كتاب:الكسب
المؤلف:محمد بن الحسن الشيباني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين . قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد ، شمس الأئمة ، وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - إملاء - رحمه الله : وإذ قد أجبتكم إلى ما سألتموني من إملاء شرح المختصر على حسب الطاقة وقدر الفاقه ، بالآثار المشهورة والاشارات المذكورة في تصنيفات محمد بن الحسن رحمه الله ، لإظهار وجه التأثير وبيان طريق التصوير ، رأيت أن الحق به إملاء شرح ' كتاب الكسب ' الذي يرويه محمد بن سماعه عن محمد بن الحسن رحمه الله ، وهو من جملة تصنيفاته ، إلا أنه لم يشتهر لأنه لم يسمع رحمه الله ، وهو من جملة تصنيفاته ، إلا أنه لم يشتهر لأنه لم يسمع [ 1 - و ] منه ذلك أبو حفص ولا أبو سليمان رحمهما الله ، ولهذا لم يذكره الحاكم رحمه الله في المختصر ، وفيه من العلوم ما لا يسع جهلها ، و لا تخلف عن علمها ، ولو لم يكن فيه إلا حث المقتبسين على مشاركة المكتسبين في الكسب لأنفسهم ، والتناول من كد يديهم لكان يحق على كل أحد إظهار هذا النوع من العلم . وقد كان شيخنا الإمام رحمه الله بين بعض ذلك على طريق الآثار فنذكر ما ذكرناه تبركا بالمسموع منه ، ونلحق به ما تكلم فيه أهل الأصول رحمهم الله ، وما يجود به الخاطر من المعاني والإشارات . الكسب محمد بن الحسن الشيباني
باب
الاكتساب في عرف أهل اللسان تحصيل المال بما يحل من الأسباب واللفظ في
الحقيقة يستعمل في كل باب وقد قال الله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم
} وقال عز وجل { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } أي بجنايتكم على
أنفسكم فقد سمى جناية المرء على نفسه كسبا وقال جل وعلا في آية السرقة {
جزاء بما كسبا } أي باشرا من ارتكاب المحظور فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل
باب ولكن عند الاطلاق يفهم منه اكتساب المال
ثم بدأ محمد رحمه الله الكتاب بقوله طلب الكسب فريضة على كل مسلم كما أن
طلب العلم فريضة وبهذا اللفظ يرويه ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم = أنه قال طلب الكسب فريضة علىلى كل مسلم وفي رواية
قال طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة الفريضة بعد الفريضة وقال النبي صلى
الله عليه وسلم طلب الحلال كمقارعة الأبطال ومن بات ناويا من طلب الحلال
بات مغفورا له وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم درجة الكسب على
درجة الجهاد فيقول لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل
الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله لأن الله تعالى قدم الذين
يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله تعالى { وآخرون
يضربون في الأرض } وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد
بن معاذ رضي الله عنه يوما فإذا يداه أكنبتا فسأله النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال أضرب بالمر والمسحاة في نخيلي لأنفق على عيالي فقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم يده وقال كنان يحبهما الله تعالى وفي هذا بيان أن
المرء باكتساب مالا بد له ينال من الدرجةأعلاها وإنما ينال ذلك بإقامة
الفريضة ولأنه لايتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فيكون فرضا بمنزلة الطهارة
لأداء الصلاة
وبيانه من وجوهه
أحدها أن يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب أو الانتهاب وبالانتهاب يستوجب العقاب وفي التغالب فساد والله لا يحب الفساد فتعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم نفس المؤمن مطيته فاليحسن إليها يعني الاحسان بأن لايمنعها قدر الكفاية وإنما يتوصل إلى ذلك بالكسب ولأنه لايتوصل إلى أداء الصلاة ألا بالطهارة ولابد لك من كوز تستقي به الماء أو دلو ورشاء ينزح به الماء من البئر وكذا لايتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة وإنما يكون ذلك بثوب ولا يحصل له إلا بالإكتساب عادة وما لا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا في نفسهالكسب طريق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وقد أمرنا بالتمسك بهم والاقتداء بهديهم قال الله تعالى { فبهداهم اقتده } وبيان أن أول من اكتسب أبونا آدم صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } أي تتعب في طلب الرزق
وقال مجاهد رحمه الله في تفسيره لا تأكل خبزا بزيت حتى تعملعملا إلى الموت
وفي الآثار أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض أتاه جبرائيل عليه السلام بالحنطة وأمره بأن يزرعها فزرعها وسقاها وحصدها وداسها وطحنها وخبزها فلما فرغ من هذه الأعمال حان وقت العصر أتاه جبرائيل عليه السلام وقال إن ربك يقرئك السلام ويقول إن صمت اليوم غفرت لك خطيئتك وشفعتك في أولادك فصام وكان حريصا على تناول ذلك الطعام لينظر أنه هل يجد من الطعم ما كان يجد له لطعام الجنة فمن ثمة حرص الصائمون بعد العصر على تناول الطعام
وكذا نوح عليه السلام كان نجارا يأكل من كسبه وإدريس عليه السلام كان خياطا وابراهيم عليه السلام كان بزازا على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عليكم بالبز فإن أباكم كان بزازا يعني الخليل عليه السلام و داود عليه السلام كان يأكل من كسبه على ما روي أنه كان يخرج متنكرا فيسأل عن سيرته أهل مملكته حتى استقبله جبرائيل عليه السلام يوما على صورة شاب فقال له داود عليه السلام كيف تعرف داود أيها الفتى فقال نعم العبد داود إلا أن فيه خصلة فقال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال وإن خير الناس من يأكل من كسبه فرجع داود عليه السلام إلى محرابه باكيا متضرعا يسأل الله تعالى ويقول اللهم علمني كسبا تغنيني به عن بيت المال فعلمه الله تعالىصفة الدرع ولين له الحديد حتى كان الحديد في يده كالعجين في يد غيره قال الله تعالى { وعلمناه صنعة لبوس لكم } فكان يصنع الدرع ويبيع الدرع بإثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق وسليمان صلوات الله عليه كان يصنع المكاتل من الخوص فيأكل من ذلك وزكريا عليه السلام كان نجارا وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه وربما كان يلتقط السنبلة فيأكل من ذلك وهو نوع اكتساب ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يرعى في بعض الأوقات على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم يوما كنت راعيا لعقبة بن أبي معيط وما بعث الله نبيا إلا استرعاه وفي حديث السائب بن شريك عن أبيه رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي وكان خير شريك لايداري ولا يماري أي لايلاج ولا يخاصم قيل في ماذا كانت الشركة بينكما فقال في الأدم
وازدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف على ما ذكره محمد رحمه الله في كتاب المزارعة ليعلم أن الكسب عن طريق المرسلين عليهم السلام
ثم الكسب نوعان كسب من المرء لنفسه وكسب منه على نفسه فالكاسب لنفسه هو الطالب لما لابد له من المباح والكاسب على نفسه هو الباغي لما عليه فيه جناح نحو ما يكون من السارق والنوع الثاني حرام بالإتفاق قال الله تعالى { ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه } وقال عز وجل { ومن يكسب خطيئة أو إثما } الآية والمذهب عند الفقهاء من السلف والخلف رحمهم الله أن النوع الأول من الكسب مباح على الاطلاق بل هو فرض عند الحاجة
وقال قوم من جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصوف إن الكسب حرام لا يحل إلا عند الضرورة بمنزلة تناول الميتة وقالوا إن الكسب ينفي التوكل على الله أو ينقص منه وقد أمرنا بالتوكل قال الله تعالى { فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فما يتضمن نفي ما أمرنا به من التوكل يكون حراما والدليل على أنه ينفي التوكل قوله صلى الله عليه وسلم لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا وقال تعالى { وفي السماء رزقكم وما توعدون } وفي هذا حث على ترك الاشتغال بالكسب وبيان أن ما قدر له من الموعود يأتيه لا محالة وقال عز وجل{ وأمر أهلك بالصلاة } الآية والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد منه أمته فقد أمروا بالصبر والصلاة وترك الاشتغال بالكسب بطلب الرزق وقال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وفي الاشتغال بالكسب ترك ما يأمر المرء لأهله وأمر به من عبادة ربه وإليه أشاز النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين وإنما أوحي إلي { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } الآية وما في القرآن من ذكر البيع والشراء في بعض الآيات ليس المراد التصرف في المال والمكسب بل المراد تجارة العبد مع ربه عز وجل ببذل النفس في طاعته والاشتغال بعبادته فذلك يسمى تجارة وقال الله تعالى { هل أدلكم على تجارة } الآية وقال عز وجل { إن الله اشترى من المؤمنين } الآية والمراد هذا النوع وهو بذل النفس لنيل الثواب بالجهاد وأنواع الطاعة وكذا قد سمن الله تعالى أخذ المال لإرتكاب ما لايحل له في الدين بايعا نفسه قال الله تعالى { ولبئس ما شروا به أنفسهم } وقال عز وجل { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا }وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها وأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يلزمون المسجد فلا يشتغلون بالكسب ومدحوا على ذلك وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أعلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يشتغلوا بالكسب وهم الأئمة السادة والقدوة القادة
وحجتنا في ذلك قوله تعالى { وأحل الله البيع } وقال جل وعلا { إذا تداينتم بدين } وقال عز وجل { إلا أن تكون تجارة عن تراض } وقال جل جلاله { إلا أن تكون تجارة حاضرة } الآية ففي بعض هذه الآيات تنصيص على الحل وفي بعضها ندب إلى الاشتغال بالتجارة فمن يقول بحرمتها فهو مخالف لهذه النصوص
وإنما يحمل كلام صاحب الشرع عند الاطلاق على ما يتفاهمه الناس في مخاطبتهم لأن الشرع إنما خاطبنا بما نفهمه ولفظة البيع والشراء حقيقة للتصرف في المال بطريق الاكتساب والكلام محمول على حقيقة لا يجوز تركها إلى نوع من المجاز إلا عند قيام الدليل كما فيما استشهدوا به من قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين } فقد قام الدليل على أن المراد به المجاز ولم يوجد مثل ذلك ههنا فكان محمولا على حقيقته وقال الله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله }والمراد التجارة وقال عز وجل { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } يعني التجارة في طريق الحج وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أطيب ما أكلتم من كسب أيديكم وإن أخي داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده والمراد الاشارة إلى قوله تعالى { كلوا من طيبات ما رزقناكم }
وأقوى ما نعتمده أن الاكتساب طريق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وقد قررنا ذلك ولا معنى لمعارضتهم إيانا في ذلك بعيسى ويحيى عليهما السلام فقد بينا أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه رضي الله عنها
ثم نقول إن الأنبياء عليهم السلام في هذا ليس كغيرهم فقد بعثوا لدعوة الناس إلى دين الحق وإظهار ذلك وكانوا مشغولين بما بعثوا لأجله ولم يشتغلوا عامة أوقاتهم بالكسب لهذا وقد اكتسبوا في بعض الأوقات ليبينوا للناس أن ذلك ما ينبغي أن يشتغل به المرء ولأنه لا ينفي التوكل على الله كما ظنه هؤلاء الجهال وقد بين ذلك عمر رضي الله عنه في حديثه حيث مر بقوم من القراء فرآهم جلوسا قد نكسوا رؤوسهم فقال من هؤلاء فقيل هم المتوكلون فقال كلا ولكنهم المتأكلون يأكلون أموال الناسأنبئكم من المتوكل فقيل نعم فقال هو الذي يلقي الحب في الأوض ثم يتوكل على ربه عز وجل وفي رواية أخرى فقال يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم واكتسبوا لأنفسكم
ودعواهم أن الكبار من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يكتسبون دعوى باطل فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان بزازا وعمر رضي الله عنه كان يعمل الأدم وعثمان رضي الله عنه كان تاجرا يجلب إليه الطعام فيبيعه وعلي رضي الله عنه كان يكتسب على ما روي أنه أجر نفسه غير مرة حتى آجر نفسه من يهودي في حديث فيه طول
ثم صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى سراويل بدرهمين وقال للوزان زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن وباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قعبا وحلسا يبيع من يزيد واشترى ناقة من أعرابي وأوفاه ثمنها ثم جحد الأعرابي وقال هلم شاهدا قال صلى الله عليه وسلم من يشهد لي فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنا أشهد لك بأنك وفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم كيف تشهد لي ولم تكن حاضرا قال يا رسول الله إنا نصدقكفيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من إيفاء ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم من شهد له خزيمة فحسبه
ولا حجة لهم في قوله تعالى { وفي السماء رزقكم وما توعدون } فالمراد المطر الذي ينزل من السماء فيحصل به النبات فإن ذلك يسمى رزقا على ما نقل عن بعض السلف رحمهم الله يا بن آدم إن الله يرزقك ويرزق رزقك ويرزق رزق رزقك يعني ينزل المطر من السماء رزقا للنبات ثم النبات رزق الأنعام والأنعام رزق لبني آدم ولئن حملنا الآية على ظاهرها فنقول في السماء رزقنا كما أخبر الله تعالى ولكننا أمرنا باكتساب السبب ليأتينا ذلك الرزق عند الاكتساب بيانه في قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق وقد أمر الله تعالى مريم عليها السلام بهز النخلة كما قال { وهزي إليك } الآية وهو قادر على أن يرزقها من غير هز بعناء كما كان يرزقها في المحراب قال عز وجل { كلما دخل عليها زكريا المحراب } الآية وإنما أمرها بذلك ليكون بيانا للعباد أنه ينبغي لهم أن لا يدعوا إكتسابالسبب وإن كانوا يتيقنون أن الله هو الرزاق
