كتاب : أخبار النساء
المؤلف : ابن الجوزي
بسم الله الرحمن الرحيم
باب ما جاء في وصف النّساءالمرأة بين معاوية وصعصعة
قال معاوية لصعصعة: أيّ النّساء أحبّ إليك؟ قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيّهن أبغض إليك؟ قال: أبعدهنّ لما ترضى. قال معاوية: هذا النّقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل.وقال معاوية: ما رأيت نهماً في النّساء إلاّ عرف ذلك في وجهها.
قضاء عمر في المرأة
شكت امرأةٌ إلى زوجها قلّة إتيانه إليها، فقال لها: أنا وأنت على قضاء عمر. قالت: قضى عمر أنّ الرّجل إذا أتى امرأته في كلّ طهرٍ فقد أدّى حقّها.الشّرّ مجلبةٌ للجّماع
وقع بين امرأةٍ وزوجها شرٌّ فجعل يكثر عليها بالجّماع، فقالت له: أبعدك الله!
اقتلها وعليّ إثمها
جاء رجلٌ إلى علي، رضي الله عنه، فقال له: إنّ لي امرأةً كلّما غشيتها تقول قتلتني. فقال: اقتلها وعليّ إثمها.
غدرت به زوجته فقتلها
غزا ابن هبيرة الغسّاني الحارث بن عمر فلم يصبه في منزله، فأخرج ما وجد له، واستاق امرأته فأصابها في الطّريق، وكانت من الجمال في نهايةٍ، فأعجبت به، فقالت: له أنج فوالله لكأنّي به يتبعك كأنّه بعيرٌ أكل مراراً. فبلغ الخبر الحارث فأقبل يتبعه حتّى لحقه فقتله، وأخذ ما كان معه، وأخذ امرأته. فقال له: هل أصابك؟ فقالت: نعم، والله ما اشتملت النّساء على مثله قط. فلطمها ثمّ أمر بها فوثّقت بين فرسين ثمّ أحضرهما حتى تقطّعت. ثمّ أنشأ:كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الودّ حبّها خيتعور
إنّ من غرّه النّساء بودٍّ ... بعد هذا لجاهلٌ مغرور
رأي الحكماء وغيرهم في المرأة
قال بعض الحكماء: لم تنه قط امرأةٌ عن شيءٍ إلاّ فعلته. للغنوي:إنّ النّساء متى ينهين عن خلقٍ ... فإنّه واقعٌ لابدّ مفعول
ولغيره:
لا تأمن الأنثى حبتك بودها ... إنّ النساء ودادهنّ مقسّم
اليوم عندك دلّها وحديثها ... وغداً لغيرك كفّها والمعصم
رأي أعرابيٍّ في النّساء
سئل أعرابيٌّ عن النّساء، وكان ذا همٍّ بهنّ، فقال: أفضل النّساء أطولهنّ إذا قامت، وأعظمهنّ إذا قعدت، وأصدقهنّ إذا قالت، التي إذا ضحكت تبسّمت، وإذا جوّدت؛ التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها؛ العزيزة في قومها، الذّليلة في نفسها، الولود، التي كلّ أمرها محمود.
الذّنب يساوي الطّلاق
طلّق رجلٌ امرأته، فقالت له: أبعد صحبةً خمسين سنةً قال: ما لك عندنا ذنبٌ غيره؟.
رأي عبد الملك في الجّواري
قال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتّخذ جاريةً للمتعة، فليتّخذها بربريّةً ومن أراد للولد فليتّخذها فارسيّةً؛ ومن أرادها للخدمة فليتّخذها روميّةً.
الأصمعي وبنات العم
ّقال الأصمعي: بنات العمّ أصبر، والغرائب أنجب. وما ضرب رؤوس الأبطال كابن عجميّة.
أعوذ بعدلك يا أمير المؤمنين
من جور مروان
ذكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً، وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول متلقياً فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ من بني عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ أنشأ يقول:معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل ... ويا ذا النّدى والجود والنّابل الجزل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي ... فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصافٍ من الجّائر الذي ... شواني شيّاً كان أيسره قتلي
سباني سعدى وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني ... بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمّ بقتلي غير أن منيّتي ... تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّةً ... فقد طار من وجدٍ بسعدى لها عقلي
فلمّا فرغ من شعره قال له معاوية: يا إعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً من
عمّالنا ولم تسمعه لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك
مروان بن الحكم عامل المدينة. قال معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال:
أصلح الله الأمير، كانت لي بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت
كلفاً بها لما كانت فيه من كمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا
أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين.
وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت أعولها ونفسي بها. فدارت عليها
أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا
أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلاً
على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني،
وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك
مروان بن الحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له
مروان: يا أيّها الرّجل لم حلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله
الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوجته من ابنتي قط. قلت أنا: أصلح الله
الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها ويسمع منها ما
تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت بين يديه ونظر إليها
وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي، يا أمير المؤمنين
خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت من السّماء في مكانٍ
سحيقٍ، ثمّ قال لأبي بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي، وأنقدك ألف دينارٍ،
وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها:
إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك.
فلمّا كان من الغد بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان،
فقال لي: يا أعرابي طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى
السّجن، فلمّا كان في اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين
يديه، قال: طلّق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه
فضربوني ضرباً لا يقدر أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان
في اليوم الثّالث قال: عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ
بالسّيف والنّطع وأحضر السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة
والدي، لئن لم تطلّق سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك.
فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بي
إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ
أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين.
فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها
بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه تفيض. ثمّ أنشأ يقول:
في القلب منّي نارٌ ... والنّار فيه الدّمار
والجّسم منّي سقيمٌ ... فيه الطّبيب يحار
والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار
حملت منه عظيماً ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلٌ ... ولا نهاري نهار
فارحم كئيباً حزيناً ... فؤاده مستطار
اردد عليّ سعادي ... يثيبك الجبّار
ثمّ خرّ مغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به
قال: وكان في ذلك الوقت معاوية متكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه
قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن
الحكم ضراراً في حدود الدّين، وإحساراً في حرم المسلمين: ثمّ قال: والله
يا أعرابي لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ
وقرطاسٍ فكتب إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديت على
رعيّتك في بعض حدود الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما
ينبغي لمن كان والياً على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر
نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق به بقيت معه،
وإذا كان لها ذئباً فمن يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمه ... فاستغفر الله من فعل امرئٍ زاني
قد كنت عندي ذا عقلٍ وذا أدبٍ ... مع القراطيس تمثالاً وفرقان
حتّى أتانا الفتى العذريّ منتحباً ... يشكو إلينا ببثٍّ ثمّ أحزان
أعطي الإله يميناً لا أكفّرها ... حقّاً وأبرأ من ديني ودياني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحماً بين عقباني
طلّق سعاد وعجّلها مجهّزةً ... مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلّغت في بشرٍ ... ولا كفعلك حقاً فعل إنسان
فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها ... أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
ثمّ ختم الكتاب. وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا
وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّّ
بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب.
فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت
إليه قالت له: سيّدي ما الذي يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في
أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني
معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى
معاوية بهذه الأبيات:
لا تعجلنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في رفقٍ وإحسان
وما ركبت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
أعذر فإنّك لو أبصرتها لجرت ... منك الأماقي على أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلها ... عند الخليفة إنسٌ لا ولا جان
لولا الخليفة ما طلّقتها أبداً ... حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفان
على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلقٍ ... حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على
معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن في هذه الأبيات،
ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ
لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل
إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها
النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي
أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابي.
فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها
ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ
عشر خلعٍ من الخزّ والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما
يجري على المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ
معاوية كلامه غشي على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية أنّه قد مات منها.
فلّما أفاق قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شرّ بالٍ، وأسوأ حالٍ،
أعوذ بعد لك يا أمير المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلني هداك الله من ملكٍ ... كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
أردد سعاد على حرّان مكتئبٍ ... يمسي ويصبح في همٍّ وتذكار
قد شفّته قلقٌ ما مثله قلقٌ ... وأسعر القلب منه أيّ إسعار
والله والله لا أنسى محبّتها ... حتّى أغيّب في قبري وأحجاري
كيف السّلوّ وقد هام الفؤاد بها ... فإن فعلت فإني غير كفّار
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرمٍ ... لا فعل غيرك، فعل اللؤم والعار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة ما
رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليل وبغّضت ... إليّ نساءٌ ما لهن ذنوب
وما هي إلاّ أن أراها فجاءةً ... فأبهت حتّى لا أكاد أجيب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن
نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ
قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره،
أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟ فأشارت
الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمار ... أعزّ عندي من أهلي ومن جاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله ... وكلّ ذي درهمٍ منهم ودينار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت
لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى
الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي
معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها
بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
؟الذي جاء شرٌّ من الذي مرّ
قال أبو الخطّاب: كان عندنا رجلٌ أحدبٌ فسقط في بئرٍ فذهبت حدبته وصار
آدراً فدخل عليه جيرانه يهنّئونه فقال: الذي جاء شرٌّ من الذي مرّ.
؟أعرابيٌّ يصف رجلاً جميلاً
ذكر أعرابيٌّ رجلاً جميلاً فقال: والله لو أبصرته العيدان لتحرّكت
أوتارها، ولو رأته عاتق الخدر لطار خمارها.
وقال بعض الأعراب:
ماذا تظنّ سليمي إن ألمّ بنا ... مرجّل الرّأس ذو بردين مزّاح
خرٌّ عمامته، حلوٌ فكاهته ... في كفّه من رقى إبليس مفتاح
؟رأي عائشة في خطيبة الرّسول
صلّى الله عليه وسلّم
يروى، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خطب امرأةً من كلبٍ فبعث عائشة
رضي الله عنها تنظر إليها، فقال لها: " كيف رأيتها " ؟ قالت: ما رأيت
طائلاً. قال: " لقد رأيت طائلاً، ولقد رأيت حالاً تجدينها حتى اقشعرّت كل
شعرةٍ فيك " . فقالت: وما دونك سترٌ يا رسول الله.
يرى صورته في وجه قتادة
ويروى عن حيّان بن عمير أنّه قال دخلت على قتادة بن ملحان فمرّ رجلٌ في أقصى الدّار فرأيت صورته في وجه قتادة، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، مسح وجهه.ذو النّسب والحسب قريبٌ من الله
وعن عون بن عبد الله، أنّه قال: من كان في صورةٍ حسنةٍ، ونسبٍ، وحسبٍ، ووسّع عليه في الرّزق، كان من خلصاء الله.
إشراق الوجه يجلو البصر
ويروى عن عائشة، رضي الله عنها، أنّها قالت: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل، فإن كانوا في القراءة سواء، فأصبحهم وجهاً. وعن ابن عباس أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " النّظر إلى الوجه يجلو البصر؛ والنّظر إلى الوجه القبيح يورث الفلج " .جمال الوجه فتنةٌ لعباد الله
قال حليّلان المغنّي: دخلت دار هارون الرّشيد فإذا أنا بجاريةٍ خماسيّةٍ، أحسن النّاس وجهاً، على يدها سطران مكتوبان بالغالية، فقرأتهما فإذا هما ممّا عمل في طران الله، فتنة لعباد الله وقال بعضهم: سمعت يحيى بن سفيان يقول: رأيت بمصر جاريةً بيعت بألف دينارٍ، فما رأيت وجهاً قط أحسن من وجهها صلّى الله عليها. قال: فقلت له يا أبا زكريّا، مثلك يقول هذا مع ورعك وفقهك؟ فقال: وما تنكر عليّ من ذلك؟ صلّى الله عليها وعلى كلّ مليحٍ: يا ابن أخي الصّلاة رحمة.
غدرت بزوجها وخانته
قال: خرج شامة بن لؤي بن غالب من مكّة حتّى نزل بعمان على رجلٍ من الأزد.وكان شامة بن لؤي من أجمل خلق الله، فقراه وبات عنده. فلما أصبح
قعد يستنّ فنظرت إليه زوجة الأزدي فأعجبها، فلمّا رمى، مضت إلى سواكه
فأخذتها فمصّتها، فنظر إليها زوجها، فحلب ناقةً وجعل في اللبن سمّاً
وقدّمه إلى شامة، فغمزته المرأة، فأراق اللبن وخرج يسير. فبينما هو في
موضعٍ يقال له خرق الجّميلة أهوت ناقته في عرفجة؟ فانتشلها وفيها أفعى
فنهشت مشفريها فحكتها على ساق شامة فمات. فقالت الأزد:
إذا ناقتي حلّت بليلٍ ففارقت ... جملة لمّا أنبتّ منها قرينها
فقلت لها حثّي قليلاً فإنني ... وإيّاك نخفي عبرةً سترينها
غدرت بنا بعد الصّفاء وخنتنا ... وشرّ مصافي خلّةٍ من يخونها
الصّبا تبلسم قلب المحزون
قال سليمان بن أبي سمخ تزوّج رجلٌ من تهامة امرأةً من نجدٍ فلمّا نقلها
إليه، قالت له: ما فعلت ريحٌ من نجد كانت تأتينا يقال لها الصبا ما رأيتها
ههنا؟ فقال: يحجزها عنّا هذان الجّبلان. فأنشأت تقول:
أيا جبلي نعمان بالله خلّيا ... نسيم الصّبا يخلص إليّ نسيمها
فإنّ الصّبا ريحٌ إذا ما تنفّست ... على قلب محزونٍ تجلّت همومها
أجد بردها أو يشف منّي حرارةً ... على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فرّقهما الفقر وجمعهما معاوية
قال الزّبير حدثني أبي، قال: كان عندنا بالمدينة رجلٌ من قريش كانت له
امرأة تعجبه ويعجبها، وكانت تحول بينه وبين طلب الرّزق، وكلّ ذلك يحتمله
لشدّة محبّته إيّاها فلمّا ساءت حاله وكثر دينه قال:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصّديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاًّ وأوشكت ... قلوب ذوي القربى له أن تنكّرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيشٍ بدونٍ ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
وما طالب الحاجات من حيث يبتغي ... من النّاس إلاّ من أجدّ وشمّرا
فلّما أصبح قال لامرأته: أنا، والله أحبّك، ولا صبر لي على ما نحن فيه من
ضيق العيش، فجهّزيني. فجهّزته، فخرج حتّى قدم على معاوية بن أبي سفيان
فقام بين الصّفّين، فأخبره بحاله، وأنشده الشّعر. فرقّ له، وأمر له بألف
دينارٍ وقال له: لقد دلّني حالك على محبّتك لأهلك وكراهيّتك لفراقهم فخذ
وانصرف إليهم فأخذها وانصرف راجعاً.
ألا أيّها الغيران
وأنشد الزّبير بن بكار: لجميل بن معمر:
لئن كان في حبّ الحبيب حبيبه ... حدودٌ لقد حلّت علي حدود
ألا أيّها الغيران بي أن أحبّها ... بسخطك ينمو حبّها ويزيد
فلو متّ كان الموت يخلف للهوى ... لها في فؤادي الوجد وهو جديد
وتحسب نسوانٌ إذا جئت زائراً ... بثينة أنّي بعضهّن أريد
فتخبركم عنّا جنوبٌ مضلّةٌ ... وتخبرنا هتف العشيّ برود
إذا بلغتكم حاجةٌ رجعت لنا ... إليكم بأخرى مثلها فيعود
يا حبّذا أمّ الوليد
وأنشد أيضاً لجميل بن معمر العذري:
تمتّعت منكم يا بثين بنظرةٍ ... على عجل والنّاعجات وقوف
فيا حبّذا أمّ الوليد ومربعٌ ... لنا ولها بالمنحنى ومصيف
بثنتان يسترن الوشاح عليهما ... وبطن كطيّ السّابريّ لطيف
أتصرم حبلي يا جميل
؟وأنشداه في مثل ذلك أيضاً:
بثينة قالت يا جميل وسوّدت ... مجال القذى منها بثينة بالكحل
أتصرم حبلي يا جميل وقادني ... إليك الهوى قيد الجنيبة بالحبل
وقالت لقينا ما لقيت من الهوى ... ما مسّ رأس من دهانٍ ولا غسل
أنت طالق
قال عليّ بن المغيرة كانت زينب بنت يوسف بن الحكم بن أبي عقيل
أخت الحجّاج بن يوسف لأبيه وأمّها الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعودٍ
الثّقفي عند المغيرة بن شعبة فرآها يوماً تتخلّل بكرةً فقال لها أنت طالقٌ
والله لئن كان هذا من غذاءٍ لقد جشعت ونهمت، وإن كان من عشاءٍ لقد أنتنت
وقذرت، فقالت قبّح الله الذواق والمطلاق ولا يبعد الله، والله ما هو الذي
ظننت، ولكنّه استمسك بين أسناني شظيّة من السّواك.
وكان سبب قول النّميري فيها: إنّ أباها يوسف بن الحكم مرض، وكان يزيد
معاوية قد ولاّه صدقات الطّائف وأرض الشّراة، فنذرت إن الله عافاه أن تمشي
إلى الكعبة معتمرةً من الطّائف، وبين الطّائف ومكّة يومان وليلتان، فمشت
ذلك في اثنين وأربعين يوماً، وكانت جميلةً وسيمةً فلقيها النّميري، وهو
محمّد بن عبد الله بن نميرٍ الثّقفي، ببطن نعمان فقال:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذ مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطرات
تهادين ما بين المحصب من منى ... وأقبلن لا شعثاً ولا غبرات
مررن بفخٍّ رائحاتٍ عشيّةً ... يلبّين للرّحمن مؤتجرات
لها أرج بالعنبر الورد فاغم ... تطلّع رياه من الفترات
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويمشين شطر الليل معتمرات
وليست كأخرى أوسعت جنب درعها ... وأبدت بنان الكفّ للجّمرات
ومالت تراءى من بعيدٍ فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
تقسّمن لبّي يوم نعمان إنّني ... بليت بطرفٍ فاتك اللّحظات
يظاهرن أستاراً ودوراً كثيرةً ... ويقطعن دور اللهو بالحجرات
ولمّا رأت ركب النّميري أعرضت ... وكنّ من أن تلقينه حذرات
دعت نسوةً شمّ العرانين كالدّما ... أوانس ملء العين كالظّبيات
فأبدين لمّا قمن يحجبن زينبا ... بطوناً لطاف الطّيّ مضطمرات
قلت: يعافير الظّباء تناولت ... يناع غصون الورد مهتصرات
فلم ترعيني مثل ركبٍ رأيته ... خرجن من التّعمير معتمرات
وكدت اشتياقاً نحوها وصبابةً ... تقطّع نفسي إثرها حسرات
وغادرت من وجدي بزينب غمرةً ... من الحبّ إنّ الحبّ ذو غمرات
وظل صحابي يظهرون ملامتي ... على لوعة الأشواق والزّفرات
فراجعت نفسي والحفيظة إنّما ... بللت رداء العصب بالعبرات
وقد كان في عصياني النّفس زاجرٌ ... لذي عبرةٍ لو كنّ معتبرات
زينب سبب نفي النّميري وعذابه
قال مسلم بن جندب الهلالي كنت مع عبد الله بن الزّبير بنعمان وغلام ينشد
خلفه، وهو يشتمه أقبح الشّتم. فقلت له: ما هذا؟ فقال: دعه فإني تشبّبت
بأخت هذا الحجّاج بن يوسف. فلمّا قتل الحجّاج عبد الله بن الزّبير دعا
النّاس إلى البيعة، فتأخر محمّد حتّى قام في آخر النّاس ولم يجد من الحضور
بدّاً. فلمّا دنا منه قال: أمحمّدٌ؟ قال نعم: قال: أنشدني ما قلت. فأنشدته
قصيدتي هذه فقال: لولا أن يقول قائلٌ لضربت عنقك، أنج لا نجوت ولا تعد
فقال: لا تعرضت لاسم زينب ما بقيت.
قال: ولما خاف النّميري من الحجّاج عاذ بأبيه يوسف بن الحكم. فلمّا أرسل
عبد الملك الحجّاج لقتال ابن الزّبير، قام إليه يوسف بن الحكم وقال له: يا
أمير المؤمنين إنّ فتىً منّا ذكر زينب بما يذكر به العربيّ ابنة عمّه، وقد
علمت أنّ هذا لم يزل يتقلّب عليه. قال عبد الملك: أليس النّميري؟ قال:
بلى، قد سمعت شعره فما سمعت مكروهاً ثمّ أقبل على الحجّاج وقال: لا تعرض
له.
ويقال إنّ عبد الملك لمّا بلغه شعر النّميري كتب إلى الحجّاج: قد بلغني ما
كان من قول النّميري، فلا تدنه فتقطعه، ولا تقصه فتغره. ولكن أهمله واله
عنه. فلم يهجه الحجّاج ومن قوله فيها:
تشتو بمكّة نعمة ... ومصيفها بالطّائف
أكرم بتلك مواقفا ... وبزينب من واقف
ومن شعره فيها أيضاً:
وما أنس من شيءٍ، فلا أنس شاديا ... بمكّة مكحولاً أسيلاً مدامعه
تشرّبه لون الزّرافي في بياضه ... أو الزّعفران خالط المسك أدرعه
ترك زوجته وتعلّق بأروى وقسطا
قال الزّبير بن بكار: حكى الحسن بن علي مولى بني أميّة قال: خرجت إلى
الشّام فلمّا كنت بالسّمهاة ودنا الليل رفع لي قصرٌ فأهويت إليه،فإذا أنا
بامرأةٍ لم أر قط مثلها حسناً وجمالاً. فسلّمت، فردت عليّ السّلام، قالت:
ممّن أنت؟ قلت: من بني أميّة. قالت: مرحباً بك، أنزل، فأنا امرأةٌ من
أهلك. فأنزلتني أحسن منزلٍ وبتّ أحسن مبيتٍ.
فلمّا أصبحت قالت: إنّ لي إليك حاجة. قلت ما هي؟ فأشارت إلى ديرٍ، وقالت:
إنّ في ذلك الدّير ابن عمّي، وهو زوجي، وقد غلبت عليه نصرانيّةٌ في ذلك
الدّير، فتمضي إليه وتعظه. فخرجت حتّى انتهيت إلى الدّير، فإذا برجلٍ في
فنائه من أحسن الرّجال وأجملهم. فسلّمت عليه، فردّ وسأل. فأخبرته من أنا،
وأين بتّ، وما قالت المرأة. فقال: صدقت، أنا رجلٌ من أهلك من أهل الحارث
بن الحكم. ثمّ صاح: يا قسطا. فخرجت إليه نصرانيّةٌ عليها ثياب حبرات
وزنانير ما رأيت قبلها ولا بعدها أحسن منها. فقال: هذه قسطا، وتلك أروى،
وأنا الذي أقول:
وبدّلت قسطا بعد أروى وحبّها ... كذاك لعمري يذهب الحبّ بالحبّ
وما هي أما ذكرها بنبطيّةٍ ... كبدر الدّجى أوفى على غصنٍ رطب
شاطرته مالها ولم تدعه للسّفر
قال الزّبير بن بكار: حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال كانت بنت أبي
عبيدة بن المنذر بن الزّبير عند أبي بكر بن عبد الرّحمن من محرمه وكان
يخدمها وكانت ذات مالٍ، ولا مال له. وكانت تضنّ عنه، فخرج يريد الشّام
بطلب الرّزق، فلمّا كان ببعض الطّريق رجع فمرّ بجلسائه بالمصلّى فقالوا:
زاد خير. ثمّ دخل عليها فقالت له: أبخيرٍ رجعت؟ فقال لها:
بينما نحن من بلاكث فالقا ... ع سراعا، والعيش تهوي هويّا،
خطرت خطرةً على القلب من ذكراك وهناً، فما استطاع مضيّا
قلت: لبّيك، إذ دعاني لك الشّو ... ق وللحاديين حبّ المطيّا
قالت له: لا جرم والله لأشاطرنّك مالي فشاطرته إيّاه ولم تدعه للسّفر بعد.
منازل الأحبّة الخالية تثير الشّوق
روى إبراهيم بن حسن بن يزيد، عن شيخٍ من ساكني العقيق قال: إنّي لواقفٌ
بالعقيق، وقد جاء الحاج، إذ طلعت امرأة على راحلة وحولها نسوة، فنظرنا
إليها، فأعجبتنا حالها. فلمّا كانت حذاء قصر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز
بن مروان، عدلت إلينا، ونحن ننظر. فنزلت قصراً من تلك القصور فأقامت فيه
ساعةً ثمّ خرجت، فركبت ومضت، وإنّ عينيها لتنقطان دموعاً. فقلت: لأنظر ما
صنعت هذه المرأة؟ فدخلت القصر، فإذا كتاب يواجهني في الجّدار، فقرأته فإذا
هو:
أليس كفى حزناً لذي الشّوق أن يرى، ... منازل من يهوى معطلةً قفرا؟
بلى، إنّ ذا الشّوق الموكّل بالهوى، ... يزيد اشتياقاً كلّما حاول الصّبرا
وتحته مكتوبٌ: وكتبته آمنة بنت عمر بن عبد العزيز. وكان سفيان بن عاصم
زوجها فتوفّي عنها.
شكت إلى الله عقوق أبنائها
ذكروا عن عائشة، رضي الله عنها، أنّها لمّا قدمت البصرة خطبت وبحضرتها الأحنف بن قيس وموسى بن طلحة ورجالٌ من وجوه العرب، فقالت بعقب ذلك: إنّي أتيت أطلب بدم الإمام المذكور برمّته الحرمات الأربع. فمن ردّنا عنه بحقٍّ قبلناه، ومن ردّنا عنه بباطلٍ قاتلناه. فربّما نصر الظالم على المظلوم والعاقبة للمتّقين.قال لها موسى بن طلحة: قد فهمنا كلامك، فما الأرق حرمات؟ فقالت:
حرمة الشّهر، وحرمة البلد، وحرمة الإمامة، وحرمة الختونة، لا يصلح إمراء
بعده أبداً. فقال لها الأحنف رحمه الله: إني سائلك ومغلظٌ لك في المسألة
فلا تجدين عليّ. أعندك عهدٌ من رسول الله في خروجك هذا؟ قالت: لا. قال
لها: أفعندك عهدٌ من رسول الله أنّك معصومةٌ من الخطأ؟ قالت: لا. قال لها:
صدقت، أن الله رضي لك المدينة فأبيت إلاّ البصرة، وأمرك بلزوم بيت نبيّه
محمّد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت بين الحرسة الضّبي. ألا تخبريني يا أمّ
المؤمنين أللحرب قدمت أم للصّلح؟ قالت: بل للصّلح، فقال لها: والله لو
قدمت وما بينهم إلاّ الخفق بالنّعال والقذف بالحصبا، ما اصطلحوا على يديك،
فكيف والسّيوف على عواتقهم؟ قالت: لقد استغرق حكم الأحنف هجاه أياي، إلى
الله أشكون عقوق أبنائي.
أقنعوه فعفا الحجّاج عنهم
ذكروا، أنّه لما قتل الحجّاج عبد الرّحمن بن الأشعث، وأسر من معه، أمر
بضرب رقابهم. فقال رجلٌ منهم: أيّها الأمير إنّي أتيت إليك بشيءٍ. قال:
وما هو؟ قال: إنّي كنت جالساً يوماً عند عبد الرّحمن فأخذ في عرضك،
فناضلته عنك. قال: ومن يشهد لك بذلك؟ فقال رجلٌ من الجّماعة يشهد له بما
قال فقال: اتركوه. ثمّ قال للرّجل: أفلا كنت مثله؟ قال له: بغضي فيك لم
يدعني أتكلّم فيك بمثل ذلك. فقال: واتركوا هذا لصدقه. ثمّ قام رجلٌ آخر
فقال: أيّها الأمير لئن كنّا أسأنا في الخطأ لما أحسنت في العفو. فقال
الحجّاج: أفٍّ لهذه الجّيف، أما والله لو كان فيكم من يتكلّم والله ما قتل
منكم أحد.
باب يذكر فيه
من صيّره العشق إلى الأخلاط والجّنونخبر فورك المجنون
قال بعضهم: مررت بفورك المجنون وقد أتاه أهله بطبيبٍ، يقال له عبد العزيز، ليعالجه. فسملت وقلت: ما خبرك يا أبا محمّد؟ فقال: خبري والله مع هؤلاء المجانين ظريفٌ. أنا عاشقٌ وهم يظنّون بي جنّة وقد أتوني بهذا الطّبيب ليعالجني. ثمّ أنشأ يقول:أتوني بالطّبيب فعالجوني ... على أن قيل مجنونٌ غريب
طبيب الأجر فيه عساه يوماً ... من الأيّام يعقل أو يتوب
وما صدقوا الفتى محوي قلبي ... أجلّ من أن يعالجه الطّبيب
وما بي جنّةٌ لكنّ قلبي ... به داءٌ تموت به القلوب
وما عبد العزيز طبيب قلبي ... ولكنّ الطبيب هو الحبيب
خبر المجنون أبي عبد الله
وقال آخر: مررت بمجنونٍ بيده قصبةٌ وفيها عذبةٌ، وهو يقول:إذا ما رايةٌ رفعت بنجدٍ ... تلقّاها عرابة باليمين
قال فأخذت بيد الغلام الذي كان يتعشّقه فوقفت بين يديه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال في ساعةٍ بديهةٍ:
أصبحت منك على شفا جرفٍ ... متعرّضاً لموارد التّلف
وأراك نحوي غير ما ثقةٍ ... متحرّفاً من غير منحرف
يا من أطال بصدّه أسفي ... كلفي عليك أشدّ من أسفي
فورك في جماعة من الصّبيان
وقال بعضهم: اجتزت بفورك المجنون وهو في جماعةٍ من الصّبيان راكبٌ قصبةً، وهو يقول: من كان عاشقاً منكم فيقف في الميمنة، ومن كان معشوقاً فليقف في الميسرة. ووقف هو في القلب، ففكّر وقال:
إلى من أشتكيك إلى من ... إلى كم ترى في قصّتي غير محسن
إلى كم يدوم الهجر والعتب بيننا ... سألتك بالرّحمن ألاّ رحمتني
فيا لائمي في أحمد لو رأيته ... لما لمتني في حبّه، وعذرتني
أتعجب أن قالوا بفورك جنّة ... بنفسي ومالي من هواه أجنني
ثمّ قال: احملوا على بركة الله. فحملت الميمنة على الميسرة، وأخذ كل عاشقٍ معشوقه.
قال ولقيته في يوم خميسٍ في جماعةٍ من الصّبيان، منصرفاً. من تشييع غلامٍ كان يحبّه، وهو يحدّثهم ويلطم خده ويقول: ما أحرّ الفراق؟ فقلت: يا أبا محمّد، من أين أقبلت؟ قال: من تشييع الحجّاج. وبكى، وقال:
هم رحلوا يوم الخميس عشيّةً ... فودّعتهم لمّا استقلّوا وودعوا
فلمّا تولوا ولّت النّفس معهم، ... فقلت: ارجعي قالت: إلى أين أرجع؟
إلى جسدٍ ما فيه لحمٌ ولا دم ... ولا فيه إلا أعظم تتقعقع
وكذّبت فيك الطّرف، والطّرف صادقٌ ... وأسمعت أذني فيك ما ليس أسمع
أخبار علويّة المجنون
قال الحسن بن رفاعة: رأيت علويّة المجنون يوماً وفي عنقه حبلٌ والصّبيان
يجرّونه، فلمّا رآني قال: يا أبا عليٍّ بماذا يعذّب الله أهل الجّرائم يوم
القيامة؟ قلت: بأشدّ العذاب. قال: فأنا، والله، في أشدّ من عذابه. لو عذّب
الله أهل جهنّم بالحبّ والهجر والرّقباء لكان أشدّ عليهم، ثمّ قال:
انظر إلى ما صنع الحبّ ... لم يبق لي جسمٌ ولا قلب
أنحل جسمي حبّ من لم يزل ... من شأنه الهجران والعتب
ما كان أغناني عن حبّ من ... من دونه الأستار والحجب
قال: وحضرته وقد أتوه بطبيبٍ يعالجه، والطّبيب يعاتبه ويقول له: لو تركتني
لعالجتك ورجوت أن تبرأ، فقال في ذلك:
أنا منك أعلم أيها المتكلّم ... ما بي أجلّ من الجّنون وأعظم
أنا عاشقٌ، فإن استطعت لعاشقٍ ... برأً مننت به وأنت محكّم
هيهات، أنت لغير ما بي عالمٌ ... وسواك، بالدّاء الذي بي أعلم
دائي دسيسٌ، قد تضمّنه ال ... هوى، تحت الجّوانح ناره تتضّرم
خبر بعض المجانين
قال: ومررت ببعض المجانين وهو جالسٌ وحده متفكّراً، فقلت: ما خبرك؟ قال:أقول بأعلى الصّوت ما بي جنّة ... وما بي إلا حبّ من ليس ينصف
وما بي جنونٌ غير أنّ بليّتي ... إذا انكشفت منه أرقّ وألطف
بنفسي وأهلي، من أرى الموت جهرةً، ... إذا ما بدا منه البنان المطرّف
شعر فورك في غلامه غلب
قال: وكان فورك يتعشّق غلاماً يسمى غلباً فأتاه بعض إخوانه فقال: إنّي خارج نحو غلب، فهل من حاجةٍ؟ فقال:نعم أوصيك إن أبصرت غلبًا ... فقبّل وجنتيه وإن تأبّى
وقل هذي وصية مستهامٍ ... إليك قتلته شغفاً وحبّا
وصف ظبية بالعفاف فأكرم
ودخل مهدي على بعض ولاة اليمامة، فسأله الوالي عن مجلسه مع ظبية، واستنشده ما قال فيها من الشّعر. وكان ابن ظبية حاضراً، فأنشده مهديّ بيتين يصفها فيهما بالعفاف. فقام ابنها فنزع عن نفسه جبّة خزٍّ ووشاحاً ألقاهما على مهدي لمّا وصف أمّه بالعفاف.القيطنون ونكاح الفتيات
قال أحمد بن يحيى: كان القيطنون متملّكاً على أهل المدينة. وكان قد سامهم خسفاً، وشرط عليهم أنّه لا تدخل امرأة على زوجها حتّى يبدأ بها. فزوّج مالك بن عجلان الخزرجي أخته. فلما جهّزها وأراد إهداءها إلى زوجها، وهو قاعدٌ في مجلس الخزرج، إذا خرجت أخته على الحيّ سافرةً. فغضب مالك، ووثب إليها ليتناولها بالسّيف، وقال لها: فضحتني، ونكّست رأسي، وأغضضت بصري. فقالت له: الذي تريد بي أنت شر من هذا وأقبح وأفضح. إن كنت تهديني إلى غير بعلي فيصيبني، فهذا شرٌّ من خروجي سافرةً حاسرةً! فقال مالك: صدقت، وأبيك.وسكت عنها، فلمّا رجعت إلى خدرها دخل إليها، فقال لها: هل فيك من خير؟ فقالت: أيّ خيرٍ عند امرأةٍ إلاّ أن تناك؟ فقال لها اكتمي ما أريده. قالت: نعم. فشرح لها ما عزم عليه. فلمّا أمست أتتها رسل القيطنون ليأتوه بها، فلبست وتعطّرت وتحلّت، ولبس معها وتعطّر واشتمل على السّيف ومضى معها في جملة نسائها إلى قصر القيطنون. فلمّا خلا بها في مشربة له، ودنا منها تنحّى نساؤها عنها إلاّ مالك وحده، فقال القيطنون: بحقّ التّوراة ألا أمهلتني ساعةً حتّى ترجع نفسي فيها إليّ، وتركت أختي هذه تؤانسني عندك، فإنّي ألفتها من بين أهلي؟ فقال: نعم. فلمّا هدأت ساعةً. قال: تقدّمي إلى فراشك حتى ألحقك. فقام القيطنون إلى باب مشربته فأغلقه، وأتى فراشه. وكشف مالك عن السّيف ثمّ ضربه به حتّى برد. فاجتمع الحيان من الأوس والخزرج فسوّدوه على أنفسهم، وملّكوه، إذ أراحهم من عار الدّهر. وذلّت اليهود بعد ذلك فلم ترفع رأساً.
خبر سلامة الزّرقاء
مع عبد الرّحمن بن أبي عمّار
قال الزّبير بن بكار: كان عبد الرّحمن بن أبي عمّار من عبّاد أهل
مكّة، فسمي القسّ من عبادته. فمرّ ذات يومٍ بدار سهل بن عبد الرّحمن بن
عوف مولى سلامة الزّرقاء، وهي تغنّي، فسمع غناءها، فبلغ منه كلّ مبلغ،
فرآه مولاها وتبيّن ما لحقه، فقال له: هل لك أن تدخل إليها وتسمع منها؟
فامتنع وأبى، فقال له: أنا أقعدك في موضعٍ تسمع من غنائها ولا تراها ولا
تراك. ولم يزل به حتّى دخل وسمع غناءها، فأعجبه، فقال له: هل لك أن أخرجها
لك؟ فامتنع بعض الامتناع، ثمّ أجابه. فأخرجها إليه، وأقعدها بين يديه،
وغنّته، فشغف بها، وشغفت به. وكان أديباً ظريفاً. واشتهر أمره معها بمكّة
حتّى سمّوها سلامة القسّ.
وخلا معها يوماً، فقالت له: أنا، والله، أحبّك فقال له: أنا، والله، كذلك.
قالت له: أحبّ أن أضع فمك على فمي. قال: وأنا، والله. قالت: فما يمنعك من
ذلك، فوالله إنّ الموضع لخالٍ؟ فقال لها: ويحك، إنّي سمعت الله عزّ وجل
يقول في كتابه: " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتّقين " . وأنا
أكره أن تكون خلّة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة. ثمّ نهض وعيناه
تذرفان من حبّها وعاد إلى الطّريقة التي كان عليها من النّسك والعبادة.
وكان يمرّ في بعض الأيّام ببابها فيرسل إليها بالسّلام فيقال له: أدخل
فيأبى. وقال فيها أشعاراً كثيرةً، وغنّته بها. فمنها:
إنّ التي طرقتك بين ركائب ... تمشي بمزهرها وأنت حرام
باتت تعلّلنا، وتحسب أنّنا، ... في ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتّى إذا سطع الصّبح لناظرٍ ... فإذا الذي ما بيننا أحلام
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ... فاعجب بما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنّما ... طرق الضّلالة والهدى أقسام
وفيها قوله:
على سلاّمة القلب السّلام ... تحية من زيارته لمام
أحبّ لقاءها، وألوم نفسي، ... كأنّ لقاءها شيءٌ حرام
إذا ما حنّ مزهرها إليها ... وحنّت نحوه، أذن الكرام
فمدّوا نحوها الأعناق حتّى ... كأنّهم وما ناموا نيام
وله فيها أشعار كثيرة تركت ذكرها ها هنا لأنّها مستقصاةٌ من أخبارها في
كتاب طبقات المغنّين.
عبد الملك بين عزّة وبثينة
قال: وفدت عزّة وبثينة على عبد الملك بن مروان فلمّا دخلتا عليه انحرف إلى
عزّة، وقال لها: أنت عزّة كثير؟ قالت: لست لكثير بعزّة ولكنّي أمّ بكرٍ
الضّمريّة. قال أتروين قول كثيرٍ فيك؟
لقد زعمت أني تغيّرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر
تغيّر جسمي والخليقة كالتي ... عهدت، ولم يخبر بسرّك مخبر
قالت: لست أروي هذا، ولكنّي أروي غيره حيث يقول:
كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ... من الصّمّ لو يمشي بها العصم زلّت
صفوحاً فما تلقاك إلاّ بحيلةٍ ... فمن ملّ منها ذلك الوصف ملّت
ثمّ عطف على بثينة فقال لها: ما رأى جميل حين لهج بذكرك بين النّساء
كلّهن؟ قالت: الذي رأى فيك النّاس حين جعلوك خليفة من بين رجال العالمين.
فضحك حتّى بدت سنٌّ له سوداء، كان يخفيها، وأجزل جائزتهما وقضى حوائجهما.
تغيّر العادات بالنسبة لعلاقة الرّجل بالفتاة
وقال محمّد بن يحيى المدني: سمعت عطاء يقول: كان الرّجل يحبّ الفتاة فيطوف
بدارها حولاً كاملاً يفرح إن رأى مرآها، وإن ظفر منها بمجلسٍ تشاكيا
وتناشدا الأشعار. فاليوم يشير إليها، وتشير إليه، فإذا التقيا لم يشكوا
حبّاً، ولم ينشدا شعراً. وقام إليها كأنّه أشهد على نكاحها أبا هريرة
وأصحابه.
