كتاب : خطب مختارة
اختيار وكالة شئون المطبوعات والنشر بوزارة الشؤون الإسلامية
والأوقاف والدعوة والإرشاد
ولئن كانت الصلوات هي الوظيفة الأولى للمساجد، فإنَّ الوظيفة
الثانية هي تعليم الناس أمور دينهم، وإرشادهم إلى طاعة ربهم، واتباع
رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز الوسائل في ذلك: خطبة الجمعة.
فمن دلائل العظمة والخلود والواقعية في التشريع الإسلامي: أن جعل الله
للمسلمين منبرًا أسبوعيًا منتظمًا يتزودون منه بما يمسكهم بأصولهم،
ويربطهم بعزائم الدين وأمهات المسائل.
والمنبر المعني هو: خطبة الجمعة.
إن هذه الخطبة أمر جليل الشأن، ينبغي فقهه على وجهه الصحيح، ابتغاء
الاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وابتغاء توسيع نطاق النفع العام.
فمن
فقه خطبة الجمعة
: التركيز على الأصول والثوابت والأركان، فقد « أخذت أم هشام بنت حارثة - رضي الله عنها - { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، من كثرة ما يقرأ هذه السورة على المنبر في خطبة الجمعة » (1)و"ق" من السور المكية التي انتظمت الأصول الإيمانية العقدية: كالإيمان بالله، والآيات الكونية الدالة على وجوده، ووحدانيته، والبعث، والاعتبار. بما وقع للأمم المكذبة المعاندة.
_________
(1) حديث أم هشام بنت حارثة أخرجه مسلم (873) في كتاب الجمعة، باب قراءة القرآن على المنبر في الخطبة .
يقول ابن القيم - رحمه الله-: "وكذلك كانت خُطَبُه -صلى الله
عليه وسلم- ، إنما هي تقرير لأصول الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله
ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد
لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة
بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق،
وهي كالنوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب
إيمانًا بالله، ولا توحيدًا له .. إلى أن قال: ومن تأمل خطب النبي -صلى
الله عليه وسلم- ، وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الدين والتوحيد، وذكر
صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه
تعالى التي تحببه إلى خلقه".
ولا شك أن في ذلك حكمة بالغة، فإن الاهتمام بالأصول والثوابت من شأنه أن
يجمع الأمة على ما ينبغي أن تجتمع عليه من محبة الله وطاعته، والتآخي
والتعاون، وأن يجعل المصلين يخرجون بفائدة علمية محققة.
إن الجمعة مأخوذة من الجمع والاجتماع، وهذا لا يكون أو لا يزيد إلا بالربط
بالثوابت والأصول.
ومن فقه الخطبة: الإيجاز والاختصار: فمن السنة أن يقصر الخطيب
الخطبة، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « إن طول صلاة الرجل وقصر
خطبته مَئِنّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصُروا الخطبة وإن من البيان
لسحرا » (1) .
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: « كنت أصلي مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا » (2) .
إن خطبة الجمعة ليست مجالًا لاستعراض البلاغة، ولا لاستعراض المعلومات..
والتطويل ذريعة للخطأ، وذريعة للملل المانع من التفاعل والاستيعاب والفهم.
ويفهم - من مفهوم المخالفة - أن الذي يطيل الخطبة قليل الفقه.
وبالاطلاع على نماذج من خطب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - مثلا -
وجدنا جل خطبه لا تزيد الواحدة منها على صفحة، وبضع صفحة، أي نحو (600)
ستمائة كلمة تقريبًا .. والمعدل الوقتي المتوسط لإلقاء هذه الكلمات هو 15
دقيقة على الأكثر.
ولا يصلح الاحتجاج - لطول الخطبة - بأن خطباء اليوم يواجهون مشكلات كثيرة،
فإن ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب كانا يواجهان مشكلات كثيرة
أيضًا.
_________
(1) حديث عمار بن ياسر أخرجه مسلم (869) في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة
والخطبة.
(2) حديث جابر بن سمرة أخرجه مسلم (866) في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة
والخطبة.
مهمة الإمام والخطيب ومسئوليتهما
:والحديث عن المسجد، لا ينفك عن الحديث عن إمام المسجد، وخطيب الجمعة، وقد تتحد هاتان الصفتان في شخص واحد، وقد يكون إمام المسجد غير خطيب الجمعة.
وفي الحالين، هناك مسئوليات لخطب الجمعة وواجبات، وهي كالتالي:
1- مسئوليته العلمية والثقافية، إذ ليس يستطيع كل أحد أن يرقى المنبر، ويخطب خطبة الجمعة ؛ بل يرقاه من يوفي بحقه.
والعلم والثقافة أول هذه الحقوق:
(أ ) العلم بالله تعالى:
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (1)
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (2) .
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا }{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } . (3)
(ب ) العلم بالكتاب:
{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (4) .
_________
(1) سورة فاطر آية: 28.
(2) سورة محمد آية:19.
(3) سورة الفرقان الآيتان:58 ، 59.
(4) سورة الرعد آية: 19.
(ج) العلم بالسنة:
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (1) .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }
(2) .
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }{ قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (3) .
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (4) .
(د) العلم بأقوال السلف في فهم الكتاب والسنة .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - "أصول السنة عندنا: التمسك. بما كان عليه
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم .. والسنة عندنا آثار
رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن".
_________
(1) سورة الحشر آية: 7.
(2) سورة الأحزاب آية: 21.
(3) سورة آل عمران الآيتان: 31 ، 32.
(4) سورة النور آية : 63.
وقال الإمام الأوزاعي - رحمه الله-: "اصبر نفسك على السنة، وقف
حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح،
فإنه يسعك ما وسعهم".
(هـ) العلم بالأحوال العامة، فإن القول في الواقع بلا علم ذريعة إلى ضلال
عريض، وفساد كبير، وكانت طريقة السلف الصالح: أن يفهم الواقعة، ثم ينزل
عليها النص الهادي إلى التي هي أقوم.. وكل ذلك مشروط بالمناط الرئيسي
لخطبة الجمعة .. وهو المناط الذي تبينت معالمه في فقرة خطبة الجمعة ..
وإلا فليس كل موضوع - بإطلاق- يناقش في منبر الجمعة.
2- مسئوليته في الاستيثاق والتثبت من الوقائع والأحداث والأخبار.
فليس من خصائص المؤمن - بله الخطيب - أن يكون ناشرًا للأقاويل والشائعات
والأخبار غير الموثقة:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (1) .
{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . (2)
_________
(1) سورة الحجرات آية: 6.
(2) سورة النساء آية : 83.
3- مسئوليته في تقدير المصلحة العامة، فالخطبة إنما تقال في
مجتمع .. ولهذا المجتمع مصالح عامة وحيوية، ومن هنا يجب أن تتقيد الخطبة
بهذه المصلحة وتقدرها، بمعنى ألا يرد في الخطبة معنى، أو مفهوم، أو عبارة
تضر بهذه المصلحة العامة.
4- مسئوليته في التفاعل مع المجتمع والدولة .. فالمسجد جزء من المجتمع
والدولة، بهما قام، وفي كنفهما يعيش، ولذا يتعين على الخطيب أن يكون
متفاعلًا مع الدولة والمجتمع، وأن يتكامل جهده مع الجهود الأخرى في
التوجيهات العامة، والمقاصد الأساسية، والنظم الحافظة .. ومع مؤسسات
التعليم والتثقيف والتوعية والتوجيه بوجه أخص.
5- مسئوليته في إحياء القيم العامة، والفضائل العظيمة مثل: الأمانة، وبر
الوالدين، وصلة الرحم، والإنفاق في سبيل الله، والتكافل، والعطف على
الضعيف، والأرملة، واليتيم، والمسكين، والاستقامة والوفاء بالعقود والعهود
وطاعة ولاة الأمر، والإخلاص والصدق، والتعاون على البر والتقوى، والرحمة،
والحياء، وحب العلم، والتآخي، والتواصي بالحق والصبر .. وغير ذلك من القيم
والفضائل التي هي لباب الدين، بعد توحيد الله تعالى.
ولئن تعين على خطيب الجمعة أن ينهض بهذه المسئوليات جميعًا، فإن
إمام المسجد مخاطب ومعني بهذه المسئوليات والمهام كذلك، وعليه أن يؤديها
بإخلاص وجد واستمرار.
إن تجديد الإحساس والشعور والوعي بأعظم غاية في الإسلام، وهي: عبادة الله
وحده لا شريك له، ومزيدًا من اجتلاء المفهوم الحقيقي لخطبة الجمعة، وفق
السنة، وطريقة السلف الصالح، مسئولية الخطيب والإمام.
وبما أن خطبة الجمعة من شعائر الإسلام العظيمة التي شرعها الله لإعلاء
ذكره والدعوة إلى سبيله، وإرشاد الأمة وتوجيهها إلى أقوم الطرق وتحذيرها
من مغبة اتباع الهوى .. فقد عنيت وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة
والإرشاد بالمملكة العربية السعودية بحكم اختصاصها بهذا الأمر، ورأت من
المناسب إعداد كتاب يتضمن الأحكام المتعلقة بالخطبة بالإضافة إلى اختيار
عدد من الخطب التي تتناول عقيدة المسلم وعباداته ومعاملاته ودعوته إلى
طريق الهدى والرشاد وتحذيره من طريق الردى والهلاك، سواء منها ما كان
مأثورًا من خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أو من
الخطب المنتقاة لبعض العلماء والتي من شأنها أن تعين بعض الخطباء الذين
يقومون. بمهمة الخطابة.
وإن الجهة المختصة في الوزارة تأمل أن تكون هذه الخطب محققة
الهدف من جمعها وطبعها وتوزيعها، معينة للخطباء في واجبهم العظيم. وفي
ختام هذه المقدمة نتوجه إلى الله العلي القدير بالشكر على ما يسر من إتمام
هذا السفر العظيم كما نثني بالشكر لجهود حكومة خادم الحرمين الشريفين
الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود أيده الله ونصر به وبسمو ولي عهده
الأمين، وسمو النائب الثاني دينَه، وأعلى بهم كلمته، وجعلهم هداة مهتدين
ووفقهم لكل خير، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين أعظم الجزاء وأوفاه، فتلك
الجهود العظيمة التي تساند الدعوة إلى الله وتوجيه المسلمين إلى ما ينفعهم
في دينهم ودنياهم وفقًا لكتاب ربهم وسنة نبيهم، وما جرى عليه سلف هذه
الأمة الصالح التي تؤازر المسلمين في شتى الميادين والبقاع ولكل من أسهم
في إخراج هذا الكتاب القيم الشكر والتقدير ونسأله جل وعلا أن يجزي الجميع
خير الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله
وصحبه.
د / عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
- الخطبة- قيمتها
- منزلتها في الإسلام
- بعض أحكامها
الخطبة: هي مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته.
فلا بد من المشافهة وإلا كانت كتابة، والإقناع هو أن يوضح الخطيب رأيه للسامعين ويؤيده بالبراهين ليعتقدوا ويقتنعوا به.
قيمتها:
الخطبة في الإسلام شعيرة من شعائره العظام وعبادة من العبادات التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها وقام بها خلفاؤه من بعده ولا تزال الأمة مقتفية لآثارهم من بعدهم. غايتها إعلاء ذكر الله وتعظيم شعائره وحرماته، والدعوة إلى سبيله والتحذير من مخالفة أمره.
منزلتها في الإسلام:
ازدهرت الخطابة في فجر الإسلام وكانت مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم الخطابية خير مدرسة بلغت رسالة الإسلام العظمى إلى أرجاء المعمورة قاطبة وكان من فرسانها الصديق والفاروق والإمام علي رضي الله عنهم ثم هؤلاء القادة المسلمون الذين دوخوا الأكاسرة والقياصرة.
ولقد بلغت الخطابة على عهد الخلفاء الراشدين أوج أهميتها، ولم
تعد قاصرة على وقت الجمعة، بل أصبحت تلقى كلما دعت إلى ذلك حاجة، وكان لها
من الأهمية ما يجعل الخطبة البليغة تسكن فتنة أو تنفي فرقة أو تهدئ ثائرة
أو تثير حربًا يقوم لها الناس ويقعدون.
وكان موقف الخطابة موقفًا عظيمًا في نفوس الأئمة وفي نفوس السامعين حتى
كان الخلفاء يقومون بها بأنفسهم، ولا يوكلونها إلى غيرهم في قواعد الملك
وحواضره، وبقي الحال كذلك فترة طويلة من الزمن، ولم يتخل الخلفاء عن خطابة
الجمعة إلا بعد وفاة الخليفة المأمون بن هارون الرشيد فقد كان آخر الخلفاء
المجيدين للخطابة وقد حفظت كتب الأدب والتاريخ مجموعة قيمة من خطبه، وبعده
أخذ الخلفاء ينيبون عنهم من يقوم بها، وظل شأنها منذ ذلك الوقت في إدبار،
فكثير من الخطب لا تحيي في قلوب السامعين إيمانا، ولا توطد توحيدًا، ولا
تفيد المؤمنين معرفة، ولا تذكرهم بأيام الله، ولا تبعث في النفوس محبة
الله تعالى، ولا تثير فيها الشوق إلى لقائه بالجهاد أو الاستشهاد وكثيرًا
ما يخرج السامعون كما دخلوا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعليه فلا بد في الخطيب المسلم الذي يتبوأ هذه المكانة العليا من
التوجيه والإرشاد لهذه الأمة المستنيرة بالوحي الخالد، أن يكون أهلًا لهذا
المقام علمًا بأصول الدين وعملًا بدستوره وقيمه ومثله، وإلا كانت خطبته في
الناس سخرية عليه وموعظته لا تتجاوز الآذان فليحرص الخطيب ألا يخرج أحد من
المصلين، المستمعين لخطبته خالي الوفاض، بل لا بد أن يخرج كل منهم وقد
امتلأ قلبه. بمحبة الله، والتصميم على طاعته، والدعوة إليه، والجهاد في
سبيله والرهبة منه، والخوف من معصيته.
لا يخرجن أحد من المسجد إلا بفائدة جديدة يكون قد استفادها من الخطيب تنير
له السبيل في أمور آخرته أو حياته وعليه بالقرآن العظيم، فليشف صدورهم به،
فكفى به هاديًا، وكفى بالموت واعظًا، وكفى برسول الله - صلى الله عليه
وسلم- بشيرًا ونذيرًا.
وليعلم الأئمة والخطباء: أن الله سبحانه وتعالى قد حذّر من الغفلة عن ذكره، وتوعد على ذلك بأشد الوعيد فقال جل شأنه: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }{ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } ولقد شرع لنا - جل شأنه - من الفرائض ما ينبّه الغافل، ويذكّر الناس، فشرع لنا الصلوات الخمس كي تعين مقيمها على ذكره وشكره وحسن طاعته، وعدم الغفلة عنه في يومه وفي ليله، وفرض على أهل القرية والمصر الجمعة، - بشروطها- ليسعى الناس إلى ذكر الله مجتمعين، يتعرضون لنفحات الله - تعالى - ورحمته بطاعته، ويتحيّنون ساعة إجابة لا يخيب الله بها من دعاه ويستمعون إلى النصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتعارفون بينهم، فيشد بعضهم بعضًا فيقوى الضعيف وينشط الخامل، وينتبه الغافل، ويرى الكافر من قوة المؤمنين وعددهم ما يخذله، ويضعف نفسه ويرغم أنفه.
فضل الجمعة ويومها
:ولقد عُني الإسلام عناية بالغة بأمر الجمعة، فقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وعاب على أولئك الذين تشاغلوا عنها، وآثروا التجارة عليها فقال: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } .
ومنذ أن شرع الله - تعالى - صلاة الجمعة ورسول الله عليه الصلاة والسلام حفيّ بها، محافظ عليها، كثير التأكيد على المسلمين بأدائها، كثير النهي عن التهاون بها.
فيوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، أخرج أحمد ومسلم والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج » .
وفي يوم الجمعة « ساعة من دعا الله فيها استجيب له » (1) .
_________
(1) انظر صحيح البخاري: كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، ومسلم في: كتاب الجمعة، حديث: (852).
وعن أنس قال: « أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها وكتة (1) إلى النبي
صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هذه؟ قال
جبريل : هذه الجمعة فُضِّلْتَ بها أنت وأمتك؟ فالناس لكم فيها تبع: اليهود
والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله - تعالى -
إلا استجيب له، وهو عندنا يوم مزيد، قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: يا
جبريل ما يوم المزيد؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديًا أفيح فيه كثب
مسك إذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور
عليها مقاعد النبيين، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت
والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب،
فيقول الله لهم: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي، فاسألوني أعطكم فيقولون: ربنا
نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم ولكم عليّ ما تمنيتم، ولديّ مزيد، فهم
يحسبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير » (2) .
_________
(1) الوكت هو الأثر، كالنكتة. انظر الفائق في غريب الحديث 4 / 78.
(2) أخرجه الإمام الشافعي في مسنده ص 70، والطبرانى في الأوسط بسند رجاله
ثقات.
وليوم الجمعة من المزايا والفضائل ما يضيق عن الحصر، فمن مزاياه
وفضائله إضافة إلى ما تقدم ... أن من مات فيه أو في ليلته - وهو مؤمن -
وُقي فتنة القبر وعذابه، لما رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة
الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر » .
ولذلك فإن من الجدير بكل مسلم أن يحرص على الجمعة، ويحافظ عليها ويؤدي ما
أمر به فيها على سبيل الوجوب أو الندب.
ومما أُمِرَ المسلمون به فيها:
1- الإكثار في يومها من قراءة القرآن والذكر والدعاء والمناجاة والصلاة
على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ففي كل ذلك قد وردت السنة.
2- كما يطلب من المسلم قبل الخروج لصلاة الجمعة الغسل والسواك والتطيب
ولبس أحسن ما لديه من الثياب وأنظفها.
3- ويندب الأخذ من الشعر وقص الأظافر في يومها.
4- ويندب أن يقرأ في صلاة صبحها بسورتي: "السجدة والإنسان بعد الفاتحة".
5- ويندب التبكير بالذهاب إلى الجامع (1) .
6- ويستحب المشي إليها، والقرب من الإمام، والإنصات التام للخطبة وعدم
التشاغل بشيء عن ذلك.
_________
(1) أخرج أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة أن رسول الله- صلى الله عليه
وسلم - قال: «المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة،
والذي يليه كالمهدي كبشًا، حتى ذكر الدجاجة والبيضة» . والمهجر: المبكر،
والبدنة: الناقة، وابتداء التبكير من الفجر أو من طلوع الشمس؟ إلى كل ذهب
فريق من العلماء، ولعل الأرجح أن بدء ساعات البكور من طلوع الشمس؟ لأن
الفترة السابقة لذلك فترة اغتسال وتهيؤ واستعداد. وقال بعضهم: التبكير
يكون من ارتفاع النهار وقت الضحى وأول الهاجرة وينتهي بالزوال وحضور
الإمام.
7- ويكره "الاحتباء" في المسجد - يوم الجمعة - وهو أن يجلس على
إليتيه. رافعًا ساقيه، ضامًّا وِرْكيه إلى بطنه بثوبه أو يديه. « لنهيه-
صلى الله عليه وسلم - عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب » لأن هذه الجلسة
قد تؤدي إلى النوم.
8- ويستحب لمن غلبه النعاس في مكان من المسجد أن يتحول إلى غيره.
9- ولا ينبغي للمصلي أن يتخطى الرقاب، فذلك حرام عند بعض العلماء مكروه
عند البعض الآخر لكثرة الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك.
10- ولا ينبغي للمصلي أن يحضر الجمعة بثياب متسخة أو منفرة، أو رائحة غير
زكيّة (1) .