وهذا نظير الخلق فإن الله تعالى هو الخالق قد يخلق لا من سبب ولا في سبب كما خلق آدم صلوات الله عليه وقد يخلق لا من سبب في سبب كما خلق عيسى عليه السلام وقد يخلق من سبب في سبب كما قال تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية وقد أمر الله تعالى بالنكاح وطلب الولد لا ينفي يقين العبد بأن الخالق هو الله تعالى فكذا أمر الرزق ليعلم من يزعم أن حقيقة التوكل في ترك الكسب فهو مخالف للشريعة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله للسائل الذي قال أرسل ناقتي وأتوكل فقال صلى الله عليه وسلم لا بل اعقلها وتوكل
ونظير هذا الدعاء فقد أمرنا به قال الله تعالى { واسألوا الله من فضله } ومعلوم أن ما قدر لكل أحد فهو يأتيه لا محالة ثم أحد لا ينظر بهذا إلى ترك السؤال والدعاء من الله تعالى والأنبياء عليهم السلام كانوا يسألون الجنة مع علمهم أن الله يدخلهم الجنة وقد وعد لهم ذلك وهو { لا يخلف الميعاد } وقد كانوا يأمنون العاقبة ثم كانوا يسألون الله تعالى ذلك في دعائهم
وكذا أمر الشفاء فالشافي هو الله تعالى وقد أمرنا بالمداواة قال صلى الله عليه وسلم تداووا عباد الله فإن الله تعالى ما خلق داء إلا خلقله دواء إلا السام أو قال الهرم وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين داوى ما أصابه من الجراحة في وجهه
ثم إن اكتساب الكسب بالمداواة لا ينفي التيقن بأن الله تعالى هو الشافي فكذا اكتساب سبب الرزق بالتحرك لا ينفي التيقن بأن الله تعالى هو الرازق
والعجب من الصوفية أنهم لا يمتنعون من تناول طعام من أطعمهم من كسب يده وربح تجارته مع علمهم بذلك فلو كان الاكتساب حراما لكان المال الحاصل به حرام التناول لأن ما يتطرق إليه بارتكاب الحرام يكون حراما ألا ترى أن بيع الخمر للمسلم لما كان حراما كان تناول ثمنها حراما وحيث لم يمتنع أحد منهم من التناول عرفنا أن قولهم من نتيجة الجهل والكسل
ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله من أهل السنة والجماعة أن الكسب بقدر مالا بد منه فريضة
وقالت الكرامية بل هو مباح بطريق الرخصة لأنه لا يخلو إما أن يكون فرضا في كل وقت أو في وقت مخصوص
والأول باطل لأنه يؤدي إلى أن لا يتفرغ أحد عن أداء هذه الفريضة ليشتغل بغيرها من الفرائض والواجبات
و ثاني باطل لأن ما يكون فرضا في وقت مخصوص شرعا يكون مضافا إلى ذلك الوقت كالصلاة والصوم ولم يرد الشرع بإضافة الكسب إلى وقت مخصوص ثم لا يخلو إما أن يكون فرضا لرغبة الناس إليه أو للضرورة
والأول باطل فإن الرغبة ثابتة في جميع ما في الدنيا من الأموال وأحد لا يقول يفترض على كل أحد تحصيل جميع ذلك
والثاني باطل أيضا فإن ما يفترض للضرورة إنما يفترض عند تحقق الضرورة وبعد تحقق الضرورة يعجز عن الكسب فكيف يتأخر فرضيته إلى حال عجزه ولا يخلو إما أن يفترض جميع أنواعه أو نوع مخصوص منه
والأول باطل لأن ليس في وسع أحد من البشر مباشرة جميع أنواعه ولا يعلم ذلك فإن عمره يفنى قبل أن يتعلم ذلك
والثاني باطل لأن ليس بعض الأنواع بتخصيصه بالفريضة بأولى من بعض ولا يخلو إما يفترض على جميع الناس أو على بعضهم
والأول باطل فإن الأنبياء عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة أوقاتهم وكذا أعلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ومن بعدهم من الأخيار لا يظن بهم أنهم اجتمعوا على ترك ما هو فرض عليهم
والثاني باطل لأن ليس بعض الناس بتخصيصه بهذه الفريضة بأولى من البعض
فتبين أن الكسب ليس بفرض أصلا والدليل عليه أنه لو كان أصله فرضا لكان الاستكثار منه مندوبا إليه أو كان نفلا بمنزلة العبادات والاستكثار منه مذموم كما قال الله تعالى { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } إلى قوله تعالى { عذاب شديد } وبهذا الحرف يقع الفرق بينه وبين طلبالعلم بأن أصله لما كان فرضا كان الاستكثار مندوبا إليه
وحجتنا في ذلك قوله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } والأمر حقيقة للوجوب ولا يتصور الإنفاق من المكسوب إلا بعد الكسب وما لا يتوصل إلى إقامة العبادة إلا به ولا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا وقال تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } الآية يعني الكسب والأمر حقيقة للوجوب
فإن قيل قد وري عن مجاهد ومكحول رحمهما الله أنهما قالا المراد طلب العلم قلنا ما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة هي الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة } فلا يترك ذلك بقول مكحول ومجاهد رحمهما الله والظاهر يؤيد ما ذكرنا بدليل ما ذكر بعده { وإذا رأوا تجارة } الآية وكان قد انفضوا بذلك في حال خطبته فنهوا عن ذلك وأمروا به بعد الفراغ من الصلاة فإن قيل فالأمر بعد النهي يفيد الإباحة قلنا الأمر حقيقة للإيجاب ولو كان المراد هو الإباحة والرخصة لقال فلاجناح عليكم أن تبتغوا من فضل الله كما قال تعالى في باب طريق الحج { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } والدليل عليه أن الله تعالى أمر بالإنفاق على العيال من الزوجات والأولاد والمعتدات ولا يتمكن من الإنفاق عليهم إلا بتحصيل المال بالكسب وما يتوصل به إلى أداء الواجب يكون واجبا
والمعقول يشهد له فإن في الكسب نظام العالم والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائها وجعل سبب البقاء والنظام كسب العباد وفي تركه تخريب نظامه وذلك ممنوع منه فإن قيل فبقاء هذا النظام يتعلق بالتسافد بين الحيوانات وأحد لا يقول بفرضية ذلك قلنا نعم إن الله تعالى علق البقاء بتسافد الحيوانات وركب الشهوة في طباعهم فتلك الشهوة تحملهم على مباشرة ذلك الفعل فلا تقع الحاجة إلى أن يجعل ذلك فرضا عليهم لكيلا يمتنعون عن ذلك فإن الطبع أدعى إلى إفضاء الشهوات
فأما الاكتساب في الابتداء كد وتعب وقد تعلق به بقاء نظام العالم فلو لم يجعل أصله فرضا لاجتمع الناس عن آخرهم على تركه لأن ليس في طبعهم ما يدعو إليه الكد والتعب فجعل الشرع أصله فرضا لكيلا يجتمعوا على تركه فيحصل ما هو المقصود
وجميع ما ذكروا من التقسيمات يبطل بما أشار إليه محمد رحمه الله في قوله طلب الكسب فريضة كما أن طلب العلم فريضة فإن هذه التقسيمات تأتي في العلم ومع ذلك كان أصله فرضا بالاتفاق فكذا طلب الكسب
وكان معنى الفرضية ما بينا من بقاء نظام العالم به ولا يوجد ذلك في الاستكثا منه على قصد التكاثر والتفاخر وإنما ذم الله تعالى الاستكثار إذا كان بهذه فقال عز وجل { وتفاخر بينكم وتكاثر }
ثم ينبني على هذه المسألة مسألة أخرى وهي أنه بعدما اكتسب مالا بد له منه هل الاشتغال بالكسب أفضل أم التفرغ للعبادة قال بعض الفقهاء رحمهم الله الاشتغال بالكسب أفضل وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن التفريغ للعبادة أفضل
وجه القول الأول أن منفعة الاكتساب أعم فإن ما اكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة والذي يشتغل بالعبادة إنما ينفع نفسه لأن بفعله يتحصل النجاة لنفسه ويحصل الثواب لجسمه وما كان أعم نفعا فهو أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم خير الناس من ينفع الناس ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة لأن منفعة ذلك أعم ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لأن ذلك أعم نفعا وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله العبادة عشرة أجزاء وقال صلى الله عليه وسلم الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال يعني طلب الحلال للإنفاق على العيال والدليل عليه أنه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانبوفي التفريغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة
وجه القول الآخر وهو الأصح أن الأنبياء والرسل عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات ولا يخفى على أحد أن اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من إشتغالهم بالكسب ومعلوم أنهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات ولا شك أن أعلى مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وكذا الناس في العادة إذا حزبهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم فيشتغلون بالعبادة لا بالكسب والناس إنما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين والدليل عليه أن الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعا فكيف يستقيم القول بتقديمه على ما لايصح إلا من المؤمنين خاصة وهي العبادة والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها أي أشقها على البدن وإنما أشار بهذا إلى أن المرء إنما ينال أعلى الدرجات بمنع النفس عن هواها قال الله تعالى { ونهى النفس عن الهوى } الآية والاشتغال بهذه الصفة في الابتداء والدوام في العبادات فأما الكسب ففيه بعض التعب في الابتداء ولكن فيه قضاء الشهوة في الانتهاء وتحصيل مراد النفس فلا بد من القول بأن ما يكون بخلاف هوى النفس ابتداء وانتهاء فهو أفضل
ولا يدخل على شئ مما ذكرنا النكاح فإن الاشتغال بالنكاح أفضل عندنا من التخلي لعبادة الله تعالى وهذا المعنى موجود فيه لأنه إنما كان ذلك أفضللما فيه من تكثير عباد الله وأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق مباهاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وذلك لايوجد هنا
وكان التفرغ للعبادة أفضل من الاشتغال بالكسب بعدما حصل ما لا بد له منه وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء رحمهم الله وهو أن صفة الفقر أعلى أم صفة الغنى فالمذهب عندنا أن صفة الفقر أعلى وقال بعض الفقهاء إن صفة الغنى أعلى وقد أشار محمد رحمه الله في كتاب الكسب في موضعين إلى ما بيناه من مذهبنا فقال في أحد الموضعين ولو أن الناس قنعوا بما يكفيهم وعمدوا إلى الفضول فوجهوها إلى أمر آخرتهم كان خيرا لهم وقال في الموضع الاخر وما زاد على ما لا بد منه يحاسب المرء عليه ولا يحاسب أحد على الفقر فلا شك أن ما لا يحاسب المرء عليه يكون أفضل مما يحاسب المرء عليه
وأما من فضل الغنى احتج فقال الغنى نعمة والفقر بؤس ونقمة ومحنة ولا يخفى على عاقل أن النعمة أفضل من النقمة والمحنة والدليل عليه أن الله تعالى سمى المال فضلا فقال عز وجل { وابتغوا من فضل الله } وقال تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وما هو فضل الله فهو أعلى الدرجات وسمى المال خيرا فقال عز وجل { إن ترك خيرا الوصية للوالدين } وهذا اللفظ يدل على أنه خير من ضده وقال الله تعالى { ولقد آتينا داود منا فضلا } يعنى الملك والمال حتى روي أنه كان له مائة سرية فمن الله بذلك عليه وسماه فضلا منه وسليمان صلواتالله عليه سأل الله تعالى ذلك فقال { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } ولا يظن بأحد من الرسل عليهم السلام أنه سأل الله الدرجة الأدنى دون الدرجة العليا والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأيدي ثلاثة يد الله ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها في مرضه إن أحب الناس إلى غنى أنت وأعزهم على فقر أنت فهذا يدل على صفة الغنى أفضل وأعلى من صفة الفقر قال صلى الله عليه وسلم كاد الفقر أن يكون كفرا وقال صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك وقال صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من البؤس والتباؤس والبؤس الفقر والتباؤس التمسكن ولا يظن بالنبي أنه يتعوذ بالله تعالى من أعلى الدرجات
وحجتنا في ذلك أن الفقر أسلم للعباد وأعلى الدرجات للعبد ما يكون أسلم له وبيان ذلك أنه يسلم بالفقر من طغيان الغنى قال الله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى } الآية وقال عز وجل { الذين طغوا في البلاد }الآية إنما حملهم على ذلك طغيان الغنى يعني الذين ادعوا ما لا ينبغي لهم ولا لأحد من البشر فأنه لم ينقل أن أحدا من الفقراء وقع في ذلك فدل أن الفقر أسلم ثم صفة الغنى مما تميل إليه النفس ويدعو إليه الطبع ويتوصل به إلى إقتضاء الشهوات ولا يتوصل بالفقر إلى شيء من ذلك وأعلى الدرجات ما يكون أبعد من اقتضاء الشهوات قال الله تعالى { واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال عز وجل { زين للناس حب الشهوات } الآية والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات وقال صلى الله عليه وسلم الفقر أزين على المؤمن من العذار الجيد على خد العروس وقال صلى الله عليه وسلم إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام وفي الآثار أن آخر الأنبياء عليهم السلام دخولا الجنة سليمان عليه السلام لملكه وقال صلى الله عليه وسلم يوما لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما بطأ بك عني يا عبد الرحمن قال وما ذاك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم إنك آخر أصحابي لحوقا بي يوم القيامة فأقول ما حبسك عني فيقول المال كنت محاسبا محبوسا حتى الآن وكان هو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وقد قاسم الله تعالى ماله أربع مرات فتصدق بالنصف وأمسك النصف في المرة الأولى كان ماله ثمانيةآلاف درهم فتصدق بأربعة آلاف وفي المرة الثانية كان ثمانية آلاف دينار فتصدق بأربعة آلاف دينار وفي المرة الثالثة كان ستة عشر ألف دينار فتصدق بنصفها وفي المرة الرابعة كان اثنين وثلاثين ألف دينار فتصدق بنصفها ومع هذا كله قال له صلى الله عليه وسلم في حقه ما قال فتبين به أن صفة الفقر أفضل وقال صلى الله عليه وسلم عرض على مفاتيح خزائن الأرض فاستقلت أخي جبرائيل عليه السلام ذلك فأشار إلى التواضع فقلت أكون عبدا نبيا أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت صبرت وإذا شبعت شكرت فكان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل لنفسه أعلى الدرجات وأن الأفضل لنا ما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وقال صلى الله عليه وسلم أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم ففي هذا إشارة إلى أنه علينا التمسك بهديه وهداه
وتبين فيما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تعوذ من الفقر المطلق وإنما تعوذ من الفقر المنسي على ما روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم إني أعوذ بك من فقر منسي ومن غنى يطغي إلا أنه قيد السؤال في بعض الأحوال وأطلق في بعض الأحوال ومراده ذلك أيضا ولكن منسمع اللفظ مطلقا نقله كما سمعه
وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء رحمهم الله وهو إن الشكر على الغنى أفضل أم الصبر على الفقر اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على أربعة أقاويل
فمنهم من توقف في جوابها لتعارض الآثار وقالوا إن أبا حنيفة رحمه الله توقف في أطفال المشركين لتعارض الآثار فيقتدى به ويتوقف في هذا الفصل لتعارض الآثار أيضا
ومنهم من قال هما سواء واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم الطاعم الشاكر كالجائع الصابر ولأن الله تعالى أثنى بقوله في كتابه على عبدين وسمى كل واحد منهما نعم العبد أحدهما أنعم عليه فشكر وهو سليمان عليه السلام قال الله تعالى { ووهبنا لداود } الآية والآخر ابتلي فصبر وهو أيوب عليه السلام قال الله تعالى { إنا وجدناه صابرا نعم العبد } الآية فعرفنا أنها سواء
ومنهم من قال الشكر على الغنى أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم الحمد لله ثمن كل نعمة وقال صلى الله عليه وسلم لو أن جميع الدنيا صارت لقمة فتناولها عبد وقال الحمد لله رب العالمين كان ما أتى به خيرا مما أوتي يعني لما في هذه الكلمة من الثناء على الله تعالىوتبين بالحديث الأول أن الشكر يكون بالثناء على الله فكان أفضل من الصبر والدليل عليه قوله تعالى { اعملوا آل داود شكرا } وهذا يعم جميع الطاعات ولا شك أن ما يعم جميع الطاعات والامتناع من أنواع المعاصي مع التمكن من مباشرتها صورة وذلك لا يوجد في الصبر على الفقر
والمذهب عندنا أن الصبر على الفقر أفضل قال صلى الله عليه وسلم الصبر نصف الإيمان وقال صلى الله عليه وسلم الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولأن في الفقر معنى الابتلاء والصبر والصبر على الابتلاء يكون أفضل من الشكر على النعمة ويعتبر هذا بسائر أنواع الابتلاء فإن الصبر على ألم المرض أعظم في الثواب من الشكر على صحة البدن وكذلك الصبر على العمى أفضل من الشكر على البصر قال صلى الله عليه وسلم فيما يأثر عن ربه عز وجل من أخذت كريمتيه فصبر على ذلك فلا أجر له عندي إلا الجنة أو قال الجنة والرؤية وهذه لفقرة وهو أن للمؤمن ثوابا في نفس المصيبة قال صلى الله عليه وسلم يؤجر المؤمن في كل شئ حتى الشوكة يشاكها في رجله والدليل عليه أن ماعزا رضي الله عنه حين أصابه حر الحجارة هرب وكان ذلك منه نوع اضطراب ثم مع ذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلملقد تاب توبة لو قسمت توبته على جميع أهل الأرض لوسعتهم فعرفنا أن في نفس المصيبة للمؤمن ثواب وفي الصبر عليها ثواب أيضا
فأما نفس الغنى لا ثواب به وإنما الثواب في الشكر على الغنى وما ينال به به الثواب من وجهين يكون أعلى ما ينال فيه الثواب من وجه واحد وكما أن في الشكر على الغنى ثناء على الله تعالى وفي الصبر على المصيبة كذا لقوله تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة } الآية وحكي أن غنيا وفقيرا تناظرا في هذه المسألة فقال الغني الغني الشاكر أفضل فإن الله تعالى استقرض من الأغنياء فقال عز وجل { من ذا الذي يقرض الله } الآية وقال الفقير إن الله تعالى إنما استقرض من الأغنياء للفقراء وقد يستقرض من الحبيب وغير الحبيب ولا يستقرض إلا لأجل الحبيب
ترجيحه إن الغني يحتاج إلى الفقير والفقير لا يحتاج إلى الغني لأن الغني يلزمه أداء حق المال فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئا من ذلك لم يجبروا على الأخذ ويحمدون شرعا على الامتناع عن الأخذ ولا يتمكن الأغنياء من إسقاط الواجب عن أنفسهم والله تعالى يوصل إلى الفقراء كفايتهم على حسب ما ضمن لهم فبهذا تبين أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء والفقراء لا يحتاجون إليهم بخلاف ما ظنه من يعتبر الظاهر ولا يتأمل في المعنى فاتضح بما قررنا أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر وفي كل خير
ثم الكسب على مراتب فمقدار ما لا بد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد إكتسابه عينا لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك فهو في سعة من ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وقال صلى الله عليه وسلم لابن حبيش فيما يعظه بلغة تسد بها جوعتك وخرقة تواري بها سوءتك فإن كان لك كن يكنك فحسن وإن كان لك دابة تركبها فبخ بخ وهذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض عليه لأن قضاء الدين مستحق عليه عينا قال صلى الله عليه وسلم الدين مقضي وبالاكتساب يتوصل إليه وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم عينا لأن الانفاق على زوجته مستحق عليه قال الله تعالى { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } الآية معناه وأنفقوا عليهم من وجدكم وهكذا في قراءة ابن مسعودرضي الله عنه وقال جل وعلا { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } الآية وقال عز وجل { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } الآية وإنما يتوصل إلى إبقاء هذا المستحق بالكسب وقال صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول له فالتحرز عن ارتكاب المآثم فرض وقال صلى الله عليه وسلم إن لنفسك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه ولكن هذا في الفرضية دون الأول لقوله صلى الله عليه وسلم ثم بمن تعول فإن الكسب زيادة على ذلك ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة من ذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم إدخر قوت عياله لسنة بعدما كان ينهى عن ذلك على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه انفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا والمتأخر يكون ناسخا للمتقدم
فإن كان له أبوان كبيران معسران فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما لأن نفقتهما مستحق عليه مع عسرته إذا كان متمكنا من الكسب قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أتاه وقال أريد الجهاد معك فقال ألك أبوان قال نعم قال صلى الله عليه وسلم إرجع ففيهما فجاهد يعني اكتسب فأنفق عليهما وقال تعالى { وصاحبهما }في الدنيا معروفا وليس من المصاحبة بالمعروف تركهما يموتان جوعا مع قدرته على الكسب ولكن هذا دون ما سبق في الفرضية لما روي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم معي دينار فقال صلى الله عليه وسلم أنفقه على نفسك فقال معي آخر قال صلى الله عليه وسلم أنفقه على عيالك قال معي آخر قال صلى الله عليه وسلم أنفقه على والديك
فأما غير الوالدين من ذوي الرحم المحرم فلا يفترض على المرء الكسب للانفاق عليهم لأنه لا تستحق نفقتهم عليه إلا باعتبار صفة اليسار لكنه يندب إلى الكسب والانفاق عليهم لما فيه صلة الرحم وهو مندوب إليه في الشرع قال صلى الله عليه وسلم لا خير فيمن لا يحب المال ليصل به رحمه ويكرم به ضيفه ويبر به صديقه وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه وارغب لك رغبة من المال الحديث إلى أن قال نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحمه وقطيعة الرحم حرام لقوله صلى الله عليه وسلم ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم تقول النعمة كفرت ولم أشكر وتقول الأمانة خزنت ولم أؤد وتقول الرحم قطعت ولم أوصل وقال صلى الله عليه وسلم صلة الرحم تزيد في العمر وقطيعة الرحم ترفع البركة عن العمر
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يأثر عن ربه عز وجل أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وفي ترك الانفاق عليهم ما يؤدي إلى قطيعته فيندب إلى الاكتساب للانفاق عليهم وبعد ذلك الأمر موسع عليه فإن شاء إكتسب وجمع المال وإن شاء أبى لأن السلف رحمهم الله منهم من جمع المال ومنهم من لم يفعل فعرفنا أن كلا الطرفين مباح
وأما الجمع فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى وجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبها مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فدل أن جمع المال على طريق التعفف مباح وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبري وانقضاء عمري وكان كذا فقد اجتمع له أربعون شاة حلوبة وفدك وسهم بخيبر في آخر عمره
وأما الامتناع عن جمع المال فطريق مباح أيضا لحديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثا لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وقيل هذا كان مما يتلى في القرآن في سورة يونس في الركوع الثاني أو الثالث ثم انتسخ تلاوته وبقيت روايته وقال صلى الله عليه وسلم تبا للمال وفي رواية تبا لصاحب الذهب والفضة وقال صلى الله عليه وسلم هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا يعني يتصدق من كل جانب وقال صلى الله عليه وسلم يقول الشيطان لن ينجو مني صاحب المال من احدى ثلاث إما أن أزينه في عينه فيجمعه من غير حله وإما أن أحقره في عينه فيعطي من غير حله وأما أن أحببه إليه فيمنع حق الله تعالى منه ففي هذا بيان أن الامتناع عن الجمع أسلم ولا عيب على من اختار طريق السلامة
ثم بين محمد رحمه الله أن الكسب فيه معنى المعاونة على القرب والطاعات أي كسب كان حتى أن فتال الحبال ومتخذ الكيزان والجرار وكسب الحوكة فيه معاونة على الطاعات والقرب فإنه لايتمكن من أداء الصلاة إلا بالطهارة ويحتاج له إلى كوز ورشاء ينزح به الماء ويحتاج إلى ستر العورة لأداء الصلاة وإنما يتمكن من ذلك بعمل الحوكة فعرفنا أن ذلك كله من أسباب التعاون على إقامة الطاعة وإليه أشار علي رضي الله عنه في قوله لا تسبوا الدنيافنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة وقال أبو ذر رضي الله عنه حين سأله رجل عن أفضل الأعمال بعد الإيمان فقال الصلاة وأكل الخبز فنظر إليه الرجل كالمتعجب فقال لولا الخبز ما عبد الله تعالى يعني بأكل الخبز يقيم صلبه فيمكن من إقامة الطاعة
ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله أن المكاسب كلها في الإباحة سواء قال بعض المتقشفة ما يرجع إلى الدناءة من المكاسب في عرف الناس لا يسع الإقدام عليه إلا عند الضرورة لقوله عليه السلام ليس للمؤمن أن يذل نفسه وقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها والسفاف ما يذل المرء بخسته
وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ولا الصلاة قيل ما يكفرها يا رسول الله قال الهموم في طلب المعيشة وقال صلى الله عليه وسلم طلب الحلال كمقارعة الأبطال ومن بات ناويا في طلب الحلال بات مغفورا له وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال الاكتساب للانفاق على العيال من غير تفضيل بين أنواع الكسب ولو لم يكن فيه سوى التعفف واستغناء عن السؤال لكان مندوبا إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال السؤال آخر كسب العبد أي يبقى في ذلته إلى يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه أو لغيرهمكسبه فيها نقص المرتبة خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك ثم المذمة في عرف الناس ليس للكسب بل للخيانة وخلف الوعد واليمين الكاذبة ومعنى البخل
ثم المكاسب أربعة الإجارة والتجارة والزراعة والصناعة وكل ذلك في الإباحة سواء عند جمهور الفقهاء رحمهم الله تعالى
وقال بعضهم المزارعة مذمومة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيئا من آلات الحراثة في دار قوم فقال ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل { إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم } أهو التعرب قال لا ولكنه الزراعة والتعرب سكون البادية وترك الهجرة وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنه إذا تبايعتم بالعين وابتعتم أذناب البقر ذللتم حتى يطمع فيكم
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ازدرع بالجرف وقال صلى الله عليه وسلم الزارع يتاجر ربه وقد كان له فدك وسهم خيبر وكان قوتهفي آخر عمره من ذلك وعمر رضي الله عنه كان له أرض بخيبر تدعى شمع وقد كان لابن مسعود والحسن بن علي وأبي هريرة رضي الله عنهما مزارع بالسواد يزرعونها ويؤدون خراجها وقد كان لابن عباس رضي الله عنهما أيضا مزارع بالسواد وغيرها
وتأويل الآثار المروية فيما إذا اشتغل الناس كلهم بالزراعة وأعرضوا عن الجهاد حتى يطمع فيهم عدوهم وكل ذلك مروي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال وقعدتم عن الجهاد وذللتم حتى يطمع فيكم فأما إذا اشتغل بعضهم بالجهاد وبعضهم بالزراعة ففي عمل المزارعة معاونة للمجاهد وفي عمل المجاهد دفع عن المزارع وقال صلى الله عليه وسلم المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا
ثم اختلف مشايخنا رحمهم الله في التجارة والزراعة قال بعضهم التجارة التجارة أفضل لقوله تعالى { وآخرون يضربون في الأرض } الآية والمراد الضرب في الأرض للتجارة فقدمه في الذكر على الجهاد الذي هو سنام الدين ولهذا قال عمر رضي الله عنه لإن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقاتل مجاهدا في سبيل الله وقال صلى الله عليه وسلم التاجر الأمين مع الكرام البررة يوم القيامة وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن الزراعة أفضل منالتجارة لأنها أعم نفعا فبعمل الزراعة يحصل ما يقيم المرء به صلبه ويتقوى على الطاعة وبالتجارة لا يحصل ذلك ولكن ينمو المال وقال صلى الله عليه وسلم خير الناس من هو أنفع للناس والأشتغال بما يكون نفعه أعم يكون أفضل ولأن الصدقة في الزراعة أظهر فلا بد أن يتناول مما يكتسبه الزراع الناس والدواب والطيور وكل ذلك صدقة له قال صلى الله عليه وسلم ما غرس مسلم شجرة فيتناول منها انسان أو دابة أو طير إلا كانت له صدقة وفي رواية ما أكلت العافية منها فهي له صدقة والعافية الطيور الطالبة لأرزاقها الراجعة إلى أوكارها وإذا كان في عادة الناس
ثم الكسب الذي ينعدم فيه التصدق لا توجد فيه الأفضلية كعمل الحياكة مع أنه من التعاون على إقامة الصلاة فعرفنا أن ما يكون التصدق فيه أكثر من الكسب فهو أفضل