هل قبلة المشتاق جناح
وحكى أبو الحسن المدايني قال: هوى بعض المسلمين جاريةً بمكّة فأرادها، فامتنعت عليه. فأنشدها:سألت الفتى المكّيّ هل في تزاورٍ ... وقبلة مشتاق الفؤاد، جناح؟
فقال: معاذ الله أن يذهب الهوى ... تلاصق أكبادٍ بهنّ جراح
فقالت له: بالله، إنّك سمعته وسألته فأجابك بهذا الجّواب؟ قال: نعم. فزارته وجعلت تقول: إيّاك أن تتعدى ما أمرك به عطاء.
الحسنات يذهبن السيّئات
وروى عبد الرحمن بن نافع، أنّ أبا هريرة سئل عن قول الله عز وجل " الذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش إلا اللمم " . فقال: هي النظرة والغمزة والقبلة. وقال مجاهد: هو الرّجل يلمّ بالذّنب مرّةً ثمّ لا يعود، وبإسنادٍ عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّ رجلاً جاء إليه فقال له: إنّي أخذت امرأةً في البستان فأصبت منها كلّ شيءٍ، إلاّ أنّي لم أنكحها فاصنع ما شئت؟ فسكت عنه، صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا ذهب، دعاه فقرأه عليه " أقم الصّلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إنّ الحسنات يذهبن السيئات " الآية.
ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى
؟قيل لأعرابيٍّ: ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أمتّع عيني في وجهها، وقلبي من حديثها، وأستر منها ما لا يحبّه الله ولا يرضى بكشفه إلا عند حلّه. قيل: فإن خفت أن لا تجتمعا بعد ذلك؟ قال: أكل قلبي إلى حبّها، ولا أصير بقبيح ذلك الفعل إلى نقض عهدها.
سبعة يظلّهم الله بظلّه
ويروى عن أبي هريرة، عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " سبعةٌ يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه متعلّقٌ بالمسجد حتّى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه، ورجلٌ طلبته ذات منصبٍ وجمالٍ فقال إنّي أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقه فلم تعلم شماله ما تسرّ يمينه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " .
الزّبّاء وعمر بن أبي ربيعة
وعن عبد الملك بن قريب الأصمعي قال: بصرت الزّبّاء بعمر بن أبي ربيعة، وهو يطوف بالبيت، فتنكّرت له وفي كفّها خلوقٌ، فمسحته بثوبه، فقال:
أدخل الله ربّ موسى وعيسى ... جنّة الخلد من ملاني خلوقا
مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحاً رقيقا
لو تجازى القلوب بالودّ أمسى ... قلبها مائلاً إلينا شفيقا
فنظر إليه عبد الله بن عمر في تلك الحالة ينشد الأبيات، فقال: ما هذا زي المحرم وما يحلّ للمحرم أن يقول مثل هذا القول في هذا الموضع فقال: يا أبا عبد الرّحمن قد سمعت منّي ما سمعت، فوربّ هذه البنية، ما حللت إزاري على حرامٍ قط.
ليلى الأخيليّة والحجّاج
قال الهيثم بن عدي دخلت ليلى بنت عبد الله الأخيلية على الحجّاج وعنده وجوه النّاس وأشرافهم. فاستأذنته في الإنشاد، فأذن لها، فأنشدته قصيدةً مدحته بها. فلمّا فرغت من إنشادها، قال الحجّاج لجلسائه: أتدرون من هذه الجّارية؟ قالوا: لا نعلم، أصلح الله الأمير، ولكنّا لم نر امرأةً أكمل منها كمالاً، ولا أجمل منها جمالاً، ولا أطلق لساناً، ولا أبين بياناً، فمن هي؟ قال: هذه هي ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير الذي يقول فيها:
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطّ نواها واستمرّ مريرها
ثمّ قال لها: يا ليلى ما الذي رابه من سفورك حيث يقول:
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
قالت: أصلح الله الأمير، لم يرني قط إلا متبرقعةً وكان أرسل إليّ رسولاً أنّه يلمّ بنا، ففطن الحيّ لرسوله، فأعدّوا له وكمنوا، وفطنت لذلك، فلم يلبث أن جاء، فألقيت، برقعي وسفرت له، فلمّا رأى ذلك أنكره وعرف الشّرّ، فلم يزد أن سلّم عليّ وسأل عن حالي وانصرف راجعاً. فقال الحجّاج لها: لله درّك فهل كانت بينكما ريبة؟ قالت: لا، والذي أسأله أن يصلحك إلى أن قال مرةً قولاً ظننت أنّه خضع لبعض الأمر، فقلت له مسرعةً هذا الشعر. وأنشأت وهي تقول:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحبٌ وخليل
فلا، والذي أسأله صلاحك، ما كلّمني بشيءٍ بعدها استربته حتّى فرّق الدّهر بيني وبينه.
العفاف أيّام زمان
قال أبو عثمان: قد ترى الأعرابيّ، وظاهره ظاهر الجّفاء، فما هو إلاّ أن يعشق حتّى تجده أرقّ من الماء، وألطف من الهواء. ومع ذلك يلقى أحدهم عشيقته فيترشّفها ويعانقها من دون الثّياب ويمنعه التّكرّم ويحجزه الورع عن وطئتها وإن أمكنته. قال ابن هرمة.
ولربّ لذّة ليلةٍ قد نلتها ... وحرامها لحلالها مدفوع
ويقتصرون على الحديث والقبل واللمس.
للعشيق من حبيبته نصفها الأعلى
قال العتيبي: قيل لبعض الأعراب، ما الذي ينال أحدكم من عشيقته إذا خلا بها؟ قال اللمس والقبل والحديث. قال فهل يطؤها؟ قال: بأبي أنت وأمّي ليس هذا عاشقاً هذا طالب ولد.قال: وكان الشّرط بين العاشق ومعشوقه إذا خلوا أن يكون له نصفها الأعلى من سرّتها إلى قمّة رأسها يصنع فيها ما شاء، ولبعلها من سرّتها إلى أخمصها. وأنشد ابن الأعرابيّ في مثل ذلك:
فللخلّ شطرٌ مطلقٌ من عقاله ... وللبعل شطرٌ ما يرام منيع
وأنشد أبو عمرو بن العلاء في نحوه:
لها نصفان من حلٍ وبلٍ ... ونصف كالبحيرة ما يهاج
يقول نصفها الأعلى لعشيقها طلقٌ، ونصفها الآخر عليه كالبحيرة - فإنّها كانت في الجّاهلية حراماً لا تهاج ولا تركب ولا تمنع من كلأ ولا ماء - وأنشد الأصمعي لبعض ظرفاء العرب يخاطب بعل عشيقته:
فهل لك في البدال أبا زنيم ... وأقنع بالأكارع والعجوب
قال إبراهيم بن بشارة النّاظم: قد يمكن الرجل أن يحتجز عن ذلك ما دام ليس له هنالك إلاّ الحديث والقبلة، فأمّا إذا ترشّفها وعانقها من دون ثيابها فلا بد أن ينعظ وينشط وإذا أنعظ وهو في الإزار معها انتقض العزم، كما قال عبد الرّحمن بن أمّ الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعترونها ... يميلا أحياناً ويعتدلان
فما ظنّ ذا الواشي بأبيض ماجدٍ ... وبيضاء خودٍ حين يلتقيان
دعتني أخا أمّ عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
عادات أهل طبرستان في الزّواج
وقد ذكرنا: أنّ أهل طبرستان لا تتزوّج الجّارية منهم حتّى يستظهر بها حولاً كاملاً محرّماً ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ثم يتزوّج بها، ويزعمون مع ذلك أنّهم يجدونها بكراً، وقد عانقها في إزارٍ واحدٍ سنةً تامةً وهو لا يستظهر بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب إلاّ من عشق غالب. ولا يجوز أن تؤاتيه الجّارية إلا وبها شبه الذي به. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين في لحافٍ واحدٍ ثمّ يحتجزان عن الزّنا تكرّماً وتحرّجاً! وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.
العقلاء والمجانين
ومن قول سهيل بن هارون: ثلاثةٌ من المجانين وإن كانوا عقلاء: الغضبان، والعزبان، والسّكران. فقال له أبو عبيد الله الخليع: والمنعظ يا أبو عمرو؟ فقال: والمنعظ. وضحك وأنشد:وما شرّ الثّلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
فقيد ثقيف عاشق زوجة أخيه
قال الأصمعي: كان فتىً من ثقيفٍ شديد الحياء، كريماً أديباً، فبينا هو جالس، إذ مرّت به امرأةٌ من أجمل النّساء فلم يتمالك أن قام من الحياء من مجلسه ليعلم من هي، وأين تريد. وقد كلف بها واشتدّ عشقه لها، فاتّبعها حتى دخل منزل أخيه فإذا هي امرأته، فضاق به الأمر ولم يدر ما يصنع، وكتم شأنه، وجعل ما به يزداد كل يومٍ حتّى نحل جسمه، فأنكر شأنه أخوه وأهله وسألوه عمّا به. فلم يخبرهم بشيءٍ من أمره. فدعا أخوه الأطبّاء فعالجوه فلم يغنوا عنه شيئاً، فلمّا أعياهم ما به، وزاد سقمه، سلّمه أخوه إلى الحارث بن كلدة وكان من أطبّاء العرب فنظر إليه الحارث فلم يرى به داءٌ ينكر، غير أنّه ظنّ أنّه عاشق. فخلا به الحارث فسأله، فأبى أن يقرّ له بشيءٍ. فلمّا أعيا الحارث جعل يسأل عن أسمائهم وأسماء نسائهم، والفتى ملقىً بين يديه، كلّما سمّيت امرأةٌ منهم نظر الحارث وجه المريض حتّى جاء اسم امرأة أخيه فارتاح وتنفّس، واغرورقت عيناه بالدّموع. فعلم الحارث أمره، وقال لأخيه: إذهب فجئني بجميع أهليكم، ولا يتخلّف عنّي منهم امرأةً ولا رجلاً، فإنّي قد وقعت على دائه.فخرج أخوه حتّى أتى أهله، فجميعهم في منزل ونقل الحارث المريض
إليهم، وقال: لا يغيبنّ عنه امراةٌ ولا رجلٌ. فلمّا نظر الرّجل إلى امرأة
أخيه خفّ عنه بعض ما كان يجده. فعرف الحارث ذلك منه، فأمر بشاةٍ فذبحت،
وأخرج كبدها فوضعها على النّار، ثمّ أطعمه منها فأكل ثمّ مزج له شربةً
خفيفةً فسقاه، وفعل به ذلك أيّاماً يزيده في كلّ يومٍ شيئاً قليلاً في
مطعمه ومشربه. فحسنت حاله، ورجع إليه بعض جسمه.
فلمّا رأى الحارث أنّه قوي بعض القوّة صنع له طعاماً وهيّأ له شراباً ثمّ
أحضر الفتى وأخاه فطعما وشربا، وأمر الحارث أخاه أن ينصرف وقام هو ووكّل
هو بالفتى من يسقيه ويغنيه، وقال: احفظ حديثه، وكلّ ما يتكلّم به، وحدّثه
كلّ حديثٍ تعرفه في العشق وأخبار العشّاق، وأشعارهم. فلمّا أخذ الشّراب في
الفتى تغنّى:
أهل ودّّي، ألا سلموا ... وقفوا كي تكلّموا:
أخذ الحيّ حظّهم ... من فؤادي وأنعم
فهمومي كثيرةٌ، ... وفؤادي متيّم
وأخو الحبّ جسمه ... أبد الدّهر يسقم.
فلمّا أصبح الحارث، دعا الموكّل بالفتى فسأله، فعرّفه بكلّ شيءٍ، فحدّثه
وأنشد الأبيات التي تغنّى بها. فدعا أخاه فعرّفه إنّه عاشقٌ لامرأته. فقال
له: يا أخي أنا أنزل لك عنها وتتزوّجها. فلمّا سمعه الفتى استحيا وخرج
هارباً على وجهه، فلم يقفوا له على خبرٍ إلى اليوم فسمّي فقيد ثقيف.
من يفعل مثقال ذرّةٍ خيراً يره
وروى نافع مولى ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " بينا
ثلاثة نفرٍ يمشون إذ أخذهم المطر فأووا إلى غارٍ في جبل. فانحطّ عليهم من
الجبل صخرةٌ فانطبقت عليهم، وقال بعضهم: انظروا أعمالاً عملتموها لله
صالحةً، فادعوا الله بها. فدعوا الله، تبارك وتعالى، فقال أحدهم: اللهمّ
إنّك تعلم أنّه كان لي أبوان شيخان كبيران، وامرأةٌ وصبيان، فكنت أرعى
عليهم فإذا رحت إليهم حلبت، وبدأت بوالديّ أسقيهما قبل بنيّ. وإنّي لم آت
يوماً حتّى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند
رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، فجعلوا
يتضاغون تحت قدمي، فلم يزل ذلك دأبهم حتّى طلع الفجر. فإن كنت تعلم إنّي
فعلت ذلك إبتغاء وجهك، فأفرج عنّا فرجةً نرى منها السّماء. ففرّج الله له
فرجةً.
وقال الآخر: اللهمّ إنّك تعلم إنّه كانت لي إبنة عمٍّ فأحببتها كأشدّ ما
يحبّ الرّجال النّساء، فطلبت إليها نفسها فأبت حتّى آتيها بمائة دينارٍ،
فسعيت حتّى جمعت مائة دينارٍ فجئتها بها، فلمّا قعدت بين رجليها، قالت: يا
عبد الله، اتّق الله ولا تفضّنّ الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها فإن كنت تعلم
إنّي فعلت ذلك إبتغاء وجه ربّك، فأفرج عنّا فرجةً من السّماء. ففرّج الله
جلّ ثناؤه فرجةً.
وقال الآخر: اللهمّ إنّك تعلم أنّي استأجرت أجيراً فلمّا قضى عمله، قال:
أعطني حقّي. فأعرضت عنه وتركته، ثمّ اشتريت بحقّه بقراً وراعياً لها
فجاءني بعد حين، فقال لي: اتّق الله ولا تظلمني، وأعطني حقّي. فقلت له:
إذهب إلى تلك البقر وراعيها. فأخذها وذهب، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ابتغاء
وجهك، فأفرج لنا ما بقي. ففرّجها الله عنهم. "
هذا طالب ولد
قال الأصمعي: قلت لأعرابيّةٍ من بني عذرة: أنتم أكثر النّاس عشقاً فما تعدّون العشق فيكم؟ قالت: الغمزة والقبلة والضمّة. ثمّ قالت:ما الحبّ إلا قبلةٌ، ... وغمز كف، وعضد.
ما الحبّ إلا هكذا، ... إن نكح الحبّ فسد.
ثمّ قالت: وأنتم يا حضر، كيف تعدّون العشق فيكم؟ قلت: يقعد بين رجليها ويجهد نفسه. فقالت: يا ابن أخي، ما هذا عاشقاً هذا طالب ولد.
السّبيل لدخول المرأة إلى الجنّة
وروي عن عبد الرّحمن بن عوف، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " إذا صلّت المرأة خمسها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت الجّنّة.
راودته عن نفسها فأبى
عرض الحجّاج سجنه يوماً، فأتي برجلٍ فقال له: ما كان جرمك؟ قال:
أصلح الله الأمير، أخذني العسس وأنا مخبرك بخبري، فإن يكن الكذب ينجي
فالصّدق أولى بالنّجاة. فقال: ما قصّتك؟ قال: كنت أخاً لرجلٍ فضرب الأمير
عليه العبث إلى خراسان، فكانت إمرأته تجد بي وأنا لا أشعر، فبعثت إليّ
يوماً رسولاً قد جاء كتاب صاحبك فهلمّ لتقرأه. فمضيت إليها، فجعلت تشغلني
بالحديث حتّى صلّينا العشاء، ثمّ أظهرت لي ما في نفسها، ودعتني إلى
السّوء، فأبيت ذلك. فقالت: والله لئن لم تفعل لأصيحنّ ولأقولنّ أنّك لص.
فلمّا أبيت عليها صرخت فخرجت هارباً. وكان القتل أهون عليّ من خيانة أخي.
فلقيني عسس الأمير فأخذوني. وأنا أقول متمثّلاً:
ربّ بيضاء ذات دلٍّ وحسن ... قد دعتني لوصلها فأبيت
لم يكن شأني العفاف ولكن ... كنت ندمان زوجها فاستحيت
فعرف صدق حديثه وأمر بإطلاقه.
يعاملها بما يرضي الرّب
قيل لبعض الأعراب، وقد طال عشقه لجاريةٍ: ما أنت صانعٌ لو ظفرت بها ولا
يراكما غير الله؟ قال: إذا، والله لا أجعله أهون النّاظرين، لكنّي أفعل
بها ما أفعل بحضرة أهلها، حديثٌ يطول، ولحظٌ كليل وترك ما يكره الرّبّ،
وينقطع به الحبّ.
ردّ الجّارية ولك الجّنّة
قال محمّد بن عبيد الزّاهد: كانت عندي جاريةٌ فبعتها، فتبعتها نفسي، فسرت
إلى مولاها مع جماعة إخوانه، فسألوه أن يقيلني ويربح عليّ ما شاء، فأبى،
فانصرفت من عنده مهموماً مغموماً، فبتّ ساهراً لا أدري ما أصنع، فلمّا
رأيت ما بي من الجّهد، كتبت اسمها في راحتي، واستقبلت القبلة. فكلّ ما
طرقني طارق من ذكرها رفعت يدي إلى السّماء وقلت: يا سيّدي هذه قصّتي. حتّى
إذا كان في السّحر من اليوم الثّاني، إذ أنا برجلٍ يدقّ الباب، فقلت: من
هذا: أنا مولى الجّارية. ففتحت، وإذا بها. فقال: خذها بارك الله لك فيها!
فقلت: خذ مالك والرّبح. فقال: ما كنت لآخذ ديناراً ولا درهماً. قلت فلم
ذلك؟ قال: أتاني الليلة في منامي آتٍ فقال: ردّ الجّارية على ابن عبيد
الله، ولك الجنّة.
جود عبد الله بن جعفر
وكان عبد الرّحمن بن أبي عمّار فقيه أهل الحجاز قد مرّ بنخّاسٍ معه فتيات، فنظر إليهنّ، فتعلّق بواحدةٍ منهنّ، فاشتد ّوجده بها، واشتهر بذكرها، حتّى أتى إليه عطاء ومجاهد يعذلونه. فلم يكن جوابه إلاّ أن قال:يلومونني فيك أقوامٌ أجالسهم ... فما أبالي أطال اللوم أم قصرا
فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر فخرج حاجّاً بسببه، وبعث إلى مولى الجّارية واشتراها منه بأربعين ألفاً، وأمر قيّمة جواريه فحلّتها وزيّنتها. وبلغ النّاس قدومه، فدخلوا إليه للسّلام عليه وفيهم عبد الرّحمن بن عمّار. فلمّا أراد الشّخوص استجلسه، فقال له: ما فعل حبّ فلانة؟ قال: مشوب اللحم و الدّم والمخّ والعظم والعصب. وأمر الجّارية فأخرجت إليه، وقال: هي هذه؟ قال: نعم، أصلحك الله. قال: إنّما اشتريتها لك، فوالله ما دنوت منها، فشأنك بها، فهي لك مباركة. وأمر له بمائة درهمٍ، وقال له: خذ هذا المال لئلّا تهتمّ بها وتهتمّ بك. قال، فبكى عبد الرّحمن فرحاً وقال: يا أهل البيت قد خصّكم الله بأشرف ما خصّ به أحداً من صلب آدم، فلتهنئكم هذه النّعمة، وبارك لكم فيها. فكان هذا الفعل بعض ما اشتهر به عبد الله بن جعفر من الجّود.
الزّنا أنواع
وقيل لأعرابيٍّ: أتعرف الزّنا، قال: وكيف لا. قيل: فما هو؟ قال: مصّ الرّيقة، ولثم العشيقة، والأخذ من الحديث بنصيب. قيل: ما هكذا نعدّه فينا! قال: فما تعدّونه؟ قيل: النّقّ الشديد أن تجمع بين الرّكبة والوريد، وصوتٌ يوقظ النّوام، وفعلٌ يوجب كثيراً من الآثام. قال: لله ما يفعل هذا العدوّ البعيد، فكيف الصّديق الودود.
أخبار أهل العفاف
وقيل لآخر: ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أطيع الحبّ في لثامها، وأعصي الشّيطان في آثامها، ولا أفسد بضع عشرة سنين فيما يبقى ذميماً عاره، وينشر قبيح أخباره في ساعةٍ تفقد لذّتها. إنّي إذاً لئيمٌ، ولم يلدني كريمٌ.الحبّ ما لا يغضب الرّب
وقيل لآخر: ما أنت صانعٌ إن ظفرت بمن تحب؟ قال: أحلل ما يشتمل عليه الخمار وأحرّم ما كتمه الإزار، وأزجر الحبّ عمّا يغضب الرّب.
ليلى وقيس بن الملوّح
وقيل لليلى هذا قيسٌ مات لما به من عشقك. قالت: ولقد خفت والله أن أموت بذلك منه. قيل لها: فما عندك حيلةٌ تخفّف ما به؟ قالت: صبري، وصبره، أو يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
عفراء وعروة بن حزام
وقيل لعفراء، وقد بلغها ما نزل بعروة، فكادت تبوح بسرّها فقيل لها: أما عندك له حيلةٌ تخفّف ما به؟ فقالت: والله، لأنا أسرّ بذلك وأشوق إليه منه، ولكن لا سبيل إلى احتمال العار، ودخول النّار.ميّة وذو الرّمّة
وقيل لميّة، بعد موت قابوس: ما كان يضرّك لو أمتعته بوجهك قبل موته؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار، وشماتة الجّار. ولقد كان بقلبي منه أكثر ممّا كان بقلبه، غير أنّي وجدت ستره أبقى لنا لما في الصّدر من المودّة، وأحمد للعافية.
الأمر ما تصفون، ولكن...
وقيل لابنة ملكٍ من ملوك الفرس، وقد أجهدها عشق رجلٍ من أساورة أبيها: لو روّحت عن قلبك بالاجتماع معه، كفّ ذلك من وجدك. قالت: إنّ الأمر على ما تصفون، ولكن ما عذري إذ هتكت ستري، وأظهرت أمري، عند من لا يلزمه عاري، ويرغمه اشتهاري، والله لا كان هذا أبداً.عفراء بنت أحمر والحارث بن الشّريد
وحكى السّريّ بن المطّلب قال: كان الحارث بن الشّريد يعشق عفراء بنت أحمر. فلمّا عيل صبره كتب إليها:
صبرت على كتمان حبّك برهةً ... وبي منك في الأحشاء أصدق شاهد
هو الموت إن لم يأتني منك رقعةٌ ... تقوم لقلبي في مقام العوائد
فلمّا وصلت الرّقعة كتبت إليه:
كفيت الذي تخشى وصرت إلى المنى ... ونلت الذي تهوى برغم الحواسد
فوالله لولا أن يقال تظنناّ ... بي السّوء، ما جانبت فعل العوائد
فلمّا وصلت الرّقعة إليه وضعها على وجهه، فلمّا شمّ رائحة يدها شهق شهقةّ فقضى نحبه. فقيل لعفراء ما كان يضرّك لو روّحت عن قلبه وأجبته بزورة؟ قالت: منعني من ذاك قولكنّ عفراء قد صبت إلى الحرث! فوالله لأقتلنّ نفسي من حيث لا يعلم بي أحد إلا الله. فلحقت به سريعاً.
أسماء بنت عبد الله وكامل بن الرّضين
قال العتبي: عشق كامل بن الرّضين أسماء بنت عبد الله بن مسافر الثقيفة، وهي ابنة عمّه، فلم يزل به العشق حتّى صار كالشّن البالي. فلمّا اشتدّ ما به، شكا أبوه إلى أبيها فزوّجها له، فحمل إلى دارها وفيه رمق، فلمّا دخل الدّار، قال: أوأنا بموضعٍ تسمع أسماء كلامي؟ قيل: نعم. فشهق شهقةّ قضى مكانه. فقيل لها: يا أسماء قد مات بغصّة. قالت: والله لأموتنّ بمثلها، ولقد كنت على زيارته قادرة فمنعني قبح ذكر الرّيبة، وسماجة الغيبة. وسقطت بالمرض، فلمّا اشتدّ بها، قالت لأخصّ نسائها: صوّري لي صورته، فإنّي أحبّ أن أزوره قبل موتي. ففعلت. فلمّا رأت الصّورة اعتنقتها وشهقت شهقةً قضت نحبها. فدفنت مع الفتى في قبرٍ واحدٍ.
وكتب على قبرهما:
بنفسي هما ما متّعا بهواهما ... على الدّهر حتّى غيّبا في المقابر
أقاما على غير التزاور برهةً ... فلمّا أصيبا قرّبا بالتزاور
فيا حسن قبرٍ زار قبراً يحبّه ... ويا زورةً جاءت بريب المقادر
أوصاف الهوى
العشق لسعةٌ من جنونقال العتبي: قال أعرابيٌّ: إن لم يكن العشق ضرباً من السّحر إنّه لسعةٌ من الجّنون.
الهوى والطّلول
وسئلت أعرابيّةٌ عن الهوى، فقالت: هو الهوان غلطٌ باسمه، وإنّما يعرف ما نقول من أبكته المعارف والطّلول.
الهوى والنّار
وسئلت أعرابيّةٌ عن صفة الهوى، فقالت:
الحبّ أوّله ميلٌ تهيم به ... نفس المحبّ فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرةٍ عرضت ... أو مزحةٍ أشعلت في القلب كاللهب
كالنّار مبدؤها من قدحةٍ، فإذا ... تضرّمت أحرقت مستجمع الحطب
وأنشد لأبي جعفر الطّربخيّ:
ليس خطب الهوى بخطبٍ يسيرٍ ... لاينبّئك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبّر بالرّأ ... ي ولا بالقياس والتّفكير
إنّما الحبّ والهوى خطراتٍ ... محدثات الأمور بعد الأمور
الهوى والبلاء
وقال أعرابيٌّ: إنّ الصّبر على الهوى أشدّ من الصّبر على البلاء،
كما أنّ الصّبر على المحبوب أشدّ من الصّبر على المكروه.
الهوى والطّبيب
وليم بعض الحكماء على الهوى، فقال: لو كان لذي هوىً اختيارٌ لاختار أن لا
هوىً. وأنشد لمجنون ليلى:
أصلّي فلا أدري إذا ما ذكرتها ... أثنتين صلّيت الضّحى أم ثمانيا
أراني إذا صلّيت أقبلت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا
وما بي إشراكٌ ولكنّ حبّها ... وعظم الجوى أعيا الطّبيب المداويا
الهوى والموت
وأنشد لأبي العتاهية:لا بارك الله فيمن كان يخبرني ... أنّ المحبّين في لهوٍ ولذّات
لموتةٌ تأخذ الإنسان واحدةً ... خيرٌ له من لقاء الموت مرّات
الهوى وأغصانه
وأنشد لأعرابيٍّ:وللحبّ أغصانٌ تراها نضيرةً ... وفي طعمها للعاشقين ذعاف
رأيت المنايا في عيون أوانسٍ ... تقتّلن أرواحاً وهنّ ضعاف
الهوى المتجدّد
وأنشد:
رأيت الحبّ نيراناً تلظّى ... قلوب العاشقين لها وقود
فلو كانت، إذا فنيت تقضّت ... ولكن مثل ما كانت تعود
كأهل النّار إذ فنيت جلودٌ ... أعيد من الشّقاء لهم جلود
سكينة بنت الحسين وعروة بن أذينة
وركبت سكينة بنت الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنهم مع جواريها، فمرّت بعروة بن أذينة الليثي، وهو في فناء قصر ابن عتبة، فقالت لجواريها: من الشّيخ؟ فقلن لها : عروة. فعدلت إليه فقالت له: يا أبا عامر، تزعم أنّك لم تعشق قط وأنت تقول؟:قالت: وأبثثتها وجدي فبحت به؛ ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطّي هواك وما ألقى على بصري.
كلّ ما ترى حواليّ من جوارٍ أحرارٍ إن كان خرج الكلام من قلبٍ سليمٍ.
أهل الدّعاوي الباطلة
وأمّا أهل الدّعاوي الباطلة، التي ليست أجسامهم بناحلة، ولا ألوانه بحائلة، ولا عقوله بذاهبة، فهم عند ذوي الفراسة، يكذبون، وعند ذوي الظّرف محرومون. فمن ذلك ما روى العبّاس بن الأحنف، قال: بينما أنا أطوف، إذ بثلاث جوارٍ أترابٍ، فلمّا أبصرنني، قلن هذا العبّاس. ودنت إليّ إحداهنّ، فقالت: يا عبّاس أنت القائل؟:
ماذا لقيت من الهوى وعذابه ... طلعت عليّ بليّةٌ من بابه
قلت: نعم. قالت: كذبت يا ابن الفاعلة، لو كنت كذلك كنت أنا. ثمّ كشفت عن أضاجع معراة من اللحم، فأنشأت تقول:
ولمّا شكوت الحبّ، قالت: كذبتني، ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا!
فلا حبّ حتّى يلزق الجلد بالحشا ... وتخرس حتّى لا تجيب المناديا.
أحبّ قلبي وما درى بدني
ومن ذلك، ما روي عن إبراهيم بن المهدي قال: دخل عليّ المأمون فقال: بالله يا عم، هل عشقت قط؟ فقلت: نعم. يا أمير المؤمنين، وأنا السّاعة عاشقٌ. قال: وأنت على هذه الجثّة والجسم الكبير عاشق؟ فأنشأ يقول:
لأنّه أصفرٌ منخول ... وجه الذي يعشق معروف
إلى أن قال:
ليس كمن تلقاه ذا ... جثّةٍ كأنّه للذّبح معلوف
فأجابه إبراهيم:
وقائلٍ لست بالمحبّ ولو ... كنت محبّاً لذبت مذ زمن
أحبّ قلبي، وما درى بدني، ... ولو درى، ما أقام في السّمن
وهذان قد ادّعيا المحبّة ففضحهما شاهد النّظر ولم يجز إدّعاؤهما على ذوي المعرفة والنّظر. وقول إبراهيم أحبّ قلبي وما درى بدني من كثرة المحال أن يتعلّق القلب لسببٍ فيسلم الجسم منه على حالٍ، ولكنّه لاستحيائه من ادّعائه اعتذر، فقبح في اعتذاره. وأنشدني بعض المشايخ:
وقائلةٍ: ما بال جسمك لا يرى ... سقيماّ وأجسام المحبّين تسقم؟
فقلت لها: قلبي بحبّك لم يبح ... لجسمي، فجسمي بالهوى ليس يعلم!
والعرب تمدح أهل النّحول، وتذمّ أهل السّمن والجسوم، وتنفيهم عن الأدب، و تنسب أهل النّحول إلى المعرفة وحسن البيان، وأهل السّمن إلى الغباوة وبعد الأذهان.
البطنة تذهب الفطنة
زعموا أن من غلب عليه البلغم غلظ جسمه، وكبر شحمه، وزاد لحمه،
وقلّ فهمه، وطال نسيانه، وتعقّد لسانه، لغلبة البلغم على قلبه والرّطوبة
على لبّه. ومن كان أغلب مزاجه المرة جفّ جسمه، وقلّ لحمه، وصحّ ذهنه، ودقّ
فهمه. وأنّه يستدلّ بها على أحسن أدب ذوي الألباب، وصحّة أذهان ذوي
الآداب. لا تكاد تخطي به الفراسة، ولا تكذب فيه الدّلالة لما أخبرتك من
غلبة أحد المزاجين على صاحبه واستقراره في مركبه. وربّما أنجب السّمن،
وخاب الهزال. ولا يكون ذلك إلا في الفرد النّادر من الرّجال ومن أمثلة
العرب في ذلك: " البطنة تذهب الفطنة. "
المغنّية محبوبة والمتوكّل
قال عليّ بن الجّهم: لمّا أفضت الخلافة إلى جعفر المتوكّل على الله، أهدي
إليه ابن طاهر من خراسان هديّةً جليلةً فيها جوارٍ، منهنّ جاريةٌ يقال لها
محبوبة كانت قد نشأت بالطّائف، وكان لها مولىً قد عنى بها، فبرعت في فنون
الأدب، وأجادت الشّعر. وكانت راويةً ظريفةً، مجيدةً للغناء. فقربت من قلب
المتوكّل. وغلبت عليه. قال: فخرج عليّ يوماً، وقال لي: يا علي، دخلت
السّاعة على قينة وقد كتبت بالمسك على خدّها جعفراً، فما رأيت أحسن منه،
فافعل فيه السّاعة شعراً. فأخذت الدّواة والقرطاس، فانقفل عليّ، حتّى
كأنّي ما عملت بيتاً قط فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أذنت لمحبوبة أن تقول
شيئاً عسى أن ينفتح لي. فأمرها، فقالت مسرعةً، وأخذت العود فجسته، وصاغت
لحناً، واندفعت وغنّت:
وكاتبةٍ بالمسك في الخدّ جعفراً، ... بنفسي خطّ المسك، من حيث أثرّا
لئن أودعت سطراً من المسك خدّها، ... لقد أودعت قلبي من الشّوق أسطرا.
فاعجب لمملوكٍ يظلّ مليكه ... مطيعاً له فيما أسرّ وأجهرا
قال عليّ: وغضب عليها مرّة، وكان لا يصبر عنها، فأمر جواري القصر أن لا
تكلّمها واحدةً منهنّ. فكانت في حجرتها أيّاماً، وقد تنغّص عيشه لفراقها،
فبكرت عليه يوماً، فقال: يا علي. قلت لبّيك يا أمير المؤمنين. قال: رأيت
الليلة في منامي كأنّي رضيت عن محبوبة فصالحتها وصالحتني. فقلت: خيراً يا
أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وسرّك. إنّما هي عبيدتك، والسّخط والرّضا
بيدك، فوالله، إنّا لفي حديثنا إذ جاءت وصيفةً، فقالت: يا أمير المؤمنين
سمعت صوت عودٍ من غرفة محبوبة. قال: فقم بنا يا عليّ ننظر ما تصنع، فنهضنا
حتّى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب العود وتغنّي:
أدور في القصر، لا أرى أحداً ... أشكو إليه، ولا يكلّمني
كأنّني قد أتيت معصيةً، ... ليست لها توبةٌ تخلّصني.
فهل شفيعٍ لنا، إلى ملكٍ، ... قد زارني في الكرى فصالحني،
حتّى إذا ما الصّباح لاح لنا، ... عاد إلى هجره فصادمني.
قال: فصاح أمير المؤمنين، وصحت معه. فتلقته وأكّبت على رجله تقبّلها،
فقال: ما هذا؟ فقلت: يا مولاي رأيت في ليلتي هذه كأنّك صالحتني، فتعلّلت
بما سمعت. قال: فأنا والله قد رأيت مثل ذلك. وقال: يا عليّ أرأيت أعجب من
هذا وكيف اتّفق ورجعنا إلى الموضع الذي كنّا فيه. واصطلح. وما زالت تغنّيه
هذه الأبيات يومنا ذلك. وازدادت حظوتها عنده حتّى كان من أمره ما كان.
فتفرّقت جواريه، فصارت محبوبة إلى الوصيف الكبير، فما زالت باكيةً حزينةً،
فدعاها يوماً مع من صار إليه من جواري المتوكّل فأمرهنّ فغنّين. ثمّ أمرها
فاستعفته فأبى، فقلن لها: لو كان في حزننا فرحٌ لطال حزننا معك. وجيء
بعودٍ فغنّت به:
أيّ عيشٍ يلذّ لي ... لا أرى فيه جعفرا
كلّ من كان ذا ضناً ... وسقامٍ فقد برا
غير محبوبة التي ... ترى الموت يشترى
من أحاديث بني عذرة
ومن ذلك ما حكى جميلٌ بن معمر العذري: أنّه دخل على عبد الملك بن
مروان، فقال له: يا جميل حدّثني ببعض أحاديث بني عذرة. فإنّه بلغني إنّهم
أصحاب أدبٍ وغزلٍ. قال: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمك أنّ آل بثينة انتجعوا
عن حيّهم، فوجدوا النّجعة بموضع نازح فظعنوا، فخرجت أريدهم، فبينما أنا
أسير إذ غلطت الطّريق وأجنّني الليل فلاحت لي نارٌ، فقصدها حتّى وردت على
راعٍ في أصل جبل قد انحنى عنه إلى كهفٍ فيه، فسلّمت، فردّ عليّ السّلام،
وقال: أظنّك قد غلطت الطّريق؟ فقلت: أجل. فقال: انزل وبت الليلة فإذا
أصبحت وقفت على القصد فنزلت فرحب بي وأكرمني وذبح شاة، وأجّج ناره، وجعل
يشوي ويلقي بين يدي، ويحدّثني في خلال ذلك. ثمّ قام بإزارٍ كان معه فوضع
به جانب الخبا ومهّد لي محلّاً خالياً فنمت.
فلمّا كان في الليل سمعته يبكي إلى شخصٍ كان معه، فأرقت له ليلتي. فلمّا
أصبحت طلبت الإذن فأبى، وقال: الضّيافة ثلاث. فجلست وسألته عن اسمه ونسبه
وحاله، فانتسب فإذا هو من بني عذرة، من أشرفهم. فقلت: وما الذي جاء بك إلى
هذا؟ فأخبرني أنّه كان يهوى ابنة عمٍّ له، وأنّه خطبها من أبيها فأبى أن
يزوّجها إيّاها لقلّة ذات يده، وأنّه تزوّجها رجلٌ من بني كلاب وخرج بها
عن الحي، وأسكنها في موضعه. وأنّه رضي أن يكون لزوجها راعياً حتّى تأتيه
ابنة عمّه فيراها. وأقبل يشكو قديم عشقه لها، وصبابته بها حتّى أتى
المساء، وحان وقت مجيئها. فجعل يتقلقل ويقوم ويقعد، ثمّ وثب قائماً على
قدميه، وأنشأ يقول:
ما بال ميّة لا تأتي كعادتها ... أعاجها طربٌ أو صدّها شغل
لكنّ قلبي عنكم ليس يشغله ... حتّى الممات وما لي غيركم أمل
لو تعلمين الذي بي من فراقكم ... لما اعتذرت، ولا طابت لك العلل
نفسي فداؤك، قد أحللت بي سقماً ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل
لو أنّ ما بي من سقمٍ على جبلٍ ... لزال وانهدّ من أركانه الجبل
ثمّ قال لي: اجلس، يا أخا بني عذرة، حتّى أكشف خبر ابنة عمّي. ثمّ مضى
فغاب عن بصري، فلم ألبث أن أقبل وعلى يديه محمول، وقد علا شهيقه ونحيبه،
فقال: يا أخي هذه ابنة عمّي أرادت زيارتي فاعترضها الأسد فأكلها. ثمّ
وضعها بين يديّ، وقال: على رسلك، حتّى أعود إليك. فغاب عن نظري فأبطأ،
حتّى آيست من رجوعه، فلم ألبث أن أقبل ورأس الأسد على يديه فوضعه ثمّ،
قال: يا أخي إنّك ستراني ميّتاً فاعمد إليّ وإلى ابنة عمّي فأدرجنا في
كفنٍ واحدٍ، وأدفنّا في قبرٍٍ واحدٍ، واكتب على قبرنا هذين البيتين:
كنّا على ظهرها والعيش في مهلٍ ... والشّمل يجمعنا والدّار والوطن
ففرّق الدّهر بالتّصريف إلفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن
وردّ الغنم إلى صاحبها، وأعلمه بقصّتها.
ثمّ عمد إلى خناقٍ وطرحه في عنقه، فناشدته الله لا تفعل، فأبى وخنق نفسه
حتّى مات. فلمّا أصبحت كفّنتهما ودفنتهما وكتبت الشّعر كما أمر، ورددت
الغنم إلى صاحبها وأعلمته بقصّتهما، فحزن حزناً خفت عليه الهلاك أسفاً على
ما فرّط من عدم اجتماعهما.