11- ولا ينبغي للمصلي أن يتناول طعامًا ذا رائحة تؤذي كالثوم والبصل
والفجل وغيرها.
12- وليس له أن يفرق بين اثنين إلا إذا كانت بينهما فرجة كافية لم يسداها.
13- ويندب لمن أتى المسجد - قبل الجمعة - التنفل مع طول القيام ما لم يصعد
الخطيب المنبر (2) .
14- وإذا أذن للجمعة فليس للمسلم أن ينشغل بشيء غير السعي إليها فالبيع أو
الشراء حال السعي إلى الجمعة حرام عند العلماء.
_________
(1) أخرج أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغسل يوم الجمعة على كل محتلم، والسواك،
ويمس من الطيب ما يقدر عليه ولو من طيب أهله».
(2) يقول نافع «كان ابن عمر يغدو إلى المسجد يوم الجمعة، فيصلي ركعات يطيل
فيهن القيام، فإذا انصرف الإمام، رجع إلى بيته فصلى ركعتين وقال: هكذا كان
يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما شروط الجمعة فكثيرة أهمها: الخطبة ولها أفردنا هذا الكتاب الذي تجدون فيه تفاصيل أحكامها، وآدابها وكثيرًا مما يتعلق بها مضافًا إلى نماذج من الخطب المختارة.
الفصل الأول: خطب مأثورة
طرف من خطب النبي صلى الله عليه وسلم
:فاتحة خطبته صلى الله عليه وسلم:
« عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: الحمد لله أو إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يقرأ ثلاث آيات:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا }{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } ثم يتكلم بحاجته » (1) .
_________
(1) رواه النسائي 6 / 89، وابن ماجه 1 / 609، 6610، وأحمد 1 / 350، والدارمي 43 / 12 واللفظ له.
أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه
حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
« إن الرائد (1) لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم، ولو
غررت الناس جميعًا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله
إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما
تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانًا، وبالسوء سوءًا،
وإنها لجنة أبدًا، أو لنار أبدًا » (2) .
خطبته عليه الصلاة والسلام لإعلان نبوته، ودعوته لقومه بعد نزول قوله
تعالى: { وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } وقوله جل شأنه: {
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } وقوله عز من
قائل: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ }{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
« ارتقى عليه الصلاة والسلام الصفا، وصاح بأعلى صوته: "وا صباحاه" - وهي
صيحة يصيح بها العربي حين يحس بخطر داهم يوشك أن يحيط بقومه أو عشيرته -.
_________
(1) الرائد: من يرسله قومه في طلب الكلأ والماء.
(2) الكامل 2 / 27 والسيرة الحلبية (1 / 272).
ثم أخذ ينادي يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني كعب (لبطون قريش)
حتى اجتمعوا فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير
عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير
لكم بين يدي عذاب شديد. فال أبو لهب : تبًا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟
فنزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }» (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري 6 / 94، ومسلم 1 / 194 ح (208).
خطبة له صلى الله عليه وسلم في التذكير بالله - تعالى - والدعوة
إلى حبه والتحابّ فيه
وقال ابن إسحاق : « ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى
فقال: "إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله - تعالى - قد أفلح من
زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من
أحاديث الناس. إنه أحسن الحديث وأبلغه. أحبّوا من أحب الله. وأحبوا الله
من كل قلوبكم (1) ولا تملّوا كلام الله وذكره، ولا تقسوا عنه قلوبكم،
اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا واتقوه حق تقاته. واصدقوا الله صالح ما
تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » (2) .
_________
(1) أحبوا الله ... الخ المراد أن يستغرق حب الله جميع أجزاء القلب فيكون
ذكره وعمله خارجًا من قلبه خالصًا لله. وإضافة الحب إلى الله تعالى من
عبده مجاز حسن، لأن حقيقة المحبة إرادة يقارنها تعلق بالمحبوب طبعا أو
شرعًا .
(2) أورد هذه الخطبة ابن هشام في السيرة 1 / 501، وابن كثير في البداية 3
/ 214، والباقلاني في الإعجاز 110.
خطبة له صلى الله عليه وسلم بمنى
« خطب صلى الله عليه وسلم بالخَيْفِ في منى فقال: نضَّر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم. فإن دعوتهم تحوط من ورائهم » . وفي لفظ: « إن دعوتهم تكون من ورائه » (1) .« ومن كان همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وآتته الدنيا وهي راغمة. ومن كان همه الدنيا، فرّق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له » (2) .
_________
(1) أخرجها أحمد وابن ماجه والحاكم عن جبير بن مطعم، وأبو داود وابن ماجه عن زيد بن ثابت على ما في الفتح الكبير 3 / 62 - 263.
(2) هذه الزيادة من إعجاز القرآن للباقلاني 133.
خطبة له صلى الله عليه وسلم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم، إن الأمر بالمعروف لا يقرب أجَلًا. وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم وعمهم البلاء » (1) ._________
(1) رواه الطبراني في الأوسط (مجمع الزوائد 7 / 266). وهذه العبارات الموجزة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن للخطيب أن يجعل منها عناصر لخطبة كاملة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون من أشمل الخطب وأكملها .
خطبة له صلى الله عليه وسلم في التنفير من الدنيا
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: « أيها الناس إن هذه الدار دار التواء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح. فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء. ألا وإن الله - تعالى - خلق الدنيا بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببًا وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضًا فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، إنها لسريعة الذهاب، وشيكة الانقلاب. فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واحذروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في تعمير دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها - فقد أراد الله منكم اجتنابها - فتكونوا لسخطه متعرضين ولعقوبته مستحقين » .خطبة له صلى الله عليه وسلم في بيان فضل العلم
عن معاذ بن جبل قال: « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقوامًا، فيجعلهم في الخير قادة، تقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في مجالستهم وبأجنحتها تحفهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء » (1) ._________
(1) رواه ابن عبد البر النمري في كتاب جامع بيان العلم من رواية موسى بن محمد بن عطاء القرشي 1 / 66 دار الكتب الحديثة، مصر.
خطبة حجة الوداع
« وفي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعة الله وأستفتح بالذي هو خير.أما بعد أيها الناس: اسمعوا مني أبيّن لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا.
أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم
كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم
عن أعمالكم وقد بلّغتُ. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله
أنه لا ربا. إن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله. وإن كل دم كان في
الجاهلية موضوع. وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
- وكان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل- فهو أول ما أبدأ به من دماء
الجاهلية، وإن مآثر الجاهلية موضوع غير السدانة والسقاية. والعمد قود وشبه
العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير. فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدًا، ولكنه رضي أن
يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. فاحذروه على دينكم.
أيها الناس: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ
عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا
حَرَّمَ اللَّهُ } ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاثة
متوالِيَة، وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين
جمادى وشعبان.
أيها الناس: إن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقًا، لكم عليهن ألا يوطئن
فرشكم أحدًا تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فإن الله قد
أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتَضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين
وأطعنكم فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم
عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم
فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا. فاعقلوا
أيها الناس قولي فإنّي قد بلّغتُ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لم
تضلّوا أبدًا، أمرًا بينا، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلَمُنّ أن كل مسلم أخ للمسلم
وأن المسلمين إخوة، لا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه،
فلا تظلمنّ أنفسكم. اللهم هل بلّغت؟ قالوا: اللهم نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي
كفّارًا يضرب بعضكم أعناق بعض.
أيها الناس: إن ربَّكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب،
أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل
بلغت؟ قالوا نعم. فال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس: إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية.
ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر من ادعى إلى
غير أبيه أو تولى غير مواليه. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين،
لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » .
خطبة للصديق في الإخلاص والاعتبار
خطب - رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها، وحظ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم.اعتبروا عباد الله ممن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميمًا، قد تركت عليهم القالات الخبيثات وإنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم، وصاروا كلا شيء.
ألا وإن الله - عز وجل - قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلقًا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن اغتررنا كنا مثلهم.
أين الوضاءُ الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابًا،
وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط
وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في
ظلمات القبور { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزًا } !".
أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما
قدموا فحلوا عليه، وأقاموا للشقوة أو للسعادة بعد الموت.
ألا إن الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا،
ويصرف به عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مدينون،
وإن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النار ولا
تبعد عنه الجنة؟ (1) .
_________
(1) أوردها الحافظ أبن كثير في البداية والطبرى في التاريخ 3 / 311.
خطبة جامعة للفاروق فيها التنفير من تصديق الكهنة والحث على التحلي بالفضائل
خطب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال. أما بعد:- أوصيكم بتقوى الله - الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي بطاعته يكرم أولياءه، وبمعصيته يضل أعداءه، فليس لهالك معذرة في فعل ضلالة حسبها هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالة.تعلموا القرآن تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه لم تبلغ منزلة ذي حق أن يطاع في معصية الله.
واعلموا أن بين العبد وبين رزقه حجابا فإن صبر أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب لم يدرك فوق رزقه وإياكم وأخلاق العجم، ومجاورة الجبابرة، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن تدخلوا الحمام بغير مئزر، وإياكم والصغار أن تجعلوه في رقابكم.
واعلموا أن سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، ولا يحل لك أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام، ومن أتى ساحرًا أو كاهنًا أو عرّافًا (1) فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) الكاهن من يدعي معرفة الأسرار ويخبر عما يكون قي المستقبل. وقد كان في العرب كهنة، فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور. بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا هو العراف، كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما. «نهاية».
لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءته سيئته
وسرته حسنته، فهو أمارة المسلم المؤمن، وشر الأمور مبتدعاتها، وأن
الاقتصاد في سنّة خير من الاجتهاد في بدعة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن
تحاسبوا، فإنه أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض
الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية.
عليكم بهذا القرآن فإن فيه نورًا وشفاء، وغيره الشقاء، وقد قضيت الذي علي
فيما ولاني الله عز وجل من أموركم، ووعظتكم نصحًا لكم، أقول قولي هذا
وأستغفر الله لي ولكم (1) .
_________
(1) أخرجها الحاكم وابن عساكر على ما في الدين الخالص (4 / 271)، وانظر
العقد الفريد (4 / 130).
شيء من خطب خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
أول خطبة له رضي الله عنه بعد الخلافة
في أول خطبة خطبها بعد توليه الخلافة قال: بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، وأصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم وإن امرأ ليس بينه وبين آدم أبٌ حي لمعرق في الموت.فضل كلمة لا إله إلا الله
الحمد لله الذي فتح أبواب المشاهدات على أرباب المجاهدات. بمفتاح لا إله إلا الله وأحيا نفوس العارفين وملأ كؤوس الذاكرين من أقداح لا إله إلا الله. أبدع المصنوعات وأوجد المخلوقات ووسمها بميسم لا إله إلا الله. خلق الجنين من ماء مهين ليعبده بلا إله إلا الله. أرسل الرسل لأجلها مبشرين وعن ضدها محذرين فدعوا الناس كلهم إلى العمل بلا إله إلا الله. فهي رأس الملة والدين، وهي حبل الله المتين، فما خاب من تعلق بحبل لا إله إلا الله. غوِيتْ أحلام الجاهلين وضلّت أفئدة المعاندين حيث جعلوا إلهين اثنين بعدما طلع بدر لا إله إلا الله. أحمده سبحانه وأشكره إذ جعلنا من أهل لا إله إلا الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها إذ خاب أهل الشرك ونجا أهل لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جدد الله به ما درس من معالم لا إله إلا الله. ومع ذلك قال له: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } فصدع بها ونادى، ووالى عليها وعادى، وقال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق لا إله إلا الله » فدعا إلى الله سرًا وجهارًا
ليلًا ونهارًا حتى انكشف الغطاء عن وجه لا إله إلا الله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين حموا بمرهفاتهم حوزة لا إله إلا الله. وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، وجددوا إيمانكم في المساء والصباح بتأمل معنى لا إله إلا الله، فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح، نادوا بالفلاح فلا فلاح إلا لأهل لا إله إلا الله. فكلمة الإسلام ومفتاح دار السلام لا إله إلا الله. فلا قامت السموات والأرض ولا صحت السنة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله. ولا جردت سيوف الجهاد وأرسلت الرسل إلى العباد إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله فانقسم الناس عند ذلك فريقين وسلكوا طريقين: فريق انقاد للعمل بلا إله إلا الله، والآخر حاد لعلمه أن دين آبائه يبطله لا إله إلا الله. فسبحان من فاوت بين عباده. بمقتضى حكمته ومراده وذلك من أدلة لا إله إلا الله. فطوبى لمن عرف معناها فارتضاها، وعمل باطنًا وظاهرًا بمقتضاها، فيكون قد حقق لا إله إلا الله. وويل من صاده الشيطان بالأشراك، فرماه في هوة الإشراك، فأبى واستكبر عن الانقياد للا إله إلا الله. ألم تسمعوا قول الله {
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حقيقة لا إله إلا الله. الذي هو إفراده بجميع العبادات. وتخصيصه بالقصد والإرادات. ونفيها عما سواه من جميع المعبودات. التي نفتها لا إله إلا الله. وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. الذي لا يبقي في القلب شيئًا لغير الله. ولا إرادة لما حرّم الله. ولا كراهة لما به أمر الله. هذا والله هو حقيقة لا إله إلا الله. وأما من قالها بلسانه ونقضها بفعاله فلا ينفعه قول لا إله إلا الله. فمن صرف لغير الله شيئًا من العبادات. وأشرك به أحدًا من المخلوقات. فهو كافر ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله. قيل للحسن رحمه الله تعالى: إن أناسًا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال: من قالها وأدى حقها وفرضها أدخلته الجنة لا إله إلا الله. وقال ابن منبه لمن قال له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله. قال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت. بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك. لأنك في الحقيقة لم تقل لا إله إلا الله. فيا ذوي الأسماء العتيدة، لا تظنوا أمور الشرك منكم بعيدة. فإن ها هنا مهاوي
شديدة. تقدح في لا إله إلا الله. أين من وحّد الله بالحب والخوف
والرجاء والعبادة؟ أين من خصه بالذل والخضوع والتعظيم والقصد وأفرده
بالتوكل فجعل عليه اعتماده؟ كل هذا من معاني لا إله إلا الله. فسارعوا
عباد الله إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين
الذين قاموا بواجبات لا إله إلا الله ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم
منه نذير مبين. وتمسكوا بعرى لا إله إلا الله فمن نفى ما نفته وأثبت ما
أثبتته ووالى عليها وعادى رفعته إلى أعلى عليين منازل أهل لا إله إلا
الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
ونفعني وإياكم. بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر
الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم (1) .
_________
(1) من خطب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، انظر الخطب
المنبرية ص 36.
التحذير من الشرك وأسبابه
الحمد لله الذي لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، ولا أسبغ عليهم نعمه إلا ليحمدوه، ولا أنزل عليهم كتبه وأرسل إليهم رسله إلا ليعرفوه. أحمده سبحانه حمد عبد يخاف منه ويرجوه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يسئل عما يفعل ويسأل خلقه عما فعلوه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي دعا أمته إلى التوحيد وأوصاهم بأن يخافوا الله ويتقوه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وآله وأصحابه الذين آزروه ونصروه. وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه. واعلموا أن الله ما خلقكم إلا لعبادته، ولا أمركم إلا بتوحيده وطاعته. والتوحيد إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما وقعوا في الشرك والآثام. وغلوا في الصالحين فعبدوهم دون ذي الجلال والإكرام. وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمين. الذي كسر صور هؤلاء الصالحين وزهق به الباطل وجاء بالحق المبين. أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرًا لا يفترون. لكنهم جعلوا بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين عالم السر والجهر.
يقولون نريد التقرب إلى الله، ولنا عنده يشفعون: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فبعث الله محمدًا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، يجدد لهم ما اندرس من دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله على جميع العباد، لا يصلح منه شيء لنبي ولا ملك ولا أحد من الآحاد. فاتقوا الله عباد الله، وحققوا إيمانكم بالعمل بمعنى لا إله إلا الله، قبل أن ينظر المرء ما قدمت يداه، ولا ينفع أحد أحدًا إلا بإذن الله ورضاه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا }{ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا }{ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا }{ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ
وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا }{ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ
اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ
نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم. بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر
المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم (1) .
_________
(1) من خطب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، انظر الخطب
المنبرية ص 56.
الفصل الثاني: العقيدة
معنى شهادة أن لا إله إلا الله ومقتضاها
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: إن الركن الأول من أركان الإسلام هو الشهادتان:
شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. وهذا الركن هو الأساس الذي تقوم عليه بقية الأركان، وتنبني عليه سائر أحكام الدين، فإن كان هذا الأساس سليمًا قويًا استقامت سائر الأعمال وكلها مقبولة عند الله وانتفع بها صاحبها، وإن اختل هذا الأساس فسدت سائر الأعمال وصارت هباءً منثورًا، وصارت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وصارت كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، صارت تعبًا على صاحبها في الدنيا وحسرة وخسارة يوم القيامة. عباد الله: إن الشهادتين لهما معنى ولهما مقتضى، ولا بد للناطق بهما أن يعرف ذلك المعنى ويعمل بذلك المقتضى، وإلا فإنه لا ينفعه مجرد التلفظ بهما. فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله الإقرار بأنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأن كل معبود سواه باطل: { ذَلِكَ }{ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن تفرد الله بالعبادة فلا تعبد معه أحدًا. فإذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله فقد أعلنت البراءة من كل معبود سوى الله والتزمت بعبادة الله وحده، وفعل ما
أمر به وترك ما نهى عنه، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين قولوا لا إله إلا الله فهموا من ذلك أنه يطلب منهم عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فامتنعوا من أن يقولوا هذه الكلمة واستنكروها وقالوا: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }{ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } . هذا معنى لا إله إلا الله، إنه جعل الآلهة إلها واحدًا، وترك عبادة ما سواه، وقد فهمه المشركون لأنهم عرب فصحاء وعباد القبور اليوم لا يفهمون معنى لا إله إلا الله ولا يعملون بمقتضاها، فلذلك يقولون لا إله إلا الله، ويعبدون الموتى، فالمشركون الأولون أعلم منهم بمعنى لا إله إلا الله وأعلم منهم بمقتضاها، هؤلاء القبوريون يقولون لا إله إلا الله ويقولون مع ذلك: يا علي . يا حسين . يا عبد القادر . ينادون الموتى ويستغيثون بهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويطوفون بقبورهم ويذبحون لهم، فما معنى لا إله إلا الله عند هؤلاء وما فائدتها - إنهم قوم
لا يعقلون { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } ، { زُيِّنَ لَهُمْ
سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
عباد الله: ومن مقتضى شهادة أن لا إلا الله أن تقيم الصلاة، فإنها الركن
الثاني بعد الشهادتين، قال الله تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ }{ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . ومن
مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن تؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلًا وتفعل الواجبات الدينية وتترك المحرمات، فقد قاتل
الصحابة رضي الله عنهم بقيادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من منع الزكاة
وهم يقولون لا إله إلا الله. وقال الصحابة إن الزكاة من حق لا إله إلا
الله. قيل للحسن البصري رحمه الله: إن ناسًا يقولون: من قال لا إله إلا
الله دخل الجنة. فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل
الجنة، وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال
بلى ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا
لم يفتح لك.
عباد الله: وكما أن الشرك الأكبر يناقض لا إله إلا الله وينافيها.