فأما تأويل ما تعلقوا به فقد روي عن مكحول ومجاهد رحمهما الله قالا المراد الضرب في الأرض لطلب العلم وبه نقول أن ذلك أفضل فقد أشار محمد رحمه الله إلى ذلك في قوله طلب الكسب فريضةكما أن طلب العلم فريضة فتشبيه هذا بذلك دليل على أن طلب العلم فريضة أعلى درجة من غيره وبيان فرضية طلب العلم في قوله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم والمراد علم الحال على ما قيل أفضل العلم علم الحال وأفضل العمل حفظ الحال وبيان هذا أن ما يحتاج المرء في الحال لأداء ما لزمه يفترض عليه عينا علمه كالطهارة لأداء الصلاة فإن أراد التجارة يفترض عليه تعلم ما يحرز به عن الربا والعقود الفاسدة وإن كان له مال يفترض عليه تعلم زكاة جنس ماله ليتمكن به من الأداء وإن لزمه الحج يفترض عليه تعلم ما يؤدي به الحج فهذا معنى علم الحال وهذا لأن الله تعالى حكم ببقاء الشريعة إلى يوم القيامة والبقاء بين الناس يكون بالتعلم والتعليم فيفترض التعليم والتعلم جميعا وقد قررنا هذا المعنى في بيان فرضية الكسب والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين لا يعلمون والذين لا يتعلمون ليرفع العلم بهم وقال إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا بنزعه من القلوب ولكن يقبض العلماء فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا والذي يؤيد هذا كله قوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك } الآية وفي هذا إشارة إلى أنه يفترض تعليم الكافر إذا طلب فتعليم المؤمن أولىوبيان قولنا أن من آكد الفرائض أن الإنسان لو شغل جميع عمره بالتعليم والتعلم كان مفترضا في الكل ولو شغل جميع عمره بالصلاة والصوم كان متنقلا في البعض ولا شك أن إقامة الفرض أعلى درجة من إدراك النفل
وقال وكما أن طلب العلم فريضة فأداء العلم للناس فريضة لأن اشتغال العالم بالعلم به معروف والعمل بخلافه منكر فالتعليم يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وهو فرض على هذه الأمة وقال الله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } الآية
ويختلفون في فصل وهو أن من تعلم حكما أو حكمين هل يفترض عليه أن يبين ذلك لمن لا يعلمه أم لا فعلى قول بعض مشايخنا رحمهم الله يلزمه ذلك وأكثرهم على أنه لا يلزمه ذلك وإنما يجب ذلك على الذين اشتهروا بالعلم فيمن يعتمد الناس قولهم وقد أشار في هذا الكتاب إلى القولين فاللفظ المذكور هنا يوجب التعميم
وقال بعد هذا فعلى البصراء من العلماء أن يبينوا للناس طريق الفقه فهذا يدل على أن الفرضية على الذين اشتهروا بالعلم خاصة
وجه القول الأول قوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } وقال الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب }الآية فتبين بالآيتين أن الكتمان حرام وأن ضده وهو الإظهار لازم فيتناول ذلك كل من بلغه علم فإن يتصور منه الكتمان فيما بلغه فيفترض عليه الاظهار وقال صلى الله عليه وسلم فمن كتم علما عنده ألجم يوم القيامة بلجام من نار وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم آخر هذه الأمة يلعن أولها فمن كان ممن عنده علم فليظهره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد ولأن تعلم العلم بمنزلة أداء الزكاة وعلى كل أحد أداء الزكاة من نصابه صاحب النصاب وصاحب النصب في ذلك سواء
وجه القول الآخر أن العلماء في كل زمان خلفاء الرسل عليهم السلام كما قال صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء ومعلوم أن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم فإن الله تعالى وصفه بذلك وقال { لتبين للناس ما نزل إليهم } ولا يجب على أحد سواه بيان شيء من ذلك في حضرته فكذا في كل حين ومكانه إنما يفترض الأداء على المشهورين بالعلم دون غيرهم ولأن الناس في العادة إنما يعتمدون قول من اشتهر بالعلم وقل ما يعتمدون غيرهم وربما يستخف بعضهم بما يسمعه ممن لم يشتهر بالعلم فلهذا كان البيانعلى المشهورين خاصة وقد نقل عن الحسن رحمه الله قال أدركت سبعين بدريا كلهم قد انزووا ولم يشتغلوا بتعليم الناس لأنه كان لا يحتاج إليهم وكذا علماء التابعين رحمهم الله فمنهم من تصدى للفتوى والتعليم ومنهم من امتنع من ذلك وانزوى بعلمه لأنه لا يتمكن الخلل لامتناعه وأن المقصود حاصل بغيره وهذا لأن للعلم ثمرتان العلم به والتعليم فمن الناس من يتمكن من تحصيل الثمرتين لنفسه فيجمع بين العلم والتعليم ومنهم من لا يتمكن منهما جميعا فيكتفي بثمرة العلم به فعرفنا أن ذلك واسع وأن المقصود بالمشهورين من أهل العلم حاصل ولم لم يكن طلب العلم فريضة لم يكن للناس مخرج من الاثم يعني أن التحرز عن ارتكاب المأثم فرض وقال الله تعالى { إنما حرم ربي الفواحش } الآية ولا يتوصل إلى هذا التحرز إلا بالعلم
قال ولو ترك الناس طلب العلم لما تميز الحق من الباطل والصواب من الخطأ والبر من الجفاء يعني أن التمييز بين الحق والباطل أصل الدين ولا يتوصل إليه إلا بالعم قال الله تعالى { ويمح الله الباطل ويحق الحق } وقال في آية أخرى { ليحق الحق ويبطل الباطل } ولا شك أنه يفترض على كل مخاطب التمييز بين ماأحقه الله وبين ما محاه الله من الباطل وكذا على كل أحد التمسك بما هو صواب والتحرز عن الخطأ بجهده وطريق التوصل إلى ذلك بالعلم
قال فعلى العلماء إذا ما وصل إليهم ممن قبلهم مما فيه منفعة للناس يعني أن بيان المسموع من الآثار واجب على العلماء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال نضر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها الى من لم يسمعها فرب حامل فقه الى غير فقيه ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه وقال صلى الله عليه وسلم تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم وقال صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب
ثم إنما يفترض بيان مافيه منفعة للناس وهو الناسخ من الآيات الصحيحة المشهورة فأما المنسوخ لايجب روايته وكذا الشأن فيما يعم به البلوى فإن ليس في روايته منفعة للناس وربما يؤدي إلى الفتنة والتحرز عن الفتنة أولى والأصل فيه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه لو حدثتكم بكل ما سمعت لرميتموني بالحجارة وإن معاذا رضي الله عنه كان عنده حديث في الشهادة وكان لا يرويه إلا أن احتضر ثم قال لأصحابه سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا ما حضرني من أمر الله ما رويته لكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة فكان يمتنع من روايته في صحته لكيلا يتكلالناس ثم لما خاف الفوت لموته رواه لأصحابه فصار هذا أصلا لما بينا
قال ألا ترى أنه لو لم يفترض الأداء علينا لم يفترض على من قبلنا حتى ينتهي ذلك الى الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يعني أن الناس في نقل العلم سواء قال صلى الله عليه وسلم ينقل هذا الدين من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين فلو جوزنا للمتأخرين ترك النقل لجوزنا مثل ذلك للمتقدمين فيودي هذا القول بما ذهب إليه الروافض أن الله تعالى أنزل آيات في شأن علي رضي الله عنه وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضله والتنصيص على إمامته غير أن الصحابة رضي الله عنهم كتموا ذلك حسدا منهم له وعند أهل السنة رحمهم الله هذا كذب وزور ولا يجوز أن يظن بأحد من الصحابة رضي الله عنهم هذا فكيف يظن بجماعتهم ولو كان شيئا من ذلك لاشتهر ذلك ولكن بناء مذهب الروافض على الكذب والبهتان فمحمد رحمه الله بهذا الاستشهاد أشار الى هذا إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ما تركوا نقل شئ من أمور الدين فعلى من بعدهم الإقتداء بهم في ذلك
ثم إن الفرض نوعان فرض عين وفرض كفاية ففرض العين ما يتعين على كل أحد إقامته نحو أركان الدين وفرض الكفاية ما إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وإنه إذا اجتمع الناس على تركه كانوا مشتركين في المأثم كالجهاد فإن المقصود منه إعلاء كلمة الله تعالى وإعزازالدين فإذا حصل هذا المقصود ببعض المسلمين سقط عن الباقين وإذا قعد الكل عن الجهاد حق استولى الكفار على بعض الثغور اشترك المسلمون في المأثم بذلك وكذا غسل الميت والصلاة عليه والدفن فذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وإن امتنعوا عن ذلك حتى ضاع ميت بين قوم مع علمهم بحاله كانوا مشتركين في المأثم فأداء العلم على الناس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وهو إحياء الشريعة وكون العلم محفوظا بين الناس بأداء البعض وأن امتنعوا من ذلك حتى إن درس شئ بسبب ذلك كانوا مشتركين في المأثم
ثم قال وما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل فأداؤه إلى الناس فريضة ومعنى هذا الكلام أن مباشرة فعل من التطوعات وما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بفرض ولا إثم على من ترك ذلك ولكن أداء ذلك إلى الناس فريضة حتى إذا اجتمع أهل زمان على ترك نقله كانوا تاركين لفريضة مشتركين في المأثم لأنه بترك النقل يندرس شيء من الشريعة وليس في ترك الأداء معنى الإندراس ونظير هذا أن من امتنع من صلاة التطوع فلا إثم عليه في ذلك ولو صلى التطوع بغير طهارة كان آثما معاتبا لأن في الأداء بغير طهارة تغيير حكم الشرع وليس في ترك الأداء تغيير حكم الشرع فإن المقصود بالتطوعات أحد شيئين قطع طمع الشيطان عن وسوسته بأن يقول إذا كان هذا العبد يؤدي ما ليس إليه كيف يترك أداء ما هو عليه فينقطع طمعه عن وسوسته بهذا وهو خبر نقصان الفرائض على ما قال صلى الله عليه وسلم إذا تمكن من فريضة العبد نقصانيقول الله تعالى لملائكته اجعلوا نوافل عبدي جبرا لنقصان فريضته وإذا كان في التطوع هذا المقصود فلا يجوز ترك البيان فيه حتى يندرس فيفوت هذا المقصود أصلا فعرفنا أن أداءه للناس فريضة وإن لم يكن مباشرة فعله فريضة
قال وليس يجب على الفقيه أن يحدث بكل ما سمع إلا لغائب حضر خروجه مما يعلم أنه لم يشتهر في أهل مصره يعني بهذا أن أصل البيان واجب ولكن الوقت موسع وإنما يتضيق عند خوف الفوت كما بينا في حديث معاذ رضي الله عنه والذي أتاه كان قصده أن يتعلم منه ما لم يشتهر في مصره مما فيه منفعة للناس حتى ينذرهم يذلك إذا رجع فما لم يعزم على الرجوع كان الوقت في التعليم واسعا على المعلم وإذا عزم على الخروج فقد تضيق الوقت فلا يسعه تأخير البيان بعد ذلك بمنزلة الصلاة بعد دخول الوقت فرض ولكن الوقت واسع إذا بلغ آخر الوقت تضيق فلا يسعه التأخير بعد ذلك وهذا فيما لم يشتهر فيه أهل مصره فأما فيمن اشتهر فيهم فلا حاجة ولا ضرورة ولأن الراجع يتمكن من تحصيل ذلك لنفسه من علماء أهل مصره وأهل مصره يتوصلون إلى ذلك من جهة علماء منهم دون هذا الراجع إليهم والمؤمنون كنفس واحدة هكذا قال صلى الله عليه وسلم المؤمنون كنفس واحدة يعني إذا تألم بعض الجسد تألم الكل وإذا نال الراحة بعض الجسد اشترك في ذلك سائر الأعضاءفإذا كان مشهورا في أهل مصره ولا يندرس بامتناع هذا المعلم من البيان له وإذا لم يكن مشهورا فيهم فترك البيان يؤدي إلى الاندراس في حقهم فكما لا يحل له ترك البيان لأهل مصره حتى يندرس فكذا لا يحل ترك البيان للذي ارتحل إليه من موضع آخر لهذا المقصود وهو غير مشهور في أهل مصره
ثم إن الله تعالى خلق أولاد آدم خلقا لا يقوم أبدانهم إلا بأربعة أشياء الطعام والشراب واللباس والكن
أما الطعام قال الله تعالى { وما جعلناهم جسدا } الآية
وقال عز وجل { كلوا من طيبات ما رزقناكم }
وأما الشراب قال الله { وجعلنا من الماء كل شيء حي }
وقال جل وعلا { كلوا واشربوا }
وأما اللباس قال الله تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا } وقال تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } الآية
وأما الكن فإنهم خلقوا خلقة لا تطيق أبدانهم أذى الحر والبرد ولا تبقى على شدتهما قال الله تعالى { وخلق الإنسان ضعيفا }فيحتاج إلى دفع أذى الحر والبرد عن نفسه ليبقى نفسه فيؤدي بها ما تحمل من أمانة الله تعالى ولا يتمكن من ذلك إلا بكن فصار الكن بهذا المعنى بمنزلة الطعام والشراب
قال وقدر لهم المعاش بأسباب فيها حكمة بالغة يعني أن كل أحد لا يتمكن من تعلم جميع ما يحتاج إليه في عمره فلو اشتغل بذلك فني عمره قبل أن يتعلم وما لا يتعلم لا يمكنه أن يحصله لنفسه وقد تعلق بهذا مصالح المعيشة لهم فيسر الله تعالى على كل واحد منهم تعلم نوع من ذلك حتى يتوصل إلى ما يحتاج إليه من ذلك النوع بعمله ويتوصل غيره إلى ما يحتاج إليه من ذلك بعلمه أيضا وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا وبيان هذا في قوله { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } الآية يعني أن الفقير يحتاج إلى مال الغني والغني يحتاج إلى عمل الفقير فهنا أيضا الزارع يحتاج إلى عمل النساج ليحصل اللباس لنفسه والنساج يحتاج إلى عمل الزارع لتحصيل الطعام والقطن الذي يكون منه اللباس لنفسه ثم كل واحد منهما يقيم من العمل يكون معينا لغيره فيما هو قربة وطاعة فإن التمكن من إقامة القربة بهذا يحصل فيدخل تحت قوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } وقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم وسواء أقام ذلك العمل بعوض شرط عليه أو بغير عوض فإذا كان مقصده ما بينا كان في عمله معنى الطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم الأعمالبالنيات ولكل امرئ ما نوى فإذا نوى العامل بعمله التمكن من إقامة الطاعة أو تمكين أخيه من ذلك كان مثابا على عمله باعتبار نيته بمنزلة المتناكحين اذا قصدا بفعلهما ابتغاء الولد وتكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم كان لهما الثواب على عملهما وإن كان ذلك الفعل لقضاء الشهوة في الأصل ولكن بالنية يصير معنى القربة أصلا ومعنى قضاء الشهوة تبعا فلهذا مثله
