كتاب : لطائف المعارف 
تأليف : الإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي 

بسم الله الرحمن الرحيم 
 مجلس في فضل التذكير بالله تعالى و مجالس الوعظ
خرج الإمام أحمد و الترمذي و ابن حبان في صحيحه من [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا و زهدنا في الدنيا و كنا من أهل الآخرة فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهلنا و شممنا أولادنا أنكرنا أنفسنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أنكم إذا خرجتم من عندي على حالكم ذلكم لزارتكم الملائكة في بيوتكم و لو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد حتى يذنبوا فيغفر لهم قلت يا رسول الله مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء قلت : الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك الأذفر وحصباؤها الؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم ]
كانت مجالس النبي صلى الله عليه و سلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله و ترغيب و ترهيب إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة و الموعظة الحسنة و تعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر و يعظ و يقص و أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و أن يبشر و ينذر و سماه الله { مبشرا و نذيرا * و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا } فقيل : سراجا للمؤمنين في الدنيا و منيرا للمذنبين يوم القيامة بالشفاعة و سمي سراجا لأن السراج الواحد يوقد منه ألف سراج و لا ينتقص من نوره شيء كذلك خلق الله الأنبياء من نور محمد صلى الله عليه و سلم و لم ينقص من نوره شيء قال العلماء رضي الله عنهم : و السرج خمسة : واحد في الدنيا و واحد في الدين و واحد في السماء و واحد في الجنة و واحد في القلب ففي الدنيا : النار و في السماء : الشمس و في الدين : محمد صلى الله عليه و سلم و واحد في الجنة : عمر سراج أهل الجنة و في القلب : المعرفة و التبشير و الإنذار : هو الترغيب و الترهيب فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه ـ كما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث ـ رقة القلب و الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة
الكلام في المواعظ و رقة القلب
فأما رقة القلوب فتنشأ عن الذكر فإن ذكر الله يوجب خشوع القلب و صلاحه و رقته و يذهب بالغفلة عنه قال الله تعالى : { الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } و قال الله عز و جل : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا و على ربهم يتوكلون } و قال تعالى : { و بشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } و قال الله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم و كثير منهم فاسقون } و قال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله }
و قال العرباض بن سارية : و عظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب و ذرفت منها العيون و قال ابن مسعود : نعم المجالس المجلس الذي تنشر فيه الحكمة و ترجى فيه الرحمة هي مجالس الذكر و شكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال : أدنه من الذكر و قال : مجلس الذكر محياة العلم و يحدث في القلب الخشوع القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر :
( بذكر الله ترتاح القلوب ... و دنيانا بذكراه تطيب )
و أما الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة فبما يحصل في مجالس الذكر من ذكر عيوب الدنيا و ذمها و التزهيد فيها و ذكر فضل الجنة و مدحها و الترغيب فيها و ذكر النار و أهوالها و الترهيب منها و في مجالس الذكر تنزل الرحمة و تغشى السكينة و تحف الملائكة و يذكر الله أهلها فيمن عنده و هم قوم لا يشقى بهم جليسهم فربما رحم معهم من جلس إليهم و إن كان مذنبا و ربما بكى فيهم باك من خشية الله فوهب أهل المجلس كلهم له و هي رياض الجنة قال النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا : و ما رياض الجنة ؟ قال : مجالس الذكر ]
أقسام أهل الذكر
فإذا انقضى مجلس الذكر فأهله بعد ذلك على أقسام :
فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر و لا يزداد هدى و لا يرتدع عن ردىء و هؤلاء أشر الأقسام و يكون ما سمعوه حجة عليهم فتزداد به عقوبتهم و هؤلاء الظالمين لأنفسهم : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون }
و منهم من ينتفع بما سمعه و هم على أقسام : فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات و يوجب له التزام الواجبات و هؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين و منهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات و التورع عن دقائق المكروهات و يشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات و هؤلاء السابقون المقربون
و ينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس و الغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام : فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله و جلاله و كبريائه و وعده و وعيده و ثوابه و عقابه و هذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه و سلم و خشوا لكمال معرفتهم و شدة خوفهم أن يكون نفاقا فأعلمهم النبي صلى الله عليه و سلم أنه ليس نفاق و في صحيح مسلم [ عن حنظلة أنه قال : يا رسول الله نافق حنظلة قال : و ما ذاك قال : نكون عندك تذكرنا بالجنة و النار كأنها رأي عين فإذا رجعنا من عندك عافسنا الأزواج و الضيعة و نسينا كثيرا فقال : لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم و في طرقكم و لكن يا حنظلة ساعة و ساعة ] و في رواية له أيضا : [ لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق ] و معنى هذا : أن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جدا و لا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه فيكتفي منهم بذكر ذلك أحيانا و إن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة و لكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك بل يلوم نفسه عليه و يحزنه ذلك من نفسه العارف يتأسف في وقت الكدر على زمن الصفا و يحن إلى زمان القرب و الوصال في حال الجفا
( ما أكدر عيشنا الذي قد سلفا ... إلا وجف القلب و كم قد جفا )
( و اها لزماننا الذي كان صفا ... هل يرجع بعد فوته وا أسفا )
و قسم آخرون يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر فلا يزال تذكر ذلك بقلوبهم ملازما لهم و هؤلاء على قسمين : أحدهما : من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم و لا القيام بوفاء حقوقهم و كان كثير من السلف على هذه الحال فمنهم من كان لا يضحك أبدا و منهم من كان يقول : لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد و الثاني : من يستحضر ذكر الله و عظمته و ثوابه و عقابه بقلبه و يدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال و القيام على العيال و يخالط الخلق فيما يوصل إليهم به النفع مما هو عبادة في نفسه كتعلم العلم و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هؤلاء أشرف القسمين و هم خلفاء الرسل و هم الذين قال فيهم علي رضي الله عنه : صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمجل الأعلى
و قد كان حال النبي صلى الله عليه و سلم عند الذكر يتغير ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة الناس و القيام بحقوقهم ففي مسند البزار و معجم الطبراني [ عن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي قلت : نذير قوم فإذا سري عنه فأكثر الناس ضحكا و أحسنهم خلقا ] و في مسند الإمام أحمد [ عن علي أو الزبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه و كأنه نذير جيش يصحبهم الأمر غدوة و كان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه ] و في صحيح مسلم [ عن جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا خطب و ذكر الساعة اشتد غضبه و علا صوته منذر جيش يقول صبحكم و مساكم ] و في الصحيحين [ عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : اتقوا النار و أشاح ثم قال : اتقوا النار ثم أعرض و أشاح ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها ثم قال : اتقوا النار و لو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ] و سئلت عائشة كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خلا مع نسائه ؟ قالت : [ كان كرجل من رجالكم إلا أنه : كان أكرم الناس و أحسن الناس خلقا و كان ضحاكا بساما ] فهذه الطبقة خلفاء الرسل عاملوا الله بقلوبهم و عاشروا الخلق بأبدانهم كما قالت رابعة :
( و لقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... و أبحت جسمي من أراد جلوسي )
( فالجسم مني للجليس مؤانس ... و حبيب قلبي في الفؤاد أنيسي )
المواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن و الضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثر في حال وجوده لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته و ضعفه فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر كان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا عليهم السكينة و الوقار
فمنهم من كان لا يستطيع أن يأكل طعاما عقب ذلك ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه مدة أفضل الصدقة : تعليم جاهل أو إيقاظ غافل ما وصل المستثقل في نوم الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الوعظة ليستيقظ المواعظ كالسياط تقع على نياط القلوب فمن آلمته فصاح فلا جناح و من زاد ألمه فمات فدمه مباح
( قضى الله في القتلى قصاص دمائهم ... و لكن دماء العاشقين جبار )
و عظ عبد الواحد بن زيد يوما فصاح به رجل : يا أبا عبيدة كف فقد كشفت بالموعظة قناع قلبي فأتم عبد الواحد موعظته فمات الرجل صاح رجل في حلقة الشبلي فمات فاستعدى أهله على الشبلي إلى الخليفة فقال الشبلي : نفس رقت فحنت فدعيت فأجابت فما ذنب الشبلي
( فكر في أفعاله ثم صاح ... لا خير في الحب بغير افتضاح )
( قد جئتكم مستأمنا فارحموا ... لا تقتلوني قد رميت السلاح )
إنما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن ثابت القلب قوي الذراعين فيؤلم ضربه فيردع فأما من هو سقيم البدن لا قوة له فماذا ينقع تأديبه بالضرب كان الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاين الآخرة ثم جاء يخبر عنها و كانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا و هم لا يعدون الدنيا شيئا و كان سفيان الثوري يتعزى بمجالسه عن الدنيا و كان أحمد لا تذكر الدنيا في مجلسه و لا تذكر عنده قال بعضهم : لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى القلب فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى قال بعض السلف : إن العالم إذا لم يرد بموعظة وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا كان يحيى بن معاذ ينشد في مجالسه :
( مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى يعيها قلبه أولا )
( يا قوم من أظلم من واعظ ... قد خالف ما قاله في الملا )
( أظهر بين الناس إحسانه ... و بارز الرحمن لما خلا )
العالم الذي لا يعمل بعلمه كمثل المصباح يضيء للناس و يحرق نفسه قال أبو العتاهية :
( وبخت غيرك بالعمى فأفدته ... بصرا و أنت محسن لعماك )
( و فتيلة المصباح تحرق نفسها ... و تضيء للأعشى و أنت كذاك )
المواعظ ذرياق الذنوب : فلا ينبغي أن يسقي الذرياق إلا طبيب حاذق معافى فأما لذيع الهوى فهو إلى شرب الذرياق أحوج من أن يسقيه لغيره في بعض الكتب السالفة : إذا أردت أن تعظ الناس فعظ نفسك فإن اتعظت و إلا فاستحي مني :
( و غير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس و هو سقيم )
( يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم )
( فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم )
( فهناك يقبل ما تقول و يقتدى ... بالقول منك و ينفع التعليم )
( لا تنه عن خلق و تأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم )
لما جلس عبد الواحد بن زيد للوعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته :
( يا واعظا قام لاحتساب ... يزجر قوما عن الذنوب )
( تنهى و أنت المريب حقا ... هذا من المنكر العجيب )
( لو كنت أصلحت قبل هذا ... عيبك أو تبت من قريب )
( كان لما قلت يا حبيبي ... موقع صدق من القلوب )
( تنهى عن الغي و التمادي ... و أنت في النهي كالمريب )
لما حاسب المتقون أنفسهم خافوا من عاقبة الوعظ و التذكير قال رجل لابن عباس : أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر فقال له ابن عباس : إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل و إلا فابدأ بنفسك ثم تلا : { أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم } و قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام : { و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } قال النخعي كانوا يكرهون القصص لهذه الآيات الثلاث قيل لمطرف : ألا تعظ أصحابك ؟ قال : أكره أن أقول ما لا أفعل تقدم بعض التابعين ليصلي بالناس إماما فالتفت إلى المأمومين يعدل الصفوف و قال : استووا فغشي عليه فسئل عن سبب ذلك فقال : لما قلت لهم استقيموا فكرت في نفسي فقلت لها فأنت هل استقمت مع الله طرفة عين
( ما كل من وصف الدوا يستعمله ... و لا كل من وصف التقى ذو تقى )
( وصفت التقى حتى كأني ذو تقى ... و ريح الخطايا من ثيابي تعبق )
و مع هذا كله فلا بد للإنسان من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الوعظ
و التذكير و لو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد لأنه لا عصمة لأحد بعده :
( لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب ... فمن يعظ العاصين بعد محمد )
و روى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كله و انهوا عن المنكر و إن لم تتناهوا عنه كله ] و قيل للحسن : إن فلانا لا يعظ و يقول : أخاف أن أقول مالا أفعل فقال الحسن : و أينا يفعل ما يقول ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف و لم ينه عن منكر و قال مالك عن ربيعة : قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف و لا نهى عن منكر قال مالك : و صدق و من ذا الذي ليس فيه شيء :
( من ذا الذي ما ساء قط ... و من له الحسنى فقط )
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوما فقال في موعظته : إني لأقول هذه المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي فاستغفر الله و أتوب إليه و كتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتابا يعظه فيه و قال في آخره : و إني لأعظك بهذا و إني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لكثير من أمري و لو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذا لتواكل الخير و إذا لرفع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إذا لاستحلت المحارم و قل الواعظون و الساعون لله بالنصيحة في الأرض و الشيطان و أعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف و لا ينهى عن منكر و إذا أمرهم أحد أو نهاهم عابوه بما فيه و بما ليس فيه كما قيل :
( و أعلنت الفواحش في البوادي ... و صار الناس أعوان المريب )
( إذا ما عبتم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب )
( و ودوا لو كففنا فاستوينا ... فصار الناس كالشيء المشوب )
( و كنا نستطب إذا مرضنا ... فصار هلاكنا بيد الطبيب )
و كان بعض العلماء المشهورين له مجلس للوعظ فجلس يوما فنظر إلى من حوله و هم خلق كثير و ما منهم إلا من قد رق قلبه أو دمعت عينه فقال لنفسه فيما بينه و بينها : كيف بك إن نجا هؤلاء و هلكت أنت ثم قال في نفسه : اللهم إن قضيت علي غدا بالعذاب فلا تعلم هؤلاء بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي لئلا يقال : عذب من كان في الدنيا يدل عليه إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه و سلم : اقتل ابن أبي المنافق فقال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] فامتنع من عقابه لما كان في الظاهر ينسب إليه و أنا على كل حال فإليك أنسب زور رجل شفاعة إلى بعض الملوك على لسان بعض أكابر الدولة فاطلع المزور عليه على الحال فسعى عند الملك في قضاء تلك الحاجة و اجتهد حتى قضيت ثم قال للمزور عليه : ما كنا نخيب من علق أمله بنا و رجى النفع من جهتنا إلهي فأنت أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين فلا تخيب من علق أمله و رجاءه بك و انتسب إليك و دعا عبادك إلى بابك و إن كان متطفلا على كرمك و لم يكن أهلا للسمسرة بينك و بين عبادك لكنه طمع في سعة جودك و كرمك فأنت أهل الجود و الكرم و ربما استحيا الكريم من رد من تطفل على سماط كرمه
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم صفح عن الذنب )
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ لو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد حتى يذنبوا فيغفر لهم ] و خرجه مسلم من وجه آخر [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم لجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم ] و في [ حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون ثم يغفر لهم ] و في رواية له أيضا : [ لو لم يكن لكم ذنوب يغفرها الله لجاء الله بقوم لهم ذنوب فيغفر لهم ] و المراد بهذا : أن لله تعالى حكمة في إلقاء الغفلة على قلوب عباده أحيانا حتى تقع منهم بعض الذنوب فإنه لو استمرت لهم اليقظة التي يكونون عليها في حال سماع الذكر لما وقع منهم ذنب
فائدتان عظيمتان في إيقاع الخلق في الذنوب أحيانا
و في إيقاعهم في الذنوب أحيانا فائدتان عظيمتان :
أحدهما : اعتراف المذنبين بذنوبهم و تقصيرهم في حق مولاهم و تنكيس رؤوس عجبهم و هذا أحب إلى الله من فعل كثير من الطاعات فإن دوام الطاعات قد توجب لصاحبها العجب و في الحديث : [ لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب ] قال الحسن : لو أن ابن آدم كلما قال أصاب و كلما عمل أحسن أوشك أن يجن من العجب قال بعضهم : ذنب أفتقر به أحب إلي من طاعة أدل بها عليه أنين المذنبين أحب إليه من زجل المسبحين لأن زجل المسبحين ربما شابه الإفتخار و أنين المذنبين يزينه الإنكسار و الإفتقار في حديث : [ إن الله لينفع العبد بالذنب يذنبه ] قال الحسن : إن العبد ليعمل الذنب فلا ينساه و لا يزال متخوفا منه حتى يدخل الجنة المقصود من زلل المؤمن ندمه و من تفريط أسفه و من اعوجاجه تقويمه و من تأخره تقديمه و من زلقه في هوة الهوى أن يؤخذ بيده فينجى إلى نجوة النجاة
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل )
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )
الفائدة الثانية : حصول المغفرة و العفو من الله لعبده فإن الله يحب أن يعفو و يغفر و من أسمائه الغفار و العفو و التواب فلو عصم الخلق فلمن كان العفو و المغفرة قال بعض السلف : أول ما خلق الله القلم فكتب : إني أنا التواب أتوب على من تاب قال أبو الجلد : قال رجل من العاملين لله بالطاعة : اللهم أصلحني صلاحا لا فساد علي بعده فأوحى الله تعالى إليه : إن عبادي المؤمنين كلهم يسألوني مثل ما سألت فإذا أصلحت عبادي كلهم فعلى من أتفضل و على من أعود بمغفرتي كان بعض السلف يقول : لو أعلم أحب الأعمال إلى الله لأجهدت نفسي فيها فرأى في منامه قائلا يقول له إنك تريد مالا يكون إن الله يحب أن يغفره قال يحيى بن معاذ : لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الخلق عليه
( يا رب أنت رجائي ... و فيك حسنت ظني )
( يارب فاغفر ذنوبي ... و عافني و اعف عني )
( العفو منك إلهي ... و الذنب قد جاء مني )
( و الظن فيك جميل ... حقق بحقك ظني )
ذكر الخلق و مادته
[ و قوله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة لما سأله : مم خلق الخلق فقال له : من الماء يدل على أن الماء أصل جميع المخلوقات و مادتها و جميع المخلوقات خلقت منه ]
و في المسند من وجه آخر [ عن أبي هريرة قال : قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي و قرت عيني فأنبئني عن كل شيء ؟ فقال : كل شيء خلق من ماء ] و قد حكى ابن جرير و غيره عن ابن مسعود و طائفة من السلف أن أول المخلوقات الماء و روى الجوزجاني بإسناده عن عبد الله بن عمرو أنه سئل عن بدء الخلق ؟ فقال : من تراب و ماء و طين و من نار و ظلمة فقيل له : فما بدء الخلق الذي ذكرت ؟ قال : من ماء من ينبوع و قد أخبر الله تعالى في كتابه أن الماء كان موجودا قبل خلق السموات و الأرض فقال تعالى : { و هو الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء } و في صحيح البخاري [ عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كان الله و لم يكن شيء قبله ] و في رواية : [ معه و كان عرشه على الماء و كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات و الأرض ] و في صحيح مسلم [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض بخمسين ألف سنة و كان عرشه على الماء ] و روى ابن جرير و غيره عن ابن عباس : أن الله عز و جل كان عرشه على الماء و لم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسمى عليه فسمى سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين ثم استوى إلى السماء و هي دخان و كان ذلك الدخان من نفس الماء حين تنفس ثم جعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات و عن وهب : أن العرش كان قبل أن تخلق السموات و الأرض على الماء فلما أراد الله أن يخلق السموات و الأرض قبض من صفات الماء قبضة ثم فتح القبضة فارتفعت دخانا ثم قضاهن سبع سموات في يومين ثم أخذ طينة من الماء فوضعها في مكان البيت ثم دحا الأرض منها و قال بعضهم : خلق الله الأرض أولا ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعد أن خلق السماء و قيل : خلق الله تعالى زمردة خضراء كغلظ السموات و الأرض ثم نظر إليها نظر العظمة فانماعت ـ يعني ذابت ـ فصارت ماء فمن ثم يرى الماء دائما يتحرك من تلك الهيبة ثم إن الله تعالى رفع من البحر بخارا و هو الدخان الذي ذكره في قوله : { ثم استوى إلى السماء و هي دخان } فخلق السماء من الدخان و خلق الأرض من الماء و الجبال من موج الماء و قال وهب : أول ما خلق الله تعالى مكانا مظلما ثم خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان ثم نظر إلى الجوهرة نظرة الهيبة فصارت ماء فارتفع بخارها و زبدها فخلق من البخار السموات و من الزبد الأرضين و [ روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الله عز و جل خلق خلقه من ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى و من أخطأه ضل ] و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار : ما أول شيء ابتدأ الله تعالى من خلقه ؟ قال كعب : كتب الله كتابا لم يكتبه قلم و لا دواة أي مداد كتابه الزبرجد واللؤلؤ و الياقوت : إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي و أن محمدا عبدي و رسولي سبقت رحمتي غضبي قال كعب : فإذا كان يوم القيامة أخرج الله ذلك الكتاب فيخرج من النار مثلي عدد أهل الجنة فيدخلهم الجنة و قال سلمان و عبد الله بن عمرو : إن لله تعالى مائة رحمة كما بين السماء و الأرض فأنزل منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الجن و الإنس و طير السماء و حيتان الماء و ما بين الهواء و دواب الأرض و هوامها و ادخر عنده تسعة و تسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة أنزل تلك الرحمة إلى ما عنده فيرحم بها عباده و الآثار في هذا الباب كثيرة
و هذا كله يبين أن السموات و الأرض خلقت من الماء و الخلاف في أن الماء هل هو أول المخلوقات أم لا ؟ مشهور و حديث أبي هريرة يدل على أن الماء مادة جميع المخلوقات و قد دل القرآن على أن الماء مادة جميع الحيوانات قال الله تعالى : { و جعلنا من الماء كل شيء حي } و قال تعالى : { و الله خلق كل دابة من ماء } و قول من قال : أن المراد بالماء النطفة التي يخلق منها الحيوانات بعيد لوجهين أحدهما : أن النطفة لا تسمى ماء مطلقا بل مقيدا لقوله تعالى : { خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب و الترائب } و قوله تعالى : { ألم نخلقكم من ماء مهين } و الثاني : أن من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل و الفاكهة و نحو ذلك فليس كل حيوان مخلوقا من نطفة و القرآن دل على خلق جميع ما يدب و ما فيه حياة من ماء فعلم بذلك أن أصل جميعها الماء المطلق و لا ينافي هذا قوله تعالى : { و الجان خلقناه من قبل من نار السموم } و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خلقت الملائكة من نور ] فإن حديث أبي هريرة دل على أن أصل النور و النار الماء كما أن أصل التراب الذي خلق منه آدم الماء فإن آدم خلق من طين و الطين تراب مختلط بماء أو التراب خلق من الماء كما تقدم عن ابن عباس و غيره و زعم مقاتل : أن الماء خلق من النور و هو مردود بحديث أبي هريرة هذا و غيره و لا يستنكر خلق النار من الماء فإن الله عز و جل جمع بقدرته بين الماء و النار في الشجر الأخضر و جعل ذلك من أدلة القدرة على البعث و ذكر الطبائعيون أن الماء بانحداره يصير بخارا و البخار ينقلب هواء و الهواء ينقلب نارا و الله أعلم
ذكر وصف الجنة
[ و قوله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة حين سأله عن بناء الجنة فقال : لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك الأذفر و حصباؤها اللؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران ] و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث ابن عمر مرفوعا أخرجه الطبراني فهذه أربعة أشياء :
أحدها : بناء الجنة : و يحتمل أن المراد بنيان قصورها و دورها و يحتمل أن يراد بناء حائطها و سورها المحيط بها و هو أشبه و قد روي من وجه آخر [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا و هو أشبه : حائط الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و درجها الياقوت و اللؤلؤ قال : و كنا نتحدث : أن رضراض أنهارها اللؤلؤ و ترابها الزعفران ] و في مسند البزار [ عن أبي سعيد مرفوعا : خلق الله الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و ملاطها المسك فقال لها : تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك ] و مما يبين أن المراد ببناء الجنة في هذه الأحاديث بناء سورها المحيط بها ما في الصحيحين [ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : جنتان من ذهب و آنيتهما و ما فيهما و جنتان من فضة و آنيتهما و ما فيهما ] و [ قد روي عن أبي موسى مرفوعا : جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من فضة لأصحاب اليمين ] و في الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنها جنان كثيرة ] و قد روي : [ أن بناء بعضها من در و ياقوت ] خرج ابن لأبي الدنيا [ من حديث أنس مرفوعا : خلق الله جنة عدن بيده لبنة بيضاء و لبنة من ياقوتة حمراء و لبنة من زبرجد خضراء ملاطها المسك و حصباؤها اللؤلؤ و حشيشها الزعفران ثم قال لها : انطقي قالت : قد أفلح المؤمنون قال و عزتي لا يجاورني فيك بخيل ] و روى عطية [ عن أبي سعيد قال : إن الله خلق جنة عدن من ياقوتة حمراء ثم قال لها : تزيني فتزينت ثم قال لها : تكلمي فقالت : طوبى لمن رضيت عنه ثم أطبقها و علقها بالعرش فهي تفتح في كل سحر فذلك برد السحر ] و عن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء ثم اتخذ دونها أخرى و طبقهما بلؤلؤة واحدة لا تعلم الخلائق ما فيهما و هما اللتان لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون و ذكر صفوان بن عمرو عن بعض مشايخه قال : الجنة مائة درجة أولها : درجة فضة أرضها فضة و مساكنها فضة و ترابها المسك و الثانية : ذهب و أرضها ذهب و آنيتها ذهب و ترابها المسك و الثالثة : لؤلؤ و أرضها لؤلؤ و آنيتها لؤلؤ و ترابها المسك و سبع و تسعون بعد ذلك ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم تلا { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } و في صحيح مسلم [ عن المغيرة بن شعبة يرفعه : سأل موسى ربه قال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة فيقول : يا رب كيف و قد أخذ الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول رضيت يا رب فيقول لك ذلك و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة : رضيت يا رب فيقال : هذا لك و عشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول : رضيت يا رب قال : فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال : و مصداقه في كتاب الله : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ]
الثاني : ملاط الجنة : و أنه المسك الأذفر و قد تقدم مثل ذلك في غير حديث و الملاط : هو الطين و يقال : الطين الذي يبنى منه البنيان و الأذفر الخالص ففي الصحيحين [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ و إذا ترابها المسك ] و الجنابذ : مثل القباب و قد قيل : إنه أراد بترابها ما خالطه الماء و هو طينها كما في صحيح البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكوثر : طينه المسك الأذفر ] و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { ختامه مسك } : إن المراد بالختام : ما يبقى في سفل الشراب من التفل و هذا يدل على أن أنهارها تجري على المسك و لذلك يرسب منه في الإناء في آخر الشراب كما يرسب الطين في آنية الماء في الدنيا
الثالث : حصباء الجنة : و أنه اللؤلؤ و الياقوت و الحصباء : الحصي الصغار و هو الرضراض و في المسند [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر الكوثر : أن رضراضه اللؤلؤ ] و في رواية : [ حصباؤه اللؤلؤ ] و في الترمذي [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن مجراه على الدر و الياقوت ] و في الطبراني [ من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك الأبيض و رضراضه الجوهر و حصباؤه اللؤلؤ ] و في المسند [ من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك و رضراضه التوم ] و التوم : الجوهر و الحال : الطين قال أبو العالية : قرأت في بعض الكتب : يا معشر الربانيين من أمة محمد انتدبوا لدار أرضها زبرجد أخضر تجري عليها أنهار الجنة فيها الدر و اللؤلؤ و الياقوت و سورها زبرجد أخضر متدليا عليها أشجار الجنة بثمارها
الرابع : تراب الجنة : و أنه الزعفران و قد سبق في رواية أخرى : [ الزعفران و الورس ] و قد قيل : إن المراد بالتراب ههنا : تربة الأرض التي لا ماء عليها فأما ما كان عليه ماء فإنه مسك كما سبق و سبق أيضا في بعض الروايات حشيشها الزعفران و هو نبات أرضها و ترابها فأما حديث ترابها المسك : فقد قيل : إنه محمول على تراب يخالطه الماء كما تقدم و قيل : إن المراد : أن ريح ترابها ريح مسك و لونه لون الزعفران و يشهد لهذا حديث الكوثر : [ إن حاله المسك الأبيض ] فريحه ريح المسك و لونه مشرق لا يشبه لون مسك الدنيا بل هو أبيض و قد يكون منه أبيض و منه أصفر و الله أعلم و في صحيح مسلم [ من حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل ابن الصياد عن تربة الجنة : فقال : درمكة بيضاء مسك خالص فصدقه النبي صلى الله عليه و سلم ] و رواية : أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه و سلم و صدقه و في المسند و الترمذي [ عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تربة الجنة درمكة ثم سأل اليهود ؟ فقالوا : خبزة فقال : الخبز من الدرمك ] و التي تجتمع به هذه الأحاديث كلها أن تربة الجنة في لونها بيضاء و منها ما يشبه لون الزعفران في بهجته و إشراقه و ريحها ريح المسك الأذفر الخالص و طعمها طعم الخبز الحواري الخالص و قد يختص هذا بالأبيض منها فقد اجتمعت لها الفضائل كلها لا حرمنا الله ذلك برحمته و كرمه
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم ] إشارة إلى بقاء الجنة و بقاء جميع ما فيها من النعيم و إن صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغير أبدا و ملابسهم التي عليهم من الثياب لا تبلى أبدا و قد دل القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة كقوله : { و جنات لهم فيها نعيم مقيم } و قوله تعالى : { أكلها دائم و ظلها } و قوله تعالى : { خالدين فيها أبدا } في مواضع كثيرة و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه و لا يفنى شبابه ] و فيه أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد أن لكم أن تنعموا و لا تبأسوا أبدا و أن لكم أن تصحوا و تسقموا أبدا و أن لكم أن تشبوا و لا تهرموا أبدا و نودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ] و في رواية لغيره زيادة : [ و أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ] و في الترمذي مرفوعا : [ أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم ] و [ عن أبي سعيد مرفوعا : يدخل أهل الجنة أبناء ثلاثين لا يزيدون عليها أبدا ] و من حديث علي مرفوعا : [ إن في الجنة مجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد و نحن الناعمات فلا نبأس و نحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا و كنا له ] و خرج الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا : [ إن مما يتغنين به الحور العين : نحن الخالدات فلا نمتنه نحن الآمنات فلا نخفنه نحن المقيمات فلا نظعنه ] و من حديث أم سلمة مرفوعا : [ أن نساء أهل الجنة يقلن : نحن الخالدات فلا نموت و نحن الناعمات فلا نبأس أبدا و نحن المقيمات فلا نظعن أبدا و نحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له و كان لنا ] و فيما ذكره صلى الله عليه و سلم في صفة من يدخل الجنة تعريض بذم الدنيا الفانية فإنه من يدخلها و إن نعم فيها فإنه يبأس و من أقام فيها فإنه يموت و لا يخلد و يفنى شبابهم و تبلى ثيابهم و تبلى أجسامهم و في القرآن نظير هذا و هذا التعريض بذم الدنيا و فنائها مع مدح الآخرة و ذكر كمالها و بقائها كما قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهرة و رضوان من الله و الله بصير بالعباد } و قال الله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } الآية ثم قال : { و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } و قال الله تعالى : { و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة } الآية و قال الله تعالى : { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا * المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا } و قال الله تعالى : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } إلى قوله : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض أعدت للذين آمنوا بالله و رسله } و قال الله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا * و الآخرة خير و أبقى } و قال الله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } و قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار } و المتاع : هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع و يفنى فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها و تقلب أحوالها و هو أدل دليل على انقضائها و زوالها فتتبدل صحتها بالسقم و وجودها بالعدم و شبيبتها بالهرم و نعيمها بالبؤس و حياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس و عمارتها بالخراب و اجتماعها بفرقة الأحباب و كل ما فوق التراب تراب قال بعض السلف في يوم عيد و قد نظر إلى كثرة الناس و زينة لباسهم : هل ترون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : يا دار تخربين و يموت سكانك و في الحديث : [ عجبا لمن رأى الدنيا و سرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ] قال الحسن : إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا و قال مطرف : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيما لا موت فيه و قال يونس بن عبيد : ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل و لا مال و قال يزيد الهاشمي : أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم العيش و أمنوا الاسقام فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام عيوب الدنيا بادية و هي تغيرها و مواعظها منادية لكن حبها يعمي و يصم فلا يسمع محبها نداءها و لا يرى كشفها للغير و إيذاءها
( قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع )
( كم واثق بالعمر أفنيته ... و جامع بددت ما يجمع )
كم قد تبدل نعيمها بالضر و البؤس كم أصبح من هو واثق بملكها و أمسى و هو منها قنوط بؤوس قالت بعض بنات ملوك العرب الذين نكبوا : أصبحنا و ما في الأرض أحد إلا و هو يحسدنا و يخشانا و أمسينا و ما في العرب أحد إلا و هو يرحمنا دخلت أم جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه و قالت : هجم علي مثل هذا العيد و على رأسي أربعمائة وصيفة قائمة و أنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة السرف في إنفاق المال حتى أنها زوجت بعض لعبها فأنفقت على وليمة عرسها مائة ألف دينار فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد و هي تسأل الناس اجتاز بعض الصالحين بدار فيها فرح و قائلة تقول في غنائها :
( ألا يا دار لا يدخلك حزن ... و لا يزري بصاحبك الزمان )
ثم اجتاز بها عن قريب و إذا الباب مسود و في الدار بكاء و صراخ فسأل عنهم ؟ فقيل : مات رب الدار فطرق الباب و قال : سمعت من هذه الدار قائلة تقول : كذا و كذا فبكت امرأة و قالت : يا عبد الله إن الله يغير و لا يتغير و الموت غاية كل مخلوق فانصرف من عندهم باكيا بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته وفدا إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء من مياه العرب عنده قصور مشيدة و هناك مواش عظيمة و رقيق كثير و رأى نسوة كثيرة مجتمعات في عرس لهن و جارية بيدها دف تقول :
( معاشر الحساد موتوا كمدا ... كذا نكون ما بقينا أبدا )
فنزلوا بقربهم فأكرمهم سيد الماء و اعتذر إليهم باشتغاله بالعرس فدعوا له و ارتحلوا ثم إن بعض أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن فمروا بالقرب من ذلك الماء فعدلوا إليه لينزلوا فيه فإذا القصور المشيدة قد خربت كلها و ليس هناك ماء و لا أنيس و لم يبق من تلك الآثار إلا تل خراب فذهبوا إليه فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نقب في ذلك التل فسألوها عن أهل ذلك الماء فقالت : هلكوا كلهم فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت : كانت العروس أختي و أنا كنت صاحبة الدف فطلبوا أن يحملوها معهم فأبت و قالت : عزيز علي أن أفارق هذه العظام البالية حتى أصير إلى ما صارت إليه فبينما هي تحدثهم إذ مالت فنزعت نزعا يسيرا ثم ماتت فدفنوها و انطلقوا حمل إلى سليمان بن عبد الملك في خلافته من خراسان ستة أحمال مسك إلى الشام فأدخلت على ابنه أيوب و هو ولي عهده فدخل عليه الرسول بها في داره فدخل إلى دار بيضاء و فيها غلمان عليهم ثياب بياض و حليتهم فضة ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمان عليهم ثياب صفر و حليتهم الذهب ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمان عليهم ثياب خضر و حليتهم الزمرد ثم دخل على أيوب و هو و جاريته على سرير فلم يعرف أحدهما من الآخر لقرب شبههما فوضع المسك بين يديه فانتهبه كله الغلمان ثم خرج الرسول فغاب بضعة عشر يوما ثم رجع فمر بدار أيوب و هي بلاقع فسأل عنهم ؟ فقيل له : أصابهم الطاعون فماتوا كان يزيد بن عبد الملك ـ و هو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز ـ له جارية تسمى حبابة و كان شديد الشغف بها و لم يقدر على تحصيلها إلا بعد جهد شديد فلما وصلت إليه خلى بها يوما في بستان و قد طار عقله فرحا بها فبينما هو يلاعبها و يضاحكها إذ رماها بحبة رمان أو حبة عنب و هي تضحك فدخلت في فيها فشرقت بها فماتت فما سمحت نفسه بدفنها حتى أراحت فعوتب على ذلك فدفنها و يقال : إنه نبشها بعد دفنها و يروى : إنه دخل بعد موتها إلى خزائنها و مقاصيرها و معها جارية لها فتمثلت الجارية ببيت :
( كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا )
فصاح و خر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى هوي من الليل ثم أفاق فبكى بقية ليلته و من الغد فدخلوا عليه فوجدوه ميتا قال بعض السلف : ما من حبرة إلا يتبعها عبرة * و ما كان ضحك في الدنيا إلا كان بعده بكاء * من عرف الدنيا حق معرفتها حقرها و أبغضها كما قيل :
( أما لو بيعت الدنيا بفلس ... أنفت لعاقل أن يشتريها )
و من عرف الآخرة و عظمتها و رغب فيها عباد الله هلموا إلى دار لا يموت سكانها و لا يخرب بنيانها و لايهرم شبابها و لا يتغير حسنها و إحسانها هواؤها النسيم و ماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين و يتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين : { دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } قال عون بن عبد الله بن عتبة : بنى ملك ممن كان قبلنا مدينة فتنوق في بنائها ثم صنع طعاما و دعا الناس إليه و أقعد على أبوابها ناسا يسألون كل من خرج هل رأيتم عيبا ؟ فيقولون لا حتى جاء في آخر الناس قوم عليهم أكسية فسألوهم : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا : عيبين فأدخلوهم على الملك فقال : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا عيبين قال : و ما هما ؟ قالوا : تخرب و يموت صاحبها قال : فتعلمون دار لا تخرب و لا يموت صاحبها ؟ قالوا نعم فدعوه فاستجاب لهم و انخلع من ملكه و تعبد معهم فحدث عون بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعا حتى هم أن يخلع نفسه من الملك فأتاه ابن عمه مسلمة فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين في أمة محمد فوالله لئن فعلت ليقتتلن بأسيافهم قال : ويحك يا مسلمة حملت ما لا أطيق و جعل يرددها و مسلمة يناشده حتى سكن
وظائف شهر الله المحرم و يشتمل على مجالس : المجلس الأول في فضل شهر الله
المحرم و عشره الأول
خرج مسلم [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم و أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل ] الكلام على هذا الحديث في فصلين في أفضل التطوع : بالصيام و أفضل التطوع : بالقيام
الفصل الأول : أفضل التطوع بالصيام
و هذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم و قد يحتمل أن يراد : أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملا بعد رمضان فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال و نحو ذلك و يشهد لهذا ما خرجه الترمذي من [ حديث علي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله و فيه يوم تاب الله فيه على قوم و يتوب على آخرين ] و في اسناده مقال و لكن يقال : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم شهر شعبان و لم ينقل أنه كان يصوم المحرم إنما كان يصوم عاشوراء و قوله في آخر سنة : [ لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ] يدل على أنه كان يصوم التاسع قبل ذلك و قد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف و الذي ظهر لي و الله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان : أحدهما : التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل و الثاني : ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله و بعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان و هو ملتحق بصيام رمضان و لهذا قيل : إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان و يكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا و قد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بصيام شوال فترك الأشهر الحرم و صام شوالا و سنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان و صيامه أفضل التطوع مطلقا فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر رجلا أن يصوم الحرم و سنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى و أفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم و يشهد لهذا أنه صلى الله عليه و سلم قال في هذا الحديث : [ و أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ] و مراده بعد المكتوبة : و لو أحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل الفرائض و بعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء لالتحاقها بالفرائض و إنما خالف في ذلك بعض الشافعية فكذلك الصيام قبل رمضان و بعده ملتحق برمضان و صيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم و أفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم
و قد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن و غيره أفضلها شهر الله المحرم و رجحه طائفة من المتأخرين و روى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال : إن الله افتتح السنة بشهر حرام و ختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم و كان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه و قد روي عنه مرفوعا و مرسلا قال آدم بن أبي إياس : [ حدثنا أبو الهلال الراسي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفضل الصلاة بعد المكتوبة في جوف الليل الأوسط و أفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم و هو شهر الله الأصم ] و خرج النسائي [ من حديث أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي الليل خير و أي الأشهر أفضل ؟ فقال : خير الليل جوفه و أفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم ] و اطلاقه في هذا الحديث أفضل الأشهر محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة و قال سعيد بن جبير و غيره : أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة أو ذو الحجة بل قد قيل : إنه أفضل الأشهر مطلقا و سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى و زعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب و هو قول مردود و أفضل شهر الله المحرم عشره الأول و قد زعم يمان بن رآب : أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه و لكن الصحيح أن العشر المقسم به عشر ذي الحجة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى و قال أبو عثمان النهدي : كانوا يعظمون ثلاث عشرات العشر الأخير من رمضان و العشر الأول من ذي الحجة و العشر الأول من محرم و قد وقع هذا في بعض نسخ كتاب فضائل العشر لابن أبي الدنيا [ عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه كان يعظم هذه العشرات الثلاث ] و ليس ذلك بمحفوظ و قد قيل : إن العشر الذي أتم الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة و إن التكلم وقع في عاشره و روي عن وهب بن منبه قال : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي أغفر لهم و عن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة و لما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا و كان صيامها كلها مندوبا إليه كما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم و كان بعضها ختام السنة الهلالية و بعضها مفتاحا لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه و صام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة و افتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة فإن من كان أول عمله طاعة و آخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين و في حديث مرفوع : [ ما من حافظين يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أولها و في آخرها خيرا إلا قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لعبدي ما بين طرفيها ] خرجه الطبراني و غيره وهو موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي و في حديث آخر مرفوع : [ ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة و من آخر النهار ساعة أغفر لك مابين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها ] و قال ابن مبارك : من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرا يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم فإذا كان البداءة و الختام ذكرا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا للجميع و يتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية
( قطعت شهور العام لهوا و غفلة ... و لم تحترم فيما أتيت المحرما )
( فلا رجبا وافيت فيه بحقه ... و لا صمت شهر الصوم صوما متمما )
( و لا في ليالي عشر ذي الحجة الذي ... مضى كنت قواما و لا كنت محرما )
( فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة ... و تبكي عليها حسرة و تندما )
( و تستقبل العام الجديد بتوبة ... لعلك أن تمحو بها ما تقدما )
و قد سمى النبي صلى الله عليه و سلم المحرم شهر الله و اضافته إلى الله تدل على شرفه و فضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته كما نسب محمدا و إبرهيم و إسحاق و يعقوب و غيرهم من الأنبياء إلى عبوديته و نسب إليه بيته و ناقته و لما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى كان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به و هو الصيام و قد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز و جل : إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز و جل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه و يحرمون مكانه صفرا فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك و تغييره :
( شهر الحرام مبارك ميمون ... و الصوم فيه مضاعف مسنون )
( و ثواب صائمه لوجه إلهه ... في الخلد عند مليكه مخزون )
الصيام سر بين العبد و بين ربه و لهذا يقول الله تبارك و تعالى : [ كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به إنه ترك شهواته و طعامه و شرابه من أجلي ] و في الجنة باب يقال له : الريان لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه غيرهم و هو جنة للعبد من النار كجنة أحدكم من القتال و في المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بعده الله من نار جهنم كبعد غراب طار و هو فرخ حتى مات هرما ] و فيه أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أوصني ؟ قال : [ عليك بالصوم فإنه عدل له ] فكان أبو أمامة و أهله يصومون فإذا رؤي في بيتهم دخان بالنهار علم أنه قد نزل بهم ضيف و ممن سرد الصوم عمر و أبو طلحة و عائشة و غيرهم من الصحابة و خلق كثير من السلف و ممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر و الحسن البصري و غيرهما
قال بعضهم : إنما هو غداء و عشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت و قد كتبت في ديوان الصائمين للصائم فرحتان فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه إذا وجد ثواب صيامه مدخورا سمع بعضهم مناديا ينادي على السحور في رمضان ياما خبأنا للصوم فانتبه لذلك و سرد الصوم و روي : أن الصائمين توضع لهم مائدة تحت العرش فيأكلون و الناس في الحساب فيقول الناس ما بال هؤلاء يأكلون و نحن نحاسب ؟ فيقال : كانوا يصومون و أنتم تفطرون و روي : أنهم يحكمون في ثمار الجنة و الناس في الحساب روى ذلك ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع قال الله تعالى : { و الصائمين و الصائمات و الحافظين فروجهم و الحافظات و الذاكرين الله كثيرا و الذاكرات أعد الله لهم مغفرة و أجرا عظيما } و قال تعالى : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } قال مجاهد و غيره : نزلت في الصوم : من ترك لله طعامه و شرابه و شهواته عوضه الله خيرا من ذلك طعاما و شرابا لا ينفذ و أزواجا لا تموت في التوراة : طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر طوبى لمن ظمأ نفسه اليوم ليوم الري الأكبر طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره طوبى لمن ترك طعاما ينفذ في دار لدار { أكلها دائم و ظلها }
( من يرد ملك الجنان فليذر عنه التواني ... و ليقم في ظلمة الليل إلى نور القرآن )
( و ليصل صوما بصوم إن هذا العيش فإني ... إنما العيش جوار الله في دار الأمان )
كان بعض الصالحين يكثر الصوم فرأى في منامه كأنه دخل الجنة فنودي من ورائه يا فلان تذكر أنك صمت لله يوما قط ؟ قال : إي و الله يوم و يوم و يوم فإذا صواني النار قد أخذته يمنة و يسرة كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى و انقطع صوته فمات فرأى بعض أصحابه في المنام فسئل عن حاله فقال :
( قد كسي حلة البهاء ... و طافت بالأباريق حوله الخدام )
( ثم حلى و قيل يا قارئي أرقه ... فلعمري لقد براك الصيام )
صام بعض التابعين حتى أسود من طول صيامه و صام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه و اصفر فكان إذا عوتب في رفقه بجسده يقول : كرامة هذا الجسد أريد و صام بعضهم حتى وجد طعم دماغه في حلقه كان بعضهم يسرد الصوم فمرض و هو صائم فقالوا له : افطر فقال : ليس هذا وقت ترك و قيل لآخر منهم و هو مريض : افطر فقال : كيف و أنا أسير لا أدري ما يفعل بي مات عامر بن عبد الله بن الزبير و هو صائم ما أفطر و دخلوا على أبي بكر بن أبي مريم و هو في النزع و هو صائم فعرضوا عليه ماء ليفطر فقال : أغربت الشمس ؟ قالوا : لا فأبى أن يفطر ثم أتوه بماء و قد اشتد نزعه فأومأ إليهم أغربت الشمس ؟ قالوا : نعم فقطروا في فيه قطرة من ماء ثم مات و احتضر إبراهيم بن هانيء صاحب الإمام أحمد و هو صائم و طلب و سأل أغربت الشمس ؟ فقالوا : لا و قالوا له : قد رخص لك في الفرض و أنت متطوع قال : أمهل ثم قال : لمثل هذا فليعمل العاملون ثم خرجت نفسه و ما أفطر الدنيا كلها شهر صيام المتقين وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم و معظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
و لما كان الصيام سرا بين العبد و بين ربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يطلع عليه أحد قال بعض الصالحين : بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته و يمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم و عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا أصبح أحدكم صائما فليترجل ـ يعني يسرح شعره ـ و يدهنه و إذا تصدق بصدقة عن يمينه فليخفها عن شماله و إذا صلى تطوعا فليصل داخل بيته و قال أبو التياح : أدركت أبي وشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن و لبس صالح ثيابه صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان له دكان فكان كل يوم يأخذ من بيته رغيفين و يخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه فيظن أهله أنه يأكلهما في السوق و يظن أهل السوق أنه أكل في بيته قبل أن يجيء اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق الماء فيضع بلبلته في فيه و يمتصها و الناس ينظرون إليه و لا يدخل حلقه منه شيء لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم كم يستر الصادقون أحوالهم و ريح الصدق ينم عليهم ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية
( كم اكتم حبكم عن الأغيار ... و الدمع يذيع في الهوى أسرارى )
( كم أستركم هتكتمو أسرارى ... من يخفي في الهوى لهيب النار )
ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه للقلوب فتستنشقه الأرواح و ربما ظهر بعد الموت و يوم القيامة
( فكاتم الحب يوم البين منهتك ... و صاحب الوجد لا تخفى سرائره )
و لما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤى في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره ؟ فقال : تلك رائحة التلاوة و الظمأ و جاء في حديث مرفوع : يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح صيامهم أفواههم أطيب من ريح المسك
( وهبني كتمت السر أو قلت غيره ... أتخفى على أهل القلوب السرائر )
( أبى ذاك إن السر في الوجه ناطق ... و إن ضمير القلب في العين ظاهر )
الفصل الثاني : في فضل قيام الليل
و قد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصلاة بعد المكتوبة وهل هو أفضل من السنن الراتبة فيه خلاف سبق ذكره و قال ابن مسعود رضي الله عنه : فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية و خرجه الطبراني عنه مرفوعا و المحفوظ وقفه و قال عمرو بن العاص : ركعة بالليل خير من عشر بالنهار خرجه ابن أبي الدنيا و إنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الإسرار و أقرب إلى الإخلاص كان السلف يجتهدون على إخفاء تهجدهم قال الحسن : كان الرجل يكون عنده زواره فيقوم من الليل يصلي لا يعلم به زواره و كانوا يجتهدون في الدعاء و لا يسمع لهم صوت و كان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيبكي طول ليلته و هي لا تشعر و كان محمد بن واسع يصلي في طريق الحج طول ليله و يأمر حاديه أن يرفع صوته ليشغل الناس عنه و كان بعضهم يقوم من وسط الليل و لا يدري به فإذا كان قرب طلوع الفجر رفع صوته بالقرآن يوهم أنه قام تلك الساعة و لأن صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم و الراحة من التعب بالنهار فترك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة قال بعضهم : أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس و لأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر فإنه تنقطع الشواغل بالليل و يحضر القلب و يتواطأ هو و اللسان على الفهم كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا } و لهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا و لهذا كانت صلاة الليل تنهاه عن الإثم كما يأتي في حديث خرجه الترمذي و في المسند [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له : إن فلانا يصلين الليل فإذا أصبح سرق ؟ فقال : سينهاه ما تقول ] و لأن وقت التهجد من الليل أفضل أوقات التطول بالصلاة و أقرب ما يكون العبد من ربه و هو وقت فتح أبواب السماء و استجابة الدعاء و استعراض حوائج السائلين
و قد مدح الله تعالى المستيقظين بالليل لذكره و دعائه و استغفاره و مناجاته فقال الله تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا و مما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } و قال الله تعالى : { و المستغفرين بالأسحار } و قال الله تعالى : { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * و بالأسحار هم يستغفرون } و قال الله تعالى : { و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما } و قال الله تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون } و قال تعالى : { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون } و قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } و قال تعالى : { و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا } و قال تعالى : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه } قالت عائشة رضي الله عنها لرجل : [ لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان لا يدعه و كان إذا مرض أو قالت : كسل صلى قاعدا ] و في رواية أخرى عنها قالت : بلغني عن قوم يقولون : إن أدينا الفرائض لم نبال أن لا نزداد و لعمري لا يسألهم الله إلا عما افترض عليهم و لكنهم قوم يخطئون بالليل و النهار و ما أنتم إلا من نبيكم و ما نبيكم إلا منكم و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم قيام الليل و نزعت كل آية فيها قيام الليل فأشارت عائشة رضي الله عنها إلى قيام الليل فيه فائدتان عظيمتان : الإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و التأسي به و قد قال الله عز و جل : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } و تكفير الذنوب و الخطايا فإن بني آدم يخطئون بالليل و النهار فيحتاجون إلى الإستكثار من مكفرات الخطايا و قيام الليل من أعظم المكفرات كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل : [ قيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة ثم تلا : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } الآية ] خرجه الإمام أحمد و غيره و قد روي أن المتهجدين يدخلون الجنة بغير حساب و روي [ عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق سيعلم الخلائق اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي : أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله فيقومون و هم قليل ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء و الضراء فيقومون و هم قليل ثم يحاسب سائر الناس ] خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و يروى عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله و يروى أيضا من حديث أبي اسحاق عن عبد الله بن عطاء عن قبة بن عامر مرفوعا و موقوفا و يروى نحوه أيضا عن عبادة بن الصامت و ربيعة الجرشي و الحسن و كعب من قولهم قال بعض السلف : قيام الليل يهون طول القيام يوم القيامة و إذا كان أهله يسبقون إلى الجنة بغير حساب فقد استراح أهله من طول الموقف للحساب
و في حديث [ أبي أمامة و بلال المرفوع : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم و إن قيام الليل قربة إلى الله تعالى و تكفير للسيئات و منهاة عن الإثم و مطردة للداء عن الجسد ] خرجه الترمذي ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجب صحة الجسد و يطرد عنه الداء و كذلك صيام النهار ففي الطبراني [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : صوموا تصحوا ] و كما أن قيام الليل يكفر السيئات فهو يرفع الدرجات و قد ذكرنا أن أهله من السابقين إلى الجنة بغير حساب و في حديث المنام المشهور الذي خرجه الإمام أحمد و الترمذي : [ إن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات و الكفارات ] و فيه [ إن الدرجات إطعام الطعام و إفشاء السلام و الصلاة بالليل و الناس نيام ] و في المسند و الترمذي و غيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه : [ إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها من ظاهرها و إنها لأهل هذه الخصال الثلاثة ] و في [ حديث عبد الله بن سلام المشهور المخرج في السنن : أنه أول ما سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند قدومه المدينة : يا أيها الناس اطعموا الطعام و افشوا السلام و صلوا الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ] و من فضائل التهجد : أن الله تعالى يحب أهله و يباهي بهم الملائكة و يستجيب دعائهم روى الطبراني و غيره [ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة يحبهم الله و يضحك إليهم و يستبشر بهم ـ فذكر منهم الذي له له امرأة حسناء و فراش حسن فيقوم من الليل فيقول الله تعالى : يذر شهوته فيذكرني و لو شاء رقد و الذي إذا كان في سفر و كان معه ركب فسهروا ثم هجعوا قام من السحر في سراء و ضراء ] و خرج الإمام أحمد و الترمذي و النسائي [ من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة يحبهم الله ـ فذكر منهم ـ و قوم ساروا ليلهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني و يتلو آياتي ] و صححه الترمذي و في المسند [ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه و لحافه من بين أهله و حبه إلى صلاته فيقول ربنا تبارك و تعالى : يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه و وطائه من بين حبه و أهله إلى صلاته رغبة فيما عندي و شفقة مما عندي و رجل غزا في سبيل الله عز و جل و انهزم أصحابه و علم ما عليه في الانهزام و ماله في الرجوع فرجع حتى إهريق دمه فيقول الله عز و جل لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي و شفقة مما عندي حتى إهريق دمه ] رواه أحمد و ذكر بقية الحديث و قوله ثار فيه إشارة إلى قيامه بنشاط و عزم و يروى من حديث عطية [ عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور فصلى و رجل نام و هو ساجد و رجل في كتيبة منهزمة فهو على فرس جواد لو شاء أن يذهب لذهب ] و خرجه ابن ماجة من رواية مجالد [ عن أبي الوداك عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله ليضحك إلى ثلاثة : الصف في الصلاة و الرجل يصلي في جوف الليل و الرجل يقاتل أراه قال : خلف الكتيبة ] و روينا من حديث أبان [ عن أنس عن ربيعة بن وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاث مواطن لا ترد فيها دعوة رجل يكون في برية حيث لا يراه أحد فيقوم فيصلي فيقول الله لملائكته : أرى عبدي هذا يعلم أن له ربا يغفر الذنب فانظروا ما يطلب ؟ فتقول الملائكة : إي رب رضاك و مغفرتك فيقول : اشهدوا أني قد غفرت له و رجل يقوم من الليل فيقول الله عز و جل : أليس قد جعلت الليل سكنا و النوم سباتا فقام عبدي هذا يصلي و يعلم أن له ربا فيقول الله لملائكته : انظروا ما يطلب عبدي هذا ؟ فتقول الملائكة : يا رب رضاك و مغفرتك فيقول : اشهدوا أني قد غفرت له و ذكر الثالث : الذي يكون في فئة فيفر أصحابه و يثبت هو ] و هو مذكور أيضا في كل الأحاديث المتقدمة و في المسند و صحيح ابن حبان [ عن عقبة عن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور و عليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ يديه انحلت عقدة و إذا وضأ وجهه انحلت عقدة و إذا مسح رأسه انحلت عقدة و إذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب عز و جل للذين وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له ] و في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نعم الرجل عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ لو كان يصلي من الليل ] فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلا
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس : أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه و يبلغه ؟ قالوا : بلى قال : فسفر طريق القيامة أبعد فخذوا له ما يصلحكم حجوا حجة لعظائم الأمور صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير أين رجال الليل أين الحسن و سفيان قال :
( يترجل الليل جدوا ... رب داع لا يرد )
( ما يقوم الليل إلا ... من له عزم و جد )
( ليس شيء كصلاة ... الليل للقبر يعد )
صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة و منهم من صلى كذلك أربعين سنة قال بعضهم : منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر قال ثابت : كابدت قيام الليل عشرين سنة و تنعمت به عشرين سنة أخرى
أفضل قيام الليل وسطه قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه ] و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا سمع الصارخ يقوم للصلاة ] و الصارخ : الديك و هو يصيح وسط الليل و خرج النسائي [ عن أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي الليل خير ؟ قال : جوفه ] و خرج الإمام أحمد [ عن أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي قيام الليل أفضل ؟ قال : جوف الليل الغابر أو نصف الليل و قليل فاعله ] و خرج ابن أبي الدنيا [ من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله أي الصلاة أفضل ؟ قال : جوف الليل الأوسط قال : أي الدعاء أسمع ؟ قال : دبر المكتوبات ] و خرجه الترمذي و النسائي و لفظهما : [ أنه سأله أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الأخير و دبر الصلوات المكتوبات ] و خرج الترمذي [ من حديث عمرو بن عنبسة سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن ] و يروى أن داود عليه السلام قال : يا رب أي وقت أقوم لك ؟ قال : لا تقم أول الليل و لا آخره و لكن قم وسط الليل حتى تخلوا بي و أخلو بك و ارفع إلي حوائجك و في الأثر المشهور : كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب خلوة حبيبه فها أنا ذا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم فخاطبوني على المشاهدة و كلموني على حضوري غدا أقر أعين أحبابي في جناني
( الليل لي ولأحبابي أحادثهم ... قد اصطفيتهم كي يسمعوا و يعوا )
( لهم قلوب بأسراري بها ملئت ... على ودادي و إرشادي لهم طبعوا )
( سروا فما وهنوا عجزا و لا ضعفوا ... و واصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا )
ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم هو شفاء قلوبهم و نهاية مطلوبهم
( كتمت اسم الحبيب من العباد ... و رددت الصبابة في فؤادي )
( فيا شوقا إلى بلد خلي ... لعلى اسم من أهوى أنادي )
كان داود الطائي يقول في الليل : همك عطل علي الهموم و حالف بيني و بين السهاد و شوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات و حال بيني و بين الشهوات و كان عتبة الغلام يقول في مناجاته بالليل : إن تعذبني فإني لك محب و إن ترحمني فإني لك محب
( لو أنك أبصرت أهل الهوى ... إذا غارت الأنجم الطلع )
( فهذا ينوح على ذنبه ... و هذا يصلي و ذا يركع )
من لم يشاركهم في هواهم و يذوق حلاوة نجواهم لم يدر ما الذي أبكاهم من لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب
( من لم يبت و الحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تفتت الأكباد )
كان أبو سليمان يقول : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم و لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وسط الليل للمحبين للخلوة بمناجاة حبيبهم و السحر للمذنبين للإستغفار من ذنوبهم فوسط الليل خاص لخلوة الخواص و السحر عام لرفع قصص الجميع و بروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج فمن عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في استغفارهم و اعتذارهم صحائف التائبين خدودهم و مدادهم دموعهم قال بعضهم : إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم رسائل الأسحار تحمل و لا يدري بها الفلك و أجوبتها ترد إلى الأسرار و لا يعلم بها الملك
( صحائفنا إشارتنا ... و أكثر رسلنا الحرق )
( لأن الكتب قد تقرأ ... بغير الدمع لا تثق )
لا تزال القصص تستعرض و يوقع بقضاء حوائج أهلها إلى أن يطلع الفجر ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأجيب دعوته إلى أن ينفجر الفجر فلذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله
( نحن الذين إذا أتانا سائل ... نوليه إحسانا و حسن تكرم )
( و نقول في الأسحار هل من تائب ... مستغفر لينال خير المغنم )
الغنيمة تقسم على كل من حضر الوقعة فيعطي منها الرجالة و الأجراء و الغلمان مع الأمراء و الأبطال و الشجعان و الفرسان فما يطلع فجر الأجر إلا و قد حاز القوم الغنيمة و فازوا بالفخر و حمدوا عند الصباح السرى و ما عند أهل الغفلة و النوم خبر مما جرى كان بعض الصالحين يقوم الليل فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته يا أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون ألا تقومون فترحلون فإذا سمع الناس صوته و ثبوا من فرشهم فيسمع من هنا باك و من هنا داع و من هنا نال و من هنا متوضىء فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى
( يا نفس قومي فقد نام الورى ... إن تصنعي الخير فذو العرش يرى )
( و أنت يا عين دعي عنك الكرى ... عند الصباح يحمد القوم السرى )
يا قوام الليل اشفعوا في النوام يا أحياء القلوب ترحموا على الأموات قيل لابن مسعود رضي الله عنه : ما نستطيع قيام الليل ؟ قال : أقعدتكم ذنوبكم و قيل للحسن : قد أعجزنا قيام الليل ؟ قال : قيدتكم خطاياكم و قال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل و صيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك قال الحسن : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل قال بعض السلف : أذنبت ذنبا فحرمت به قيام الليل ستة أشهر ما يؤهل الملوك للخلوة بهم إلا من أخلص في ودهم و معاملتهم فأما من كان من أهل المخالفة فلا يؤهلونه في بعض الآثار : إن جبريل عليه السلام ينادي كل ليلة أقم فلانا و أنم فلانا قام بعض الصالحين في ليلة باردة و عليه ثياب رثة فضربه البرد فبكى فهتف به هاتف أقمناك و أنمناهم ثم تبكي علينا
( يا حسنهم و الليل قد جنهم ... و نورهم يفوق نور الأنجم )
( ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب في الترنم )
( قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منظم )
( أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... و خلع الغفران خير القسم )
الليل منهل يرده أهل الإرادة كلهم و يختلفون فيما يردون و يريدون قد علم كل أناس مشربهم فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه و الخائف يتضرع لطلب العفو و يبكي على ذنوبه و الراجي يلح في سؤال مطلوبه و الغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه و فوات نصيبه قال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : [ لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ] مرضت رابعة مرة فصارت تصلي وردها بالنهار فعوفيت و قد ألفت ذلك و انقطع عنها قيام الليل فرأت ذات ليلة في نومها كأنها أدخلت إلى روضة خضراء عظيمة و فتح لها فيها باب دار فسطع منها نور حتى كاد يخطف بصرها فخرج منها وصفاء كأن وجوههم اللؤلؤ بأيديهم مجامر فقالت لهم امرأة كانت مع رابعة : أين تريدون ؟ قالوا : نريد فلانا قتل شهيدا في البحر فنجمره فقالت لهم : أفلا تجمرون هذه المرأة ـ تعني رابعة ـ فنظروا إليها و قالوا : قد كان لها حظ في ذلك فتركته فالتفتت تلك المرأة إلى رابعة و أنشدت :
( صلاتك نور و العباد رقود ... و نومك ضد للصلاة عنيد )
كان بعض العلماء يقوم السحر فنام عن ذلك ليالي فرأى في منامه رجلين وقفا عليه و قال أحدهما للآخر : هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك يا من كان له قلب فانقلب يا من كان له وقت مع الله فذهب قيام السحر يستوجبن لك صيام النهار يسائل عنك الوصال تعاتبك على الجهر
( تغيرتمو عنا بصحبة غيرنا ... و أظهرتم الهجران ما هكذا كنا )
( و أقسمتمو أن لا تحولوا عن الهوى ... فحلتم عن العهد القديم و ما حلنا )
( ليالي كنا نستقي من وصالكم ... و قلبي إلى تلك الليالي قد حنا )
قيل للنبي صلى الله عليه و سلم : إن فلانا نام حتى أصبح ؟ فقال : [ بال الشيطان في أذنه ]
كان سري يقول : رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل ماذا فات من فاته خير الليل لقد حصل أهل الغفلة و النوم على الحرمان و الويل كان بعض السلف يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال له : قم فصل ثم قال له : أما علمت أن مفاتح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها هم خزانها و كان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال : ما لك قصرت في الخطبة أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة : قام الخاطب إلى خطبته و رأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها : زوجيني نفسك قالت : اخطبني إلى ربي و أمهرني قال : ما مهرك ؟ قالت : طول التهجد نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء و قالت : يا أبا سليمان تنام و أنا أربي لك في الخدور من خمسمائة عام و اشترى بعضهم من الله تعالى حوراء بصداق ثلاثين ختمة فنام ليلة قبل أن يكمل الثلاثين فرآها في منامه تقول له :
( أتخطب مثلي و عني تنام ... و نوم المحبين عني حرام )
( لأنا خلقنا لكل امرىء ... كثير الصلاة براه الصيام )
كان النبي صلى الله عليه و سلم يطرق باب فاطمة و علي و يقول : [ ألا تصليان ] و في الحديث : [ إذا استيقظ الرجل و أيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا و الذاكرات ]
كانت امرأة حبيب توقظه بالليل و تقول ذهب الليل و بين أيدينا طريق بعيد و زادنا قليل و قوافل الصالحين قد سارت قدامنا و نحن قد بقينا
( يا راقد الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد )
( و خذ من الليل و أوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد )
( من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد )
( قل لأولي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد )
المجلس الثاني في يوم عاشوراء
في الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ و هذا الشهر ـ ـ يعني رمضان ] يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة و حرمة قديمة و صومه لفضله كان معروفا بين الأنبياء عليهم السلام و قد صامه نوح و موسى عليهما السلام كما سنذكره إن شاء الله تعالى و روي [ عن إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم ] خرجه بقي بن مخلد في مسنده و قد كان أهل الكتاب يصومونه و كذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه قال دلهم بن صالح : قلت لعكرمة : عاشوراء ما أمره ؟ قال : أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في صدورهم فسألوا ما توبتهم ؟ قيل : صوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم
و كان للنبي صلى الله عليه و سلم في صيامه أربع حالات :
الحالة الأولى : أنه كان يصومه بمكة و لا يأمر الناس بالصوم ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية و كان النبي صلى الله عليه و سلم يصومه فلما قدم المدينة صامه و أمر بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه و من شاء أفطره ] و في رواية للبخاري [ و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شاء فليصمه و من شاء أفطر ]
الحالة الثانية : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة و رأى صيام أهل الكتاب له و تعظيمهم له و كان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه و أمر الناس بصيامه و أكد الأمر بصيامه و الحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم ففي الصحيحين [ عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ قالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى و قومه و أغرق فرعون و قومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فنحن أحق و أولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمر بصيامه ] و في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم بأناس من اليهود قد صاموا عاشوراء فقال : ما هذا من الصوم ؟ ! قالوا : هذا اليوم الذي نجى الله عز و جل موسى عليه السلام و بني إسرائيل من الغرق و غرق فيه فرعون و هذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح و موسى عليهما السلام شكرا لله عز و جل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا أحق بموسى و أحق بصوم هذا اليوم فأمر أصحابه بالصوم [ و في الصحيحين ] عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر رجلا من أسلم : أن أذن في الناس : من أكل فليصم بقية يومه و من لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء [ و فيهما أيضا ] عن الربيع بنت معوذ قالت : أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : من كان أصبح صائما فليتم صومه و من كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه [ فكنا بعد ذلك نصومه و نصوم صبياننا الصغار منهم و نذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار و في رواية فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم و في الباب أحاديث كثيرة جدا و خرج الطبراني ] بإسناد فيه جهالة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه و رضعاء ابنته فاطمة فيتفل في أفواههم و يقول لأمهاتهم : لا ترضعوهم إلى الليل و كان ريقه صلى الله عليه و سلم يجزئهم [
و قد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة متأكدة ؟ على قولين مشهورين و مذهب أبي حنيفة أنه كان واجبا حينئذ و هو ظاهر كلام الإمام أحمد و أبي بكر الأثرم و قال الشافعي رحمه الله بل كان متأكد الاستحباب فقط و هو قول كثير من أصحابنا و غيرهم
الحالة الثالثة : أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه و سلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء و تأكيده فيه و قد سبق حديث عائشة في ذلك و في الصحيحين ] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صام النبي صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك ذلك و كان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه و في رواية لمسلم : إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صامه و المسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه و من شاء تركه ] و في رواية له أيضا : [ فمن أحب منكم أن يومه فليصمه و من كره فليدعه ] و في الصحيحين أيضا [ عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : هذا يوم عاشوراء و لم يكتب الله عليكم صيامه و أنا صائم فمن شاء فليصم و من شاء فليفطر ] و في رواية لمسلم التصريح برفع آخره و في رواية للنسائي أن آخره مدرج من قول معاوية و ليس بمرفوع و في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال في يوم عاشوراء : هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل شهر رمضان ترك و في رواية أنه تركه و فيه أيضا عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء و يحثنا عليه و يتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا و لم ينهنا عنه و لم يتعاهدنا عنده و خرج الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه [ من حديث قيس بن سعد قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان لم يأمرنا و لم ينهنا ] و في رواية : و نحن نفعله فهذه الأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجدد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه فإن كان أمره صلى الله عليه و سلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الإستحباب أم لا ؟ و فيه اختلاف مشهور بين العلماء رضي الله عنهم و إن كان أمره للاستحباب المؤكد فقد قيل : إنه زال التوكيد و بقي أصل الإستحباب و لهذا قال قيس بن سعد : و نحن نفعله و قد روي عن ابن مسعود و ابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على أن أصل استحباب صيامه زال و قال سعيد بن المسيب : لم يصم رسول الله صلى الله عليه و سلم عاشوراء و روي عنه عن سعد بن أبي وقاص و المرسل أصح قال الدارقطني
و أكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد و ممن روي عنه صيامه من الصحابة عمر و علي و عبد الرحمن بن عوف و أبو موسى و قيس بن سعد و ابن عباس و غيرهم و يدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس رضي الله عنهما : لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم يوما يتحرى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء و شهر رمضان و ابن عباس إنما صحب النبي صلى الله عليه و سلم بآخرة و إنما عقل منه صلى الله عليه و سلم من آخر أمره و في صحيح مسلم [ عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن صيام عاشوراء ؟ فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ] و إنما سأله عن التطوع بصيامه فإنه سأله أيضا عن صيام يوم عرفة و صيام الدهر و صيام يوم و فطر يوم و صيام يوم و فطر يومين فعلم أنه إنما سأله عن صيام التطوع و خرج الإمام أحمد و النسائي [ من حديث حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء و العشر و ثلاثة أيام من كل شهر ] و خرجه أبو داود إلا أن عنده عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم غير مسماة
الحالة الرابعة : أن النبي صلى الله عليه و سلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه ففي صحيح مسلم [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود و النصارى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ] قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و في رواية له أيضا [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر ] يعني عاشوراء و خرجه الطبراني و لفظه إن عشت إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني عاشوراء و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صوموا يوم عاشوراء و خالفوا اليهود صوموا قبله يوما و بعده يوما ] و جاء في رواية : [ أو بعده ] فإما أن تكون [ أو ] للتخير أو يكون شكا من الراوي : هل قال قبله أو بعده و روي هذا الحديث بلفظ آخر و هو : [ لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله و يوم بعده ] يعني عاشوراء و في رواية أخرى : [ لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع و لآمرن بصيام يوم قبله و يوم بعده ] يعني عاشوراء أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني
و قد صح هذا عن ابن عباس من قوله من رواية ابن جريج قال : أخبرنا عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود صوموا التاسع و العاشر قال الإمام أحمد أنا أذهب إليه و روي عن ابن عباس : أنه صام التاسع و العاشر و علل بخشية فوات عاشوراء و روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس : أنه كان يصوم عاشوراء في السفر و يوالي بين اليومين خشية فواته و كذلك روي عن ابن اسحاق أنه صام يوم عاشوراء و يوما قبله و يوما بعده و قال : إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني و روي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة أيام عند الإختلاف في هلال الشهر احتياطا و روي عن ابن عباس و الضحاك أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرم قال ابن سيرين : كانوا لا يختلفون أنه اليوم العاشر إلا ابن عباس فإنه قال : إنه التاسع و قال الإمام أحمد في رواية الميموني : لا أدري هو التاسع أو العاشر و لكن نصومهما فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيام احتياطا و ابن سيرين يقول ذلك و ممن رأى صيام التاسع و العاشر : الشافعي رضي الله عنه و أحمد و اسحاق و كره أبو حنيفة إفراد العاشر بالصوم
و روى الطبراني من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال : ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس : إنما كان يوم تستر فيه الكعبة و تقاس فيه الحبشة عند النبي صلى الله عليه و سلم و كان يدور في السنة فكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه و هذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس هو في المحرم بل يحسب بحساب السنة الشمسية كحساب أهل الكتاب و هذا خلاف ما عليه عمل المسلمين قديما و حديثا و في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعد من هلال المحرم ثم يصبح يوم التاسع صائما و ابن أبي الزناد لا يعتمد على ما ينفرد به و قد جعل الحديث كله عن زيد بن ثابت و آخره لا يصلح أن يكون من قول زيد فلعله من قول من دونه و الله أعلم و كان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر منهم ابن عباس و أبو اسحاق و الزهري و قال : رمضان له عدة من أيام أخر و عاشوراء يفوت و نص أحمد على أن يصام عاشوراء في السفر و روى عبد الرزاق في كتابه عن إسرائيل [ عن سماك بن حرب عن معبد القرشي قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم بقديد فأتاه رجل فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أطعمت اليوم شيئا ليوم عاشوراء ؟ قال لا إلا أني شربت ماء قال : فلا تطعم شيئا حتى تغرب الشمس و أمر من وراءك أن يصوموا هذا اليوم ] و لعل المأمور كان من أهل قديد و روى بإسناده عن طاوس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر و لا يصومه في السفر
ذكر صيام الوحش و الهوام في عاشوراء
و من أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصوم الوحش و الهوام و قد روي مرفوعا : [ أن الصرد أول طير صام عاشوراء ] خرجه الخطيب في تاريخه و إسناده غريب و قد روى ذلك عن أبي هريرة و روي عن فتح بن شخرف قال كنت أفت للنمل الخبز كل يوم فلما كان عاشوراء لم يأكلوه و روي عن القادر بالله الخليفة العباسي أنه جرى له مثل ذلك و أنه عجب منه فسأل أبا الحسن القزويني الزاهد فذكر له أن يوم عاشوراء تصومه النمل و روى أبو موسى المديني بإسناده عن قيس بن عباد قال : بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء و بإسناد له عن رجل أتى البادية يوم عاشوراء فرأى قوما يذبحون ذبائح فسألهم عن ذلك فأخبروه أن الوحوش صائمة و قالوا : اذهب بنا نرك فذهبوا به إلى روضة فأوقفوه قال : فلما كان بعد العصر جاءت الوحوش من كل وجه فأحاطت بالروضة رافعة رؤوسها إلى السماء ليس شيء منها يأكل حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعا فأكلت
و بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال : بين الهند و الصين أرض كان بها بطة من نحاس على عمود من نحاس فإذا كمان يوم عاشوراء مدت منقارها فيفيض من منقارها ماء يكفيهم لزروعهم و مواشيهم إلى العام المقبل و رؤي بعض العلماء المتقدمين في المنام فسئل عن حاله فقال : غفر لي بصيام عاشوراء ستين سنة و في رواية : [ و يوم قبله و يوم بعده ] و ذكر عبد الوهاب الخفاف في كتاب الصيام : قال سعيد : قال قتادة : كان يقال : صوم عاشوراء كفارة لما ضيع الرجل من زكاة ماله و قد روي : إن عاشوراء كان يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون و أنه كان عيدا لهم و يروى أن موسى عليه السلام كان يلبس فيه الكتان و يكتحل فيه بالإثمد و كان اليهود من أهل المدينة و خيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخذونه عيدا و كان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك و كانوا يسترون فيه الكعبة
و لكن شرعنا ورد بخلاف ذلك ففي الصحيحين [ عن أبي موسى قال : كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود و تتخذه عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صوموه أنتم ] و في رواية لمسلم : كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا و يلبسون نساءهم فيه حليهم و شارتهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فصوموه أنتم ] و خرجه النسائي و ابن حبان و عندهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خالفوهم فصوموه ] و هذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا و على استحباب صيام أعياد المشركين فإن الصوم ينافي اتخاذه عيدا فيوافقون في صيامه مع صيام يوم آخر معه كما تقدم فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضا فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية و على مثل هذا يحمل ما خرجه الإمام أحمد و النسائي و ابن حبان [ من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم يوم السبت و يوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام و يقول : إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم ] فإنه إذا صام اليومين معا خرج بذلك عن مشابهة اليهود و النصارى في تعظيم كل طائفة ليومها منفردا و صيامه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيدا و يجمع بذلك بين هذا الحديث و بين حديث النهي عن صيام يوم السبت
و كل ما روى في فضل الإكتحال في يوم عاشوراء و الإختضاب و الإغتسال فيه فموضوع لا يصح و أما الصدقة فيه فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من صام عاشوراء فكأنما صام السنة و من تصدق فيه كان كصدقة السنة أخرجه أبو موسى المديني
و أما التوسعة فيه على العيال فقال حرب : سألت أحمد عن الحديث الذي جاء : [ من وسع على أهله يوم عاشوراء ] فلم يره شيئا و قال ابن منصور : قلت لأحمد : هل سمعت في الحديث : [ من وسع على أهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة ] فقال : نعم رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن محمد عن المنتشر و كان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه : أنه من وسع على عياله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة : جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا و قول حرب أن أحمد لم يره شيئا إنما أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإنه لا يصح إسناده و قد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء و ممن قال ذلك محمد بن عبد الله بن عبد الحكم و قال العقبلي : هو غير محفوظ و قد روي عن عمر من قوله و في إسناده مجهول لا يعرف
ذكر الرافضة في اتخاذ عاشوراء مأتما
و أما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه : فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا و هو يحسب أنه يحسن صنعا و لم يأمر الله و لا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء و موتهم مأتما فكيف بمن دونهم
و من فضائل يوم عاشوراء : أنه يوم تاب الله فيه على قوم و قد سبق حديث علي الذي خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل : [ إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإن فيه يوما تاب الله على قوم و يتوب فيه على آخرين ]
و قد صح من حديث ابن اسحاق عن الأسود بن يزيد قال : سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء : فقال المحرم شهر الله الأصم : فيه يوم تيب فيه على آدم فإن استطعت أن لا يمر بك إلا صمته كذا [ روي عن شعبة عن أبي اسحاق و رواه اسرائيل عن أبي اسحاق و لفظه قال : إن قوما أذنبوا فتابوا فيه فتيب عليهم فإن استطعت أن لا يمر بك إلا و أنت صائم فافعل ] و رواه يونس [ عن أبي اسحاق و لفظه قال : إن المحرم شهر الله و هو رأس السنة تكتب فيه الكتب و يؤرخ فيه التاريخ و فيه تضرب الورق و فيه يوم تاب فيه قوم فتاب الله عليهم فلا يمر بك إلا صمته ] يعني يوم عاشوراء و روى أبو موسى المديني من [ حديث أبي موسى مرفوعا : هذا يوم تاب الله فيه على قوم فاجعلوه صلاة و صوما ] يعني يوم عاشوراء و قال : حسن غريب و ليس كما قال و روى باسناده عن علي قال : يوم عاشوراء هو اليوم الذي تيب فيه على قوم يونس