كذلكم سائر المعاصي التي هي دون الشرك تنقص مقتضى هذه الكلمة
وتقلل من ثوابها بحسب الذنب الذي يصدر من العبد، ومطلوب من المسلم أن يقول
لا إله إلا الله ويعلم معناها ويعمل بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا، ويستقيم
عليها، قال تعالى: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، {
شَهِدَ بِالْحَقِّ } أي: قال لا إله إلا الله. وهم يعلمون: بقلوبهم ما
قالت به ألسنتهم من تلك الكلمة. فاتقوا الله عباد الله واعرفوا معنى هذه
الشهادة واعملوا بمقتضاها فليس المقصود منها مجرد النطق بها من غير فهم
معناها واعتقاد مدلولها والعمل به فإن ذلك لا ينفع ولا يجدي. أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم. بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم (1) .
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 2 / 7.
معنى شهادة أن محمدًا رسول الله ومقتضاها
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى
بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به
وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: أيها الناس. ومعنى أشهد أن محمدًا رسول الله. الإقرار بأنه رسول من عند الله، واعتقاد ذلك في القلب، ومقتضى هذه الشهادة يتلخص في أربعة أمور: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فإذا شهدت أنه رسول الله وجب عليك أن تطيعه فيما يأمرك به، وأن تجتنب ما نهاك عنه، وأن تصدقه فيما يخبر به عن الله تعالى وعن الغيوب الماضية والمستقبلة، وأن لا تتقرب بشيء من العبادات إلا إذا كان موافقًا لشريعته، فتترك البدع والمحدثات وتترك الأقوال المخالفة لسنته مهما بلغ قائلها من العلم والفقه، فكل منا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ويقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء
من الزيغ فيهلك والله تعالى يقول: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } عباد الله: اتقوا الله تعالى
وأطيعوه، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله
عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها .. الخ (1) .
_________
(1) انظر الخطب المنبرية للشيخ الدكتور صالح الفوزان 2 / 11.
وجوب معرفة الله وتوحيده
الحمد لله المتوحد بصفات العظمة والجلال، المتفرد بالكبرياء والكمال، المولي على خلقه النعم السابغة الجزال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الرسل في كل الخصال، اللهم صلّ وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل.أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله واعبدوه فإن الله خلقكم لذلك قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } خلقهم ليعبدوه ويدينوا بعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه والتوجه في كل الأمور إليه، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الرب الذي أوجد جميع المخلوقات، وأعدها وأمدها بكل ما تحتاج إليه من كل الجهات. وهي الفقيرة إليه بالذات وكل الصفات، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الملك المالك لجميع الموجودات والعوالم والممالك، الذي له الحكم والحمد في الأولى والآخرة وإليه يرجعون، وإليه تنتهي الأقدار ومنه تبتدي، وإذا أراد شيئًا قال له كن فيكون. خلقهم ليعرفوا أحكامه الشرعية والقدرية والجزائية، ولها يخضعون فيعلموا أن كل شيء بقضاء وقدر، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون، فترضى بالله ربًا وسيدًا، ومدبرًا، وحاكمًا، وبمحمد نبيًا رسولًا ومبشرًا ومنذرًا، وبالإسلام دينًا وطريقًا ومسلكًا، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الله الذي لا إله إلا هو فليس له شريك في ألوهيته كما ليس له شريك في ربوبيته وملكه فكما أنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور. فهو الإله المعبود المحمود
المشكور. وكما أن جميع النعم الظاهرة والباطنة منه لطفًا
وإحسانًا فهو المستحق لكمال الشكر إخلاصًا ومحبة له وخضوعًا وإذعانًا.
وكما أنه الذي لطف بكم وعدلكم وسواكم فليكن وحده معبودكم ومرجوكم ومولاكم،
وكما شرع لكم دينًا حنيفًا ميسرًا موصلًا للفلاح. فاسلكوا الصراط المستقيم
متقربين إليه في الغدو والرواح. فليس لكم رب سواه ولا معبود ومقصود إلا
الله. ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه. ولا معول في الأمور إلا عليه.
فقوموا بعبوديته ظاهرًا وباطنًا لعلكم تفلحون. واستعينوا به وتوكلوا عليه
لعلكم ترحمون. إذا سألتم فلا تسألوا إلا الله، وإذا استعنتم فلا تستعينوا
بأحد سواه فإن الخلق كلهم فقراء عاجزون. وجميعهم إلى ربهم مضطرون مفتقرون.
أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته. ووفقنا لمحبته ومعرفته
والقيام بطاعته. ولا حرمنا خير ما عنده من الإحسان، بشر ما عندنا من
الإساءة والعصيان، { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم (1) .
_________
(1) انظر الفواكه الشهية لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص 24.
وجوب عبادة الله وبيان معناها
الحمد لله رب العالمين خلق الخلق لعبادته، وأمر بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل الخلق عبودية لله وأعظمهم خشية له، دعا إلى الله وجاهد في الله حق جهاده، وقام على قدميه الشريفتين حتى تفطرتا من طول القيام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وسار على نهجه وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفكروا لماذا خلقتم وبماذا أمرتم، إنكم خلقتم لعبادة الله وحده لا شريك له وبها أمرتم - قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }{ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } .
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة وهي بهذا التعريف تشمل كل ما يصدر من العبد من الأعمال القلبية والبدنية والمالية المشروعة - حتى العادات تتحول إلى عبادات إذا قارنتها نية صالحة. فالنوم مثلًا إذا قصد به التقوي على الصيام أو على قيام الليل يكون عبادة، واتصال الرجل بأهله إذا قصد به التعفف عن الحرام يكون عبادة، قال صلى الله عليه وسلم: « وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر » ، رواه مسلم . وقد صح الحديث بأن نفقة الرجل على أهله صدقة، وفي صحيح مسلم عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن نفقتك على عيالك صدقة » ، وأخرج الإمام أحمد من حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة » ، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، ولا ينقصه أحد إلا كان له صدقة » .
وفي رواية له أيضًا: « فلا يأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا
كان له صدقة إلى يوم القيامة » .
عباد الله: والعبادة قسمان: قسم واجب وقسم مستحب، والقسم الواجب منه ما
يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات كالصلوات الخمس ومنه ما يتكرر كل أسبوع
كصلاة الجمعة ومنه ما يتكرر كل عام كصيام رمضان، وأداء الزكاة ومنها ما
يجب مرة واحدة في العمر كالحج والعمرة من المستطيع، والقسم المستحب لا
يتحدد بوقت كنوافل الصلوات ونوافل الصدقات ونوافل الصيام فيما عدا الأوقات
المنهي عن الصلاة فيها وعن صيامها، ومن نوافل العبادة ما يطلب كل وقت كذكر
الله بالقلب واللسان. قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا }{ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
} وقال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا }{ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
وقال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } وقال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وهكذا نرى أن عمر المسلم لا تمر منه فترة بغير عبادة قولية أو فعلية، ومن فرّط في فترة من عمره فتركها تمر بغير عبادة خسرها يوم القيامة.
أيها المسلمون: والعبادة لا تسمى عبادة وتنفع صاحبها عند الله إلا إذا كانت خالصة لله ليس فيها شرك ولا رياء ولا سمعة، قال الله تعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ }{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وقال تعال: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ }{ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ }{ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ }{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وقال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وفي الحديث: « يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه » وكما يشترط في صحة العبادة الإخلاص كذلك يشترط فيها المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: « من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد » .
أيها المسلمون: إن عبادة الله هي أول الواجبات على العبد وهي حق الله عليه المقدم على سائر الحقوق، قال تعالى:
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ }{ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } والآيات في هذا كثيرة. وفي حديث معاذ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا » . وعبادة الله واجبة على الإنسان العاقل من حين يبلغ سن التكليف إلى أن يموت، قال الله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وقال عن عيسى عليه السلام: { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } عباد الله: من لم يعبد الله صار عبدًا للشيطان، قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }{ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } من لم يعبد الله صار عبدًا لهواه. قال الله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } من لم يعبد الله صار عبدًا لدنياه. قال
صلى الله عليه وسلم: « تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن
لم يعط لم يرض » . وعبادة الله وحده لا شريك له هي التي يحصل بها التمكين
في الأرض، والأمن من المخاوف الدنيوية والأخروية. فال تعالى: { وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ } .
أيها المسلم: إنك تعاهد الله في كل ركعة من صلاتك حينما تقرأ قوله تعالى:
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } تعاهد الله أن لا تعبد إلا
إياه ولا تستعين إلا به { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ
} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم (1) .. الخ.
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 2 / 13.
حقيقة الإيمان وعلاماته
الحمد لله الذي يقضي بالحق ويحكم بالعدل ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم يقدر الأمور بحكمة ويحكم بالشرائع لحكمه وهو الحكيم العليم، أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وليقوم الناس بالقسط ويؤتوا كل ذي حق حقه من غير غلو ولا تقصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وانصروا الله ينصركم وأطيعوه يثبكم { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } .
أيها الناس : إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب ورسخ فيه وصدقته الأعمال بفعل الطاعات واجتناب المعاصي. إن كل واحد يستطع أن يقول إنه مسلم بل يرتقي إلى أعلى ويقول إنه مؤمن، كل واحد يستطع أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. المنافقون وهم في الدرك الأسفل من النار يذكرون الله. المنافقون يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } . المنافقون يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنهم لمنهم وما هم منهم ولكن كل هذه الشهادات والأيمان لم تنفعهم فهم في الدرك الأسفل من النار تحت كل مشرك وكل دهري وكل يهودي وكل نصراني لأن هذه الشهادات والأيمان لم تصدر عن يقين وإيمان ولا عن قبول وإذعان { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } فالإيمان عقيدة راسخة قبل كل شيء تنتج قولًا سديدًا وعملًا صالحًا تنتج الحب لله ورسوله والإخلاص في توحيد الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، الإيمان جد وعمل ومثابرة ومصابرة وحبس للنفس على ما تكره من طاعة الله ومنع لها عما تحب من
معصية الله، إن للإيمان علامات كثيرة ذكرها الله في كتابه وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }{ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ونذكر أيضًا قوله تعالى: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ }{ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } فبالله عليكم أيها المسلمون منْ منا بهذه المثابة، من منا إذا ذكر الله
وجل قلبه خوفًا من الله وتعظيمًا له، من منا إذا تليت عليه آيات ربه زادته إيمانًا واستبشر بها لما يجد في نفسه من حلاوة التصديق بها والامتثال لأحكامها، من منا قام بتحقيق التوكل على الله والاعتماد عليه وعدم التعلق بالمخلوقين، من منا أقام الصلاة على الوجه المطلوب بالمحافظة عليها وإتقان حدودها، من منا قام بالإنفاق مما رزقه الله من بذل زكاة وسد حاجة الأهل والأقارب والمعوزين؟.
لنفكر أيها الناس في حال المسلمين إننا إذا فكرنا في حال المسلمين اليوم لا في هذه الجزيرة فحسب ولكن في جميع البلاد الإسلامية نجد مسلمين بلا إسلام ومؤمنين بلا إيمان إلا أن يشاء الله، والكل مقصّر، والكل غير قائم بما يجب عليه من حقوق لله تعالى، أو لعباد الله. إننا نجد في الأمة الإسلامية تقصيرًا في الإيمان واليقين ونجد تقصيرًا في الأخلاق الفاضلة وحمايتها ونجد تقصيرًا في الأعمال. إننا نجد تقصيرًا في الإيمان واليقين لأننا نجد بعض الناس ولاسيما بعض من عاش فترة في بلاد الكفر ونهل من صديد أفكارهم الملوثة وثقافتهم المزيفة نجد في هؤلاء من في قلوبهم شك وريب فيما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب نجدهم في شك من وجود الملائكة وفي شك من وجود الجن وفي شك من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لا بل بعضهم في شك من وجود الله تعالى، وجود خالقه. سبحان الله !! يشك في وجود خالقه ولا يشك في وجود نفسه إن كل من شك في وجود الله يجب أن يشك في وجود نفسه أولًا لأنه لم يخلقه أحد سوى الله عز وحل. نجد من المسلمين اليوم من إذا ذكر الله عنده لم يتحرك قلبه أبدًا ولا كأن شيئًا ذكر عنده فضلًا عن أن يوجل قلبه. نجد من
المسلمين اليوم من إذا تليت عليهم آيات الله لم يزدادوا إيمانًا بل يزدادون رجسًا إلى رجسهم فيسخرون بها ويستكبرون عن أحكامها. نجد من المسلمين اليوم من لا يتوكلون على الله تعالى وإنما يعتمدون على الأسباب المادية المحضة اعتمادًا كليًا ولهذا نجدهم لا يسيرون في طلب رزقهم على شريعة الله ظنًا منهم أن الأخذ بالطرق الشرعية يضيق موارد الرزق فلذلك نجدهم يسعون لتحصيل الرزق بكل وسيلة حلالًا كانت أم حرامًا. ونجد من المسلمين اليوم من اعتمد على أعداء الله في أمنه وسلامه حتى آل الأمر بهم إلى أن أطاعوهم في بعض الأمور المخالفة لشريعة الله تعالى والله يقول: { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ }{ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُمْ } نجد هؤلاء الذين أطاعوا هؤلاء الأعداء في بعض الأمور المخالفة للشريعة إنما سلكوا هذا المسلك المنحرف لضعف توكلهم على الله وقوة اعتمادهم على غيره. انبهروا من قوة هؤلاء الأعداء المادية فظنوا أن كل شيء بأيديهم ونسوا أن الذي خلق هؤلاء هو أشد منهم قوة وأن قوة هؤلاء المبهورين لو أرادوها وجدوها في التوكل على الله تعالى والأخذ بأسباب نصره من تطبيق دينه والتزام شريعته في أنفسهم وفيمن ولاهم عليه لأنهم إذا فعلوا ذلك كان الله معهم ومن كان الله معه فلن يُغْلَبَ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } نجد من المسلمين اليوم من لا يقيمون الصلاة ولا يحافظون عليها فلا يصلون مع الجماعة ولا يأتون بشروطها وأركانها وواجباتها فلا يبالون بالطهارة أتقنوها أم فرطوا فيها ولا يصلون في الوقت ولا يطمئنون في القيام والقعود والركوع والسجود لا بل من الناس الذين قالوا إنهم مسلمون من لا يصلي بل من يسخر ويستهزئ . ممن يصلى، نجد من المسلمين من هو جماع منّاع لا ينفق مما رزقه الله فلا زكاة ولا صدقة ولا إنفاقًا كاملًا على من يجب عليه
الإنفاق عليه ومع ذلك تجده يبذل الكثير من ماله فيما لا ينفعه بل
فيما حرم الله عليه أحيانًا.
إن المسلمين اليوم في حال يرثى لها والشكوى إلى الله، تضييع لفرائض الله
وتعد لحدود الله وتهاون في شريعة الله ونسيان لذكره وأمن من مكره، واعتناء
بما خلق لهم، وغفلة عما خلقوا له؛ ولهذا سُلط عليهم أعداؤهم فاستذلوهم
واستهانوا بهم وتلاعبوا بهم سياسيًا واقتصاديًا حتى صاروا كالذي ينعق بما
لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا وفي انتظار فريضة من فرائضك التي
مننت بفرضها علينا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد
الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد يا منان يا بديع
السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تحبب إلينا
الإيمان وتزينه في قلوبنا وترسخه فيها وأن تكره إلينا الكفر والفسوق
والعصيان وتباعدها عنا وأن تهيئ للأمة الإسلامية من أمرها رشدًا ولاة
صالحين يقضون بالحق وبه يعدلون لا يخافون في الله لومة لائم لا يحابون
قريبا لقربه ولا قويًا لقوته وأن تحفظ علينا ديننا وتثبتنا عليه إلى
الممات إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. الخ (1) .
_________
(1) انظر الضياء اللامع لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين ص:352.
مُجْمل عقيدة أهل السنة والجماعة
الحمد لله الحي القيّوم - الذي قامت بأمره وعدله السماوات والأرض وهو على
كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته
وألوهيته وأسمائه وصفاته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن نبينا
محمدًا عبده ورسوله إلى الثقلين الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى
الله بإذنه وسراجًا منيرًا، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله
وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد أيها المسلمون : اتقوا الله تعالى، وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة واعلموا - رحمكم الله - أن من أوجب الواجبات معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فهذه أصول الإسلام كما قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام، فإن الواجب علينا معشر المسلمين معرفتها، وهي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، فيجب علينا تعليمها لأولادنا ونسائنا وذوينا ومجتمعاتنا الإسلامية، وأن نفهمها ونتقبلها ونؤمن بها كإيمان السلف الصالح، وكما تقبلها الخلف عنهم بالرضى والقبول وصدق الله العظيم في وصف حالهم وإخلاصهم والدعاء لله بقولهم: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي مع الشاهدين بوحدانيتك فعقيدة المسلم الصحيحة هي الإيمان بالله وإخلاص العبادة له تعالى بما شرع، قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وقال: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ }{ شَيْئًا } ، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: « كنت رديف النبي صلى
الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على
العباد وما حق العباد على الله. قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله
على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وحق العباد على الله أن لا يعذب
من لا يشرك به شيئًا » الحديث، وأنه هو الحق، ووعده ولقاؤه حق، وكتابه حق،
ورسوله حق، وأن الجنة حق، والنار حق، وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من شهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة
على ما كان من العمل » وأن الساعة حق آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من
في القبور.
وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة لا يضامون في رؤيته كما يرى القمر
ليلة البدر، هذه عقيدتنا آمنا بالله ربًا ومدبرًا ومصرفًا لأمور الخلق،
ومربيًا لجميعهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وأنه يحي ويميت، وهو حي دائم لا
يموت، بيده مقاليد الأمور وهو على كل شيء قدير - وبالإسلام دينًا. وبمحمد
صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.
ونؤمن بملائكة الرحمن وأنهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ونؤمن برسل الله وكتبه السابقة إيمانًا مجملًا كما ورد في القرآن والسنة قال تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا }{ وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وقال تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } إلى غير ذلك، ونؤمن بالبعث بعد الموت وأنه حق لا ريب فيه لقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } ، وقال تعالى: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ونؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره وأنه يقع بقضاء الله وتقديره لقوله تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
فكل ما تجري به الأقدار المقدرة في علم الله من أحوال الناس من
المنافع أو المضار والمكاره أو المسار والحوادث والأحداث والصحة والمرض
والخصب والجدب والخير والشر والسعادة والشقاوة والحياة والموت وغير ذلك
كلها تجري بقضاء الله وتقديره وإرادته.
ونوًمن بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا كما وصف تعالى نفسه في كتابه
العزيز، وعلى لسان رسوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ } فلا سمي ولا كفؤ ولا ند له ولا يقاس بخلقه، تعالى وتقدس، وهو
أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلًا وأحسن حديثًا، وهو تعالى ذو الكمال المطلق
من جميع الوجوه.
ونؤمن أن القرآن العظيم كلام الله تكلم به حقيقة وأنه منزل غير مخلوق، منه
بدأ وإليه يعود، قال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ،
وقال: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } وقال: { وَالَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ }{ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ } .
ونؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أحوال الناس بعد الموت وبنعيم القبر
للمؤمنين وعذابه للمجرمين يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ونؤمن بحوض النبي صلى الله عليه وسلم ترد عليه أمته أهل السنة
والجماعة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لم
يظمأ بعدها أبدًا، وأن الصراط منصوب على متن جهنم يمر عليه الناس على قدر
أعمالهم الصالحة.
ونؤمن بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الآخرة وهو أول شافع ومشفع
بعد الإذن لقوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ } وقوله تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى }
وهو تعالى يرضى عن أهل التوحيد ويأذن بالشفاعة لهم، وأما المشركون فليس
لهم من شفاعته نصيب لقوله تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ
الشَّافِعِينَ } ، اللهم شفع فينا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم واختم
لنا بخاتمة السعادة أجمعين، اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وأوليائك
المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم.
