عَزْم عَلَى الحَثِّ جازماً ... فكُنْ بينَهم ما دُمْتَ عَينَ المُسالم
وأعلم لو أيِّدْتَ بالقُبِّ والقَنَا ... لما أبْتَ إلاّ سادِماً غيرَ سالم
قال: فلمّا قَطعً قَرْنَ أبياتهِ، ورَدَعَ أضواءَ أياةِ آياتهِ، قلتُ لَهُ: أفَكّلهم يفئونَ لهذا الضَّلال، ويتفيّئون يَحموم هذِي الظِّلالَ، فقالَ: لا ومَنْ سخّرَ الأفلاكَ، وقدّرَ رزقَك وفَلاكَ، بلْ بَها الحَلاحلُ، ومَن لفَضْلِه تُقطَعُ المراحلُ، وبها الأفاضلُ والتَّناضُلُ، ومَن له المُناضلُ ينُاضلُ وبها التناثلُ والناثلُ، ومَنْ له الأماثلُ لا تُماثل: الكامل.
فهمُ البدورُ إذا البدور تَكّورَتْ ... وهمُ الدُّرورُ إذا الدَّرورُ ترنَّقا
وهمُ البحورُ إذا البحورُ تكدَّرت ... وهمُ الحُبورُ إذا الحُبورُ تفَّرقَا
وهمُ الثُّغورُ إذا الثغورُ تهدَّمَتْ ... وهمُ السُرور إذا السرورُ تَمَزَّقَا

قال الراوي: فلمّا جَفَّ جُف ذلكَ الواسقِ، وانكفَ كَفّ ذيّالك الخاسق، قلتُ له: أنا مِمَّنْ يَحْملُ بُكاءَ المَطَر، لانتظارِ ضَحِكَ الزَّهَر، ويدخل تحتَ عبءٍ هذا الحَذَرِ، لعَلِّ عُبابِ هذا النَّهَرِ، فهل لكَ في المرافقةِ إليهَا، وخَلْع خِلَع هذهِ المُصاحبةِ عليها، فقال اذهَبْ رُزْقتَ منَ القَبولِ أجَلّهُ، وطيبِ نَسيم هذِي المسايرةِ أحلَّهُ، ولا تولني سَح إلحاحِكَ وطَلَّهُ، واتركني تركَ ظُبِيّ ظِلّهُ فحينَ قَنْطِتُ من مصاحبتهِ، وعلمتُ أنْ لا طمعَ في معاقرتهِ، استنهضتُ ولَدَهُ، لنصرٍ جرَّتي، وثقب بِلج نجوم مجرَّتي، فقال لي: الآنَ وقعتُ في حِبالتك، وتبعتُ جَرّ جرير حيلَتِكَ، وها أنا قَدِ امتريتُ مُرَّ أمركَ بَعْدَ المَناهي، وخَلَعْتُ بَيْعةَ الإباءَ المُباهي، فستذكرون ما أقولُ لكم وأفوِّضُ أمري إلى الله، ثم إنَّهُ أخذَ في المسير، بَعد بُعْد انقيادِهٍ العَسير، إلى أنْ رضخْنا بحُسنِ الاتفاقِ، وأنخنَا بها كَلاكَل النِّياق، ولمّا مالَ ابنهُ لمَا أمّلَهُ، واَسترألَ لتحصيل ما تأمّلَهُ، واندرأتْ فوائدُهُ تنثالُ، ووجبَ لأوامرهِ الامتثالُ، وضُربَتْ بفضْلِه الأمثالُ، رَضِعْنا مرارةَ أليمِها وطعِمْنا حرارةَ مُليمها، وسمِعْنا من نَجاسةِ وخَيمها ما يَشْهَدُ بخَساسةِ خيمها، فأبرقَ لذلك وأرعدَ، وسَحَّ مُسْبِلُ حُرَقِهِ وأرعدَ، وحَرَّقَ آرِمَه وشدَّدَ، وخرَّقَ صيدارَ تصبُّرهِ وأنشدَ: الكامل.
ساعِدْ سَليلَك إنْ سَقَط ... بَيْنَ الأسافِل والسَّقَطْ
واحرسْ حِمَاهُ ولا تكُنْ ... ممَّنْ يذِلُّ إذا قنط
واركبْ ليوم قتالهِ ... قُبّاً تَشُن إذا هبط
وكُنِ الرَّبيط فإنّما ... يحمي الحقيقةَ مِنْ رَبط
وابغ الكفاحَ لنَصْرهِ ... إنْ شاط ظلماً بالشطط
وذَرِ الظُّلامَةَ هَلْ تَرَى ... نالَ السَّلامةَ منْ سَقَطْ
ودَع الطِّماحَ فما نَرَى ... دَعَّ المطَامع مَنْ سَقَط
فأحفظ فديتُكَ حِكْمةً ... تُربي على دُرِّ السَّفَط
لولا التكرُّم والنُّهي ... حسَدَ المُفضّلَ مَنْ غبط
فالفذ مَنْ وَجَدَ العُلى ... سلْكاً يسُوِّدُ فانخرطْ
ثم إنَه تخمّطَ في غَضَبهِ ورَفَلَ، وتقمط بحمالةِ غَضَبهِ وقَفلَ، وقَدَعني وأفَلَ، وودَعَني بها ومَا احتفلَ.
المقامةُ الثامنةُ والثلاثونُ المَوْصليَّةُ

حدَّثَ القاسمُ بنُ جريال، قالَ: لمَّا احتنكْتني يَدُ الانبعاثِ، واستهوتْني شَياطينُ الرعاثِ، وأنساني حُبُّ الأَثاثِ، لَذاذةَ الحِثاثِ، وأغراني طَلَبُ الإحراثِ، لإثارةِ الاحتراثِ، كَلفْتُ بمُقاناة الأقلام، ومُعاطاةِ الأعلام، ومُكاسرةِ الكُتّابِ، ومُعاقرةِ الزَبربَ المُرتابِ، فلم أزلْ أتًّشِحُ بوشاح المنافع، واطَّرحُ معرفة الخافض والرافع، حتى ضمَّني نِمْنمة هذي الرَّباوة، وَزمَّني زمزمةُ هذي الشَّقاوةِ، إلى مُراودةِ الرُّودِ، والتَّخلّقِ بأخلاقِ ذي الجَمل الشَّروب، فما نزلتُ عَنْ هذِه الزَّفوفِ، إلاَّ عند مناهزة سِنِّ الوقوفِ، وما خلعتُ خِلافةَ الخفوفِ، إلاَّ عند سَحق استبرق الشرهِ والشَّفوفِ، فحينَ فارقَ فَمَ الفكرة قبحُ هذا القُلاع، وانتشرَ نَشْرُ إنابِ الإنابةِ والإقلاع، وقلَّ عِبءُ ذلك الأَوْقِ، وجلَّ عنُق عَمْروِ عبارتي عن الطَّوقِ، ملتُ ميلَ النجوم، لذلك الجموم، واحتملتُ مكابدةَ العُلكوم، لاكتسابِ الأدب المركوم، إلى أنْ رفضتُ الجَهْلَ رفضَ السقيم بأسَهُ، والقَسيمَ التباسَهُ، فلمّا تذكّرتُ ما تذكّرتُ، وشكرْتُ على ما تدبَّرتُ، أقبلتَ مَعْ مقاطعةِ المُسْطار، ومصاحبةِ الأسطارِ، أطورُ بالأقطار واحداً بينَ وُحْدان المَحامد والقِطار، فبينما أنا أرتضعُ عُقارَ التَّناهُدِ، وأفترعُ عُذْرَ هذه الناهد، إذْ رمَتْني نَشْوةُ هذهِ الأَراءِ، بَعْدَ مُباعدةِ الِمراءِ، مَعْ جماعةٍ من الأدباء إلى المَوْصل الحدْباءِ، فوردْتُها وأنا من مُفارقةِ الصِّحاب، ومحاربةِ الانتحابِ، باكٍ غيرُ متباكٍ، وبطلبِ الزُّبَدِ كاس لا باحتساء كاس، مُنقَّباً عن أعلامهِ، مُنكِّباً عن مِيمَى اللَمِم ولامهِ، فحينَ حلت عن حَببي، وحُلْتُ في متن ما أنْسى سُرَى خَببي: البسيط:
طَفِقْتُ أطْرِفُ طَرْفي مِنْ طرائِفها ... وأَصطفي خالصَ الإخوانِ ذي النُّخَبِ
وأشكرُ الدَّهرَ والأيامَ إذْ وَخَدتْ ... بِيَ النَّجائبُ نَحْوَ السَّادةِ النُجُبِ

قال: فجعلْتُ أسحُ بين المسارح، وأصولُ في صَهْوةِ ذلكَ القارح، وأحْمَدُ وخْدَ هاتيكَ المَطارح، حتى رُميتُ إلى مَحْفل يُعافُ عندَهُ قُسُّ البراعةِ ويناف، وتطاف فيه لطائمُ المباحثة وتُسافُ، فَنَشَبْتُ في ذلكَ الإكليل، بالكَلِم الكَليلِ، ونُسِبْتُ في ذاكَ النَّقيلِ، إلى قصر القيلِ، فما بَرحوا يَسْرحُونَ بِبَرِّ الجَدَلِ ويَمرحونَ، ويَسْبحونَ ببَحْرِ حلوِ المُلَح ويمتحونَ، إلى أنْ اتَّصل بذلكَ القراع، ذِكرُ صناعةِ الرِّقاع، التي أسْهَرتِ الحَيْص بَيْصَ، فوقعوا لِوَقع السَّدَرِ في مصايدِ حَيصَ بيصَ فقال قائلٌ: تاللهِ لَقَدِ اقتادَ بكفِّ فكرته أجيادَ الإجادةِ، وانقادَ لقدِّ مقدرته جيدُ أجنادِ هذه الإفادةِ، وقالَ قائلٌ: إنَّ وإنَّهُ حَلَبَ براحةِ قريحته أثداء البدائع، وأذابَ أفئدة أضداده بذَوب ضَرَب إبداعه الذائع، وقالَ قائل: إيْ وربِّ الكعبة، ومذلَلِ الصياصي الصّعبة، ولذلكَ أمعنَ بطلب بعقوبا، وضارعَ بانسحابِ جَللِ أحزانه بعقوبا، قال الراوي: وكنتُ حينَ أخذْتُ مكاني في المكانِ، وعُمْتُ خَلْفَ سَيْبِ سُكانِ تلك السادةِ السُّكّانِ، لحظتُ شيخاً مَسْدولَ الحاجبينِ، توذِنُ بغروبهِ غِربانُ البَيْني، يترجمُ تُرجمانُ جُفونه، عن جزالةِ فنونِه، وينبئ ابيضاضُ عًثنونه، بإسراع عساكر مُنونه، فلمّا عَرَفَ ما عرَفَ، ووقفَ بما وقَفَ وثَبَ وثوبَ العَنْكَبوت، وأومأ إلي بالسكوت، فألفيتهُ الدَبيب النافثَ، والعَنْدليبَ المُنافثَ، أبا نصر العَقوقَ، معلِّم قاضي البهائم العُقوقَ فطِبْتُ نفساً بقدومه، وضَمَمْتُ مِنْشارَ شِدةِ الفَرَح إلى قدومه، ثم إنَّه حَسْبَلَ وبرشم، وسبحل وجرشم، وقالَ: يا أولي الأواصر الباصرة، والعناصر الناصرة، أتبالغونَ غاية المُبالغةِ، وتُلغونَ ذا البلاغة البالغةِ، تُبًّا لِمَنْ يَمْتَهنُ النّزيلَ، ويَسْتَسْمِنُ الهِزيلَ، ثم أشار بيده إلي، وقال: ادْن لديّ، بحياةِ عيني، وأمْلِ عليهم من ضُروب رقاعِكَ، ما يعطرُ نواحي بقاعك، كي لا تَفتخر بعدَها بالرفاتِ، وتحتقرَ فِقرَ الكفاةِ، فقلتُ له: أتستنجدُ بالجدْجُدِ على السباع، وترومُ جرَّ المجرةِ بيدِ القصير الباع، وتستمطرُ عرمض معينه، ويغلث غث رث اختراعه بسمينه، فكيفَ تُقْدمُ على الأسود الشاءُ ويُقدمُ على الحِجاج الخشاءُ، أم كيفَ يُستسقى صاحبُ البَغَر، ويُرامُ سدُ الثّغر، بمخالبِ النُّغَر، أو ما سمِعْتَ المثل بينَ الورى، أطرِقْ كرا، إن النعام في القرى، فأبرُزْ بسيبكَ الرابي على الذّرى، فكلُّ الصيدِ في جَوفِ الفَرا، فقال لي: أما تعلمُ أنَّني مِمَن يثرُدُ لجياعه، ولا يَسْكبُ إلاَّ عندَ طَلَبِ انتجاعه فإن استوكفوني وكَفْتُ، وإن استوقفوني وقفْتُ، فقال بَعْضُ مَنْ حضرَه وقدِ استباح من ظَنَه ما حَظَرَهُ يا ذا إنْ فَرَيت بريحك شراعي ورَعيتَ أنُفَ هذي المراعي، علمنا أنَّك النَّضيرُ السَّامِقُ والأخيرُ السابقُ، والمُستمِدُّ من عطْرِ ريح هذا النافح، كاستمدادِ السَّبْسَبِ من سَيْب السَّحاب السافح، وقد كنتُ هَمَمْتُ عند ادّعائك، على كَشْفِ وعائك، وكَسْر يراعِكَ، لو لم أراعكَ، فانظرْ إلى مصيرِكَ، واسْترْ معاصمَ تقصيرك، فالأريبُ من اشتغل بغَوايته، وحَجَبَ وجه غادة غباوته، وعَلِمَ أنَّ لُبْسَ صَموتِ الصُّموتِ أسلمُ، ومَنْ تسنّمَ مَراقي هذه السلَّم قلَّما يَسْلَمُ، وأنت بقرونتِك أعلم، وإيَّاكَ وادِّعاءَ ما لا تعْلَمُ، قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فرمقَهُ بعدَ سائرهم، وقَدْ سَبَرَ نُطْقَ خَضلهم وبائرهم، وقالَ لَهُ: تاللهِ لقد سألتَ السَّلاسلَ النِّصاحَ، والبحر الزاخرَ الضَّحْضاح، والصارمَ الجراح، والضبارمَ الاجتراح، ثُمَّ إنًّهُ مالَ إلى اليَراع، لقَطعْ النِّزاع، وصال على الرِّقاع، لنثْر الرِّقاع، فحينَ أحكم ما اجترحَ، وتحكَّم فيما اقترح، حملقَ نحوَهُم حَمْلقةَ الضِّرغام، المعفِّر أنفَ الفريسةِ بالرَّغام، وقالَ: دونَكُم وما تَظَنّيتموهُ فضولا، فإنّه أفصحُ فُصولا، وأكملُ حُصُولا، وهذه الرقعةُ.

الأولى

لم أرجُ يَمَ يُمْنِ العواطفِ العصاميةِ، وانحُ وصيدَ المواقف الإماميَّةِ، إلاَّ بقلاص مدح حثها سائقُ أملِ استنجعَ من غمائم الكَرَم، صَوْب هَتُونِ اندفق من غمائم النعم، راجياً أنْ يطبِّقَ بُطنانَ بطاح عِزِّه الذي انقرضَ، متوخيًّا عمارة عِزٍّ انهدمَ بمعْول مَتْربتهِ وانتقضَ، لا انصرمَ ظِلّها ولا انقبضَ، ولا انجزَم فِعْلُ أمْرِها ولا أنخفضَ.

الثانية
إنّ أمامَ أيْنُق الثَّناءِ، ويَمْنَةَ مَيْسَرَة السَّناءِ، قائدَ رجاءٍ نَزَع سِرْبالَ سَدَم نَهكَ أعضاءَ أدبه فأضواه، وفارسَ أمْلٍ أشرعَ عاملَ عزمهِ لقَتْلِ قُنوطِ مَطْلبه فأصماه، ومداعسَ عزيمة أسرع لطعن كبِدِ التردُّدِ فأرداهُ، والأجدر بالجَنَاب العالي، والعِزْم الرابي على العوالي، إناخة رِكابِ احتملَتْ دُرَّ بَحْرِ صَدْرِ نُمِّق بحالك حِبْر حَبر عُرض على خَيْرِ وتر مَنحَ مِنَحَ حكمه حُسْنَ السَّنا، واستثمرَ من مطائب إعطائهِ طيب الجنى، وشَرَى بَعْدَ دعِّ ضُرِّ الضّنا، بسوق مُدَّاح حَضْرته حُلْوَ المديح اللّذْ عنا.
الثالثة
لمّا ارتدَى مُصلَي حَلْبةِ الأَدبِ بَعْدَ مُجلِّيه، رداءَ حرمان رَفَلَ كُلٌّ منهما فيه، ظَهَرَ مِنْ سيلِ غَضَب المُسلِّي ما يُعجزُ طُوفانُ طافيه، فاستخرج قلمُ دُويِّ الحِكَم، دُرَرَ الكَلَم، من غَوص بحارِ فيهِ، وحينَ فاقا فِلْقَ كل نافثٍ وضاقا بالنجهِ ذَرْعاً عززْناهما بثالث.
الرابعة
لم أقصد إلا بصِدْقِ ولاء ملأَ البَراحَ، وصْفاَ فساح وعطر ثناءٍ ضَوع الضرّاح عَرْفاً ففاحَ، وشيمِ غَمام وَدَقَ انسكابُه فأفاح الفلاح، وخُلوص طَويةِ زَخرَ حُسنُ ظنها ففاضَ، نكوصً ياس انكسرَ ساقُ مسابقةِ أمله وإنهاضَ، والإيالة الشريفة، والولاية الوريفة، أولى بهَطل النّدَى وأندى، ورأيها العلي السني أسْمى وأسْدى.
الخامسة
ما بالُ رَنْدةِ يَدِ الطالب، عز نِتاجُها وانطمسَ سراط طِيبِ المطالبِ فاقمطر رتاجُها، وتَقَلصتْ بيداءُ المآربِ فضاقتْ فِجاجها، فعلامَ أدَع عن حياض الرغائبِ، وأدرأ عن بياض وجوه المواهب، وأنْتَ مِعْوان المَعاركِ، وعَنان الجَدب العاركِ، وغياثُ الآملِ، وثِمالُ الأراملِ، فعجل بدَرِّكَ الطمِّ، وبَرّكَ الرم، وجودِكَ اليَمَ، وجَوْدك الخِضَم، فَقَدِ انتجع مَنْ أصبح بنخَبهِ محبوباً، بباب لُباب خلائفِ الخلافة بعقوبا، ولو نَثرَ مِنْ نثار هذا المَددِ لديهِ، وَجَبَ تسليمُ زمام راس العراقين عليه إليه، فرام من الطافح الطافحَ الماتحً، وقَنعَ لِحَدَب مَطَا الأزمنة بالناقص الراجح، فَرمْت بالفرائدِ المكنونة، والقلائدِ المصونة، مِنْ منائح الكَرَم قرية الجصلونة، فأنت اسمح باذل، وأرجح صائل، وأنا أصفحُ سائل، وأفْصَحُ قائل.
السادسة
إلام تشام سحائبُ اليأس، وتسامُ ركائبُ الكُرَب في سباسب الوَسواس، وترمى كنانة خضر الرَجاءِ، وتدمى أفئِدة الفكر بينَ المدائح والهجاء، وأرفل في مطارفِ الهَوان، وأرقلُ بأيانق الطمع في مهامه الامتهان، والأحسنُ بفلكِ العوائدِ الطّافيةِ، والموارد الصافية الضافية، إدامة نظر الإحسان، وإقامة عَمَدِ الامتنانِ، والرأي فيما تَراهُ المراحم الفاخرة والمكارم الزاخرة، أيدَ اللهُ ظِلِّها الأكملَ، وفضلَها الأطول، ما نَدَبَ وجنة الخَدَ الخد، ووجَبَ على احتساء مُحرماتِ الحَدِّ الحَدُ.
السابعة
أرسلتُها سابعَةَ لتستلم رواجب الجلالِ،كالمؤمَل تؤمِّل تَسَنمَ غارب الإجلال، مُسْتَنجِعَة سبائب سيبكَ المِفضال، مِنْ عماية عَماية الإفضال، والرِّفْعة الجَلية الرّامِقَة، والعِزَّة العليةُ السامقَة، أجدر بتشييد المقاصدِ للقاصدِ، وأقدَرُ برَفْع بُنيان القواعد للقاعدِ، مَجدَ اللهُ مراتبَ أركانها، وبَدَّدَ رواتب سُلطانها، ما سَرحَ الصِّوارُ، ونفَح الصُّوارُ، وأضمرَ الليلَ الليلُ، وأظهرَ النهارَ النهارُ.

قال الراوي: فلمّا وقفَ ما وقَف، ووكف وتجنَّبَ الوكَف، وخَصَّهُمْ بريق ذلكَ العَريق، وحصَّهم بإبريق ذيّالك البَريق، مدحوا لسانَهُ الأقصل، وذَمُّوا زمانهُ الأعصل، وقالوا: أف لعَصْرٍ يضوعُ به ملابُ لُبابك، وتضيعُ بَيْنَ أصحابه صُنوفُ انصبابِك، وتُزْجى لكَ الأذى وتسوقُ، وتَعْلو على رؤوس إفصاحك السّوقُ، ثُم إنَّهم مالوا إلى أنامله مقبِّلين، وانثالوا إليهِ بالتّحَفِ مُقبلين، واستقبحوا قَوْلَ ذاك القرين، واستفتحُوا بابَ ربْع معرِفتِه والعرين، فَرَبَّطَ ذلك النَّوال، وتأبّطَ حُسامَهُ وقال، بَعْدَ أن عادَ غَللُ صَبْرهِ بلَلا، وبَلَلُ دَمْعهِ غَلَلاً: البسيط:
بمصْرَ داري فلا واللهِ مُذْ رُفِعَتْ ... عنِّي التمائمُ ما أَوليتُها مَلَلا
أظلُّ إنْ ذُكِرَتْ مصر وزينتُها ... أفيضُ دَمْعاً من العينين مُنْهَمِلا
دار بها يُصْبحُ الموتورُ ذا مرح ... ويُبْرئ التُّرْبُ إنْ عَزَّ الدّوا المُقُلا
تَبيتُ مَنْ أصبحت فيها جَناجِنُهُ ... مملؤةً تَرَحاً مملؤة جَذَلا
فمذْ طلَعْتُ بجسمي والفؤاد بها ... ألفيْتُ قلبي من خَوْض الفَلا أفلا
لولا الحياءُ ولولا عِفَّةٌ وتُقًى ... لكنْتُ أول مَنْ حَوْياءهُ قَتَلا
ثم إنَّه خَبَّ خَببَ الخِرْياقِ، وحَبَّ حَبَبَ مُناوحةِ النِّياقِ، بَعْدَ أنْ سَدا بمسيرهِ، وشَدا لتَشْميره، ودَرَّ مِنْ مَدِّ مَدْمعي الدَّما، وفارقني عندما أراقَ مِنْ مُقْلَتِه عَنْدما.
المقامةُ التاسعةُ والثلاثونَ الرهاويّة
أخبرَ القاسمُ بن جريالٍ، قالَ: شُعِفْتُ حالَ مناوحةِ البِعادِ، ومصافحةِ الأبعادِ، ومُضارعةِ الصِّعَادِ، ومُصارعةِ الأصعادِ، باعتلاء الأعوجياتِ، واشتراءِ الشَّدْقَميَّات، واجتباءِ السَّمْهريَّاتِ، واجتناءِ ثمارِ الرّدينيَّاتِ، حتَّى خوَّفني الزَّمانُ، والتُمِسَ من شدة شدتي الأمانُ، فصرت قسورة القتام، وطاعِنَ مقاتِل الأقوام، وهَتاك كلِّ أريكةٍ وابنَ نَجْدَةِ كِلِّ عَريكةٍ، ونَضناضَ كلِّ وقيعة، وخَوّاضُ كُلِّ سَراب بقَيْعَةٍ، لا يَسْتخفُّني هُوف، ولا تلفني هُوِفٌ لَفوفٌ، ولا يسلُبُ المبارزُ رباشي، ولا تعلَقُ أظفارُ المُضافرةِ بجاشي، فحِيْنَ قدَّر القَدَرُ ثِقافي، وجَمَعَ بينَ غَينِ عينَيْ وقاني، آليتُ ألاّ أفارقَ الصَّفَينِ، أو يُسمعَ اسمُ في صَميِم العرَب على حَرفينِ، ولمّا خُضْتُ خضارة الخَطْبِ المَهيلِ، وصحبتُ أصحابَ الصَّلصلةِ والصَّهيل، مِلْتُ عن المدارس وأهَيْلهَا، وعدلْتُ إلى شَمسْ سماء المُداعسة وسُهَيلِها، أرباً أن أجمعَ بينَ الرياستين، وأحظَى بوصلِ تَيْنِ المهاتين، فبينما أنا بمجلسِ والي الرهى، وقَدْ قَرَنَ بينَ قَرَنِ النَّباهة والنُّهى، إذْ وَقَفَ بديوانِ ولايته، وإوانِ عَدْلهِ ورعايتهِ، شَيْخٌ قد قاربتْ قَرونَهُ المَنونُ، وفارنتْ قمرَ إلفِ قَدِّهِ النونُ، تَشْتمه شَيْخة ظاهرةُ الجُرأةِ، بارزةُ الذُّراةِ، قدِ اَحقوقفَ ظهرُها وارتهشتْ، ونَقَشتْ رواهِشَها وامتهشَتْ، وهو يَجْذبُها وتَهِرُّ، وبقربِّها وتَفِرُّ، فأنَّ الشيخُ أنَّةَ الثكول، وازبأرَّ لذلكَ النُّكولِ، وقالَ: الكامل.
يا عادلاً بعِداتهِ وعُداته ... أغنَى العُفاةَ وضيَّفَ الضبعانا
إنِّي حَمَلْتُ مِنَ الزمانِ متاعباً ... لمَّا تحكَّم في المَعَانِ وعَانا