و عن ابن عباس قال : هو اليوم الذي تيب فيه على آدم و عن وهب : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام : أن مر قومك يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي حتى أغفر لهم و روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن عكرمة قال : هو يوم تاب الله فيه على آدم يوم عاشوراء و روى عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة قال : كنا نتحدث اليوم الذي تيب فيه على آدم يوم عاشوراء و هبط فيه آدم إلى الأرض يوم عاشوراء و قوله صلى الله عليه و سلم في حديث علي و يتوب فيه على آخرين حث للناس على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء و ترجيه لقبول التوبة فمن تاب فيه إلى الله عز و جل من ذنوبه تاب الله عليه كما تاب فيه على من قبلهم
ذكر آدم عليه السلام فضله و إخراجه و ذريته و أن عاشوراء هو اليوم الذي
تاب فيه الله عليه
و قد قال الله تعالى عن آدم : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } و أخبر عنه و عن زوجه أنهما قالا : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار كتابا قال فيه : قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و قولوا كما قال نوح : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين } و قولوا كما قال موسى : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } و قولوا كما قال ذو النون : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } و اعتراف المذنب بذنبه مع الندم عليه توبة مقبولة قال الله عز و جل : { و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ] و في دعاء الإستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يستفتح به : [ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] و في الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم للصديق أن يقوله في صلاته : [ اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا و لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ] و في حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ سيد الإستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ]
الإعتراف يمحو الإقتراف كما قيل :
( فإن اعتراف المرء يمحو إقترافه ... كما أن إنكار الذنوب ذنوب )
لما أهبط آدم من الجنة بكى على تلك المعاهد فيما يروى ثلاثمائة عام و حق له ذلك كان في دار لا يجوع فيها و لا يعرى و لا يظمأ فيها و لا يضحى فلما نزل إلى الأرض أصابه ذلك كله و كان إذا رأى جبريل عليه السلام يتذكر برؤيته تلك المعاهد فيشتد بكاؤه حتى يبكي جبريل عليه السلام لبكائه و يقول له : ما هذا البكاء يا آدم فيقول : و كيف لا أبكي و قد أخرجت من دار النعمة إلى دار البؤس فقال له بعض ولده : لقد آذيت أهل الأرض ببكائك فقال إنما أبكي على أصوات الملائكة حول العرش و في رواية قال : إنما أبكي على جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة و في رواية قال : أبكي على دار لو رأيتها لزهقت نفسك شوقا إليها و روي أنه قال لولده : كنا نسلا من نسل السماء خلقنا كخلقهم و غذينا بغذائهم فسبانا عدونا إبليس فليس لنا فرحة و لا راحة إلا الهم و العناء حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها
( فحنى على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى و فيها المخيم )
( و لكننا سبى العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم )
لما التقى آدم و موسى عليهما السلام عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه و ذريته من الجنة فاحتج آدم بالقدر السابق و الإحتجاج بالقدر على المصائب حسن كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا و لكن قل : قدر الله و ما شاء فعل ]
( و الله لولا سابق الأقدار ... لم تبعد قط داركم عن داري )
( من قبل النأي جزية المقدار ... هل يمحو العبد ما قضاه الباري )
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له و بتعليمه أسماء كل شيء و إخباره الملائكة بها و هم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه حتى أقروا بالعجز عن علمه و أقروا له بالفضل و أسكن هو و زوجته الجنة ظهر الحسد من إبليس و سعى في الأذى ـ و ما زالت الفضائل إذا ظهرت تحسد :
( لا مات حسادك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد )
( لا زلت محسودا على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد )
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة و ما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول إنما أهلك إبليس العجب بنفسه و لذلك قال أنا خير منه و إنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم و احترق إبليس :
( و إذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود )
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود )
قال بعض السلف : آدم أخرج من الجنة بذنب واحد و أنتم تعلمون الذنوب و تكثرون منها و تريدون أن تدخلوا بها بها الجنة :
( تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى ... درج الجنان بها و فوز العابد )
( و نسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد )
احذروا هذا العدو الذي أخرج أباكم من الجنة فإنه ساع في منعكم من العود إليها بكل سبيل و العداوة بينكم و بينه قديمة فإنه ما أخرج من الجنة و طرد عن الخدمة إلا بسبب تكبره على أبيكم و امتناعه من السجود له لما أمر به و قد أيس من الرحمة و أيس من العود إلى الجنة و تحقق خلوده في النار فهو يجتهد على أن يخلد معه في النار بني آدم بتحسين الشرك فإن عجز قنع بما دونه من الفسوق و العصيان و قد حذركم مولاكم منه و قد أعذر من أنذر فخذوا حذركم : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة }
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه و عرف الشيطان ثم أطاعه : { أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } :
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعي ... حفظنا له العهد القديم فضيعا )
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا )
لما أهبط آدم إلى الأرض وعد العود إلى الجنة هو و من آمن من ذريته و اتبع الرسل : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى و أصلح فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون } فليبشر المؤمنون بالجنة هي اقطاعهم و قد وصل منشور الإقطاع مع جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم : { و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إنما خرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة فأما من تاب و آمن فالإقطاع مردود عليه المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس و الهوى فإذا انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي كانوا فيه في صلب آدم تكفل الله للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة
وصلت إليكم معشر الأمة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رأيت ليلة أسري بي إبراهيم فقال : يا محمد أقرىء أمتك السلام و أخبرهم : أن الجنة عذبة الماء طيبة التربة و أنها قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر ] و خرج النسائي و الترمذي [ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له نخلة في الجنة ] و خرج ابن ماجه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : من قال سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر يغرس له بكل واحدة شجرة في الجنة ] و خرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا و خرجه ابن أبي الدنيا [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : من قال سبحان الله العظيم بني له برج في الجنة ] و روي موقوفا و عن الحسن قال : الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان يغرسون و يبنون فربما أمسكوا فيقال لهم : قد أمسكتم ؟ فيقولون : حتى تأتينا النفقات و قال الحسن : فأتعبوهم بأبي أنتم و أمي على العمل و قال بعض السلف : بلغني أن دور الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك عن الذكر أمسكوا عن البناء فيقال لهم : فيقولون : حتى تأتينا نفقة أرض الجنة اليوم قيعان و الأعمال الصالحة لها عمران بها تبنى القصور و تغرس أرض الجنان فإذا تكامل الغراس و البنيان انتقل إليه السكان رأى بعض الصالحين في منامه قائلا يقول له : قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك و اسمها دار السرور فأبشر و قد أمرنا بتنجيدها و تزيينها و الفراغ منها إلى سبعة أيام فلما كان بعد سبعة أيام مات فرؤي في المنام فقال : أدخلت دار السرور فلا تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع رأى بعضهم كأنه أدخل الجنة و عرض عليه منازله و أزواجه فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه و قالوا : بالله حسن عملك فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا العاملون اليوم يسلفون رؤوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين إلى أجل يوم المزيد في سوق الجنة فإذا حل الأجل دخلوا السوق فحملوا منه ما يشاؤن بغير نقد ثمن على ما قد سلف من تعجيل رأس مال السلف لكن بغير مكيال و لا ميزان فيا من عزم أن يسلف اليوم إلى ذلك الموسم عجل بتقبيض رأس المال فإن تأخير التقبيض يفسد العقد فلله ذاك السوق الذي هو موعد المزيد لوفد الحب لو كنت منهم فما شئت منه خذ بلا ثمن له فقد أسلف التجار فيه و أسلموا في الحديث : [ إن الجنة تقول : يا رب ائتني بأهلي و بما وعدتني فقد كثر حريري و استبرقي و سندسي و لؤلؤي و مرجاني و فضتي و ذهبي و أباريقي و خمري و عسلي و لبني فأتني بأهلي و بما وعدتني ] و في الحديث أيضا : [ من سأل الله الجنة شفعت له الجنة إلى ربها و قالت : اللهم أدخله الجنة ] و في الحديث أيضا : [ إن الجنة تفتح في كل سحر و يقال لها ازدادي طيبا لأهلك فتزداد طيبا فذلك البرد الذي يجده الناس في السحر ] قلوب العارفين تستنشق أحيانا نسيم الجنة قال أنس بن النضر يوم أحد : واها لريح الجنة و الله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل :
( تمر الصبا صبحا بساكن ذي الغضا ... و يصدع قلبي أن يهب هبوبها )
( قريبة عهد بالحبيب و إنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها )
كم لله من لطف و حكمه في إهباط آدم إلى الأرض لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين و اجتهاد العابدين المجتهدين و لا صعدت زفرات أنفاس التائبين و لا نزلت قطرات دموع المذنبين يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب : { فإني قريب أجيب دعوة الداع } إن كان حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين زجل المسبحين ربما يشوبه الإفتخار و أنين المذنبين يزينه الإنكسار لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم سبحان من إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا و إذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده و عاد عليه وبالا لقن آدم حجته و ألقى إليه ما تقبل به توبته : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } و طرد إبليس بعد طول خدمته فصار عمله هباء منثورا : { قال فاخرج منها فإنك رجيم * و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين } إذا وضع عدله على عبد لم تبق له حسنة و إذا بسط فضله على عبد لم تبق له سيئة :
( يعطي و يمنع من يشاء كما يشا ... و هباته ليست تقارنها الرشا )
لما ظهر فضل آدم على الخلائق بالعلم و كان العلم لا يكمل بدون العمل بمقتضاه و الجنة ليست دار عمل و مجاهدة إنما دار نعيم و مشاهدة قيل له : يا آدم اهبط إلى رباط الجهاد و صابر جنود الهوى بالجد و الاجتهاد واذرف دموع الأسف على البعاد فكأنك بالعيش الماضي و قد عاد على أكمل من ذلك أوجه المعتاد :
( عودوا إلى الوصل عودوا ... فالهجر صعب شديد )
( لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد )
( قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد )
( قلت و قلبي أسير وجد ... متيم في الجفا عميد )
( أنتم لنا في الهوى موال ... و نحن في أسركم عبيد )
المجلس الثالث في قدوم الحاج
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من حج هذا البيت و لم يرفث و لم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] مباني الإسلام الخمس كل واحد منها يكفر الذنوب و الخطايا و يهدمها و لا إله إلا الله لا تبقي ذنبا و لا يسبقها عمل و الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر و الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار و الحج الذي لا رفث فيه و لا فسوق يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن طائفة من العلماء و تأولوا قول الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } بأن من قضى نسكه و رجع منه فإن آثامه تسقط عنه إذا اتقى الله عز و جل في أداء نسكه و سواء نفر في اليوم الأول من يومي النفر متعجلا أو متأخرا إلى اليوم الثاني و في مسند أبي يعلى الموصلي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قضى نسكه و سلم المسلمون من لسانه و يده غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ] و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ] و في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج يهدم ما قبله ]
فالحج المبرور : يكفر السيئات و يوجب دخول الجنات و قد روي أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن بر الحج ؟ فقال : [ إطعام الطعام و طيب الكلام ] فالحج المبرور ما اجتمع فيه أعمال البر مع اجتناب أعمال الإثم فما دعا الحاج لنفسه و لا دعا له غيره بأحسن من الدعاء بأن يكون حجه مبرورا و لهذا يشرع للحاج إذا فرغ من أعمال حجه و شرع في التحلل من إحرامه برمي جمرة العقبة يوم النحر أن يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا و سعيا مشكورا و ذنبا مغفورا و روي ذلك عن ابن مسعود و ابن عمر من قولهما و روي عنهما مرفوعا و كذلك يدعى للقادم من الحج بأن يجعل الله حجه مبرورا و في الأثر : أن آدم عليه السلام لما حج البيت و قضى نسكه أتته الملائكة فقالوا له : يا آدم بر حجك لقد حججنا هذا البيت بألفي عام و كذلك كان السلف يدعون لمن رجع من حجه لما حج خالد الحذاء و رجع قال له أبو قلابة : بر العمل معناه جعل الله عملك مبرورا
علامات الحج المبرور
للحج المبرور علامات لا تخفى : قيل للحسن : الحج المبرور جزاؤه الجنة ؟ قال : آية ذلك : أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة و قيل له : جزاء الحج المغفرة ؟ قال : آية ذلك : أن يدع سيء ما كان عليه من العمل الحج المبرور مثل : حج إبراهيم بن أدهم مع رفيقه الرجل الصالح الذي صحبه من بلخ فرجع من حجه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة و خرج عن ملكه و ماله و أهله و عشيرته و بلاده و اختار بلاد الغربة وقنع بالأكل من عمل يده إما من الحصاد أو من نظارة البساتين حج مرة مع جماعة من أصحابه فشرط عليهم في ابتداء السفر أن لا يتكلم أحدهم إلا لله تعالى و لا ينظر إلا له فلما وصلوا وطافوا بالبيت رأوا جماعة من أهل خراسان في الطواف معهم غلام جميل قد فتن الناس بالنظر إليه فجعل إبراهيم يسارقه النظر و يبكي فقال له بعض أصحابه : يا أبا اسحاق ألم تقل لنا : لا ننظر إلا لله تعالى ؟ فقال : ويحك هذا ولدي و هؤلاء خدمي و حشمي :
( هجرت الخلق طرا في هواك ... و أيتمت العيال لكي أراكا )
( فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سواكا )
قال بعض السلف : استلام الحجر الأسود هو أن لا يعود إلى معصية يشير ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما : أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه و صافحه فكأنما صافح الله و قبل يمينه و قال عكرمة : الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله و ورد في حديث : [ أن الله لما استخرج من ظهر آدم ذريته و أخذ عليهم الميثاق كتب ذلك العهد في رق ثم استودعه هذا الحجر فمن ثم يقول : من يستلمه وفاء بعهدك فمستلم الحجر يبايع الله على اجتناب معاصيه و القيام بحقوقه ] { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } يا معاهدينا على التوبة بيننا و بينكم عهود أكيدة أولها : يوم { ألست بربكم } فقلتم بلى و المقصود الأعظم من هذا العهد : أن لا تعبدوا إلا إياه و تمام العمل بمقتضاه : أن اتقوا الله حق تقواه و ثانيهما : يوم أرسل إليكم رسوله و أنزل عليكم في كتابه : { و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } قال سهل التستري : من قال لا إله إلا الله فقد بايع الله فحرام عليه إذ بايعه أن يعصيه في شيء من أمره في السر و العلانية أو يوالي عدوه أو يعادي وليه :
( يا بني الإسلام من علمكم ... بعد إذ عاهدتم نقض العهود )
( كل شيء في الهوى مستحسن ... ما خلا الغدر و إخلاف الوعود )
و ثالثها : لمن حج إذا استلم الحجر فإنه يجدد البيعة و يلتزم الوفاء بالعهد المتقدم : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الحر الكريم لا ينقض العهد القديم :
( أحسبتم أن الليالي غيرت ... عقد الهوى لا كان من يتغير )
( يفنى الزمان و ليس ننسى عهدكم ... و على محبتكم أموت و أحشر )
إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها : معاذ الله : { إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون } اجتاز بعضهم على منظور مشتهى فهمت عينه أن تمتد فصاح :
( حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم ... و ذلك عهد لو عرفت وثيق )
تاب بعض من تقدم ثم نقض فهتف به هاتف بالليل :
( سأترك ما بيني و بينك واقفا ... فإن عدت عدنا و الوداد مقيم )
( تواصل قوما لا وفاء لعهدهم ... و تترك مثلي و الحفاظ قديم )
من تكرر منه نقض العهد أيوثق بمعاهدته دخل بعض السلف على مريض مكروب فقال له : عاهد الله على التوبة لعله أن يقيلك صرعتك فقال : كنت كلما مرضت عاهدت الله على التوبة فيقيلني فلما كان هذه المرة ذهبت أعاهد كما كنت أعاهد فهتف بي هاتف من ناحية البيت : قد أقلناك مرارا فوجدناك كذابا ثم مات عن قريب لا كان من نقض العهد من كان ما ينقض العهد إلا خوان :
( ترى الحي الالى باتوا ... على العهد كما كانوا )
( أم الدهر بهم خاننا ... و دهر المرء خوان )
( إذا عز بغير الله ... يوما معشر هانوا )
من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر حج بعض من تقدم فبات بمكة مع قوم فدعته نفسه إلى معصية فسمع هاتفا يقول : ويلك ألم تحج فعصمه الله من ذلك قبيح بمن كمل القيام بمباني الإسلام الخمس أن يشرع في نقض ما يبني بالمعاصي في حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل : يا فلان إنك تبني و تهدم ـ يعني تعمل الحسنات و السيئات ـ فقال يا رسول الله : سوف أبني و لا أهدم :
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط فقد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبني كم تنقض كم ذا العذر ) ]
علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها و علامة ردها أن توصل بمعصية ما أحسن الحسنة بعد الحسنة و أقبح السيئة بعد الحسنة ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها النكسة أصعب من المرض الأول ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل و غني قوم بالذنوب افتقر سلوا الله الثبات إلى الممات و تعوذوا من الحور بعد الكور كان الإمام أحمد يدعو و يقول : اللهم أعزني بطاعتك و لا تذلني بمعصيتك و كان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم : اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة في بعض الآثار الإلهية يقول الله تبارك و تعالى : أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز
( ألا إنما التقوى هي العز و الكرم ... و حبك للدنيا هو الذل و السقم )
( و ليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى و إن حاك أو حجم )
الحاج إذا كان حجه مبرورا غفر له و لمن استغفر له و شفع فيمن شفع فيه و قد روي : [ إن الله تعالى يقول لهم يوم عرفة : أفيضوا مغفورا لكم و لمن شفعتم فيه ] و روى الإمام أحمد بإسناده [ عن أبي موسى الأشعري قال : إن الحاج ليشفع في أربعمائة بيت من قومه و يبارك في أربعين من أمهات البعير الذي يحمله و يخرج من خطاياه كيوم ولدته أمه فإذا رجع من الحج المبرور رجع وذنبه مغفور و دعاؤه مستجاب فذلك يستحب تلقيه و السلام عليه و طلب الإستغفار منه ]
و تلقي الحاج مسنون و في صحيح مسلم [ عن عبد الله بن جعفر قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل المدينة و إنه قدم من سفر ـ فسق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة ] و قد ورد النهي عن ركوب ثلاثة على دابة في حديث مرسل فإن صح : حمل على ركوب ثلاثة رجال فإن الدابة يشق عليها حملها بخلاف رجل و صغيرين و في المسند و صحيح الحاكم [ عن عائشة قالت : أقبلنا من مكة في حج أو عمرة فتلقانا غلمان من الأنصار كانوا يتلقون أهاليهم إذا قدموا ]
و كذلك السلام على الحاج إذا قدم و مصافحته و طلب الدعاء منه و في المسند بإسناد فيه ضعف [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا لقيت الحاج فسلم عليه و صافحه و مره أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته فإنه مغفور له ] و فيه أيضا عن حبيب بن أبي ثابت قال : خرجت مع أبي نتلقى الحاج و نسلم عليهم قبل أن يتدنسوا و روى معاذ بن الحكم حدثنا موسى بن أعين عن الحسن قال : إذا خرج الحاج فشيعوهم و زودوهم الدعاء و إذا قفلوا فالقوهم و صافحوهم قبل أن يخالطوا الذنوب فإن البركة في أيديهم و روى أبو الشيخ الأصبهاني و غيره من رواية لبنت عن مجاهد قال : قال عمر : يغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج بقية ذي الحجة و محرم و صفر و عشر من ربيع الأول و في مسند البزار و صحيح الحاكم [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : اللهم اغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج ] وروى أبو معاوية الضرير عن حجاج عن الحكم قال : قال ابن عباس : لو يعلم المقيمون ما للحاج عليهم من الحق لأتوهم حين يقدمون حتى يقيلوا رواحلهم لأنهم وفد الله في جميع الناس ما للمنقطع حيلة سوى التعلق بأذيال الواصلين :
( هل الدهر يوما بوصل يجود ... و أيامنا باللوى هل تعود )
( زمان تقضى و عيش مضى ... بنفس و الله تلك العهود )
( إلا قل لزوار دار الحبيب ... هنيئا لكم في الجنان الخلود )
( أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش و أنتم ورود )
أحب ما إلى المحب سؤال من قدم من ديار الحبيب :
( عارضا بي ركب الحجاز أسائله ... متى عهده بأيام سلع )
( و استملا حديث من سكن الخيف ... و لا تكتباه إلا بدمعي )
( فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي )
( من معيد أيام جمع على ما ... كان منها و أين أيام جمعي )
لقاء الأحباب لقاح الألباب و أخبار تلك الديار أحلى عند المحبين من الأسمار :
( إذا قدم الركب بمعمعتهم ... أحيى الوجوه قدوما و وردا )
( و اسألهم عن عقيق الحمى ... و عن أرض نجد و من حل نجدا )
( حدثوني عن العقيق حديثا ... أنتم بالعقيق أقرب عهدا )
( ألا هل سمعتم ضجيج الحجيج ... على ساحة الخيف و العيس تحدا )
( فذكر المشاعر و المروتين ... و ذكر الصفا يطرد الهم طردا )
أرواح القبول تفوح من المقبولين و أنوار الوصول تلوح على الواصلين :
( تفوح أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد بالدار )
( أهفو إلى الركب تعلو لي ركائبهم ... من الحمى في إسحاق و اطمار )
( يا راكبان قفا لي و اقضيا و طرى ... و حدثاني عن نجد بأخبار )
ما يؤهل للإكثار من التردد إلى تلك الآثار إلا محب مختار حج علي بن الموفق ستين حجة قال : فلما كان بعد ذلك جلست في الحجر أفكر في حالي و كثرة تردادي إلى ذلك المكان و لا أدري هل قبل مني حجي أم رد ثم نمت فرأيت في منامي قائلا يقول لي : هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب قال : فاستيقظت و قد سري عني ما كل من حج قبل و لا كل من صلى وصل قيل لابن عمر ما أكثر الحاج ؟ قال : ما أقلهم و قال : الركب كبير و الحاج قليل حج بعض المتقدمين فتوفي في الطريق في رجوعه فدفنه أصحابه و نسوا الفأس في قبره فنبشوه ليأخذوا الفأس فإذا عنقه و يداه قد جمعت في حلقة الفأس فردوا عليه التراب ثم رجعوا إلى أهله فسألوهم عن حاله ؟ فقالوا صحب رجلا فأخذ ماله فكان يحج منه :
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل صالحة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
من حجه مبرور قليل و لكن قد يوهب المسيء للمحسن و قد روي : [ أن الله تعالى يقول عشية عرفة : قد وهبت مسيئكم لمحسنكم ] حج بعض المتقدمين فنام ليلة فرأى ملكين نزلا من السماء فقال أحدهما للأخر فكم حج العام ؟ قال : ستمائة ألف فقال له : كم قبل منهم ؟ قال : ستة قال : فاستيقظ الرجل و هو قلق مما رأى فرأى في الليلة الثانية كأنهما نزلا و أعادا القول و قال أحدهما : إن الله وهب لكل واحد من الستة مائة ألف كان بعض السلف يقول في دعائه : اللهم إن لم تقبلني فهبني لمن شئت من خلقك من رد عليه عمله و لم يقبل منه فقد يعوض ما يعوض المصاب فيرحم بذلك قال بعض السلف في دعائه بعرفة : اللهم إن كنت لم تقبل حجي و تعبي و نصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني و قال آخر منهم : اللهم ارحمني فإن رحمتك قريب من المحسنين فإن لم أكن محسنا فقد قلت : { و كان بالمؤمنين رحيما } فإن لم أكن كذلك فأنا شيء و قد قلت : { و رحمتي وسعت كل شيء } فإن لم أكن شيئا فأنا مصاب برد عملي برد عملي و تعبي و نصبي فلا تحرمني ما وعدت المصاب من الرحمة قال هلال بن يسار : بلغني أن المسلم إذا دعا الله فلم يستجب له كتب له حسنة خرجه ابن أبي شيبة يعني جزاء المصيبة رده
( من كان في سخطه محسنا ... فكيف يكون إذا ما رضي )
قدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله تعالى
قدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله تعالى قدم مسافر فيما مضى على أهله فسروا به و هناك امرأة من الصالحات فبكت و قالت : أذكرني هذا بقدومه القدوم على الله عز و جل فمن مسرور و مثبور قال بعض الملوك لأبي حازم : كيف القدوم على الله تعالى ؟ فقال أبو حازم : أما قدوم الطائع على الله تعالى فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه و أما قدوم العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده الغضبان
( لعلك غضبان و قلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا )
في بعض الآثار الإسرائيلية يقول الله عز و جل : ألا طال شوق الأبرار إلي و أنا إلى لقائهم أشد شوقا كم بين الذين { لا يحزنهم الفزع الأكبر و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } و بين الذين يدعون إلى نار جهنم دعا قال علي رضي الله عنه : تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة : { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } و تلقى كل غلمان صاحبهم يطيفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة أبشر فقد أعد الله لك من الكرامة كذا و كذا قد أعد الله لك من الكرامة كذا و كذا و ينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين فيقول : هذا فلان باسمه في الدنيا فيقلن : أنت رأيته ؟ فيقول : نعم فيستخفهن الفرح حتى يخرجن إلى أسكفة الباب قال أبو سليمان الداراني تبعث الحوراء من الحور الوصيف من وصائفها فتقول : ويحك انظر ما فعل بولي الله ؟ فتستبطئه فتبعث وصيفا آخر فيأتي الأول فيقول : تركته عند الميزان و يأتي الثاني فيقول : تركته عند الصراط و يأتي الثالث فيقول : قد دخل باب الجنة فيستخفها الفرح فتقف على باب الجنة فإذا أتاها اعتنقه فيدخل خياشيمه من ريحها ما لا يخرج أبدا
( قد أزلفت جنة النعيم فيا ... طوبى لقوم بربعها نزلوا )
( أكوابهم عسجد يطاف بها ... و الخمر و السلسبيل و العسل )
( و الحور تلقاهم و قد كشفت ... عن الوجوه بها الأستار و الكلل )
وظيفة شهر صفر
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا عدوى و لا هامة و لا صفر فقال أعرابي : يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فمن أعدى الأول ؟ ! ]
أما العدوى : فمعناها أن المرض يتعدى من صاحبه إلى من يقارنه من الأصحاء فيمرض بذلك و كانت العرب تعتقد ذلك في أمراض كثيرة منها الجرب و لذلك سأل الأعرابي عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فمن أعدى الأول ] و مراده : أن الأول لم يجرب بالعدوى بل بقضاء الله و قدره فكذلك الثاني و ما بعده و قد وردت أحاديث أشكل على كثير من الناس فهمها حتى ظن بعضهم أنها ناسخة لقوله : [ لا عدوى ] مثل ما في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يورد ممرض على مصح ] و الممرض : صاحب الإبل المريضة و المصح : صاحب الإبل الصحيحة و المراد النهي عن إيراد الإبل المريضة على الصحيحة و مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ فر من المجذوم فرارك من الأسد ] و قوله صلى الله عليه و سلم في الطاعون : [ إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها ] و دخول النسخ في هذا كما تخيله بعضهم لا معنى له فإن قوله : [ لا عدوى ] خبر محض لا يمكن نسخه إلا أن يقال : هو نهي عن اعتقاد العدوى لا نفي لها و لكن يمكن أن يكون ناسخا للنهي في هذه الأحاديث الثلاثة و ما في معناها

بيان معنى لا عدوى
و الصحيح الذي عليه جمهور العلماء : أنه لا نسخ في ذلك كله و لكن اختلفوا في معنى قوله : [ لا عدوى ] و أظهر ما قبل في ذلك : أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك و يدل على هذا قوله : [ فمن أعدى الأول ؟ ] يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله و قدره فكذلك الثاني و ما بعده خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يعدي شيئا قالها ثلاثا فقال أعرابي : يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فما أجرب الأول لا عدوى و لا هامة و لا صفر خلق الله كل نفس و كتب حياتها و مصابها و رزقها ] فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله و قدره كما دل عليه قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } فأما نهيه صلى الله عليه و سلم عن إيراد الممرض على المصح و أمره بالفرار من المجذوم و نهيه عن الدخول إلى موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى و جعلها أسبابا للهلاك أو الأذى
و العبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان عافية منها فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو يدخل تحت الهدم و نحوه مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذى فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم أو القدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض و التلف و الله تعالى هو خالق الأسباب و مسبباتها لا خالق غيره و لا مقدر غيره و قد روي في حديث مرسل خرجه أبو داود في مراسيله أن النبي صلى الله عليه و سلم : مر بحائط مائل فأسرع و قال : [ أخاف موت الفوات ] و روي متصلا و المرسل أصح و هذه الأسباب التي جعلها الله أسبابا يخلق المسببات بها كما دل عليه قوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } و قالت طائفة : إنه يخلق المسببات عندها لا بها
و أما إذا قوي التوكل على الله تعالى و الإيمان بقضائه و قدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله و رجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما إذا كان مصلحة عامة أو خاصة و على مثل هذا يحمل الحديث الذي خرجه أبو داود و الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم : أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال : [ كل باسم الله ثقة بالله و توكلا عليه ] و قد أخذ به الإمام أحمد و قد روي نحو ذلك عن عمر و ابنه عبد الله و سلمان رضي الله عنهم و نظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه : من أكل السم و منه : مشى سعد بن أبي وقاص و أبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر و منه : أمر عمر رضي الله عنه لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن يردها فدخل إليها في الغار التي خرجت منه فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس قوي إيمانهم بالله و قضائه و قدره و توكلهم عليه و ثقتهم به و نظير ذلك دخول المغاور بغير زاد لمن قوي يقينه و توكله خاصة و قد نص عليه أحمد و اسحاق و غيرهما من الأئمة و كذلك ترك التكسب و التطبب كل ذلك يجوز عند أحمد لمن قوي توكله فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع و تدفع بها المضار كما قال الفضيل : لو علم الله إخراج المخلوقين من قلبك و تستدفع لأعطاك كل ما تريد و بذلك فسر الإمام أحمد التوكل فقال : هو قطع الإستشراف باليأس من المخلوقين قيل له : فما الحجة فيه ؟ قال : قول إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما ألقي في النار فعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا
فلا يشرع ترك الأسباب الظاهرة إلا لمن تعوض عنها بالسبب الباطن و هو تحقيق التوكل عليه فإنه أقوى من الأسباب الظاهرة لأهله و أنفع منها
فالتوكل : علم و عمل و العلم : معرفة القلب بتوحيد الله بالنفع و الضر و عامة المؤمنين تعلم ذلك و العمل : هو ثقة القلب بالله و فراغه من كل ما سواه و هذا عزيز و يختص به خواص المؤمنين
و الأسباب نوعان : أحدهما : أسباب الخير : فالمشروع أنه يفرح بها و يستبشر و لا يسكن إليها بل إلى خالقها و مسببها و ذلك هو تحقيق التوكل على الله و الإيمان به كما قال تعالى في الإمداد بالملائكة : { و ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و من هذا الباب الإستبشار بالفال : و هو الكلمة الصالحة يسمعها طالب الحاجة و أكثر الناس يركن بقلبه إلى الأسباب و ينسى المسبب لها و قل من فعل ذلك إلا وكل إليها و خذل فإن جميع النعم من الله و فضله كما قال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله } { و ما بكم من نعمة فمن الله } :
( لا نلت خيرا ما بعيت و لا عداني الدهر شر )
( إن كنت أعا أن غير الله ينفع أو يضر )
و لا تضاف النعم إلى الأسباب بل إلى مسببها و مقدرها كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه صلى بهم الصبح في أثر سماء ثم قال : أتدرون ما قال ربكم الليلة ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر فأما المؤمن فقال : مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب و أما الكافر فقال : مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا عدوى و لا هامة و لا نوء و لا صفر ] و هذا مما يدل على أن المراد نفي تأثير هذه الأسباب بنفسها من غير اعتقاد أنها بتقدير الله و قضائه فمن أضاف شيئا من النعم إلى غير الله مع اعتقاده أنه ليس من الله فهو مشرك حقيقة و مع اعتقاد أنه من الله فهو نوع شرك خفي
النوع الثاني : أسباب الشر : فلا تضاف إلا إلى الذنوب لأن جميع المصائب إنما هي بسبب الذنوب كما قال تعالى : { و ما أصابك من سيئة فمن نفسك } و قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } فلا تضاف إلى شيء من الأسباب سوى الذنوب : كالعدوى أو غيرها و المشروع : اجتناب ما ظهر منها و اتقاؤه بقدر ما وردت به الشريعة مثل : اتقاء المجذوم و المريض و القدوم على مكان الطاعون و أما ما خفي منها فلا يشرع اتقاؤه و اجتنابه فإن ذلك من الطيرة المنهي عنها

بيان معنى لا طيرة
و الطيرة من أعمال أهل الشرك و الكفر و قد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون و قوم صالح و أصحاب القرية التي جاءها المرسلون و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا طيرة ] و في حديث : [ من ردته الطيرة فقد قارف الشرك ] و في حديث ابن مسعود المرفوع : [ الطيرة من الشرك و ما منا إلا و لكن الله يذهبه بالتوكل ] و البحث عن أسباب الشر من النظر في النجوم و نحوها من الطيرة المنهي عنها و الباحثون عن ذلك غالبا لا يشتغلون بما يدفع البلاء من الطاعات بل يأمرون بلزوم المنزل و ترك الحركة و هذا لا يمنع نفوذ القضاء و القدر و منهم من يشتغل بالمعاصي و هذا مما يقوي وقوع البلاء و نفوذه و الذي جاءت به الشريعة هو ترك البحث عن ذلك و الإعراض عنه و الإشتغال بما يدفع البلاء من الدعاء و الذكر و الصدقة و تحقيق التوكل على الله عز و جل و الإيمان بقضائه و قدره و في مسند ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص التقى هو و كعب فقال عبد الله لكعب علم النجوم ؟ فقال كعب : لا خير فيه قال عبد الله : لم قال ترى فيه ما تكره يريد الطيرة فقال كعب : فإن مضى و قال : اللهم لا خير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لا رب غيرك فقال عبد الله : و لا حول و لا قوة إلا بك فقال كعب : جاء بها عبد الله و الذي نفسي بيده : إنها لرأس التوكل و كنز العبد في الجنة و لا يقولهن عبد عند ذلك ثم يمضي ألا لم يضره شيء قال عبد الله : أرأيت إن لم يمض و قعد ؟ قال : طعم قلبه طعم الإشراك و في مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة فإذا أحس بذلك فليقل : أنا عبد الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأتي بالحسنات إلا الله و لا يذهب السيئات إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي لوجهه ] و في مسند الإمام أحمد [ عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من رجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك و كفارة ذلك أن يقول أحدهم : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لا إله غيرك ] و خرج الإمام أحمد و أبو داود [ من حديث عروة بن عامر القرشي قال : ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أحسنها الفال و لا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت و لا يدفع السيئات إلا أنت و لا حول و لا قوة إلا بك ] و خرجه أبو القاسم البغوي و عنده : [ و لا تضر مسلما ] و في صحيح ابن حبان [ عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا طيرة و الطيرة على من تطير ] و قال النخعي قال عبد الله بن مسعود : لا تضر الطيرة إلا من تطير
و معنى هذا أن من تطير تطيرا منهيا عنه و هو أن يعتمد على ما يسمعه أو يراه مما يتطير به حتى يمنعه مما يريد من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفا و رجاء و قطعه عن الإلتفات إلى هذه الأسباب المخوفة و قال ما أمر به من هذه الكلمات و مضى فإنه لا يضره ذلك و قد روي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع نعق الغراب قال : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم عند انعقاد أسباب العذاب السماوية المخوفة كالكسوف بأعمال البر من الصلاة و الدعاء و الصدقة و العتق حتى يكشف ذلك عن الناس ] و هذا كله مما يدل على أن الأسباب المكروهة إذا وجدت فإن المشروع الإشتغال بما يوحي به دفع العذاب المخوف منها من أعمال الطاعات و الدعاء و تحقيق التوكل على الله و الثقة به فإن هذه الأسباب كلها مقتضيات لا موجبات و لها موانع تمنعها
فأعمال البر و التقوى والدعاء والتوكل من أعظم ما يستدفع به و من كلام بعض الحكماء المتقدمين : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بأقنان اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات و هذا على زعمهم و اعتقادهم في الأفلاك و أما اعتقاد المسلمين : فإن الله وحده هو الفاعل لما يشاء و لكنه يعقد أسبابا للعذاب و أسبابا للرحمة فأسباب العذاب يخوف الله بها عباده ليتوبوا إليه و يتضرعوا إليه مثل : كسوف الشمس و القمر فإنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لينظر من يحدث له توبة فدل على أن كسوفهما سبب يخشى منه وقوع عذاب و قد أمرت عائشة رضي الله عنها : أن تستعيذ من شر القمر و قال : الغاسق إذا وقب و قد أمر الله تعالى بالإستعاذة { من شر غاسق إذا وقب } و هو الليل إذا أظلم فإنه ينتشر فيه شياطين الجن و الإنس و الإستعاذة من القمر لأنه آية الليل و فيه إشارة إلى أن شر الليل المخوف لا يندفع بإشراف القمر فيه و لا يصير بذلك كالنهار بل يستعاذ منه و إن كان مقمرا و خرج الطبراني [ من حديث جابر مرفوعا : لا تسبوا الليل و لا النهار و لا الشمس و لا القمر و لا الريح فإنها رحمة لقوم و عذاب لآخرين ] و مثل اشتداد الرياح فإن الريح كما قاله صلى الله عليه و سلم : [ من روح الله تأتي بالرحمة و تأتي بالعذاب و كان صلى الله عليه و سلم إذا اشتدت الريح أن يسأل الله تعالى خيرها و خير ما أرسلت به و يستعاذ به من شرها و شر ما أرسلت به ] و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رأى ريحا أو غيما تغير وجهه و أقبل و أدبر فإذا أمطرت سري عنه و يقول : [ قد عذب قوم بالريح ] و رأى قوم السحاب فقالوا هذا عارض ممطرنا و أسباب الرحمة يرجى بها عباده مثل : الغيم الرطب و الريح الطيبة و مثل المطر المعتاد عند الحاجة إليه و لهذا يقال عند نزوله : اللهم سقيا رحمة و لا سقيا عذاب
و أما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها فإنه لا ينفعه ذلك غالبا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به فإنه كثيرا ما يصاب بما خشي منه كما قال ابن مسعود و دل عليه حديث أنس المتقدم و كمن اتقى الطاعون الواقع في بلده بالفرار منه فإنه قل أن ينجيه ذلك و قد فر كثير من المتقدمين و المتأخرين من الطاعون فأصابهم و لم ينفعهم الفرار و قد قال الله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } و قد ذكر كثير من السلف : أنهم كانوا قد فروا من الطاعون فأصابهم و فر بعض المتقدمين من طاعون وقع فيما بينما هو يسير بالليل على حمار له إذ سمع قائلا يقول :
( إن يسبق الله على حمار ... و لا على منعة مطار )
( أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري )
فأصابه الطاعون فمات

بيان معنى لا هامة
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ لاهامه ] فهو : نفي لما كانت الجاهلية تعتقده أن الميت إذا مات صارت روحه أو عظامه هامة : و هو طائر يطير و هو شبيه باعتقاد أهل التناسخ : أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من غير بعث و لا نشور و كل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها و تكذيبها و لكن الذي جاءت بها الشريعة : أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة و ترد من أنهار الجنة إلى أن يردها الله إلى أجسادها و روي أيضا أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى أجسادها يوم القيامة
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ و لاصفر ] فاختلف في تفسيره فقال كثير من المتقدمين : الصفر : داء في البطن يقال : إنه دود فيه كبار كالحيات و كانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي صلى الله عليه و سلم و ممن قال هذا من العلماء : ابن عيينة و الإمام أحمد و غيرهما و لكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله : [ لا عدوى ] و قد يقال : هو من باب عطف الخاص على العام و خصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى و قالت طائفة : بل المراد بصفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :
أحدهما : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء فكانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه و هذا قول مالك
و الثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستيشمون بصفر و يقولون : إنه شهر مشئوم فأبطل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك و هذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك و لعل هذا القول أشبه الأقوال و كثير من الجهال يتشاءم بصفر و ربما ينهى عن السفر فيه و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهى عنها و كذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء و قد روي أنه : [ يوم نحس مستمر ] في حديث لا يصح بل في المسند [ عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم : دعا على الأحزاب يوم الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر ] قال جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه الإجابة أو كما قال
و كذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة و قد قيل : إن أصله أن طاعونا وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه كثير من العرائس فتشائم بذلك أهل الجاهلية و قد ورد الشرع بإبطاله [ قالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم في شوال و بنى بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني ] و كانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال و تزوج النبي صلى الله عليه و سلم أم سلمة في شوال أيضا
فأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا عدوى و لا طيرة و الشؤم في ثلاث في المرأة و الدار و الدابة ] خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم فقد اختلف الناس في معناه أيضا فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت هذا الحديث أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه و سلم و قالت : إنما قال : كان أهل الجاهلية يقولون ذلك خرجه الإمام أحمد و قال معمر سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة : إذا كانت غير ولود و شؤم الفرس : إذا لم يكن يغزى عليه في سبيل الله و شؤم الدار : جار السوء و روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه لا تصح و منهم من قال قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا شؤم و إن يكن اليمن في شيء ففي ثلاثة ] فذكر هذه الثلاثة و قال هذه الرواية أشبه بأصول الشرع كذا قاله ابن عبد البر و لكن إسناد هذه الرواية لا يقاوم ذلك الإسناد
و التحقيق أن يقال في إثبات الشؤم في هذه الثلاث : ما ذكرناه في النهي عن إيراد المريض على الصحيح و الفرار من المجذوم و من أرض الطاعون إن هذه الثلاث أسباب قدر الله تعالى بها الشؤم و اليمن و يقرنه و لهذا يشرع لمن استعاد زوجة أو أمة أو دابة أن يسأل الله تعالى من خيرها و خير ما جلبت عليه و يستعيذ به تعالى من شرها و شر ما جبلت عليه كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي خرجه أبو داود و غيره و كذا ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم قوما سكنوا دارا فقل عددهم و قل مالهم أن يتركوها ذميمة فترك ما لا يجد الإنسان فيه بركة من دار أو زوجة أو دابة غير منهي عنه و كذلك من أتجر في شيء فلم يربح فيه ثلاث مرات فإنه يتحول عنه روى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه قال : من بورك له في شيء فلا يتغير عنه ففي المسند و سنن ابن ماجه [ عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا : إذا كان لأحدكم رزق في شيء فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له ]
و أما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح و إنما الزمان كله خلق الله تعالى و فيه تقع أفعال بني آدم فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه و كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحين ـ يعني اللسان ـ و قال : ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان و قال عدي بن حاتم : أيمن أمر بي و أشأمة بين لحييه يعني لسانه ـ و في مسند أبي داود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حسن الملكة نماء و سوء الملكة شؤم و البر زيادة في العمر و الصدقة تمنع ميتة السوء ] فجعل سوء الملكة شؤما و في حديث آخر : [ لا يدخل الجنة سيء الملكة ] و هو من يسيء إلى مماليكه و يظلمهم
و في الحديث : [ إن الصدقة تدفع ميتة السوء ] و روي [ من حديث علي مرفوعا : باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ] خرجه الطبراني و في حديث آخر : [ إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة ] فالصدقة تمنع وقوع البلاء بعد انعقاد أسبابه و كذلك الدعاء و في الحديث : [ إن البلاء و الدعاء يلتقيان بين السماء و الأرض فيعتلجان إلى يوم القيامة ] خرجه البزار و الحاكم و خرج في الترمذي [ من حديث سلمان : لا يرد القضاء إلا بالدعاء ] و قال ابن عباس : لا ينفع الحذر من القدر و لكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر و عنه قال : الدعاء يدفع القدر و هو إذا دفع القدر فهو من القدر و هذا كقول النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الأدوية و الرقى هل ترد من قدر الله شيئا ؟ قال : [ هي من قدر الله تعالى ] و كذلك قال عمر رضي الله عنه لما رجع من الطاعون فقال له أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله فإن الله تعالى قدر المقادير و يقدر ما يدفع بعضها قبل وقوعه و كذلك الأذكار المشروعة تدفع البلاء و [ في حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم من قال حين يصبح و يمسي : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم لم يصبه بلاء ] و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الشؤم سوء الخلق ] و خرجه الخرائطي و لفظه : [ اليمن حسن الخلق ] و في الجملة : فلا شؤم إلا المعاصي و الذنوب فإنها تسخط الله عز و جل فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا و الآخرة كما إنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا و الآخرة قال بعض الصالحين و قد شكي بلاء وقع في الناس فقال : ما أرى ما أنتم فيه إلا بشؤم الذنوب و قال أبو حازم : كل ما يشغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو عليك مشؤم و قد قيل :
( فلا كان ما يلهي عن الله أنه ... يضر و يؤذى إنه لمشؤم )
فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله و اليمن هو طاعة الله و تقواه كما قيل :
( إن رأيا دعا إلى طاعة الله ... لرأى مبارك ميمون )
و العدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي فمن قاربها و خالطها و أصر عليها هلك و كذلك مخالطة أهل المعاصي و من يحسن المعصية و يزينها و يدعو إليها من شياطين الإنس و هم أضر من شياطين الجن قال بعض السلف : شيطان الجن نستعيذ بالله منه فينصرف و شيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية و في الحديث : [ يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] و في حديث آخر : [ لا تصحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي ] و مما يروى لعلي رضي الله عنه :
( فلا تصحب أخا الجهـ ... ل و إياك و إياه )
( فكم من جاهل أردى ... حكيما حين آخاه )
( يقاس المرء بالمر ... ء إذا ما المرء ماشاه )
( و للشيء على الشي ... ء مقاييس و أشباه )
( و لقلب على القلـ ... ب دليل حين يلقاه )
فالعاصي مشؤم على نفسه و على غيره فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس خصوصا من لم ينكر عليه عمله فالبعد عنه متعين فإذا كثر الخبث هلك الناس عموما و كذلك أماكن المعاصي و عقوباتها يتعين البعد عنها و الهرب منها خشية نزول العذاب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه لما مر على ديار ثمود بالحجر : [ لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم ما أصابهم ] و لما تاب الذي قتل مائة نفس من بني إسرائيل و سأل العالم : هل له من توبة ؟ قال له : نعم فأمره أن ينتقل من قرية السوء إلى القرية الصالحة فأدركه الموت بينهما فاختصم فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب فأوحى الله إليهم أن قيسوا بينهما فإلى أيهما كان أقرب فألحقوه بها فوجدوه إلى القرية الصالحة أقرب برمية حجر فغفر له هجران أماكن المعاصي و أخواتها من جملة الهجرة المأمور بها فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه قال إبراهيم بن أدهم : من أراد التوبة فليخرج من المظالم و ليدع مخالطة من كان يخالطه و إلا لم ينل ما يريد احذروا الذنوب فإنها مشؤمة عواقبها ذميمة و عقوباتها أليمة و القلوب المحبة لها سقيمة السلامة منها غنيمة و العافية منها ليس لها قيمة و البليه بها لا سيما بعد نزول الشيب داهية عظيمة
( طاعة الله خير ما اكتسب العبـ ... د فكن طائعا لله لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
يا من ضاع قلبه أنشده في مجالس الذكر عسى أن تجده يا من مرض قلبه احمله إلى مجلس الذكر لعله أن يعافى مجالس الذكر مارستان الذنوب تداوي فيها أمراض القلوب كما تداوي أمراض الأبدان في مارستان الذكر نزه لقلوب المؤمنين يتنزه فيها بسماع كلام الحكمة كما يتنزه أبصار أهل الدنيا في رياضها و بساتينها مجلسنا هذا خضرة في روضة الخشوع طعامنا فيه الجوع و شرابنا فيه الدموع و نقلنا هذا الكلام المسموع نداوي فيه أمراضا أعيت جالينوس و يختيشوع نسقي فيه ترياق الذنوب و فاروق المعاصي فمن شرب لم يكن له إلى المعصية رجوع كم أفاق فيه من المعصية مصروع و برىء فيه من الهوى ملسوع و وصل فيه إلى الله مقطوع ما عيبه إلا أن الطبيب الذي له لو كان يستعمل ما يصف للناس لكان إليه المرجوع يا ضيعة العمران نجا السامع و هلك المسموع يا خيبة المسعى إن وصل التابع و انقطع المتبوع
( و غير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس و هو سقيم )
( يا أيها الرجل المقوم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التقويم )
( ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم )
( فهناك يقبل ما تقول و يقتدى ... بالقول منك و ينفع التعليم )
( لا تنه عن خلق و تأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم )
* * *
( كم ذا التمادي فها قد جاءنا صفر ... شهر به الفوز و التوفيق و الظفر )
( فابدأ بما شئت من فعل تسر به ... يوم المعاد ففيه الخير ينتظر )
( توبوا إلى الله فيه من ذنوبكم ... من قبل يبلغ فيكم حده العمر )

الكلام على أن النبي كان نبيا قبل أن يخلق
وظائف شهر ربيع الأول و يشتمل على مجالس :
المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم :
خرج الإمام أحمد [ من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته و سوف أنبئكم بتأويل ذلك : دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى قومه و رؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و كذلك أمهات النبيين يرين ] و خرجه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و قد روي معناه من حديث أبي أمامة الباهلي و من وجوه أخر مرسلة المقصود من هذا الحديث أن نبوة النبي صلى الله عليه و سلم كانت مذكورة معروفة من قبل أن يخلقه الله و يخرجه إلى دار الدنيا حيا و أن ذلك كان مكتوبا في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام و فسر أم الكتاب باللوح المحفوظ و بالذكر في قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } و عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سأل كعبا عن أم الكتاب ؟ فقال : علم الله ماهو خالق و ما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا و لا ريب أن علم الله عز و جل قديم أزلي لم يزل عالما بما يحدثه من مخلوقاته ثم إنه تعالى كتب ذلك في كتاب عنده قبل خلق السموات و الأرض كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } و في صحيح البخاري [ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كان الله و لا شيء قبله و كان عرشه على الماء و كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات و الأرض ] و في صحيح مسلم [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله كنب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض بخمسين ألف سنة و كان عرشه على الماء ]
و من جملة ما كتبه في هذا الذكر و هو أم الكتاب : أن محمدا خاتم النبيين
و من حيندئذ انتقلت المخلوقات من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة و هو نوع من أنواع الوجود الخارجي و لهذا قال سعيد بن راشد سألت عطاء : هل كان النبي صلى الله عليه و سلم نبيا قبل أن يخلق ؟ قال ؟ قال : إي و الله و قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام خرجه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة و عطاء ـ الظاهر أنه ـ الخرساني و هذا إشارة إلى ما ذكرنا من كتابة نبوته صلى الله عليه و سلم في أم الكتاب عند تقدير المقادير و قوله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث : [ إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته ] ليس المراد به و الله أعلم أنه حينئذ كتب في أم الكتاب ختمه للنبيين و إنما المراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبا في أم الكتاب في تلك الحال قبل نفخ الروح في آدم و هو أول ما خلق من النوع الإنساني و جاء في أحاديث أخر أنه في تلك الحال وجبت له النبوة و هذه مرتبة ثالثة و هي انتقاله من مرتبة العلم و الكتابة إلى مرتبة الوجود العيني الخارجي فإنه صلى الله عليه و سلم استخرج حينئذ من ظهر آدم و نبىء فصارت نبوته موجودة في الخارج بعد كونها كانت مكتوبة مقدرة في أم الكتاب ففي [ حديث ميسرة الفجر قال : قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ] خرجه الإمام أحمد و الحاكم
قال الإمام أحمد في رواية مهنا : و بعضهم يرويه : متى كتبت نبيا ؟ من الكتابة فإن صحت هذه الرواية حملت مع حديث العرباض بن سارية على وجوب نبوته و ثبوتها و ظهورها في الخارج فإن الكتابة إنما تستعمل فيما هو واجب : إما شرعا كقوله تعالى : { كتب عليكم الصيام } أو قدرا كقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي } و [ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا : يا رسول الله متى وجبت لك النبوة ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ] خرجه الترمذي و حسنه و في نسخه صححه و خرجه الحاكم و روى ابن سعد من [ رواية جابر الجعفي عن الشعبي قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم : متى استنبئت ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد حيث أخذ مني الميثاق ] و هذه الرواية تدل على أنه صلى الله عليه و سلم حينئذ استخرج من ظهر آدم و نبىء و أخذ ميثاقه فيحتمل أن يكون ذلك دليلا على أن استخراج ذرية آدم من ظهره و أخذ الميثاق منهم كان قبل نفخ الروح في آدم و قد روي هذا عن سلمان الفارسي و غيره من السلف و يستدل له أيضا بظاهر قوله تعالى : { و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على ما فسره به مجاهد و غيره : أن المراد : إخراج ذرية آدم من ظهره قبل أمر الملائكة بالسجود له و لكن أكثر السلف على أن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه و على هذا يدل أكثر الأحاديث فتحمل على هذا أن يكون محمد صلى الله عليه و سلم خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه فإن محمدا صلى الله عليه و سلم هو المقصود من خلق النوع الإنساني و هو عينه و خلاصته و واسطة عقده فلا يبعد أن يكون أخرج من ظهر آدم عند خلقه قبل نفخ الروح فيه
ذكر فضل النبي صلى الله عليه و سلم من لدن آدم عليه السلام
و قد روي : أن آدم عليه الصلاة و السلام رأى اسم محمد صلى الله عليه و سلم مكتوبا على العرش و أن الله عز و جل قال لآدم : [ لولا محمد ما خلقتك ] و قد خرجه الحاكم في صحيحه فيكون حينئذ من حين صور آدم طينا استخرج منه محمد صلى الله عليه و سلم و نبىء و أخذ منه الميثاق ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى خرج في وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه و يشهد لذلك ما روي [ عن قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنت أول النبيين في الخلق و آخرهم في البعث ] و في رواية : [ أول الناس في الخلق ] خرجه ابن سعد و غيره و خرجه الطبراني من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا و المرسل أشبه و في رواية عن قتادة مرسلة : ثم تلا : { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم } فبدأ به قبل نوح الذي هو أول الرسل فمحمد صلى الله عليه و سلم أول الرسل خلقا و آخرهم بعثا فإنه استخرج من ظهر آدم لما صور و نبىء حينئذ و أخذ ميثاقه ثم أعيد إلى ظهره و لا يقال : فقد خلق آدم قبله لأن آدم حينئذ كان مواتا لا روح فيه و محمد صلى الله عليه و سلم كان حيا حين استخراج و نبىء و أخذ ميثاقه فهو أول النبيين خلقا و آخرهم بعثا فهو خاتم النبيين باعتبار أن زمانه تأخر عنهم فهو : المقفى و العاقب الذي جاء عقب الأنبياء و يقفوهم قال تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين } و في الصحيحين [ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : مثلي و مثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و أحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها و يعجبون منها و يقولون لولا موضع اللبنة ] زاد مسلم قال : [ فجئت فختمت الأنبياء ] و فيهما أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم معناه و فيه : فجعل الناس يطوفون به و يقولون : هلا وضعت اللبنة ؟ فأنا اللبنة و أنا خاتم النبيين ]
و قد استدل الإمام أحمد بحديث العرباض بن سارية هذا على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل على التوحيد منذ نشأ و رد بذلك على من زعم غير ذلك بل قد يستدل بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه و سلم ولد نبيا فإن نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق منه حين استخرج من صلب آدم فكان نبيا من حينئذ لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك و ذلك لا يمنع كونه نبيا قبل خروجه كمن يولى ولاية و يؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته و إن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت قال حنبل : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد : من زعم أن النبي كان على دين قومه قبل أن يبعث ؟ قال : هذا قول سوء ينبغي لصاحب هذه المقالة أن يحذر كلامه و لا يجالس قلت له : إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة ؟ قال : قاتله الله و أي شيء أبقى إذا زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على دين قومه و هم يعبدون الأصنام قال الله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام : { و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } قلت له : و زعم أن خديجة كانت على ذلك حين تزوجها النبي صلى الله عليه و سلم في الجاهلية قال : أما خديجة فلا أقول شيئا قد كانت أول من آمن به من النساء ثم قال : ماذا يحدث الناس من الكلام ! ! هؤلاء أصحاب الكلام لم يفلح ـ سبحان الله ـ لهذا القول و احتج في ذلك بكلام لم أحفظه
ذكر رؤيا أمه صلى الله عليه و سلم حين ولادته
و ذكر أن أمه حين ولدت رأت نورا أضاء له قصور الشام أو ليس هذا عندما ولدت رأت هذا و قبل أن يبعث كان طاهرا مطهرا من الأوثان أوليس كان لا يأكل لما ذبح على النصب ثم قال : [ احذروا الكلام فإن أصحاب الكلام أمرهم لا يؤول إلى خير ] خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب السنة و مراد الإمام أحمد الإستدلال بتقدم البشارة بنبوته من الأنبياء الذين قبله و بما شوهد عند ولادته من الآيات على أنه كان نبيا من قبل خروجه إلى الدنيا و ولادته و هذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض بن سارية هذا فإنه صلى الله عليه و سلم ذكر فيه أن نبوته كانت حاصلة من حين آدم منجدلا في طينته و المراد بالمنجدل : الطريح الملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه و يقال للقتيل : إنه منجدل لذلك ثم استدل صلى الله عليه و سلم على سبق ذكره و التنويه باسمه و نبوته و شرف قدره لخروجه إلى الدنيا بثلاث دلائل
ثلاث دلائل على سبق ذكر النبي صلى الله عليه و سلم و التنويه باسمه و
نبوته
الدليل الأول : دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام و أشار إلى ما قص الله في كتابه عن إبراهيم و إسماعيل لأنهما قالا عند بناء البيت الذي بمكة : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } فاستجاب الله دعاءهما و بعث في أهل مكة منهم رسولا بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء و قد امتن الله تعالى على المؤمنين ببعثه لهذا النبي منهم على هذه الصفة التي دعا بها إبراهيم و إسماعيل قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } و قال سبحانه : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * و آخرين منهم لما يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم } و معلوم أنه لم يبعث من مكة رسول فيهم بهذه الصفة غير محمد صلى الله عليه و سلم و هو ولد إسماعيل كما أن أنبياء بني إسرائيل من ولد اسحاق و ذكر تعالى : أنه من على المؤمنين بهذه الرسالة فليس لله نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه و سلم يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم و قوله في الأميين و المراد بهم العرب : تنبيه لهم على قدر هذه النعمة و عظمها حيث كانوا أميين لا كتاب لهم و ليس عندهم شيء من آثار النبوات كما كان عند أهل الكتاب فمن الله عليهم بهذا الرسول و بهذا الكتاب حتى صاروا أفضل الأمم و أعلمهم و عرفوا ضلالة من ضل من الأمم قبلهم
و في كونه منهم فائدتان :
إحداهما : أن هذا الرسول كان أيضا أميا كأمته المبعوث إليهم لم يقرأ كتابا قط و لم يخطه بيمينه كما قال تعالى : { و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك } الآيات و لا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم شيئا بل لم يزل أميا بين أمة أمية لا يكتب و لا يقرأ حتى كمل الأربعين من عمره ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين و هذه الشريعة الباهرة و هذا الدين القيم الذي اعترف حذاق أهل الأرض و نظارهم أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه و في هذا برهان ظاهر على صدقه
و الفائدة الثانية : التنبيه على أن المبعوث منهم ـ و هم الأميون خصوصا أهل مكة ـ يعرفون نسبه و شرفه و صدقه و أمانته و عفته و أنه نشأ بينهم معروفا بذلك كله و أنه لم يكذب قط فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على الله عز و جل فهذا هو الباطل و لذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف و استدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة و الرسالة
و قوله تعالى : { يتلو عليهم آياته } يعني يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من آياته المتلوة و هو القرآن و هو أعظم الكتب السماوية و قد تضمن من العلوم و الحكم و المواعظ و القصص و الترغيب و الترهيب و ذكر أخبار من سبق و أخبار ما يأتي من البعث و النشور و الجنة و النار ما لم يشتمل عليه كتاب غيره حتى قال بعض العلماء لو أن هذا الكتاب وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض و لم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله و أن البشر لا قدرة لهم على تأليف ذلك فكيف إذا جاء على يدي أصدق الخلق و أبرهم و أتقاهم و قال إنه كلام الله و تحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا فيه فكيف مع هذا شك و لهذا قال تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } و قال : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } فلو لم يكن لمحمد صلى الله عليه و سلم من المعجزات الدالة على صدقه غير هذا الكتاب لكفاه فكيف و له من المعجزات الأرضية و السماوية مالا يحصى
و قوله : { و يزكيهم } : يعني إنه يزكي قلوبهم و يطهرها من أدناس الشرك و الفجور و الضلال فإن النفوس تزكوا إذا طهرت من ذلك كله و من زكت نفسه فقد أفلح كما قال تعالى : { قد أفلح من زكاها } و قال : { قد أفلح من تزكى } و قوله : { و يعلمهم الكتاب و الحكمة } : يعني بالكتاب : القرآن و المراد و يعلمهم تلاوة ألفاظه و يعني بالحكمة : فهم معاني القرآن و العمل بما فيه فالحكمة هي : فهم القرآن و العمل به فلا يكفي بتلاوة ألفاظ الكتاب حتى يعلم معناه و يعمل بمقتضاه فمن جمع له ذلك كله فقد أوتي الحكمة قال تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } قال الفضيل : العلماء كثير و الحكماء قليل و قال : الحكماء ورثة الأنبياء فالحكمة هي العلم النافع الذي يتبعه العمل الصالح و هو نور يقذف في القلب يفهم بها معنى العلم المنزل من السماء و يحض على اتباعه و العمل به و من قال الحكمة : السنة فقوله الحق لأن السنة تفسر القرآن و تبين معانيه و تحض على اتباعه و العمل به فالحكيم هو العالم المستنبط لدقائق العلم المنتفع بعلمه بالعمل به و لأبي العتاهية :
( و كيف تحب أن تدعى حكيما ... و أنت لكل ما تهوى ركوب )
( و تضحك دائبا ظهرا لبطن ... و تذكر ما عملت فلا تتوب )
قوله تعال : { و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إشارة إلى ما كان الناس عليه قبل إنزال هذا الكتاب من الضلال فإن الله نظر حينئذ إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب تمسكوا بدينهم الذي لم يبدل و لم يغير و كانوا قليلا جدا فأما عامة أهل الكتاب فكانوا قد بدلوا كتبهم و غيروها و حرفوها و أدخلوا في دينهم ما ليس منه فضلوا و أضلوا و أما غير أهل الكاتب فكانوا على ضلال بين فالأميون أهل شرك يعبدون الأوثان و المجوس يعبدون النيران و يقولون بإلهين اثنين و كذلك غيرهم من أهل الأرض منهم من كان يعبد النجوم و منهم من كان يعبد الشمس أو القمر فهدى الله المؤمنين بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم إلى ما جاء به من الهدى و الدين الحق و أظهر الله دينه حتى بلغ مشارق الأرض و مغاربها فظهرت فيها كلمة التوحيد و العمل بالعدل بعد أن كانت الأرض كلها ممتلئة من الشرك و الظلم فالأميون هم العرب و الآخرون الذي لم يلحقوا بهم هم أهل فارس و الروم فكانت أهل فارس مجوسا و الروم نصارى فهدى الله جميع هؤلاء برسالة محمد صلى الله عليه و سلم إلى التوحيد و قد رؤي الإمام بعد موته في المنام فسئل عن حاله فقال : لولا النبي لكنا مجوسا قال : فإن أهل العراق لولا رسالة محمد صلى الله عليه و سلم لكانوا مجوسا و أهل الشام و مصر و الروم لولا رسالة محمد صلى الله عليه و سلم لكانوا نصارى و أهل جزيرة العرب لولا رسالة محمد صلى الله عليه و سلم لكانوا مشركين عباد أوثان و لكن رحم الله عباده بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم فأنقذهم من الضلال كما قال تعالى : { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } و لهذا قال تعالى : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم } فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل العظيم و قد عظمت عليه نعمة الله فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النعمة و سؤاله دوامها و الثبات عليها إلى الممات و الموت عليها فبذلك تتم النعمة
فإبراهيم عليه الصلاة و السلام هو إمام الحنفاء المأمور محمد صلى الله عليه و سلم و من قبله من الأنبياء و الاقتداء به و هو الذي جعله للناس إماما و قد دعا هو و ابنه إسماعيل بأن يبعث الله في أهل مكة رسولا منهم موصوفا بهذه الأوصاف فاستجاب الله لهما و جعل هذا النبي مبعوثا فيهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم كما دعيا بذلك و هو النبي الذي أظهر دين إبراهيم الحنيف بعد اضمحلاله و خفائه على أهل الأرض فلهذا كان أولى الناس بإبراهيم كما قال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا } و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن لكل نبي وليا من المؤمنين و أنا ولي إبراهيم ] ثم تلا هذه الآية و كان صلى الله عليه و سلم أشبه ولد إبراهيم به صورة و معنى حتى إنه أشبهه في خلة الله تعالى فقال : [ إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ]
و الثاني بشارة عيسى به : و عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل و قد قال تعالى : { و إذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } و قد كان المسيح عليه الصلاة و السلام يحض على اتباعه و يقول : إنه يبعث السيف فلا يمنعنكم ذلك منه و روي عنه أنه قال : سوف أذهب أنا و يأتي الذي بعدي لا يتحمدكم بدعواه و لكن يسل السيف فتدخلونه طوعا و كرها و في المسند [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل أوحى إلى عيسى عليه السلام أني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا و شكروا و إن أصابهم ما يكرهون احتسبوا و صبروا و لا حلم و لا علم قال : يا رب كيف هذا و لا حلم و لا علم ؟ قال : أعطيهم من حلمي و علمي ] قال ابن اسحاق حدثني بعض أهل العلم : أن عيسى بن مريم عليه السلام قال : إن أحب الأمم إلى الله عز و جل لأمة أحمد قيل له : و ما فضلهم الذي تذكر ؟ قال : لم تذلل لا إله إلا الله على ألسن أمة من الأمم تذليلها على ألسنتهم
الثالث : مما دل على نبوته قبل ظهوره : رؤيا أمه التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و ذكر أن أمهات النبيين كذلك يرين و الرؤيا هنا إن أريد بها رؤيا المنام فقد روي أن آمنة بنت وهب رأت في أول حملها بالنبي صلى الله عليه و سلم أنها بشرت بأنه يخرج منها عند ولادتها نور يضيء له قصور الشام وروى الطبراني بإسناده [ عن أبي مريم الكندي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي شيء كان أول من أمر نبوتك ؟ قال : أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم و تلا : { و منك و من نوح } الآية و بشرى المسيح عيسى بن مريم و رأت أم رسول الله صلى الله عليه و سلم في منامها أنه خرج من بين يديها سراج أضاءت لها من قصور الشام ثم قال : و وراء ذلك قريتين أو ثلاثا ] و إن أريد بها رؤية عين كما قال ابن عباس في قول الله عز و جل : { و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } إنها رؤية عين أريها النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به فقد روى أن أمه رأت ذلك عند ولادة النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن اسحاق : كانت آمنة بنت وهب تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل لها إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد و آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في القرآن محمد و ذكر ابن سعد عن الواقدي بأسانيد له متعددة : أن آمنة بنت وهب قالت : لقد علقت به تعني النبي صلى الله عليه و سلم فما وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق و المغرب ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها و رفع رأسه إلى السماء و في حديث بعضهم : وقع جاثيا على ركبتيه و خرج معه نور أضاءت له قصور الشام و أسواقها حتى رأت أعناق الإبل ببصرى رافعا رأسه إلى السماء و روى البيهقي بإسناده [ عن عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة ولدته قالت : فما شيء أنظر إليه إلا نور و إني أنظر إلى النجوم تدنو حتى أني لأقول ليقعن علي ]
و خرج الإمام أحمد [ من حديث عتبة بن عبد السلمي عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن أمه قالت : إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام ] و روى ابن اسحاق [ عن جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر عمن حدث عن سليمة أم النبي صلى الله عليه و سلم التي أرضعته أن آمنة بنت وهب حدثتها أنها قالت : إني حملت به فلم أر حملا قط كان أخف علي منه و لا أعظم بركة منه لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت له أعناق الإبل ببصرى ] و خروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض و زال به ظلمة الشرك منها كما قال تعالى : { قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم } و قال تعالى : { فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } و في هذا المعنى يقول العباس في أبياته المشهورة السائرة :
( و أنت لما ولدت أشرقت الأرض ... و ضاءت بنورك الأفق )
( فنحن في ذلك الضياء و في النـ ... ور و سبل الرشاد نخترق )
و أما إضاءة قصور بصرى بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته بأنها دار ملكه كما ذكر كعب أن في الكتب السابقة محمد رسول الله مولده بمكة و مهاجره يثرب و ملكه بالشام فمن مكة بدئت نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و إلى الشام ينتهي ملكه و لهذا أسري به صلى الله عليه و سلم إلى الشام إلى بيت المقدس كما هاجر إبراهيم عليه الصلاة و السلام من قبله إلى الشام قال بعض السلف : ما بعث الله نبيا إلا من الشام فإن لم يبعثه منها هاجر إليها و في آخر الزمان يستقر العلم و الإيمان بالشام فيكون نور النبوة فيها أظهر منه في سائر بلاد الإسلام
و خرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و أبي الدرداء و خرج الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو عمود ساطع عمد به إلى الشام ألا و إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ]
و في المسند و الترمذي و غيرهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم يعني الشام و بالشام ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان و هو المبشر بمحمد صلى الله عليه و سلم و يحكم به و لا يقبل من أحد غير دينه فيكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يصلي خلف إمام المسلمين و يقول : إن هذه الأمة أئمة بعضهم لبعض ] إشارة إلى أنه متبع لدينهم غير ناسخ له و الشام هي في آخر الزمان أرض المحشر و المنشر فيحشر الناس إليهم قبل القيامة من أقطار الأرض فيهاجر خيار أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم و هي أرض الشام طوعا كما تقدم أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم و قال صلى الله عليه و سلم : [ عليكم بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده ] خرجه الإمام أحمد و أبو داود و ابن حبان و الحاكم في صحيحهما و قال أبو أمامة : لا تقوم الساعة حتى ينتقل خيار أهل العراق إلى الشام و شرار أهل الشام إلى العراق و خرجه الإمام أحمد
و قد ثبت في الصحيحين [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز فتضيء لها أعناق الإبل ببصرى ] و قد خرجت هذه النار بالحجاز بقرب المدينة و رؤيت أعناق الإبل من ضوءها ببصرى في سنة أربع و خمسين و ستمائة و عقيبها جرت واقعة بغداد و قتل بها الخليفة و عامة من كان ببغداد و تكامل خراب أهل العراق على أيدي التتار و هاجر خيار أهلها إلى الشام من حينئذ فأما شرار الناس فتخرج نار في آخر الزمان تسوقهم إلى الشام قهرا حتى تجتمع الناس كلها بالشام قبل قيام الساعة
و في سنن أبي داود [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام ] و خرجه الحاكم و لفظه : [ خير منازل المسلمين يومئذ ]
ذكر فضل هذه الأمة
إخواني من كان من هذه الأمة فهو من خير الأمم عند الله عز و جل قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها و أكرمها عل الله عز و جل لما كان هذا الرسول النبي الأمي خير الخلق و أفضلهم كانت أمته خير أمة و أفضلها فما يحسن بمن كان من خير الأمم و انتسب إلى متابعة خير الخلق و خصوصا من كان يسكن خير منازل المسلمين في آخر الزمان إلا أن يكون متصفا بصفات الخير مجتنبا لصفات الشر و قبيح به أن يرضى لنفسه أن يكون من شر الناس مع انتسابه إلى خير الأمم و متابعة خير الرسل قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } فخير الناس من آمن و عمل صالحا و قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } ] و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خير الناس من فقه في دين الله و وصل رحمه و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر ] و في رواية : [ خير الناس أتقاهم للرب و أوصلهم للرحم و آمرهم بالمعروف و أنهاهم عن المنكر ] و قال : [ الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ] و قال : [ خير الناس من طال عمره و حسن عمله و شر الناس من طال عمره و ساء عمله ] و قال : [ خيركم من يرجى خيره و يؤمن شره و شركم من لا يرجى خيره و لا يؤمن شره ] و قال : [ ألا أخبركم بخياركم ؟ قالوا : بلى قال : الذين إذا رؤوا ذكر الله و قال : ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى قال : المشاؤن بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب ] و قال : [ شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه ] و قال : [ إن من شر الناس يوم القيامة منزلة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه و هؤلاء بوجه ] و قال : [ إن من شر الناس عند الله منزلة من يقرأ كتاب الله ثم لا يرعوي إلى ما فيه ] و قال : [ من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من أذهب آخرته بدنيا غيره ]
أعمال الأمة تعرض على نبيها في البرزخ فليستح عبد أن يعرض على نبيه من عمله ما نهاه عنه لما وقف صلى الله عليه و سلم عام حجة الوداع قال : [ إني فرطكم على الحوض و أني مكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهي ] يشير إلى أنه صلى الله عليه و سلم يستحي من سيئات أمته إذا عرضت عليه و قال : [ ليؤخذن برجال من أمتي ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي ]
خير هذه الأمة أولها قرنا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] و قال : [ بعثت في خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كتبت من القرن الذي كنت منه ]
كما قد جاء مدح أصحابه في كتابه تعالى : { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } و { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } و خص الصديق من بينهم بالصحبة بقوله : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } لما جلى الرسول صلى الله عليه و سلم عروس الإسلام و أبرزها للبصائر من خدرها أخرج أبو بكر رضي الله عنه ماله كله نثارا لهذا العروس فأخرج عمر النصف موافقة له فقام عثمان بوليمة العرس فجهز جيش العسرة فعلم علي رضي الله عنه أن الدنيا ضرة هذه العروس و أنهما لا يجتمعان فبت طلاقها ثلاثا
فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة و أسبغ علينا هذه النعمة و أعطانا ببركة نبينا هذه الفضائل الجمة فقال لنا : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } من أين في الأمم مثل أبي بكر الصديق أو عمر الذي ما سلك طريقا إلا هرب الشيطان من ذلك الطريق أو عثمان الصابر على مر الضيق أو عليا بحر العلم العميق أو حمزة و العباس أفيهم مثل طلحة و الزبير القرنين أو مثل سعد و سعيد هيهات من أين أو مثل ابن عوف و أبي عبيدة و من مثل الإثنين إن شبهتهم بهم فقد أبعدتم القياس من أين في زهاد الأمم مثل أويس أو في عبادهم مثل عامر بن عبد قيس أو في خائفهم مثل عمر بن عبد العزيز هيهات ليس ضوء الشمس كالمقايس أو في علمائهم مثل أبي حنيفة و مالك و الشافعي السديد المالك كيف تمدحه و هو أجل من ذلك ما أحسن بنيانه و الأساس أثم أعلى من الحسن البصري و أنبل أو ابن سيرين الذي بالورع تقبل أو سفيان الثوري الذي بالخوف و العلم تسربل أو مثل أحمد الذي بذل نفسه لله و سبل تالله ما في الأمم مثل ابن حنبل إرفع صوتك بهذا و لا بأس : { كنتم خير أمة أخرجت للناس }
( لاح شيب الرأس مني فنصح ... بعد لهو وشباب و مرح )
( إخوتي توبوا إلى الله بنا ... قد لهونا و جهلنا ما صلح )
( نحن في دار نرى الموت بها ... لم يدع فيها لذي اللب فرح )
( يا بني آدم صونوا دينكم ... ينبغي للدين أن لا يطرح )
( و احمدوا الله الذي أكرمكم ... بنبي قام فيكم فنصح )
( بنبي فتح الله به ... كل خير نلتموه و منح )
( مرسل لو يوزن الناس به ... في التقى و البر خفوا و رجح )
( فرسول الله أولى بالعلى ... و رسول الله أولى بالمدح )
المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا
خرج مسلم في صحيحه [ من حديث أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال : ذاك يوم ولدت فيه و أنزلت علي فيه النبوة ] أما ولادة النبي صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين فكالمجمع عليه بين العلماء و قد قاله ابن عباس و غيره و قد حكي عن بعضهم أنه ولد يوم الجمعة و هو قول ساقط مردود و روي عن أبي جعفر الباقر : أنه توقف في ذلك و قال : لا يعلم ذلك إلا الله و إنما قال هذا لأنه لم يبلغه في ذلك ما يعتمد عليه فوقف تورعا و أما الجمهور فبلغهم في ذلك ما قالوا بحسبه : و قد روي عن أبي جعفر أيضا موافقتهم و أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد يوم الإثنين موافقة لما قاله سائر العلماء و حديث أبي قتادة يدل على أنه صلى الله عليه و سلم ولد نهارا في يوم الإثنين و قد روي : أنه ولد عند طلوع الفجر منه و روى أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه و خرجه من طريقه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كان بمر الظهران راهب يدعى عيص من أهل الشام و كان يقول : يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب و يملك العجم هذا زمانه فكان لا يولد بمكة مولود إلا سأل عنه فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيص فناداه فأشرف عليه فقال له عيص : كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الإثنين و يبعث يوم الإثنين و يموت يوم الإثنين قال : إنه ولد لي مع الصبح مولود قال : فما سميته ؟ قال : محمدا قال : و الله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه فقد أتى عليهن منها أنه طلع نجمه البارحة و أنه ولد اليوم و أن اسمه محمد انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه
و قد روي ما يدل على إنه ولد ليلا و قد سبق في المجلس الذي قبله من الآثار ما يستدل به لذلك و في صحيح الحاكم [ عن عائشة قالت : كان بمكة يهودي يتجر فيها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا : لا نعلمه فقال : ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه فقالوا : أخرجي إلينا ابنك فأخرجته و كشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه فلما أفاق قالوا : ويلك ما لك ؟ قال : ذهبت و الله النبوة من بني إسرائيل ] و هذا الحديث يدل على أنه ولد بخاتم النبوة بين كتفيه
و خاتم النبوة : من علامات نبوته التي كان يعرفه بها أهل الكتاب و يسألون عنها و يطلبون الوقوف عليها و قد روي : أن هرقل بعث إلى النبي بتبوك من ينظر له خاتم النبوة ثم يخبره عنه و قد روي [ من حديث أبي ذر و عتبة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن الملكين اللذين شقا صدره و ملآه حكمة هما اللذان ختماه بخاتم النبوة ] و هذا يخالف حديث عائشة هذا و قد روي أن هذا الخاتم رفع بعد موته من بين كتفيه و لكن إسناد هذا الخبر ضعيف
و قد روي في صفة ولادته آيات تستغرب فمنها : روي [ عن آمنة بنت وهب أنها قالت : وضعته فما وقع كما وقع الصبيان وقع واضعا يده على الأرض رافعا رأسه إلى السماء ] و روي أيضا : [ أنه قبض من التراب بيده لما وقع بالأرض ] فقال بعض القافة : إن صدق الفال ليغلبن أهل الأرض و روي : [ أنه وضع تحت جفنة فانفلقت عنه و وجدوه ينظر إلى السماء ]
و اختلفت الروايات هل ولد مختونا ؟ ! فروي : [ أنه ولد مختونا مسرورا ] يعني مقطوع السرة حتى قال الحاكم : تواترت الروايات بذلك و روي أن جده ختنه و توقف الإمام أحمد في ذلك قال المروذي : سئل أبو عبد الله هل ولد النبي صلى الله عليه و سلم مختونا ؟ قال : الله أعلم ثم قال : لا أدري قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا : قد روي : [ أنه صلى الله عليه و سلم ولد مختونا مسرورا ] و لم يجترىء أبو عبد الله على تصحيح هذا الحديث
و أما شهر ولادته فقد اختلف فيه : : فقيل : في شهر رمضان روي عن عبد الله بن عمرو بإسناد لا يصح و قيل : في رجب و لا يصح و قيل : في ربيع الأول و هو المشهور بين الناس حتى نقل ابن الجوزي و غيره عليه الإتفاق و لكنه قول جمهور العلماء ثم اختلفوا في أي يوم كان من الشهر : فمنهم من قال : هو غير معين و إنما ولد في يوم الإثنين من ربيع من غير تعين لعدد ذلك اليوم من الشهر و الجمهور على أنه يوم معين منه ثم اختلفوا فقيل : لليلتين خلتا منه و قيل : لثمان خلت منه و قيل : لعشر و قيل : لاثنتي عشرة و قيل : لسبع عشرة و قيل : لثماني عشرة و قيل لثمان بقين منه و قيل : إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية و المشهور الذي عليه الجمهور : أنه ولد يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول و هو قول ابن إسحاق و غيره
و أما عام ولادته فالأكثرون على أنه عام الفيل و ممن قال ذلك : قيس بن مخرمة و قبات بن أشيم و ابن عباس و روي عنه : أنه ولد يوم الفيل و قيل : إن هذه الرواية وهم إنما الصحيح عنه أنه قال : عام الفيل و من العلماء من حكى الإتفاق على ذلك و قال : كل قول يخالفه وهم و المشهور أنه صلى الله عليه و سلم ولد بعد الفيل بخمسين يوما و قيل : بعده بخمس و خمسين يوما و قيل : بشهر و قيل : بأربعين يوما و قد قيل : إنه ولد بعد الفيل بعشر سنين و قيل : بثلاث و عشرين سنة و قيل : بأربعين سنة و قيل : قبل الفيل بخمس عشرة سنة و هذه الأقوال وهم عند جمهور العلماء و منها لا يصح عمن حكي عنه قال إبراهيم بن المنذر الحزامي : الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أنه صلى الله عليه و سلم ولد عام الفيل و قال خليفة بن خياط : هذا هو المجمع عليه و كانت قصة الفيل توطئة لنبوته و تقدمة لظهوره و بعثته و قد قص الله ذلك في كتابه فقال : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * و أرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول } فقوله : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } استفهام تقرير لمن سمع هذا الخطاب و هذا يدل على اشتهار ذلك بينهم و معرفتهم به و أنه مما لا يخفى علمه عن العرب خصوصا قريشا و أهل مكة و هذا أمر اشتهر بينهم و تعارفوه و قالوا فيه الأشعار السائرة و قد قالت عائشة : رأيت قائد الفيل و سائسه بمكة أعميين يستطعمان و في هذه القصة ما يدل على تعظيم مكة و احترامها و احترام بيت الله الذي فيها ولادة النبي صلى الله عليه و سلم عقب ذلك تدل على نبوته و رسالته فإنه صلى الله عليه و سلم بعث بتعظيم هذا البيت و حجه و الصلاة إليه فكان هذا البلد هو موطنه و مولده فاضطره قومه عند دعوتهم إلى الله تعالى إلى الخروج منه كرها بما نالوه به من الأذى ثم إن الله تعالى ظفره بهم و أدخله عليهم قهرا فملك البلد عنوة و ملك رقاب أهله ثم من عليهم و أطلقهم و عفا عنهم فكان في تسليط نبيه صلى الله عليه و سلم على هذا البلد و تمليكه إياه و لأمته من بعده ما دل على صحة نبوته فإن الله حبس عنه من يريد بالأذى و أهلكه ثم سلط عليه رسوله و أمته كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حبس عن مكة الفيل و سلط عليها رسوله و المؤمنين ] فإن الرسول صلى الله عليه و سلم و أمته إنما كان قصدهم تعظيم البيت و تكريمه و احترامه و لهذا أنكر النبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح على من قال : اليوم تستحل الكعبة و قال : [ اليوم تعظم الكعبة ] و قد كان أهل الجاهلية غيروا دين إبراهيم و إسماعيل بما ابتدعوه من الشرك و تغيير بعض مناسك الحج فسلط الله رسوله و أمته على مكة فطهروها من ذلك كله و ردوا الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف و هو الذي دعا لهم مع ابنه إسماعيل عند بناء البيت أن يبعث فيهم رسولا منهم عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة فبعث الله فيهم محمدا صلى الله عليه و سلم من ولد إسماعيل بهذه الصفة فطهر البيت و ما حوله من الشرك و رد الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف و التوحيد الذي لأجله بني البيت كما قال الله تعالى : { و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود }
و أما تسليط القرامطة على البيت بعد ذلك فإنما كان عقوبة بسبب ذنوب الناس و لم يصلوا إلى هدمه و نقضه و منع الناس عن حجه و زيارته كما كان يفعل أصحاب الفيل لو قدروا على هدمه و صرف الناس عن حجه و القرامطة أخذوا الحجر و الباب و قتلوا الحجاج و سلبوهم أموالهم و لم يتمكنوا من منع الناس من حجة بالكلية و لا قدروا على هدمه بالكلية كما كان أصحاب الفيل يقصدونه ثم أذلهم الله بعد ذلك و خذلهم و هتك أستارهم و كشف أسرارهم و البيت المعظم باق على حاله من التعظيم و الزيارة و الحج و الإعتمار و الصلاة إليه لم يبطل شيء من ذلك عنه بحمد الله و منه و غاية أمرهم أنهم أخافوا حج العراق حتى انقطعوا بعض السنين ثم عادوا و لم يزل الله يمتحن عباده المؤمنين بما يشاء من المحن و لكن دينه قائم محفوظ لا يزال تقوم به أمة من أمة محمد صلى الله عليه و سلم لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله و هم على ذلك كما قال تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون } و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن هذا البيت يحج و يعتمر بعد خروج يأجوج و مأجوج و لا يزال كذلك حتى تخربه الحبشة و يلقون حجارته في البحر و ذلك بعد أن يبعث الله ريحا طيبة تقبض أرواح المؤمنين كلهم فلا يبقى على الأرض مؤمن و يسرى بالقرآن من الصدور و المصاحف فلا يبقى في الأرض قرآن و لا إيمان و لا شيء من الخير فبعد ذلك تقوم الساعة و لا تقوم إلا على شرار الناس
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ و يوم أنزلت علي فيه النبوة ] يعني أنه صلى الله عليه و سلم نبىء يوم الإثنين و في المسند عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين و استنبىء يوم الإثنين و خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الإثنين و دخل المدينة يوم الإثنين و توفي يوم الإثنين و رفع الحجر الأسود يوم الإثنين و ذكر ابن إسحاق : أن النبوة نزلت يوم الجمعة و حديث أبي قتادة يرد هذا و اختلفوا : في أي شهر كان ابتداء النبوة ؟ فقيل : في رمضان و قيل : في رجب و لا يصح و قيل في ربيع الأول و قيل : إنه نبىء يوم الإثنين لثمان من ربيع الأول