الاستجابة لله ولرسوله وأثرها
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أعدّ الجنة بمقتضى فضله وكرمه لعباده المؤمنين، وأعدّ النار بمقتضى عدله وحكمته للعصاة والكافرين، أحمده سبحانه لا أحصي ثناءً عليه وأستغفره، وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وأصلى وأسلم على أفضل خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وكل من دعا بدعوته صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين.أما بعد : فيقول الله جلت قدرته وتعالت أسماؤه { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } عباد الله : في هذه الآية الكريمة ينادي الله عباده المؤمنين بأجلّ الأسماء وأحبها إليهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يناديهم مذكرًا لهم ما اتصفوا به من إيمان وما تحلّوا به من فضائل من لازمها وطابع المتحلّي بها أن يستجيب لأمر الله طائعًا رغبًا ورهبًا، فيقول سبحانه: { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } ، أي أطيعوا الله واستقيموا واثبتوا على شرع الله وما جاءكم به رسول الله مهما كانت الأحوال أو قست الظروف إذا دعاكم الله ورسوله لما يحييكم.
والذي به حياتنا ودعينا إلى الاستجابة له والانقياد هو الإيمان، هو السنة والقرآن، هو الحق. وهذا إخبار صادق ووعد من قادر على الوفاء لا يخلف الميعاد بأن المستجيب للحق سيحيا حياة طيبة، حياة عزّ وعمل: نعم، سيحيا يتلألأ له نوره وضاءً في الدنيا بنور البصيرة وسكنى القلوب، وبقاء الذكر والثناء الجميل، وفي الآخرة سيحيا حياة الخلود ونعم الحياة { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ } .
فاتقوا الله- أيها المسلمون- واستجيبوا لله ولرسوله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، في العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرة عليكم؛ استجِيبوا لله ولرسوله بإقامة الحدود: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ } بإقامة العدل في أرض الله وبين عباده كل بحسبه وبقدر ما وَلِيَ، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ، بإقامة الجهاد عسكريًا وثقافيًا .. فعدّوكم أيها المسلمون إن لم تغزوه غزاكم، وفي غزوه لكم عسكريًا قضاء على الحياة الحسيّة، وفي غزوه ثقافيًا قضاء على الروح المعنوية- عياذًا بالله- فاستجيبوا لله ولرسوله، فليس ثم لمن لا يستجيب إلا العار في الدنيا والنار في الآخرة، ولا جرم فلئن كانت الاستجابة لله ولرسوله نورًا فإن عدمها لظلام، لئن كانت الاستجابة حياةً فإن عدمها لموت؟ لئن كانت الاستجابة لله ولرسوله عزًا وعلوًا فإن عدمها لذل وهوان { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } .
عباد الله : إن الحاكم العدل الرءوف بعباده آذننا من هذه الآية
بأنه أملك لقلوب العباد منهم، يقلّبها كيف يشاء { وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } .
روى البخاري عن عائشة قالت: « كانت يمين رسول الله: لا ومقلب القلوب » ،
وفي هذا الإيذان منه تعالى بأنه أملك لقلوبنا منا إثر الأمر لنا
بالاستجابة: إنذار وتحذير من التولي عن شرع الله وعدم الاستجابة له
ولرسوله، وإعلام بأن عدم الانقياد وعدم الاستجابة من عوامل الحيلولة بين
المسلم والاستقامة؛ بينه وبين معالم الحق، بينه وبين ما يشتهى: { فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } ، فاتقوا الله عباد الله وراقبوه
فإن مصيركم ومرجعكم إليه تعالى، وسيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته،
فإما جنة عرضها السموات والأرض أعدّت لمن استجاب وإما نار تلظى وعذاب أليم
وسوء حساب لمن لا يستجيب.
يقول سبحانه وقوله الحق { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ
الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ
لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } .
أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه أن يمنّ علينا بالاستجابة له ولرسوله،
وبالثبات على ما يرضيه إلى أن نلقاه تعالى، وأن يغفر لنا وللمؤمنين
والمؤمنات، إنه غفور رحيم (1) .
_________
(1) انظر أحاديث الجمعة لفضيلة الشيخ عبد الله بن حسن القعود 2 / 127.
وجوب تقديم محبة الله ورسوله على ما سواهما
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلوات الله وسلامه على خاتم المرسلين أحمده سبحانه وأتوب إليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحابته إلى يوم الدين.أما بعد : أيها المسلمون إنه لا يخفى على كل ذي لب أن الله تعالى قد ذم من كره ما أحبه وأحب ما كرهه تعالى، قال تعالى: { كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } فالواجب إذًا على كل مسلم عاقل موفق أن يحب ما أحبه الله ورسوله ويكره ما كرهه الله ورسوله لتحصل له السعادة والفوز الكبير ولا شك أن الإنسان لا يؤمن إيمانًا قويًا صحيحًا حتى يحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ولا يكون المؤمن مؤمنًا حقًا حتى يقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة جميع الخلق بل على محبة الأهل والولد والناس أجمعين، ولهذا جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين » ، ثم إن المحبة الصحيحة الصادقة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات، ولهذا قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ }{ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } والسبب في نزول هذه الآية الكريمة أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله إنا نحب ربنا حبًا شديدًا. فأحب الله أن يجعل لحبه علمًا فأنزل تعالى هذه الآية، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار » فمن أحب الله ورسوله محبة صحيحة صادقة من قلبه أوجب له ذلك بقلبه أن يحب ما يحبه الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك دل على عدم محبته الواجبة فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة.
عباد الله : اعلموا أن جميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى
الإنسان ونفسه على محبة الله ورسوله وكذلك البدع كلها إنما تنشأ من تقديم
الهوى على الشرع الشريف فكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة
الله ورسوله ومحبة ما يحبه ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان
ذلك نقصًا في إيمانه الواجب فيجب عليه التوبة من ذلك والرجوع إلى سنة
الرسول صلوات الله وسلامه عليه من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضاء
الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها فيجب على كل مؤمن صادق الإيمان محبة
الله ومحبة من يحبه من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء
والصالحين عمومًا ولهذا جاء أن من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يحب المرء
لا يحبه إلا لله ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل
الإيمان { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى }{ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } أستغفر الله لي ولكم
ولجميع المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم (1) .
_________
(1) انظر خطب الجمع لفضيلة الشيخ عبد الله الخليفي ص 5.
وجوب تحكيم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله باعث الرسل بآياته، المبين الحلال من الحرام .. المتفضل على عباده بجزيل الإنعام .. الذي أحل لنا الطيبات وحرم الحرام على أيدي رسله وأنبيائه الكرام .. أحمده سبحانه وتعالى على ما أنعم به علينا من النعم الجسام .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرم من صلى وصام. وطاف بالبيت العتيق ووقف بالمشعر الحرام .. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام عدد ما جلى النهار الظلام.أما بعد : فيا عباد الله .. اعلموا رحمني الله وإياكم أن الدين مرجعه إلى الله سبحانه .. فهو الحاكم فيه وقد أرسل بالهدى .. فهو الإمام الأعظم الذي لا يقبل الله إيمان الناس حتى يعرضوا أمر الدين عليه ويرجعوا في التحكيم إليه .. كما قال جل وعلا: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وقال عز من قائل: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } . فالله سبحانه وتعالى أقسم في كتابه العزيز بأنه لا يؤمن من لا يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ثم يرضى بحكمه ولا يجد في نفسه حرجًا مما حكم به.. وأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار لنفسه شيئًا بعد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.. إذا أمر فأمره حتم والله هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات .. قال تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } . فالطيب من كل شيء هو مختاره وأما خلقه فعام للنوعين وبهذا يُعلم عنوان السعادة للعبد وشقاوته .. فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ولا يألف من الأعمال إلا
طيبها..
فهو يعبد الله وحده لا شريك له بعبادته ويؤثر مرضاته على هوى نفسه ويحسن إلى خلقه ما استطاع فيعاملهم. مما يحب أن يعاملوه به وله من الأخلاق أطيبها كالحلم والوقار والرحمة والصبر والوفاء وسهولة الجانب والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقد والحسد والتواضع لأهل الإيمان والعزة.. والغلظة على أعداء الله ولا يختار من المطاعم إلا أطيبها وهو الحلال الهني الذي يغذي به البدن والروح أحسن تغذية ولا يختار من الأصحاب إلا الطيبين ويكون مثواه طيبًا.. فهذا ممن قال الله فيهم { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .. فالله جعل الخبيثات للخبيثين.. والخبيثون للخبيثات.. والطيبات للطيبين.. والطيبون للطيبات.. فالكلمات والأعمال.. والنساء الطيبات لمناسبيها من الطيبين .. والكلمات والأعمال والنساء الخبيثات لمناسبيها من الخبيثين.. وجعل الخبيث بحذافيره في النار.. وجعل الطيب بحذافيره في الجنة.. وجعل الدور ثلاثًا دارًا أخلصت للطيبين، وهي حرام على غير الطيبين وهي الجنة، ودارا أخلصت للخبيثين والخبيثات ولا يدخلها إلا الخبيثون وهي
النار، ودارًا امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدنيا وبهذا الابتلاء والمحنة وهذا كله بموجب الحكمة الإلهية فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله على حدة لا يخالطهم غيرهم.. وجعل الخبيث وأهله على حدة لا يخالطهم غيرهم. فعاد الأمر إلى دارين.. الجنة وهي دار الطيبين والنار وهي دار الخبيثين.. فأنشأ سبحانه وتعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم فجعل طيبات أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم هي عين نعيمهم ولذاتهم فأنشأ لهم منها أكمل أسباب النعيم والسرور وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عين عذابهم وآلامهم فأنشأ لهم منها أعظم أسباب العقاب والشقاوة وآلام العذاب.. فالله سبحانه جعل للسعادة والشقاوة عنوانًا يُعرفان به.. فالخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه.. والطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه.. وقد يكون في الشخص مادتان فأيهما غلب عليه كان من أهله. فإذا أراد الله بالعبد خيرا طهره من المادة الخبيثة قبل الوفاة فيوافي ربه يوم القيامة مطهرًا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار فيطهره منها ما يوفق له من التوبة والحسنات والمصائب المكفرة حتى يلقى الله..
وما عليه خطيئة، ويمسك عن الآخر مواد التطهير فيلقاه يوم القيامة
بمادة خبيثة ومادة طيبة وحكمة الله تأبى أن يجاوره أحد في داره بخباثته
فيدخله النار طهرة له وتصفية.. ولما كان المؤمن الطيب المطهر مبرأ من
الخبائث كانت النار حرامًا عليه.. فيا عباد الله تمسكوا بهدى نبيكم صلى
الله عليه وسلم واجعلوه أسوتكم وإمامكم في كل ما تعملون من أفعال وأقوال
ولا تميلوا إلى اتباع النفس والهوى والشيطان فإنكم في دار ابتلاء وامتحان
فطاعة الرسول طاعة لله.. والرسول يأمرنا بأمر الله يبين لنا الحلال من
الحرام.. وينهانا عن الانحراف واتباع الأهواء والضلال أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم (1) .
_________
(1) انظر الخطب المنبرية للشيخ إبراهيم آل يوسف 230.
أركان الإسلام الخمسة
الحمد لله رب العالمين ولي جميع الخلق بنعمه فهو المعبود بحق، إياك نعبد وإياك نستعين، أحمدك اللهم وأشكرك وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أهل العلم والهدى أما بعد: فيقول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . يأمر الله عباده المؤمنين بأن يعبدوه وحده، بأن يركعوا ويسجدوا له وحده، يأمرهم بأن يفعلوا الخير لعلهم يرشدون. فعل الخير هذا يا عباد الله فيه الأمر بالمعروف، فيه النهي عن المنكر، فيه العبادة والتوحيد لله سبحانه، فيه البر والإحسان، فيه النصح وهداية العباد وإرشادهم إلى صلاحهم وسعادتهم. كل ذلك يا عباد الله يأمرنا الله به ويرضاه لنا ويجازي عليه ويثيب من عمل به.عباد الله : بني الإسلام على أركان خمسة لا يكون الإنسان مسلمًا إلا إذا أقر بها وأداها كاملة بإيمان صادق وإخلاص. هذه القواعد الخمس أيها المسلمون: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه السبيل. فشهادة أن لا إله إلا الله تعني لا معبود بحق إلا الله. هي توجب أداء العبادات لله وحده، فلا دعاء ولا خضوع ولا خشوع إلا لله وحده، ولا استعانة ولا استغاثة إلا بالله وحده.
لا خوف ولا رجاء إلا من الله وحده، لا يجوز ولا يصح صرف شيء من ذلك لغير الله كائنًا من كان وإلا فالشهادة غير نافعة، وشهادة أن محمدًا رسول الله: طاعته في أمره حين يأمر، وترك نهيه حين ينهى، وتحكيم. شريعته، وقبول حكمه والرضى به: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } الصلوات الخمس في اليوم والليلة: فرائض الله آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين. أداؤها بإخلاص شرط لصحتها، وهي مقبولة إذا أديت كاملة بإيمان وخشوع وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا أقيمت في أوقاتها في بيوت الله وإلا لم تكن صلاة مقبولة: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وزكاة المال ركن الدين إذا أخرجت عن طيب نفس طهَّرت النفس وزكَّتها وزكت المال ونمته. أداؤها يبعد المسلم عن رذيلة الشح والبخل، وهي حق للفقراء والمساكين من المسلمين، جزء قليل من المال لا ينقصه، ومتى أخرج عن إيمان وإخلاص، طيبة به نفس المخرج وأعطي لمستحقه وأصحابه من الفقراء والمساكين وبقية المستحقين للزكاة إن وجدوا: تطيب
نفوسهم بذلك وترضى وتطمئن، وتطهر نفس المزكي وينمو ماله ويحفظ من الآفات. زكاة الجاه لمن أعطاه الله جاهًا لها أهميتها ووزنها عند الله: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اشفعوا تؤجروا » فاتقوا الله عباد الله في ذلك وأخلصوا له النية والعمل. صوم شهر رمضان فريضة الله عليكم، وأعمال العباد لهم إلا الصوم فإنه لله وهو سبحانه يتقبله من عباده المؤمنين ويثيبهم عليه والله عنده حسن الثواب. يدع الإنسان طعامه وشرابه، يمنع نفسه من الشهوات تقربًا إلى ربه وامتثالًا لأمره يرجو رحمته وعفوه وبره. والصوم يا عباد الله مع ذلك إمساك للجوارح عن ارتكاب الآثام، فصوم اليد إمساكها عن الإيذاء وتناول المحرمات، وصوم الرجل إمساكها عن السعي إلى الفساد والسعي إلى كل ما يغضب الله، وصوم اللسان إمساكه عن كل منكر ولغو وزور وغيبة، وصوم الأذن عدم الإصغاء إلى الإفك وعدم استماع الأكاذيب والنميمة والغناء والمزامير، وصوم العين عدم النظر إلى المحرمات عمومًا خاصة النساء الأجانب والتطلع إلى الأسرار والعورات وفي ذلك كله يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما الصوم
جنة فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل » .
أيها المسلمون : شهر رمضان خصه الله بالخير والبركة والإحسان، أنزل فيه
القرآن هدى للناس ورحمة، وفرض صيامه وسن قيامه رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: « من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له
ما تقدم من ذنبه » .
عباد الله : افعلوا الخير، واعملوا الصالحات، وتعرّضوا لنفحات ربكم فإن
لربكم في أيام دهركم نفحات. اسألوه المغفرة والهداية والتوفيق: أن يحفظ
عليكم إسلامكم ويظهره على الدين كله ويمكن لأهله وحماته. اللهم اجعلنا من
الفائزين بالمغفرة والعتق من النار (1) .
_________
(1) انظر من أحاديث المنبر لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل
الشيخ ص: 109.
الإسلام هو المنقذ
الحمد لله المتفرد بالقدرة والحكمة منزل الكتاب على عبده ليدبّر الناسُ آياته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:فقد أرسل الله عز وجل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وبعثه إلى الناس كافة شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
كان الناس يتيهون في بيداء الكفر والضلال، ويحيون حياة الجاهلية والفوضى، فلا حق يقام، ولا هدى يتبع، ولا قائد يقتفى أثره، أو مصلح ينقذ الناس بدعوته وكفاحه.
حتى بعث الله عز وجل النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فكان القائد المنتظر والمصلح المرجو والمنقذ المرتقب.
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أجل .. كان محمد صلى الله عليه وسلم منقذًا منتظرًا، ومصلحا مرتقبًا لأنه قد هدى الخلق من الضلالة، وأنقذهم من الجهالة، ودعاهم إلى الأخوة والإيمان وعبادة الملك الديان.
لما كانت دعوته حقًا وهدى ورسالة إصلاح وتحرير وبناء ولما كانت
القلوب ظامئة إلى الحق، متطلعة إلى النور، بعد أن لفها الباطل بظلامه فقد
تحقق للحياة الإصلاح المنشود، والسلام والنظام، وأسرع الناس إلى كنف
الإيمان وروضة الإسلام، ودخلوا في دين "الله" أفواجًا.
ثم تفتحت قلوبهم وانشرحت صدورهم ورأوا الهدى الذي ليس معه ضلال والحق الذي
لا يشوبه باطل، فاستمسكوا بما جاءهم من عند الله واتبعوا النبي الذي أرسله
لإنقاذهم، وأحبوه وآزروه، وكانوا أعوانًا في دعوته وجهاده، فقامت على
عواتقهم رحى المعارك والحروب، التي دارت على حزب الكفر، وعصبة الباطل
وأنصار الشيطان.
وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل "الله" الذي آمنوا بوحدانيته ووجوده واتبعوا
النور الذي أنزله، والرسول الذي أرسله، وفي ذلك يقول الله تعالى: { إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }{ لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا } .
أيها المسلمون: إن الإسلام هو النور الإلهي الذي محى ظلام الحياة
وأشرق في آفاق الدنيا وهو الدين القيم الذي ملأ القلوب الفارغة بالإيمان،
وعمرها باليقين والإخلاص، وهو الدعوة الخالدة التي هي دعوة إصلاح وتحرير
وبناء، في كل زمان ومكان.
أجل إن الإسلام دعوة خالدة لأنه صبغة الله وصنعته، ووحيه وحكمته وقد قال
عز وجل: { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } وقال سبحانه: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فأين أولئك الذين يوقنون بأن الإسلام حكمة
الله وصبغته، وأن القرآن تنزيله وكلمته، ثم يعملون بحكمه، ويعتصمون بحبله،
ويهتدون بهديه، ويأخذون بمناهجه الإسلامية الراقية، وسننه التشريعية
المتبعة، ودعوته الهادية الهادفة { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا
مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ }
يجب أن تعلموا أن الإسلام قد أنزله الله عز وجل ليكون العلاج
الناجح الحاسم لكل أدواء الحياة، والبلسم الذي يهب للإنسانية العافية من
الآلام والفتن والآثام.
والإسلام لازال إلى اليوم وحتى قيام الساعة دعوة إصلاحية هادية بناءة ليس
لها نظير ولا مثيل، تملأ الفراغ، وتقضي على الفوضى وتحقق الهدى وتقيم
العدالة وتمنع البغي والفساد وتفرض السلام والنظام وتوفر الأخوة والوفاق
والوئام.