فقالَ لهُ الوالي: ما شأنُكَ أيها الفَصيح، ومَنْ بشُكر إفصاحهِ الفصاحة تصيحُ، فقالَ لهُ: اعلم ثَبَّتَ اللهُ سنابكَ سنائك، وألبسَكَ ملابسَ وفائكَ، وضَوّعَ عبيرَ عَلائكَ، وقوَّمَ صَعَرَ خُدودِ عدوِ أعدائِكَ، أنَّني مَمّن إذا قصد صَدَقَ، وبَرقَ ربق، وسَلبَ لَسَب، وكَسَبَ سَكَبَ، أميلُ عن الإسراف، ولا أعلم ما مذاقةٌ الإشراف، وأسعَى لِمَنْ صَفْوَهُ اصطفَى، بَيْنَ مَروةِ المُروءةِ والصَفَا، فلماّ انكسرتْ الرؤوسُ، واسْتوَى الرئيسُ والمرؤوسُ، وكلَّ الحاذُّ، وتقطعت البُطون والأفخاذُ، وتشتتتِ الجَلَبةُ، وخانت الحَجَبةُ، وتَمزّقَ المِعناق، وتَتَعْتَعت الأعناقُ، وقل الاحتمالُ وتَشَذَّرتِ الشِّمالُ، أصبحتُ لإلحافي، وعَدَم التحافي، ألينُ، لنحافِي، واستوهبُ الأحذية مِنَ الحافي: الطويل.
فيا ليتني لم أحيَ في الناسِ بَعْدَما ... تَنَاءتْ جُموعُ الجَدّ عنِّي وولَّتِ
ويا ليتني لمّا امْتطَي قِتبُ صِبْيتي ... مَطيَّ الطّوَى وسِّدْت في الترْبِ تربَتي
فلا خيرَ في عيش أبيتُ موسَّداً بهِ ... جَمر جَانٍ إنْ توالت تَولتِ

ثم إنَّهُ اضطربَ اضطرابَ المزؤود، وتنَفّسَ تَنَفسَّ المؤودِ، فقالَ له الوالي: تاللهِ لقد عرَقني غِزارُ غَرامك، وغرّقني طُوفانُ اضطرامكَ، فأخبرْنِي ما وراءَ صمامِك، ولأيِّ مأربٍ اتَّصلَّ بنا سَبَبُ اَنضمامِكَ، فقالَ له: اصِخْ فَدَيتُك إليَّ وأنخْ نُوقَ إنصافِك لديَّ، وأنّني لمّا هَجَرَ آلي، وأمقرَ زُلالي، وانهزمَتْ قبائلُ مالِي، وانصرمت حَبائلُ آمالي، ونفقت جِمالُ إجمالي، وبَرَقت رمالُ إرمالي، هممتُ بأنْ أتزوجَ بمَنْ تحن إلى عِيالي، وتَجِن جُيوشَ أعلالي، وتَحْتَمِلُ إرقالي، وتَحمِلُ ثِقالَ أثقالي، فاستشرتُ بمَنْ هو لسِّري مَعَان، لعلمي أنَّ المستشارَ مؤتمنٌ، والمستشيرُ معان، فزُفَّتْ إلي هذهِ العَجوزُ، التي رأسُها في جرابِ كلِّ مُجادلةٍ يَجوزُ، فأسقَمني وصلُها الذعانف، وجَزعتُ معَهَا ما بعضَهُ الحر يَعافُ، وقد أحضرتُها إليكَ، وَعَرَضْتُ عُروضَ إعراضِها عليكَ، لتُثقِّفَ أسَلَ مَنْهجِها، وتُهذِّبَ جُمَلَ لُجَج لَجِجِها، قال: فلمّا سَمِعَ الوالي حكايتَهُ، وفَهِمَ شكايتَهُ، قالَ لها: لحاك اللَهُ كيفَ تُخفرينَ عهدَهُ، وتكفرينَ رَفْدَهُ، وتُنكرينَ خَيْرَهُ، وتحتقرينَ مَيرَهُ، فقالت: إنَّهُ ومَنْ حرَّمَ أطباءَ البراطيلِ، ونَهَى عن مظالم المَطيل، لأكذُبُ من الصبح المستطيلِ، فقالَ لها الشَّيخُ: قَبَّحَكِ اللهُ بل أنتِ ومَنْ طَيرَ النّحام، وحبّبَ إلى الحَمير الزِّحامَ، أكذب من غَمامةِ مَصيفٍ، وأتْفَلُ مِنْ غَيايةِ كنيف، وأوسخُ من سِروَالِ كنّاس وأزفرُ من سربال رآس، وكيفَ لا يذمك من يدمُّكِ، وَيَصُّمكِ مَنْ يَضمُّك وقد ألفاكِ يومَ قَفَّاكِ أنْجَسُ مِن كَلْبٍ، وأنفسُ من دَرْب، وأسفقُ من رَبابةٍ، وأفَسق من زبابة، وهي أعزّكَ الله مَعْ كَثَرةِ جُرافِها، وغَزارةِ انحرافِها، إنْ غلبَت عَلَبتْ، أو جلبَتْ خلبت، أو شرقَتْ سَرقَتُ، أو حنقْت حبقَتْ، تأكل منَ الحَماةِ حِمْلين، وتنهَلُ من القَيء قُلّتَين، وتَغْتَسِلُ بُصَيِّب العَيْن، وتَكْحل أسود العَيْنِ، بأسود العيْنِ، فلا أعاذها اللهُ مِنَ العَيْن، فقالتْ له: فضحَك اللهُ يا أقفر من خَرابٍ، وأكذبَ من سَرابٍ، بل أنتَ واللهِ أنْصبُ من بُحيس، وأشأمُ مِنْ طُوَيْس، وأخَس مِنْ جَاجَةٍ، وأنَم مِنْ زُجَاجَةٍ، وأرْقَعُ مَسْبُوع، وأخْدَع مِنْ يَرْبُوع، وأرْجَسُ مَنِ أطْرَحَ العَصَا، وبَاتَ في أَهْلِهِ صُلْبَ العصا، وتجللَ سَكاب المَعاصي والعَصَا، وقال: أنا خيرُ من تفاريق العَصَا وعَصَا، فتّباً لكَ منْ هائع لائع، وجائع نائع، وماطع راطع، وقاطع لاطع ناطع، يا أخْبَثَ مَنِ اختارَ على الصادِ الميمَ، والوهادَ التسنيمَ، وفاضَ بالحججُ الجائرة، واعتاضَ عن المثلثِ بالدائرةِ، فكساكَ حلّةَ حُرافِي، ورماكَ بثالثة الأثافِي، وعزز فن سابحِ سِبالِك بالتاءِ، وقَبَّضَ لقِذالِك قلبَ شقيق بلوطِ الشتاء، لأنَّكَ إن رحلتَ خبطتَ، أو حللتَ ربطتَ، أو سألتَ قَنِطْتَ، أو سَعَلْتَ ضَرِطْتَ، فأفٍّ لما لَقيْتُ وما ألْقَى، وتُفٍّ لخسيس أنسِكَ وسُحقاً، فقالَ لهما الوالي: أخزاكما اللهُ أما تخجلانِ من سَحِّ هذهِ الدِّيمةِ، وقُبْح هذهِ الأفعالِ الذَّميمةِ، فقالتْ: قَسَماً بِمَنْ أنعَمَ على المسافر بالقَصْرِ وأنزلَ على سَيّدِ الرُّسل سُورةَ النّصْرِ، لولا احترامُكَ لأقرأت حصييهَ سورة العَصْر، ولولا الحَياءُ من أمور اشتهرتْ، وأحوال بينَ الوَرى ظهَرت، لتلَتْ لحيتهُ إذا النجومُ انتَثَرتْ، فالتفَت الوَاَلي إليه، وقالَ له: يا ذا لَمَ لا تَزْهَدُ في صَدْرِ هذهِ الوُصْلة والمَغابنِ، وترحلُ عن وَطَنِ سورة التَّغابُنِ، فقال: لأنِّي لا أملكُ في الإقامة والانطلاق، ما أتوصلُ بهِ إلى قرية سورةِ الطلاقِ، فقهقهَ الوالي واستطرفهَ، واستملحَ قولَهُ واستظرَفهُ، وقالَ له: كَمْ صَداقُها عليكَ، لأحضَرهُ إليكَ، فقالَ: مائتا درهم لا يشوبُ كمالها نَقْصٌ، ولا يَعيبُ ثوبَ إكمالِها قَص، فسلّم المبلغ إليها، وقالَ: أحلفُ الآنَ عليها، فقالَ: هي طالقُ بعدِدِ عُشرِ شهرِ تشرينَ، وأربعةَ أجذارِ خمسةٍ وعشرينَ، قال القاسمُ بنُ جريالِ: فالتفتَ حينَ حَملق الضُّبعان، وحيّرَ الخِرَقَ حرَّ ذلكَ الطِّعانِ، وطالَ بينَهما المِصاعُ، وخصَّ كلَّ واحدٍ منهما ذلك الصَّاعُ، أبا نصر المصريّ صاحبَ ذاك

الاقتصاص، وحالبَ هاتيكَ القِلاص، فتركتُهُ إلى أن انفصلَ عَقْدُ ذيّاكَ العِقَال، ونصلَ خِضابُ ذَّيالكَ المَقالِ، وانصرفَ يَتَغَطْرَفُ لحوْكه وَيتَخَنْدَفُ بزوكه، ولم يبقَ معَهُ من البَريّةِ، سوى ثُلثِ تسع سِهام الأكدريةِ، ثم لصقتُ به لصوقَ الحَسْدل بالمواشي، وجعلتُ أعاتبهُ، ولا أحاشي، فقَال لي: أتظُنها ربيبةَ داري، لا ومَنْ رفعَ في سُلَّم الفَصاحةِ قدمَ مِقْدارِي، وإنَّما هي امرأةُ قَمّام، أجيرِ حَمّام، استأجرتُها بحبتين، لأقتنصَ بفخِّها المائتينِ، فقلتُ لَهُ، أفلا تضربُ لي معكما بنصيبٍ، لأكونَ في نثلِ كنانتِكما ثالثَ مُصيبٍ، فقالَ لي: إنَّكَ ومَنْ فَضَّلَ ركبانَ الحرم على مُشاتهِ، وبغَّضَ إلى الوالي سعايةَ وشاتهِ، لأطمعُ من عرِس أشعبَ وشاتهِ، ثم إنّهُ انخرطَ في رشاءِ فِرقَهِ، فَرحاً بفَلّ فَلّ فرَقهِ، وبقيتُ مذ ضمَّني الرُّهاء، وطمّنِي ذلك الدّهاءُ، تُريني فعلتَهُ في المَنام الأحلامَ، وتعتَريني هَزّةُ من هَزَّهُ المُدامُ، وعزَّهُ الإعدامُ، وردَّهُ السِّلامُ والسلاّم.قتصاص، وحالبَ هاتيكَ القِلاص، فتركتُهُ إلى أن انفصلَ عَقْدُ ذيّاكَ العِقَال، ونصلَ خِضابُ ذَّيالكَ المَقالِ، وانصرفَ يَتَغَطْرَفُ لحوْكه وَيتَخَنْدَفُ بزوكه، ولم يبقَ معَهُ من البَريّةِ، سوى ثُلثِ تسع سِهام الأكدريةِ، ثم لصقتُ به لصوقَ الحَسْدل بالمواشي، وجعلتُ أعاتبهُ، ولا أحاشي، فقَال لي: أتظُنها ربيبةَ داري، لا ومَنْ رفعَ في سُلَّم الفَصاحةِ قدمَ مِقْدارِي، وإنَّما هي امرأةُ قَمّام، أجيرِ حَمّام، استأجرتُها بحبتين، لأقتنصَ بفخِّها المائتينِ، فقلتُ لَهُ، أفلا تضربُ لي معكما بنصيبٍ، لأكونَ في نثلِ كنانتِكما ثالثَ مُصيبٍ، فقالَ لي: إنَّكَ ومَنْ فَضَّلَ ركبانَ الحرم على مُشاتهِ، وبغَّضَ إلى الوالي سعايةَ وشاتهِ، لأطمعُ من عرِس أشعبَ وشاتهِ، ثم إنّهُ انخرطَ في رشاءِ فِرقَهِ، فَرحاً بفَلّ فَلّ فرَقهِ، وبقيتُ مذ ضمَّني الرُّهاء، وطمّنِي ذلك الدّهاءُ، تُريني فعلتَهُ في المَنام الأحلامَ، وتعتَريني هَزّةُ من هَزَّهُ المُدامُ، وعزَّهُ الإعدامُ، وردَّهُ السِّلامُ والسلاّم.
المقامة الأربعون الأهوازيّةُ
روَى القاسمُ بنُ جريالٍ، قال: أولَجني الدَّهْرُ ذو الإعجاز، الحَرجُ المَجازِ، إلى جامع الأهواز، ظاهرَ الاحترازِ، متظاهرَ الاهتزازِ، فائقَ الامتيازِ، في فيلق من الإعزَاز. راصدَ كواكبِ النجاز، قاصدَ مناكبِ الحِجازِ، فبينا أنَا أنفضُ الشفوفَ لِهوفها، وأخفِضُ جناح ذلِّ النظر بين صُفوفِها، مائساً بالقدِّ الرّطيب، مائلاً إلى استخراج نخَب الخَطيب، ألفيتُ شيخَاً آخذاً بِزَنْد عجوزِ، تِلَو خِشْفٍ أبوز، أذكَى مِن فراخ الحَجَلِ، لا يكترثُ بطولِ شِمراخ الحجَلِ، فحينَ اتّصلوا بالأعيانِ، وحَصَلوا على عِنانِ العِيان، أبرزَتِ العَجوزُ جماناً كالهتَّانِ، وجَناناً كالجَنان وقالت: الخفيف.
أيها الناظرون رِقةً حالِي ... واَحتيالِي على الحُطام الحقيرِ
واشتهاري لدَى الرجال وهَمّي ... بعدَ وهمي وكَسْرِ قلبي العَقير
واصفراري وطُولِ ليلي ووَيْلي ... واَرْتضاعِي ثُدِىَّ صدرِ النقيرِ
وأجاجِي وبُوسَ عيشي وطَيشي ... بعدَ رَهْطِي أولى المشيب الوَقيرِ
واَعوجاجي وذلِّ نَجْلي ورجْلِي ... بعدَ شيخي أبي الفقيرِ الوقيرِ
وافتضاحي لَدَى الصفوفِ وعُسْري ... بعدَ يُسري مِنَ الكثيرِ الوقيرِ
واتّقاحي على الوقوفِ وضرّي ... بعد ضرِّي وضَعْفِ ظَهري الوقيِر
بعدَ أنْ كنتُ في الخُدور بخَيْرٍ ... بينَ قَدْر وقَادر وقَدير
واصلوني ولو بسَحْقِ خِمَارٍ ... أو إزارٍ لبَعْلِ بَعْلي القديرِ
فلمّا اغترفوا زُبَدِ عبارتها، ووقفُوا على بدائع إشارتِها، شَهَرَ شُوَيْدنُها لسانَهُ، ورفعَ إليهم بَنانه، وقال: الخفيف.
واعطفوا لي مِنْ بَعْدِ أمِّي لأِّمي ... إنَّ أمي كضَعفِ أمِّ غَرير
واسمحُوا لي بخاثرٍ ومَخيض ... وطعام مِنَ اللطيفِ غَزيرِ
وارشَحُوا لي بحُلّةٍ وحذاءٍ ... مَعْ رداءٍ مِنَ الشفوفِ حَريرِ

وارفدوني برفْدِكُمْ ففؤادِي ... ذو جَريرٍ إلى الوِجار جَريرِ
وأجبروني بجُبّةٍ وبِجاد ... مَعْ جذاذ، مِنَ النَّضير نضيرِ
وانصروني بصُرَّةٍ وصِدار ... مَعْ وَصيفٍ مَعَ النَّصير نَصيرِ
قال: ثمَّ إنَّهم مكثُوا ليُحَلَّ لهم وكاء، أو يَنْهَلَّ عليهم وعاءٌ، فما ألبَّ بهمَ لُبابه، ولا انصبَّ منْ صَوْبهم صُبابةٌ، فلمّا رأى الشَّيْخُ أنْ قد أورقَ شَجَرُ إخفاقهم، وأورقَ صائد تملّق إملاقهم، وأنْ قد أوأبتْ راحُ كفوفِهم، وأبَت وأوكبت نار معروفِهَم وكَبَتْ، وأنَّ عيونَ إعطائهم مقطوعةُ الإهراق، ومَلّة مِلَل مَلَلهم حاميةُ الإحراقِ، ومذاهب ذَهَبِهم مسدورةُ الإشراقِ، وكرْمَ كَرَمَ مكارمهم مُسْقوقطُ الأوراقِ، انسلَّ سَراب قلقهِ الرَّقَراق، وسلّ سيوفَ السَّدَمِ لهَمْهَمَةِ هَمّهِ المُهراقِ، وقال: يا أعنّةَ العطايا، وأسنَّةَ الهدايا، وأخدانَ اللِبانِ وإخوانَ الخِوانِ، وحسادَ الآَكل وآسادَ المآكلِ، وعِبادَ الرياس، وعُبادَ الأكياس: هلا تنظرون بعين طالما اكتحَلت بأثْمِدِ الغوايةِ، وتَسْمعونَ باُذُنِ قلمّا امتلأتْ بماعونِ التلاوة، فترشحونَ لشيخٍ اشتغلَ بإفالهِ عن احتفالهِ، وبحَزق احتيالهِ عن مخادنةِ اختياله وعن كثرةِ عيالهِ، بتتابع أعوالهِ، فأصبحَ بعدَ اَمتطاءِ المُطَهّماتِ، واقتناءِ الصرَرِ المدَرهَماتِ، يصافح المصائبَ. ويكافحُ سَهْمَ السَّقَم الصائبَ، فحين عَمِرَ الفَناء، وصفرَ الإناءُ، وبَعُدَ الهَناء. ونفدَ الهناءُ، واربدَّ يِقَقُ الأملِ واشتدَ، وارتدَّ مؤمنُ بابِ السعادةِ واستد، ونبَا المصاحَبُ وكظَ، ورَبِا مجلِس الفَلس واكتظَّ، ومالَ بيتُ التجمُل وانقض، وحال حالُ التحيلِ وانفضَّ، تكدَّرَ الصافِي، وتغيّرَ الصديقُ المُصَافي، وتضيقَ الضافِي وتَخلًفَ الخليلُ المُضافِي، فليتنَا وافينا الوفاةَ، ولم يعْجُمْ نابُ صَفونا هَذِي الصَفاةِ. قالَ الراوي: ثم إنَّه أقلعَ إقلاعَ البَعاع، وانخرطَ بين الرعاع، وذَمَ الجمعَ الذي أمهُ واستصحبَ البويذقَ وأمَّهُ، ولم يحضرني ما أسمحُ لَهُ به، وأبيِّضَ وَجهَ جدار مَطلبهِ، وأحببت أنْ أتحقّقَ دَوحَ أيكته، وبأيِّ البُقع انصدَعتْ مُتُون تريكتهِ، فأخذتُ أقَفو إثْرهُ لأعرفَ عرينَهُ، وأصْرِفَ له ما يملأ يمينَهُ، فألفيتُهُ بعدَما أجبلَ، وافترع عاتقَ الحيل وأحبل، أبا نصر المصري ذا المناص وقانصَ الأسد القّناص، فقلتُ له: سّحقاً لكَ من باذلِ ماءِ وجنتيه، لاكتسابِ نَماء راحتيهِ، فهلا تستعينُ بحِرْفةِ تَصُونك عن السؤال. وتعيُنكَ على الخروج من مدارج السؤال، كي لا تستكف، وتنتقدَ المحافل وتستشف. فأترع أوعية قلقه. وأمجدَ وتأهب لأهب الهلع وأنشد: اّلمتقارب.
لسعْى السّباع على عاقلِ ... وقَنص العداةِ ونَقصُ العَدَدْ
ولَس القَتاد وحس الفؤادِ ... ولبس السَوادِ وجَلسُ المَدد
وحقدُ الرَداح وفَقدُ النجاح ... وقَد السَماح ووَقدُ الرمَدْ
وحسم الصلاة وطسم الفلاة ... ووهم الولاة وهم الكمد
وسلب الحبور وخب البحور ... وجب النحور وحب الحسد
وخَتلُ الخَدين وشَل المدِينِ ... وسل العدين وسل الجسد
ونَهْلُ الحميم وعَلُّ الحَميم ... وغَل الحَميم وفَل السبد
وسيرُ الهوىَ وضَيْرُ الهَوى ... وجَوْر الوَليِّ ومُورْ السند
وظعْنُ الرباب وطَعْنُ الرباب ... وضن الرباب ووَهنُ الخُلَد
وشَقُّ الجَنانِ وحَرْقُ الجنان ... وخَرْقُ الجَنان ومَحق الجَلَد
أقلُّ مصابَا، على عَائل ... يَروم القيامَ بجدَ قعد
قال: ثم إنَه أفلَي وأفليتُ: وقطعتُ رأس الفِتن وفَليتُ وفَلَيتُ من نُقودِ شعْرهِ ما فَلَيْتُ، بعدَ أن شَفت مُلَحُة الغُرامَ، وسَفَتْ ريح حَنَقهِ الدَاءَ الغرام،َ وناقشني مُناقشة مَن غَامَ، واحلولكَ يومُ ودهَ وغَام، وأوحشني ذَلكَ العامَ، مذ غرق قاربَ التقَربِ وعام.
المقامةُ الحاديةُ والأربعونَ الحنفيّةُ الكِيشيّةُ

حكى القاسمُ بنُ جِريالِ، قالَ: حَمَلَني صَفْوُ الزمَنِ الباهرِ، المبيِّضِّ الأباهرِ، وحُبُّ الليلِ الساهر، لمنادمةِ النديم الماهر، فلم أزلْ أزعجُ النَفور وأجاورُ الكفورَ، وأقري العالمَ، واستقرى المعَالمَ، وأُسامرُ الأعوجيَّ، وأُصادُم اللُجِّيَّ، إلى أنْ نزلتُ بساحل قيسَ، وقد ضارعت ابنَ الملوح قيس، وسئمت الهيسَ، وأنضيتُ السوابحَ والحَيسَ، فوردْتُها وأنا خفيفٌ ذفيفٌ، وارفُ الإفادة عفيفٌ، أردُ مواردَ الموداتِ، وأشهدُ مواسمَ المشاهداتِ، وأُوقدُ مصباحَ المَرَح، وأُخمدُ أنفَاس أفراس التَّرح، وأمرجُ بانسكابِ مكسبٍ هام، وأجمَحُ بأقدام إقدام مقدرة وهام، وأرفُل في بُلهنية شهيّة، وأسبلُ ثوبَ رفهنيةٍ هَنيّة، فبينما أنا أنوس لجَدِّ جُدودِ الدِّبار، وأَبوسُ بأخمص الخَبَب خدودَ حدود الديار، عَلّ أن أظفرَ بكُوع كرمٍ وساعد، أو نديم على سَدَر السَهَرِ مُساعِد، لأطَفئَ من ضَرَم الضرَرِ ما التهبَ، وأردّ إلٌى شرخِ شبيبةِ النشبِ ما اشتهب، ألفيتُ فتًى يسيرُ سيرِ السَيلِ السَائح، ويترّنّحُ ترنّحَ النزيفِ المتمائح، ينطِقُ بالفضلِ إنعطافه، وتهزأ بأعطاف الحدائق أعطافُهُ، فملْتُ إليهِ مَيْلَ الشيِّقِ إلى الوصالِ، والأجيرِ إلى راحةِ الأوصال بالآصال وقلتُ له: هل لكَ يا ذا الوجهِ الوَضيِّ، والجَدِّ الحَظي، في أن تُعرفَني مخرجَ أغصانِكَ، ومدرج صبيانِك، لأكونَ خادماً لحوائك، أو منادماً تحت ذوائبِ لوائكَ، فإنّني مِمَّنْ يتجمّلُ بالتعاليلِ، ويتحمَّل مِنَّة عَلِّ هذه اليعاليل، فقالَ لي: أمَّا المَدَرة فهذِي، وأما العِتْرَةُ فَكُلُّ فَذٍّ غير هاذي، وأَّما مرام المواصلةِ فإليكَ، وزمامُ هذه المصاحبة ففي يديكَ، قالَ: فصلَّيْتُ تِلوَهٌ وجلّى، وتمليت بما تمنيتُهُ إذْ تجَلى، ولمّا وصلَ بي إلى فِنائهِ، وأدهشني بشيد بناءه، أحضر منْ أصحابه المعارفِ، أولي السُّؤدد والعوارفِ، عدد ما لا ينصرف في النكراتِ والمعارفِ، تَتيهُ على المُبادَر بالنَوادرِ، وتنصبُ بالصَّوْبِ الصادرِ، نصْبَ المصادرِ، ثُمَّ إنَّهُ أومأ برأسه لإحضارِ نبراسِهِ وإلى إمائهِ، بتبريدِ مائه، وإلى أنماطهِ، بإظهارِ سِماطهِ، فمِلْنا إلى أطعمتهِ، وشكرْنا سوابغَ نعمتهِ، حيْنَ سالتِ المسائل، وأدالتِ الدلائلُ، ألفيتُهم مِمَّنْ يُوصفونَ، إذ للمنح، يعصفون وتطور بهم المزَاهرُ فلا يعزفونَ، وتدورُ عليهم كؤوسُ مناسمة لا يِصدعون عنها ولا ينزفون: البسيط.
نهدي وتَهدِي جُماناً منْ تهذُّبهم ... وحسنِ مذهبهم خَلقْاً إلى الرَّشد
كأنهم شُهبٌ في الأفُقِ طالعةٌ ... تَسْري الأنامُ بها للمنهج الجَدَدِ