و أما الإسراء فقيل كان في رجب و ضعفه غير واحد و قيل : كان في ربيع الأول و هو قول إبراهيم الحربي و غيره و أما دخول المدينة و وفاته : فكانا في ربيع الأول بغير خلاف مع اختلاف في تعيين ذلك اليوم من أيام الشهر و في قول النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن صيام يوم الإثنين ؟ : [ ذاك يوم ولدت فيه و أنزلت علي فيه النبوة ] إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده فإن أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد صلى الله عليه و سلم لهم و بعثته و إرساله إليهم كما قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } فإن النعمة على الأمة : بإرساله أعظم من النعمة عليهم بإيجاد السماء و الأرض و الشمس و القمر و الرياح و الليل و النهار و إنزال المطر و إخراج النبات و غير ذلك فإن هذه النعم كلها قد عمت خلقا من بني آدم كفروا بالله و برسله و بلقائه فبدلوا نعمة الله كفرا فأما النعمة بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم فإن بها تمت مصالح الدنيا و الآخرة و كمل بسببها دين الله الذي رضيه لعباده و كان قبوله سبب سعادتهم في دنياهم و آخرتهم فصيام يوم تجددت فيه هذه النعم من الله على عباده المؤمنين حسن جميل و هو من باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر و نظير هذا صيام يوم عاشوراء حيث أنجى الله فيه نوحا من الغرق و نجى فيه موسى و قومه من فرعون و جنوده و أغرقهم في اليم فصامه نوح و موسى شكرا لله فصامه رسول الله صلى الله عليه و سلم متابعة لأنبياء الله و قال لليهود : [ نحن أحق بموسى منكم ] و صامه و أمر بصيامه
و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى صيام يوم الإثنين و يوم الخميس روي ذلك عنه [ من حديث عائشة و أبي هريرة و أسامة بن زيد و في حديث أسامة : أنه سأله عن ذلك ؟ فقال : إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي و أنا صائم ] و [ في حديث أبي هريرة أنه سئل عن ذلك ؟ فقال : إنه يغفر فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين يقول دعهما حتى يصطلحا ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة مرفوعا : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين و الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله إلا رجل كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا ] و يروى [ من حديث أبي أمامة مرفوعا : ترفع الأعمال يوم الإثنين و الخميس فيغفر للمستغفرين و يترك أهل الحقد كما هو ] و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن أعمال بني آدم تعرض علي كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم ] كان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس و تبكي إليه و يقول : اليوم تعرض أعمالنا على الله عز و جل يا من يبهرج بعلمه على من تبهرج و الناقد بصير يا من يسوف بتطويل أمله إلى كم تسوف و العمر قصير
( صروف الحتف مترعة الكؤوس ... تدور على الرعايا و الرؤوس )
( فلا تتبع هواك فكل شخص ... يصير إلى بلى و إلى دروس )
( و خف من هول يوم قمطرير ... تخوف شره ضنك عبوس )
( فمالك غير تقوى الله زاد ... و فعلك حين تقبر من أنيس )
( فحسنه ليعرض مستقيما ... ففي الإثنين يعرض و الخميس )
المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم
في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر و قال : يا رسول الله فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فعجبنا و قال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عند الله و هو يقول : فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و كان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من آمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه ] الموت مكتوب على كل حي الأنبياء و الرسل و غيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { إنك ميت و إنهم ميتون } و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون } و قال : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } الآيتين
خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض و نفخ فيه من روحه فكانت روحه في جسده و أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار عارية و قضى عليه و على ذريته أنه لا بد من أن يسترد أرواحهم من هذه الأجساد و يعيد أجسادهم إلى ما خلقت منه و هو التراب و وعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرة ثانية ثم يرد إليها الأرواح مرة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار البقاء قال الله تعالى : { قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون } و قال : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى } و قال : { و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا } و أرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزرع من الأرض و إحياء الأرض بعد موتها بالمطر و دليلا على إعادة الأرواح إلى أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم و ردها إليهم في يقظتهم كما قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } و في مسند البزار [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم لما ناموا عن الصلاة : إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها إذا شاء و يرسلها إذا شاء ]
( استعدي للموت يا نفس واسعي ... للنجاة فالحازم المستعد )
( قد تيقنت أنه ليس للحي ... خلود و لا من الموت بد )
( إنما أنت مستعيرة ما سـ ... وف تردين و العواري ترد )
* * *
( فما أهل الحياة لنا بأهل ... و لا دار الحياة لنا بدار )
( و ما أموالنا و الأهل فيها ... و لا أولادنا إلا عواري )
( و أنفسنا إلى أجل قريب ... سيأخذها المعير من المعار )
مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح و الجسد جميعا فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد و ألفته و اشتدت إلفتها له و امتزاجها به و دخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد و ألم عظيم و لم يذق ابن آدم حياته ألما مثله و إلى ذلك الإشارة بقول الله عز و جل : { كل نفس ذائقة الموت } قال الربيع بن خثيم أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم تذوقوا قبله مثله و يتزايد الألم بمعرفة المحتضر فإن جسده إذا فارقته الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام و يبليه التراب حتى يعود ترابا و إن الروح المارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو في النار فإن كان عاصيا مصرا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار فتتضاعف بذلك حسرته و ألمه و ربما كشفت له مع ذلك عن مقعده من النار فرآه أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت و ألمه العظيم معرفته بسوء مصيره و هذا المراد بقول الله عز و جل : { و التفت الساق بالساق } على ما فسر به كثير من السلف فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت فلا يسأل عن سوء حاله و قد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا قال الله تعالى : { و جاءت سكرة الموت بالحق } :
( ألا الموت كأس أي كأس ... و أنت لكائسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بكثرة ذكر الموت فقال : [ أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ] و في حديث مرسل أنه صلى الله عليه و سلم مر بمجلس قد استعلاه الضحك فقال [ شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الموت ] و في الإكثار من ذكر الموت فوائد منها : أنه يحث على الإستعداد له قبل نزوله و يقصر الأمل و يرضى بالقليل من الرزق و يزهد في الدنيا و يرغب في الآخرة و يهون مصائب الدنيا و يمنع من الأشر و البطر و التوسع في لذات الدنيا و [ في حديث أبي ذر المرفوع الذي خرجه ابن حبان في صحيحه و غيره : أن صحف موسى كانت عبرا كلها ] عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبت لمن رأى الدنيا و سرعة تقبلها كيف يطمئن إليها و قد رزي أن الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب مكتوب فيه هذا أيضا قال الحسن : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه و قال : فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا و قال غيره : ذهب الموت بلذاذة كل عيش و سرور كل نعيم ثم بكى و قال : واها لدار لا موت فيها
( اذكر الموت هادم اللذات ... و تهيأ لمصرع سوف يأتي غيره )
( يا غافل القلب عن ذكر المنيات ... عما قليل ستلقى بين أموات )
( فاذكر محلك من قبل الحلول به ... و تب إلى الله من لهو و لذات )
( إن الحمام له وقت إلى أجل ... فاذكر مصائب أيام و ساعات )
( لا تطمئن إلى الدنيا و زينتها ... قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي )
قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت و الوقوف بين يدي الله عز و جل
( كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله )
( و كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن إله الخلق لا بد سائله )
قال أبو الدرداء : كفى بالموت واعظا و كفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور و غدا في القبور
( اذكر الموت و داوم ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر )
( و كفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر )
غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب و الموجب له طول الأمل
( كلنا في غفلة و المـ ... وت يغدو و يروح )
( لبنى الدنيا من المـ ... وت غبوق و صبوح )
( سيصير المرء يوما ... جسدا ما فيه روح )
( بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح )
( نح على نفسك يا مسكـ ... ين إن كنت تنوح )
( لتموتن و لو عمـ ... رت ما عمر نوح )
لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة و المشقة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخير و لذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن كما [ في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقول الله عز و جل : و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له منه ] كما رواه البخاري قال ابن أبي المليكة : [ لما قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز و جل له : كيف وجدت الموت ؟ قال : يا رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال : هذا و قد هونا عليك الموت ] و قال أبو إسحاق : قيل لموسى عليه السلام : كيف وجدت طعم الموت قال : وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب قال : هذا و قد هونا عليك الموت و يروى أن عيسى عليه السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما و كان يقول للحواريين : ادعوا الله أن يخفف عني الموت فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت كيف يطمع في البقاء و ما من الأنبياء إلا من مات أم كيف يؤمن هجوم المنايا و لم يسلم الأصفياء و الأحباء هيهات هيهات
( قد مات كل نبي ... و مات كل بنيه )
( و مات كل شريف ... و عاقل و سيفه )
( لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه )
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه و سلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } و قيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل كان يعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم متى يموت ؟ قال : نعم قيل : و من أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } يعني فتح مكة { و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ذلك علامة موته و قد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام فإن المراد من هذه السورة : أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد و دخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد و الإستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة و التبليغ و ما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة و روي في حديث : [ إنه تعبد حتى صار كالشن البالي ] [ و كان يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين ] [ و كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فيه ذلك العام عشرين ] [ و أكثر من الذكر و الإستغفار ] قالت أم سلمة : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلا قال سبحان الله و بحمده فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك ] و تلا هذه السورة و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول قبل موته : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فقلت له : إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم ؟ قال : إن ربي أخبرني أنني سأرى علما في أمتي و إني إذا رأيته أن أسبح بحمده و أستغفره و قد رأيته ثم تلا هذه السورة ] إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير من لم ينذره باقتراب أجله و حي أنذره الشيب و سلب أقرانه بالموت
( كفى مؤذنا باقتراب الأجل ... شباب تولى و شيب نزل )
( و موت الأقران و هل بعده ... بقاء يؤمله من عقل )
( إذا ارتحلت قرناء الفتى ... على حكم ريب المنون ارتحل )
قال وهب بن الورد : إم لله ملكا ينادي في السماء كل يوم و ليلة أبناء الخمسين : زرع دنا حصاده أبناء الستين : هلموا إلى الحساب أبناء السبعين : ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين : لا عذر لكم و عن وهب قال : ينادي مناد : أبناء الستين : عدوا أنفسكم في الموتى و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر صلى الله عليه و سلم إلى من بلغه ستين من عمره ] و في حديث آخر : [ إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين و هو العمر الذي قال الله فيه : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } ] و في الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في حديث آخر : [ معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ] و في حديث آخر : [ إن لكل شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] و في هذا المعترك قبض النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه و سلم فليتخذ لنفسه كفنا
( و إن أمر قد سار ستين حجة ... إلى منهل من و لقريب )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت من ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل : إنا لله و إنا إليه راجعون فقال فضيل : من علم أنه لله عبد و أنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف و أنه مسؤول فليعد للمسألة جوابا فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة قال : ماهي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى و ما بقى
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط قد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبنى كم تنقض كم ذا الغدر )
و ما زال صلى الله عليه و سلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس : [ خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ] و طفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى خما في طريقه بين مكة و المدينة فخطبهم و قال : [ أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حض على التمسك بكتاب الله و وصى بأهل بيته ] ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين لقاء الله و بين زهرة الدنيا و البقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله و خطب الناس و أشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح
و كان ابتداء مرضه في أواخر شهر صفر و كان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور و قيل : أربعة عشر يوما و قيل : اثنا عشر يوما و قيل : عشرة أيام و هو غريب و كانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء مرض ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه و هو معصوب الرأس فقام على المنبر فقال : إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار الآخرة قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال : بأبي و أمي بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة ]
و في المسند [ عن أبي مويهبة : أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع و قال : ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم قال : يا أبا موهبة إني قد أعطيت خزائن الدنيا و الخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي و الجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ] لما قويت معرفة الرسول صلى الله عليه و سلم بربه ازداد حبه له و شوقه إلى لقائه فلما خير بين البقاء في الدنيا و بين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا و البقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد :
( و الله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق )
( و لو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد و من قد بقي )
( و قلت لي : لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي )
لما عرض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره اللقاء على البقاء و لم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع و لم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به ثاني اثنين إذ هما في الغار و كان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه و سلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال : بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا فسكن الرسول صلى الله عليه و سلم جزعه و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله و لا يقع عليه اختلاف في خلافته فقال : [ إن من أمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر ] و في رواية أخرى أنه قال : [ ما لأحد عندنا يد إلا و قد كافأناه ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها و ما نفعني مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر ] خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام ] لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم خليل الله لم يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح و لا يصلح هذا لبشر كما قيل :
( قد تخللت مسلك الروح مني ... و بذا سمي الخليل خليلا )
و لهذا المعنى قيل : إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده و لم يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه فيها أحد
( أروح و قد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا )
( فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراك )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ]
و في رواية : [ سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر ] و في هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد و الإستطراق فيه بخلاف غيره و ذلك من مصالح المسلمين المصلين في المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في ذلك فغضب و قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] فولاه إمامة الصلاة دون غيره و أبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة و سد استطراق غيره و في ذلك إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره و لهذا قالت الصحابة عند بيعة أبي بكر : رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا فكيف لا نرضاه لدنيانا و لما قال أبو بكر : قد أقلتكم بيعتي قال علي : لا نقيلك و نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذا يؤخرك لما انطوى بساط النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبق على وجه الأرض أكمل من درجة الصديقية و أبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول و القيام مقامه و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عزم على أن يكتب لأبي بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره و قال : [ يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و ربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم متوهم أن نصه على خلافته كانت مكافأة ليده التي كانت له و الولايات كلها لا يقصد بها مصلحة المولى بل مصلحة المسلمين عامة
و كان أول ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من مرضه وجع رأسه و لهذا خطب و قد عصب رأسه بعصابة دسماء و كان صداع الرأس و الشقيقة يعتريه كثيرا في حياته و يتألم منه أياما و صداع الرأس من علامات أهل الإيمان و أهل الجنة و قد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه وصف أهل النار فقال : هم الذين لا يألمون رؤوسهم ] و دخل عليه أعرابي فقال له : [ يا أعرابي هل أخذك هذا الصداع ؟ فقال : و ما الصداع ؟ قال : عروق تضرب على الإنسان في رأسه فقال : ما وجدت هذا فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه و سلم : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و قال كعب : أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم الذي بدأ فيه فقلت : وارأساه فقال : وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك و دفنتك فقلت : غيراء كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال : أنا وارأساه ادعو لي أباك و أخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل و يتمنى متمن و يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و خرجه البخاري بمعناه و لفظه : [ أن عائشة رضي الله عنها قالت : وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك لو كان و أنا حي فأستغفر و أدعو لك قالت عائشة : واثكلاه و الله إني لأظنك تحب موتي و لو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : بل أنا وارأساه ] و ذكر بقية الحديث و في المسند أيضا [ عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر ببابي كثيرا ما يلقي الكلمة ينفع الله بها فمر ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا قلت : يا جارية ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي فمر بي و قال : يا عائشة ما شأنك ؟ فقلت : أشتكي رأسي فقال : أنا وارأساه فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء به محمولا في كساء فدخل علي فبعث إلى النساء و قال : إني اشتكيت أني لا أستطيع أن أدور بينكن فأذن لي فلأكن عند عائشة ] و فيه أيضا عنها قالت : [ رجع إلي النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم من جنازة بالبقيع و أنا أجد صداعا في رأسي و أنا أقول وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك و كفنتك ثم صليت عليك و دفنتك فقلت : لكأني بك و الله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه ]
[ فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس و الظاهر أنه كان مع حمى فإن الحمى اشتدت به في مرضه فكان يجلس في مخضب و يصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك و كان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ؟ فقال : إنا كذلك يشدد علينا البلاء و يضاعف لنا الأجر و قال : إني أوعك كما يوعك رجلان منكم و من شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق و حصل له ذلك غير مرة فأغمي عليه مرة و ظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك و أمر أن يلد من ولده و قال : إن الله لم يكن ليسلطها علي يعني ذات الجنب و لكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر يعني : أنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ فكان ذلك يثور عليه أحيانا فقال في مرض موته : ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري و كان ابن مسعود و غيره يقولون : إنه مات شهيدا من السم و قالت عائشة : ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عنده في مرضه سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه و قال : ما ظن محمد بربه لو لقي الله و عنده هذه ثم تصدق بها كلها فكيف يكون حال من لقي الله و عنده دماء المسلمين و أموالهم المحرمة و ما ظنه بربه ]
و لم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد فيه فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من النساء فقالت قطري لنا في مصباحنا من عكة السمن فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمسى في جديد الموت و كان عند عائشة إزار غليظ مما صنع باليمن و كساء من الملبدة فكانت تقسم بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض فيهما و دخلت عليه فاطمة عليها السلام في مرضه فسارها رسول الله بشيء فبكت ثم سارها فضحكت فسئلت عن ذلك ؟ فقالت : لا أفشي سر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما توفي سئلت ؟ فقالت : أخبرني أنه يموت في مرضه فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقا به و أني سيدة نساء العالمين فضحكت فلما احتضر صلى الله عليه و سلم اشتد به الأمر [ فقالت عائشة : ما أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : و كان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء و يقول : اللهم أعني على سكرات الموت قالت : و جعل يقول : لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ] و في حديث مرسل أنه قال : [ اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب و القصب و الأنامل اللهم فأعني على الموت و هونه علي ] و لما ثقل النبي صلى الله عليه و سلم جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة عليها السلام : واكرب أبتاه فقال لها : [ لا كرب على أبيك بعد اليوم ] و في حديث خرجه ابن ماجه : أنه صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحد الموافاة يوم القيامة ]
ولم يقبض صلى الله عليه و سلم حتى خير مرة أخرى بين الدنيا و الآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير ] فلما نزل به و رأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال : [ اللهم الرفيق الأعلى ] فقلت : الآن لا يختارنا و علمت أنه الحديث الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها و في رواية أنه قال : [ اللهم اغفر لي و ارحمني و ألحقني بالرفيق الأعلى ] و في رواية [ أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا } قالت : فظننت أنه خير ]
و هذه الروايات مخرجة في صحيح البخاري و غيره و قد روي ما يدل على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير : ففي المسند [ عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما من نبي إلا يقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه أو يلحق ] فكنت قد حفطت ذلك منه فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى مالت عنقه فقلت : قد قضى قالت : فعرفت الذي قال : فنظرت إليه حتى ارتفع و نظر فقالت : إذا و الله لا يختارنا فقال : مع الرفيق الأعلى في الجنة { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين } إلى آخر الآية و في صحيح ابن حبان عنها قالت : [ أغمي على رسول الله صلى الله عليه و سلم و رأسه في حجري فجعلت أمسحه و أدعو له بالشفاء فلما أفاق قال : لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل و إسرافيل ] و فيه و في المسند عنها : [ أنها كانت ترقيه في مرضه الذي مات فيه فقال : ارفعي يدك فإنها كانت تنفعني في المدة ] قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقاء الله و بكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة حتى أن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له وفي المسند [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليهون علي الموت إني رأيت بياض كف عائشة في الجنة ] وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا انه قال صلى الله عليه و سلم : [ لقد أريتها في الجنة ليهون بذلك علي موتي كأني أرى كفيها ] يعني عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب عائشة رضي الله عنها حبا شديدا حتى لا يكاد يصبر عناه فمثلت له بين يديه في الجنة ليهون عليه موته فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة و قد سأله رجل : أي النساء أحب إليك ؟ فقال : [ عائشة فقال له فمن الرجال ؟ قال : أبوها ] و لهذا قال لها في ابتداء مرضه لما قالت : وارأساه : وددت أن ذلك كان و أنا حي فأصلي عليك و أدفنك فعظم ذلك عليها و ظنت أنه يحب فراقها و إنما كان يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما و قد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه و سلم سواكا و طيبته بريقها ثم دفعته إليه فاستن به أحسن استنان ثم ذهب يتناوله فضعفت يده عنه فسقط من يده فكانت عائشة تقول : جمع الله بي ريقي وريقه في أخر يوم من الدنيا و أول يوم من الآخرة و الحديث مخرج في الصحيحين
نزول جبريل في الثلاثة أيام الأخيرة لوفاة الرسول
و في حديث خرجه العقيلي أنه صلى الله عليه و سلم قال لها في مرضه : [ ائتيني بسواك رطب امضغيه ثم ائتيني به أمضغه لكي يختلط ريقي بريقك لكي يوهن به عند الموت قال جعفر بن محمد عن أبيه لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام فقال : يا أحمد إن الله قد أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك و خاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك يقول لك : كيف تجدك ؟ فقال : أجدني يا جبريل مغموما و أجدني يا جبريل مكروبا ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك و لم يستأذن على آدمي كان قبلك و لا يستأذن على آدمي بعدك قال : ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال : يا رسول الله يا أحمد إن الله أرسلني إليك و أمرني أن أطيعك في كل ما تأمر إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها و إن أمرتني أن أتركها تركتها ؟ قال : و تفعل ذلك يا ملك الموت قال : بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به فقال جبريل : يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك قال : فامض يا ملك الموت لما أمرت به فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله هذا آخر موطيء من الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا و جاءت التعزية يسمعون الصوت و الحس و لا يرون الشخص : السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله وبركاته : { كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة } إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من كل هالك و دركا من كل فائت فبالله فاتقوا و إياه فارجوا إنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته ]
و كانت وفاته صلى الله عليه و سلم في يوم الإثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم و الناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر فهم المسلمون أن يفتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه و سلم حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحف و ظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر و توفى صلى الله عليه و سلم من ذلك اليوم و ظن المسلمون أنه صلى الله عليه و سلم قد برئ من مرضه لما أصبح يوم الإثنين مفيقا فخرج أبو بكر إلى منزله بالسنح خارج المدينة فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و قيل توفي حين زاغت الشمس و الأول أصح و أنه توفي حين اشتد الضحى من يوم الإثنين في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة حين هاجر إليها
و اختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر فقيل : كان أوله و قيل : ثانية و قيل ثاني عشرة و قيل : ثالث عشرة و قيل : خامس عشرة و المشهور بين الناس : إنه كان ثاني عشر ربيع الأول و قد رد ذلك السهيلي و غيره بأن وقفة حجة الوداع في السنة العاشرة كانت الجمعة كان أول ذي الحجة فيها الخميس و متى كان كذلك لم يصح أن يكون يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول سواء حسبت الشهور الثلاثة أعني : ذا الحجة و محرما و صفرا كلها كاملة أو ناقصة أو بعضها كاملة و بعضها ناقصة و لكن أجيب عن هذا بجواب حسن و هو أن ابن اسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول و هذا ممكن فإن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام و لكن لا تؤرخ إلا بليلة مضى يومها فيكون اليوم تبعا لليلة و كل ليلة لم يمض يومها لم يعتد بها كذلك إذا ذكروا الليالي في عدد فإنهم يريدون بها الليالي مع أيامها فإذا قالوا عشر ليال فمرادهم بأيامها و من هنا يتبين صحة قول الجمهور في أن عدة الوفاة أربعة أشهر و عشر ليال بأيامها و أن اليوم العاشر من جملة تمام العدة خلافا للأوزاعي و كذلك قال الجمهور في أشهر الحج : إنها شوال و ذو القعدة وعشر من ذي الحجة و أن يوم النحر داخل فيها لهذا المعنى خلافا للشافعي وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه و سلم كان : ثالث عشر الشهر لكن لما لم يكن يومه قد مضى لم يؤرخ بليلته إنما أرخوا بليلة الأحد و يومها و هو الثاني عشر فلذلك قال ابن إسحاق توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول و الله أعلم
و اختلفوا في وقت دفنه فقيل : دفن من ساعته و فيه بعد و قيل : من ليلة الثلاثاء و قيل : ليلة الأربعاء و لما توفي صلى الله عليه و سلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخربط و منهم من أقعد فلم يطق القيام و منهم من اعتقل لسانه فلم ينطق الكلام و منهم من أنكر موته بالكلية و قال : إنما بعث إليه كما بعث إلى موسى و كان من هؤلاء عمر و بلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة و رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجى فكشف عن وجهه الثوب و أكب عليه و قبل جبهته مرارا و هو يبكي و هو يقول : وانبياه واخليلاه واصفياه و قال : إنالله و إنا إليه راجعون مات و الله رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : و الله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتب الله عليك فقدمتها ثم دخل المسجد و عمر يكلم الناس و هم مجتمعون عليه فتكلم أبو بكر و تشهد و حمد الله فأقبل الناس إليه و تركوا عمر فقال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت و تلا : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } الآية فاستيقن الناس كلهم بموته و كأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها و قالت فاطمة عليها السلام : يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه يا أبتاه من ربه ما أدناه و عاشت بعده ستة أشهر فما ضحكت في تلك المدة و حق لها ذلك
( على مثل ليلى يقتل المرء نفسه و إن كان من ليلى على الهجر طاويا ... )
كل المصائب تهون عند هذه المصيبة في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه و سلم قال في مرضه : [ يا أيها الناس إن أحد من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ] قال أبو الجوزاء : كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه و يقول : يا عبد الله اتق الله فإن في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة
( اصبر لكل مصيبة و تجلد ... و اعلم بأن المرء غير مخلد )
( و اصبر كما صبر الكرام فإنها نوب تنوب اليوم تكشف في غد )
( و إذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد )
و لبعضهم :
( تذكرت لما فوق الدهر بيننا فعزيت نفسي بالنبي محمد )
( و قلت لها إن المنايا سبيلنا فمن لم يمت في يومه مات في الغد )
كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه و سلم فكيف بقلوب المؤمنين لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه و صاح كما يصيح الصبي فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن عند بكائه فقال : لو لم أعتنقه لحن إلي يوم القيامة كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى و قال : هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه و وري أن بلالا كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم قبل دفنه فإذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء و النحيب فلما دفن ترك بلال الأذان ما أمر عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب
( لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد )
( قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد )
لما دفن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت فاطمة : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي دفن فيه أظلم منها كل شيء و ما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم التراب و إنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا
( ليبك رسول الله من كان باكيافلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا )
( جزى الله عنا كل خير محمدافقد كان مهديا و قد كان هاديا )
( و كان رسول الله روحا و رحمة و نورا و برهانا من الله باديا )
( و كان رسول الله بالخير آمرا و كان عن الفحشاء و السوء ناهيا )
( و كان رسول الله بالقسط قائما و كان لما استرعاه مولاه راعيا )
( و كان رسول الله يدعو إلى الهدى قلبي رسول الله لبيه داعيا )
( أينسى أبر الناس بالناس كلهم و أكرمهم بيتا و شعبا و واديا )
( أينسى رسول الله أكرم من مشى و آثاره بالمسجدين كما هيا )
( تكدر من بدع النبي محمد عليه السلام كل مل كان صافيا )
( و كنا إلى الدنيا الدنية بعده و كشفت الأطماع منا مساويا )
( و كم من منار كان أوضحه لنا و من علم أمسى و أصبح عافيا )
( إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا و إن كان كاسيا )
( وخير خصال المرء طاعة ربه و لاخير فيمن كان الله عاصيا )
وظيفة شهر رجب
خرج من الصحيحين [ من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في حجة الوداع فقال في خطبته : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات : ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان ] و ذكر الحديث
قال الله عز و جل : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات و الأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } فأخبر سبحانه أنه منذ خلق السماوات و الأرض و خلق الليل والنهار يدوران في الفلك و خلق ما في السماء من الشمس و القمر و النجوم و جعل الشمس و القمر يسبحان في الفلك و ينشأ منهما ظلمة الليل و بياض النهار فمن حينئذ جعل السنة اثني عشر شهرا بحسب الهلال فالسنة في الشرع مقدرة بسير القمر و طلوعه لا بسير الشمس و انتقالها كما يفعله أهل الكتاب و جعل الله تعالى من هذه الأشهر أربعة أشهر حرما و قد فسرها النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث و ذكر أنها ثلاثة متواليات : ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و واحد فرد و هو شهر رجب و هذا قد يستدل به من يقول أنها من سنتين و قد روي من حديث ابن عمر مرفوعا : [ أولهن رجب ] و في إسناده موسى بن عبيدة و فيه ضعف شديد من قبل حفظه و قد حكى أهل عن المدينة أنهم جعلوها من سنتين و أن أولها ذو القعدة ثم ذو الحجة ثم المحرم ثم رجب فيكون رجب آخرها و عن بعض المدنيين : أن أولها رجب ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة ثم المحرم و عن بعض أهل الكوفة : أنها من سنة واحدة أولها المحرم ثم رجب ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة و اختلف في أي هذه الأشهر الحرم أفضل ؟ فقيل : رجب قاله بعض الشافعية و ضعفه النووي و غيره و قيل : قال الحسن و رجحه الحسن و رجحه النووي و قيل : ذو الحجة روي عن سعيد بن جبير و غيره و هو أظهر و الله أعلم
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا ] مراده بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النسيء كما قال تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } و قد اختلف في تفسير النسيء فقالت طائفة : كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر فيحرمونها بدلها و يحلون ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا إلى ذلك و لكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئا ثم من أهل هذه المقالة من قال : كانوا يحلون المحرم فيستحلون القتال فيه لطول مدة التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهر محرمة ثم يحرمون صفر مكانه فكأنهم يقترضونه ثم يوفونه و منهم من قال : كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام و يسمونها صفرين ثم يحرمونهما من عام قابل و يسمونهما محرمين قاله ابن زيد بن أسلم و هو ضعيف و زيد بن أسلم ثقة و هو من رجال الصحيح و قيل : بل كانوا ربما احتاجوا إلى صفر أيضا فأحلوه و جعلوا مكانه ربيعا ثم يدور كذلك التحريم و التحليل و التأخير إلى أن جاء الإسلام و وافق حجة الوداع صار رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي و هذا هو الذي رجحه أبو عبيدة و على هذا فالتغير إنما وقع في عين الأشهر الحرم خاصة و قالت طائفة أخرى : بل كانوا يزيدون في عدد شهور السنة و ظاهر الآية يشعر بذلك حيث قال الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } فذكر هذا توطئة لهدم النسيء و إبطاله ثم من هؤلاء من قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا قاله مجاهد و أبو مالك قال أبو مالك : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا و يجعلون المحرم صفرا و قال مجاهد : كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون : صفرين لصفر و ربيع الأول و ربيع الآخر ثم يقولون : شهرا ربيع ثم يقولون : لرمضان شعبان و لشوال رمضان و لذي القعدة شوال و لذي الحجة ذو القعدة على وجه ما ابتدأوا و للمحرم ذو الحجة فيعدون ما ناسؤا على مستقبله على وجه ما ابتدأوا و عنه قال : كانت الجاهلية يحجون في كل شهر من شهور السنة عامين فوافق حج رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذي الحجة فقال : [ هذا يوم استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض ] و من هؤلاء من قال : كانت الجاهلية يجعلون الشهور اثني عشر شهرا و خمسة أيام قاله إياس بن معاوية و هذا العدد قريب من عدد السنة الرومية و لهذا جاء في مراسيل عكرمة بن خالد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في خطبته يوم النحر : [ و الشهر هكذا و هكذا و هكذا و خنس إبهامه في الثالثة : و هكذا و هكذا و هكذا يعني ثلاثين فأشار إلى أن الشهر هلالي ثم تارة ينقص و تارة يتم ] و لعل أهل النسيء كانوا يتمون الشهور كلها و يزيدون عليها و الله أعلم و قد قيل : إن ربيعة و مضر كانوا يحرمون أربعة أشهر من السنة مع اختلافهم في تعيين رجب منها كما سنذكره إن شاء الله تعالى و كانت بنو عوف بن لؤي يحرمون من السنة ثمانية أشهر و هذا مبالغة في الزيادة على ما حرم الله
و اختلفوا في أي عام عاد الحج إلى ذي الحجة على وجهه و استدار الزمان فيه كهيئته : فقالت طائفة : إنما عاد على وجهه في حجة الوداع و أما حجة أبي بكر الصديق فكانت قد وقعت في ذي القعدة هذا قول مجاهد و عكرمة بن خالد و غيرهما و قد قيل : أنه اجتمع في ذلك العام حج الأمم كلها في وقت واحد فلذلك سمي يوم الحج الأكبر و قالت طائفة : بل وقعت حجة الصديق في ذي الحجة قاله الإمام أحمد و أنكر قول مجاهد و استدل : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر عليا فنادى يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ] و في رواية [ و اليوم يوم الحج الأكبر ] و قد قال الله تعالى { و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين و رسوله } فسماه يوم الحج الأكبر و هذا يدل على أن النداء وقع في ذي الحجة و خرج الطبراني في أوسطه من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان العرب يحلون عاما شهرا و عاما شهرين و لا يصيبون الحج إلا في كل ستة و عشرين سنة مرة واحدة : و هو النسيء الذي ذكره الله في كتابه فلما كان عام حج أبي بكر الصديق بالناس وافق في ذلك العام الحج فسماه الله يوم الحج الأكبر ثم حج النبي صلى الله عليه و سلم في العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض ] و قيل بل استدارة الزمان كهيئته كان من عام الفتح و خرج البزار في مسنده من [ حديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم يوم الفتح : إن هذا العام الحج الأكبر قد اجتمع حج المسلمين و حج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات و اجتمع حج اليهود و النصارى في ستة أيام متتابعات و لم يجتمع منذ خلق الله السموات و الأرض و لا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة ] و في إسناده يوسف السمتي و هو ضعيف جدا
و اختلفوا لم سميت هذه الأشهر الأربعة حرما ؟ فقيل : لعظم حرمتها و حرمة الذنب فيها قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرما و عظم حرماتهن و جعل الذنب فيهن أعظم و جعل العمل الصالح و الأجر أعظم قال كعب : اختار الله الزمان فأحبه إلى الله الأشهر الحرم و قد روي مرفوعا و لا يصح رفعه و قد قيل : في قوله تعالى : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أن المراد في الأشهر الحرم و قيل : بل في جميع شهور السنة و قيل : إنما سميت حرما لتحريم القتال فيها و كان ذلك معروفا في الجاهلية و قيل : إنه كان من عهد إبراهيم عليه السلام و قيل : إن سبب تحريم هذه الأشهر الأربعة بين العرب لأجل التمكن من الحج و العمرة فحرم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه و حرم معه شهر ذي القعدة للسير فيه إلى الحج و شهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه و حرم شهر رجب للإعتمار فيه في وسط السنة فيعتمر فيه من كان قريبا من مكة و قد شرع الله في أول الإسلام تحريم القتال في الشهر الحرام قال تعالى : { لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام } و قال تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام و إخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل } و خرج ابن أبي حاتم بإسناده [ عن جندب بن عبد الله : إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث رهطا و بعث عليهم عبد الله بن جحش فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه و لم يدروا أن ذلك من رجب أو من جمادى فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله عز و جل : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية ] و روى السدي عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس و عن مرة عن ابن مسعود في هذه الآية فذكروا هذه القصة مبسوطة و قالوا فيها : فقال المشركون : يزعم محمد أنه يتبع طاعة الله و هو أول من استحل الشهر الحرام ؟ فقال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى و قيل في أول رجب و آخر ليلة من جمادى و أغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب و أنزل الله تعالى تعييرا لأهل مكة : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } لا يحل و ما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله و صددتم عن محمد و أصحابه و إخراج أهل المسجد الحرام حين أخرجوا منه محمدا أكبر من القتل عند الله و قد روي عن ابن عباس هذا المعنى من رواية العوفي عنه و من رواية أبي سعد البقال عن عكرمة عنه و من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه و ذكر ابن اسحاق أن ذلك كان في آخر يوم من رجب و أنهم خافوا إن أخروا القتال أن يسبقهم المشركون فيدخلوا الحرم فيأمنوا و إنهم لما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : [ ما أمرتكم في الشهر الحرم و لم يأخذ من غنيمتهم شيئا ] و قالت قريش : قد استحل محمد و أصحابه الشهر الحرام فقال من بمكة من المسلمين : إنما قتلوهم في شعبان فلما أكثر الناس في ذلك قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } الآية و روي نحو هذا السياق عن عروة و الزهري و غيرهما و قيل بأنها كانت أول غنيمة غنمها المسلمون و قال عبد الله بن جحش في ذلك و قيل : إنها لأبي بكر الصديق رضي الله عنه
( تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... و أعظم منه لو يرى الرشد راشد )
( صددوكم عما يقول محمد ... و كفر به و الله راء و شاهد )
( و إخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد )
و قد اختلف العلماء في حكم القتال في الأشهر الحرم هل تحريمه باق أو نسخ فالجمهور : على أنه نسخ تحريمه و نص على نسخه الإمام أحمد و غيره من الأئمة و ذهبت طائفة من السلف : منهم عطاء : إلى بقاء تحريمه و رجحه بعض المتأخرين و استدلوا بآية المائدة و المائدة من آخر ما نزل من القرآن و قد روي : [ أحلوا حلالها و حرموا حرامها ] و قيل ليس فيها منسوخ و في المسند : [ أن عائشة رضي الله عنه قالت : هي آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه و ما وجدتم فيها حرام فحرموه ] و روى الإمام أحمد في مسنده [ حدثنا اسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى و يغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ ] و ذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر الطائف في شوال فلما دخل ذو القعدة لم يقاتل بل صابرهم ثم رجع و كذلك في عمرة الحديبية لم يقاتل حتى بلغه أن عثمان قتل فبايع على القتال ثم لما بلغه أن ذلك لا حقيقة له كف و استدل الجمهور بأن الصحابة اشتغلوا بعد النبي صلى الله عليه و سلم بفتح البلاد و مواصلة القتال و الجهاد و لم ينقل عن أحد منهم أنه توقف عن القتال و هو طالب له في شيء من الأشهر الحرم و هذا يدل على إجماعهم على نسخ ذلك و الله علم
و من عجائب الأشهر الحرم ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص : إنه ذكر عجائب الدنيا فعد منها بأرض عاد عمود نحاس عليه شجرة من نحاس فإذا كان في الأشهر الحرم قطر منها الماء فملؤا منه حياضهم و سقوا مواشيهم و زروعهم فإذا ذهب الأشهر الحرم انقطع الماء
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ و رجب مضر ] سمي رجب رجبا لأنه كان يرجب : أي يعظم كذا قال الأصمعي و المفضل و الفراء و قيل : لأن الملائكة تترجب للتسبيح و التحميد فيه و في ذلك حديث مرفوع إلا أنه موضوع و أما إضافته إلى مضر فقيل : لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه و احترامه فنسب إليهم لذلك و قيل : بل كانت ربيعة تحرم رمضان و تحرم مضر رجبا فلذلك سماه رجب مضر رجبا فلذلك سماه رجب مضر و حقق ذلك بقوله الذي بين جمادى و شعبان و ذكر بعضهم أن لشهر رجب أربعة عشر اسما : شهر الله و رجب و رجب مضر و منصل الأسنة و الأصم و الأصب و منفس و مطهر و معلي و مقيم و هرم و مقشقش و مبريء و فرد و ذكر غيره : أن له سبعة عشر اسما فزاد : رجم بالميم و منصل الآلة و هي الحربة و منزع الأسنة
ذكر ما يتعلق برجب من أحكام
و يتعلق بشهر رجب أحكام كثيرة فمنها ما كان في الجاهلية و اختلف العلماء في استمراره في الإسلام كالقتال و قد سبق ذكره و كالذبائح فإنهم كانوا في الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمونها العتيرة و اختلف العلماء في حكمها في الإسلام فالأكثرون على أن الإسلام أبطلها و في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا فرع و لا عتيرة ] و منهم من قال : بل هي مستحبة منهم ابن سيرين و حكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة و رجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين و نقل حنبل عن أحمد نحوه و في سنن أبي داود و النسائي و ابن ماجة [ عن خنف بن سليم الغامدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال بعرفة : إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية أو عتيرة ] و هي التي يسمونها الرجبية و في النسائي [ عن نبيشة أنهم قالوا : يا رسول الله إنا كنا نعتر في الجاهلية يعني في رجب ؟ قال : اذبحوا لله في أي شهر كان و بروا لله و أطعموا ] و روى الحرث بن عمرو : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الفرع و العتائر ؟ فقال : من شاء فرع و من شاء لم يفرع و من شاء عتر و من شاء لم يعتر ] و في حديث آخر قال : [ العتيرة حق ] و في النسائي [ عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله كنا نذبح ذبائح في الجاهلية يعني في رجب فنأكل و نطعم من جاءنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا بأس به ] و خرج الطبراني بإسناده [ عن ابن عباس قال : استأذنت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم في العتيرة ؟ فقال : اعتر كعتر الجاهلية و لكن من أحب منكم أن يذبح لله فيأكل و يتصدق فليفعل ] وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث و بين حديث : [ لا فرع و لا عتيرة ] بأن المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الذبح لغير الله و حمله سفيان بن عيينة على أن المراد به نفي الوجوب و من العلماء من قال : حديث أبي هريرة أصح من هذه الأحاديث و أثبت فيكون العمل عليها دونها و هذه طريقة الإمام أحمد و روى مبارك بن فضالة عن الحسن قال : ليس في الإسلام عتيرة إنما كانت العتيرة في الجاهلية كان أحدهم يصوم رجب و يعتر فيه و يشبه الذبح في رجب اتخاذه موسما و عيدا كأكل الحلوى و نحوها و قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيدا و روى عبد الرزاق [ عن ابن جريج عن عطاء قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيدا ] و [ عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تتخذوا شهرا عيدا و لا يوما عيدا ] و أصل هذا : أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيدا إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه عيدا و هو يوم الفطر و يوم الأضحى و أيام التشريق و هي أعياد العام و يوم الجمعة و هو عيد الأسبوع و ما عدا ذلك فاتخاذه عيدا و موسما بدعة لا أصل له في الشريعة
و من أحكام رجب ما ورد فيه من الصلاة و الزكاة و الصيام و الإعتمار فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به و الأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب و باطل لا تصح و هذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء و من ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري و أبو بكر بن السمعاني و أبو الفضل بن ناصر و أبو الفرج بن الجوزي و غيرهم إنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم و أول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون و لم يتكلموا فيها و أما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و لكن روي عن أبي قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب قال البيهقي : أبو قلابة من كبار التابعين لا يقول مثله إلا عن بلاغ و إنما ورد في صيام الأشهر الحرم كلها [ حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : صم من الحرم و اترك قالها ثلاثا ] خرجه أبو داود و غيره و خرجه ابن ماجة و عنده : [ صم أشهر الحرم ] و قد كان بعض السلف يصوم الأشهر الحرم كلها منهم ابن عمر و الحسن البصري و أبو اسحاق السبيعي و قال الثوري : الأشهر الحرم أحب إلي أن أصوم فيها و جاء في حديث خرجه ابن ماجة [ أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : صم شوالا ] فترك أشهر الحرم و صام شوالا حتى مات و في إسناده انقطاع و خرج ابن ماجة أيضا بإسناد فيه ضعف [ عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صيام رجب ] و الصحيح وقفه على ابن عباس و رواه عطاء عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا و قد سبق لفظه و روى عبد الرزاق في كتابه [ عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم : ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم قوم يصومون رجبا فقال : أين هم من شعبان ] و روى أزهر بن سعيد الجمحي عن أمه أنها سألت عائشة عن صوم رجب فقالت : إن كنت صائمة فعليك بشعبان و روي مرفوعا و وقفه أصح و روي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام و يقول : ما رجب ؟ إن رجبا كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام ترك و في رواية كره أن يكون صيامه سنة و عن أبي بكرة : أنه رأى أهله يتهيأون لصيام رجب فقال لهم أجعلتم رجب كرمضان و ألقى السلال و كسر الكيزان
و عن ابن عباس : أنه كره أن يصام رجب كله و عن ابن عمر و ابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياما و كرهه أنس أيضا و سعيد بن جبير و كره صيام رجب كله يحيى بن سعيد الأنصاري و الإمام أحمد و قال : يفطر منه يوما أو يومين و حكاه عن ابن عمر و ابن عباس و قال الشافعي في القديم : أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان و احتج بحديث عائشة : [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل شهرا قط إلا رمضان ] قال : و كذلك يوما من بين الأيام و قال : إنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب و إن فعل فحسن و تزول كراهة إفراد رجب بالصوم بأن يصوم معه شهر آخر تطوعا عند بعض أصحابنا مثل أن يصوم الأشهر الحرم أو يصوم رجب و شعبان و قد تقدم عن ابن عمر و غيره صيام الأشهر الحرم و المنصوص عن أحمد أنه
لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر و روي عن ابن عمر ما يدل عليه فإنه بلغه أن قوما أنكروا عليه أنه حرم صوم رجب فقال : كيف بمن يصوم الدهر و هذا يدل على : أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر و روى يوسف بن عطية [ عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصم بعد رمضان إلا رجبا و شعبان ]
و يوسف ضعيف جدا و روى أبو يوسف القاضي [ عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه في رجب و شعبان ] ورواه عمرو بن أبي قيس عن ابن أبي ليلى فلم يذكر فيه رجبا و هو أصح
و أما الزكاة فقد اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب و لا أصل لذلك في السنة و لا عرف عن أحد من السلف و لكن روي عن عثمان أنه خطب الناس على المنبر فقال : إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه و ليزك ما بقي خرجه مالك في الموطأ و قد قيل : إن ذلك الشهر الذي كانوا يخرجون فيه زكاتهم نسي و لم يعرف و قيل : بل كان شهر المحرم لأنه رأس الحول و قد ذكر الفقهاء من أصحابنا و غيرهم أن الإمام يبعث سعاته لأخذ الزكاة في المحرم و قيل بل كان شهر رمضان لفضله و فضل الصدقة فيه و بكل حال فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب فكل أحد له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب فإذا تم حوله وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان فإن عجل زكاته قبل الحول أجزأه عند جمهور العلماء و سواء كان تعجيله لاغتنام زمان فاضل أو لاغتنام الصدقة على من لا يجد مثله في الحاجة أو كان لمشقة إخراج الزكاة عليه عند تمام الحول جملة فيكون التفريق في طول الحول أرفق به و قد صرح مجاهد بجواز التعجيل على هذا الوجه و هو مقتضى إطلاق الأكثرين و خالف في هذه الصورة اسحاق نقله عنه ابن منصور و أما إذا حال الحول فليس له التأخير بعد ذلك عند الأكثرين و عن أحمد يجوز تأخيرها لانتظار قوم لا يجد مثلهم في الحاجة و أجاز مالك و أحمد في رواية نقلها إلى بلد فاضل فعلى قياس هذا لا يبعد جواز تأخيرها إلى زمان فاضل لا يوجد مثله كرمضان و نحوه و روى يزيد الرقاشي عن أنس : أن المسلمين كانوا يخرجون زكاتهم في شعبان تقوية على الإستعداد لرمضان و في الإسناد ضعف
و أما الإعتمار في رجب فقد [ روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر في رجب فأنكرت ذلك عائشة عليه و هو يسمع فسكت ] و استحب الإعتمار في رجب عمر بن الخطاب و غيره و كانت عائشة تفعله و ابن عمر أيضا و نقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه فإن أفضل الانساك أن يؤتى بالحج في سفرة و العمرة في سفرة أخرى في غير أشهر الحج و ذلك جملة إتمام الحج و العمرة المأمور به كذلك قاله جمهور الصحابة : كعمر و عثمان و علي و غيرهم
و قد روي : أنه في شهر رجب حوادث عظيمة و لم يصح شيء من ذلك فروي : أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد في أول ليلة منه و أنه بعث في السابع و العشرين منه و قيل : في الخامس و العشرين و لا يصح شيء من ذلك و روى بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد : أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه و سلم كان في سابع و عشرين من رجب و انكر ذلك إبراهيم الحربي و غيره و روي عن قيس بن عباد قال : في اليوم العاشر من رجب : { يمحو الله ما يشاء و يثبت } و كان أهل الجاهلية يتحرون الدعاء فيه على الظالم و كان يستجاب لهم و لهم في ذلك أخبار مشهورة قد ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب مجاب الدعوة و غيره و قد ذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال عمر : إن الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض و إن الله جعل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر و روى زائدة بن أبي الرقاد [ عن زياد التميمي عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل رجب قال : اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] و روي عن أبي إسماعيل الأنصاري أنه قال : لم يصح في فضل رجب غير هذا الحديث و في قوله نظر فإن هذا الإسناد فيه ضعف و في هذا الحديث دليل على استحباب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها فإن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا و خير الناس من طال عمره و حسن عمله و كان السلف يستحبون أن يموتوا عقب عمل صالح من صوم رمضان أو رجوع من حج و كان يقال : من مات كذلك غفر له كان بعض العلماء الصالحين قد مرض قبل شهر رجب فقال : إني دعوت الله أن يؤخر وفاتي إلى شهر رجب فإنه بلغني أن لله فيه عتقاء فبلغه الله ذلك و مات في شهر رجب
شهر رجب مفتاح أشهر الخير و البركة قال أبو بكر الوراق البلخي : شهر رجب شهر للزرع و شعبان شهر السقي للزرع و رمضان شهر حصاد الزرع و عنه قال : مثل شهر رجب مثل الريح و مثل شعبان مثل الغيم و مثل رمضان مثل القطر و قال بعضهم : السنة مثل الشجرة و شهر رجب أيام توريقها و شعبان أيام تفريعها و رمضان أيام قطفها و المؤمنون قطافها جدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر و بمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر
( بيض صحيفتك السوداء في رجب ... بصالح العمل المنجي من اللهب )
( شهر حرام أتي من أشهر حرم ... إذا دعا الله داع فيه لم يخب )
( طوبى لعبد زكى فيه له عمل ... فكف فيه عن الفحشاء و الريب )
انتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة و اغتنام أوقاته بالطاعات له فضيلة عظيمة
( يا عبد أقبل منيبا و اغتنم رجبا ... فإن عفوي عمن تاب قد وجبا )
( في هذه الأشهر الأبواب قد فتحت ... للتائبين فكل نحونا هربا )
( حطوا الركائب في أبواب رحمتنا ... بحسن ظن فكل نال ما طلبا )
( و قد نثرنا عليهم من تعطفنا ... نثار حسن قبول فاز من نهبا )
وظائف شهر شعبان و يشتمل على مجالس ـ المجلس الأول في صيامه
خرج الإمام أحمد و النسائي [ من حديث أسامة بن زيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر و يفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه و إلا صامهما و لم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر و تفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك و إلا صمتهما ؟ قال : أي يومين قلت : يوم الإثنين و يوم الخميس قال : ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين و أحب أن يعرض عملي و أنا صائم قلت : و لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال : ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان و هو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز و جل فأحب أن يرفع عملي و أنا صائم ] قد تضمن هذا الحديث ذكر صيام رسول الله صلى الله عليه و سلم من جميع السنة و صيامه من أيام الأسبوع و صيامه من شهور السنة فأما صيامه من السنة فكان يسرد الصوم أحيانا و الفطر أحيانا فيصوم حتى يقال : لا يفطر و يفطر حتى يقال : لا يصوم
و قد روي ذلك أيضا عن عائشة و ابن عباس و أنس و غيرهم ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى نقول لا يفطر و يفطر حتى نقول لا يصوم ] و فيهما [ عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم إذا صام حتى يقول القائل : لا و الله لا يفطر و يفطر إذا فطر حتى يقول القائل : لا و الله لا يصوم ] و فيهما [ عن أنس أنه سئل عن صيام النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته و لا مفطرا إلا رأيته و لا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته ] و لمسلم [ عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى يقال : قد صام قد صام و يفطر حتى يقال : قد أفطر قد أفطر ]
و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ينكر على من يسرد صوم الدهر و لا يفطر منه و يخبر عن نفسه : أنه لا يفعل ذلك ]
ففي الصحيحين [ عن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : أتصوم النهار و تقوم الليل ؟ قال : نعم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لكني أصوم و أفطر و أصلي و أنام و أمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ]
و فيهما [ عن أنس : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال بعضهم : لا أتزوج النساء و قال بعضهم : لا آكل اللحم و قال بعضهم : لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فخطب و قال : ما بال أقوام يقولون كذا و كذا لكني أصلي و أنام و أصوم و أفطر و أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] و خرجه النسائي و زاد فيه : و قال بعضهم : أصوم و لا أفطر و في مسند الإمام أحمد [ عن رجل من الصحابة قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم مولاة لبني عبد المطلب فقيل : إنها قامت الليل و تصوم النهار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لكني أنا أنام و أصلي و أصوم و أفطر فمن اقتدى بي فهو مني و من رغب عن سنتي فليس مني إن لكل عمل شدة و فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل و من كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ] و في المسند و سنن أبي داود [ عن عائشة رضي الله عنها أن عثمان بن مظعون أراد التبتل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أترغب عن سنتي ؟ قال : لا و الله و لكن سنتك أريد قال : فإني أنام و أصلي و أصوم و أفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا و إن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم و افطر وصل و نم ]
و قد قال عكرمة و غيره : إن عثمان بن مظعون و علي بن أبي طالب و المقداد و سالما مولى أبي حذيفة في جماعة تبتلوا فجلسوا في البيوت و اعتزلوا النساء و حرموا طيبات الطعام و اللباس إلا ما يأكل و يلبس أهل السياحة من بني إسرائيل و هموا بالإختصاء و أجمعوا لقيام الليل و صيام النهار فنزلت فيهم : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }
و في صحيح البخاري [ أن سلمان زار أبا الدرداء و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد آخى بينهما فرأى أم الدرداء متبذلة فقال : ما شأنك متبذلة ؟ فقالت : إن أخاك أبا الدرداء لا حاجة له في الدنيا فلما جاء أبو الدرداء قرب له طعاما قال له : كل فقال إني صائم فقال : ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان : نم ثم ذهب ليقوم فقال له : نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن فقاما فصليا فقال سلمان : إن لنفسك عليك حقا و إن لضيفك عليك حقا و إن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فذكروا ذلك له فقال : صدق سلمان ] و في رواية في غير الصحيح قال : [ ثكلت سلمان أمه لقد أشبع من العلم ] و هكذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمرو بن العاص لما كان يصوم الدهر فنهاه و أمره أن يصوم صوم داود يصوم يوما و يفطر يوما و قال له : لا أفضل من ذلك و قد ورد النهي عن صيام الدهر و التشديد فيه و هذا كله يدل على أن أفضل الصيام أن لا يستدام بل يعاقب بينه و بين الفطر و هذا هو الصحيح من قولي العلماء و هو مذهب أحمد و غيره و قيل لعمر : إن فلانا يصوم الدهر فجعل يقرع رأسه بقناة معه و يقول : كل يا دهر كل يا دهر خرجه عبد الرزاق
الحكمة في النهي عن صيام الدهر
و قد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى الحكمة في ذلك من وجوه : منها : قوله صلى الله عليه و سلم في صيام الدهر : [ لا صام و لا أفطر ] يعني أنه لا يجد مشقة الصيام و لا فقد الطعام و الشراب و الشهوة لأنه صار الصيام له عادة مألوفة فربما تضرر بتركه فإذا صام تارة و أفطر أخرى حصل له بالصيام مقصوده بترك هذه الشهوات و في نفسه داعية إليها و ذلك أفضل من أن يتركها و نفسه لا تتوق إليها و منها قوله صلى الله عليه و سلم في حق داود عليه السلام : [ كان يصوم يوما و يفطر يوما و لا يفر إذا لاقى ] يشير إلى أنه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه و مجاهدته في سبيل الله و لهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأصحابه يوم الفتح و كان في رمضان : [ إن هذا يوم قتال فافطروا ] و كان عمر إذا بعث سرية قال لهم : لا تصوموا فإن التقوى على الجهاد أفضل من الصوم
فأفضل الصيام أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل منه من القيام بحقوق الله تعالى أو حقوق عباده اللازمة فإن أضعف عن شيء من ذلك مما هو أفضل منه كان تركه أفضل فالأول : مثل أن يضعف الصيام عن الصلاة أو عن الذكر أو عن العلم كما قيل في النهي عن صيام الجمعة و يوم عرفة بعرفة أنه يضعف عن الذكر و الدعاء في هذين اليومين و كان ابن مسعود يقل الصوم و يقول : إنه يمنعني من قراءة القرآن و قراءة القرآن أحب إلي فقراءة القرآن أفضل من الصيام نص عليه سفيان الثوري و غيره من الأئمة و كذلك تعلم العلم النافع و تعليمه أفضل من الصيام و قد نص الأئمة الأربعة على أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة و الصلاة أفضل من الصيام المتطوع به فيكون العلم أفضل من الصيام بطريق الأولى فإن العلم مصباح يستضاء به في ظلمة الجهل و الهوى فمن سار في طريق على غير مصباح لم يأمن أن يقع في بئر بوار فيعطب قال ابن سيرين : إن قوما تركوا العلم و اتخذوا محاريب فصلوا و صاموا بغير علم و الله ما عمل أحد بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح و الثاني : مثل أن يضعف الصيام عن الكسب للعيال أو القيام بحقوق الزوجات فيكون تركه أفضل و إليه الإشارة بقوله صلى الله عليه و سلم : [ إن لأهلك عليك حقا ]
و منها : ما أشار إليه صلى الله عليه و سلم بقوله : [ إن لنفسك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه ] يشير إلى أن النفس وديعة لله عند ابن آدم و هو مأمور أن يقوم بحقها و من حقها اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل قال الحسن : نفوسكم مطاياكم إلى ربكم فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم فمن وفى نفسه حظها من المباح بنية التقوى به على تقويتها على أعمال الطاعات كان مأجورا في ذلك كما قال معاذ بن جبل : إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و من قصر في حقها حتى ضعفت و تضررت كان ظالما و إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص : [ إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس و هجمت له العين ] و معنى نفهت : كلت و أعيت و معنى هجمت العين : غارت و قال لأعرابي جاءه فأسلم ثم أتاه من عام قابل و قد تغير فلم يعرفه فلما عرفه سأله عن حاله ؟ قال : [ ما أكلت بعدك طعاما بنهار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و من أمرك أن تعذب نفسك ؟ ! ] فمن عذب نفسه بأن حملها ما لا تطيقه من الصيام و نحوه فربما أثر ذلك في ضعف بدنه و عقله فيفوته من الطاعات الفاضلة أكثر مما حصله بتعذيبه نفسه بالصيام
و كان النبي صلى الله عليه و سلم : [ يتوسط في إعطاء نفسه حقها و يعدل فيها غاية العدل فيصوم و يفطر و يقوم و ينام و ينكح النساء و يأكل ما يجد من الطيبات كالحلواء و العسل و لحم الدجاج و تارة يجوع يربط على بطنه الحجر و قال : عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب و لكن أجوع يوما و أشبع يوما فإذا جعت تضرعت إليك و ذكرتك و إذا شبعت حمدتك و شكرتك ] فاختار لنفسه أفضل الأحوال ليجمع بين مقامي الشكر و الصبر و الرضا و منها ما أشار إليه بقوله صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمر : [ و لعله أن يطول بك حياة ] يعني : أن من تكلف الإجتهاد في العبادة فقد تحمله قوة الشباب ما دامت باقية فإذا ذهب الشباب و جاء المشيب و الكبر عجز عن حمل ذلك فإن صابره و جاهد و استمر فربما هلك بدنه و إن قطع فقد فاته أحب الأعمال إلى الله تعالى و هو المداومة على العمل و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اكلفوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ أحب العمل إلى الله أدومه و إن قل ]
فمن عمل عملا يقوى عليه بدنه في طول عمره في قوته و ضعفه استقام سيره و من حمل ما لا يطيق فإنه قد يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكلية و قد يسأم و يضجر فيقطع العمل فيصير كالمنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى و أما صيام النبي صلى الله عليه و سلم من الأيام أعني أيام الأسبوع فكان يتحرى صيام الاثنين و الخميس و كذا روي [ عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى صيام الإثنين و الخميس ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و حسنه و خرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصوم الإثنين و الخميس فقيل له : يا رسول الله إنك تصوم الإثنين و الخميس ؟ فقال : إن يوم الإثنين و الخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين فيقول : دعوهما حتى يصطلحا ] و خرجه الإمام أحمد و عنده : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أكثر ما يصوم الإثنين و الخميس فقيل له ؟ : قال : إن الأعمال تعرض كل اثنين و خميس فيغفر لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول : أخرهما ] و خرجه الترمذي و لفظه قال : [ تعرض الأعمال يوم الإثنين و يوم الخميس فأحب أن يعرض عملي و أنا صائم ] و روي موقوفا على أبي هريرة و رجح بعضهم وقفه و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة مرفوعا : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه و بين أخيه شحناء يقول : انظروا هذين حتى يصطلحا ] و يروى بإسناد فيه ضعف [ عن أبي أمامة مرفوعا ترفع الأعمال يوم الإثنين و يوم الخميس فيغفر للمستغفرين و يترك أهل الحقد بحقدهم ] و روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز و جل : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير و شر حتى أنه ليكتب قوله : أكلت و شربت و ذهبت و جئت و رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله و عمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر و ألقى سائره فذلك قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } خرجه ابن أبي حاتم و غيره فهذا يدل على اختصاص يوم الخميس بعرض الأعمال لا يوجد في غيره و كان إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس و تبكي إليه و يقول : اليوم تعرض أعمالنا على الله عز و جل فهذا عرض خاص في هذين اليومين غير العرض العام كل يوم فإن ذلك عرض دائم بكرة و عشيا و يدل على ذلك ما في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل و ملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح و صلاة العصر فيسأل الذين باتوا فيكم و هو أعلم : كيف تركتم عبادي فيقولون : أتيناهم و هم يصلون و تركناهم و هم يصلون ] و في صحيح مسلم [ عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام و لا ينبغي له أن ينام يخفض القسط و يرفعه يرفع الله عمل الليل قبل النهار و عمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ] و يروى عن ابن مسعود قال : إن مقدار كل يوم من أيامكم عند ربكم اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات و ذكر باقيه كان الضحاك يبكي آخر النهار و يقول : لا أدري ما رفع من عملي يا من عمله معروض على من يعلم السر و أخفى لا تبهرج فإن الناقد بصير
( السقم على الجسم له ترداد ... و العمر ينقص و الذنوب تزاد )
( ما أبعد شقتي و مالي زاد ... ما أكثر بهرجي و لي نقاد )
و حديث أسامة فيه : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا سرد الفطر يصوم الإثنين و الخميس ] فدل على مواظبة النبي صلى الله عليه و سلم على صيامهما و قد كان أسامة يصومهما حضرا و سفرا لهذا و في مسند الإمام أحمد و سنن النسائي [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال له : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم من الجمعة يوم الإثنين و الخميس قال : إني أقوى على أكثر من ذلك قال : فصم صيام داود ]
و في مسند الإمام أحمد من رواية عثمان بن رشيد حدثني أنس بن سيرين قال : أتينا أنس بن مالك في يوم خميس فدعا بمائدة فدعاهم إلى الغداء فتغذى بعض القوم و أمسك بعض ثم أتوه يوم الخميس ففعل مثلها فقال أنس : لعلكم أثنائيون لعلكم خميسيون كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى يقال : لا يفطر و يفطر حتى يقال : لا يصوم و ظاهر هذا الحديث يخالف حديث أسامة و أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يصوم الإثنين و الخميس إذا دخلا في صيامه و لم يكن يتحرى صيامهما في أيام سرد فطره و لكن عثمان بن رشيد ضعيف ضعفه ابن معين و غيره و حديث أسامة أصح منه و قد روي [ من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أول خميس و الإثنين و الإثنين ] و في رواية بالعكس الإثنين و الخميس و الخميس و أكثر العلماء على استحباب صيام الإثنين و الخميس و روي كراهته عن أنس بن مالك من غير وجه عنه و كان مجاهد يفعله ثم يتركه و كرهه و كره أبو جعفر محمد بن علي صيام الإثنين و كرهت طائفة صيام يوم معين كلما مر بالإنسان روي عن عمران بن حصين و ابن عباس و الشعبي و النخعي ونقله ابن القاسم عن مالك و قال الشافعي في القديم أكره ذلك قال : و إنما كرهته لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب قال : فإن فعل فحسن يعني على غير اعتقاد الوجوب
و إنما صيام النبي صلى الله عليه و سلم من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور و في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان و ما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان ] زاد البخاري في رواية : [ كان يصوم شعبان كله ] و لمسلم في رواية : [ كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ] و في رواية النسائي [ عن عائشة قالت : كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصوم شعبان كان يصله برمضان ] و عنها و عن أم سلمة قالتا : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم شعبان إلا قليلا بل كان يصومه كله ] و عن أم سلمة قالت : [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان و رمضان ] و قد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك و غيره : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستكمل صيام شعبان و إنما كان يصوم أكثره و يشهد له ما في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما علمته تعني النبي صلى الله عليه و سلم صام شهرا كله إلا رمضان ] و في رواية له أيضا عنها قالت : [ ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان ] و في رواية له أيضا : أنها قالت : [ لا أعلم نبي الله صلى الله عليه و سلم قرأ القرآن كله في ليلة و لا صام شهرا كاملا غير رمضان ] و في رواية له أيضا قالت : [ ما رأيته قام ليلة حتى الصباح و لا صام شهرا متتابعا إلا رمضان ] و في الصحيحين [ عن ابن عباس قال : ما صام رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا كاملا غير رمضان ] و كان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان و روى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس بنهى عن صيام الشهر كاملا و يقول : ليصمه إلا أياما و كان ينهي عن إفراد اليوم كلما مر به و عن صيام الأيام المعلومة و كان يقول : لا تصم أياما معلومة
فإن قيل : فكيف كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال : [ أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ؟ ] فالجواب : أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام المحرم و الأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية و غيرهم و الأظهر خلاف ذلك و أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم و يدل على ذلك ما خرجه الترمذي [ من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الصيام أفضل بعد رمضان ؟ قال : شعبان تعظيما لرمضان ] و في إسناده مقال و في سنن ابن ماجة : [ أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : صم شوالا ] فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات و في إسناده إرسال و قد روي من وجه آخر يعضده فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم و إنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده كما أن شعبان يليه من قبله و شعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه و سلم له دون شوال فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله و بعده و ذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه و تكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها و بعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل و هي تكملة لنقص الفرائض و كذلك صيام ما قبل رمضان و بعده فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان و بعده أفضل من صيام ما بعد منه و يكون قوله صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام بعد رمضان المحرم ] : محمولا على التطوع المطلق بالصيام فأما ما قبل رمضان و بعده فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث [ و أفضل الصلاة بعد المكتوبة : قيام الليل ] إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية و الله أعلم فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما و يفطر يوما ] و لم يصم كذلك بل كان يصوم سردا و يفطر سردا و يصوم شعبان و كل اثنين و خميس ؟ قيل : صيام داود الذي فضله النبي صلى الله عليه و سلم على الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم في حديث آخر بأنه صوم شطر الدهر و كان صيام النبي صلى الله عليه و سلم إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد عليه و قد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة و إنما كان يفرق صيامه و لا يصوم يوما و يفطر يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة و لا يضر تفريق الصيام و الفطر أكثر من يوم و يوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة و تبليغها و الجهاد عليها و القيام بحقوقها فكان صيام يوم و فطر يوم يضعفه عن ذلك و لهذا سئل النبي صلى الله عليه و سلم في [ حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما و يفطر يومين ؟ قال : وددت أني طوقت ذلك ] و قد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه و سلم من صيام شطر الدهر فحصل للنبي صلى الله عليه و سلم أجر صيام شطر الدهر و أزيد منه بصيامه المتفرق و حصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك و إنما عاقه عنه الإشتغال بما هو أهم منه و أفضل و الله أعلم و قد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي صلى الله عليه و سلم لشعبان دون غيره من الشهور و فيه معان أخر : و قد ذكر منها النبي في [ حديث أسامة معنيين : أحدهما : أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان ] يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام و شهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه و كثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام و ليس كذلك و روى ابن وهب قال : [ حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت : ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا ؟ فقال : فأين هم عن شعبان ] و في قوله : [ يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان ] إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه و يفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم و فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة و أن ذلك محبوب لله عز و جل كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة و يقولون : هي ساعة غفلة و لذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن ] و لهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه و سلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل و إنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس و لما خرج على أصحابه و هم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم : [ ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم ] و في هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له و لهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع و الآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح : إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق و سبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة و في [ حديث أبي ذر المرفوع : ثلاثة يحبهم الله قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملقني و يتلو آياتي و قوم كانوا في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل و ذكر أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا ] فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم و بينه فأحبهم الله فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام
و في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد : منها : أنه يكون أخفى و إخفاء النوافل و إسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد و ربه و لهذا قيل : إنه ليس فيه رياء و قد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان يخرج من بيته إلى سوقه و معه رغيفان فيتصدق بهما و يصوم فيظن أهله أنه أكلهما و يظن أهل السوق أنه أكل في بيته و كانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه فعن ابن مسعود : أنه قال : إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين و قال قتادة : يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام و قال أبو التياح : أدركت أبي و مشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن و لبس صالح ثيابه و يروى أن عيسى بن مريم عليه السلام قال : ( إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته و ليمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس بصائم ) اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يجتهد في إظهار فطره للناس حتى كان يقوم يوم الجمعة و الناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا فيضع بلبلته في فيه و يمصه و لا يزدرد منه شيئا و يبقى ساعة كذلك ينظر الناس إليه فيظنون أنه يشرب الماء و ما دخل إلى حلقه منه شيء كم ستر الصادقون أحوالهم و ريح الصدق ينم علهيم ريح الصيام أطيب من ريح المسك تستنشقه قلوب المؤمنين و إن خفي و كلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه
( كم أكتم حبكم عن الأغيار ... و الدمع يذيع في الهوى أسراري )
( كم أستركم هتكتموا أسراري ... من يخفي في الهوى لهيب النار )
ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية
( وهبني كتمت السرا و قلت غيره ... أتخفي على أهل القلوب السرائر )
( أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق ... و إن بضمير القلب في العين ظاهر )
و منها : أنه أشق على النفوس : و أفضل الأعمال أشقها على النفوس و سبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس و طاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات و إذا كثرت الغفلات و أهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها و لهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا و لا يجدون ]
و قال : [ بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ] و في رواية قيل : [ و من الغرباء : قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ] و في صحيح مسلم [ من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : العباد في الهرج كالهجرة إلي ] و خرجه الإمام أحمد و لفظه : [ العباد في الفتنة كالهجرة إلي ] و سبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم و لا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه و يعبد ربه و يتبع مراضيه و يجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه و منها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي و الغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم و يدافع عنهم و في حديث ابن عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا : [ ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين و ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصرير ـ و الصرير : البرد الشديد ـ و ذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب و يابس و ذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده في الجنة ] قال بعض السلف : ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس رأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد شتى فقال بعضهم لبعض : اخسفوا بهذه القرية فقال بعضهم : كيف نخسف بها و فلان قائم يصلي و رأى بعض المتقدمين في منامه من ينشد و يقول :
( لولا الذين لهم ورد يصلونا ... و آخرون لهم سرد يصومونا )
( لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا ... لأنكم قوم سوء ما تطيعونا )
و في مسند البزار عن أبي هريرة مرفوعا : [ مهلا عن الله مهلا فلولا عباد ركع و أطفال رضع و بهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ] و لبعضهم في المعنى :
( لولا عباد للإله ركع ... و صبية من اليتامى رضع )
( و مهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الموجع )
و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة و جاء في الأثر : أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله و ولده و ذريته و من حوله و في بعض الآثار يقول الله عز و جل : [ أحب العباد إلي المتحابون بجلالي المشاؤن في الأرض بالنصيحة الماشون على أقدامهم إلى الجمعات ] و في رواية : [ المتعلقة قلوبهم بالمساجد و المستغفرون بالأسحار فإذا أردت إنزال عذاب بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس ] و قال مكحول : ما دام في الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم كل يوم خمسا و عشرين مرة لم يهلكوا بعذاب عامة و الآثار في هذا المعنى كثيرة جدا
و قد روي في صيام النبي صلى الله عليه و سلم شعبان معنى آخر و هو أنه تنسخ فيه الآجال فروي بإسناد فيه ضعف [ عن عائشة قالت : كان أكثر صيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعبان فقلت : يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان ؟ قال : إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من يقبض فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا و أنا صائم ] و قد روي مرسلا و قيل : إنه أصح و في حديث آخر مرسل : [ تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح و يولد له و لقد خرج اسمه في الموتى ]
و روي في ذلك معنى آخر و هو : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام و ربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان ] رواه ابن أبي ليلة عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة رضي الله عنها خرجه الطبراني و رواه غيره و زاد : قالت عائشة : فربما أردت أن أصوم فلم أطق حتى إذا صام صمت معه و قد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي من أية كان ] و فيه أيضا عنها قالت : [ ما علمته ـ تعني النبي صلى الله عليه و سلم ـ صام شهرا كاملا إلا رمضان و لا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله ] و قد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان أو أنه صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين و الخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها في شعبان مع صومه الإثنين و الخميس
و بكل حال فكان صلى الله عليه و سلم عمله ديمة و كان إذا فاته من نوافله قضاه كما كان يقضي ما فاته من سنن الصلاة و ما فاته من قيام الليل بالنهار فكان إذا دخل شعبان و عليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله قبل دخول رمضان فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض و كانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه و سلم فإن المرأة لا تصوم و بعلها شاهد إلا بإذنه فمن دخل عليه شعبان و قد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل صيامه بين الرمضانين و من كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة و لا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة فإن فعل ذلك و كان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني و لا شيء عليه مع القضاء و إن كان ذلك لغير عذر فقيل : يقضي و يطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا و هو قول مالك و الشافعي و أحمد اتباعا لآثار وردت بذلك و قيل : يقضي و لا إطعام عليه و هو قول أبي حنيفة و قيل : يطعم و لا يقضي و هو ضعيف