وإن المسلمين اليوم لفي أمس الحاجة إلى دعوة الإسلام وهدى القرآن، إنهم في
حالة مزرية من التخاذل والضعف والحيرة والضلال، وركوب الآثام واتباع
الشهوات ولا منقذ لهم إلا الإسلام الذي جاء به هادينا ومنقذنا محمد عليه
الصلاة والسلام.
فكيف يضل المسلمون وعندهم كتاب الله تتلى آياته وسنة رسوله ينشر هداها؟
وكيف يشكون من فساد الأوضاع واضطراب الحياة وبين أيديهم حكمة الله العليم
الخبير؟ وفيها صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة وعز الحياة وطيب العيش
واستقراره.
وبعد: إنني أقولها لوجه "الله" ذي الجلال والإكرام، وفاء بحق
التبليغ الملقى عليّ: إن كتاب الله وسنة رسوله هما الحق الذي لا يأتيه
الباطل، واليقين الذي لا يتطرق إليه الشك، والنور الذي يمحق الظلمة،
والرشاد الذي ينفي الغي والضياع عن البشر أجمعين.
وإن المسلمين لن يلقوا خيرًا ولن يهبهم الله عزًا ونصرًا ولن يشعروا بطيب
الحياة واستقرارها إلا بالرجوع إلى الإسلام والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله.
وصدق عليه الصلاة والسلام حيث قال: « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد » .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم
ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
التوكل على الله
الحمد لله القوي المتين، الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله فإياه نعبد وإياه نستعين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد: أيها الناس اتقوا الله، واعتصموا بحبل الله، واتكلوا في أموركم كلها على الله، قال تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ، { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } ، { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } ، { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وقال صلى الله عليه وسلم: « إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » . فالاستعانة والتوكل عليه من أعظم واجبات الإيمان، وأفضل الأعمال المقربة إلى الرحمن، فإن الأمور كلها لا تحصل ولا تتم إلا بالاستعانة بالله ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تحول للعباد من حال إلى حال إلا بالله، ولا قدره لهم على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ولا مانع لهم من الشر والمعاصي إلا عصمة الله، وكذلك أسباب الرزق لا تحصل وتتم إلا بالسعي في الطلب مع التوكل على الله، قال صلى الله عليه وسلم: « لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانًا » . فوصف
صلى الله عليه وسلم المتوكل على الله بوصفين السعي في طلب الرزق والاعتماد القوى على مسبب الأسباب، فمن فقد الوصفين أو أحدهما خسر وخاب ومن سعى في الأسباب المباحة واعتمد على ربه وشكر المولى إذا حصلت له المحبوبات، وصبر لحكمه عند المصائب والكريهات، فقد فاز وأنجح واستولى على جميع الكمالات، من علم أنه فقير إلى ربه في كل أحواله كيف لا يتوكل عليه، ومن علم أنه عاجز مضطر إلى مولاه كيف لا يستعين به وينيب إليه، ومن تيقن أن الأمور كلها بيد الله كيف لا يطلبها ممن هي في يديه، ومن علم بسعة غناه وجوده كيف لا يلجأ في أموره كلها إليه، ومن استيقن أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يطمئن قلبه إلى تدبيره، ومن علم أنه حكيم في كل ما قضاه كيف لا يرضى بتقديره، فيا أيها العبد المقبل على الخير إنك لن تناله إلا ببذل المجهود، والاستعانة والاعتماد على المعبود، ويا أيها المجاهد نفسه عن المعاصي والذنوب، إنه لا يتيسر لك تركها إلا بقوة الاعتصام بعلام الغيوب، فإنه من توكل عليه كفاه ومن استعان به واعتصم أصلح له دينه ودنياه، ومن أعجب بنفسه وانقطع قلبه عن ربه خاب وخسر أُولاه وأُخراه، فكم من ضعيف عاجز عن مصالحه قوي توكله
على ربه فأعانه عليها، وكم من قوي اعتمد على قوته فخانته أحوج ما
يكون إليها، ما ثم إلا عون الله وتوفيقه فهو عدة المؤمنين، ولا فلاح ولا
سعادة إلا بعبادة الله والاستعانة به فهو المعبود حقًا وهو نعم المعين، {
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ } . { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا
اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
بارك الله لي ولكم (1) .
_________
(1) انظر الفواكه الشهية لفضيلة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص21.
وجوب إخلاص النية في الأعمال
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصًا له الدين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا ...أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وألزموا الإخلاص لوجهه في أعمالكم وأقوالكم فقد روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » . فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة إذا كان هذا العمل يفتقر إلى النية، والنية عند العلماء يراد بها معنيان - أحدهما تمييز العبادات عن العادات كتمييز الغسل عن الجنابة عن غسل التبرد والتنظف، وتمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر، مثلًا وتمييز صيام رمضان عن صيام غيره - والمعنى الثاني للنية تمييز المقصود بالعمل هل هو لله وحده، أو لله ولغيره - وهذا هو محل الاهتمام ومناط السعادة والشقاوة والثواب والعقاب - فقد يعمل الاثنان عملًا واحدًا في الصورة ويكون تعبهما متساويًا، لكن أحدهما يثاب والآخر لا ثواب له أو يعاقب نظرًا لاختلاف المقاصد. قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا }{ وَمَنْ أَرَادَ
الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ }{ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } ولهذا قال بعض العلماء: إنما تفاضلوا بالإرادات ولم يتفاضلوا بالصوم والصلاة. والهجرة من بلاد الكفر إلى بلد الإسلام من أفضل الأعمال لكنها لا تكون كذلك إلا بالنية لا بمجرد الانتقال من بلد إلى بلد من غير قصد ومقصود دنيوي، قال صلى الله عليه وسلم: « فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حبًا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهاره حيث كان يعجز عن ذلك في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقًا وقد وعده الله بالثواب العظيم. ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا أو للتزوج بامرأة فهذا ليس كالمهاجر إلى الله ورسوله وإنما هو تاجر أو خاطب وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاف مقاصد الناس في القتال من الرياء وإظهار الشجاعة والعصبية وغير ذلك أيُّ ذلك في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم: «
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » . وروى النسائي من حديث أبي أمامة قال « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه » ، ولا شك أن الاستشهاد في سبيل الله، وتعلم العلم النافع وتعليمه وإنفاق المال في سبيل الله من أفضل الأعمال وأشقها على النفوس لكن إذا ساءت نية القائم بعمل من هذه الأعمال صار من أهل النار، فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. فقال: ما عملت فيها قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى
ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها فقال: ما تركت من سبيل تحبه أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار » . ولما بلغ معاوية رضي الله عنه هذا الحديث بكى حتى غُشى عليه فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله قال الله عز وجل: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ } . قال الإمام ابن رجب رحمه الله ما ملخصه: واعلم أن العمل لغير الله أقسام. فتارة يكون رياءً محضًا بحيث لا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم قال الله عز وجل: { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } ، وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض في قوله: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ } ، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض
الصلاة والصيام وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من
الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا
يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون
العمل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على
بطلانه أيضًا وحبوطه وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء
وكان خاطرًا ودفعه فإنه لا يضره بغير خلاف.
فاتقوا الله عباد الله وأخلصوا أعمالكم لله وحده وابتعدوا عن الرياء
والمقاصد الدنيئة فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى
قلوبكم وأعمالكم.
عباد الله: إن إخفاء العمل وإسراره بين العبد وبين ربه أدعى إلى
الإخلاص وأبعد عن الرياء وقد جاء في الحديث أن: « من السبعة الذين يظلهم
الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تنفق يمينه » ، قال الله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } فالمؤمن إذا
تبرع لمشروع خيري فإنه لا ينبغي له أن يوافق على الإعلان عنه في الصحف
وغيرها إلا إذا كان القصد من ذلك حث الآخرين على التبرع أو كان هذا
الإعلان بغير علمه وبعض الناس إذا عمر مسجدًا كتب على بابه: عمر هذا
المسجد على نفقة المحسن فلان، وهذا لا ينبغي، ويخشى أن يفسد ذلك عمله
خصوصًا إذا كان قصده بذلك تخليد ذكراه.
فاتقوا الله يا عباد الله وأخلصوا لله أعمالكم، أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أَحَدًا } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. (1) .
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 2 / 273.
التوسل إلى الله بالوسائل النافعة
الحمد لله الرب العظيم، الرءوف الرحيم، ذي الفضل العظيم والإحسان العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكريم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي قال الله فيه: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم.أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أما التقوى هنا فهي اجتناب الكفر والفسوق والعصيان. وأما الجهاد في سبيله فهو بذل الجهد في مقاومة أهل الانحراف والإلحاد والكفران. وأما ابتغاء الوسيلة إليه فهي التقرب إليه بأصول الإيمان وشرائع الإسلام وحقائق الإحسان: مَن تعبد له أو دعاه بأسمائه وصفاته فذاك أفضل الوسائل. ومن توسل إليه بإحسانه ونعمه وجوده وكرمه فقد سلك مسلك الأصفياء الأفاضل. ومن تقرب إليه بترك معاصيه والعمل بما يرضيه فهو الذي لاشك إلى كل خير واصل، ومن توسل إليه بحاجته وفقره وضرورته فقد توسل إليه بخير الوسائل. ومن توسل إليه بذوات المخلوقين وجاههم فهو مبتدع ظالم، ومن دعا مخلوقًا أو استغاث به وزعم أنه يتوسل به إلى الله فهو مشرك آثم. فتوسلوا إلى ربكم بكثرة السجود والركوع، وتوسلوا إليه بتلاوة كلامه بتدبر وخشوع، وتوسلوا إليه بالإحسان إلى الخلق فإنه يحب المحسنين، وببر الوالدين وصلة الأرحام فإن الله يصل الواصلين، ويقطع القاطعين توسلوا إليه بخوفه ورجائه والتوكل
عليه فإن الله يحب المتوكلين، وتوسلوا إليه باللهج بذكره
واستغفاره فيا سعادة الذاكرين، توسلوا إليه بمحبة نبيكم. وكثرة الصلاة
والسلام عليه، فمن أكثر الصلاة عليه كفاه الله همه وقضى حاجته، ومن صلى
عليه صلى الله عليه عشر أضعافها ونال حُبّه وشفاعته، توسلوا إليه بالحنو
على اليتامى والضعفاء، وتقربوا إليه برحمة البهائم فإنما يرحم الله من
عباده الرحماء، توسلوا إليه بسلامة الصدور من الفسق والغل والحقد على
المسلمين، وبالنصيحة والشفقة على الخلق أجمعين توسلوا إلى الله بترك ما
تدعو له النفس الأمارة بالسوء من الهوى والتبعات، وبغضّ الأبصار وصيانة
اللسان والبعد عن جميع المحرمات، توسلوا إلى الله بكمال الإخلاص للمعبود
والمتابعة للرسل. لتدركوا كل مطلوب ومرغوب ومأمول بارك الله لي ولكم في
القرآن العظيم (1) .
_________
(1) انظر الفواكه الشهية لفضيلة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص 36.
التحذير من النفاق وذمه
الحمد لله الذي حذر من النفاق، وأمر بمكارم الأخلاق، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تنجي من قالها وعمل بها من شر يوم التلاق، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد: أيها الناس اتقوا الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر » . رواه البخاري ومسلم .
النفاق مرض خطير، وداء وبيل وموجب لمقت الله وعقوبته فيجب على كل مسلم أن يزن نفسه بميزان هذا الحديث ليرى هل هو سالم منه أو واقع فيه. والنفاق يا عباد الله بتعريفه الجامع هو: إظهار الخير وإبطان الشر، وينقسم إلى قسمين: نفاق أكبر وهو النفاق الاعتقادي بأن يظهر الإنسان أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويبطن في قلبه الكفر بذلك أو بعضه. وهذا هو النفاق الذي نزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار. وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها من الكفر وعدم الإيمان والاستهزاء بالدين وأهله. وميلهم إلى أعداء الدين لمشاركتهم لهم في عداوة الإسلام والمسلمين. وهؤلاء يسعون في إغراء العداوة بين المسلمين. ومن صفاتهم الذميمة أنهم بخلاء أذلاء سفهاء. ظواهرهم جميلة بسمن أبدانهم ونظافة ثيابهم، وحلاوة حديثهم، وبواطنهم قبيحة ممتلئة بالكبر والحسد والرياء وسائر الأمراض النفسية: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ، قد فضحهم الله وهتك أستارهم في سورة براءة وغيرها من سور وآيات القرآن الكريم ليعرف المسلمون حقيقتهم ويحذروهم ويجاهدوهم مع الكفار والمشركين: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
عباد الله: هذا هو النوع الأول من نوعي النفاق وهذه بعض صفات أهله، والنوع الثاني النفاق الأصغر، وهو النفاق العملي بأن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالفها من الغدر والخيانة. وهو المذكور في الحديث الذي سمعتموه قريِبًا. وهذا النوع وإن كان لا يخرج من الدين بالكلية لكنه طريق إلى النفاق الأكبر فقد يوصل إلى الكفر ويجر إلى الضر. وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذا الحديث التي أحدها الكذب في الحديث: « إذا حدث كذب » والكذب في الحديث يشمل الحديث عن الله ورسوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } ، وقال صلى الله عليه وسلم: « من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار » ، ومن الكذب على الله ورسوله أن يقول هذا حلال وهذا حرام من غير دليل عن الله ورسوله، ويشمل ذلك أيضًا الكذب فيما يخبر به من الأخبار ويحدث به الناس، فمن كان هذا شأنه فقد هبط عن رتبة الصادقين إلى درك الكاذبين وسيجره كذبه هذا إلى الفجور، وسيجره الفجور إلى النار. فلا تتساهلوا في شأن الكذب- أيها المسلمون - فإن قليله يجر إلى كثيره ومن أكثر من شيء عرف به . الزموا الصدق فإن من لزم الصدق نجا قال الله
تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } ، وقال تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } .
الخصلة الثانية من خصال المنافق أنه : « إذا اؤتمن خان » أي إذا كانت عنده
أمانة من الأموال أو الحقوق أو الأسرار أضاعها ولم يحفظها ، فأكل الوديعة
أو جحدها ، أو أهدر الحقوق وأفشى الأسرار . وإذا ولى عملاً من أعمال
المسلمين تلاعب فيه بالمحاباة وأخذ الرشوة وتعطيل مصالح المسلمين .
الخصلة الثالثة من خصال المنافق أنه : « إذا عاهد غدر » فهو ينكث العهود
التي بينه وبين الله والعهود التي بينه وبين الخلق ، فلا يفي بالعهد الذي
أمر الله بالوفاء به في قوله تعالى : { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
} وقوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } والغدر
بالعهود حرام حتى ولو كانت المعاهدة مع الكفار فقد أمر الله بالوفاء
بعهودهم إذا قاموا عليها ولم ينقصوا منها شيئًا ، فما بالك بالعهود مع
المسلمين ومن أعظمها عهد الإمام .
وكذلك جميع العقود الجارية بين المسلمين في المبايعات والإجارات وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان » ، ومن صفات المنافق أنه « إذا خاصم فجر » فلا يتورع عن أموال الخلق وحقوقهم فيخاصم بالباطل ليستولي على حق غيره ويضلل الحاكم بشهادة الزور والأيمان الكاذبة والوثائق المصطنعة ، فإذا كان ذا قدرة عند الخصومة فإنه ينتصر للباطل ويخيل للسامع أنه حق ويخرج الحق في صورة الباطل وهذا من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق .
عباد الله : من تجمعت فيه هذه الصفات القبيحة : الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة والغدر في العهود والفجور في الخصومات لم يبق معه من الإيمان شيء وصار منافقًا خالصًا فهي بمنزلة الأمراض الخطيرة التي متى تجمعت في جسم أفسدته وقضت عليه ومن كانت فيه خصلة واحدة منها فقد اتصف المؤمن بصفة من صفات المنافقين فقد صار فيه إيمان ونفاق فإن استمرت فيه هذه الخصلة الذميمة فهي حرية أن تقضي على ما معه من الإيمان فإنها بمنزلة الداء الخبيث الذي يحل بالجسم فإن لم يسع في علاجه وإزالته قضى على الجسم ، وإن تاب إلى الله وترك هذه الخصلة الذميمة واتصف بضدها من صفات الإيمان برئ من النفاق وتكامل إيمانه وهذا شأن المسلم . فالحديث فيه الحث على التوبة من النفاق ومن صفات المنافقين والاتصاف بصفات المؤمنين الصادقين . لأنه يجب على المؤمن أن يتطابق ظاهره مع باطنه على الإخلاص والصدق في الأقوال والأفعال في جميع الأحوال وفي جميع المواقف فيكون قدوة حسنة ومثالاً صادقا للمؤمن الذي يعتز بإيمانه ويحافظ على دينه فيصدق في حديثه ويرعى أمانته ويفي بعهده ويصدق في وعده ويعدل في خصومته .
عباد الله : إن النفاق الأكبر إنما يوجد في حال قوه المسلمين
يتقمصه أناس يريدون أن يعيشوا مع المسلمين فيأمنوا على دمائهم وأموالهم ،
فيظهرون الإسلام مع بقائهم على الكفر باطنا ويتربصون بالمؤمنين الدوائر
ويعملون ضد المسلمين في خفاء ، وهذا النوع من النفاق لا يقع من مسلم .
أما النفاق الأصغر فإنه مستمر في كل وقت يقع من بعض المسلمين الذين ضعف
إيمانهم وهو الذي كان الصحابة يخافونه على أنفسهم ، كان عمر بن الخطاب
يسأل حذيفة بن اليمان عن نفسه هل عده الرسول من المنافقين قال البخاري في
صحيحه : قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه . ويذكر عن الحسن قال : ما خافه إلا مؤمن
ولا أمنه إلا منافق .
عباد الله : هكذا كان السلف يخافون النفاق الأصغر على أنفسهم لأنه وسيلة
النفاق الأكبر كما أن المعاصي بريد الكفر ، وكما يخشى على من أصر على خصال
النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقًا خالصًا . . فاتقوا الله في جميع
أموالكم والزموا الصدق في جميع تصرفاتكم : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } ، بارك الله لي ولكم في القرآن
العظيم أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 1 / 292 .
الإسلام ونواقضه
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا . وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس . وأمرنا بالتمسك بهذا الدين والثبات عليه إلى الممات . وحذرنا من التخلي عنه فقال سبحانه : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد : أيها الناس اتقوا الله تعالى . إن دين الله واحد وطريقه واضح مستقيم وأن الضلال طرق متشعبة ومتاهات كثيرة قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . وعلى كل سبيل من سبل الضلال شيطان يدعو إليه . فالسالك على طريق الحق تعترضه صوارف عن المضي في طريقه إلى طرق الضلال تارة بالترغيب وتارة بالترهيب فهو يحتاج إلى علم بالطريق المستقيم وعلم بتلك الطرق المضلة ، ويحتاج إلى صبر وثبات على الحق .
أيها المسلمون : والارتداد عن دين الإسلام إلى الكفر تارة يكون بترك الإسلام بالكلية إلى ملة من ملل الكفر . وتارة يكون بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام مع بقاء التسمي بالإسلام وأداء شعائره فيكون محسوبًا من جملة المسلمين وهو ليس منهم . . وهذا أمر خطير وموقف دقيق محتاج إلى بصيرة نافذة يحصل بها الفُرقان بين الحق والباطل والهدى والضلال . إذ كثيرًا ما يلتبس هذا الموقف على كثير من الناس بسبب جهله بنواقض الإسلام وأسباب الردة . فيظن أن من أدّى شيئًا من شعائر الإسلام صار مسلمًا ولو ارتكب شيئًا من المكفّرات وهذا الظن الفاسد إنما نشأ من الجهل بحقيقة الإسلام . وما يناقضه . وهذا واقع مؤلم يعيشه كثير من الناس في عصرنا هذا ممن لا يميزون بين الحق والباطل والهدى والضلال . فصاروا يطلقون مسمى الإسلام على من يؤدي بعض شعائره ولو ارتكب ألف ناقض . ولم يعلم هؤلاء أن من ادعى الإسلام ومارس بعض العبادات ثم ارتكب شيئًا من نواقضه فهو بمثابة من يتوضأ ثم يحدث فهل يبقى لوضوئه أثر .