فلم نزلْ نَحْضُرُ بجامع اجتماعِه، ونشكرُ عَرْفَ عرائس اَستماعه، إلى أن دخل ذاتَ يوم بعضُ وصفائِه، وقد أحدقَتْ به عيونُ أصفيائهِ، وقالَ: أراك متثبطاً عن عيادةِ خطيبكم، المُظهرِ ما يفوقُ نفحاتِ رطيبِ طيبكُم، فقالَ له: تاللهِ لقد استدعيتَ بكاءَ الثواكلِ، وهديْتَ الضيفنَ إلى مهيع المآكلِ، وطلبتَ القُبَلَ من العاشقِ، وسكبتَ الغالية لدَى الناشقِ، ثم قالَ لهم: هَلْ لكم في اقتناءَ هذه المندوية واجتناءَ ثمارِ هذهِ المثوبةِ، فقالوا له: قَسَماً إنَّكَ لَكَمَنْ سألَ النارَ الوقودَ، والفُهودَ الرقودَ، والحُمام الحِمامَ وإلْفَ طِيْبِ مَوطنه الحَمامَ، فقلتُ لهم: أتأذنونَ لي يا أولي الضِّمار، أَنْ أكون فِسْكَلَ هذا المِضمار فقالوا: بل إنْ هويتَ اهتمامنا، فكن إلى إمامِنا أمامَنا، فتقدَّمَ إذ ذاك قلبي مَعْ وفاقه، خالياً مِنْ نفاقهِ، تقدُّمَ النَّعْتِ على رفاقِه، ولما خَرَجْنَا لجَلْهةِ الأدَبِ وواديه، وولجْنا مِنَى أَياديهِ، مَعَ التيمُّنِ بيُمْنِ مُنَى مناديهِ، ألفيتُ المشارَ إليه، والمشتارَ منْ ضُرُوب الضَّرَبِ لدَيه، الليثَ المِدْرَهِيّ، أبا نصرِ المصريَّ، فمِلْنَا إلى إعمالِ واجبه، واستلام رواجبه، والقعودِ بإذْنِ حاجبِ حاجبهِ، وحينَ احتلسْنا بِساطَهُ، وحَمِدْنَا محاسنَ سَمْتِهِ وسراطه، جعل يلحظ طلاوة تلافينا، ويُقلِّبُ كَفَّيْ وكْف طَرَفهِ فينَا، ثمَّ قالَ لي: يا ابن جريالَ جَرعتُ جريال الجَرَض المبرّح، ولَقِمْتُ لقَمَ نِقَم المَرَض المُقَرِّح، وأنا ْبسلع لسع السقم مقيم، وأنتَ بهذه البقعة مقيمٌ مستقيمٌ، ثم إنَّه تتابع أناُنهُ، وتهافت ذُنانُهَ، فقلتُ لهُ: لم أشعُرْ بدائِكَ، لعدمِ ندائكَ، وها أنا بحذائِكَ، لحملِ حذائكَ، فعليَّ ما تشاءُ، وعليكَ الإجابةُ فيها أشاءُ، ثمَّ إنّي عَمَدْتُ إلى نَبْضِهِ الخَفوقِ، فوجدته مشتملاً على الطولِ والعَرْضِ والشُّهوقِ، فعلمْتُ بفِطْنَةٍ فاردةٍ، أنَّهُ عن حاجةٍ داعيةٍ، وآلةٍ مساعدةٍ، فقلتُ له: ما صنعتَ في حُمّاكَ، جُعِلْتَ من حُمة هذه الحمى حِماكَ، فقالَ لي: أرقْتَ من دَم الباسليقِ، ما أشرفَ بي على مفارقةٍ الفَريق، مع معرفتي بإسعافِ المُنَّةِ والسّنِّ، والوقتِ الصائف وصحة الذهنِ، واستعمالِ الملائِم أيام البحارين، وإهمال لطيفِ الأغذيةِ والمتين، وتناول المتوسطِ من الغَذاء، لحِفْظِ القهوةِ ووقوف الداء، فقلتُ له: بِمَ يساعدُكَ النّطاسي، وبطولِ ساعدِ يمينِ علاجك تشهدُ الأناسي، وفي غدٍ تتسنّمُ معارجَ منبرِكَ، وتترنَّمُ البَشَرُ بإنشادِ لذيذِ مَخْبرِكَ قالَ القاسمُ بنُ جِريال: فَلم يمض يومانِ، حتى واصلَ كواعبَ الأمانِ، وفارقَ شرة نَدمانِ ذلكَ الإدمانِ، ومُصِحَ عَرَضُ حُميّا حَمْوهِ فحالَ، ومُسحَ حَمَمُ مُحيا حاله فاَستحال، واعتدلَتْ عَضَلُ أعضائهِ الموؤفَةِ، وعدلَتْ إليهِ الأعراضُ المناسبةُ بعدَ المخوفةِ، غيرَ أنَّ الحُمَّى غادرتْ بشفتيهِ بَثْراً يَشُقُّ بهِ تحريكهما عليهِ فحمِدتُ اللهَ تعالى على نزع أغلالِ أعلالهِ، وَحيْعَلةِ أذان بِلالِ إبلالهِ، وقلتُ لَهُ: تالله لقد أحسنتَ في التدبيرِ، وعرفت صَوْبَ القبيلِ والدَّبيرِ، فلذا نجوتُ من غيابةِ هذه البيرِ، فقالَ لي: هذا نماءُ عافية من عِلاجكَ بَذْرُهُ، وانتماءُ سُمُوِّ سلامة من سماء انعياجِكَ بَدْرهُ، قالَ: فبينما نحن نتفاوضُ، ونذكرُ النّخُبَ ونتقارضُ، إذ برزتْ دعاةُ الجُمعَةِ بإعلامِها، متبرجةً ما بينَ أعلامِها، فقلتُ لَهُ: إنَّ وقْتَ الخطابةِ قد أطلّ، وانتظر صيِّبَ لُبابِكَ والطَّلَّ، ولا بدَّ للجمعة من صَلاةٍ، كما لا بدَّ للموصولاتِ من صِلات، فكيفَ تستطيعُ تحريكَ شفتيكَ، لأداء دُرَرِ خطبتيكَ، فقالَ لي: أنشِئُ خطبةً حنيفيّةً، ناصعةَ الفصاحةِ صفيّةً، يعجزُ عن عديدِ وصفِها الحاسبونَ، وتخضَع لوصيد باب خطبها الخاطبونَ، تسكنُ بحركةِ فَم قائلها الشِفاهُ، ويجدُ بها سليمُ أساوه الشظَف شِفَاهُ، لا يمرُّ شُهدها بدَنفٍ إلاّ شَفَاهُ، ولو أشفَى على جِزْع وادي الجَزَع وشَفاهُ ثم نهضَ يتبرنَس، يتدربسُ ويتبهنس، إلى أن صعدَ منبرهُ، وخَمَرَ قَرنَ قوّته وسَبَرهُ، فقامَ لإعلانها، بعدَ إكمال أذانها، وقالَ: شَكر لساني الصادقَ القديرَ، القاهرَ النصيرَ، الرازقَ الخلاقَ الخالقَ الرزاقَ، العزيزَ

الحنّانَ، العادل الديّانَ، قاسر سِقَاط الساقطينَ، كاسرَ عساكر القاسطينَ، ساطحَ هالةِ الهدايةِ، ناشرَ راية الدرايةِ، ناسخ آيةِ الغيابةِ، ناحض داحض الإيالةِ، قارضَ عارض الجَهالةِ هاديَ العهد الهاطل، أهل العدل الآهلِ، ذا الظلِّ الظليلِ، العالي الجَدِّ الأثيلِ، الذي شَرعَ الصلاةَ، إذ ذللَ لآياتِ آياتهِ اللات، أرسل جَدّ الحسنين، عارياً عن الشَّين، عالماً على النيّرين، نذيراً إلى الثقلين، جادعاً عرنينَ العنادِ، رادعاً إرعادَ الأندادِ، طالعاً كاهلَ الشَّدادِ، قاطعاً أعناقَ الأضدادِ، نازعاً أسنَّةَ الاختلالِ، قادعاً نِضالَ آلِ الضَلال، صلّى عليهِ صلاةً رائجةً لا انقضاءَ لرشَدِها، غاديةً لا انتهاء لعددها، خاليةً لاَ انحلال لحلالِ حَلالِها، عاليةً لا اَعتلالَ لجلائلِ جَلالِها، خدينَ الخِداع ذا الخِتلِ الخدَّاع، تذكَّرْ هِزّة الرحيلِ، حالَ ارتحالِ الجسدِ النحيل، حالَ صكَّةِ القَلَقِ، حال شِدَّةِ الشرَق، حالَ شَدِّ الخِناقِ، حالَ اعتناقِ خَيْلِ الانخِناقِ، آهاً عليكَ، أرسلتَ رائدَ الدَّنَسِ لديك، هَلاّ تدثرتَ صاهلَ صلاحكَ، هل انتجعتَ غَيْثَ إغاثة إصلاحكَ، هلاّ نتقت جانحَ جناحِك، هَلا حَدَجْتَ ساجحَ نجاحِك، لترِدَ السَّاهرةَ عريّاً عَنِ الدينِ، خليََّ الأخدَعَينِ، أيَّدَك لإهداءَ هَدْي هذي الشريعةِ، لا لنَحْرِ حِقِّ حَقِّ هذه الشيعةِ، قالَ الراوي: فحينَ تخلَّى مِنْ نَشْرِ صُحُفِ فَصاحته، وتَحَلَّى مَنْ تَحَلَّى بحَلْي حُسْنِ مُناوحتهِ، أخذَ بِرُدْنِي أخذَ المُباهِي، وقالَ: فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغُوا من فَضل اللهِ، فأقمتُ عندَهُ تتمةَ نهاره، راتعاً في خمائلِ أزهاره، ثم استأذنتُه في ذهابي إلى مصاحبةِ صِحابي فقالَ لِي: قُمْ يا نُصيِّفَ أدبهِ، ووصيِّفَ قبقبه، الراغبَ في خَبَبه، الزاهدَ في نُخَبهِ، عبدَ الطعام عندَ المطعام، السائرَ إلى الأنعام بأكارع النَّعام، فانهَضْ نهوضَ مَنْ حاذرَ الغَبَنَ، واَضطغَنَ ضفْثَ ضغنه واضطبنَ، الصيفَ ضيعتِ اللبَن، ثم أنشدَ: الطويل:ّانَ، العادل الديّانَ، قاسر سِقَاط الساقطينَ، كاسرَ عساكر القاسطينَ، ساطحَ هالةِ الهدايةِ، ناشرَ راية الدرايةِ، ناسخ آيةِ الغيابةِ، ناحض داحض الإيالةِ، قارضَ عارض الجَهالةِ هاديَ العهد الهاطل، أهل العدل الآهلِ، ذا الظلِّ الظليلِ، العالي الجَدِّ الأثيلِ، الذي شَرعَ الصلاةَ، إذ ذللَ لآياتِ آياتهِ اللات، أرسل جَدّ الحسنين، عارياً عن الشَّين، عالماً على النيّرين، نذيراً إلى الثقلين، جادعاً عرنينَ العنادِ، رادعاً إرعادَ الأندادِ، طالعاً كاهلَ الشَّدادِ، قاطعاً أعناقَ الأضدادِ، نازعاً أسنَّةَ الاختلالِ، قادعاً نِضالَ آلِ الضَلال، صلّى عليهِ صلاةً رائجةً لا انقضاءَ لرشَدِها، غاديةً لا انتهاء لعددها، خاليةً لاَ انحلال لحلالِ حَلالِها، عاليةً لا اَعتلالَ لجلائلِ جَلالِها، خدينَ الخِداع ذا الخِتلِ الخدَّاع، تذكَّرْ هِزّة الرحيلِ، حالَ ارتحالِ الجسدِ النحيل، حالَ صكَّةِ القَلَقِ، حال شِدَّةِ الشرَق، حالَ شَدِّ الخِناقِ، حالَ اعتناقِ خَيْلِ الانخِناقِ، آهاً عليكَ، أرسلتَ رائدَ الدَّنَسِ لديك، هَلاّ تدثرتَ صاهلَ صلاحكَ، هل انتجعتَ غَيْثَ إغاثة إصلاحكَ، هلاّ نتقت جانحَ جناحِك، هَلا حَدَجْتَ ساجحَ نجاحِك، لترِدَ السَّاهرةَ عريّاً عَنِ الدينِ، خليََّ الأخدَعَينِ، أيَّدَك لإهداءَ هَدْي هذي الشريعةِ، لا لنَحْرِ حِقِّ حَقِّ هذه الشيعةِ، قالَ الراوي: فحينَ تخلَّى مِنْ نَشْرِ صُحُفِ فَصاحته، وتَحَلَّى مَنْ تَحَلَّى بحَلْي حُسْنِ مُناوحتهِ، أخذَ بِرُدْنِي أخذَ المُباهِي، وقالَ: فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغُوا من فَضل اللهِ، فأقمتُ عندَهُ تتمةَ نهاره، راتعاً في خمائلِ أزهاره، ثم استأذنتُه في ذهابي إلى مصاحبةِ صِحابي فقالَ لِي: قُمْ يا نُصيِّفَ أدبهِ، ووصيِّفَ قبقبه، الراغبَ في خَبَبه، الزاهدَ في نُخَبهِ، عبدَ الطعام عندَ المطعام، السائرَ إلى الأنعام بأكارع النَّعام، فانهَضْ نهوضَ مَنْ حاذرَ الغَبَنَ، واَضطغَنَ ضفْثَ ضغنه واضطبنَ، الصيفَ ضيعتِ اللبَن، ثم أنشدَ: الطويل:
تركنا لكَ الترحالَ حينَ تركتَنا ... على قلَق عاري الأضالع عائرِ

ترّكناكَ لا ترجعْ إلينا لأنَّنا ... عهدناكَ خِدْناً للقِصاع الصغائرِ
قالَ: فشُدهتُ بإنشادِ البيتينِ، العريَّيْنِ من تحرُّكِ الشفَتينِ، وأقبلتُ بعدَ انحرافهِ، على تقبيلِ أطرافهِ، إلى أنْ سكَّنَ هَمَّهُ وسكَنَ ما أهمّهُ، وجعلتُ أكتفي بكؤوس مُضْحكاته، وأَصطَفي من لَبُوسِ حِكاياته، ما نسيتُ بهِ مغازلةَ الأوانس، وهويْتُ فيهِ مجانبةَ الموانس، حتى أمالني، إلى الغُوطةِ شَطَنُ شَيطانِ التشيُّط المَريدِ، واستمالَني نَيْرِبُ نَيْربِ بابِ البريدِ، فعرّضت بمعاودةِ العَطَنِ، وتخفيف أثقالِ فَقَارهِ والقَطَن، فقالَ لي: إنْ كنتَ تطمَع في المسيرِ، وتقنعُ مِن مصاحبتي باليسير، فأطعْ إرادتَكَ ودَعْني، ومَنِّني بطِيبِ عَوْدِ عَوْدِكَ وعِدْنِي، ثمَّ أَمَرَ بإحضار أصحابي، بعد تتابُع انتحابي، وسردَ عليهم سورةَ العويلِ، وعرضَ لديهم زنجيَّة ذلكَ التعويل، فأظهروا كنوزَ بكائهم، وأبرزوا مكنوز برحائهم، وهطلَتْ مدامع ذلكَ العبقريِّ، وجَرَى الوادي فطمَّ على القَري ولما مضّهُمْ ضَيْمُ ذلكَ الرُّداع، وتفاءَل كلٌّ بقَلْب ذاكَ الوَداع، أقالَ وقالَ وهَجّرْتُ بالهواجر وقالَ: الطويل:
أفارِقُهُ والنفسُ ليسَ تُفارق ... وأصدُقُهُ الصَّفْوَ الذي هو صادقُ
وأصْفِي له ودِّي وإنْ ظلًّ ظاعناً ... تُسامِرهُ دونَ الرِّفاقِ الأيانق
وأغضِي على لَذْع الرحيلِ وأنثنِي ... على طُور ذا التَّفريقِ والقَلْبُ صاعِق
وإنِّي وإنْ عزَّ اللقاءُ وأترِعَتْ ... بحارُ الجَفَا راج جَنَى العَوْدِ واثقُ
قالَ: فرثيتُ لُهزالِ ذاكَ السمينِ، وإظهارِ جَيْش ذيَّاك الكمينٍ، وأذريتُ لآلئ الدمع الثمين، وفارقتُهُ مفارقَةَ النكاح مِلْكَ اليمينِ.
المقامةُ الثانيةُ والأربعونَ الصوفيّةُ الأرز نكانيّة
حَدَّثَ القاسمُ بنُ جريال، قالَ: سَمَتْ بي قَدَمُ الذِّمَم الوفيَّةِ، والهمَم الصَّفيَّة والعفَّةِ المصطفيّةِ، إلى مصاحبةِ الصوفِيّةِ لأكتَسَي صَوت صُماتِهم، وأكتسبَ حُسْن سمتهم وسِماتِهم، فدخلتُ الحمّامَ لأبيدَ الوَسَخَ، وأعيدَ من سُوَر التنظُفِ مَا انتسخَ وحِيْنَ حَلَقْتُ لمَّتي، وأرقتُ ماءَ مُلَمّتي، زَهِدْتُ في عُنْصرِ الصَّخَب وخَصْلهِ، وصدفِ كِيس المكاسب وخَضْلهِ، الطويل.
وقلتُ على اسم الله هذا بفضله ... فلا زلتُ مشمولاً بفَضْفاض ذا الفَضُل
فما أسعدَ الإنسانَ إنْ باتَ خاليَاً ... خليّاً من الإخوان والمالِ والأهل
فما الذي أغنَى الملوكَ وقد ثوتْ ... تحيت الثَرَى رغماً علَى فرش المُهْل
وماذا الذي أبقَى الزَّمانُ وصَرْفُهُ ... على مَنْ مضَى قُدْماً مِنَ الكُثْرِ والقل
فكم مَزَّقَ التفريقُ قُمْصاً على أمرئ ... وكَمْ خَدَّد الإخوانُ خَدَّاً على خَلِّ
فلا تَحْسُدِ الحرِّيصَ يوماً لوَبْلِهِ ... فكم وابلٍ أمسى أقلَّ مِنَ الِّطل
وكم رَبِّ بُخْلٍ حامَ في حَوْمةِ الشّقا ... وكَمْ رَبِّ ظلِّ ظَلَّ في ناضر الظل
وكمِّ طامع ألقاهُ في الهُونِ حِرْصُه ... فأضحىَ سَليبَ العِزِّ في كِفِّة الذُلِّ
فأفٍّ على أفٍّ لِمَنْ باتَ قَلْبُهُ ... حليفَ مُنىً رهْنَ المَطامع في قُفْلِ

قال: فلم أزلْ ألامسُ أربابَ هذي الطريقةِ وألابسُ، وأجالسُ أزهارَ هذِه الحديقةِ وأمارسُ، وأجوبُ كلَّ فجٍّ عَميقٍ، وأشوبُ الدَّعَةَ بكلِّ قُطرِ سحيقٍ، إلى أنْ مجَّني فم حُلقوم القَدَرِ المرقوم، إلى مدائنِ الروم، معْ معاقرةِ القُروم، فجعلتُ أجتَبي بَلدة تصلحُ لطلبي، ولا تفضحُ ستورَ مُتَقَلبي، ففرَّحني لفِكرُ المدقِّقُ، وسَّرحَني الحِسُّ المحقِّقُ، إلى استحلاس أرزنكانَ، وقد كانَ مِن شدةِ المحافظةِ ما كانَ، فدخلتُها فَرِحاً باهتزازٍ، دخولَ مَنْ حَظِيَ بركازٍ أو مُنِح بقبض توقيع اعتزاز، فبينَا أَنا أطوي المَناهجَ، واسْتَنْشرُ المعارجَ، واسترشدُ الساكنَ والمارجَ ألفيتُ صُوفيَة صَفَتْ صِفتُهم صَفاء الزلالِ، وضَفَتْ مودَّتُهم المائلةُ عنِ المَلالِ. وأنحفهُم محالفةُ الاجتهاد، وأسكَرهُم كأسُ سُلافِ السُّهادِ، فسَلّمْتُ عليهم تسليمَ مَنْ وَلَجَ في مَضيقهم، وصبرَ على صبر ضُرِّ ضيقِهم، فانثالُوا إلى مصافحِتي، وانهالُوا للالتحافِ بلِحافِ ملاحفتِي، فاَبتهجتُ بتعييدِهِم، وأكرموني إكرامَ عميدهِم، وأنا مَعَ إجادةِ تُؤدتِهم، وحسَنِ مودتهم، أعجبُ لجَودةِ اَرتباطِهم، ولا أعلم مَنْ زعيمُ رِباطِهم، لإنفاقِهم من ذلكَ الإلمام، واتفاقِهم في السَّحْلِ والإبرام، وحينَ شرعَ البَشرُ في الصِّياح، وانتشرَ ريشُ جؤجؤ الفَلَق والجَناح، أخذتُ بعد نَهْلِ نعيمِهم، في استعلام خبرِ زعيمهم، قالوا: اَعلمْ لا زلتَ عينَ العزيزِ، مضاعفَ التعزيز، أنَّهُ درجَ منذُ أيام قلائلَ، فشققنا لفراقه الغَلائلَ، أنفقنا لتجهيزهِ الجلائلَ، وطُفْنا بعدَ دَفْنهِ القبائلَ، فلم نرَ مَنْ يَليقُ لمَسْنَدهِ، ولا مَنْ يُطيقُ قَبْضَ قائم مُسْنَدهِ، وأمَّا الآن فقد مَنَّ اللهُ علينا، بقدوم قدمِكَ إلينا، ونَحنُ نَمُدُّ إلى سماء إحسانِكَ أكفَّنَا، لتحسمَ نظرنَا عن غير زعامتِكَ وتكفّنا، لِمَا شاهدْناهُ من شَرَفِ شِمالِكَ، وعَدَم جَنُوبِك في المُجانبة وشَمالِكَ، ففي قَبولكَ أنفسُ مسرَّةِ، وفي ضمَّنا إليكَ أعظمُ مبرّةٍ، فقلتُ لَهُم: أنَّى تُظلّلُ الدّوْحَ الأجارعُ، وتعلو على رؤوس السادةِ الأكارعُ، أم كيفَ يرتاحُ مَعَ الخليَ النازعُ، وتنقادُ بِرَسَنِ يدِ النَّسيم الزعازعُ، وأنىِّ لِما ذكرتُمُوهُ وَجومٌ، فَكَمْ صرَع هجومٌاً هجوم، وما أمّلتموهُ فملومٌ، وما منّا إلاّ لَهُ مَقامٌ معلومٌ، فقالوا: قد رأْينا قربَكَ نعيماً، ورضيناكَ لرَهْطِنَا زعيماً، فأجِبْ لِنُسعدَ بد، ونكتسبَ عقودَ أدبِك، قالَ: فأجبتُ إلى ما سألوهُ، وبذلتُ لَهم مِنْ خِزانةِ الإجابةِ ما اَستبذلوهُ، وبينما أنا ذاتَ ليلةٍ أطْرِفُ. بِما أقولُ، ونَشُولُ عَلَى ألسنة أسِنّة السَّهرِ بما نقولُ، إذ قرعَ حلقةَ البابِ، مع انسكابِ الرَّبابِ ضيف اعتادَ الطروقَ، واَتّخذَ مصباحَهُ البُروقَ، وقالَ: يا قضَاةَ القُضاةِ، وأساةَ الأساةِ، وفرسانَ التجمُّلِ، وإخوانَ التّململِ، هل لكُم في إيواء غَرْيب سائح، وزهيدٍ نازح، وفقيرِ طائح، ووقيرٍ نائحٍ، قد أذلَّتُهُ حنادسُ لونها الحَمَمُ يَسودُ، وأضّلته ضِباعٌ المَضْيعةِ، والأسودُ، وهو مَعْ صَعَرِ اللِّيتِ، وصَفَر الحَميْتِ، مستغن عن البِيْتِ، مفتقر إلى المَبِيْتِ، قال القاسمُ بنُ جريالِ: فلمّا نبأتْنَا بوارقُ غَمامهِ بما سيطفحُ من سيولِ إلمامهِ، وعرَّفَنا عَرْفُ عباراتهِ، بما سيتوقَّدُ من حرارةِ محاوراتهِ، أيقْنا أنَّهُ مِمَّنْ يثابرُ على مناظراتهِ، ويبادرُ إلى حلِّ حلاوةِ حُلْوِ محاضراتهِ، ولمَّا ردَى نحونا وردينا، وطالعَ صبحُ صَباحةِ قربهِ فاهتدينا، ألفينا عليهِ شعارَ الزهَّادِ، واستشعارَ العُبَّادِ، وإماراتِ الجوع، وإشاراتِ الخشوع، فاستحضرنا نفاضة الزبيلِ، وملنا إلى غَمْزِ يدهِ أو التقبيل معتذرينَ لذلكَ القَبيل، فأعرضَ عن

النفاضةِ، وعرَّضَ بدُخولهِ في الريَاضةِ، ثم أقبلَ يُسمعُنا من لمحاتِ حقائقهِ، ما يُغنِي عَنْ نفحاتِ حدائقهِ، ويَنْشُرُ من لَطيفِ طرائقهِ، ما اَنطوَى عَنْ بهجةِ نُضَارِ النَّضَارةِ ورائقهِ، حتَّى اقتنصَ بمَخْلبِ بَراعتهِ حبّاتِ البصائرِ، وقَنَصَ عينَ عقولِنا بطوال عرائسه القَصائرِ، ونَقَصَ قطرُنَا عندَ سُحُوح سَحائبهِ، ورقَصَ حَبَبُ إفصاحهِ، على رؤوس كؤوس سبائبهِ، فشُغْلنا بذلكَ الشِّهادِ، عن مراجعةِ الجِهاد، واشتغلْنا بذلكَ الإروادِ، عن مُراودةِ الأورادِ ولمّا فَرّتْ جَحافلُ جهادِنا، وكرَّتْ كتائبُ رقادِنَا، انكفأَ كلٌّ إلى مرقدهِ، وقد شُدِهَ بأسودِ إرشاده ونقدهِ، فانطلقتُ بهِ إلى مَخْدَع شاغرٍ، وأنا بمدح فضائلهِ أفضلُ فاغر، فتهلَّلَ لمفارقتهِ، واستقبلَ قنابلَ قبلتهِ، وباتَ محتجباً عن الرِباطِ. لا تلجُ مقلتُهُ بينَ خلَلِ الرقدةِ والرباط، حتى أويْنا لطولِ قيامهِ، ورثينا لأفولُ منامِهِ، وأخذْنا نعجَبُ من بَدائع عاداتهِ، وعظمَ طلائع عبادته، ونقول: حينَ حسمَ حبالَ التهويم، وأعجزنا بوسيم ذلكَ التسويم، وأخرس الألسنَ بنثرِ نثرهِ النِظيم، يختصُّ برحمتهِ مَنْ يشاء واللهُ ذو الفضلِ العظيم، قالَ: وكنتُ لمّا ندَّد بمعانيهِ، وبرَّدَ بينَنا لطائفَ ما يعانيهِ، أَظُنُّ أنَّ أبا نصرِ جالبُ هذهِ الآياتِ، وناصبَ قَصَبِ هذهِ الراياتِ، وأنا فلا أتمَكّنُ من تدقيق النظر فيهِ، لاَزدحام حِزَقِ معتفيهِ، فلمَّا استبَاحَ مِنْ حلائلِ سَحَرهِ ما استباحَ، وهَزَمَ معسكرَ الصباح المصباحَ، ألفيتُ مَعَ صَيِّب نَصْرِنا، صاحبَ نَصْرِنا أبا نَصرِنَا، فأقبلتُ إليهِ إقبال العِشْرِ الشاربِ، على طيب مَشَارع المَشاربِ، فقالَ لِي: أراكَ عدْلتَ عن مَبْيَع المُجْتدي، واَعتدلتَ عند اعوجاج المعتدي، فقلتُ له: كيف لا وسيبُ سيرتك أجتدِي، وبسَبَب سَنَنِكَ أقتدِي، ومن يهَدِي اللهُ فهو المهتدي فقالَ: الحمدُ للهِ الذي اطلعَ في خضراء عِفتِك: غمائم جابتِهِ، ورفع على جباهِ معرفتِك عمائمَ إجابتهِ، وندَبَك إلى طريقِ طاعتهِ، وضرَبَكَ في قالبِ أهْل إطاعتهِ، فطوبَى لِمَنْ أخلصَ في قِصاصهِ، وتذكّرَ يومَ قِصاصهِ وفَكّر في خَلاصهِ، لإتقانِ إخلاصهِ، ثم إنه شكَرَ ذلكَ القال، وشَهَرَ شَبا مشرفيِّ قيلهٍ وقال: الوافر:
لقد ضَل أمرؤ أمسَى عكوفاً ... على رَاح الجَهالةِ والشموع
يبيتُ وطَرفُهُ سام طَموحٌ ... إلى خَوْدِ المطامع والشّموع
ويُصبحُ قلبُهُ في حَصْرِ حِرْص ... قَنيصَ نقيصَةٍ صِنوَ الوُلوع
ويمسي هَمهُ كَسْبَ المساوى ... بسُوقِ فسوقِهِ السَّاهي الوَلوع
ويَبرقُ عقلُهُ منَ برقِ تَوْقٍ ... إلى الرَّاووقِ مَمْقوت اللموع
ويْرفلُ تائهَاً في رِفْل ثَوْبٍ ... يَثوبُ بذمِّهِ الدَّنَس اللَّموع
وتجْذِبُ لُبَّهُ بُرةُ الأماني ... بكَفِّ رَجائهِ الوافي القُنُوع
فيا نُعْمَى لَهُ لو ظلَّ يَوماً ... بظِلِّ قَنوطِهِ عَيْنَ القَنوع
قال الراوي: فازددتُ بأبياتهِ حماسةً ونُسكا، وقَنِعْتُ بما يكون للرَّمْقِ مُراقَة ومسكاً ولمّا أسنَّ إنسانُ ليلنا، ومَنَّ المَلَلُ سِنانَ مَيْلِنا، أحضرْنا ما تخلَّفَ مِنْ خِواننا، وأظهرْنَا لَهُ ما استتَر في صِواننا، فأخرجَ مَريساً مِن جِرابهِ، الذي اضطبنهَ وجرى بهِ، وقالَ لنا: مُذْ طلّقتُها كرهتُ بَنيهَا، وكلفت بتَرْكِ مواكليها، فقالوا لَهُ: فخوّلْنَا ممّا لديك، لتحلَّ البركةُ بحلولِ يديكَ، فقَدّمَ لنَا وعاء مريسهِ، ولَمْ ندر أنهُ شَابَ حلاوةَ مريسهِ، بمرِّ مرمريسهِ، وحين حصلَ بالمِعَدِ، وشَمَل كُلَّ العَددِ، إنصرعَ كلٌّ علَى مُصلاهُ، واَرتفعَ قَطَنُ فقارهِ وصلاهُ، فمالَ إلى كَسواتنا، وتركنا بانحسار سوءاتنا، ثمَّ انسابَ بالبابِ انسيابَ الذُّباب، فكنتُ أَوَلَ مَنْ غُمِط حقُهُ، وقَصِدَ مَحْقُهُ، وأطربَهُ فِلْقُهُ، وصَحبَهُ دِلْقُهُ.