و قد قيل : في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة و كلفة بل قد تمرن على الصيام و اعتاده و وجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام و لذته فيدخل في صيام رمضان بقوة و نشاط و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام و قراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان و ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن روينا بإسناد ضعيف عن أنس قال : كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها و أخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف و المسكين على صيام رمضان و قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر شعبان شهر القراء و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر القراء و كان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ لقراءة القرآن قال الحسن بن سهل : قال شعبان : يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين فما لي ؟ قال : جعلت فيك قراءة القرآن يا من فرط في الأوقات الشريفة و ضيعها و أودعها الأعمال السيئة و بئس ما استودعها
( مضى رجب و ما أحسنت فيه ... و هذا شهر شعبان المبارك )
( فيا من ضيع الأوقات جهلا ... بحرمتها أفق و احذر بوارك )
( فسوف تفارق اللذات قسرا ... و يخلي الموت كرها منك دارك )
( تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص و اجعل مدارك )
( على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم من تدارك )
المجلس الثاني في نصف شعبان
خرج الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابن حبان في صحيحه و الحاكم [ من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان ] و صححه الترمذي و غيره و اختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به : فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي و ابن حبان و الحاكم و الطحاوي و ابن عبد البر و تكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء و أعلم و قالوا : هو حديث منكر منهم الرحمن بن المهدي و الإمام أحمد و أبو زرعة الرازي و الأثرم و قال الإمام أحمد : لم يرو العلاء حديثا أنكر منه و رده بحديث : [ لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ] فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين و قال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه يشير كلها تخالفه يشير إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه و سلم شعبان كله و وصله برمضان و نهيه عن التقدم على رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذا مخالفا للأحاديث الصحيحة و قال الطحاوي هو منسوخ و حكى الإجماع على ترك العمل به و أكثر العلماء على أنه لا يعمل به و قد أخذ آخرون منهم الشافعي و أصحابه و نهو عن ابتداء التطوع بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة و وافقهم بعض المتأخرين من أصحابنا ثم اختلفوا في علة النهي فمنهم من قال : خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس منه و هذا بعيد جدا فيما بعد النصف و إنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو يومين و منهم من قال : النهي للتقوى على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن صيام رمضان و روي ذلك عن وكيع و يرد هذا صيام النبي صلى الله عليه و سلم شعبان كله أو أكثره و وصله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان
و أما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر و قد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه ففي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف [ عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها و صوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول : ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر ] و في فضل ليلة نصف شعبان أحاديث أخر متعددة و قد اختلف فيها فضعفها الأكثرون و صحح ابن حبان بعضها و خرجه في صحيحه و من أمثلها [ حديث عائشة قال : فقدت النبي صلى الله عليه و سلم فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال : أكنت تخافين أن يحيف الله عليك و رسوله فقلت يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك فقال : إن الله تبارك و تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ] خرجه الإمام أحمد و الترمذي الإمام أحمد ابن ماجه و ذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه و خرج ابن ماجه من حديث [ أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ] و خرج الإمام أحمد من [ حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل نفس ] و خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث معاذ مرفوعا
و يروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا : [ إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد : هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فلا يسأل أحد شيئا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركا ] و في الباب أحاديث أخر فيها ضعف و يروى عن نوف البكالي أن عليا خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج فيها ينظر إلى السماء فقال : إن داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه الساعة فنظر إلى السماء فقال إن هذه الساعة ما دعى الله أحد إلا أجابه و لا استغفره أحد من هذه الليلة إلا غفر له ما لم يكن عشارا أو ساحرا أو شاعرا أو كاهنا أو عريفا أو شرطيا أو جابيا أو صاحب كوبة أو غرطبة قال نوف : الكوبة الطبل و الغرطبة : الطنبور اللهم رب داود اغفر لمن دعاك في هذه الليلة و لمن استغفرك فيها و ليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول و لقمان بن عامر و غيرهم يعظمونها و يجتهدون فيها في العبادة و عنهم أخذ الناس فضلها و تعظيمها و قد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة و غيرهم و أنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء و ابن أبي مليكة و نقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة و هو قول أصحاب مالك و غيرهم و قالوا : ذلك كله بدعة
و اختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين : أحدهما : أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان و لقمان بن عامر و غيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم و يتبخرون و يكتحلون و يقومون في المسجد ليلتهم تلك و وافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك و قال في قيامها في المساجد جماعة : ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله و الثاني : أنه يكره الإجتماع فيها في المساجد للصلاة و القصص و الدعاء و لا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه و هذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام و فقيههم و عالمهم و هذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى و قد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله إلى البصرة عليك بأربع ليال من السنة فإن الله يفرغ فيهن الرحمة إفراغا أول ليلة من رجب و ليلة النصف من شعبان و ليلة الفطر و ليلة الأضحى و في صحته عنه نظر و قال الشافعي رضي الله عنه : بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال : ليلة الجمعة و العيدين و أول رجب و نصف شعبان قال : و أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي و لا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان و يتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و استحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود و هو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و ثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام و روي عن كعب قال : إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة فيأمرها أن تتزين و يقول : إن الله تعالى قد اعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء و عدد أيام الدنيا و لياليها و عدد ورق الشجر وزنة الجبال و عدد الرمال و روى سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن أبي حازم و محمد بن قيس عن عطاء بن يسار قال : ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من ليلة النصف من شعبان ينزل الله تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلهم إلا لمشرك أو مشاحن او قاطع رحم فيا من أعتق فيها من النار هنيئا لك المنحة الجسيمة و يا أيها المردود فيها جبر الله مصيبتك هذه فإنها مصيبة عظيمة
( بكيت على نفسي و حق لي البكا ... و ما انا من تضييع في شك )
( لئن قلت أني في صنيعي محسن ... فإني في قولي لذلك ذو إفك )
( ليالي شعبان و ليلة نصفه ... بأية حال قد تنزل لي صكي )
( و حق لعمري أن أديم تضرعي ... لعل إله الخلق يسمح بالفك )
فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى و دعائه بغفران الذنوب و ستر العيوب و تفريج الكروب و أن يقدم على ذلك التوبة فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب
( فقم ليلة النصف الشريف مصليا ... فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه )
( فكم من فتى قد بات في النصف آمنا ... و قد نسخت فيه صحيفة حتفه )
( فبادر بفعل الخير قبل انقضائه ... و حاذر هجوم الموت فيه بصرفه )
( و صم يومها لله و أحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه )
و يتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة و قبول الدعاء في تلك الليلة و قد روي : أنها : الشرك و قتل النفس و الزنا و هذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله كما في [ حديث ابن مسعود المتفق على صحته أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم : أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا و هو خلقك قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك ] فأنزل الله تعالى ذلك : { و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون } الآية و من الذنوب المانعة من المغفرة أيضا الشحناء و هي حقد المسلم على أخيه بغضا له لهوى نفسه و ذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة و الرحمة كما في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين و الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا ] و قد فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و لا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا و عن الأوزاعي أنه قال المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة و كذا قال ابن ثوبان : المشاحن هو التارك لسنة النبي صلى الله عليه و سلم الطاعن على أمته السافك دماءهم و هذا الشحناء أعني شحناء البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين و استحلال دمائهم و أموالهم و أعراضهم كبدع الخوارج و الروافض و نحوهم
فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها و أفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء و البدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة و بغضهم و الحقد عليهم و اعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم و تضليلهم ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين و إرادة الخير لهم و نصيحتهم و أن يحب لهم ما يحب لنفسه و قد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون : { ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } و في المسند [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : ثلاثة أيام يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فيطلع رجل واحد فاستضافه عبد الله بن عمرو فنام عنده ثلاثا لينظر عمله فلم ير له في بيته كبير عمل فأخبره بالحال فقال له هو ما ترى إلا أني أبيت و ليس في قلبي شيء على أحد من المسلمين فقال عبد الله : بهذا بلغ ما بلغ ] و في سنن ابن ماجه [ عن عبد الله بن عمرو قال : قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : مخموم القلب صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا غل و لا حسد ] قال بعض السلف : أفضل الأعمال سلامة الصدور و سخاوة النفوس و النصحة للأمة و بهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الإجتهاد في الصوم و الصلاة إخواني اجتنبوا الذنوب التي تحرم العبد مغفرة مولاه الغفار في مواسم الرحمة و التوبة و الإستغفار أما الشرك : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار } و أما القتل فلو اجتمع أهل السموات و أهل الأرض على قتل رجل مسلم بغير حق لأكبهم الله جميعا في النار و أما الزنا فحذار حذار من التعرض لسخط الجبار الخلق كلهم عبيد الله و إماؤه و الله يغار لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته فمن أجل ذلك حرم الفواحش و أمر بغض الأبصار و أما الشحناء فيا من أضمر لأخيه السوء و قصد له الإضرار : { لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار }
يكفيك حرمان المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار
( خاب عبد بارز المو ... لى بأسباب المعاصي )
( ويحه مما جناه ... لم يخف يوم القصاص )
( يوم فيه ترعد الأقد ... ام من شيب النواصي )
( لي ذنوب في ازدياد ... و حياة في انتقاص )
( فمتى أعمل ما أعلم ... لي فيه خلاصي )
و قد روي عن عكرمة و غيره من المفسرين في قوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } أنها ليلة النصف من شعبان و الجمهور على أنها ليلة القدر و هو الصحيح و قال عطاء بن يسار : إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة فيقال : اقبض من في هذه الصحيفة فإن العبد ليغرس الغراس و ينكح الأزواج و يبني البنيان و أن اسمه قد نسخ في الموتى ما ينتظر به ملك الموت إلا أن يؤمر به فيقبضه يا مغرورا بطول الأمل يا مسرورا بسوء العمل كن من الموت على وجل فما تدري متى يهجم الأجل
( كل امرىء مصبح في أهله ... و الموت أدنى من شراك نعله )
قال بعض السلف : كم من مستقبل يوما لا يستكمله و من مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو رأيتم الأجل و مسيره لأبغضتم الأمل و غروره
( أؤمل أن أخلد و المنايا ... تدور علي من كل النواحي )
( و ما أدري و إن أمسيت يوما ... لعلي لا أعيش إلى الصباح )
( كم ممن راح في طلب الدنيا أو غدا أصبح من سكان القبور غدا )
( كأنك بالمضي إلى سبيلك ... و قد جد المجهز في رحيلك )
( و جيء بغاسل فاستعجلوه ... بقولهم له أفرغ من غسيلك )
( و لم تحمل سوى كفن و قطن ... إليهم من كثيرك أو قليلك )
( و قد مد الرجال إليك نعشا ... فأنت عليه ممدود بطولك )
( وصلوا ثم إنهم تداعوا ... لحملك من بكورك أو أصيلك )
( فلما أسلموك نزلت قبرا ... و من لك بالسلامة في نزولك )
( أعانك يوم تدخله رحيم ... رؤوف بالعباد على دخولك )
( فسوف تجاور الموتى طويلا ... فذرني من قصيرك أو طويلك )
( أخي لقد نصحتك فاسمع لي ... و بالله استعنت على قبولك )
( ألست ترى المنايا كل حين ... تصيبك في أخيك و في خليلك )
المجلس الثالث في صيام آخر شعبان
ثبت في الصحيحين [ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ قال : لا قال : فإذا أفطرت فصم يومين ] و في رواية للبخاري أظنه يعني رمضان و في رواية لمسلم و علقها البخاري : [ هل صمت من سرر شعبان شيئا ] و في رواية : [ فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه ] و في رواية : [ يوما أو يومين ] شك شعبة و روي : [ من سرار الشهر ] و قد اختلف في تفسير السرار و المشهور إنه آخر الشهر يقال : سرار الشهر و سراره بكسر السين و فتحها ذكره ابن السكيت و غيره و قيل : إن الفتح أفصح قاله الفراء و سمي آخر الشهر سرارا : لاسترار القمر فيه و ممن فسر السرار بآخر الشهر أبو عبيد و غيره من الأئمة و كذلك بوب عليه البخاري صيام آخر الشهر و أشكل هذا على كثير من العلماء في الصحيحين أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] فقال كثير من العلماء كأبي عبيد و من تابعه كالخطابي و أكثر شراح الحديث : أن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم أن له عادة بصيامه أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضائه و قالت طائفة : حديث عمران يدل على أنه يجوز صيام يوم الشك و آخر شعبان مطلقا سواء وافق عادة أو لم يوافق و إنما ينهى عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا و هذا مذهب مالك و ذكر أنه القول الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه : يكره الأمر بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده و حكى ابن عبد البر هذا القول عن أكثر علماء الأمصار و ذكر محمد بن ناصر الحافظ : إن هذا هو مذهب أحمد أيضا و غلط في نقله هذا عن أحمد و لكن يشكل على هذا الحديث [ أبي هريرة رضي الله عنه و قوله : إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] و قد ذكر الشافعي في كتاب مختلف الحديث احتمالا في معنى قوله : [ إلا من كان يصوم صوما فليصمه ] و في رواية : [ إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم ] أن المراد بموافقة العادة صيامه على عادة الناس في التطوع بالصيام دون صيامه بنية الرمضانية للاحتياط
و قالت طائفة : سر الشهر : أوله و خرج أبو داود في باب تقدم رمضان من [ حديث معاوية أنه قال : إني متقدم الشهر فمن شاء فليتقدم فسئل عن ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : صوموا الشهر و سره ] ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز : أن سر الشهر : أوله قال أبو داود : و قال بعضهم : سره وسطه و فرق الأزهري بين سرار الشهر و سره فقال : سراره و سرره آخره و سره وسطه و هي أيام البيض و سر كل شيء جوفه و في رواية لمسلم في [ حديث عمران بن حصين المذكور : هل صمت من سرة هذا الشهر ] و فسر ذلك : بأيام البيض قلت : لا يصح أن يفسر سرر الشهر و سراره بأوله لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال و يرى من أول الليل و لذلك سمى الشهر شهرا لاشتهاره و ظهوره فتسمية ليالي الإشتهار ليالي السرار قلب للغة و العرف و قد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن الأوزاعي منهم الخطابي و روى بإسناده عن الوليد عن الأوزاعي قال : سر الشهر : آخره و قال الهروي : المعروف أن سر الشهر آخره و فسر الخطابي حديث معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] بأن المراد بالشهر الهلال فيكون المنى صوموا أول الشهر و آخره فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر قلت : لما روى معاوية : [ صوموا الشهر و سره ] و صام آخر الشهر علم أنه فسر السر بالآخر و الأظهر أن المراد بالشهر شهر رمضان كله و المراد بسره آخر شعبان كما في رواية البخاري في حديث عمران أظنه يعني رمضان و أضاف السرر إلى رمضان و إن لم يكن منه كما سمى رمضان شهر عيد و إن كان العيد ليس منه لكنه يعقبه فدل حديث عمران و حديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان و إنما أمر بقضائه في أول شوال لأن كلا من الوقتين صيام يلي شهر رمضان فهو ملتحق برمضان في الفضل فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يصوم شعبان و ندب إلى صيام شوال
و إنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إلا من له عادة أو من كان يصوم صوما و أكثر العلماء على أنه نهى عن التقدم إلا من كانت له عادة بالتطوع فيه و هو ظاهر الحديث و لم يذكر أكثر العلماء في تفسيره بذلك اختلافا و هو الذي اختاره الشافعي في تفسيره و لم يرجح ذلك الإحتمال المتقدم و على هذا فيرجح حديث أبي هريرة على حديث عمران فإن حديث أبي هريرة فيه نهي عام للأمة عموما فهو تشريع عام للأمة فيعمل به و أما حديث عمران فهي قضية عين في حق رجل معين فيتعين حمله على صورة صيام لا ينهى عن التقدم به جمعا بين الحدثين و أحسن ما حمل عليه : أن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه و سلم كان قد علم منه صلى الله عليه و سلم أنه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبي صلى الله عليه و سلم و كان قد أفطر فيه بعضه فسأله عن صيام آخره فلما أخبره أنه لم يصم آخره أمره بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر لأن صيام أول شوال كصيام آخر شعبان و كلاهما حريم لرمضان و فيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام و أن يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل و فيه دليل على أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما
فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه و قد فعله بعض الصحابة و كأنهم لم يبلغهم النهي عنه و فرق ابن عمر بين يوم الغيم و الصحو في يوم الثلاثين من شعبان و تبعه الإمام أحمد
و الثاني : أن يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة و نحو ذلك فجوزه الجمهور و نهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان بفطر يوم مطلقا و هم طائفة من السلف و حكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة و الشافعي و فيه نظر
و الثالث : أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان بالفطر منهم الحسن و إن وافق صوما كان يصومه و رخص فيه مالك و من وافقه و فرق الشافعي و الأوزاعى و أحمد و غيرهم بين أن يوافق عادة أو لا و كذلك يفرق بين صيامه بأكثر من يومين و وصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من كره الإبتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان و في الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول به في هذا الباب عند كثير من العلماء و انه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة و لا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره
و لكراهة التقدم ثلاثة معان : أحدها : أنه على وجه الإحتياط لرمضان فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم و أهوائهم و خرج الطبراني و غيره عن عائشة رضي الله عنه قالت : إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله } قالت عائشة : إنما الصوم صوم الناس و الفطر فطر الناس و مع هذا فكان من السلف من يتقدم للإحتياط و الحديث حجة عليه و لهذا نهي عن صيام يوم الشك قال عمار : من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه و سلم و يوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو غيره فكان من المتقدمين من يصومه احتياطا و رخص فيه بعض الحنفية للعلماء في أنفسهم خاصة دون العامة لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أن صوم رمضان يجزىء بنية الصيام المطلق و النفل و يوم الشك هو الذي تحدث فيه برؤيته من لم يقبل قوله فأما يوم الغيم فمن العلماء من جعله يوم شك و نهى عن صيامه و هو قول الأكثرين و منهم من صامه احتياطا و هو قول ابن عمر و كان الإمام أحمد يتابعه على ذلك و عنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات ثالثها لا يصام إلا مع الإمام و جماعة المسلمين لئلا يقع الإفتيات عليهم و الإنفراد عنهم و قال اسحاق : لا يصام يوم الغيم و لكم يتلوم بالأكل فيه إلى ضحوة النهار خشية أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصحو فإنه يأكل فيه من غدوة
و المعنى الثاني : الفصل بين صيام الفرض و النفل فإن جنس الفصل بين الفرائض و النوافل مشروع و لهذا حرم صيام يوم العيد و نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام و خصوصا سنة الفجر قبلها فإنه يشرع الفصل بينها و بين الفريضة و لهذا يشرع صلاتها في البيت و الإضطجاع بعدها و لما رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يصلي و قد أقيمت صلاة الفجر : [ الصبح أربعا ] و في المسند : أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ افصلوا بينها و بين المكتوبة و لا تجعلوها كصلاة الظهر ] و في سنن أبي داود : [ إن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما سلم قام يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال : اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل فرفع النبي صلى الله عليه و سلم بصره فقال : أصاب الله بك يا ابن الخطاب ] و من علل بهذا
فمنهم من كره وصل صوم شعبان برمضان مطلقا و روي عن ابن عمر قال : لو صمت الدهر كله لأفطرت الذي بينهما و روي فيه حديث مرفوع لا يصح و الجمهور على جواز صيام ما وافق عادة لأن الزيادة إنما تخشى إذا لم يعرف سبب الصيام
و المعنى الثالث : إنه أمر بذلك للتقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصيام قد تضعف عن صيام الفرض فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوي على صيام رمضان و في هذا التعليل نظر فإنه لا يكره التقدم بأكثر من ذلك و لا لمن صام الشهر كله و هو أبلغ في معنى الضعف لكن الفطر بنية التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص يسرد الفطر أحيانا ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه و منه قول بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي و في الحديث المرفوع : [ الطاعم الشاكر كالصائم الصابر ] خرجه الترمذي و غيره و لربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام و لهذا يقولون هي أيام توديع للأكل و تسمى تنحيسا و اشتقاقه من الأيام النحسات و من قال : هو تنهيس بالهاء فهو خطأ منه ذكره ابن درستويه النحوي و ذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم و هذا كله خطأ و جهل ممن ظنه و ربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات و هذا هو الخسران المبين و أنشد لبعضهم :
( إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار )
( و لا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار )
و قال آخر
( جاء شعبان منذرا بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام )
و من كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه و له نصيب من قوله تعالى : { و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } الآية و ربما كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه و كان للرشيد ابن سفيه فقال مرة :
( دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... و لا صمت شهرا بعده آخر الدهر )
( فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر )
فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة و مات قبل أن يدركه رمضان آخر و هؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة و الصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام و كثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه و يشق على نفسه مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام و الليالي ليعودوا إلى المعصية و هؤلاء مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون فهم هلكى و منهم من لا يصبر على المعاصي فهو يواقعها في رمضان و حكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة و قد رويت من وجوه و هو أنه كان مصرا على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان و هو سكران فعاتبته أمه و هي تسجر تنورا فحملها فألقاها في التنور فاحترقت و كان بعد ذلك قد تاب و تعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان و زينه في قلبه و كره إليه الكفر و الفسوق و العصيان فصار من الراشدين و من أراد به شر خلى بينه و بين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر و الفسوق و العصيان فكان من الغاوين الحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم و كم جلبت من نقم و كم خربت من ديار و كم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من العصاة بالثار كم محت لهم من آثار
( يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى و هي تنتظر )
( فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... و ليس للخلق من ديانهم وزر )
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام و نهارهم صيام باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له و يستعدون بالأطعمة و غيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت : و أنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم : يا أهل الدار الصلاة الصلاة قالوا : طلع الفجر ؟ قالت : أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم جاءت الحسن فقالت : بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني قال بعض السلف : صم الدنيا و اجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم و استهلوا عيد فطرهم
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته و من تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته و شاهد ذلك قوله تعالى : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها } الآية و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ]
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا : [ لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها ] و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد و النسائي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يبشر أصحابه يقول : قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان و تغلق فيه أبواب الجحيم و تغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم ] قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه هذا الزمان زمان و في حديث آخر : [ أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به و أهلا ] جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائر هو آت و روي : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول : اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان ] خرجه الطبراني و غيره من حديث أنس قال معلى بن الفضل : كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم و قال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان و سلم لي رمضان و تسلمه مني متقبلا بلوغ شهر رمضان و صيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه و يدل عليه [ حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في المنام سابقا لهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أليس صلى بعدهما كذا و كذا صلاة و أدرك رمضان فصامه ؟ ! فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما بين السماء و الأرض ] خرجه الإمام أحمد و غيره من رحم في رمضان فهو المرحوم و من حرم خيره فهو المحروم و من لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم
( أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد )
( فأد حقوقه قولا و فعلا ... و زادك فاتخذه للمعاد )
( فمن زرع الحبوب و ما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد )
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح
( أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم و لا معنى )
( أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا )
( فإن عادوا لنا عدنا ... و إن خانوا فما خنا )
( فإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنا )
كم ينادي حي على الفلاح و أنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد مثابر
( إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل )
( لعلك تخطئه قابلا ... و تأتي بعذر فلا يقبل )
كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من مستقبل يوما لا يستكمله و مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل و مسيره لأبغضتم الأمل و غروره خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها : إنكم لم تخلقوا عبثا و لن تتركوا سدى و إن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل بين عباده فقد خاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء و حرم جنة عرضها السموات و الأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين و سيرتها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين و في كل يوم تشيعون غاديا و رائحا إلى الله قد قضى نحبه و انقضى أجله فتودعونه و تدعونه في صدع من الأرض غير موسد و لا ممهد قد خلع الأسباب و فارق الأحباب و سكن التراب و واجه الحساب غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت و انقضاء مواقيته و إني لأقول لكم هذه المقالة و ما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي و لكن أستغفر الله و أتوب إليه ثم رفع طرف ردائه و بكى حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه
( يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان )
( لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان )
( و اتل القرآن و سبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح و قرآن )
( فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران )
( كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل و جيران و إخوان )
( أفناهم الموت و استبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني )
( و معجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان )
( حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان )
وظائف شهر رمضان المعظم و فيه مجالس ـ المجلس الأول في فضل الصيام
ثبت في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال عز و جل : إلا الصيام فإنه لي و أنا الذي أجزي به إنه ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ] و في رواية : [ كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ] و في رواية للبخاري : [ لكل عمل كفارة و الصوم لي و أنا الذي أجزي به ] و خرجه الإمام أحمد من هذا الوجه و لفظه : [ كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم و الصوم لي و أنا أجزي به ]
فعلى الرواية الأولى : يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون العمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز و جل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر و قد قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } و لهذا ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر ] و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ الصوم نصف الصبر ] خرجه الترمذي
و الصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله و صبر عن محارم الله و صبر على أقدار الله المؤلمة
و تجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبرا على طاعة الله و صبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات و صبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع و العطش و ضعف النفس و البدن و هذا الألم الناشىء من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } و في حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان : [ و هو شهر الصبر و الصبر ثوابه الجنة ] و في الطبراني [ عن ابن عمر مرفوعا : الصيام لا يعلم ثواب عمله إلا الله عز و جل ] و روي مرسلا و هو أصح
و اعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم و لذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة و المدينة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ] و في رواية : [ فإنه أفضل ] و كذلك روي : [ أن الصيام يضاعف بالحرم ] و في سنن ابن ماجة بإسناد ضعيف [ عن ابن عباس مرفوعا : من أدرك رمضان بمكة فصامه و قام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه ] و ذكر له ثوابا كثيرا و منها : شرف الزمان كشهر رمضان و عشر ذي الحجة و في حديث سلمان الفارسي المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان : [ من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه و من أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ] و في الترمذي [ عن أنس : سئل النبي صلى الله عليه و سلم أي الصدقة أفضل ؟ قال : صدقة في رمضان ] و في الصحيحين [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : عمرة في رمضان تعدل بحجة ] أو قال : [ حجة معي ] و ورد في حديث آخر : [ أن عمل الصائم مضاعف ] و ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون : إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره قال النخعي : صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة و ركعة فيه أفضل من ألف ركعة فلما كان الصيام في نفسه مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر الصيام لشرف زمانه و كونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده و جعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها و قد يضاعف الثواب بأسباب أخر منها شرف العامل عند الله و قربه منه و كثرة تقواه كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم و أعطوا كفلين من الأجر
و أما على الرواية الثانية : فاستثناء الصيام من بين الأعمال يرجع إلى أن سائر الأعمال للعباد و الصيام اختصه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده و أضاف إليه و سيأتي ذكر توجيه هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى
و أما على الرواية الثالثة : فالإستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال و من أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال : هذا من أجود الأحاديث و أحكمها : [ إذا كان يوم يوم القيامة يحاسب الله عبده و يؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله عز و جل ما بقي عليه من المظالم و يدخله بالصوم الجنة ] خرجه البيهقي في شعب الإيمان و غيره و على هذا فيكون المعنى : أن الصيام لله عز و جل فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز و جل و حينئذ فقد يقال : إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه روي : [ أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات و السيئات و يقص بعضها من بعض فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة ] قاله سعيد بن جبير و غيره و فيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا فيحتمل أن يقال في الصوم إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة و لا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها
و أما قوله : [ فإنه لي ] فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال و قد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء و الصوفية و غيرهم و ذكروا فيه وجوها كثيرة و من أحسن ما ذكر فيه وجهان : أحدهما : أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس و شهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز و جل و لا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع و دواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل و الشرب و كذلك الإعتكاف مع أنه تابع للصيام و أما الصلاة فإنه و إن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام و الشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي و نفسه تشوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه و لهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة و ذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع و كان ابن الزبير يفعله في صلاته و هو رواية عن الإمام أحمد و هذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات و تشوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره و طوله و لهذا روي : [ أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف ] و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قاله أبو الدرداء : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان في سفر و أحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر و ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن رواحة و في الموطأ : إنه صلى الله عليه و سلم كان بالعرج يصب الماء على رأسه و هو صائم من العطش أو الحر فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز و جل في موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته و قد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه و امتثل أمره و اجتنب نهيه خوفا من عقابه و رغبة في ثوابه فشكر الله تعالى له ذلك و اختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله و لهذا قال بعد ذلك : [ إنه إنما ترك شهواته و طعامه و شرابه من أجلي ] قال بعض السلف : طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه باطلاع الله و ثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب و لهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر و هذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره فتصير لذته فيما يرضى مولاه و إن كان مخالفا لهواه و يكون ألمه فيما يكره مولاه و إن كان موافقا لهواه و إذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام و الشراب و مباشرة النساء فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق : كالزنا و شرب الخمر و أخذ الأموال أو الأعراض بغير حق و سفك الدماء المحرمة فإن هذا يسخطه الله على كل حال و في كل زمان و مكان فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل و الضرب و لهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار و قال يوسف عليه السلام : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } سئل ذو النون المصري متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر و قال غيره : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك و كثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان و يقتضيه فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر و من جهالهم من لا يفطر لعذر و لو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة و قد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الزنا و شرب الخمر و أخذ الأموال و الأعراض أو الدماء بغير حق فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان و من عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله و ربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكره الله منه و ينفر منه و إن كان ملائما للنفوس كما قيل :
( إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني )
و قال آخر :
( عذابه فيك عذاب ... و بعده فيك قرب )
( و أنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب )
( حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب )
الوجه الثاني : إن الصيام سر بين العبد و ربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله و ترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في العادة و لذلك قيل : لا تكتبه الحفظة و قيل : إنه ليس فيه رياء كذا قاله الإمام أحمد و غيره و فيه حديث مرفوع مرسل و هذا الوجه اختيار أبي عبيد و غيره و قد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز و جل حيث لا يطلع عليه غير من أمره و نهاه دل على صحة إيمانه و الله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم و بينه و أهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا بينهم و بينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة و قال بعضهم : لما اطلع على بعض سرائره إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني و بينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي بينهم و بين من يحبهم و يحبونه
( نسيم صبا تجد متى جئت حاملا ... تحيتهم فاطوا الحديث عن الركب )
( و لا تدع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي )
و قوله : [ ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي ] : فيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه و أن الصائم يقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام و الشراب و النكاح و هذه أعظم شهوات النفس و في التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد : منها : كسر النفس فإن الشبع و الري و مباشرة النساء تحمل النفس على الأشر و البطر و الغفلة و منها تخلي القلب للفكر و الذكر فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب و تعميه و تحول بين العبد و بين الذكر و الفكر و تستدعي الغفلة و خلو الباطن من الطعام و الشراب ينور القلب و يوجب رقته و يزيل قسوته و يخليه للذكر و الفكر و منها : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام و الشراب و النكاح فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص و حصول المشقة له بذلك يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى و يدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج و مواساته بما يمكن من ذلك و منها : أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان و تنكسر سورة الشهوة و الغضب و لهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم [ الصوم وجاء ] لقطعه عن شهوة النكاح
و اعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال من الكذب و الظلم و العدوان على الناس في دمائهم و أموالهم و أعراضهم و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه ] خرجه البخاري و في حديث آخر : [ ليس الصيام من الطعام و الشراب إنما الصيام من اللغو و الرفث ] و قال الحافظ أبو موسى المديني : على شرط مسلم قال بعض السلف : أهون الصيام ترك الشراب و الطعام و قال جابر : إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لسانك عن الكذب و المحارم و دع أذى الجار و ليكن عليك وقار و سكينة يوم صومك و لا تجعل يوم صومك و يوم فطرك سواء
( إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... و في بصري غض و في منطقي صمت )
( فحظي إذا من صومي الجوع و الظمأ ... فإن قلت إني صمت يومي صمت )
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و رب قائم حظه من قيامه السهر ] و سر هذا : أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض و يتقرب بالنوافل و إن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به هذا هو قول جمهور العلماء و في مسند الإمام أحمد [ أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم فكادتا أن تموتا من العطش فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأعرض ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن تتقيآ فقاءتا ملء قدح قيحا و دما و صديدا و لحما عبيطا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما و أفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان في لحوم الناس ]
و لهذا المعنى و الله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام و الشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل فإن تحريم هذا عام في كل زمان و مكان بخلاف الطعام و الشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام و الشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ و للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه ] أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم و مشرب و منكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا و الصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل و آخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا و الله و ملائكته يصلون على المتسحرين فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى الله و طاعة له و يبادر إليها في الليل تقربا إلى الله و طاعة له فما تركها إلا بأمر ربه و لا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع له في الحالين و لهذا نهى عن الوصال في الصيام فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه و أكل و شرب و حمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك و في الحديث : [ إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها ] و ربما استجيب دعاؤه عند ذلك كما جاء في الحديث المرفوع الذي خرجه ابن ماجه : [ إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد و إن نوى بأكله و شربه تقوية بدنه على القيام و الصيام كان مثابا على ذلك كما أنه إذا نوى بنومه في الليل و النهار التقوى على العمل كان نومه عبادة ] و في حديث مرفوع : [ نوم الصائم عبادة ] قالت حفصة بنت سيرين : قال أبو العالية : الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدا و إن كان نائما على فراشه فكانت حفصة تقول : يا حبذا عبادة و أنا نائمة على فراشي خرجه عبد الرزاق فالصائم في ليله و نهاره في عبادة و يستجاب دعاؤه في صيامه و عند فطره فهو في نهاره صائم صابر و في ليله طاعم شاكر و في الحديث الذي خرجه الترمذي و غيره : [ الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ] و من فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله و رحمته فيدخل في قول الله تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } و لكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال فإن كان فطره على حرام كان ممن صام عما أحل الله و أفطر على ما حرم الله و لم يستجب له دعاء كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الذي يطيل السفر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك
فرحة الصائم عند لقاء ربه
و أما فرحه عند لقاء ربه : فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى : { و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا و أعظم أجرا } و قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } و قال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } و قد تقدم قول ابن عيينة : أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة و في المسند [ عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليس من عمل يوم إلا يختم عليه ] و عن عيسى عليه السلام قال : إن هذا الليل و النهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير و شر و في يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها فالمتقون يجدون في خزائنهم العز و الكرامة و المذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة و الندامة
و الصائمون على طبقتين : إحداهما : من ترك طعامه و شرابه و شهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة فهذا قد تاجر مع الله و عامله و الله تعالى { لا نضيع أجر من أحسن عملا } و لا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا أتاك الله خيرا منه ] خرجه الإمام أحمد فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام و شراب و نساء قال الله تعالى : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } قال مجاهد و غيره : نزلت في الصائمين قال يعقوب بن يوسف الحنفي : بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة و غارت أعينكم و جفت بطونكم كونوا اليوم في نعيمكم و تعاطوا الكأس فيما بينكم : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } و قال الحسن : تقول الحوراء لولي الله و هو متكىء معها على نهر العسل تعاطيه الكأس : إن نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين و أنت في ظمأها حرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال : انظروا إلى عبدي ترك زوجته و شهوته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة فيما عندي اشهدوا إني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم ] و في رواية : [ فإذا دخلوا أغلق ] و في رواية : [ من دخل منه شرب و من شرب لم يظمأ أبدا ] و في [ حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في منامه الطويل قال : و رأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيام رمضان فسقاه و أرواه ] خرجه الطبراني و غيره و روى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف [ عن أنس مرفوعا : الصائمون ينفح من أفواههم ريح المسك و يوضع لهم مائدة تحت العرش يأكلون منها و الناس في الحساب ]
و [ عن أنس موقوفا : إن لله مائدة لم تر مثلها عين و لم تسمع أذن و لا خطر على قلب بشر لا يقعد عليها إلا الصائمون ] و عن بعض السلف قال : بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها و الناس في الحساب فيقولون : يا رب نحن نحاسب و هم يأكلون فيقال : إنهم طالما صاموا و أفطرتم وقاموا و نمتم رأى بعضهم بشر بن الحارث في المنام و بين يديه مائدة و هو يأكل و يقال له : كل يا من لم يأكل و اشرب يا من لم يشرب كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى و انقطع صوته فمات فرآه بعض أصحابه في المنام فسأله عن حاله فضحك و أنشد
( قد كسي حلة البهاء و طافت ... بالأباريق حوله الخدام )
( ثم حلى و قيل يا قاريء ارقه ... فلعمري لقد براك الصيام )
اجتاز بعض الصالحين بمناد ينادي على السحور في رمضان : يا ما خبأنا للصوام فتنبه بهذه الكلمة و أكثر من الصيام رأى بعض العارفين في منامه كأنه أدخل الجنة فسمع قائلا يقول له : هل تذكر أنك صمت لله يوما قط فقال : نعم قال فأخذتني صوانيء النار من الجنة من ترك لله في الدنيا طعاما و شرابا و شهوة مدة يسيرة عوضه الله عنده طعاما و شرابا لا ينفذ و أزواجا لا يمتن أبدا شهر رمضان فيه يزوج الصائمون في الحديث : [ إن الجنة لتزخرف و تنجد من الحول إلى الحول لدخول رمضان فتقول الحور : يا رب اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجا تقر أعيننا بهم و تقر أعينهم بنا ] و في حديث آخر [ أن الحور ينادين في شهر رمضان : هل من خاطب إلى الله فنزوجه ] مهور الحور العين : طول التهجد و هو حاصل في رمضان أكثر من غيره كان بعض الصالحين كثير التهجد و الصيام فصلى ليلة في المسجد و دعا فغلبته عيناه فرأى في منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمان فقالوا : كل فقال إني أريد الصوم قالوا له يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل قال : فأكلت و جعلت آخذ ذلك الدر لاحتمله فقالوا له : دعه نغرسه لك شجرا ينبت لك خيرا من هذا قال : أين ؟ قالوا : في دار لا تخرب و ثمر لا يتغير و ملك لا ينقطع و ثياب لا تبلى فيها رضوى و عينا وقرة أعين أزواج رضيات مرضيات راضيات لا يغرن و لا يغرن فعليك بالإنكماش فيما أنت فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدثهم برؤياه و هو يقول : لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك و قد حمل فقال له : ما حمل ؟ قال : لا تسأل لا يقدر أحد على صفته لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع يا قوم ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان
( من يرد ملك الجنان ... فليدع عنه التواني )
( و ليقم في ظلمة الليـ ... ل إلى نور القرآن )
( و ليصل صوما بصوم ... إن هذا العيش فاني )
( إنما العيش جوار اللـ ... ه في دار الأمان )
الطبقة الثانية من الصائمين : من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس و ما حوى و يحفظ البطن و ما وعى و يذكر الموت و البلى و يريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه و فرحه برؤيته :
( أهل الخصوص من الصوام صومهم ... صون اللسان عن البهتان و الكذب )
( و العارفون و أهل الإنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار و الحجب )
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر و لا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم أجل من ذلك :
( كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك )
( من يصم عن مفطرات ... فصيامي عمن سواك )
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة و من صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله ؟ فقال : علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه و قيل لبعضهم : أين نطلبك في الآخرة ؟ قال : في زمرة الناظرين إلى الله قيل له : كيف علمت ذلك ؟ قال : بغض طرفي له عن كل محرم و باجتنابي فيه كل منكر و مأثم و قد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه
( يا حبيب القلوب مالي سواكا ... ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا )
( ليس لي في الجنان مولاي رأي ... غير أني أريدها لأراكا )
يا معشر التائبين صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل فإن معظم نهار الصيام قد ذهب و عيد اللقاء قد اقترب
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه )
و قوله : [ و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ] : خلوف الفم : رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام و هي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته و ابتغاء مرضاته كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دما لونه لون الدم و ريحه ريح المسك و بهذا استدل من كره السواك للصائم أو لم يستحبه من العلماء و أول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح و روي عن أبي هريرة : أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت و في المسألة خلاف مشهور بين العلماء و إنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم لأنه وقت خلو المعدة و تصاعد الأبخرة و هل وقت الكراهة بصلاة العصر ؟ أو بزوال الشمس ؟ أو بفعل صلاة الظهر في أول وقتها ؟ على أقوال ثلاثة : و الثالث : هو المنصوص عن أحمد
و في طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز و جل معنيان : أحدهما : أن الصيام لما كان سرا بين العبد و بين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام و يعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعا : [ يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم أطيب من ريح المسك ] حكي عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد رحمه الله : أنه كان يواظب على الصيام فمر يوما بثمار و بين يديه رطب حسن فاشتهت نفسه فرد شهوتها فقالت نفسه : فعلت بي كل بلية من سهر الليالي و ظمأ الهواجر فأعطني هذه الشهوة و استعملني في الطاعة كيف شئت فاشترى سهل من الرطب و خبز الحواري و قليل شوى و دخل موضعا ليأكل فإذا رجلان يختصمان فقال أحدهما : إني محق وأنت مبطل أتريد أن أحلف لك أني محق وأن الأمر على ما زعمت قال : بلى فحلف قال : و حق الصائمين إني محق في دعواي فقال : هذا مبعوث الحق تعالى إلى هذا السوط بي ثم أخذ بلحيته و قال : يا سهل بلغ من شرفك و شرف صومك حتى يحلف العباد بصومك فيقول : و حق الصائمين فيقول : و حق الصائمين ثم تفطر أنت على قليل رطب و الله أعلم
قال مكحول : يروح أهل الجنة برائحة فيقولون : ربنا ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح فيقال : هذه رائحة أفواه الصوام و قد تفوح رائحة الصيام في الدنيا و تستنشق قبل الآخرة و هو نوعان : أحدهما : ما يدرك بالحواس الظاهرة كان عبد الله بن غالب من العباد المجتهدين في الصلاة و الصيام فلما دفن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره فقال : تلك رائحة التلاوة و الظمأ
و النوع الثاني : ما تستنشقه الأرواح و القلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة و المحبة في قلوب المؤمنين و [ حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن زكريا عليه السلام قال لبني إسرائيل : آمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم تعجبه ريحه و أن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك ] خرجه الترمذي و غيره لما كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سرا بينه و بينهم أظهر الله سرهم لعباده فصار علانية فصار هذا التجلي و الإظهار جزاء لذلك الصون و الإسرار في الحديث : [ ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية ] قال يوسف بن إسباط : أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك يخفون لي أعمالهم و علي إظهارها لهم
( تذلل أرباب الهوى في الهوى عز ... و فقرهم نحو الحبيب هو الكنز )
( و سترهم فيه السرائر شهرة ... و غير تلاف النفس فيه هو العجز )
و المعنى الثاني : أن من عبد الله و أطاعه و طلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله بل هي محبوبة له و طيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته و اتباع مرضاته فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطبيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا قال بعض السلف : وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلمه على رأسها فصام ثلاثين يوما ثم وجد من فيه خلوفا فكره أن يناجي ربه على تلك الحال فأخذ سواكا فاستاك به فلما أتى لموعد الله إياه قال له : يا موسى أما علمت إن خلوف فم الصائم أطيب عندنا من ريح المسك ارجع فصم عشرة أخرى و لهذا المعنى كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك و غبار المجاهدين في سبيل الله ذريرة أهل الجنة ورد في حديث مرسل : [ كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعته و رضاه فهو الكامل في الحقيقة خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك ] عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر ذل الخائفين من سطوته هو العز تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة جوع الصائمين لأجله هو الشبع عطشهم في طلب مرضاته هو الري نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة
( ذل الفتى في الحب مكرمة ... و خضوعه لحبيبه شرف )
هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل و للمذنبين بالعفو و المستوجبين النار بالعتق لما سلسل الشيطان في شهر رمضان و خمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى و صارت الدولة لحاكم العقل بالعدل فلم يبق للعاصي عذر يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي يا شموس التقوى و الإيمان اطلعي يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي يا قلوب الصائمين اخشعي يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك و اركعي يا عيون المجتهدين لا تهجعي يا ذنوب التائبين لا ترجعي يا أرض الهوى ابلعي ماءك و يا سماء النفوس أقلعي يا بروق العشاق للعشاق المعي يا خواطر العارفين ارتعي يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي يا جنيد اطرب يا شبلي احضر يا رابعة اسمعي قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام فما منكم إلا من دعي : { يا قومنا أجيبوا داعي الله } و يا همم المؤمنين اسرعي فطوبى لمن أجاب فأصاب و ويل لمن طرد عن الباب و ما دعي
( ليت شعري إن جئتهم يقبلوني ... أم تراهم عن بابهم يصرفوني )
( أم تراني إذا وقفت لديهم ... يأذنوا بالدخول أم يطردوني )
المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان و تلاوة القرآن
في الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم أجود الناس و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن و كان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله صلى الله عليه و سلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ] و خرجه الإمام أحمد بزيادة في آخره و هي : [ لا يسأل عن شيء إلا أعطاه ] الجود : هو سعة العطاء و كثرته و الله تعالى يوصف بالجود و في الترمذي [ من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله جواد يحب الجود كريم يحب الكرم ] و فيه أيضا [ من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : عن ربه قال : يا عبادي لو أن أولكم و أخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا في صعيد واحد فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام و عذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له : كن فيكون ] و في الأثر المشهور عن فضيل بن عياض : أن الله تعالى يقول كل ليلة : أنا الجواد و مني الجود أنا الكريم و مني الكرم فالله سبحانه و تعالى أجود الأجودين و جوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان و فيه أنزل قوله { و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } و في الحديث الذي خرجه الترمذي و غيره : [ أنه ينادي فيه مناديا يا باغي الخير هلم و يا باغي الشر أقصر ] و لله عتقاء من النار و ذلك في كل ليلة و لما كان الله عز و جل قد جب نبيه صلى الله عليه و سلم على أكمل الأخلاق و أشرفها كما في [ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ] و ذكره مالك في الموطأ بلاغا : [ فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود الناس كلهم ] و خرج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من [ حديث أنس مرفوعا : ألا أخبركم بالأجود الأجود الله الأجود الأجود و أنا أجود بني آدم و أجودهم من بعدي رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمة وحده و رجل جاد بنفسه في سبيل الله ] فدلك هذا على أنه صلى الله عليه و سلم أجود بني آدم على الإطلاق كما أنه أفضلهم و أعلمهم و أشجعهم و أكملهم في جميع الأوصاف الحميدة و كان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم و المال و بذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه و هداية عباده و إيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم و وعظ جاهلهم و قضاء حوائجهم و تحمل أثقالهم و لم يزل صلى الله عليه و سلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ و لهذا قالت له خديجة في أول مبعثه : و الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم و تقري الضيف و تحمل الكل و تكسب المعدوم و تعين على نوائب الحق ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة و تضاعفت أضعافا كثيرة و في الصحيحين [ عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس و أشجع الناس و أجود الناس ] و في صحيح مسلم [ عنه قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ] و في رواية : [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر ] قال أنس : إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا و ما عليها و فيه أيضا [ عن صفوان بن أمية قال : لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أعطاني و أنه لمن أبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ] قال ابن شهاب : أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة و في مغازي الواقدي : أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى صفوان يومئذ واديا مملوء إبلا و نعما فقال صفوان : أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي و في الصحيحين [ عن جبير بن مطعم : أن الأعراب علقوا بالنبي صلى الله عليه و سلم مرجعه من حنين يسألونه أن يقسم بينهم فقال : لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا و لا كذوبا و لا جبانا ] و فيهما [ عن جابر قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا فقال : لا و إنه قال لجابر : لو جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا و هكذا و هكذا و قال : بيديه جميعا ] و خرج البخاري [ من حديث سهل بن سعد : إن شملة أهديت للنبي صلى الله عليه و سلم فلبسها و هو محتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس و قالوا : كان محتاجا إليها و قد علمت أنه لا يرد سائلا فقال : إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه ] و كان جوده صلى الله عليه و سلم كله لله و في ابتغاء مرضاته فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله أو يتألف به على الإسلام من يقوي الإسلام بإسلامه و كان يؤثر على نفسه و أهله و أولاده فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى و قيصر و يعيش في نفسه عيش الفقراء فيأتي عليه الشهر و الشهران لا يوقد في بيته نار و ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع و كان قد أتاه صبي مرة فشكت إليه فاطمة ما تلقي من خدمة البيت و طلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها فأمرها أن تستعين بالتسبيح و التكبير و التحميد عند نومها و قال : [ لا أعطيك و أدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع ] و كان جوده صلى الله عليه و سلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور كما أن جود ربه تضاعف فيه أيضا فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة و كان على ذلك من قبل البعثة و ذكر ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها و ذلك الشهر شهر رمضان خرج إلى حراء كما يخرج لجواره معه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى برسالته و رحم العباد بها جاءه جبريل من الله عز و جل ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك فإنه كان يلتقي هو و جبريل عليه السلام و هو أفضل الملائكة و أكرمهم و يدارسه الكتاب الذي جاء به إليه و هو أشرف الكتب و أفضلها و هو يحث على الإحسان و مكارم الأخلاق و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الكتاب له خلقا بحيث يرضى لرضاه و يسخط لسخطه و يسارع إلى ما حث عليه و يمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده و إفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام و كثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم و الجود و لا شك إن المخالطة تؤثر و تورث أخلاقا من المخالطة كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا جوادا فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده و فرقها كلها على الناس فأنشد :
( لمست بكفي كفه أبتغي الغنا ... و لم أدر أن الجود من كفه يعدي )
فبلغ ذلك الملك فأضعف له الجائزة و قد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد و لا يصلح أن يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم
( تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله )
( تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله )
( هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف و الجود ساحله )
( و لو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله )
سمع الشبلي قائلا يقول : يا الله يا جواد فتأوه و صاح و قال : كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود و مخلوق يقول في شكله فذكر هذه الأبيات ثم بكى و قال : بلى يا جواد فإنك أوجدت تلك الجوارح و بسطت تلك الهمم فأنت الجواد كل الجود فإنهم يعطون عن محدود و عطائك لأحد له و لا صفة فيا جوادا يعلو كل جواد و به جاد كل من جاد
و في تضاعف جوده صلى الله عليه و سلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة : منها : شرف الزمان و مضاعفة أجر العمل فيه و في الترمذي [ عن أنس مرفوعا : أفضل الصدقة صدقة رمضان ]
و منها إعانة الصائمين و القائمين و الذاكرين على طاعتهم فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم كما أن من جهز غازيا فقد غزا و من خلفه في أهله فقط غزا و في [ حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و ابن ماجه و خرجه الطبراني من [ حديث عائشة و زاد : و ما عمل الصائم من أعمال البر إلا كان لصاحب الطعام ما دام قوة الطعام فيه ] و خرج ابن خزيمة في صحيحه من [ حديث سلمان مرفوعا حديثا في فضل شهر رمضان و فيه : و هو شهر المواساة و شهر يزاد فيه في رزق المؤمن من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه و عتق رقبته من النار و كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ؟ قال : يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء و من أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ]
و منها : أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة و المغفرة و العتق من النار لا سيما في ليلة القدر و الله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء و الفضل و الجزاء من جنس العمل
و منها : أن الجمع بين الصيام و الصدقة من موجبات الجنة كما في [ حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة غرفا الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها من ظهورها قالوا : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن طيب الكلام و أطعم الطعام و أدام الصيام و صلى بالليل و الناس نيام ] و هذه الخصال كلها تكون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام و القيام و الصدقة و طيب الكلام فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو و الرفث و الصيام و الصلاة و الصدقة توصل صاحبها إلى الله عز و جل قال بعض السلف : الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق و الصيام يوصله إلى باب الملك و الصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر : أنا قال : من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : من تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر : أنا قال : ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة ]
و منها : أن الجمع بين الصيام و الصدقة أبلغ في تفكير الخطايا و اتقاء جهنم و المباعدة عنها و خصوصا إن ضم إلى ذلك قيام الليل فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الصيام جنة ] و في رواية : [ جنة أحدكم من النار كجنته من القتال ] و في [ حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار و قيام الرجل من جوف الليل يعني أنه يطفىء الخطيئة ] أيضا و قد صرح بذلك في رواية الإمام أحمد و في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اتقوا النار و لو بشق تمرة ] كان أبو الدرداء يقول : صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير
و منها : أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص و تكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما نبغي التحفظ منه كما ورد ذلك في حديث خرجه ابن حبان في صحيحه و عامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي و لهذا نهى أن يقول الرجل : صمت رمضان كله أو قمته كله فالصدقة تجبر ما فيه من النقص و الخلل و لهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث و الصيام و الصدقة لهما مدخل في كفارات الإيمان و محظورات الإحرام و كفارة الوطء في رمضان و لهذا كان الله تعالى قد خير المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام و إطعام المسكين ثم نسخ ذلك و بقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره و من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه و يضم إليه إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء كما أفتى به الصحابة و كذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل و المرضع على قول طائفة من العلماء
و منها : أن الصائم يدع طعامه و شرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوي على طعامهم و شرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله و آثر بها أو واسى منها و لهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ فيواسي منه حتى يكون من أطعم الطعام على حبه و يكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام و الشراب له و رده عليه بعد منعه إياه فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها و سئل بعض السلف : لم شرع الصيام ؟ قال : ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع و هذا من بعض حكم الصوم و فوائده و قد ذكرنا فيما تقدم حديث سلمان و فيه : [ و هو شهر المواساة ] فمن لم يقدر فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به و يطوون كان ابن عمر يصوم و لا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة و كان إذا جاءه سائل و هو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام و قام فأعطاه السائل فيرجع و قد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائما و لم يأكل شيئا و اشتهى بعض الصالحين من السلف طعاما و كان صائما فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلا يقول : من يقرض الملي الوفي الغني ؟ فقال عبده المعدم من الحسنات فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه و بات طاويا و جاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى و أصبح صائما و كان الحسن يطعم إخوانه و هو صائم تطوعا و يجلس يروحهم و هم يأكلون و كان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء و غيرها و هو صائم سلام الله على تلك الأرواح رحمة الله على تلك الأشباح لم يبق إلا أخبار و آثار كم بين من يمنع الحق الواجب عليه و بين أهل الإيثار
( لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد )
و له فوائد أخر قال الشافعي رضي الله عنه : أحب للرجل الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم و لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم و لتشاغل كثير منهم بالصوم و الصلاة عن مكاسبهم و كذا قال القاضي أبو يعلى و غيره من أصحابنا أيضا و دل الحديث أيضا على استحباب دراسة القرآن في رمضان و الإجتماع على ذلك و عرض القرآن على من هو أحفظ له و فيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان و في [ حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه و سلم : أنه أخبرها أن جبريل عليه كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتين ] و في حديث ابن عباس أن المدارسة بينه و بين جبريل كان ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل و يجتمع فيه الهم و يتواطأ فيه القلب و اللسان على التدبر كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا } و شهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } و قد قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر و يشهد لذلك قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } و قوله : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } و قد سبق [ عن عبيد بن عمير : أن النبي صلى الله عليه و سلم بدىء بالوحي و نزول القرآن عليه في شهر رمضان ] و في المسند [ عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان و أنزلت التوراة لست مضين من رمضان و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان و أنزل القرآن لأربع و عشرين خلت من رمضان ] و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم : [ يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره و قد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان قال : فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف و سأل فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فأذنه بالصلاة ] خرجه الإمام أحمد و خرجه النسائي و عنده أنه ما صلى إلا أربع ركعات و كان عمر قد أمر أبي بن كعب و تميما الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارىء يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصى من طول القيام و ما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر و في رواية : أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها و روي أن عمر جمع ثلاثة قراء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين و أوسطهم بخمس و عشرين و أبطأهم بعشرين ثم كان في زمن التابعين يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف قال ابن منصور : سئل إسحاق بن راهوية كم يقرأ في قيام شهر رمضان فلم يرخص في دون عشر آيات فقيل له : إنهم لا يرضون ؟ فقال : لا رضوا فلا تؤمنهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من البقرة ثم إذا صرت إلى الآيات الخفاف فبقدر عشر آيات من البقرة يعني في كل ركعة و كذلك كره مالك أن يقرأ دون عشر آيات و سئل الإمام أحمد عما روي عن عمر كما تقدم ذكره في السريع القراءة و البطيء فقال : في هذا مشقة على الناس و لا سيما في هذه الليالي القصار و إنما الأمر على ما يحتمله الناس و قال أحمد لبعض أصحابه و كان يصلي بهم في رمضان : هؤلاء قوم ضعفى اقرأ خمسا ستا سبعا قال : فقرأت فختمت ليلة سبع و عشرين و قد روى الحسن : أن الذي أمره عمر أن يصلي بالناس كان يقرأ خمس آيات ست آيات و كلام الإمام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين فلا يشق عليهم و قاله أيضا غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة و غيرهم و قد روي [ عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قام بهم ليلة ثلاث و عشرين إلى ثلث الليل و ليلة خمس و عشرين إلى نصف الليل فقالوا له : لو نفلتنا بقية ليلتنا فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته ] خرجه أهل السنن و حسنه الترمذي و هذا يدل على أن قيام ثلث الليل و نصفه يكتب به قيام ليلة لكن مع الإمام و كان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث و يصلي مع الإمام حتى ينصرف و لا ينصرف حتى ينصرف الإمام و قال بعض السلف : من قام نصف الليل فقد قام الليل و في سنن أبي داود [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين ] ـ يعني أنه كتب له قنطار من الأجر ـ و يروى من [ حديث تميم و أنس مرفوعا : من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قيام ليلة ] و في إسنادهما ضعف
و روي حديث تميم موقوفا عليه و هو أصح و عن ابن مسعود قال : من قرأ ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين و من قرأ بمائة آية كتب من القانتين و من قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار و من أراد أن يزيد في القراءة و يطيل و كان يصلي لنفسه فليطول ما شاء كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم و كذلك من صلى بجماعة يرضون بصلاته و كان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال و بعضهم في كل سبع منهم قتادة و بعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة و غيرها كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان و كان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة و في بقية الشهر في ثلاث و كان قتادة يختم في كل سبع دائما و في رمضان في كل ثلاث و في العشر الأواخر كل ليلة و كان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة و عن أبي حنيفة نحوه و كان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان و كان الزهري إذا دخل رمضان قال : فإنما هو تلاوة القرآن و إطعام الطعام قال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم و أقبل على تلاوة القرآن من المصحف قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري : إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن و كانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت و قال سفيان : كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف و جمع إليه أصحابه و إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان و المكان و هو قول أحمد و إسحاق و غيرهما من الأئمة و عليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره و اعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام و جهاد بالليل على القيام فمن جمع بين هذين الجهادين و وفى بحقوقهما و صبر عليهما و فى أجره بغير حساب قال كعب ينادي يوم القيامة مناد بأن كل حارث يعطى بحرثه و يزاد غير أهل القرآن و الصيام يعطون أجورهم بغير حساب و يشفعان له أيضا عند الله عز و جل كما في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصيام و القيام يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي رب منعته الطعام و الشراب بالنهار و يقول بالقرآن : منعته النوم بالنهار فشفعني فيه فيشفعان ] فالصيام يشفع لمن منعه الطعام و الشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام و الشراب و النكاح و مقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم و النظر المحرم و السماع المحرم و الكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة و يقول : يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن حفظ صيامه و منعه من شهواته فأما من ضيع صيامه و لم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه و يقول له : ضيعك الله كما ضيعتني كما ورد مثل ذلك في الصلاة قال بعض السلف : إذا احتضر المؤمن يقال للملك : شم رأسه قال : أجد في رأسه القرآن فيقال شم قلبه فيقول : أجد في قلبه الصيام فيقال : شم قدميه فيقول : أجد في قدميه القيام فيقال : حفظ نفسه حفظه الله عز و جل و كذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل فأما من قرأ القرآن و قام به فقد قام بحقه فيشفع له و قد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم رجلا فقال : ذاك لا يتوسد القرآن ـ يعني لا ينام عليه فيصير له كالوسادة ـ و خرج الإمام أحمد من [ حديث بريدة مرفوعا : أن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول : هل تعرفني أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر و أسهرت ليلك و كل تاجر من وراء تجارته فيعطي الملك بيمينه و الخلد بشماله و يوضع على رأسه تاج الوقار ثم يقال له : اقرأ و اصعد في درج الجنة و غرفها فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا ] و في [ حديث عبادة بن الصامت الطويل : إن القرآن يأتي صاحبه في القبر فيقول له : أنا الذي كنت أسهر ليلك و أظمىء نهارك و أمنعك شهوتك و سمعك و بصرك فستجدني من الأخلاء خليل صدق ثم يصعد فيسأل له فراشا و دثارا فيؤمر له بفراش من الجنة و قنديل من الجنة و ياسمين من الجنة ثم يدفع القرآن في قبلة القبر فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك ] قال ابن مسعود : ينبغي لقارىء القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون و نهاره إذا الناس يفطرون و ببكائه إذا الناس يضحكون و بورعه إذا الناس يخلطون و بصمته إذا الناس يخوضون و بخشوعه إذا الناس يختالون و بحزنه إذا الناس يفرحون قال محمد بن كعب : كنا نعرف قارىء القرآن بصفرة لونه يشير إلى سهره و طول تهجده قال وهيب بن الورد : قيل لرجل ألا تنام ؟ قال : إن عجائب القرآن أطرن نومي و صحب رجل رجلا شهرين فلم يره نائما فقال : مالي لا أراك نائما قال : إن عجائب القرآن أطرن نومي ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في أخرى قال أحمد أبي الحواري : إني لأقرا القرآن و أنظر في آيه فيحير عقلي بها و أعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم و يسعهم أن يشغلوا بشيء من الدنيا و هم يتلون كلام الله و أما إنهم لو فهموا ما يتلون و عرفوا حقه و تلذذوا به و استحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا أنشد ذو النون المصري :
( منع القرآن بوعده و وعيده ... مقل العيون بليلها لا تهجع )
( فهموا عن الملك العظيم كلامه ... فهما تذل له الرقاب و تخضع )
فأما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فإنه ينتصب القرآن خصما له يطالبه بحقوقه التي ضيعها و خرج الإمام أحمد [ من حديث سمرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في منامه رجلا مستلقيا على قفاه و رجل قائم بيده فهر أو صخرة فيشدخ به رأسه فيتدهده الحجر فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان فيصنع به مثل ذلك فسأل عنه ؟ فقيل له : هذا رجل آتاه الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل به بالنهار فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة ] و قد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ و في [ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم : يمثل القرآن يوم القيامة رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له خصما فيقول : يا رب حملته إياي فبئس حامل تعدى حدودي و ضيع فرائضي و ركب معصيتي و ترك طاعتي فما يزال يقذف عليه الحجج حتى يقال شأنك به فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار و يؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله و حفظ أمره فيتمثل خصما دونه فيقول : يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي و عمل بفرائضي و اجتنب معصيتي و اتبع طاعتي فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال : شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق و يعقد عليه تاج الملك و يسقيه كأس الخمر ] يا من ضيع عمره في غير الطاعة يا من فرط في شهره بل في دهره و أضاعه يا من بضاعته التسويف و التفريط و بئست البضاعة يا من جعل خصمه القرآن و شهر رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة
( ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... و الصور في يوم القيامة ينفخ )
رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و قائم حظه من قيامه السهر كل قيام لا ينهى عن الفحشاء و المنكر لا يزيده صاحبه إلا بعدا و كل صيام لا يصان عن قول الزور و العمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا و ردا يا قوم أين آثار الصيام أين أنوار القيام
( إن كنت تنوح يا حمام البان ... للبين فأين شاهد الأحزان )
( أجفانك للدموع أم أجفاني ... لا يقبل مدع بلا برهان )
هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن و في بقيته للعابدين مستمتع و هذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم و يسمع و هو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع و مع هذا فلا قلب يخشع و لا عين تدمع و لا صيام يصان عن الحرام فينفع و لا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع و تراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر و لا تسمع كم تتلى علينا آيات القرآن و قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة و كم يتوالى علينا شهر رمضان و حالنا فيه كحال أهل الشقوة لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة و لا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة و إذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة و إذا صاموا صامت منه الألسنة و الأسماع و الأبصار أفما لنا فيهم أسوة ؟ كما بيننا و بين حال الصفا أبعد مما بيننا و بين الصفا و المروة كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و حسبنا الله
( يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... و أبصروا الحق و قلبي قد عمي )
( يا حسنهم و الليل قد جنهم ... و نورهم يفوق نور الأنجم )
( ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب بالترنم )
( قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم )
( أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... و خلع الغفران خير القسم )
( ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي )
( مضى الزمان في ثوان و هوى ... فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي )
المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان و ذكر نصف الشهر الأخير
في الصحيحين [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى و عشرين و هي التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر و قد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها و قد رأيتني أسجد في ماء و طين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر و التمسوها في كل وتر فمطرت السماء تلك الليلة و كان المسجد على عريش فوكف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه و سلم على جبهته أثر الماء و الطين من صبح إحدى و عشرين ]
هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان لابتغاء ليلة القدر فيه و هذا السياق يقتضي أن ذلك تكرر منه و في رواية في الصحيحين في هذا الحديث : أنه اعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم قال : [ إني أتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ] فاعتكف الناس معه و هذا يدل على أن ذلك كان منه قبل أن يتبين له أنها في العشر الأواخر ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله عز و جل كما رواه عنه عائشة و أبو هريرة و غيرهما و روي أن عمر جمع جماعة من الصحابة فسألهم عن ليلة القدر فقال بعضهم : كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر و سيأتي الحديث بتمامه في موضع آخر إن شاء الله و خرج ابن أبي عاصم في كتاب الصيام و غيره من [ حديث خالد بن محدوج عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في أول ليلة أو في تسع أو في أربع عشرة ] و خالد هذا فيه ضعف و هذا يدل على : أنها تطلب في ليلتين من العشر الأول و في ليلة من العشر الأوسط و هي أربع عشرة و قد سبق من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا : [ أن الإنجيل أنزل لثلاث عشرة من رمضان ] و قد ورد الأمر بطلب ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان و في أفراد ما بقي من العشر الأوسط من هذا النصف و هما ليلتان ليلة سبع عشرة و ليلة تسع عشرة
أما الأول : فخرجه الطبراني [ من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر فقال : رأيتها و نسيتها فتحرها في النصف الأواخر ثم عاد فسأله فقال : التمسها في ليلة ثلاث و عشرين تمضي من الشهر ] و لهذا المعنى و الله أعلم كان أبي بن كعب يقنت في الوتر في ليالي النصف الأواخر لأنه يرجى فيه ليلة القدر و أيضا فكل زمان فاضل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله كيوم عرفة و يوم الجمعة و كذلك الليل و النهار عموما آخره أفضل من أوله و لذلك كانت الصلاة الوسطى صلاة العصر كما دلت الأحاديث الصحيحة عليه و آثار السلف الكثيرة تدل عليه و كذلك عشر ذي الحجة و المحرم آخرهما أفضل من أولهما
و أما الثاني : ففي سنن أبي داود [ عن ابن مسعود مرفوعا : اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان و ليلة إحدى و عشرين و ليلة ثلاث و عشرين ثم سكت ]