إن الإسلام ليس مجرد دعوى بلا حقيقة ولا هو جمع بين المتناقضات . إن الإسلام دين الحق والصدق . إن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك . إن الإسلام وحدة كاملة لا تتجزأ لا بد من القيام بشعائره وحقوقه وتجنب نواقضه . إن الإسلام دين ودولة ، عبادة وحكم وعمل ، دعوة وجهاد ، وبالجملة فالإسلام يحكم جميع التصرفات والتحركات الصادرة من معتنقيه .
عباد الله : إنه لا يكون الرجل مسلمًا بمجرد الانتساب إلى
الإسلام مع البقاء على ما يناقضه من الأمور الكفرية . كما أنه لا يكفي مدح
الإسلام والثناء عليه من غير تمسك بأهدافه وعمل بأحكامه ، فاليوم
المنتسبون إلى الإسلام كثير ولكن المسلمين منهم بالمعنى الصحيح قليل .
واليوم نسمع كثيرًا ونقرأ كثيرًا من مدح الإسلام ولكن إذا رجعنا إلى مجال
التطبيق والعمل وجدنا الشُّقّة بعيدة : بين حقيقة الإسلام وبين كثير ممن
يمدحونه ويثنون عليه ! ! وإنه لمن الظلم الواضح والضلال المبين أن نطلق
اسم الإسلام على من لا يستحقه لمجرد أنه يدعيه أو يمدحه ويثني عليه وهو
بعيد عنه بأفعاله وتصرفاته . . كما أنه من الظلم الواضح والضلال المبين أن
نصف بالإسلام من هو مرتكب لما يناقضه من أنواع الردة لمجرد أنه يصوم أو
يصلي أو يمارس شيئًا من شعائره وهذا منا إما نتيجة جهل بحقيقة الإسلام أو
اتباع للهوى ! ! وكلا الأمرين خطير وقبيح .
عباد الله : إن نواقض الإسلام كثيرة وأسباب الردة متعددة لكننا نذكر منها
ما يكثر وقوعه اليوم في مجتمعاتنا لنكون على بينة منه لنحذره فمنها :
الشرك في عبادة الله تعالى : مثل ما يفعل اليوم عند القبور : من
التقرب إلى الموتى بطلب الحاجات منهم ، وصرف النذور لهم والذبح لأضرحتهم ،
والذبح للجن لطلب شفاء المريض . وهذا واقع اليوم ، وكثير فيمن يدعون
الإسلام ، والذي يذهب إلى البلاد المجاورة يرى هذا عيانًا . ومنه شيء يفعل
عندنا ، ويمارسه الذين يذهبون إلى المشعوذين والدجالين لطلب العلاج
فيأمرونهم بالذبح للجن فينفذون ذلك من غير مبالاة . والذبح لغير الله شرك
أكبر .
ومن أنواع الردة عن الإسلام الاستهزاء بشيء مما جاء به الرسول صلى الله
عليه وسلم كالذي يستهزئ بإعفاء اللحى أو بالسواك أو بالأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر أو بالجهاد أو غير ذلك . قال الله تعالى : { قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }{ لَا
تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } .
ومن أنواع الردة عن الإسلام الحكم بغير ما أنزل الله . فمن حكم بغير ما أنزل الله وهو يرى أنه أحسن من حكم الله ورسوله وأصلح للناس . أو يرى أنه مخير بين أن يحكم . بما أنزل الله أو يحكم بغيره من القوانين . فهو كافر مرتد عن الإسلام . قال تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، وسواء حكّم القانون في كل شيء أو حكّمه في بعض القضايا ما دام أنه يرى أن ذلك أصلح للمجتمع أو أنه أمر جائز فهو كافر بالله ، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم ، وكذلك الذي يطلب التحاكم إلى غير الشرع قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } ، إلى قوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، وهذا خطر داهم المسلمين اليوم فإن
كثيرًا من الحكام نبذوا كتاب الله واستبدلوه بقوانين استوردوها من الغرب وحكموا بها بين الناس . فيجب على المسلم أن يعرف حكم الله في هؤلاء ويحكم به عليهم ، ولا يرضى بفعلهم .
ومن نواقض الإسلام ترك الصلاة ، فمن تركها جاحدًا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين ومن تركها وهو يقر بوجوبها ، لكن تركها من باب الكسل فهذا يؤمر بها ويدعى إليها فإن أبى أن يصلي واستمر على تركها فهو كافر على الصحيح . قال تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } ، وقال تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } ، فدلت الآيتان على أن من لم يقم الصلاة لا يخلى سبيله بل يقتل وليس هو من إخواننا لأنه كافر . وقال تعالى عن أهل النار : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ، إلى قوله تعالى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } ، فأخبر أن من جملة الأسباب التي دخلوا بها النار ترك الصلاة وأخبر أنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين فدل على أنهم كفار لأن المسلم تنفعه شفاعة الشافعين بإذن الله ، وقال صلى الله عليه وسلم : « العهد الذي بيننا وبينهم - يعني الكفار - الصلاة » ، فدل الحديث على أن الصلاة هي الفارقة بين الكافر والمسلم فمن لم يصل فليس بمسلم . . وقال صلى الله عليه وسلم : « بين العبد وبين الكفر أو
الشرك ترك الصلاة » ، وهذه نصوص من كتاب الله وسنة رسوله تدل على كفر تارك الصلاة وخروجه من الملة ولو كان يدَّعي الإسلام ويقيم مع المسلمين ، وقد كثر اليوم ترك الصلاة وعدم المبالاة بها مع العلم أن تاركها لا حظّ له في الإسلام بل يستتاب فإن تاب وأقام الصلاة وإلا قُتل مرتدًا لا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه أقاربه بل يصادر ماله لبيت مال المسلمين . وكذلك يجب أن يفرق بينه وبين زوجته المسلمة وإن المسلمة لا تحل لكافر قال تعالى : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، فلا يجوز أن يزوج من مسلمة ولا يجوز أن تبقى معه مسلمة في عصمته . ولو أن حكم الله نفذ في هؤلاء وطهرت منهم بلاد المسلمين وبيوت المسلمين لارتدع الناس عن هذه الجريمة ولم يجد هذا المجرم مكانًا له في مجتمع المسلمين . ولكن حينما أغمض المسلمون أعينهم عن هؤلاء وتركوهم يساكنونهم في بيوتهم ويتزوجون من نسائهم صارت جريمتهم من الأمور المعتادة التي لا تستنكر فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
أيها المسلمون : ومن نواقض الإسلام التي كثر انتشارها اليوم في المجتمعات الإسلامية اعتناق المبادئ الهدَّامة : كالشيوعية والاشتراكية والقوميات المناهضة للإسلام فمن استصوب شيئًا من هذه المبادئ أو دافع عنه أو أعان أهله على المسلمين فقد ارتد عن دين الإسلام ولحق بالكفار فلنكن على بصيرة من ديننا وبينة من أمرنا ، لنعرف ما هو الإسلام وما هي نواقضه حتى نحذر منها ومن أهلها ، اللهم بصّرنا بالإسلام وثبتنا عليه إلى يوم نلقاك غير مبدّلين ولا مغيرين يا رب العالمين ، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ }{ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . بارك الله لي ولكم في القرآن
العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا القول
وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 1 / 21 .
الدعاء لولاة الأمور
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، والحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه ، وأبان آياته ليعرفوه ، وسهل لهم طريق الوصول إليه ليصلوه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن نبينا وإمامنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله ، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرًا ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد : أيها الناس اذكروا الله ذكرًا كثيرًا ، وسبحوه بكره وأصيلًا ، واعلموا رحمكم الله أن الذكر هو أحب الكلام إلى الله ، ففي الحديث الذي يرويه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده » رواه مسلم ، فذكر الله يحيي القلوب وينورها ويزكى النفوس ويسعدها .فأكثروا من ذكر الله ومن دعائه والتضرع إليه " والدعاء هو العبادة " وليس شيء أكرم على الله من الدعاء ، ولا يرد القضاء إلا الدعاء .
فاسألوا الله حوائجكم صغيرها وكبيرها عاجلها وآجلها ، وانتظروا
الفرج من الله . قال تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً }
، ثم اعلموا أيها الإخوة المؤمنون أن المرء يؤجر إذا دعا لأخيه المسلم
بظهر الغيب قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْإِيمَانِ } وعن أبي الدرداء - عويمر بن زيد - رضي الله عنه أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر
الغيب إلا قال الملك : آمين ولك بمثل » رواه مسلم .
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « دعوة
المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل كلما دعا
لأخيه بخير قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل » رواه مسلم .
وأثر عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يدعو لسبعين من أصحابه
يسميهم بأسمائهم ، وفي هذا العمل علامة على سلامة الصدر . وإذا كان هذا
مما يؤجر عليه وهو الدعاء لأخيه المسلم ، فلا شك أن الدعاء لمن ولاه الله
أمر المسلمين ، - وولايتهم بالاستقامة والرشد والصلاح - أكثر ثوابًا وأعظم
أجرًا ، بل هو من النصيحة الواجبة على المسلم كما جاء في الحديث الذي
يرويه تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« الدين النصيحة " قلنا لمن ؟ قال : " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامتهم » رواه مسلم .
والدعاء لهم أوجب إذا قاموا بتحكيم شرع الله والدعوة إلى سبيله والتحذير
من مخالفته ، كما نرى ذلك في المملكة العربية السعودية من تطبيق لشرع الله
والدعوة إلى سبيله فينبغي للعبد المؤمن أن يتقرب إلى الله بالدعاء لهم في
كل وقت لأن صلاحهم صلاح للأمة وفسادهم فساد للأمة .
ولذا ينبغي التنبه لما قد يقع فيه بعض من لا علم له من الوقيعة والطعن على
الأئمة ولعنهم ويجعل من ذلك مادة يقضي بها وقته وهو بذلك يقع في الإثم .
وفرق بين النصح الرشيد والتهجم والطعن والسب ؛ لأن النصيحة لولاة
الأمور والأئمة ضرورة ، أما لعنهم وسبهم ففيه خطر التمزق وضياع الحقوق
وهذا مما يفرح أعداء المسلمين ويثلج صدورهم . ثم اعلموا رحمكم الله أن
صلاح الأئمة صلاح لشعوبهم وعن أبي أمامة رضى الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : « لا تسبوا الأئمة وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم لكم
صلاح » . (1) وفي هذا الحديث تأكيد لما ينبغي عليه المسلم أن ينصح وأن
يدعو الله بالصلاح لمن ولاه الله أمر المسلمين .
وهو من اجتماع الكلمة التي حث أمته عليه صلى الله عليه وسلم . فعن أم
الحصين الأحمسية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات
وهو يقول : « ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوه
» قال عبد الله ( يعني ابن أحمد بن حنبل رحمه الله ) وسمعت أبي يقول : إني
لأرى له السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره " ، رواه مسلم
وأحمد وابن ماجه وغيرهم .
_________
(1) قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط والكبير عن شيخه ولم أعرفه ،
وبقية رجاله ثقات .
وكان الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة يقول : لو
كانت لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان ، وهذا من فقهه وسعة علمه - رحمه
الله - فصلاح السلطان صلاح للبلاد والعباد وظهور الخيرات ونزول البركات
وعلو أهل الصلاح وقمع أهل الفتنة والفساد .
بل إن هذا من التعاون على البر والتقوى ، ومن اجتماع الكلمة ، وسبب في
تأليف القلوب وشفقة السلطان على رعيته .
فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : « خيار أئمتكم من تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم
، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم . قلنا : يا
رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : لا ما أقاموا لكم الصلاة ألا ومن
ولي عليه أمير والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فلينكر ما يأتي من
معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة » رواه أحمد وأخرجه مسلم بألفاظ
متقاربة .
فعلينا عباد الله أن نتقي الله فيما نأتي وما نذر ، وأن نجعل الله نصب أعيننا ونسأله صلاحنا وصلاح من ولاه الله أمرنا ، وأن يجعل ولايتنا فيمن خافه واتقاه واتبع أمره ورضاه ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا }{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } . بارك الله لي ولكم في القرآن العظِيم ، ونفعني وإياكم . بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .
ما لولاة الأمور وما عليهم من حق
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون ، وبعدله ضلّ الضالون ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، أحمده تعالى وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد : - فيا عباد الله - لقد جاء دين الإسلام إكرامًا للبشرية ورحمة بها ، جاء ليرتب وينظم أمور الناس ، مادية وروحية ، ويقيمها على أسس إصلاحية وقواعد ثابتة ، جاء ليبين للناس أسباب العطب فيجتنبوها وأسباب النجاة فيسلكوها .وإن مما أوضحه وأبانه الإسلام علاقة الإنسان بربه ، وعلاقة الإنسان بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وعلاقته بأميره ورئيسه ، يقول سبحانه : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } والمراد بأولي الأمر كل من له ولاية شرعية ، سواء كان الإمام العام ، أو العالم الشرعي ، أو الأمير ، أو الرئيس الخاص بالإنسان .
عباد الله ؛ إن الله جلّت قدرته قد أوجب لولاة الأمور الشرعيين بهذه الآية ، وما في معناها ، حقًا عظيمًا ، بالقيام به تسعد الأمة الإسلامية ، ويستتب لها الأمن ، ويسود السلام ، أوجبه من هو عالم بأسرار الكون ، وطبائع البشر التي لا تصلح ولن تصلح بدون إمام أو مع إمام منازع ؛ أوجبه حفاظًا على الحياة الاجتماعية ، ورعاية وحماية لها من فوضى الجاهلين ، وطيش المفسدين ، « إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن » ، أوجبه وجعله طاعة له سبحانه وقربة إليه ، طاعة مؤكدة معروفة يجب الإتيان بها في العسر واليسر ، والمنشط والمكره والاستبداد ، إلا إذا أمر الإنسان بمعصية الله ، أو فوق المستطاع ، فلا سمع ولا طاعة إذًا لمخلوق في معصية الخالق ، يقول صلى الله عليه وسلم : « وعلى المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إلا إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » ، وإن شيئًا - يا عباد الله - أمر الله به ورتب عليه سبحانه مصلحة عظمى في الدنيا ، وأجرًا مضاعفًا في الآخرة ، لجدير بأن يكون موضع رعاية المؤمن واهتمامه .
وخير ما يقوم به ولاة الأمر بل أعظم ما يجب عليهم تحكيم شرع الله والقيام به وإرشاد الناس إلى عبادة الله وحده وترك ما سواه ليتحقق على أيديهم الخير العظيم ولتتنزل عليهم بركات من السماء والأرض وخير مثال على ذلك في العصر الحاضر ما قامت عليه المملكة العربية السعودية إذ قامت على التآزر التام والتعاون المبارك بين القيادة والدعاة لتطبيق شرع الله وتحكيمه في واقع الناس فتوافرت لهذه الدولة النعم وتوالت عليها المنن وعاشت حكومة وشعبًا بأمن وأمان ورغد عيش .
فاتقوا الله - أيها المسلمون - وتقربوا إلى الله بما أمركم به من طاعة ولاة الأمور ، ومن الدعاء لهم ، والتعاون معهم على البر والتقوى ، والصبر عليهم ، ما أطاعوا الله ورسوله وأقاموا شعائر دينه ، فما نزعت يد من طاعة إلا صافحها الشيطان وعرضها لفتنة عمياء ، وموت جاهلية جهلاء ، والعاقل يدرك خطورة عصيان الأئمة الشرعيين ، وما تأتي به منازعتهم أو الخروج عليهم من شر ، وما يترتب على ذلك من مفاسد عظمى لا يعلم مداها - على الحقيقة - إلا الله سبحانه ، وتفاديًا لهذا الشر ، ودرءًا له عن الأمة الإسلامية ، قال هادي البشرية عليه الصلاة والسلام : « من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة فمات ، فميتته ميتة جاهلية » وقال : « اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة » ، وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : « بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله » . قال : - يعني رسول الله - « إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان » .
يا عباد الله : يا من في أيديهم شيء من ولاية ، إن الحكم العدل سبحانه ، كما أوجب لكم حقًا على من لكم عليه ولاية ، وأمره باحترامه والقيام به ، فكذلكم أوجب عليكم حقًا لمرءوسيكم ومن في سلطانكم ، ومن تحت رعايتكم ، وآذنكم بخطورته ، وعظم مسئوليته على لسان رسوله بقوله صلى الله عليه وسلم : « كلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته » ، فاتقوا الله فيما استرعاكم الله فيه ، وأدوا ما أوجبه الله عليكم من حقوق مرءوسيكم ورعاياكم تكونوا من خير الأئمة الذين قال الرسول فيهم صلى الله عليه وسلم « إن خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم » وتبتعدوا عمن عناهم صلى الله عليه وسلم بقوله : « وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم » .
وإن أعظم تلكم الحقوق إقامة العدل بينهم ، والإحسان بهم ، وخفض الجناح لمؤمنهم ؛ يقول تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ويقول : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } ويقول : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } كما أن من حق الرعية عليكم أن تحوطوهم بالنصح ، وأن تسعوا بإخلاص وجد فيما يجلب لهم النفع ، ويدرأ عنهم الضرر ، وأن تتجنبوا كل ما يثير نفوس أفراد الرعية ، ويعرضهم للحقد والمنازعة كالاستئثار بالمصالح ، ومعاملتهم بالشدة والقسوة ، وتكليفهم ما يعنتهم ويشق عليهم ونحو ذلكم ، مما يسبب بغض الرعية للراعي ، ويعرضه للمنازعة في الدنيا ، وللعذاب الأليم في الآخرة . يقول صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه البخاري ومسلم : « ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته ، إلا حرم الله عليه الجنة » وفي رواية لمسلم : « ما من أمير يلي أمور المسلمين ، ثم لا يجهد لهم وينصح ، إلا لم يدخل معهم الجنة » .
وروي عن عائذ بن عمرو - رضى الله عنه - أنه دخل على عبيد الله
ابن زياد ، فقال : أي بني : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
« إن شر الرعاة الحطمة ، وإياك أن تكون منهم » والحطمة : هو الشديد الغليظ
القاسي ، قليل الرحمة والشفقة والحنان ويقول مستجاب الدعوة - صلى الله
عليه وسلم - : « اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه ،
ومن ولى من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به » .
أقول قولي هذا ، وأسأل الله تعالى أن يوفق ولاة أمور المسلمين ، وحماة
الإسلام لما فيه صلاح دينهم ورعاياهم . إنه تعالى خير مسئول ، غفور رحيم .
(1)
_________
(1) أحاديث الجمعة ص 39 - 41 .