طعم العشق
وقد روي عن محمّد بن جعفر بن الزّبير، قال: كنّا عند عروة بن الزّبير وعنده رجلٌ من بني عذرة. فقال له: يا عذري بلغني أنّ فيكم رقّةً وغزلاً فأخبرني ببعض ذلك؟ فقال: لقد خلف في الحيّ ثلاثين مريضاً ما بهم داءٌ إلاّ الحب قد خامر قلوبهم وأنّ فيه من المرارة والنّكد والكمد ما هو مستعذبٌ عند أربابه، مستحسنٌ عند أصحابه، حلوٌ لا تعدّ له حلاوةٌ، ومرٌّ لا تعدّ له مرارةٌ. قال الكميت بن زيد في ذلك:الحبّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ ... سائلٌ بذلك من تطعّم أو ذق
ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها ... فيما مضى أحدٌ إذا لم يعشق
وقال آخر:
يا أيّها الرّجل المعذّب بالهوى ... إنّي بأحوال الهوى لعليم
الحبّ صاحبه يبيت مسهّداً ... فيطير منه فؤاده ويهيم
والحبّ داءٌ قد تضمّنه الحشا ... بين الجوانح والضّلوع مقيم
والحبّ لا يخفى وإن أخفيته ... إنّ البكاء على الحبيب يدوم
والحبّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ ... والحبّ فيه شقاوةٌ ونعيم
والحبّ أهون ما يكون مبرّحٌ ... والحبّ أصغر ما يكون عظيم
وأنشدني أحمد بن يحيى:
سلني عن الحبّ يا من ليس يعلمه ... ما أطيب الحبّ لولا أنّه نكد
طعمان حلوٌ ومرٌّ ليس يعدله ... في حلق ذائقه مرٌّ ولا شهد
وأنشد أبو الطّيّب:
سلني عن الحبّ يا من ليس يعلمه ... عندي من الحبّ إن ساءلتني خبر
إنّي امرؤٌ بالهوى ما زلت مشتهراً ... لاقيت فيه الذي لم يلقه بشر
الحبّ أوّله عذبٌ مذاقته ... لكنّ آخره التّنغيص والكدر
عروة بن حزام يموت ملوّعاً
وذكر ابن عتيق، قال: بينما أنا أسير في أرض بني عذرة، إذ أنا ببيتٍ جديدٍ،
فدنوت منه، فإذا بعجوزٍ تعلّل شابّاً قد نهكته العلّة، وبانت عليه
الذّلّة. فسألتها عن خبره، فقالت: هذا عروة بن حزام. فدنوت منه، فسمعته
يقول:
من كان من إخواننا باكياً لغدٍ ... فاليوم، أنّي أراني اليوم مقبوضا
فقلت: أنت عروة بن حزام؟ قال: نعم، الذي أقول:
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه ... وعرّاف نجدٍ إن هما شفياني
فقالا: نعم، تشفى من الدّاء كلّه. ... وقاما مع العوّاد يبتدراني.
فما تركا من سلوةٍ يعلمانها، ... ولا شربةٍ إلاّ وقد سقياني.
فقال: شفاك الله، والله مالنا، ... بما حملت منك الضّلوع، يدان
فويلي على عفراء ويلاً كأنّه ... على النّحر والأحشاء حدّ سنان،
فعفراء أصفى النّاس عندي مودّةً ... وعفراء عندي المعرض المتواني.
ثمّ شهق شهقةً توهّمت أنّها غشية فتنحّيت عنه، ودنت العجوز فوجدته قد قضى
نحبه. فما برحنا حتّى دفنّاه.
لا ذنب على أهل الهوى
وبلغ العشق أيضاً مجنون عامر إلى ما ذكرناه في موضعه. قال بعضهم: سمعت أعرابيّةً تطوف وهي تقول اللهمّ مالك يوم القضا، وخالق الأرض والسّماء، ارحم أهل الهوى، وأنقذهم من عظيم البلا، فإنّك تسمع النّجوى، قريبٌ لمن دعا. ثمّ أنشأت تقول:يا ربّ إنّك ذو منٍّ وذو سعةٍ ... دارك بعافيةٍ منك المحبّينا
الذّاكرين الهوى من بعد ما رقدوا ... حتّى نراهم على الأيدي مكبّينا
فقلت لها: يا هذه أيقال هذا في الطّواف؟ فقالت: إليك عنّي، لا يرهقك الحبّ. فقلت: وما الحبّ؟ فقالت: جلّ أن يخفى، ودقّ على أن يرى: له كمونٌ ككمون النّار في الحجر، إن قدحته أروى، وإن تركته توارى. قال: فتبعتها حتّى عرفت منزلها، فلمّا كان من غدٍ جاء مطرٌ شديدٌ فمررت ببابها وهي قاعدةٌ مع أترابٍ لها، وهنّ يقلن لها: أضرّ بنا المطر، ولولا ذاك لخرجنا إلى الطّواف فأنشأت تقول:
قالوا أضرّ بنا السّحاب بقطره ... لمّا رأزها بعبرتي تحكي،
لا تعجبوا ممّا ترون، فإنّما ... تلك السّماء لرحمتي تبكي.
وقد زعم قومٌ أنّه لا ذنب على أهل الهوى، ولا وزر على ذوي الضّنا. إنّ خطاياهم تنمحي عنهم لطول بلائهم، وكثرة شقائهم،ولما يلقون من القلق، ويعانون من الأرق.
لو أدرك عمر عفراء وعروة لجمعهما
أبو الحسن الميداني عن الأصمعيّ قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لو أدركت عفراء وعروة، لجمعت بينهما.العرجيّ المحتال
قال الزّبير بن بكار: كان العرجيّ وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، يعشق أمّ الأوقص المخزومي القاضي، وهي امرأةٌ من بني تميم، فكان يتعرّض لها، فإذا رأته رمت بنفسها وتستّرت منه. فمرّ بها يوماً وهي في بعض نسوةٍ وهنّ يتحدّثن، فعرفها فأحبّ أن يراها عن قربٍ، فعدل عنها ولقي أعرابيّا راكباً معه لبنٌ رطبٌ، فدفع دابّته وثيابه وأخذ قعوده ولبنه، ولبس ثيابه، ثمّ أقبل على النّسوة. فصحن يا أعرابيّ: عندك لبن؟ قال: نعم ومال إليهنّ، وجلس يتأمّل التّميميّة وينظر أحياناً إلى الأرض كأنّه يطلب شيئاً. وهنّ يشربن من اللبن، فقالت له امرأةٌ منهنّ: أيّ شيءٍ تطلب يا أعرابيّ أضاع منك في الأرض؟ قال: نعم قلبي: فلمّا سمعت التّميميّة كلامه نظرت إليه، وكان أزرق، فعرفته، وقالت: ابن عمر، وربّ الكعبة. ووثبت فسترها نساؤها، وقلن له انصرف عنّا، لا حاجة لنا إلى لبنك. فمضى منصرفاً.
أهل العشق صحيح مساكين
قال العتبيّ: سمعت أعرابيّةً تقول: مسكين العاشق، كلّ شيءٍ عدوّه: هبوب الرّيح تقلقه، ولمعان البرق يؤرقه، ورسوم الدّيار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتّذكير يسقمه. إذا دنا الليل منه هرب النّوم عنه، ولقد تداويت بالقرب والبعد فما أنجح فيه دواء. ولقد أحسن الذي يقول:بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أنّ قلب الدّار خيرٌ من البعد
داؤهما دواؤهما
وقال أعرابيٌّ: إنّ لي عيناً دموعاً، وقلباً مروّعاً، فماذا يصنع كلّ واحدٍ منهما بصاحبه مع أنّ داؤهما دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما.البعيدة القريبة
وذكر أعرابيٌّ وجده بامرأةٍ فقال: ما ازدادت منّي بعداً إلاّ ازددت بها قرباً.بعدها دهرٌ والسّاعة شهرٌ
وذكر أعرابيٌّ امرأةً كان يواصلها في شبابه، فقال: ما كانت أيّامي معها إلاّ كأباهيم القطا قصرا، ثمّ طالت بعدها شوقاً إليها، وأسفاً عليها، فاليوم بعدها دهر، والسّاعة شهر.
رعت لعيسى الود
ّقال أبو بكر بن دريد: كانت امرأةٌ من لخمٍ يقال لها سعدى تهوى ابن عمٍّ لها، يقال له عيسى. فلمّا خشي أهلها الفضيحة قالوا لها: إن نطقت فيه بشعرٍ قطعنا لسانك. فعندها قالت:
خليليّ إن أصعدتما أو هبطتما ... بلاداً هوى نفسي بها فأذكرانيا
ولا تدعا إن لامني ثمّ لائمٌ ... على سخط الواشين أن تعذرانيا
فقد شفّ جسمي بعد طول تجلّدي ... أحاديث عن عيسى تشيب النّواصيا
سأرعى لعيسى الودّ ما هبت الصّبا ... وإن قطعوا في ذاك عمداً لسانيا.
الطّلاق بين سعة الثّقبة وسرعة الإنزال
طلّق أعرابيٌّ امرأته: فقالت: لم طلّقتني؟ فقال: لأنّك واسعة الثّقبة، حديدة الرّكبة خفيفة الوثبة. فقالت له: وأنت سريع الإراقة، بطيء الأفافة، ثقيلٌ بين اليدين، خفيفٌ بين الرّجلين.
لبنى وقيس بن ذريح
وطلّق قيس بن ذريحٍ امرأته لبنى فندم على ذلك، وقال:فواكبدي على تسريح لبنى ... فكان فراق لبنى كالخداع
تكنّفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للنّاس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمرٍ وليس بمستطاع
كمغبونٍ يعضّ على يديه ... تبيّن غبنه بعد البياع
الحجّاج وابنة عبد الله بن جعفر
وتزوّج الحجّاج ابنة عبد الله بن جعفر، فلمّا دخلت عليه نظر إليها وعبرتها تجود على خدّها، فقال لها: بأبي وأمّي، ممّ تبكين؟ فقالت: من شرفٍ اتّضع، ومن ضعةٍ شرفت. فلمّا كتب إليها عبد الملك بن مروان بطلاقها، قال لها: إنّ أمير المؤمنين امرني بطلاقك. قالت: هو والله أبرّ بي ممّن زوّجك إباي. فلمّا مات أبوها لم تبك عليه، فقيل لها في ذلك، فقالت: والله أنّ الحزن ليبعثني، وإنّ الغيظ ليصمتني.
زينب بنت مرّة والمغيرة
وكانت زينب بنت مرّة عند ابن تميم لها يقال له المغيرة فجرى بينهما عتاب فطلّقها ثلاثاً فقالت:
يا أيّها الرّاكب الغادي مطيّته ... عرج أبثّك عن بعض الذي أجدّ
ما عالج النّاس من وجدٍ ومن كمد ... إلاّ وجدت به فوق الذي وجدوا
حسبي رضاه، وإنّي في مسرّته ... وودّه آخر الأيّام اجتهد.
الإثم لها في الآخرة
كانت عند رجل امرأةٌ يقال لها أم مالك وكان بها معجباً. فأقسمت
عليه أمّه أن يطلّقها، فذهب عقله، ونحل جسمه. فحضره الموت، فدخلت عليه أم
مالك تعوده، فلمّا ولّت قال لأمّه: يا عجوز ليهنك فقد ابنك في الدّنيا،
والإثم لك في الآخرة. ثمّ أنشأ أن يقول:
لنا حاجةٌ في آل مروان دونها ... من النّفر الغرّ الوجوه قبيل
فمت كمداً إنّ كان يومك قد أتى ... أو اصبر على ما خلّيت فقليل
فلمّا خرجت عنه، فاضت نفسه. وما وصلت إلى منزلها حتّى سقطت ميّتة.
ولات ساعة مندم
ٍقال إبراهيم بن عقبة: طلّق أعرابيٌّ امرأته وحمله على ذلك عقله فندم. وأنشأ يقول:
إذا ذكرت ليلى ترقرق دمعه ... كأن لم تكن عينٌ بها قبل قرّت
وإنّ ثلاثاً منك لو تعلمينه ... دنت دون حلو العيش حتّى أمرّت
راودها عن نفسها ثمّ تزوّجها
أبو العيناء، عن أبي حمزة الغسّاني قال: نزل أعرابيٌّ من بني أسد ببيت أعرابيّةٍ من بني تميم ضيفاً، فأتته بقرىً حاضرٍ، وماءٍ باردٍ. فجعل ينظر إليها من وراء السّتر، ثمّ راودها عن نفسها، فقالت له: يا هذا أما يقرّعك الإسلام والكرم؟ كل، وإن أردت غير ذلك فارتحل. فقال لها: زوّجيني إذاً نفسك. فقالت له: الأولياء يزوّجونك. فخاف أن لا يزوّجوه للعداوة بين الحيّين، فانتسب إلى بني عذرة فزوّجوه فأقام عندهم زماناً. ثمّ علموا أنّه أسدي فقالوا له: والله إنّك لكفءٌ كريمٌ، ولكن نكره أن تنكح فينا وأنت حربٌ لنا، فحل عن صاحبتنا. وكان يحبّها حبّاً شديداً فطلّقها، وقال:
أحبّك يا عم حبّ الحياة ... ونيل المنى وبلوغ الظّفر
ويعجبني منك عند الّلقاء، ... حياء الكلام، وموت النّظر
ونائي الجبين، شديد البياض، ... كثيف الجوانب، مثل القمر.
له وهجٌ كضرام الحريق، ... يكاد يمزّق جلد الذّكر
قال أبو ذكوان: لم تقل العرب فيما يريده الرّجال من النّساء أحسن من هذا.
عرضوا عليه زواج البصريّة فأبى
قال: خرج محمّد بن المشيري الخارجي إلى البصرة في طلب ميراثٍ له، وبها نفرٌ من قومه. فأقام بها حولاً ينشدهم ويحدّثهم. وكانت امرأةٌ منهم ذات جمالٍ ومالٍ لا يطمع فيها أحد. فقالوا له: يا أبا سلمان هل لك في امرأةٍ منّا، سيّدةٌ في قومها جمالاً وعقلاً، وعفافاً، ورأياً، قد سمعت بمقدمك، فذكرت لها، فزعمت أنّك طلّقت زوجتك التي خلّفتها في بلدك فرغبت فيك، فإن أحببت أقمت عندنا فيما ترى من طيّب بلادنا وربعنا، وعلينا صداقك، وما تحتاج إليه؟ فأقبلوا به وأدبرّوا واجتهدوا فأبى عليهم، وقال في ذلك:
أسائلٌ بالعراق فراق سعدٍ ... ولا تبدي ولا يراها الفراق
لئن ربح الفراق لهجر سعدى ... عليّ أشدّ ما ربح الفراق
إذا عدلوا أقول لهم: لسعدى ... خلائقٌ لا يحلّ لها الطّلاق
حرامٌ أن يقول نساء قومٍ ... تركتك أو تحدث بي الفراق
أهكذا تجازى النّساء؟!
سمعت أعرابيّةٌ تقول لزوجها: يا مفلس، يا قرنان، فقال لها: إن كان ما ذكرت حقاً فواحدةٌ من الله، وأخرى منك، يا زانية، وأنت طالقٌ ثلاثاً.
حرها واسع
خاصمت امرأةٌ زوجها، فطلّقها فقالت له: يا هذا، لم طلّقتني وقد كنت لك ناصحةً، وعليك شفيقةً، وما فيّ عيبٌ إلاّ ضيقٌ بجبهتي؟ فقال لها زوجها: لو كان الضّيق في حرك ما طلّقتك أبداً! .الأهوازيّة أشدّ ذكاءً
كانت لرجلٍ في الأهواز ضيعةٌ بالبصرة، وكان يتعاهدها في حين
الانتفاع بالثّمار. فتزوّج بها امرأةً، وانتهى الخبر إلى امرأته
الأهوازيّة فاستخرقت كتاباً على لسان بعض إخوانه بالبصرة يعزيه في
البصريّة و يقول: إلحق المال الذي خلّفت ولا تتأخّر. وأعطت الكتاب لبعض
الملّاحين وجعلت له جعلاً. فلمّا وصل الكتاب إلى زوجها وجد لموتها وجداً
عظيماً، وقال للأهوازيّة: أصلحي لي سفرتي، فإنّي راكبٌ إلى البصرة. ففعلت،
فلمّا أصبح الغد ركب فرسه، وأعطته السّفرة، ثمّ قبضت على عنان فرسه وقالت
له: ما تكثر اختلافك إلى البصرة إلاّ ولك بها امرأةً تزوّجتها؟ فقال لها:
والله مالي بالبصرة امرأةٌ. للذي وقف عليه من الكتاب. فقالت له: لست أدري
ما تقول؛ وإنّما تحلف وتقول أيّ امرأةٍ لي غيرك طالقٌ ثلاثاً بقول جميع
المسلمين؟ فللذي وقف عليه الرّجل من موت البصريّة قال في نفسه: تلك ماتت،
فلم أغير صدر هذه: فقال لها: كلّ امرأةٍ لي غيرك في جميع الأقاليم فهي
طالقٌ ثلاثاً بقول جميع المسلمين. فقالت له: لا تتعبن فقد طلّقت الحبيبة.
فندم الرّجل، وأسقط ما في يديه.
شعر قيسٍ بعد زواج ليلى
ولمّا تزوّجت ليلى صاحبة قيس بن الملوّح، هام على وجهه مع الوحش، وكان
يقول:
لها في سواد القلب تسعة أسهمٍ ... وللنّاس في ذاك المكان عشير
ولست بمحصٍ حبّ ليلى لسائلٍ ... من النّاس إلاّ من يقول كثير.
وتنشر نفسي بعد موتي لذكرها، ... فموت نفسي مرّةُ ونشور.
أتاني بعد ظهر الغيب أن قد تزوّجت، ... فكادت بي الأرض البراح تمور
فقلت، وقد أيقنت أن ليس بيننا ... تلاقٍ، وعيني بالدّموع تفور:
لئن كان تبدي برد إيمانها العلى ... لأفقر منّي أنّني لفقير.
فما أسرع الأخبار أن قد تزوّجت، ... فهل يأتينني بالطّلاق. تشير؟
أيريده فحلاً لبناته
حكى إبراهيم بن محمّد بن عرفة قال: كانت أمّ عبد الملك بن سعيدٍ بن خالدٍ
بن عمرو، عند الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فمرض سعيدٌ، وهو بالبادية،
فعاده، فدخل عليه وعنده أختها سلمى، فستروها، فرأى منها لمحةً ثمّ قامت،
فرأى طولها فطلّق أختها وخطبها، فلم يزوّجه إيّاها وكانت أختها أمّ عثمان
عند هشامٍ بن عبد الملك، فبعث إلى أبيها: إيّاك أن تزوّج الوليد، تريده أن
تتّخذه فحلاً لبناتك يطلّق واحدةً ويتزوّج أخرى؟ فأبى أن يزوّجه. فقال
الوليد: العجب من سعيدٍ، خطبت إليه فردّني، ولو قد مات هشامٌ واستخلفت
لزوّجنيها، فإن زوّجتها فهي طالق، وإن كنت أهواها. وقد ذكرنا حديثه
مستقصىً في موضعه من هذا الكتاب.
هي طالقٌ ألف مرّة
خاصمت امرأةٌ زوجها إلى المطّلب بن حبط المخزومي قاضي المدينة، وكانت قالت
له: أسأت إليّ وأوجعتني، ووالله ما أستطيع، فإنّ بنتك تمسي من الجوع
والجهد وما أقمن إلاّّ على الوطن. فقال: أنت طالقٌ إن كان لا يقمن إلاّّ
على الوطن! فأخبرت القاضي بما قالت، وبما قال. فقال القاضي: بطلب
المقادير، وربّ الكعبة، إنّ الأيّل ليكون بالمكان الجدب الخسيس المرعى
فتقيم فيه بحبّ الوطن. فقال الزّوج: كأنّ المسألة، أصلح الله القاضي،
أشكلت عليك هي طالقٌ ألف مرّة.
طلّقها وندم
وطلّق عليٌّ بن منظور امرأته فندم عليها ندماً شديداً، فقال:
ما للطّلاق فقدته ... وفقدت عاقبة الطّلاق
طلّقت خير خليلةٍ ... تحت السّموات الطّباق
وأحبّت امرأة الأعرابيّ أن تفارقه فقال:
تمنّين الطّلاق وأنت منّي ... بعيشٍ مثل مشرفة الجمال
أحبّ إليه ليلةً طلّق فيها نساؤه
قال خالد بن صفوان: ما بتّ ليلةً أحبّ إليّ من ليلةٍ طلّقت فيها نسائي،
فأرجع والسّتور قد هتكت ومتاع البيت قد نقل. فبعثت إليّ بنتي سليلة فيها
طعامٌ، وبعثت الأخرى إليّ بفراشٍ أنام عليه.
أو ضيق الفرج أو الطّلاق
وقيل لامرأةٍ كانت تطلّق كثيراً: ما لك تطلّقين أبداً؟ قالت: يريدون
الضّيق، ضيّق الله عليهم قبورهم.
طلّقها ثلاثاً
وقال أعرابيٌّ لامرأته:
أنوّهت باسمي في العالمين ... وأفنيت عمري عاماً فعاما
فأنت الطّلاق وأنت الطّلا ... ق وأنت الطّلاق ثلاثاً توأما
حلاوة الجماع
عن عروة بن الزّبير، عن عائشة، رضي الله عنها: أنّ امرأة رفاعة أتت إلى النّبيّ، صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّ رفاعة طلّقني، فبتّ طلاقي، وإنّي تزوّجت بعده بعبد الرّحمن بن الزّبير وما معه إلاّ مثل هدبة الثّوب، فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا، حتّى تذوقي عسيلة الزّوج الثّاني ويذوق عسيلتك.طلّقها عدد شعر مؤخّرتها
دخل مدنيٌّ البصرة، فزوّج فيها امرأةً: ثمّ حصل بينهما شرٌّ، فقال لها: أنت طالقٌ عدد شعر أسّتك. فقالت: قاتلكم الله يا أهل المدينة تسرّعون الطّلاق وتؤثرون الخلاق.
يلتمسون الضّيق ضيّق الله عليهم
قال عبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت لعطاءٍ بن صيفيّ الثّقفيّ: لو أصبت ركوةً مملوءةً خمراً بالبقيع ما كنت صانعاً بها؟ قال: أفرّقها في بني النّجّار فإنّها لا تعدوهم. ولكن أخبرني، أيّهما أكبر جدّك ثابت أم جدّتك فريعة؟ قال لا أدري. قال عطاء: الفريعة كانت أكبر، وقد تزوّجتها قبله أربعة أزواجٍ كلّهم يلقاها بمثل ذراع البكر ثمّ يطلّقها. فقيل لها: يا فريعة، لم تطلّقين وأنت بمثل هذا الجمال؟ قالت: يلتمسون الضّيق، ضيّق الله عليهم.
مكابدة العفّة ايسر من الاحتيال
وطلّق أعرابيٌّ زوجته، فقيل له: ألا تتزوّج بعدها؟ فقال: مكابدة العفّة، أيسر من الاحتيال بمصلحة العيال.
ضرط فسخرت منه فطلّقها
تزوّج الفضل بن قطن الحارثيّ ابنة المهلّب بن أبي صفرة. فجلس معها يشرب، فأراد الافتخار عليها فقال:
إن كنت ساقيةً يوماً على كرمٍ ... كأس المدام فأسقيها بني قطن
ثمّ إنّه تحرّك فضرط. فقالت: وأسقي هذه بني قطن أيضاً؟ فخجل وقال: إذهبي فأنت طالق.
طلّقها فتزوّجت رجلاً دميماً
وطلّق عطيّة بن أشجع محجوبة بنت عبد الله، امرأته فزوّجت رجلاً دميماً فقال في ذلك:
لعمري أبي سلمى، ولست بشامتٍ ... بسلمى، فقد أمست بها النّعل زلّت.
وليس لمغفورٌ لسلمى ذنوبها ... وإن هي صامت كلّ يومٍ وصلّت،
ولو ركبت ما حرّم الله لم يكن ... بأعظم عند الله ممّا استحلت؟
الكاذبة الفاجرة الضّارطة
كانت لبعض الصّالحين امرأةً تبغضه، فكان إذا نهاها عن أمرٍ دعت الله أن يريحها منه، وأن يعجّل طلاقها، فأضجرته يوماً فطلّقها، فسجدت لله شكراّ، فقال الرّجل: اللهمّ إنّها وضعت إليك فما ّكاذباً، ووجهاً وقاحاً، ورفعت أستاً مجاهرةً بالفحشاء فاجرةً. فوثب سنور في البيت فأفزعها، فضرطت، فقال: الحمد لله الذي سهّل فرقتك وعجّل فضيحتك.
باب ما جاء في الغيرة
يروى عن عروة بن الزّبير، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول وهو على المنبر: " لا شيء أغير من الله. " وعن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: أنّ الله ليغار للمسلم فليغر وعنه، وعن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " ليس شيءٌ أغير من الله ، من أجل ذلك حرّم الفواحش. " وعن كعب بن مالك أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: " الغيرة، غيرتان: فغيرةٌ يحبّها الله، وغيرةٌ يكرهها الله " . قلنا يا رسول الله، ما الغيرة التي يحبّها الله، قال: " أن يغار أن يأتي معاصي الله، وينتهك محارمه " . قلنا وما الغيرة التي يكرهه: قال " أن يغار أحدكم في غير كنهه. " وعن عبد الملك بن عمير بن عبد الله بن بكار أنّه قال: " الغيرة غيرتان: غيرةٌ يصلحها بها الرّجل أهله، وغيرةٌ تدخله النّار " .ويروى: أنّ سارة كانت تحبّ إبراهيم خليل الرّحمن. فمكثت معه دهراً لا ترزق ولداً، فلمّا رأت ذلك وهبت له هاجر، وكانت أمةً لها قبطيّةً، فولدت لإبراهيم إسماعيل، صلّى الله عليهما، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها، وعتبت على هاجر. فحلفت لتقطعنّ عضواّ من أعضائها فقال لها إبراهيم، صلّى الله على نبينا وعليه: هل لك أن تبري يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: أثقبي أذنيها وخصّفيها. والخصف هو الخياطة. ففعلت ذلك بها، فوضعت في أذني هاجر قرطين فازدادت حسناً. فقال سارة: إنّي إنّما زدتها جمالاً: فلم تتركه على كونها معه. ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً، فنقلها إلى مكّة وكان يزورها في كلّ وقتٍ من الشّام لشغفه بها، وقلّة صبره عنها.
الكلام عن بعد ممنوع
وعن ابن أبي مليكة: أنّ ابن عمرو سمع امرأته تكلّم امرأةً من وراء جدار، بينها وبينها قرابةً لا يعلمها ابن عمرو، قال: فجمع لها جرائد ثمّ أتى فضربها بها.عادةٌ غير مستحسنةٍ
وعن علقمة: أنّ معاذ بن جبل كان يأكل تفّاحةً ومعه امرأته فدخل علها غلامٌ، فناولته أمرأته تفّاحةً قد أكلت منها فأوجعها ضرباً.
غيرة المرأة على قدر لذّتها
وقال بعضهم: لذّة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر لذّتها. واستدل بإفراط غيرتها على إفراط حرصها. وهذا القول خطأ قد علمنا أنّ الرّجل أشدّ غيرةً على المرأة من المرأة على الرّجل. وربّما كان الذي يبدو من المرأة عند تسرّي زوجها بالسّراري وتزويجه المهيرات، وحين تراه مع بعضهنّ توهيماً للفعل أنّ ذلك من الطّربة والكراهة المشاركة فيه. وبعض ذلك يكون من طريق الألفة والنّفاسة به، وليس شكل ما تلقى المرأة إذا رأت فراشها، من شكل ما يلقى الرّجل إذا رأى على فراش امرأته رجلاً. لأنّ المرأة قد عاينت أنّ الرّجل له أربع نسوةٍ وألف جاريةٍ يطؤهنّ بملك اليمين، لما أحلّه الله في الشّريعة. وكذلك غيرة فحول الحيوان على إناثها، لأنّ فحل الحيوان يقاتل دونها كلّ فحلٍ يعرض لها حتّى تصير إلى الغالب. قال الرّاجز.
يغار والغيرة في خلق الذّكر والأمم تختلف في الغيرة. فمن الصّقالبة ناسٌ لا يتزوّجون من قربٍ منهم في النّسب ولا الدّار. وإذا مات البعل خنقت المرأة نفسها أسفاً عليه.
والمرأة في الهند إذا مات زوجها وأرادوا حرقه، جاءت ليحرقوها معه.
والدّيلميّ يخرج من الدّيلم إلى حدود ما بين دار الإسلام والدّيلم، ومعه امرأته وإخوانه وعمّاته فيبيعهنّ صفقةً واحدةً، ويسلّمهنّ إلى المبتاع، لا تدمع عينه ولا عينٌ واحدةٍ من عياله.
تكرّم طبرستان من العجائب
وأهل طبرستان لا يتزوّج الرّجل الجارية منهنّ حتّى يستبطن بها حولاً محرّماً ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ويتزوّجها، ثمّ يزعمون مع ذلك أنّه يجدها بكراً، وقد عانقها في إزارٍ واحدٍ سنةً كاملةً وهو لا يستبطن بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين في لحافٍ واحدٍ يحتجران عن ألّذ الأمور تكرّماً. وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.
ثلاث خصالٍ من السّؤدد
قال معاوية، رضي الله عنه: ثلاث خصالٍ من السّؤدد، الصّلع، واندماج البطن، وترك الإفراط في الغيرة.
غيرة قيس بن زهير
ولمّا نزل قيس بن زهير ببعض العرب قال لهم: أنّي غيورٌ، وأنا فخورٌ، وأنا أنفٌ، ولكن لا أغار حتّى أرى، ولا أفخر حتّى افعل، ولا آنف حتّى أضام. فعابوه بقوله لا أغار حتّى أرى ويظنّ به إنّما عني رؤية السّبب لا رؤية المرافقة.وعابوا معاوية أيضاً بقوله هذا ونسبوه إلى قلّة الغيرة وما أرى في قوله وترك الإفراط في الغيرة عيباً لأنّ الإفراط المجاوز للحقّ ولمقدار المصلحة وظلم الخليلة العفيفة والحرمة الكريمة غير لائقٍ.
وعاب النّاس قول هدبة بن خشرم حيث يقول:
فلا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
فهذا يأمرها بتزويج الأنزع القليل شعر القفا والوجه.
ولا أرى فيه عيباً أيضاً لأنّ إنّما قال ذلك ليذكّرها جمال نفسه ليزهدها في غيره.
عبد الملك يعيب قولاً على نصيب
وأمّا قول نصيبٍ:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
فإنّي لم أجد له تأويلاً. وعاب ذلك عليه عبد الملك بن مروان،
وقال لجلسائه: أو لو كنتم قائلين هذا البيت ما كنتم تقولون؟ قالوا: لا
ندري، فكيف كان أمير المؤمنين قائلاً: قال: كان يقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّةٍ بعدي
بعض عادات العرب
وكان الرّجل من العرب إذا خرج مسافراً بدأ بالشّجرة يعقد خيطاً على ساقها أو على غصنً من أغصانها، فإذا رجع إلى أهله بدا إلى الشّجرة فنظر إلى الخيط، فإن كان منحلّاً حكم أنّ امرأته خانته، وإن كان على حاله حكم أنّها حفظته.وأنشد أبو زيدٍ النحويّ:
هل ينفعك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعفي والرّتم
والرّتم اسمٌ للخيط الذي يعقد في الخنصر لتذكّر الحاجة.
وكان معاوية بن أبي سفيان يتمثّل بقول الشّاعر:
ومراكبٍ رجع السّلام بكفّه ... ومودّعٍ لم يستطع تسليما
الغيور المتمطّق
وقال آخر:
وأضحى الغيور، أرغم الله أنفه، ... على ملتقانا قائماً يتمطّق
وقد مدّ شدقيه من الغيظ والأذى ... كما مدّ شدقيه الحمار المحنّق
الغيور في نظر الرّاعي
وقال الرّاعي:
وظلّ الغيور آرضاً ببنانه ... كما عضّ برذون على الفاس جامح
لقد رابني أنّ الغيور يودّني ... وأنّ نداماي الكهول الجحاجح
وصدّ ذوات الظّعن عنّي وقد رأت ... كلامي لمراء السّنا الطّوامح؟
ابن الدّمينة وخميص الحشا
وقال عبد الله بن الدّمينة:
ولمّا لحقنا بالحمول، ودوننا ... خميص الحشا تؤذي القميص عواتقه،
عرضنا، فسلمنا، فسلم كارهاً ... علينا، وتبريحٍ من الغيظ خانقه.
فرافقته مقدار ميلٍ وليتني، ... على زعمه، ما دمت حيّاً أرافقه
الدّارميّ لا يفارق عرسه
وقال مسكين الدّارميّ:
وإنّي امرؤٌ لا ألقى إلاّ قاعداً ... إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا
ولا مقسمٌ لا تبرح الدّهر بيتها ... ليجعلها قبل الممات لها قبرا.
إذا هي لم تحصن أمام قناعها، ... فليس بمنجيها بنأيٍ له قصرا،
ولا حاملي ظنّي، ولا قول قائلٍ ... على غيرها، حتّى أحيط بها خبرا.
فهبني امرأً راعيت ما دمت شاهداً ... فكيف إذا ما سرت عن بيتها شهرا؟
وقال مسكين أيضاً:
ألا أيّها الغائر المستشيط، ... على ما تغار إذا لم تغر؟
تعار على النّاس أن ينظروا! ... وهل يغبن للحاصنات النّظر؟
فما خير عرسٍ إذا خفتها ... وبتّ عليها شديد الحذر؟!
تكاد تصفّق أضلاعه ... إذا ما رأى زائراً أو زفر.
فمن ذا يراعي له عرسه ... إذا ضمّه، والمطيّ، السّفر؟
شعراء ماتوا قتلا
ًوثلاثةٌ من شعراء أولاد العجم ممّن كان مشتهراً بالقول مذكوراً، بالشّعر بالبادية، كلّهم قتلوا منهم: وضّاح اليمن، ويسار الكواعب، وسحيم عبد بني الحسحاس. وإنّما قتلوا كفّاً عن أولئك النّساء، وحفظاً لهنّ، حين رأوا التعرّض، وشنعة تلك الأشعار لا يشغلهم عنها إلاّ قتلهم مخافة أن يكون ذلك القتل يحقّق المقالة القبيحة. ألا ترى أنّ الحجّاج بن يوسف في عتوّه لم يتعرّض لابن نميرٍ في تشبّهه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سبباً للخوض في ذكرها. فيزيد زائدٌ، ويكثر مكثّرٌ. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لم يعترض لعبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت وكان يتشبّب بابنته، حتّى قال:
ثمّ حاضرتها إلى القبّة الخضراء ... نمشي في مرمرٍ مسنون
شعر سحيمٍ الإباحيّ
ومن أحقّ بالقتل من سحيم عبد بني الحسحاس؟ حيث يقول:
وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ ... وحقفٍ تهاداه الرّياح تهاديا
توسّدني كفّاً وتثني بمعصمٍ ... عليّ، ونحوي رجلها من ورائيا
وهبّت شمالٌ آخر الليل قرّةً ... ولا ثوب إلاّ درعها وردائيا
فما زال ثوبي طيّباً من نسيمها ... إلى الحول حتّى أنهج الثّوب باليا
ومرّوا به ليقتلوه على الذي اتّهم بها، فضحكت، فقال:
فإن تضحكي منّي فيا ربّ ليلةٍ، ... تركتك فيها كالقباء المفرج
كاد يقتلها عقيل المرّي
وحكى العتبيّ، قال: سمع عقيل بن علقمة المرّي بنتاً له ضحكت، فشهقت في آخر
ضحكها. فأخذ السّيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت، أنّي رجلٌ فروقٌ، ... من ضحكةٍ آخرها شهيق
قال: فنادت يا أخوتاه! فبادروا فحالوا بينه وبينها.
عقيل وابنته الجرباء
وحكى أبو حاتم السّجستاني عن الأصمعي، قال: كان عقيل بن علقمة غيوراً، وكان الخلفاء يصاهرونه، وكانت له ابنةٌ يقال لها الجرباء. فكان إذا خرج إلى الشّام خرج بها لفرط غيرته. فخرج بها مرّةً وبابنٍ يقال له عميس، فلمّا كانوا بدير سعدٍ قال عقيل:قضت وطراً من دير سعدٍ وربّما ... غلا غرضٌ ناطحته بالجماجم
ثمّ قال لابنه أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتيةً ... نشاوي من الإدلاج، ميل العمائم
ثمّ قال لابنته: أجيزي، يا جرباء. فقالت:
كأنّ الكرى أسقاهم صرّ خدية ... عقارٌ تمشّت في المطا والقوائم.
فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ هذه صفةٌ من قد شربها.
وأخذ السّوط فأهوى نحوها، وجاء عميس فحال بينه وبينها، فضربه فأوجعه فرماه عميس بسهمٍ، فشكّ فخذيه فبرك، فمضوا وتركوه حتّى إذا بلغوا أداني المياه منهم، قالوا: اللهمّ أسقطنا جزوراً لنا. فأدركوه وخذوا معكم الماء. ففعلوا، فإذا عقيلٌ بارك وهو يقول:
أنّ ابني زملاني بالدّم ... من يلق أبطال الرّجال يكلم
ومن يكن درءٌ به يقوم ... شنشنةً أعرفها من أخزم
ثمّ زوّجها يزيد بن عبد الملك. وقد ذكرنا خبره في ما مضى.
مقدّمات الغيرة
قال: وممّا يحدث الهوى في قلوب النّساء لغير أزواجهنّ، ويدعوهنّ إلى الحرص على الرّجال، والطّلب لهنّ أمورٌ منها: أن يظهر لها زوجها شدّة الحذر عليها، والاحتفاظ بها، والغيرة في غير موضعها. أو يكون الرّجل منهمكاً في الفساد، مظاهراً لها بالزّنا. فإنّ ذلك ممّا يغريها من طلب الرّجال، والحرص عليهم. كما قال الشّاعر:
ما أحسن الغيرة في حينها، ... وأقبح الغيرة في كلّ حين.
من لم يزل متّهماً عرسه ... متّبعاً فيها لرجم الظّنون،
أوشك أن يغريها بالذي ... يخاف، أو ينصبها للعيون.
حسبك من تحصينها ضمّها ... منك إلى عرضٍ نقيٍّ ودين
لا تطلع منك على ريبةٍ ... فيتّبع المقرون حبل القرين
عبد الله بن رواحة وزوجته
ذكر الشّعبيّ إنّ عبد الله بن رواحة أصاب جاريةً له، فسمعت به امرأته، فأخذت شفرةً فأتته حين قام وقالت له: أفعلتها يا ابن رواحة؟ فقال: ما فعلت شيئاً. فقالت: لتقرأن قرآناً، وإلاّ بعجتك بها. قال: ففكّرت في قراءة القرآن وأنا جنب فهبت ذلك، وهي امرأةٌ غيراء في يدها شفرةً لا آمن أن تأتي بما قالت. فقلت:وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا أنشقّ معروفٌ من الصّبح ساطع
أرانا الهدى، بعد العمى، فقلوبنا ... به موقناتٌ، أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه، ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
قال: فألقت السّكّين من يدها، وقالت: آمنت بالله، وكذّبت البصر. قال: فأتيت النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بذلك، فضحك وأعجبه ما صنعت.
المصيبة في معاتبة المرأة الرّجل
وكان بعض العلماء لشدّة شهوة الباه في قلوب النّساء، وتمكّنه فيهنّ، وشدّة غيرته، يقول: ليس المصيبة في معاتبة الرّجل المرأة، إنّما المصيبة في معاتبتها إيّاه. فإنّها إن نظرت إليه ووقع بقلبها موقع حظوةٍ لم يلبث أن تصير في يده، وتبعث الرّسائل والأشعار والتّحف.
يخاف عليها من عينيها
قال إسحاق: رأيت رجلاً بطريق مكّة، تعادله في المحمل جاريةٌ قد شدّ عينيها والغطا مكشوف، ووجها بادٍ، فقلت له في ذلك. فقال: إنّما أخاف عليها من عينيها، لا من عيون النّاس.سعيد بن سليمان والإنكشاف
قال سعيد بن سليمان لئن يرى حرمتي ألف رجلٍ على حالٍ يكشف منها،
ولا تراهم، أحبّ إليّ من أن ترى حرمتي رجلاً واحداً غير منكشف.
حتّى على العميان
واستأذن ابن أمّ مكتومٍ عل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وعنده
امرأتان من نسائه، فقال لهما: " قوما وأدخلا البيت. " فقالتا: يا رسول
الله، هو أعمى، فقال: " أفعمياوان أنتما؟. "
باب تابعٌ لما قبله
وبالرّجال أعظم حاجةٍ إلى أن يعرفوه ويقفوا عليه، وهو الاحتراس من أن يلقى
الخبر السّابق إلى السّمع لأنّه إذا ألقي دخل ذلك الخبر السّابق إلى مقرّه
دخولاً سهلاً وصادف موضعاً وطيئاً، وطبيعةً قابلةً. ومتى صادف القلب كذلك
رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته. ومتى ألقي إلى الفتيات شيءٌ من أمور
الفتيان في وقت الغرارة وعند غلبة الطّبيعة وشباب الشّهوة، وعند قلّة
الشّواغل، قوي استحكامه، وصعبت إزالته. وكذلك متى ألقي إلى الفتيان شيءٌ
من أمورهنّ وهناك سكر الشّباب. فكذلك يكون حالهم، وإنّ الشّياطين ليخلو
أحدهم بالغلام الغرير فيقول له لا يكن الغلام فتىً أبداً حتّى يصادف فتىً.