قال فإن تركوا الأكل والشرب فقد عصوا لأن فيه تلفا يعني أن النفس لما كانت لا تبقى عادة بدون الأكل والشرب فالممتنع من ذلك قاتل نفسه وقال الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } وهو معرض نفسه للهلاك وقال الله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وبعد التناول بقدر ما يسد به رمقه يندب إلى أن يتناول مقدار ما يتقوى به على الطاعة إن لم يتناول يضعف وربما يعجز عن الطاعة وقال صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي أحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير لأن اكتساب ما يتقوى به على الطاعة يكون طاعة وهو مندوب إلى الإتيان يكون طاعة بما هو طاعة وإليه أشار أبو ذر رضي الله عنه حين سئل عن أفضل الأعمال فقال الصلاة وأكل الخبز وقد نقل عن مسروق رحمه الله وغيره أن من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار والمراد تناول الميتةلأن عند الضرورة الحرمة تنكشف فتلحق بالمباح وإن كان الحكم في الميتة هذا مع حرمتها في غير حالة الضرورة فما ظنك في الطعام الحلال
قال وستر العورة فريضة بقوله تعالى { خذوا زينتكم } الآية والمراد ستر العورة لأجل الصلاة ألا ترى أنه خص المساجد بالذكر والناس في الأسواق أكثر منه في المساجد فلا فائدة لتخصيص المساجد بالذكر سوى أن يكون المراد ستر العورة لأجل الصلاة فهذا يدل على أنه من شروط الصلاة فيكون فرضا ولئن كان المراد ستر العورة لأجل الناس فالأمر حقيقة للوجوب فإن كان خاليا في بيته فهو مندوب إلى أن يستر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكروا عنده كشف العورة قيل له أرأيت لو كان أحدنا خاليا فقال صلى الله عليه وسلم الله أحق أن يستحى منه
قال وعلى الناس اتخاذ الأوعية لنقل الماء الى النساء لأن المرأة تحتاج إلى الماء للوضوء والشرب وإن تيممت للوضوء احتاج إلى الماء لتشرب ولا يمكنها أن تخرج لتستقي الماء من الأنهار والآبار والحياض فإنها أمرت بالقرار في بيتها قال الله تعالى { وقرن في بيوتكن } فعلى الرجل أن يأتيها بذلك لأن الشرع ألزم صاحبها النفقة والماء كالنفقة ولا يمكنه أن يأتيها بكفه فلا بد من أن يتخذ وعاء لذلك لأن ما لا يتأتى في إقامة المستحق إلا به يكون مستحقا
قال ومن فعل شيئا مما ذكرنا فهو مأمور بإتمامه لقوله تعالى { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } الآية وهذا مثل ذكره الله تعالى لمن ابتدأ طاعة ثم لم يتمها كالمرأة التي تغزل ثم تنقض فلا تكون ذات غزل ولا ذات قطن ومن امتنع من الأكل والشرب والاستكنان حتى مات وجب عليه دخول النار لأنه قتل نفسه قصدا فكأنه قتلها بحديدة وقال صلى الله عليه وسلم من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها نفسه في نار جهنم ثم تأويل اللفظ الذي ذكره من وجهين
أحدهما أنه ذكره على سبيل التهديد وأضمر في كلامه معنى صحيحا وهو أنه أراد الدخول الذي هو تحلة القسم قال الله تعالى { وإن منكم إلا واردها } الآية والمراد داخلها عند أهل السنة والجماعة
والثاني أن المراد بيانه جزاء فعله يعني أن جزاء فعله دخول النار ولكن في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه بفضله وإن شاء أدخله النار بعدله وهذا نظير ما قيل في بيان قوله { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } أن هذا جزاؤه إن جازاه الله تعالى به ولكنه عفو كريم يتفضل بالعفو ولا يخلد أحدا من المؤمنين في نار جهنم
وقال وكل أحد منهي عن إفساد الطعام وفي الافساد الإسراف ولهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال وعن كثرةالسؤال وعن إضاعة المال ثم الحاصل أنه يحرم على المرء فيما اكتسبه من الحلال الافساد والسرف والمخيلة والتفاخر والتكاثر أما الإفساد فحرام لقوله تعالى { وابتغ فيما آتاك الله } وقال تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض } الآية أما السرف فحرام لقوله تعالى { ولا تسرفوا } الآية وقال جل وعلا { والذين إذا أنفقوا } الآية فذلك دليل على أن الإسراف والتقتير حرام وأما المندوب إليه ما بينهما وفي الإسراف تبذير وقال الله تعالى { ولا تبذر تبذيرا }
ثم السرف في الطعام أنواع فمن ذلك الأكل فوق الشبع لقوله صلى الله عليه وسلم ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من البطن فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس وقال النبي صلى الله عليه وسلم يكفي ابن آدم لقيمات يقمن بها صلبه ولا يلام على كفاف ولأنه إنما يأكل لمنفعة لنفسه ولا منفعة في الأكل فوق الشبع بل فيه مضرة فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام فيمزبلة أو شرا منه ولأن مايزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره فإنه يسد به جوعته إذا أوصله إليه بعوض أو بغير عوض فهو في تناوله جان على حق الغير وذلك حرام ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه فيكون ذلك كجراحته نفسه والأصل فيه ما روي أن رجلا تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم نح عنا جشأك أما علمت أن أطول الناس عذابا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا ولما مرض ابن عمر رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب مرضه فقيل أنه أتخم فقال ومم ذلك فقيل من كثرة الأكل فقال صلى الله عليه وسلم أما إنه لو مات لم أشهد جنازته ولم أصل عليه
ولما قيل لعمر رضي الله عنه ألا نتخذ لك جوارشا قال وما يكون الجوارش قيل هاضوم يهضم الطعام فقال سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع إلا بعض المتأخرين رحمهم الله استثني من ذلك حاله وهو أنه إذا كان له غرض صحيح في الأكل فوق الشبعفحينئذ لا بأس بذلك بأن يأتيه ضيف بعد تناوله مقدار حاجته فيأكل مع ضيفه لئلا يخجل وكذا إذا أراد أن يصوم من الغد فلا بأس بأن يتناول بالليل فوق الشبع ليتقوى على الصوم بالنهار
ومن الإسراف في الطعام الاستكثار من المباحات والألوان فإن النبي صلى الله عليه وسلم عد ذلك من أشراط الساعة وقال تدار القصاع على موائدهم واللعنة تنزل عليهم وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت في ضيافة فأتيت بقصعة بعد قصعة فقامت وجعلت تقول ألم تكن الأولى مأكولة فإن كانت فما هذه الثانية وفي الأولى ما يكفينا قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا أن يكون ذلك عند الحاجة بأن يمل من ناحية واحدة فيستكثر من المباحات ليستوفي من كل نوع شيئا فيجتمع له مقدار ما يتقوى به على الطاعة على ما حكي أن الحجاج كتب إلى عبدالملك بن مروان يشكو إليه ثلاثا العجز عن الأكل وعن الاستمتاع والعي في الكلام فكتب إليه أن استكثر من ألوان الطعام وجدد السراري في كل وقت وانظر إلى أخريات الناس في خطبتك
ومن الإسراف أن يضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه من للأكل قد تبينا أن الزيادة على مقدار حاجته كان حق غيره إلا أن يكون من قصده أن يدعو بالأضياف قوما بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام فحينئذ لا بأس بذلك لأنه مفيد
ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه أو يأكل ماانتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال ويزعمون أن ذلك ألذ ولكن هذا إذا كان غيره لايتناول ما ترك هو من حواشيه فأما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس بأن يختار لتناوله رغيفا دون رغيف
ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يتمسح به لأن غيره يستقذر ذلك فلا يأكله فأما إذا كان هو يأكل ما يتمسح به فلا بأس بذلك
ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها بل ينبغي أن يبدأ بتلك اللقمة فيأكلها لأن في ترك ذلك استخفافا بالطعام وفي التناول إكرام وقد أمرنا بإكرام الخبز قال صلى الله عليه وسلم أكرموا الخبز فإنها من بركات السماء والأرض ومن إكرام الخبز أن لا ينتظر الأدام إذا حضر الخبز ولكن يؤخذ في الأكل قبل أن يؤتى بالأدام وهذا لأن الإنسان مندوب إلى شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة وفي ترك اللقمة التي سقطت معنى كفران النعمة وفي المبادرة إلى تناول الخبز قبل أن يؤتى بالأدام إظهار شكر النعمة وإذا كان جائعا ففي الامتناع إلى أن يؤتى بالأدام نوع مماطلة فينبغي أن يتحرز عن ذلك وفيه حكاية فإن أبا حنيفة رحمه الله لقي بهلول المجنون يوما وهو جالس على الطريق يأكل الطعام فقال أتستجيز من نفسك أنتأكل في الطريق قال يا أبا حنيفة أنت تقول لي هذا ونفسي غريمي والخبز في حجري وقال النبي صلى الله عليه وسلم مطل الغنى ظلم فكيف أمنعها حقها إلى أن أدخل البيت
والمخيلة حرام لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمقداد رضي الله عنه في ثوب لبسه إياك والمخيلة ولا تلام على كفاف
فالتفاخر والتكاثر حرام لقوله تعالى { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } الآية وإنما ذكر هذا على وجه الذم لذلك وقال الله تعالى { ولا تمنن تستكثر } الآية وقال عز وجل { أن كان ذا مال وبنين } وقال جل وعلا { ألهاكم التكاثر } فعرفنا أن التفاخر والتكاثر حرام
قال وأمر اللباس نظير الأكل في جميع ما ذكرنا يعني أنه كان منهي عن ذلك في اللباس والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشهرتين والمراد أن يلبس نهاية ما يكون من الحسن والجودة في الثياب على وجه يشار إليه بالأصابع أو يلبس نهاية ما يكون من الثياب الخلق على وجه يشار إليه بالأصابع فإن أحدهما يرجع إلى الإسراف والآخر يرجع إلى التقتير وخير الأمور أوساطها فينبغي أن يلبس في عامة الأوقات الغسيل من الثياب ولا يتكلف للجديد الحسن عملا بقوله صلى الله عليه وسلم البذاذةمن الإيمان إلا أنه لا بأس بأن يلبس أحسن ما يجد من ثياب في بعض الأعياد والأوقات والجمع لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان له جبة فنك أهداها إليه المقوقس فكان يلبسها في الأعياد والجمع وللوفود ينزلون إليه وروي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قباء مكفوف بالحرير وكان يلبس ذلك في الأعياد والجمع ولأن في لبس ذلك في بعض الأوقات إظهار النعمة قال صلى الله عليه وسلم إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى عليه أثره وفي التكلف لذلك في جميع الأوقات معنى الصلف وربما يغيظ ذلك المحتاجين فالتحرز عن ذلك أولى وكذا في زمن الشتاء لا ينبغي أن يظاهر بين جبتين أو ثلاثة إذا كان يكفيه لدفع البرد جبة واحدة لأن ذلك يغيظ المحتاجين وهو منهي عن إكتساب سبب يؤذي غيره ومقصوده يحصل بما دون ذلك والأولى له أن يختار الخشن من الثياب للبس على ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يلبس إلا الخشن من الثياب فإن لبس الخشن في زمان الشتاء واللين في زمان الصيف فلا بأس بذلك فإن الخشن يدفع من البرد ما لا يدفعه اللين في زمان الصيف فهو محتاج إلى ذلك في زمن الشتاء واللين ينشف منالعرق ما لا ينشفه الخشن فهو محتاج إلى ذلك في زمان الصيف فإن لبس اللين في الشتاء والصيف فذلك واسع له أيضا إذا كان اكتسبه من حله لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية
وكما يندب إلى ما بينا في طعام نفسه وكسوته فكذلك في طعام عياله وكسوتهم لأنه مأمور بالإنفاق عليهم بالمعروف والمعروف ما يكون دون السرف وفوق التقتير حتى قالوا لا ينبغي أن يتكلف لتحصيل جميع شهوات عياله ولا أن يمنعها جميع شهواتها ولكن إنفاقها بين ذلك فإن خير الأمور أوساطها
وكذلك لا ينبغي أن يستديم الشبع من الطعام فإن الأولى ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه في قوله أجوع يوما وأشبع يوما وكانت عائشة رضي الله عنها تبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض وتقول يامن اختار الحصير على السرير يامن لم ينم بالليل من خوف السعير يامن لم يلبس الحرير ولم يشبع من خبز الشعير وكانت عائشة رضي الله عنها تقول ربما يأتي علينا الشهر أو أكثر لا يوقد في بيوتنا نار وإنما هما الأسودان الماء والتمر وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا فلهذا كان التحرز عن استدامة الشبع في جميع الأوقات أولى
قال وليس على الرجل أن يدع الأكل حتى يصير بحيث لا ينتفع بنفسه يعني حتى ينتهي به الجوع إلى حال يضره ويفسد به معدته بأنتحترق فلا تنتفع بالأكل بعد ذلك لأن التناول عند الحاجة حق لنفسه قبله قال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه نفسك مطيتك فارفق بها ولا تجوعها وقال صلى الله عليه وسلم لآخر إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولله عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه وقال صلى الله عليه وسلم للمقداد بن معدي كرب كل واشرب والبس من غير مخيلة والأمر للإيجاب حقيقة ولأن في الامتناع من الأكل إلى هذه الغاية تعريض النفس للهلاك وهو حرام وفيه اكتساب سبب تفويت العبادات لأنه لا يتوصل إلى أداء العبادات إلا بنفسه وكما أن تفويت العبادات المستحقة حرام فإكتساب سبب التفويت حرام
فأما مع تجويع النفس على وجه لا يعجز معه عن أداء العبادات وينتفع بالأكل بعده فهو مباح لأنه إنما يمتنع من الأكل لإتمام العبادة إذا كان صائما أو ليكون الطعام ألذ عنده إذا تناول فكل ما كان تناول المتناول أجوع كان لذته في التناول أكثر إذا كان فعله هذا لغرض صحيح كان مباحا له وهذا نظير ما بينا في الأكل فوق الشبع فإنه حرام عليه إلى عند غرض صحيح له في ذلك فليس له في الامتناع إلى أن يصير بحيث لا ينتفع بالأكل غرض صحيح بل فيه إتلاف النفس وحرمة نفسه عليه فوق حرمة نفس أخرى فإذا كانيحق عليه إحياء نفس أخرى بما يقدر عليه ولا يحل له اكتساب سبب إتلافها ففي نفسه أولى
وقد قال بعض المتقشفة لو امتنع من الأكل حتى مات لم يكن آثما لأن النفس أمارة بالسوء كما وصفها الله تعالى به وهي عدو المرء قال صلى الله عليه وسلم أعدى عدو المرء بين جنبيه يعني نفسه وللمرء أن لا يربي عدوه فكيف يصير آثما بالامتناع عن تربيته وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد جهاد النفس وتجويع النفس مجاهدة معها فلا يجوز أن يجعل به آثما
ولكنا نقول مجاهدة النفس في حملها على العبادات وفي التجويع إلى هذا الحال تفويت العبادة لا حمل النفس على أداء العبادات وقد بينا أن النفس متحملة بأمانات الله تعالى فإن الله تعالى خلقها معصومة لتؤدي الأمانة التي تحملها ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالأكل عند الحاجة وما لا يتوصل إلى إقامة المستحق إلا به فيكون مستحقا