و في رواية ليلة تسع عشرة و قيل : إن الصحيح وقفه على ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : [ تحروا ليلة القدر ليلة سبع عشرة صباحية بدرا و إحدى عشرين ] و في رواية عنه قال : [ ليلة سبع عشرة فإن لم يكن ففي تسع عشرة ] و خرج الطبراني من رواية أبي المهزم و هو ضعيف [ عن أبي هريرة مرفوعا قال : التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين أو خمس و عشرين أو سبع و عشرين أو تسع و عشرين ] ففي الحديث التماسها في إفراد النصف الثاني كلها و يروى من [ حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا كان ليلة تسع عشرة من رمضان شد المئزر و هجر الفراش حتى يفطر ] قال البخاري تفرد به عمر بن مسكين و لا يتابع عليه و قد روي عن طائفة من الصحابة أنها تطلب ليلة سبع عشرة و قالوا : إن صبيحتها كان يوم بدر روي عن علي و ابن مسعود و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت و عمرو بن حريث و منهم من روي عنه أنها ليلة تسع عشرة روي عن علي و ابن مسعود و زيد بن أرقم و المشهور عند أهل السير و المغازي : أن ليلة بدر كانت ليلة سبع عشرة و كانت ليلة جمعة و روي ذلك عن علي و ابن عباس و غيرهما و عن ابن عباس رواية ضعيفة أنها كانت ليلة الإثنين و كان زيد بن ثابت لا يحيى ليلة من رمضان كما يحيى ليلة سبع عشرة و يقول : إن الله فرق في صبيحتها بين الحق و الباطل و أذل في صبيحتها أئمة الكفر و حكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة : أن ليلة القدر تطلب ليلة سبع عشرة قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته : أنت طالق ليلة القدر قال : يعتزلها إذا أدخل العشر و قيل العشر أهل المدينة يرونها في السبع عشرة إلا أن المثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في العشر الأواخر
و حكي عن عامر بن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل ليلة سبع عشرة و عن أهل مكة أنهم كانوا لا ينامون فيها و يعتمرون و حكي عن أبي يوسف و محمد صاحبي أبي حنيفة أن ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان من غير تعيين لها بليلة و إن كانت في نفس الأمر عند الله معينة و روي عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : ليلة القدر ليلة سبع عشرة ليلة جمعة خرجه ابن أبي شيبة و ظاهره : أنها إنما تكون ليلة القدر إذا كانت ليلة جمعة لتوافق ليلة بدر و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد جيد عن الحسن قال : إن غلاما لعثمان بن أبي العاص قال له يا سيدي إن البحر يعذب في الشهر في ليلة القدر قال : فإذا كانت تلك الليلة فأعلمني قال : فلما كانت تلك الليلة أذنه فنظروا فوجدوه عذبا فإذا هي ليلة سبع عشرة و روي من [ حديث جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان أي يوم كان ] خرجه أبو موسى المديني
و قد قيل : إن المعراج كان فيها أيضا ذكر ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه أن المعراج كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان قبل الهجرة إلى السماء و أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة إلى بيت المقدس و هذا على قول من فرق بين المعراج و الإسراء فجعل المعراج إلى السماء كما ذكر في سورة النجم و الإسراء إلى بيت المقدس خاصة كما ذكر في سورة سبحان و قد قيل : إن ابتداء نبوة النبي صلى الله عليه و سلم كان في سابع عشر رمضان قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة السبت و ليلة الأحد ثم ظهر له بحراء برسالة الله عز و جل يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان و أصح ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنها ليلة بدر كما سبق أنها كانت ليلة سبع عشرة و قيل تسع عشر و المشهور أنها كانت ليلة سبع عشرة كما تقدم و صبيحتها هو يوم الفرقان لأن الله تعالى فرق فيه بين الحق و الباطل و أظهر الحق و أهله على الباطل و حزبه و علت كلمة الله و توحيده و ذل أعداؤه من المشركين و أهل الكتاب و كان ذلك في السنة الثانية من الهجرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة في ربيع الأول في أول سنة من سني الهجرة و لم يفرض رمضان في ذلك العام ثم صام عاشوراء و فرض عليه رمضان في ثان سنة فهو أول رمضان صامه و صامه المسلمون معه ثم خرج النبي صلى الله عليه و سلم لطلب عير من قريش قدمت من الشام إلى المدينة في يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان و أفطر في خروجه إليها قال ابن المسيب قال عمر : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوتين في رمضان يوم بدر و يوم الفتح و أفطرنا فيهما
و كان سبب خروجه حاجة أصحابه خصوصا المهاجرين : { الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون } و كانت هذه العير معها أموال كثيرة لأعدائهم الكفار الذين أخرجوهم من ديارهم و أموالهم ظلما و عدوانا كما قال الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } الآية فقصد النبي صلى الله عليه و سلم أن يأخذ أموال هؤلاء الظالمين المعتدين على أولياء الله و حزبه و جنده فيردها على أولياء الله و حزبه المظلومين المخرجين من ديارهم و أموالهم ليتقوا بها على عبادة الله و طاعته و جهاد أعدائه و هذا مما أحله الله لهذه الأمة فإنه أحل لهم الغنائم و لم تحل لأحد قبلهم و كان عدة أصحاب بدر رضي الله عنهم ثلاثمائة و بضعة عشر و كانوا على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر و ما جاوزه معه إلا مؤمن و في سنن أبي داود من [ حديث عبد الله بن عمرو قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر في ثلاثمائة و خمسة عشر من المقاتلة كما خرج طالوت فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرجوا فقال : اللهم إنهم حفاة فاحملهم و إنهم عراة فاكسهم و إنهم جياع فأشبعهم ] ففتح الله يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا و ما فيهم رجل إلا و قد رجع بجمل أو جملين و اكتسوا و شبعوا و كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم حين خرجوا على غاية من قلة الظهر و الزاد فإنهم لم يخرجوا مستعدين لحرب و لا لقتال إنما خرجوا لطلب العير فكان معهم نحو سبعين بعيرا يعتقبونها بينهم كل ثلاثة على بعير و كان للنبي صلى الله عليه و سلم زميلان فكانوا يعتقبون على بعير واحد فكان زميلاه يقولان له اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك فيقول : [ ما أنتما بأقوى على المشي مني و قالا أنا بأغنى عن الأجر منكما ] و لم يكن معهما إلا فرسان و قيل ثلاثة و قيل : فرس واحد للمقداد و بلغ المشركين خروج النبي صلى الله عليه و سلم لطلب العير فأخذ أبو سفيان بالعير نحو الساحل و بعث إلى مكة يخبرهم الخبر و يطلب منهم أن ينفروا لحماية عيرهم فخرجوا مستصرخين و خرج أشرافهم و رؤساؤهم و ساروا نحو بدر و استشار النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين في القتال فتكلم المهاجرون فسكت عنهم و إنما كان قصده الأنصار لأنه ظن أنهم لم يبايعوه إلا على نصرته على من قصده في ديارهم فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد ـ يعني الأنصار ـ و الذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها و لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا و قال له المقداد : لا نقول لك كما قال بني إسرائيل لموسى : { اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } و لكن نقاتل عن يمينك و شمالك و بين يديك و من خلفك فسر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و أجمع على القتال و بات تلك الليلة ليلة الجمعة سابع عشر رمضان قائما يصلي و يبكي و يدعو الله و يستنصره على أعدائه و في المسند [ عن علي بن أبي طالب قال : لقد رأيتنا و ما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت شجرة يصلي و يبكي حتى أصبح ] و فيه [ عنه أيضا قال : أصابنا طش من مطر يعني ليلة بدر فانطلقنا تحت الشجر و الحجف نستظل بها من المطر و بات رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو ربه و يقول : إن تهلك هذه الفئة لا تعبد ] فلما طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر و الحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و حث على القتال و أمد الله تعالى نبيه و لمؤمنين بنصر من عنده و بجند من جنده كما قال تعالى : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * و ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و في صحيح البخاري [ : أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال : و كذلك من شهد بدرا من الملائكة ] و قال الله تعالى : { و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة } و قال : { فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى }
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما رآهم قال : [ اللهم إن هؤلاء قريش قد جاءت بخيلائها يكذبون رسولك فأنجز لي ما وعدتني فأتاه جبريل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فأخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى بها نحوهم و قال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه و منخره و فمه شيء ثم كانت الهزيمة ] و قال حكيم بن حزام : سمعنا يوم بدر صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة على طست فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الرمية فانهزمنا و لما قدم الخبر على أهل مكة قالوا لمن أتاهم بالخبر : كيف حال الناس قال : لا شيء و الله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلونا و يأسرونا كيف شاؤا و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا على خيل بلق بين السماء و الأرض ما يقوم لها شيء
و قتل الله صناديد كفار قريش يومئذ منهم عتبة بن ربيعة و شيبة و الوليد بن عتبة و أبو جهل و أسروا منهم سبعين و قصة بدر يطول استقصاؤها و هي مشهورة في التفسير و كتب الصحاح و السنن و المسانيد و المغازي و التواريخ و غيرها و إنما المقصود ههنا التنبيه على بعض مقاصدها و كان عدو الله إبليس قد جاء إلى المشركين في صورة سراقة بن مالك و كانت يده في يد الحارث بن هشام و جعل يشجعهم و يعدهم و يمنيهم فلما رأى الملائكة هرب و ألقى نفسه في البحر و قد أخبر الله عن ذلك بقوله تعالى : { و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب } و في الموطأ حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما رؤي الشيطان أحقر و لا أدحر و لا أصغر من يوم عرفة إلا ما رأى يوم بدر قيل : ما رأى يوم بدر ؟ قال : رأى جبريل يزع الملائكة ]
فإبليس عدو الله يسعى في إطفاء نور الله و توحيده و يغري بذلك أولياءه من الكفار و المنافقين فلما عجز عن ذلك بنصر الله نبيه و إظهار دينه على الدين كله رضي بإلقاء الفتن بين المسلمين و اجتزى منهم بمحقرات الذنوب حيث عجز عن ردهم عن دينهم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم ] خرجه مسلم من حديث جابر و خرج الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و ابن ماجه [ من حديث عمرو بن الأحوص قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول في حجة الوداع : ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا و لكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى بها ] و في صحيح الحاكم [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في حجة الوداع فقال : إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم و لكنه يرضى أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحاقرون من أعمالكم فيرضى بها فاحذروا يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم ] و لم يعظم على إبليس شيء أكبر من بعثة محمد صلى الله عليه و سلم و انتشار دعوته في مشارق الأرض و مغاربها فإنه أيس أن تعود أمته كلهم إلى الشرك الأكبر قال سعيد بن جبير : [ لما رأى إبليس النبي صلى الله عليه و سلم قائما بمكة يصلي رن و لما افتتح النبي صلى الله عليه و سلم مكة رن رنة أخرى اجتمعت إليه ذريته فقال : آيسوا أن تردوا أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الشرك بعد يومكم هذا و لكن افتنوهم في دينهم و افشوا فيهم النوح و الشعر ] خرجه ابن أبي الدنيا و خرج الطبراني بإسناده عن مجاهد عن أبي هريرة قال : إن إبليس رن لما أنزلت فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة و المعروف هذا عن هذا عن مجاهد من قوله قال : رن إبليس أربع رنات حين لعن و حين أهبط من الجنة و حين بعث محمد و حين أنزلت فاتحة الكتاب و أنزلت بالمدينة خرجه وكيع و غيره و قال بعض التابعين لما أنزلت هذه الآية : { و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } الآية بكى إبليس يشير إلى شدة حزنه بنزولها لما فيها من الفرح لأهل الذنوب فهو لا يزال في هم و غم و حزن منذ بعث النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى منه و من أمته ما يهمه و يغيظه قال ثابت : لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم قال إبليس لشياطينه : لقد حدث أمر فانظروا ما هو فانطلقوا ثم جاؤوه فقالوا : ما ندري ؟ قال إبليس : أنا أنبئكم بالخبر فذهب و جاء بالخبر فذهب و جاء قال : قد بعث محمد صلى الله عليه و سلم فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيجيؤا بصحفهم ليس فيها شيء فقال : ما لكم لا تصيبون منهم شيئا ؟ قالوا : ما صحبنا قوما قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى الصلاة فيمحى ذلك قال : رويدا إنهم عسى أن يفتح الله لهم الدنيا هنالك تصيبون حاجتكم منهم : و عن الحسن قال : قال إبليس سولت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالإستغفار فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون منها ـ يعني الأهواء ـ و لا يزال إبليس يرى في مواسم المغفرة و العتق من النار ما يسؤه فيوم عرفة لا يرى أصغر و لا أحقر و لا أدحر فيه منه لما يرى من تنزل الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر و روي إنه لما رأى نزول المغفرة للأمة في حجة الوداع يوم النحر بالمزدلفة أهوى يحثي على رأسه التراب و يدعو بالويل و الثبور فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم مما رأى من جزع الخبيث و في شهر رمضان يلطف الله بأمة محمد فيغل فيه الشياطين و مردة الجن حتى لا يقدروا على ما كانوا يقدرون عليه في غيره من تسويل الذنوب و لهذا تقل المعاصي في شهر رمضان في الأمة لذلك ففي الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء و غلقت أبواب جهنم و سلسلت الشياطين ] و لمسلم : [ فتحت أبواب الرحمة ] و له أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة و أغلقت أبواب النار و صفدت الشياطين ] و خرج منه البخاري ذكر فتح أبواب الجنة و للترمذي و ابن ماجه [ عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب و ينادي مناد يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة ] و في رواية للنسائي : [ تغل فيه مردة الشياطين ] و للإمام أحمد [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطه أمة قبلهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا و يزين الله كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة و الأذى و يصيروا إليك و تصفد مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره يغفر لهم في آخر ليلة قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ]
و في ليلة القدر تنتشر الملائكة في الأرض فيبطل سلطان الشياطين كما قال الله تعالى : { تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر } و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ] و في صحيح ابن حبان [ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : في ليلة القدر لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها ]
و في المسند [ من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : في ليلة القدر لا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح و إن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ ] و روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر و ذلك أنها تطلع لا شعاع لها و قال مجاهد في قوله تعالى : { سلام هي حتى مطلع الفجر } قال : سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان العمل فيها و عنه قال : ليلة القدر ليلة سالمة لا يحدث فيها داء و لا يرسل فيها شيطان و عنه قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا و لا يحدث فيها أذى و عن الضحاك عن ابن عباس قال : في تلك الليلة تصفد مردة الجن و تغل عفاريت الجن و تفتح فيها أبواب السماء كلها و يقبل الله فيها التوبة لكل تائب فلذلك قال : { سلام هي حتى مطلع الفجر } و يروى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : لا يستطيع الشيطان أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد و لا ينفذ فيها سحر ساحر و يروى بإسناد ضعيف [ عن أنس مرفوعا أنه لا تسري نجومها و لا تنبح كلابها ] و كل هذا يدل على كف الشياطين فيها عن انتشارهم في الأرض و منعهم من استراق السمع فيها من السماء
ابن آدم لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي أنت المختار من المخلوقات و لك أعدت الجنة إن اتقيت فهي إقطاع المتقين و الدنيا إقطاع إبليس فهو فيها من المنظرين فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن إقطاعك و مزاحمة إبليس على إقطاعه و أن تكون غدا معه في النار من جملة أتباعه إنما طردناه عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك و طلبنا قربك لتكون من خاصتنا و حزبنا فعاديتنا و واليت عدونا : { أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا }
( رعى الله من نهوى و إن كان ما رعى ... حفظنا له العهد القديم فضيعا )
( و صاحبت قوما كنت أنهاك عنهم ... و حقك ما أبقيت للصلح موضعا )
أبشروا يا معاشر المسلمين فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت و نسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت و أبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقة و أقدام إبليس و ذريته من أجلكم موثقة ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس بالثأر و تستخلص العصاة من أسره فما يبقى لهم عنده آثار كانوا فراخه قد غذاهم بالشهوات في أوكاره فهجروا اليوم تلك الأوكار نقضوا معاقل حصونه بمعاول التوبة و الإستغفار خرجوا من سجنه إلى حصن التقوى و الإيمان فأمنوا من عذاب النار قصموا ظهره بكلمة التوحيد فهو يشكو ألم الإنكسار في كل موسم من مواسم الفضل يحزن ففي هذا الشهر يدعو بالويل لما يرى تنزل الرحمة و مغفرة الأوزار غلب حزب الرحمن حزب الشياطين فما بقي له سلطان إلا على الكفار عزل سلطان الهوى و صارت الدولة لسلطان التقوى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار }
( يا نداماى صحا القلب صحا ... فاطردوا عني الصبا و المرحا )
( هزم العقل جنودا للهوى ... فاسدي لا تعجبوا أن صلحا )
( زجر الحق فؤادي فارعوى ... و أفاق القلب مني و صحا )
( بادروا التوبة من قبل الردى ... فمناديه ينادينا الوحا )
عباد الله شهر رمضان قد انتصف فمن منكم حاسب نفسه فيه لله و انتصف من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفا من فوقها غرفا ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل فكأنكم به و قد انصرف فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف و أما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف
( تنصف الشهر و الهفاه و انهدما ... و اختص بالفوز بالجنات من خدما )
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرم )
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما )
( طوبى لمن كانت التقوى بضاعته ... في شهره و بحبل الله معتصما )
المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان
في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله ] هذا لفظ البخاري و لفظ مسلم : [ أحيا الليل و أيقظ أهله و شد المئزر ] و في رواية لمسلم عنها قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره ] كان النبي صلى الله عليه و سلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر فمنها :
إحياء الليل : فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله و قد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ : [ و أحيا الليل كله ] و في المسند من وجه آخر عنها قالت : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يخلط العشرين بصلاة و نوم فإذا كان العشر ـ يعني الأخير ـ شمر و شد المئزر ] و خرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا شهد رمضان قام و نام فإذا كان أربعا و عشرين لم يذق غمضا و يحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه و قد روي عن بعض المتقدمين من بني هاشم ظنه الراوي أبا جعفر بن علي أنه فسر ذلك بإحياء نصف الليل و قال : من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل ] و قد سبق مثل هذا في قول عائشة رضي الله عنها : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ] و يؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : ما أعلمه صلى الله عليه و سلم قام ليلة حتى الصباح و ذكر بعض الشافعية في إحياء ليلتي العيدين أنه تحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل قال : و قيل : تحصل بساعة و قد نقل الشافعي في الأم عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده و نقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أن إحياءها يحصل بأن يصلي العشاء في جماعة و يعزم على أن يصلي الصبح في جماعة و قال مالك في الموطأ بلغني أن ابن المسيب قال : من شهد ليلة القدر ـ يعني في جماعة ـ فقد أخذ بحظه منها و كذا قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء و الصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها و قد روي هذا [ من حديث أبي هريرة مرفوعا : من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر ] خرجه أبو الشيخ الأصبهاني و من طريقه أبو موسى المديني و ذكر أنه روي من وجه آخر عن أبي هريرة نحوه و يروى من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا لكن إسناده ضعيف جدا و يروى [ من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلا : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أتى عليه رمضان صحيحا مسلما صام نهاره و صلى وردا من ليله و غض بصره و حفظ فرجه و لسانه و يده و حافظ على صلاته في الجماعة و بكر إلى جمعة فقد صام الشهر و استكمل الأجر و أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب عز و جل ] قال أبو جعفر : جائزة لا تشبه جوائز الأمراء خرجه ابن أبي الدنيا
و لو نذر قيام ليلة القدر لزمه أن يقوم من ليالي شهر رمضان ما يتيقن به قيامها فمن قال من العلماء : إنها في جميع الشهر يقول : يلزمه قيام جميع ليالي الشهر و من قال : هي في النصف الآخر من الشهر قال : يلزمه قيام ليالي النصف الأخير منه و من قال : هي في العشر الأواخر من الشهر قال : يلزمه قيام ليالي العشر كلها و هو قول أصحابنا و إن كان نذره كذلك و قد مضى بعض ليالي العشر فإن قلنا : إنها لا تنتقل في العشر أجزأه في نذره أن يقوم ما بقي من ليالي العشر و يقوم من عام قابل من أول العشر إلى وقت نذره و إن قلنا إنها تنتقل في العشر لم يخرج من نذره بدون قيام ليالي العشر كلها بعد عام نذره و لو نذر قيام ليلة غير معينة لزمه قيام ليلة تامة فإن قام نصف ليلة ثم نام أجزأه أن يقوم من ليلة أخرى نصفها قاله الأوزعي نقله عنه الوليد بن مسلم في كتاب النذور و هو شبيه بقول من قال من أصحابنا و غيرهم : أن الكفارة يجزىء فيها أن يعتق نصفي رقبتين
و منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي و في حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قام بهم ليلة ثلاث و عشرين و خمس و عشرين ذكر أنه دعا أهله و نساءه ليلة سبع و عشرين خاصة و هذا يدل على انه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر و خرج الطبراني [ من حديث علي : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان و كل صغير و كبير يطيق الصلاة ] قال سفيان الثوري : أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل و يجتهد فيه و ينهض أهله و ولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه كان يطرق فاطمة و عليا ليلا فيقول لهما ألا تقومان فتصليان و كان يوقظ عائشة بالليل ] إذا قضى تهجده و أراد أن يوتر و ورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة و نضح الماء في وجهه و في الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم : الصلاة الصلاة و يتلو هذه الآية : { و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها } الآية كانت امرأة حبيب أبي محمد تقول له بالليل : قد ذهب الليل و بين أيدينا طريق بعيد و زاد قليل و قوافل الصالحين قد سارت قدامنا و نحن قد بقينا
( يا نائم الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد )
( و خذ من الليل و أوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد )
( من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد )
( قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد )
و منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يشد المئزر و اختلفوا في تفسيره فمنهم من قال : هو كناية عن شدة جده و اجتهاده في العبادة كما يقال فلان يشد وسطه و يسعى في كذا و هذا فيه نظر فإنها قالت : جد و شد المئزر فعطفت شد المئزر على جده و الصحيح : أن المراد : اعتزاله النساء و بذلك فسره السلف و الأئمة المتقدمون منهم : سفيان الثوري و قد ورد ذلك صريحا من حديث عائشة و أنس و ورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان و في حديث أنس و طوى فراشه و اعتزل النساء و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم غالبا يعتكف العشر الأواخر و المعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص و الإجماع و قد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى : { فالآن باشروهن و ابتغوا ما كتب الله لكم } إنه طلب ليلة القدر و المعنى في ذلك : أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالإستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر فمن ههنا كان النبي صلى الله عليه و سلم يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه و يتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر و منها تأخيره للفطور إلى السحور و روي عنه من حديث [ عائشة و أنس أنه صلى الله عليه و سلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا ] و لفظ حديث عائشة : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان رمضان قام و نام فإذا دخل العشر شد المئزر و اجتنب النساء و اغتسل بين الأذانين و جعل العشاء سحورا ] أخرجه ابن أبي عاصم و إسناده مقارب و حديث أنس خرجه الطبراني و لفظه : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه و اعتزل النساء و جعل عشاءه سحورا ] و في إسناده حفص بن واقد قال ابن عدي : هذا الحديث من أنكر ما رأيت له و روي أيضا نحوه من حديث جابر خرجه أبو بكر الخطيب و في إسناده من لا يعرف حاله و في الصحيحين ما يشهد لهذه الروايات ففيهما [ عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوصال في الصوم ] فقال له رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله ؟ فقال : و أيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني فلما أبو أن ينتهو عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : [ لو تأخر لزدتكم ] كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهو فهذا يدل على أنه واصل بالناس في آخر الشهر و روى [ عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال : ما واصل النبي صلى الله عليه و سلم وصالكم قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحور ] و إسناده لا بأس به و خرج الإمام أحمد من [ حديث علي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يواصل إلى السحر ] و خرجه الطبراني من حديث جابر أيضا و خرج ابن جرير الطبري من [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يواصل إلى السحر ففعل ذلك بعض أصحابه فنهاه فقال : أنت تفعل ذلك ؟ فقال : إنكم لستم مثلي إني أظل عند ربي يطعمني و يسقيني ] و زعم ابن جرير : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة و إن ذلك يجوز لمن قوي عليه و يكره لغيره و أنكر أن يكون استدامة الصيام في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء و قال : إنما كان يمسك بعضهم لمعنى آخر غير الصيام إما ليكون أنشط له على العبادة أو إيثارا بطعامه على نفسه أو لخوف مقلق منعه طعامه أو نحو ذلك فمقتضى كلامه : أن من واصل و لم يفطر ليكون أنشط له على العبادة من غيره أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز و إن أمسك تعبدا بالمواصلة فإن كان إلى السحر و قوي عليه لم يكره و إلا كره و لذلك قال أحمد و إسحاق لا يكره الوصال إلى السحر و في صحيح البخاري [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال : إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني و ساق يسقيني ] و ظاهر هذا يدل على أنه صلى الله عليه و سلم كان يواصل الليل كله و قد يكون صلى الله عليه و سلم إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر و لم يكن ذلك مضعفا له عن العمل فإن الله كان يطعمه و يسقيه
و اختلف في معنى إطعامه فقيل : إنه كان يؤتى بطعام من الجنة يأكله و في هذا نظر فإنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا و قد أقرهم على قولهم له إنك تواصل لكن روى عبد الرزاق في كتابه [ عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الوصال قالوا : فإنك تواصل ؟ قال : و ما يدريكم لعل ربي يطعمني و يسقيني ] و هذا مرسل و في رواية لمسلم [ من حديث أنس : إني أظل يطعمني ربي و يسقيني ] و إنما يقال : ظل يفعل كذا إذا كان نهارا و لو كان أكلا حقيقيا لكان منافيا للصيام و الصحيح : أنه إشارة إلى ما كان الله يفتحه عليه في صيامه و خلوته بربه لمناجاته و ذكره من مواد أنسه و نفحات قدسه فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية و المنح الربانية ما يغذيه و يغنيه عن الطعام و الشراب كما قيل :
( لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الطعام و تلهيها عن الزاد )
( لها بوجهك نور تستضيء به ... وقت المسير في أعقابها حادي )
( إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد )
الذكر قوت قلوب العارفين يغنيهم عن الطعام و الشراب كما قيل :
( أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء ... و قوتي إذا أردت الطعاما )
لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة فأف لمن باع لذة المناجاة بفضل لقمة
( يا من لحشا المحب بالشوق حشا ... ذا سر سراك في الدجا كيف فشا )
( هذا المولى إلى المماليك مشى ... لا كان عيشا أورث القلب غشا )
و يتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر قال ذر بن حبيش : في ليلة سبع و عشرين من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل و ليفطر على ضياح لبن : و رواه بعضهم عن أبي بن كعب مرفوعا و لا يصح و ضياح اللبن : و روي : ضيح ـ الضاد المعجمة و الياء آخر الحروف ـ هو اللبن الخاثر الممزوج بالماء و روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن علي قال : إن وافق ليلة القدر و هو يأكل أورثه داء لا يفارقه حتى يموت و خرجه من طريقه أبو موسى المديني و كأنه يريد إذا وافق دخولها أكله و الله أعلم
و منها : اغتساله بين العشاءين : و قد تقدم من حديث عائشة و اغتسل بين الأذانين و المراد أذان المغرب و العشاء و روي من [ حديث علي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر ] و في إسناده ضعف و روي [ عن حذيفة أنه قام مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة من رمضان فاغتسل النبي صلى الله عليه و سلم و ستره حذيفة و بقيت فضلة فاغتسل بها حذيفة و ستره النبي صلى الله عليه و سلم ] خرجه ابن أبي عاصم و في رواية أخرى [ عن حذيفة قال : نام النبي صلى الله عليه و سلم ذات ليلة من رمضان في حجرة من جريد النخل فصب عليه دلو من ماء ] و قال ابن جرير : كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر و كان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة و منهم من كان يغتسل و يتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع و عشرين من رمضان و روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنه إذا كان ليلة أربع و عشرين اغتسل و تطيب و لبس حلة إزار أو رداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل و كان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث و عشرين و أربع و عشرين و يلبس ثوبين جديدين و يستجمر و يقول : ليلة ثلاث و عشرين هي ليلة أهل المدينة و التي تليها ليلتنا يعني البصريين و قال حماد بن سلمة : كان ثابت البناني و حميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما و يتطيبان و يطيبون المسجد بالنضوح و الدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر و قال ثابت : كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم و كان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف و التزين و التطيب بالغسل و الطيب و اللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع و الأعياد و كذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات كما قال تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } و قال ابن عمر : الله أحق أن يتزين له و روي عنه مرفوعا : [ و لا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن ] بالتوبة و الإنابة إلى الله تعالى و تطهيره من أدناس الذنوب و أوضارها فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا قال الله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم و ريشا و لباس التقوى ذلك خير }
( إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانا و إن كان كاسيا )
لا يصلح لمناجاة الملك في الخلوات إلا من زين ظاهره و باطنه و طهرهما خصوصا لملك الملوك الذي يعلم السر و أخفى و هو لا ينظر إلى صوركم و إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس و باطنه بلباس التقوى أنشد الشبلي :
( قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حبه جوعا )
( فقر و صبرهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزاور فبالثوب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي مرأى و مستمتعا )
و منها : الإعتكاف : ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ] و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين ] و إنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه و سلم في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعا لإشغاله و تفريغا للياليه و تخليا لمناجاة ربه و ذكره و دعائه و كان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم و لا يشتغل بهم و لهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى و لا لتعلم علم و إقراء قرآن بل الأفضل له الإنفراد بنفسه و التخلي بمناجاة ربه و ذكره و دعائه و هذا الإعتكاف هو الخلوة الشرعية و إنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع و الجماعات فإن الخلوة القاطعة عن الجمع و الجماعات منهي عنها سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار و يقوم الليل و لا يشهد الجمعة و الجماعة قال : هو في النار فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الإعتكاف في المساجد خصوصا في شهر رمضان خصوصا في العشر الأواخر منه كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله و ذكره و قطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه و عكف بقلبه و قالبه على ربه و ما يقربه منه فما بقي له هم سوى الله و ما يرضيه عنه كما كان داود الطائي يقول في ليله : همك عطل على الهموم و حالف بيني و بين السهاد و شوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات و حال بيني و بين الشهوات
( مالي شغل سواه مالي شغل ... ما يصرف عن قلبي هواه عذل )
( ما أصنع أجفان و خاب الأمل ... مني بدل و منه مالي بدل )
فمعنى الإعتكاف و حقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للإتصال بخدمة الخالق و كلما قويت المعرفة بالله و المحبة له و الأنس به أورثت صاحبها الإنقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته خاليا بربه فقيل له : أما تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش و هو يقول : أنا جليس من ذكرني
( أوحشتني خلواتي ... بك من كل أنيسي )
( و تفردت فعاينـ ... تك بالغيب جليسي )
يا ليلة القدر للعابدين اشهدي يا أقدم القانتين اركعي لربك و اسجدي يا ألسنة السائلين جدي في المسألة و اجتهدي
( يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يرد )
( ما يقوم الليل إلا ... من له عزم و جد )
ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم و قربه و إنما يفرون من ليالي البعد و الهجر كان ببغداد موضعان يقال لأحدهما : دار الملك و الأخرى : القطيعة فجاز بعض العارفين بملاح في سفينة فقال له : احملني معك إلى دار الملك فقال له : الملاح ما أقصد إلا القطيعة فصاح العارف لا بالله لا بالله منها أفر :
( و ليلة بت بأكفانها ... تعدل عندي ليلة القدر )
( كانت سلاما لسروري بها ... بالوصل حتى مطلع الفجر )
يا من ضاع عمره لا شيء استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر
( و ليلة وصل بات منجز وعده ... سميري فيها بعد طول مطال )
( شفيت بها قلبا أطيل غليله ... زمانا فكانت ليلة بليالي )
قال الله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر * و ما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر } و اختلف في ليلة القدر و الحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة : إن الملوك و السادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينون دارهم بالفرش و البسط و يزينوا عبيدهم بالثياب و الأسلحة فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك و تعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم و الصلاة في ليالي رمضان و مساجدهم بالقناديل و المصابيح فيقول الرب تعالى : أنتم طعنتم في بني آدم و قلتم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية فقلت لكم : { إني أعلم ما لا تعلمون } اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين قال مالك : بلغني : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر ] و روي عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله هذه السورة { ليلة القدر خير من ألف شهر } الذي لبس فيها ذلك الرجل في سبيل الله ألف شهر و قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر و في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و في المسند [ عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ]
و في المسند و النسائي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في شهر رمضان : فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم ] قال جويبر : قلت للضحاك : أرأيت النفساء و الحائض و المسافر و النائم لهم في ليلة القدر نصيب ؟ قال : نعم كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر إخواني المعول على القبول لا على الاجتهاد و الاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان رب قائم حظه من قيامه السهر كم من قائم محروم و كم من نائم مرحوم نام و قلبه ذاكر و هذا قام و قلبه فاجر
( إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت النائم بالقائم )
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات و الاجتهاد في الأعمال الصالحات و كل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة و أما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة : { فأما من أعطى و اتقى * و صدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * و أما من بخل و استغنى * و كذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى } فالمبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر
( تولى العمر في سهو و في لهو و في خسر ... فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري )
( و مالي في الذي ضيعت من عمري من عذر ... فما أغفلنا من واجبات الحمد و الشكر )
( أما قد خصنا الله بشهر أيما شهر ... بشهر أنزل الرحمن فيه أشرف الذكر )
( و هل يشبه شهر و فيه ليلة القدر ... فكم من خبر صح بما فيها من الخير )
( روينا عن ثقات أنها تطلب في الوتر ... فطوبى لامرىء يطلبها في هذه العشر )
( ففيها تنزل الأملاك بالأنوار و البر ... قد قال { سلام هي حتى مطلع الفجر } )
( ألا فادخرها إنها من أنفس الذخر ... فكم من معلق فيها من النار و لا يدري )
المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان
في الصحيحين [ عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ]
و في صحيح مسلم [ عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي ] قد ذكرنا فيما تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجتهد في شهر رمضان على طلب ليلة القدر و أنه اعتكف مرة العشر الأوائل منه ثم طلبها فاعتكف بعد ذلك العشر الأوسط في طلبها و إن ذلك تكرر منه غيرة مرة ثم استقر أمره على اعتكاف العشر الأواخر في طلبها و أمر بطلبها فيه ففي الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ] و في رواية للبخاري : [ في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ]
و له من [ حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر الأواخر الغوابر من رمضان ] و لمسلم من [ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوها في العشر الغوابر ]
و الأحاديث في المعنى كثيرة و كان يأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر ففي صحيح البخاري [ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى ] و في رواية له : [ هي في العشر في سبع تمضين أو سبع يبقين ] و خرج الإمام أحمد و النسائي و الترمذي من [ حديث أبي بكرة قال : ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول : التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة ] و كان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد ثم بعد ذلك أمر بطلبها في السبع الأواخر و في المسند و كتاب النسائي [ عن أبي ذر قال : كنت أسأل الناس عنها يعني ليلة القدر فقلت : يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر ؟ أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال : بلى هي في رمضان قلت : تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : بل هي إلى يوم القيامة قلت في أي رمضان هي ؟ قال التمسوها في العشر الأول و العشر الأواخر قلت : فبأي العشرين هي ؟ قال : في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها ثم حدث رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم اهتبلت غفلته فقلت : يا رسول الله أقسمت بحقي لما أخبرتني في أي العشر هي ؟ فغضب علي غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته ؟ و قال : التمسوها في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و الحاكم و في رواية لهما : أنه قال : [ ألم أنهك أن تسألني عنها إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم لا آمن أن تكون في السبع الأواخر ]
ففي هذه الرواية أن بيان النبي صلى الله عليه و سلم لليلة القدر انتهى إلى أنها في السبع الأواخر و لم يزد على ذلك شيئا و هذا مما يستدل به من رجح ليلة ثلاث و عشرين و خمس و عشرين على ليلة إحدى و عشرين فإن ليلة إحدى و عشرين ليست من السبع الأواخر بلا تردد و قد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه أخر : [ أنه بين أنها ليلة سبع و عشرين ] كما سيأتي إن شاء الله تعالى و اختلف في أول السبع الأواخر فمنهم من قال أول السبع ليلة ثلاث و عشرين على حساب نقصان الشهر دون تمامه لأنها المتيقن و روي هذا ابن عباس و سيأتي كلامه فيما بعد إن شاء الله تعالى و في صحيح البخاري عن بلال قال : إنها أول السبع من العشر الأواخر و خرجه ابن أبي شيبة و عنده قال : ليلة ثلاث و عشرين و هذا قول مالك قال : أرى و الله أعلم أن التاسعة ليلة إحدى و عشرين و السابعة ليلة ثلاث و عشرين و الخامسة ليلة خمس و عشرين و تأوله عبد الملك بن حبيب على أنه إنما يحسب كذلك إذا كان الشهر ناقصا و ليس هذا بشيء فإنه أمر بالإجتهاد في هذه الليالي على هذا الحساب و هذا لا يمكن أن يكون مراعى بنقصان الشهر في آخره و كان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث و عشرين و يمس طيبا و ليلة أربع و عشرين و يقول : ليلة ثلاث و عشرين ليلة أهل المدينة و ليلة أربع و عشرين ليلتنا يعني أهل البصرة و كذلك كان ثابت و حميد يفعلان و كانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين روي عن أنس و الحسن و روي عنه قال : رقبت الشمس عشرين سنة ليلة أربع و عشرين فكانت تطلع لا شعاع لها و روي عن ابن عباس ذكره البخاري عنه و قيل : إن المحفوظ عنه أنها ليلة ثلاث و عشرين كما سبق و قد تقدم حديث إنزال القرآن في ليلة أربع و عشرين و كذلك أبو سعيد الخدري و أبو ذر حسبا الشهر تاما فيكون عندهما أول السبع الأواخر ليلة أربع و عشرين و ممن اختار هذا القول ابن عبد البر و استدل بأن الأصل تمام الشهر و لهذا أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإكماله إذا غم مع احتمال نقصانه و كذلك رجحه بعض أصحابنا و قد تقدم [ من حديث أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا كان ليلة أربع و عشرين لم يذق غمضا ] و إسناده ضعيف و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ما يدل على أن أول السبع البواقي ليلة ثلاث و عشرين ففي مسند الإمام أحمد [ عن جابر أن عبد الله بن أنيس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر و قد خلت اثنان و عشرون ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : التمسوها في السبع الأواخر التي بقين من الشهر ] و فيه أيضا [ عن عبد الله بن أنيس أنهم سألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن ليلة القدر و ذلك مساء ليلة ثلاث و عشرين فقال : التمسوها هذه الليلة فقال رجل من القوم : فهي إذن يا رسول الله أولى ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها ليست بأولى ثمان و لكنها أولى سبع أن الشهر لا يتم ] و فيه أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كم مضى من الشهر ؟ قلنا : مضت ثنتان و عشرون و بقي ثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا بل مضت ثنتان و عشرون و بقي سبع اطلبوها الليلة ] و قد يحمل هذا على شهر خاص اطلع النبي صلى الله عليه و سلم على نقصانه و هو بعيد و يدل على خلافه أنه روي في تمام [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الشهر هكذا و هكذا و هكذا ثم خنس إبهامه في الثالثة ] فهذا يدل على أنه تشريع عام و إنه حسب الشهر على تقدير نقصانه أبدا لأنه المتيقن كما ذهب إليه أيوب و مالك و غيرهما و على قولهما تكون ليلة سابعة تبقى ليلة ثلاث و عشرين و ليلة خامسة تبقى ليلة خمس و عشرين و ليلة تاسعة تبقى ليلة إحدى و عشرين و قد روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه أنكر أن تحسب ليلة القدر بما مضى من الشهر و أخبر أن الصحابة يحسبونها بما بقي منه و هذا الإحتمال إنما يكون في مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمسوها في التاسعة و السابعة و الخامسة ] و قد خرجه البخاري من حديث عبادة رضي الله عنه و مسلم من حديث أبي سعيد فإنه يحتمل أن يراد به التاسعة و السابعة و الخامسة بما يبقى و بما يمضي فأما حديث ابن عباس و أبي بكرة و ما في معناهما فإنها مقيدة بالباقي من الشهر فلا يحتمل أن يراد به الماضي و حينئذ يتوجه الإختلاف السابق في أنه هل يحسب على تقدير تمام الشهر أو نقصانه و حديث ابن عباس قد روي بالشك فيما مضى أو يبقى و قد خرجه البخاري بالوجهين و حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه و سلم بهم أفراد العشر الأواخر قد خرجه أبو داود الطيالسي بلفظ صريح : أنه قام بهم أشاع العشر الأواخر و حسبها أوتارا بالنسبة إلى ما يبقى من الشهر و قدره تاما و جعل الليلة التي قامها حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح ليلة ثمان و عشرين و هي الثالثة مما يبقى و قد قيل : إن ذلك من تصرف بعض الرواة بما فهمه من المعنى و الله أعلم و على قياس من حسب الليالي الباقية من الشهر على تقدير نقصان الشهر فينبغي أن يكون عنده أول العشر الأواخر ليلة العشرين لاحتمال أن يكون الشهر ناقصا فلا يتحقق كونها عشر ليال بدون إدخال ليلة العشرين فيها و قد يقال : بل العشر الأواخر عبارة عما بعد انقضاء العشرين الماضية من الشهر و سواء كانت تامة أو ناقصة فهي المعبر عنها بالعشر الأواخر و قيامها هم قيام العشر الأواخر و هذا كما يقال : صام عشر ذي الحجة و إنما صام منه تسعة أيام و لهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال : صام عشر ذي الحجة و قال : إنما يقال : صام التسع و من لم يكره و هم الجمهور فقد يقولون : الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه وهو ما عدا يوم النحر و يطلق على ذلك العشر لأنه أكثر العشر و الله أعلم
و قد اختلف الناس في ليلة القدر كثيرا فحكى عن بعضهم أنها رفعت و حديث أبي ذر يرد ذلك و روي عن محمد بن الحنفية أنها في كل سبع سنين مرة و في إسناده ضعف و عن بعضهم أنها في كل السنة حكي عن ابن مسعود و طائفة من الكوفيين و روي عن أبي حنيفة و قال الجمهور : هي في رمضان كل سنة ثم منهم من قال : هي في الشهر كله و حكي عن بعض المتقدمين : أنها أول ليلة منه و قالت طائفة : هي في النصف الثاني منه و قد حكي عن أبي يوسف و محمد و قد تقدم قول من قال : إنها ليلة بدر على اختلافهم هي ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة و قال الجمهور : هي منحصرة في العشر الأواخر و اختلفوا في أي ليالي العشر أرجى فحكي عن الحسن و مالك أنها تطلب في جميع ليال العشر أشفاعه و أوتاره و رجحه بعض أصحابنا و قال : لأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمسوها في تاسعة تبقى أو سابعة تبقى أو خامسة تبقى ] إن حملناه على تقدير كمال الشهر كانت أشفاعا و إن حملناه على ما بقي منه حقيقة كان الأمر موقوفا على كمال الشهر فلا يعلم قبله فإن كان تاما كانت الليالي المأمور بها بطلبها أشفاعا و إن كان ناقصا كانت أوتارا فيوجب ذلك الإجتهاد في القيام في كلا الليلتين الشفع منها و الوتر و قال الأكثرون : بل بعض لياليه أرجى من بعض و قالوا : الأوتار أرجى في الجملة ثم اختلفوا أي الأوتار أرجى : فمنهم من قال : ليلة إحدى و عشرين و هو المشهور عن الشافعي لحديث أبي سعيد الخدري و قد ذكرناه فيما سبق و حكي عنه أنها تطلب ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين قال في القديم : كأني رأيت و الله أعلم أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى و عشرين و ليلة ثلاث و عشرين و هي التي مات فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه و قد جاء في ليلة سبع عشرة و ليلة أربع و عشرين و ليلة سبع و عشرين انتهى و قد روي عن علي و ابن مسعود رضي الله عنهما : أنها تطلب ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين و حكى للشافعي قول آخر : أرجاها ليلة ثلاث و عشرين و هذا قول أهل المدينة و حكاه سفيان الثوري عن أهل مكة و المدينة و ممن روي عنه أنه كان يوقظ أهلها فيها ابن عباس و عائشة و هو قول مكحول و روى رشدين بن سعد عن زهرة بن معبد قال : أصابني احتلام في أرض العدو و أنا في البحر ليلة ثلاث و عشرين في رمضان فذهبت لأغتسل فسقطت في الماء فإذا الماء عذب فناديت أصحابي أعلمهم أني في ماء عذب قال ابن عبد البر : هذه الليلة تعرف بليلة الجهني بالمدينة يعني عبد الله بن أنيس و قد روي عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بقيامها و في صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في ليلة القدر : [ أريت أني أسجد صبيحتها في ماء و طين ] فانصرف النبي صلى الله عليه و سلم من صلاة الصبح يوم ثلاث و عشرين و على جبهته أثر الماء و الطين و قال سعيد بن المسيب : كان النبي صلى الله عليه و سلم في نفر من أصحابه فقال : [ ألا أخبركم بليلة القدر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله فسكت ساعة ثم قال : لقد قلت لكم ما قلت آنفا و أنا أعلمها ثم أنسيتها أرأيتم يوما كنا بموضع كذا و كذا ـ أي ليلة هي في غزوة غزاها ـ فقالوا : سرنا فقفلنا حتى استقام ملأ القوم على أنها ليلة ثلاث و عشرين ] خرجه عبد الرزاق في كتابه و رجحت طائفة ليلة أربع و عشرين و هم : الحسن و أهل البصرة و قد روي عن أنس و كان حميد و أيوب و ثابت يحتاطون فيجمعون بين الليلتين أعني ليلة ثلاث و أربع و رجحت طائفة ليلة سبع وعشرين و حكاه الثوري عن أهل الكوفة و قال نحن نقول هي ليلة سبع و عشرين لما جاءنا عن أبي بن كعب و ممن قال بهذا أبي بن كعب و كان يحلف عنه و لا يستثني وزر بن حبيش و عبده بن أبي لبابة و روي عن قنان بن عبد الله النهي قال : سألت زرا عن ليلة القدر ؟ فقال : كان عمر و حذيفة و أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين خرجه ابن أبي شيبة و هو قول أحمد و إسحاق و ذهب أبو قلابة إلى أنها تنتقل في ليالي العشر و روي عنه أنها تنتقل في أوتاره خاصة و ممن قال بانتقالها في ليال العشر : المزني و ابن خزيمة و حكاه ابن عبد البر عن مالك و الثوري و الشافعي و أحمد و أبي ثور و في صحة ذلك عنهم بعد و إنما قول أنها في العشر و تطلب في لياليه كله
و اختلفوا في أرجى لياليه كما سبق و استدل من رجح ليلة سبع و عشرين بأن أبي بن كعب كان يحلف على ذلك و يقول بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها خرجه مسلم و خرجه أيضا بلفظ آخر عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : و الله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقيامها هي ليلة سبع و عشرين و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر قال : عليك بالسابعة ] و إسناده على شرط البخاري و روى الإمام أحمد أيضا قال حدثنا يزيد بن هارون : أنبأنا شعبة [ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان منكم متحريها فليتحرها ليلة سبع و عشرين أو قال : تحروها ليلة سبع و عشرين ] يعني ليلة القدر و رواه شبابة و وهب بن جرير عن شعبة مثله ورواه أسود بن عامر عن شعبة مثله و زاد : [ في السبع البواقي ] قال شعبة : و أخبرني ثقة عن سفيان أنه إنما قال : في السبع البواقي يعني لم يقل : ليلة سبع و عشرين قال أحمد في رواية ابنه صالح الثقة هو يحيى بن سعيد قال شعبة : فلا أدري أيهما قال و رواه عمرو عن شعبة و قال في حديثه : [ ليلة سبع و عشرين ] أو قال : [ في السبع الأواخر ] بالشك فرجع الأمر إلى أن شعبة شك في لفظه و رواه [ حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمرو قال : كانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه و سلم إنها الليلة السابعة من العشر الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرى رؤياكم أنها قد تواطأت إنها ليلة السابعة في العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها ليلة السابعة من العشر الأواخر ] كذا رواه حنبل بن اسحاق عن عارم عن حماد و كذا خرجه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق عن عارم و رواه البخاري في صحيحه عن عارم إلا أنه لم يذكر لفظه ليلة السابعة بل قال : [ من كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر ] ورواه [ عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني رأيت في النوم ليلة القدر كأنها ليلة سابعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني أرى رؤياكم قد تواطأت إنها ليلة سابعة فمن كان متحريها منكم فليتحرها في ليلة سابعة ] قال معمر : فكان أيوب يغتسل في ليلة ثلاث و عشرين يشير إلى أنه حملها على سابعة تبقى و خرجه الثعلبي في تفسيره من طريق [ الحسن بن عبد الأعلى عن عبد الرزاق بهذا الإسناد و قال : في حديثه ليلة سابعة تبقى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث و عشرين فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث و عشرين ] و هذه الألفاظ غير محفوظة في الحديث و الله أعلم و في سنن أبي داود بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح [ عن معاوية عن النبي صلى الله عليه و سلم في ليلة القدر ليلة سبع و عشرين ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و صححه ابن عبد البر و له علة و هي وقفه على معاوية و هو أصح عند الإمام أحمد و الدارقطني و قد اختلف أيضا عليه في لفظه و في المسند [ عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : متى ليلة القدر ؟ فقال : من يذكر منكم ليلة الصهباوات ] قال عبد الله : أنا بأبي أنت و أمي و إن في يدي لتمرات أتسحر بهن مستترا بمؤخرة رحل من الفجر و ذلك حين طلع القمر و خرجه يعقوب بن شيبة في مسنده و زاد : و ذلك ليلة سبع و عشرين و قال : صالح الإسناد و الصهباوات : موضع بقرب خيبر و في المسند أيضا من وجه آخر [ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال : إن ليلة القدر في النصف من السبع الأواخر من رمضان ] و إذا حسبنا أول السبع الأواخر ليلة أربع و عشرين كانت ليلة سبع و عشرين نصف السبع لأن قبلها ثلاث ليال و بعدها ثلاث و مما يرجح أن ليلة القدر ليلة سبع و عشرين أنها من السبع الأواخر التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتماسها فيها بالإتفاق و في دخول الثالثة و العشرين في السبع اختلاف سبق ذكره و لا خلاف أنها آكد من الخامس و العشرين و مما يدل على ذلك أيضا حديث أبي ذر في قيام النبي صلى الله عليه و سلم بهم في أفراد السبع الأواخر و إنه قام بهم في الثالثة و العشرين إلى ثلث الليل و في الخامسة إلى نصف الليل و في السابعة إلى آخر الليل حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح و جمع أهله ليلتئذ و جمع الناس و هذا كله يدل على تأكدها على سائر أفراد السبع و العشر
و مما يدل على ذلك ما استشهد به ابن عباس رضي الله عنه بحضرة عمر رضي الله عنه و الصحابة معه و استحسنه عمر رضي الله عنه و قد روي من وجوه متعددة : فروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة و عاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس رضي الله عنهما دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر قال ابن عباس : فقلت لعمر رضي الله عنه : إني لأعلم أو إني لأظن أي ليلة هي ؟ قال عمر رضي الله عنه : و أي ليلة هي ؟ : قلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر رضي الله عنه : و من أين علمت ذلك ؟ قال : فقلت : إن الله خلق سبع سموات و سبع أرضين و سبعة أيام و إن الدهر يدور على سبع و خلق الله الإنسان في سبع و يأكل من سبع و يسجد على سبع و الطواف بالبيت سبع و رمي الجمار سبع لا يشاء ذكرها فقال عمر رضي الله عنه : لقد فطنت لأمر ما فطنا له و كان قتادة يزيد على ابن عباس في قوله : يأكل من سبع قال هو قول الله عز و جل : { فأنبتنا فيها حبا * و عنبا و قضبا * و زيتونا و نخلا * و حدائق غلبا * و فاكهة و أبا } و لكن في هذه الرواية : أنها في سبع تمضي أو تبقى بالترديد في ذلك و خرجه ابن شاهين من رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم الأحول حدثني لاحق بن حميد و عكرمة قالا : قال عمر رضي الله عنه : من يعلم ليلة القدر ؟ فذكر الحديث بنحوه و زاد : أن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هي في العشر سبع تمضي أو سبع تبقى ] فخالف في إسناده و جعله مرسلا و رفع آخره روى ابن عبد البر بإسناد صحيح من طريق سعيد بن جبير قال : كان ناس من المهاجرين وجدوا على عمر في ادنائه ابن عباس فجمعهم ثم سألهم عن ليلة القدر فأكثروا فيها فقال بعضهم : كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر فأكثروا فيها فقال بعضهم : ليلة إحدى و عشرون و قال بعضهم : ليلة ثلاث و عشرون و قال بعضهم : ليلة سبع و عشرين فقال عمر رضي الله عنه : يا ابن عباس تكلم فقال : الله أعلم قال عمر : قد نعلم أن الله يعلم و إنما نسألك عن علمك فقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله وتر يحب الوتر خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن و خلق الأرض سبعا و جعل عدة الأيام سبعا و رمي الجمار سبعا و خلق الإنسان من سبع و جعل رزقه من سبع فقال عمر : خلق الإنسان من سبع و جعل رزقه من سبع هذا أمر ما فهمته ؟ فقال : إن الله تعالى يقول : { و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } حتى بلغ آخر الآيات و قرأ : { أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * و عنبا و قضبا * و زيتونا و نخلا * و حدائق غلبا * و فاكهة و أبا * متاعا لكم و لأنعامكم } ثم قال : و الأب للدواب و خرجه ابن سعد في طبقاته عن اسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير فذكره بمعناه و زاد في آخره : قال : و أما ليلة القدر فما تراها إن شاء الله إلا ليلة ثلاث و عشرين يمضين أو سبع يبقين و الظاهر إن هذا سمعه سعيد بن جبير من ابن عباس فيكون متصلا وروى عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دعا عمر الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : في ليلة القدر ما قد علمتم التمسوها في العشر الأواخر وترا ففي أي الوتر ترونها ؟ فقال رجل برأيه : أنها تاسعة سابعة خامسة ثالثة ثم قال : يا ابن عباس تكلم فقلت : أقول برأي قال : عن رأيك أسألك ؟ فقلت : إني سمعت رسول الله أكثر من ذكر السبع و ذكر باقيه بمعنى ما تقدم و في آخره قال عمر رضي الله عنه : أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستوي شؤون رأسه خرجه الإسماعيلي في مسند عمر و الحاكم و قال : صحيح الإسناد و خرجه الثعلبي في تفسيره و زاد قال ابن عباس فما أراها إلا ليلة ثلاث و عشرين لسبع بقين و خرج علي بن المديني في كتاب العلل المرفوع منه و قال : هو صالح و ليس مما يحتج به و روى مسلم الملاي ـ و هو ضعيف ـ عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر قال له : أخبرني برأيك عن ليلة القدر فذكر معنى ما تقدم و فيه أن ابن عباس قال : لا أراها إلا في سبع يبقين من رمضان فقال عمر وافق رأي رأيك و روي بإسناد فيه ضعف عن محمد بن كعب عن ابن عباس : أن عمر رضي الله عنه جلس في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فتذاكروا ليلة القدر فذكر معنى ما تقدم و زاد فيه عن ابن عباس أنه قال : و أعطى من المثاني سبعا و نهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع و قسم الميراث في كتابه على سبع و نقع في السجود من أجسادنا على سبع و قال : فأراها في السبع الأواخر من رمضان و ليس في شيء من هذه الروايات أنها ليلة سبع و عشرين جزما بل في بعضها الترديد بين ثلاث و سبع و في بعضها : أنها ليلة ثلاث و عشرين لأنها أول السبع الأواخر على رأيه و قد صح عن ابن عباس أنه كان ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث و عشرين خرجه عبد الرزاق و خرجه ابن أبي عاصم مرفوعا و الموقوف أصح
و قد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع و عشرين موضعين : أحدهما : أن الله تعالى ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها و ليلة القدر حروفها تسع حروف و التسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع و عشرون و الثاني : أنه قال سلام الله عليه فكلمة هي : هي الكلمة السابعة و العشرون من السورة فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة قال ابن عطية : هذا من ملح التفسير لا من متين العلم و هو كما قال و مما استدل به من رجح ليلة سبع و عشرين بالآيات و العلامات التي رأيت فيها قديما و حديثا و بما وقع فيها من إجابة الدعوات فقد تقدم عن أبي بن كعب أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها و كان عبدة ابن أبي لبابة يقول : هي ليلة سبع وعشرين و يستدل على ذلك فإنه قد جرب ذلك بأشياء و بالنجوم خرجه عبد الرزاق و روي عن عبدة أنه ذاق ماء البحر ليلة سبع و عشرين فإذا هو عذب ذكره الإمام أحمد بإسناده و طاف بعض السلف ليلة سبع و عشرين بالبيت الحرام فرأى الملائكة في الهواء طائفين فوق رؤوس الناس و روى أبو موسى المديني من طريق أبي الشيخ الأصبهاني بإسناد عن حماد بن شعيب عن رجل منهم قال : كنت بالسواد فلما كان في العشر الأواخر جعلت أنظر بالليل فقال لي رجل منهم : إلى أي شيء تنظر ؟ قلت : إلى ليلة القدر قال : فنم فإني سأخبرك فلما كان ليلة سبع و عشرين جاء و أخذ بيدي فذهب بي إلى النخل فإذا النخل واضع سعفه في الأرض فقال : لسنا نرى هذا في السنة كلها إلا في هذه الليلة و ذكر أبو موسى بأسانيد له أن رجلا مقعدا دعا الله ليلة سبع و عشرين فأطلقه و عن امرأة مقعدة كذلك و عن رجل بالبصرة كان أخرس ثلاثين سنة فدعا الله ليلة سبع و عشرين فأطلق لسانه فتكلم و ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة أنه رأى ليلة سبع و عشرين و كانت ليلة جمعة بابا في السماء مفتوحا شامي الكعبة قال : فظننته حيال الحجرة النبوية المقدسة قال : و لم يزل كذلك إلى أن التفت إلى المشرق لأنظر طلوع الفجر ثم التفت إليه فوجدته قد غاب قال : و إن وقع في ليلة من أوتار العشر ليلة جمعة فهي أرجى من غيرها و اعلم أن جميع هذه العلامات لا توجب القطع بليلة القدر و قد روى سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان [ حدثنا إبراهيم بن الحكم حدثني أبي قال : حدثني فرقد : أن أناسا من الصحابة كانوا في المسجد فسمعوا كلاما من السماء ورأوا نورا من السماء و بابا من السماء و ذلك في شهر رمضان فأخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بما رأوا فزعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أما النور فنور رب العزة تعالى و أما الباب فباب السماء و الكلام كلام الأنبياء فكل شهر رمضان على هذه الحال و لكن هذه ليلة كشف غطاؤها ] و هذا مرسل ضعيف
قيام ليلة القدر
و أما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و قيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها و الصلاة و قد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضا قال سفيان الثوري الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة قال : و إذا كان يقرأ و هو يدعو و يرغب إلى الله في الدعاء و المسألة لعله يوافق انتهى و مراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء و إن قرأ و دعا كان حسنا و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يتهجد في ليالي رمضان و يقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل و لا بآية فيها عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة و القراءة و الدعاء و التفكر و هذا أفضل الأعمال و أكملها في ليالي العشر و غيرها و الله أعلم و قد قال الشعبي في ليلة القدر : ليلها كنهارها و قال الشافعي في القديم : استحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها و هذا يقتضي استحباب الإجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله و نهاره و الله أعلم المحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها غدا لانتظار ليالي العشر في كل عام فإذا ظفروا بها نالوا مطلوبهم و خدموا محبوبهم
( قد مزق الحب قميص الصبر ... و قد غدوت حائرا في أمري )
( آه على تلك الليالي الغر ... ما كن إلا كليالي القدر )
( إن عدن لي من بعد هذا الهجر ... وفيت لله بكل نذر )
( و قام بالحمد خطيب شكري )
رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين و أنفاس المحبين و قصص التائبين ثم تعود برد الجواب بلا كتاب
( أعلمتمو أن النسيم إذا سرى ... حمل الحديث إلى الحبيب كما جرى )
( جهل الحبيب بأنني في حبهم ... سهر الدجى عندي ألذ من الكرى )
فإذا ورد يريد برد السحر بحمل ملطفات الألطاف لم يفهمها غير من كتبت إليه
( نسيم صبا نجد متى جئت حاملا ... تحيتهم فاطو الحديث عن الركب )
( و لا تذع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي )
يا يعقوب الهجر قد هبت ريح يوسف الوصل فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرا و لوجدت ما كنت لفقده فقيرا
( كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في تقلبه )
( رب فاردده علي فقد ... عيل صبري في تطلبه )
( و أغثني ما دام بي رمق ... يا غياث المستغيث به )
لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الإنكسار و رفعوا قصص الإعتذار مضمونها : { يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا } لبرز لهم التوقيع عليها : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين }
( أشكو إلى الله كما قد شكى ... أولاد يعقوب إلى يوسف )
( قد مسني الضر و أنت الذي ... تعلم حالي و ترى موقفي )
( بضاعتي المزجاة محتاجة ... إلى سماح من كريم وفي )
( فقد أتى المسكين مستمطرا ... جودك فارحم ذله و اعطف )
( فاوف كيلي و تصدق على ... هذا المقل البائس الأضعف )
قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه و سلم : أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها قال : [ قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ] العفو من أسماء الله تعالى و هو يتجاوز عن سيئات عباده الماحي لأثارهم عنهم و هو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده و يحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه و عفوه أحب إليه من عقوبته و كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ أعوذ برضاك من سخطك و عفوك من عقوبتك ] قال يحيى بن معاذ : لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه و أحبابه بشيء من الذنوب ليعاملهم بالعفو فإنه يحب العفو قال بعض السلف الصالح : لو علمت أحب الأعمال إلى الله تعالى لأجهدت نفسي فيه فرأى قائلا يقول له في منامه : إنك تريد ما لا يكون إن الله يحب أن يعفو و يغفر و إنما أحب أن يعفو ليكون العباد كلهم تحت عفوه و لا يدل عليه أحد منهم بعمل و قد جاء في [ حديث ابن عباس مرفوعا : إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيعفو عنهم و يرحمهم إلا أربعة : مدمن خمر و عاقا و مشاحنا و قاطع رحم ] لما عرف العارفون بجلاله خضعوا و لما سمع المذنبون بعفوه طمعوا ما تم إلا عفو الله أو النار لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة و لكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفوه كان بعض المتقدمين يقول في دعائه : اللهم إن ذنوبي قد عظمت فجلت عن الصفة و إنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني و قال آخر منهم : جرمي عظيم و عفوك كثير فاجمع بين جرمي و عفوك يا كريم يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر و إنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الإجتهاد في الأعمال فيها و في ليالي العشر لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا و لا حالا و لا مقالا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر قال يحيى بن معاذ : ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنك عفو عن الذنب )
كان مطرف يقول في دعائه : اللهم ارض عنا فإن لم ترض عنا فاعف عنا من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا و كان غاية أمله أن يطمع في العفو و من كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة
( يا رب عبدك قد أتا ... ك و قد أساء و قد هفا )
( يكفيه منك حياؤه ... من سوء ما قد أسلفا )
( حمل الذنوب على الذنو ... ب الموبقات و أسرفا )
( و قد استجار بذيل عفو ... ك من عقابك ملحفا )
( رب اعف و عافه ... فلأنت أولى من عفا )
المجلس السادس في وداع رمضان
في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و فيهما أيضا [ من حديث أبي هريرة أيضا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و للنسائي في رواية : [ من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ] و قد سبق في قيام ليلة القدر مثل ذلك من رواية عبادة بن الصامت و التكفير بصيامه قد ورد مشروطا بالتحفظ مما ينبغي أن يتحفظ منه ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام رمضان فعرف حدوده و تحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كفر ذلك ما قبله ] و الجمهور على أن ذلك إنما يكفر الصغائر و يدل عليه ما خرجه مسلم [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصلوات الخمس الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ] و في تأويله قولان : أحدهما : أن تكفير هذه الأعمال مشروط باجتناب الكبائر فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفر له الأعمال كبيرة و لا صغيرة و الثاني : أن المراد أن هذه الفرائض تكفر الصغائر خاصة بكل حال و سواء اجتنبت الكبائر أو لم تجتنب و أنها لا تكفر الكبائر بحال و قد قال ابن المنذر في قيام ليلة القدر : إنه يرجى به مغفرة الذنوب كبائرها و صغائرها و قال غيره مثل ذلك في الصوم أيضا و الجمهور على : أن الكبائر لا بد لها من توبة نصوح و هذه المسائل قد ذكرناها مستوفاة في مواضع أخر فدل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على : أن هذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب و هي : صيام رمضان و قيامه و قيام ليلة القدر
فقيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له كما في حديث عبادة بن الصامت و قد سبق ذكره و سواء كانت أول العشر أو أوسطه أو آخره و سواء شعر بها أو لم يشعر و لا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر و أما صيام رمضان و قيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان و قيامه فيترتب له على ذلك مغفرة ما تقد من ذنبه بتمام السببين و هما صيامه و قيامه و قد يقال : إنه يغفر لهم عند استكمال القيام في آخر ليلة من رمضان بقيام رمضان قبل تمام نهارها و تتأخر المغفرة بالصيام إلى إكمال النهار بالصوم فيغفر لهم بالصوم في ليلة الفطر و يدل على ذلك ما خرجه الإمام أحمد [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم يعطها أمة غيرهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا و يزين الله كل يوم جنته و يقول : يوشك عبادي أن يكفوا عنهم المؤنة و الأذى و يصيروا إليك و يصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره و يغفر لهم في آخر ليلة فيه فقيل له : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ]
و قد روي : أن الصائمين يرجعون يوم الفطر مغفورا لهم و إن يوم الفطر يسمى يوم الجوائز و فيه أحاديث ضعيفة و قال الزهري [ إذا كان يوم الفطر خرج الناس إلى الجبار اطلع عليهم قال : عبادي لي صمتم و لي قمتم ارجعوا مغفورا لكم ] قال مورق العجلي لبعض إخوانه في المصلى يوم الفطر : يرجع هذا اليوم قوم كما ولدتهم أمهاتهم و في حديث أبي جعفر الباقر المرسل : [ من أتى عليه رمضان فصام نهاره و صلى وردا من ليله و غض بصره و حفظ فرجه و لسانه و يده و حافظ على صلاته في الجماعة و بكر إلى الجمعة فقد صام الشهر و استكمل الأجر و أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب ] قال أبو جعفر : جائزة لا تشبه جوائز الأمراء إذا أكمل الصائمون صيام رمضان و قيامه فقد وفوا ما عليهم من العمل و بقي ما لهم من الأجر و هو المغفرة فإذا خرجوا يوم عيد الفطر إلى الصلاة قسمت عليهم أجورهم فرجعوا إلى منازلهم و قد استوفوا الأجر و استكملوه كما في [ حديث ابن عباس رضي الله عنهما المرفوع : إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك ينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن و الإنس يقولون : يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل و يغفر الذنب العظيم فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله عز و جل لملائكته : يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله ؟ فيقولون : إلهنا و سيدنا أن توفيه أجره فيقول : إني أشهدكم أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم و قيامهم رضائي و مغفرتي انصرفوا مغفورا لكم ] خرجه سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان و غيره و في إسناده مقال و قد روي من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا بعضه و قد روي معناه مرفوعا من وجوه أخر فيها ضعف : من وفى ما عليه من العمل كاملا وفى له الأجر كاملا و من سلم ما عليه وفرا تسلم ماله نقدا لا مؤخرا
( ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... و لا أسلمها إلا يدا بيد )
( فإن وفيتم بما قلتم وفيت أنا ... و إن أبيتم يكون الرهن تحت يدي )
و من نقص من العمل الذي عليه نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه قال سلمان : الصلاة مكيال فمن وفى وفي له و من طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين فالصيام و سائر الأعمال على هذا المنوال من وفاها فهو من خيار عباد الله الموفين و من طفف فيها فويل للمطففين أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته و يطفف في مكيال صيامه و صلاته إلا بعد المدين في الحديث : [ أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته ] إذا كان الويل لمن طفف مكيال الدنيا فكيف حال من طفف مكيال الدين : { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون }
( غدا توفى النفوس ما كسبت ... و يحصد الزارعون ما زرعوا )
( إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... و إن أسؤا فبئس ما صنعوا )
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل و إكماله و إتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله و يخافون من رده و هؤلاء الذين : { يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة } روي عن علي رضي الله عنه قال : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز و جل يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } و عن فضالة بن عبيد قال : لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا و ما فيها لأن الله يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } قال ابن دينار : الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل و قال عطاء السلمي : الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله و قال عبد العزيز بن أبي رواد : أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا قال بعض السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد فطر فقال في خطبته : أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يوما و قمتم ثلاثين ليلة و خرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له : إنه يوم فرح و سرور فيقول : صدقتم و لكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا أدري أيقبله مني أم لا ؟ رأى وهب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال : إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين و إن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين و عن الحسن قال : إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا و تخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون و يخسر فيه المبطلون
( لعلك غضبان و قلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا )
روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان : يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه و من هذا المحروم فنعزيه و عن ابن مسعود أنه كان يقول : من هذا المقبول منا فنهنيه و من هذا المحروم منا فنعزيه أيها المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك
( ليت شعري من فيه يقبل منا ... فيهنا يا خيبة المردود )
( من تولى عنه بغير قبول ... أرغم الله أنفه بخزي شديد )
ماذا فات من فاته خير رمضان و أي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان كم بين من حظه فيه القبول و الغفران و من كان حظه فيه الخيبة و الخسران رب قائم حظه من قيامه السهر و صائم حظه من صيامه الجوع و العطش
( ما أصنع هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيري و أنا المكسور )
( أسير ذنب مقيد مهجور ... هل يمكن أن يغير المقدور )
غيره
( سار القوم و الشفاء يقعدني ... حازوا القرب و الجفا يبعدني )
( حسبي حسبي إلى متى تطردني ... أعداي داني و كلهم يقصدني )
غيره
( أسباب هواك أوهنت أسبابي ... من بعد جفاك فالضنى أولى بي )
( ضاقت حيلي و أنت تدري ما بي ... فارحم فالعبد واقف بالباب )
شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغفران فمن أسباب المغفرة فيه صيامه و قيامه و قيام ليلة القدر فيه كما سبق و منها : تفطير الصوام و التخفيف عن المملوك و هما مذكوران في حديث سلمان المرفوع و منها : الذكر و في حديث مرفوع : [ ذاكر الله في رمضان مغفور له ] و منها : الإستغفار و الإستغفار طلب المغفرة و دعاء الصائم مستجاب في صيامه و عند فطره و لهذا كان ابن عمر إذا أفطر يقول : اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع في فضل شهر رمضان و يغفر فيه إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة و من يأبى ؟ قال : يأبى أن يستغفر الله و منها : استغفار الملائكة للصائمين حتى يفطروا و قد تقدم ذكره فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان الذي تفوته المغفرة فيه محروما غاية الحرمان و في صحيح ابن حبان [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فقال : آمين آمين آمين قيل : يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت : آمين آمين آمين ؟ فقال : إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ] و خرجه الإمام أحمد و الترمذي و ابن حبان أيضا من وجه آخر [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ : رغم أنفه ] و حسنه الترمذي و قال سعيد عن قتادة : كان يقال : من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه و في حديث آخر : إذا لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر من يقبل من رد في ليلة القدر متى يصلح من لا يصلح في رمضان حتى يصلح من كان به فيه من داء الجهالة و الغفلة مرضان كل مالا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع ثم يوقد في النار من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم و الخسارة
( ترحل شهر الصبر و الهفاه و انصرما ... و اختص بالفوز في الجنات من خدما )
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما )
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما )
[ شهر رمضان شهر أوله رحمه و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار ] روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث سلمان الفارسي خرجه ابن خزيمة في صحيحه و روي عنه أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و الشهر كله شهر رحمة و مغفرة و عتق و لهذا في الحديث الصحيح : [ إنه تفتح فيه أبواب الرحمة ] و في الترمذي و غيره : [ إن لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة ] و لكن الأغلب على أوله الرحمة و هي للمحسنين المتقين قال الله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } و قال الله تعالى : { و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون } فيفاض على المتقين في أول الشهر خلع الرحمة و الرضوان و يعامل أهل الإحسان بالفضل و الإحسان و أما أوسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة فيغفر فيه للصائمين و إن ارتكبوا بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم من المغفرة كما قال الله تعالى : { و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } و أما آخر الشهر فيعتق من النار من أوبقته الأوزار و استوجب النار بالذنوب الكبار و في [ حديث ابن عباس المرفوع : لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره ] و خرجه سلمة بن شبيب و غيره و إنما كان يوم الفطر من رمضان عيدا لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار كما أن يوم النحر هو العيد الكبر لأن قبله يوم عرفة و هو اليوم الذي لا يرى في يوم من الدنيا أكثر عتقا من النار منه فمن أعتق من النار في اليومين فله يوم عيد و من فاته العتق في اليومين فله يوم و عيد
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الله ... كريما مقربا في أمان )
و رؤي بعض العارفين ليلة عيد في فلاة يبكي على نفسه و ينشد
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف على ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
لما كانت المغفرة و العتق كل منهما مرتبا على صيام رمضان و قيامه أمر الله سبحانه و تعالى عند إكمال العدة بتكبيره و شكره فقال : { و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون } فشكر من أنعم على عباده بتوفيقهم للصيام و إعانتهم عليه و مغفرته لهم و عتقهم من النار أن يذكروه و يشكروه و يتقوه حق تقاته و قد فسر ابن مسعود رضي الله عنه تقواه حق تقاته بأن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر فيا أرباب الذنوب العظيمة الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة فما منها عوض و لا لها قيمة فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة و المنحة الجسيمة يا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار أيبعدك مولاك من النار و تتقرب منها و ينقذك منها و أنت توقع نفسك فيها و لا تحيد عنها
( و إن امرءا ينجو من النار بعدما ... تزود من أعمالها لسعيد )
إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها و إن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها غيره
( إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ ... فمن يجود على العاصين بالكرم )
غيره
( إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو و يدعو المذنب )
لم لا يرجى العفو من ربنا و كيف لا يطمع في حلمه و في الصحيح : أنه بعبده أرحم من أمه : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا }
فيا أيها العاصي و كلنا ذلك لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك فأحسن الظن بمولاك و تب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك
( إذا أوجعتك الذنوب فداوها ... برفع يد بالليل و الليل مظلم )
( و لا تقنطن من رحمة الله إنما ... قنوطك منها من ذنوبك أعظم )
( فرحمته للمحسنين كرامة ... و رحمته للمذنبين تكرم )
ينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من النار أن يأتي بأسباب توجب العتق من النار و هي متيسرة في هذا الشهر و كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار و في حديث سلمان الفارسي المرفوع الذي في صحيح ابن خزيمة : [ من فطر صائما كان عتقا له من النار و من خفف فيه عن مملوكه كان له عتقا من النار ] و فيه أيضا : [ فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين : ترضون بها ربكم و خصلتين : لا غناء لكم عنهما فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : شهادة أن لا إله إلا الله و الإستغفار و أما اللتان لا غناء لكم عنهما : فتسألون الله الجنة و تستعيذون به من النار ] فهذه الخصال الأربعة المذكورة في الحديث كل منها سبب العتق و المغفرة : فأما كلمة التوحيد : فإنها تهدم الذنوب و تمحوها محوا و لا تبقي ذنبا و لا يسبقها عمل و هي تعدل عتق الرقاب الذي يوجب العتق من النار و من أتى بها أربع مرار حين يصبح و حين يمسي أعتقه الله من النار و من قالها مخلصا من قلبه حرمه الله على النار و أما كلمة الإستغفار : فمن أعظم أسباب المغفرة فإن الإستغفار دعاء بالمغفرة و دعاء الصائم مستجاب في حال صيامه و عند فطره و قد سبق حديث أبي هريرة المرفوع : [ يغفر فيه ـ يعني شهر رمضان ـ إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة و من أبى ؟ قال : من أبى أن يستغفر الله عز و جل ] قال الحسن : أكثروا من الإستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة و قال لقمان لابنه : يا بني عود لسانك الإستغفار فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا و قد جمع الله بين التوحيد و الإستغفار في قوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك } و في بعض الآثار : أن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب و أهلكوني بلا إله إلا الله و الإستغفار و الإستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة و الحج و قيام الليل و يختم به المجالس فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها و إن كانت لغوا كان كفارة لها فكذلك ينبغي أن تختم صيام رمضان بالاستغفار و كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار و صدقة الفطر فإن الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث و الإستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو و الرفث و لهذا قال بعض العلماء المتقدمين : إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة و قال عمر بن عبد العزيز في كتابه قولوا كما قال أبوكم آدم : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و قولوا كما قال نوح عليه السلام : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين } و قولوا كما قال موسى عليه السلام : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } و قولوا كما قال ذو النون عليه السلام : { سبحانك إني كنت من الظالمين } و يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : الغيبة تخرق الصيام و الإستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل و عن ابن المنكدر معنى ذلك : الصيام جنة من النار ما لم يخرقها و الكلام السيء يخرق هذه الجنة و الاستغفار يرقع ما تخرق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع و عمل صالح له شافع كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه و قد اتسع الخرق على الراقع كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم ارحموا من حسناته كلها سيئات و طاعاته كلها غفلات
( أستغفر الله من صيامي ... طول زماني و من صلاتي )
( يوم يرى كله خروق ... و صلاته أيما صلاة )
( مستيقظ في الدجى و لكن ... أحسن من يقظتي سنأتي )
و قريب من هذا أمر النبي عليه السلام لعائشة رضي الله عنها في ليلة القدر بسؤال العفو فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه و قيامه فإذا قرب فراغه و صادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو كالمسيء المقصر كان صلة بن أشيم يحي الليل ثم يقول في دعائه عند السحر : اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار و مثلي يجترىء أن يسألك الجنة كان مطرف يقول : اللهم ارض عنا فأن لم ترض عنا فاعف عنا قال يحيى بن معاذ : ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم عفو عن الذنب )
أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة و هي حل عقدة الإصرار فمن استغفر بلسانه و قلبه على المعصية معقود و عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر و يعود فصومه عليه مردود و باب القبول عنه مسدود قال كعب : من صام رمضان و هو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة و لا حساب و من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود و خرجه مسلمة بن شبيب
( و لولا التقى ثم النهى خشية الردى ... لعاصيت في وقت الصبا كل واجب )
( قضى ما قضى فيما مضى ثم لا يرى ... له عودة أخرى لليالي الغوائب )
و في سنن أبي داود و غيره [ عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يقولن أحدكم : صمت رمضان كله و لا قمت رمضان كله ] قال أبو بكرة : فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من غفلة أين من كان إذا صام صان الصيام و إذا قام استقام في القيام أحسنوا الإسلام ثم ارحلوا بسلام ما بقي إلا من إذا صام افتخر بصيامه و صال و إذا قام عجب بقيامه و قال : كم بين خلى و شجى و واجد و فاقد و كاتم و مبدي و أما سؤال الجنة و الاستعاذة من النار فمن أهم الدعاء و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ حولها ندندن ] فالصائم يرجى استجابة دعائه فينبغي أن لا يدعو إلا بأهم الأمور قال أبو مسلم : ما عرضت لي دعوة إلا صرفتها إلى الاستعاذة من النار و قال : { لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } في الحديث : [ تعرضوا لنفحات رحمة بكم فإن لله نفحات من رحمته ] : { يصيب به من يشاء من عباده } فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها بدا فإن أعظم نفحاته مصادفة دعوة الإجابة يسأل العبد فيها الجنة و النجاة من النار فيجاب سؤاله فيفوز بسعادة الأبد قال الله تعالى : { فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز } و قال : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق } إلى قوله : { و أما الذين سعدوا ففي الجنة }
( ليس السعيد الذي دنياه تسعده ... إن السعيد الذي ينجى من النار )
عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل و لم يبق منه إلا القليل فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام و من فرط فليختمه بالحسنى و العمل بالختام فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة و الأيام و استودعوه عملا صالحا يشهد لكم به عند الملك العلام و ودعوه عند فراقه بأزكى تحية و سلام