فما الماء البارد العذب بأسرع في طباع العطشان من كلمته إذا كان الغلام
أدنى هوىً في الفتوّة. وكذلك إذا خلت العجوز بالجارية الحديثة.
وقيل لابنة الحسن: لم زنيت بعبدك ولم تزن بحرٍّ، وما أغراك به؟ قالت: طول
السّواد، وقرب الوساد. ولو أنّ قبح النّاس وجهاً، وأخبثه نفراً، وأسقطهم
همّةً، قال: لامرأةٍ قد تمكن كلامها وأعطته سمعها: والله يا سيّدتي ويا
مولاتي، لقد أتعبت قلبي، وأرقت عيني، وشغلتني عن مهمّ أمري، فما أعقل
أهلاً ولا مالاً ولا ولداً. لنقض طباعها، وفتح عقدها ولو كانت أبرع الخلق
جمالاً، وأكملهم كمالاً. وإنّما قال عمر رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري
لأنّ الثّياب هي الدّاعية إلى الخروج من الأعراس، والقيام في المناجاة،
والظّهور في الأعياد. فمتى كثر خروجها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل
طبعها، ولو كان بعلها أتمّ حسناً والذي رأت أنقض حسناً، لكانت بما لا
تملكه أطرف ممّا تملكه. وكانت ممّا لم تملّه وتستكثر منه أشدّ الوجد وهي
به أشدّ استقبالاً. كما قال:
وللعين ملعى في البلاد ولم يقد ... هوى النّفس شيئاً كاقتياد الطّرائف
يجوّعهنّ حتّى لا يأشرن
وقيل لعقيل بن علقمة: أما تخاف على بناتك وقد عنسن ولم تزوّجهنّ؟ قال:
كلّا، أجوّعهنّ فلا يأشرن، وأعرّيهنّ فلا ينظرن. فوافقت إحدى كلمتيه قول
النّبي صلّى الله عليه وسّلم، ووافقت الأخرى قول عمر رضي الله عنه. فإنّ
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " الصّوم وجاء. " وقال عمر بن الخطّاب
رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري.قال:
هارون البردعي والعطّار
وكان هارون بن عبد الله البردعيّ يقول لأهله: محرّمٌ عليك إن نظرت إلى
سائلٍ يقف ببابك، وسمعت حلاوة نغمه. وكان ينهي الباعة إذا دخلوا سكنه عن
النّداء على بضائعهم. ورأيته مرّةً يضرب عطّاراً سمعه يترنّم بوصف العطر
وكان ينفق بضاعته حسن صوته، فيقول: العود المطريّ، والمحلب واللبان والمسك
والعنبر. ويردّد ذلك بصوته فيرجّعه.
فكان النّساء يستمعن إليه ويشرفن من المطالع ويتبعن الأبواب حتّى تصل عيونهنّ إلى النّظر إليه لو أراد الجماع لكفتهن الآذان وربما اشترين منه ما لا يحتجن إليه. قال: فقلت له: يا أبا وائل، فإنّك قد انعم الله بشيءٍ كنت تمنعه! قال: جعلت فداك، إنّما أمنع منعي لنفسي لئلاّ يسمعه من في منزلي. فإنّ النّساء أسرع شيءٍ ذهاب قلوبٍ إلى النّغمة الحسنة، فإن كان معه حسن وجهٍ برئت المرأة من الله أن لم تحتل في صرف قلبه إليها، ويصير الزّوج قوّاداً. قلت: لا، ولا كلّ هذا! قال: فأسألك ألا سألته أن يستعمل هذا الكلام مرّةً أو مرّتين أو ثلاثاً في غير هذه السّكّة. فذبنا به إلى غيرها وجعل العطّار ينادي فما أتمّ الثّالثة حتّى تحرّكت أكتافي له طرباً وجعلت لا أمرّ ولا آجي لمّا سكرت من حسن صوته. فقال: كيف تراه؟ قلت: أراه يستولي على قلوب الرّجال. قال: فكم قلب الرّجل على ترك التّهتك من قلب المرأة؟ هذا إذا كانت بلغت من السّنّ مبلغاً ونقضت شهوتها فأمّا إذا كانت شابّةً ولها فضل جمالٍ، ومعها شدّة شهوةٍ، وكثرة لذّةٍ، وهي ذات حاجة، وخالية الذّرع من الفكرة في المعاش، وخالية القلب، وقد أمنت ضرب الزّوج وتطليقه، وغيرة الأخ، وقلّة صيانة الأب، وأصابت من يشجّعها على فعلها، ويفتح لها أبواب نظرتها، ويسعى لها في طلب الصّدّيق، ويحرّضها على التّهتّك، وقد قرب منها الصّوت، وخلت من الرّقيب، ولم يكن لها في الأرض أشرافٌ، ولا أهل عفافٍ، فما يمرق السّهم من الرّمية كمروق هذه إلى الباطل.
شيئان لا تؤمن عليهما المرأة
وكانت هند بنت المهلّب من عقلاء النّساء وكانت تقول: شيئان لا تؤمن عليهما المرأة: الرّجال، والطّيب.سوء الظّنّ من شدّة الحبّ
وأنشد إسحاق بن إبراهيم:
وإنّي بها في كلّ حالٍ لواثقٌ ... ولكنّ سوء الظنّ من شدّة الحبّ
لا تأمننّ النّساء
وأنشد آخر:
لا تأمننّ على النّساء ولو أخاً، ... ما في الرّجال على النّساء أمين
كلّ الرّجال وإن تعفّف جهده ... لا بدّ أنّ بنظرةً سيخون
ديك الجنّ وجاريته وغلامه
وقال عبد السّلام بن رغبان المشهور بديك الجنّ شعراً أديباً، ذا همّةٍ حسنةٍ. وكان له غلامٌ كالقمر، وجاريةٌ كالشّمس. وكان يهواهما جميعاً. فدخل ذات يومٍ بوجد الجارية معانقةً للغلام تقبّله، فشدّ عليهما فقتلهما جميعاً. ثمّ جلس عند رأس الجارية فبكاها طويلاً وقال:
يا طلعةً طلع الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الرّدى بيديها
حكّمت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خدّيها
رويت من دمها الثّرى ولطالما ... روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
فوحق نعليها، وما وطىء الحصى، ... شيءٌ أعزّ عليّ من عينيها
ما كان قتليها لأنّي لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن بخلت على الأنام بحسنها ... وأنفت من نظر العيون إليها
ثم ّجلس عند رأس الغلام يبكي:
أشفقت أن يرد الزّمان بغدره ... أو أبتلي بعد الزّمان بهجره
قمرٌ أنا استخرجته من دجنةٍ ... لمودّتي وجلوته في خدره
فقتلته وبه عليّ كرامةً ... فلي الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميّتاً كأحسن نائمٍ ... والطّرف يسفح دمعتي في نحره
لو كان يدري الميّت ماذا بعده ... بالحيّ منه بكى له في قبره
غصصٌ تكاد تفيض منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره
الرّازي وبدر التّمام
وأنشد الرّازي:
أما واهتزازك لو أستطيع ... لما لحظ النّاس بدر التّمام
ومن أين للبدر وجه ميّتٍ ... ويحيى إذا شاء بالابتسام
فهبه حكاك بحسن الضّيا ... فمن أين للبدر حسن القوام؟
أغار على حسنه إذ حكا ... ك وكان بذلك عند الأنام
غيرة أبي تمّام
وأنشد لأبي تمّام:
بنفسي من أغار عليه منّي ... وأحسد مقلةً نظرت إليه
ولو أنّي قدرت طمست عنه ... عيون النّاس من حذري عليه
وأنشد الآخر:
أغار عليك من قلبي ... ولو أعطيتني أملي
وأشفق أن أرى خدّي ... ك نصب مواقع القبل
غيرة جميل بن معمر
ويروى أنّ جميل بن معمر قال لبثينة: ما رأيت مصعب بن الزّبير يخطر بالبلاد إلاّ أخذتني عليك الغيرة.علي الجعفري وحرارة الهوى
وعن علي بن عبد الله الجعفري، وكان شاعراً وأديباً، قال: كنت أجلس بالمدينة وأنشد أشعاري، فحجّ أبو نواس فلمّا صار إلى المدينة وأنا ذات يومٍ أنشد، والنّاس مجتمعون علي، إذ دخل أبو نواس. فرأيته من بين النّاس ثمّ قال: يا هذا ألا تنشد بيتيك اللذين تكشّحت فيهما؟ فقلت: وما هما. قال: اللذان تقول فيهما:ولمّا بدا لي أنّها لا تحبّني ... وأنّ هواها ليس عنّي بمنجلي
تمنّيت أن تبلي بغيري لعلّها ... تذوق حرارات الهوى فترقّ لي
قلت: أفلا أنشدك بيتي اللذين أتغاير فيهما؟ قال: بلى. فأنشدته:
ربّما سرّني صدودك عنّي ... وطلابيك وامتناعك منّي
حذراً أن يكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التّمني
قال: فسألت عنه. فقيل لي أبو نواس.
لا تسألنّ رجلاً فيم يضرب امرأته؟
قال الأشعث بن قيس نزلت ببعض أصحاب النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فقام إلى امرأته فضربها، فحجزت بينهما. قال: فرجع إلى فراشه، وقال: يا أشعث، احفظ شيئاً سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " لا تسألنّ رجلاً فيم ضرب امرأته؟ " .
أبو الأصبع وبناته الأربع
قال ابن عائشة: كان أبو الأصبع العدوانيّ غيوراً، وكان له أربع بنات، فأبى أن يزوّجهنّ، فقالت واحدةٌ منهنّ: لتقل كلّ واحدةٍ منّا ما في نفسها. فقالت كبراهن:ألا ليت زوجي من أناسٍ ذوي غنىً ... حديث الشّباب طيّب النّشر والذّكر
لصوقٌ بأكباد النّساء كأنّه ... خليفة جارٍ لا يقيم على الهجر
قلن لها أنت تريدين شابّاً غنيّاً: وقالت الثّانية:
عظيم رماد القدر رحبٌ فناؤه ... له جفنةٌ يشقى بها النّيب والجزر
له خلقان: الشّيب من غير كبرةٍ ... تشين، ولا وانٍ ولا صرع غمر
فقلن لها أنت تريدين سيّداً.
وقالت الثّالثة:
ألا هل تراها مرّةً وخليلها ... يضمّ كبعل المشرفيّ المهنّد
عليه رواءٌ لليسار ورهطه ... إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي
فقلن لها أنت تريدين ابن عمٍّ لك قد عرفته.
وقلن للصّغرى: ما تقولين أنت؟ فقالت: لا أقول شيئاً. فقلن لها: لن ندعك لأنّك أطّلعت على أسرارنا وكتمت سرّك. فقالت: لا أدري ما أقول، إلاّ أنّه زوجٌ من عود، خيرٌ من قعود. قال: فخطبن، فزوّجهنّ جميعاً.
لا تكثروا الغيرة على أهلكم
وروي عن سليمان بن داود عليهما السّلام أنّه قال لابنه: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبةٍ، فترمى بالسّوء من أجلك وإن كانت بريئةً.مدّ يده فلمس أربعاً
وقال بعض الظّرفاء: كنت شديدة الغيرة، فأخبرت بمجيء قبيحةٍ سوداء فذهبت مع إخوان لي عندها ليلةً فطفىء السّراج، فضربت بيدي إلى صدرها فإذا دون يدي أربع أيدٍ، فما أعلم أنّي خطرٌ ببالي امرأةً بعد ذلك.
غيرة سليمان بن عبد الملك
قال: كان سليمان بن عبد الملك من أشدّ النّاس غيرةً. فحكي أبو زيدٍ الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وهو على دكانٍ مبلّطٍ بالرّخام الأحمر، مفروشٌ بالدّيباج الأصفر في وسط بستانٍ قد أينعت ثماره، ورنت أطياره، وأزهر نبت الرّبيع؛ وعلى رأسه وصائف كلّ واحدةٍ أحسن من صاحبتها، فقلت: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكان سليمان مطرقاً فرفع رأسه فقال: أبا زيد، في مثل هذا اليوم يصلب أحدٌ حيّاً. فقلت: يا سيّدي، يا أمير المؤمنين، أو قد قامت القيامة؟ قال: نعم على رأس أهل الهوى سرّاً.ثمّ أطرق رأسه، وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا؟ فقلت: قهوةٌ
حمراء، في زجاجةٍ بيضاء، تناولنيها مقدودةٌ هيفاء، مضمومةٌ لفاء دعجاء،
أشربها في كفّها، وأمس فمي بفمها: فأطرق سليمان مليّاً ودموعه تنحدر.
فلمّا رأى الوصائف ذلك تنحّين عنه فرفع رأسه وقال: يا أبا زيد، حللت والله
في يومٍ فيه انقضاء أجلك، وتصرم مدّتك، وفناء عمرك. والله لأضربنّ عنقك أو
تخبرني ما الذي أثار هذه الصّفة من قلبك؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كنت
جالساً على باب أخيك سعيد بن عبد الملك وإذا جاريةٌ قد خرجت إلى باب القصر
عليها قميصٌ اسكندراني، يبين منه بياض ثدييها، وتدوير سرّتها، ونقش تكتها؛
وفي رجليها نعلاها، قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها؛ ولها ذؤابةٌ
تضرب إلى حقويها وتسيّل كالعثاكيل على منكبيها؛ وطرّةٌ قد أسبلت على
جبينها؛ ولها صدغان كأنّهما نونان على وجنتيها، وحاجبان قد تقوّسا على
محجري عينيها، وعينان مملوءتان سحراً، وأنفٌ كأنّه قصبة درٍّ، وهي تقول:
عباد الله ما الدّواء لما لا يشتكي، والعلاج ممّا ينتمي؟ طال الحجاب،
وأبطأ الكتاب. العقل ذاهب، واللبّ عازب، والعين عبرى، والأرق دائم، والوجد
موجود، والنّفس والهة، والفؤاد مختلس. فرحم الله قوماً عاشوا تجلّداً،
وماتوا تبلّداً: لو كان في الصّبر حيلة، وإلى العزاء وسيلة، لكان أمراً
جميلاً! .
فقلت: أيّتها الجارية أنسيّةٌ أنت أم جنّيّة سماويّةٌ أو أرضيّة، فقد
أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك؟ فسترت وجهها بكمّها كأنها لم ترني،
وقالت: أعذر أيّها المتكلّم، فما أوحش الوجد بلا مساعد، والمقاساة لصب
معاند. ثمّ انصرفت، فوالله يا أمير المؤمنين ما أكلت طيّباً إلاّ غصصت به
لذكرها، ولا رأيت حسناً إلاّ سمج في عيني لحسنها. فقال سليمان: أبا زيد
كاد الجهل يستفزّني، والصّبا يعاودني، والحلم يغرب عنّي. تلك الذّلفاء
التي يقول فيها الشّاعر:
إنّما الذّلفاء ياقوته ... أخرجت من كيس دهقان
شراؤها على أخي ألف ألف درهمٍ، وهي عاشقةٌ لمولاها الذي باعها منه. والله
لا ملت إلاّ بحسرتها، ولا فارق الدّنيا إلاّ بغصّتها. وفي الصّبر سلوة،
وفي توقّع الموت نهية. قم أبز زيد فأكتم المفاوضة، ويا غلام ثقّل يده
ببدرةٍ. قال: فلمّا هلك سعيد بن عبد الملك صارت الجارية إلى أخيه سليمان
ولم يكن في عصرها أجمل منها، فملكت قلبه، وغلبت عليه دون سائر جواريه.
فخرجا يوماً إلى دهناء الغوطة بموقعٍ يقال له دير الرّهبان فضرب فسطاطه في
روضةٍ خضراء مونقة، زهراء ذات حدائق وبهجة، حفّها أنواعٌ الزّهر الغضّ.
فمن بين أصفر فاقع، وأبيض ساطع، مثل النّبات تحمل منه الرّيح نسيم المسك
الأذفر، ويؤدي تضوّع عرفها فتيت العنبر.
وكان له مغنٍّ يأنس به، ويكثر الخلو معه، ويستمع حديثه، يقال له يسار.
وكان أحسن النّاس وجهاً، وأظرفهم ظرفاً. فأمر بضرب فسطاطةٍ بالقرب منه
وكانت الذّلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه. فلم يزل يسار يومه ذلك
عند سليمان في أكمل سرورٍ، وأتمّ حبورٍ، إلى أن أتى الليل وحان انصراف
يسارٍ إلى موضعه فوجد جماعةً قد أناخوا به، فسلّموا عليه، فردّ عليهم
السّلام جذلان بنزولهم، وفرحٍ بدخولهم. فأحضر الطّعام فأكلوا، وقدم
الشّراب فنالوا منه. ثمّ قال: هل من حاجةٍ؟ قالوا: ما جئناك إلاّ للقرى.
فقال: بالجانب الخصب نزلتم، وبالمنزل الرّحب حللتم. فقالوا له: أمّا
الطّعام فقد أكلنا، وأمّا الشّراب فقد حضر، وبقي السّماع.
قال: أمّا السّماع فلا سبيل إليه مع غيرة أمير المؤمنين ونهيه إيّاي عن
الغناء إلاّ ما كان في مجلسه. قالوا: فلا حاجة لنا في الطّعام عندك ما لم
تسمعنا. فلمّا رآهم غير موقلين عنه رفع عقيرته وغنّى بهذه الأبيات:
محجوبةٌ سمعت صوتي فأرقها ... في آخر الليل حتّى ملّها السّهر
لم يحجب الصّوت أجراسٌ ولا غلقٌ ... فدمعها لطوق الصّوت ينحدر
في ليلة البدر لا يدري مضاجعها، ... أوجهها عنده أضوا، أم القمر
لو خلّيت لمشت نحوي على قدم ... يكاد من لينه للمشي ينفطر
قال فلمّا سمعت الذّلفاء صوت يسارٍ خرجت إلى صحن الفسطاط تسمع
الصّوت، فجعلت لا تسمع شيئاً من خلقٍ، ولطافة قطٍّ، إلاّ الذي وافق
المعنى. ومن نعت الليل واستماع الصّوت إلاّ رأت ذلك كلّه في نفسها، فحرّك
ذلك ساكناً كان في قلبها فهملت عيناها، وعلا نشيجها. فانتبه سليمان فلم
يجدها معه في الفسطاط فخرج إلى صحنه فرآها على تلك الحال، فقال لها: ما
هذا يا ذلفاء؟ فقالت: يا أمير المؤمنين:
ألا ربّ صوتٍ رائعٍ من مشوّهٍ ... قبيح المحيّا واضع الأب والجد
يروّعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمةٍ يعزى معاً وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر. يا غلام،
عليّ يسار. فدعت الذّلفاء خادماً لها وقالت: إن سبقت إلى يسارٍ فحذّرته
فلك عشرة آلاف درهمٍ وأنت حرٌ. فسبق رسول سليمان فأحضره فلمّا وقف بين
يديه؟ وسليمان يرعد غيرةً، قال: من أنت؟ فقال: يسار. فقال سليمان:
تثكل في الثّكل يساراً أمّه ... كان لها ريحانةً تشمّه
وخاله يثكله وعمّه ... ذو شفة حياته تغمّه
فقال يسار:
واستبقني إلى الصّباح أعتذر ... إنّ لساني بالشّراب منكسر
فإن أكن أذنبت ذنباً أو عثر ... فالسيّد المولى أحقّ من غفر
ثمّ قال: يا يسار ألم أنهك عن مثل هذا الفعل؟ فقال: يا أمير المؤمنين
حملني الثّمل وقومٌ طرقوني، وأنا عبد أمير المؤمنين. فإن رأى أن لا يضيع
حظّه منّي فليفعل. قال: أما حظّ منك فلم أضيّعه، ولكن لا تركت للنّساء فيك
حظّاً أبداً يا يسار. أما علمت أنّ الرّجل إذا تغنّى أصغت إليه المرأة؟
وأنّ الفرس إذا صهل تودّقت له الحصان؛ وأنّ الفحل إذا هدر صغت له النّاقة.
يا غلام إئتني بختّان. فختنه، فعاش بعد ذلك سنةً ومات. فسمّي الدّير دير
الخصيان وبه يعرف إلى الآن.
وكتب إلى عثمان بن حيّان المرّي عامله على المدينة: أن أحص من قبلك من
المغنّين. فخصي الدّلّال فقال: الآن صرنا نساءً حقّاً.
وادّعى بعض بني مروان أنّ عمل المدينة صحّف. وإنّما رأى في الكتاب أخص من
قبلك، فقال الكاتب الذي قرأ الكتاب: كيف يقولون ذلك ولقد كانت الخاء
مبعجةً بنقطةٍ كأنّها سهيل؟.
غيرة عقيل بن علقمة
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي قيل لعقيل بن علقمة وكان شديد الغيرة، وأراد سفراً: أين غيرتك على من تخلّف؟ قال: أخلّف معهنّ الجوع والعري، فإنّهنّ إذا جعن لم يمزحن، وإذا عرين لمم يبرحن.غيرة سعد بن عبادة
وعن المغيرة بن شعبة أنّ سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربت رأسه بالسّيف. فبلغ ذلك النّبي، صلّى الله عليه وسلّم، فقال: " لا تعجبوا من غيرة سعدٍ، فوالله إنّي لأغير من سعدٍ، والله أغير منّي، من أجل ذلك حرّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن " . فقال: " يا أبا ثابت أكنت ضاربه بالسّيف؟ " قال: نعم، والذي نزّل عليك الكتاب. فقال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: " كفى بالسّيف شا. " ولم يتمّها. أراد شاهداً لئلّا يبالغ فيه الغيران أو السّكران.قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: كان امرؤ القيس بن حجر مئناثاً لا يولد له ذكر، وكان غيوراً شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنتاً قتلها. فلمّا رأى نساؤه ذلك غيّبن بناتهنّ في أحياء العرب. وبلغه ذلك فركب راحلته وخرج مرتاداً لهنّ حتّى أناخ على حيٍّ من أحياء العرب، وإذا جوار مجتمعاتٍ، فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا البيت ولها راحلتي؟ فسكتن عنه، وقالت ابنته: هات. فأنشأ يقول:
تبلت فؤادك إذ عرضت عشيةً ... بيضاء بهنكة عليها لؤلؤ
قال: فسكتت ساعة، ثمّ قالت:
لعقيلة الأدحي بات يحفّها ... كنقا الظّليم وزال عنها الجؤجؤ
فضربها بالسّيف فقتلها. وسار حتّى نزل بحيٍّ آخر، فإذا بجوارٍ يلعبن فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا البيت ولها راحلتي؟ فسكتن عنه، وقالت ابنته: هات. فقال:
إذا بركت تعالى مرفقاها ... على مثل الحصير من الرّخام
فسكتت ساعةً، ثمّ قالت:
وقاموا بالعصي ليضربوها ... فهبت كالفنيق من النّعام
قال: فقتلها، ثمّ سار حتّى نزل بحيٍّ آخر، فإذا بجوارٍ يلعبن.
فقال: أيّتكنّ تجيز لي هذا البيت ولها راحلتي؟ فسكتن عنه. وقالت ابنته:
هات. فقال:
وكأنّهنّ نعاج رملٍ هائلٍ ... بدفٍّ يمدن كما يميد الشّارب
فسكتت ساعةً، ثمّ قالت:
بل هي أقرب في الخطا من خطوها ... إنّ الخرائد مشيها متقارب
قال: فنزل إليها فقتلها وسار.
أهدر دمه ولم يتمتّع بها
نزل أعرابيٌّ من طيء، يقال له المثنّى بن معروف، بأبي جبر الفزاري فسمعه
يوماً يقول: لوددت أنّي بتّ الليلة خالياً ببنت عبد الملك بن مروان. فقال
المثنّى: أحلالاً أم حراماً؟ فقال: ما أبالي. قال: فوثب إليه فضرب رأسه
برحالةٍ فشجّه، ثمّ ارتحل وهو يقول:
أبلغ أمير المؤمنين رسالةً ... على النّأي إنّي قد وترت أبا جبر
نشرت على اليافوخ منه رحالةً ... لنصري أمير المؤمنين ولا يدري
وما كان شيءٌ غير أنّي سمعته ... ينادي نساء المؤمنين بلا مهر
قال، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فأهدر دم أبي جبرٍ وبعث
إلى المثنّى بصلة جزيلة.
هند وزوجها روح
وعن عبد الملك بن عمير قال: كانت هند بنت النّعمان بن بشير الأنصاري عند روح بن زنباع، وكانت امرأةً فصيحةً أديبةً، برزةً؛ وكان رجلاً غيوراً، فرآها ذات يومٍ مشرفةً على وفدٍ من جذام. فجعل يضربها، ويقول. أتشرفين وتنظرين إلى الرّجال؟ قالت: ويحك، وهل أرى إلاّ جذاميّاً، والله ما أحبّ منهم الحلال فكيف الحرام؟ فقال روح في ذلك:أثني عليك بأن باعك ضيّقٌ ... وأنّ أصلك في جذامٍ ملتصق
وفيه تقول هند؟
وهل أنا إلاّ مهرةً عربيّةً ... سلسلة أفراسٍ تحللها بغل
فإن نتجت حرّاً كريماً فبالحرّا ... وإن يك أقرافٌ فما أنجب الفحل
فقال لها روح: اللهمّ إن متّ قبلها فابتلها بزوجٍ يلطم وجهها، ويقيء في حجرها. ومات روح بن زنباع وتزوّجها بعده محمّد بن الحكم بن أبي عقيلٍ الثّقفي، وكان شابّاً جميلاً، شرّاباً للخمر؛ فأحبّته حبّاً شديداً، فكان يلطم وجهها ويقيء في حجرها. فقالت: رحم الله أبا زرعة، فقد استجيبت دعوته. وأنشدت للخذيمي: ما أحسن الغيرة في حينها إلى آخر الأبيات المتقدّمة.
والشنفرى يدلي بدلوه
وقال الشنفرى:إذا ما جئت ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلّقيني
فأنت البعل يومئذٍ فقومي ... بسوطك لا أباً لك فاضربيني
الغيرة المفرطة
نزل عاصم بن عمر الخطّاب، رضي الله عنه، خيّمته بقديد. بفناء بيتٍ من بيوت قديد، وهو يريد مكّة معتمراً، فحطّ رحله، وكان رجلاً جسيماً من أعظم النّاس بدناً، وأحسنهم وجهاً. فأرسلت إليه ربّة البيت: يا هذا إنّ لي زوجاً غيوراً يمرّ الإنسان بجانب بيتي فيضربني، وإن رآك في هذا المنزل لقيت منه شرّاً، فأنشدك الله ألا تحوّلت عنّي! فأرسل إليها: إنّي قد نزلت وأنا مرتحلٌ عن قليل وليس عليك من زوجك بي بأس، والتّحويل يشقّ علي. قال فردّت إليه الرّسول حتّى تحوّل عنها. ومرّت به عجوزٌ خارجةٌ من عندها فدعاها وسألها عن المرأة، فقالت: هي خرديّة بن أكتم، وتزوّجها ربيع بن أصرم، ولها بنيٌّ صغيرٌ سمّته باسم أبيها. ثمّ ذهبت العجوز. وقال عاصم بن عمر أبيات شعرٍ. ثمّ دخل زوجها واستقرّ في منزله، فلمّا فرغ من شعره سمعه وهو يضربها فصبر حتّى علم أنّه شفى غيظه ثمّ إنّه أتاه، فصاح به، فخرج، فقال له: بأبي أنت، ما عرضك لي؟ فأخبره خبره وخبرها، فقال: بأبي أنت، لو كنت معي في منزلي ما كان عليّ منك بأس.أبت أعراقه إلاّ احمراراً
قال كان عقيل بن علقمة من الغيرة والأنفة على ما ليس عليه أحد علمناه، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، فقال: أمّا إذا كنت فاعلاً فجنّبني هجناك. وخطب عقيل وقال:
رددت صحيفة القرشيّ لمّا ... أبت أعراقه إلاّ احمراراً
لقمان الحكيم الغيور
علي بن سليمان الأخفش قال: قال ابن الكلبي: كان لقمان بن عاد
حكيم العرب غيوراً، فبنى لامرأته صرحاً وجعلها فيه، فنظر إليها رجلٌ من
الحي فعلقها، فأتى قومه فأخبرهم وجده بها، وسألهم الحيلة في أمره. فأمهلوه
حتّى أراد لقمان الغزو، فعمدوا إلى صاحبهم وشدّوه في حزمة سيوفٍ وأتوا إلى
لقمان فاستودعوها إيّاه، فوضع السّلاح في بيته، فلمّا مضى تحرّك الرّجل في
السّيوف، فقانت إليه المرأة تنظر فإذا هي برجلٍ، فشكا إليها حبّه إيّاها،
فأمكنته من نفسها، فلم يزل معها مقيماً حتّى قدم لقمان فردّته في السّيوف
كما كان، وجاء قومه فاحتملوه. وإنّ لقمان نظر يوماً إلى نخامةٍ في السّقف
فقال: من تنخّم هذه؟ فقالت: أنا. قال: فتنخّمي. فقصرت فقال: يا ويلتاه
والسّيوف دهتني. فقتلها ثمّ نزل فقلي ابنته صخر قاعدةً فأخذ حجراً فهشّم
رأسها فماتت. وقال: أنت أيضاً امرأة. فضربت العرب بذلك المثل. فكان يقول
المظلوم منهم ما أذنبت إلاّ ذنب صخر.
؟؟؟؟؟؟عمر والنّعمان بن نضلة
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ولّى عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، النّعمان بن نضلة
العوي بميسان، وأراد رحيل امرأته معه، فأبت ذلك وكرهته. فلمّا وصل إلى
ميسان أراد أن يغيرها فترحل إليه، فكتب إليها:
ألا هل أتى الخنساء أنّ خليلها ... بميسان يسقى في زجاجٍ وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ ... وصاحبه يجثو على خدٍّ مبسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلّم
لعلّ أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا في الجوسق المتهدّم
فبلغت الأبيات عمر بن الخطّاب، فقال: أي والله، وأبي وأبيك، يسوؤني. يا
غلام ، اكتب بعزله. فلمّا قدم على عمر بكّته بهذا، فقال: يا أمير المؤمنين
ما شربها قط، ولا قلت الأبيات إلاّ بسبب كذا. فقال عمر: أظنّ ذلك ولكن لا
تعمل لي عملاً أبداً.
ذاق طعم الغيرة ضرب البعث على رجلٍ من أهل الكوفة فخرج إلى أذربيجان
فاشترى فرساً وجاريةً وكان مملكاً بابنة عمّه فكتب ليغريها:
ألا بلغ أمّ المؤمنين بأنّنا ... غنينا وأغنينا الغطارفة الجّرد
بعيد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء كالتّمثال زيّنها العقد
فهذا لأيّام الغدو وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجّند
فلمّا ورد كتابه، دعت بالدّواة وكتبت إليه:
إذا شئت غناني غلامٌ مرجلٌ ... ونازعته في ماء معتصر الورد
وإن شاء منهم ناشىءٌ مدّ كفّه ... إلى كبدٍ ملساء أو كفلٍ نهد
فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... شهوداً فتقضوها على النّأي والبعد
فعجّل علينا بالسّراح فإنّه ... مناناً ولا ندعو لك الله بالرّدّ
ولا قفل الجند الذي أنت فيهم ... وزادك ربّ النّاس بعداً على بعد
فلمّا ورد كتابها لم يزد على أن ركب الفرس وأردف الجّارية ولحق بها، فكان
أوّل شيءٍ بدأها به أن قال لها: بالله أكنت فاعلةً ما قلت؟ فقالت: الله في
قلبي أعظم وأجلّ، وأنت في عيني أحقر وأذلّ من أن أعصي الله فيك. ثمّ قالت
له: كيق ذقت طعم الغيرة؟ فوهب لها الجّارية، ورجع إلى مكانه.
أثر الغيرة عند روح بن زنباع
قالت هند بنت النّعمان بن بشيرٍ لزوجها روح بن زنباع، وكان شديد الغيرة: عجباً منك كيف يسوّدك قومك وفيك ثلاث خصالٍ أنت من جذام وأنت جبان، وأنت غيور؟ فقال لها: أمّا في جذام فإنّي في أرومتها؛ وأمّا الجبن فإنّما لي نفسٌ واحدةٌ فأنا أحفظها، ولو كانت لي نفسٌ أخرى لجدت بها؛ وأمّا الغيرة فحقيقٌ لمن كانت له امرأةٌ حمقاء مثلك أن يغار عليها مخافة أن تجيئه بولدٍ من غيره فتقذف به في حجره.عبد الله بن سيرة الشّديد الغيرة
حكى دعبل بن عليٍّ قال: عبث عطّارٌ اسمه فيروز بامرأةٍ من الشّام
تسومه عطراً فعلقت بقلبه، فقعد لها على طريقها، فلمّا أضجرها قالت: والله
لو أنّ عبد الله بن سيرة بقربي ما طمعت في هذا منّي. فبلغت عبد الله بن
سيرة هذه الكلمة وهو في البعث بأرمينية، فترك مركزه وأقبل لا يلوي على
أحدٍ، حتىّ وقف ببابها ليلاً، وكان يوصف بشدّة الغيرة، فاستأذن عليها،
فأذنت له، فقال لها: أيّتها المرأة من هذا الذي عبث بك حتّى تمنّيت أنّي
بقربك؟ قالت: رجلٌ عطّار. قال لها: فما ابتنى؟ قالت: لا. قال لها: فعديه
الليلة القابلة وإنّي أسبقه إلى بيتك.
فبعثت إليه تقول له: إذ أبيت إلاّ ما تريد، فهلمّ إلى بيتي الليلة عندي.
فأقبل إليها وقد سبقه ابن سيرة، فلمّا دخل وثب عليه وضربه ضربةً رمى
برأسه، ثمّ قتل خادمها، وقال لها: إنّما قتلته لئلّا يطلع على الخبر أحدٌ
من النّاس. ثمّ ناولها مائة دينارٍ، وقال لها: اشتري بها خادماً وانفقي
باقيها على نفسك. ثمّ قال: هلمّي فأساً فقلع رأس البالوعة ثمّ جرّهما
فألقاهما فيها، ثمّ سوّى رأس البالوعة، وقال للمرأة: أظهري أنّ الخادم قد
أبق. ثمّ خرج، ولم يعلم به أحد، ولم يأت منزله حتّى قدم أرمينيّة وقال في
ذلك:
إنّ المنايا لغيرانٍ لمعرضةٌ ... يغتاله النّحر أو يغتاله الأسد
أو عقربٌ أو شجى في الحلق معترضٌ ... أو حيّةٌ في أعالي منتهى الزبد
حما زوجة ابن الدّمينة
وكانت لابن الدّمينة امرأةٌ يقال لها حما، وكان مزاحم بن عمر السّلولي
يأتيها ويتحدّث إليها، فمنعها ابن الدّمينة من ذلك فاشتدّ ذلك عليه، فقال
مزاحم عند ذلك يذكرها:
يا ابن الدّمينة والأخبار تحملها ... وخد النّجائب تبديها وتنميها
أمارةٌ، كيّةٌ ما بين عانتها ... وبين سرّتها لا شكّ كاويها
فلمّا بلغ ابن الدّمينة ذلك عرف العلامة التي في زوجته وعلم أنّه لم ير
ذلك منها إلاّ وقد أفضى إليها. فأتى امرأته فقال: قد بلغني غشيان مزاحم
لك، وقد قال فيك ما قال. فأنكرت ذلك، وقالت: والله ما أرى ذلك الموضع قط.
قال: فما أعلمه بعلامتك التي وصفها؟ قالت: النّساء رأين ذلك إذ كنت
جارتهنّ، فتحدّثن بذلك، فسمعه مزاحم. وتغافل ابن الدّمينة عن مزاحم حتّى
ظنّ أنّه ذهب من قلبه، ثمّ قال لامرأته: لئن لم ترسلي إليه الليلة يأتيك
في موضع كذا لأقتلنّك. فأرسلت إليه: إنّك قد سمّعت بي ولا أحبّ أن تأتيني
وأنا سآتيك في موضع كذا. فقعد في الموضع ابن الدّمينة وأصحابه، وجاء مزاحم
وهو يظنّ أنّها في الموضع الذي وعدته به، فخرجوا إليه وأوثقوه وصرّوا
صرّةً من رملٍ في ثوبٍ وضربوا بها كبده حتّى مات، واحتملوه حتّى أتوا به
ناحية دور قومه فطرحوه بها. وجاء أهله فأخذوه ولم يجدوا به أثر سلاح،
فعلموا أنّ ابن الدّمينة قتله. ورجع ابن الدّمينة إلى امرأته فقتلها وقتل
ابنه له منها، وطلبه السّلوليّون فلم يجدوه:
ليلى وحارثة بن عوف
وحكى الثّوريّ: أنّ رجلاً من بني عقيل تعلّق جاريةً وأبى أهلها أن يزوّجوه إيّاها، وكانت من أجمل النّساء، وكان اسمها ليلى، فسمع بها رجلٌ موسرٌ من ثقيف يقال له حارثة بن عوف، فقدم على أهلها فأرغبهم، فزوّجوه وظعن بها. فقال العقيلي الذي كان تعلّقها:ألا إنّ ليلى العامريّة أصبحت ... تقطع إلاّ من ثقيفٍ وصالها
كأنّ مع الرّكب الذين تحمّلوا ... غمامة صيفٍ زعزعتها شمالها
ثمّ اشتدّ شوقه وزاد ولعه، فخرج في أثرها حتّى قدم الطّائف، فانتسب أنّه أخٌ لها وصدّقت هي فأدخله زوجها، وذبح له ونحر، وكان صاحب خمرٍ. فجلس هو والثّقفي يشربان وهي تسقيهما فلمّا أخذت الخمر في العقيلي باح بسرّه، فلمّا سمعه الثّقفي همّ به ثمّ غلبه السّكر فخرج العقيلي تحت الليل وتبعه الثّقفي بأكلب له عقرٌ فأدركه وقد شارف بلاد بني كليب، وقد غلبه العطش فمات. فخلى أكلبه على جيفته فأكلته. فسمعت بذلك الكلابيّون فرحلوا في أثر الثّقفي فأدركوه فقتلوه وخلوا عليه أكلبه فأكلته. وسمع العقيليّون بخبر الرّجلين فركبوا إلى المرأة فطرقوها في منزله فقتلوها، ورحلوا. فوثبت عليها أكلب زوجها فأكلتها. فقال جار الثّقفي:
لعمري لقد ساق العقيلي حتفه ... وما خبر ليلى كان عنها بأبعد
وخبر الفتى القيسيّ قد سيق نحوه ... وأمسى مقيماً بين أضلاع أزبد
أقاموا جميعاً رهن أجواف أكلبٍ ... كذلك أمر الله في اليوم والغد
الغيرة من الإيمان
ويروى عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " الغيرة من الإيمان، وأيما رجلٍ أحسّ بشيءٍ من الفجور في أهله فلم يغيره، إلاّ بعث الله إليه ملكاً يقول له غر أربعين يوماً، فإن لم يفعل مسح بجانحه على عينيه، فإن رأى حسناً لم يدره، وإن رأى قبيحاً لم ينكره " .الجّهاد على الرّجال والغيرة على النّساء
وعنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: كتب الجّهاد على رجال أمّتي، والغيرة على نسائها، فمن صبرت منهنّ واحتسبت أعطاها الله أجر الشّهيد.
رأيٌ لعلي في المرأة
وعن علي عليه السّلام أنّه قال: من أطاع امرأته في أربع أكبّه الله في النّار على وجهه. أن يعطيها في أن تذهب إلى العرسات وإلى المعلّمات وإلى الحمّامات وإلى الجنائز.
الأحوص وأم جعفر
وقال الأحوص يتشبّب بأم ّجعفر الحطميّة:أدور، فلولا أن أمّ جعفر ... بأبياتكم، ما درت حيث أدور
وما كنت دوّاراً ولكن ذا الهوى، ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
لقد منعت معروفها أمّ جعفر، ... وإنّي إلى معروفها لفقير
فاستعدى أيمن، أخوها، عليه عامل المدينة وكان أيمن جسيماً ضخماً وكان الأحوص نحيفاً، فدفع إلى كلّ واحدٍ منهنّ سوطاً وقال لخالد: أضرب الأحوص. فقال بعض الشّعراء:
لقد منع المعروف من أمّ جعفرٍ ... أخو ثقةٍ عند الحفاظ صبور
علاك بمتن السّوط حتّى لقيته ... بأصغر من ماء الصّفاق يفور
قال الأحوص بعد ذلك:
إذا أنا لم أغفر لأيمن ذنبه ... فمن ذا الذي يعفو له ذنبه بعدي
يسيء فأعفو ذنبه، فتردّني ... أيادٍ يدانيها مباركةً عندي
من الغيرة إلى البوادي
تزوّج عبد الله بن يزيد الحنفي امرأةً حسناء، وكان رجلاً ثقيلاً جسيماً ظريفاً، فأحبّها حبّاً شديداً، وكان من أشدّ النّاس غيرةً. فدعاه حبّه لها، وشدّة غيرتها عليها، أن خرج بها إلى بعض البوادي فابتنى لها قصراً وسكن به وأقام معها مدّةً.لم يكن شأنه العفاف ولكن. . .