ضرر تفريق الكلمة
الخطبة الأولى : الحمد لله رب العالمين والحمد لله الذي هدانا لدين الإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الحمد في الآخرة والأولى ، وله الحكم وإليه ترجعون . وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ، أرسله رحمة للعالمين { شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }{ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن اهتدى بهديه ودعا بدعوته . أما بعد : فإن الله تعالى خلق الإنسان وجعل فيه مقومات الفهم والتمييز ، والعقل والإدراك ، فهو يعرف النافع من الضار ، والطيب من الخبيث ، وأعطاه قوة عملية ، يختار بها ، فبرغبته يختار ، وبإدراكه يميز ، وطريق الله مستقيم ، ومعتدل واضح منير ، على اتجاه واحد ، إلى رب العالمين ، وما عداه فطرق منحرفة ملتوية معوجة . لها فروع ومنافذ ، تؤدي إلى متاهات ، وظلمات ، وكل إنسان بقدرته الاختيارية يختار الطريق التي يسلكها في هذه الحياة ، ولن يخرج عن النظام القدري العام : « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » .(1) ليس أمام الإنسان إلا واحد من طريقين . إما طريق الخير
الموحد المستقيم ، أو طريق الضر بشعبه وأقسامه وانحرافاته ، وضلالاته ،
ومتاهاته ، وإذا أراد الإنسان أن يطبق الجزئيات على القواعد ، فلينظر إلى
الأقوال والأفعال ، فإنها تعبر عن عقيدة المرء وسريرته .
والعلمانية العالمية . هي أخفى منظمة يهودية شيوعية مشتركة . تعمل بسرية
مكتومة ، وخفاء ، تعمل لهدم الإيمان وعقيدة التوحيد ؛ وتفريق كلمة
المسلمين ، وإثارة الخلافات والمشاحنات والشقاق بين الأمة المسلمة ،
والعائلة الواحدة ، تفرق بين الشعوب والحكومات ، تفرق بين الرئيس والمرءوس
، وبين الأب وابنه ، والأخ وأخيه ، وبإثارة الخلافات في مسائل في
المعاملات ، والعبادات ، والعقائد ، والميول والاتجاه ، وهى بعملها هذا
إما أن تحرف المسلمين - حكومة وشعبًا - عن صراط الله المستقيم ، إلى
المتاهات والظلمات ، فتضعف قوتها ، وتتفرق كلمتها ، فلا تقاوم أعدائها ،
أو أنها تجعل بأس الأمة بينها فتتضارب الآراء والأفكار ويشتد الجدل
وأخيرًا إلى شر مستطير .
_________
(1) إشارة إلى حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما ، أخرجه الشيخان في
صحيحيهما : البخاري برقم ( 7551 ) التوحيد باب ( 54 ) : 13 / 521 ( الفتح
) ، ومسلم في الصحيح رقم ( 6 ) ، ( 7 ) ، ( 8 ) كتاب ( القدر ) من هذا
الوجه واللفظ .
والأمور إذا عولجت في أول أمرها قضي عليها بسهولة ، أما إذا
استهين بها حتى تمتد أغصانها وتبث عروقها ، وتقوى أعوادها فبعد هذا يحتاج
الأمر إلى مشقة وعناء ، وقد منّ الله تعالى على هذه البلاد ، بأن جمع كلها
، ووحد صفوفها ، وطهر عقيدتها على يد جلالة الملك عبد العزيز بن عبد
الرحمن آل سعود غفر الله له وطيب الله ثراه وجزاه عن الإسلام والمسلمين
خير الجزاء ، فنتج عن ذلك ما نرفل فيه من الأمن والرخاء والدعة ، والسكون
والهدوء والعز وجمع الشمل وتوحيد الكلمة ، وإخلاص العبادة لله وحده ،
واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غضة طرية ، كما جاء بها حبيبنا
وقرة عيوننا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، والأمة الإسلامية
محسودة بهذه النعمة بصفة عامة .
لذلك فإن الحاسدين يعملون بكل جد ونشاط وبكل أسلوب وإغراء ، وبكل إرجاف
وتخويف وبكل شيطان مريد ، لتفريق الكلمة وشق العصا وتصديع الصف ، وبلبلة
الأفكار ، وإثارة الخلافات الفقهية والعقائدية الميتة المدفونة ينبشونها
من قبورها ، لتكون هي القائد في تحقيق أهدافهم الماسونية الخبيثة
ومخططاتهم الصهيونية الشيوعية المشتركة .
لم يبق في العالم أمة مسلمة ، تحكم بشرع الله وبرسالة محمد صلى
الله عليه وسلم إلا هذه البلاد ، لذلك فإن كل القوى المعادية للإسلام
مركزة عليها .
ويجب أن يعلم المسلمون وولاة الأمر ، أنه لا ناصر لهم إلا الله وحده ، ولا
عز لهم إلا بالله وحده ، ولا مؤيد لهم إلا الله وحده ، ولا ينصرهم إلا من
كان على دينهم وعقيدتهم .
وإننا نأسف كل أسف ، ونحزن الحزن العميق أن يكون من بين قوى الأمة المسلمة
( من يرفل في خيراتها وينعم في رخائها . ويسعد بأمنها واستقرارها ويتمتع
بخصوصيته في ثقة المسئولين فيه ، فإذا به يتابع الفرقة التي تثير الخلافات
وتشق العصا ، وتنقر في أصل الدولة الذي بنيت عليه ) من يحاول تدنيس
العقيدة الصافية ، والإيمان الخالص بالله ، والتصديق النقي برسول الرحمة
ونبي الهداية محمد صلى الله عليه وسلم .
إن المسئولية تقع على كل مسلم ، ويتأكد على القيادات الدينية ، ويتعين على
القيادة العامة أن تحافظ على كيانها ، ومقدساتها . ومقومات عزها ونصرها ؛
فاتقوا الله أيها المؤمنون . اتقوا الله أيها المسئولون . اتقوا الله يا
أنصار الإسلام .
نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ، وأن يعلى كلمته ، وأن يرفع راية
الإيمان قوية عزيزة كريمة خفاقة ، على جميع أقطار الدنيا ، وأن يحفظ
بلادنا وأمننا واستقرارنا ، وعقيدتنا من كيد الأعداء ودسائس المغرضين
الحاسدين ، وأن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها
معاشنا ، وآخرتنا التي إليها معادنا ، إنه جواد كريم ، فاستعينوا بالله
أيها المؤمنون واستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية : الحمد لله كثيرًا . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد : فيا أيها الناس : اتقوا الله تعالى واستمسكوا من الإسلام
بالعروة الوثقى . واحذروا سخط الجبار فإن أقدامكم على النار لا تقوى .
واعلم أخي المسلم أن لك نفسًا أمارة بالسوء تدعوك لشهواتها ورغباتها .
وتزين لك وساوس الشيطان وتحثك على اتباعها . فاحذر منها كل الحذر وتحصن
بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، واجعل لسانك مشغولًا بذكر الله
، وبدنك معمورًا بطاعة الله ، يحفظك الله من كل سوء ويهديك لكل خير وسعادة
.
واتق الله حيثما كنت يجعل لك من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا
ويرزقك من حيث لا تحتسب .
عباد الله : إن الله تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه : {
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وارض اللهم عن الأربعة
الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعن بقية الصحابة أجمعين ، وأهل بيته
الطيبين الطاهرين . وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وارض
عنا معهم بمنك وإحسانك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين واجمع كلمتهم ووحد صفوفهم ، واهدهم سبل
السلام ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور . اللهم انصر جيوش المسلمين وثبت
أقدامهم واربط على قلوبهم وانصرهم على القوم الكافرين . اللهم أذل الشرك
والمشركين ودمر أعداء الدين . اللهم اخذل اليِهود وأعوانهم وأتباعهم ،
اللهم أنزل الرعب في قلوبهم وشتت شملهم وفرّق جمعهم ، واجعل الدائرة عليهم
. إنك أنت القوي العزيز .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات . اللهم
فرّج همّ المهمومين ، ونفّس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ،
واشف مرضى المسلمين .
عباد الله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فاذكروا الله يذكركم ،
واشكروه على نعمه يزدكم { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مَا تَصْنَعُونَ } . (1)
_________
(1) انظر كتاب الجمعة والأعياد للشيخ عبد الله بن زاحم من ص 355 - 365 - .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله الذي وفق أولياءه للعمل بما يحبه ويرضاه ، وحقق على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه ، الناصر لمن ينصره من أهل طاعته وتقواه ، الذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه . أحمده سبحانه على ما خوَّله من فضله وأسداه ، وأشكره على سوابغ نعمه وجزيل بره وآلاه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الله ولم يعامل أحدًا سواه . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه ، وأمره بطاعته وتقواه ، وعن طاعة الكفار والمنافقين حذره ونهاه . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وتولاه . وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وراقبوه ، وعظّموا أمره ولا تعصوه ، وأعلموا أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أعظم الواجبات وأهم المهمات . عباد الله ما هذا التغافل والإحجام عن ما أوجبه الله عليكم من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قد وهى فيما بينكم جانبه ، وكثر تاركه ومجانبه ، ودبت إليكم من الوهن عقاربه ، أجراءة على الله ؟ أم أمن من مكره وعقابه ، وسخطه وأليم عذابه ؟ أما علمتم أن بالقيام به تحصل لكم السعادة والنجاة . وتأمنون من حلول
العقوبات والمثلات . فيا عباد الله ما هذا التكاسل والتغافل والانهماك في الشهوات واللذات ، والإقدام على ما يسخط فاطر الأرض والسموات ، ويوجب نزع البركات ووقوع النقم والبليات . أما سمعتم قول الله تعالي : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }{ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم يلعنكم كما لعنهم » . وفيه أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يا أيها الناس إن الله تعالى يقول : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتستنصروني فلا أنصركم ، وتسألوني فلا أعطيكم » . وفيه أيضًا « وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يستجب دعائهم » . وفي مراسل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تزال هذه الأمة تحت رحمة الله وفي كنفه ما لم يمالئ قُرّاؤها أمراءها وما لم يزكِّ صلحاؤها فجارَها ، وما لم يُهن شرارها خيارَها ، فإذا فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم ثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب ثم ضربهم بالفاقة والفقر » ، وفي مراسل الحسن أيضًا « إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا الأرحام وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله عند ذلك فأصمّهم وأعمى أدبارهم » . وعن ابن مسعود
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، وبئس القوم قوم يجفون من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وبئس القوم قوم لا يقومون بالقسط ، وبئس القوم قوم يسير المؤمن فيهم بالتقية والكتمان » .
فاتقوا الله عباد الله وأفيقوا من سكرتكم ، وانتبهوا من غفلتكم ، واستيقظوا من رقدتكم ، وتداركوا ما فات من تفريطكم وإهمالكم لأمر ربكم ، وقوموا قيام صدق علمًا وعملًا قولًا وفعلًا وأمرًا ونهيًا ، ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم ، وأخلصوا النية وأصلحوا الطوية . واحذروا الأسباب التي توجب ترك ذلك والإعراض عنه ، فإن ذلك من كيد الشيطان وتسويفه وغروره ولا تقولوا ما لا تفعلون ، وتداركوا رحمكم الله أعماركم بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله والندم والإقلاع من قبائح الذنوب والآثام . والانتباه والإقبال على طاعة الملك العلام . من قبل أن يحل بكم من أمر الله ما لا قبل لكم به ، فستذكررن ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ }{ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }{
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم . بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم
ولسائر المسملين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) من خطب فضيلة الشيخ محمد بن عبد اللطف آل الشيخ انظر الخطب المنبرية ص
51 .
التحذير من البدع
الحمد لله الذي أمرنا بالاتباع . ونهانا عن الابتداع . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في العبادة . كما لا شريك له في الخلق والإبداع . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله ليتبع ويطاع . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسائر الأتباع وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : أيها الناس اتقوا الله واعلموا أن الله قد أكمل لنا الدين وأمرنا باتباعه والتمسك به قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } ، فكل عمل ليس له أصل في الشرع ولم يقم عليه دليل من السنة فهو من ابتداع المضلين . وهو من السبل المتفرقة التي تضل من اتبعها عن سبيل الله ، قال صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد » ، وفي رواية : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » .
عباد الله : إن البدع تقضي على الدين الصحيح وتحل محل السنن فقد روى الإمام أحمد بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها » ، وفي البدع مفاسد عظيمة ، منها أنها تحل محل السنن كما سبق ، فكلما جاءت بدعة تركت سنة وهكذا حتى يقضى على الدين بالكلية . ولهذا تجدون أصحاب البدع يحرصون عليها أكثر مما يحرصون على السنن لأن الشيطان يزينها لهم .
ومنها : أن صاحب البدعة يرى أن الدين ناقص فهو يريد أن يكمله
ببدعته . وإلا لو كان يرى أن الدين كامل لاستغنى به عن البدع . ومنها : أن
أصحاب البدع يزهدون في السنن وتفتر عزائمهم عن العمل بها وينشطون في البدع
فلذلك نجدهم ينفقون أموالهم وينصبون أبدانهم ويضيعون أوقاتهم في إحياء
البدع . ومنها : أن البدع تعيد الجاهلية إلى حياة الناس فتورث التفرق
والاختلاف . وكل فريق يرى أن ما هو عليه أحسن مما عليه الآخر ، كما قال
الله تعالى : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } ، وكما قال
سبحانه : { وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ } ، أما السنن فإنها تجمع الناس وتؤلف بين قلوبهم فيكونون إخوة
متحابين على منهج واحد ودين واحد ممتثلين قوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } .
ومن مفاسد البدع أنها تورث الاستكبار عن الحق ، فالمبتدع إذا دعي إلى الحق
لا يمتثل ويتمسك ببدعته ويدافع عنها .
ومن مفاسد البدع : أنها تفسد الدين الصحيح وهذا ما يريده شياطين
الجن والإنس من الكفار والمنافقين ، فأعداء الدين يحاولون إفساده بشتى
الوسائل ، وأهم سلاح يستخدمونه في ذلك هو البدع والخرافات ليشوهوا بها
الإسلام ويغطوا بها وجه الدين الصحيح ، حتى يظن من لا يعرف حقيقة الإسلام
أنه مجموعة من الخرافات والطقوس الفارغة فينصرف عنه من يريد الدخول فيه .
أضف إلى ذلك أن الذين يروجون البدع يجنون من ورائها مكاسب مادية أو
يتمكنون بها من نيل شهواتهم المحرمة . فكم ينفق في إحياء هذه البدع من
أموال ، وكم يهتك فيها من أعراض بسبب الاختلاط بين الرجال والنساء بلا
وازع ولا رادع .
هذا ولوسائل الإعلام من صحافة وإذاعات دور كبير في ترويج هذه البدع وبثها
في أَرجاء المعمورة حيث ينقلون لها صورًا حية إلى مختلف البلاد فيغتر بها
من يسمع أو يقرأ عنها ويظنها من الدين . كما أن لعلماء السوء دورًا أكبر
في إحياء البدع وترويجها وإلباسها لباس الشرعية . فيتعين على العلماء
والخطباء أن يحذروا الناس منها .
عباد الله : ومن البدع المحدثة في الدين ما يفعل من الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج وهو كغيره من الاحتفالات احتفالات تشتمل على منكرات فظيعة من شرك وبدع وهذا الاحتفال محدث في دين الإسلام لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا القرون المفضلة وإنما حدث في العصور المتأخرة من جملة ما حدث من البدع المخالفة للهدي النبوي على نمط ما يفعله النصارى في ديِنهم مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » ، ومن العجيب أن كثيرًا ممن يحيون بدعة الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج يهتمون بهذه البدعة ولا يهتمون . بما شرع في ليلة المعراج من الصلوات الخمس فلا يحافظون عليها في أوقاتها مع الجماعة ، بل يتهاونون بالصلاة أو لا يصلون أصلًا . لأن الشيطان زين لهم البدعة وكرّه إليهم العبادة المشروعة بل نراهم لا يهتمون بأمر دينهم عامة ؛ لأن الدين في عرفهم ما أحدثوا من البدع والخرافات .
عباد الله : لقَد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من البدع فكان يقول في خطبه : « أما بعد فإنه خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة » . وكان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرون من البدع غاية التحذير ، فقد بلغ ابن مسعود رضي الله عنه أن عمرو بن عتبة في أصحاب له بنوا مسجدًا بظهر الكوفة فأمر عبد الله بذلك المسجد فهدم ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحًا معلومًا ويهللون ويكبرون ، قال : فلبس برنسًا ثم انطلق فجلس إليهم فلما عرف ما يقولون رفع البرنس عن رأسه ثم قال : أنا أبو عبد الرحمن . ثم قال : لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علمًا ، أو لقد جئتم ببدعة ظلمًا ، قال : فقال عمرو بن عتبة : نستغفر الله ثلاث مرات ، ثم قال رجل من بني تميم والله ما فضلنا أصحاب محمد علمًا ، ولا جئنا ببدعة ظلمًا ، ولكنا قوم نذكر ربنا ، فقال بلى والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا ولئن حرتم يمينًا وشمالًا لتضلن ضلالًا بعيدًا .
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلًا
وارزقنا اجتنابه . . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْكَافِرِينَ } . (1)
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 1 / 71 .
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاعتصام بالقرآن
الحمد لله الذي يجير ولا يجار عليه . الذي بيده تصاريف الأمور فلا أحد يماثله ولا يضاهيه . . أحمده حمد عبد معترف بالذل والخضوع بين يديه . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد معترف بوحدانيته وما لديه . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فقام بما أمر به فبلغ الرسالة وأدى الأمانة حتى بلغ ما وجب عليه . . اللهم صَلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وذويه الذين تمسكوا بهديه حتى ماتوا عليه .أما بعد : أيها المسلمون اتقوا الله حق تقواه واستمسكوا من الإسلام بأوثق عراه واشكروا مولاكم الذي منّ عليكم بهذا النبي الكريم الرءوف الرحيم فقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } . يخبر تبارك وتعالى أنه منّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم حيث أرسله وأنزل عليه كتابًا مبينًا وأمرنا باتباعه والعمل بسنته فقال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وقد قال صلاة الله وسلامه عليه تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك وقال : « تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم هو حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق مع كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن حكم به عدل ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم » . فيا عباد الله اعلموا رحمكم الله أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فرض لازم ولا يسع
مسلمًا تركه بحال ، ومخالفته تعرض الإسلام للزوال وقد قال صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به » ، وقال : « من ضيع سنتي حرمت عليه شفاعتي » ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من أحيا سنتي فقد أحياني ومن أحياني فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة يوم القيامة » ، وجاء في الأثر المشهور أن المتمسك بسنة سيد المرسلين عند فساد الخلق واختلاف المذاهب والملل له أجر مائة شهيد والمراد من السنة التي يجب التمسك بها ما كان عليه القرون المشهود لهم بالخير والصلاح والرشاد وهم الخلفاء الراشدون ومن عاصر سيد الخلائق ثم الذين من بعدهم من التابعين . ثم ما أحدث بعد ذلك من أمر على خلاف مناهجهم فهو من البدع وكل بدعة ضلالة . فيا عباد الله اشكروا الله على هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أكمل الله به الدين فالكتاب والسنة بهما أكمل الله للرسول وأمته الدين وبهما حصل العلم بأصول الدين وفروعه ، حصلت الهداية والصلاح للبشر فيالها من نعمة لا يقدر قدرها ولا يحصي المؤمنون شكرها قال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فكان صلى الله عليه وسلم لينا قريبا من الناس مجيبًا لدعوة من دعاه قاضيًا لحاجة من استقضاه جابرًا لقلب من سأله لا يحرمه ولا يرده خائبًا . وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم . وأخلاقه لا تحصى عدًا فصلوات الله وسلامه عليه . لقد أرشدكم إلى ما فيه نفعكم . فقال صلى الله عليه وسلم : « ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة المسلمين ولزوم جماعتهم » أي جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم . فمن أخلص أعماله كلها لله ونصح في أموره كلها لعباد الله ولزم الجماعة بالائتلاف وعدم الاختلاف وصار قلبه صافيًا نقيًا صار لله وليًا ومن كان بخلاف ذلك امتلأ قلبه من كل أفة وشر . فاتقوا الله يا أمة محمد واجعلوا نبيكم أسوتكم وأطيعوا أمر ربكم وأصلحوا ذات بينكم ولا تغتروا بزهرة الدنيا ونعيمها . فيا عباد الله لقد أنعم الله علينا وعليكم بنعم لا يحصى عدها ولا يقدر قدرها ولا يطاق آداء شكرها أمن في أوطان وصحة في أبدان ووفرة أرزاق في جميع البلدان وما ذلك إلا ابتداء من الرحمن قال تعالى : { لَئِنْ
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ } ، فتوبوا الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون . واعلموا
عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله
وسوء عمله وإنما الأعمال بخواتيمها والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير
عليهما إلى الآخرة واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة ولا يغترن أحدكم
بحلم الله عز وجل فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله وقد قال
نبيكم صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها « ما علم الله من
عبد ندامة على ذنب إلا غفر له قبل أن يستغفره منه » . أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ،
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
من كل ذنب فاستغفروه إنه الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) انظر الخطب المنبرية للشيخ إبراهيم آل يوسف ص 197 .