المقامة الثالثة والأربعون الدمشقية

أخبر القاسمُ بن جريال، قالَ: جَنَحْتُ حينَ جُنوح النَّوائب، وسُحوح أَنُوح الركائبِ، ونُكوص شُصُوص المَصائبِ، وخُصُوص خلوصَ الرَّغائب، إلى مُحادثةِ الحبائبِ، ومُناوحةِ هذي السَّحائبِ، فألقيتُ مِنْسَأَةَ الارتحالاتِ، واتَّقيتُ أراقمَ الانتقالاتِ، وأقبلتُ أروضَ الذِّعبليّاتِ، وأتوسَّدُ الحشيّاتِ بالعَشيّاتِ، وأهزُّ أغصانَ المُصاهرةِ، وأبُزُّ لها أثوابَ المُثابرةِ، وأَمْرَحُ بحُلَلِ الأرْيحيَّةِ، بين حدائقِ الصالحيّةِ، يُساعدني مُساهرةُ القمرين، ومحاضرةُ الأحمرين، ومسامرةُ الأسمرين، فبينما أنا قافلٌ من مَغَارةِ الدَّم، رافلٌ بالخَدْين المُخدَّم، أترنَّحُ ترنُّحَ المِزْهَري، بالرِّيح العنبريِّ، على شاطئ السَّريِّ، بالطِّرْفِ العَبْهرى، إذْ لحظتُ بالطَّرفِ البَريِّ، فُرَيْخَ أبي نصرٍ المِصريَ، وهو يلتوي لغَيْثِ غَرَثِهِ، ويَرْعَوي لِعَيْث شعَثهِ، ويَنْضَوي لفَيْض قَضَفهِ، وينطوي لنَشْرِ شَظَفه، فاَلتفتَ إليَّ اَلتفاتَ العاتب، ورمقَني بحُسْن لَحْظهِ المُعاتبِ، وقال لي: شغلكَ عنِّي ببابِ البريد، طُلاوةُ دَثركَ الرَّبيد، وألهاك كثرةُ الثريد، عَنْ حفْظ ودنا الرَّثيد، وحجبَكَ عَدَمُ عَقْلك الرِشيدِ، عن إسعافِ الشَّادنِ الشَّريدِ، وأعجبكَ مكاثرةُ العَبيدِ، إنَّكَ لفي تِيه تيهِكَ البعيدِ، فقلتُ له: معاذَ اللهِ أنْ أَكفَّ وَكْفَ هذهِ الدِّيمةِ، أو أتناسىَ سَحَّ عهدِ العهودِ القديمةِ، ثمَّ إنِّي أحللتُهُ قَريعة قراري، وأجللتُهُ بتجديدِ وَكيرةِ داري، ونفحتُهُ بجبّةٍ وحظيّةٍ وعمامةٍ قاضويّةٍ، وأمرْتُ بإحضارِ الأَطعماتِ، والجِفانِ المُطعِمَاتٍ، وبقيتُ مدّةَ مُقامهِ لا أسألهُ عن نوازل الزمن واَنتقامه، إلى أن ذكر لي أن سببَ كسرِ ساعدهِ، اَنزعاجٌ حصلَ بينَهُ ووالدهِ، فقلتُ له: إنِّي لأرى المبادرةَ إلى الاصطلاح، عَيْنَ الصَّلاح، والمسابقةَ إلى سبيل هذا الفلاح، أولى من تقبيل فَم قُبح هذا القُلاح فالصوابُ أنْ تَنْصَبَّ إلى منْ يكْثِرُ خُبوُب خوابيْكَ، ويملأ جيوبَ جَوابيكَ وتَخْلَعَ شِعارَ تَغابيكَ، وَتخْفِضَ جَناحَ المذلَّةِ لأبيك ومتى خالفتَهُ وعصيت، وأسرَرْتَ عقوقَهُ وتعاصيتَ، قلَّ نيلُكَ، وكثُرَ مَيْلُكَ، وطالَ ويلك، وقصر ذيلك، فمِثلك منْ أكرمَ والدَه وبر، وأبحرَ إلى حِواءَ إحسانِه وأبر، قالَ: فجعلَ قُبَلَ عَروس وَصيَّتي قَبولاً، وفتحَ لَهُ مِنْ رِيْح حُسْن قَبولهِ صبَاً وقبولاً، قال القاسمُ بن جريالِ: وكنتُ أنشأتُ مدّةَ مَدِّ الطّوائلِ، وإدبارِ أَدبار الغَوائلِ، داراً دارتْ في فَلكِ الفِخارِ، وأدارتْ دِرَر تَسْنيم نَسيمها الزخَّار، وحَسَدَ فِردوسُها سَنَا سَعَدِها المكينِ، وسَجَدَ لآدم دُمَى أركانها ملائكةُ التمكين، بينما نحنُ ذات يوم نتتبَّع بدائعَ المُداعباتِ، ونتوقعُ ذخائرَ المخاطباتِ، إذْ دخلَ عليَّ وصيف، بكتابٍ ما رُفعَ لَهُ نَصيفٌ فكسرْتُ صِمامَهُ، وشكرتُ اهتمامَهُ، فإذا هو مِنْ أبيهِ، ذي الفَضْلِ النبيهِ تتضمَّن دُرَرَ ألفاظهِ المُجيدةٍ، تهنيئةً بنزولِ الدارِ الجديدةِ، لا يُعيبُ ذوائبَ عروسِها قَطَطٌ، ولا يَشُوبُ شمولَ شُمولِ إنشائها نُقَ، وهي: أطالَ اللهُ طِوالَ الطَّوْدِ الأَطولِ، والمالكِ الأكملِ، وأدام دُولَ آدهِ ووطَّدَهَا، وعدَّلَ دعامَ عُلوها وأسعدَها، وحرسَ سوامَ سُموِّها وسرمدهَا، وحسمَ حسودَ حولِها وأكدها، وألهمَ كحْلَ حِكمهِ كحْلَ سوداء، سِرِّهَا ومِرْوَدَها، وأمرَ عَددَها وعُددَها وأمرَّ كأسَ أعداءَ عَمْرِها وأوعدَهَا، وسدَّدَ أراء سَعْدِها ومَعْدَدِها، المملوكُ أصدَره حاملَ دُرِّ مِدَح لا ساحلَ لمدَدِ مَدِّهَا، ولا حاسمَ لحللِ حَدِّ حَمْدِها، ولا صارمَ لعرمرِم عِهادِ عهدِها، ولا طاسم لحَدَ دُورِ درورِ وُدِّها، ولا هادمَ لأسس سُؤْددٍ سَرْدِها، ومادحَ حِوَاءَ حُرِّرَ للعطاء والكَرَمِ، وأهِّلَ لصُعُود صعودِ السماحِ والهِمم، أمدَّهُ اللّهُ مَدَد الدُّهورِ والأَعوام، وأحلَّه مَحَلَّ الصارِم الصَّمصام، لا الطّالحَ الكَهام: الكاملَ:
دارٍ سمَا سَعْدَ السُّعودِ سماؤها ... وسُموُّها وسَلا اللَّعا حُسَّادُها
دامَ السرورُ مَعَ السعودِ وحَلِّها ... وأسالَ سَحَّ سَدادِها إسعادُها

عطّر اللهُ صدورَ صلاحِها المُحسَّد، وكرَّم مكارمَ كَرَمِها المحمَّدِ، وما دار عاطلٌ، وأطلَّ هاطلٌ، وعطل آهِلٌ، وسرحَ صاهلٌ، وسطَا سامُه وسمَا سامهُ وَسامُهُ، وسَلَّ حُسامَهُ إسلامُه، وإكرامهُ لمحمَّدٍ وآلهِ وسلامُه.
قالَ: فأقبلتُ أفكرُ في حلاوة رُضابها، وَنضارةِ اقتضابها، وإجَادَةِ حَثْلِها، والعَجْز عن رَدِّ جواب مِثْلِها، فقالَ لي اَبنهُ: أرى حَلَّتْ بحُلولي الألوكة ركائبُ افتكارِكَ، ونزلتْ بنزولِ هذهِ الرسالة مقانبُ اصفرارِكَ، فهلْ لكَ في أَن تعرِّفَني فَحوَى هذا المسطورِ، أو تشنفَني بما اَحتَوى عليه صَدْرُ هذهِ السُّطور، فقلتُ لَه: ليسَ بها ما يُوهِنُ، ولا اشتملَ عُنوانُها على ما يُحزِنُ، وإنَّما هي مالكةُ أبيكَ اليمِّ، الفائض الخضم، تترجم عن ذيت وذيت، لا عما ارتديت من سوء سفهك واحتذيت فسبَبُ هُمومي وتَلاطمُ وجُومي، عَدَمُ رَدِّ الجَوابِ بالصفةِ، والاعترافِ بالتقصيرِ من جملةِ المعرفةِ، فقالَ لي: أتهتمُّ وعندَكَ المطَرُ الخارجُ من غَمامِها، والثمرُ البارز من كِمامِها، والشِّبْلُ المستنجلُ من أَسَدِها، والظلّ المِستخرجُ من مُسْتاسَدِها، فلمَّا سمِعْتُ تقريد أليفاظه، وشكرتُ شَيْمَ شرر شُواظهِ، ألقيتُ إليه الكتابَ، وقَدِ ازدحَمَ جحْفَلُ الخَجَلِ وانتابَ، فحينَ فهم مضمونَهُ، وفَقهَ ما تَقِفُ الأفهامُ دونَهُ، دَفع إليَّ دواتَهُ، ووضع بمنجنيقْ الفِكرِ مِرداتهُ، وقالَ: اكتبْ: وردَ الصَّادرُ الأكرمُ، والوارد المكرَّمُ، أدامَ اللهُ سُعود مُرسِلهِ ومَدَاهُ، ودلَّه لأعلام المحامدِ وحَدَاهُ، ودَلَّهَ عدو حَولهِ وحِمَاهُ، وأمَدَّ سموَّ سماء سَعدِه وحمَاهُ، ومهَّدَ مِهادَ عدلهِ وهداهُ، وطول طَولِ طوله وهُداهُ، وصَرَمَ عِصَمَ هَمِّهِ وعدَاهُ، وطمس صورَ حسَّادهِ وعِدَاه ورودا أمطرَ رُكامُ وصولهِ دُرَرَ الكَلمِ، وأصدرَ دأماء حُصولهِ سَحَّ سِحْرِ حَلال الحكم ودَحَا مُراحَ المَرح سِوادُها، ومَحا سُوَرَ عُكاِمس السَّدَرِ أرْآدُها الكامل:
ما الدّرُّ الدَّرورُ وسحه ... لمّا عَلاَ صَدْرَ الطّروسِ مِدادُها
ملا الصُّدورَ سرورُ حُلْوِ حلولها ... وسما وما حُرِمَ السَّما روَّادُها
عَمَرَ اللهُ معالم إرعادهِ، وعمر عساكر إسعادِهِ، وأهلَّهُ لصلاحِ مَعَادهِ، ومَدَّ دَوَّ وِدادِهِ وعَراهُ، وأسعدَ ساعداً أم أمَّهُ وعَراهُ، وأحْكَمَ وِعَاء عَلاءَ عِلْمهِ وعُرَاهُ، وكَساهُ دُروع عُلُوِّ عملهِ ولاَ أعراه، وألْهمَ هِمَمَ مملوكهِ، وحامدَ لألّ لؤلؤ ألوكهِ، حَمْدَ ما لو اَسطَاعَ هداء روحه ما أسَدَاهُ، وكمل لحم كرمه وسداه، لما أداه ما كلم الإكآم، واحلولك الركام وعمر الإسلام، ووصل السلام والسلام.
قال الراوي: فعجبتُ من مَلاحةِ وشائهما، وفصاحة إنشائهما، واشتباه نصاحهما، وانتباه إفصاحِهما، وقلتُ، عندَ انصبابِ ذاك الهباب، وانسكاب ذيالك الإلباب يُؤتى الحكمةَ مَنْ يشاء ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب..
المقامة الرابعة والأربعون التجنيسية القَزْوينية
روَى القاسمُ بنُ جريالِ، قالَ: ما فتئتُ مُذْ حَرَصْتُ على النَّضَارة والنضَالِ، وخلصتُ مِنْ قِسيّ الجهالةِ والنِّصالِ، واَعتليْتُ قُنَّةَ الإقبالِ، واَحتذيتُ قبائلَ الأقتالِ، وقَلَلتُ قُلَلَ الجَنَفِ والاحتيالِ، وخلعتُ خاتِمَ خِنْصِرِ الخديعةِ والاختيالِ، أتوخَّى قليلاً لا يَحتذي لاحبَ خيانةٍ، ولا يحتذِي رَواحب جنايةٍ، ولا يَجْحَدُ لي إيالةً، ولا أحمِلَ من ثِقَل إبَّائه إبالةً، إلى أن ظَفِرْتُ بخلٍّ مُخْضَرِّ النعال، غير مُتَقَلْقِلٍ لمفارقةِ البِعالِ، ذي جَنان مِزْحَمٍ، ولسانٍ مِرْجَم، يسبحُ العائمُ في لُبَابهِ، ويركع إيوانُ كسرى لِبابهِ، لا يميلُ عنْ حِبابهِ، ولا يستنجعُ محارِمَ جَنابهِ، ولا يَفْري بغَابهِ، عِرْضَ منَ اتَّشحَ بعَابهِ: الطويل:
فكانَ على أزْم الخَنا وخِطابهِ ... أخا خَفَرٍ لا يَخْتَلي غيرَ طابهِ
وكانَ على رَشْفٍ الشرى ورُضابهِ ... أبا سَفرٍ لا يَجْتلي ضَيْمَ ظَابهِ

فلم أزلْ منذُ أحسن وَربي، وخوَّلني رُخالاً ورُبِّي أشكرُ شَيْمَ تلك الخلالِ، وأسكنُ في وَسيم ذاكَ الحِلالِ، وألتحِفُ بشف تِيْكَ الشِّمالِ، وأتصف بسَف سَفوفِ نَسيم الشمالِ، إلى أنْ مجَّنا فَمُّ قَزوينَ بعدَ طُولِ النَّقلِ، واَحتمالِ الصَّارم الثقيلِ، فولجتُها بقَلْبٍ قلّبَ ما نَضبَ وَدرَّ، وقلّبٍ جرَّبَ ما غَرَبَ وذَرَّ، لنكتَسِبَ ضَرَبَ زُبدِها، ونَخْتَبرَ شَرَفَ رُبَدِها، فحين طافتْ علينا طوائفُ إبداعِهم، واَصطافَتْ أسماعُنا في طرائف إيداعهم، ألفيتُهم سِّن يفضِّلونَ أصواتَ الجُدَاةِ، على طِيبِ نَغَماتِ الحُداةِ، لا تَنسى بمناسمةِ وسنانِها، مصادمةَ عاملِ الغيِرَ وسِنانِها، ولا تَسْتُرُ مَرأى عيانِها، مخافةَ انتجاع عَنانها: الكامل:
فَهُمُ السحائبُ إنْ تعذَّرَ هاطل ... يوماً وأقلعَتِ السماءُ وشحَّتِ
ومَتى ترنَّقَتِ المواردُ أو خَلتْ ... جادتِ بثجَّاج النَّوالِ وسحَّتِ
وإذا تزاحمتِ الحروبُ وحَمْلَقَت ... قامَتْ على قمَم القُبول وشَجّتِ
وإذا تهتكتِ السُّتورُ ومُزِّقَتْ ... سدَّتْ كُوى بِدَع الهَناتِ وسَجَّتِ
قال القاسمُ بن جريالِ: ثم لم نزلْ نرتعُ في حِمَى حِوارهِم، ونَرْبعُ حَجرَ حِجْرِ جودةِ جوارِهم، ونَشْتارُ مِنْ شهْدَةِ نشاطهم، ونَمتارُ من زُبْدَةِ سَعَةِ بساطهم، حتَّى بُهتنا بَهتونِ هباتهم، وشُدِهْنا بشيْم شآبيبِ هيئاتِهم، ولمَّا حانَ حِيْنُ الارتحالِ وطابتْ بوصفهِم جلائلُ الارتجالِ، عَرَضَ لَهُ دِقٌّ اندقَّتْ فيهِ صِعادُ صَبره وبارتْ، وهاجَتْ بهِ هُوجُ ريْح تَباريحهِ وثَارَتْ، واَنجزلَتْ حِبالُ حِدَّتهِ وحارَتْ، وانخزَلَتْ جِبالُ جدَّتهِ وخَارتْ، فلمَّا عالَ عَناؤهُ، واستطالَ عياؤهُ، وتغيَّرت سحناؤهُ، وكرَّتْ من كَمينِ الكُرَبِ شحناؤهُ، واَنشقَّ مِنْ مشقَّةِ المَرَض شقَّاهُ، وسَقاهُ كأسُ السَّقَم ما سقاهُ، وعَزاهُ إلى الرِّمَم ما عَزَاهُ، وغَزاهُ مِنْ غُزاةِ الرَّزايا ما غَزاهُ، طاحتْ عليهِ رَحاَ الحِمام، وناحَتْ على آدابهِ وُرْقُ الحَمام، فبادرتُ إلى إحضارِ، حنوطهِ وغِسْلهِ وتنظيفِ رداءَ دَفْنهِ وغسْلهِ، ولمّا ضمَّهُ بُهرة لَحَدِهِ والحوافي، وأنبتَ الأسف عُوجَ قوادم الجَزَع والخوَافي، حَضرَ واعظٌ قَدْ لوَّحَتْ حَرورُ الهَرَم وجوهَ قطَنهِ، وصوَّحتْ رياحُ الحِكَم حدائقَ فِطَنهِ، فقعدَ من حيثُ نرقُبُه ونرَاهُ، وقد تَبعَ قَرَنَ المقاربةِ وتَراهُ، فلمّا قطعَ القارئُ ألحانَهُ وقُرانَهُ، وحسَمَ وضَين تَرجيعهِ وقرانه، حمِدَ اللهَ تعالى وشكرَ، بعدَ أنْ جَدَّ سُيولَ انسجامهِ وسكر، ثم قالَ: صدقَ اللهُ العظيمُ.

الحفيّ الكريم، الخفيُّ رازق الأنام، وغافرُ الآثام، رافع الجرباء، وساطحُ الحزباء، الوافر الحياء، المتضاعف الحباء. مُخَدِّدُ الخدودِ، الواضحُ الحدود، ذو الجدِّ الفاصل، والحدِّ القاصل، والمِنَنِ الظاهرةِ، والسُّنَن الطاهرةِ، الذي أوعدَ أربابَ الفُجورِ، وأرعدَ لتَرْك زَكاةِ الفجور، وتَعْتَعَ المساكنَ وذمَّر، وزعزعَ الأماكنَ ودمَّرَ، أحمدُهُ على تكاملِ نِعمِهِ، وتَزايُدِ نَعَمِهِ، وإفضالهِ المعروفِ، ونَوالهِ الغامرِ المَغروفِ، وأشفعهُ بالصَلاةِ على خيرِ مَنْ خَلَقَ، وعَجَّ بتَطوافهِ إذ حلَقَ، عِبادَ اللهِ ما لكُم أهملتُم الخُشوعَ، وأعملتُم الأملَ الجَشوعَ، وغفلتُم عَن انجذاب زمامِكم، وأَغفلتُم ذكرَ مكاسرةِ رِمامِكُمْ وسُحْتُم، إلى جِفانِ الجَهْلِ واغتذيتم، ورحتُم بارتياح راح الحَنَقِ واَغتديتُم، طالما ذكَرتُم حلاوةَ منافستِكُم، ونسيتُمْ مرارةَ مناقشتكُم، وقلَّما نَفِدَ أعياؤكُم، أو خفَّتْ أعباؤكم، لا تتَّعظونَ بمالكٍ غَبرَ، ولا تعتبرون بهالكٍ عَبر، ولا تكترثونَ بمصادمةِ المآتم، ولا تحترثونَ لحَصْدِ مُنافثَةِ المآتم، همّكم أَكْلُ القاترِ، ومحاضرةُ الطَّرْفِ الفاترِ، ومَنْعُ الإعانةِ والأَعطيةِ، وهَتْكِ سُتورِ الفواحش والأَغطيةِ. هًلاّ ادكرتُمْ السَّيْبَ الذي نَقَضَ جُدُد جُدودكُم وحَطَّ، والشَّيْب الذي وخَطَ بعَرْض عَارضَيْ خُدودِكُم وخَطَّ، والسَّهو الذي مَقَلَ مَقْلَ عقولِكم وغَطّ، والمَهْوَ الذي نَقَلَ نُقَلَ قَمَر اقتداركم وعطَّ، فإلامَ تختالونَ، وعلى حَقير الحُطام تَحتالونَ، أفٍّ لما تتركونَ، وتُفً لعَطنِ عُطلةِ بهِ تَبركونَ، وتَبّاً لِمَا تجلُبونَ، وعُسِّ سَفهٍ بهِ خِلْفَ المخالفةِ تَحلبونَ، إنكم لفي بحرٍ من الحِيَلِ سابحون وَبرٍّ من عَدَم حُسن بِرِّكم سائحون، ثُمَّ أنشدَ: الكامل:
يا مَن تروَّح بالمُنى ثم اغتدَى ... وبدايَتَيهِ ببغْيهِ لمّا اَعتدَى
إنْ كنتَ مغروراً بتنقيس المَدى ... فَلعَنْ قريب تَرتوي منكَ المُدَى
ببنانٍ حَينِكَ إنْ تراهُ قد سدا ... حتّى تَصيرَ بعَرْقِها العاسي سدا