وخرج عمر بن سعيد العبدي يريد سفراً له، فأخذته السّماء في بعض الطّريق فنظر، فإذا هو بقصرٍ عظيمٍ، فعدل إليه، وقرع بابه، فخرج إليه عبد الله بن يزيد فعرفه، فسلّم عليه وأنزله، وهيّأ له طعاماً ثمّ دعا بشرابٍ من خمرٍ عتيقٍ. فبينما هما يشربان إذ تطلّعت المرأة فرأت ابن سعيدٍ وكان غلاماً شابّاً، وسكر زوجها سكراً شديداً فخرجت المرأة إلى عمر بن سعيد فحدّثته وآنسته ودعته إلى نفسها فأبى، وقال: ما كنت بالذي أفعل برجلٍ أتاني منزله. ولم يزل يدافعها حتّى أفاق عبد الله بن يزيد من سكره، فأنشأ عمر يقول:ربّ بيضاء خصرها يتثنّى ... قد دعتني لوصلها فأبيت
لم يكن شأني العفاف ولكن ... كنت ندمان زوجها فاستحيت
فعلم عبد الله بن يزيد ما أراد، فلمّا انصرف عمر بن سعيد عمد عبد الله إلى المرأة فجعل في عنقها حبلاً وعلّقها به إلى السّقف، فاضطربت حتّى ماتت. وعلم أنّ النّساء لا حفظ لهنّ، وآلى على نفسه أنّه لا يتزوّج امرأةً أبداً. وترك قصره وعاد إلى منزله.
إذا نام الحارس أفاقت العقرب
وقال الفضيل بن الهاشمي: كنت مع ابنة عمّي نائماً على سريرٍ إذ ظهرت إليّ بعض جواري، فنزلت، فقضيت حاجتي، ثمّ انصرفت. فبينما أنا أراجع، إذ لدغتني عقربٌ فصبرت حتّى عدت إلى موضعي من السّرير، فغلبني الوجع، فصحت، فقالت لي ابنة عمّي: ما لك؟ قلت لها: لدغتني عقربٌ. قالت: وعلى السّرير عقربٌ؟ قلت: نزلت لأبوّل فأصابتني، ففطنت، فلمّا أصبحت جمعت خدمها واستحلفتهنّ أن لا يقتلن عقرباً في دارها إلى سنةٍ. ثمّ قالت:إذا عصي الله في دارنا ... فإنّ عقاربنا تغضب
ودارٍ إذا نام حرّاسها ... أقام الحدود بها العقرب
الذّئاب تعدو على من لا كلاب له
قالوا وبينا ابن أبي ربيعة في الطّواف، إذ رأى جاريةً من أهل
البصرة، فأعجبته، فدنا منها، فكلّمها، فلم تلتفت إليه. فلمّا كان في
الليلة الثّانية عاودها، فقالت له: إليك عنّي أيّها الرّجل فإنّك في موضعٍ
عظيم الحرمة! وألحّ عليها وشغلها عن الطّواف، فأتت زوجها، فقالت له: تعال
معي فأرني المناسك. فأقبلت وهو معها وعمر جالسٌ على طريقها فلمّا رأى
الرّجل معها عدل عنها فقالت:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي مربض المستأسد الحامي
فحدّث المنصور هذا الحديث، فقال: وددت أنّه لم تبق فتاةٌ من قريش في خدرها
إلاّ سمعت الحديث.
لا يراعي لابن عمّه محرماً
وكان عمارة بن الوليد بن المغيرة بن الوليد سيف الله من فتيان قريشٍ
جمالاً وشعراً، وهو الذي جاءت به قريش إلى أبي طالب قالوا: هذا عمارة، قد
عرفت حاله، فخذه بدل ابن أخيك محمّداً نقلته. فقال لهم أبو طالب: ما
أنصفتموني تعطوني ابن أخيكم أحفظه وأعطيكم ابن أخي تقتلوه؟ وبعثت قريش
عمارة بن الوليد، وعمرو بن العاص إلى النّجاشي في أمر من قدم إليه من
المهاجرين، فلمّا كانوا في السّفينة ومع عمرو امرأته أمّ عبد الله فقال
لها عمارة: قبّليني. فقال لها عمرو: قبّلي ابن عمّك. وقال عمرو في ذلك:
ليعلم عمّارٌ أنّ من شرّ شيمةٍ ... لمثلك أن يدعى ابن عمٍّ له ابن ما
أإن كنت ذا بردين أحوى مرجلاً ... ولست تراعي لابن عمّك محرّماً
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبّه ... ولم ينه قلباً عارياً حيث يمّما
قضى وطراً منه وغادر سبةً ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وقعد عمرو على منجاف السّفينة لقضاء الحاجة، فدفعه عمارة، فألقاه في
البحر، فما تخلّص حتّى كاد يموت. فلمّا صار إلى النّجاشي أظهر له عمرو
أنّه لم يحفل بما أصابه منه، فجاده عمارة يوماً فحدّثه أنّ زوجة الملك
النّجاشي علّقته وأدخلته إلى نفسها، فلمّا تبيّن لعمرو حال عمارة وشى به
عند الملك واخبره خبره، فقال له النّجاشي: أئتني بعلامةٍ أستدلّ بها على
ما قلت؟ فعاد عمارة، فأخبره عمرو بأمره وأمر زوجة النّجاشي فقال له عمرو:
لا أقبل هذا منك إلاّ أن تعطيك من دهن الملك الذي لا يدّهّن به غيره.
فكلّمها عمارة في الدّهن، فقالت له: أخاف من الملك. فأبى أن يرضى منها
إلاّ أن تعطيه من ذلك الدّهن، فأعطته منه، فأعطاه إلى عمرو، فجاء إلى
الملك، فأمر السّواحر فنفخن في إحليله، فذهب مع الوحش، فلم يزل متوحّشاً
حتّى خرج إليه عبد الله بن أبي ربيعة في جماعةٍ من أصحابه، فجعل له على
الماء شركاً، فأخذه، فجعل يصيح به: أرسلني فإنّي أموت إن أمسكتني. فأمسكه،
فمات في يده.
عائشة تغار على خديجة
عروة بن الزّبير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما غرت على امرأةٍ لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ما غرت على خديجة. ولقد هلكت قبل أن يتزوّجني بثلاث سنينٍ، لما أسمع من كثرة ذكره إيّاها. وكان يذبح الشّاة فيفرّقها على صدائق خديجة. قال ودخل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، على خديجة وهي في مرضها الذي توفّيت فيه فقال لها: " بالكره منّي يا خديجة ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً. أما علمت أنّ الله زوّجني معك في الجنّة مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون؟ " قالت: وقد فعل الله ذلك برسوله؟ قال: " نعم " . قالت: فبالرّفاء والبنين.باب ما جاء في وفاء النّساء
تعاهدا ألا يتزوّجا
حكى الأصمعي، عن رجلٍ من بني ضبّة قال: ضلّت لي إبلٌ فخرجت في طلبها حتّى أتيت بلاد بني سليم، فلمّا كنت في بعض تخومها، إذا جاريةٌ غشى بصري إشراق وجهها، فقالت: ما بغيتك فإنّي أراك مهموماً؟ قلت: إبلٌ ضلّت لي، فأنا في طلبها. قالت: فتحب أن أرشدك إلى من هي عنده؟ قلت: نعم. قالت: الذي أعطاكهنّ هو الذي أخذهنّ فإن شاء ردّهنّ، فاسأله من طريق اليقين لا من طريق الإختيار. فأعجبني ما رأيت من جمالها وحسن منطقها، فقلت لها: هل لك من بعلٍ؟ قالت: كان والله فدعي فأجاب إلى ما منه خلق، ونعم البعل كان. قلت لها: فهل لك في بعلٍ لا تذمّ خلائقه، ولا تخشى بوائقه؟ فأطرقت ساعةً ثمّ رفعت رأسها وعيناها تذرفان دموعاً فأنشأت تقول:
كنّا كغصنين من بانٍ غذاؤهما ... ماء الجداول في روضات جنّات
فاجتثّ صاحبها من جنب صاحبه ... دهرٌ يكرّ بفرحاتٍ وترحات
وكان عاهدني إن خانني زمنٌ ... أن لا يضاجع أنثى بعد موتات
وكنت عاهدته أيضاً، فعاجله ... ريب المنون قريباً مذ سنينات
فاصرف عتابك عمّن ليس يصرفه ... عن الوفاء له خلب التّحيّات
قال: فانصرفت وتركتها.
على العهد باقية
ٌقال الأصمعي: قال لي الرّشيد: امض إلى بادية البصرة فخذ من تحف كلامهم وطرف حديثهم. فانحدرت، فنزلت على صديقٍ لي بالبصرة، ثمّ بكّرت أنا وهو على المقابر، فلمّا صرت إليها إذا بجاريةٍ نادى إلينا ريح عطرها قبل الدّنوّ منها، عليها ثيابٌ مصبغاتٌ وحلى، وهي تبكي أحرّ بكاء. فقلت: يا جارية ما شأنك؟ فأنشأت تقول:
فإن تسألاني فيم حزني؟ فإنّني ... رهينة هذا القبر يا فتيان.
أهابك إجلالاً، وإن كنت في الثّرى، ... مخافة يومٍ أن يسؤك مكاني
وإنّي لأستحييك، والتّرب بيننا، ... كما كنت أستحييك حين تراني.
فقلنا لهاك ما رأينا أكثر من التّفاوت بين زيّك وحزنك فأخبري بشأنك؟ فأنشأت تقول:
يا صحب القبر، يا من كان يؤنسني ... حيّاً، ويكثر في الدّنيا مواساتي،
أزور قبرك في حليٍّ وفي حللٍ، ... كأنّني لست من أهل المصيبات؛
فمن رآني، رأى عبرىً مفجعةً ... مشهورة الزّيّ تبكي بين أمواتي.
فقلنا لها وما الرّجل منك: قالت: بعلي، وكان يجب أن يراني في مثل هذا الزّيّ، فآليت على نفسي أن لا أغشى قبره إلاّّ في مثل هذا الزّيّ لأنّه كان يحبّه أيّام حياته، وأنكرتماه أنتما عليّ.
قال الأصمعي: فسألتها عن خبرها ومنزلها. وأتيت الرّشيد فحدّثته بما سمعت ورأيت، حتّى حدّثته حديث الجّارية. فقال: لا بدّ أن ترجع حتّى تخطبها إليّ من وليّها، وتحملها إليّ، ولا يكون من ذلك بد. ووجّه معي خادماً ومالاً كثيراً. فرجعت إلى قومها فأخبرتهم الخبر، فأجابوا وزوّجوها من أمير المؤمنين وحملوها معنا وهي لا تعلم. فلمّا صرنا إلى المدائن نما إليها الخبر، فشهقت شهقةً فماتت، فدفنّاها هنالك. وسرت إلى الرّشيد فأخبرته الخبر، فما ذكرها وقتاً من الأوقات إلاّّ بكى أسفاً عليها.
كان يحسبها راعيةً للعهد
توفّي رجلٌ وبقيت امرأته شابّةً جميلةً، فما زال بها النّساء حتّى تزوّجت. فلمّا كانت ليلة زفافها رأت في المنام زوجها الأوّل آخذاً بعارضتيّ الباب وقد فتح يديه وهو يقول:
حيّيت ساكن هذا البيت كلّهم ... إلاّّ الرّباب فإنّي لا أحييها
أمست عروساً وأمسى مسكني جدثٌ ... بين القبور وإنّي لا ألاقيها
واستبدلت بدلاً غيري، فقد علمت ... أنّ القبور تواري من ثوى فيها
قد كنت أحسبها للعهد راعيةً ... حتّى تموت وما جفّت مآقيها
ففزعت من نومها فزعاً شديداً، وأصبحت فاركاً وآلت أن لا يصل إليها رجلٌ بعده أبداً.
أذات عروسٍ ترى؟!
ولمّا قتل عثمان، رضي الله عنه، وقفت يوماً على قبره نائلة بنت الفرافصة الكلبي، فترحّمت عليه ثمّ انصرفت إلى منزلها، ثمّ قالت: إنّي رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثّوب، وقد خفت أن يبلى حزن عثمان في قلبي. فدعت بفهرٍ فهتفت فاها، وقالت: والله لا يقعد رجلٌ منّي مقعد عثمان أبداً. وخطها معاوية فبعثت إليه أسنانها، وقالت: أذات عروسٍ ترى؟ وقالوا: لم يكن في النّساء أحسن منها مضحكاً.
لا تنكحي أغمّ القفا
كان هدبة بن خشرم العذري قتل ابن عمرٍ يقال له زياد بن زيد فطلبه سعيد بن العاص، وهو يلي المدينة لمعاوية فحبسه، فقال في السّجن قصيدته التي يقول فيها:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب
وفي سجنه يقول أيضاً:
ولمّا دخلت السّجن يا أمّ مالك ... ذكرتك والأطراف في حلق سمر
وعند سعيد غير أنّي لم أبح ... بذكرك إلاّّ من يذكّر بالأمر
وسئل عن هذا، فقال: لمّا رأيت ثغر سعيدٍ شبّهت به ثغرها، وكان
سعيد حسن الثّغر. فحبس هدبة سبع سنينٍ ينتظر به احتلام المستورد بن زيادة،
فلمّا احتلم، أخرج صبح تلك الليلة إلى عامل المدينة فرغّبه في العفو، وعرض
عليه عشر ديّاتٍ، فأبى إلاّّ القود. وكان ممّن عرض الدّيّات عليه الحسن بن
علي، عليهما السّلام، وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم.
فلمّا أبى، بعث هؤلاء وغيرهم من إخوانه بالحنوط والأكفان فدخل عليه رسولهم
السّجن فوجدوه يلعب بالنّرد. فجلسوا ولم يقولوا له شيئاً، فلمّا لحظهم إذا
بطرف بردٍ خرج من بعض الأكفان فأمسك، ثمّ قال: كأنّه قد فرغ من أمرنا؟
فقالوا: أجل. فقام فاغتسل ثمّ رجع إليهم فأخذ من كلّ واحدٍ ثوباً وردّ ما
بقي. وأخرج ليقاد منه، فجعل ينشد الأشعار. فقالت له حيا المدينة: ما رأيت
أقسى قلباً منك، تنشد الأشعار، وقد دعي بك لتقتل، وهذه خلفك كأنّها غزالٌ
عطشانٌ تولول؟ يعني امرأته. فوقف، ووقف النّاس معه، فأقبل على حيا فقال:
وجدت بها ما لم تجد أمّ واجدٍ ... ولا وجد حبّي بابنٍ أم كلاب
وإنّي طويل السّاعدين شمرطلٌ ... على ما اشتهيت من قوّةٍ وشباب.
فأغلقت الباب في وجهه. وعرض له عبد الرّحمن بن حسّان فقال: أنشدني! فقال
له: على هذه الحال؟ قال: نعم. فابتدأ ينشده:
ولست بمفراحٍ إذا الدّهر سرّني ... ولا جازعٍ من صرفه المتقلّب
ولا أتمنّى الشّرّ، والشّرّ تاركي، ... ولكن متى ما أحمل الشّرّ أركب
قال:ونظر رجلٌ إلى امرأته فدخلته غيرةٌ، وقد كان زيادة جدع أنفع بسيفه:
فإن يك أنفي بأن عنّي جماله ... فما حسبي في الصّالحين بأجدعا
فلا تنكحي إنّ فرّق الدّهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
خنت يا فلانة عهدي
وعن أبي حمزة الكناني قال: كنت في حرس خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد: من يحدّثني بحديثٍ عسى يستريح إليه قلبي؟ فقلت: أنا. فقال: هات. فقلت: إنّه بلغني أنّه كان فتىً من بني عذرة، وكانت له امرأةٌ منهم، وكان شديد الحبّ لها، وكانت له مثل ذلك، فبينا هو ذات يومٍ ينظر وجهها إذ بكى، فنظرت إلى وجهه وبكت، فقالت له: ما الذي أبكاك؟ قال: والله، أتصدقيني إن صدقتك؟ قالت: نعم. قال لها: ذكرت حسنك وجمالك وشدّة حبّي، فقلت أموت فتتزوّج غيري. فقالت: والله والله، أنّ ذاك الذي أبكاك؟ قال: نعم. قالت: وأنا ذكرت حسنك وجمالك وشدّة حبّي لك فقلت أموت فيتزوّج امرأةً غيري. قال الرّجل: فإنّ النّساء حرامٌ عليّ بعدك. فلبثا ما شاء الله.ثمّ إنّ الرّجل توفّي فجزعت عليه جزعاً شديداً فخاف أهلها على عقلها أن يذهل، فأجمع رأيهم على أن يزوّجوها، وهي كارهةٌ، لعلّها تتسلّى عنه. فلمّا كان في الليلة التي تهدى فيها إلى بيت زوجها، وقد نام أهل البيت، والماشطة تهيّء من شعرها، إذ ناكت نومةً يسيرةً فرأت زوجها الأوّل داخلاً عليها من الباب وهو يقول: خنت يا فلانة عهدي، والله لا هنيت العيش بعدي فانتبهت مرعوبةً، وخرجت هاربةً على وجهها، وطلبها أخلها فلم يقعوا لها على خبر.
ماتا ودفنا معا
ًقال إسحق خرجت امرأةٌ من قريش من بني زهرة إلى المدينة تقضي حقّاً لبعض القرشيّين. وكانت ظريفةً جميلةً، فرآها من بني أميّة رجلٌ فأعجبته، وتأمّلها فأخذت بقلبه، وسأل عنها فقيل له: هذه حميدة بنت عمر بن عبد الله بن حمزة. ووصفت له بما زاد فيها كلفه، فخطبها إلى أهلها فزوّجوه إيّاها على كرهٍ منها، وأهديت إليه فرأت من كرمه وأدبه وحسن عشرته ما وجدت به، فلم تقم عنده إلاّّ قليلاً حتّى أخرج أهل المدينة بني أميّة إلى الشّام، فنزل بها أمرٌ ما ابتليت بمثله، فاشتدّ بكاؤها على زوجها وبكاؤه عليها، وخيّرت بين أن تجمع معه مفارقة الأهل والولد والأقارب والوطن أو تتخلّف عنه مع ما تجد به، فلم تجد أخفّ عندها من الخروج معه مختارةً له على الدّنيا وما فيها. فلمّا صارت بالشّام صارت تبكي ليلها ونهارها ولا تتهنّأ طعاماً ولا شراباً شوقاً إلى أهلها ووطنها، فخرجت يوماً بدمشق مع نسوةٍ تقضي حقّاً لبعض القرشيّين فمرّت بفتىً جالسٍ على باب منزله، وهو يتمثّل بهذه الأبيات:
ألا ليت شعري، هل تغيّر بعدنا ... صحون المصلّى، أم كعهدي
القرائن؟
وهل أدور حول البلاط عوامرٌ ... من الحيّ، أم هل بالمدينة ساكن؟
إذا لمعت نحو الحجاز سحابةٌ، ... دعا الشّوق منّي برقها المتيامن
وما أشخصتنا رغبة عن بلادنا، ... ولكنّه ما قدّر الله كائن.
فلمّا سمعت المرأة ذكر بلدها وعرفت المواضع، تنفّست نفساً صدّع فؤادها
فوقعت ميتةً. فحملت إلى أهلها وجاء زوجها، وقد عرف الخبر، فانكبّ عليها
فوقع عنها ميّتاً. فغسّلا جميعاً وكفًنا ودفنا في قبرٍ واحدٍ.
أرادها لحسن ثغرها فقط
وكانت خولة بنت منظور بن زياد الفزاري عند الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، وكانت أختها عند عبد الله بن الزّبير، وهي أحسن النّاس ثغراً، وأتمّهم جمالاً. فلمّا رأى ذلك عبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزّبير زوجها، ثمّ خطبها، فكرهت أن تتزوّجه وهو قاتل زوجها، فأخذت فهراً وكسّرت به أسنانها. وجاء رسول عبد الملك فخطبها، فأذنت له ليراها، فأدّى إليها رسالته ورأى ما بها، فقالت: ما لي عن أمير المؤمنين رغبة، ولكنّي كما ترى، فإن أحبّني فأنا بين يديه، فأتاه الرّسول فأعلمه بذلك، فقال: أنا، والله، إنّما أردتها على حسن ثغرها الذي بلغني، وأمّا الآن فلا حاجة لي فيها.لا حرّ بوادي عوفٍ
وممّن يضرب به المثل في الوفاء جماعة بنت عوف بن محلم الشّيباني وذلك أنّ عمرو بن عبد الملك طلب مروان القرط وهو مروان بن زنباع العبسيّ فخرج هارباً حتّى هجم على أبيات بني شيبان، فنظر إلى أعظمها بيتاً ببصره فإذا هو بيت جماعة بنت عوف فألقى نفسه بين يديها فاستجارها فأجارته. ولحقته خيل عمرو فبعثت إلى أبيها فعرّفته أنّها أجارته فمنعهم عوف عنه وأنصرف أصحاب عمرو. فأرسل عمرو إلى عوف قد آليت ألا أقطع طلبي إلاّّ أن يضع يده في يدي. فقال عوف: والله ما يكون ذلك أبداً لكنّ يدي بين يديك ويده. قال، فرضي عمرو بذلك. فوضع مروان يده في يد عوف ووضع عوف يده في يد عمرو. فقال عمرو: لا حرّ بوادي عوف. فذهبت مثلاً.
من أحاديث المحبّين
وحكى عصام المرّي، عن أبيه، قال: بعثنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في سريّةٍ قبل نجد، وقال: إن سمعتم مؤذّناً، أو رأيتم مسجداً فلا تقتلنّ أحداً. فبينا نحن نسير إذ لحقنا رجلٌ معه ظعائن يسوقها أمامه، فأخذناه، فقلنا له: أسلم. قال: وما الإسلام؟ فعزمنا عليه، قال: أرأيتم إن لم أسلم ما أنتم صانعون بي؟ قلنا: نقتلك. قال: فهل أنتم تاركي حتّى أوصي من في هذا الهودج بكلماتٍ. قلنا: نعم. فدنا من الهودج وفيه ظعينة فقال: أسلمي جبيش قبل انقطاع العيش. فقالت: أسلم عشراً أو تسعاً وتراً، أو ثانياً تترا. قال، ثمّ جاء فمدّ عنقه. قال: شأنكم اصنعوا ما أنتم صانعون. فضربنا عنقه ولقد رأيت تلك الظّعينة نزلت من هودجها وألقت نفسها عليه فما زالت تقبّله وتبكي حتّى هدأت فحرّكناها فإذا هي ميّتة.
خانته وبموتها وفت له
العتبيّ قال: كان خالد بن عبد الله القسريّ ذات ليلةٍ مع فقهاء من أهل الكوفة فقال بعضهم: حدّثونا حديثاّ لبعض العشّاق. قال أحدهم: أصلح الله الأمير، ذكر هشام بن عبد الملك غدر النّساء وسرعة رجوعهنّ. فقال له بعض جلسائه: أنا أحدّثك، يا أمير المؤمنين: بلغني عن امرأةٍ من يشكر يقال لها أمّ عقبة بنت عمرو بن الأعران، وإنّها كانت عند ابن عمٍّ لها يقال له غسّان، وكان شديد المحبّة لها، والوجد بها، وكانت له كذلك. فأقام بها على هذا الحال ما شاء الله، لا يزيد كلّ واحدٍ منهما بصاحبه إلاّّ اعتباطاً.فلمّا حضرت غسّان الوفاة قال لها: يا أمّ عقبة اسمعي ما أقول، وأجيبي عن نفسك بحقٍّ. فقالت له: والله لا أجبتك بكذبٍ، ولا أجعله آخر حظّك معي. فقال: إنّي رجوت أن تحفظي العهد، وأن تكوني لي إن متّ عند الرّجاء. أنا والله واثقٌ بك، غير إنّي بسوء الظّنّ أخاف غدر النّساء. ثمّ اعتقل لسانه فلم ينطق حتّى مات. فلم تمكث معه إلاّّ قليلاً حتّى خطبت من كلّ مكانٍ، ورغب فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل والجمال والمال والعفاف والحسب. فقالت مجيبةً له:
سأحفط غسّاناً، على بعد داره، ... وأرعاه حتّى نلتقي يوم نحشر.
وإنّي لفي شغلٍ عن النّاس كلّهم، ... فكفّوا، فما مثلي من النّاس
يغدر.
سأبكي عليه، ما حييت، بدمعةٍ ... تحول على الخدّين منّي فتكثر
فيئس النّاس منها حيناً. فلمّا طالت بها الأيّام نسيت عهده، وقالت: من قد
مات فقد فات. وأجابت بعض خطّابها فتزوّجها المقدام بن حابس، وقد كان بها
معجباً. فلمّا كانت الليلة التي أراد بها الدّخول، أتاها في منامها زوجها
الأوّل فقال لها:
غدرت، ولم ترعي لبعلك حرمةً، ... ولم تعرفي حقّاً، ولم ترعي لي عهدا
غدرت به لمّا ثوى في ضريحه، ... كذلك ينسى كلّ من سكن اللحدا
فانتبهت مرتاعةً مستحييةً منه كأنّه يراها أو تراه كأنّه في جانب البيت.
فأنكر حالها من حضرها، وقلن لها: ما لك؟ وما بالك؟ قالت: ما ترك لي غسّانٌ
في الحياة إرباً، أتاني السّاعة فأنشدني هذه الأبيات. ثمّ أنشدتها بدمعٍ
غزيرٍ، وانتحابٍ شديدٍ من قلبٍ جريحٍ موجعٍ. فلمّا سمعن ذلك منها أخذن بها
في حديثٍ آخر لتنسى ما هي فيه، فتغفّلتهنّ ثمّ قامت كأنّها تقضي حاجةً
فأبطأت عليهنّ. فقمن في طلبها، فوجدنها قد جعلت السّوط في حلقها وربطته
إلى عمود البيت وجبذت نفسها حتّى ماتت. فلمّا بلغ ذلك زوجها المقدام، حسن
عزاؤه عنها، وقال: هكذا فليكن النّساء في الوفاء، قلّ من يحفظ ميتاً،
إنّما هي قلائلٌ حتّى ينسى وعنه يتسلّى
لم يلتفت إليهن
ّاستعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل بن معمر، فهرب حتّى أتى رجلاً شريفاً من بني عذرة في أقصى بلادهم وله بناتٌ سبعٌ كأنّهنّ البدور جمالاً. فقال الشّيخ لبناته: تحلّين بأجود حليّكنّ، والبسن فاخر ثيابكنّ، ثمّ تعرضن لجميلٍ. فمن اختار منكنّ زوّجته إيّاها. ففعلن ذلك مراراً وجعلن يعارضنه: فلم يلتفت إليهنّ. وأنشأ يقول:
حلفت لكي تعلمن أنّي صادقٌ، وللصّدق في خير الأمور وأنجح
لتكليم يومٍ من بثينة واحد ... ورؤيتها عندي، ألذّ وأملح،
من الدّهر أن أخلو بكنّ فإنّما، ... أعالج قلباً طامحاً حيث يطمح
قال أبوهنّ: دعن هذا، فوالله لا أفلح أبداً.
نساء قريشٍ خير النّساء
كانت أمّ هاني بنت أبي طالب تحت زوجها هبيرة بن أبي ليث المخزومي، فهرب يوم فتح مكّة إلى اليمن فمات كافراً. فخطب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أمّ هاني فقالت: والله لقد كنت أحبّك في الجاهليّة فكيف في الإسلام؟ ولكنّني امرأةٌ مصيبةٌ وأكره أن يؤذك. فقال النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم: " نساء قريشٍ خير نساءٍ ركبن المطايا، أحناهنّ على ولدٍ صغيرٍ، وأرغاهنّ، على زوجٍ ذي يدٍ. "
ماتت في الطّريق
أبو بكر الأنباري، عن أبي اليسر قال: دخلت منزل نخّاسٍ لشراء جاريةٍ، فسمعت في بيت بازاء البيت جاريةً تقول:
وكنّا كزوجٍ من قطا في مفازةٍ ... لدى خفض عيشٍ معجبٍ مونقٍ رغد
أصابهما ريب الزّمان فأفردا ... ولم أر شيئاً قطّ أوحش من فرد
فقلت للنّخّاس: أعرض عليّ هذه المنشدة. فقال إنّها حزينةٌ. قلت: ولم ذلك؟ قال: اشتريتها من ميراثٍ، فهي باكيةٌ على مولاها. ثمّ لم ألبث أن أنشدت:
وكنّا كغصني بانةٍ وسط دوحةٍ ... نشم جنا الجنّات في عيشةٍ رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ ... فيا فردةٌ باتت تحنّ إلى فرد
قال أبو السّمراء: فكتبت إلى عبد الله بن طاهر بخبرها. فكتب إليّ: أن ألق عليها هذا البيت، فإن أجازته فاشتراها ولو كانت بخراج خراسان. والبيت:
قريبٌ صدّ، بعيدٌ وصل، ... جعلت منه لي ملاذا
فقالت:
فعاتبوه، فزاد شوقاً ... فمات عشقاً، فكان ماذا؟
قال أبو السّمراء: فاشتريتها بألف دينارٍ وحملتها إليه. فماتت في الطّريق، فكانت إحدى الحسرات.
تستحييه في الحياة والممات
قال الأصمعي: خرج سليمان بن عبد الملك ومعه سليمان بن المهلّب بن أبي صفرة من دمشق متنزّهين، فمرّا بالجبانة، وإذا امرأةٌ جالسةٌ على قبرٍ تبكي، فهبّت الرّيح، فرفعت البرقع عن وجهها، فكأنّها غمامةٌ جلت شمساً، فوقفنا متعجّبين ننظر إليها، فقال لها ابن المهلّب: يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين بعلاً؟ فنظرت إليهما، ثمّ نظرت إلى القبر، وقالت:فإن تسألاني عن هواي، فإنّه ... بملحود هذا القبر، يا فتيان
وإنّي لأتسحييه والتّرب بيننا، ... كما كنت أستحييه وهو يراني
فانصرفنا ونحن متعجّبون.
قال الأصمعي: رأيت بالبادية أعرابيّةً لا تتكلّم، فقلت: أخرساء هي؟ فقيل
لي: لا، ولكنّها كان زوجها معجباً بنغمتها فتوفّي، فآلت أن لا تتكلّم بعده
أبداً.
المبكّرة إلى القبر
قال الفرزدق أبقي لرجلٍ من بني نهشل، يقال له حصن، غلام. فخرجت في طلبه
أريد اليمامة. فلمّا صرت في ماءٍ لبني حنيفة ارتفعت لي سحابةٌ، فرعدت
وبرقت وأرخت عزاليها، فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرا. فأجابوا، ودخلت
الدّار، وأنخت ناقتي، وجلست. فإذا جاريةٌ كأنّها طلعة قمر، فقالت: ممّن
الرّجل؟ قلت من بني حنظلة. قالت: من أيّ حنظلة؟ قلت: من بني نهشل. قالت:
فأنت من الذين يقول فيهم الفرزدق:
إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
بيتا زرارةٍ محتبٍ بفنائه ... ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشل
فقلت: نعم. فتبسّمت، ثمّ قالت: فإنّ جريراً هدم قوله، حيث يقول:
أخزي الذي سمك السّماء مجاشعاً ... وأحلّ بيتك بالحضيض الأسفل
قال: فأعجبني ما رأيت من جمالها وفصاحتها، ثمّ قالت لي: أين تؤم؟ قلت:
اليمامة. فتنفّست نفساً وصل إليّ حرّة، فقلت: أذات خدرٍ، أم ذات بعلٍ؟
فبكت. فقلت: ما أجبتني عمّا سألتك. قال فلمّا فهمت قولي ولم تكن أوّلاً
فهمته من شدّة استغراقها، فلمّا كان بعد ساعةٍ أنشأت تقول:
يخيّل لي، أبا عمرو بن كعب، ... بأنّك قد حملت على سرير
فإن يك هكذا، يا عمرو، إنّي ... مبكّرةً عليك إلى القبور
ثمّ شهقت شهقةً فماتت. فقلت لهم: من هذه؟ قالوا: عقيلة بنت الضّحّاك بن
النّعمان بن المنذر. قلت: فمن عمرو؟ قالوا: ابن عمّها، خطبها ولم يدخل
بها. فارتحلت من عندهم فدخلت اليمامة، فسألت عن عمرو فإذا به قد دفن في
ذلك الوقت من اليوم.
الوفاء في الجاهليّة يختلف عنه غي الإسلام
يروى عن سماك بن حرب: أن زيد بن حارثة قال: يا رسول الله، انطلق بنا إلى
فلانة نخطبها عليك أو عليّ إن لم تعجبك: فأتيناها فذكر لها زيد رسول الله،
صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له: يا رسول الله، إنّي عاهدت زوجي ألاّ
أتزوّج بعده أبداً، وأعطاني مثل ذلك. فقال لها رسول الله، صلّى الله عليه
وسلّم: " إن كان ذلك في الإسلام ففي له، وإن كان ذلك في الجاهلية فليس
بشيءٍ " .
الوفاء والذّكاء
قال الأصمعي خرجت إلى مقابر البصرة، فإذا أنا بامرأةً على قبرٍ، من أجمل
النّساء، وهي تندب صاحبه وتقول:
هل أخبر القبر سائليه ... أم قرّ عيناً بزائريه
أم هل تراه أحاط علماً ... بالجسد المستكين فيه
يا جبلاً كان ذا امتناعٍ ... وطوداً عد لآمليه
يا نخلةً طلعها نضيد ... يقرب من كفّ مجتنيه
يا موت ماذا أردت منّي ... حقّقت ما كنت أتّقيه
دهرٌ رماني بفقد إلفي ... أذمّ دهري وأشتكيه
أمّنك الله كلّ خوفٍ ... وكلّ ما كنت تتّقيه
أسكنك الله في جنانٍ ... تكون أمناً لساكنيه
قال، فقلت لها: يا أمة الله، ما هذا منك؟ قالت: لو أعلمك مكانك ما أنشدت
حرفاً، هذا زوجي وسروري وأنسي، والله لا زلت هكذا أبداً أو ألحق به. قلت
لها: أعيدي عليّ الشّعر. فقالت: هذا من ذاك. فقلت خذي إليك. وأنشدتها
الأبيات، فقالت فإن يكن في الدّنيا الأصمعي فأنت هو.
قصّة عاشقين
قال: كان لأشجع بن عمرو السّلمي جاريةً، يقال لها ريم، وكان يجدها وجداً
شديداً، وكانت تحلف له أنّها إن بقيت بعده لم يحكم عليها رجلٌ أبداً. فقال
يخاطبها:
إذا غمضت فوقي جفون حفيرةٍ ... من الأرض فابكيني بما كنت أصنع
تعزيك عنّي بعد ذلك سلوةٌ ... وإن ليس فيمن وارت الأرض مطمع
فأجابته ريم تقول:
ذكرت فراقاً والفراق يصدّع، ... وأيّ حياةٍ بعد موتك تنفع.
إذا الزّمن الغدّار فرّق بيننا، ... فمالي في طيّبٍ من العيش مطمع.
فلو أبصرت عيناك عينيّ أبصرت، ... شآبيب جدرٍ غيثها ليس تقشع
وقالت فيها أيضاً:
وليس لإخوان النّساء تطاول، ... ولكنّ إخوان الرّجال يطول.
فلا تبخلي بالدّمع عنّي فإنّ من، ... يضنّ بدمعٍ، عن هوىً، لبخيل.
فما لي إلى ردّ الشّبيبة حيلةً، ... ولا لي إلى دفع المنون سبيل.
وإنّ لداتي قد مضوا لسبيلهم، ... وإنّ بقائي بعدهم لقليل.
فأجابته ريم:
بكى من صروفٍ خطبهنّ جليل ... ومن ذا به عمر الحياة يطول؟
ومن ذا الذي ينعى على حدث الرّدى، ... وللموت في أثر النّفوس رسول.
وكلّ جليلٍ سوف يلقى حمامه، ... وكلّ نعيمٍ دائمٍ سيزول.
لي الويل، إن عمّرت بعدك ساعةً، ... وإنّ كثير الويل لي لقليل.
وتزعم أنّي لا أجود بعبرةٍ، ... إذا نجمه قد حان منه أفول.
ومن ذا الذي أبكي له، إن فقدته، ... سواك، ومن دمعي عليه يسيل.
فلا وقيت ريمٌ، إذاً، ما تخافه ... إذا ناب للزّمان جليل.
ولا لقيت يوم القيامة ربّها ... وميزانها بالصّالحات ثقيل
إذا ماسخا قلب امرىءٍ بمودّةٍ، فقلبي بودٍّ عن سواك بخيل.
ولمّا مات أشجع، آلت على نفسها أن لا تأكل طعاماً، ولا تذوق شراباً. فعاشت
بعده أيّاماً، ثمّ توفّيت، فدفنت إلى جانبه.
باب ما جاء في غدر النّساء
رأي عمر في النّساء
قال عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه: أستعيذوا بالله من شرار النّساء وكونوا
من خيارهنّ على حذرٍ.
رأي الملك عمرو في النّساء
قال عمرو الملك:
إنّ من غرّه النّساء بودٍّ ... بعد هندٍ لجاهلٌ مغرور
حلوة العين واللسان وفيها ... كلّ شيءٍ يجن فيه الضّمير
رأي طفيل الغنوي في النّساء
وقال طفيل الغنوي:
إنّ النّساء لأشجارٌ تبين لنا ... منهنّ مرٌّ، وبعض المرّ مأكول
إنّ النساء متى ينهين عن خلقٍ ... فإنّه واقعٌ لا بدّ مفعول
إنّ تقويم الضّلوع انكسارها
وفي حديث المرفوع أنّ المرأة خلقت من ضلعٍ عوجاء، فإن ذهبت تقوّمها
كسرتها، فاستمع بها على عوجٍ فيها.
وكان أبو ذرّ الغفّاري يقعد على منبر رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم
فينشده:
هي الضّلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها.
أيجمعن ضعفاً واقتداراً على الفتى ... أليس عجيباً ضعفها واقتدارها؟
في خلافهنّ البركة
وفي الحديث شاوروهنّ وخالفوهنّ، فإنّ في خلافهنّ البركة.
؟؟؟؟؟؟علقمة طبٍّ بأدواء النّساء
قال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنّساء فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النّساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهنّ نصيب
؟؟
تلين لك ولغيرك
وقال آخر:تمتّع بها، ما ساعفتك، ولا تكن ... جزوعاً إذا بانت، فسوف تبين.
وإن هي أعطتك الليان فإنّها، ... لغيرك من طلّابها ستلين؛
وخنها وإن كانت تفي لك، إنّها ... على قدم الأيّام سوف تخون
وإن حلفت أن ليس تنقض عهدها، ... فليس لمخضوب البنان يمين
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟تحجّ وتكشف عن وجهها للشّباب
وقال أبو عبيدة: حجّت امرأة عجير السّلولي معه، فأقبلت لا تطرق على شابٍّ في الرّفقة إلاّّ وتكشف وجهها، فقال في ذلك:
أيا ربّ لا تغفر لعتمة ذنبها، ... وإن لم يعاقبها العجير، فعاقب
حرامٌ عليك الحجّ لا تطعمينه ... إذا كان حجّ المسلمات الثّوائب
للفارس العجلان منها نصيب
؟وقال أعرابيٌّ:لا تكثري قولاً منحتك ودّنا، ... فقولك هذا للفؤاد مريب،
تعدين ما أوليتني منك قابلاً، ... وللفارس العجلان منك نصيب؟
؟
لم تكن عنده شريفة
أراد رجلٌ أن يشتري قينةً وقد كان أحبّها، فبات عند مولاها ليلةً
فأمكنته من نفسها وكان الامتناع منه، فأنشأ يقول:
ما رأينا بواسط كسليمى ... منظراً لو تزينه بعفاف
بت في جنبها وبات ضجيعي ... جنب القلب طاهر الأطراف
فأقيمي مقامنا ثمّ بيني، ... لست عندي من فتية الأشراف
؟
لا يشتهي الفاجرة
وقال آخر:لا أشتهي رنق الحياة ولا التي ... تخاف وتغشاها المعبدة الحرب
ولكنّني أهوى مشارب أحرزت ... عن النّاس حتّى ليس في صفوها عيب
؟؟؟؟
الإصبع لا تستر زانية
وقال أعرابيٌّ أيضاًتبعتك لما كان قلبك واحداً، ... وأمسكت لمّا صرت نهباً مقسما.
ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه ... على كثرة الورّاد أن يتهدّما
؟
الباغية دون اكتفاء
وقال أبو نواس:ومظهرةٍ لخلق الله حبّاً، ... وتلقي يالتّحيّة والسّلام
أتيت فؤادها أشكو إليه، ... فلم أخلص إليه من الزّحام
فيا من ليس يكفيها خليل، ... ولا ألفا خليلٍ كلّ عام،
أراك بقيّةً من قوم موسى، ... فهم لا يصبرون على طعام.
؟إذا غاب بعلٌ جاء بعل
وكان رجلٌ يحبّ امرأةً فخطب في اليوم الذي ماتت فيه، فقيل له في ذلك فقال:
خطبت كما لو كنت قدّمت قبلها ... لكانت بلا شكٍ لأوّل خاطب
إذا غاب بعلٌ كان بعلٌ مكانه ... فلا بدّ من آتٍ وآخر ذاهب
؟تزوّجته وطافت بالبيت عريانةً
وعن المطّلب بن الوداعة السّهميّ قال: كانت ضباعة بنت عامر، من بني عامر بن صعصعة، تحت عبد الله بن جدعان. فمكثت عنده زماناً لا تلد، فأرسل إليها هشام بن المغيرة: ما تصنعين بهذا الشّيخ الكبير الذي لا يولد له: فقولي له فليطلّقك. فقالت ذلك لعبد الله بن جدعان، فقال لها: إنّي أخاف إن طلّقتك تتزوّجي هشام بن المغيرة؟؟! قالت له:فإنّ لك عليّ أن لا أفعل هذا. قال لها: فإن فعلت، فإنّ عليك مائةً من الإبل تنحرينها وتنسجين ثوباً يقطع ما بين الأخشبين وتطوفين بالبيت عريانةً. قالت: لا أطيق ذلك.
وأرسلت إلى هشام فأخبرته، فأرسل إليها ما أهون ذلك، وما يكن بك من ذلك، أنا أيسر من قريش في المال، ونسائي أكثر النّساء بالبطحاء، وأنت أجمل النّساء ولا تعابين في عريك، فلا تأبي ذلك عليه. فقالت لابن جدعان: طلّقني، فإن تزوّجت هشاماً فعليّ ما قلت. فطلّقها بعد استيثاقه منها. فتزوّجها هشام، فنحر عنها مائة جزور، وأمر نساؤه فنسجن ثوباً يملأ ما بين الأخشبين، ثمّ طافت بالبيت عريانةً. قال المطّلب: فأتبعها بصري إذا أدبرت وأستقبلها إذا أقبلت، فما رأيت شيئاً ممّا خلق الله منها وهي واضعة يدها على فرجها وقريش قد أحدقت بها، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أحلّه
التّلفيق عند الزّبير بن بكار
قال الزّبير بن بكار: خطب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من عمّه الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال له: يا ابن أخي، قد انتظرت هذا منك انطلق معي، فخرج معه حتّى أدخله منزله ثمّ أخرج إليه ابنته فاطمة وسكينة، وقال له: اختر أيّهما شئت! فاختار فاطمة، فزوّجه إيّاها. فلمّا حضرت الحسن الوفاة قال لها: إنّك امرأة مرغوب فيك، متشوّف إليك لا تتركين، وإنّي ما أدع في قلبي حسرةً سواك. فتزوّجي من شئت سوى عبد الله بن عمر بن عثمان. ثمّ قال لها: كأنّي قد خرجت وقدمت جاءك لابساً حلّته، مرجلاً جمته، يسير في جانب النّاس معترضاً لك، ولست أدع من الدّنيا همّاً غيرك. فلم يدعها حتّى استوثق منها بالإيمان.
ومات الحسن، فأخرجت جنازته، فوافاه عبد الله بن عمر وكان يجد
بفاطمة وجداً شديداً، وكان رجلاً جميلاً كان يقال له المطرف من حسنه، فنظر
إلى فاطمة وهي تلطم وجهها على الحسن، فأرسل إليها مع وليدة له: أنّ لابن
عمّك أرباً في وجهك فارفقي به. فاسترخت يدها واحمرّ وجهها حتّى عرف ذلك
جميع من حضرها. فلمّا انقضت عدّتها خطبها فقالت: كيف أفعل بإيماني؟ قال
لها: لك بكلّ مالٍ مالان؛ وبكلّ مملوكٍ مملوكان. فوفّى لها وتزوجها فولدت
له محمّداً. وكان يسمّى من حسنه الدّيباج والقاسم ورقيّة.
وقال الزّبير: لمّا حضرت الوفاة حمزة بن عبد الله بن الزّبير خرجت عليه
فاطمة بنت القاسم بن علي بن جعفر بن أبي طالب فقال لها: كأنّي؟؟؟؟؟؟؟؟؟ بك
تزوّجت طلحة بن عمر بن عبد الله بن معمر، فحلفت له بعتق رقيقها، وإنّ كلّ
شيءٍ لها في سبيل الله أن تزوّجته أبداً. فلمّا توفّي حمزة بن عبد الله
وحلّت، أرسل إليها طلحة بن عمر فخطبها فقالت له: قد حلفت. وذكرت يمينها،
فقال لها: أعطيك بكلّ شيءٍ شيئين. وكانت قيمة رقيقها وما حلفت عليه عشرين
ألف دينار، فأصدقها ضعفها فتزوّجته، فولدت له إبراهيم ورملة. فزوّج طلحة
ابنته رملة من إسماعيل بن علي بن العبّاس بمائة ألف دينار وكانت فائقة
الجمال والخلق، فقال إسماعيل لطلحة بن عمر: أنت أتجر النّاس. قال له والله
ما عالجت تجارةً قط. قال: بلى حين تزوّجت فاطمة بنت القاسم بأربعين ألفاً
فولدت لك إبراهيم ورملة، فزوّجت رملة بمائة ألف دينار فربحت ستّين ألفاً
وإبراهيم.
تزوّجته قبل انقضاء عدّتها
وعن هشام بن الكلبي قال: قال عبد الله بن عكرمة: دخلت على عبد الرّحمن بن
هشام أعوده فقلت: كيف تجد؟ فقال: أجد بي والله الموت، وما موتي بأشد عليّ
من أمّ هشام، أخاف أن تتزوّج بعدي. فحلفت له أنّها لا تتزوّج بعده فغشي
وجهه نوراً، وقال: الآن فلينزل الموت متى شاء. فلمّا انقضت عدّتها تزوّجت
عمر بن عبد العزيز. فقلت في ذلك؟.
فإن لقيت خيراً فلا يهنيها ... وإن تعست بؤساً فللعين والفم
فلمّا بلغها ذلك كتبت إليّ: قد بلغني ما تمثّلت به، وما مثلي في أخيك
إلاّّ كما قال الشّاعر:
وهل كنت إلاّّ والهاً ذات ترحةٍ ... قضت نحبها بعد الحنين المرجّع
فدع ذكر من قد وارت الأرض شخصه ... ففي غير من قد وارت الأرض مقنع
قال: فبلغ منّي كلّ مبلغ. فحسبت حسابها فإذا هي قد عجّلت بالتزوّج وبقي
عليها من عدّتها أربعة أيّام. فدخلت على عمر فأخبرته فانقضى النّكاح.
هل يزول الهوى بعد الموت
قال الزّبير بن بكار: كانت إمرأةٌ من العرب تزوّجت رجلاً، فكانت تجد به، ويجد بها وجداً شديداً، فتحالفا وتعاهدا أن لا يتزوّج الباقي منهما. فما لبث أن مات بعلها، فتزوّجت، فلامها أهلها على نقض عهدها، فقالت:لقد كان حبّي ذاك حبّاً مبرّحاً ... وحبّي لذا مات ذاك شديد.
وكانت حياتي عند ذلك جنّةٌ ... وحبّي لذا طول الحياة يزيد
فلمّا مضى، عادت لهذا مودّتي، ... كذاك الهوى بعد الممات يبيد
لم ترع لبعلها حرمة
ًحكى الهيثم بن عدي قال:عاهد رجلٌ امرأته وعاهدته أن لا يتزوّج الباقي منهما،فهلك الرّجل، فلم تلبث المرأة أن تزوّجت. فلمّا كان ليلة البناء بها رأت في أوّل الليل شخصاً فتأمّلته، فإذا هو زوجها، وهو يقول لها: نقضت العهد ولم ترعي له. وأصبحت فأتمّت نكاحها.
تركها وأوصى بها فخانته
وروى ابن شهاب: أنّ رجلاً من الأنصار غزا فأوصى ابن عمٍّ له بأهله، فأتى ابن عمّ الرّجل ليلة من الليالي فتطلّع على حال زوجة ابن عمّه فإذا بالبيت مصباحٌ يزهر ورائحةٌ طيّبةٌ، وإذا برجلٍ متّكىءٍ على فراش ابن عمّه وهو يتغنّى ويقول:وأشعث غرّة الإسلام منّي ... خلوت بعرسه بدر التّمام
أبيت على ترائبها ويغدو ... على جرداء لاحقة الحزام
كأنّ مجامع الرّبلات منها ... فئام ينتمين إلى فئام
فلم يقدّر الرّجل أن يملك نفسه حتّى دخل عليه فضربه حتّى قتله.
ورفع الخبر إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فصعد المنبر وخطب وقال: عزمت
عليكم أن كان الرّجل الذي قتل حاضراً ويسمع كلامي فليقم. فقال: أبعده
الله، ما كان من خبره؟ فأخبره وأنشده الأبيات، فقال: أضربت عنقه؟ قال: نعم
يا أمير المؤمنين. فقال: أبعده الله، فقد هدر دمه.
لم ترع عهداً ولم يرع قرابةً
قال أبو عمرو الشّيباني: كان أبو ذؤيب الهذلي يهوى امرأةً يقال لها أم
عمرو، وكان يبعث إليها خالد ابن أخيه زهير، فراودت الغلام عن نفسها،
فامتنع وقال: أكره أن يبلغ أبا ذؤيب. فقالت له: ما يراني وإيّاك إلاّّ
الكواكب. فبات وقال:
ما ثمّ إلاّّ أنا والكواكب ... وأمّ عمرو فلنعم الصّاحب
فلمّا رجع إلى أبي ذؤيب استراب به، وقال: والله إنّي لأجد ريح أمّ عمرو
منك. ثمّ جعل لا يأتيه إلاّّ استراب به، فقال خالد:
يا قوم ما لي وبي ذؤيب، ... كنت إذا ما جئته من غيب،
يمسّ عطفي، ويشمّ ثوبي، ... كأنّني أربته بريب.
فقال أبو ذؤيب، وهي من قصيدة من جيّد شعره:
دعا خالداً أسرى ليالي نفسه ... يولي على قصد السّبيل أمورها
فلمّا توفّاها الشّباب وغدره، ... وفي النّفس منه غدرها وفجورها
لوى رأسه عنّي، ومال بودّه، ... أغانيج خودٍ كان حيناً يزورها
تعلّقها منه دلال ومقلة ... يظلّ لأصحاب السّفاه يثيرها
فأجابه خالد:
فلا يبعدنّ الله عقلك إن غزا ... وسافر والأحلام جمٌّ غيورها
وكنت إماماً للعشيرة تنتهي ... إليك إذا ضاقت بأمرٍ صدورها
وقاسمها بالله جهداً لأنتم ... ألذّ من الشّكوى إذا ما يسورها
فلم يغن عنه خدعه حين أزمعت ... صريمته والنّفس مرّ ضميرها
قال:وكان أبو ذؤيب أخذها من ملك بن عويمر وكان ملك يرسله إليها، فلمّا كبر
أخذت أبا ذؤيب، فلمّا كبر أخذت خالداً. وقال:
تريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يصلح السّيفان، ويحك، في غمد؟
أخالدٌ، ما راعيت منّي قرابةً ... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي.
عن قريبٍ تبيع كفلها
قال أبو عبيدة: كان صخر بن عبد الله الشّريد يتعشّق ابنة عمّه سلمى بنت
كعب، وكان يخطبها فتأبى عليه، فأقام على ذلك حيناً ثمّ أغارت بنو أسدٍ على
بني سليمٍ فغلبوهم وصخر غائب. وأخذت سلمى فيمن أخذ من النّساء، وقتل عددٌ
منهم، وأسر آخرون. وأقبل صخر فنظر إلى ديارهم بلقعاً وأخبر الخبر، فشدّ
عليه سلاحه، واستوى على فرسه، وأخذ أثرهم حتّى لحقهم، فلمّا نظروا إليه
قالوا: هذا كان شرّد من بني سليم، وقد أحبّ الله أن لا يدع منهم أحداً.
فجعل يبرز إليه الفارس بعد الفارس فيقتله، فلمّا أكثر فيهم القتل، حلّت
أسارى بني سليم بعضها بعضاً، وثاروا على بني أسد.
ونظر صخر إلى سلمى وهي مع عبد أسود، قد شدّها على ظهره، فطعنه صخرٌ فقتله
واستنقذ سلمى ورجع بها. وقد أصابته طعنة أبي ثور الأسدي في جنبه، وتزوّج
سلمى. وكان يحبّها ويكرمها، ويفضّلها على أهله. ثمّ بعد ذلك انتقض جرحه
فمرض حولاً، وكان نساء الحيّ يدخلن إلى سلمى عوائد فيقلن: كيف أصبح صخر؟
فتقول: لا حيّ فيرجى ولا ميت فينسى. ومرّ بها رجلٌ وهي قائمةٌ وكانت ذات
خلقٍ وأرداف، فقال: أيباع هذا الكفل؟ فقالت: عن قريبٍ فسمعها صخر، ولم
تعلم، فقال لها: ناوليني السّيف أنظر هل صدىءٌ أم لا؟ وأراد قتلها،
فناولته ولم تعلم، فإذا هو لا يقدر على حمله فقال:
أرى أمّ صخرٍ ما تملّ عيادتي ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازةً ... عليك ومن يغترّ بالحدثان
فأيّ امرىءٍ ساوى بأمٍ حليلةٍ ... فلا عاش إلاّّ في شقا وهوان
أهمّ بأمر الحرم لو أستطيعه، ... وقد حيل بين العير والنّزوان
لعمري لقد أيقظت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
فللموت، خيرٌ من حياةٍ كأنّها ... محلة يعسوب برأس سنان.
قال: ونتأت في موضع الجرح قطعةً فأشاروا عليه بقطعها، فقال لهم:
شأنكم. فلمّا قطعت مات.
غدرت حتّى بأبيها
قال كان السّاطرون والملك، ملك اليونانيين، قد بنى حصناً يسمّى الثّرثار
ولم يكن له بابٌ ظاهرٌ فكلّ من غزاه من الملوك رجع عنه خائباً حتّى غزاه
سابور ذو الأكتاف، ملك فارس، فحصره أشهراً لا يقدر على شيءٍ. فأشرفت يوماً
من الحصن النّضيرة ابنة الملك، فنظرت إلى سابور فهويته، وكان من أجمل
النّاس وأمدّهم قامةً، فأرسلت إليه: إن أنت ضمنت لي أن تتزوّجني وتفضّلني
على نسائك دللتك على فتح هذا الحصن. فضمن لها ذلك فأرسلت إليه: أن أنثر في
الثّرثار تبناً واجعل الرّجال يتبعونه حتّى يروا حيث يدخل. فإنّ ذلك
المكان يفضي إلى الحصن، وفيه بابه. ففعل ذلك سابور، وعمدت النّضيرة إلى
أبيها فسقته الخمر حتّى أسكرته، فلم يشعر أهل الحصن إلاّّ وسابور معهم وهم
آمنون.
قال: فلمّا فر سابور بالحصن، وقتل الملك أبا نضيرة، وجمع جنده، تزوّج
بالنّضيرة فباتت معه مسهرةً لا تنام تتقلّب من جنبٍ إلى جنب. فقال لها
سابور: ما لك لا تنامين؟ فقالت: إنّ جنبي تجافى عن فراشك. قال: ولم،
فوالله ما نامت الملوك على ألين منه ولا أوطأ، وإنّ فرشه لزغب اليمام.
فلمّا أصبح سابور نظر إلى ورقة آس بين أعكانها، فتناولها، فدمى موضعها.
فقال لها: ويحك بماذا كان أبوك يغذّيك؟ قالت: بالمخّ والزّبد والبلح
والشّهد وصفو الخمر. فقال لها سابور: إنّي لجديرٌ أن لا أستبقيك بعد إهلاك
أباك وقومك، وكانت حالك عندهم هذه الحالة التذ تصفين، وأمر بإحضار فرسين
فربطت إلى أرجلهما بغدائرها ونفّرا فقطعاها نصفين، فذلك قول عدي حيث يقول:
والحصن صبّت عليه داهيةٌ ... من قعره أيد مناكبها
من يعد ما كان وهو يعمره ... أرباب ملك جزل مواهبها
وصلت الخيانة حتّى إلى أمّ البنين؟
ويروى أنّ وضّاح اليمن نشأ هو وأمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان
بالمدينة صغيرين فأحبّها وأحبّته، وكان لا يصبر عنها حتّى إذا شبّت حجبت
عنه، فطال بهما البلاء. فحجّ الوليد بن عبد الملك فبلغه جمال أمّ البنين
وأدبها فتزوّجها ونقلها معه إلى الشّام فذهب عقل وضّاح عليها وجعل يذوب
وينحل فلمّا طال عليه البلاء وصار إلى الوسواس خرج إلى مكّة حاجاً وقال
لعلّي أستعيذ بالله ممّا أنا فيه وأدعو الله فلعلّه يرحمني.
فلمّا قضى حجّه شخص إلى الشّام فجعل يطوف بقصر الوليد بن عبد الملك في كلّ
يومٍ لا يجد حيلةً حتّى أرى في يومٍ من الأيّام جاريةً صفراء خارجةً من
القصر تمشي فمشى معها ولم يزل بها حتّى أنست به فقال لها: أتعرفين أمّ
البنين بموضعي؟ فقالت: عن مولاتي تسأل؟ قال لها: هي ابنة عمّي، وإنّها
لتسرّ بموضعي لو أخبرتها، قالت: فأنا أخبرها.
فمضت الجّارية فأخبرت أمّ البنين فقالت لها: ويلك أحيٌّ هو؟ قالت لها: نعم
يا مولاتي. قالت لها: إرجعي إليه، وقولي له كن مكانك حتّى يأتيك رسولي،
فإنّي لا أدع الاحتيال لك: واحتالت له فأدخلته في صندوق، فمكث عندها حيناً
فإذا أمنت أخرجته فقعد معها، وإذا خافت عين رقيب أدخلته في الصّندوق.
وأهدي يوماً لوليد جوهر فقال لبعض خدمه خذ هذا العقد وأمض به إلى أمّ
البنين وقل لها: أهدي هذا إلى أمير المؤمنين فوجّه به إليك. فدخل الخادم
مفاجأةً ووضّاح معها قاعد فلمحه الخادم،ولم تشعر أمّ البنين، فبادر إلى
الصّندوق فدخله.
وأدّى الخادم الرّسالة وقال: هبي لي من هذا الجوهر حجراً واحداً. فقالت
له: لا أمّ لك، فما تصنع بهذا. فخرج وهو عليها حنق، فجاء الوليد فأخبره
الخبر ووصف له الصّندوق الذي رآه دخله، فقال له: كذبت، لا أمّ لك: ثمّ نهض
الوليد مسرعاً فدخل إليها وهي في ذلك البيت وفيه صناديق كثيرة فجاء حتّى
جلس على ذلك الصّندوق الذي وصف له الخادم فقال لها: يا أمّ البنين هبي لي
صندوقاً من صناديقك هذه؟ قالت: أنا لك يا أمير المؤمنين، وهي لك، فخذ
أيّها شئت. قال: ما أريد إلاّّ هذا الذي تحتي. قالت له يا أمير المؤمنين
إنّ فيه شيئاً من أمور النّساء. فقال: ما أريد غيره. قالت فهو لك.
قال فأمر به فحمل، ودعا بغلامين وأمرهما أن يحفرا حتّى وصلا إلى
الماء ثمّ وضع فمه في الصّندوق وقال يا صاحب الصّندوق قد بلغنا عنك شيء
فإن كان حقّاً فقد دفنّا خبرك، وإن كان كذباً فما أهون علينا، إنّما دفنّا
صندوقاً. وأمر بالصّندوق فألقي في الحفيرة، وأمر بالخدّام الذي عرفه فقذف
معه، وردّ التّراب عليهما. قال فكانت أمّ البنين لا ترى إلاّّ في ذلك
المكان تبكي إلى أن وجدت ذات يومٍ مكبوبةً على وجهها ميّتة.
استطعن التّخلص في آخر لحظة
وروي عن أبي نواس قال حجبت مع الفضل بن الرّبيع فلمّا كنّا بأرض فزارة
أيّام الرّبيع، نزلنا منزلاً بفنائهم ذا أرضٍ أريضٍ، ونبتٍ غريضٍ، وقد
اكتست الأرض نبتها الزّاهر، وبرزت براخم غررها والتّحف أنوار زخرفها
الباهر ما يقصر عن حسنه النّمارق المصفوفة، ولا يداني بهجته الزّرابي
المبثوثة. فزادت الأبصار في نضرتها، وابتهجت النّفوس بثمارها. فلم نلبث أن
أقبلت السّماء بالسّحاب، وأرخت عزاليها ثمّ اندهمت برذاذٍ ثمّ بطشٍ ثمّ
بوابلٍ حتّى إذا تركت الدّيم، كالوهاد انقشعت وأقلعت وقد غادرت الغدران
مترعةً برفقٍ، والقيعان ناضرةً تتألّق، يتضاحك بأنوار الزّهرالغضّ حتّى
إذا هممت بتشبيه منظرٍ حسنٍ رددته إليه، وإذا تقت إلى موضعٍ طيّبٍ لم يجد
في البكاء معولاً إلاّّ عليه. فسرحت طرفي راتعاً في أحسن منظرٍ، واستنشقت
من رياها أطيب من ريح المسك الأذفر. فقلت لزميلي: ويحك أمض بنا إلى هذه
الخيمات، فلعلّنا نلقى من نأثر عنه خبراً، نرجع به إلى بغداد.
فلمّا انتهينا إلى أوائلها إذا نحن بخباء على باب جارية مبرقعة بطرف مريض
وسنان النّظر قد حشي فتوراً، ومليء سحراً، فقلت لصاحبي: والله إنّها لترنو
عن مقلة لا رقية لسليمها ولا برء لسقيمها. فقال لي: وكيف السّبيل إلى ذلك؟
فقلت: استسقها ماءً. فدنونا منها فاستسقيناه فقالت نعم، ونعما عين وإن
نزلتما ففي الرّحب والسّعة. ثمّ قامت تتهادى كالدّعص الملبد. فراعني والله
ما رأيت منها، فأتت بالماء فشربت منه، وصببت باقية على يدي، ثمّ قلت:
وصاحبي عطشانٌ أيضاً. فأخذت الإناء ودخلت الخباء ثمّ جاءت، فقلت لصاحبي:
تعرض لكشف وجهها. فقال:
إذا بارك الله في ملبسٍ ... فلا بارك الله في البرقع
تريك عيون المها غرّةً ... وتكشف عن منظرٍ أشنع
فمرّت مسرعةً وأتت وقد كشف البرقع وتقنّعت بخمارٍ أسود وأنشأت وهي تقول:
ألا حيّ ضيفي معشر قد أراهما ... أضلّا ولمّا يعرفا مبتغاهما
هما استقيا ماءً على غير ظمأةٍ ... ليستمتعا باللحظ ممّن سقاهما
يذمّان تلباس البراقع ضلّة ... كما ذمّ تجرا سلعةً مشتراهما
قال: فشبّهت، والله كلامها بعقد درٍّ وهي من سلكه. فهو ينتثر بنغمةٍ عذبةٍ
رخيمةٍ لو خوطبت به الصّمّ الصّلاب لانبجست ماءٌ لرطوبة منطقها، وعذوبة
لفظها، بوجهٍ يظلم لنوره ضياء العقول، ويتلف من رؤيته مهج النّفوس. فهي
كما قال:
فرقّت وجلّت واستكرت فأكملت ... فلو جنّ إنسانٌ من الحسن جنّت
فلم أتمالك أن خررت ساجداً، فقالت: ارفع رأسك غير مأجورٍ، ولا تذمّنّ
بعدها برقعاً. فكشف البرقع عمّا يطرد الكرى، ويشغل الهوى، من غير بلوغ
أربٍ، ولا إدراك طلبٍ. وليس إلاّّ الحين المملوب، والقدر المكتوب، والأمل
المكذوب. فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي إلى طريق
الصّواب. والتفت إليّ صاحبي لمّا رأى لهفي فقال: ما هذه الخفّة لوجهٍ،
إنّما برقت لك بارقةً لعلّك ما تدري ما تحتها. أما سمعت قول الشّاعر؟ حيث
يقول:
على وجه مّيٍ مسحةٌ من ملاحةٍ ... وتحت الثّياب العار لو كان باديا
فقالت: بئس ما ذهبت إليه، لا أبالك، لأنّا أشبه بقول الشّاعر حيث يقول:
منعمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتج الرّوادف أهضم
خزاعيّة الأطراف كنديّة الحشا ... فزاريّة العينين طائيّة الفم
ثمّ رفعت ثيابها حتّى جاوزت نحرها، فإذا هي كقضيب فضّةٍ قد شيّب
بماء الذّهب، يهتزّ على مثل كثيب؛ ولها صدرٌ كالورد عليه رمّانتان أو حقان
من عاجٍ يملآن يد اللامس؛ وخصرٍ مطويّ الاندماج، يهتزّ في كفلٍ رجراج، لو
رمت عقده لانعقد؛ وسرّةٍ مستديرةٍ يقصر وهمي عن بلوغ وصفها؛ تحت ذلك أرنبٌ
جاثمٌ أو جبهة أسدٍ غادرٍ، وفخذان لفّاوان، وساقان خدلجان يحسان الخلاخيل،
وقدمان خمصاوان. فقالت: أعارٌ ترى؟ قلت: لا والله، قال: فخرجت عجوزٌ من
الخباء وقالت: أيّها الرّجل امض لشأنك، فإنّ قتيلها مطلول لا يودى،
وأسيرها مكبول لا يفدى. فقالت لها الجّارية: دعيه فمثله قول ذي الرّمّة:
وإن لم يكن إلاّّ تمتّع ساعةً ... قليلاً فإنّي نافعٌ لي قليلها
فولّت العجوز وهي تقول:
فما لك منها، غير أنّك ناكحٌ ... بعينيك عينيها، فهل ذاك نافع؟
قال: فبينما نحن كذلك إذ ضرب الطّبل للرّحيل فانصرفت بكمدٍ قاتلٍ، وكربٍ
داخلٍ،ونفسٍ هائمةٍ، وحسرةٍ دائمةٍ، فقلت في ذلك:
رسم الكرى بين الجفون مخيل ... عفا عليه بكا عليك طويل
يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... حتّى تشخص بيتهنّ قتيل
أحللت من قلبي هواه محلّةً ... ما حلّها المشروب والمأكول
بكمال صورتك التي في مثلها ... يتحيّر التّشبيه والتّمثيل
فوق القصيرة والطّويلة فوقها ... دون السّمين ودونها المهزول
قال: فوالله ما انتفعت بحجٍّ ولا لقيت أحداً ممّا كنت تأهّبت للقائه. ثمّ
رجعنا منصرفين، فلمّا كنّا بذلك المنزل وقد تضاعف نوّاره، واعتمّ نبته،
وتزايد حسنه، قلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا. فلمّا مضينا وأشرفنا على
الخيام ونحن دونها، سترني روضةً أريضةً مونقةً، عليها جمان الطّلّ،
يغازلها كالأعين النّجل، وقد أشرقت بدموعها على قضب الزّبرجد، وهبت ريح
الصّبا فصبت له الأغصان،وتمايلت تمايل النّشوان. فصعدنا ربوةً، ونزلنا
وهدةً، فإذا هي بين خمسٍ لا تصلح أن تكون خادمةً لإحداهنّ، وهنّ يجنين من
نوّار ذلك الزّهر، وينقلبن على ما أعتم من عشبةٍ وزهرة. فلمّا رأيننا
تقربن، فسلّمنا عليهنّ. وقالت الجّارية من بينهن: وعليك السّلام، ألست
صاحبي آنفاً؟ قلت: بلى، ولكنّ لحبّي كان ذلك. فقلن لها: أو تعرفينه؟ قالت:
نعم. فقصّت عليهنّ القصّة كلّها ما كتمت منها حرفاً واحداً.
قلن لها: ويحك، أفما زوّدته شيئاً؟ قالت زوّدته والله موتاً مريحاً،
ولحداً ضريحاً. فانبرت لها أنضرهنّ وجهاً، وأرقّهنّ خدّاً، وأرشقهنّ
قدّاً، وأبدعهنّ شكلاً، وأكملهنّ عقلاً، فقالت: والله ما أجملت بدءاً، ولا
أحسنت عوداً، ولقد أسأت في الرّدّ،ولم تكافئيه بالودّ، وإنّي أحسبه إليك
وامقاً، وإلى لقائك تائقاً، فما عليك من إسعافه في هذا المكان ومعك من لا
ينمّ عليك. فقالت لها: يا تعساً إلى ما دعوتني، والله لا أفعل من ذلك
شيئاً أو تفعلينه وتشركيني في حلوه ومرّه، وخيره وشرّه. فقالت لها: تعساً
تلك إذا قسمة ضيزي تعشقين أنت فترهبين، وتوصلين فتقطعين، ويرغب فيك
فتزهدين، ويبذل لك الودّ فتمنعين الرّفد، ثمّ تأمريني أن أشاركك فيما يكون
منك شهوةً ولذّةً، ومنّي عناءً وسخرةً؟ ما أنصفت في القول، ولا أجملت في
الفعل.
قالت أخرى منهنّ: قد أطلتنّ الخطاب في غير قضاء أربٍ؟ فاسألن الرّجل عن
قصّته وما في نفسه من بقيّته؟ فلعلّه لغير ما أنتنّ فيه. فقلن: حيّاك الله
وأقرّ بك عيناً، من أنت، ومن تكون؟ فقلت: أمّا الاسم فالحسن بن هانىء
الحكمي وأنا من شعراء السّلطان الأعظم ومن يتزيّن بمجلسه، ويفتخر بحمده
وشكره، ويتّقي لسانه. قصدت لتبريد غلّةٍ، وإطفاء لوعةٍ قد أحرقت الكبد،
وأذابت الجسد، ثمّ استبطنت الأحشاء فمنعت من القرار، ووصلت الليل
بالنّهار. فقالت: لقد أضفت إلى حسن المنطق والمنظر، كريم الخيم والمخبر،
وأرجو أن تبلغ أمنيتك، وتنال بغيتك. فهل قلت شيئاً في صبوتك؟ قلت: نعم.
قلن: أنشد فأنشدتهنّ:
حجبت رجاء الفوز بالأجر قاصداً، ... لحطّ ذنوب من ركوب الكبائر،
فأبت، كما آب الشّقيّ بخفّه ... حنين، فلم أوجر بتلك المشاعر
دهتني بعينيها، وبهجة وجهها، ... فتاةٌ، كمثل الشّمس أسحر ساحر؛
منعمةٍ، لو كان للبدر نورها، ... لمّا طلعت بيض النّجوم الزّواهر.
فإن بذلت، نلت الأماني كلّها، ... وإن لم تنلني، زرت أهل المقابر.
فقلن: أحسنت، والله. ثمّ قالت: إنّها والله ساعتك الطّولى، إن خالفتني!
قالت: لقد سمعت جوابي. فقالت أخرى: أجيبيها إلى ما دعت من الشّركة لتكن
إحداكنّ في الأمر. فقلن: قد انتصفت، وقد أطلتنّ الخطاب على أمرٍ فأمضيه
قبل انتشار الحي، فالوقت ممكن، والمكان خالٍ. فأجمعن على ذلك ولست أشكّ
فيما أظهرن، ثمّ قلن: بمن تبدأ؟ قلت اقترعن. فوقعت القرعة على أملحهنّ.
فصرت إلى باب المغارة هناك، فأدخلتني وأبطأت عنّي قليلاً، وجعلت أتوق
وأنظر إلى دخول إحداهن. فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ أسود كأنّه سارية،
بيده أيره وهو منعظ كمثل ذراع البكر. فقلت: ما تريد؟ قال: أنيكك. فأهمّتني
والله نفسي، فصحت بصاحبي، وكان أجلد منّي، فخلّصني من الأسود. ولم أكد
أخلص منه فخرجت من المغارة فإذا هنّ ينظرن من الخيمات كأنّهنّ لآلىء
ينحدرن من سلكٍ، وهنّ يتضاحكن حتّى غبن عن بصري. فأسرعنا الرّجعة إلى
رحالنا فقلت لصاحبي: من أين جاء الأسود؟ قال: كان يرعى غنماً عند ربوةٍ من
المغارة، فأومأن إليه، فأسرع نحوهنّ، فأوحين إليه شيئاً فرابني ذلك.
فأسرعت نحوك فسبقني ودخل عليك، ولولا ذلك لكان قد تمكّن منك الأسود. فقلت:
أتراه كان يفعل؟ قال لي: فأنت في شكٍّ من هذا؟ فقلت له: اكتم عليّ.
وانصرفت وأنا والله أخزى من ذات النّحيين.
فاجرة السّرداب
قال دعبل بن علي: بينا أنا سائرٌ بباب الكرج وقد استولى الفكر على قلبي
فحضرني بيت شعرٍ خطر به لساني من غي النّطق به، فقلت:
دموع عيني لها انبساط ... ونوم جفني له انقباض
وإذا جاريةٌ معترضةٌ تسمع كلامي فقالت:
وذا قليلٍ لمن دهته ... بلحظها الأعين المراض
فلم أعلم أنّي خاطبت جاريةً أعذب منها لفظاً، ولا أسحر طرفاً، ولا أنضر
خدّاً، ولا أحسن مشياً، ولا أرجح عقلاً. فوددت أنّ كلّ جارحةٍ منّي عينٌ
تنظر، أو قلبٌ يفهم، أو أذنٌ تسمع. فقلت:
أترى الزّمان يسرّنا بتلاقٍ ... ويضمّ مشتاقاً إلى مشتاق
ما للزّمان يقال فيه وإنّما ... أنت الزّمان فسرّنا بتلاقٍ
قال: فلحظتها، وتبعتني. وذلك حين أملاقي، واختلال حالي. فقلت: مالي إلاّّ
منزل صريع الغواني، فأتيته، واستوقفتها، ودخلت إليه. وقلت: ويلك يا مسلم،
أجمل لك الحبروجة على الباب تقلّ له الدّنيا وما فيها من عسرٍ وضيقةٍ. قال
لي: شكوت إلى ما كدت أبدؤك به الشّكوى، ولكن أئت بها على كلّ حال. فلمّا
دخلت قال لي: والله ما أملك إلاّ هذا المنديل. فقلت له: هو البغية. قال،
فأخذته فبعته بثلاثين درهماً، واشتريت خبزاً ولحماً ونبيذاً. وإذا هما
يتنازعان حديثاً كأنّه قطع الرّوض ذكرت به قول بشّار فقلت:
وحديثٍ كأنّه قطع الرّو ... ض وفيه الصّفراء والحمراء
فقال لي مسلم: بيتٌ نظيفٌ، ووجهٌ ظريفٌ، ولا نفل ولا ريحان؟ أخرج فالتمس
لنا ذلك. قال، فخرجت وجئت بما طلب،فإذا لا حسّ منهما ولا أثر لهما، فجعلت
أطيل الذّكر، وأرجم الظّنّ، حتّى إذا جنّ الليل وفي قلبي لهيب النّيران،
ثاب عليّ عقلي وقلت: لعلّ الطّلب يوقعني على موضعٍ خفيٍّ. فوقفت على باب
سردابٍ وإذا هما قد نزلا ومعهما جميع ما يحتاجان إليه فأكلا وشربا ونعما.
فدلّيت رأسي وصحت مسام ثلاث مرّاتٍ، فلم يكلّمني بأكثر من أن قال لي:
محلّنا، والنّفقة من عندنا، وأنت فضولي، ما هذا الذي تقترح؟ اصبر مكانك
حتّى يؤذن لك، فبقيت طول ليلتي أتقلّى على جمر الغضا لا أعرف أين أنا.
فلمّا انشقّ الصّبح إذا به طلع وطلعت الجّارية في أثره، فأسرعت إليه وخرجت
تعدو ولم تخاطبني، فكانت أعظم حسرةٍ نزلت بي.
باب ما جاء في الزّنا والتّحذير من عواقبه
سيّئات الزّنا
روي عن الأعمش، عن سفيان، عن حذيفة، أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم،
قال: " يا معشر المسلمين إيّاكم والزّنا، فإنّ فيه ستّ خصال: ثلاثاً في
الدّنيا، وثلاثاً في الآخرة. فأمّا التي في الدّنيا: فزوال البها، ودوام
الفقر، وقصر العمر؛ وأمّا اللواتي في الآخرة. فسخط الله جلّ ثناؤه، وسوء
الحساب، والخلود في النّار " .
المقيم على الزّنا كعابد وثنٍ
وعن الحارث بن النعمان قال: سمعت أنس بن مالك يقول أنّ رسول الله، صلّى
الله عليه وسلّم، قال: " المقيم على الزّنا كعابد وثن " .
هؤلاء اللواتي يزنين
وعن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: " ليلة أسرى بي انطلق بي إلى خلقٍ من خلق الله ونساءٍ معلّقاتٍ بثديهنّ ومنهنّ بأرجلهنّ، منكّساتٍ، ولهنّ صراخٌ وخوار. فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء اللواتي يزنين ويقتلن أولادهن، ويجعلن لأزواجهنّ ورثةً من غيرهم " .الله يبغض ثلاثة
وعن أبي الدّرداء. أنّ النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: " أنّ الله عزّ وجل ليبغض ثلاثة. الشّيخ الزّاني، والمقلّ المختال، والبخيل المنّان " .أعظم الذّنوب أن تزاني حليلة جارك
وعن عمر بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أو قال غيري: أيّ الذّنوب أعظم عن الله؟ قال: " أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك. " قلت: ثمّ أي؟ قال: " أن تقتل النّفس بغير حقٍّ " ، ثمّ أي؟ قال: " أن تزاني حليلة جارك " . قال: " ثمّ أنزل الله في كتابه تصديق ذلك " . ثمّ قال: " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النّفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلّد فيها مهاناً " .
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: " الزّاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيه، ويقول أدخل النّار مع الدّاخلين " .
مسؤوليّة الرّجل
وعن أبي هريرة، أنّه سمع رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول حين نزلت آية الملائكة: " أيما امرأة أدخلت على قومٍ من ليس منهم فليست من الله في شيءٍ، ولن يدخلها الله جنّته. وأيما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأوّلين والآخرين " .
الزّنا يجمع خصال الشّرّ كلّها
ذكر الزّنا عند يحيى بن خالد بن برمك فقال: الزّنا يجمع الخصال كلّها من الشّر. لا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاءً بعهد، ولا محافظةً على صديق؛ الغدر شعبةٌ من شعبه، والخيانة فنٌّ من فنونه، وقلّة المروءة عيبٌ من عيوبه، وسفك الدّم الحرام جنايةٌ من جناياته.
الملك زائلٌ وما تدين تدان
وحكى ابن الأعرابي قال: كان الحارث بن أبي شمر الغسّاني إذا أعجبته امرأة ووصفت له، بعث إليها واغتصبها نفسها، فأتاه أبوها فقال له:
يا أيّها الملك المخوف أما ترى ... ليلاً وصبحاً كيف يختلفان
هل تستطيع الشّمس أن تأتي بها ... ليلاً وهل لك بالمليك يدان
فاعلم وأيقن أنّ ملكك زائلٌ ... واعلم بأنّك ما تدين تدان
كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان أكفر
وعن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن عبّاس يقول: كان في بني إسرائيل راهبٌ عبد الله زماناً من الدّهر، حتّى كان يؤتى بالمجانين يعوّذهم فيبرؤون على يديه. وأنه أتي بامرأةٍ من أشراف قومها قد جنّت وكان لها أخوة، فأتوه بها، فلم يزل الشّيطان يزيّن له حتّى وقع عليها، فحملت، فلمّا استبان حملها، لم يزل الشّيطان يخوّفه ويزيّن له قتلها ودفنها، فقتلها ودفنها.