( سلام من الرحمن كل أوان ... على خير شهر قد مضى و زمان )
( سلام على الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان )
( لئن فنيت أيامك الغر بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان )
لقد ذهبت أيامه و ما أطعتم و كتبت عليكم فيه آثامه و ما أضعتم و كأنكم بالمشمرين فيه و قد وصلوا و انقطعتم أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم
( ما ضاع من أيامنا هل يعزم ... هيهات و الأزمان كيف تقوم )
( يوم بأرواح تباع و تشترى ... و أخوه ليس يسام فيه درهم )
قلوب المتقنين إلى هذا الشهر تحن و من ألم فراقه تئن
( دهاك الفراق فما تصنع ... أتصبر للبين أم تجزع )
( إذا كنت تبكي وهم جيرة ... فكيف تكون إذا ودعوا )
كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع و هو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع
( تذكرت أياما مضت و لياليا ... خلت فجرت من ذكرهن دموع )
( ألا هل لها يوما من الدهر عودة ... و هل لي إلى يوم الوصال رجوع )
( و هل بعد إعاض الحبيب تواصل ... و هل لبدور قد أفلن طلوع )
أين حرق المجتهدين في نهاره أين قلق المجتهدين في أسحاره فكيف حال من خسر في أيامه و لياليه ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه و قد عظمت فيه مصيبته و جل عزاؤه كم نصح المسكين فما قبل النصح كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح كم شاهد الواصلين فيه و هو متباعد كم مرت به زمر السائرين و هو قاعد حتى إذا ضاق به الوقت و خاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم و طلب الإستدراك في وقت العدم
( أتترك من تحب و أنت جار ... و تطلبهم و قد بعد المزار )
( و تبكي بعد نأيهم اشتياقا ... و تسأل في المنازل أين ساروا )
( تركت سؤالهم و هم حضور ... و ترجو أن تخبرك الديار )
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق عسى وقفة للوداع تطفىء من نار الشوق ما أحرق عسى ساعة توبة و إقلاع ترفو من الصيام كلما تخرق عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق عسى أسير الأوزار يطلق عسى من استوجب النار يعتق
( عسى و عسى من قبل وقت التفرق ... إلى كل ما ترجو من الخير تلتقى )
( فيجبر مكسور و يقبل تائب ... و يعتق خطاء و يسعد من شقى )
وظائف شوال و فيه مجالس ـ المجلس الأول في صيام شوال كله و إتباع رمضان
بصيام ستة أيام من شوال
خرج مسلم [ من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ] ثم اختلف في هذا الحديث و في العمل به : فمنهم من صححه و منهم من قال : هو موقوف قاله : ابن عيينة و غيره و إليه يميل الإمام أحمد و منهم من تكلم في إسناده و أما العمل به فاستحب صيام ستة من شوال أكثر العلماء روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما و طاوس و الشعبي و ميمون بن مهران و هو قول ابن المبارك و الشافعي و أحمد و اسحاق و أنكر ذلك آخرون و روي عن الحسن أنه كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال : لقد رضي الله بهذا الشهر لسنة كلها و لعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها و أنه لا يكتفي بصيام رمضان عنها في الوجوب و ظاهر كلامه يدل على هذا و كرهها الثوري و أبو حنيفة و أبو يوسف و علل أصحابهما ذلك مشابهة أهل الكتاب يعنون في الزيادة في صيامه المفروض عليهم ما ليس منه و أكثر المتأخرين من مشايخهم قالوا : لا بأس به و عللوا أن الفطر قد حصل بفطر يوم العيد حكى ذلك صاحب الكافي منهم و كان مهدي يكرهها و لا ينهى عنها و كرهها أيضا مالك و ذكر في الموطأ : أنه لم ير أحدا من أهل العلم يفعل ذلك و قد قيل : إنه كان يصومها في نفسه و إنما كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه
و أما الذين استحبوا صيامها فاختلفوا في صيامها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يستحب صيامها من أول الشهر متتابعة و هو قول الشافعي و ابن المبارك و قد روي [ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة ] خرجه الطبراني و غيره من طرق ضعيفة و روي مرفوعا و روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله بمعناه بإسناد ضعيف أيضا و الثاني : إنه لا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله و هما سواء و هو قول وكيع و أحمد و الثالث : أنها لا تصام عقب يوم الفطر فإنها أيام أكل و شرب و لكن يصام ثلاثة أيام قبل أيام البيض و أيام البيض أو بعدها و هذا قول معمر و عبد الرزاق و روي عن عطاء حتى روي عنه أنه كره لمن عليه صيام من قضاء رمضان أن يصومه ثم يصله بصيام تطوع و أمر بالفطر بينهما و هو قول شاذ و أكثر العلماء على : أنه لا يكره صيام ثاني يوما لفطر و قد دل عليه [ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لرجل : إذا أفطرت فصم ] و قد ذكرناه في صيام آخر شعبان و قد سرد طائفة من الصحابة و التابعين الصوم إلا يوم الفطر و الأضحى و قد روي عن أم سلمة أنها كانت تقول لأهلها من كان عليه رمضان فليصمه الغد من يوم الفطر فمن صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان و في إسناده ضعف و عن الشعبي قال : لإن أصوم يوما بعد رمضان أحب إلي من أن أصوم الدهر كله و يروى بإسناد ضعيف [ عن أين عمر مرفوعا : من صام بعد الفطر يوما فكأنما صام السنة ] و بإسناده ضعف [ عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : الصائم بعد رمضان كالكار بعد الفار ]
و أما صيام شوال كله : ففي حديث رجل من قريش سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ من صام رمضان و شوالا و الأربعاء و الخميس دخل الجنة ] و خرجه الإمام أحمد و النسائي و خرج الإمام أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي [ من حديث مسلم القرشي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن صيام الدهر ؟ فقال : إن لأهلك عليك حقا فصم رمضان و الذي يليه و كل أربعة و خميس فإذا أنت قد صمت الدهر و أفطرت ] و خرج ابن ماجه بإسناد منقطع أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ صم شوالا ] فترك الأشهر الحرم لم يزل يصوم شوالا حتى مات و خرجه أبو يعلى الموصلي بإسناد متصل عن أسامة قال كنت أصوم شهرا من السنة فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أين أنت من شوال ] فكان أسامة إذا أفطر أصبح الغد صائما من شوال حتى يأتي على آخره و صيام شوال كصيام شعبان لأن كلا الشهرين حريم لشهر رمضان و هما يليانه و قد ذكرنا في فضل صيام شعبان أن الأظهر أن صيامهما أفضل من صيام الأشهر الحرم و الإختلاف في ذلك و إنما كان صيام رمضان و اتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها و قد جاء ذلك مفسرا [ من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام رمضان بعشرة أشهر و صيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام سنة ] يعني رمضان و ستة أيام من شوال بعده خرجه الإمام أحمد و النسائي و هذا لفظه و ابن حبان في صحيحه و صححه أبو حاتم الرازي و قال الإمام أحمد : ليس في حديث الرازي أصح منه و توقف فيه في رواية أخرى و لا فرق في ذلك بين أن يكون شهر رمضان ثلاثين أو تسعا و عشرين و على هذا حمل بعضهم قول النبي صلى الله عليه و سلم [ شهرا عيد لا ينقصان رمضان و ذو الحجة ] و قال : المراد كمال آخره سواء كان ثلاثين أو تسعا و عشرين و أنه اتبع بستة أيام من شوال فإنه يعدل صيام الدهر على كل حال و كره إسحاق ابن راهويه أن يقال لشهر رمضان : أنه ناقص و إن كان تسعا و عشرين لهذا المعنى فإن قال قائل : فلو صام هذه الستة أيام من غير شوال يحصل له هذا الفضل ؟ فكيف خص صيامها من شوال ؟ قيل : صيامها من شوال يلتحق بصيام رمضان في الفضل فيكون له أجر صيام الدهر فرضا ذكر ذلك ابن المبارك و ذكر : أنه في بعض الحديث حكاه الترمذي في جامعه و لعله أشار إلى ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها : أن من صام الغد من يوم الفطر فكأنما صام رمضان
و في معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة : منها : أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله كما سبق و منها : أن صيام شوال و شعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة و بعدها فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل و نقص فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم القيامة كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة و أكثر الناس في صيامه للفرض نقص و خلل فيحتاج إلى ما يجبره و يكمله من الأعمال و لهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن يقول الرجل صمت رمضان كله أو قمته كله ] قال الصحابي فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من الغفلة و كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول : من لم يجد ما يتصدق به فليصم يعني من لم يجد ما يخرجه صدقة الفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر فإن الصيام يقوم مقام الإطعام في التكفير للسيئات كما يقوم مقامه في كفارات الإيمان و غيرها من الكفارات في مثل كفارات القتل و الوطء في رمضان و الظهار و منها : أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان فإن الله إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده كما قال بعضهم : ثواب الحسنة الحسنة بعدها فمن عمل حسنة ثم اتبعها بعد بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى كما أن من عمل حسنة ثم اتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة و عدم قبولها و منها : أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب كما سبق ذكره و أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر و هو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرا لهذه النعمة فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقوم حتى تتورم قدماه فيقال له : أتفعل هذا و قد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا ] و قد أمر الله سبحانه و تعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره و غير ذلك من أنواع شكره فقال : { و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون } فمن جملة شكر العبد لربه على توقيفه لصيام رمضان و إعانته عليه و مغفرة ذنوبه أن يصوم له شكرا عقب ذلك كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائما و يجعل صيامه شكرا للتوفيق للقيام و كان وهب بن الورد يسئل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف و نحوه ؟ فيقول : لا تسألوا عن ثوابه و لكن اسألوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر للتوفيق و الإعانة عليه
( إذا أنت لم تزدد على كل نعمة ... لموليكها شكرا فلست بشاكر )
على كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها ثم للتوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر أخر و هكذا أبدا فلا يقدر العبد غلى القيام بشكر النعم و حقيقة الشكر الإعتراف بالعجز عن الشكر كما قيل :
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... و إن طالت الأيام و اتصل العمر )
قال أبو عمر الشيباني : قال موسى عليه السلام يوم الطور : يا رب إن أنا صليت فمن قبلك و إن أنا تصدقت فمن قبلك و إن بلغت رسالاتك فمن قبلك فكيف أشكرك ؟ قال : يا موسى الآن شكرتني فأما مقابلة نعمة التوفيق كصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده فهو من فعل من بدل نعمة الله كفرا فإن كان قد عزم في صيامه على معاودة المعاصي بعد انقضاء الصيام فصيامه عليه مردود و باب الرحمة في وجهه مسدود قال كعب : من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر من رمضان لم يعص الله دخل الجنة بغير مسألة و لا حساب و من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود و منها أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حيا و هذا معنى الحديث المتقدم : أن الصائم بعد رمضان كالكار بعد الفار يعني كالذي يفر من القتال في سبيل الله ثم يعود إليه و ذلك لأن كثيرا من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان لاستثقال الصيام و ملله و طوله عليه و من كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعا فالعائد إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر يدل عوده على رغبته في الصيام و أنه لم يمله و لم يستثقله و لا تكره به و في حديث خرجه الترمذي مرفوعا : [ أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل ] و فسر بصاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره و من آخره إلى أوله كلما حل ارتحل و العائد إلى الصيام سريعا بعد فراغ صيامه شبيه بقارىء القرآن إذا فرغ من قراءته ثم عاد في المعنى و الله أعلم و قيل لبشر : إن قوما يتعبدون و يجتهدون في رمضان فقال : بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان إن الصالح الذي يتعبد و يجتهد السنة كلها سئل الشبلي : أيما أفضل رجب أم شعبان ؟ فقال : كن ربانيا و لا تكن شعبانيا كان النبي صلى الله عليه و سلم عمله ديمة و سئلت عائشة رضي الله عنها : هل كان يخص يوما من الأيام ؟ فقالت : لا كان عمله ديمة و قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يزيد في رمضان و لا غيره على إحدى عشرة ركعة و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ثم قضاه في شوال فاعتكف العشر الأول منه و سأل رجل أهل صام من شهر شعبان في شوال و قد تقدم عن أم سلمة أنها كانت تأمر أهلها من كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ أن يقضيه الغد من يوم الفطر فمن كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في شوال فإنه أسرع لبراءة ذمته و هو أولى من التطوع بصيام ستة من شوال فإن العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض هل يجوز أن يتطوع قبله أو لا و على قول من جوز التطوع قبل القضاء فلا يحصل مقصود صيام ستة أيام من شوال إلا لمن أكمل صيام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم بدأ بصيام ست من شوال حيث لم يكمل عدة رمضان لم يحصل له ثواب من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستة من شوال آخر صيام السنة بغير إشكال و من بدأ بالقضاء في شوال ثم أراد أن يتبع ذلك بصيام ستة من شوال بعد تكمله قضاء رمضان كان حسنا لأنه يصير حينئذ قد صام رمضان و أتبعه بست من شوال و لا يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء رمضان لأن صيام الست من شوال إنما تكون بعد إكمال عدة رمضان عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله قال الحسن : إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت ثم قرأ : { و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين } هذه الشهور و الأعوام و الليالي و الأيام كلها مقادير الآجال و مواقيت الأعمال ثم تنقضي سريعا و تمضي جميعا و الذي أوجدها و ابتدعها و خصها بالفضائل و أودعها باق لا يزول و دائم لا يحول هو في جميع الأوقات إله واحد و لأعمال عباده رقيب مشاهد فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم يسبغ عليهم فيها فواضل النعم و يعاملهم بنهاية الجود و الكرم لما انقضت الأشهر الحرم الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام و آخر شهر الصيام أقبلت الأشهر الثلاثة أشهر الحج إلى بيت الله الحرام فكما أن من صام رمضان و قامه غفر له ما تقدم من ذنبه فمن حج البيت و لم يرفث و لم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا و الله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف و يتقرب بها إلى مولاه و هو راج خائف المحب لا يمل من التقرب بالنوافل إلى مولاه و لا يأمل إلا قربه و رضاه
( ما للمحب سوى إرادة حبه ... إن المحب بكل أمر يضرع )
كل وقت يخيله العبد من طاعة مولاه فقد خسره و كل ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة ترة فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته و واحسرتاه على قلب بات في غير خدمته
( من فاته أن يراك يوما ... فكل أوقاته فوات )
( و حيثما كنت من بلاد ... فلى إلى وجهك التفات )
( إليكم هجرتي و قصدي ... و أنتم الموت و الحياة )
( أمنت أن توحشوا فؤادي ... فآنسوا مقتلي و لات )
من عمل طاعة من الطاعات و فرغ منها فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى و علامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها و أحسن منها بعد الحسنة تتلوها و ما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها و تعفوها ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبا قبلها النكسة أصعب من الضعفة و ربما أهلكت سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات و تعوذوا به من تقلب لقلوب و من الحور بعد الكور و ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة و أوحش منه فقر الطمع بعد غنى القناعة ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل و غني قوم بالذنوب افتقر
( ترى الحي الأولى بانوا ... على العهد كما كانوا )
( أم الدهر بهم خانوا ... و دهر المرء خوان )
( إذا عز بغير الله يو ... ما شر هانوا )
يا شبان التوبة لاترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام فالرضاع إنما يصلح للأطفال لا للرجال و لكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام فإن صبرتم تعوضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب من ترك شيئا لله لم يجد فقده عوضه الله خيرا منه : { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم و يغفر لكم } و في الحديث : [ النظر سهم مسموم من سهام إبليس من تركه من خوف الله أعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] خرجه الإمام أحمد و هذا الخطاب للشباب فأما الشيخ إذا عاود المعاصي بعد انقضاء رمضان فهو أقبح و أقبح لأن الشباب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره و هو مخاطر فإن الموت قد يعاجله و قد يطرقه بغتة و أما الشيخ فقد شارف مركبه على ساحل بحر المنون فماذا يؤمل
( نعى لك ظل الشباب المشيب ... و نادتك باسم سواك الخطوب )
( فكن مستعدا لداعي الفناء ... فكل الذي هو آت قريب )
( ألسنا نرى شهوات النفو ... س تفنى و تبقى علينا الذنوب )
( يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف يكون الذي لا يتوب )
المجلس الثاني في ذكر الحج و فضله و الحث عليه
في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل الأعمال إيمان بالله و رسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور ] هذه الأعمال الثلاثة ترجع في الحقيقة إلى عملين : أحدهما : الإيمان بالله و رسوله و هو التصديق الجازم بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر كما فسر النبي صلى الله عليه و سلم الإيمان بذلك في سؤال جبريل و في غيره من الأحاديث و قد ذكر الله تعالى الإيمان بهذه الأصول في مواضع كثيرة من كتابه كأول البقرة و وسطها و آخرها و العمل الثاني : الجهاد في سبيل الله تعالى و قد جمع الله بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم } الآية و في قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه : [ أن أفضل الأعمال : الإيمان بالله و الجهاد في سبيل الله ] فالإيمان المجرد يدخل فيه الجوارح عند السلف و أهل الحديث و الإيمان المقرون بالعمل يراد به التصديق مع القول و خصوصا إن قرن الإيمان بالله بالإيمان برسوله كما في هذا الحديث فالإيمان القائم بالقلوب أصل كل خير و هو خير ما أوتيه العبد في الدنيا و الآخرة و به يحصل له سعادة الدنيا و الآخرة و النجاة من شقاوة الدنيا و الآخرة و متى رسخ الإيمان في القلب انبعثت الجوارح كلها بالأعمال الصالحة و اللسان بالكلام الطيب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب ] و لا صلاح للقلب بدون الإيمان بالله و ما يدخل في مسماه من معرفة الله و توحيده و خشيته و محبته و رجائه و إجابته و الإنابة إليه و التوكل عليه قال الحسن : ليس الإيمان بالتمني و لا بالتحلي و لكنه بما وقر في الصدور و صدقته الأعمال و يشهد لذلك قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا } و في هذا يقول بعضهم :
( ما كل من زوق لي قوله ... يغرني يا صاح تزويقه )
( من حقق الإيمان في قلبه ... لا بد أن يظهر تحقيقه )
فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان و وجد طعمه و حلاوته ظهر ثمرة ذلك على لسانه و جوارحه فاستحلى اللسان ذكر الله و ما والاه و سرعت الجوارح إلى طاعة الله فحينئذ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد حره للظمآن الشديد عطشه و يصير الخروج من الإيمان أكره إلى القلوب من الإلقاء في النار و أمر عليها من الصبر ذكر ابن المبارك عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه دخل المدينة فقال لهم : ما لي لا أرى عليكم يا أهل المدينة حلاوة الإيمان و الذي نفسي بيده لو أن دب الغابة وجد طعم الإيمان لرؤي عليه حلاوة الإيمان
( لو ذاق طعم الإيمان رضوى ... لكاد من جوده يميد )
( قد حملوني تكليف عهد ... يعجز عن حمله الحديد )
فالإيمان بالله و رسوله وظيفة القلب و اللسان ثم يتبعهما عمل الجوارح و أفضلها الجهاد في سبيل الله و هو نوعان : أفضلهما : جهاد المؤمن بعدوه الكافر و قتاله في سبيل الله : فإن فيه دعوة له إلى الإيمان بالله و رسوله ليدخل في الإيمان قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } قال أبو هريرة رضي الله عنه في هذه الآية : يجيئون بهم في السلاسل حتى يدخلونهم الجنة و في الحديث المرفوع : [ عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ] فالجهاد في سبيل الله دعاء الخلق إلى الإيمان بالله و رسوله بالسيف و اللسان بعد دعائهم إليه بالحجة و البرهان و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم في أول الأمر لا يقاتل قوما حتى يدعوهم فالجهاد به تعلو كلمة الإيمان و تتسع رقعة الإسلام و يكثر الداخلون فيه و هو وظيفة الرسل و أتباعهم و به تصير كلمة الله هي العليا و المقصود منه أن يكون الدين كله لله و الطاعة له كما قال تعالى : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله } و المجاهد في سبيل الله هو المقاتل لتكون كلمة الله هي العليا خاصة و النوع الثاني من الجهاد : جهاد النفس في طاعة الله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المجاهد من جاهد نفسه في الله ] و قال بعض الصحابة لمن سأله عن الغزو ؟ : ابدأ بنفسك فاغزها و ابدأ بنفسك فجاهدها و أعظم مجاهدة النفس على طاعة الله عمارة بيوته بالذكر و الطاعة قال الله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر و أقام الصلاة و آتى الزكاة و لم يخش إلا الله } و في حديث أبي سعيد الخدري المرفوع : [ إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ثم تلا الآية ] خرجه الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه و قال الله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال * رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله } الآية و النوع الأول من الجهاد أفضل من هذا الثاني قال الله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر و جاهد في سبيل الله لا يستون عند الله و الله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم أعظم درجة عند الله } و في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج و قال آخر : لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام و قال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر و قال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يوم الجمعة و لكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز و جل : { أجعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر } إلى آخر الآية فهذا الحديث الذي فيه ذكر سبب نزول هذه الآية يبين أن المراد أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى من أعمال النوافل و التطوع الجهاد و إن الآية تدل على أن أفضل ذلك الجهاد مع الإيمان فدل على التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بعمارة المسجد الحرام و سقاية الحاج و على مثل هذا يحمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا و أن الجهاد أفضل من الحج المتطوع به فإن فرض الحج تأخر عند كثير من العلماء إلى السنة التاسعة و لعل النبي صلى الله عليه و سلم قال هذا الكلام قبل أن يفرض الحج بالكلية فكان حينئذ تطوعا و قد قيل : إن الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين فلا إشكال في هذا على تقديمه على الحج قبل افتراضه فأما بعد أن صار الجهاد فرض كفاية و الحج فرض عين فإن الحج المفترض حينئذ يكون أفضل من الجهاد قال عبد الله بن عمرو بن العاص : حجة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات و غزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات و روي ذلك مرفوعا من وجوه متعددة في أسانيدها مقال و قال الصبي بن معبد : كنت نصرانيا فأسلمت فسألت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم : الجهاد أفضل أم الحج ؟ فقالوا : الحج و المراد و الله أعلم : أن الحج أفضل لمن لم يحج حجة الإسلام مثل الذي أسلم و قد يكون المراد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد و هو كونه فرض عين صار ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد و إلا فالجهاد أفضل و الله أعلم و قد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن أفضل الأعمال بعد الجهاد في سبيل الله جنس عمارة المساجد بذكر الله و طاعته فيدخل في ذلك الصلاة و الذكر و التلاوة و الإعتكاف و تعليم العلم النافع و استماعه و أفضل من ذلك عمارة أفضل المساجد و أشرفها و هو المسجد الحرام بالزيارة و الطواف فلهذا خصه بالذكر و جعل قصده للحج أفضل الأعمال بعد الجهاد و قد خرجه ابن المنذر و لفظه ثم حج مبرور أو عمرة و قد ذكر الله تعالى هذا البيت في كتابه بأعظم ذكر و أفخم تعظيم و ثناء قال الله تعالى : { و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى و عهدنا إلى إبراهيم و إسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود } الآيات و قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا } و قال تعالى : { و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود * و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق } فعمارة سائر المساجد سوى المسجد الحرام و قصدها للصلاة فيها و أنواع العبادات من الرباط في سبيل الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطا إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ] فأما المسجد الحرام بخصوصه فقصده لزيارته و عمارته بالطواف الذي خصه الله به من نوع الجهاد في سبيل الله عز و جل و في صحيح البخاري [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد فقال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور ] يعني أفضل جهاد النساء و رواه بعضهم : [ لكن أفضل الجهاد حج مبرور ] فيكون صريحا في هذا المعنى و قد خرجه البخاري بلفظ آخر و هو : [ جهادكن الحج ] و هو كذلك و في المسند و سنن ابن ماجه [ عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي قال : الحج جهاد كل ضعيف ] و خرج البيهقي و غيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : [ جهاد الكبير و الضعيف و المرأة الحج و العمرة ] و في حديث مرسل الحج جهاد و العمرة تطوع و في حديث آخر مرسل خرجه عبد الرزاق [ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إني جبان لا أطيق لقاء العدو قال : ألا أدلك على جهاد لا قتال فيه قال : بلى قال : عليك بالحج و العمرة ] و خرج أيضا من مراسيل [ علي بن الحسين أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الجهاد فقال ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه الحج ] و فيه عن عمر أنه قال : إذا وضعتم السروج يعني من سفر الجهاد فشدوا الرحال إلى الحج و العمرة فإنه أحد الجهادين و ذكره البخاري تعليقا و قال ابن مسعود رضي الله عنه : إنما سرج و رحل فالسرج في سبيل الله و الرحل و الحج خرجه الإمام أحمد في مناسكه و إنما كان الحج و العمرة جهادا لأنه يجهد المال و النفس و البدن كما قال أبو الشعثاء نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال و الصيام كذلك و الحج يجهدهما فرأيته أفضل و روى عبد الرزاق بإسناده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلا سأله عن الحج قال : إن الحاج يشفع في أربعمائة بيت من قومه و يبارك في أربعين من أمهات البعير الذي حمله و يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فقال له رجل : يا أبا موسى إني كنت أعالج الحج و قد كبرت و ضعفت فهل من شيء يعدل الحج فقال له : هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل فأما الحل و الرحيل : فلا أجد له عدلا أو قال مثلا و بإسناده عنه طاوس أنه سئل هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة ؟ قال : فأين الحل و الرحيل و السهر و النصب و الطواف بالبيت و الصلاة عنده و الوقوف بعرفة و جمع و رمي الجمار كأنه يقول الحج أفضل
و قد اختلف العلماء في تفضيل الحج تطوعا أو الصدقة فمنهم من رجح الحج كما قال طاوس و أبو الشعثاء و قال الحسن أيضا و منهم من رجح الصداقة و هو قول النخعي و منهم من قال : إن كان ثم رحم محتاجه أو زمن مجاعة فالصدقة و إلا فالحج و هو نص أحمد و روي عن الحسن معناه و إن صلة الرحم و التنفيس عن المكروب أفضل من التطوع بالحج و في كتاب عبد الرزاق بإسناد ضعيف [ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن رجل حج فأكثر أيجعل نفقته في صلة أو عتق ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : طواف سبع لا لغو فيه يعدل رقبة ] و هذا يدل على تفضيل الحج
و استدل من رأى ذلك أيضا بأن النفقة في الحج أفضل من النفقة في سبيل الله و في مسند الإمام أحمد [ عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ] و خرجه الطبراني [ من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : النفقة في سبيل الله الدرهم فيه بسبعمائة ] و يدل عليه قوله تعالى : { و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب المحسنين * و أتموا الحج و العمرة لله } ففيه دليل على أن النفقة في الحج و العمرة تدخل في جملة النفقة في سبيل الله و قد كان بعض الصحابة جعل بعيره في سبيل الله فأرادت امرأته أن تحج عليه فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : [ حجي عليه فإن الحج في سبيل الله ] و قد خرجه أهل المسانيد و السنن من وجوه متعددة و ذكره البخاري تعليقا و هذا يستدل به على أن الحج يصرف فيه من سهم سبيل الله المذكور في آية الزكاة كما هو أحد قولي العلماء فيعطى من الزكاة من لم يحج ما يحج به في اعطائه لحج التطوع اختلاف بينهم أيضا
الحج المبرور
و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ] و في المسند أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : [ إيمان بالله وحده ثم الجهاد ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ] و ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حج هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] فمغفرة الذنوب بالحج و دخول الجنة به مرتب على كون الحج مبرورا
و إنما يكون مبرورا باجتماع أمرين قيه أحدهما : الإتيان فيه بأعمال البر و البر يطلق بمعنيين : أحدهما : بمعنى الإحسان إلى الناس كما يقال البرو الصلة و ضده العقوق و في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن البر ؟ فقال : [ حسن الخلق ] و كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : إن البر شيء هين : وجه طليق و كلام لين و هذا يحتاج إليه في الحج كثيرا أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول و الفعل قال بعضهم : إنما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال و في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة قالوا : و ما بر الحج يا رسول الله ؟ قال : إطعام الطعام و إفشاء السلام ] و في حديث آخر : [ و طيب الكلام ] و سئل سعيد بن جبير : أي الحج أفضل ؟ قال : من أطعم الطعام و كف لسانه قال الثوري : سمعت أنه من بر الحج و في مراسيل [ خالد بن معدان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما يصنع من يؤم هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاثة : ورع يحجزه عما حرم الله و حلم يضبط به جهله و حسن صحابة لمن يصحب و إلا فلا حاجة لله بحجه ] و قال أبو جعفر الباقر : ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يأت بثلاثة : ورع يحجزه عن معاصي الله و حلم يكف به غضبه و حسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين فهذه الثلاثة يحتاج إليها في الأسفار خصوصا في سفر الحج فمن كملها فقد كمل حجه وبر و من أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج ما وصى به النبي صلى الله عليه و سلم أبا جزي الهجيمي فقال : [ لا تحقرن من المعروف شيئا و لو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي و لو أن تعطي صلة الحبل و لو أن تعطي شسع النعل و لو أن تنحي الشي من طريق الناس يؤذيهم و لو أن تلقى أخاك و وجهك إليه منطلق و لو أن تلقى أخاك المسلم عليه فتسلم عليه و لو أن تؤنس الوحشان في الأرض ] و في الجملة : فخير الناس أنفعهم للناس و أصبرهم على أذى الناس كما وصف الله المتقين بذلك في قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين } و الحاج يحتاج إلى مخالطة الناس و المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم و لا يصبر على أذاهم قال ربيعة : المروءة في السفر بذل الزاد و قلة الخلاف على الأصحاب و كثرة المزاح في غير مساخط الله عز و جل و جاء رجلان إلى ابن عون يودعانه و يسألانه أن يوصيهما فقال لهما : عليكما بكظم الغيظ و بذل الزاد فرأى أحدهما في المنام : أن ابن عون أهدى إليهما حلتين و الإحسان إلى الرفقة في السفر أفضل من العبادة القاصرة لا سيما إن احتاج العابد إلى خدمة إخوانه و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم في سفر في حر شديد و معه من هو صائم و مفطر فسقط الصوام و قام المفطرون فضربوا الأبنية و سقوا الركاب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ذهب المفطرون اليوم بالأجر ] و روي أنه صلى الله عليه و سلم كان في سفر فرأى رجلا صائما فقال له : [ ما حملك على الصوم في السفر ؟ فقال : معي ابناي يرحلان بي و يخدماني فقال له ما زال لهما الفضل عليك ] و في مراسيل أبي داود [ عن أبي قلابة رضي الله عنه قال : قدم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من سفر يثنون على صاحب لهم قالوا : ما رأينا مثل فلان قط ما كان في مسير إلا كان في قراءة و لا نزلنا منزلا إلا كان في صلاة قال : فمن كان يكفيه ضيعته ؟ حتى ذكر و من كان يعلف دابته ؟ قالوا : نحن قال : فكلكم خير منه ] و قال مجاهد : صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني و كان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم اغتناما لأجر ذلك منهم : عامر بن عبد قيس و عمرو بن عتبة بن فرقد مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما و كذلك كان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة و الأذان و كان رجل من الصالحين يصحب إخوانه في سفر الجهاد و غيره فيشترط عليهم أن يخدمهم فكان إذا رأى رجلا يريد أن يغسل ثوبه قال له : هذا من شرطي فيغسله و إذا رأى من يريد أن يغسل رأسه قال : هذا من شرطي فيغسله فلما مات نظروا في يده فإذا فيها مكتوب من أهل الجنة فنظروا إليها فإذا هي كتابة بين الجلد و اللحم و ترافق بهيم العجلي و كان من العبادين البكائين و رجل تاجر موسر في الحج فلما كان يوم خروجهم للسفر بكى بهيم حتى قطرت دموعه على صدره ثم قطرت على الأرض و قال : ذكرت بهذه الرحلة الرحلة إلى الله ثم علا صوته بالنحيب فكره رفيقه التاجر منه ذلك و خشي أن يتنغص عليه سفره و معه بكثرة بكائه فلما قدما من الحج جاء الرجل الذي رافق بينهما إليه ليسلم عليهما فبدأ بالتاجر فسلم عليه و سأله عن حله مع بهيم فقال له : و الله ظننت إن في هذا الخلق مثله كان و الله يتفضل علي في النفقة و هو معسر و أنا موسر و يتفضل علي في الخدمة و هو شيخ ضعيف و أنا شاب و يطبخ لي و هو صائم و أنا مفطر فسأله عما كان يكرهه من كثرة بكائه فقال : و الله ألفت ذلك البكاء و أشرب حبه قلبي حتى كنت أساعده عليه حتى تأذى بنا الرفقة ثم ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا و يقول بعضهم لبعض : ما الذي جعلهما أولى بالبكاء منا و المصير واحد فجعلوا و الله يبكون و نبكي ثم خرج من عنده فدخل على بهيم فسلم عليه و قال له : كيف رأيت صاحبك قال : خير صاحب كثير الذكر لله طويل التلاوة للقرآن سريع الدمعة متحمل لهفوات الرفيق فجزاك الله عني خيرا و كان ابن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام و هو صائم و كان إذا أراد الحج من بلده مر و جمع أصحابه و قال : من يريد منكم الحج فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده في صندوق و يقفل عليه ثم يحملهم و ينفق عليهم أوسع النفقة و يطعمهم أطيب الطعام ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا و التحف ثم يرجع بهم إلى بلده فإذا وصلوا صنع لهم طعاما ثم جمعهم عليه و دعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فرد إلى كل واحد نفقته
المعنى الثاني : مما يراد بالبر : فعل الطاعات كلها و ضده الإثم و قد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله : { و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب } الآية فتضمنت الآية : أن أنواع البر ستة أنواع من استكملها فقد استكمل البر : أولها : الإيمان بأصول الإيمان الخمسة و ثانيها : إيتاء المال المحبوب لذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و ثالثها : إقام الصلاة و رابعها : إيتاء الزكاة و خامسها : الوفاء بالعهد و سادسها : الصبر على البأساء و الضراء و حين البأس و كلها يحتاج الحاج إليها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان و لا يكمل حجه و يكون مبرورا بدون إقام الصلاة و إيتاء الزكاة فإن أركان الإسلام بعضها مرتبطة ببعض فلا يكمل الإيمان و الإسلام حتى يؤتي بها كلها و لا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات و المشاركات المحتاج إليها في سفر الحج و إيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه و يحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر فهذه خصال البر و من أهمها للحاج : إقام الصلاة فمن حج من غير إقام الصلاة لا سيما إن كان حجه تطوعا كان بمنزلة من سعى في ربح درهم و ضيع رأس ماله و هو ألوف كثيرة و قد كان السلف يواظبون في الحج على نوافل الصلاة و كان النبي صلى الله عليه و سلم [ يواظب على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها و يؤثر عليها ] و حج مسروق فما نام إلا ساجدا و كان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليله أجمع في محمله يومىء إيماء و يأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه حتى يشغل عنه بسماع صوت الحادي فلا يتفطن له و كان المغيرة بن الحكيم الصنعاني يحج من اليمن ماشيا و كان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن فيقف فيصلي حتى يفرغ من ورده ثم يلحق بالركب متى لحق فربما لم يلحقهم إلا في آخر النهار سلام الله على تلك الأرواح رحمة الله على تلك الأشباح ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل :
( نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... و نزلت بالبيداء أبعد منزل )
فنحن ما نأمر إلا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها و لو بالجمع بين الصلاتين المجموعتين في وقت إحداهما بالأرض فإنه لا يرخص لأحد أن يصلي صلاة الليل في النهار و لا صلاة النهار في الليل و لا أن يصلي على ظهر راحلته المكتوبة إلا من خاف الإنقطاع عن رفقته أو نحو ذلك مما يخاف على نفسه فأما المريض و من كان في ماء وطين ففي صلاته على الراحلة اختلاف مشهور للعلماء و فيه روايتان عن الإمام أحمد و أن يكون بالطهارة الشرعية بالوضوء بالماء مع القدرة عليه و التيمم عند العجز حسا أو شرعا و متى علم الله من عبد حرصه على إقام الصلاة على وجهها أعانه قال بعض العلماء : كنت في طريق الحج و كان الأمير يقف للناس كل يوم لصلاة الفجر فينزل فنصلي ثم نركب فلما كان ذات يوم قرب طلوع الشمس و لم يقفوا للناس فناديتهم فلم يلتفتوا إلى ذلك فتوضأت على المحمل ثم نزلت للصلاة على الأرض و وطنت نفسي على المشي إلى وقت نزولهم للضحى و كانوا لا ينزلون إلى قريب وقت الظهر مع علمي بمشقة ذلك علي و إني لا قدرة لي عليه فلما صليت و قضيت صلاتي نظرت إلى رفقتي فإذا هم وقوف و قد كانوا لو سئلوا ذلك لم يفعلوه فسألتهم عن سبب وقوفهم ؟ فقالوا : لما نزلت تعرقلت مقاود الجمال بعضها في بعض فنحن في تخليصها إلى الآن قال : فجئت و ركبت و حمدت الله عز و جل و علمت أنه ما قدم أحد حق الله على هوى نفسه و راحتها إلا رأى سعادة الدنيا و الآخرة و لا عكس أحد ذلك فقدم حظ نفسه على حق ربه إلا و رأى الشقاوة في الدنيا و الآخرة و استشهد بقول القائل :
( و الله ما جئتكم زائرا ... إلا وجدت الأرض تطوى لي )
( و لا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي )
و من أعظم أنواع بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه و قد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل : [ أي الحاج أفضل ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ] خرجه الإمام أحمد و روي مرسلا من وجوه متعددة و خصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام بالتلبية و التكبير و في الترمذي و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أفضل الحج العج و الثج ]
و في حديث جبير بن مطعم المرفوع : [ عجو التكبير عجا و ثجوا الإبل ثجا ] فالعج رفع الصوت في التكبير و التلبية الثج إراقة دماء الهدايا و النسك و الهدي من أفضل الأعمال قال الله تعالى : { و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } الآية و قال الله تعالى : { و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } و أهدى النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع مائة بدنة و كان يبعث الهدي إلى منى فتنحر عنه و هو مقيم بالمدينة الأمر الثاني : مما يكمل ببر الحج اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث و الفسوق و المعاصي قال الله تعالى : { فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله و تزودوا فإن خير الزاد التقوى }
و في الحديث الصحيح : [ من حج هذا البيت فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ]
و قد سبق حديث : [ من لم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله فليس لله حاجة في حجه ] فما تزود حاج و لا غيره أفضل من زاد التقوى و لا دعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ودع غلاما للحج فقال له : زودك الله التقوى ] قال بعض السلف لمن ودعه : اتق الله فمن اتقى الله فلا وحشة عليه و قال آخر : لمن ودعه للحج أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عليه و سلم معاذا حين ودعه : [ اتق الله حيثما كنت و أتبع السيئة الحسنة تمحها و خالق الناس بخلق حسن ] و هذه وصية جامعة لخصال البر كلها و لأبي الدرداء رضي الله عنه :
( يريد المرء أن تؤتى مناه ... و يأبى الله إلا ما أراد )
( يقول المرء فائدتي و مالي ... و تقوى الله أفضل ما استفاد )
و من أعظم ما يجب على الحاج اتقاؤه من الحرام و أن يطيب نفقته في الحج و أن لا يجعلها من كسب حرام و قد خرج الطبراني و غيره [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة و وضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء : لبيك و سعديك زادك حلال و راحلتك حلال و حجك مبرور غير مأزور و إذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء : لا لبيك و لا سعديك زادك حرام و نفقتك حرام و حجك غير مبرور ] مات رجل في طريق مكة فحفروا له فدفنوه و نسوا الفأس في لحده فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفاس فإذا رأسه و عنقه قد جمعا في حلقة الفاس فردوا عليه التراب و رجعوا إلى أهله فسألوهم عنه فقالوا : صحب رجلا فأخذ ماله فكان منه يحج و يغزو
( إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت و لكن حجت العير )
( لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت الله مبرور )
و ما يجب اجتنابه على الحاج و به يتم بر حجه أن لا يقصد بحجه رياء و لا سمعة و لا مباهاة و لا فخرا و لا خيلاء و لا يقصد به إلا وجه الله و رضوانه و يتواضع في حجه و يستكين و يخشع لربه روي [ عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم حج على رحل رث و قطيفة ما تساوي أربعة دراهم و قال : اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها و لا سمعة ]
و قال عطاء : [ صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبح بمنى غداة عرفة ثم غدا إلى عرفات و تحته قطيفة اشتريت له بأربعة دراهم و هو يقول : اللهم اجعلها حجة مبرورة متقبلة لا رياء فيها و لا سمعة ]
و قال عبد الله بن الحارث : [ ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم رحلا فاهتز به فتواضع لله عز و جل و قال : لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة ]
قال رجل لابن عمر : ما أكثر الحاج فقال : ابن عمر : ما أقلهم ثم رأى رجلا على بعير على رحل رث خطامه حبال فقال : لعل هذا و قال شريح : الحاج قليل و الركبان كثير ما أكثر من يعمل الخير و لكن ما أقل الذين يريدون وجهه
( خليلي قطاع الفيافي إلى الحمى ... كثير و أما الواصلون قليل )
كان بعض المتقدمين يحج ماشيا على قدميه كل عام فكان ليلة نائما على فراشه فطلبت منه أمه شربة ماء فصعب على نفسه القيام من فراشه لسقي أمه الماء فتذكر حجه ماشيا كل عام و أنه لا يشق عليه فحاسب نفسه فرأى أنه لا يهونه عليه إلا رؤية الناس له و مدحهم إياه فعلم أنه كان مدخولا قال بعض التابعين : رب محرم يقول : لبيك اللهم لبيك فيقول الله : لا لبيك و لا سعديك هذا مردود عليك قيل له : لم ؟ قال : لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم و رحلا بمائتي درهم و مفرشا بكذا و كذا ثم ركب ناقته و رجل رأسه و نظر في عطفيه فذلك الذي يرد عليه و من هنا استحب للحاج أن يكون شعثا أغبر و في حديث المباهاة يوم عرفة أن الله تعالى يقول لملائكته : [ انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين اشهدوا أني قد غفرت لهم ] قال عمر يوما و هو بطريق مكة : تشعثون و تغبرون و تتفلون و تضحون لا تريدون بذلك شيئا من عرض الدنيا ما نعلم سفرا خيرا من هذا يعني الحج و عنه قال : إنما الحاج الشعث التفل و قال ابن عمر لرجل رآه : قد استظل في إحرامه أضح لمن أحرمت له أي أبرز للضحى و هو حر الشمس
( أتاك الوافدون إليك شعثا ... يسوقون المقلدة الصواف )
( فكم من قاصد للرب رغبا ... و رهبا بين منتعل و حاف )
سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس و أمنا يترددون إليه و يرجعون عنه و لا يرون أنهم قضوا منه وطرا لما أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه و نسبه إليه بقوله عز و جل لخليله : { و طهر بيتي للطائفين } تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم فكلما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنوا و كلما تذكروا بعدهم عنه أنوا
( لا يذكر الرمل الأحن مغترب ... له بذي الرمل أوطار و أوطان )
( تهفو إلى البان من قلبي نوازعه ... و ما بي البان بل من داره البان )
رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجهم فوقف يبكي و يقول : واضعفاه و ينشد على أثر ذلك :
( فقلت دعوني و اتباعي ركابكم ... أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد )
ثم تنفس و قال : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت يحق لمن رأى الواصلين و هو منقطع أن يقلق و لمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة و هو قاعد أن يحزن
( يا سائق العيس ترفق و استمع ... مني و بلغ السلام عني )
( عرض بذكري عندهم لعلهم ... إن سمعوك سألوك عني )
( قل ذلك المحبوس عن قصدكم ... معذب القلب بكل فني )
( يقول أملت بأن أزوركم ... في جملة الوفد فخاب ظني )
( أقعدني الحرمان عن قصدكم ... و رمت أن أسعى فلم يدعني )
ينبغي للمنقطعين طلب الدعاء من الواصلين لتحصل المشاركة كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعمر لما أراد العمرة : [ يا أخي أشركنا في دعائك ] و في مسند البزار [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : اللهم اغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج ] و في الطبراني [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول في الطواف : اللهم اغفر لفلان بن فلان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من هذا ؟ قال : رجل حملني أن أدعو له بين الركن و المقام فقال : قد غفر لصاحبك ]
( ألا قل لزوار دار الحبيب ... هنيئا لكم في الجنان الخلود )
( أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش و أنتم ورود )
لئن سار القوم و قعدنا و قربوا و بعدنا فما يؤمننا أن نكون ممن كره الله أتباعهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين
( لله در ركائب سارت بهم ... تطوي القفار الشاسعات على الدجا )
( رحلوا إلى البيت الحرام و قد شجا ... قلب المتيم منهمو ما قد شجا )
( نزلوا بباب لا يخيب نزيله ... و قلوبهم بين المخافة و الرجا )
على أن المتخلف لعذر شريك للسائر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لما رجع من غزوة تبوك : [ إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا و لا قطعتم واديا إلا كانوا معكم خلفهم العذر ]
( يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
و ربما سبق بعض من سار بقلبه و همته و عزمه بعض السائرين ببدنه رأى بعض الصالحين في منامه عشية عرفة بعرفة قائلا يقول له : ترى هذا الزحام بالموقف قال : نعم قال : ما حج منهم إلا رجل واحد تخلف عن الموقف فحج بهمته فوهب الله له أهل الموقف ما الشأن فيمن سار ببدنه إنما الشأن فيمن قعد بدنه و سار بقلبه حتى سبق الركب
( من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدا و تجي في الأول )
يا سائرين إلى دار الأحباب قفوا للمنقطعين تحملوا معكم رسائل المحصرين
( خذوا نظرة مني ... فلاقوا بها الحمى )
( يا سائرين إلى الحبيب ترفقوا ... فالقلب بين رحالكم خلفته )
( مالي سوى قلبي و فيك أذبته ... مالي سوى دمعي و فيك سكبته )
كان عمر بن عبد العزيز إذا رأى من يسافر إلى المدينة النبوية يقول له : أقرىء رسول الله صلى الله عليه و سلم مني السلام و روي أنه كان يبرد عليه البريد من الشام
( هذه الخيف و هاتيك مني ... فترفق أيها الحادي بنا )
( و احبس الركب علينا ساعة ... نندب الربع و نبكي الدمنا )
( فلذا الموقف أعددنا البكا ... و لذا اليوم الدموع تقتني )
( أتراكم في النقا و المنحنا ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الربح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا و قد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( آه و أشواقي إلى ذاك الحمى ... شوق محروم و قد ذاق العنا )
( سلموا عني على أربابه ... أخبروهم أنني خلف الضنا )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكم ما عندنا )
( بيننا يوم أثيلات النقا ... كان عن غير تراض بيننا )
( زمنا كان و كنا جيرة ... فأعاد الله ذاك الزمنا )
من شاهد تلك الديار و عاين تلك الآثار ثم انقطع عنها لم يمت إلا بالأسف عليها و الحنين إليها
( ما أذكر عيشنا الذي قد سلفا ... إلا وجف القلب و كم قد وجفا )
( واها لزماننا الذي كان صفا ... وا أسفا و هل يرد فائتا وا أسفا )
المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج و العمرة عند العجز عنهما
يذكر بعد خروج الحاج في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : ذهب الدثور من الأموال بالدرجات العلى و النعيم المقيم يصلون كما نصلي و يصومون كما نصوم و لهم فضل أموال يحجون بها و يعتمرون و يجاهدون و يتصدقون ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أحدثكم بمال لو أخذتم به لحقتم من سبقكم و لم يدرككم أحد بعدكم و كنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله : تسبحون و تحمدون و تكبرون خلف كل صلاة ثلاثا و ثلاثين ] و في المسند و سنن النسائي [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يحجون و لا نحج و يجاهدون و لا نجاهد و بكذا و بكذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أدلكم على شيء إن أخذتم به جئتم من أفضل ما يجيء به أحد منهم : أن تكبروا الله أربع و ثلاثين و تسبحوه ثلاثا و ثلاثين و تحمدوه ثلاثا و ثلاثين في دبر كل صلاة ] المال لمن استعان به على طاعة الله و أنفقه في سبل الخيرات القربة إلى الله سبب موصل له إلى الله و هو لمن أنفقه في معاصي الله و استعان به على نيل أغراضه المحرمة أو اشتغل به عن طاعة الله قاطع له عن الله كما قال أبو سليمان الداراني : الدنيا حجاب عن الله لأعدائه و مطية موصلة إليه لأوليائه فسبحان من جعل سببا واحدا للإتصال به و الإنقطاع عنه و قد مدح الله في كتابه القسم الأول و ذم القسم الثاني فقال في مدح الأولين : { الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون } و قال : { إن الذين يتلون كتاب الله و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله إنه غفور شكور } و الآيات في المعنى كثيرة جدا و قال في ذم الآخرين : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله و من يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * و أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق و أكن من الصالحين } و قد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس أحد لا يؤتي زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت ثم تلا هذه الآية و أخبر عن أهل النار الذين يؤتي أحدهم كتابه بشماله أنه يقول : { ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه } و الأحاديث في مدح من أنفق ماله في سبل الخيرات و في ذم من لم يؤد حق الله منه كثيرة جدا و قد صلى الله عليه و سلم : [ نعم المال الصالح للرجل الصالح ] و قال : [ الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا و هكذا عن يمينه و عن شماله و من خلفه و قليل ما هم ] و قال : [ إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و إن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع ] فالمؤمن الذي يأخذ المال من حقه و يضعه في حقه فله أجر ذلك كله و كلما أنفق منه يبتغي به وجه الله فهو له صدقة يؤجر عليها حتى ما يطعم نفسه فهو له صدقة و ما يطعم ولده فهو له صدقة و ما يطعم أهله فهو له صدقة و ما يطعم خادمه فهو له صدقة و كان عامة أهل الأموال من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم من هذا القسم قال أبو سليمان : كان عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف خازنين من خزان الله تعالى في أرضه ينفقان في طاعته و كانت معاملتهم لله بقلوبهما و رأس المنفقين أموالهم في سبيل الله من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه و فيه نزلت هذه الآية : { و سيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * و ما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * و لسوف يرضى } و في صحيح الحاكم عن ابن الزبير قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك و يقومون دونك فقال أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد ما أريد قيل : و إنما أنزلت هذه الآيات فيه : { فأما من أعطى و اتقى } إلى آخر السورة و روي من وجه آخر عن ابن الزبير و خرجه الإسماعيلي و لفظه : أن أبا بكر كان يبتاع الضعفة فيعتقهم فقال له أبو قحافة : يا بني لو ابتعت من يمنع ظهرك فقال : يا أبت منع ظهري أريد و نزلت فيه : { و سيجنبها الأتقى } إلى آخر السورة و خرج أبو داود و الترمذي [ من حديث عمر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتصدق و وافق ذلك عندي مالا فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما قال : فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله و إن أبا بكر أتى بكل ما عنده فقال : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله و رسوله فقلت : لا أسابقه إلى شيء أبدا ] و خرج الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر و قال : هل أنا و مالي إلا لك يا رسول الله ] و خرجه الترمذي بدون هذه الزيادة في آخره و كان من المنفقين أموالهم في سبيل الله عثمان بن عفان ففي الترمذي [ عن عبد الرحمن بن خباب قال : شهدت النبي صلى الله عليه و سلم و هو يحث على جيش العسرة فقام عثمان فقال : يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال : يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال : يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل على المنبر و هو يقول : ما على عثمان ما فعل بعد هذه ما على عثمان ما فعل بعد هذه ] و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن عثمان جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره قال : فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم يقلبها في حجره و يقول : ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم مرتين ] و كان أيضا منهم عبد الرحمن بن عوف و في مسند الإمام أحمد أنه قدم له عير إلى المدينة فارتجت لها المدينة فسألت عائشة عنها و حدثت حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم فبلغ عبد الرحمن فجعلها كلها في سبيل الله بأقتابها و أحلاسها و كانت سبعمائة راحلة و خرجه ابن سعد من وجه آخر فيه انقطاع و عنده أنها كانت خمسمائة راحلة و خرج الترمذي [ من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول تعني لأزواجه : إن أمركن لمما يهمني بعدي و لن يصبر عليكن إلا الصابرون قال : ثم تقول عائشة لأبي سلمة : سقى الله أباك من سلسبيل الجنة و كان قد وصل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم بمال بيعت بأربعين ألفا ] و قال : حسن غريب و خرجه الحاكم و صححه و خرج الإمام أحمد أوله و خرج الإمام أحمد أيضا و الحاكم [ من حديث أم بكر بنت المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار فقسمها في فقراء بني زهرة و في المهاجرين و أمهات المؤمنين قال المسور : فأتيت عائشة رضي الله عنها بنصيبها من ذلك فقالت لنا : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة ] و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأزواجه : إن الذي يحنو عليكن بعدي هو الصادق البار : اللهم ساق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة ] و خرجه ابن سعد و زاد : إن إبراهيم بن سعد قال : حدثني بعض أهلي من ولد عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف باع أمواله من كيدمة و سهمه من بني النضير بأربعين ألف دينار فقسمها على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و خرج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أن أباه عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف و خرجه الحاكم و لفظه : بيعت بأربعين ألف دينار و أخبار الأجواد المنفقين أموالهم في سبيل الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يطول ذكرها جدا و كان الفقراء من الصحابة كلما رأوا أصحاب الأموال منهم ينفقون أموالهم فيما يحبه الله من الحج و الإعتمار و الجهاد في سبيل الله و العتق و الصدقة و البر و الصلة و غير ذلك من أنواع البر و الطاعات و القربات حزنوا لما فاتهم من مشاركتهم في هذه الفضائل و قد ذكرهم الله في كتابه بذلك فقال تعالى : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } : نزلت هذه الآية بسبب قوم من فقراء المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه و سلم و هو يتجهز إلى غزوة تبوك فطلبوا منه أن يحملهم فقال لهم : [ لا أجد ما أحملكم عليه ] فرجعوا و هم يبكون حزنا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بعض العلماء : هذا و الله بكاء الرجال بكوا على فقدهم رواحل يتحملون عليها إلى الموت في مواطن تراق فيها الدماء في سبيل الله و تنزع فيها رؤوس الرجال عن كواهلها بالسيوف فأما من بكى على فقد حظه من الدنيا و شهواته العاجلة فذلك شبيه ببكاء الأطفال و النساء على فقد حظوظهم العاجلة
( سهر العيون لغير وجهك باطل ... و بكاؤهن لغير فقدك ضائع )
إنما يحسن البكاء و الأسف على فوات الدرجات العلى و النعيم المقيم قال بعضهم : يرى رجل في الجنة يبكي فيسأل عن حاله فيقول : كانت لي نفس واحدة قتلت في سبيل الله و وددت أنه كانت لي نفوس كثيرة تقتل كلها في سبيله غزا قوم في سبيل الله فلما صافوا عدوهم و اقتتلوا رأى كل واحد منهم زوجته من الحور قد فتحت بابا من السماء و هي تستدعي صاحبها إليها و تحثه على القتال فقتلوا كلهم إلا واحدا و كان كلما قتل منهم واحد غلق باب و غابت منه المرأة فأفلت آخرهم فأغلقت تلك المرأة الباب الباقي و قالت ما فاتك يا شقي ؟ فكان يبكي على حاله إلى أن مات و لكنه أورثه ذلك طول الإجتهاد و الحزن و الأسف
( على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... و إن كان من ليلى على الهجر طاويا )
لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز و جل : { فاستبقوا الخيرات }
{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض } فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة و المسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملا يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له فيحزن لفوات سبقه فكان تنافسهم في درجات الآخرة و استباقهم إليها كما قال تعالى : { و في ذلك فليتنافس المتنافسون } ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر فصار تنافسهم في الدنيا الدنية و حظوظها الفانية قال الحسن : إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة و قال وهيب بن الورد : إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل و قال بعض السلف : لو أن رجلا سمع بأحد أطوع لله منه كان ينبغي له أن يحزنه ذلك و قال غيره : لو أن رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب قال رجل لمالك بن دينار رأيت في المنام مناديا ينادي أيها الناس الرحيل الرحيل فما رأيت أحدا يرتحل إلا محمد بن واسع فصاح مالك و غشي عليه : { والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم } قال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة ليس السابق اليوم من سبق به بعيره إنما السابق من غفر له كان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال عمر : ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقنا أبو بكر و كان سباقا بالخيرات ثم كان السابق بعده إلى الخيرات عمر و في آخر حجة حجها عمر جاء رجل لا يعرف كانوا يرونه من الجن فرثاه بأبيات منها :
( فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق )
صاحب الهمة العالية و النفس الشريفة التواقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية و إنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية التي لا تفنى و لا يرجع عن مطلوبه و لو تلفت نفسه في طلبه و من كان في الله تلفه كان على الله خلفه
قيل لبعض المجتهدين في الطاعات : لم تعذب هذا الجسد ؟ قال : كرامته أريد
( و إذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام )
قال عمر بن عبد العزيز إن لي نفسا تواقة ما نالت شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه و إنها لما نالت هذه المنزلة يعني الخلافة و ليس في الدنيا منزلة أعلى منها تاقت إلى ما هو أعلى من الدنيا يعني الآخرة
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... و تأتي على قدر الكرام المكارم )
قيمة كل إنسان ما يطلب فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه فإن الدنيا دنية و أدنى منها من يطلبها و هي خسيسة و أخس منها من يخطبها قال بعضهم : القلوب جوالة فقلب يجول حول العرش و قلب يجول حول الحش الدنيا كلها حش و كل ما فيها من مطعم و مشرب يؤل إلى الحش و ما فيها من أجسام و لباس يصير ترابا كما قيل : و كل الذي فوق التراب تراب و قال بعضهم في يوم عيد لإخوانه : هل تنظرون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا و أما من كان يطلب الآخرة فقدره خطير لأن الآخرة خطيرة شريفة و من يطلبها أشرف منها كما قيل :
( أثامن بالنفس النفيسة ربها ... و ليس لها في الخلق كلها ثمن )
( بها تدرك الأخرى فإن أنا بعتها ... بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن )
( لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها ... لقد ذهبت نفسي و قد ذهب الثمن )
و أما من كان يطلب الله فهو أكبر الناس عنده كما أن مطلوبه أكبر من كل شيء كما قيل :
( له همم لا منتهى لكبارها ... و همته الصغرى أجل من الدهر )
قال الشبلي : من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رمادا تذروه الرياح و من ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب ينتفع به و من ركن إلى الله أحرقه بنور التوحيد فصار جوهرا لا قيمة له العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه و يبذل وسعه في الوصول إلى رضى محبوبه فأما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه و يتكل على مجرد العفو فيفوته إن حصل له العفو منازل السابقين المقربين قال بعض السلف : هب أن المسيء عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين
( فيا مذنب يرجو من الله عفوه ... أترضى بسبق المتقين إلى الله )
لما تنافس المتنافسون في نيل الدرجات غبط بعضهم بعضا بالأعمال الصالحات قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل و آناء النهار و رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و آناء النهار ] و في رواية : [ لا تحاسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و النهار يقول : لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل و رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه يقول : لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل ] و هذا الحديث في الصحيحين و في الترمذي و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما مثل هذه الأمة كأربعة نفر : رجل آتاه الله مالا و علما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه و رجل آتاه الله علما و لم يؤته مالا و هو يقول : لو كان لي مثل هذا لعملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فهما في الأجر سواء و رجل آتاه الله مالا و لم يؤته الله علما و لا مالا فهو يقول : لو كان لي مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فهما في الوزر سواء ] و روى حميد بن زنجويه بإسناده عن زيد بن أسلم قال : يؤتى يوم القيامة بفقير و غني اصطحبا في الله فيوجد للغني فضل عمل فيما كان يصنع في ماله فيرفع على صاحبه فيقول الفقير : يا رب لما رفعته و إنما اصطحبنا فيك و عملنا لك فيقول الله تعالى : له فضل عمل بما صنع في ماله فيقول : يا رب لقد علمت لو أعطيتني مالا لصنعت مثل ما صنع فيقول : صدق فارفعوه إلى منزلة صاحبه و يؤتى بمريض و صحيح اصطحبا في الله فيرفع الصحيح بفضل عمله فيقول المريض : يا رب لم رفعته علي فيقول : بما كان يعمل في صحته فيقول : يا رب لقد علمت لو أصححتني لعملت كما عمل فيقول الله : صدق فارفعوه إلى درجة صاحبه و يؤتى بحر و مملوك اصطحبا في الله فيقول مثل ذلك و يؤتى بحسن الخلق و سيء الخلق فيقول : يا رب لم رفعته علي و إنما اصطحبنا فيك و عملنا فيقول : بحسن خلقه فلا يجد له جوابا العاقل يغبط من أنفق ماله في سبيل الخيرات و نيل علو الدرجات و الجاهل يغبط من أنفق ماله في الشهوات و توصل به إلى اللذات المحرمات قال الله تعالى حاكيا عن قارون : { فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * و قال الذين أوتوا العلم و يلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا } إلى قوله : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين }
فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم تأسف أصحابه الفقراء و حزنهم على ما فاتهم من إنفاق إخوانهم الأغنياء أموالهم في سبيل الله تقربا إليه و ابتغاء لمرضاته طيب قلوبهم و دلهم على عمل يسير يدركون به من سبقهم و لا يلحقهم معه أحد بعدهم و يكونون به خيرا ممن هم معه إلا من عمل مثل عملهم : و هو الذكر عقب الصلوات المفروضات و قد اختلفت الروايات بأنواعه و عدده و الأخذ بكل ما ورد من ذلك حسن و له فضل عظيم و في حديث أبي هريرة هذا : أنهم يسبحون و يحمدون و يكبرون خلف كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و قد فسره أبو صالح راوية عنه بالجمع و هو أن يقول : سبحان الله و الحمد لله و الله أكبر ثلاثا و ثلاثين مرة فيكون جملة ذلك تسعا و تسعين
و قد يستشكل على هذا حديث : [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم : عما يعدل الجهاد ؟ فقال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر و تقوم و لا تفتر ] و هو حديث ثابت صحيح أيضا فلم يجعل للجهاد عدلا سوى الصيام الدائم و القيام الدائم و في هذا الحديث قد جعل الذكر عقب الصلوات عدلا له ؟ و الجمع بين ذلك كله : أن النبي لم يجعل للجهاد في زمانه عملا يعدله بحيث إذا انقضى الجهاد انقضى ذلك العمل و استوى العامل مع المجاهد في الأجر و إنما جعل الذي يعدل الجهاد الذكر الكثير المستدام في بقية عمر المؤمن من غير قطع له حتى يأتي صاحبه أجله فإذا استمر على هذا الذكر في أوقاته إلى أن مات عليه عدل ذكره هذا الجهاد و قد دل على ذلك أيضا ما خرجه الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها في درجاتكم و خير لكم من إنفاق الذهب و الورق و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : ذكر الله عز و جل ] و خرجه مالك في الموطأ موقوفا و خرج الإمام أحمد و الترمذي أيضا من [ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل : أي العبادة أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : { الذاكرين الله كثيرا } قلت يا رسول الله و من الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه الكفار و المشركين حتى ينكسر و يختصب دما لكان الذاكرون الله عز و جل أفضل منه درجة ] و قد روي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه و طائفة من الصحابة موقوفا و أن الذكر لله أفضل من الصدقة بعدة دراهم و دنانير و من النفقة في سبيل الله و قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه : رجل أعتق مائة نسمة ؟ قال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير و أفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل و النهار و أن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز و جل و عنه قال : لأن أقول لا إله إلا الله و الله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار و يروى مرفوعا و موقوفا من غير وجه من فاته الليل أن يكابده و بخل بالمال أن ينفقه و جبن عن عدوه أن يقاتله فليكثر من سبحان الله و بحمده فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب أو فضة ينفقه في سبيل الله عز و جل و ذكر الله من أفضل أنواع الصدقة و خرج الطبراني [ عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : ما صدقة أفضل من ذكر الله عز و جل ] و قد قال طائفة من السلف في قول الله عز و جل : { و أقرضوا الله قرضا حسنا } : إن القرض الحسن قول : سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و في مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله عز و جل من قول ليس من القرآن و هو من القرآن : سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر ] و روى عبد الرزاق في كتابه [ عن معمر عن قتادة قال : قال ناس من فقراء المؤمنين : يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأجور يتصدقون و لا نتصدق و ينفقون و لا ننفق قال أرأيتم لو أن مال الدنيا وضع بعضه على بعض أكان بالغا السماء ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : أفلا أخبركم بما أصله في الأرض و فرعه في السماء : أن تقولوا في دبر كل صلاة : لا إله إلا الله و الله أكبر و سبحان الله و الحمد لله عشر مرات فإن أصلهن في الأرض و فرعهن في السماء ] و قد كان بعض الصحابة يظن أن لا صدقة إلا بالمال فأخبره النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن الصدقة لا تختص بالمال و أن الذكر و سائر أعمال المعروف صدقة ] كما في صحيح مسلم [ عن أبي ذر رضي الله عنه : أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الثور بالأجور يصلون كما نصلي و يصومون كما نصوم و يتصدقون بفضول أموالهم ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أوليس قد جعل الله لكم صلاة العشاء في جماعة تعدل حجة و صلاة الغد في جماعة تعدل عمرة ] و قال أبو هريرة لرجل : بكورك إلى المسجد أحب إلي من غزوتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكره الإمام أحمد أداء الواجبات كلها أفضل من التنفل بالنفل بالحج و العمرة و غيرهما فإنه ما تقرب العباد إلى الله تعالى بأحب إليه من أداء ما افترض عليهم و كثير من الناس يهون عليه التنقل بالحج و الصدقة و لا يهون عليه أداء الواجبات من الديون و رد المظالم و كذلك يثقل على كثير من النفوس التنزه عن كسب الحرام و الشبهات و يسهل عليها إنفاق ذلك في الحج و الصدقة قال بعض السلف : ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلي من خمسمائة حجة كف الجوارح عن المحرمات أفضل من التطوع بالحج و غيره و هو أشف على النفوس قال الفضيل بن عياض : ما حج و لا رباط و لا جهاد أشد من حبس اللسان و لو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في هم شديد ليس الإعتبار بأعمال البر بالجوارح و إنما الإعتبار بلين القلوب و تقواها و تطهيرها عن الآثام سفر الدنيا ينقطع بسير الأبدان و سفر الآخرة ينقطع بسير القلوب قال رجل لبعض العارفين : قد قطعت إليك مسافة قال : ليس هذا الأمر بقطع المسافات فارق نفسك بخطوة و قد وصلت إلى مقصودك سير القلوب أبلغ من سير الأبدان كم من واصل ببدنه إلى البيت و قلبه منقطع عن رب البيت و كم من قاعد على فراشه في بيته و قلبه متصل بالمحل الأعلى
( جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة و الروح في وطن )
قال بعض العارفين : عجبا لمن يقطع المفاوز و القفار ليصل إلى البيت فيشاهد فيه آثار الأنبياء كيف لا يقطع هواه ليصل إلى قلبه فيرى فيه أثر : [ و يسعني قلب عبدي المؤمن ] أيها المؤمن : إن لله بين جنبيك بيتا لو طهرته لأشرق ذلك البيت بنور ربه و انشرح و انفسح أنشد الشبلي :
( إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج )
( و مريضا أنت عائده ... قد أتاه الله بالفرج )
( وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج )
تطهيره تفريغه من كل ما يكرهه الله تعالى من أصنام النفس و الهوى و متى بقيت فيه من ذلك بقية فالله أغنى الأغنياء عن الشرك و هو لا يرضى بمزاحمة الأصنام قال سهل بن عبد الله : حرام على قلب أن يدخله النور و فيه شيء مما يكرهه الله
( أردناكم صرفا فلما مزجتم ... بعدتم بمقدار التفاتكم عنا )
( و قلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا ... فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا )
إخواني إن حبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس فهو الجهاد الأكبر أو أحصرتم عن أداء النسك فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر فإن إراقة الدماء لازمة للمحصر و لا تحلقوا رؤوس أديانكم بالذنوب فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر و قوموا لله باستشعار الرجاء و الخوف مقام القيام بأرجاء الخيف و المشعر و من كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه و استغفر و من عجز عن حج البيت أو البيت منه بعد فليقصد رب البيت فإنه ممن دعاه و رجاه أقرب من حبل الوريد
( إليك قصدي رب البيت و الحجر ... فأنت سؤالي من حجي و من عمري )
( و فيك سعيي و تطوافي و مزدلفي ... و الهدي جسمي الذي يغني عن الجزي )
( و مسجد الخيف خوفي من تباعدكم ... و مشعري و مقامي دونكم خطري )
( زادي رجائي لكم و الشوق راحلتي ... و الماء من عبراتي و الهوى سفري )
وظيفة شهر ذي القعدة
خرج الإمام أحمد بإسناده [ عن رجل من باهلة قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم لحاجة مرة فقال : من أنت ؟ قلت : أما تعرفني ؟ قال : و من أنت ؟ قلت : أنا الباهلي الذي أتيتك عام أول فقال : إنك أتيتني و جسمك و لونك و هيئتك حسنة فما بلغ بك و ما أرى ؟ قلت : و الله ما أفطرت بعدك إلا ليلا قال : من أمرك أن تعذب نفسك من أمرك أن تعذب نفسك ؟ ـ ثلاث مرات ـ صم شهر الصبر قلت : إني أجد قوة و إني أحب أن تزيدني قال : صم يوما من الشهر قلت : إني أجد قوة و إني أحب أن تزيدني قال : فيومين من الشهر قلت : إني أجد قوة و إني أحب أن تزيدني قال : ثلاثة أيام من الشهر قال : ألح عند الرابعة فما كاد فقلت : إني أجد قوة و إني أحب أن تزيدني قال : فمن الحرم و أفطر ] و خرجه أبو داود و النسائي و ابن ماجه بمعناه و في ألفاظهم زيادة و نقص و في بعض الروايات : [ صم الحرم و أفطر ] في هذا الحديث دليل على أن من تكلف من العبادة ما يشق عليه حتى تأذى بذلك جسده فإنه غير مأمور بذلك و لذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم له : [ من أمرك أن تعذب نفسك ] و أعادها عليه ثلاث مرار و هذا كما قاله لمن رآه يمشي في الحج و قد أجهد نفسه : [ إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه فمروه فليركب ] و قال لعبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يصوم النهار و يقوم الليل و يختم القرآن في كل ليلة و لا ينام مع أهله فأمره : [ أن يصوم و يفطر و يقرأ القرآن في كل سبع ] و قال له [ إن لنفسك عليك حقا و إن لأهلك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه ] و لما بلغه عن بعض الصحابة أنه قال : أنا أصوم و لا أفطر و قال آخر منهم : أنا أقوم و لا أنام و قال آخر منهم : لا أتزوج النساء فخطب و قال : [ ما بال رجال يقولون : كذا و كذا : لكني أصوم و أفطر و أقوم و أنام و آكل اللحم و أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] و سبب هذا : أن الله تعالى خلق ابن آدم محتاجا إلى ما يقوم به بدنه من مأكل و مشرب و منكح و ملبس و أباح له من ذلك كله ما هو طيب حلال تقوى به النفس و يصح به الجسد و يتعاونان على طاعة الله عز و جل و حرم من ذلك ما هو ضار خبيث يوجب للنفس طغيانها و عماها و قسوتها و غفلتها و أشرها و بطرها فمن أطاع نفسه في تناول ما تشتهيه مما حرمه الله عليه فقد تعدى و طغى و ظلم نفسه و من منعها حقها من المباح حتى تضررت بذلك فقد ظلمها و منعها حقها فإن كان ذلك سببا لضعفها و عجزها عن أداء شيء من فرائض الله عليه و حقوق الله عز و جل أو حقوق عباده كان بذلك عاصيا و أن كان ذلك سببا للعجز عن نوافل هي أفضل مما فعله كان بذلك مفرطا مغبونا خاسرا و قد كان رجل في زمن التابعين يصوم و يواصل حتى يعجز عن القيام فكان يصلي الفرض جالسا فأنكروا ذلك عليه حتى قال عمرو بن ميمون : لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم لرجموه و كان ابن مسعود يقل الصيام و يقول : إنه يضعفني عن قراءة القرآن و قراءة القرآن أحب إلي و أحرم رجل من الكوفة فقدم مكة و قد أصابه الجهد فرآه عمر بن الخطاب و هو سيء الهيئة فأخذ عمر بيده و جعل يدور به الحلق و يقول للناس : انظروا إلى ما يصنع هذا بنفسه و قد وسع الله عليه فمن تكلف من التطوع ما يتضرر به في جسمه كما فعل هذا الباهلي أو يمنع به حقا واجبا عليه كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص و غيره ممن عزم على ترك المباحات في عهد النبي صلى الله عليه و سلم فإنه ينهى عن ذلك و من احتمل بدنه ذلك و لم يمنعه من حق واجب عليه لم ينه عن ذلك إلا أن يمنعه عما هو أفضل من ذلك من النوافل فإنه يرشد إلى عمل الأفضل و أحوال الناس تختلف فيما تحمل أبدانهم من العمل كان سفيان الثوري يصوم ثلاثة أيام من الشهر فيرى أثر ذلك عليه و كان غيره في زمنه يصوم الدهر فلا يظهر عليه أثره و كان كثير من المتقدمين يحملون على أنفسهم من الأعمال ما يضر بأجسادهم و يحتسبون أجر ذلك عند الله و هؤلاء قوم أهل صدق وجد و اجتهاد فيحثون على ذلك و لكن لا يقتدى بهم و إنما يقتدى بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن خير الهدي هديه و من أطاعه فقد اهتدى و من اقتدى به و سلك وراءه وصل إلى الله عز و جل و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم ينهى عن التعسير و يأمر بالتيسير و دينه الذي بعث به يسر و كان يقول : [ خير دينكم أيسره ] و رأى رجلا يكثر الصلاة فقال : [ إنكم أمة أريد بكم اليسر ] و لم يكن أكثر تطوع النبي صلى الله عليه و سلم و خواص أصحابه بكثرة الصوم و الصلاة بل ببر القلوب و طهارتها و سلامتها و قوة تعلقها بالله خشية له و محبة و إجلالا و تعظيما و رغبة فيما عنده و زهدا فيما يفنى و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إني أعلمكم بالله و أتقاكم له قلبا ] قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه : أنتم أكثر صلاة و صياما من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و هم كانوا خيرا منكم قالوا : و لم ؟ قال : كانوا أزهد منكم في الدنيا و أرغب في الآخرة و قال بكر المزني : ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام و لا صلاة و لكن بشيء وقر في صدره قال بعض العلماء المتقدمين : الذي وقر في صدره هو حب الله و النصيحة لخلقه و سئلت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز بعد وفاته عن عمله ؟ فقالت : و الله ما كان بأكثر الناس صلاة و لا بأكثرهم صياما و لكن و الله ما رأيت أحدا أخوف لله من عمر لقد كان يذكر الله في فراشه فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول : ليصبحن الناس و لا خليفة لهم قال بعض السلف : ما بلغ من بلغ عندنا بكثرة صلاة و لا صيام و لكن بسخاوة النفوس و سلامة الصدور و النصح للأمة و زاد بعضهم و احتقار أنفسهم و ذكر لبعضهم شدة اجتهاد بني إسرائيل في العبادة فقال : إنما يريد الله منكم صدق النية فيما عنده فمن كان بالله أعرف فله أخوف و فيما عنده أرغب فهو أفضل ممن دون في ذلك و إن كثر صومه و صلاته وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : يا حبذا نوم الأكياس و فطرهم كيف يسبق سهر الجاهلين و صيامهم و لهذا المعنى كان فضل العلم النافع الدال على معرفة الله و خشيته و محبته و محبة ما يحبه و كراهة ما يكرهه لا سيما عند غلبة الجهل و التعبد به أفضل من التطوع بأعمال الجوارح قال ابن مسعود رضي الله عنه : أنتم في زمان العمل فيه أفضل من العلم و سيأتي زمان العلم فيه أفضل من العمل و قال مطرف : فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة و خير دينكم الورع و خرجه الحاكم و غيره مرفوعا و نص كثير من الأئمة على : أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة و كذلك الإشتغال بتطهير القلوب أفضل من الإستكثار من الصوم و الصلاة مع غش القلوب و دغلها و مثل من يستكثر من الصوم و الصلاة مع دغل القلب و غشه كمثل من بذر بذرا في أرض دغلة كثيرة الشوك فلا يزكو ما ينبت فيها من الزرع بل يمحقه دغل الأرض و يفسده فإذا نظفت الأرض من دغلها زكى ما ينبت فيها و نما قال يحيى بن معاذ : كم من مستغفر ممقوت و ساكت مرحوم هذا استغفر و قلبه فاجر و هذا سكت و قلبه ذاكر و قال غيره : ليس الشأن فيمن يقوم الليل إنما الشأن فيمن ينام على فراشه ثم يصبح و قد سبق الركب من سار على طريق الرسول صلى الله عليه و سلم و منهاجه و إن اقتصد فإنه يسبق من سار على غير طريقه و إن اجتهد
( من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدا و تجيء في الأول )
و المقصود أن هذا الباهلي لما رآه النبي صلى الله عليه و سلم و قد أنهكه الصوم و غير هيئته و أضر به في جسده أمره : أولا : أن يقتصر على صيام شهر الصبر و هو شهر رمضان فإنه الشهر الذي افترض الله صيامه على المسلمين و اكتفى منهم بصيامه من السنة كلها و صيامه كفارة لما بين الرمضانين إذا اجتنبت الكبائر فطلب منه الباهلي أن يزيده من الصيام و يأمره بالتطوع و أخبره أنه يجد قوة على الصيام فقال له : [ صم يوما من الشهر فاستزاده و قال : إني أجد قوة فقال : صم يومين من الشهر فاستزاده و قال : إني أجد قوة فقال صم ثلاثة أيام من الشهر قال : و ألح عند الثالثة فما كاد يعني ما كاد يزيده على الثلاثة أيام من الشهر ] و هكذا قال لعبد الله بن عمرو بن العاص أيضا ففي صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : [ صم يوما من الشهر و لك أجر ما بقي قال : إني أطيق أكثر من ذلك قال : صم يومين و لك أجر ما بقي قال : إني أطيق أكثر من ذلك قال : صم ثلاثة أيام و لك أجر ما بقي ] ففي هذا : أن صيام ثلاثة أيام من الشهر يحصل به أجر صيام الشهر كله و كذلك صيام يومين منه و وجه ذلك أن الصيام يضاعف ما لا يضاعف غيره من الأعمال و قد سبق ذكر ذلك عند الكلام على حديث : [ كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز و جل : إلا الصيام فإنه لي و أنا أجزي به ] فالصيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلا الله عز و جل و كلما قوي الإخلاص فيه و إخفاؤه و تنزيهه من المحرمات و المكروهات كثرت مضاعفته فلا يستنكر أن يصوم الرجل يوما من الشهر فيضاعف له بثواب ثلاثين يوما فيكتب له صيام الشهر كله و كذلك إذا صام يومين من الشهر و أما إذا صام منه ثلاثة أيام فهو ظاهر لأن الحسنة بعشر أمثالها و خرج الترمذي و النسائي [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صام كل شهر ثلاثة أيام كان كمن صام الدهر ] فأنزل الله عز و جل تصديق ذلك : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } اليوم بعشرة أيام و في الصحيحين [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها و ذلك مثل صيام الدهر ] و في رواية فيهما أيضا : [ إن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله ] و في المسند [ عن قرة المزني عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر و إفطاره ] يعني صيامه في مضاعفة الله و إفطاره في رخصة الله كما كان أبو هريرة رضي الله عنه و أبو ذر يقولان ذلك و كانا يصومان ثلاثة أيام من كل شهر و يقولان في سائر أيام الشهر نحن صيام و يتأولان لأنهما صيام في مضاعفة الله و هما مفطران في رخصة الله و قد وصى النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من أصحابه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر منهم : أبو هريرة رضي الله عنه و أبو الدرداء و أبو ذر و غيرهم و في المسند [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في صيام ثلاثة أيام من كل شهر : هو صوم حسن ] و فيه أيضا [ عن أبي ذر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : صوم شهر الصبر و ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر و يذهب مغلة الصدر قلت : و ما مغلة الصدر ؟ قال : رجس الشيطان ] و فيه أيضا عن رجل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صيام شهر الصبر و ثلاثة من كل شهر يذهبن كثيرا من وحر الصدر ] و في غير هذه الرواية : [ و غر الصدر ] و هما بمعنى واحد يقال : وحر صدره و وغر : إذا كان فيه غل و غش و قيل : الوحر الغل و الوغر الغيظ و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يتحرى صيام ثلاثة أيام من كل شهر و كذلك كان إبراهيم عليه السلام كما خرجه ابن ماجه [ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعا : صيام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر صام الدهر و أفطر الدهر ] و في السنن [ عن حفصة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم العشر و عاشوراء و ثلاثة أيام من كل شهر ] و في إسناده اختلاف و في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ] قيل لها من أيه كان يصوم ؟ قالت : كان لا يبالي من أيه صام ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن يبالي من أي الشهر صام الأيام الثلاثة
و قد روي في صفة صيام النبي صلى الله عليه و سلم للأيام الثلاثة من الشهر أنواع أخر : أحدها : ما خرجه الترمذي [ من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم من الشهر السبت و الأحد و الإثنين و من الشهر الآخر الثلاثاء و الأربعاء و الخميس ] و قال حديث حسن و ذكر أن بعضهم رواه موقوفا يعني من قول عائشة رضي الله عنها غير مرفوع الثاني : ما خرجه أبو داود و غيره [ من حديث حفصة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر الإثنين و الخميس و الإثنين من الجمعة الأخرى ] فعلى هذه الرواية كان النبي صلى الله عليه و سلم يجعلها من أول الشهر و لا يوالي بينها بل كان يتحرى بها يوم الإثنين مرتين و الخميس مرة الثالث : عكس الثاني خرجه النسائي [ من حديث حفصة أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أول اثنين من الشهر ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه ] و في رواية له أيضا : [ أول اثنين من الشهر و خميسين ] و خرج أبو داود من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم معنى ذلك و في رواية في المسند : [ الإثنين و الجمعة و الخميس ] و كأنها غير محفوظة فإن كانت محفوظة فهي نوع رابع و النوع الخامس : ما خرجه أبو داود و النسائي و الترمذي [ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام ] و حسنه الترمذي و ذكر أن بعضهم لم يرفعه يعني وقفه على ابن مسعود و ظاهر هذا أنه كان يوالي بين الأيام الثلاثة من أول كل شهر و النوع السادس : أنه كان يصوم أيام البيض فخرج النسائي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يدع صيام أيام البيض في حضر و لا سفر ]
و خرج الترمذي و النسائي [ عن أبي ذر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بصيام أيام البيض : ثلاث عشرة و أربع عشرة و خمس عشرة ] و في السنن الأربعة خلا الترمذي عن قتادة بن ملحان عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه و خرج النسائي من حديث جابر البجلي عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه أيضا و قد روي عن الحسن : أنه كان يصوم خمسة أيام من أول الشهر و يقول : ما يدريني لعلي لا أدرك البيض و في كتاب مناقب الحسن لأبي حيان التوحيدي : أن رجلا سأل الحسن لأي شيء استحب صيام الأيام البيض ؟ فلم يدر ما يقول فقال أعرابي عنده : لأن القمر ينكسف في لياليهن فيكون الناس عند حدوث الآيات على عبادة فقال الحسن : خذوها من غير فقيه
و في حديث الباهلي أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك : إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني فقال له : [ فمن الحرم و أفطر ] و في رواية : [ صم الحرم و أفطر ] و في رواية قال : [ صم الأشهر الحرم ] فهذا دليل على فضل صيام الأشهر الحرم الأربعة التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله : { منها أربعة حرم } و قد فسرها النبي صلى الله عليه و سلم في حديث أبي بكرة ـ [ بأنها ثلاثة متواليات : ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و شهر رجب ] و قد ذكرناه في وظيفة شهر رجب و ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن العمل الصالح و الأجر في هذه الحرم أعظم و ذكرنا في وظائف المحرم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم ] و سيأتي في وظائف ذي الحجة ذكر فضل صيام عشر ذي الحجة إن شاء الله و قد كان كثير من السلف يصوم الأشهر الحرم كلها روي ذلك عن ابن عمر و الحسن البصري و أبي إسحاق السبيعي و قال سفيان الثوري : الأشهر الحرم أحب إلي أن يصام منها و روى خلاد الصفار عن أبي مسلم قال : صيام يوم من أشهر الحج أو قال أشهر الحرم يعدل شهرا و صيام يوم من غير الأشهر الحرم يعدل عشرا و روي عن النخعي نحوه لكنه قال : من المحرم فيحتمل أنه أراد جنس الأشهر المحرمة و روي معناه مرفوعا من حديث أنس و إسناده ضعيف جدا و يروى بإسناد مجهول عن أنس مرفوعا : [ من صام من شهر حرام الخميس و السبت كتب الله له عبادة تسعمائة سنة ] و قال كعب : اختار الله الزمان فأحبه إليه الأشهر الحرم و يروى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا و لا يصح و عن قيس بن عبادة أنه قال : ليس في الأشهر الحرم شهر إلا في اليوم العاشر منه خير قال : ففي الحجة في العاشر النحر يوم الحج الأكبر و في المحرم العاشر عاشوراء و في العاشر من رجب { يمحو الله ما يشاء و يثبت } قال الراوي : و نسيت ما قال في ذي القعدة و قد تقدم في ذكر وظيفة رجب أنه روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذكر من عجائب الدنيا بأرض عاد عمود من نحاس عليه شجرة من نحاس فإذا كان في الأشهر الحرم قطر منها الماء فملؤوا منه حياضهم و سقوا مواشيهم و زروعهم فإذا ذهبت الأشهر الحرم انقطع الماء