فحينَ قَضبَ جريرَ جرَّتهِ، ونَضَبَ ماءُ مَسيلِ حرَّتهِ، وأَلجم أسَد وعظهِ القَضْقاض، وألجمَ سَدا فضلهِ الفَضْفَاض، وقدَّ قميصَ يُوسُف عِظتهِ وقَصّ، وسدّ ما انسجمَ من سَحَ سحابهِ وفصَّ، قالَ: أًلهمكُم اللهُ الصبرَ الجميلَ، وأتبعَ في دَعَ سَيْلِ مصابكم الحًميلِ، وجعلَ هذا الرُّزء فِسْكِل أتراحِكم والهموم، وآخِرَ ذَمّة أحزانِكم والهموم. ونفَحكُم بأَجْرٍ تضيقُ بهِ متونُ العَراءَ، ويَصْغُرُ في جَنبه كبَرُ هذا العزاءَ، بطولهِ السابغ الذُّيولِ، ودَوح إحسانهِ المنَّزهِ عَنِ الذّبولِ، قال الراوي: فلمّا غَبَطُوا جودَةَ فيضه النجيبِ، وأغبطوا الأنفسَ حَلَّ نظام لآلئ النحيبِ، جَبرُوه عندما خَبرُوهُ، وشبروه بعدما سبروهُ، فكنتُ أولَ مَن حضرَهُ وحيّاهُ، وحل بمحضره حباه وحباهُ، وكنتُ أرجَي حينَ سكرتُ من سلافةِ شموله وشكرْتُ تألقَ ضياءَ شُمولهِ، مَعْ ما أمارسُ مِن مُزاحمةِ العَمِّ، وسَورةِ سُكْر مزاحمة الغَمِّ، حصولَ معرفتهِ، وما الذي حَصَلَ برفع غَوْرِ مِغْرفَتِهِ، لأعرفَ من أي سحاب انسكب سيبُهُ، وفي أيَ شِعْب شَعْبِ انتشرَ شَيبهُ، فم أستطِعْ للجَلبةِ إبصارَهُ فما ثلت بالأثنيةِ أنصارهُ، وأمهلتُه إلى أنْ قرَّ المجلسُ وتَسَعْسعَ، ورقَّ قَرْقَفُ المطاللةِ وتشعشعَ، وتَقَهْقرَ النهارُ ويرَفع وجهَ الغزالةِ البَهارُ، ولم يبقَ معه من الخَلْق، سوى سدس عددِ أحرفِ الحَلْق، فألفيتُهُ النّهْشلَ الشريَّ، والسَّميدعَ السريَّ، ذا الفضل المضري، أبا نصر المصريّ، صاحب البطش الضرّيَ، وعاشقَ الدَرهم الصريَ، فأقبلتْ أمورُ مَوْرَ الخائم، وأتردّدُ تردد الحائم، إلى أنْ سلّمْتُ عليهِ تسليمَ مَن ظفَرَ برجائهِ، وقرن هُوجَ هَجُوم جَذَلهِ برُخائه، وقلتُ لهُ: إلامَ معْ سَعَةِ سأوكَ، وشَرَف شِنْشنَةِ شأوك، وتطاولِ سِنِّكَ، وتضاؤل شَنِّكَ، تُظْمئُ وتعُلُّ، وتَسرِق وتَغُلُّ، وتَنْقُصُ وتَحيس، وتنقضُ وتخيسُ، وتزهدُ في نديك، وتُزعجُ أوابدَ بديِّكَ، وتَروضُ ضُبارماً وعامراً، وتخوضُ عامراً وغامراً، وتَلبِسُ أسماطكَ والأسمالَ، وتستأصِلُ الباكورةَ والأشمال، وتلتقمُ التقام الناهِش، وتتأوّد تأوّدَ النزيفِ الباهش وتجيء بالصُقْرِ والبُقْرِ، وتهزأ بالأسودِ والبَقرِ، فحينَ جُرحَ بحسام سام مَعْتَبتهِ، وعُقِرَ بعُقارِ قارِ مَعْيَبَتِهِ، نظرَ إليَّ نظر الأسدِ الباسلِ، وانهمرَ كالسيلِ الناسل، وزفَر زفرةَ المُعل، ونفثَ نفثةَ الأفعوانِ المُغِل، وقال لي: خَلَني من نِمْنَمَةِ فُصولكَ، وحلِّني بحلْي قَضْبِ فائض فُضُولِكَ، واذهب بداءَ غُلِّكَ واكفني غَلْغلَةَ غَلَلِ غِلّكَ، فلستَ لي بصاحبِ ظريفِِ، ولا باذلِ تالدِ ولا طريفٍ، وحيثُ لا تُعِينُ، ولا تسامح ولا تغِين، فأنتَ أولُ مَنْ مَنَّ ودَّهُ وجَبَّ، وكسرَ ساعدَ مساعدتهِ وخبَّ، فلا خيرَ في مساترتِك، وخساسةِ مُسايرتِكَ، ومعَ لَسْع سِفّ سَفائكَ، وطُولِ طِيَلِ شُقَّةِ شَقائكَ، لو مَنَحتني من تكملةِ إفصاحِكَ سطرينِ، لجعلتُ صِلَة هذهِ الموعظةِ بيننا شطرينِ، فالَ: فكأنه نَدِمَ على كَلامه، فطفق يداوي مواضع كلامهِ، فألقاهما إلي وسكع ونسأ بعيرَ عزمه وشكعَ، وقال لي: إلى كَم بالغرامة أغطِّيك، فتارة آخذ منك وتارةً أعطيكَ ثم إنَهُ جالَ جَولَ المقاطعةِ وحامَ، وأحجمَ عن خيول المخاتلةِ وخامَ فتظنيته أقتنصَ بحبائلِ الحِن، أو احتُنِك بأناملِ جحافلِ الجن.
المقامةُ الخامسةُ والأربعون الفرضيّة
حكَى القاسمُ بنُ جريال، قال: مُنيتُ حِينَ عَرَضَ عارضي، واعترضَ فِي عنَان المعارضةِ مُعارضي، بحُبِّ حِب حَوَى الحمرة والبياض، وملأ قَرِيَّ قُرى مقاطعتهِ والحياض، وكنتُ يومئذٍ ذا نُصرة خارجةٍ وحَسْرَةٍ والجةٍ، وعتبةٍ واهيةٍ، ومَعتَبَةٍ هاويةٍ، أتقلقلُ تقلقُلَ المغلوبِ، وأنشِدُ على هذا الأسلوبِ: الوافر:
نَقِي الخَدِّ ليسَ بهِ اجتماع ... ولا بياض مَجْلسهِ الأنيقِ
يُسَعِّرُ مهجَتي مَرَحاً وسِحْراً ... بحُمرةِ وَجْنةٍ شِبْهِ العَقيق
إذا رمْتُ الوصالَ يقولُ عَجِّلْ ... بقَبْض داخلٍ قَبْلَ الطريقِ

فحينَ تحَسّيت مفاضَة الإيلام، من أنامل يدِ الملام، ومارستُ معْ عَدَم صِرام المَرام، خَيْلِ خَبْلِ عُرام الغَرام، وهَطَلَ سَفّاحُ عبرتي المستورُ، وبَطَلَ بَطَلُ صِيْتِ نُصْرتي المنصورُ، وأدخلني الخِدْنُ فيَنْ يمونُ، ورقَّ لي الخِلُّ الأمينُ والمأمونُ، تَضاءلتُ لذلكَ الاجِتزاءِ، ومَضِّ ضمِّ خَصْرِ الزَّهقةِ العجْزاءِ، تضاؤلَ ضرب الأجزاءِ في الأجزاءِ، فلَّما تضرَّرتُ بتضيقِ المَدارج، تضرُّر الأم مع الأخوينِ وأبِ الدارج، ركضتُ ضامرَ غيْرةِ القرونِ، وأمطتُ الدّرنَ عن صهوةِ الوطَرِ القَرونِ، وأبتعتُ مطية صبوراً على الإرانِ، لا تعلمُ ما مرارةُ العِرانِ، لا تَحِنُّ إلى حُوارٍ رضيع، ولا تئنّ لسرف فادح فظيعٍ تَردي على خبَبِ المِزاج، ولا تدرِي ما زعازعُ الإزعاج، شريتُها بدرهمينِ، وَتِخْذُتها عُدّةً ليوم البَينِ الخفيف:
تَلْعقَ الصبر في مَضيقي ... وتَصْبِرُ أيامَ بؤسي وضيقي
فَهيَ محمودة على الرُحْبِ عندي ... وهي مشكورة على التضييقِ
تبذلُ الجُهدَ كلّما جُبْتَ فَجّاً ... بعدَ فَجٍّ من المكانِ السَّحيقِ
قال القاسمُ بنُ جريال: ثم أقبلتُ ارتقبُ رُفقةً تَحْدج للرِّحلةِ نِياقاً، لأجعل قربهُم لداءِ ذلكَ الدَّله دِرْياقاً، إلى أنْ فزتُ برفاقِ تفوقُ أَصحابَ الرَّقيم، على عددِ أسماءِ الخطِّ المستقيم، يتناضلون بسهام مَقتهم، ويمتطون حِقاقَ موافقتهم، يقصُرُ بمصاحبتِهم الطريقُ، وتَروقُ سحائبُ سرْوهم وتريقُ، فخفّ لخَطْفِ الأرقِ بارقي، وثَقُلَ بسحِّ سُحْبِ إحسانِهم عاتقي: الكامل:
فكأنّهم شُهبُ السَّماءِ ولفظُهم ... دُرّ تساقَط من نُحورِ عَواتق
يمضونَ في الخَطْبِ الخطيرِ بهمة ... أمضَى مِن العَضْبِ الخشيب الفاتق
قال: فلم نزلْ نساورُ عوابسَ البراري، ونحالِسُ حَنادسَ الليلِ الساري، ونَسْتنْتِجُ مواعيدَ الأملِ اليتربية، ونستنشقُ ريحَ رياحينِ الرياح اليثربيةِ، حتى حَلْلنَا طيبة الرسولِ بعدَ حطم المكناتِ والحسول، فقلتُ عندَ لِمّ جناني الجَريح، وضمِّ ضَريح ذلكَ الصَّريح: الطويل:
حِماكَ إلهي من ضَريح وُجِّدَدتْ ... يَدُ المَجْد في ذاكَ الجَلال الممحد
ضريح عَلا هامَ الضّراح مُحَلهُ ... شريفٍ منيف بالعَلاءِ مُعَمدِ
سأجعلُ قُربانِي إلى اللهِ حُبَّهُ ... وحُبَّ بنيهِ الطّهرِ آلِ محمد

قالَ: وحينَ حَمِدْنَا محاسنَ الظّفَرِ، وكَسرْنا مِنساةَ سَموم السَّفرِ، جعلنا نجولُ لضَربِ ضروبِها، ونحومُ بمسلولِ الفصاحةِ ومقروبِها، إلى أنْ انتهى بنا آخرُ النّقَل، وقطعُ السُّهولةِ والنَقَلِ، إلى مدرسةٍ متدَفِّقة البَهاءِ، مُفْهَقةٍ بمقاولِ الفقهاءِ، قد اَرتفعَ نقْعُ مباحثتِهم، وطلعَ نفعُ طلْع مطارحتِهم، تُجاه مدرِّس مطلّس، ظاهرِ المناظرةِ، قملس، تسجدُ دروسُ الدرايةِ لدروسهِ، وتغربُ شُموسُ البلاغةِ لشَّموس شُموسهِ، فتأملْتُهُ بالنظرِ الصّفيِّ، تأملَ الصَّيرفيِّ، فإذا هو الدِّهانُ المتلوِّنُ، والسرحانُ المتفنِّن، والفَذ القيصريُّ، أبو نصرٍ المِصْريُّ، فأحجمتُ إلى أنْ شام سيوفَ درسهِ، وسردَ ما سدّدَ من ثمارِ جَرْسِهِ، ثم سلّمَتُ عليهِ، وجثَمْتُ بين يديهِ، وقلتُ لَهُ: جلَ مَنْ جَلَّلَكَ بجليلِ التّدريس، وخلّصُكَ من دراسةِ التدليس، وخصَّكَ بربْع البَراعةِ والمربَع، اختصاص الأترجِّ بالطبائع الأربع، ثم إنّهُ اَنطلقَ بي إلى طِرافهِ، مترنِّحاً بملاحةِ أطرافه، فبسطَ ساعِدَهْ وحَسّرَ، وأحضرَ ما كانَ عندَه تيسَّرَ، ولّما سكنَ مَوْرهُ، وظعنَ زَورهُ، ألبسني جُبّةَ أجادَها كفُّ إسكافِها، وكثرُ جوَابُ سؤالِ ميمِها وكافها، ثُمّ قال لي: يا بنَ جِريالٍ ما الذي سلكَكَ في سلوك المفاليسِ، وأدخلَكَ في خَللِ غَليس هذا التغليس، وقتلكَ بثقلِ هذهِ المِرْداةِ، ونقلك إلى مجالس الساداتِ، فقْفِنِي على خبر ابتداءِ ارتحالكَ، وخَفْضِ نَصبِ تَمييزِ حُسْن حالِكَ، قال: فأخبرتُهُ بما تمَّ، وما سفك من دَم الثروةِ ثَمَ، وعرّفتُهُ صورةَ النّزالِ، في وقيعةِ ذيّاكَ الغَزالِ، فجبذني متظارفاً، ونبذَني متلاطفاً، وقالَ لي: أراكَ هَويت الهُوِيَّ بعدَ الهَوِيِّ، وهوَيْتَ إلى الواوِ الساكنةِ قبلَ حرفِ التّرويِّ، وجررْتَ في المَخازي المُروطَ، وأولجْتَ في الدائرةِ المخروطَ، فأطعَم الله رهطَ لوط البلّوطَ وسقاهم من نهرِ قَلّوطَ، ثم قالَ لي: غِبَّ نَثْلِ جَعْبَتهِ، وطيب ظلِّ أثْلِ مداعبتِه، تالله لقد بِت أسعدَ أولادِ سام وسامٍ، وأطهرَ أولادِ حَام وَحام، فَوَمَنْ شرّف بكّةَ، وأخرسَ اللُسُنَ لكَ وبَكَّتَ، لقد حللْتَ بكِناسكَ، ونزلْت بمَنْ لم يُناسِكَ، ونزعتَ سرابيلَ باسِكَ، وخلعْتَ جلابيبَ التباسِكَ، فقلت لَهُ: الحمدُ للهِ الذي سلَّمني من المَدانس، وخلّصني من حِبالةِ المناحس، وقَلَسَ عَنِّي ثيابَ الثُّبورِ، وقمسَ قلبي في بحورِ الحُبورِ، ثم إنِّي أقمتُ في قَرائع دَارهِ، سابحاً في سحائبِ إدرارهِ، يُتحِفُني بالهدايا، ويزورني بالعَشايا والغَدايا، ويمنحُني السِمانَ والدِّقاقَ، ويشاركُني مشاركتَها في مصدرِ الفَعْلِ الرِقاقَ، حتى حُسِدْتُ لكثرةِ سوادي، واتّحادِ وسادهِ ووسادِي، وعُدْتُ بعدَ طولِ مصاحبتهِ، وتطاولِ مناوحتهِ، سنانَ غِرارهِ، وصِوانَ أسرارهِ، ونبالَ سَطوتهِ، وبِلالِ دَعوتهِ، وحَسّانَ ثنائه، وسلماَنَ فنائه، فبينما نحن ذاتَ يوم نخترفُ ثمُرَ المثابرة، ونحترفُ بأسواق تِجّارِ المجاورةِ، ونختلفَ إلى معاهدِ المنادلةِ، ونَجْتَلف وجوهَ جذالةِ المجادلة، إذ وقفَ بنا جماعةٌ يستفتونَ، وعلى تركةِ مَيْتٍ يتهافتونَ، فناولوهُ رقعةَ لا يفارقُ قَلْبَ مقلِّب حِبرِهَا حُبورٌ، فإذا فيها مزبور: الخفيف:
يا فقيهاً علا على الثقلين ... وإماماً سَما بعِلْم لِذَين
نَبِّنا وأفصِحَنَّ عمَّا عَرانا ... في مُصَابٍ أجْرَى عيونَ العين
مَيِّتٌ طُمَّ عن ثَلاثِ بَنَاتٍ ... مُحصنَاتٍ مِنْ غيرِ رَيْبٍ ومَين
فَحَوَتْ إرثَها الكبيرةُ ثُمناً ... غيرَ بَخْس مِنْ كُلِّ عَرْض وعين
وغدت أختها برُبْع صحيح ... بعد ثمن وربعهِ مرتين
مثلما حازَتِ الصغيرةُ فاعلم ... يا خَلياً مِنْ كُلِّ غشّ وشين
ثمَ ماتَتْ صُغْرى البناتِ بجَمْع ... عَنْ نصابَيْنِ عَسْجدٍ ولُجين
فمَضَتْ أختُها التي حازتِ الثُمْنَ ... بخمسى تُراثِها النقدين
وأغتدَتْ أختُها بباقيهِ قهراً ... تُتْحِفُ النَقْصَ أختَها كرّتين

فاَرض تساؤلنا بحُسْنِ جَوابٍ ... مِنْ صوابٍ فلستَ فينا بهين
قال: فهَوَى إلى الرقعةِ وأطالَ، واستوَى لطَلَبِ الرفعةِ وقَال: الخفيف:
أَيها السائلي عَنِ الحالتينِ ... والنبيهُ الفقيهُ يَفْقَهُ تين
إنَّ مَنْ حازتِ الفريضةَ ثُمناً ... ابنةُ المَيْتِ يا وخيَّ وعيني
من سفَاح زُفَّتْ إليه حلالاً ... بوليٍّ وحضرتي عَدْلَينِ
ثم ألقت بعدَ الدخول ولاء ... مِنهُ بنتينِ أيّما بِنْتَيْن
فسَقَى زوجها الزمانُ كؤوساً ... مُترعاتٍ مِنْ بَعْد حينٍ بحَينِ
فجَبَتْ بنتُهُ بحَق جلي ... ما ذكرتُم من غَيرِ نَهْب وبيْنِ
وكذا ضمَّتِ الصغيرة شرعاً ... بَعْدَ ثُمن لامِّها نِصْفَينِ
فلهذا موتَ الصغيرة حازت ... حَقّها الأم خالصاً خُمْسَيْنِ
وحَوَتْ أخْتُها بفرض ورد ... باقيَ المالِ في كِلا المأتمينِ
فاجْزِ زيديّةً بنثر ثناء ... شبه دُرّ يَحكي دُرور العينِ
قال الراوي: فلم أعجبْ من فرضه العجاب، الوارف الإعجاب، بأوفى من موافقة عددِ أبياتِ سؤالِهِ والجواب، فرضي كل بحضور العالمين، وقضي بينهم بالحق وقيل: الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المقامةُ السادسةُ والأربعونَ الحصكفيّةُ الرقطَاءُ
حدّثَ القاسمُ بن جريال: قال: صحِبت وقيت اقتراب المزَارِ، واسودادِ الإزار ومباعدة الأسدار، ومساعدة الأقدار، ركْباً من الحصَكفيّة أولى الفَصاحة الصفيّةِ، والصباحةِ المصطفيَّة، لا يسبقون في سنن مساجلة، ولا يلحقون في جدد حنى معالجة، ولا يندهون عن قارب مقاربة ولا يبدهون في مشورة شرة محاربة، فحملني نشر معاشرتهم الشهية، على أن أشزر معهم شملة السنة السنية، فعدلت إليهم عدول من ألف بمحبوب، أو كَلِفَ بمداومةِ إثمٍ وحُوْبٍ، حتى صِرْتُ منهمِ صيرورةَ البَطَل من الذِّمارِ، والغَيرةِ من الأذمارِ، والزِّمارِ من فَم المِزمارِ فلم أزل أجُث العريّةَ، وأحُث الداعرية، وأحاربُ بياسرة سفْنِ السهرِ الجسيمةِ، وألاعبُ أسنةَ عساكرِ المسرَّةِ الوسيمةِ، حتى ولجتُها في اليوم النَطوفِ بالقَلْبِ العَطوفِ، محسوداً على يَدِ يَدٍ لا تضامُ، وألفَ عينِ عينِ لا تنامُ، ولَمّا اَسبطرت جداولُ الجُدودِ وحفَّتْ بنا أوراقُ المجدِ المجدود اندرأت إلى تصفيفِ العَقَارِ، والتذفيف على الوَقَارِ، وشمِّ أنفاس القارِ، من أفواهِ العُقَار: الطويل:
فما زِلتُ أحسُو الراحَ فيها وأنثني ... على كُورِ لذَّاتِ الفُكاهةِ والرَّقْص
وأركبُ أثياجَ التفكُّهِ في الدجَى ... إلى كلِّ فتَّان أميناً مِنَ الوَقْص
وأسعَى بساقِ السكرِ في كل ساعة ... إلى كُل مِفْضاَل بَريٍء مِنَ النقص
وأسحَب رِفلاً في الإخاء مضَوّعاً ... بعِطر ولاء يُدنَّسُ بالقَصِّ

قال: فما زِلتُ أصبو إلى ذلكَ المَنَارِ، وأعشو إلى جُلِّ نارِ ذلكَ الجلَنار، وأترَنَّحُ بذلكَ الشَفير، وأتنقّل بقبَلِ أفواهِ اليعافير، إلى أنْ ظعنَ الذهبُ وبانَ، وظهرَ فَلَقُ القَلَقِ واستبانَ، فلما لَبِست رثيثَ خِلافِي، وخلعتُ بيعةَ خِلافةِ اختلافي، أقسمتُ ألاّ أفارقَ الصيانةَ، وجذذتُها جذَّ العَيرِ الصِّليَّانةَ، فبينَا أنا أنظرُ في مَضاضةَ الإفلاس، وحقارةِ الأحلاس، والالتحافِ بالدريس، والإياب إلى باب الفراديس، ألفيتُ أبا نصر المصريَّ يرفلُ في ثياب ثروتهِ، لعدَ إحرامهِ من يلملم إلمام مترَبتهِ، فهويتُ إليهِ هوىّ الأجدلِ المطلِّ، وأحببتُ بأنَّ أعْرِفَ موارد ذلكَ الطلِّ، ولمّا انطلقَ بي إلى جُدرانهِ وأطلقَ يدِي في عِنان ماعُونهِ وعِرانهِ، قال لي: إيَّاكَ وأنْ ترغبَ في قرابِكَ، أو تزهدَ في اَرتشافِ شرابكَ وعلي ما يمونك في احتلابك، إلى وقتِ اَقتراب انقلابك، فأنا الخليلُ لذي لا يتسربلُ بيأسهِ، والكريمُ الذي لا يَخْنُقُ حُلَوقَ أكياسهِ، ثُمَّ إنّهُ أخذَ يَسبأ السُّلافةَ ويَستريها، ويعبأ لنا طِيبَ المصائب ويشتريها، وتسحَبُ في الدساكرِ العبقريّةِ، ويُوصلُ بالغَبوق الجاشريّةِ، وأنا معَ العَوْم في مياهِ مئنَاتهِ، وفَلِّ شَبَا الشَّتْوَة بِشَبا شِيناتِه، لا أسألهُ عن انتقائه، ولا مِنْ أيِّ ركيَّةٍ امتلأتْ غصونُ سِقائهِ، فبينما نحنُ في طُلاوةِ الأصحابِ، على مصاطبِ الاصطحابِ، نترنَّحُ معَ الإفضالِ، ونتناضلُ بالمُلَح تناضلَ المِفضَالِ، وإذ اقترنَ بمذاكرةِ تيك الكرماءِ، ذِكْرُ رسائلِ القدماءِ، فقالَ بعضُ مَنْ ابتهج ببهجة ندوتِنا، وأولجَ بمغربِ فَمِهِ نجوم قَهوتنا: أقسمُ بمَنْ سَتُرَ الإخطاءَ، وأسبَغَ الإعطاء، لا أحبُّ مِمّا سَبَقَ سِمْعُهُ الخيَطاءَ، سِوى كلِّ مكاتبةِ رقطاء، فهي التي تَشهَدُ لشُهدِها شِفاهُ الشِّهادِ، وتهمدُ لنُورها نارُ أزنادِ الاجتهادِ، ويتشَبّهُ لقسرِهَا القسَورةُ بالقُرادِ، ويُقْرِدُ لقراعِها إقرادَ الأقرادِ، فلمّا سَمِعَ أبو نصرٍ ما نطَقَ بهِ، ومنطقَ بذهبهِ، مِنْ حُسْن مذهبهِ، قالَ لَهُ: أتحِبٌ يا ذا الفضل الفائض، والظِّلّ الخائض، ومَنْ خَضَعَ لإفصاحه الفريدُ، بأن أنشئ لكَ مِنْ ضروبهِ ما تُريد، فقال لَهُ: تاللهِ إنْ ذا لريعٌ انجدم، وربَعُ انهدمَ، وفضَلٌ نُكِسَ، وعِلم وكِسَ وَعَلَمٌ درسَ، ومَعلَمٌ اَندرسَ، فخلِّني من خِضابِ عملٍ يَنْصُلُ، ولا تُولني سَحُّ ولَيِّ ولايةٍ أمل لا تحصلُ، فاللبيبُ مَنْ عَرَفَ نفسهُ، وشكر أمسَهُ، ولَمْ يرسلْ لسَبُع هذهِ المَسْبعةِ نِمسَهُ، فقالَ لَهُ: وأيمنُ الله لو نظرتَ ببصرِ توفيقكَ، وتحقَّقتَ نَصاحةَ رفيقكَ وميزَّتَ بينَ صيفِكَ وخريفِكَ، وحلوِكَ، وحِّريفكَ، لوجدتَ كُلاًّ كَلاًّ على حَريفِكَ، فقالَ لَهُ: إنْ كنتَ ممّنْ يقلعُ قُلَلَ هذي القِلاع، ولا يهْلَعُ لِهَوْلِ هَمْهَمَةِ هذا الهزْلاع، فبَيِّنْ حيَّكَ مِنْ رميمِكَ، ونُقاخَكَ مِنْ حَميمِك، وغَثّكَ مِنْ سمينِكَ وأبرُزْ بزُبَدِ ثمينِكَ، لأقبِّلَ رواجبَ يمينِكَ، ولتكُنْ جواباً عن مراسلة قادمةٍ، بلسان البراعة ناسلةٍ، يتمطَّقُ بعذبِها العليمُ، وبتمنْطَقُ بُدرِّ دَرِّها الدرُّ النظيمُ فقالَ لَهُ: أيمُ اللهِ لَقَدِ استهديتَ الجدايةَ من القانص، والجُمانةَ منِ الغائص والصُبايةَ من السحِّاح، والصَّبايةَ من الوضّاح، ثم إنَّهُ عدل عن عتابهِ ومالَ، وعدَّل جَلْفَةَ يراعهِ وأمال، وقالَ لَهُ: أنكرْتَ قِرواحَ قريحتي فجُبْ، وأسأتَ لدي الأدبَ فَتُبْ، واستقْبِلْ بكفَّيْ فكرِكَ النُخَبَ واكتبْ: وَفَدَتْ صنوفُ كتابِكَ، بل جميلُ ضرَبَ انصبابكَ، شَرَّفَهُ جِدٌّ بَرَقَ، وفَرْقُ لُب أشرق، وبلِ شوبِ منح فرى، وجمّ فلق سَيرِ فْلق رَبا، فحضَرَ بهِ بلاغُ إنابٍ هَجَمَ، بَلْبَلَ بوَبْلِ نَاضر تَهتانهِ فانسجَمَ: الطويل:
فلي مِنْه بُسْتَانُ صفا ضوءِ بَعْضهِ ... يسيرُ بهِ نَدٌّ نَدِيٌّ ونَرجسُ
فَعَنَّ لنا فوْزٌ وقدْ جابَ طَيُّهُ ... غلائلَ تَوْق مِنْ حِبابكَ تُلْبَسُ