وذهب الشّيطان في صورة رجلٍ حتّى أتى بعض أخوتها فأخبره بالذي فعل الرّاهب، ثمّ أتى بقيّة أخوتها رجلاً رجلاً فجعل الرّجل يلقى أخاه فيقول له: والله لقد أتاني آتٍ فذكر لي شيئاً كبيراً علينا. فأخبر بعضهم بعضاً بما قيل لهم، فأتوا إلى الرّاهب فقالوا: ما فعلت أختنا؟ قال: خرجت، ولست أدري أين ذهبت. فرفعوا ذلك إلى ملكهم، فسار إليه النّاس حتّى استنزلوه من صومعته، فأقرّ لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب على خشبةٍ، وتمثّل له الشّيطان فقال له: أنا الذي زيّنت لك هذا وألقيتك فيه، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك وأخلصك؟ قال: نعم. قال: تسجد لي سجدةً واحدةً فسجد له الرّجل، ثمّ قتل. فهذا داخلٌ تحت قول الله عزّ وجل: " كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريءٌ منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين " . ولم تزل أشراف العرب في الجاهليّة يتجنّبون الزّنا ويذمّونه، وينهون عنه.
الزّنا يورث الفقر
وروى هشام بن عروة عن أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق، رضي الله عنه،
قالت: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل في الجاهليّة وهو مسندٌ ظهره إلى الكعبة
يقول: يا معشر قريشٍ إيّاكم والزّنا، فإنّه يورث الفقر.
إيّاكم وفضيحة النّساء
وفي وصيّة دريد بن الصّمة: إيّاكم وفضيحة النّساء فإنّها عقوبة غدٍ، وعار
أبدٍ، يكاد صاحبها يعاقب في حرمه بمثلها، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها.
راودته فامتنع فسمّته
وحكى بعضهم قال: وفد عبد المطّلب بن هاشم على بعض ملوك حمير فألطف منزلته
وأكرمه. وكان تامّاً جميلاً، فقال له الملك: يا أبا الحارث، أحبّ أن
ينادمني ابنك. فأذن له أبوه في ذلك. وكان الحميري أجمل ملوك حمير، وكانت
زوجته أجمل منه. فكان إذا شرب مع الحارث خرجت زوجته فجلست معهما تسقيهما،
فعشقت الحارث زوجة الملك، فكلفت به، فراسلته، فأعلمها أنّه محصن عن الزّنا
ولا يخون نديمه. فألحّت عليه فكتب إليها:
لا تطعمي فيما رأيت فإنّني ... عف منادمتي عفيف المئزر
أسعى لأدرك مجد قومٍ سادةٍ ... غمروا فطفن البيت عند المشعر
فافني خيالاً واعلمي أنّي امرءٌ ... أربى بنفسي أن يعيّر معشري
ثمّ إنّه أخبر أباه، فصوّب رأيه وقال له: يا بني إنّ لنساء الملوك طفاحاً.
فلمّا رأته قد عزفت نفسه عنها قالت: والله لا أدعه تتمتّع به امرأة أبداً.
فدسّت إليه شربةً فشربها وارتحل مع أبيه، فلمّا قدم مكّة مات فجزع عليه
عبد المطّلب جزعاً شديداً وقال يرثيه:
سقى الإله صدى واريته بيدي ... ببطن مكّة تعفوه الأعاصير
يا حارث الخير قد أورثتني شجناً ... فما لقلبي عن ذكراك تغيير
فلست أنساك ما هبت شآميّة ... وما بدا علمٌ في الآل معمور
راودته فامتنع فسمّه والدها
ولمّا قتلت بنو أسد بن خزيمة حجر بن الحارث أبا امرىءٍ القيس دار في أحياء
العرب فلم ير منهم ما يحب، فمضى حتّى قدم على هرقل ملك الرّوم، فأقام عنده
شهراً فأكرمه ونادمه، وأعجبه كماله وعقله. ثمّبعث معه ستّمائةً من أبناء
الملوك ومن تبعهم. ونظرت إليه ابنة الملك فعشقته وأرسلت إليه أن يلقاها
قبل خروجه، فجعل يعتذر لها ويعلّلها ولا يرضى أن يخون أباها فيها مع ما
فعله معه. وخرج منصرفاً إلى بلده فقالت بنت هرقل لأبيها: ما صنعت بنفسك
وجهت أبناء ملوك الرّوم مع ابن ملك العرب؟ لو قد استمكن ممّا أراد غزاك
ونزع ملكك. فوجّه إليه الملك بحلّةٍ منسوجةٍ بالذّهب مسمومةٌ فلمّا لبسها
تنفط جلده، وتساقط لحمه، فنظر إلى جبلٍ فسأل عنه، فقيل له: اسمه عسيب.
فقال:
أجارتنا إنّ المزار قريب ... وإنّي مقيمٌ ما أقام عسيب
أجارتنا إنّا غريبان ههنا ... وكلّ غريبٍ للغريب نسيب
وقيل إنّه قال هذا لأنّه رأى قبراً عند هذا الجبل فسأل عنه فأخبر أنّه قبر
امرأةٍ من بنات ملوك الرّوم. فمات هناك.
أفضل الثّلاثة: العفيف الجواد
وممّا فضل به بسطام بن قيس على عامر بن طفيل وعتبة بن الحارث بن شهاب. أنّ
بسطاماً كان فارساً عفيفاً جواداً؛ وكان عتبة فارساً عفيفاً بخيلاً؛ وكان
عامر فارساً جواداً عاهراً. فاجتمعت في بسطام ثلاث خصالٍ شريفةٍ فبذلك
فضلهما بسطام.
ساد بعفافه
قال الشّعبي تنافر عامر بن الطّفيل بن ملك بن جعفر وعلقمة بن علاثة بن الأحوص إلى هرم بن قطبة بن سنان الذّبياني حكيم العرب فقال لعلقمة: بأيّ شيءٍ أنت أسود من عامر؟ قال: أنا بصيرٌ، وهو أعورٌ، وأنا أبو عشرة وهو عقيمٌ، وأنا عفيفٌ وهو عاهرٌ.العوام أكثر النّاس عذراً
وإنّما أطلقت العرب حديث الرّجال إلى النّساء لمّا كانوا يرون من النّقص في الرّيب، ويأخذون أنفسهم بحفظ الجيران، وما يعرف بعضهم من بعضٍ من استعمال الوفاء، والتّحرّز من العار. لأنّ الرّجل منهم كان يصون حرمة جاره وصاحبه كصيانة الابنة والأخت والزّوجة من حرمه. لا يرى أحدٌ منهم لنفسه رخصةً في إضاعة ذلك، وإنّما يتحمّل الغدر، ويرخص نفسه فيه، من باين البوادي، وخالط الحضر، لأنّه رأى أجناس العبيد، وأخلاط العوام، وقد نشأوا على عادةٍ فجروا عليها ولن يستوي من كرم طبعه وصحّت بنيته وترك الفواحش وجانبها تنزّهاً عنها ولأنّها محظورةٌ عليه وغير مباحة له. وأحبّ شيءٍ إلى الإنسان ما منع عنه. فترك الأوّل طبعٌ، وترك هذا تكلّفٌ. وأمّا العوام وأخلاط النّاس فلا يكادون يتورّعون عن محرّمٍ، ولا يستحيون من عارٍ، وهم أكثر العالم غدراً.
شهادة المسح ع
قال المسيح عليه السّلام: لا يزني طرفك بما غضضت بصرك.أحبلها بنظراته
ونظر أشعث إلى ابنه يوماً وهو يديم النّظر إلى امرأته فقال له يا بني أظنّ نظرك إليها قد أحبلها. أخذ هذا بعض الشّعراء فقال:ولي نظرةٌ لو كان يحبل ناظرٍ ... بنظرته أنثى لقد حبلت منّي
رشقوها بأبصارهم فعنّفتهم
مرّت امرأةٌ بقومٍ من بني نمير فرشقوها بأبصارهم وأداموا النّظر إليها، فقالت: قبّحكم الله يا بني نمير، فوالله ما أخذتم بقول الله تبارك وتعالى: " قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " ولا بقول الشّاعر:
فغضّ الطّرف إنّك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فخجل القوم ممّا قالت وأطرقوا.
أربعٌ لا يشبعن من أربع
وكان يقال: أربعٌ لا يشبعن من أربع: عينٌ من نظر، وأذنٌ من خبر وأرضٌ من مطر، وأنذى من ذكر.
يخاف عينيها
قال إسحاق بن بهيل: رأيت رجلاً في طريق مكّة وعديله في المحمل وجاريةٍ قد شدّ عينيها وكشف سائر وجهها فقلت له في ذلك، فقال: إنّما أخاف عينيها لا عيون النّاس.حلقت شعرها لأنّه رآه خصي
وكان عند بعض القرشيين امرأةٌ عربيّةٌ فدخل عليها خصي لزوجها وهي واضعةٌ خمارها تمشّط شعرها، فحلقت شعرها، وقالت: لا يصحبني شعرٌ نظر إليه غير ذي محرّمٍ منّي.
الزّنا ليس فقط بإجهاد النّفس
وقال رجلٌ لأعرابي: ما الزّنا عندكم؟ قال: النّظرة، والقبلة. قيل له: ليس هذا الزّنا عندنا! قال: وما هو؟ قال: أن يجلس بين شعبها الأربع ثمّ يجهد نفسه. قال: بأبي أنت، ليس هذا زانياً هذا طالب ولد!.
ليلة الدّير وما ليلة الدّير؟
قيل لأبي الطّمحان القبني: أخبرنا عن أقبح ذنوبك؟ قال: ليلة الدّير. قيل: وما ليلة الدّير؟ قال: نزلت على نصرانيّةٍ فأكلت طفشلاً بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت.
لو تمرّست به ما استعصمت
وقال الجاحظ: قرأ قارىء: قالت فذلكنّ الذي لمتني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. فقال إبراهيم بن عزوان: لا والله ما سمعت بأعدل من هذه الفاسقة، أمّا والله لو تمرّست بي ما استعصمت.
منعه ثلاثةٌ عندها
بات أعرابيٌّ ضيفاً لبعض الحضر فرأى امرأته، فهمّ أن يأتي إليها في الليل فمنعه الكلب؛ ثمّ أراد ذلك مرّةً أخرى، فمنعه ضوء القمر؛ ثمّ أرادت ذلك في السّحر، فإذا عجوزٌ قائمةٌ تصلّي. فلمّا رأى ذلك قال:
لم يخلق الله شيئاً كنت أبغضه ... غير العجوز وغير الكلب والقمر
هذا يبوح، وهذا يستصاء به، ... وهذه سبحةٌ قوّامة السّحر
عيدان القيان أجمل
وصف أعرابيٌّ رجلاً ماجناً فقال: والله لو أبصرته عيدان القيان لتحرّكت أوتارها، ولو رأته مومسةٌ لطار خمارها.بغت ثلاث مرّاتٍ
وحكى خريدة بن أسماء، قال: حججنا، ونحن في رفقةٍ، إذ نزلنا
منزلاً ومعنا امرأةٌ نامت ثمّ انتبهت وحيّةٌ على عنقها لا تضرّها بشيءٍ،
فلم يجترىء أحدٌ منّا أن ينحيها عنها، فلم تزل كذلك حتّى أبصرت الحرم
فانسابت ومضت عنها، فحمدنا الله ودخلنا مكّة فقضينا نسكنا، ورأى الغريض
المغنّي المرأة وقد سمع الحديث وما تحاكاه النّاس عنها فقال لها: يا شقيّة
ما فعلت حيّتك؟ قالت: في النّار. قال: ستعلمين في النّار. قال فضحكت
المرأة ولم تفهم ما أراد وارتحلنا منصرفين حتّى إذا كنّا بالموضع الذي حين
نزلناه جاءت الحيّة حيث انسابت وتطوّقت عليها، فلمّا تألّمت المرأة
عرفتها، ثمّ صفّرت الحيّة، فإذا الوادي يسل علينا من جنباته حيّاتٍ،
فنهشتها حتّى بقيت عظاماً ونحن نرى ذلك. ثمّ انصرفنا جميعاً فقلنا للجارية
التي معها: ويحك خبّرينا بخبر هذه المرأة، فقد والله رأينا منها عجباً؟
قالت: نعم بغت ثلاث مرّاتٍ، تلد في كلّ مرّةٍ غلاماً، فإذا وضعته حمت
تنّوراً ورمته فيه وتكتم خبره. قال: فقلت سبحان الله ما أعجب هذا. وذكرت
قول الغريض لها ستعلمين من في النّار، فزادنا ذلك تعجّباً منها.
على غير ذنبٍ جناه
قال أحمد بن يحيى: كان مرثد، عمّ عمرو بن قميئة الشّاعر، عنده امرأةٌ
جميلةٌ، وكان قد كبر، وكان يجمع بني أخيه وبني عمّه في منزله للغداء كلّ
يومٍ. وكان عمرو بن قمية شابّاً جميلاً، وكانت أصبع رجله الوسطى والتي
تليها مفترقتين. فخرج مرثد يرمي بالقداح، فأرسلت امرأته إلى عمرو بن
قميئة: ابن عمّك يدعوك. فجاءت به من دير البيوت، فلمّا دخل عليها لم يجد
عمّه فأنكر أمرها، فراودته عن نفسها، فقال لها: لقد جئت بأمرٍ عظيمٍ، وما
كان مثلي يدعى لمثل هذا! قالت: لتفعلنّ ما أقول لك أو لأسوأتك. قال: إلى
المساءة دعوتني! ثمّ أنّه قام فخرج. وأمرت بجفنةٍ فكبّت على إثر رجله
فلمّا رجع مرثد وجدها متغضّبةً فقال لها: ما لك؟ قالت: إنّ رجلاً من قومك
قريب القرابة جاء يستامني نفسي ويريد فراشك منذ خرجت. قال: ومن هو؟ قالت:
أمّا أنا فلا أسمّيه، ولكن قم فاقتف أثره تحت الجفنة. فلمّا رأى الأثر
عرفه فأعرض عنه وجفاه، ولم يزده على ذلك، وكان أعجب الخلق إليه. وعرف ابن
قميئة ذلك وكره أن يخبره فقال:
لعمرك ما نفسي بجدٍّ رشيدةٍ ... تؤامرني شرّاً لأصرم مرثدا
عظيمٌ رماه القدر لا متعبّسٌ ... ولا مؤيس منها إذا هو أخمدا
فقد ظهرت منه بوائق جمّةً ... وأفرغ في لومي مراراً وأصعدا
على غير ذنبٍ أن أكون جنّيّته ... سوى قول باغٍ جاهد فتهجّدا
وبلغت الأبيات مرثداً فكشف عن الأمر حتّى تبين له، فطلّق امرأته وعاد على
ما كان عليه لابن أخيه.
الله يعلم شأن ذاك الجار
وذكر هشام بن محمّد الكلبي، عن الحصين بن لبيد قال: كان الحطيئة نازلاً في بني المسند من بني ضبّة فرأى لبنة بنت قرطة أخت العلاء، وكانت فاسدةً، فأعجبته فكلّمها فأجابته، فوقع عليها، فحملت منه. ثمّ ارتحل الحطيئة، فلمّا بان حملها، زوّجها العلاء بن غالب بن صعصعة فولدت الفرزدق على فراشه فنسب إليه. ففي ذلك يقول جرير بن الخطفي.كان الحطيئة جار أمّك مرّةً ... والله يعلم شأن ذاك الجار
لا تفخرنّ بغالبٍ ومحمّدٍ ... وافخر بعبس يوم كلّ فخار
اختبره ونفاه
قال: وقدم الفرزدق على عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فأكرمه وأحسن ضيافته. فبلغه أنّه زانٍ أن يختبر ذلك، فقال لجاريةٍ له: انطلقي إلى الفرزدق، وعمر في حجرةٍ له ينظر ما يصنع الفرزدق، فأتته الجّارية بالغسل والدّهن، وذهبت لتغسل رأسه، فوثب عليها فركضته وقالت: لعنك الله من شيخ. ثمّ خرجت فأتت عمر فأخبرته فنفاه من المدينة. وقال جرير:نفاك الأعزّ بن عبد العزيز ... وحقّك تنفى من المسجد
فقال الفرزدق:
فأوعني وأجلّني ثلاثاً ... كما وعدت بمهلكها ثمود
ودخا الفرزدق يوماً على سليمان بن عبد الملك، وهو خليفةٌ، فقال: أنشدني يا أبا فراس! فأنشده قصيدته حتّى بلغ إلى قوله:
خرجن إليّ لم يطمثن قبلي ... فملن أصحّ من بيض النعام
فبتن بجانبي مصرعاتٍ ... وبت أفض أغلاق الختام
قال ما لم يفعل
فقال له سليمان: ما أظنّك يا أبا فراسٍ إلاّ قد أحللت نفسك، أقررت عندي بالزّنا، وأنا إمامٌ، ولا بدّ من إقامة الحدّ عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحللت نفسي إن كنت تأخذ بقول الله وتعمل به. قال سليمان: فبقول الله نأخذ عليك الحد. قال الفرزدق: فإنّ الله يقول: " والشّعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون، وإنّهم يقولون ما لا يفعلون " . وأنا، يا أمير المؤمنين، قلت ما لم أفعل. فتبسّم سليمان، وقال: تلافيتها يا أبا فراس، ودرأت الحدّ عن نفسك. وخلع عليه، وأمر له بجائزة.طلب غنيمةً فوجد أيراً
قال أبو عبيدة: هوى أبو العبّاس الأعمى امرأةً ذات بعلٍ فراسلها فأعلمت زوجها، فقال لها: أطمعيه. فأطمعته، ثمّ قال: أرسلي إليه فليأتك. فأرسلت إليه، فأتاها، وجلس زوجها إلى جانبها، فقال لها أبو العبّاس: إنّك وصفت لنا فألمسينا. فأخذت يده فجعلتها على أير زوجها وقد أنعظ، فنثر يده وعلم أنّه قد كيد، فخرج من عندها وقال:
أتيتك زائراً فوضعت كفّي ... على أيرٍ أشدّ من الحديد
عليّ أليّة ما دمت حيّاً ... أمسّك طائعاً ألا أعود
فخيرٌ منك من لا خير فيه ... وخيرٌ من زيارتكم قعودي
طيّبة عليه حراماً
وكان بشّار الأعمى يرتع، فبلغ امرأته ذلك، فعاتبته مراراً فحلف لها. وإنّها سألت عن المكان الذي يمضي إليه فدلّت على امرأةٍ تجمع بين النّساء وبين الرّجال، فبذلت لها شيئاً وسألتها إذا جاءها بشّار أن تبعث إليها. ففعلت، وقالت: أبشّار قد وقعت اليوم امرأة من أجمل النّساء ووصفتها له فطرب إليها، فلمّا خلا بها وخالطها ضربت بيديها في لحيته وشتمته، وقالت: أين إيمانك الفاجرة؟ فقال لها: لعنك الله ألا تركتني حتّى أقضي حاجتي، فوالله ما رأيت أبرد منك حلالاً، ولا أطيب منك حراماً! !
زوجة الرّشيد ومخارق
قال إسحاق بن إبراهيم: كان مخارق يهوى البهار جارية أمّ جعفر وشغف بها حتّى أفضى غايته في حبّها. فبينما هو منصرفٌ ذات ليلةٍ من دار المأمون في دجلة، وقد عمل الشّراب فيه، وأمّ جعفر جالسة في دارها على دجلة إذ رفع عقيرته يغنّي شعر عبّاس بن الأحنف:
إن يمنعوني ممرّي قرب داركم، ... فسوف أنظر من بعدٍ إلى الدّار.
ما ضرّ جيرانكم، والله يكلؤهم، ... لولا شقائي إقبالي وإدباري
لا يقدرون على منعي، وإن جهدوا ... إذا مررت، وتسليمي بإجهاري.
فسمعت أمّ جعفر صوته فأمرت خدّامها فصاحوا بملاحة فقدم وصعد إليها، فدعت له بكرسيٍّ وصينيّةٍ فيها نبيذٌ فشرب، وخلعت عليه وقالت لجواريها: أضربن معه. فكان أوّل ما تغنّى به:
أغيب عنك بودٍّ لا يغيره ... نأي المحلّ ولا صرفٌ من الزّمن
فإن أعش فلعلّ الدّهر يجمعنا ... وإن أمت فبطول الشّوق والحزن
قد حسّن في عينيّ ما صنعت ... حتّى أرى حسناً ما ليس بالحسن
قال، فاندفعت البهار تباريه في الصّوت وتغنّي:
تعتلّ بالشّغل عنّا لا تكلّمنا ... والشّغل للقلب ليس الشّغل للبدن
فضحكت أمّ جعفر، وقالت، ما رأيت ولا سمعت قط بأحسن من هذا. ووهبت له الجّارية فأخذها وانصرف.
أخذ الجّارية والعتيدة والدّنانير
قال إبراهيم بن الخطيب: حدّثني مخارق قال: كنت عند الرّشيد فلمّا
أراد الانصراف قال لي: يا مخارق بكّر عليّ. فقلت: نعم يا أمير المؤمنين.
فلمّا أصبحت بكّرت أريد ما ذكره، فإذا جارية راكبة وهي أحسن النّاس عينين
في النّقاب، فنظرت إليها، ونظرت إليّ، فلم أملك نفسي وتعشّقتها وتبعتها
حتّى دخلت منزل المعبدي الهاشمي، فقلت لغلماني: إذا كان المغرب فصيروا
إليّ، فإذا كنت في الدّنيا خرجت إليكم، وإذا كنت متّ فقد قضيت وطراً. قال:
واقتحمت ودخلت الدّار، فإذا جماعةٌ مجتمعون وقد أحضروا طعاماً فأكلت معهم،
وأحضر الشّراب، وغنّت الجّارية فإذا هي أحذق النّاس وأطيبهم، فغنّيت، فقال
المعبدي: ما أحسنه وأبهاه، فمن هو؟ فقال له القوم: ما نعرفه. فقال: ما
أظرف هذا يدخل منزلي بغير أمري أبغوا إليّ صاحب الشّرطة. وكلّ ذلك بمسمعي،
قالت الجّارية: يا مولاي لا تفعل، لعلّ له عذراً. فبحياتي هب لي جرمه فقد
رحمته، وأحسب أنّ هذه صناعته. قال: فطابت نفسي فلمّا خرجت قال لي: يا فتى
تغنّي؟ فقلت: نعم. فغنّيت، فطرب القوم وقال المعبدي: إن كان في الدّنيا
مخارق فأنت هو! قلت: نعم أنا مخارق وحدّثته حديثي والسّبب في دخول منزله،
فسرّ وفرح ودعا بدواةٍ وقرطاسٍ وأقبل يكتب ويعود إليه الجواب، ثمّ وزن
مالاً ووجّه به.
فلمّا كان بالعشيّ قال: يا غلام هات تلك العتيدة. فأحضر عتيدةً مملوءةً
طيباً، وقال: هات ذلك التّخت. فأحضره إيّاه، فقال: أتدري ما نحن فيه: قلت:
لا. قال: قد اشتريت لك الجّارية بأربعين ألف دينار، وهذه عتيدةٌ فيها طيب،
وتخت ثياب. فأخذت بيدها وانصرفت بها عروساً، فلمّا أصبحت بكّرت على
الرّشيد فقال لي: يا ابن الفاعلة أين كنت؟ فحدّثته الحديث فسرّ به، وقال:
ما توهّمت أنّ في أهلي مثل هذا. وأمر من ساعته أن يحمل إليه أربعون ألف
دينار.
أخذ الجّارية لشعره وأدبه
وكان ليوسف بن القاسم، وهو أبو أحمد بن يوسف، وزير المأمون، غلامٌ أسودٌ
متأدّبٌ نشأ في الأعراب فهوى جاريةً لرجلٍ قرشيٍّ، فشكاه القرشيّ لمولاه،
فضربه وحبسه، وحلف أن لا يطلقه إلاّ بعد شفاعة من شكاه، فقيل له: ويحك
أتحبّك كما تحبّها؟ فقال:
كلانا سواءٌ في الهوى غير أنّها ... تجلد أحياناً وما بي من تجلّد
تخاف وعيد الكاشحين وإنّما ... جنوني عليها حين أنهي وأوعد
فبلغ مولاه شعره فقال: وإنّ فيه لهذا الفضل! فركب من وقته إلى القرشيّ
فقال له: أسألك أن تبيعني هذه الجّارية بأيّ ثمنٍ شئت. فقال: ما أفعل حتّى
أعرف السّبب في ذلك. فعرّفه الخبر وأنشده البيتين، فقال: أشهدك إنّي قد
وهبت له الجّارية، وأنا أعطي الله عهداً أن أخذت لها ثمناً أبداً، لشفاعتك
وأدب الغلام. ووجّه الجّارية معه فدفعها إلى الغلام.
المتوكّل يعيش همّ المحبّين
قالوا كان المتوكّل جالساً يوماً في القصر الذي يقال له المختار إذ مرّ
خادمٌ أسودٌ لفتيحة مبادراً يريد الدّخول إلى دار النّساء، فسقط منه كتابٌ
مختومٌ، فأمر من جاءه بالكتاب وفتحه فإذا فيه مكتوبٌ:
أكثري المحو في الكتاب ومحّه بريق اللسان لا بالبنان
وأمرّي الختام فوق ثنايا ... ك العذاب المفلجات الحسان
إنّني كلّما مررت بحرفٍ ... فيه محوٌ لطعته بلساني
فأراها تقبيلة من بعيدٍ ... أهديت لي وما برحت مكاني
فقال: يا فتح ما ترى؟ قلد اجترأ ليّ من كتب هذا الشّعر! عليّ بالخادم.
فأتي به، وقد علم الخادم إنّ الكتاب سقط منه فطار عقله خوفاً ورعباً، فقال
له: من دفع هذا الكتاب إليك وأنت آمن؟ فإن صدقت نجوت، وإن لم تصدق ضربت
عنقك. قال: يا مولاي إنّ لمولاتي فتيحة وكيلاً يتصرّف في أمرها من أبناء
البرامكة وهو يحبّ جاريتها نسيم الكاتبة، وأنا أسعى بينهما بالكتب التي
يتكاتبان بها. فقال له: امض بلا خوف عليك. ثمّ قام المتوكّل فدخل على
فتيحة وقال لها خذي في أمر جاريتك نسيم الكاتبة فإنّي قد زوّجتها من فلان
وكيلا وأنقدت عنه عشرة آلاف درهمٍ. وأمر بإحضار الوكيل فقال له: هل لك في
نسيمٍ؟ فذهب عقله، وطار قلبه، وخاف خوفاً شديداً، فقال له: تكلّم وأنت
آمن، فقد زوّجتك بها، ومهرتها عشرة آلاف درهمٍ وأمرت لا بعشرة آلاف تولم
بها. وسأل فتيحة تعجيل زفافها إليه ففعلت.
خدعها القوّاد
وحكى الهيثم بن عدي، عن ابن عبّاس، قال: كانت عاتكة بنت يزيد بن
معاوية تحت عبد الملك بن مروان، وكان يجد بها ويحبّها حبّاً شديداً، فغضبت
عليه، فطلب رضاها بكلّ أمرٍ، فأبت حتّى أضرّ به ذلك وشكا إلى خاصّته. فقال
له عمر بن الأسدي: ما لي إن أرضيتها؟ قال له: حكمك. قال، فخرج فأتاها وجلس
بين يديها يبكي. فقال له حاضنتها: ما لك يا أبا حفص؟ قال: لقد جئت إلى بنت
عمّي في أمرٍ مهمٍّ عظيمٍ، فاستأذني لعلّها تقضي حاجتي. فقالت: ما بالك؟
فقال لها: قد عرفت حالي مع أمير المؤمنين عبد الملك، ولم يكن لي غير
ابنين، فتعدّى أحدهما على الآخر فقتله. فقلت: أنا وليّ الدّم وقد عفوت.
فقال أمير المؤمنين: ما أحبّ أن أعوّد رعيّتي هذا. وهو قتله بالغداة
فنشدتك الله ألا كلّمته فيه، وسألته في إبقائه لي، فإنّك تجمعين في ذلك
إحياءه وإحياء نفسي. فإنّه إن قتله قتلت نفسي. فقالت: ما أكلّمه. فقال
لها: ما أظنّك تكسبين شيئاً أحبّ من إحياء نفسين. . . وبكى بكاءً شديداً:
فلم يزل بها صواحبها وخدمها وحاشيتها حتّى قالت: عليّ بثيابي. فلبست، وكان
بينها وبينه بابٌ قد ردمته. فأمرت بفتحه ثمّ دخلت. فأقبل أحد الغلمان
فقال: يا أمير المؤمنين هذه عاتكة. قال: ويلك رأيتها؟ قال: نعم يا أمير
المؤمنين. وإذا هي قد أقبلت وعبد الملك على سريره. فسلّمت، فسكت، فقالت:
أمّا والله لولا مكان عمر ابن بلال ما فعلت، ولا أتيتك والله. إن عدا أحد
بنيه على الآخر فقتله، وهو الوليّ وقد عفا عنه، لتقتله؟ قال: أي والله،
وهو راغمٌ. قالت: أنشدك الله أن لا تفعل. فدنت فأخذت بيده،فأعرض عنها،
فأخذت أرجله فقبّلتها، فأكبّ عليها وضمّها إلى نفسه ورفعها إلى سريره،
وقال: قد عفوت عنه. فتراضيا.
وراح عبد الملك فجلس مجلس الخاصّة، فدخل عمر بن بلال، فقال: يا أبا حفص
ألطفت الحيلة في القيادة فلك حكمك! فقال: يا أمير المؤمنين، ألف دينارٍ
ومزرعة بما فيها من الرّقيق والآلة. قال: هي لك. قال: ومرابض لولدي وأهل
بيتي. قال: وذلك كلّه لك. . . وبلغ عاتكة الخبر فقالت: ويلي على القوّاد
خدعني.
حسب الاتّفاق بعد حين
ويروى أنّ معاوية بن أبي سفيان، رحمه الله، رأى، كاتباً له يكلّم جاريةً
لامرأته فاختة بنت قريظة، في بعض طرق داره، فقال له: أتحبّها؟ قال: أي
والله، يا أمير المؤمنين. قال: أخطبها من فاختة. فخطبها. وكلّم معاوية
فاختة فأجابته، فزوّجها منه، فدخل معاوية وبين يديه عتيدة من العطر لعرس
جاريتها، فقال: هوّني عليك يا بنت قريظة، إنّي أحسب الاتّفاق كان بعد حين.
يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام
قال عمر بن شبّة: كان الأحنف بن قيس يوماً جالساً مع معاوية،إذ مرّت بهما
وصيفة فدخلت بيتاً من البيوت، فقال معاوية: يا أبا بحر، أنا والله أحبّ
هذه الجّارية وقد أمكنتني منها لولا الحياء من مكانك. فقال الأحنف: فأنا
أقوم. بل تجلس لئلّا تستريب بنا فاطمة. فقال الأحنف: شأنك. فقام معاوية
إليها. فبينا هو يماجنها إذ خرجت بنت قريظة فقالت للأحنف: يا قوّاد، أين
الفاسق. فأومأ الأحنف إلى البيت الذي هو فيه، فأخرجته ولحيته في يدها،
فقال لها الأحنف: أرفقي بأسيرك، رحمك الله. فقالت: يا قوّاد، وتتكلّم
أيضاً؟ فقال معاوية: يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام.
ثقبها ثقب اللؤلؤ
قال ابن شبّة: كانت بالمدينة امرأةٌ يقال لها صهباء، من أحسن النّاس: وكانت من هذيل. وكانت رتقاء. فتزوّجها ابن عمٍّ لها. فمكث حيناً لا يقدر عليها لشدّة ارتقاقها، فأبغضته بغضاً شديداً، فطلبت منه الطّلاق فطلّقها. ثمّ إنّه أصاب أهل المدينة مطرٌ شديدٌ، في الخريف، وسيلٌ عظيمٌ. فخرج أهل المدينة، وخرجت صهباء مع أهلها، وخرج ابن جحشٍ وأصحابٌ له للنزهة. فلمّا انتصف النّهار وخلا الوادي، خرجت صهباء واستنقعت في السّيل، وخرج ابن جحشٍ ولم تشعر به صهباء، فرآها وأحبّها وتهالك عليها.وكان بالمدينة دلّالةٌ على النّساء يقال لها قطبة. وكانت تداخل
القرشيين بنسائهم: فلقيها ابن جحشٍ فسألها عن صهباء فقال: اخطبيها عليّ.
قالت: قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد الله، وأنعم له بها أهلها ولا أراهم
يتخطّون عيسى إليك. . فشتمها ابن جحشٍ وقال: كلّ مملوكٍ لي حرٌّ لوجه الله
إن تحتالي فيها حتّى أتزوّجها، لأضربنّك ضربةً بالسّيف - وكان مقداماً
جسوراً - ففزعت منه فدخلت على صهباء وأهلها، فتحدّثت معهم، ثمّ ذكرت ابن
عمّها، فقال لعمّة صهباء: ما باله فارقها؟ فأخبرتها خبره فأصغت إلى عمّتها
فقالت لها، وأسمعت صهباء: أمّا والله لو كان ابن جحشٍ لنقبها نقب اللؤلؤة.
ثمّ خرجت من عندهم.
فأرسلت إليها صهباء أن مري ابن جحشٍ فليخطبني. فلقيت قطبة ابن جحشٍ
فأخبرته الخبر. فخطبها، فأنعمت له، وأبى أهلها إلاّ عيسى بن طلحة. وأتت
صهباء إلى ابن جحشٍ فتزوّجها وأفتضها من ساعته. وفيها يقول:
دار الصّهباء الذي لا ينتهي ... عن ذكرها أبداً ولا ينهاها
صفراء يطويها الضّجيع لطافةً ... طيّ الجمانة ليّناً مثناها
نعم الضّجيع إذا النّجوم تغوّرت ... بالقرب أخراها على أولاها.
ألحقوا النّساء بأكفائهنّ
قالوا: كان رجلٌ من تجّار أهل المدينة من ذوي النّعمة، في ليلةٍ من شهر
رمضان، في المسجد يصلّي إذ عرض له في منزله بعض الأمر. فانصرف من
التّراويح فأصاب بابه مفتوحاً، وإذا رجلٌ مع ابنته في محلّها يحدّثها.
فأخذ بيده وذهب به إلى منزل ابن أبي عتيق. فدقّ عليه، فأشرف عليه، فقال:
أردت أن أكلّمك، جعلت فداك. قال، فانحدر إليه فقال له: إنّ هذا الفتى
وجدته في منزلي على حال كذا. فسألته فزعم أنّه ابنك. فأقبل ابن عتيقٍ فأخذ
بيد التّاجر فشكره وجزاه خيراً، وقال: لن يعود إلى شيءٍ تكرهه أبداً إن
شاء الله. فأخذ الفتى ولكزه وشتمه. فلمّا ولّى الرّجل قال للفتى: من أنت
ويلك؟ قال: أنا ابن فلانٍ التّاجر وابتليت بابنة هذا التّاجر فدخلت عليها
هذه الليلة أتحدّث عندها. فما راعني إلاّ أنّه واقفٌ على رأسي. فلم أجد
ملجأً إلاّ أن اعتزيت إليك، لمّا علمت من قدرك وشرفك وكرمك. قال: أخبرني
عن الجّارية، أتحبّك؟ قال: نعم. قال: فهل يمكنك أن تأتي بها إلى منزلي
هذا؟ قال: نعم. قال: فعدها وأت بها. وأمر غلاماً له، وقال: إذا جاءت
المرأة التي يأتيك بها هذا الفتى فأدخلها، واجلس أنت مع الفتى، وأرسل إليّ
من يعلمني. ففعل الفتى، وأتى بالجّارية إلى المكان. وأرسل إلى ابن أبي
عتيقٍ فعرّفه. فأرسل إلى أبي الجّارية: إنّك اصطنعت إلى فتانا يداً، وقد
أحببنا أن نصنع إليك مثل ذلك في فتاتكم.
فأدخله عليها، فلمّا رآها استرجع، فقال له ابن أبي عتيقٍ: ما هذا؟ أهون
عليك هذا الأمر وأقبل وصيّة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، حين قال: "
ألحقوا النّساء بأكفائهنّ " . إنّ هذا الفتى ليس والله بولدي، ولكن هو قد
انتسب إليّ لما أدرك من النّجاة منك، وهو فلان ابن فلان التّاجر، وهو من
نظرائها وأكفائها. فهل لك أن تزوّجه إيّاها وأصدقها عنه من مالي مائة
دينارٍ. قال: نعم.
ولم يبرحوا حتّى زوّجها منه وأصدقها وأخرج المهر من عنده، وسأله التّعجيل
بزفافها إليه.
أحييت نفسي بقتل نفسك
وحكي عن ابن أبي ورقاء الجبلي قال: خرجت من الكوفة أريد بغداد. فلمّا صرت بأوّل مرحلةٍ نزل غلماننا ففرشوا بسطهم، وهيّأوا عداءهم، ونزلت. ولم يجء أحدٌ بعد. فرمانا الطّريق برجلٍ حسن الهيئة، فاره البرذون فصمت بالغلمان. فأخذوا دابّته. ودعوت بالغداء فبسط يده غير محتشمٍ. وجعلت لا أكرمه بشيءٍ إلاّ قبله. وكنّا كذلك ساعةً، إذ جاء غلمانه. ثمّ تناسبنا فقال الرّجل: أتا طريح بن إسماعيل الثّقفي. فلمّا ارتحلنا كنّا كذلك في قافلةٍ لا تدرك طرقها. فقال لي طريح: ما حاجتنا إلى زحمة النّاس، وليست بنا إليهم وحشة ولا مخافة. فتأخّر بنا بعد القوم. فنزلنا إلى جانب نهرٍ مظللٍ بالشّجر فتغدّينا ثمّ قمنا إلى النّهر نستنقع فيه. فلمّا نزع ثيابه إذ آثار داهيةٍ في جنبيه يلج فيها الكف، فوقع في نفسي منه شيءٌ، فنظر إليّ وفطن وتبسّم، وقال لي: قد رأيت عجباً منك لما رأيت ما بي وأنا أحدّثك حديثه إذا سرنا العشيّة.فلمّ ركبنا قلت له: الحديث؟ قال: نعم، قدمت من عند الوليد بن
يزيد بالدّنيا وما فيها، وركبت إلى يوسف بن عمر، مع قرابتي منه، فملأ يدي.
فخرجت من عنده إلى الطّائف. فلمّا اشتدّ بي الطّريق، وليس يصحبني فيه خلق،
عنّ لي أعرابيٌّ على قعودٍ له، وهو حسن الحديث قد روى الشّعر، وأنشدني
لنفسه. فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: لا أدري والله. قلت: فإلى أين يمّمت؟
قال: لا أدري والله. قال، فقلت: ما قصّتك؟ فقال: أنا عاشقٌ بجارية من
قومي، قد أفسدت عيشتي وتلفت، فأنا أستريح بأن أنحدر في الطّريق مع
منحدريه، وأصعّد مع مصعّديه. قال، فقلت له: وأين هي؟ قال: غداً تنزل
بإزائها. وأخذ يحدّثني بحديثه معها.
فلمّ جئنا إلى الموضع قال لي: انزل ذلك المكان فإنّها عنده منقطعةً.
فأدركتني أريحيّة الحداثة، وأخذت منه علامة ما بينهما، وقصدت حيث أشار
إلي. فإذا ببيتٍ جديدٍ على الطّريق، وإذا امرأةٌ جميلةٌ حديثةٌ ظريفةٌ.
فذكرته لها ووريت رسالته وأمارته. فزفرت زفرةً كادت تتفتت أضلاعها، وقالت:
أو حيٌّ هو؟ قلت: نعم تركته في رحلي وراء هذا الجبل ونحن بايتون ومصطحبون
قالت: فإنّي أرى لك وجهاً يدلّ على الخير، فهل لك في الأجر؟ فقلت:فقيرٌ
إليه. قالت: فالبس ثيابي وادخل في أريكتي ودعني حتّى آتيه. فإنّك تحيي
نفسين، وتغنم أجراً عظيماً. قلت: أفعل ما تريدين. قالت: إنّك إذا أصبحت
أتاك زوجي في هجعته فقال يا فاجرة، فأوسعك شتماً، فأوسعته صمتاً ولا تجعل
إنّك سمعته فإنّ يقول في آخر كلامه: اقمعي سقاك يا عدوّة. فضع المقمع في
ذلك السّقاء الأخر فإنّه منخرق. قال: ومضت. فجاء زوجها ففعل ما قالت. وقال
إقمعي سقاك فحببني الله أن تركت الصّحيح وقمعت الواهي، فما شعر إلاّ
واللبن يتسيّب بين رجليه. فعدا إلى زاوية البيت فتناول حبلاً ثمّ ثناه على
اثنين فصار على ثمانٍ، فجعل لا يتّقي بع رأساً ولا وجهاً ولا جنباً فخشيت
أن يبدو له وجهي فألزمته الأرض، فعمل بجنبي وظهري ما ترى، ومضى عنّي.
فلمّ كان الصّباح جاءت فرأت ما حلّ بي من الشّرّ فأكبّت عليّ وقالت: بأبي
أحييت نفسي بقتل نفسك. ودخلت تعتذر وتتلهّف لما بي، وتدعو لي وتتضرّع.
فأخذت ثيابي وانصرفت ولا يعدل ظفرهما عندي شيء.