فأما الشاب الذي يخاف على نفسه من الشبق والوقوع في العنت فلا بأس بأن يمتنع من الأكل وتكسر شهوته فتجويع النفس على وجه لا يعجز عن أداء العبادات لقوله صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب عليكمبالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن له وجاء ولأنه منتفع بالإمتناع من الأكل هنا من حيث أنه يمنع به نفسه عن ارتكاب المعاصي على ما يحكى عن أبي بكر الوراق رحمه الله تعالى قال في تجويع النفس إشباعها وفي إشباعها تجويعها ثم فسر ذلك فقال إذا جاعت واحتاجت إلى الطعام شبعت عن جميع المعاصي وإذا شبعت من الطعام جاعت ورغبت في جميع المعاصي وإذا كان التحرز عن ارتكاب المعصية فرضا إنما يتوصل إليه بهذا النوع من التجويع كان ذلك مباحا
قال ويفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز عن الخروج والطلب وهذه المسألة تشتمل على فصول أحدها أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على من يعلم بحاله أن يطعمه مقدار ما يتقوى به على الخروج وإداء العبادات إذا كان قادرا على ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ما آمن من بات شبعانا وجاره إلى جنبه خاوي حتى إذا مات ولم يطعمه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعا بالمأثم لقولهصلى الله عليه وسلم أيما رجل مات ضياعا بين قوم أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله وكذا إذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه ولكنه قادر على الخروج إلى الناس فيخبر بحاله ليواسوه يفترض عليه ذلك لأن عليه أن يدفع ما نزل به عنه بحسب الإمكان والطاعة بحسب الطاقة فإن إمتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم وإذا قام به البعض سقط عن الباقين
وهو نظير فداء الأسير فإن من وقع أسيرا في يد أهل الحرب من المؤمنين فقصدوا قتله يفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن قدر على ذلك وإلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه وإذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود ولا فرق بينهما في المعنى فإن الجوع الذي هاج من طبعه عدو يخاف الهلاك منه بمنزلة العدو من المشركين
فأما إذا كان المحتاج يتمكن من الخروج ولكن لا يقدر على الكسب فعليه أن يخرج ومن يعلم بحاله إذا كان عليه شئ من الواجبات فليؤده إليه لأنه قد وجد لما استحق عليه تصرفا ومستحقا فينبغي له أن يسقط الفرض عن نفسه بالصرف إليه حتما لأنه أوفى إليه من غيره وهو يندب إلى الإحسان إليه إن كان قد أدى ما عليه من الفرائض لقوله تعالى { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } قال تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضلالأعمال قال إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام
وإن كان المحتاج بحيث يقدر على التكسب فعليه أن يكتسب ولا يحل له أن يسأل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من سأل الناس وهو غني عما يسأل جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرق الصدقات فأتاه رجلان يسألان من ذلك فرفع بصره إليهما فرآهما جلدين قال أما إنه لا حق لكما فيه وإن شئتما أعطيتكما معناه لا حق لهما في السؤال وقال صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي يعني لا يحل السؤال للقوي القادر على التكسب وقال صلى الله عليه وسلم السؤال آخر كسب العبد ولكنه لو سأل فأعطي حل له أن يتناول لقوله صلى الله عليه وسلم وإن شئتما أعطيتكما فلو كان لا يحل التناول لما قال صلى الله عليه وسلم لهماذلك وقد قال الله تعالى { إنما الصدقات للفقراء } الآية والقادر على الكسب فقير فأما إذا كان عاجزا عن الكسب ولكنه قادر على أن يخرج فيطوف على الأبواب ويسأل فإنه يفترض عليه ذلك حتى إذا لم يفعل ذلك حتى هلك كان آثما عند أهل الفقه رحمهم الله
وقال بعض المتقشفة السؤال مباح له بطريق الرخصة فإن تركه حتى مات لم يكن آثما لأنه متمسك بالعزيمة وهذا قريب مما نقل عن الحسن بن زياد رحمه الله إن من كان في سفر ومع رفيق له ماء وليس عنده ثمنه أنه لا يلزمه أن يسأل رفيقه الماء ولو تيمم وصلى من غير أن يسأله الماء جازت صلاته عنده ولم يجز عندنا وجه قولهم إن في السؤال ذلا وللمؤمن أن يصون نفسه عن الذل وبيانه فيما نقل عن علي رضي الله عنه ** لنقل الصخر من قلل الجبال ** أحب إلي من منن الرجال ** يقول الناس لي في الكسب عار ** فقلت العار في ذل السؤال **
ولأن ما يلحقه من الذل بالسؤال يقين وما يصل إليه من المنفعة موهوم فربما يعطى ما يسأل وربما لا يعطى فكان السؤال رخصة له من غير أن يكون مستحقا عليه إذ الموهوم لا يعارض المتحقق وحجتنا في ذلك أن السؤال يوصله إلى ما يقوم به نفسهويتقوى به على الطاعة فيكون مستحقا عليه كالكسب سواء في حق من هو قادر على الكسب ومعنى الذل في السؤال في هذه الحالة ممنوع ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن موسى ومعلمه عليهما السلام أنهما سألا عند الحاجة فقال عز وجل { استطعما أهلها } والاستطعام طلب الطعام وما كان ذلك منهما بطريق الأجرة ألا ترى أنه قال { لو شئت لاتخذت عليه أجرا } فعرفنا أنه كان بطريق البر على سبيل الهدية والصدقة على ما اختلفوا أن الصدقة هل كانت تحل للأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم السلام على ما نبينه
وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد سأل عند الحاجة حيث قال لواحد من أصحابه رضي الله عنهم هل عندك شئ نأكله وقال صلى الله عليه وسلم للقوم هل عندكم ماء بات في الشن وإلا كرعنا من الوادي كرعا وسأل رجلا ذراع شاة وقال ناولني الذراع في حديث فيه طول فلو كان في السؤال عند الحاجة ذلة لما فعله الأنبياء عليهم السلام ذلك فقد كانوا أبعد الناس عن اكتساب سبب الذل ولأن ما يسد به رمقه حق مستحق له في أموال الناس فليس في المطالبة بحق مستحق له من معنى الذل شئ فعليه أن يسأل
فأما إذا كان قادرا على الكسب فليس ذلك بحق مستحق له وإنماحقه في كسبه فعليه أن يكتسب ولا يسأل أحدا من الناس ولكن له أن يسأل ربه كما فعل موسى عليه السلام فقال { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } وقد أمرنا بذلك قال الله تعالى { واسألوا الله من فضله } وقال صلى الله عليه وسلم سلوا الله حوائجكم حتى الملح لقدوركم والشسع لنعالكم
قال والمعطي أفضل من الآخذ وإن كان الآخذ يقيم بالأخذ فرضا عليه وهذه المسألة تشتمل على ثلاث فصول أحدها
أن يكون المعطي مؤديا للواجب والآخذ قادر على الكسب ولكنه محتاج فهنا المعطي أفضل من الآخذ بالاتفاق لأنه في الإعطاء مؤد للفرض والآخذ في الأخذ متبرع فإن له أن لا يأخذ ويكتسب ودرجه أداء الفرض أعلى من درجة التبرع كسائر العبادات فإن الثواب في أداء المكتوبات أعظم منه في النوافل والدليل عليه أن المفترض عامل لنفسه والمتبرع عامل لغيره وعمل المرء لنفسه أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم إبدأ بنفسك معنى هذا أنه بنفس الأداء لنفسه يفرغ ذمة نفسه فكان عاملا لنفسه والآخذ بنفس الأخذ لا ينفع نفسه بل بالتناول بعد الأخذ ولا يدري أيبقى إلى أن يتناول أو لا يبقى ولهذا لا منة للغني على الفقير في أخذ الصدقة لأن ما يحصل به للغني فوق ما يحصل للفقير منحيث أنه يحمل للغني ما لا يحتاج إليه للحال ليصل إليه عند حاجته إلى ذلك والغني يحتاج إلى ذلك ليحصل به مقصوده للحال ولو اجتمع الفقراء على ترك الأخذ لم يلحقهم في ذلك مأثم بل يحمدون عليه بخلاف ما إذا اجتمع الأغنياء عن الامتناع عن أداء الواجب فعرفنا أن المنة للفقراء على الأغنياء
الفصل الثاني
أن يكون المعطي والآخذ كل واحد منهما متبرع فأن كان المعطي متبرعا والآخذ قادر على الكسب فالمعطي هنا أفضل أيضا لأنه بما يعطي ينسلخ عن الغنى ويتمايل إلى الفقر والآخذ بالأخذ يتمايل إلى الغنى وقد بينا أن درجة الفقير أعلى من درجة الغني فمن يتمايل إلى الفقر بعمله كان أعلى درجة ولأن العبادات مشروعة بطريق الابتلاء قال الله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ومعنى الإبتلاء بالإعطاء أظهر منه في الأخذ لأن ا الابتلاء في العمل الذي لا تميل إليه النفس وفي نفس كل أحد داعية إلى الأخذ دون الإعطاء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم إن المسلم يحتاج في تصدقه بدرهم إلى أن يكسر شهوات سبعين شيطانا وإذا كان معنى الابتلاء في الإعطاء أظهركان أفضل لما روي أن النبيصلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها أي أشقها على البدن وسئل عن أفضل الصدقة قال جهد المقلولأن الآخذ يحصل لنفسه ما يتوصل به إلى اقتضاء الشهوات والمعطي يخرج من ملكه ما كان يتمكن من اقتضاء الشهوات وأعلى الدرجات منع النفس عن اقتضاء الشهوات
الفصل الثالث
إذا كان المعطي متبرعا والآخذ مفترضا بأنه كان عاجزا عن الكسب محتاجا إلى ما يسد به رمقه فعند أهل الفقه رحمهم الله المعطي أفضل أيضا وقال أهل الحديث أحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه رحمهما الله الأخذ أفضل هنا لأنه بالأخذ يقيم به فرضا عليه والمعطي يتنفل وقد بينا أن إقامة الفرض أعلى درجة من التنفل ولأن الآخذ لو امتنع من الأخذ هنا كان آثما والمعطي لو امتنع من الإعطاء لم يكن آثما إذا كان هناك غيره ممن يعطيه مما هو فرض عليه والثواب مقابل بالعقوبة ألا ترى أن الله تعالى هدد نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعف ما هدد به غيرهن من النساء فقال عز وجل { من يأت منكن بفاحشة مبينة } الآية ثم جعل لهن الثواب على الطاعات ضعف ما لغيرهن لقوله تعالى { نؤتها أجرها مرتين } فإذا كان الإثم هنا في حق الآخذ دون المعطي فلذلك للآخذ أكثر منما للمعطي ولكن هذا كله يشكل برد السلام فإن السلام سنة ورد السلام فريضة ثم مع ذلك كانت البداية بالسلام أفضل من الرد على ما قال صلى الله عليه وسلم بالسلام للبادي عشرون حسنة وللراد عشر حسنات وربما يقولون الآخذ يسعى في إحياء النفس والمعطي يسعى في تحصين النفس أو في إنماء المال وإحياء النفس أعلى درجة من إنماء المال وحجتنا في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اليد العليا خير من اليد السفلى من غير تفصيل بين التنفل بالأداء وبين إقامة الفرض فإن قيل المراد باليد العليا يد الفقير لأنها نائبة عن يد الشرع فإن المتصدق يجعل ماله لله تعالى خالصا بأن يخرجه من ملكه ثم يدفعه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى والفقير ينوب عن الشرع في الأخذ من الغني وبيان هذا في قوله تعالى { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } الآية وقال صلى الله عليه وسلم إن الصدقة تقع في يد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوة حتى تصير مثل أحد فبهذا تبين أن المراد باليد العليا يد المعطي ولأن المعطي يتطهر من الدنسبالإعطاء والآخذ يتلوث وبيان ذلك أن الله تعالى قال { خذ من أموالهم صدقة } الآية فعرفنا أن في آداء الصدقة معنى التطهير والتزكية وفي الأخذ تلويث وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة أوساخ الناس وسماها غسالة وقال يا معشر بني هاشم إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس يعني الصدقة ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر الإعطاء بنفسه فكان أخذ الصدقة لنفسه حرام عليه كما قال صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد وتكلم الناس في حق سائر الأنبياء عليهم السلام فمنهم من يقول ما كان يحل أخذ الصدقة لسائر الأنبياء عليهم السلام أيضا ولكنها كانت تحل لقراباتهم ثم إن الله تعالى أكرم نبينا صلى الله عليه وسلم بأن حرم الصدقة على قرابته إظهارا لفضيلته لتكون درجتهم في هذا الحكم كدرجة الأنبياء عليهم السلاموقيل بل كانت الصدقة تحل لسائر الأنبياء وهذه خصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم فكيف ما كان لا يجوز أن يقال في تحريم الصدقة إعلاء الدرجات عليه معنى الكرامة والخصوصية له فلو كان الأخذ أفضل من الإعطاء بحال لما كان في تحريم الأخذ عليه وعلى أهل بيته معنىالخصوصية والكرامة والدليل عليه أن الشرع ندب كل أحد إلى التصدق وندب كل أحد إلى التحرز عن السؤال قال صلى الله عليه وسلم لثوبان رضي الله عنه لا تسأل الناس شيئا أعطوك أو منعوك وقال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه إياك إياك أن تسأل أحد شيئا أعطاك أو منعك وكان بعدما سمع هذه المقالة لا يسأل أحدا شيئا ولا يأخذ من أحد شيئا حتى كان عمر بن الخطاب يعرض عليه نصيبه مما يعطى فكان لا يأخذه ويقول لست آخذ من أحد شيئا بعدما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال وكان عمر رضي الله عنه يشهد عليه حقه ويقول يا أيها الناس قد أشهدتكم عليه أني عرضت عليه وهو يأبى وبهذا تبين أن الإعطاء أفضل من الأخذ وقال الله تعالى { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } الآية يعني من التعفف عن السؤال وا 4 لأخذ وقال صلى الله تعالى عليه وسلم من إستعف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن فتح على نفسه بابا من المسألة فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر فإذا كان التعفف من الأخذ كان الإقدام علىالأخذ ترك التعفف من حيث الصورة فلهذا كان المعطي أفضل من الآخذ وفي كل خير
وقال وكل ما كان الأكل فيه فرضا عليه فإنه يكون مثابا على الأكل لأنه يتمثل به الأمر فيتوصل به إلى أداء الفرائض من الصوم والصلاة فيكون بمنزلة السعي إلى الجمعة والطهارة لأداء الصلاة والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم يؤجر المؤمن في كل شئ حتى اللقمة يضعها في فيه وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم يؤجر المؤمن في كل شئ حتى في مضاجعة أهله فقيل إنه يقضي شهوته أفيؤجر على ذلك قال أرأيت لو وضعها في غير حله أما كان يعاقب على ذلك وبمثله نستدل هنا فنقول لو ترك الأكل في موضع كان فرضا عليهكان معاقبا على ذلك فإذا أكل كان مثابا عليه وقال صلى الله عليه وسلم أفضل دينار المرء دينار ينفقه على أهله فإذا كان هو مثابا فيما ينفقه على غيره ففي ما ينفقه على نفسه أولى