فلبابُكَ نديم شَهِيٌّ، وبابُكَ قديمٌ بَهَيٌّ، وشَرَفُك خليلٌ ذَكيٌّ، وترفُكَ قليلٌ بَكيٌّ، وجَلْبُكَ جابر زكيٌّ، وخِلْبُك ناظِرٌ ذكيٌّ، ويكبُكَ جائلٌ ثَرِيّ، ونَسبكَ شائغٌ جَلِيٌّ، وخَطبُكَ جازمٌ يَحُف، وخُطبُكَ جلائلُ تَهِفُّ، وفَرْشُكَ تكتسبُ، وفُرْشُكَ تُرتَهِبُ، ونَهيُكَ يلتهبُ، ونهبُكَ يستلِبُ، ويَمُّ يُمنِكَ يَرُبُّ، وَزَعْزعُ تُحفِكَ تَهُبُّ، ويديمُ شِدّتكَ يكُبّ وَضلِيعُ شَدّتِكَ يَعُبَّ، وضرْبُ سُيوفِكَ يعترِقُ، وضَرْبُ عُناتِكَ يَحترقُ، وجميلُ فَلذكَ يُصَب، وجَليلُ خُلقُك زاخر يحب، ويعقوب حبك يرج، ويعبوب رِفدِ يديَك يُمَج، وبطشك نافع ضَري، وجأشكَ شافعٌ قَوِيّ، وجؤجؤُ قِرْنِكَ غًلَى، وبرُّ برِّ قُربِكَ فَلا: الطويل.
فَمِنْ أيّ وجهٍ جاءَ نُطْقُكَ جلْتُهُ ... جَرِيَّ عُبابٍ من صفاتك يَطفَح
فلا زلْتَ أبهى من سنا بَرْفِ مُجْلِف ... لتُصْبحَ تَرْفُو قَلْبَ مِثلي وتَمنَح
فليكفِ عبدَ نهىُ مِزِّكَ، ثمَّ بَلَجَ مشرق عِزِّكَ، بأنَّهُ باءَ بعتابكَ، ذو توَّج وناءَ بعُبابِكَ، بسناءٍ بَلَّج، وشَرَقٍ لَجْلَجَ، وقَلَقِ أخدجَ وشَرٍّ غاضَ، وضَرٍّ جاض وتصبّر خَرَّ، ثم شديدِ شَوْق اشمخَرَّ، فمثلُ شمَّخ آياتِكَ تُحَجُّ، وبصفا زمْزَم باب هباتِكَ يُعَجُّ، وبمنكب لَجِّ إبائكَ نطيرُ بلْ بمَجْرِ نَوْءِ نكُتَ آبائِكَ نسيرُ، فَلَتْ عِترتُك فمجِّدَتْ، وفلّتْ رفعتُكَ فعُظِّمَتْ، لتمنحَ جَوْنَ مُشرِّفاتِكَ، قَلِقاً ترنَّحَ بريْح بان لُباناتِكَ، قالَ الراوي: فلمّا طرَّب بطيبِ رسالته وجدَّل المجادِلَ بجِدالةِ مجادلتهِ، قالوا لهُ: تاللهِ لقد تسوَّرْتَ من الفصاحةِ أعلاها وسُدْتَ مَنْ تسنَّمَ البراعةَ واعتلاها، وفُقْتَ بإخراج المستطابِ، من طاب هذهِ الوِطاب وميَّزَ رندُكَ عن الأَحطابِ، بإجادة هذا الاحتطاب، ولعمرُكَ إنَّها لمخيلة ممن البلغاءُ قلَّة في ماء دجلته، وبقلَةٌ بازاء رقلته فما أحسنَ لك أنْ تجمعَ بين طرَفِ فطَنِكَ، وتعريفِ نكرةِ وطنكِ، فقال: طاعاً لأمرِكَ المُطاع، وإن آلَ بنا إلى الانقطاع، ثم إنَّه أراقَ مِنْ مقلتيهِ القِلالِ، وأرهفَ قواضبَ المقالِ، وقالَ: الكامل:
ربعي يشرف أن يُعابَ بمنطق ... أو أنْ يُدَنسَ في الزمانِ بمقْوَلِ
فحسابُ أحرفهِ النفيسة تسعةٌ ... في تسعةٍ شبهُ الصباح المنجلي
مَعْ أربع في خَمْسةٍ في ستَّةٍ ... مَعْ واحدٍ في واحدٍ لم يشكلِ
بعدَ المربَّع مِنْ ثَماني مَرَّةً ... وكذاك أخرى في الحسابِ المجملِ
ها قْدْ رفعْتُ لكَ الحجابَ فَعُدّها ... عَدَّ العليم على حروفِ الجملِ
قال: ثم إنَّه ودعهُم غِبَّ اكتسابه، وأودَعهُم سجونَ انتسابهِ، وغادرَهُم يخبِطونَ في حسابه، بعد أنْ عطفَ عُنُقَهُ إليَّ، وذرفَ لؤلؤَ عبرَته عليَّ، وقالَ لي: يا بنَ جريالٍ توق جرّ حبلِ بُرَحَيْنِك، وجَرَّ حَرورِ بَرِّحَيْنِك، فقدْ آن دنو بيني وبينِك، وهذا فِراقُ بَيْني وبينِكَ، فاتركني تركَ رؤوفٍ، وسرِّحْ سِرْيَاحَ عزمتي بمعروفٍ، لأنَّ مخالبَ خيانتي ورواجبَ جنايتي، جَنَتْ بأرزنَ جنايةَ يشبُ لها فَوْدُ الفَطيم، وتغيب لها شجاعةُ شُجعانِ الحطيم، فالأريبُ مَنْ خرجَ قبلَ إسفار صباحه ودَرَجَ قُبَيل إشراقِ افتضاحه، فما الشرفُ بالتقام طُعم المصايد، إلا بالتخلصِ من حِبالة الصايدِ، ثم إنَّه لوى جانبَ اللِّيتِ، ومضَى مُضَيِّ المَصاليتِ وعانقني عند لوب الأماليت، وأقلقني قَلَقَ قلوب المقاليت.
المقامةُ السابعةُ والأربعونَ الضَّبْطاء
أخبرَ القاسمُ بنُ جريال، قالَ: عَزَمْتُ زيارَةَ الحَسَنِ والحسينِ، معَ صَحابة مِنَ الحَسَن والحسينِ، تنتمي بعدَ طيِّئٍ إلى شَعبان، في غَرّةِ المعظَّم شعبان، ما وهى حِلمُهم ولا وَجَبَ، ولا سُتِرَ وجه شكرِ جودِهِمْ مذْ وَجَبَ، ولا هُجِرَ وصلُهم ولا من، ولا عُرف أن مَلَّ معروفهم ولا مَن يُريقُ سحابُ سروهم الحَسَنُ، ويحتقرُ في جنب حصَاةِ حصاتهم الحَسَنُ، ما فيهم إلاَّ مَنْ أمهى مهْوَ المهابةِ، وسَن، وأفاض على وجهه ماءَ المرؤةِ وسن، ومزَج كأسَ كَيْسهِ. وشَنَّ وأغارَ على فوارس فارس السَّفاهةِ وشَنَّ: الطويل:

فلولا هُمُ ما زِلْتُ نِضْوَ كآبة ... حليفَ الأذى صِنْوَ الشَّقاوةِ في الخَلِّ
ولولا اعتقادي أنْ أسيرَ مكرَّماً ... لما مال ليتي للمسيرِ مَعَ الخَلِّ
ولولا اعتمادي في الرحيلِ عليهِمِ ... لعُدْتُ سليبَ العقلِ في صورةِ الخَلِّ
ولولا اجتهادي حِينَ مِلْتُ إليهِم ... لكنْتُ شَبيهَ الدُّودِ في جَمَّةِ الخَلِّ
ولولا اتَّحادي بالأَمونِ إليهِمَ ... لمزَّقْتُ جلبابي القَشيبِ معَ الخَلِّ
ولو أنَّني خُلِّفْتُ في الربع بعدَهُمْ ... لأعجزَني الضرُّ الشديد عن الخَلِّ
وَبِعْتُ سِلاحي والقلوصَ وكُورَها ... وأتبعْتُها السَّقْبَ السنيَّ أخا الخَلّ

قال: فَلَمْ أزلْ بينَ تلكَ الصناديدِ، آمناً من صَرْفِ صروفِ الصناديدِ، متوسِّداً هودج القضيبِ، متقلداً بحمالةِ القضيب، نوجِف إيجافَ الآجالِ، ونقطِفُ جَنَى الجَزَع من غصون الآجال، ونزعج سواكنَ الأوابدِ، ولا نَلِجُ مساكنَ الأوابدِ، ونُخَبُّ في صَبَبِ الوصبِ ونكرعُ، ونصبّ مياهَ مُرِّ النَّصب ونكرَعُ، فبينا نحنُ نُقَلْقِلُ قُلَل الأقتابِ، ولا نَخْشى تقلقلَ مقانب الأقتابِ، ألفينا حّياً من الخزرَج والأوسِ، غَزِيْرَ الفصاحةِ والأوس، وبه فتى شريفُ السِّيَرِ والساقِ، نظيف إزارِ زورقيِّ القوم والسَّاق، يرفل مَع كثرة هبابه وعَقلهِ، بينَ بُرْدَي شبابه وعَقْلهِ، فانطلقَ بنا إلى فنائه وكَسره، وأعرض عن لُفاظاتِ زاده وكسره، ولمّا شكَرَ شُهدَ سَوادِ سَعينا والبياض، وقَرَنَ قَرَن أحد أحمريهِ بالمحاضرةِ والبياض، أسرعنا إليه إسراعَ الحَمام، وجَمَعنا بينَ أرشية الشَرَهِ وبطون الحَمام، وحينَ أفعوعَمتْ حقائبُ المَصير، وحُمِدَ غُبَّر ذياك المصيرِ، وتُحقِّقتِ المذاهبُ، واغلولقتِ المذاهبُ، سمِعْتُ صوتاً يكسدُ عندَهُ عرف عبير القُطامي، وتطيرُ إليه أقدامُ القادم بقوادم القُطامي، فأقبل القومُ لطيب ذلكَ الطِّلاء، مجبوذَينَ ببُرَةِ طول ذيالك الطِّلاءِ، تسرَحُ في حُلَلِ أحلام نائم،لم تدر ما حلاوةُ حلواءَ نائم، فكنت مِمَّنْ نحَا نحوَه، واستمعَ مَع عِظَم عظتهِ نحوَهُ، فسمعْتُهُ عندما جثَمَ الغائرُ والجالسُ، وازدحَمَ القائمُ والجالسُ، ووسقَ سُفُنَ مجلسهِ، وشَحَنَ وطَرد طِرْفَ ملاطفةِ طرَفِه وشَحنَ يقولُ: الحمدُ لله ناشر الخَلْقِ، وقاهر الخلْقِ، مُفْهِقِ أوشال الذِّمام ومورقِ أغصان دَوح الذِّمام، مُزَيِّن النحور بالعقودِ، ومحسِّن الوقورِ بحفظ العقودِ، ومخرج تَهْتانِ نَصْره، ومتوّج الإسلامَ بتاج إجلالِ نَصْرهِ، ذي العظمةِ والجدِّ، المنزهِ عن الوَلَدِ والوالدِ والجَدِّ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادةَ مَنْ بحواءِ أمانهِ حَلَّ، وعقدَ منشورَ لواءِ إيمانهِ وما حَلَّ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ إلى الأمم الغابرةِ، المحثوثُ الإنذار بمصارع الرِّمَم الغابرةِ، فَنَشَرَ ذوائبَ الأعلام، ونسر حافرُ انتصاره صَياصَي الأعلام، ووعَد عليه أفضلُ السَّلام، بحلول دارة دار السَّلام، صلَّى اللهُ عليهِ صلاةً لا يعارِضُها فَنَاءٌ، ولا يفارقُها مدَى تفنُّن الأفنيةِ فناء، وعلى آله وصحبهِ ما كرُمَ قصَر عَسيب، وثبتَتْ قواعدُ عسيب، ونفعَ حمل قريب، وردعَ سلُّ سيفِ رقيب قريب: عبادَ الله إلام تُكرمونَ أولي المكانةِ والخَفْض وتُحرمونَ ذوي الديانة والخفض، وتغالونَ بطولِ مرحِكم والعَرْض، وتُلغونَ حديث ترحِكُم حالَ المناقشةِ والعَرْض، وحتَّامَ نراكُم قادرين وأنتم لإطعام القرِم غيرُ قادرينَ، وتمسون بالحرم محرمينَ، وأنتم بكسبِ السّحُت شرُّ محرمين، طالما تطاللتم لِحُبِّ الرِّباع، وتطاولتم لهتكِ كواعب الرِّباع، وقد آل بِكُم درُّ خَلِفَةِ المخالفة والمصباح، وانطفاء نبراس الرياسة والمصباح، إلى أن غفلتم عَنِ الحِسانِ، وعقلتُم أيانقَ الإحسانِ بأبوابِ الحسان، وسلكتُم مسلكَ مَنْ ألحمَ بالسفهِ وسَدَّى، وجعلَ بينَهُ وبينَ الورع خندقاً وسدّا، فهلا أفضتُم مِنَ العيوب، ما يفوقُ تدفُّقَ العيونِ، وسكبتُم من مسايلِ الجفون، ما تغرق به محاملُ الجُفونِ، فيا ويلَ مَنْ ملأ بالشَّحناءِ ربوعَ قلبه، وعَلِمَ أنَّهُ لم يبقَ مِنْ قَمَرِ قُربه غيرُ قليلِ قلبه، ثم أنشد مترنّحاً بحسن الهديل، باكياً بكاءَ الحمائم على الهديلِ، بعد أنْ هُدْنا وتُبْنا وقلنا لمِثْلكَ المدارسُ تُجْنَى وتُبْنَى: الخفيف:
كم حَجَلْنا حَوْلَ الحُطام ولُبْنا ... وسبَتْنا أعلامُ سَلْع ولُبْنا
واعتكفنا على اللّهى وانتبهنا ... ثم ثُبْنَا بعدَ الأذى وانتبهنا
واستلبنا بِكَر المُنى وافترعْنا ... ثم جُزنا بابَ الخَنا وافترَعْنا
وارتحلْنا مَتْنَ الأسى وافتقرنا ... منذُ حُرنا إلى الثَّرى وافتقرنا
واحتملْنا سُمْرَ القنا واعتقلْنا ... حينَ دُسْنا بُسطَ الهَوى واعتقلنا

واجْتذبْنا رأس العُلى واحتنكنا ... ثَم صِرْنا إلى البلَى واحتنكنا
قالَ القاسمُ بنُ جريالٍ: فحينَ حبَّرَ محكماتِ فيهُ، وحيَّرُ بحِبَرِ بَحْرِ حذاقةٍ مُدِحَ فيهِ، وأرضى اللهَ والمَلَكَ، واطَّرحَ الزادَ والملَكَ واقتنصَ القلوبَ وملكَ، وأحكمَ عَجْنَ مُعجزاتهِ ومَلَكَ، أطاعوا مواعظَهُ إطاعة ثواب، وانصاعوا لَهُ بأوفرِ ثوابِ، فصرفَ صِلتَهم صَرْفَ شاكر، وانصرفَ إلى شَعْبِ بني شاكر، ولما سحَّ الرجلُ وارتجلَ، ورجعَ الرجلُ بالجلائلِ وارتجلَ، جعلتُ أعلِّلُ وقلبي بليت وعلَّ، لأعلم أَنَّى نَهِلَ أبْحُرَ الحِيَلِ وعَلَّ، فألفيتُها صنوفَ أبي نَصْر الصلِّ، صاحب صِلّ الفصاحة الصِّلّ، فقلتُ لَهُ: إلامَ تدوسُ متونَ المَشيبِ والحرِّ، وتقوَّمُ صَعَرَ عنق المعاندِ والحُرِّ، وتُصْلِحُ بوعظِكَ العَرَبَ، وتمنحُ منكَ العَرَب العَربَ، فقال لي: يا جريالٍ: إنْ كانَ أعجبكَ سيبي وشوبي وحَجَبَكَ قبحُ شيبي وشوْبي، وأطربَكَ طيب صبّي وصوبي، وإلاَّ فدَعْني وعليَّ خَطَئي وصَوْبي، ثم إنَّهُ حاولَ المَفَرَّ وفرًّ، وافترَّ إذ فغر فَمَ براعتهِ وفَرَّ، وجرَّ عني ما أخشوشَن ومَرَّ، وخَلفني حِلفَ حومة الفكَرِ ومرَّ.
المقامةُ الثامنةُ والأربعونَ الجماليةُ الجوينيّةُ
روَى القاسمُ بنُ جريالِ، قالَ: آليتُ مذ صَفرَ صابي، وظَفِرَ نصابي، وصهَرَ اغتصابي، واشتهرَ في التصابي انتصابي، أنْ احتلسَ بساطَ المكاسرةِ، واختلسَ انبساطَ المكاشرةِ، وأميلَ إلى المجالس وأستميلَ، رضى المُجالس، وأمارسَ الأقتارَ، وأجالسَ الأوتارَ، فلم أَزَل أستلِبُ سرابيلَ الإسفارِ وأنقلبُ بزمام سفار السَفار، إلى أنْ فارقتُ الأَيْنَ، ورافقتُ الهَيْنَ، وقمرتُ البَيْن، ورمقتُ بمُقْلة المِقَةِ جوين، فولجتُها بجوادِ جِدةٍ لا يعتورُه عِثَارٌ، ونِجادِ تجملّ لا يهتصرُه إعسار، حائلاً في سناسِن السعادةِ، جائلاً في دنادن السيادةِ، فأقبلتُ أكافحُ رِماحَ المراح، وأناوحُ رياح الرياح، يمنحني وصالُ الملاح، ويصافحني راح كُفوفِ الفَلاح، أجيرُ مِنْ جَلَلِ الجُناح، وأطيرُ بجَناح النّجاح، وأصبو معْ إجالةِ القداح، وإدارةِ الأقداح، إلى عضِّ غَضّ الكاعبِ الرَّداح، فما فتئتُ بعدما نضحَ نَضَحُ المرح فسرى، ووضحَ وضَحُ الوضَح وانسرَى: الطويل:
أغازلُ غزلانا وألثمُ لؤلؤاً ... وأقبضُ رُمَّاناً وأرشُفُ سُكرّا
وأصحَبُ أغصاناً وألحظُ ربرباً ... وأغمِزُ عُنَّاباً وأنشقُ عَنْبَرا
وأركب كثباناً وأقرصُ عنْدَماً ... وأنظرُ بستاناً وأمسَحُ عَبْهَرا
قال: فحينَ حللتُ بالعِيم، ونزلتُ بالسادةِ البراعيم، كنتُ كَمَنْ حلَّ في النعيم، وحلَّ بعدَ إحرامه من التنعيم: الطويل:
وكنتُ كَمَنْ أمسَى يَسوفُ بأنفهِ ... سحيق إناب في شُعورِ العواتق
وكنتُ كَمَنْ أضحَى يصافحُ طَرْفُهُ ... وبيصُ صُوارٍ في صوارٍ معانق
ولما انسلكتُ في نِصاح مصاحبتهم، وسلكتُ سبيلَ مراح مناوحتِهم، أقبلتُ أشكرُ طولَ مروطِ طَوْلهم وأطولُ، وأذكرُ ذكورَ ذكيِّ إفصاحهم وأقول: الخفيف:
أبِّدوا أيِّدوا بزفِّ يرِفّ ... واستروا واشتروا بشَفٍّ يَشِف
فجرُهُمْ فخرُهم وحالوا وجالوا ... عيدُهُم عندَهُم بصفٍّ يُصَفُّ
حَدَّهُم جَدّهُم وعَالوا وغَالوا ... وافتدوا واقتدوا بعفٍّ يعِفّ
جبرهم حَبرُهُم جلالُ خِلال ... صدهم ضِدهم بذف يدِف
حزمُهُم جَزْمهم نِزاع يراع ... عابثٍ عائثٍ بكفٍّ تُكَف

وحينَ جَذَبني جَرُّ هذا العِنانِ، وبهظَني حَرُّ حَمْلِ ذَيَّاكَ العَنَانِ، واستنتجت قريحَتي المِتأم، واستخرجْتُ جلائلَ تيجانِهِم هذهِ التُّواءم عَزَمتُ على قَدِّ هذا الوثاقِ، وسَدًّ سيولِ سَحِّ ذلك الانبثاقِ وكنتُ قبلَ أن مِلْتُ لرَشْفِ المُدامةِ وعدلتُ عَنْ منازلةِ لامَة الملامةِ، وسدا صَفْوُ الصافنِ والقريع، وشِدا فم القريع بالتقريع، وصَبَأْتُ نيوبَ أنوقِ الأملاقِ، وأصبأتْ بدورُ مبادرةِ الانطلاقِ أسائِلُ الأظعانَ، ومَنْ مارسَ المَعْمَعانَ، عن ذي الفضلِ الرَضِيِّ، أبي نصر المصريَ لأفترس أوابدَ إفاداته، وأفترشَ وسائدَ مودَّاته، وأفوزَ بعقيانِ مناسمته الأنيقةِ وأجوز لبستانِ منادمته الوريقةِ، فبينما أنا أجمحُ على غواربِ السرَّاءِ، وأخطرُ في الحُلّةِ السيراء، ألفيتهُ بعيالهِ الخِماص، على قِلاص القماص، وهو يكتنِف الكِسَرَ بأردانهِ، في ميدانِ رَدَيانهِ، ويشابك الكُرَبَ ببنانهِ، بعدَ ارتفاع يفاع بنيانهِ، فأرخيتَ إليهِ خِشاش التقريبِ، وأويتُ لاستقائه من ذلِكَ القَليب، وتأفَفْتُ لاختلاقِه، وخساسةِ أخلاقهِ، وانخراق نُعَيْلَتهِ وإحراقِ نار عُرام عيْلَته، فأسفرَ صباحُ مسرَّتهِ وجأرَ بهُجْرِ هَجْرِ هِجرته، وقالَ لي: يا بنَ جريالَ ما الذي سلَبَ بِزَّةَ جِدَّتِكَ، وقضبَ عِزَّة حِدَّتِك، فقلتُ لهُ: مجاورةُ الجِنانِ، وفَضُّ خِتام الدِّنانِ، وإنفاقُ الحمولِ، ومشاهدةُ الشمائلٍ والشَّمول، فقالَ: وما الذي عزمتَ أنْ تصنع بإنفاقِكَ لنفاقِك، وبإملاقك لو لم ألاقِك، فقلت له: ألجُ في مجاري مجالِكَ، وأدلُج في مخازي مُحالِكَ، وأحذفُ الحياةَ بين نأي وكسرةٍ، حذفَ الواوِ الواقعةِ بين ياءِ وكسرةٍ، فقالَ لي: تالله إنك لَكَمَنْ ضَيَّع نفيع شرابه، وتتبّعَ لموعَ سَرَابِه، أو ما علمتَ أنَّ مَنْ مالَ عَنِ المال مالَ، ومَنْ حالَ في صهوةِ المحال حالَ، فليسَ لكلِّ رائدِ يساعدُ القَدَرُ، ولا لِكُلِّ صائدٍ يضافرُ الظَّفرُ، وليس المتغترِفُ كالمتملّقِ، ولا المتعلِّقِ كالمتأنق لكنْ أنا أسعى لما يُفْقِدُ وبال صِباحِكَ، ويوقِدُ ذبالَ مِصباحِك، ويُظهِرُ أضواء اجتراحِكَ، ويُمْطِرُ غَيْثَ الإغاثةِ براحِك، فارتقبني بُكْرَة غدٍ بدار الأحكام، وَبدَار بدارِ إلى مدارِ الأحكام، لأجعل ندى عيشك بَحْراً، وسُهى معيشتِك بَدْراً، فأصلحُ صحبكَ مَنْ إذا قعدتَ قام، وأحضرَ الالتقامَ وإن غانَ دهرُكَ وعانَ، ازدلفَ لنفعِكَ وأعانَ، وحمدَ لكَ الامتحانَ وحانَ، ولو خفض لكَ الدُّخَانَ وخَانَ، ثُمَّ إنَّهُ سابقَ صريمه، وقَصدَ حريمه وريمَهُ، وحينَ شرَق الفَلَقُ فلاحَ، وكرَّر المحيعِلُ الفلاحَ، بادرت إلى إشارته، رافلاً في شمالِ الشَرَهِ وشارته ثم إنِّي تأخرْتُ إلى أن تقدَّمَ الحاكمُ، وازدحمَ المحاكِمُ، وطلعَ سِنِّ سَيْلِ القساماتِ ودلعَ لسانُ سُهيلِ المخاصماتِ ولمّا انفصلَ عصامُ الخصام، ونصلَ عُصْمُ مِعْصم مخاصمة الأعصام، أقبلَ يُرقلُ إلى المعاش، بمُشاش الارتعاش، تلوَ خَوْدٍ كالزبرقانِ في تِمّهِ، معتلقةٍ بعروةِ كعبةِ كُمِّهَ، فَشَغَلَني عن طولِ طَمَع هِمَّتي العلياءِ، عَرْضُ بهاءِ بهجة نعجتهِ الألياء، ولمّا جَلا جحفلُ الالتحام، وانجلا صدأ حسام حام الاقتحام انغضت البنام، وأيقظت منَ رَقَدَ عن المحاكمةِ ونامَ، ثم إنها حالَتْ في ثَبَج القلق وجالَتْ، وسَلَّتْ سيوفَ إذلالها وذالتْ، وأسالتْ أوديةَ إدلالها وقالتْ: ضوعِف فيض القاضي، المِخْضل الراضي، الخَضِلِ التراضي، الضابثِ المرَاضي، المُضابثِ المُراضي، الفائض الجرواض، النابض الفياض، الجاهض الضِّرغام، الناهض الإضرام، العَريض الأحفاض، الغريض الأحماض، الخضرِم الفضفاض، الضيغَم النضناض، حضَار خضراءِ القُضاةِ، ضبارمةِ غوامض المُعضلات، مُقْرِض النَضِّ، ومبغض البَضِّ، ومُفَيّض الناضبِ، ومغيض القاضب، ومُضِيفِ القراضبِ ومُضيف القراضب، ضيعةِ الاضطرارِ، خَيْضَعةِ الإضرار، خَضَبَتْ ضرائبهُ ففاضَتْ ونَضَبتْ ضغائنهُ فغاضَتْ وضَفَتْ فرائضُهُ فراضتْ، وقَضَتْ أقضيتُه فهاضَتْ، ونضدَ فضلَهُ فأرَّضَ وخَضَدَ مخضلَّهُ فتأرَّضَ، وخَضَعَ لنصالِه المناضِلُ، وتَضَعْضَعَ لضنئه الأفاضل، ونَحض لقضائه الضَّليعُ، ونهضَ لإمضائه التضليع: الخفيف:

فائضٌ قابضٌ رضِيٌّ ضَرِيّ ... صابطٌ ضامر وضيٌّ رِضَام
فاضلٌ ناضِلٌ حضين خضمّ ... خائضُ الضَّبح والضرامُ ضرام
غض رضا وفاضَ فضلاً وضرًّاً ... ضمَّرَ الضُرَّ فاقتضاهُ انهضام
قاضبُ الضَّيرِ والضَّريرِ هَضيمٌ ... هاضمُ الضَّيم والهضيمُ يُضاف
حياضُ فضائلِه تفيضُ، ورياضُ فواضلهِ تستفيضُ، وضيفانُه تُضيفُ، وإضغانه تضيفُ، ومعارضتُهُ عريضة، ورياضته أريضة، وحاضرةُ حضرتهِ، ومحاضرةُ خضرة نظرته، خُضُلَّةُ الخُضَعَةِ الخاضم، الضجعَةِ الحاضرِ الجُراضم، أحضرتُهُ لضفف خضعني وقضف قضعني وعرض عضبني ومضض أغضبني، وضر غضضني وضر قرضني وضر خفضني وأبض رضني وبرض مضني وقرض حضني، وفرض أضني ومرض أمرض، وعرض أعرض، وغرَض أنغضَ، وغضارةٍ انقرضَتْ، وغضارة انخفضتْ، وفيض نَضَب، وقَبَض انقَضبَ، وضَرب ضربَتْ، وعَضُدٍ ضَرب اضطربَتْ، فانْقُضْ بقضائك ضيمَهُ، وأرحضْ هُضَيمَهُ، فمحاضرته ناحِضةٌ، ومضاجرتُهُ واضِحةٌ، فلضِغنهِ نَفَضت قاضِمتُهُ، وانفَضَتْ ناهضتُهُ، ومضَى أنْضَادُهُ وأنضادهُ، وانقضى عِضادهُ وأعضادهُ، وانخفَضَ نَحْضُه ومَحْضُهُ، وانقرضَ ومخَضَهُ، خفضُه ومخضُه، وانقبضَ عرضُه وعِرْضُه، وانتفض عِرضُهُ وعَرضه، وفاضَ مُهيضهُ ومهْيضُهُ، وجاضَ إغريضُهُ وإحريضهُ وضيَّع بضاعتَهُ وبضاعتي، وضَوّع ضَراعتهُ وضراعتي، وقَضَمَ بضِرْس قرْضبته مَخَاضي، وخَضَمَ بخَضخْضَة ماضغيه خضاضي، وقرضَ بمقراضَيْ رَفْضِه إرفضاضي، وتعرَّضَ بانقراض قراضي لانقراضي الطويل:
وفضَّ نضاري واضمحلَّ وضَرني ... بضرَةِ ضَرٍّ مَضَّ ضَيْري ببغضِها
وهاضَ اتِّضاحي وافتضاحي ورضَّني ... ضرائبُ ضَيْم ضاق ضبعي ببعضها
قالَ: فلما روَّقَ غَسَقُ قضيّتِها، وتروّق قَرْقَفُ ضُروبِ ضأديّتِها وختمتْ بديغَْ ماذيِّها، واَنْحَسَمَتْ ذوائب أواذِبِّها، وقتلَتْ بردفها الضخم وتقتَّلَتْ بنُطقها الفَخْم، قال له: ما تقولُ فيما عطبولتُك تقولُ فإني لأظنها منَ الصادقينَ، فكُنْ فيما تقولُهُ منَ المتقينَ، قبلَ أنْ أتلو تلاوةَ الفاغرينَ، ولئن لم يفعلْ ما آمرُه ليسجنَنَّ، وليكونا من الصاغرينْ، قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فأرهف سنانَ انزعاجه، وثقّفَ خِرصانَ انعياجه، وكثَّفَ عِثْيَرِ عجاجهِ، وهَدَّفَ درر احتجاجهِ، بعد أنْ أنَّ وانتحبَ، وهنَّ وانتخَبَ، وقال: حَفِظَكَ للظالع الظليم، وأيقظَكَ العظيمُ لتعظيم التعظيم، وبَهَظَ بمظاهرتكَ الظالم ودلظَ بظبىَ مناظرتِك المظالمَ، وأظهرَ لَظى تيقُّظكَ الواظبِ، واستظهرَ ظَرْفُ تحفّظِكَ المواظبِ، وظفَّرَكَ لمحافظةِ العظاتِ، وأنظركَ لملاحظةِ الظُّلاماتِ، ونظرَ ظليفُ ظلالِكَ، ونظَرَ ظليفُ ظِلالكَ الظاهرَ، وشظمَ إيقاظَك المتظاهرِ، ظفِرَتْ ظرافتُك فتكظكظتْ، وظَهَرَتْ نظافتُكَ فَتَدَلْظتْ، ونَظَرَ ظِلّكَ فعظَّم، وحظِي حَظلك فتعظم، فانظرْ لحظل أَظَرَّ بتمظيغ ظعينةٍ غليظة، شاظِفَةٍ وشيظة، حَظَرَتْ حظ حَظِّها وتفظّعَتْ وفظَّعَتْ فظاظة ظأبها ومَظّعَتْ، وتشظَّى لحظِّها الظَّلِفُ والشَّظيفُ، وظعنَتِ الوظائفُ والوظيفُ، وأفاظَ الطلفُ والأظَلُّ، وأظلَّ حَنْظَلُ الحفيظةِ وظَلَّ، وظهرَ المظاهرُ وفاظَ، وظفرَ ظُفْرُ عَظِّ العظيمةِ وغاظَ، وجُعِظَتْ الظَهرة والمظهرونَ، وأُجْعِظَتِ الظواهرُ والمستظهرون، فلعظم عَظْعظَةِ أَلظاظها، تعظَّلتْ غِلاظُ إِغلاظِها، وتدلَّظَتْ عظائمُ أوشاظِها، وما ظَظتْ بفَظاظِها لِظَعْن ظِعان حفاظِها، وأحفظَها قَيْظ شِواظها، لظهار انعاظِ شِظاظِها، ووظِرَتْ عكاظُ تعَظُّمِها، بظهور ظُرَر تظلُّمها، وتظاهرَتْ بظَلَفها، لِشَيْظَم شِنْظير شظَفِها، فلظلظَني غِلَظ لَفْظ نظمها، وغاظني عِظَمُ ظُلْم ظَلمها: الخفيف:
ظَلَمْتَني وظلّمتني فحظّي ... مُظْلِمٌ عِظْلِمٌ عظيمُ الظَّلام
كظّني الكَظْمُ والكُظومُ فغَنْظي ... جاحِظٌ باهظ فظيعُ النظام
فادْلُظِ الظُلم والكِظاظ فظهري ... ظاهرُ الظُرِّ غنْظُبِيِّ العِظام

فحينَ شَنّفَ بشُنوفِ ظائيتهِ، وشرَّفَ بانسحابِ سحابِ سحبانيتهِ، وحسَمَ مادَّةَ غضبه، وطسمَ عيونَ عيونِ صَخَبهِ، وقفلَتْ سمائمُ سُمومهِ، وأفلَتْ غمائمُ غُمومهِ، قالَ له القاضي: اصبر لحظِّكَ الفاركِ، وحِقِّ حِقِّكَ الباركِ، واتَّخِذْها صِفوة المباركِ، واعلَمْ أنَّ الإنجاب أولادُ الفواركِ ثم ما الذي تشكو لأزيلَ شكواكَ، وأعطِفَ عُنُقَ الإعانة لعدواكَ، وأستعطفَ لك قلبَ أمِّ مثواكَ، فقال: لستُ أشكو إلاَّ منَّها ومَنَّها، وحُبَّها لا لا إنَّها ولأنَّها، الخفيف:
جَذذتني بجَيْش جَذٍّ فجذي ... غِبّ بَغَضيْْ يَجزّ خفظيَ بخفضي
تتجنَّى بغُنْج جَفْن فجفني ... نَشَجٌ ثجَّ بَيْنَ قَضٍّ فغَض
تتثنى فتنثني بقضيبٍ ... قضف يجتني تبيغ غضي
ضيفتني بفيض غيظ بغيض ... خشِب نيفٍ بضيفنِ بغض
شنفتني بشنفِ شِف فبثي ... بث فذ يبيت ضيف تقضي
شتتني ففتتني فقضني ... في ضجيج يبتز بضي بفض
شيَّبتني فشيْبُ شيبي بشغْب ... غَيْثِ نَقْض يَقضي تَشَظي نُقْضي
قال: فلمّا حَسَرَ وجوهَ عُقودِ جُماناتِه، وكَسَرَ سَوْرَة وقودِ وقودِ أنَّاتهِ، وشرَقَ قَمَرُ مشارقِ آياته، وتُحقّق عدمُ عَدَم نَقْطِ حروفِ أبياتهِ، بكى الحاكمُ والحاضرون، وشكا له من نوازلِ الزمنِ المحاضرون، وحين فاحَ فائحُ فلاحه، ولاحَ كوكبُ صُبح صَلاحهِ، وأجنَتْ شجراتُ آمالهِ، وأينعَتْ ثمراتُ إعمالهِ، تألَمتْ لميلِ الحكم إليهِ، بعدَ أنْ كانَ مائلاً مع الزمان عليهِ، ثم إنَّها نظرتْ نظرَ اللبيبِ، وشَرَقتْ شمسُ شِقْشِقَتها والنزيبِ، وصكَّتْ بكفّها الخَضيبِ، ديباجةَ خدِّها الرطيبِ الخصيبِ، ولمَّا انهمَّ سَمُّ ذلك الجام، وهمَّ جَمُّ جَحْفلِ حَجَّتِها بالإحجام، ضارعَتْ سَحَّ ذلكَ الانسجام، بأبياتٍ عاريةٍ عن الاعجام وقالت: البسيط:
كم حكَّمَ الدهرُ حُكّاماً وعلّمهم ... مَعالمَ الحُكمِ والإحكامِ والحِكمِ
وكم هَوَوا وهَوُوا أهواءَ واطَّرحوا ... أوامرَ الرُّسْل والإسراءِ والحَكَم
وكم سَعَوا لطِماح طالح وسَدَوا ... لحاصلِ الحرْص كالمِرْسالةِ السَّدِم
وكم سَهَوا وسطَوا عمداً وطَحْطَحَهم ... معسكرُ السَّامِ والأرماس والسدَم
وكم علوا معهداً عَدْواً وما عَدَلوا ... وطالما عَدَلوا للحِرْم والحَرَمِ
وكم واصلوا مَطْمعاً حِرْصاً وكم ... حَرموا وصارموا رحم المحرومِ والحُرم
لو حاولوا عَذْلَهُم ما آل حالُهم ... حالَ المَعادِ لِهَصْرِ الرأس واللِمم
آهاً لهم لو رأوا ما سرَّ مسلكُهم ... لهلمموا هادماً للّوم واللَّمَم

قال الراوي: فانهمرَ غينُ عينِ الحكم وعبَرَ، واعتبرَ بمَنْ عبرَ واستعبرَ، ورَثى كلٌّ لحالِهما، ولم يشعُرْ أحد بمُحالهما، ثم إنَّه جَثَا جُثوة النّصَّار، وحثالهما حفنة من النّضَار، فخرصَتْ ذيّالكَ المعينَ، فكانَ سبعةَ أتساع تسعةٍ وسبعين، ثم إنّه غاص في لجَّةِ الحِزَقِ وحاص، وحاصَ عن مهيع المعاهدةِ واعتصاصَ، فحثَّني الحِرصُ على تعنيفه، وضَمِّ رفيق مرافقه إلى عنيفه، فامتطيتُ عَوْداً عَجمْتُ عودَ إقدامه، واستعجمتُ عن جوابِ مستامهِ، وأقبلتُ أتلوهُ كاليعفورِ المعفَّر، إلى أنْ آن اجتلاءُ الجونة في المُعَصْفَرِ، فألفيتُهُ عند عواءِ الوحوش، بخانٍ خالٍ منَ الحروش، خاو على العروش، فنزلتُ بالقلب الهالع، نزولَ الهوالع، وبرداءةِ الطالع عن أضالع الظالع، ثم بادرْتُ إلى تأنيبه، وذمّه على مَيْنهِ وتأويبه، وقلتُ لهُ: تَاللهِ لا أنتجعُ هتونَ اتّهابكَ، ولا أجتمعُ بعدها بكَ، أو يصيد السوذقَ ساقُ حرّ، ويُفيدُ الاختلاعُ برقبةِ مَنْ تحتَ حُرٍّ، ويوافق المهذب الوسيط ويُغَذِّي المركبَ البسيطُ، وتشرَبُ الوكنات بالمُغارف فقال لي: يا بنَ جريالٍ كيفَ يحظَى بحاجته، مَنْ لَمْ يفِدْ بإجابتهِ، أم كيف يظفَرُ بتجابته، مَنْ لم يَصِدْ بنجابتهِ، فأنَّى تطمعُ أنْ تكون في المغارم، كالمحلِّل الغانم لا الغارم، فدعْني مِنْ هذا السَّفَاءِ، وسِفِّ فَم فعلكَ الفأفاءِ، فإنِّي مختصٌّ معَ الكاعب اللفَّاء، بشطْرِ هذا اللفاءِ، اختصاص جوابِ الجَحدِ بملازمةِ الفاءِ، ثم إنَّه لبّق قلبي واستمالَ، وحبَّقَ خُلقانَه والشمالَ، ولَبَقَ قلبَهُ والمقالَ، وحَبَق بي مستهزئاً وقالَ: البسيط:
احذر فديتكَ أنْ تُلفى أخا طَمَع ... يُلقيْكَ في طَبَع ناهيكَ من طبع
والبس مِنَ اليأس سِرْبا لا تُزانُ بهِ ... فالعِزُّ في اليأس والإذلالُ في الطَّمَع
قال: فانثنيتُ عارياً منْ وبيلِ مننهِ، كاسياً من سرابيلِ سُنَنهِ، بعدَ أنْ فَرَرْتُ من عوالي نَكْر نُكْرهِ إذ عوى لي، فرارَ الصَّلَع من الدوالي، لعلمي أنَّ سِلْمَهُ مِنْ أنفعَ الدوالي.
المقامةُ التاسعةُ والأربعونَ الجزيريّةُ

حكَى القاسمُ بنُ جريال، قالَ: اجتويتُ جيرونَ عاماً لا عِلّةَ بهِ قَطّ، ولا جبذَ زِمامَ نوقِ مَنْ أحِبُّ بهِ الشَّحْط، وأنا في شَرْخ شَبَابٍ ما شابَه الوَخطُ، ولا خالطَ خطَّ عِذاري شَكْلُ البياض ولا النَّقْطُ، فخَرَجْتُ بقلبٍ منَ الجَوى وَجِل، ومَنسْم إلى الوَجىَ عَجِل، لا أتشوَّق إلى مرافق، ولا أتوقَّفُ على قَرقفِ موافقةِ موافق، فحينَ ظَهَرَتْ ثنيةُ العُقاب، وعَقَرَتْ بفَم الرِّحلَةِ ثنية الأعقابِ، أقبلتُ أتقلّدُ قلائدَ الدموع، وأتردَّدُ في ركوبِ رَكوبةِ الرجوع، ولم أزل أتذكّرُ نوائبَ السَّلفِ، وأتوقَّعُ توقيعَ ديوانِ وقائع التلَفِ، إلى أنْ شاهدْتُ المُناخ واتخْتُ الشَّدنيَّةَ مَعْ من أناخَ، فقُمْتُ حينَ رقَدَ التوقّدُ وباخَ، وتسنّمَتْ سُلامي النسيم السباخَ، لأصطفي صديقاً يُعادلني، أو أرتادَ رقيقاً لا يجادلني، فألقيتُ أبا نصر المصريَّ ينتجعُ شآبيب المعادلة، ويختلعُ رعابيبَ الخاتلةِ، فجنحتُ إليهِ جنوحَ مَنْ حظِيَ بربح نجائهِ، ووقَفَ مِنَ الأملِ على أرجائهِ، وأيقنتُ أنْ قَدْ فُزْتُ بلقائه، وإنْ كنتُ لأجِدُ ريحَ يوسفِ الحَذَرِ من تلقائه، فلمّا ألبسَني حُقل حِمْلاقِه، وألبستُ بَصَري قميصَ إملاقه، مالَ إلى مصافحتي، وأذكرَني أيام مناوحتي، ثم قالَ لي: إلامَ تركبُ التلاتلَ، وتصحبُ المخاتلَ، وتقلقُ المَقاتلَ، وتقلقلُ المُقاتلَ، فقلتُ لهُ: إلى أنْ ينشرَ مَيْتُ إفاقتي، وتُطوى من أجزاع الجزَع دروعُ فاقتي، ومعَ مفارقةِ منْ ضمَّهُ صيْرُكَ، وعمَّهُ عصيرُكَ، فإلى أينَ مصيرُكَ، وبأيّ البُقع يستجمُ قصيرُكَ، فقال لي: بلغَني ما تعطّرتْ بذكره الأكنافُ، وتشوَّفت بصنوفِ أوصافه الأصنافُ، وتشنَّفَتْ به الأسماعُ، وامتدَّتْ إلى طِيْبِ طيبهِ الأطماعُ، من وصفِ الجزيرةِ العمريّةِ، وأرجَ أخلاقِ قومها الشِمَّرية، وما حوَتْ منَ الصفاتِ، والأحكام المنصفاتِ، فحملَني الشوقُ الشديدُ الشامخُ، والتَّوْقُ المَشيدُ المتشامخُ، على أن اتضمَّخَ بصعيدِها، وأتشرَّفَ بوصيدها وصِيْدِها، علَّ أنْ أستخرجَ من عُباِبهم جمُانةً، أو أضَّمَ إلى سَفَطِ ما جَمَعْتُهُ مرجانةً، فقلتُ له: متى تخِذَتِ المجرّةُ للكرم جسورا واتَّخذَتِ الخُنسَُّ خوفَ الجلَل سُورا، وقَلّدَتِ الصفائحُ بالمِنَح نحوراً، وضمت الجزائرُ بحوراً وحوراً، فقال لي: سُبحان مَنْ سَلَب سَنا حِسِّكَ السليم، وألجأِ عوج حَدْسِكَ إلى العتابِ الأليم، وأحوجَ عَوَجَ نفسِكَ إلى ثقافة التعليم، ذلك تقديرُ العزيز العليم، ثم قال لي: هل لكَ في الموافقة إليها، وكثرةِ نثارِ هذه الأثنية عليها، لأنسيك مُرَّ انقطاع الرضاع، بحلاوةِ ارتضاع هذا الإيضاع، فقلتُ: من لي بأنْ أحمل ترابَ شراكِكَ، ولو نشِبتُ في شَطنِ إشراكِكَ، وأنسلكَ في علاط عيالكَ ولو رميتُ بسِلاطِ اغتيالك، ثمّ لَمْ نزل نَسري لسَرْوها الرائق بينَ الطرائقِ، ونقطعُ عُرَى العلائقِ، خوفَ العُذْرِ العائقِ، إلى أَنْ قبَّلَ فَمُ فِرسن الدرفسة سقلانَ وتقبَّل أرْيُ المرافقة ذلكً الجُلجلان، وحين ابتهجنا بمفارَقةَ اليَهماء، وولجْنا بابَ سورها السامي على السماءِ: البسيط:
ألفيُتها بَحْرةً بالبحرُِمحْدقَةً ... كأنَّها دُرَّةٌ في لُجِّ مُنْهمر
أو جَوْنةً قُلِّدَتْ بالشهب لَبَّتُها ... لتجتلا بالعُلى يوماً على قَمَر
ثم أخذنا بعدَ تحصيل الغَريفِ، ومدح دَوْحِها الورَيفِ، وحمد زيارةِ جودِّيها الشريفِ، نسبرُ مُرَسَ مراسِها، وشرفَ لِباس باسها، وعدم أدناس ناسِها، فلم نرَ إلاّ مَنْ يطيرُ بالقوادِم، لإسعافِ القادم، ويصافحُ بالعقلِ الثاقبِ، أناملَ الثواقبِ، ويُبرمُ قوى الأمراس، ليوم المِراس، ويُخمدُ أنفاسَ الخَرّاص، بالرُمح العرّاص، لا يلحقُون بحلبةِ محادثةٍ ولا يبرقونَ لحدوثِ حادثةَ محادثة، همهم إرغام المناخر، وإنعاشُ الرميم الناخر، وكسب المفاخر، وفتُّ فؤاد المفاخرِ، يُخْجِلُ نورُ إحكامَهَا القمرينِ، ويعدل عدِلُ حُكّامِها العُمرين، لا تنظرُ سوى أندية بالمناظرة موصوفةٍ، أو نمارِق حِكمٍ فوقَ قُرشُ المنافرةِ مصفوفةِ: البسيط:
كأنَّها جَنّةُ المأوَى وساكنُها ... حُوْرٌ حَوَتْ حُسْنَ أحكام وإحكام

لا يخفِضُونَ نزيعاً حل رَبْعهُمُ ... بل ينصبون بأنعام وإنعام
فيها الأذانُ وفيها للطِعانِ مَعاً ... مذ يُعرفون بأعلام وإعلام
لا يسبقون إلى العلياءِ إذ سَبَقوا ... كلَّ الأنام بأقدامٍ وإقدام
قالَ: فطفقتُ تدورُ لدينا فواكِهُ مفاكهاتِهم، وتسيرُ إلينا مناسمُ مناسماتِهم، ونحنُ نمرج في مروج افتنانِهم ونمرحُ، ونسرجُ عناجيجَ المَرَح، بلا حبِ إحسانِهم ونسرحُ، حتى صرنا مِنهم كاللازم من الملزوم، واتصلْنا بِهم اتصالَ الحازم بالحيزوم، وبينما نحنُ نشمخُ بشامخَ ذاك الحُدورِ، ونسمحُ بكاملِ بدورِتِيكَ الخدورِ، إذ عنَّ للخواطرِ، الطلوعُ بالعطر الماطر إلى الظواهر، بالقصفِ الظاهرِ، مشفوعاً بالقناني، والرحيق القاني، ولمّا بركتْ بنا أيانقُ القعودِ، وزمجرتْ علينا أسودُ الرعودِ، وأخذتِ السماءُ في الانتقابِ، وجعلت الشمسُ تنظرُ من خِلال النقاب، وسلّتْ سيوفُ السحبِ على مَدَرِها، فسالت أوديةٌ بقدرِها، أقبلتُ أفكِّرُ في الدرانكِ السُندسيّةِ، والطنافس السونيّةِ، ومدائنِ المنادمةِ مفتّحةَ الحصونِ، والطيرُ يشدو لرَقْص أعطافِ الغُصون، والغلائلُ تعبَثُ بها أيدي النسيمِ، والزهرُ قد عَمَّمِ رؤوسَ التسنيمِ، والبهارُ كالعاشقِ في انتظاره، والعبهر يبهر بلجينه ونضاره، والجسد فوق زلال مائه، كالعلم الراقي على ملائه، والسفنُ ترقُصُ على تصفيقِ الماءِ، رقص الغواني في إيقاع الغناءِ، والبقعةُ مع لُطفِ جَهْرِها والسِّوادِ، كالعروس المجلوةِ في السّوادِ: البسيط:
كأنّها مِزْهَرٌ في حِجْر غانيةٍ ... موصوفةٍ بغناءِ طائل الطَرَب
أو غاده لَبسَتْ غِربيب حُلّتِها ... من غير ما حَزنٍ منْها ولا حرَب

قالَ: فلمّا بلونا سبائكَ بَهارِها، وجَلَوْنا وجوهَ عرائس أزهارِها، تخيرنا وهدةً لزَفْنِ القيانِ، وروضةً لإدارةِ العقيانِ، تجاه جماعةٍ التحفوا بريطِ المطارحةِ، وأتزّروا بإزارِ المناوحةِ، يتدفَقُ حُلْو رحيق تحقيقهِم، ويترقرقُ برقُ جُلِّْ جَزلِهم ورقيقهم، ولما مارتْ أكوابُ مُسطارهم، وحَمِدوا سحائبَ أمطارهِم أحببنا استنشاقَ ألنجوجهم، واختبارَ نطقِ حَبرهم وعُلوجِهم، فقلنا لهم: هل لكم في ارتشاف شمطائنا، والانعطافِ لقطافِ زهرِ وطائنا، فقالوا لنا: تاللهِ لقد رقشتُم بأقلام أوفاضِنا، ورشقْتُم بسيِّ قِسيِّ وفاضنا، واعتقلتم رماح مستفاضنا، واعتلقتُم بقُوى أسبابِ أغراضنا، ثم إنَهم نهضوا من حالهم مرتاحين بحلاوةِ ارتحالِهم، فذكرَ كلّ حديثِ قديماً، وقبل كلّ نديم نديماً، وحل حَلَلنا محلَّ شِقهم وأقبَلنا عَلى نقلِ نُقْلهِم وزقِّهم، ملنا إلى شيِّ الكبابِ، وغيِّ الحَبابِ، ونشر الحِبابِ، وطَيِّ الضِّباب، حتى نصفنا المدامةَ، وعَرَفنا باقلَ القوم من قدامةَ، ولما ثارتْ زَعازعُ نزاعِهمِ، وأثارَتْ هُوج المناظرةِ خرائدَ اختراعِهم، تململ منْ بينهم أتيّ، ظاهرُ الفصاحةِ فتي، وقالَ: يمين اللهِ لقد غُلّتْ يدُ البلاغةِ بعد النواخر واعتلّت أجسامُ المفاخرةِ بين الأواخر، وعادتِ الدرَرُ إلى أصدافهاِ وزاحمَتِ البهائمُ الدُولَ بأَكتافِها، حتَّى لم نَرَ مَنْ يفوهُ بألوكة غريبِةِ، أو يَتِيهُ بوشي صناعةٍ غربيبة، قالَ: فلمّا طافت علينا سُقاة قاله، وتجافتْ جنوبنا عن مضاجع صِقالهِ، وذَوَتْ بُستانُ مسرّتنا الخضراءِ، وانزوِت أرجاءُ أرض نضرتِنا الغضراءِ، أقدم أبو نصر للحديثِ المسحَنفِر، كالغيثِ المثعنَجِر، وقال لَهُ: يا ذا المقْوَلِ الضَاربِ، والمخضَل المُضَاربِ، هلاّ ردعْتَ طلائعَ بدعِك وقد وقدعت بعيضَ عارض سَرعك، لئلا تسير بمنعكَ، سيرَ واخد، وتسوق الورى بقطيع واحدٍ أو ما علمتَ أنَّ بحضرتك، وحوزةِ محاضرتكَ، مَنْ تُزَفُّ عليه أبكارُ البدائع، وتَزِفّ إليهِ حمولةُ حسنِ الثناءِ الذائع، وتمنحهُ الفِكرُ بحسانِها، وتنقادُ لَهُ الزُّبَدُ بأرسانِها، إن قامَ لمعنىً بهرَ، أو أقامَ بمغنىً اشتهر، وأن تلفّظَ بقريضِه، فضحَ الأفاضلَ بإغريضهِ، أو ترنَّمَ باختراعهِ، بلبل البلابلَ بأسجاعهِ، ثم إنّه أدار نظرَهُ عليَّ، وغمزَ بحاجبهِ إليَّ، وقالَ: ها هو بازائكم، والمُجالسُ على مُزّائِكمَ فإن شئتُم أن تبصُروا لؤلؤَ فِصاحهِ، فسارعوا إلى معرفةِ إفصاحهِ أو تَخبروا قِرواحَ قِراحهِ، فبادروا إلى حلِّ حقيبةِ اقتراحهِ، قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فأقبلتُ عليهِ، وأقتلتُ مِمَا أشارَ إليهِ، وقلتُ لهم: قَسَماً بمَنْ حَرَم الحَظ المنيحَ، وحرَّمَ على الشحيح المديحَ، إنّهُ لمدرج هذهِ الجبوبِ، ومخرجُ هِتِهِ الريح الجَنوبِ، ومستخرجُ نُقودِ النُخبَ مِنْ هذي الجُيوبِ، الذي أدهشَ بنفائس حوبائهِ، واحتوشَ الحِكمَ إلى حَرمَ حِوائهِ، وترك كلاً يصبو إلى وشائه ويحشو بعرَ شائه بإنشائه، وأننِّي لدى تبره الخالص، وبحرهِ الغائص، كالدرهم الردي، والدرِع النّدي، وأنّهُ مِمَّن يقتلُ، ولا يدِي، ويصيدُ الأفاعي على يدي، فإيّاكَ وأن تصطلي بنارهِ، أو تبتلى غَواربَ تيّارهِ، فإنّه إنْ شَربَ شَربِ خابيةً، وإنما أخذ أخذ أخذةً رابيةً، فقال لَهُم: أرى كلاً شاهداً لرفيقهِ، قاصراً عن صعودِ عَقَبةِ فِيقه، عاجزاً عن مدِّ شعر أفيقهِ، قال: فزجرَهُ القومُ على مسيلِ ثقاله، وفكِّ عقالهِ في مقالهِ، وقالوا له: أنت يا هذا قدمْتَ بالأمس، بعد مفارقةِ الخْمس، ولم تعرف الضبارمة من النمْس، فكيفَ تَحاربُ العقاربُ السودَ، ويضارع السَّيد المسودَ فأخضعْ لفيضَ فضيلهما، ولا تمتر في إصابةِ نَبْلِ نَيْلِ نُيلهَما، قال: فأنه اكتأبَ لفَرَطاته، فعطفِ ليتَه إلى قَطاتهِ، وجعل يفكرُ في وَرطاته، بعد أنْ عظُمَ عليهِ وشقَّ، وقدَّ قميصَ يوسفِ سرورهِ فانشقّ فلمّا عرَفَ أبو نصر ضيقَ صَدرهِ، وطلوعَ غمائم غَمْغَمَةِ فِكرهِ، أخذَ في تغميزِ قَدَمه، وتمزيقِ زيقِ ندمهِ، وقالَ لهُ: أدنُ بحياتِكَ إليَّ، واقترحُ بما تحبُّه عليَّ، لئلا يعُمَّ صفوَ صحونا نَغَصٌ ولا يَضُمَّ شحرور انشراح قلبِنَا قَفَصٌ، ولتعلم أنَّ كل فصيح إلى وصيدِ إفصاحي يَصيرُ، وكلَّ بليغ تحتَ ألويةِ جيوش بإنشائي يسيرُ، فقال له:

أحبُّ أن تَبْتَدِعَ رسالةً تثقِّف مَيْلَ ظنِّ كُلِّ مائلٍ، وتُمزّقَ لسان لسانِ كلِّ قائِلِ، يكون آخرُ حرف من اللفظةِ الماضيةِ، كأولِ حرف من اللفظة التالية، لا يشوب شرابها لمعُ سراب، ولا يصوب بصوابِها إنصاب صاب معربة عن أشواق صادحة، وأتواق فادحة، وأشجان طافحة، وأحزان لافحة فقال: حباً لأمرك الكريم وحرم أربك المنزه الحريم، ثم إنه وقف قيس تعريس أو حلب ثعل عنتريس وقال له: أكتب: جدد دوام مجلس سيدنا العالم. ملك كرماء الزمان. نافع علماء الأوان. ناقد درَر رواءِ البيان نظام مَجرة هالة هذا البرهان ناسف فناء السفاء، الواسع عداء العَطاءِ السماء الخنذيذ ذا الرداء الجذيذ. ذو وجب بحضرته هناءْ النمو. وانسكب بها امتداد دأماء الدنوِّ وهطل لنا أنواء أحياء الحنوَ، وعرب بطلوع عز زهوهِا اعتداء العدُو. وأغرب بمدحِها ألسن نماء السموُ، ولالاهَ هَم معادِ دعَيِ، يانعٍِ عرواء أعضاءِ البطش شقي، يرفضُ ضياء بإحسانها المحذو ويكفر رَفَدَ دوم مدد دَرُها المرجو. والخادمْ مملوك كرمِها أصدَرَ رسالته هذه هادمة هُوةَ هفوتهِ. هاتمة هامة هامة هِزلاع عثرتهِ. هارب بخطا الخطاء إليك كاسر رديني يدداء الزَلل لديكَ: الطويل:بُّ أن تَبْتَدِعَ رسالةً تثقِّف مَيْلَ ظنِّ كُلِّ مائلٍ، وتُمزّقَ لسان لسانِ كلِّ قائِلِ، يكون آخرُ حرف من اللفظةِ الماضيةِ، كأولِ حرف من اللفظة التالية، لا يشوب شرابها لمعُ سراب، ولا يصوب بصوابِها إنصاب صاب معربة عن أشواق صادحة، وأتواق فادحة، وأشجان طافحة، وأحزان لافحة فقال: حباً لأمرك الكريم وحرم أربك المنزه الحريم، ثم إنه وقف قيس تعريس أو حلب ثعل عنتريس وقال له: أكتب: جدد دوام مجلس سيدنا العالم. ملك كرماء الزمان. نافع علماء الأوان. ناقد درَر رواءِ البيان نظام مَجرة هالة هذا البرهان ناسف فناء السفاء، الواسع عداء العَطاءِ السماء الخنذيذ ذا الرداء الجذيذ. ذو وجب بحضرته هناءْ النمو. وانسكب بها امتداد دأماء الدنوِّ وهطل لنا أنواء أحياء الحنوَ، وعرب بطلوع عز زهوهِا اعتداء العدُو. وأغرب بمدحِها ألسن نماء السموُ، ولالاهَ هَم معادِ دعَيِ، يانعٍِ عرواء أعضاءِ البطش شقي، يرفضُ ضياء بإحسانها المحذو ويكفر رَفَدَ دوم مدد دَرُها المرجو. والخادمْ مملوك كرمِها أصدَرَ رسالته هذه هادمة هُوةَ هفوتهِ. هاتمة هامة هامة هِزلاع عثرتهِ. هارب بخطا الخطاء إليك كاسر رديني يدداء الزَلل لديكَ: الطويل:
كئيب به هم مقيم مقلقل ... له هدة هالت تلاتلها البشر
رسا أسها أيام مارس سمها ... أخو وله هاو وحقك كالأثر
رهبانية هفواته هامية. هِزة همهمة همومه هائلة. هدد دلالك كلام مغناه هَزه هوان نهنهه هِجاء الصلف فما أغناه. هبر رئته هلال لواء الاغتراف فأضحى يرقب ببصيرة هدايته هلالاً لألأ لأواء الاعتراف: الطويل:
فها أنا أرجو وسع عَفوك كلما ... أسا الحلم ما أهفو وصفحكَ كافل
ليجمعنا إلٌ له همة هَمَت ... تلألأ، لا لاغ غلامك كامل
لو واصلني يوسفْ فتاءِ العِلاء، لأتيتْ تائباً ألتمس سناء العْلو والعفو. وأضرب بهذا اللقاء أقفاء الهفو والسهو والسلام: قال الراوي: فحين زَفَ عرائسَ الإرادة. وحفَ وحفْ أفنان، الإفادة، وضم تليل الشرفِ إلى دسيعه، ومَنَ بدرياق الملاطفةِ على لسيعهِ. وعلمَ من لفظ ماذي فضله المذاب. إشارته إلى تساوي الرؤوس والأذناب. أفعم وعاء علمه ثناء. وسماءُ سنى مسرته سناءَ. وثبتَ ثَبتْ براعته لديهم، وعكفت راح راح عبارته عليهم، ولما آن حِينُ الذهابِ، وحانَ حلولُ الفاحم الإهابِ، رفلَ في رداءِ ظرْفهِ واستدعاني بكفِّ كَفِّ طَرْفهِ، وقالَ: اعلم أنَّني عازمٌ تَرْكَ هذا الملحوب، وفَرْك سَراة شَرَاةِ سُرحوبِ هذا الحُوبِ، بعدَ أنْ أقلبَ له العَنْبرَ، وأقصدَ بَلْعَنْبَر، لأمر عَناني فإنْ كنتَ تُحِبُّ محالفتي وترومُ، فأنا مِمَّنْ يضمُّ شَمْلَهُ الرُّومُ، ثم إنَّهُ اَنخرطَ بسناسنه العُوج، بينَ المروج، انخراطَ البهلولْ والأرقط الزّهلولِ، وخلّفني ألاّ أذُمَّ ألفَهُ، وخلَّفني خَلْفَه، كفصيلٍ فارقَ خِلْفَهُ، فكنتُ كَمَنْ أودَعَ قلبَهُ السِهام وخِلبهُ السُهامَ، وأسبلَ ثجَّاجَ دمعه والرِّهَامَ، وخَرَجَ مِنَ الجنَّةِ وهَامَ.

المقامة الخمسونَ اليَمنيَّة
حدَّثَ القاسمُ بنُ جريال، قالَ: صَلفْتُ حين واجهتني شَوائبُ المشيبِ، وشافهتني شِفاه الغدائر الشّيْبِ، وقاطعتني شمائلُ الشبيبِ، وواصلتني عقائلُ الهرم القَشيبِ، مجاولةَ السَّلاهبِ، ومحاولة الأصاهب، واجتلاء العواتكِ، وابتلاء الرواتكِ، والتئامَ الدساكرِ، والتحامَ العساكرِ، وأنا ذو رفاهيةِ، وفراهيةِ غير متناهيةٍ، أسوفُ إنابَ الملاعبِ، وأطوفُ بكعبةِ بيتِ الكواعبِ، أظَلُّ بين سِدْرِ المُساهرةِ وسيالها، وأملأ ذنوبَ المسرةِ إلى أسبالِها، فقلتُ حينَ رهنت النُّخَبَ في رهاني، وأرهنتُ النظرَ فيما ازدهاني: الوافر:
رعاكَ اللهُ منْ شَيْبٍ نَهاني ... عن اللّهوِ المزهرهِ والهوان
وألهمني الهداية بعدَ عَشرِ ... وتِسْع في ثمانٍ مَعْ ثمان
وأنساني التدهدُه في الدواهي ... وإدمانَ الدنادن للدنان
وعوّضني عن الكاساتِ كَيْساً ... وتجويدِ المثاني بالمثاني
وأغناني عن الغادات رَغْما ... وتغريد المعاني بالمغاني
وحوَّلني خلائقَ لم أخلها ... تُخامرُ خّلِتي خَلْفَ الخِتانِ

ثم إنَي رجوتُ نشورَ الطَّاع، وقبضتُ منشورَ الإقطاع بالانقطاع، وأخذتُ أزحلُ عن المحدوج، وأرحلُ واحداً عن الحُدوج، علىَّ أن أظفَر بعد هياج الخَبَبِ والخُبوبِ، والقيام على ساقِ السَفَه والظُنبوبِ بمَنْ زهِدَ في الحُطام، وعَبِدَ من عبادة ذلك الالتطام، وطلَّقَ الدنيا وأشاحَ، وأعرضَ عن عَرَضِها والتاجَ، لأجعلَهُ جَوْنا لِظُلَم المتشابهاتِ، وعَوْنا لقَدْع شهواتِ الشبهاتِ، وبُراقاً لميدانِ الغايةِ، ودرياقاً لأفعوان الغوايةِ، فبينما أنا أمور مورَ الذعالب، وأغورُ غورَ الثعالب، ألفيتُ سريّة تسوحُ بأسنتها، وتروح ريح ريح المرَح بأعنتها، قد صرموا مصارم الرياس، وحصرموا أوتارَ القياس، منكبين عن الغزارةِ، متلببين للإغارةِ، تحكي المجادِلَ في ركوبها، والجنادلَ في كروبها، والبوارقَ في ذهوبها، والزعازعَ في هبوبها، فحينَ شاهدتْ غُباري، وشارفت غواربَ إغباري، بادرتُ إلى كفِّ مرامي، وكسفِ اجترامي لاَجترامي، ولم يبقَ سوى اللزوم، والأخذِ في الحُزوم على الحيزوم، فجعلتُ أنبسطُ وانقبضُ، وأرتفعُ وأنخفضُ، إلى أن ركضَني رئيسهم الأليسُ وهمامُهم الأهيسُ بسَاقه، وجمعَ بين وجوهِ الهربِ وبُساقه فانتقدتُه باللحظِ الصفيِّ، انتقادَ الصيرفيِّ، فإذا هو الغيثُ الغضنفريّ، أبو نصر المصريّ، فخبا عند ذلك حريقي، واغدودق بريقي وريقي، ثم قلت له: بفم مَنْ بلطفه استدلَّ، ورَفَلَ في ذلاذل المذلَّةِ وذل أما يعِظُكَ واعِظُ الهرَم، ويزجُركَ مؤدِّبُ النَّدم، وتوهنك خلائقُ الاختلاق، ويحزنك فزع يوم التلاقِ، فإلامَ تقطَر الكَميَّ، وتكدِّرُ الزاخر والسُّمِيًّ، وتنسكبُ انسكابَ سكابٍ، وتكتسب اكتسابَ كسابِ، وتلسعُ بسَلْع كبرك والِحدثان، آمناً من محادثة الحَدَثانِ، حتّى كأنَّك عينُ العاصم، أو أميرُ القدرِ القاصم، فَأفٍّ لشيبٍ لا تشيبُ أطماعُهُ ولا تحولُ لطولِ طُوَلِ التطاولِ طباعُهُ، قالَ: فذرفَتْ شآبيبُ أجفانِه، ووكفَتْ غرابيبُ عرفانهِ، وانسجمَ بلَبانهِ ما رخص محْمَلُ جُرُبَّانهِ، مَضَّني بإقناعه، وحضَّني حسنُ حَطِّ قناعهِ، قلتُ له: إنَّهُ الهازمُ بجيش سَعْدهِ، واللازمُ بزمام عبدِه، فعسى اللهُ أن يأتيَ بالفتح أو أمر من عنده، فقال لّي: إنِّي لأظنُّها ومَنْ زيّنَ الغَرَبَ وشرف العَربَ، وحرَّمَ الحَربَ، عنيّةً تشفي الجَرَب، ثم إنَّهُ ذَمَّ ورْدَهُ والجناح، وأورد وَرْدهَ وِرْدَ الصَّدَر وناحَ، فلبستُ سرابيلَ الانسلات، وطعمتُ حلاوة صلاتِ الانصلاتِ، بصُبْرٍ أطولَ مِنْ ظِلِّ القناةِ، وصَبْر أقصرُ من إبهام القطاةِ، ولم أزلْ بعد ما جرَعَ قلبي الجَزع، وقطعَ جَرَع الوَجَلِ وجَزع، ما بين ذلك اللاب، ومقاتلةِ الانقلابِ، أمزّقُ بنائقَ الارتفاقِ، وأشقِّقُ شقاشِقَ الإشفاقِ، وأهجرُ إلف الراقدِ، وأسيرُ سيرَ الفراقدِ، وألثم بشناتر الأخمصين، مواقعَ براثن أبي الحُصين، إلى أن رشَقَتْ سحنتي سهامُ السمائم وبَرَقَتْ مقلتي لسحِّ تلك الغمائم، فحينَ قهرْتُ الضَّنى والظلامَ، وهجرتُ المَها والمنامَ وقيل: لو تُركَ القَطا لنامَ، عطفتُ إلى معاقل اليَمَنِ، وأتحفتُ الزمنَ بالثناء الحَسَنِ، لأمتِّعَ البَصَرَ بكشْفِ نصيفُها، وأخيِّمَ بزخاريفِ ريفها، لعلمي أنَّ المقامَ بريفِها لذيذُ المذاقةِ كتصحيفها، قالَ القاسمُ بنُ جريال: فوالذي فصَّل إحكام القرآن، وفَضَّلَ الإفرادَ على القران، أسقيت مقلتي حِثاثا، ولا ألقيت عني رثاثا، أو أقبلَ أبو نصر في ثياب بذلته، بعد طِرفه المطهَّم وبدلتهِ، يفوجُ لديهِ جَنَى عيادةِ العبادةِ، ويلوحُ عليهِ سناسهم سعادةِ السعادةِ فقلتُ لهُ: ما الذي ألهمكَ مع امتطاء القطوفِ، الموصوفِ بالتحافِ الصوفِ المخصوفِ، فقال لي: يا بنَ جريال دَعْ فنيقَ المنافقةِ، واردَعْ شياطينَ الموافقةِ، عسى أن تشقِّق بهذه الرِّقاق شقَقَ الشِّقاقِ، ونخرجَ من نافقاءِ النِّفاق، إلى قاصعاء الاتفاقِ، فقلتُ له: لا مُدَّت يدُ مَنْ عليك يبغي، ذلك ما كُنَّا نبغي، ولمّا انطلق بي إلى رَحْل قُتوته ومَحْل قنوته وقُوتهِ، أقبلتُ أفكرُ في ارتداعه، وإقلاعه عن ربَض الدنسَ وقلاعه، فقال لي: أنا أمنحك علمَ ما حرصتَ عليه، ونصصت جيد انجذابك إليه ثم قال: اعلم أنني بت ليلة فراقكَ على قلق من أباقك، لمقاطعة رفاقك. ومواصلة اندفاقكَ ثملاً من خمر عِظاتكَ، متململاً لخوض

خمر عِضواتِك، فلمَا رنقَ السهر بأطنابه، وروق السحَر بأطنابه، وأخذَت مقلتي في الاغتماض. ورؤيا رقدتي في الأحماض، وجعلت جحافلُ البَخبَخة تعول، وحلائلْ الحلحَلة تحول، سمعتْ قائلاً يقول: الوافر:مر عِضواتِك، فلمَا رنقَ السهر بأطنابه، وروق السحَر بأطنابه، وأخذَت مقلتي في الاغتماض. ورؤيا رقدتي في الأحماض، وجعلت جحافلُ البَخبَخة تعول، وحلائلْ الحلحَلة تحول، سمعتْ قائلاً يقول: الوافر:
أتجمح بالجهالة في المراح ... وتسر بينَ إلحاح المراح
وتحمل بارتياح واتَقاح ... إلى الشحناء أرماحَ الجماح
وتصحَبْ كُل حين بعدَ حين ... إلى الحانات أقداحَ القداح
وتركب كلَ يوم في المَعاصي ... مدى الأزمان أحراح السفاح
وتسبأ بعد شيبكَ للمساوي ... من الإصباح أرواح الرياح
وتنسى ما ينوشك من رماح ... بباح الحين والراح المتاح
ستلقى ما ستلقى وقت تلقى ... إلى الأجداث من راح الصفاح
قال أبو نصر: فاستيقظتُ مرعوبَاً بفوارس الأحلام، مرهوباً بنشْر أعلام ذلك الإعلام، تمطرُني سحائب الشؤون، وتزجرُني شوائبُ الشجون، فضارعت بوعظِك الرَّقوبَ، وفارقت الفرقَ فراقَ القائبةِ القوبَ، واقتريتُ ملابسَ الاستنان، واقتريت إثرك مسلوبَ الاعتنان، يروقني راووق الهزال، ويسوقني وَقْعُ هادية هدايةِ الاعتزال قال الراوي: فقلتُ له: الحمدُ لله الذي أخرجكَ من هوةِ الهلكةِ، وتوجك بتاج هذه المملكة، واستجابَ ما أمّلتهُ من الاعتراءِ، وقناعة الارتعاءَ وترك ركوبة الكبيرة الفدعاء، إنَ ربي لسميع الدعاءِ، ثم إننا أقبلنا نرتحل رواحلَ التعبد ونحتمل ألوية جيوش التهجدِ، وأبو نصر لا يرقأ وَدْقُ تهتان جفونه، ولا يُرْفأ خرق خفقان شجونه، مجل بزهدهِ العَديم، مصل في حَلبة التقديم حتى عادَ كالعُرجون القديم، فانثنت له ورثيت، وأويت إلى بيت عذله وأويتُ، وقلتُ له: استبق بعض طلعِك، وارقَ على ظلعكَ فقالَ لي: يا بنَ جريالِ، أما علمتَ أن أجمل المعتبة أوجزها. وأفضلُ الأعمال أحمزُها، فمن صدقَتْ همَّتُهُ وصفَتْ وصِفت ومن برقت مقلته وغفت وغفت، ومَنْ سلكَ سبيلَ تسبيحه، فازَ بكسر كسر قبيح قبيحه، ومن انسلكَ في سفينة نوح نوحِه، ظفر بسكينة روح روحه، ومن استصبح ببوح بوحه أمن من عثار بوح بوحه، ثم إنه ولج إلى مخدعهِ وأنَّ، ودَلج في سَنن نُسكهِ واستَنَّ، وأعلن بالشهيق، وأمعنَ في ملازمة تلك الأزاهيق فلما سلَّم مَن سجوده، وسَلمَ من مفارقةِ وجوده، حاولَ الانتقالَ، وأرهفَ قواضبَ مقالهِ وقالَ: الوافر:
لحاك اللهُ من عُمَرِ عَميم ... تقضَّى بالدَّميم وبالدّميم
وإزعاجي الأوابد بالفيافي ... وشربي للذميم من الذميم
وتقريع القريع متى لحاني ... وتَجْريع الحَميم من الحَميم
وإظهار المساوي للمُساوي ... وإيصال الرسَيم إلى الرسيم
وإتحافي المزايا بالرزايا ... وإلحاق الَكليم إلى الكليم
وخَوضي للمَناهي والملاهي ... وفتكي في الظليم مع الظليم
فعيثي مثلُ غيثي لاحتراثي ... قبيحٌ والحكيم مِنَ الحكيم
سأسعى للحِسابِ وليسَ عندي ... سِوى ثوبي الكريم إلى الكريم
وقال: فما فتئ يتذكّرُ سوسَ سيئاتِه، ويكْرِّرُ شَوس شموس أبياتهِ، حتى شهَقَ شهقة فماتَ، والتحقَ بمن فاتَ، فأمسيتُ بعدَ إسهاب جزلهِ ووجيزه، ولباب حاوي ملَحهِ وتَعجيزه، كإوانٍ هَوَتْ عَروسُ خِدره، أو بستان ذَوَتْ غُروسُ ثمره، مُحَولقاً لمحاقِ مِزِّه، متحرّقا لفراقِ حُلوه ومُزِّه، مفتوناً بحرارةِ عَزائه، محزوناً بحزازة نزول معزائه، ولما سامرَ وريدَهُ الدُّودُ، وخامرَ خدَّهُ الأخدودُ، وثُلّتْ عليَّ معالي الأمورِ، وبُلَّتْ ضفائرُ خرائد نُخبه بالخمورِ، قلتُ والقومُ لمصابهم متوجِّعون، ولصَوب أوصابهم مسترجعون، ولانصباب صابهم متجرعون، كل شيءٍ هالكٌ إلاَّ وَجْهُهُ، لهُ الحكمُ وإليه ترجعون.

تمت المقاماتُ الزينيّةُ بحمدِ اللهِ وحُسْنِ توفيقِه على يدي أفقرِ العباد المحتاج إلى رحمةِ ربه الولي يوسف بن محمد بن علي أعانه اللهُ يوم الفزع الأكبر في رابع عشر صَفر ختَم بالخيرِ والظفر من شهورِ سنة اثنتين وسبعمائة حامداً.

الاعتذار
يقول العبدُ المفتقرُ إلى رحمة اللهِ وغفرانه أبو المعالي محمد بن بلكو بن أبي طالب الأوي أصلح الله شأنه وصانه عما شأنه.
قالَ مولانا الصاحبُ الإمام المعظم، العالمُ المؤيدُ الأعظمُ، علامة الأمم، أفصح العربِ والعجم، ملك الأئمة، افتخار الأمةِ، ناشر رمم البلاغةِ غِب دثورها، ومنور بدورِ الفصاحةِ بعد انمحاقِ نورِها، وعامر رباع الأدبِ وقد عَفَت آثارها، ورافع شعار العلوم وقد كاد ينهدمُ منارها، حتى أذعنَتْ رؤساء العصر لسلطان فضله الكاملِ، وتوَّجتِ الأماثلُ آمالها بالتوجّهِ إلى كعبة أفضالهِ الشاملِ، واعترف الفضلاء - بإحرازِهِ قصبَ السبق على الأوائلِ والأواخرِ، واغترف الفصحاءُ من عُباب تيار علمه الخِضمّ الزاخر، شمس الملةِ والحقّ والدين عزّ الإسلام والمسلمين، أبو الندى معد بن نصر الله الجزري، لا زالَ مرتقياً في السعادة إلى أقصى الكمالات، ومتمكناً من سُدة السيادةِ أجلِّ المقاماتِ، هذهِ غايةُ مقاماتي التي نسجتُها بأناملِ البيانِ القصير واستخرجتها من عِنانِ لسان التقصير، وانتزعتُ مُجاجها من ضحضاح نضوبِ، وصنعتُ زُجاجها بعزم صائك الصدأ مقضوب، وشحنت خلالها بزخاريف الخرافات، وكلِّلت أغفالَها بتكاليف المستقذفاتِ وأنا راج خفاء خللِ خداجها واستخفاء وَخيم وشَل إخداجها، ولولا صنوفُ صروفِ القضاءِ، واقتحامُ التحام هولِ هذا الفضاء، والنظرُ بالمقلةِ الهاميةِ المَرْهاءِ، والخبط بهوى هَوَى هذه الشوهاءِ، لما أبتُ بالعناق، وتلبّبتُ لهذا الاعتناق، واستعطفت ذرار هذا المِعْذارِ، وعطفتُ لخلع العِذار في الاعتذارِ، ولو تسنَّمت سنان الاستواء، وأعتمت محاسن رواء الأراء، ونصرت ببصيرة صافية، وانتصرت بمريرة مصافية، لرأيت مفصل عنق عبارتي مسلولاً، ومقصل عنق براعتي مشلولاً، وأيانق رويّتي لا تُفْعِمُ ثعولاً، وعواتق قريحتي لا تستحق بعولا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هذا آخر الاعتذار والحمد لله رب العالمين فصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.
أقسام الكتاب
1 2