و ذو القعدة من الشهر الحرم بغير خلاف و هو أول الأشهر الحرم المتوالية و هل هو أول الحرم مطلقا أم لا ؟ فيه خلاف ذكرناه في وظيفة رجب و هو أيضا من أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها : { الحج أشهر معلومات } و قيل : إن تحريم ذي القعدة كان في الجاهلية لأجل السير إلى الحج و سمي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال و تحريم المحرم لرجوع الناس فيه من الحج إلى بلادهم و تحريم ذي الحجة لوقوع حجهم فيه و تحريم رجب كان للإعتمار فيه من البلاد القريبة و من خصائص ذي القعدة أن عمر النبي صلى الله عليه و سلم كلها كانت في ذي القعدة سوى عمرته التي قرنها بحجته مع أنه صلى الله عليه و سلم أحرم بها أيضا في ذي القعدة و فعلها في ذي الحجة مع حجته و كانت عمره صلى الله عليه و سلم أربعا : عمرة الحديبية و لم يتمها بل تحلل منها و رجع و عمرة القضاء من قابل و عمرة الجعرانة عام الفتح لما قسم غنائم حنين و قيل : إنها كانت في آخر شوال و المشهور أنها كانت في ذي القعدة و عليه الجمهور و عمرته في حجة الوداع كما دلت عليه النصوص الصحيحة و عليه جمهور العلماء أيضا و قد روي عن طائفة من السلف منهم ابن عمر و عائشة و عطاء تفضيل عمرة ذي القعدة و شوال على رمضان لأن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر في ذي القعدة و في أشهر الحج حيث يجب عليه الهدي إذا حج من عامه لأن الهدي زيادة نسك فيجتمع نسك العمرة مع نسك الهدي و لذي القعدة فضيلة أخرى و هي أنه قد قيل : إنه الثلاثون يوما الذي واعد الله فيه موسى عليه السلام قال ليث عن مجاهد في قوله تعالى : { و واعدنا موسى ثلاثين ليلة } قال ذو القعدة { و أتممناها بعشر } قال عشر ذي الحجة يا من لا يقلع عن ارتكاب الحرام لا في شهر حلال و لا في شهر حرام يا من هو في الطاعات إلى وراء و في المعاصي إلى قدام يا من هو في كل يوم من عمره شرا مما كان في قبله من الأيام متى تستفيق من هذا المنام متى تتوب من هذا الإجرام يا من أنذره الشيب بالموت و هو مقيم على الآثام أما كفاك واعظ الشيب مع واعظ القرآن و الإسلام الموت خير لك من الحياة على هذه الحال و السلام
( يا غاديا في غفلة و رائحا ... إلى متى تستحسن القبائحا )
( و كم إلى كم لا تخاف موقفا ... يستنطق الله به الجوارحا )
( واعجبا منك و أنت مبصر ... كيف تجنبت الطريق الواضحا )
( و كيف ترضى أن تكون خاسرا ... يوم يفوز من يكون رابحا )
وظائف شهر ذي الحجة و يشتمل على مجالس ـ المجلس الأول في فضل عشر ذي
الحجة
خرج البخاري [ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا : يا رسول الله و لا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : و لا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه و ماله لم رجع من ذلك بشيء ] الكلام في فضل عشر ذي الحجة في فصلين : في فضل العمل فيه و عليه دل هذا الحديث و في فضله في نفسه
الفصل الأول : في فضل العمل فيه
و قد دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها و إذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده و قد ورد هذا الحديث بلفظ : [ ما من أيام العمل فيها أفضل من أيام العشر ] و روي بالشك في لفظه : [ أحب أو أفضل ] و إذا كان العمل في أيام العشر أفضل و أحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها صار العمل فيه و إن كان مفضولا أفضل من العمل في غيره و إن كان فاضلا و لهذا قالوا : يا رسول الله و لا الجهاد في سبيل الله قال : [ و لا الجهاد ] ثم استثنى جهادا واحدا هو أفضل الجهاد فإنه صلى الله عليه و سلم سئل : أي الجهاد أفضل قال : [ من عقر جواده و أهريق دمه و صاحبه أفضل الناس درجة عند الله ] سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يدعو يقول : اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين قال : [ إذن يعقر جوادك و تستشهد ] فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر و أما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل و أحب إلى الله عز و جل منها و كذلك سائر الأعمال و هذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره و يزيد عليه لمضاعفة ثوابه و أجره و قد روي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : [ هذا زيادة و العمل فيهن يضاعف بسبعمائة ] و في إسنادها ضعف و قد ورد في قدر المضاعفة روايات متعددة مختلفة فخرج الترمذي و ابن ماجه [ من رواية النهاس بن قهم عن قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بسنة و كل ليلة منها بقيام ليلة القدر ] و النهاس بن قهم ضعفوه و ذكر الترمذي عن البخاري أن الحديث يروى عن قتادة عن سعيد مرسلا و روى ثوير بن أبي فاخته ـ و فيه ضعف ـ عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر فإن العمل فيها يعدل عمل سنة و روى أبو عمر و النيسابوري في كتاب الحكايات بإسناده عن حميد قال : سمعت ابن سيرين و قتادة يقولان : صوم كل يوم من العشر يعدل سنة و قد روي في المضاعفة أكثر من ذلك فروى هارون بن موسى النحوي قال : سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك قال : كان يقال في أيام العشر : بكل يوم ألف يوم و يوم عرفة عشرة آلاف قال الحاكم : هذا من المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و روى في المضاعفة أقل من سنة قال حميد بن زنجويه : [ حدثنا يحيى بن عبد الله الحراني حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : صيام كل يوم من أيام من أيام العشر كصيام شهر ] و هذا مرسل ضعيف الإسناد و روى عبد الرزاق في كتابه عن جعفر عن هشام عن الحسن قال : صيام يوم العشر يعدل شهرين و قال عبد الكريم عن مجاهد : العمل في العشر يضاعف و في المضاعفة أحاديث أخر مرفوعة لكنها موضوعة فلذلك أعرضنا عنها و عما أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر و هي كثيرة
و قد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها و قد روي في خصوص صيام أيامه و قيام لياليه و كثرة الذكر فيه ما يذكر مما يحسن ذكره دون ما لا يحسن لعدم صحته و قد سبق حديث أبي هريرة في ذلك و مرسل راشد بن سعد و ما روي عن الحسن و ابن سيرين و قتادة في صومه و في المسند و السنن [ عن حفصة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يدع صيام عاشوراء و العشر و ثلاثة أيام من كل شهر ] و في إسناده اختلاف و روي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة ] و ممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما و قد تقدم عن الحسن و ابن سيرين و قتادة ذكر فضل صيامه و هو قول أكثر العلماء أو كثير منهم و في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صائما العشر قط ] و في رواية في العشر قط و قد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث فأجاب مرة بأنه قد روى خلافه و ذكر حديث حفصة و أشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة فأسنده الأعمش و رواه منصور عن إبراهيم مرسلا و كذلك أجاب غيره من العلماء بأنه إذا اختلفت عائشة و حفصة في النفي و الإثبات أخذ بقول المثبت لأن معه علما خفي على النافي و أجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة أرادت أنه لم يصم العشر كاملا يعني و حفصة أرادت انه كان يصوم غالبه فينبغي أن يصام بعضه و يفطر بعضه و هذا الجمع يصح في رواية من روى ما رأيته صائما العشر و أما من روى ما رأيته صائما في العشر فيبعد أو يتعذر هذا الجمع فيه و كان ابن سيرين يكره أن يقال : صام العشر لأنه يوهم دخول يوم النحر فيه و إنما يقال : صام التسع و لكن الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه و قد سبق حديث : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم العشر ] و لو نذر صيام العشر فينبغي أن ينصرف إلى التسع أيضا فلا يلزم بفطر يوم النحر قضاء و لا كفارة فإنه غلب استعماله عرفا في التسع و يحتمل أن يخرج في لزوم القضاء و الكفارة خلاف فإن أحمد قال فيمن نذر صوم شوال فأفطر يوم الفطر و صام باقيه : أنه يلزمه قضاء يوم و كفارة و قال القاضي أبو يعلى : هذا إذا نوى صوم جميعه فأما إن أطلق لم يلزمه شيء لأنه يوم الفطر مستثنى شرعا و هذا قاعدة من قواعد الفقه و هي أن العموم هل يخص بالشرع أم لا ؟ ففي المسألة خلاف مشهور و أما قيام ليالي العشر فمستحب و قد سبق الحديث في ذلك و قد ورد في خصوص إحياء ليلتي العيدين أحاديث لا تصح و ورد إجابة الدعاء فيهما و استحبه الشافعي و غيره من العلماء و كان سعيد بن جبير و هو الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا دخل العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه و روي عنه أنه قال : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة و أما استحباب الإكثار من الذكر فيها فقد دل عليه قول الله عز و جل : { و يذكروا اسم الله في أيام معلومات } فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء و سيأتي ذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى و في مسند الإمام أحمد [ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أعظم و لا أحب إليه العمل فيهن عند الله من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل و التكبير و التحميد ] فإن قيل : فإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها ؟ و إن كان ذلك العمل أفضل في نفسه مما عمل في العشر لفضيلة العشر في نفسه ؟ فيصير العمل المفضول فيه فاضلا حتى يفضل على الجهاد الذي هو أفضل الأعمال كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة و هو قول الإمام أحمد و غيره من العلماء فينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد لأن الحج مخصوص بالعشر و هو من أفضل ما عمل في العشر أو أفضل ما عمل فيه ؟ فكيف كان الجهاد أفضل من الحج ؟ فإنه ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : [ إيمان بالله و رسوله ] قال : ثم ماذا ؟ قال : [ جهاد في سبيل الله ] قال : ثم ماذا ؟ قال : [ حج مبرور ]
قيل التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بالحج عند جمهور العلماء و قد نص عليه الإمام أحمد و هو مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص و روي فيه أحاديث مرفوعة في أسانيدها مقال و حديث أبي هريرة هذا صريح في ذلك و يمكن الجمع بينه و بين حديث ابن عباس بوجهين : أحدهما : أن حديث ابن عباس قد صرح فيه بأن جهاد من لا يرجع من نفسه و ماله بشيء يفضل على العمل في العشر فيمكن أن يقال : الحج أفضل من الجهاد إلا جهاد من لم يرجع من نفسه بشيء و يكون هو المراد من حديث أبي هريرة و يجتمع حينئذ الحديثان و الثاني : و هو الأظهر : أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصير أفضل من الفاضل في نفسه كما تقدم و حينئذ فقد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد و قد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد حينئذ أفضل منه فإن كان الحج مفروضا فهو أفضل من التطوع بالجهاد فإن فروض الأعيان أفضل من فروض الكفايات عند جمهور العلماء و قد روي هذا في الحج و الجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص و روي مرفوعا من وجوه متعددة في أسانيدها لين و قد دل على ذلك ما حكاه النبي صلى الله عليه و سلم عن ربه عز و جل أنه قال : [ ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ] و إن كان الحاج ليس من أهل الجهاد فحجه أفضل من جهاده كالمرأة و في صحيح البخاري [ عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله ترى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ فقال : أفضل الجهاد حج مبرور ] و في رواية له : [ جهادكن الحج ] و في رواية له : [ نعم الجهاد الحج ] و كذلك إذا استغرق العشر كله عمل الحج و أتى به على أكمل وجوه البر من أداء الواجبات و اجتناب المحرمات و انضم إلى ذلك الإحسان إلى الناس ببذل السلام و إطعام الطعام و ضم إليه كثرة ذكر الله عز و جل و العج و الثج و هو رفع الصوت بالتلبية و سوق الهدي فإن هذا الحج على هذا الوجه قد يفضل على الجهاد و إن وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر و لم يؤت به على الوجه المبرور فالجهاد أفضل منه و قد روي عن عمر و ابن عمر و أبي موسى الأشعري و مجاهد ما يدل على تفضيل الحج على الجهاد و سائر الأعمال و ينبغي حمله على الحج المبرور الذي كمل بره و استوعب فعله أيام العشر و الله أعلم فإن قيل : قوله صلى الله عليه و سلم : [ ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ] هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها و إن طالت مدته أم لا ؟ قيل : الظاهر و الله أعلم أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان فيكون تفضيلا للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره و قد قيل : إنما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل فيها مستغرقا لأيام العشر فيفضل على جهاد في عدد تلك الأيام من غير العشر و إن كان العمل مستغرقا لبعض أيام العشر فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر و استدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل العمل الدائم الذي لا يفتر من صيام و صلاة معادلا للجهاد في أي وقت كان فإذا وقع ذلك العمل الدائم في العشر كان أفضل من الجهاد في مثل أيامه لفضل العشر و شرفه ففي الصحيحين [ عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : دلني على عمل يعدل الجهاد ؟ قال : أجده قال لا هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم و لا تفتر و تصوم و لا تفطر ] قال : و من يستطيع ذلك و لفظه للبخاري و لمسلم معناه و زاد ثم قال : [ مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله الذي لا يفتر من صلاة و لا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ] و للبخاري : [ مثل المجاهد في سبيل الله و الله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم ] و للنسائي : [ كمثل الصائم القائم الخاشع الراكع الساجد ] و يدل على أن المراد تفضيله على جهاد في مثل أيامه خاصة : ما في صحيح ابن حبان [ عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة فقال رجل : يا رسول الله هو أفضل أم عدتهن جهاد في سبيل الله ؟ قال : هو أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله ] فلم يفضل العمل في العشر إلا على الجهاد في عدة أيام العشر لا مطلقا
و أما ما تقدم من أن كل يوم منه يعدل سنة أو سنتين أو ألف يوم فكلها من أحاديث الفضائل و ليست بقوية ثم إن أكثر ما ورد ذلك في صيامها و الصيام له خصوصية في المضاعفة فإنه لله و الله يجزي به فإن قيل : إنه لا يختص بالصوم بل يعم سائر الأعمال فإنما يدل على تفضيل كل عمل في العشر على مثل ذلك العمل في غيره سنة فلا يدخل فيه إلا تفضيل من جاهد في العشر على من جاهد في غيرها سنة و إذا قيل يلزم من تفضيل العمل في هذا العشر على كل عشر غيره أن يكون صيام هذا العشر أفضل من صوم عشر رمضان و قيام لياليه أفضل من قيام لياليه ؟ قيل : أما صيام رمضان فأفضل من صيامه بلا شك فإن صوم الفرض أفضل من النفل بلا تردد و حينئذ فيكون المراد أن ما فعل في العشر في فرض فهو أفضل مما فعل في عشر غيره من فرض غيره من فرض فقد تضاعف صلواته المكتوبة على صلوات عشر رمضان و ما فعل فيه من نفل فهو أفضل مما فعل في غيره من نفل و قد اختلف عمر و علي رضي الله عنهما في قضاء رمضان في عشر ذي الحجة فكان عمر يحتسبه أفضل أيامه فيكون قضاء رمضان فيه أفضل من غيره و هذا يدل على مضاعفة الفرض فيه على النفل و كان علي ينهي عنه و عن أحمد في ذلك روايتان و قد علل قول علي : بأن القضاء فيه يفوت به فضل صيامه تطوعا و بهذا علله الإمام أحمد و غيره و قد قيل : إنه يحصل به فضيلة صيام التطوع بها و هذا على قول من يقول : إن نذر صيام شهر فصام رمضان أجزاءه عن فرضه و نذره متوجه و قد علل بغير ذلك و أما قيام لياليه و تفضيل قيامه على قيام عشر رمضان فيأتي الكلام فيه إن شاء الله
الفصل الثاني : في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور
قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ ما من أيام أعظم عند الله و لا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر ] و في صحيح ابن حيان [ عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة ] و قد تقدم و رويناه من وجه آخر بزيادة و هي : [ و لا ليالي أفضل من ليالهين قيل : يا رسول الله هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله ؟ قال : هي أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله إلا من عفر وجهه تعفيرا و ما من يوم أفضل من يوم عرفة ] خرجه الحافظ أبو موسى المديني من جهة أبي نعيم الحافظ بالإسناد الذي خرجه به ابن حبان و خرج البزار و غيره [ من حديث جابر أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل أيام الدنيا أيم العشر قالوا : يا رسول الله و لا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : و لا مثلهن في سبيل الله إلا من عفر وجهه بالتراب ] و روي مرسلا و قيل : إنه أصح و قد سبق ما روي عن ابن عمر قال : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر و يدل على أن أيام العشر أفضل من أيام الجمعة الذي هو أفضل الأيام و قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن كعب قال : اختار الله الزمان و أحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم و أحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة و أحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول و رواه بعضهم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة و رفعه و لا يصح ذلك و قال مسروق في قوله تعالى : { و ليال عشر } هي أفضل أيام السنة خرجه عبد الرزاق و غيره و أيضا فأيام هذا العشر يشتمل على يوم عرفة و قد روي أنه أفضل أيام الدنيا كما جاء في حديث جابر الذي ذكرناه و فيه يوم النحر و في حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ] خرجه الإمام أحمد و أبو دواد و غيرهما و هذا كله يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من غيره من الأيام من غير استثناء هذا في أيامه فأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر و هذا بعيد جدا و احتج بعضهم بحديث عائشة فيمن أرسل بهديه مع غيره و أقام في بلده و كان ابن عمر إذا ضحى يوم النحر حلق رأسه و نص أحمد على ذلك و اختلف العلماء في التعريف بالأمصار عشية عرفة و كان الإمام أحمد لا يفعله و لا ينكر على من فعله لأنه روي عن ابن عباس و غيره من الصحابة و أما مشاركتهم لهم في الذاكرة في الأيام المعلومات فإنه يشرع للناس كلهم الإكثار من ذكر الله في أيام العشر خصوصا و قد سبق حديث ابن عمر المرفوع : [ فأكثروا فيهن من التهليل و التكبير و التحميد ] و اختلف العلماء هل يشرع إظهار التكبير و الجهر به في الأسواق في العشر ؟ فأنكره طائفة و استحبه أحمد و الشافعي لكن الشافعي خصه بحال رؤية بهيمة الأنعام و أحمد يستحبه مطلقا و قد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر و أبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران و يكبر الناس بتكبيرهما و رواه أبو داود حدثنا سلام أبو المنذر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال كان أبي هريرة و ابن عمر يأتيان السوق أيام العشر فيكبران و يكبر الناس معهما و لا يأتيان لشيء إلا لذلك و روى جعفر الفريابي في كتاب العيدين : حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال رأيت سعيد بن جبير و مجاهدا و عبد الرحمن بن أبي ليلى أو اثنين من هؤلاء الثلاثة و ما رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر و لله الحمد لما كان الله سبحانه و تعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى مشاهدة بيته الحرام و ليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره و جعل موسم العشر مشتركا بين السائرين و القاعدين فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج
( ليالي العشر أوقات الإجابة ... فبادر رغبة تلحق ثوابه )
( ألا لا وقت للعمال فيه ... ثواب الخير أقرب للإصابة )
( من أوقات الليالي العشر حقا ... فشمر واطلبن فيها الإنابة )
احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة وروى المروذي في كتاب الورع بإسناده عن عبد الملك بن عمير عن رجل ـ إما من الصحابة أو من التابعين ـ : أن آتيا أتاه في منامه في العشر من ذي الحجة فقال : ما من مسلم إلا يغفر له في هذه الأيام كل يوم خمس مرارا إلا أصحاب الشاء يقولون : مات ما موته يعني أصحاب الشطرنج فإذا كان اللعب بالشطرنج مانعا من المغفرة فما الظن بالإصرار على الكبائر المجمع عليها
( طاعة الله خير ما لزم العبـ ... د فكن طائعا و لا تعصينه )
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه )
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه )
المعاصي سبب البعد و الطرد كما أن الطاعات أسباب القرب و الود
( أيضمن لي فتى ترك المعاصي ... و أرهنه الكفالة بالخلاص )
( أطاع الله قوم فاستراحوا ... و لم يتجرعوا غصص المعاصي )
إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام و قصدوا البيت الحرام و ملؤا الفضاء بالتلبية و التكبير و التهليل و التحميد و الإعظام لقد ساروا و قعدنا و قربوا و بعدنا فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا
( أتراكم في النقا و المنحنى ... أهل سلع تذكرونا ذكرنا )
( انقطعنا و وصلتم فاعلموا ... و اشكروا المنعم يا أهل منى )
( قد خسرنا و ربحتم فصلوا ... بفضول الريح من قد غبنا )
( سار قلبي خلف أحمالكم ... غير أن العذر عاق البدنا )
( ما قطعتم واديا إلا وقد ... جئته أسعى بأقدام المنى )
( أنا مذ غبتم على تذكاركم ... أترى عندكمو ما عندنا )
القاعد لعذر شريك للسائر و ربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم رأى بعضهم في المنام عشية عرفة في الموقف قائلا يقول له : أترى هذا الزحام على هذا الموقف فإنه لم يحج منهم أحد إلا رجل تخلف عن الموقف فحج بهمته فوهب له أهل الموقف
( يا سائرين إلى البيت العتيق ... لقد سرتم جسوما و سرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على عذر و قد رحلوا ... و من أقام على عذر كمن راحا )
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة فما منها عوض و لا لها قيمة المبادرة المبادرة بالعمل و العجل العجل قبل هجوم الأجل قبل أن يندم المفرط على ما فعل قبل أن يسأل الرجعة فيعمل صالحا فلا يجاب إلى ما سأل قبل أن يحول الموت بين المؤمل و بلوغ الأمل قبل أن يصير المرء مرتهنا في حفرته بما قدم من عمل
( ليس للميت في قبره ... فطر و لا أضحى و لا عشر )
( ناء عن الأهل على قربه ... كذاك من مسكنه القبر )
يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين و السبعين ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين يا من ذنوبه بعدد الشفع و الوتر أما تستحي من الكرام الكاتبين ؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين ؟ يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين تعرض لنفحات مولاك في هذا العشر فإن فيه لله نفحات يصيب بها من يشاء فمن أصابته سعد بها آخر الدهر
المجلس الثاني في يوم عرفة مع عيد النحر
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا فقال : أي آية : قال : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه و المكان الذي نزلت فيه : نزلت و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم بعرفة يوم الجمعة و خرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و قال فيه : نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة و العيد هو موسم الفرح و السرور و أفراح المؤمنين و سرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا بإكمال طاعته و حازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله و مغفرته كما قال تعالى : { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } قال بعض العارفين : ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله فالغافل يفرح بلهوه و هواه و العاقل يفرح بمولاه و أنشد سمنون في هذا المعنى :
( و كان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو و يمرح )
( فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح )
( رميت ببعد منك إن كنت كاذبا ... و إن كنت في الدنيا بغيرك أفراح )
( و إن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني لعيني يملح )
( فإن شئت و اصلني و إن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح )
لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما فقال : [ إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر و الأضحى ] فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب و اللهو يومي الذكر و الشكر و المغفرة و العفو ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد عيد يتكرر فهو يوم الجمعة و هو عيد الأسبوع و هو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فإن الله عز و جل فرض على المؤمنين في كل يوم و ليلة خمس صلوات و أيام الدنيا تدور على سبعة أيام فكلما دور أسبوع من أيام الدنيا و استكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في يوم استكمالهم و هو اليوم الذي كمل فيه الخلق و فيه خلق آدم و أدخل الجنة و أخرج منها و فيه ينتهي أمد الدنيا فتزول و تقوم الساعة فالجمعة من الإجتماع على سماع الذكر و الموعظة و صلاة الجمعة و جعل ذلك لهم عيدا و لهذا نهى عن إفراده بالصيام و في شهود الجمعة شبه من الحج و روي : أنها حج المساكين و قال سعيد بن المسيب : شهود الجمعة أحب إلي من حجة نافلة و التبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السبق فأولهم كالمهدي بدنة ثم بقرة ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجة الأخرى و قد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام و روي أن الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكل مسلم و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما طلعت الشمس و لا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة ] و في المسند [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في يوم الجمعة : هو أفضل عند الله من يوم الفطر و يوم الأضحى ] فهذا عيد الأسبوع و هو متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة و هي أعظم أركان الإسلام و مبانيه بعد الشهادتين
و أما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام و إنما يأتي قال واحد منهما في العام مرة و احدة فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان و هو مترتب على إكمال صيام رمضان و هو الركن الثالث من أركان الإسلام و مبانيه فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم و استوجبوا من الله والمغفر و العتق من النار فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب و آخره عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه فشرع الله تعالى لهم عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله و ذكره و تكبيره على ما هداهم له و شرع لهم في ذلك العيد الصلاة و الصدقة و هو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم و يرجعون من عيدهم بالمغفرة و العيد الثاني : عيد النحر و هو أكبر العيدين و أفضلهما و هو مترتب على إكمال الحج و هو الركن الرابع من أركان الإسلام و مبانيه فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم و إنما يكمل الحج بيوم عرفة و الوقوف بعرفة فإنه ركن الحج الأعظم كما قال صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة و يوم عرفة هو يوم العتق من النار ] فيعتق الله من النار من وقف بعرفة و من لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم و من لم يشهده لا شتراكهم في العتق و المغفرة يوم عرفة و إنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من الله و تخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام و إنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم فإذا كمل يوم عرفة و أعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك و شرع للجميع التقرب إليه بالنسك و هو إراقة دماء القرابين فأهل الموسم يرمون الجمرة فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج و يقضون تفثهم و يوفون نذورهم و يقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون بالبيت العتيق و أهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله و تكبيره و الصلاة له قال مخنف بن سليم و هو معدود من الصحابة : الخروج يوم الفطر يعدل عمرة و الخروج يوم الأضحى يعدل حجة ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم و يقربون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم و الصلاة و النحر الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة و الصدقة الذي في عيد الفطر لهذا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلي لربه و ينحر و قيل له قل : { إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين } و لهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي و الأضاحي سنة إبراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه و سلم فإن الله شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه بذبح عظيم و في حديث زيد بن أرقم قيل : يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال : [ سنة إبراهيم قيل له : فما لنا بها ؟ قال : بكل شعرة حسنة قيل : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة ] خرجه ابن ماجه و غيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب مر قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات :
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف علي ألا تجود )
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد )
( فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود )
و أنشد غيره :
( للناس عشر وعيد ... ونا فقير وحيد )
( يا غايتي و مناي ... قد لذ لي ما تريد )
و أنشد الشبلي :
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان )
( إنما العيد أن تكون لدى الحـ ... ب كريما مقربا في أمان )
و أنشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد :
( قالوا غدا العيد أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حسنة برعا )
( صبر رهقرقهما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفه الأعياد و الجمعا )
( أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزوار في الثواب الذي خلعا )
( الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... و العيد ما كنت لي أمرا و مستمعا )
و أما أعياد المؤمنين في الحنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز و جل فيزورونه و يكرمهم غاية الكرامة و يتجلى لهم و ينظرون إليه فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك و هو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيد ليس لي عيد سواه )
كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم و يتجلى لهم فيه و يوم الجمعة يدعى في الجنة : يوم المزيد و يوم الفطر و الأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة و روي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين بكرة و عشيا الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعيادا قال الحسن : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه و ذكره و شكره فهو له عيد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها خمسة : الشهادتان و الصلاة و الزكاة و صيام رمضان و الحج فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة و إكمال الصيام و الحج يجتمعون عند ذلك اجتماعا عاما فأما الزكاة فليس لها وقت معين ليتخذ عيدا بل كل من ملم نصابا فحوله بحسب ملكه و أما الشهادتان فإكمالها يحصل بتحقيقهما و القيام بحقوقها و خواص المؤمنين يجتهدون على ذلك في كل وقت فلذلك كانت أوقاتهم كلها أعيادا لهم في الدنيا و الآخرة كما أنشد الشبلي :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
و لما كان عيد النحر أكبر العيدين و أفضلهما و يجتمع فيه شرف المكان و الزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله و بعده فقبله و بعده فقبله يوم عرفة و بعده أيام التشريق و كل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم عرفة و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب ] خرجه أهل السنن و صححه الترمذي و لهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه أول أعيادهم و أكبر مجامعهم و قد أفطره النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة و الناس ينظرون إليه و روي أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة و روي عن سفيان بن عيينة : أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة ؟ فقال : لأنهم زوار الله و أضيافه و لا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه و هذا المعنى يوجد في العيدين و أيام التشريق أيضا فإن الناس كلهم في ضيافه الله عز و جل لا سيما عيد النحر فإن الناس يأكلون من لحوم نسكهم أهل الموقف و غيرهم و أيام التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا و لهذا بعث النبي صلى الله عليه و سلم من ينادي بمكة : [ أنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل فلا يصومن أحد ] و قد يجتمع في يوم واحد عيدان كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو يوم النحر فيزداد ذلك اليوم حرمة و فضلا لإجتماع عيدين فيه و قد كان ذلك اجتمع للنبي صلى الله عليه و سلم في حجته يوم عرفة فكان يوم الجمعة و فيه نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا }
و إكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه : منها : أن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك و لا أحد منهم هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم فيكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها و منها : أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام و نفى الشرك و أهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم و اضمحل الشرك و هدمت منار الجاهلية و لم يطف بالبيت عريان و كذا قال قتادة و غيره و قد قيل : إنه لم ينزل بعدها تحليل و لا ترحيم قاله أبو بكر بن عياش و أما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما } و قال تعالى في آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم } و من هنا استنبط محمد بن كعب القرظي بأن الوضوء يكفر الذنوب كما وردت السنة بذلك صريحا و يشهد له أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يدعو و يقول : أسألك تمام النعمة فقال له : [ تمام النعمة النجاة من النار و دخول الجنة ] فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنه يوم المغفرة و العتق من النار فيوم عرفة له فضائل متعددة منها : أنه يوم إكمال الدين و إتمام النعمة و منها : أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب و ابن عباس فإن ابن عباس قال : نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة و يوم عرفة و روي عن عمر أنه قال : و كلاهما بحمد الله لنا عيد خرجه ابن جرير في تفسيره و يشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدم لكنه عيد لأهل الموقف خاصة و يشرع صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء و إن خالف فيه بعض السلف و منها : أنها قد قيل : إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه و أن الوتر يوم النحر و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث جابر خرجه الإمام أحمد و النسائي في تفسيره و قيل : إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه فقال تعالى : { و شاهد و مشهود } و في المسند [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا : الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم الجمعة ] و خرجه الترمذي مرفوعا و روي ذلك عن علي من قوله و خرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا : [ الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة ] و على هذا فإذا وقع يوم عرفة في يوم الجمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد و مشهود و منها : أنه روي أنه أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من [ حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل الأيام يوم عرفة ] و ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء و منهم من قال : يوم النحر أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ] خرجه الإمام أحمد و أبو دواد و النسائي و ابن حبان في صحيحه و لفظه : [ أفضل الأيام ] و منها : أنه روي عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : يوم عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل و قد ذكرناه في فضل العشر و روي عن عطاء قال : من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم و منها : أنه يوم الحج الأكبر عند جماعة من السلف منهم عمر و غيره و خالفهم آخرون و قالوا : يوم الحج الأكبر يوم النحر و روي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و منها : أن صيامه كفارة سنتين و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
و منها : أنه يوم مغفرة الذنوب و التجاوز عنها و العتق من النار و المباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ] و في المسند [ عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ] و فيه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يباهي بأهل عرفات يقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و خرج فيه أيضا من حديث جابر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول : انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي و لم يروا عذابي فلم ير أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و خرجه ابن منده في كتاب التوحيد و لفظه : [ إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة : يا رب فلان مرهق فيقول : قد غفرت لهم فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ] و قال : إسناد حسن متصل انتهى و رويناه من وجه آخر بزيادة فيه و هي : [ أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لمحسنهم و تجاوزت عن مسيئهم ] و رويناه من رواية إسماعيل بن رافع ـ و فيه مقال ـ [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهبط الله إلى السماء الدنيا عشية عرفة ثم يباهي بكم الملائكة فيقول : هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتي و مغفرتي فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها أفيضوا عبادي مغفورا لكم و لمن شفعتم فيه ] و خرجه البزار في مسنده بمعناه من حديث مجاهد [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و قال : لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق ] و خرجه الطبراني و غيره من حديث عبد الله بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم مختصرا و رويناه من طريق الوليد بن مسلم قال : أخبرني أبو بكر بن أبي مريم [ عن الأشياخ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يدنو إلى السماء الدنيا عشية فيقبل على ملائكته فيقول : ألا إن لكل وفد جائزةو هؤلاء وفدي شعثا غبرا أعطوهم ما سألوا و اخلفوا لهم ما أنفقوا حتى إذا كان عند غروب الشمس أقبل عليهم فقال : ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم و أعطيت محسنكم ما سأل أفيضوا بسم الله ] و روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي حدثنا فرقد قال : إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات و في ليلة الجمعة سبع مرات و في ليلة عرفة تسع مرات و روينا من طريق نفيع أبي دواد [ عن ابن عمر مرفوعا و موقوفا : إذا كان يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا غفر له قيل له : أللمعروف خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل للناس عامة ] و خرج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة و ما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر ]
قيل : و ما رأى يوم بدر [ قال : رأى جبريل عليه السلام و هو يزع الملائكة ] و روى أبو عثمان الصابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم فهرب من بعض الحصون قال : فكنت أسير بالليل و أكمن بالنهار فبينا أنا ذات ليلة أمشي بين جبال و أشجار إذا أنا بحس فراعني ذلك فنظرت فإذا راكب بعير فازددت رعبا و ذلك لأنه لا يكون ببلاد الروم بعير فقلت : سبحان الله في بلاد الروم راكب بعير إن هذا لعجب فلما انته إلي قلت : يا عبد الله من أنت ؟ قال : لا تسأل قلت : إني أرى عجبا ! فأخبرني ؟ فقال : لا تسأل فأبيت عليه فقال : أنا إبليس و هذا وجهي من عرفات رافقتهم عشية اليوم اطلع عليهم فنزلت عليهم المغفرة و وهب بعضهم لبعض فداخلني اللهم و الحزن و الكآبة و هذا وجهي إلى قسطنطينية انفرج بما
أسمع من الشرك بالله وادعاء أن له ولدا فقلت : أعوذ بالله منك فلما قلت : هذا الكلمات لم أر أحدا و يشهد لهذه الحكاية حديث عباس بن مرداس الذي خرجه أحمد و ابن ماجه في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لأمته عشية عرفة ثم بالمزدلفة فأجيب فضحك صلى الله عليه و سلم و قال : [ إن إبليس حين علم أن الله قد غفر لأمتي و استجاب دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه و يدعو بالويل و الثبور فضحكت من الخبيث من جزعه ] و يروى عن علي بن موفق أنه وقف بعرفة في بعض حجاته فرأى كثرة الناس فقال : اللهم إن كنت لم تتقبل منهم أحدا فقد وهبته حجي فرأى رب العزة في منامه و قال له : يا ابن الموفق أتسخى علي قد غفرت لأهل الموقف و لأمثالهم و شفعت كل واحد منهم في أهل بيته و ذريته و عشيرته و أنا أهل التقوى و أنا أهل المغفرة و يروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ
فمن طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب التى يرجى بها العتق و المغفرة فمنها : صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ] و منها : حفظ جوراحه عن المحرمات في ذاك اليوم ففي مسند الإمام أحمد [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره و لسانه غفر له ] و منها : الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه و في المسند [ عن عبد الله بن عمر قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد بيده الخير و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الترمذي و لفظه : [ خير الدعاء دعاء يوم عرفة و خير ما قلت أنا و النبيون من قلبي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير ] و خرجه الطبراني من حديث علي و ابن عمر مرفوعا أيضا و خرج الإمام أحمد من حديث الزبير بن العوام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم } الآية و يقول : [ و أنا على ذلك من الشاهدين يا رب ] و يروى من حديث عبادة قال شهدت النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة فكان أكثر قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } الآية ثم قال : [ أي رب و أنا أشهد ] فتحقيق كلمة التوحيد يوجب عتق الرقاب و عتق الرقاب يوجب العتق من النار كما ثبت في الصحيح : [ أن من قالها مائة مرة كان له عدل عشر رقاب ] و ثبت أيضا : [ أن من قالها عشر مرات كان كمن اعتق أربعة من ولد إسماعيل ] و في سنن أبي دواد و غيره [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم أني أصبحت أشهدك و أشهد حملة عرشك و ملائكتك و جميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت و أن محمدا عبدك و رسولك أعتق الله ربعه من النار و من قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار و من قالها ثلاث مرات أعتق ثلاثة أرباعه و من قالها أربع مرار أعتقه الله من النار ] و يروى من مراسيل الزهري : [ من قال في يوم : عشرة آلاف مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله من النار كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه ] و منها : أن يعتق رقبة إن أمكنه فإن من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة و معه مائة بدنة مقلدة و مائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء و الدعاء و يقولون : ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده و نحن عبيدك فاعتقنا و جرى للناس مرة مع الرشيد نحو هذا و كان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق بذلك من النار و منها : كثرة الدعاء بالمغفرة و العتق فإنه يرجى إجابة الدعاء فيه روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار و ليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة فأكثر فيه أن تقول : اللهم أعتق رقبتي من النار و أوسع لي من الرزق الحلال و اصرف عني فسقة الجن و الإنس فإنه عامة دعائي اليوم
و ليحذر من الذنوب التي تمنع المغفرة فيه و العتق : فمنها : الإختيال روينا [ من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما يري يوم أكثر عتيقا و لا عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال ] و خرجه البزار و الطبراني و غيرهما و المختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر قال الله تعالى : { و الله لا يحب كل مختال فخور } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا ينظر إلى جر ثوبه خيلاء ] و منها : الإصرار على الكبائر روى جعفر السراج بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى أنه حج سنة فرأى أمير الحاج في منامه : أن الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام فأمر بالنداء بذلك في الموسم و روى ابن أبي الدنيا و غيره أن رجلا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل الموقف كلهم إلا رجلا من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه فسأله عن حاله فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر ليلة و هو سكران فعاتبته أمه و هي تسجر تنور فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت يا من يطمع في العتق من النار ثم يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم و الأوزار تالله نصحت نفسك و لا وقف في طريقك غيرك توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة قلت : إني هذا : { قل هو من عند أنفسكم }
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار )
إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار اشترى بعض السلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضة و اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله بدية ست مرات تصدق بها و اشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألف درهم تصدق بها و كان أبو هريرة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتك بذلك نفسه
( بدم الحبيب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع في الثمن )
من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل ويحك قد رضينا منك في فكاك نفسك بالندم و قنعنا منك في ثمنها بالتوبة و الحزن و في هذا الموسم قد رخص السعر من ملك سمعه و بصره و لسانه غفر له مد إليه يد الإعتذار و قم على بابه بالذل و الإنكسار و ارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع و الغزار و قل : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } قال يحيى بن معاذ : العبد يوحش ما بينه و بين سيده بالمخالفات و لا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم و أنشأ يقول :
( قرة عيني لا بد لي منك و إن ... أوحش بيني و بينك الزلل )
( قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريق عليك يتكل )
أحوال الصادقين في عرفة
كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع : فمنهم : من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير و بكر المزني بعرفة فقال أحدهم : اللهم لا ترد أهل
الموقف من أجلي و قال الآخر : ما أشرفه من موقف و أرجاه لأهله لولا أني فيهم وقف الفضيل بعرفة و الناس يدعون و هو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه و بين الدعاء فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء و قال : و اسوأتاه منك و إن عفوت و قال الفضيل أيضا لشعيب بن حرب بالموسم : إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شرا مني و منك فبئس ما ظننت دعا بعض العارفين بعرفة فقال : اللهم إن كنت لم تقبل حجي و تعبي و نصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني وقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس فنادى الأمان فقد دنا الإنصراف فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين
( و إني من خوفكم و الرجا ... أرى الموت و العيش منكم عيانا )
( فمنوا على تائب خائف ... أتاكم ينادي الأمان الأمانا )
إذا طلب الأسير من الملك الكريم أمنه أمنه
( الأمان الأمان وزري ثقيل ... و ذنوبي إذا عددن تطول )
( أوبقتني و أوثقتني ذنوبي ... فترى لي إلى الخلاص سبيل )
وقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء فقيل له : لم لا تدعو ؟ فقال : ثم وحشة فقيل له : هذا يوم العفو عن الذنوب فبسط يديه و وقع ميتا
( جز أيها الحادي إلى نعمان ... فاستذكرت عهدا لها بالبان )
( فسألت الروح من الأجفان ... تشوقا إلى الزمان الفاني )
غيره :
( قد لج من الغرام حتى قالوا ... قد جن فيهم و هكذا البلبال )
( الموت إذا رضيته سلسال ... في مثل هواك ترخص الآجال )
وقف بعض الخائفين بعرفات و قال : إلهي الناس يتقربون إليك بالبدن و أنا أتقرب إليك بنفسي ثم خر ميتا
( للناس حج و لي حج إلى سكني ... تهدي الأضاحي و أهدي مهجتي و دم )
ما يرضى المحبون لمحبوبهم بإراقة دماء الهديا و إنما يهدون له الأرواحا
( أرى موسم الأعياد أنس الحبائب ... و ما العبد عندي غير قرب الحبائب )
( إذا قربوا بدنا فقرباني الهوى ... فإن قبلوا قلبي و إلا فقالبي )
( و ما بدم الأنعام أقضي حقوقهم ... و لكن بما بين الحشا و الترائب )
كان أبو عبيدة الخواص قد غلب عليه الشوق و القلق حتى يضرب على صدره في الطريق و يقول : واشوقاه إلى من يراني و لا أراه و كان بعد ما كبر يأخذ بلحيته و يقول : يا رب قد كبرت فاعتقني و رؤي بعرفة و قد ولع به الوله و هو يقول :
( سبحان من لو سجدنا بالعيون له ... على حمى الشوك و المحمى من الإبر )
( لم نبلغ العشر من معاشر نعمته ... و لا العشير و لا عشرا من العشر )
( هو الرفيع فلا الأبصار تدركه ... سبحنه من مليك نافذ القدر )
( سبحان من هو أنسى إذا خلوت به ... في جوف ليلي و في الظلماء و السحر )
( أنت الحبيب و أنت الحب يا أملي ... من لي سواك و من أرجوه يا ذخر )
و من العارفين من إن بالموقف يتعلق بأذيال الرجاء قال ابن المبارك :
جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة و هو جاث على ركبتيه و عيناه تهملان فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالا ؟ قال : الذي يطن أن الله لا يغفر لهم و روي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس و بكائهم عشية عرفة فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقا ـ يعني سدس درهم ـ أكان يردهم قالوا : لا قال : و الله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق
( و إني لأدعو الله أطلب عفوه ... و اعلم أن الله يعفو و يغفر )
( لئن أعظم الناس الذنوب فإنها ... و إن عظمت في رحمة الله تصغر )
و عما قليل تقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فهنيئا لمن رزقه يجاورن إلى الله بقلوب محترقة و دموع مستبقة فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف و أقلقه و محب ألهبه الشوق و أحرقه و راج أحسن الظن بوعد الله و صدقه و تائب نصح لله في التوبة و صدقه و هارب لجأ إلى باب الله و طرقه فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله و أعتقه و من أسير للأوزار فكه و أطلقه و حينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء و يباهي بجمعهم أهل السماء و يدنو ثم يقول : ما أراد هؤلاء ؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان و أعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن و هو الذي أعطى و منع و وصل وقطع
( ما أصنع هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيري و أنا المكسور )
( أسير ذنب مقيد مأسور ... هل يمكن أن يبدل المسطور )
من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه من عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله و قد قربه و أزلفه من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء و الخوف من لم يقدر على نحر هديه بمنا فليذبح هواه هنا و قد بلغ المنا من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه و رجاه من حبل الوريد نفحت في هذه اليام نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى ما دعى يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي يا عزائم الناسكين لجمع أنساك السالكين اجمعي لحب مولاك أفردي و بين خوفه و رجائه اقرني و بذكره تمتعي يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي و اركعي و بين صفاء الصفا و مروة المروى اسعي و اسرعي و في عرفات الغرفات قفي و تضرعي ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي ثم إلى منى نيل المنى فارجعي فإذا قرب القرابين فقربي الأرواح و لا تمنعي لقد وضح الطريق و لكن قل السالك على التحقيق و كثر المدعي
( لئن لم أحج البيت أوشط ربعه ... حججت إلى من لا يغيب عن الذكر )
( فأحرمت من وقتي بخلع نقائصي ... أطوف و أسعى في اللطائف و البر )
( صفاي صفائي عن صفاتي و مروتي ... مروءة قلبي عن سوى حبه فقر )
( و في عرفات الأنس بالله موقفي ... و مزدلفى الزلفى لديه إلى الحشر )
( و بت المنى مني مبيتي في منا ... و رمي جماري جمر شوقي في صدري )
( و أشعار هدي ذبح نفسي بقهرها ... و خلعي بمحو الكائنات عن السر )
( و من رام نفرا بعد نسك فإنني ... مقيم على نسكي بلا نفر )
المجلس الثالث في أيام التشريق
خرج مسلم في صحيحه [ من حديث نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أيام منى أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] و خرجه أهل السنن و المسانيد من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم و في بعضها : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث في أيام منى مناديا ينادي : لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] و في رواية للنسائي : [ أيام أكل و شرب و صلاة ] و في رواية للدارقطني بإسناد فيه ضعف : [ أيام أكل و شرب و بعال ] و في رواية للإمام أحمد : [ من كان صائما فليفطر فإنها أيام أكل و شرب ] و في رواية : أنها ليست أيام صيام أيام منى هي الأيام المعدودات التي قال الله عز و جل فيها : { و اذكروا الله في أيام معدودات } و هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر و هي أيام التشريق هذا قول ابن عمر و اكثر العلماء و روي عن ابن عباس و عطاء أنها أربعة أيام : يوم النحر و ثلاثة أيام بعده و سماها عطاء أيام التشريق و الأول أظهر و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ أيام منى ثلاثة : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه } ] خرجه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و هذا صريح في أنها أيام التشريق و أفضلها أولها يوم القر لأن أهل منى يستقرون فيه و لا يجوز فيه النفر و في [ حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم : أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر ] و قد روي عن سعيد بن المسيب : أن يوم الحج الأكبر هو يوم القر و هو غريب ثم يوم النفر الأول و هو أوسطها ثم يوم النفر الثاني و هو آخرها قال الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه } قال كثير من السلف : يريد أن المتعجل و المتأخر يغفر له و يذهب عنه الإثم الذي كان عليه قبل حجه إذا حج فلم يرفث و لم يفسق و رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه و لهذا قال تعالى : { لمن اتقى } فتكون التقوى شرطا لذهاب الإثم على هذا التقدير و تصير الآية دالة على ما صرح به قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حج فلم يرفث و لم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] و قد أمر الله تعالى بذكره في هذه الأيام المعدودات كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] و ذكر الله عز و جل المأمور به في أيامك التشريق أنواع متعددة : منها : ذكر الله عز و جل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير في أدبارها و هو مشروع إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء و قد روي عن عمر و علي و ابن عباس و فيه حديث مرفوع في إسناده ضعف و منها : ذكره بالتسمية و التكبير عند ذبح النسك فإن وقت ذبح الهدايا و الأضاحي يمتد إلى آخر أيام التشريق عند جماعة من العلماء و هو قول الشافعي و رواية عن الإمام أحمد و فيه حديث مرفوع : [ كل أيام منى ذبح ] و في إسناده مقال و أكثر الصحابة على أن الذبح يختص بيومين من أيام التشريق مع يوم النحر و هو المشهور عن أحمد و قول مالك و أبي حنيفة و الأكثرين و منها : ذكر الله عز و جل على الأكل و الشرب فإن المشروع في الأكل و الشرب أن يسمي الله في أوله و يحمده في آخره و في الحديث عن النبي الله : [ أن الله عز و جل يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها ] و قد روي : أن من سمى على أول طعامه و حمد الله على آخره فقد أدى ثمنه و لم يسأل بعد عن شكره و منها : ذكره بالتكبير عند رمي الجمار في أيام التشريق و هذا يختص به أهل الموسم و منها : ذكر الله تعالى المطلق فإنه يستحب الإكثار منه في أيام التشريق و قد كان عمر يكبر بمنى في قبته فيسمعه الناس فيكبرون فترتج منى تكبيرا و قد قال الله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } إلى آخر الآية و قد استحب كثير من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق قال عكرمة : كان يستحب أن يقال في أيام التشريق : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار } و عن عطاء قال : ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها إلى أهله : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار } خرجهما عبد بن حميد في تفسيره و هذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير و كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر منه و روي : أنه كان أكثر دعائه و كان إذا دعا بدعاء جعله معه فإنه يجمع خير الدنيا و الآخرة قال الحسن : الحسنة في الدنيا : العلم و العبادة و في الآخرة : الجنة و قال سفيان : الحسنة في الدنيا : العلم و الرزق الطيب و في الآخرة : الجنة و الدعاء من أفضل أنواع ذكر الله عز و جل و قد روى زياد الجصاص عن أبي كنانة القرشي أنه سمع أبا موسى الأشعري يقول في خطبته يوم النحر بعد يوم النحر ثلاثة أيام التي ذكر الله الأيام المعدودات لا يرد فيهن الدعاء فارفعوا رغبتكم إلى الله عز و جل و في الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى و هو أن سائر العبادات تنقضي و يفرغ منها و ذكر الله باق لا ينقضي و لا يفرغ منه بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا و الآخرة و قد أمر الله تعالى بذكره عند انقضاء الصلاة قال الله تعالى : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما و قعودا و على جنوبكم } و قال في صلاة الجمعة : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله و اذكروا الله كثيرا } و قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب * و إلى ربك فارغب } روي عن ابن مسعود قال كان فإذا فرغت من الفرائض فانصب و عنه قوله : { و إلى ربك فارغب } قال : في المسألة و أنت جالس و قال الحسن : أمره إذا فرغ من غزوة أن يجتهد في الدعاء و العبادة فالأعمال كلها يفرغ منها و الذكر لا فراغ له و لا انقضاء و الأعمال تنقطع بانقطاع الدنيا و لا يبقى منها شيء في الآخرة و الذكر لا ينقطع المؤمن يعيش على الذكر و يموت عليه و عليه يبعث
( أحسبتموا أن الليالي غيرت ... عهد الهوى لا كان من يتغير )
( يفنى الزمان و ليس يفنى ذكركم ... و على محبتكم أموت و أحشر )
قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره و لا الآخرة إلا بعفوه و لا الجنة إلا برؤيته
( بذكر الله ترتاح القلوب ... و دنيانا بذكراه تطيب )
( إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ... ترنح نشوان و حن طروب )
فأيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل و الشرب و نعيم قلوبهم بالذكر و الشكر و بذلك تتم النعم و كلما أحدثوا شكرا على النعمة كان شكرهم نعمة أخرى إلى شكر آخر و لا ينتهي الشكر أبدا
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... و إن طالت الأيام و اتصل العمر )
في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل ] إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد و الشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى و طاعته و ذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات و قد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات و الشكر له فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله و بدلها كفرا و هو جدير أن يسلبها كما قيل :
( إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم )
( و داوم عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم )
و خصوصا نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام كما في أيام التشريق فإن هذه البهائم مطيعة و هي مسبحة له قانتة كما قال تعالى : { و إن من شيء إلا يسبح بحمده } و إنها تسجد له كما أخبر بذلك في سورة النحل و سورة الحج و ربما كانت أكثر ذكرا لله من بعض بني آدم و في المسند مرفوعا : [ رب بهيمة خير من راكبها و اكثر له منه ذكرا ] و قد أخبر الله تعالى في كتابه أن كثيرا من الجن و الإنس كالأنعام بل هم أضل فأباح الله عز و جل ذبح هذه البهائم المطيعة الذاكرة له لعباده المؤمنين حتى تتقوى بها أبدانهم و تكمل لذاتهم في أكلهم اللحوم فإنها من أجل الأغذية وألذها مع أن الأبدان تقوم بغير اللحم من النباتات و غيرها لكن لا تكمل القوة و العقل و اللذة إلا باللحم فأباح للمؤمنين قتل هذه البهائم و الأكل من لحومها ليكمل بذلك قوة عباده و عقولهم فيكون ذلك عونا لهم على علوم نافعة و أعمال صالحة يمتاز بها بنو آدم على البهائم و على ذكر الله عز و جل و هو أكثر من ذكر البهائم فلا يليق بالمؤمن مع هذا إلا مقابلة هذه النعم بالشكر عليها و الإستعانة بها على طاعة الله عز و جل و ذكره حيث فضل الله ابن آدم على كثير من المخلوقات و سخر له هذه الحيوانات قال الله تعالى : { فكلوا منها و أطعموا القانع و المعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } فأما من قتل هذه البهيمة المطيعة الذاكرة لله عز و جل ثم استعان بأكل لحومها على معاصي الله عز و جل و نسي ذكر الله عز و جل فقد قلب الأمر و كفر النعمة فلا كان من كانت البهائم خيرا منه و أطوع
( نهارك يا مغرور سهو و غفلة ... و ليلك نوم و الردى لك لازم )
( و تتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم )
و إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد للمسلمين مع يوم النحر فلا تصام بمنى و لا غيرها عند جمهور العلماء خلافا لعطاء في قوله : إن النهي يختص بأهل منى و إنما نهي عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي ففيه اختلاف مشهور بين العلماء و لا فرق بين يوم منها و يوم عند الأكثرين إلا عند مالك فإنه قال في اليوم الثالث منها : يجوز صيامه عن نذر خاصة و في النهي عن صيام هذه الأيام و الأمر بالأكل فيها و الشرب سر حسن و هو لله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر و تعب الإحرام و جهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الإستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر و ثلاثة أيام بعده و أمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم فهم في ضيافة الله عز و جل فيها لطفا من الله بهم ورأفة و رحمة و شاركهم أيضا أهل الأمصار في ذلك لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة و النصب لله و الإجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم و الذكر و الإجتهاد في العبادات و شاركوهم في حصول المغفرة و في التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي فشاركوهم في أعيادهم و اشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل و الشرب كما اشتركوا جميعا في أيام العشر في الإجتهاد في الطاعة و النصب و صار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز و جل في هذه الأيام يأكلون من رزقه و يشكرونه على فضله و نهوا عن صيامهم لأن الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه فكأنه قيل للمؤمنين في هذه الأيام قد فرغ عملكم الذي عملتموه فما بقي لكم إلا الراحة فهذه الراحة بهذا كالتعب كما أريح الصائمون لله شهر رمضان بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر و يؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمنين في الدنيا فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج و هو زمان إحرام المؤمن عما حرم عليه من الشهوات فمن صبر في مدة سفره على إحرامه و كف عن الهوى فإذا انتهى سفر عمره و وصل إلى منى المنى فقد قضى تفثه و وفى نذره فصارت أيامه كلها كأيام منى أيام أكل و شرب و ذكر الله عز و جل و صار في ضيافة الله عز و جل في جواره أبد الأبد و لهذا يقال لأهل الجنة : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية }
{ كلوا و اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } و قد قيل : إنها نزلت في الصوام في الدنيا
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
قال بعض السلف : صم عن الدنيا و ليكن فطرك الموت
( فصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز الفطر و الناس صوم )
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدا بعد وفاته و من تعجل ما حرم عليه من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة و فواته شاهد ذلك من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة
( أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك )
( و اجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك )
( و ليكن فطرك عند اللـ ... ه في يوم وفاتك )
قال الله تعالى : { و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } الجنة ضيافة الله أعدها للمؤمنين نزلا فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو إليها بالإيمان و الإسلام و الإحسان فمن أجابه دخل الجنة و أكل من تلك الضيافة و من لم يجب حرم خرج الترمذي [ عن جابر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال : رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي و ميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال : اسمع سمعت أذناك و اعقل عقل قلبك : إنما مثلك و مثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بناء و جعل فيها مائدة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول و منهم من تركه فالله تعالى هو الملك و الدار هي الإسلام و البيت الجنة و أنت يا محمد رسول الله من أجابك دخل الإسلام و من دخل الإسلام دخل الجنة و من دخل الجنة أكل فيها ] و خرجه البخاري بمعناه و لفظه : [ مثله كمثل رجل بنى دارا و جعل فيها مأدبة و بعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المأدبة و من لم يجب الداعي لم يدخل الدار و لم يأكل من المأدبة و الدار الجنة و الداعي محمد صلى الله عليه و سلم ] في بعض الآثار الإسرائلية يقول الله تعالى : [ ابن آدم ما أنصفتني أذكرك و تنساني أدعوك إلى إلي فتفر مني إلى غيري و أذهب عنك البلايا و أنت منعكف على الخطايا ابن آدم ما يكون اعتذارك غدا إذا جئتني ] طوبى لمن أجاب مولاه : { يا قومنا أجيبوا داعي الله }
( يا نفس ويحك قد أتاك هواكي ... أجيبي فداعي الحق قد ناداكي )
( كم قد دعيت إلى الرشاد فتعرضي ... و تجيبي داعي الغي حين دعاكي )
كل ما في الدنيا يذكر بالآخرة فمواسمها و أعيادها و أفراحها تذكر بمواسم الآخرة و أعيادها و أفراحها صنع عبد الواحد بن زيد طعاما لإخوانه فقام عتبة الغلام على رؤوس الجماعة يخدمهم و هو صائم فجعل عبد الواحد ينظر إليه و يسارقه النظر و دموع عتبة تجري فسأله بعد ذلك عن بكائه حينئذ فقال : ذكرت موائد الجنة و الولدان قائمون على رؤوسهم فصعق عبد الواحد : أبدان العارفين في الدنيا و قلوبهم في الآخرة
( جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة و الروح في وطن )
أعياد الناس تنقضي فأما أعياد العارفين فدائمة قال الحسن : كل يوم لا تعصي الله فهو لك عيد جاء بعضهم إلى بعض العارفين فسلم عليه و قال له : أريد أن أكلمك فقال : اليوم لنا عيد فتركه ثم جاء يوما آخر فقال له مثل ذلك ثم جاء يوما آخر فقال له مثل ذلك فقال له : ما أكثر أعيادك قال : يا بطال أما علمت أن كل يوم لا تعصي الله فيه فهو لنا عيد أوقات العارفين كلها فرح و سرور بمناجاة مولا هم و ذكره فهي أعياد و كان الشبلي ينشد :
( إذا ما كنت لي عيدا ... فما أصنع بالعيد )
( جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود )
و أنشد أيضا :
( عيدي مقيم و عيد الناس منصرف ... و القلب مني عن اللذات منحرف )
( و لي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين و عين دمعها يكف )
المجلس الرابع في ختام العام
خرج الإمام أحمد [ من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد و إن من السعادة أن يطول عمر العبد و يرزقه الله الإنابة ] فتمني الموت يقع على وجوه : منها : تمنيه لضر دنيوي ينزل بالعبد فينهى حينئذ عن تمني الموت و في الصحيحين [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي و توفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ] و وجه كراهيته في هذا الحال أن المتمني للموت لضر نزل به إنما يتمناه تعجيلا للإستراحة من ضره و هو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت فلعله يصير إلى ضر أعظم من ضره فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما يستريح من غفر له ] فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت إلا أن يشترط أن يكون خيرا له عند الله عز و جل فكذلك كل ما يعلم العبد فيه الخيرة له كالغنى و الفقر و غيرهما كما يشرع له استخارة الله تعالى فيما يريد أن يعمله مما لا يعلم وجه الخيرة فيه و إنما يسأل الله عز و جل على وجه الجزم و القطع مما يعلم أنه خير محض كالمغفرة و الرحمة و العفو و العافية و التقى و الهدى و نحو ذلك و منها : تمنيه خوف الفتنة في الدين فيجوز حينئذ و قد تمناه و دعا به خشية فتنة الدين خلق من الصحابة و أئمة الإسلام و في حديث المنام : [ و إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ] و منها : تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتناما لحضورها فيجوز ذلك أيضا و سؤال الصحابة الشهادة و تعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور و كذلك سؤال معاذ لنفسه و أهل بيته الطاعون لما وقع بالشام و منها : تمني الموت لمن وثق بعمله شوقا إلى لقاء الله عز و جل فهذا يجوز أيضا و قد فعله كثير من السلف قال أبو الدرداء : أحب الموت اشتياقا إلى ربي و قال أبو عنبسة الخولاني : كان من قبلكم لقاء الله أحب إليه من الشهد
و قال بعضهم : طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك و قال بعضهم : لا تطيب نفسي بالموت إلا إذا ذكرت لقاء الله عز و جل فإنني حينئذ أشتاق إلى الموت كشوق الظمآن الشديد ظمؤه في اليوم الحار الشديد حره إلى الماء البارد الشديد برده و في هذا يقول بعضهم :
( أشتاق إليك يا قريبا نائي ... شوق ظأم إلى الزلال الماء )
و قد دل على جواز ذلك قول الله عز و جل : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت } و قوله : { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت } فدل ذلك على أن أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنوه ثم أخبر أنهم : { و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } فدل على : أنه يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم عليها كما قال بعض السلف : ما يكره الموت إلا مريب و في [ حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه و سلم أسألك لذة النظر إلى وجهك و شوقا إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة ] فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت و ذلك لا يقع غالبا إلا عند خوف ضراء مضرة في الدنيا أو فتنة مضلة في الدين فأما إذا خلا عن ذلك كان شوقا إلى لقاء الله عز و جل و هو المسؤول في هذا الحديث و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين الموت إلا من وثق بعمله ] فالمطيع لله مستأنس بربه فهو يحب لقاء الله و الله يحب لقاءه و العاصي مستوحش بينه و بين مولاه وحشة الذنوب فهو يكره لقاء ربه و لا بد له منه قال ذو النون : كل مطيع مستأنس و كل عاص مستوحش و في هذا يقول بعضهم :
( أمستوحش أنت مما جنيت ... فاحسن إذا شئت و استأنس )
قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند الموت : أن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت و لا بد لك منه و إن ضيعتها لم يكن غائب أكره إليك من الموت و لن تعجزه قال أبو حازم : كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت العاصي يفر من الموت لكراهية لقاء الله و أين يفر من هو في قبضة من يطلبه
( أين المفر و الإله الطالب ... و المجرم المغلوب ليس الغالب )
سئل أبو حازم : كيف القدوم على الله ؟ قال : أما المطيع فقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه و أما العاصي فكقدوم الآبق على سيده الغضبان
رؤي بعض الصالحين في النوم فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : خيرا لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع الدنيا كلها شهر صيام المتقين و عيد فطرهم يوم لقاء ربهم كما قيل :
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقائكم ذاك فطر صيامي )
و منها : تمني الموت على غير الوجوه المتقدمة فقد اختلف العلماء في كراهيته و استحبابه و قد رخص فيه جماعة من السلف و كرهه آخرون و حكى بعض أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين و لا يصح فإن أحمد إنما نص على كراهة تمني الموت لضرر الدنيا و على جواز تمنيه خشية الفتنة في الدين و ربما أدخل بعضهم في هذا الإختلاف القسم الذي قبله و في ذلك نظر و استدل من كرهه بعموم النهي عنه كما في حديث جابر الذي ذكرناه و في معناه أحاديث أخر يأتي بعضها إن شاء الله تعالى و قد علل النهي عن تمني الموت في حديث جابر بعلتين : إحداهما : أن هول المطلع شديد و هول المطلع : هو ما يكشف للميت عند حضور الموت من الأهوال التي عهد له بشيء منها في الدنيا من رؤية الملائكة و رؤية أعماله من خير أو شر و ما يبشر به عند ذلك من الجنة و النار هذا مع ما يلقاه من شدة الموت و كربه و غصصه و في الحديث الصحيح : [ إذا حملت الجنازة و كانت صالحة قالت : قدموني قدموني و إن كانت غير ذلك قالت : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان و لو سمعها الإنسان لصعق ] قال الحسن : لو أعلم ابن آدم أن له في الموت راحة و فرحا لشق عليه أن يأتيه الموت لما يعلم من فظاعته و شدته و هوله فكيف و هو لا يعلم ما له في الموت نعيم دائم أو عذب مقيم بكى النخعي عند احتضاره و قال : انتظر ملك الموت لا أدري يبشرني بالجنة أو النار فالمتمني للموت كأنه يستعجل حلول البلاء و إنما أمرنا بسؤال العافية و سمع ابن عمر رجلا يتمنى الموت فقال : لا تتمنى الموت فإنك ميت و لكن سل الله العافية قال إبراهيم بن أدهم : إن للموت كأسا لا يقوى عليها إلا خائف وجل مطيع لله كان يتوقعها و قال أبو العتاهية :
( ألا للموت كأس أي كأس ... و أنت لكأسه لا بد حاسي )
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي )
جزع الحسن بن علي رضي الله عنهما عند موته و قال : إني أريد أن أشرف على ما لم أشرف عليه قط و بكى الحسن البصري عند موته و قال : نفيسة ضعيفة و أمر مهول عظيم و إنا لله و إنا إليه راجعون و كان حبيب العجمي عند موته يبكي و يقول : أريد أن أسافر سفرا ما سافرته قط و أسلك طريقا ما سلكته قط و أزور سيدي و مولاي و ما رأيته قط و أشرف على أهوال ما شاهدتها قط فهذا كله من هول المطلع الذي قطع قلوب الخائفين حتى قال عمر عند موته : لو أن لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع و من هول المطلع ما يكشف للميت عند نزوله قبره من فينة القبر فإن الموتى يفتنون بالمسألة في قبورهم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال و ما يكشف لهم في قبورهم عن منازلهم من الجنة و النار و ما يلقون من ضمة القبر و ضيقته و هوله و عذابه إن لم يعاف الله من ذلك رؤي بعض الصالحين في المنام بعد موته فسئل عن حاله فأنشد :
( و ليس يعلم ما في القبر داخله ... إلا الإله و ساكن الأجداث )
و العلة الثانية : أن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا فمن سعادته أن يطول عمره و يرزقه الله الإنابة إليه و التوبة من ذنوبه السالفة و الإجتهاد في العمل الصالح فإذا تمنى الموت فقد تمنى إقطاع عمله الصالح فلا ينبغي له ذلك و [ روى إبراهيم الحربي من رواية ابن لهيعة عن ابن الهاد عن ابن المطلب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : السعادة طول العمر في طاعة الله عز و جل ] و قد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة ففي صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت أما محسنا فلعله أن يزداد خيرا و إما مسيئا فلعله أن يستعتب ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ] و في مسند الإمام أحمد [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إن مات أحدكم انقطع عنه عمله و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ] و فيه [ عن أم الفضل رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع العباس و هو يشتكي فتمنى الموت فقال : لا تتمنى الموت فإنك إن كنت محسنا تزداد إحسانا و إن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعب من إساءتك خير لك ] و فيه أيضا [ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا و رققنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء و قال : يا ليتني مت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك و حسن من عملك فهو خير لك ] و في المعنى أحاديث أخر كثيرة و كلها تدل على النهي عن تمني الموت بكل حال و أن طول عمر المؤمن خير له فإنه يزداد فيه خيرا و هذا قد قيل إنه يدخل فيه تمنيه للشوق إلى لقاء الله و فيه نظر فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد تمناه في تلك الحال و اختلف السالكون أيما أفضل من تمنى الموت شوقا إلى لقاء الله أو من تمنى الحياة رغبة في طاعة الله أو من فوض الأمر إلى الله و رضي باختياره له و لم يختر لنفسه شيئا و استدل طائفة من الصحابة على تفضيل الموت على الحياة بقول الله عز و جل : { و ما عند الله خير للأبرار } و لكن الأحاديث الصحيحة تدل على أن عمر المؤمن كلما طال ازداد بذلك ما له عند الله من الخير فلا ينبغي له أن يتمنى انقطاع ذلك اللهم إلا أن يخشى الفتنة على دينه فإنه إذا خشي الفتنة على دينه فقد خشي أن يفوته ما عند الله من خير و يتبدل ذلك بالشر عياذا بالله من ذلك و الموت خير من الحياة على هذه الحال قال ميمون بن مهران : لا خير في الحياة إلا لتائب أو رجل يعمل في الدرجات يعني أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات و العامل يجتهد في علو الدرجات و من عداهما فهو خاسر كما قال تعالى : { و العصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر } فأقسم الله تعالى أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بهذه الأوصاف الأربعة : الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق و التواصي بالصبر على الحق فهذه السورة ميزان للأعمال يزين المؤمن بها نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه و لهذا قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم رأى بعض المتقدمين النبي صلى الله عليه و سلم في منامه فقال له أوصني ؟ فقال له : من استوى يوماه فهو مغبون و كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون و من لم يتفقد الزيادة في عمله فهو في نقصان و من كان في نقصان فالموت خير له قال بعضهم : كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير و يستحيون من فقد ذلك و يعدونه خسرانا كما قيل :
( أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع و تحسب من عمري )
فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلا خيرا و من كان كذلك فالحياة خير له من الموت و في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و الموت راحة لي من كل شر ] خرجه مسلم و في الترمذي [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي الناس خير ؟ قال : من طال عمره و حسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره و ساء عمله ] و في المسند و غيره : [ أن نفرا ثلاثة قدموا النبي صلى الله عليه و سلم فأسلموا فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه و سلم بعثا فخرج فيهم أحدهم فاستشهد ثم بعث بعثا آخر فخرج منهم فاستشهد ثم مات الثالث على فراشه قال طلحة : فرأيتهم في الجنة فرأيت الميت على فراشه أمامهم و رأيت الذي استشهد آخرا يليه ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : و ما أنكرت من ذلك ليس أفضل عند الله عز و جل من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه و تكبيره و تهليله ] و في رواية قال [ أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ قالوا : بلى قال : و أدرك رمضان فصامه ؟ قالوا : بلى قال : و صلى كذا و كذا سجدة في السنة ؟ قالوا : بلى قال : فلما بينهما أبعد ما بين السماء و الأرض ] قيل لبعض السلف طاب الموت قل : لا تفعل لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر و قيل لشيخ كبير منه : تحب الموت ؟ قال : لا قيل : و لم ؟ قال : ذهب الشباب و شره و جاء الكبر و خيره فإذا قمت قلت : بسم الله و إذا قعدت قلت : الحمد لله فأنا أحب أن يبقى لي هذا و قيل لشيخ آخر منهم : ما بقي مما تحب له الحياة قال : البكاء على الذنوب و لهذا كان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم عنهم بالموت و بكى معاذ عند موته و قال : إنما أبكي على ظمأ الهواجر و قيام ليل الشتاء و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر و بكى عبد لرحمن بن الأسود عند موته و قال : وا أسفاه على الصوم و الصلاة و لم يزل يتلو القرآن حتى مات و بكى يزيد الرقاشي عند موته و قال : أبكي على ما يفوتني من قيام الليل و صيام النهار ثم بكى و قال : من يصلي لك يا يزيد بعدك و من يصوم و من يتقرب لك بالأعمال الصالحة و من يتوب لك من الذنوب السالفة و جزع بعضهم عند موته و قال : إنما أبكي على أن يصوم الصائمون لله و لست فيهم و يصلي المصلون و لست فيهم و يذكر الذاكرون و لست فيهم فذلك الذي أبكاني
( تحمل أصحابي و لم يجدوا وجدي ... و للناس أشجان و لي شجن وحدي )
( أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... فوا أسفى ممن يحبكم بعدي )
في الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : ما من ميت مات إلا ندم : إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد و إن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب ] إذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة فكيف يكون حال المسيء رأى بعض المتقدمين في المنام قائلا يقول له :
( يا خد إنك إن توسد لينا ... وسدت بعد الموت صم الجندل )
( فاعمل لنفسك في حياتك صالحا ... فلتقدمن غدا إذا لم تفعل )
و رأى آخر في المنام قائلا يقول له :
( إن كنت لا ترتاب أنك ميت ... و لست لبعد الموت ما أنت تعمل )
( فعمرك ما يفنى و أنت مفرط ... و اسمك في الموتى معد محصل )
رؤي بعض الموتى في المنام فقال : ما عندنا أكثر من الندامة و لا عندكم أكثر من الغفلة وجد على قبر مكتوب :
( ندمت على ما كان مني ندامة ... و من يتبع ما تشتهي النفس يندم )
( ألم تعلم أن الحساب أمامكم ... و أن وراءكم طالبا ليس يسأم )
( فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم ... ستلقون ربا عادلا ليس يظلم )
( فليس لمغرور بدنياه راحة ... سيندم إن زلت له النعل فاعلموا )
الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم بتسبيحة و بركعة و مهم من يسأل الرجعة إلى الدنيا لذلك فلا يقدرون على ذلك قد حيل بينهم و بين العمل غلقت منهم الرهون و رؤي بعضهم في المنام فقال : ندمنا على أمر عظيم نعلم و لا نعمل و أنتم تعملون و لا تعلمون و الله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا و ما فيها قال بعض السلف : كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة و قال بعضهم بقية عمر المؤمن لا قيمة له يعني أنه يمكنه أن يمحو فيه ما سلف منه من الذنوب بالتوبة و أن يجتهد فيه في بلوغ الدرجات العالية بالعمل الصالح فأما من فرط في بقية عمره فإنه خاسر فإن ازداد فيه من الذنوب فذلك هو الخسران المبين الأعمال بالخواتيم من أصلح فيما بقي غفر له ما مضى و من أساء فيما بقي أخذ بما بقي و ما مضى
( يا بائع عمره مطيعا أمله ... في معصية الله كفعل الجهلة )
( إن ساومك الجهل باقيه فقل ... باقي عمر المؤمن لا قيمة له )
ما مضى من العمر و إن طالت أوقاته فقد ذهب لذاته و بقيت تبعاته و كأنه لم يكن إذا جاء الموت و ميقاته قال الله عز و جل : { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } تلا بعض السلف هذه الآية و بكى و قال : إذا جاء الموت لم يغن عن المرء ما كان فيه من اللذة و النعيم و في هذا المعنى ما أنشده أبو العتاهية للرشيد حين بنى قصره و استدعى إليه ندماءه
( عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور )
( يسعى عليك بما اشتهيـ ... ت لدى الرواح و في البكور )
( فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور )
( فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور )
و في صحيح البخاري [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره ] و في الترمذي [ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في رواية : [ حصاد أمتي من بلغ الخمسين فقد تنصف المائة فماذا ينتظر ]
( لهفي على خمسين عاما قد مضت ... كانت أمامي ثم خلفتها )
( لو كان عمر بمائة هدني ... تذكري أني تنصفتها )
في بعض الكتب السالفة : إن لله مناديا ينادي كل يوم : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين لا عذر لكم ليت الخلق لم يخلقوا و ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا و تجالسوا بيهم فتذاكروا ما عملوا ألا أتتكم الساعة فخذوا حذركم و قال وهب : إن لله مناديا ينادي في السماء الرابعة كل صباح : أبناء الأربعين زرع دنا حصاده أبناء الخمسين ماذا قدمتم و ما أخرتم أبناء الستين لا عذر لكم و في حديث : [ إن الله يقول للحفظة ارفقوا بالعبد ما دامت حداثته فإذا بلغ الأربعين حققا و تحفظا ] فكان بعض رواته يبكي عند روايته و يقول : حين كبرت السن و رق العظم وقع التحفظ قال مسروق : إذا أتتك الأربعون فخذ حذرك و قال النخعي : كان يقال لصاحب الأربعين احتفظ بنفسك و كان كثير من السلف إذا بلغ الأربعين تفرغ للعبادة و قال عمر بن عبد العزيز : تمت حجة الله على ابن الأربعين فمات لها و رأى في منامه قائلا يقول له :
( إذا ما أتتك الأربعون فعندها ... فاخش الإله و كن للموت حذارا )
يا أبناء العشرين كم مات من أقرانكم و تخلفتم يا أبناء الثلاثين أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم يا أبناء الأربعين ذهب الصبا و أنتم على اللهو قد عكفتم يا أبناء الخمسين تنصفتم المائة و ما أنصفتم يا أبناء الستين أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم أتلهون و تلعبون لقد أسرفتم
( و إذا تكامل للفتى من عمره ... خمسون و هو إلى التقى لم يجنح )
( عكفت عليه المخزيات فما له ... متأخر عنها و لا متزحزح )
( و إذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حيا و قال فديت من لا يفلح )
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تصل
( و إن امرءا قد سار ستين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب )
يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه إنما تفرح بنقص عمرك قال أبو الدرداء و الحسن رضي الله عنهما : إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك
( إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... و كل يوم مضى يدني من الأجل )
( فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ... فإنما الربح و الخسران في العمل )
قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره و شهره يهدم سنته و سنته تهدم عمره ؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله و حياته إلى موته ؟
( نجد سرورا بالهلال إذا بدا ... و ما هو إلا السيف للحتف ينتضى )
( إذا قيل تم الشهر فهو كناية ... و ترجمة عن شطر عمر قد انقضى )
قال الحسن : الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من ورائكم و هي مراحل
( نسير إلى الآجال في كل لحظة ... و أعمارنا تطوى و هن مراحل )
( ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام و هن قلائل )
قال بعض الحكماء : من كانت الليالي و الأيام مطاياه سارتا به و إن لم يسر
( و ما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها حاد إلى الموت قاصد )
( و أعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوى و المسافر قاعد )
يا من كلما طال عمره زاد ذنبه يا من كلما ابيض شعره بمرور الأيام اسود بالآثام قلبه
( شيخ كبير له ذنوب ... تعجز عن حملها المطايا )
( قد بيضت شعره الليالي ... و سودت قلبه الخطايا )
يا من تمر عليه سنة بعد سنة و هو مستثقل في نوم الغفلة و السنة يا من يأتي عليه عام بعد عام و قد غرق في بحر الخطايا فعام يا من يشاهد الآيات و العبر كلما توالت عليه الأعوام و الهور و يسمع الآيات و السور و لا ينتفع بما يسمع و لا بما يرى من عظائم الأمور ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور : { فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور } ـ { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
( خليلي كم من ميت قد حضرته ... و لكنني لم أنتفع بحضوري )
( و كم من ليالي قد أرتني عجائبا ... لهن و أيام خلت و شهور )
( و كم من سنين قد طوتني كثيرة ... و كم من أمور قد جرت و أمور )
( و من لم يزده السن ما عاش عبرة ... فذاك الذي لا يستنير بنور )
فصل ـ و يلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية ـ وظائف فصول السنة الشمسية و
فيه ثلاث مجالس ـ المجلس الأول في ذكر فصل الربيع
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل : ما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقال له رجل : هل يأتي الخير بالشر ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننت أنه سينزل عليه ثم جعل يمسح عن جبينه قال : أين السائل ؟ قال : أنا قال : لا يأتي الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوة و إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت و ثلطت و بالت ثم عادت فأكلت و إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و إن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع ] كان النبي صلى الله عليه و سلم يتخوف على أمته من فتح الدنيا عليهم فيخاف عليهم الإفتتان بها
ففي الصحيحين [ عن عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للأنصار لما جاءه مال من البحرين : أبشروا و أملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم ما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ] و كان آخر خطبة خطبها على المنبر حذر فيها من زهرة الدنيا ففي الصحيحين [ عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فقال : إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي و لكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم ] قال قال عقبة : فكان آخر ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر و في صحيح مسلم [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا افتتحت عليكم خزائن فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ] و في المسند [ عن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة ] قال عمرو : أنا أشفق من ذلك و فيه أيضا [ عن أبي ذر : أن أعرابيا قال : يا رسول الله أكلتنا الضبع يعني السنة و الجدب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : غير ذلك أخوف مني عليكم حين تصب عليكم الدنيا صبا فليت أمتي لا يلبسون الذهب ] و في رواية الديباج و فيه أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أخشى عليكم الفقر و لكني أخشى عليكم التكاثر ]
و يروى [ من حديث عوف بن مالك و أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الفقر تخافون و الذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هي ] و في رواية عوف : [ فإن الله فاتح عليكم فارس و الروم ] و في المعنى أحاديث أخر و في الترمذي أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ لكل أمة فتنة و إن فتنة أمتي المال ]