قال ولا يكون محاسبا في ذلك ولا معاتبا ولا مهاقبا لأنه مثاب على ذلك كما هو مثاب على إقامة العبادات فكيف يكون معاتبا عليه أو محاسبا والأصل فيه حديثان أحدهما حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان في من لحم وخبز وشعير وزيت أهو من النعيم الذي نسأل عنه يوم القيامة وتلا قوله تعالى { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } فقال صلى الله عليه وسلم لا يا أبا بكر إنما ذلك للكفار أما علمت أن المؤمن لا يسأل عن ثلاث قال وما هن يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يواري به سوءته وما يقيم به صلبه وما يكنه من الحر والبرد ثم هو مسؤول بعد ذلك عن كل نعمة
والثاني حديث عمر رضي الله عنه فإنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضيافة رجل فأتي بعذق فيه تمر وبسر ورطب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسألن عن هذا يوم القيامة فأخذ عمر رضي الله عنه العذق وجعل ينفضه حتى تناثر على الأرض ويقول ونسأل عن هذا قال صلى الله عليه وسلموالله لتسألن عن كل نعمة حتى الشربة من الماء البارد إلا عن ثلاث كسرة تقيم بها صلبك أو خرقة تواري بها سوءتك أو كن يكنك من الحر والبرد
قال في الكتاب وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أن المرء لا يحاسب على هذا المقدار وكفى بإجماعهم حجة فمن دج عمره بهذا أو كان قانعا راضيا دخل الجنة بغير حساب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من هدي للإسلام وقنع بما آتاه الله تعالى دخل الجنة بغير حساب وقيل في تأويل قوله تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } أنه الذي يصبر على هذا المقدار الذي لا بد منه
ثم بعده التناول إلى مقدار الشبع مباح على الإطلاق لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الاية فعرفنا أن ذلك القدر ليس بمحرم فإذا لم يكن محرما فهو مباح على الإطلاق وكذلك أكل الخبيص والفواكه وأنواع الحلاوات من السكر وغير ذلك مباح لكنه دون ما تقدم حتى أن الامتناع منه والاكتفاء بما دونه أفضل له فكان تناول هذه النعم رخصة والامتناع منها عزيمة فذلك أفضل لحديثين رويا في البابأحدهما حديث الصديق رضي الله عنه فإنه أتي بقدح قد لت بعسل وبرد فقربه إلى فيه ثم رده وأمر بالتصدق به على الفقراء وقال أرجو أن لا أكون من الذين يقال لهم { أذهبتم طيباتكم } الآية ففي هذا دليل أن تناول ذلك مباح لأنه قربه إلى فيه وفيه دليل أن الامتناع منه أفضل
والثاني حديث عمر رضي الله عنه بأنه اشترى جارية وأمر بها فزينت له وأدخلت عليه فلما رآها بكى وقال أرجو أن لا أكون من الذين يتوصلون إلى جميع شهواتهم في الدنيا ثم دعا شابا من الأنصار لم يكن تحته إمرأة فأهداها له وتلا قوله تعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } الآية ولأن أفضل مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وقد كان طريقهم الاكتفاء بما دون هذا في عامة الأوقات وكذا نبينا صلى الله عليه وسلم وربما أصاب في بعض الأوقات من ذلك على ما روي أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم يوما ليت لنا ملبقا نأكله فجاء به عثمان رضي الله عنه في قصعة فقيل أنه أصاب منه وقيل لم يصب وأمر بالتصدق به
ثم فيما تقدم من تناول الخبز إلى الشبع لا حساب عليه سوى العرض على ما روي عن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قولهعز وجل { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } فقال صلى الله عليه وسلم ذاك العرض يا بنت أبي بكر أما علمت أن من نوقش للحساب عذب ومعنى العرض بيان المنة وتذكير النعم والسؤال أنه هل قام بشكرها في تأويل قوله تعالى { فأما من أوتي كتابه بيمينه } الآية أن العرض في مثل هذا
وأما في إقتضاء الشهوات من الحلال وتناول اللذات فهو محاسب على ذلك غير معاقب عليه وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب
والدليل على أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل حديث الضحاك رضي الله عنه فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا من قومه وكان متنعما فيهم قال صلى الله عليه وسلم ما طعامك يا ضحاك قال اللحم والعسل والزيت ولب البر قال ثم يصير ماذا فقال ثم يصير إلى ما يعلمه رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ضرب للدنيا مثلا بما يخرج من ابن آدم ثم قال له إياك أن تأكل فوق الشبع
قد بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طعامه وإن كان لذيذا طيبا في الابتداء فإنه يصير إلى الخبث والنتن في الانتهاء فهو مثل الدنيا وفي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل
وفي حديث الأحنف بن قيس رحمه الله أنه كان عند عمر رضي الله عنه فأتى بقصعة فيها خبز شعير وزيت فجعل عمر رضي الله عنه يأكل من ذلك ويدعو الأحنف إلى أكله وكان لا يسيغه ذلك فذكر الأحنف ذلك لحفصة وقال إن الله تعالى وسع على أمير المؤمنين فلو وسع على نفسه وجعل طعامه طيبا فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه فبكى وقال أرأيت لو أن ثلاثة إصطحبوا فتقدم أحدهم في طريق والثاني بعده ثم خالفهم الثالث في الطريق أكان يدركهم فقالت لا قال فقد تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصب من شهوات الدنيا شيئا وأبو بكر رضي الله عنه بعده كذلك فلو اشتغل عمر بقضاء الشهوات في الدنيا متى يدركهم ففي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل
وفي الحاصل المسألة صارت على أربعة أوجه ففي مقدار ما يسد به رمقه ويتقوى على الطاعة هو مثاب غير معاتب وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع هو مباح له محاسب على ذلك حسابا يسيرا بالعرض وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له فيه محاسب على ذلك مطالب بشكر النعمة وحق الجائعين وفي ما زاد على الشبع هو معاقب فإن الأكل فوق الشبع حرام وقد بينا هذا
وفي الكتاب قال أكرهه ومراده التحريم على ما روي أن أباحنيفة رحمه الله قيل له إذا قلت في شئ أكرهه ما رأيك قال الحرمة أقرب والدليل عليه ما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا تجشأ أحدكم فليقل اللهم لا تفتنا والجشأ من الأكل فوق الشبع ففي هذا بيان أن الأكل فوق الشبع من أسباب المقت وسبب المقت ارتكاب الحرام وهذا كله فيما اكتسبه من حلة فأما ما اكتسبه من غير حلة فهو معاقب على التناول منه في غير حالة الضرورة القليل والكثير فيه سواء لحديث أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به وقال صلى الله عليه وسلم ما اكتسب المرء درهما من غير حلة ينفقه على أهله ويبارك له فيه أو يتصدق به فيقبل منه أو يخلفه وراء ظهره إلا كان ذلك زاده إلى النار وقال صلى الله عليه وسلم من اكتسب من حيث شاء ولا يبالي أدخله الله النار من أي باب كان ولا يبالي وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه طيب طعمتك أو قال أكلتك تستجب دعوتك وفي حديث 2 أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلمقال في بيان الناس بعده يصبح أحدهم أشعث أغبر يقول يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب له وقال صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة الدرهم الحلال فيهم أعز من أخ في الله والأخ في الله أعز فيهم من درهم حلال
قال في الكتاب وكذلك أمر اللباس يعني أنه مأجور فيما يواري به سوءته ويدفع أذى الحر والبرد عنه ويتمكن من إقامة الصلاة وما زاد على ذلك مباح له وترك الأجود من الثياب والاكتفاء بما دون ذلك أفضل كما في الطعام لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس ثوبا معلما ثم نزعه وقال شغلني علمه عن صلاتي كلما وقع بصري عليه وعن عمر رضي الله عنه أنه دفع ثوبا له إلى عامله ليرقعه فقدر عليه ثوبا آخر وجاءه بالثوبين فأخذ عمر رضي الله عنه ثوبه ورد الآخر وقال ثوبك أجود وألين ولكن ثوبي أشف للعرق وعن على رضي الله عنه أنه كان يكره التزين بالزي الحسن ويقول أنا ألبس من الثياب ما يكفيني لعبادة ربي فيه فعرفنا أن الاكتفاء بما دون الأجود أفضل له وإن كان يرخص له في لبس ذلك
ثم حول الكلام إلى فصل آخر حاصله دار على فصل له وهوأن مساعي أهل التكليف ثلاثة أنواع نوع منها للمرء كالعبادات ونوع منها عليه كالمعاصي ونوع منها يحتمل لا له ولا عليه وذلك المباحات من الأقوال كقولك أكلت أو شربت أو قمت أو قعدت وما أشبه ذلك هذا مذهب أهل الفقه رحمهم الله
وقالت الكرامية مساعي أهل التكليف نوعان لهم وعليهم وليس شئ من مساعيهم في حد الأعمال لقوله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } فقد قسم الأشياء قسمين لا فاصل بينهما أما الحق وهو ما يكون للمرء والضلال وهو ما على المرء وقال الله تعالى { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وما للتعميم فتبين بهذا أن جميع ما يكتسبه المرء له أو عليه وقال الله تعالى { من عمل صالحا فلنفسه } الآية فتبين بهذا أن عمله لا ينفك عن أحد هذين إما صالح أو سيء وفي كتاب الله تعالى أن جميع ما يتلفظ المرء مكتوب قال الله تعالى { ما يلفظ من قول } الآية وفيه بيان أن جميع ما يفعله المرء مكتوب قال الله تعالى { وكل شيء فعلوه في الزبر } وفيه دليل أنه يحضر جميع ما عمله في ميزانه عند الحساب قال الله تعالى { ووجدوا ما عملوا حاضرا }وما للتعميم فدل أنه ليس شئ من ذلك يهمل والمعنى فيه من وجهين أحدهما مواثيق الله تعالى على عباده لازمة لهم في كل حال يعني من قوله { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } وقال عز وجل { وما خلقت الجن والإنس } الاية فإما أن يكون هو موقنا بهذا العهد والميثاق فيكون ذلك له أو تاركا فيكون عليه إذ لا تصور لشئ سوى هذا
والدليل عليه أن المباح الذي لضرورته إما أن يكون من جنس ماله أن يكون مقربا له مما يحل ويكون هو مأمورا به أو مبعدا له مما لا يحل فيكون ذلك له أو يكون مقربا له مما لا يحل ومبعدا له مما يحل فيؤمر به فيكون ذلك عليه فعرفنا أن جميع مساعيه غير خارج من أن تكون له أو عليه
وحجتنا في ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين والعلماء رحمهم الله اتفقوا أن من أفعال العباد ما هو مأمور به أو مندوب إليه وذلك عبادة لهم ومنه ما هو منهي عنه وذلك عليهم ومنه ما هو مباح وما كان مباحا فهو غير موصوف بأنه مأمور به أو مندوب إليه أو منهي عنه وعرفنا أن هنا قسم ثالث ثابت بطريق الإجماع ليس ذلك للمرء ولا على المرء ولا يتبين هذا من القسمين الآخرين إلا بحكم وهو أن يكون مهملا لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه لأن ما يكونله فهو مثاب عليه قال الله تعالى { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } الآية قال الله تعالى { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } وما يكون عليه فهو معاقب على ذلك قال الله تعالى { وإن أسأتم فلها } أي فعليها وإذا كان في أفعاله وأقواله ما لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل والدليل عليه أن الله تعالى قال { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } فالتنصيص على نفي المؤاخذة في يمين باللغو يكون تنصيصا على أنه لا يثاب عليه وإذا ثبت بالنص أنه لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل وقال الله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ولا إشكال أنه لا يثاب على ما أخطأ به وقد انتفت المؤاخذة بالنص فعرفنا بأنه مهمل قال صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الحديث معناه أن الإثم مرفوع عنهم ولا شك أنهم لا يثابون على ذلك فإذا قد ثبت بهذه النصوص أن ما لا ينال المرء به الثواب لا يكون معاتبا عليه فإن يكون ذلك محتملا لا يوصف بأنه للمرء أو عليه لأن ماله خاص فيما ينتفع به في الآخرة وما عليه خاص فيما يضره في الآخرة وفي أفعاله وأقواله ما لا ينفعه ولا يضره في الآخرة فكان ذلك مهملا
ثم اختلف الفقهاء رحمهم الله أن ما يكون مهملا من الأفعال والأقوال هل يكون مكتوبا على العبد أم لا
قال بعضهم إنه لا يكتب عليه لأن الكتابة لا تكون من غير فائدة والفائدة منفعته بذلك في الاخرة والمعاتبة معه على ذلك مما يكون خارجا عن هذين الوجهين فلا فائدة في كتابته عليه
وأكثر الفقهاء رحمهم الله على أن ذلك كله مكتوب عليه قال الله تعالى { ونكتب ما قدموا وآثارهم } الآية إلا أنهم قالوا بعدما كتب جميع ذلك عليه يبقى في ديوانه ماهو مهمل وبيانه في قوله تعالى { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صعد الملكان بكتاب العبد فإن كان أوله وآخره حسنة يمحى ما بين ذلك من السيئات وإن لم يكن ذلك في أوله وآخره يبقى جميع ذلك عليه
والذين قالوا بمحو المهمل من الكتاب إختلفوا فيه قال بعضهم إنما يمحى ذلك في الأثانين والأخمسة وهو الذي وقع عند الناس أنه تعرض الأعمال في هذين اليومين أي يمحى من الديوان فيهما ما هو مهمل ليس فيه جزاء وأكثرهم على أنه إنما يمحى ذلك يومالقيامة والأصل حديث عائشة رضي الله عنها وقد ذكره محمد رحمه الله في الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يعبأ به شيئا وهو ما ليس فيه جزاء خير أو شر وديوان مظالم العباد فلا بد فيه من الإنصاف والانتصاف والديوان الثالث ما فيه جزاء من خير أو شر وهذا حديث صحيح مقبول عند أهل السنة والجماعة رحمهم الله
لكن اختلفوا في الديوان الذي لا يعبأ به شيئا قيل هو المهمل الذي قلنا إنه ليس فيه جزاء خير ولا شر وقيل ما هو بين العبد وبين ربه فما ليس فيه حق العباد فإن الله تعالى عفو كريم قال الله تعالى { ما يفعل الله بعذابكم } الآية وقيل بل هو الصغائر فإنها مغفور لمن اجتنب الكبائر قال الله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } الآية فهو الديوان الذي لا يعبأ به شيئا وقيل المراد أعمال الكفار ما هو في صورة طاعة فإنه لا يعبأ به شيء إذا لم يؤمنوا أي لا ينفعهم ذلك لأن الشرك غير مغفور له قال الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ولا قيمة لأعمالهم مع الشرك قال الله تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا } الآية والأظهرهو القول الأول الذي لا يعبأ به