طلّق لبنى وزوّجها لقيس
قد قدمنا في أخبار قيس بن ذريح كيف كان سبب تطليقه لبنى وندمه عليها ثمّ
ساءت حاله، ولف عقله، واشتدّ مرضه، وأشرف على حتفه. فقال أهله: لو
زوّجتموها إيّاه ليئس منها، وسلا عنها. فخطبها رجلٌ من قريش وحكم أباها في
المهر. فزوّجه إيّاها، فحملها معه إلى المدينة. فقال قيس:
وقالوا تراها فتنةً كنت قبلها ... بخيرٍ، فلا تندم عليها وطلّق
فليت، وبيت الله، أنّي عصيتهم ... فأنبت في رضوانها كلّ مونق
وكلّفت خوض النّار سبعين حجّةً ... وكنت على أثباج بحرٍ مغرّق
كأنّي أرى النّاس المقيمين بعدها ... نقاعة ماء الحنظل المتغلّف
وتكره عيني بعدها كلّ منظرٍ ... ويكره سمعي بعدها كلّ منطق.
قال: وخرج أبي عتيق يريد العمرة. فنزل بحيّ قيس بن ذريح فسألهم
عنه، فقال: دلّوني عليه. فدلّوه فلمّا رآه قيس أقبل عليه ورحّب به وقال:
من أنت، حيّاك الله وعافاك؟ قال، فانتسب له ابن عتيقٍ وقال له: بيّن حديثك
لي تجدني معيناً لك على أمرك إن شاء الله. فاستحى قيس من ذلك وامتنع
ساعةً، ثمّ جعل يحدّثه حتّى بلغ إلى خبر القرشي. فقال:يا هذا، إنّي خرجت
من منزلي أريد العمرة التماساً للثّواب. وقد عزمت، عندما سمعت، أن أترك ما
خرجت إليه فارجع معك احتساباً للأجر، فبكّر فامض معي أيّها الرّجل، وأكتم
شأنك، ولا يعلم أحدٌ من أهلك. فحمله معه وأقبل راجعاً نحو المدينة
فاستقبله أهله وإخوانه يسألونه عن سبب رجوعه. فجعل يعتذر وهو يقول لهم:
عاقني عن ذلك عائقٌ. وأخفى قيساً في منزله أيّاماً ثمّ سأل عن منزل القرشي
فدلّ عليه. فبعث مولاة له عجوزاً إلى لبنى تخبرها بقيس وبما صار له من
عشقها. فقالت: يعزّ عليّ، وما حيلتي له. أطاع أباه وفارقني في غير جرمٍ.
وقد صرت الآن عند غير هولا سبيل لي على نفسي. وإنّ كبدي عليه لحرّا، وإنّ
عيني لغبرا مذ فارقته وإنّها لمّا علمت بمكانه إشتدّ ولهها حتّى أنكر
زوجها شأنها فسألها عن خبرها وهل رأت شيئاً تنكره. فجعلت لا تجيب جواباً.
وجعل يعتذر إليها، فقال لها: ما أراك إلاّ ذكرت قيساً. فقالت له: هيهات
وأين أنا من قيس، وأين قيس منّي؟ أله عن هذا الحديث.
قال: وبلغت العجوز ابن أبي عتيق ما سمعت من لبنى فقال لها: عودي إليها
فقولي لها: إن كنت على العهد فإنّك ستصلين إلى ما تريدين. قالت: أي والله
لا أزال على عهده مقيمةً أو يفارق روحي جسدي؛ ولا أكافئه بسوء فعل كان منه
إليّ.
قال: وأقبل ابن أبي عتيق ومعه جماعة من أشراف قريشٍ وغيرهم حتّى أتوا منزل
القرشي زوج لبنى فأكبر مجيئهم. فقالوا: إنّا جئناك في حاجةٍ ولا سبيل إلى
ردّنا عنها. قال لهم: قضيت حاجتكم.قال ابن عتيق: كائنة ما كانت؟ قال له:
نعم. قال فإنّ حاجتنا أن تجعل أمر لبنى في يدي. قال القرشي: وهل رأيت
أحداً سأل مثل هذا؟ قال: فهي حاجتنا، وقد جئت إليها. قال:فإنّي قد فعلت.
قال: فيشهدون عليك أنّ أمرها في يدي. قال: نعم. قال ابن عتيق: فأشهدوا
إنّها طالقٌ ثلاثاً. قال: قد أجزت: قال: فما برحوا حتّى نقلها ابن أبي
عتيق إلى منزله. فلمّا انقضت عدّتها زوّجها من قيس وأصدق عنه وجهّزها
بأحسن جهاز، وحملها معه إلى منزله. فما لبثت عنده إلاّ يسيراً حتّى نهشته
الأفعى كما قدّمنا في حديثه فمات وماتت بعد.
هكذا رواه أحمد بن أبي طاهر. ولست أدري صحّة هذا الحديث، لأنّا كنّا
قدّمنا في حديثه ما يخالف هذا من أنّه لم يتزوّج بها ثانياً.
مكر به في امرأته
حكى الهيثم بن عدي، عن الكلبي قال: كان ملك النّعمان بن المنذر أربعين سنةً لم ير منه في ملكه سقطةً غير هذه: وذلك أنّه ركب يوماً فنظر إلى امرأةٍ خارجةٍ من الكنيسة فأعجبه جمالها وحسنها وهيئتها فقال: علي بعدي بن زيد، وكان كاتبه وخاصّته فقال له: يا عدي، قد رأيت امرأةً لئن لم أظفر بها إنّه هو الموت. فلا بدّ في أن تتلطّف في الجميع بيني وبينها. قال: ومن هي؟ قال: قد سألت عنها فقيل لي امرأة حكم بن عوف، رجلٌ من أشراف أهل الحيرة. قال: فهل أعلمت بذلك أحداً؟ قال: لا فاكتمه، فإذا أصبحت فجد بكلّ كرامةٍ لنزيلك، يريد حكم بن عوف.فلمّا أذن للنّاس بدأ به وأكرمه وأجلسه معه على سريره. فأعجب النّاس حاله، وتحدّثوا به. فلمّا أمسى فأذن للنّاس بدأ به فأكرمه وأجلسه معه وكساه وجمّله. ففعل به ذلك أيّاماً. ثمّ قال له عدي: أيّها الملك عندك عشر نسوةٍ فطلّق أقلّهنّ عنك منزلةً ثمّ قل له فليتزوّجها. ففعل. فلمّا دخل عليه قال له: يا حكم إنّي قد طلّقت فلانةً لك فتزوّجها. فقال حكم لعدي: ما صنع الملك بأحد ما صنع بي ولا أدري بما أكافئه؟ فقال له عدي طلّق امرأتك كما طلّق امرأته. ففعل. وحظي عدي بها عند الملك: وعلم الرّجل أنّه مكر به في امرأته. وفيها يقول بعض أهل الحيرة:
ما في البرّيّة من أنثى تعادلها ... إلاّ التي أخذ النّعمان من حكم
ريّا وعمرو وبساط النّوم
وحدّث الزّبير: إنّه كان فتىً من بني عذرة يقال له عمرو بن عود،
وكان عاشقاً لجاريةٍ من قومه تسمّى ريّا بنت الرّكين. فتزوّجها رجلٌ منهم
يقال له دهيم. فأبت ريّا إلاّ حبّ عمرو بن عود، وأبى إلاّ حبّها وقول
الشّعر فيها، والوجد بها حتّى أتى اليمن فنزل في بني الحارث بن كعب فطلبها
عمرو، فخفي عليه أمرها ولم يعلم لها خبراً ولا موضعاً. فمكث حيناً لما به،
يبكي له من عرفه، لولهه وشدّة ما أصابه. فخرج به أهله إلى مكّة لعلّه
يتعلّق بأستار الكعبة عسى أن يرحمه ربّه ويذهب ما في قلبه من حبّها.
فلمّا كان بمنىً نظر إليه فتىً من بني الحرث بن كعب فتعجّب ممّا به، وجلس
يتحدّث معه، وسأله عن حاله فشكا إليه عمرو وجده بها، وأنشد ما قال فيها،
فرقّ له الفتى ورحمه. وسأله عن صفتها وصفة زوجها. فوصفها له. فقال له
الفتى: عندي خبر هذه المرأة وهذا الرّجل منذ سنسن قليلة فخرّ عمرو ساجداً
ثمّ سأله عن حالها، فأخبره أنّها سالمةٌ وأنّها باكيةٌ لا يهينها شيءٌ من
العيش. قال عمرو: فهل لك في صنيعةٍ عندي؟ فقال له الفتى: إذن افعل ما بدا
لك. قال: تتخلّف عن أصحابك، وأتخلّف عن أصحابي حتّى لا يكون عند أحدٍ منهم
علم. ثمّ أمضي معك متنكّراً حتّى تخفيني في موضعٍ؛ ثمّ تعلمها بمكاني.
فقال الفتى: لك ذلك في عنقي.
فلمّا كان السّفر، تخلّف كلّ واحدٍ منهما عن أصحابه. فجهد أصحاب عمرو أن
لا يتخلّف وأن يمضوا به فأبى عليهم فودّعوه ومضوا. ثمّ مضيا حتّى وصل به
الفتى فأدخله مع أخته وامرأته في سترهما. ومضى إلى ريّا فأخبرها. فكانت
تجيء إليه كلّ يومٍ فيشكوان ما كانا فيه من البلاء، ويتحدّثان. فاستراب
زوجها غشيانها ذلك البيت. ولم تكن تغشاه ولا تعرف أهله، واستراب أيضاً
تطبيب نفسها وأنّها ليست كما كانت.
وخرجت رفقةً له إلى حرّان فأخبرها أنّه خارجٌ معها. فخرج وأقام ليلتين
مختفياً في موضع. وأقبل راجعاً في الليلة الثّالثة، وقد أمنّاه وظنّاً
أنّه قد خرج، فأتى عمرو إلى ريّا فبسطت له بساطاً قدام البيت وتحدّثا حتّى
غلبهما النّوم، وهي مضطجعةٌ إلى جانب البساط وعمرو إلى الجانب الآخر.
وأقبل الرّجل حتّى وجدهما على تلك الحال. فنظر في وجه عمرو، فانتبه فزعاً.
فقال له: ويلك يا عمرو، وما ينجيني منك برٌ ولا بحرٌ! فقال: يا ابن عمّي،
ما أنا والله على ريبةٍ، ولا يسألني الله عن أهلك عن قبيحٍ؛ ولكن نشأت أنا
وهي وألفتها ونحن صبيان، ولست أستطيع عنها صبراً، وما بيننا أكثر من هذا
الحديث الذي ترى. قال: أمّا أنا فلم أهرب إلى هذا البلد إلاّّ منك.
فانصرفنا راجعين وهي معهما حتّى قدما على وطنهما، فأقاما بعده بيسير.
مواعيد بثينة وجميل
حكى سنة بن عقال، عن الشّعبي قال: حدّثني رجلٌ من بني أسدٍ، قال: إنّي لذات يومٍ في الحيّ إذ أقبل فتىً نظيف الثّوب، حسن الوجه، حتّى وقف بي، فقال: يا فتىً، هل نزا بك حيٌّ من بني عذرة؟ قال، قلت: نعم، وتيك بيوتهم. قال: وهل أحسست لي بكرةً صفتها كذا وكذا؟ قال، قلت: لا. فنزل ثمّ قال: أأنت منشدها لي في أبات الحي؟ قال فخرجت وأنا أنشدها حتّى مررت بالبيوت وأنا أنشد. فقالت لي جاريةٌ: عند الأكمة. فأشرفت على الأكمة فلم أر شيئاً فأخبرته، فأخرج سفرةً معه ودعاني فأكلنا، ثمّ نام. وجعلت أراعيه حتّى ظنّ أنّي قد نمت. فأخرج من رحله فلبسها، ثمّ اشتمل على سيفه وخرج حتّى أتى الأكمة وأنا أتبعه من حيث لا يراني. فإذا بها قاعدةٌ كأنّها مهرةٌ عربيّةٌ. فسلّم عليها وسلّمت عليه ثمّ قال لها: يا بثينة قلت فيك كذا. ولقيت فيك كذا.ولك يزل يحدّثها وينشدها، وتحدّثه حتّى إذا كان في السّحر وضع رأسه في حجرها فنام ساعةً. فلم يشعر إلاّّ بالفجر قد برق. فقالت: قم يا جميل، لا يفضحنا الصّبح.
قال: فرجعت مبادراً حتّى رميت بنفسي في الرّحل. وجاء فأيقظني، ثمّ عمل إلى ثوبٍ من ثيابه فكسانيه، فلم يزل جميل يغشاني في كلّ نهارٍ وليلٍ، فأطير إلى الحيّ وآتيه فآخذ ميعاد بثينة إلى موضعٍ يجتمعان فيه ويتحدّثان إلى أن فطن بعض الحيّ بأمري. فقالت لي بثينة. أنج بنفسك، فإنّ الحيّ قد شعروا بك، وقل لجميل موعدك وسكن البطن. وأتيته فأخبرته، فمضى وانقطع عنّي خبره
دخل وأجبر على تركها
وروي عن يحيى بن خالد بن برمك قال: كنت أهوى جاريتي دنانير، وهي
لمولاتها زهراء، فلمّا وضع المهدي الرّشيد في حجري اشتريتها؛ فلم أسرّ
بشيءٍ من الدّنيا مثل سروري بها وبملكها، فما لبثت إلاّّ يسيراً حتّى وجّه
المهدي ابنه الرّشيد غازياً إلى بلد الرّوم، فخرجت معه، فعظم على فراقها،
فأقبلت لا أتهنّأ بطعانٍ ولا شرابٍ صبابةً بها وذكراً لها. فأنا ليلةً في
مضربي، وقد أصابني بردٌ شديدٌ وثلجٌ كثيرٌ، وأنا أتقلّب على فراشي أذكر
الجّارية، إذ سمعت غناءً خفيّاً وصوت عودٍ بالقرب منّي. فأنكرت ذلك وجلست
على فراشي فأشجاني الصّوت من غير أن أفهم حتّى أبكاني. فقمت، ولم أوقظ
أحداً من العسكر، حتّى انتهيت إلى خيمةٍ صغيرةٍ من خيام الجند، فإذا فيها
سراجٌ، فدنوت منها، فإذا فتىً جالسٌ، وإذا بين يديه ركوةٌ فيها شرابٌ وفي
حجره عودٌ يضرب عليه ويتغنّى بهذا الصّوت:
ألا يا لقومي أطلقوا غلّ مرتهن ... ومنّوا على مستشعر الهمّ والحزن.
ألم ترها بيضاء، روداً شبابها ... لطيفةٌ طيّ البطن كالشّادن الأغن
قال: فكلّما غنّى بيتاً بكى وتناول قدحاً فصبّ فبه من ذلك الشّراب، وشرب،
ثمّ يعود إلى مثل ذلك.
قال: فأقمت طويلاً أرى ما يفعل وأبكي لبكائه، ثمّ سلّمت فردّ السّلام،
واستأذنت فأذن لي فدخلت، فلمّا رآني أجلّني وأوسع لي. فقلت: يا فتى خبّرني
بخبرك، وما أنت فيه، وما سبب هذا البكاء؟ قال: أنا فتىً من الأبناء، لي
ابنة عمٍّ قد نشأنا جميعاً فعلقتها وعلقتني، ثمّ بلغنا فحجبت عنّي، فسألت
عمّي ليزوّجنيها فأجاب، فمكثت حيناً أحتال لمهرها حتّى تهيّأ فأدّيته،
فدخلت بها، فلمّا أن كان يوم سابعها ضرب عليّ البعث وخرجت وبي من الشّوق
إليها ما لا أجده، فحملت معي هذا العود، فإذا أصبت شراباً في بعض هذا
القرى أخذت منه شيئاً، ثمّ أفعل ما ترى تذكاراً إليها.
فقلت: فهل تعرفني؟ فأنكرني، فما أدري أتعمّداً أم حقيقةً.
قال، فقلت له: أنا يحيى بن خالد، فلمّا قلت له ذلك نهض قائماً. فقلت:
اجلس، فإذا كان غداً فألقني، فهذا مضربي بالقرب منك، فإنّي أصير منك إلى
ما تحب.
قال: ووافق ذلك رسولاً قد هيّأناه إلى المدينة، فما كان أسرع شيءٍ حتّى
دنا الصّبح وتهيّأ النّاس للرّحيل، فأوّل من لقيني ذلك الفتى، فأثبت وجهه
وقلت له: من أنت، وفي قيادة من أنت؟ فخبّرني، فمضيت حتّى دخلت على الرّشيد
ومعي المؤتمرات، فكنت آمرها على سمعة من عنوانٍ يكون له فيها، فقلت وفتىً
من الأنباء فلان بن فلان يطلق سراحه ويعطى عشرة آلاف درهمٍ معونةً له
ويصحب فلاناً الرّسول. ففعل ذلك وانصرف إلى أهله.
الزّنا بالجملة
وحكى إبراهيم بن إسحاق الموصلي، عن أبي السّائب المخزومي قال: تعشّق
العرجي امرأةً من قريش فجعلني رسولاً إليها، فأتيتها برسالةٍ وأخذت موعدها
لزيارته إلى موضعٍ سمّاه، ثمّ بكرت أنا فأتت على أتانٍ ومعها جاريتها،
وجاء على حمارٍ ومعه غلامٌ. فتحدّثنا ساعةً ثمّ قمت عنهما، فوثب عليها،
ووثب الغلام على الجّارية، والحمار على الأتان، وقعدت أسمع النّخير من كلّ
ناحية.
قال، فقال لي العرجي: يا أبا السّائب، هذا يومٌ غابت عواذله، قال أبو
السّائب: فما لي حسبةً أرجو ثوابها رجائي لذلك اليوم وثوابه.
حلف ألاّ يجتمع بها ثانيةً
وقال: كان عمر بن أبي ربيعة يتعشّق امرأةً يقال لها أسماء، فوعدته أن
يزورها، فتهيّأ لذلك يوماً فأبطأت عليه، فنام، فلم يلبث أن جاءت ومعها
جاريةٌ، فضربت الباب فلم يستيقظ، فانصرفت وحلفت أن لا تأتيه حولاً. فقال
عمر قصيدته التي أوّلها:
طال ليلي وتعنّاني الطّرب ... واعتراني طول همٍّ ونصب
أشهد الرّحمان لا يجمعنا ... سقف بيتٍ رجباً على رجب
فبعثنا طبّةً عالمةً ... تخلط الجدّ مراراً باللعب
ترفع الصّوت إذا لانت لها ... وتراخي عند سورات الغضب
فأجابت يا فتى وابتسمت ... عن منيف اللون صافٍ كالثّغب
فلمّا سمع ابن أبي عتيقٍ هذه الأبيات قال له النّاس في طلب إمامٍ مثل
قيادتك هذه مذ قتل علي، فما يقدرون عليه.
قال حمّاد الرّاوية: استنشدني الوليد بن يزيد شعراً كثيراً فما استعادني إلاّّ هذه الأبيات. وقال لي: يا حمّاد اطلب لي مثل هذه وأرسلها إلى سلمى.
كفى أخاه العذري ما أصابه
ويروى عن حمّاد قال: أتيت مكّة فجلست إلى جماعةٍ في حلقةٍ فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وإذا هم يتذكّرون العذريين وعشقهم وصيانتهم، قال عمر: أحدّثكم عن بعض، وذلك: أنّه كان لي خليلٌ من بني عذرة، وكان مشتهراً بحديث النّساء فيتشبب بهنّ وينشد فيهنّ، على أنّه لا عاهر الخلوة ولا سريع السّلوة وكان يوافي الموسم في كلّ سنةٍ، فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار وألّفت له الأشعار حتّى يقدم فيتحدّث حديث محزونٍ كئيبٍ. وإنّه راث ذات سنةٍ، حتّى قدم وفد عذرة، فأتيت القوم وأنا أنشد عن صاحبي وإذا غلامٌ قد تنفّس الصّعداء ثمّ قال: عن أبو المسهر تسل؟ قلت نعم عنه سألت قال هيهات هيهات أصبح والله أبو المسهر لا ميؤوساً فيهمل ولا مرجوّاً فيعلل؛لا أصبح والله كما قال الشّاعر:لعمرك ما حبّي لأسماء تاركي ... صحيحاً ولا أقضي به فأموت
قلت له: وما الذي به؟ قال لي: هو ميتٌ مولّهٌ! قلت: ومن أنت يا ابن أخي؟ قال: أنا أخوه. قلت وما يمنعك أن تركبلا طريق اخيك الذي ركبه، وتسلك مسلكه. ألا إنّك وأخاك كالوشي والنّجّار لا ترفعه ولا يرفعك. ثمّ انصرف وأنا أقول:
أرائحةٍ حجاج عذرة روحةً ... ولمّا يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... متى ما يقل أسمع، وإن قال يسمع
فلا يبعدنك الله خلاً، فإنّني ... سألقى كما لاقيت في الحبّ مصرعي
فلمّا كان في العام الآتي وقفت في الموضع الذي كنّا نقف فيه بعرفات، فإذا شابٌ قد أقبل وقد تغيّر لونه، وساءت هيئته فما عرفته إلاّّ بناقته، فأقبل حتّى اعتنقني وجعل يبكي. قلت: ما هذا وما دهاك وما غالك؟ قال برّح الغرام وطول السّقام. وأخذ يشكو إليّ فقلت: يا أبا مسهر، إنّها ساعةٌ عظيمةٌ، فلو دعوت الله كنت تظفر بحاجتك. فجهل يدعو حتّى إذا بدت الشّمس للغروب وهمّ النّاس أن يفيضوا، سمعته يهمهم بشيءٍ، فأصغيت إليه مستمعاً فجعل يقول:
يا ربّ عذوة وروحة
من محرمٍ بعد الضّحى واللواحة
أنت حسيب الخطب يوم الدّوحة.
قلت: يا أخي، وما الدّوحة؟ قال سأخبرك إن شاء الله. فلمّا قضينا حجّنا وأحللنا قلت له: حدّثني بخبرك! قال: نعم، أعلمك أنّي امرؤٌ ذو مالٍ كثيرٍ من نعمٍ وشاءٍ، وإنّي خشيت على مالي التّلف فأتيت أخوالي فأوسعوا لي عن صدر المجلس فكنت في عزّ أخوالي، فخرجت يوماً إلى مالي وهو ببعض مياههم، وركبت فرسي، وعلّقت معي شراباً أهدي إلي. فانطلقت حتّى إذا كنت بين الحيّ ومرعى النعّم رفعت لي دوحةٌ عظيمةٌ فقلت: لو نزلت تحت الشّجرة وتروّحت مبرّداً! فنزلت وشددت فرسي بغصنٍ من أغصانها، ثمّ جلست وقدّمت شرابي، فإذا بغبارٍ قد سطع من ناحية الحيّ فبدت لي ثلاثة شخوصٍ، وإذا فارسٌ يطرد عنزاً وأتاناً، فلمّا قرب منّي إذا عليه درعٌ أصفرٌ وعمامة خز سوداء، وإذا فروع شعره تنال كعبه. فقلت في نفسي: غلامٌ حديث السّنّ راكبٌ على فرسٍ أعجلته لذّة الصّيد، فأخذ ثوب امرأته ونسي ثوبه. فما لبث أن لحق بالعنز فطعنه ثمّ عطف على الأتان فقتلها، ثمّ قال:
نطعنهم سلكاً ومخلوجةً ... كركّ الأمين على نائل.
فقلت له: إنّك قد تعبت وأتعبت فرسك، فلو نزلت. فثنى رحله، وشدّ فرسه بغصنٍ من أغصان الشّجرة، ثمّ أقبل حتّى جلس قريباً منّي فجعل يحدّثني حديثاً كأنّه الدّرّ، ذكرت به قول الشّاعر:
وإنّ حديثاً منك لو تبذلينه ... جنى النّحل في ألبان عودٍ مطافل
قال، فبينما هو كذلك إذ نقر بالسّوط على ثنيته، فرأيت والله خلل السّوط بينهما فما ملكت نفسي إن قبضت على السّوط وقلت: أخاف أن تكسرهما فإنّهما رقيقان. وقال: وهما مع ذلك عذبتان. قال، ثمّ رفع عقيرته وجعل يغنّي:
إذا قبّل الإنسان ممّن يحبّه ... ثناياه لم يأثم وكان له أجرا
فإن زاد زاد الله في حسناته ... مثاقيل يمحو الله عنه بها وزرا
ثمّ قال لي: ما هذا الذي علّقت على سراجك؟ قلت: شرابٌ أهداه إليّ
بعض أهلي، فهل لك فيه؟ قال: وما أكره منه؟ فأتيت به فوضعته بين يديه.
فلمّا شرب منه نظرت إلى عينيه كأنّهما عينا مهاةٍ قد أضلّت ولداً فأذعرهما
قانص. فعلم نظري فرفع عقيرته وجعل يغنّي:
إنّ العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله إنسانا.
فقلت له: من أين لك هذا الشّعر؟ قال: وقع رجلٌ منّا باليمامة فأنشدنيه.
قال: ثمّ قمت لأصلح شيئاً من أمر فرسي، فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه،
فإذا غلامٌ كأنّما وجهه الشّمس حسناً، فقلت: سبحانك اللهمّ ما أعظم قدرتك،
وأجلّ صنعك. قال: فكيف؟ قلت له: ممّا راعني من نورك وبهرني من جمالك. قال:
وما الذي يروّعك من رهن ترابٍ ورزق دوابٍ ثمّ لا تدري أينعم بعد ذلك أم
لا؟ قلت: بل يصنع الله بك خيراً إن شاء الله.
ثمّ أقبل على فرسه؛ فلمّا أقبل برقت له بارقة من الدّرع، فإذا ثديٌ كأنّه
حقّ، فقلت: نشدتك الله امرأةً؟ قالت: أي والله امرأةٌ تكره العهر وتحبّ
الغزل. فقلت: وأنا والله كذلك. فجلست والله تحدّثني ما أفقد من أنسها
شيئاً حتّى مالت على الدّوحة سكرى، فاستحسنت، والله يا ابن ربيعةٍ، الغدر،
وزيّن في عيني، ثمّ إنّ الله عصمني. فما لبثت أن انتبهت مرعوبةً، فلاثت
عمامتها برأسها وأخذت رمحها وجالت في متن فرسها، فقلت: زوّديني منك زاداً.
فأعطتني ثوباً من ثيابها، فشممت منه كالرّوض الممطور. ثمّ إنّي قلت: أين
الموعد؟ فقالت: إنّ لي أخوةً شوساً وأباً غيوراً؛ والله لأن أسرّك أحبّ
إليّ من أن أضرّك.
قال، ثمّ مضت فكان والله آخر العهد بها إلى يومي هذا. فهي التي بلغت بي
هذا المبلغ، وأحلّتني هذا المحل. قلت له: والله يا أبا المسهر، والله ما
كان يحسن بك الغدر إلاّّ بك. فإذا به قد اخضلّت لحيته بدموعه باكياً.
فقلت: والله ما قلت هذا إلاّّ مازحاً. ودخلتني له رقّة. فلمّا انقضى
الموسم شددت على ناقتي وشدّ وحملت غلاماً لي على بعيرٍ وحملت عليه قبه
أدمٍ حمراء كانت لأبي ربيعة، وأخذت معي ألف دينارٍ ومطرفاً ثمّ خرجنا حتّى
أتينا كلباً فسألناه عن الشّيخ فإذا هو في نادي قومه، فسلّمت فقال: وعليك
السّلام، من أنت؟ قلت عمر بن ابي ربيعة المخزومي. قال: المعرف غير المنكر؛
فما الذي جاء بك؟ قلت: خاطباً. قال: أنت الكفء الذي لا يرغب عن حسبه،
والرّجل الذي لا يردّ عن حاجته. قلت له: إنّي لم آتك عن نفسي، وإن كنت
موضع الرّغبة، ولكن أتيتكم في ابن أخيكم العذري. وقال: والله إنّه لكفء
الحسب، غير إنّ بناتي لا يقعن إلاّّ في هذا الحيّ من قريش. فعرف الجزع في
نفسي وتبيّن له في وجهي، وقال: أنا أصنع لك شيئاً لا أصنعه لغيرك. قلت: ما
هو؟ قال: أخبرها لأنّك أنت تختار لغيرك.
فأومأ إليّ صاحبي أن أمره أن يخبرها. فقلت: افعل. ثمّ مضى الشّيخ. وقد أتى
وقال لي إنّها قالت: إنّ الأمر أمرك والرّأي للقرشي يختار لي ما رأى.
فحمدت الله عزّ وجلّ وصلّيت على نبيّه، صلّى الله عليه وسلّم وقلت: قد
زوّجت الجّارية بجعد بن مهجع وأصدقتها ألف دينارٍ، وهي هذه، وجعلت كرامتها
الغلام والبعير والقبّة وكسوت الشّيخ المطرف فقبله، وسألته أن يبني بها من
ليلته، فأجابني إلى ذلك. وضربت القبّة في وسط الحيّ وأهديت إليه ليلاً.
وبتّ عند الشّيخ خير مبيتٍ.
فلمّا أصبحت غدوت فقمت بباب القبّة، فخرج إليّ، فقلت له: كيف كنت بعدي؟
وكيف هي؟ فقال: أبديت لي كثراً ممّ أخفت يوم رأيتها. فقلت: عليك أهلك،
بارك الله فيهم. وانطلقت إلى أهلي وأنا أقول:
كفيت أخي العذريّ ما قد أصابه ... ومثلي لأثقال النّوائب أحمل
أما استحسنت منّي المكارم إنّها ... إذا عرضت إنّي أقول وأفعل
نساؤهم شرّ النّساء والفرع يجري على الأصل
وحكى المدائني: أنّ رجلاً من بني عقيلٍ كان يسمّى صخراً، وكانت
له ابنة عمٍّ تدعى ليلى، فكان بينهما حبٌّ مبرّحٌ ولم يكن أحدهما يصبر عن
الآخر ساعةً واحدةً، وكان لهما مكانٌ يجتمعان فيه للحديث في كلّ ليلةٍ.
ثمّ إنّ أبا صخرٍ زوّج صخراً لامرأةٍ من الأزد، وصخرٌ لذلك كارهٌ؛ فلمّا
بلغ ليلى الخبر قطعته، فمرض مرضاً شديداً. فكان أهله يقولون سحرته ليلى،
لما كانوا يرونه يصنع بنفسه. وكانت ليلى أشدّ وجداً به وحبّاً له. فأرسلت
جاريتها إليه وقالت لها: اذهبي إلى مكاننا وانظري هل تري صخراً، فإذا
رأيته قولي له:
تعساً لمن بغير ذنبٍ يصرم ... قد كنت، يا صخر، زماناً تزعم
إنّك مشغوفٌ بنا مقيمٌ ... حتّى بدا منك لنا المجمجم
قال:فأتته الجّارية فأبلغته قولها،ووجدته كالشّن البالي وجداً وحزناً،
فقال: قولي لها:
فهمت الذي عبّرت، والله شاهدٌ ... لما كان عن رأيي ولا كان عن أمري
فإن كنت قد سمّيت صخراً فإنّني ... لأضعف عن حمل القليل من الهجر
ولست، وربّ البيت، أبغي سواكم ... حبيباً ولو عشنا إلى ملتقى الحشر.
فقالت له الجّارية: يا صخر، إن كنت كارهاً لتزويج أبيك لك فاجعل أمر
إمرأتك بيدي لتعلم ليلى أنّك لغيرها خالٍ ولعهدها راعٍ، وإنّك مكرهاً.
قال: قد فعلت. قالت: فهي طالقٌ منك ثلاثاً. وأخبرت ليلى، فأظهرت من ذلك
جزعاً وتراحعاً إلى ما كانا عليه من اللقاء، والجّارية تختلف بينهما. ولم
يظهر صخر طلاق امرأته حتّى قال له أبوه: يا صخر ألا تبتني بأهلك؟ قال:
وكيف وقد بانت منّي في يمينٍ حلفت بها. فأعلم أبوه أهل المرأة فقالت
المرأة تهجو ليلى:
ألا بلّغا عنّي عقيلاً رسالةً، ... فما لعقيلٍ من حياءٍ ولا فضل:
نساؤكم شرّ النّساء، وأنتم ... كذلك، إنّ الفرع يجري على الأصل.
أما فيكم حرّ يغار بأخته؟ ... وما خير حرٍّ لا يغار على الأهل!
قال، وهجتها ليلى حتّى شاع خبرها، وسعت الجّارية إلى أهل صخر وأهل ليلى
وما هما عليه، وإنّهما يخاف عليهما من لؤم الفعل. ولم تزل حتّى جمعت
بينهما وتزوّجها.
المهدي وحديث العشّاق
وحكى الأصمعي قال: خرج المهديّ حاجّاً، حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق، إذا
أعرابيٌّ يقول: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، أنا عاشقٌ - وكان
المهدي يحبّ العشّاق وحديثهم - موكلٌ به بعض الغلمان. فلمّا نزل أمر
بإحضاره، قال: أنت المنادي؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين. قال له: ما اسمك؟
قال: أبو ميّاس. قال أمير المؤمنين: من عشيقتك؟ قال له: ابنة عمّي، وقد
أبى عليّ أبوها أن يزوّجنيها. قال: لعلّه أكثر منك مالاً؟ قال: أنا أكثر
منه مالاً! قال له: فما قصّتك؟ قال له: ادن رأسك منّي. فجعل المهدي يضحك،
وأصغى إليه برأسه. قال له: إنّي هجينٌ. قال له: ليس يضرّك ذلك أخو أمير
المؤمنين وأكثر أولاده هجناء! ثمّ قال له وأين عمّك؟ قال له: على ثلاثة
أميالٍ.
قال: فأرسل أمير المؤمنين في طلبه فجيء به فقال له: ما لك لا تزوّج أبا
ميّاس، فإنّي أرى عليه نعمةً؟ قال: متاع سوءٍ، وليس مثلي يزوّج مثله. قال:
فإنّ الذي كرهت ليس ممّا يعاب به عندنا، وأنا معطٍ صداق ابنتك عشرة آلاف
درهمٍ، ومعوّضك ممّا ذكرت عشرة آلاف درهمٍ! قال: فذلك لك! قال فخرج أبو
ميّاس وهو يقول:
واتّبعت ظبيةً بالغلاء وإنّما ... يعطي الغلاء لمثلها أمثالي
وتركت أسواق القباح لأهلها ... إنّ القباح وإن رخصن غوالي.
المنتصر بالله وجارية سعيد الصّغير
قال سعيد الصّغير: كان المنتصر بالله في أيّام إمارته وجّهني إلى مصر في
بعض أمور السّلطان، فاعترضن عند بعض النّخّاسين جاريةً تامة المحاسن
حاذقةً بالغناء. فأبى مولاها أن يأخذ منّي إلاّّ ألف دينارٍ. ولم تكن
تحضرني، ولا وجدت أن أقرضها، وأزعجني الشّخوص، وقد علقها قلبي وأخذني
المقيم المقعد من حبّها. فلمّا قدمت إلى المنتصر وعرّفته ما بعثني فيه؟
سألني عن حالي وخبري. فأخبرته بمكان الجّارية وكلفي بها، وقصّتي مع
مولاها. فأعرض عنّي وصار ما بي يزداد.
ولم أملك صبراً. وجعل المنتصر، كلّما دخلت وخرجت من عنده، يذكرها
ويهيج أشواقي إليها، ويعيّرني بقلّة الصّبر عنها. وكان قد أمر ابن الخطيب
أن يكتب إلى مصر في شراها وحملها إليه من حيث لا أعلم ولا أدري.
فلمّا سارت إليه، وعرضت عليه أمرها، فغنّت وعذرني، فأمر قيّمة جواريه
فأصلحت من شأنها. فلمّا ذهب عنها ألم السّفر استجلسني يوماً وهو على
فراشه. فلمّا غنّى جواريه كانت آخرهن. فلمّا سمعتها عرفتها وكرهت أن أعلمه
حتّى ظهر عليّ ما كتمت، وغلب عليّ الصّبر، فقال لي: ما لك يا سعيد؟ قلت:
خيراً أيّها الأمير!.
قال، فاقترح عليها صوتاً كنت أعلمته أنّي سمعته منها فاستحسنه من غنائها،
فغنّته، فقال: هل تعرف هذا الصّوت؟ قلت: أي والله أيّها الأمير، فما تكون
المعرفة وقد كنت أطمع في صاحبته! فأمّا الآن فقد يئست منها وكنت كقاتل
نفسه بيده، وجالب حتفه إلى حياته. قال: والله يا سعيد ما اشتريتها إلاّّ
لك، وما يعلم الله إنّي رأيت لها وجهاً إلاّّ السّاعة التي أدخلت عليّ،
وأنا تركتها حتّى استراحت من تعب السّير، وهي لك. . فأكببت على رجليه،
ودعوت له بما أمكنني من الدّعاء؛ وشكره عنّي من حضر من الجلساء، وأمر بها
فحملت إلى منزلي. فما أحدٌ أحظى عندي منها، ولا لي ولدٌ أحبّ من ولدها.
من أحاديث المؤلّفين
ذكاء السّفهاء والقوّادين
من أحاديث المؤلّفين: ما حكاه أبو الحسن المدائني، قال: كان بمكّة سفيهٌ
يجمع بين النّساء والرّجال على أقبح الرّيب؛ وكان من قريش، ولم يذكر اسمه،
قال: فشكا أهل مكّة ذلك إلى الوالي فنفاه إلى عرفات. فأخذ بها منزلاً،
ودخل مكّة مستتراً. فلقي حرفاءه من الرّجال والنّساء فقال لهم: وماذا
يمنعكم منّي؟ قالوا له: وأين بك وأنت بعرفات! قال لهم: حمارٌ بدرهمين وقد
صرتم إلى الأمن والنّزهة والخلوة واللذة. قالوا: نشهد بأنّك صادقٌ. فكانوا
يأتونه، فكثر ذلك حتّى أفسد على أهل مكّة أحداثهم وسفهاءهم، فعادوا
بالشّكاية على أميرهم، فأرسل وراءه، فأتي به فقال: أي عدوّ الله، طردتك من
حرم الله عزّ وجلّ فصرت إلى المشعر الأعظم تفسد وتجمع بين الخبائث!! فقال:
أصلح الله الأمير يكذبون عليّ ويحسدونني. فقالوا للوالي: بيننا وبينه
واحدة تجمع حمير المكّارين وترسلها نحو عرفات، فإن قصدت داره لمّا اعتادت
من السّير لها، فالقول كما قلنا، وإلاّّ فالقول كما قال. . . فقال للوالي:
إنّ في ذلك دليلاً. وأمر بحمير المكّارين فجمعت ثمّ أرسلت فقصدت نحو
منزله، وجاءه بذلك أمناؤه. فأمر بتجريده. فلمّا نظر إلى السّياط بكى، فقال
له: ما يبكيك يا عدوّ الله؟ قال: والله، أصلح الله الأمير، ما من الضّرب
جزعت، ولكن يسخر منّا أهل العراق ويقولون إنّ أهل مكّة يجيزون شهادة
الحمير. فضحك الوالي وأمر بتخليته.
كان يمزح
قال المدائني: كان مزيد يسبق الحجّاج في كلّ عامٍ إلى الحجّ، وكان يأتي إلى المدينة في ثلاثة أيّامٍ على راحلته. فتأخّر مرّةً عن وقته الذي كان يجيء فيه لعلّةٍ أصابته، وكان لامرأته صديقٌ صوّافٌ. فلمّا تأخّر ظنّ الصّوّاف أنّه قد مات فأقام عندها ولم يبرح، وجاء مزيد فدخل على الوالي فأخبره ودنا إلى منزله. فلمّا رأى أنّه قرب من الباب تطلّع من كوّةٍ وإذا الصّوّاف مع امرأته في البيت، فلم يستفتح، فمضى إلى المخنّثين فدعاهم، فأتوا معه، فوقفوا على بابه، وأمرهم فضربوا طبولهم وزمروا، فاجتمع النّاس من كلّ ناحيةٍ، فأقبلوا يقولون له: يا أبا إسحاق، أشيءٌ حدث؟ فيقول لهم: تزوّجت امرأتي. فقالوا له: ما بك: وما هذه القصّة؟ فلم يخبرهم بشيءٍ. فوقف الصّوّاف خلف الباب وقال: يا أبا إسحاق أدن أكلّمك. فدنا منه فقال: إتّق الله في الفضيحة، وأنا أفتدي منك. فقال له: أردد عليّ مهرها ونفقتي عليها فقد أفسدتها. قال: وكم ذلك؟ قال خمسون ديناراً. فكتب رقعةً إلى غلامه في السّوق فبعث بها من قبض المال وجاء به. فقال: أي بني تفرّقوا. إنّما كنت أمزح. فقنّع رأس الصّوّاف وأنزله، وقعد مع امرأته وسكت.من أخبار المخنّثين