فقوله صلى الله عليه و سلم في حديث أبي سعيد الخدري : [ إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض ] ثم فسره بزهرة الدنيا و مراده : ما يفتح على أمته منها من ملك فارس و الروم و غيرهم من الكفار الذين ورثت هذه الأمة ديارهم و أموالهم و أراضيهم التي تخرج منها زروعهم و ثمارهم و أنهارهم و معادنهم و غير ذلك مما يخرج من بركات الأرض و هذا من أعظم المعجزات و هو إخباره بظهور أمته على كنوز فارس و الروم و أموالهم و ديارهم و وقع على ما أخبر به و لكنه لما سمى ذلك ببركات الأرض و أخبر أنه أخوف ما يخافه عليهم أشكل ذلك على بعض من سمعه حيث سماه بركة ثم خاف منه أشد الخوف فإن البركة إنما هي خير و رحمة و قد سمى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى : { و إنه لحب الخير لشديد } و قال : { إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين } و قال تعالى عن سليمان عليه السلام : { إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } فلما سأله السائل : هل يأتي الخير بالشر صمت النبي صلى الله عليه و سلم حتى ظنوا أنه أوحي إليه و الظاهر أن الأمر كان كذلك و يدل عليه أنه ورد في رواية لمسلم في هذا الحديث : [ فأفاق يمسح عنه الرحضاء ] ـ و هو العرق ـ و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أوحي إليه يتحدر منه مثل الجمان من العرق من شدة الوحي و ثقله عليه و في هذا دليل على أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه و لم يتكلم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه فلما نزل عليه جواب ما سئل عنه قال : أين السائل ؟ قال : ها أنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الخير لا يأتي إلا بالخير ] و في رواية لمسلم فقال : [ أو خير هو ؟ ] و في ذلك دليل على : أن المال ليس بخير على الإطلاق بل منه خير و منه شر ثم ضرب مثل المال و مثل من يأخذه بحقه و يصرفه في حقه و من يأخذه من غير حقه و يصرفه في غير حقه فالمال في حق الأول خير و في حق الثاني شر فتبين بهذا أن المال ليس بخير مطلق بل هو خير مقيد فإن استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته كان خيرا له و إلا كان شرا له فأما المال فقال : [ إنه خضرة حلوة ]
و قد وصف المال و الدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة : ففي الصحيحين [ عن حكيم بن حزام أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم سأله فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه و من أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه و كان كالذي يأكل و لا يشبع ] و في صحيح مسلم [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ] و استخلافهم فيها هو ما أورثهم الله منها مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس و الروم و حذرهم من فتنة الدنيا و فتنة النساء خصوصا فإن النساء أول ما ذكره الله من شهوات الدنيا و متاعها في قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } و في المسند و الترمذي [ عن خولة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن هذا المال خضرة حلوة فمن أصابه بحقه بورك له فيه و رب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله و رسوله ليس له يوم القيامة إلا النار ] و في المسند أيضا [ عن خولة بنت ثامر الأنصارية عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن رجالا سيخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة ] و خرج البخاري من قوله : [ إن رجالا ] إلى آخره و في المسند أيضا [ عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن هذه الدنيا خضرة حلوة فمن آتيناه منها شيئا بطيب نفس أو طيب طعمة و لا إسراف بورك له فيه و من آتيناه منها شيئا بغير طيب نفس منا و غير طعمة و إسراف منه لم يبارك له فيه ] و في المعنى أحاديث أخر
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا أكلة الخضر ] مثل آخر ضربه صلى الله عليه و سلم لزهرة الدنيا و بهجة منظرها و طيب نعيمها و حلاوته في النفوس فمثله كمثل نبات الربيع و هو المرعى الخضر الذي ينبت في زمان الربيع فإنه يعجب الدواب التي ترعى فيه و تستطيبه و تكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها لاستحلائها له فأما أن يقتلها فتهلك و تموت حبطا و الحبط : انتفاخ البطن من كثرة الأكل أو يقارب قتلها و يلم به فتمرض منه مرضا مخوفا مقاربا للموت فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بشره و جوع نفس من حيث لاحت له لا بقليل يقنع و لا بكثير يشبع و لا يحلل و لا يحرم بل الحلال عنده ما حل بيده و قدر عليه و الحرام عنده ما منع منه و عجز عنه فهذا هو المتخوض في مال الله و رسوله فيما شاءت نفسه و ليس له إلا النار يوم القيامة كما في حديث خولة المتقدم و المراد بمال الله و مال رسوله : الأموال التي يجب على ولاة الأمور حفظها و صرفها في طاعة الله و رسوله من أموال الفيء و الغنائم و يتبع ذلك مال الخراج و الجزية و كذا أموال الصدقات التي تصرف للفقراء و المساكين كمال الزكاة و الوقف و نحو ذلك و في هذا تنبيه على أن من تخوض من الدنيا في الأموال المحرم أكلها كمال الربا و مال الأيتام الذي من أكله أكل نارا و المغضوب و السرقة و الغش في البيوع و الخداع و المكر و جحد الأمانات و الدعاوى الباطلة و نحوها من الحيل المحرمة أولى أن يتخوض صاحبها في نار جهنم غدا فكل هذه الأموال و ما أشبهها يتوسع بها أهلها في الدنيا و يتلذذون بها و يتوصلون بها إلى لذات الدنيا و شهواتها ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصير جمرا من جمر جهنم في بطونهم فما تفي لذتها بتبعها كما قيل :
( تفنى اللذاذة ممن نال لذاتها ... من الحرام و يبقى الإثم و العار )
( تبقى عواقب سوء من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار )
فلهذا شبه النبي صلى الله عليه و سلم من يأخذها بغير حقها و يضعها في غير حقها بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله فإما أن يقتلها و إما أن يقارب قتلها فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها و وضعها في غير وجهها إما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه و دينه و هو من مات على ذلك من غير توبة منه و إصلاح حال فيستحق النار بعمله قال الله تعالى : { و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } و هذا هو الميت حقيقة فإن الميت من مات قلبه كما قيل :
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء )
و أما أن يقارب موته ثم يعافى و هو من أفاق من هذه السكرة و تاب قبل موته
و قد قال علي رضي الله عنه في كلامه المشهور في أقسام جملة العلم : أو منهوم باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرى بجمع الأموال و الإدخار و ليسوا من رعاة الدين أقرب شبابهم الأنعام السارحة و في الأبيات المشهورة التي كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرا :
( نهارك يا مغرور سهو و غفلة ... و ليلك نوم و الردى لك لازم )
( و تتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم )
و إما استثناؤه صلى الله عليه و سلم من ذلك : [ آكلة الخضر ] فمراده بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقها مقدار حاجته فإذا نفذ و احتاج عاد إلى الأخذ منها قدر الحاجة بحقه و آكلة الخضر : دويبة تأكل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل ثم تصرفه عنها فتستقبل عين الشمس فتصرف بذلك ما في بطنها و تخرج منه ما يؤذيها من الفضلات و قد قيل : إن الخضر ليس من نبات الربيع عند العرب إنما هو من كلاء الصيف بعد يبس العشب و هيجه و اصفراره و الماشية من الإبل لا تستكثر منه بل تأخذ منه قليلا قليلا و لا تحبط بطونها منه فهذا مثل المؤمن المقتصد من الدنيا يأخذ من حلالها و هو قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته و حاجته و يجتزي من متاعها بأدونه و أخشنه ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفذ ما عنده و خرجت فضلاته فلا يوجب له هذا الأخذ ضررا و لا مرضا و لا هلاكا بل يكون ذلك بلاغا له و يتبلغ به مدة حياته و يعينه على التزود لآخرته و في هذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته و قنع بذلك كما قال صلى الله عليه و سلم : [ قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام و كان عيشه كفافا فقنع به ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ خير الرزق ما يكفي ] و قال : [ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ]
( خذ من الرزق ما كفا ... و من العيش ما صفا )
( كل هذا سينقضي ... كسراج إذا انطفا )
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ إن هذا المال خضرة حلوة ] فأعاده مرة ثانية تحذيرا من الإغترار به فخضرته منظرة و حلاوته طيب طعمه فلذلك تشتهيه النفوس و تسارع إلى طلبه و لكن لو فكرت في عواقب لهربت منه الدنيا في الحال حلوة خضره و في المآل مرة كدرة نعمت المرضعة و بئست الفاطمة
( إنما الدنيا نهار ... ضوءه ضوء معار )
( بينما عيشك غض ... ناعم فيه اخضرار )
( إذ رماه زمناه ... فإذا فيه اصفرار )
( و كذلك الليل يأتي ... ثم يمحوه النهار )
مثل حرام الدنيا كشجرة الدفلى تعجب من رآها و تقتل من آكلها
( نرى الدنيا و زهرتها فنصبوا ... و ما يخلو من الشهوات قلب )
( فضول العيش أكثره هموم ... و أكثر ما يضرك ما تحب )
( إذا اتفق القليل و فيه سلم ... فلا ترد الكثير و فيه حرب )
الذي بشر أمته بفتح الدنيا عليهم حذرهم من الإغترار بزهرتها و خوفهم من خضرتها و حلاوتها و أخبرهم بخبرابها و فنائها و أن بين أيديهم دارا لا تنقطع خضرتها و حلاوتها فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع و هلك و من لم يقف معها و سار إلى تلك وصل و نجا في المسند [ عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر عند رجليه فقال أحدهما للآخر : اضرب له مثلا فقال : إن مثله و مثل أمته كمثل قوم سفر انتهو إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة و لا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذا أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة و حياضا رواء أتتبعوني ؟ قالوا : نعم قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة و حياضا رواء فأكلوا و شربوا و سمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة و حياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا : بلى قال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه و حياضا هي أروى من هذه فاتبعوني قال : فقالت طائفة : صدق و الله لتتبعنه و قالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عله ] و قد خرجه ابن أبي الدنيا و غيره من الحسن مرسلا بسياق أبسط من هذا و فيه : [ إنهم لما رتعوا و سمنوا و أعجبهم المنزل صاح بهم فقال : ارتحلوا فإن هذه الروضة ذاهبة و إن هذا الماء غائر ذاهب و إن أمامكم روضة أعشب من هذه و ماء أروى من هذا الماء فكره ذلك عامة الناس و قالوا : ما نريد بهذه بدلا و هم أكثر الناس و قال آخرون : و الله إن آخر قوله كأوله ارتحلوا فأبوا فارتحل قوم فنجوا و لم يشعر الذين أقاموا حتى طرقهم العدو ليلا فأصبحوا بين أسير و قتيل ] الدنيا : خضراء الدمن و معنى ذلك أن خضرتها نابتة على مزبلة منتنة يا دني الهمة قنعت بروضة على مزبلة و الملك يدعوك إلى فردوسه الأعلى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } أرضيتم بخرابات البلى في الفردوس الأعلى يا لها صفقة غبن أتقنع بخسائس الحشائش و الرياض معشبة بين يديك
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ من أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و من أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع ] تقسيم لمن يأخذ المال على قسمين : فأحدهما : يشبه حال آكلة الخضر و هو من أخذه بحقه و وضعه في حقه و ذكر أنه نعم المعونة هو فإنه نعم العون لمن هذه صفته على الآخرة كما في [ حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نعم المال الصالح للرجل الصالح ] و هو الذي يأخذ بحقه و يضعه في حقه فهذا يوصله ماله إلى الله عز و جل فمن أخذ من المال بحقه ما يقويه على طاعة الله و يستعين به عليها كان أخذه طاعة و نفقته طاعة و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك ] و في حديث آخر : [ ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة و ما أطعمت أهلك فهو لك صدقة و ما أطعمت ولدك فهو لك صدقة و ما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ] فما أخذ من الدنيا بنية التقوى على طلب الآخرة فهو داخل في قسم إرادة الآخرة و السعي لها لا في إرادة الدنيا و السعي لها قال الحسن : ليس من حب الدنيا طلبك ما يصلحك فيها و من زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها و من أحب الدنيا و سرته ذهب خوف الآخرة من قلبه و قال سعيد بن جبير : متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة و ما لم يلهك فليس متاع الغرور و لكنه بلاغ إلى ما هو خير منه و قال بعض العارفين : كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم و كل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا و قال أبو سليمان : الدنيا حجاب عن الله لأعدائه و مطية موصلة إليه لأوليائه فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للإتصال به و الإنقطاع عنه
و القسم الثاني : يشبه حاله حال البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع [ فيقتلها حبطا أو يلم ] و هو من يأخذ المال بغير حقه فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع منه بقليل و لا بكثير و لا يشبع نفسه منه و لهذا قال : [ و كان كالذي يأكل و لا يشبع ] [ و كان النبي صلى الله عليه و سلم يتعوذ من نفس لا تشبع ] و حديث [ زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ] فمن كان فقره بين عينيه لم يزل خائفا من الفقر لا يستغنى قلبه بشيء و لا يشبع من الدنيا فإن الغنى غنى القلب و الفقر فقر النفس و في حديث خرجه الطبراني مرفوعا : [ الغنى غنى القلب و الفقر في القلب و من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا و من كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له منها و إنما يضر نفسه ] و عن عيسى عليه السلام قال : [ مثل طالب الدنيا كشارب البحر كلما زاد شربا منه زاد عطشا حتى يقتله ] قال يحيى بن معاذ : من كان غناه في قلبه لم يزل غنيا و من كان غناه في كبسه لم يزل فقيرا و من قصد المخلوقين لحوائجه لم يزل محروما و يشهد لذلك كله الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب الله على من تاب ] لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع و لو تذكر الجائع إلى فضول مآلها لشبع
( هب أنك قد ملكت الأرض طرا ... ودان لك العباد فكان ماذا )
( أليس إذا مصيرك جوف قبر ... و يحثي التراب هذا ثم هذا )
و قد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا و خضرتها و نضرتها و بهجتها و سرعة تقلبها و زوالها و جعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في تقلب أحواله و مآله قال الله تعالى : { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا } و قال تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } و قال تعالى : { أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } و قال تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } فالدنيا و جميع ما فيها من الخضرة و البهجة و النضرة تتقلب أحواله و تتبدل ثم تصير حطاما يابسا و قد عدد الله سبحانه زينة الدنيا و متاعها المبهج في قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب } و هذا كله يصير ترابا ما خلا الذهب و الفضة و لا ينتفع بأعيانهما بل هما قيم الأشياء فلا ينتفع صاحبهما بإمساكهما و إنما ينتفع بإنفاقهما و لهذا قال الحسن : بئس الرفيق الدرهم و الدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك و أجسام بني آدم بل و سائر الحيوانات كنبات الأرض تنقلب من حال إلى حال ثم تجف و تصير ترابا قال الله تعالى : { و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا }
( و ما المرء إلا كالنبات و زهره ... يعود رفاتا بعد ما هو ساطع )
فينتقل ابن آدم من الشباب إلى الهرم و من الصحة إلى السقم و من الوجود إلى العدم كما قيل :
( و ما حالتنا إلا ثلاث ... شباب ثم شيب ثم موت )
( و آخر ما يسمى المرء شيخا ... و يتلوه من الأسماء ميت )
مدة الشباب قصيرة كمدة زهر الربيع و بهجته و نضارته فإذا يبس و ابيض فقد آن ارتحاله كما أن الزرع إذا ابيض فقد آن حصاده و أجمل زهور الربيع الورد و متى كثر فيه البياض فقد قرب زمان انتقاله قال وهيب بن الورد : إن لله ملكا ينادي في السماء كل يوم : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده و في حديث مرفوع : [ إن لكل شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ]
( قد يبلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد )
و قد يدرك الزرع آفة قبل بلوغ حصاده فيهلك كما أشير إليه في قوله تعالى : { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } قال ميمون بن مهران لجلسائه : يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا ابيض قالوا الحصاد فنظر إلى الشباب فقال : يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يستحصد و قال بعضهم : أكثر من يموت الشباب و آية ذلك أن الشيوخ في الناس قليل
( أيا ابن آدم لا يغررك عافية ... عليك صافية فالعمر معدود )
( ما أنت إلا كزرع عند خضرته ... بكل شيء من الآفات مقصود )
( فإن سلمت من الآفات أجمعها ... فأنت عند كمال الأمر محصود )
كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة و دليل عليه فنبات الأرض و اخضرارها في الربيع بعد محولها و يبسها في الشتاء و إيناع الأشجار و اخضرارها بعد كونها خشبا يابسا يدل على بعث الموتى من الأرض و قد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه في مواضع كثيرة قال الله تعالى : { و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير * و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور } و قال الله تعالى : { و نزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات و حب الحصيد * و النخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج } و قال الله تعالى : { و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } قال أبو رزين للنبي صلى الله عليه و سلم : كيف يحي الله الموتى و ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : [ هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا ؟ قال : نعم قال : كذلك يخرج الله الموتى و ذلك آيته في خلقه ] خرجه الإمام أحمد و قصر مدة الزرع و الثمار و عود الأرض بعد ذلك إلى يبسها و الشجر إلى حالها الأول كعود ابن آدم بعد كونه حيا إلى التراب الذي خلق منه و فصول السنة تذكر بالآخرة : فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم و هو من سمومها و شدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم و هو من زمهريرها و الخريف يكمل فيه اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة و أما الربيع فهو أطيب فصول السنة و هو يذكر بنعيم الجنة و طيب عيشها و ينبغي أن يحث المؤمن على الإستعداد لطلب الجنة بالأعمال الصالحة كان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين و الفواكه إلى السوق فيقف و ينظر و يعتبر و يسأل الله الجنة و مر سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك جلوس في مجالسهم في زينتهم فسلموا عليه فلما بعد عنهم بكى و اشتد بكاؤه و قال : ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة يا هذا تزوج صلة بن أشيم بمعاذة العدوية و كانا من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله على زوجته في بيت مطيب منجد فقاما يصليان إلى الصباح فسأله ابن أخيه عن حاله فقال : أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النار يعني الحمام و أدخلتني الليلة بيتا أذكرتني به الجنة فلم يزل فكري في الجنة و النار إلى الصباح دعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه إليهم فقام على رؤوسهم عتبة الغلام يخدمهم و هو صائم و هم يأكلون فجعلت عيناه تهملان فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه ؟ فقال : ذكرت مواد أهل الجنة إذا أكلوا و قام الولدان على رؤوسهم إنما خلقت الدنيا مرآة لننظر بها إلى الآخرة لا لننظر إليها و نوقف معها
( كفى حزنا أن لا أعاين بقعة ... من الأرض إلا ازددت شوقا إليكم )
( و إني متى ما طاب لي خفض عيشة ... تذكرت أياما مضت لي لديكم )
تدقيق النظر و الفكر في حال النبات يستدل به المؤمن على عظمة خالقه وكمال قدرته و رحمته فتزداد القلوب هيمانا في محبته و إلى ذلك الإشارة بقوله : { و هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا و من النخل من طلعها قنوان دانية و جنات من أعناب و الزيتون و الرمان مشتبها و غير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر و ينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } زمان الربيع كله واعظ يذكر بعظمة موجده و كمال قدرته و يشوق إلى طيب مجاورته في دار كرامته كما قال ابن سمعون في وصف الربيع : أرضه حرير و أنفاسه عبير و أوقاته كلها وعظ و تذكير
( يا قومنا فاح الربيع ... و لاح للأحباب يحدو )
( الزهر مسك و الريا ... ض أريضة و الماء جعد )
( و الظل منثور و في ... جيد الشقائق منه عقد )
( هذا النسيم و عنبر ... و ضباب هذا اللؤلؤ )
( و الغصن يرقص و الغديـ ... ر مصفق و الورق تشدو )
( و الجو بعض منه يا ... قوت و بعض لا زرود )
( و الكل يشهد أن صـ ... انعه قدير و هو فرد )
و لبعضهم في وصف زمان الربيع :
( الطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط )
( و الطير يقرأ و الغدير صحيفة ... و الريح يكتب و الغمام ينقط )
رؤي بعض الشعراء المتقدمين في المنام بعد موته فسئل عن حاله ؟ فقال :
غفر لي بأبيات قلتها في النرجس :
( تفكر في نبات الأرض و انظر ... إلى آثار ما صنع المليك )
( عيون من لجين ناظرات ... بأحداق هي الذهب السبيك )
( على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك )
سبحان من سبحت المخلوقات بحمده فملأ الأكوان تحميده و أفصحت الكائنات بالشهادة بوحدانيته فوضح توحيده يسبحه النبات جمعه و فريده و الشجر عتيقه و جديده و يمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما درس الهزار درس شكره فالبلبل بالحمد معيده و كلما أقام خطيب الحمام النوح على الدوح هيج المستهام نوحه و تغريده : { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده } عجبا للمتقلب بين مشاهدة حكمه و تناول نعمه ثم لا يشكر نعمه و لا يبصر حكمه و أعجب من ذلك أن يعصي المنعم بنعمه هذا عود شجر الكرم يكون يابسا طول الشتاء ثم إذا جاء الربيع دب فيه الماء و اخضر ثم يخرج الحصرم فينتفع الناس به حامضا و يتناولون منه طبغا و اعتصارا ثم ينقلب حلوا فينتفع الناس به حلوا رطبا و يابسا و يستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طول العام و ما يأتدمون بحمضه و هو نعم الإدام فهذه التنقلات توجب للعاقل الدهش و التعجب من صنع صانعه و قدرة خالقه فينبغي له أن يفرغ عقله للتفكر في هذه النعم و الشكر عليها و أما الجاهل فيأخذ العنب فيجعله خمرا فيغطي به العقل الذي ينبغي أن يستعمل في الفكر و الشكر حتى ينسى خالقه المنعم عليه بهذه النعم كلها فلا يستطيع بعد الشرب أن يذكره أو يشكره بل ينسى من خلقه ورزقه فلا يعرفه في شكره بالكلية و هذه نهاية كفر النعم
( فواعجبا كيف يعصي الإلـ ... ه أم كيف يجحده الجاحد )
( و لله في كل تحريكة ... و تسكينة أبدا شاهد )
( و في كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد )
و من وجوه الإعتبار في النظر إلى الأرض التي أحياها الله بعد موتها في فصل الربيع بما ساق إليها من قطر السماء أنه يرجى من كرمه أن يحي القلوب الميتة بالذنوب و طول الغفلة بسماع الذكر النازل من السماء و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق } إلى قوله : { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } ففيه إشارة إلى أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر فهو قادر على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر عسى لمحة من لمحات عطفه و نفحة من نفحات لطفه و قد صلح من القلوب كل ما فسد
( عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر )
( إذا اشتد عسر فأرج يسرا فإنه ... قضى الله إن العسر يتبعه يسر )
عسى من أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يحي القلوب الميتة بالذكر عسى نفحة من نفحات رحمته تهب فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا
( إذا ما تجدد فصل الربيع ... تجدد للقلب فضل الرجاء )
( عسى الحال يصلح بعد الذنوب ... كما الأرض تهتز بعد الشتاء )
( و من ذا الذي ليس يرجوك ربي ... و ربع عطائك رحب الفناء )
المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم و أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ] لا شك أن الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين من غير موت و خلق دارا معجلة للأعمال و جعل فيها موتا و حياة و ابتلى عباده فيها بما أمرهم به و نهاهم عنه و كلفهم فيها الإيمان بالغيب و منه : الإيمان بالجزاء و الدارين المخلوقتين له و أنزل بذلك الكتب و أرسل به الرسل و أقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به و أقام علامات و أمارات تدل على وجود داري الجزاء فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم و الأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة و هذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم و الألم فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة و ما فيها من الألم يذكر بألم النار و جعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية فمنها ما يذكر بالجنة من زمان و مكان أما الأماكن فخلق الله بعض البلدان كالشام و غيرها فيها من المطاعم و المشارب و الملابس و غير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة و أما الأزمان : فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة و طيبها و كأوقات الأسحار فإن بردها يذكر ببرد الجنة و في الحديث الذي خرجه الطبراني : [ إن الجنة تفتح في كل ليلة في السحر فينظر الله إليها فيقول لها : ازدادي طيبا لأهلك فتزداد طيبا فذلك برد السحر الذي يجده الناس ] و روى سعيد الجريري عن سعيد بن أبي الحسن أن داود عليه السلام قال : يا جبريل أي الليل أفضل ؟ قال : ما أدري غير أن العرش يهتز إذا كان من السحر ألا ترى أنه يفوح ريح كل الشجر و منها ما يذكر بالنار فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه و ما فيها من الآلام و العقوبات من أماكن و أزمان و أجسام و غير ذلك أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد فبردها يذكر بزمهرير جهنم و حرها يذكر بحر جهنم و سمومها و بعض البقاع يذكر بالنار كالحمام قال أبو هريرة : نعم البيت الحمام يدخله المؤمن فيزيل به الدرن و يستعيذ بالله فيه من النار كان السلف يذكرون النار بدخول الحمام فيحدث لهم ذلك عبادة دخل ابن وهب الحمام فسمع تاليا يتلو : { و إذ يتحاجون في النار } فغشي عليه و تزوج صلة بن أشيم فدخل الحمام ثم دخل على زوجته تلك الليلة فقام يصلي حتى أصبح و قال : دخلت بالأمس بيتا أذكرني النار و دخلت الليلة بيتا ذكرت به الجنة فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت كان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول : يا بر يا رحيم من علينا و قنا عذاب السموم صب بعض الصالحين على رأسه ماء من الحمام فوجده شديد الحر فبكى و قال : ذكرت قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } كل ما في الدنيا يدل على صانعه و يذكر به و يدل على صفاته فما فيها من نعيم و راحة يدل على كرم خالقه و فضله و إحسانه و جوده و لطفه و ما فيها من نقمة و شدة و عذاب يدل على شدة بأسه و بطشه و قهره و انتقامه و اختلاف أحوال الدنيا من حر و برد و ليل و نهار و غير ذلك يدل على انقضائها و زوالها قال الحسن : كانوا يعني الصحابة يقولون : الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف لقال الشاك في الله : لو كان لهذا الخلق رب لحادثه و إن الله قد حادث بما ترون من الآيات أنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين و جعل فيها معاشا و { سراجا وهاجا } ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق و جاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين و جعل فيها سكنا و نجوما و قمرا منيرا و إذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر و الرعد و البرق و الصواعق ما شاء و إن شاء صرف ذلك الخلق و إذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس و إذا شاء ذهب بذلك و جاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما ترون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا و جاء بالآخرة و قال خليفة العبدي : لو أن الله لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد و لكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء و ملأ كل شيء و محا سلطان النهار و تفكروا في مجيء هذا النهار إذا جاء فملأ كل شيء و طبق كل شيء و محا سلطان الليل و تفكروا في { السحاب المسخر بين السماء و الأرض } و تفكروا في { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } و تفكروا في مجيء الشتاء و الصيف فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى أيقنت قلوبهم و حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته ما رأى العارفون شيئا من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير و عافية
( قلوب العارفين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرونا )
و أما الأزمان فشدة الحر و البرد يذكر بما في جهنم من الحر و الزمهرير و قد دل هذا الحديث الصحيح على : أن ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت قال الحسن : كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و كل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم و في الحديث الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ]
و في حديث مرفوع خرجه عثمان الدارمي و غيره : [ إذا كان يوم شديد الحر فقال العبد : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي منك و قد أجرته و إذا كان يوم شديد البرد فقال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي من زمهريرك و إني أشهدك أني قد أجرته قالوا و ما زمهرير جهنم قال : بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده ] أبواب النار مغلقة و تفتح أحيانا فتفتح أبوابها كلها عند الظهيرة و لذلك يشتد الحر حينئذ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنم و أما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة منها الشمس عند اشتداد حرها و قد روي أنها خلقت من النار و تعود إليها و خرج الطبراني [ بإسناده أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم نزع ثيابه ثم تمرغ في الرمضاء و هو يقول لنفسه : ذوقي نار جهنم أشد حرا جيفة بالليل يطال بالنهار فرآه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله غلبتني نفسي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لقد فتحت لك أبواب السماء و باهى الله بك الملائكة ] و أما البروز للشمس تعبدا بذلك فغير مشروع [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي اسرائيل لما رآه قائما في الشمس : فأمره أن يجلس و يستظل و كان نذر أن يقوم في الشمس مع الصوم فأمره أن يتم صومه فقط ] و إنما يشرع البروز للشمس للمحرم كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمحرم رآه قد استظل : اضح لمن أحرمت له أي ابرز إلى الضحاء و هو حر الشمس كان بعضهم إذا أحرم لم يستظل فقيل له لو أخذت بالرخصة فأنشد :
( ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا )
( فوا أسفا إن كان سعيك خائبا ... و وا أسفا إن كان حظك ناقصا )
و مما يؤمر بالصب فيه على حر الشمس النفر للجهاد في الصيف كما قال تعالى عن المنافقين : { و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } و كذلك في المشي إلى المساجد للجمع و الجماعات و شهود الجنائز و نحوها من الطاعات و الجلوس في الشمس لانتظار ذلك حيث لا يوجد ظل خرج رجل من السلف إلى الجمعة فوجد الناس قد سبقوه إلى الظل فقعد في الشمس فناداه رجل من الظل أن يدخل إليه فأبى أن يتخطى الناس لذلك ثم تلا : { و اصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة و لا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار قاله ابن مسعود و تلا قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا } و ينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة و يزاد في حرها و ينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار فإنه لا قوة لأحد عليها و لا صبر قال قتادة : و قد ذكر شراب أهل جهنم و هو ماء يسيل من صديدهم من الجلد و اللحم فقال : هل لكم بهذا يدان أم لكم عليه صبر طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله و رسوله
( نسيت لظى عند ارتكانك للهوى ... و أنت توقى حر شمس الهواجر )
( كأنك لم تدفن حميما و لم تكن ... له في سياق الموت يوما بحاضر )
رأى عمر بن عبد العزيز قزما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل و توقوا الغبار فبكى ثم أنشد :
( من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين و الشعثا )
( و يألف الظل كي يبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا )
( في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا )
( تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا )
و مما يضاعف ثوابه في شدة الحر من الطاعات : الصيام لما فيه من ظمأ الهواجر و لهذا كان معاذ بن جبل يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر و كذلك غيره من السلف و روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يصوم في الصيف و يفطر في الشتاء و وصى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه عبد الله فقال له : عليك بخصال الإيمان و سمى أولها : الصوم في شدة الحر في الصيف قال القاسم بن محمد : كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحر الشديد قيل له : ما حملها على ذلك ؟ قال : كانت تبادر الموت و كان مجمع التيمي يصوم في الصيف حتى يسقط كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا فتصومه فيقال لها في ذلك فتقول : إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم و هذا من علو الهمة كان أبو موسى الأشعري في سفينة فسمع هاتفا يهتف : يا أهل المركب قفوا يقولها ثلاثا فقال أبو موسى : يا هذا كيف نقف ألا ترى ما نحن فيه كيف نستطيع وقوفا فقال الهاتف : ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه ؟ قال : بلى أخبرنا قال : فإن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله في يوم حار كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الحار الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ منه فيصومه قال كعب : إن الله تعالى قال لموسى : إني آليت على نفسي أنه من عطش نفسه لي أن أرويه يوم القيامة و قال غيره : مكتوب في التوراة طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر طوبى لمن عطش نفسه ليوم الري الأكبر قال الحسن : تقول الحوراء لولي الله و هو متكىء معها على نهر الخمر في الجنة تعاطيه الكأس في أنعم عيشه أتدري أي يوم زوجنيك الله إنه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين و أنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال انظروا إلى عبدي ترك زوجته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة فيما عندي اشهدوا أني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك لما سار عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى فلما أكثر عليه قال : حاجتي أن ترد على من حر البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئا فإنه يخف علي في بلادكم نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة و المدينة فدعا بغدائه و رأى أعرابيا فدعاه إلى الغداء معه فقال : دعاني من هو خير منك فأجبته قال : و من هو ؟ قال : الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت قال : في هذا الحر الشديد ؟ قال : نعم صمت ليوم أشد منه حرا قال : فافطر و صم غدا قال : إن ضمنت لي البقاء إلى غد قال : ليس ذلك إلي قال : فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم قال : إني صائم فقال ابن عمر : في مثل هذا اليوم الشديد حره و أنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم و أنت صائم ؟ فقال : أبادر أيامي هذه الخالية فعجب منه ابن عمر فقال له ابن عمر : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك و نطعمك من لحمها ما تفطر عليه و نعطيك ثمنها قال : إنها ليست لي إنها لمولاي قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب فمضى الراعي و هو رافع اصبعه إلى السماء و هو يقول : فأين الله فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي فاشترى منه الراعي و الغنم فأعتق الراعي و وهب له الغنم نزل روح بن زنباع منزلا بين مكة و المدينة في حر شديد فانقض عليه راع من جبل فقال له : يا راع هلم إلى الغداء قال : إني صائم قال : أفتصوم في هذا الحر ؟ قال : أفأدع أيامي تذهب باطلا فقال روح : لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها روح بن زنباع كان ابن عمر يصوم تطوعا فيغشى عليه فلا يفطر و كان الإمام أحمد يصوم حتى يكاد يغمى عليه فيمسح على وجهه الماء و سئل عن من يصوم فيشتد عليه الحر قال : لا بأس أن يبل ثوبا يتبرد به و يصب عليه الماء [ كان النبي صلى الله عليه و سلم بالعرج يصب على رأسه الماء و هو صائم ] و كان أبو الدرداء يقول : صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور و صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور و في الصحيحين [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر و إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر و ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن رواحة ] و في [ رواية أن ذلك كان في شهر رمضان لما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش و الظمأ أفرد لهم بابا من أبواب الجنة و هو باب الريان من دخل شرب و من شرب لم يظمأ بعدها أبدا فإذا دخلوا أغلق على من بعدهم فلا يدخل منه غيرهم ]
و قد تحدث أحيانا حوادث غير معتادة تذكر بالنار كالصواعق و الريح الحارة المحرقة للزرع قال الله تعالى : { و يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } و قد روي أن الصواعق قطعة من نار تطير من في الملك الذي يزجر السحاب عند اشتداد غضبه و قال الله تعالى : { فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } والإعصار : الريح الشديدة العاصف التي فيها نار و الصر : الريح الشديدة البرد و قد عذب الله تعالى قوم شعيب بالظلة و روي أنه أصابهم حر أخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت إلى الصحراء فأظلتهم سحابة فوجدوا لها بردا فاجتمعوا تحتها كلهم فأمطرت عليهم نارا فأحرقوا كلهم فكل هذه العقوبات بسبب المعاصي و هي من مقدمات عقوبات جهنم و أنموذجها و مما يدل على الجنة و النار أيضا ما يعجله الله في الدنيا لأهل طاعته و أهل معصيته فإن الله تعالى يعجل لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيم الجنة و روحها ما يجدونه و يشهدونه بقلوبهم مما لا يحيط به عبارة و لا تحصره إشارة حتى قال بعضهم : إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب قال أبو سليمان : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم و قال بعضهم : الرضا باب الله الأعظم و جنة الدنيا و مستراح العابدين قال الله تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } قال الحسن : نرزقه طاعة يجد لذتها في قلبه أهل التقوى في نعيم حيث كانوا في الدنيا و البرزخ و في الآخرة
( العيش عيشهم و الملك ملكهم ... ما الناس إلا همو بانوا أو اقتربوا )
و أما أهل المعاصي و الإعراض عن الله فإن الله يعجل لهم في الدنيا من أنموذج عقوبات جهنم ما يعرف أيضا بالتجربة و الذوق فلا تسأل عما هم فيه من ضيق الصدر و حرجه و نكده و عما يعجل لهم من عقوبات المعاصي في الدنيا و لو بعد حين من زمن العصيان و هذا من نفحات الجحيم المعجلة لهم ثم ينتقلون بعد هذه الدار إلى أشد من ذلك و أضيق و لذلك يضيق على أحدهم قبره حتى تختلف فيه أضلاعه و يفتح له باب إلى النار فيأتيه من سمومها قال الله تعالى : { و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } و ورد في الحديث المرفوع تفسيرها بعذاب القبر ثم بعد ذلك يصيرون إلى جهنم و ضيقها قال الله تعالى : { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا } و مما يدل أيضا في الدنيا على وجود النار الحمى التي تصيب بني آدم و هي نار باطنة فمنها نفحة من نفحات سموم جهنم و منها نفحة من نفحات زمهريرها و قد روي في حديث خرجه الإمام أحمد و ابن ماجه : [ أنها جظ المؤمن من النار ] و المدار أن الحمى تكفر ذنوب المؤمن و تنقيه منها كما ينقي الكير خبث الحديد و إذا طهر المؤمن من ذنوبه في الدنيا لم يجد حر النار إذا مر عليها يوم القيامة لأن وجدان الناس لحرها عند المرور عليها بحسب ذنوبهم فمن طهر من الذنوب و نقي منها في الدنيا جاز على الصراط كالبرق الخاطف و الريح و لم يجد شيئا من حر النار و لم يحس بها فتقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي و [ في حديث جابر المرفوع في مسند الإمام أحمد : إنهم يدخلونها فتكون عليهم بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ] و من أعظم ما يذكر بنار جهنم النار التي في الدنيا قال الله تعالى : { نحن جعلناها تذكرة و متاعا للمقوين } يعني : أن نار الدنيا جعلها الله تذكرة تذكر بنار جهنم مر ابن مسعود بالحدادين و قد أخرجوا حديدا من النار فوقف ينظر إليه و يبكي و روي عنه أنه مر على الذين ينفخون الكير فسقط و كان أويس يقف على الحدادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير و يسمع صوت النار فيصرخ ثم يسقط و كذلك الربيع بن خيثم و كان كثير من السلف يخرجون إلى الحدادين ينظرون إلى ما يصنعون بالحديد فيبكون و يتعوذون بالله من النار و رأى عطاء السليمي امرأة قد سجرت تنورها فغشي عليه قال الحسن : كان عمر ربما توقد له النار ثم يدني يده منها ثم يقول : يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر كان الأخنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع اصبعيه فيه و يقول حس ثم يعاتب نفسه على ذنوبه أحج بعض العباد نارا بين يديه و عاتب نفسه فلم يزل يعاتبها حتى مات نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و غسلت بالبحر مرتين حتى أشرقت و خف حرها و لولا ذلك ما انتفع بها أهل الدنيا و هي تدعو إلى الله أن لا يعيدها إليها
قال بعض السلف : لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي عام يعني أنهم كانوا ينامون فيها و يرونها بردا كان عمر يقول : أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد و إن قعرها بعيد و إن مقامعها حديد كان ابن عمر و غيره من السلف إذا شربوا ماء باردا بكوا و ذكروا أمنية أهل النار و أنهم يشتهون الماء البارد و قد حيل بينهم و بين ما يشتهون و يقولون لأهل الجنة : { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } فيقولون لهم : { إن الله حرمهما على الكافرين } و المصيبة العظمى حين تطبق النار على أهلها و ييأسون من الفرج و هو الفزع الأكبر الذي يأمنه أهل الجنة : { الذين سبقت لهم منا الحسنى }
( لو أبصرت عيناك أهل الشقا ... سيقوا إلى النار و قد أحرقوا )
( شرابهم المهل في قعرها ... إذ خالفوا الرسل و ما صدقوا )
( تقول أخراهم لأولاهم ... في لجج المهل و قد أغرقوا )
( قد كنتموا خوفتمو حرها ... لكن من النيران لم تفرقوا )
( و جيء بالنيران مذمومة ... شرارها من حولها محدق )
( و قيل للنيران أن أحرقي ... و قيل للخزان أن أطبقوا )
المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء
خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الشتاء ربيع المؤمن ] و خرجه البيهقي و غيره و زاد فيه : [ طال ليله فقامه و قصر نهاره فصامه ] إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات و يسرح في ميادين العبادات و ينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن و تصلح أجسادها فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة و لا كلفة تحصل له من جوع و لا عطش فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام و في المسند و الترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة ] و كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : أدلكم على الغنيمة الباردة ؟ قالوا : بلى فيقول : الصيام في الشتاء و معنى كونها غنيمة باردة أنها غنيمة حصلت بغير قتال و لا تعب و لا مشقة فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة و أما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن و قد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه و راحة بدنه و من كلام يحيى بن معاذ الليل طويل فلا تقصره بمنامك و الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك بخلاف ليل الصيف فإنه لقصره و حره يغلب النوم فيه فلا تكاد تأخذ النفس حظها بدون نومه كله فيحتاج القيام فيه إلى مجاهدة و قد لا يتمكن فيه لقصره من الفراغ من ورده من القرآن و يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة و يطول فيه الليل للقيام و يقصر فيه النهار للصيام و روي عنه مرفوعا و لا يصح رفعه و عن الحسن قال : نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه و نهاره قصير يصومه و عن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال : يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا و قصر النهار لصيامكم فصوموا قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف و لهذا بكى معاذ عند موته و قال : إنما أبكي على ظمأ الهواجر و قيام ليل الشتاء و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر و قال معضد : لولا ثلاث ظمأ الهواجر و قيام ليل الشتاء و لذاذة التهجد بكتاب الله ما بليت أن أكون يعسوبا القيام في ليل الشتاء يشق على النفوس من وجهين : أحدهما من جهة تألم النفس بالقيام من الفراش في شدة البرد قال داود بن رشيد : قام بعض إخواني إلى ورده بالليل في ليلة شديدة البرد فكان عليه خلقان فضربه البرد فبكى فهتف به هاتف أقمناك و أنمناهم و تبكي علينا خرجه أبو نعيم و الثاني : بما يحصل بإسباغ الوضوء في شدة البرد من التألم و إسباغ الوضوء في شدة البرد من أفضل الأعمال و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا و يرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على الكاره و كثرة الخطا إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط ] و في [ حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى ربه عز و جل يعني في المنام فقال له : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال : في الدرجات و الكفارات ؟ قال : و الكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات و نقل الأقدام إلى الجمعات ] و في رواية : [ الجماعات و انتظار الصلاة بعد الصلاة من فعل ذلك عاش بخير و مات بخير و كان من خطيئته كيوم ولدته أمه ] و الدرجات : [ إطعام الطعام و إفشاء السلام و الصلاة بالليل و الناس نيام ] و ذكر الحديث خرجه الإمام أحمد و الترمذي و في بعض الروايات : [ إسباغ الوضوء في السبرات ] و السبرة : شدة البرد إسباغ الوضوء في شدة البرد من أعلى خصال الإيمان روى ابن سعد بإسناده : أن عمر رضي الله عنه وصى ابنه عند موته فقال له : يا بني عليك بخصال الإيمان قال : و ما هي ؟ قال : الصوم في شدة الحر أيام الصيف و قتل الأعداء بالسيف و الصبر على المصيبة و إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي و تعجيل الصلاة في يوم الغيم و ترك ردغة الخبال فقال : ما ردغة الخبال ؟ قال : شرب الخمر و روى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال : ست من كن فيه فقد استكمل الإيمان : قتال أعداء الله بالسيف و الصيام في الصيف و إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي و التبكير بالصلاة في يوم الغيم و ترك الجدال و المراء و أنت تعلم أنك صادق و الصبر على المصيبة و قد روي هذا مرفوعا خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له بإسناد فيه ضعف [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ست من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان : ضرب أعداء الله بالسيف و ابتدار الصلاة في اليوم الدجن و إسباغ الوضوء عند المكاره و صيام الحر و صبر عند المصائب و ترك المراء و أنت صادق ] و في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال : قال موسى عليه السلام : يا رب من هم أهلك الذين هم أهلك تظلهم في ظل عرشك ؟ قال : هم البرية أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون لجلالي الذين إذا ذكرت ذكروني و إذا ذكرت ذكرت بذكرهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره و ينيبون إلى ذكرى كما تنيب النسور إلى أوكارها و يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس و يغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب و قد روي عن داود بن رشيد قال : قام رجل ليلة باردة ليتوضأ للصلاة فأصاب الماء باردا فبكى فنودي : أما ترضى أنا أنمناهم و أقمناك حتى تبكي علينا خرجه ابن السمعاني معالجة الوضوء في جوف الليل للتهجد موجب لرضا الرب و مباهات الملائكة ففي شدة البرد يتأكد ذلك ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل فيعالج نفسه إلى الطهور و عليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ يديه انحلت عقدة و إذا وضأ وجهه انحلت عقدة و إذا مسح رأسه انحلت عقدة و إذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب عز و جل للذين وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له ] و في حديث عطية [ عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر : رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور ثم صلى و رجل نام و هو ساجد و رجل في كتيبة منهزمة على فرس جواد لو شاء أن يذهب لذهب ] قال أبو سليمان الداراني : كنت ليلة باردة في المحراب فأقلتني البرد فخبأت إحدى يدي من البرد و بقيت الأخرى ممدودة فغلبتني عيني فهتف بي هاتف : يا أبا سليمان قد وضعنا في هذه ما أصابها و لو كانت الأخرى لوضعنا فيها قال : فآليت أن لا أعود إلا و يداي خارجتان حرا كان أو بردا قال مالك رحمه الله : كان صفوان بن سليم يصلي يعني بالليل في الشتاء في السطح و في الصيف في بطن البيت يتيقظ بالحر و البرد حتى يصبح ثم يقول : هذا الجهد من صفوان و أنت أعلم و إنه لترم رجلاه حتى يعود مثل السقط من قيام الليل ثم يظهر فيها عروق خضر و كان صفوان و غيره من العباد يصلون في الشتاء بالليل في ثوب واحد ليمنعهم البرد من النوم و منهم من كان إذا نعس ألقى نفسه في الماء و يقول : هذا أهون من صديد جهنم كان عطاء الخرساني ينادي أصحابه بالليل يا فلان و يا فلان و يا فلان قوموا فتوضئوا و صلوا فقيام هذا الليل و صيام هذا النهار أهون من شرب الصديد و مقطعات الحديد غدا في النار الوحا الوحا النجا النجا كان قوم من العباد يبيتون في مسجد و كانوا يتهجدون في الليل فاستيقظ واحد منهم ليلة فوجد إخوانه نياما فسمع هاتفا يهتف من جانب المسجد :
( أيا عجبا للناس من قرت عيونهم ... مطاعم غمض بعدها الموت منتصب )
( و طول قيام الليل أيسر مؤنة ... و أهون من نار تفور و تلتهب )
وفي الحديث الصحيح [ أن ابن عمر رأى في منامه كأن آتيا فانطلق به إلى النار حتى رآها و رأى فيها رجالا يعرفهم معلقين بالسلاسل فأتاه ملك فقال له : لن تراع لست من أهلها فقص ذلك على أخته حفصة فقصته حفصة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ] فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلا قال الحسن : أفضل العبادة الصلاة في جوف الليل و قال : هو أقرب ما يتقرب به إلى الله عز و جل و قال : ما وجدت في العبادة أشد منها و رؤي سلمة بن كهيل في المنام فقال : وجدت أفضل الأعمال قيام الليل ما عندهم أشرف منه و رأى بعض السلف خياما ضربت فسأل لمن هي فقيل للمتهجدين بالقرآن فكان بعد ذلك لا ينام
( فما لي بعيد الدار لم أقرب الحمى ... و قد نصبت مسافرين خيام )
( علامة طردي طول ليلي نائم ... و غيري يرى أن المنام حرام )
و من الصالحين من كان يلطف به في الحر و البرد كما دعا النبي صلى الله عليه و سلم لعلي :
[ أن يذهب الله عنه الحر و البرد ] فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف و في الصيف ثياب الشتاء و لا يجد حرا و لا بردا كان بعض التابعين يشتد عليه الطهور في الشتاء فدعا الله عز و جل فكان يؤتى بالماء في الشتاء و له بخار من حره رأى أبو سليمان في طريق الحج في شدة البرد شيخا عليه خلقان و هو يرشح عرقا فعجب منه و سأله عن حاله فقال : إنما الحر و البرد خلقان لله عز و جل فإن أمرهما أن يغشياني أصاباني و إن أمرهما أن يتركاني تركاني و قال : أنا في هذه البرية من ثلاثين سنة يلبسني في البرد فيحا من محبته و يلبسني في الصيف بردا من محبته و قيل لآخر و عليه خرقتان في يوم برد شديد : لو استترت في موضع يكنك من البرد فأنشد :
( و محسن ظني أنني في فنائه ... و هل أحد في كنه يجد البردا )
و أما من يجد البرد و هم عامة الخلق فإنه يشرع لهم دفع أذاه بما يدفعه لباس و غيره
و قد امتن الله على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام و أوبارها و أشعارها ما فيه دفء لهم قال الله تعالى : { و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون } و قال الله تعالى : { و من أصوافها و أوبارها و أشعارها أثاثا و متاعا إلى حين } و روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم و كتب لهم بالوصية إن الشتاء قد حضر و هو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف و الخفاف و الجوارب و اتخذوا الصوف شعارا و دثارا فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه و إنما كان يكتب عمر إلى أهل الشام لما فتحت في زمنه فكان يخشى على من بها من الصحابة و غيرهم ممن لم يكن له عهد بالبرد أن يتأذى ببرد الشام و ذلك من تمام نصيحته و حسن نظره و شفقته و حياطته لرعيته رضي الله عنه و روي عن كعب قال : أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن تأهب لعدو قد أظلك قال : يا رب من عدوي و ليس بحضرتي عدو ؟ قال : بلى الشتاء و ليس المأمور به أن يتقي البرد حتى لا يصيبه منه شيء بالكلية فإن ذلك يضر أيضا و قد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر و البرد بالكلية حتى لا يحس بهما بدنه فتلف باطنه و تعجل موته فإن الله بحكمته جعل الحر و البرد في الدنيا لمصالح عباده فالحر لتحلل الأخلاط و البرد لجمودها فمتى لم يصب الأبدان شيء من الحر و البرد تعجل فسادها و لكن المأمور به اتقاء ما يؤذي البدن من الحر المؤذي و البرد المؤذي المعدودان من جملة أعداء ابن آدم قيل لأبي حازم الزاهد : إنك لتشدد يعني في العبادة ؟ فقال : و كيف لا أشدد و قد ترصد لي أربعة عشر عدوا قيل له : لك خاصة ؟ قال بل لجميع من يعقل قيل له : و ما هذه الأعداء قال : أما أربعة : فمؤمن يحسدني و منافق يبغضني و كافر يقاتلني و شيطان يغويني و يضلني و أما العشرة : فالجوع و العطش و الحر والبرد و العري و المرض و الفاقة و الهرم و الموت و النار و لا أطيقهن إلا بسلاح تام و لا أجد لهن سلاحا أفضل من التقوى فعد الحر و لبرد من جملة أعدائه و قال الأصمعي : كانت العرب تسمي الشتاء : الفاضح فقيل لامرأة منهم أيما أشد عليكم القيظ أم القر ؟ قالت : سبحان الله من جعل البؤس كالأذى فجعلت الشتاء بؤسا و القيظ أذى قال بعض السلف : إن الله وصف الجنة بصفة الصيف لا بصفة الشتاء فقال : { في سدر مخضود * و طلح منضود * و ظل ممدود * و ماء مسكوب * و فاكهة كثيرة } و قد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة : { متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا } فنفى عنهم شدة الحر و البرد قال قتادة : علم الله أن شدة الحر تؤذي و شدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعا قال أبو عمرو بن العلاء : إني لأبغض الشتاء لنقص الفروض و ذهاب الحقوق و زيادة الكلفة على الفقراء و قد روي في حديث مرفوع : [ إن الملائكة تفرح بذهاب الشتاء ] لما يدخل فيه على فقراء المؤمنين من الشدة و لكن لا يصح إسناده و روي أيضا مرفوعا : [ خير صيفكم أشده حرا و خير شتائكم أشده بردا و إن الملائكة لتبكي في الشتاء رحمة لبني آدم ] و إسناده أيضا باطل و قال بعض السلف : البرد عدو الدين يشير إلى أنه يفتر عن كثير من الأعمال و يثبط عنها فتكسل النفوس بذلك و قال بعضهم : خلقت القلوب من طين فهي تلين في الشتاء كما يلين الطين فيه قال الحسن : الشتاء ذكر فيه اللقاح و الصيف انثى فيه النتاج يشير إلى أن الصيف تنتج فيه المواشي و الشجر و الصيف عند العرب هو الربيع و أما الذي تسميه الناس : الصيف فالعرب يسمونه القيظ ففي الشتاء تفور الحرارة إلى باطن الشجر فتنعقد مواد الثمر فتظهر في الربيع مباديها فتزهر الشجر ثم تورق ثم إذا ظهرت الثمار قوي حر الشمس لإنضاجها الإيثار في الشتاء للفقراء بما يدفع عنهم البرد له فضل عظيم خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة بالمدينة من المسجد فرأى رجلا عاريا فنزع ثوبه و كساه إياه فرأى بعض أهل الشام في منامه أن صفوان بن سليم دخل الجنة بقميص كساه فقدم المدينة فقال : دلوني على صفوان فأتاه فقص عليه ما رأى رأى مسعر أعرابيا يتشرق في الشمس و هو يقول :
( جاء الشتاء و ليس عندي درهم ... و لقد يخص بمثل ذاك المسلم )
( قد قطع الناس الجباب و غيرها ... و كأنني بفناء مكة محرم )
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها رفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها أربعة أطفال أيتام و هم عراة جياع فأمر رجلا أن يمضي إليهم و حمل معه ما يصلحهم من كسوة و طعام ثم نزع ثيابه و حلف : لا لبستها و لا دفئت حتى تعود و تخبرني أنك كسوتهم و أشبعتهم فمضى و عاد فأخبره : أنهم اكتسوا و شبعوا و هو يرعد من البرد فلبس حينئذ ثيابه خرج الترمذي [ من حديث أبي سعيد مرفوعا : من أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة و من سقاه على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم و من كساه على عري كساه الله من خضر الجنة ] و روى ابن أبي الدنيا بإسناده [ عن ابن مسعود قال : يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط و أجوع ما كانوا قط و أظمأ ما كانوا قط فمن كسا لله عز و جل كساه الله و من أطعم لله أطعمه الله و من سقا لله سقاه الله و من عفا لله أعفاه الله ]
و من فضائل الشتاء : أنه يذكر بزمهرير جهنم و يوجب الإستعاذة منها و في [ حديث أبي هريرة و أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم : اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله تعالى لجهنم : إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك و إني أشهدك أني قد أجرته قالوا ما زمهرير جهنم قال : بيت يلقى فيه الكفر فيتميز من شدة البرد ] قام زبيد اليامي ذات ليلة للتهجد فعمد إلى مطهرة له كان يتوضأ منها فغمس يده في المطهرة فوجد الماء باردا شديدا كاد أن يجمد من شدة برده فذكر الزمهرير و يده في المطهرة فلم يخرجها حتى أصبح فجاءته جاريته و هو على تلك الحال فقالت : ما شأنك يا سيدي لم لا تصلي الليلة كما كنت تصلي و أنت قاعد هنا على هذه الحالة ؟ فقال : ويحك إني أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد علي برد الماء فذكرت به الزمهرير فوالله ما شعرت بشدة برده حتى وقفت علي فانطوي لا تحدثي بهذا أحدا ما دمت حيا فما علم بذلك أحد حتى مات رحمه الله في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن لجهنم نفسين في الشتاء و نفسا في الصيف فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها و أشد ما تجدون من الحر من سمومها ] و روي عن ابن عباس قال : يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر و عن مجاهد قال : يهربون إلى الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض و عن كعب قال : إن في جهنم بردا هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم و عن عبد الملك بن عمير قال بلغني : أن أهل النار سألوا خازنها أن يخرجهم إلى جانبها فأخرجوا فقتلهم البرد و الزمهرير حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوه من البرد و قد قال الله عز و جل : { لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا * إلا حميما و غساقا * جزاء وفاقا } و قال الله تعالى : { هذا فليذوقوه حميم و غساق } قال ابن عباس : الغساق : الزمهرير البارد الذي يحرق من برده و قال مجاهد : هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده و قيل : إن الغساق : البارد المنتن أجارنا الله تعالى من جهنم بفضله و كرمه يا من تتلى عليه أوصاف جهنم و يشاهد تنفسها كل عام حتى يحس به و يتألم و هو مصر على ما يقتضي دخولها مع أنه يعلم ستعلم إذا جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام من يندم ألك صبر على سعيرها و زمهريرها ؟ قل و تكلم ما كان صلاحك يرجى و الله أعلم
( كم يكون الشتاء ثم المصيف ... و ربيع يمضي و يأتي الخريف )
( و ارتحال من الحرور إلى البرد ... و سيف الردى عليك منيف )
( يا قليل المقام في هذه الدنيا ... إلى كم يغرك التسويف )
( يا طالب الزائل حتى متى ... قلبك بالزائل مشغوف )
( عجبا لامرىء يذل لذي الدنـ ... يا و يكفيه كل يوم رغيف )
مجلس في ذكر التوبة و الحث عليها قبل الموت و ختم العمر بها و التوبة
وظيفة العمر و هي خاتمة مجالس الكتاب
خرج الإمام أحمد و الترمذي و ابن حبان في صحيحه [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ] و قال الترمذي حديث حسن دل هذا الحديث على قبول توبة الله عز و جل لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم و التراقي و قد دل القرآن على مثل ذلك أيضا قال الله عز و جل : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما } و عمل السوء إذا انفرد يدخل فيه جميع السيئات صغيرها و كبيرها و المراد بالجهالة الإقدام على السوء و إن علم صاحبه أنه سوء فإن كل من عصى الله فهو جاهل و كل من أطاعه فهو عالم و بيانه من وجهين : أحدهما : أن من كان علما بالله تعالى و عظمته و كبريائه و جلاله فإنه يهابه و يخشاه فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه كما قال بعضهم : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه و قال آخر : كفى بخشية الله علما و كفى بالإغترار بالله جهلا و الثاني : أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله و ظنه أنها تنفعه عاجلا باستعجال لذتها و إن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره و هذا جهل محض فإنه تعجل الإثم و الخزي و يفوته عز التقوى و ثوابها و لذة الطاعة و قد يتمكن من التوبة بعد ذلك و قد يعاجله الموت بغتة فهو كجائع أكل طعاما مسموما لدفع جوعه الحاضر و رجا أن يتخلص من ضرره بشرب الذرياق بعده و هذا لا يفعله إلا جاهل و قد قال تعالى في حق الذين يؤثرون السحر : { و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق و لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * و لو أنهم آمنوا و اتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } و المراد أنهم آثروا السحر على التقوى و الإيمان لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة و هذا جهل منهم فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان و التقوى على ما عداهما فكانوا يحرزون أجر الآخرة و يأمنون عقابها و يتعجلون عز التقوى في الدنيا و ربما وصلوا إلى ما يأملونه في الدنيا أو إلى خير منه و أنفع فإن أكثر ما يطلب بالسحر قضاء حوائج محرمة أو مكروهة عند الله عز و جل و المؤمن المتقي يعوضه الله في الدنيا خيرا مما يطلبه الساحر و يؤثره مع تعجيله عز التقوى و شرفها و ثواب الآخرة و علو درجاتها فتبين بهذا أن إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل و لذلك كان كل من عصى الله جاهلا و كل من أطاعه عالما و كفى بخشية الله علما و بالإغترار به جهلا و أما التوبة من قريب : فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت فالعمر كله قريب و من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب و من مات و لم يتب فقد بعد كل البعد كما قيل :
( فهم جيرة الأحياء أما قرارهم ... فدان و أما الملتقى فبعيد )
فالحي قريب و الميت بعيد من الدنيا على قربه منها فإن جسمه في الأرض يبلى و روحه عند الله تنعم أو تعذب و لقاؤه لا يرجى في الدنيا
( مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى و أنت قريب )
( تزيد بلى في كل يوم و ليلة ... و تنسى كما تبلى و أنت حبيب )
و هذان البيتان سمعهما داود الطائي رحمه الله من امرأة في مقبرة تندب بهما ميتا لها فوقعتا من قلبه فاستيقظ بهما و رجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة فانقطع إلى العبادة إلى أن مات رحمه الله فمن تاب قبل أن يغرغر فقد تاب من قريب فتقبل توبته و روي عن ابن عباس في قوله تعالى : { يتوبون من قريب } قال : قبل المرض و الموت وهذا إشارة إلى أفضل أوقات التوبة و هو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذ من العمل الصالح و لذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن و أيضا فالتوبة في الصحة و رجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة و رجاء البقاء و التوبة في المرض عند حضور إمارات الموت يشبه الصدقة بالمال عند الموت فكأن من لا يتوب إلا في مرضه قد استفرغ صحته و قوته في شهوات نفسه و هواه و لذة دنياه فإذا أيس من الدنيا و الحياة فيها تاب حينئذ و ترك ما كان عليه فأين توبة هذا من توبة من يتوب من قريب و هو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي فيتركها خوفا من الله عز و جل و رجاء لثوابه و إيثارا لطاعته على معصيته دخل قوم على بشر الحافي و هو مريض فقالوا له : على ماذا عزمت ؟ فقال : عزمت أني عوفيت تبت فقال له رجل منهم : فهلا تبت الساعة فقال : يا أخي أما علمت أن الملوك لا تقبل الأمان ممن في رجليه القيد و في رقبته الغل إنما يقبل الأمان ممن هو راكب الفرس و السيف مجرد بيده فبكى القوم جميعا و معنى هذا أن التائب في صحته بمنزلة من هو راكب على متن جواده و بيده سيف مشهور فهو يقدر على الكر و الفر و القتال و على الهرب من الملك و عصيانه فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك ذليلا له طالبا لأمانه صار بذلك من خواص الملك و أحبابه لأنه جاءه طائعا مختارا له راغبا في قربه و خدمته و أما من هو في أسر الملك و في رجله قيد و في رقبته غل فإنه إذا طلب الأمان من الملك فإنما طلبه خوفا على نفسه من الهلاك و قد لا يكون محبا للملك و لا مؤثرا لرضاه فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته و الأول بمنزلة من يتوب في صحته و قوته و شبيبته لكن ملك الملوك أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين و كل خلقه أسير في قبضته لا يعجزه هارب و لا يفوته ذاهب و مع هذا فكل من طلب الأمان من عذابه من عباده أمنه على حال كان إذا علم منه الصدق في طلبه
( الأمان الأمان و زري ثقيل ... و ذنوبي إذا عددت تطول )
( أوبقتني و أوثقتني ذنوبي ... فترى لي إلى الخلاص سبيل )
و قوله عز و جل : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما } فسوى بين من تاب عند الموت و من مات من غير توبة و المراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء و معاينة المحتضر أمور الآخرة و مشاهدة الملائكة فإن الإيمان و التوبة و سائر الأعمال إنما تنفع بالغيب فإذا كشف الغطاء و صار الغيب شهادة لم ينفع الإيمان و لا التوبة في تلك الحال و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت بقبض روحه فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ
و بإسناده عن الثوري قال : قال ابن عمر : التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت و عن الحسن قال : التوبة معروضة لابن آدم ما لم يأخذ الموت بكظمه و عن بكر المزني قال : لا تزال التوبة للعبد مبسوطة ما لم تأته الرسل فإذا عاينهم انقطعت المعرفة و عن أبي مجلز قال : لا يزال العبد في توبة ما لم يعاين الملائكة و روي أيضا في كتاب الموت بإسناده عن أبي موسى الأشعري قال : إذا عاين الميت الملك ذهبت المعرفة و عن مجاهد نحوه و عن حصين قال : بلغني أن ملك الموت إذا غمز وريد الإنسان حينئذ يشخص بصره و يذهل عن الناس و خرج ابن ماجه حديث [ أبي موسى مرفوعا قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : متى تنقطع معرفة العبد من الناس ؟ قال : إذا عاين ] و في إسناده مقال و الموقوف أشبه و قد قيل : إنه إنما منع من التوبة حينئذ لأنه إذا انقطعت معرفته و ذهل عقله لم يتصور منه ندم و لا عزم فإن الندم و العزم إنما يصح مع حضور العقل و هذا ملازم لمعاينة الملائكة كما دلت عليه الأخبار و قوله صلى الله عليه و سلم في [ حديث ابن عمر : ما لم يغرغر ] يعني إذا لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه فشبه ترددها في حلق المحتضر بما يتغرغر به الإنسان من الماء و غيره و يردده في حلقه و إلى ذلك الإشارة في القرآن بقوله عز و جل : { فلولا إذا بلغت الحلقوم * و أنتم حينئذ تنظرون * و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون } و بقوله عز و جل : { كلا إذا بلغت التراقي } و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال : أشد ما يكون الموت على العبد إذا بلغت الروح التراقي قال : فعند ذلك يضطرب و يعلو نفسه ثم بكى الحسن رحمه الله تعالى
( عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور )
( يسعى عليك بما اشتهيـ ... ت لدى الرواح و في البكور )
( فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور )
( فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور )
و اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله في الدنيا و قد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها و شهواتها من المعاصي و غيرها و يرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره فإذا تيقن الموت و أيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه و طلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب و يعمل صالحا فلا يجاب إلى شيء من ذلك فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت و قد حذر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة و العمل الصالح قال الله تعالى : { أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه و يقول : { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } و قال آخر عند احتضاره : سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي و قال آخر عند موته : لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني و قال الله تعالى : { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها } و قال الله تعالى : { و أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق و أكن من الصالحين * و لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها } و قال الله تعالى : { و حيل بينهم و بين ما يشتهون } و فسره طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله : بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم و بينها قال الحسن : اتق الله يا ابن آدم لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت و حسرة الفوت و قال ابن السماك : احذر السكرة و الحسرة أن يفجأك الموت و أنت على الغرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى و لا قدر ما ترى قال الفضيل : يقول الله عز و جل : ابن آدم إذا كنت تتقلب في نعمتي و أنت تتقلب في معصيتي فاحذرني لا أصرعك بين معاصي و في بعض الإسرائيليات : ابن آدم احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه لا حجة لك مات كثير من المصرين على المعاصي على أقبح أحوالهم و هم مباشرون للمعاصي فكان ذلك خزيا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة و كثيرا ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدمنين لشربها كما قال القائل :
( أتامن أيها السكران جهلا ... بأن تفجاك في السكر المنية )
( فتضحى عبرة للناس طرا ... و تلقى الله من شر البرية )
سكر بعض المتقدمين ليلة فعاتبته زوجته على ترك الصلاة فحلف بطلانها ثلاثا لا يصلي ثلاثة أيام فاشتد عليه فراق زوجته فاستمر على ترك الصلاة مدة الأيام الثلاث فمات فيها على حاله و هو مصر على الخمر تارك الصلاة كان بعض المصرين على الخمر يكنى أبا عمرو فنام ليلة و هو سكران فرأى في منامه قائلا يقول له :
( جد بك الأمر أبا عمرو ... و أنت معكوف على الخمر )
( تشرب صهباء صراحية ... سال بك السيل و لا تدري )
فاستيقظ منزعجا و أخبر من عنده بما رأى ثم غلبه سكره فنام فلما كان وقت الصبح مات فجأة قال يحيى بن معاذ : الدنيا خمر الشيطان من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين و في حديث خرجه الترمذي مرفوعا [ ما من أحد يموت إلا ندم قالوا : و ما ندامته ؟ قال : إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد و إن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب ] إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة و عمل صالح و أهل الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعا و منهم من يقطعها بالمعاصي قال بعض السلف : أصبحتم في أمنية ناس كثير يعني أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة ليتوبوا فيها و يجتهدوا في الطاعة و لا سبيل لهم إلى ذلك
( لو قيل لقوم ما مناكموا طلبوا ... حياة يوم ليتوبوا فاعلم )
( ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي )
( مضى الزمان في ثوان و هوى ... فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي )
الناس في التوبة على أقسام : فمنهم : من لا يوفق لتوبة نصوح بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرا علها و هذه حالة الأشقياء و أقبح من ذلك : من يسر له في أول عمره عمل الطاعات ثم ختم له بعمل سيء حتى مات عليه كما في الحديث الصحيح : [ إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ] و في الحديث الذي خرجه أهل السنن : [ إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين عاما ثم يحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار ] ما أصعب الإنتقال من البصر إلى العمى و أصعب منه الضلالة بعد الهدى و المعصية بعد التقى كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها عاملة ناصبة تصلى نارا حامية كم من شارف مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرقى لعب به موج الهوى فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء قال بعضهم : ما العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا
( يا قلبي إلام تطالبني ... بلقا الأحباب و قد رحلوا )
( أرسلتك في طلبي لهم ... لتعود فضعت و ما حصلوا )
( ما أحسن ما علقت بهم ... آمالك منهم لو قد فعلوا )
( سلم و اصبر و اخضع لهم ... كم قبلك مثلك قد قتلوا )
و قسم يفني عمره في الغفلة و البطالة ثم يوفق لعمل صالح فيموت عليه و هذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها
الأعمال بالخواتيم
الأعمال بالخواتيم
: إذا أراد الله بعبد غسله قالوا : و ما غسله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه و هؤلاء : منهم : من يوقظ قبل موته بمدة يتمكن فيها من التزود بعمل صالح يختم به عمره و منهم : من يوقظ عند حضور الموت فيوفق لتوبة نصوح يموت عليها قالت عائشة رضي الله عنها : إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له ملكا قبل موته بعام فيسدده و ييسره حتى يموت و هو خير ما كان و يقول الناس : مات فلان خير ما كان و خرجه البزار عنها مرفوعا : إذا أراد الله بعبد خيرا بعث إليه ملكا من عامه الذي يموت فيه فيسدده و ييسره فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه فقال : أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله و رضوان فذلك حين يحب لقاء الله و يحب الله لقاءه و إذا أراد الله بعبد شرا بعث إليه شيطانا من عامه الذي يموت فيه فأغواه فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه فقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله و غضب فتتفرق في جسده فذلك حين يبغض لقاء الله و يبغض الله لقاءه و في الدعاء المأثور : اللهم اجعل خير عملي خاتمته و خير عمري آخره و في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من تاب قبل موته عاما تيب عليه و من تاب قبل موته شهرا تيب عليه حتى قال يوما حتى قال : ساعة حتى قال : فواقا قال : قال له إنسان أرأيت إن كان مشركا فأسلم ؟ قال : إنما أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أحدهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله عز و جل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم قال الآخر : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قال : و أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله عز و جل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم فقال ثالث : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال نعم قال : و أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله عز و جل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة قال الرابع : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قال : و أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله عز و جل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه ] و فيه أيضا [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الشيطان قال : و عزتك يا رب لا ابرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب عز و جل : و عزتي و جلالي لا أزل أغفر لهم ما استغفروني ] ذكر ابن أبي الدنيا بإسناد له أن رجلا من ملوك البصرة كان قد تنسك ثم مال إلى الدنيا و الشيطان فبنى دارا و شيدها و أمر بها ففرشت له و نجدت و اتخذ مأدبة و صنع طعاما و دعا الناس فجعلوا يدخلون فيأكلون و يشربون و ينظرون إلى بنائه و يعجبون منه و يدعون له و يتفرقون فمكث بذلك أياما حتى فرغ من أمر الناس ثم جلس في نفر من خاصة إخوانه فقال : قد ترون سروري بداري هذه و قد حدثت نفسي أن أتخذ لكل واحد من ولدي مثلها فأقيموا عندي أياما أستمتع بحديثكم و أشاوركم فيما أريد من هذا لولدي فأقاموا عنده أياما يلهون و يلعبون و يشاورهم كيف يبني لولده و كيف يريد أن يصنع فبينما هم ذات ليلة في لهوهم إذا سمعوا قائلا يقول : من أقاصي الدار :
( يا أيها الباني الناسي منيته ... لا تأمنن فإن الموت مكتوب )
( على الخلائق إن سروا و إن فرحوا ... فالموت حتف لذي الآمال منصوب )
( لا تبنين ديارا لست تسكنها ... و راجع النسك كيما يغفر الحوب )
قال : ففزع لذلك و فزع أصحابه فزعا شديدا و راعهم ما سمعوا من ذلك فقال لأصحابه : هل سمعتم ما سمعت ؟ قالوا : نعم قال : فهل تجدون ما أجد ؟ قالوا : و ما تجد ؟ قال : أجد و الله مسكة على قلبي ما أراها إلا علة الموت قالوا : كلا بل البقاء و العافية قال : فبكى و قال : أنتم أخلائي و إخواني فما لي عندكم قالوا : مرنا بما أحببت قال : فأمر بالشراب فأهريق و بالملاهي فأخرجت ثم قال : اللهم إني أشهدك و من حضر من عبادك أني تائب إليك من جميع ذنوبي نادم على ما فرطت أيام مهلتي و إياك أسأل إن أقلتني أن تتم علي نعمتك بالإنابة إلى طاعتك و إن أنت قبضتني إليك أن تغفر لي ذنوبي تفضلا منك علي و اشتد به الأمر فلم يزل يقول : الموت و الله الموت و الله حتى خرجت روحه و كان الفقهاء يرون أنه مات على توبته و روى الواحدي في كتاب قتلى القرآن : بإسناد له : أن رجلا من أشراف أهل البصرة كان منحدرا إليها في سفينة و معه جارية له فشرب يوما و غنته جاريته بعود لها و كان معهم في السفينة فقير صالح فقال له يا فتى تحسن مثل هذا ؟ قال أحسن ما هو أحسن منه و كان الفقير حسن الصوت فاستفتح و قرأ : { قل متاع الدنيا قليل و الآخرة خير لمن اتقى و لا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيدة } فرمى الرجل ما بيده من الشراب في الماء و قال : أشهد أن هذا أحسن مما سمعت فهل غير هذا ؟ قال : نعم فتلا عليه : { و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها } الآية فوقعت في قلبه موقعا و رمى بالشراب في الماء و كسر العود ثم قال : يا فتى هل ههنا فرج ؟ قال : نعم { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } الآية فصاح صيحة عظيمة فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله و روى ابن أبي الدنيا بإسناد له أن صالحا المري رحمه الله كان يوما في مجلسه يقص على الناس فقرأ عنده قارىء : { و أنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع } فذكر صالح : النار و حال العصاة فيها و صفة سياقهم إليها و بالغ في ذلك و بكى الناس فقام فتى كان حاضرا في مجلسه و كان مسرفا على نفسه فقال : أكل هذا في القيامة ؟ فقال صالح : نعم و ما هو أكبر منه لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المريض المدنف فصاح الفتى أيا لله واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه وا أسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا ثم استقبل القبلة و عاهد الله على توبة نصوح و دعا الله أن يتقبل منه و بكى حتى غشي عله فحمل من المجلس صريعا فمكث صالح و أصحابه يعودونه أياما ثم مات فحضره خلق كثير فكان صالح يذكره في مجلسه كثيرا و يقول : و بأبي قتيل القرآن و بأبي قتيل الواعظ و الأحزان فرآه رجل في منامه فقال : ما صنعت ؟ قال : عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله : { ورحمتي وسعت كل شيء } من آلمته سياط المواعظ فصاح فلا جناح و من زاد ألمه فمات فدمه مباح
( قضى الله في القتلى قصاص دمائهم ... و لكن دماء العاشقين جبار )
و بقى ههنا قسم آخر و هو أشرف الأقسام و أرفعها : و هو من يفني عمره في الطاعة ثم ينبه على قرب الأجل ليجد في التزود و يتهيأ للرحيل بعمل يصلح للقاء يكون خاتمه للعمل قال ابن عباس : لما نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم : { إذا جاء نصر الله و الفتح } نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة قالت أم سلمة : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلا قال : سبحان الله و يحمده فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك و تلا هذه السورة ] كان من عادته صلى الله عليه و سلم أن يعتكف في كل عام في رمضان عشرا و يعرض القرآن على جبريل مرة فاعتكف في ذلك العام عشرين يوما و عرض القرآن مرتين و كان يقول : ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي ثم حج حجة الوداع و قال للناس : [ خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ] و طفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع ثم رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله إليها و قال : [ أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم أمر بالتمسك بكتاب الله ] ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير صلى الله عليه و سلم إذا كان سيد المحسنين يؤمر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان فكيف يكون حال المسيء
( خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط قد تدانى الأمر )
( أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبني كم تنقض كم ذا العذر )
مرض بعض العابدين فوصف له دواء يشربه فأتي في منامه فقيل له : أتشرب الدواء و الحور العين لك تهيأ ؟ فانتبه فزعا فصلى في ثلاثة أيام حتى انحنى صلبه ثم مات في اليوم الثالث كان رجل قد اعتزل و تعبد فرأى في منامه قائلا يقول له : يا فلان ربك يدعوك فتجهز و اخرج إلى الحج و لست عائدا فخرج إلى الحج فمات في الطريق رأى بعض الصالحين في منامه قائلا ينشده :
( تأهب للذي لا بد منه ... من الموت الموكل بالعباد )
( أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد و أنت بغير زاد )
خرج ابن ماجه [ من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب فقال في خطبته : أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا و بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ] و في سنده ضعف فأمر بالمبادرة قبل الموت و كل ساعة تمر على ابن آدم فإنه يمكن أن تكون ساعة موته بل كل نفس كما قيل :
( لا تأمن الموت في طرف و لا نفس ... و إن تمنعت بالحجاب و الحرس )
قال لقمان لابنه : يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة و قال بعض الحكماء : لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل و يؤخر التوبة لطول الأمل
( إلى الله تب قبل انقضاء من العمر ... أخي و لا تأمن مفاجأة الأمر )
( و لا تستصمن عن دعائي فإنما ... دعوتك إشفاقا عليك من الوزر )
( فقد حذرتك الحادثات نزولها ... و نادتك إلا أن سمعك ذو وقر )
( تنوح و تبكي للأحبة إن مضوا ... و نفسك لا تبكي و أنت على الأثر )
قال بعض السلف : أصبحوا تائبين و أمسوا تائبين يشير إلى أن المؤمن لا ينبغي أن يصبح و يمسي إلا على توبة فإنه لا يدري متى يفاجئه الموت صباحا أو مساء فمن أصبح أو أمسى على غير توبة فهو على خطر لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين قال الله تعالى : { و من لم يتب فأولئك هم الظالمون } تأخير التوبة في حال الشباب قبيح و في حال المشيب أقبح و أقبح
( نعى لك ظل الشباب مزهج ... و نادتك باسم سواك الخطوب )
( فكن مستعدا لداعي الفنا ... فكل الذي هو آت قريب )
( ألسنا نرى شهوات النفو ... س تفنى و تبقى علينا الذنوب )
( يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف يكن حال من لا يتوب )
فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتوبة حينئذ أقبح من كل قبيح فإن المرض نذير الموت و ينبغي لمن عاد مريضا أن يذكره التوبة و الإستغفار فلا أحسن من ختام الأعمال بالتوبة و الإستغفار فإن كان العمل سيئا كان كفارة له و إن كان حسنا كان كالطابع عليه و في حديث سيد الإستغفار المخرج في الصحيح : [ أن من قاله إذا أصبح و إذا أمسى ثم مات من يومه أو ليلته كان من أهل الجنة ] و ليكثر في مرضه من ذكر الله عز و جل خصوصا كلمة التوحيد فإنه من كانت آخر كلامه دخل الجنة و في حديث [ أبي سعيد و أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن من قال في مرضه : لا إله إلا الله و الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد لا إله إلا الله و لا حول و لا قوة إلا بالله فإن مات من مرضه لم تطعمه النار ] خرجه النسائي و ابن ماجه و الترمذي و حسنه و في رواية للنسائي : [ من قالهن في يوم أو في ليلة أو في شهر ثم مات في ذلك اليوم أو في تلك الليلة أو في ذلك الشهر غفر له ذنبه ] و يروى من [ حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم : من ختم له بقوله لا إله إلا الله دخل الجنة و من ختم له بصيام يوم أراد به وجه الله أدخله الله الجنة و من ختم له بإطعام مسكين أراد به وجه الله أدخله الله الجنة ] كان السلف يرون : أن من مات عقب عمل صالح كصيام رمضان أو عقيب حج أو عمرة يرجى له أن يدخل الجنة و كانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة و الإستغفار عند الموت و يختمون أعمالهم بالإستغفار و كلمة التوحيد لما احتضر العلاء بن زياد بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : كنت و الله أحب أن أستقبل الموت بتوبة قالوا : فافعل رحمك الله فدعا بطهور فتطهر ثم دعا بثوب جديد فلبسه ثم استقبل القبلة فأومأ برأسه مرتين أو نحو ذلك ثم اضطجع و مات و لما احتضر عامر بن عبد الله بكى و قال : لمثل هذا الصراع فليعمل العاملون : اللهم إني أستغفرك من تقصيري و تفريطي و أتوب إليك من جميع ذنوبي لا إله إلا الله ثم لم يزل يرددها حتى مات رحمه الله و قال عمرو بن العاص رحمه الله عند موته : اللهم أمرتنا فعصينا و نهيتنا فركبنا و لا يسعنا إلا عفوك لا إله إلا الله ثم رددها حتى مات و قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته : أجلسوني فأجلسوه فقال : أنا الذي أمرتني فقصرت و نهيتني فعصيت و لكن لا إله إلا الله ثم رفع رأسه فأحد النظر فقالوا : إنك تنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين فقال : أتاني حضرة ما هم بإنس و لا جن ثم قبض رحمة الله عليه و سمعوا تاليا يتلو : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين }
( يا غافل القلب عن ذكر المنيات ... عما قليل ستثوى بين أموات )
( فاذكر محلك من قبل الحلول به ... و تب إلى الله من لهو و لذات )
( إن الحمام له وقت إلى أجل ... فاذكر مصائب أيام و ساعات )
( لا تطمئن إلى الدنيا و زينتها ... قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي )
التوبة التوبة قبل أن يصل إليكم من الموت التوبة فيحصل المفرط على الندم و الخيبة و الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة ما أحسن قلق التواب ما أحلى قدوم الغياب ما أجمل وقوفهم بالباب
( أسأت و لم أحسن وجئتك هاربا ... و إني لعبد من مواليه مهرب )
( يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه ... فما أحد منه على الأرض أخيب )
من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها فما تنتظر إلا الولادة كذلك صاحب الشيب لا ينتظر إلا الموت فقبيح منه الإصرار على الذنب
( أي شيء تريد مني الذنوب ... شغفت بي فليس عني تغيب )
( ما يضر الذنوب لو أعتقتني ... رحمة بي فقد علاني المشيب )
و لكن توبة الشاب أحسن و أفضل في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا : [ إن الله يحب الشاب التائب ] قال عمير بن هانيء : تقول التوبة للشاب : أهلا و مرحبا و تقول للشيخ : نقبلك على ما كان منك الشاب ترك المعصية مع قوة الداعي إليها و الشيخ قد ضعفت شهوته و قل داعيه فلا يستويان في بعض الآثار يقول الله عز و جل : أيها الشاب التارك شهوته المبتذل شبابه لأجلي أنت عندي كبعض ملائكتي قال عمر : إن الذين يشترون المعاصي و لا يعلمون بها : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة و أجر عظيم } كم بين حال الذي { قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي } و بين شيخ عنين يدعى لمثل ذلك كان عمر يعس بالمدينة فسمع امرأة غاب عنها زوجها تقول كان
( تطاول هذا الليل و اسود جانبه ... و أرقني أن لا خليل ألاعبه )
( فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لحرك من هذا السرير جوانبه )
( و لكن تقوى الله عن ذا تصدني ... و حفظا لبعلي أن تنال مراكبه )
فقال لها عمر يرحمك الله ثم بعث إلى زوجها أمره أن يقدم عليها و أمر أن لا يغيب أحد عن امرأته اكثر من أربعة أشهر و عشرا الشيخ قد تركته الذنوب فلا حمد له على تركها كما قيل :
( تارك الذنب فتاركته ... بالفعل و الشهوة في القلب )
( فالحمد للذنب على تركه ... لا لك في تركك للذنب )
أما تستحي منا لما أعرضت لذات الدنيا عنك فلم يبق لك فيها رغبة و صرت من سقط المتاع لا حاجة لأحد فيك جئت إلى بابنا فقلت : أنا تائب و مع هذا فكل من أوى إلينا آويناه و من استجار بنا أجرناه و من تاب إلينا أحببناه : أبشر فربما يكون الشيب شافعا لصاحبه من العقوبات مات شيخ كان مفرطا فرؤي في المنام فقيل له : ما فعل بك قال : قال لي لولا أنك شيخ لعذبتك وقف شيخ بعرفة و الناس يضجون بالدعاء و هو ساكت ثم قبض على لحيته و قال : يا رب شيخ يرجو رحمتك
( لما أتونا و الشيب شافعهم ... و قد توالى عليهم الخجل )
( قلنا لسود الصحائف انقلبي ... بيضا فإن الشيوخ قد قبلوا )
كان بعض الصالحين يقول :
( إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... في رقهم عتقوهم عتق أبرار )
( و أنت يا خلقي أولى بذاكر ما ... قد شبت في الرق فأعتقني من النار )
أيها العاصي ما يقطع من صلاحك الطمع ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع إذا خرجت من المجلس و أنت عازم على التوبة قالت لك ملائكة الرحمة : مرحبا و سهلا فإن قال لك رفقاؤك في المعصية : هلم إلينا فقل لهم : كلا ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلا يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحو يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو
( يا نداماي صحا القلب صحا ... فاطردوا عني الصبا و المرحا )
( زجر الوعظ فؤادي فارعوي ... و أفاق القلب مني و صحا )
( هزم العزم جنودا للهوى ... فاسدي لا تعجبوا إن صلحا )
( بادروا التوبة من قبل الردى ... فمناديه ينادينا الوحا )
تم كتاب لطائف المعارف بحمد الله و عونه و حسن توفيقه و كان الفراغ منه في يوم الأربعاء حادي و العشرين من شهر شوال سنة خمس و ستين و ثمانمائة