والقسم الثالث الذي بينا أنه مباح ليس للمرء ولا عليه فهذا الذي لا يعبأ به شئيا فإنه قد فسر ذلك بقوله وهو ما ليس فيه جزاء خير ولا شر وذكر في الكتاب عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى { يمحو الله ما يشاء ويثبت } أن المراد محو بعض الأسماء من ديوان الأشقياء والإثبات في ديوان السعداء ومحو بعض الأسماء من ديوان السعداء والأثبات في ديوان الأشقياء وأهل التفسير رحمهم الله إنما يروون هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في دعائه اللهم إن كنت قد كتبت أسماءنا في ديوان الأشقياء فامحها من ديوان الأشقياء وأثبتها في ديوان السعداء فإنك قلت في كتابك وقولك الحق { يمحو الله ما يشاء ويثبت } الآية فأما ابن عباس رضي الله عنهما فالرواية الظاهرة عنه أن المحو والإثبات في كل شئ لا في السعادة والشقاوة والحياة والموت ومن الفقهاء رحمهم الله من أخذ بالرواية الأولى فقالوا إنا نرى الكافر يسلم والمسلم يرتد والصحيح يمرض والمريض يبرأ فكذا نقول يجوز أن يشقى السعيد ويسعد الشقي من غير أن يتغير علم الله في كل أحد و { لله الأمر من قبل ومن بعد } { ويفعل الله ما يشاء } { يحكم ما يريد } وعلى ذلك حملوا قوله تعالى { فمنهم شقي وسعيد } وأكثرهم على أن الصحيح الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه أقرب إلى موافقة الحديث المشهور السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وتأويل قوله تعالى { يمحو الله ما يشاء ويثبت } يمحو ما لا يعبأ به من ديوان العبد مما ليسفيه جزاء خير ولا شر وإثبات ما فيه الجزاء على ما بينا في حديث عائشة رضي الله عنها الدواوين عند الله ثلاثة ولأجله أورد محمد رحمه الله هذا الحديث على إثر ذلك الحديث وقيل المراد محو المعرفة من قلب البعض وإثباتها في قلب البعض فيكون هذا نظير قوله تعالى { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } أو المراد المحو والإثبات في المقسوم لكل عبد من الرزق والسلامة والبلاء والمرض وما أشبه ذلك
ثم روى حديث الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان وقد روينا الحديث بتمامه زاد في آخر الحديث فأما المؤمن فشكره إذا وضع الطعام بين يديه أن يقول بسم الله وإذا فرغ يقول الحمد لله وهذه الزيادة لم يذكرها أهل الحديث في كتبهم ومحمد رحمه الله موثوق به فيما يروي ويحتمل أن يكون هذا كلام محمد رحمه الله ذكره بعد رواية الحديث وقد روي في معنى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا وضع الطعام بين يدي المؤمن فقال بسم الله وإذا فرغ قال الحمد لله تحاتت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر كما تحات ورق الشجر وقال صلى الله عليه وسلم الحمد لله عن كل نعمة وقال صلى الله عليه وسلم لو جعلت الدنيا كلها لقمة فابتلعها مؤمن فقال الحمد لله كان ما أوتي به خيرا مما أوتي وهو كذلك فإن الله تعالى وصف الدنيا بالقلة والحقارة قالالله تعالى { قل متاع الدنيا قليل } وذكر الله أعلى وأطيب في قوله الحمد لله ذكر الله تعالى بطريق التعظيم والشكر فيكون خيرا من جميع الدنيا
ثم قال ويكره للرجال لبس الحرير في غير حالة الحرب وهذه المسألة ليست من مسائل هذا الكتاب فإنه صنف هذا الكتاب في الزهد على ما حكي أنه لما فرغ من تصنيف الكتب قيل له ألا تصنف في الورع والزهد شيئا فقال صنفت كتاب البيوع ثم أخذ في تصنيف هذا الكتاب فاعترض له داء فجف دماغه ولم يتم مراده فيحكى له أنه قيل له فهرس لنا ما كنت تريد أن تصنفه ففهرس لهم ألف باب كان يريد أن يصنف في الزهد والورع ولهذا قال بعض المتأخرين رحمهم الله موت محمد رحمه الله واشتغال أبي يوسف رحمه الله بالقضاء رحمة على أصحاب أبي حنيفة رحمه الله فإنه لولا ذلك لصنفوا ما أتعب المقتبسين وهذا الكتاب أول ما صنف في الزهد والورع فذكر في آخره بعض المسائل التي تليق بذلك من مسألة لبس الحرير والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم والذهب بيمينه والحرير بشماله وقال هذان حرامان على ذكور أمتي حللأثها ولبس الحرير في غير حالة الحرب مكروه وفي حالة الحرب كذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما إذا كان ثخينا يدفع بمثله السلاح فلا بأس بلبسه في حالة الحرب وما يكون سداه غير حرير أو لحمته غير حرير فلا بأس بلبسه في غير حالة الحرب نحو القتال وما أشبه ذلك وقد تقدم بيان هذه الفصول في الكتب
قال ولا بأس بأن يتخذ الرجل في بيته سريرا من ذهب وفضة وعليه الفرش من الديباج يتجمل بذلك للناس من غير أن يقعد أو ينام عليه فإن ذلك منقول عن السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين روي أن الحسن والحسين رضي الله عنهما من تزوج بينهما بشاه باتو على حسب ما اختلف فيه الرواة زينت بيته بالفرش من الديباج والأواني المتخذة من الذهب والفضة فدخل عليه بعض من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فقال ما هذا في بيتك يابن رسول الله فقال هذه إمرأة تزوجتها فأتت بمثل هذه الأشياء ولم أستحسن منعها من ذلك وعن محمد بن الحنفية رحمه الله أنه زين داره بمثل هذا فعاتبه في ذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم فقال إنما أتجمل للناس بهذا ولست أستعمله وإنما أفعلذلك لكيلا يشتغل قلب أحد بي ولا ينظر إلي بغير جميل فعرفنا أنه بهذا إذا اتخذه المرء على هذا القصد لم يكن به بأس وإن كان الاكتفاء بما دونه أفضل ويدخل هذا في معنى قوله تعالى { قل من حرم زينة } الآية والذي قال لا يقعد عليه ولا ينام قول محمد رحمه الله أيضا فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فلا بأس بالجلوس والنوم عليه وإنما المكروه اللبس والملبوس يصير تبعا للابس فأما ما يجلس وينام عليه فلا يصير تبعا له فلا بأس به
قال ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول تحت اللفظ إشارة إلى أنه لا يثاب على ذلك فإنه قال لا بأس وهذا اللفظ لدفع الحرج لا لإيجاب الثواب معناه يكفيه أن ينجو من هذا رأسا برأس وهو المذهب عند الفقهاء رحمهم الله وأصحاب الظواهر يكرهون ذلك ويؤثمون من فعله قالوا لأن فيه مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختار من الطريقة فإنه لما قيل له ألا نهدم مسجدك ثم نبنيه فقال لا عرش كعرش موسى أو قال عريش كعريش موسى وكان سقف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريد وكان يكف إذا مطروا حتى كانوا يسجدون في الماء والطين وعنعلي رضي الله عنه أنه مر بمسجد مزين مزخرف فجعل يقول لمن هذه البيعة وإنما قال ذلك لكراهيته هذا الصنيع في المساجد ولما بعث الوليد بن عبدالملك أربعين ألف دينار ليزين بها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بها على عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى فقال المساكين أحوج إلى هذا المال من الأساطين والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أشراط الساعة أن تزخرف المساجد وتعلى المنارات وقلوبهم خاوية من الإيمان
ولكنا نقول لا بأس بذلك لما فيه من تكثير الجماعة وتحريض الناس على الاعتكاف في المسجد والجلوس فيه لانتظار الصلاة وفي كل ذلك قربة وطاعة والأعمال بالنيات ثم الدليل على أنه لا بأس بذلك ما روي أن أول من بنى مسجد بيت المقدس داود عليه السلام ثم أتمه سليمان عليه السلام بعده وزينه حتى نصب على القبة الكبريت الأحمر وكان أعز وأنفس شيء وجد في ذلك الوقت فكان يضئ من ميل وكن الغزالات يغزلن بضوئها بالليالي من مسافة ميل والعباس بن عبد المطلب رضى الله عنه أول من زين المسجد الحرام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب زين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلموزاد فيه وكذلك عثمان رضي الله عنه بعده بنى المسجد بماله وزاد فيه وبالغ في تزيينه فدل أن ذلك لا بأس به وإن تأويل ما روي بخلاف هذا ما أشار إليه في آخر الحديث وقلوبهم خاوية من الإيمان أي يزينون المساجد ولا يداومون على إقامة الصلاة فيها بالجماعة أو المراد التزيين بما ليس بطيب من الأموال أو على قصد الرياء والسمعة فعلى ذلك يحمل ليكون جمعا بين الآثار وهذ كله إذا فعل المرء هذا بمال نفسه مما اكتسبه من حلة فأما إذا فعله بمال المسجد فهو آثم في ذلك وإنما يفعل بمال المسجد ما يكون فيه إحكام البناء فأما التزين فليس من إحكام البناء في شيء حتى قال مشايخنا رحمهم الله للمتولي أن يجصص الحائط بمال المسجد وليس له أن ينقش الجص بمال المسجد ولو فعله كان ضامنا لأن في التجصيص إحكام البناء وفي النقش بعد التجصيص توهين البناء لا إحكامه فيضمن المتولي ما ينفق على ذلك من مال المسجد
قال ألا ترى الرجل قد يبني لنفسه دارا وينقش سقفها بماء الذهب فالا يكون آثما في ذلك يريد به أنه فيما ينفق على داره للتزيين يقصد به منفعة نفسه خاصة وفيما ينفق على المسجد للتزيين منفعته ومنفعة غيره فإذا جاز له أن يصرف ماله إلى منفعة نفسه بهذا الطريق فلإن يجوز صرفه إلى منفعته ومنفعة غيره كان أولى وقد أمرنا في المساجد بالتعظيم ولا شك أن معنى التعظيم يزداد بالتزيين في قلوب بعض الناس من العوام فيمكن أن يقال بهذا الطريق يؤجر على ما فعله وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يثاب المؤمن على إنفاق ماله في كل شئ إلا في البنيان زاد في بعض الروايات ما خلا المساجد فإن ثبتت هذه الزيادة فهو دليلعلى أنه يثاب فيما ينفق في بناء المساجد وتزيينها
وعلى هذا أمر اللباس فلا بأس للرجل أن يتجمل بلبس أحسن الثياب وأجودها فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة فنك عملها من الحرير فكان يلبسها في الأعياد والوفود إلا أن الأولى أن يكتفي بما دون ذلك في المعتاد من لبسه على ما روي أن ثوب مهنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كأنه ثوب دهان
وكذلك لا بأس بأن يتسرى بجارية حسنة فإنه صلى الله عليه وسلم مع كل ما كان عنده من الحرائر تسرى حتى استولد مارية أم ابراهيم رضي الله عنهما وعلي رضي الله عنه مع كل ما كان عنده من الحرائر كان يتسرى حتى استولد أم محمد بن الحنيفية رضي الله عنه فعرفنا أنه لا بأس بذلك والأصل في هذا قوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية
وقال لو أن الناس قنعوا بما دون ذلك وعمدوا إلى الفضول فقدموها لآخرتهم كان خيرا لهم والأصل فيه حديث أبي ذر رضي الله عنه فإنه كان يتشبث بأستار الكعبة في أيام الموسم وينادي بأعلى صوته ألا من قد عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأما أبو ذر جندب بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أحدكم إذا أراد سفرا استعد لسفره فما لكم لا تستعدون لسفر الآخرة وأنتم تستيقنون أنه لابد لكم منه ألا ومنأراد سفرا في الدنيا فإن بدا له أن يرجع يمكنه وإذا طلب القرض وجد وإن استوهب ربما يوهب له ولا يوجد شئ من ذلك في سفر الآخرة
وسئل يحيى بن معاذ رضي الله عنه ما لنا نتيقن بالموت ولا نحبه فقال إنكم أحببتم الدنيا فكرهتم أن تجعلوها خلفكم ولو قدمتم محبوبكم لأحببتم اللحوق به فعرفنا أن الأفضل أن يكتفى من الدنيا بما لا بد له منه ويقدم لآخرته ما هو زيادة على ذلك مما إكتسبه ولكنه لو إستمتع بشيء من ذلك في الدنيا بعدما إكتسبه من حلة لم يكن به بأس
والقول بتأثيم من ينفق على نفسه وعياله مما اكتسبه من حلة وأدى حق الله تعالى منه غير سديد إلا أن أفضل الطرق طرق المرسلين عليهم السلام وقد بينا أنهم اكتفوا من الدنيا بما لابد لهم منه خصوصا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه لما عرض له مفاتيح خزائن الأرض ردها وقال أكون عبدا نبيا أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت صبرت وإذا شبعت شكرت ولكنه مع هذا في بعض الأوقات قد كان يتناول بعض الطيبات حتى روي أنه قال يوما ليت لنا خبز بر قد لبق بسمن وعسل فنأكله فصنعذلك عثمان رضي الله عنه وجاء به في قصعة فقيل إنه لم يتناول من ذلك والأصح أنه تناول بعضه ثم أمر بالتصدق بما بقي منه وقد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جدي سمين مشوي فأكل منه مع أصحابه رضي الله عنهم وقد تناول ما أتي به من الشاة المسمومة حين قدم بين يديه الحمل المشوي قال لبعضهم ناولني الذراع فبهذه الآثار تبين أنه كان يتناول في بعض الأوقات لبيان أن ذلك لا بأس به وكان يكتفي بما دون ذلك في عامة الأوقات لبيان أن ذلك أفضل على ما روي أن عائشة رضي الله عنها كانت تبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول يامن لم يلبس الحرير ولم يشبع من خبز الشعير فصار الحاصل أن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة وما زاد على ذلك من التنعم والنيل من اللذات رخصة وقال صلى الله عليه وسلم إن الله يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه وقال صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة ولم أبعث بالرهبانية الصعبة فعرفنا أنه إن ترخص بالإصابة من التنعم فليس لأحد أن يؤثمه في ذلك وإن ذم نفسه وكسر شهوته فذلك أفضل له ويكون من الذين يدخلون الجنة بغير حساب على ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله وعدني أن يدخل سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب فقيل من هم يا رسول الله قال هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلونوفي رواية ثم زاد لي معهم سبعين ألف وفي رواية ثم أضعف لي مع الفريق الأول والآخر سبعين ألفا وفي الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وإلى أي محل صرفه فإذا صرف المال إلى ما فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى كان الحساب في السؤال أهون عليه منه إذا صرفه إلى شهوات بدنه
قال والذي على المرء أن يتمسك به من الخصال التي يحمد على ذلك أشياء منها التحرز عن إرتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ومنها المحافظة على أداء الفرائض والمداومة على ذلك في أوقاتها ومنها التحرزعن السحت وإكتساب المال في غير حلة ومنها التحرز عن ظلم كل أحد من مسلم أو معاهد فأما فيما وراء ذلك فقد وسع الله تعالى الأمر علينا فلا نضيقه على أنفسنا ولا على أحد من المؤمنين
قال محمد بن سماعة رحمه الله قال محمد رحمه الله وهذا الذي ثبت في هذا الكتاب قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومن بعدهم من الفقهاء رحمهم الله وبذلك كله نأخذ والله أعلم بالصواب والحمد لله وحده وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه وحسبنا الله ونعم الوكيل
تم كتاب الكسب لمحمد بن حسن الشيباني