الزيارة المشروعة للقبور
الحمد لله الغني الحميد ، المبدئ المعيد ، ذي العرش المجيد ، الفعّال لما يريد ، أحاط بكل شيء علمًا وهو على كل شيء شهيد ، أحمده سبحانه ، وأشكره ، وأسأله من فضله المزيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ند ولا معين ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله وخليله ، أفضل داع إلى الإيمان والتوحيد ، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : فقد قال الله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة » .
أيها المسلمون : كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور في أول الإسلام ، نهيًا عامًا يشمل الرجال والنساء ، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك لقرب عهدهم بالشرك ، والافتتان بالقبور وأصحابها ، فقد كان العرب في الجاهلية يتعلقون بالأحجار ، والأشجار ، وقبور الأنبياء والصالحين ، وحديث العهد بالشرك وبالباطل الذي اعتاده قلبه ونشأ عليه لا يؤمن أن يكون فيه بقية من تلك المادة ، إلى أن يثبت الإيمان والتوحيد في قلبه ، ويبعد عهده بما كان عليه في جاهليته من قبل ، ولذلك طلب بعض حديثي العهد بالجاهلية والوثنية من النبي صلى الله عليه وسلم : أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها ، ويعلقون عليها أسلحتهم للبركة ، طلبوا ذلك : لأنهم رأوا المشركين يفعلون ذلك ، ظنًا منهم أنه جائز ، وفيه فائدة ويقربهم إلى الله . فالتبس عليهم الحق بالباطل ، لقرب عهدهم بالجاهلية ووثنيتها .
والرسول صلى الله عليه وسلم حريص على قطع دابر الشرك ، واقتلاعه من النفوس ، وسد ذرائعه الموصلة إليه ، وكان نهيه صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر : خوفًا عليهم من الفتنة ، وإبعادا لهم عن الشرك وذرائعه ، فلما استقر الإسلام ، وتمكن التوحيد من نفوسهم ، وأمن عليهم : أذن في زيارتها للرجال خاصة ، مبينًا صلى الله عليه وسلم فوائدها ، والحكمة في شرعيتها بقوله : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة » . فزيارة القبور شرعت للتذكير بالموت وبالآخرة ، والتزهد في الدنيا ، والدعاء للأموات بالمغفرة ، والترحم عليهم ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزور القبور ، ويدعو للموتى ، ويسلم عليهم ، وكان يبكي ويُبْكى من حوله . أرشدنا كيف نزور قبور إخواننا المسلمين ، وما نقول عند زيارتها ، حفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أتى المقابر : « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية » ، وكان صلى الله عليه وسلم لا يشد رحلًا لزيارة القبور ولا يسافر لأجلها ، ولم يأذن لنا بشد الرحال لزيارتها
، بل جاء عنه النهى عن ذلك بقوله : « لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى » .
ومن أراد زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يكون عمله مشروعًا ومقبولًا
، عليه أن يقصد بسفره المسجد ، فإذا أتى إليه صلى فيه ما قدر له ، ثم أتى
إلى القبر الشريف إن شاء ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بأدب
واحترام وعدم رفع صوت أو ضجيج ، ثم سلم على صاحبيه ، رضي الله عنهما ، ثم
انصرف .
ولم يعيِّن لزيارة القبور ، ولا لأحد المساجد الثلاثة يومًا معلومًا ، أو شهرًا معلومًا ، بل شَرَع لنا زيارتها في أي وقت تيسر لنا ذلك ، فهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه سنته في زيارة القبور ، ولكن لكثرة الجهل والإعراض عما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم ضل بعض من الناس فجعلوا زيارة القبور استغاثة بالصالحين وتوسلًا بهم ، ولم يميزوا بين ما شرعه لأمته ، وبين ما نهى عنه ، والله تعالى قد أوجب علينا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء به ، وهو صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا بقوله وفعله وبين لنا الحكمة من ذلك . فلتكن زيارتنا واعظة ومذكرة ، ولندع لإخواننا المسلمين بالمغفرة والرحمة ، فهم محتاجون إلى الدعاء ، لأن أعمالهم قد انقطعت بموتهم ، فهم أحوج من الأحياء في الدعاء لهم ، والترحم عليهم ، وطلب الغفران ، كل ذلك مشروع ومأذون فيه للرجال .
أما النساء فإنهن ممنوعات من زيارة القبور ، وتشييع الجنائز ،
ولم يرخص لهن في ذلك ، كما رخص للرجال وقد جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم التأكيِد في منعهن من الزيارة ، ولعنهن عليها ، قال صلى الله عليه
وسلم : « لعن الله زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج » ، لا
يستثنى من ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لعموم النهى . فمنعهن متحتم
لجزعهن ، وقلة صبرهن ، وخوف الفتنة عليهن ، فإنهن إلى الجزع أقرب ، وهن
أضعف من الرجال . في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال لنسوة رآهن
ذاهبات إلى المقابر : « ارجعن مأزورات غير مأجورات ، فإنكن تفتن الحي ،
وتؤذين الميت » . وقال لابنته فاطمة ، رضي الله عنها : « إنك لو بلغت معهم
الكدى ( أي المقبرة ) لم تدخلي الجنة » . أو كما قال . فاتقوا الله عباد
الله ، واهتدوا بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأطيعوا الله والرسول
لعلكم ترحمون ، بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم . (1)
_________
(1) انظر من أحاديث المنبر لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل
الشيخ ص 161 .
في إنكار بدعة الاحتفال بمناسبة مولد النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم
- الحمد لله الذي منَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو
عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال
مبين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا
شريك له في خلقه وملكه سبحانه وتعالى عما يشركون . وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه . المبعوث بالدين القويم أرسله
رحمة للعالمين . وإمامًا للمتقين وحجة على الخلائق أجمعين - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم - وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
تسليمًا كثيرا .
أما بعد : أيها الناس اتقوا الله واعلموا أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض بعثة محمد خاتم النبيين . بعثه على حين فترة من الرسل ، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على أهل الأرض طاعته . فكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - دعوة أبيه إبراهيم حين قال : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ، وكان بشرى أخيه عيسى بن مريم حين قال : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } ، وكان رؤيا أمه حين رأت في المنام قبل ولادته أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام . لقد تحققت فيه هذه الصفات الثلاث فكان إجابة لدعوة الخليل ومصداقًا لبشارة المسيح . وتعبيرًا لرؤيا أمه . فقد جعله الله سراجًا منيرًا استنارت به الأرض بعد ظلمتها . واهتدت به البشرية بعد حيرتها . فكان النعمة العظمى والمنحة الكبرى التي تفضل الله بها على خلقه . لقد ولد -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بمكة المشرفة عام الفيل في شهر ربيع الأول . وهو العام الذي أغار فيه ملك الحبشة على الكعبة يريد هدمها فصده الله عنها ، وأنزل به وبجيشه أعظم عقوبة كما ذكر الله في الكتاب العزيز . فكان في ذلك حماية للبيت الحرام . وإرهاصًا لبعثة هذا النبي عليه الصلاة والسلام . شب - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على الأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة وبعثه الله برسالته على رأس الأربعين من عمره . فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أنزل عليه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } . وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « تركتكم على المحجة البيضاء » . فأعاد للحنيفية السمحة ملة إبراهيم صفاءها وضياءها . وأماط عنها ما علق بها من أوضار الجاهلية وضلالاتها . وجمع الله به الأمة بعد شتاتها . ثم لحق بالرفيِق الأعلى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - .
عباد الله : إن واجبنا نحو هذه النعمة العظيمة أن نشكر الله عليها بالتمسك بها والجهاد في سبيلها والمحافظة عليها . وذلكم باتباع هذا الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - والاقتداء به وفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه . وأن نحبه أكثر مما نحب أنفسنا وأولادنا وآباءنا وأمهاتنا . لأن الخير كل الخير في اتباعه وطاعته . قال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } . وقال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } ، ومحبته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - تقتضي طاعته واتباعه ، وترك ما نهى عنه .
فمتابعة هذا الرسول تتحقق بامتثال أوامره واجتناب مناهيه . فكل عمل من أعمال العبادة يجب أن يكون موافقًا لما شرعه هذا الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وما لم يشرعه فهو بدعة مردودة . قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد » ، ويقول : « وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة » .
عباد الله : والبدع التي أحدثها الجاهلون أو المغرضون كثيرة . منها ما يتكرر كل عام في شهر ربيع الأول من إقامة محافل بمناسبة مولد الرسول وربما سموا ذلك عيد المولد الشريف . وهذا الاحتفال أو هذا العيد بدعة منكرة ما أنزل بها من سلطان . إن يتبع أصحابها ومروجوها إلا الظن وما تهوى الأنفس . فهو بدعة لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لم يفعله ولم يكن من سنته ، ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم وهم أسبق الناس إلى الخير . ولم يفعل في القرون المفضلة وإنما حدث فعله في القرن السادس للهجرة تقليدًا للنصارى الذين يحتفلون بمولد المسيح عليه السلام . وقد نهانا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن التشبه بهم . فقال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم » ، فهذا الاحتفال بدعة وتشبه بالكفار . أضف إلى ذلك ما يجري فيه من المنكرات التي أعظمها الشرك الأكبر من دعاء الرسول وطلب الحاجات وتفريج الكربات منه وإنشاد الأشعار الشركية . بمدحه وكذا يحصل في هذه الاحتفالات اختلاط النساء بالرجال مما يغري بفعل الفواحش ، مع ما ينفق في هذه الاحتفالات من أموال باهظة من أناس ربما لا يؤدون الزكاة التي هي ركن من أركان
الإسلام . ومن العجيب أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد الرسول -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - هم في الغالب لا يعملون بسنته ولا
يحكمون بشريعته بل ربما لا يصلون الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام .
عباد الله : إن الله سبحانه لم ينوه في القرآن بولادة الرسول وإنما نوه
ببعثته فقال : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، وقال : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } ، لأن بعثته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم - هي التي تحققت بها المنة الربانية . ومنذ بعثته إلى وفاته وكل
لحظة من حياته الطيبة نعمة على البشرية ، فكل حياته بعد البعثة عبادة
وجهاد ونفع للمسلمين ، لا يختص ذلك بيوم معين من حياته فيجب على المسلمين
الاقتداء به والعمل بشرعه في جميع الأيام والساعات لا في يوم معين . ولا
في شهر معين .
وإذا كان قصد هؤلاء المحتفلين بيوم ولادة الرسول - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم - إحياء ذكره والتنويه بشرفه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم - وتذكر سيرته كما يقولون فهذا مشروع للمسلم في كل وقت حسبما
شرعه الله فالله قد رفع لنبيه ذكره في مناسبات تتكرر في اليوم والليلة
كالأذان والإقامة والخطب . فإذا ذكر الله في هذه المواطن ذكر بعده الرسول
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - . يتكرر هذا في اليوم والليلة أبد
الدهر لا في يوم معين من السنة . بل لا تصح صلاة فرض أو نافلة بدون الصلاة
عليه في التشهد الأخير . عند جمع من العلماء . هذا ما شرعه الله في حق هذا
الرسول فيجب إحياؤه والعمل به . وترك ما شرعه الناس من البدع .
عباد الله : إنما تناولنا هذه المسألة بالتنبيه على إنكارها وبطلانها
لأنها تفعل في البلاد المجاورة لنا وتصل إلينا صورتها الصوتية في الإذاعات
ويصل إلينا ذكرها في الجرائد والمجلات . فربما يغتر بها بعض الجهال عندما
يسمعها ، ويستحسنها فيحاول أن يفعل مثلها .
فليعلم الجميع أن هذا منكر وبدعة وإن كثر فاعلوه ومروجوه (1) ،
فلا تغتروا به وفقنا الله وإياكم للتمسك بكتابه وسنة نبيه . وإن رغب عنها
الأكثرون . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْكَافِرِينَ } . (2)
_________
(1) الذين يقيمون هذه البدعة وغيرها من البدع ثلاثة أصناف : الصنف الأول :
جهلة مقلدون كالذين قال الله فيهم : إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ . الصنف الثاني : مرتزقة
فساق يريدون التأكل بها وإشباع شهواتهم من ورائها بالأكل والشرب واللهو
واللعب . الصنف الثالث : ضلاّل مغرضون يريدون الدس على الإسلام وصرف الناس
عن السنن وإشغالهم بالبدع .
(2) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 1 / 124 .
تحريم الاحتفال بمناسبة هجرة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم -
الحمد لله رب العالمين ، شرع الهجرة ووعد المهاجرين إليه أجرًا عظيمًا
فقال في كتابه العزيز { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } ، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل : « لا تنقطع
الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها » ،
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا } وسلم تسليمًا .
أما بعد : أيها الناس اتقوا الله تعالى وادرسوا سيرة نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - واقتدوا به ، فقد أمركم الله بذلك في قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } ، ومن أعظم وقائع السيرة النبوية قصة الهجرة ، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لما اشتد عليه أذى المشركين بمكة صار يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج ويطلب منها أن تحميه وتناصره حتى يبلِّغ رسالة ربه فلم يجد من يجيبه حتى حج نفر من الخزرج من أهل المدينة وكان جيرانهم من اليهود يحدثونهم عن مبعث رسول قريب ويتوعدونهم أنهم سيكونون معه فيقاتلونهم كما قال الله تعالى عن اليهود { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } ، أي كان اليهود قبل مجيء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يستنصرون به على أعدائهم ويقولون اللهم انصرنا
بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ، فلما جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يعرض نفسه على القبائل كعادته في موسم الحج وصادف نفرًا من الخزرج ففرحوا به وقالوا هذا النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقوكم إليه ، فآمنوا به وبايعوه وانصرفوا إلى قومهم بالمدينة فأخبروهم فآمن من آمن وقدموا في العام الثاني للحج وبايعوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عند العقبة على الإيمان به ومناصرته إذا هو هاجر إليهم فأذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بعد ذلك لبعض أصحابه بالهجرة إلى المدينة ولما أراد أن يلحق بهم أراد المشركون منعه مخافة أن تقوى شوكته ويظهر دينه ويتغلب عليهم فاجتمعوا وتشاوروا في شأنه فاتفق رأيهم على قتله واجتمعوا عند بابه ينتظرون خروجه ليقتلوه فأخبر الله نبيه بمكيدتهم فأمر عليًا رضي الله عنه أن يبيت على فراشه فخرج من بينهم ولم يشعروا به وذهب إلى أبى بكر رضي الله عنه ووجده قد أعد راحلتين للسفر واستأجر دليلًا فخرجا من مكة متخفيين وذهبا إلى غار ثور ودخلاه واختفيا فيه ودفعا الراحلتين للدليل وواعداه أن يأتي بهما في وقت محدد ، ولما علم المشركون بخروج
الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأن الذي على الفراش هو علي بن أبي طالب غضبوا غضبًا شديدًا ونفروا يلتمسون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - في كل وجه وجعلوا لمن يأتي به الأموال الطائلة ، قال الله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ، وأمر الله عنكبوتًا فنسجت على باب الغار وحمامة ففرخت فيه وعندما وصل المشركون إلى باب الغار وقفوا عليه حتى قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم - « يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما » ، وفي ذلك يقول الله عز وجل : { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ولما رأى المشركون عش العنكبوت أيسوا من وجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في الغار حتى قال أحدهم : إن هذا العش موجود قبل أن يولد
محمد وانصرفوا خائبين صاغرين ، ومكث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وصاحبه في الغار أيامًا وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما خفية بأخبار المشركين وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى غنمًا ويمر بها عليهما فيحلبان من لبنها ، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام خفية في المساء ، فلبثا في الغار ثلاثة أيام حتى انقطع الطلب فجاء الدليل بالراحلتين على الميعاد فركبا وتوجها إلى المدينة - وكان الأنصار رضي الله عنهم ينتظرونهما بفارغ الصبر كل يوم ، إلى أن وصلا بسلامة الله وحفظه إلى المدينة ، وهناك اجتمع المهاجرون والأنصار وتكونت الدولة الإسلامية وأمر الله رسوله بالجهاد لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه ، فواصل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الغزوات والسرايا ونصره الله وأظهر دينه حتى دخل مكة عام الفتح معززًا منصورًا تحف به رايات المهاجرين والأنصار ، وأزال ما على الكعبة المشرفة من الأصنام ودخلها وكبر الله فيها ثم خرج إلى قريش وكانوا قد اجتمعوا في المسجد الحرام ينتظرون ماذا يفعل من العقوبة ، فقال : « يا معشر قريش ما تظنون أنى فاعل بكم قالوا خيرًا - أخ كريم وابن أخ كريم - قال : فإني أقول لكم
كما فال يوسف لإخوته { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ، اذهبوا فأنتم
الطلقاء » .
عباد الله : هكذا كانت هجرة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -
، كانت لأجل نصرة دين الله وإعلاء كلمته ، ليس القصد منها الرفاهية وراحة
البدن والتنعم ، وهكذا تكون هجرة المؤمنين إلى آخر الزمان فالهجرة من بلد
الكفر إلى بلد الإسلام باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها لمن لا يستطع
إظهار دينه في بلد الكفر - وإظهار الدين معناه الجهر به والدعوة إليه
وبيان بطلان ما عليه الكفار - وليس معنى إظهار الدين أن يترك الإنسان يصلى
ويتعبد ويسكت عن الدعوة إلى الله وإنكار الشرك والكفر - لو كان الأمر كذلك
لبقي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بمكة لأن المشركين لم
يمنعوه من أن يصلي ويتعبد ولكنهم منعوه من الدعوة إلى الله وإبطال ما عليه
الكفار والمشركون .
عباد الله : إن من الناس اليوم من لا يعرف عن هجرة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلا أنها ذكرى تمر كل عام وتقام بمناسبتها احتفالات وخطب ومحاضرات لمدة أيام ثم تنتهي وتنسى إلى مرور تلك الأيام من السنة القابلة دون أن يكون لذلك أثر في سلوكهم وعملهم ، ولذلك تجد بعضهم لا يهاجر من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام كما هاجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، بل على العكس فإن الكثير منهم ينتقل من بلاد الإسلام إلى بلاد المشركين لا لشيء إلا للترفه والعيش هناك بحرية بهيمية ، إن ذكرى الهجرة يجب أن تكون على بال المسلم طول السنة لا في أيام مخصوصة فإن تحديد أيام مخصوصة للاحتفال بمناسبة الهجرة النبوية أو لتدارسها ، إن هذا التخصيص بدعة « وكل بدعة ضلالة » فلم يكن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ولا صحابته ولا القرون المفضلة من بعدهم يخصون هذه المناسبة باحتفال يتكرر كل عام وإنما كان السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان يدرسون سيرة نبيهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - للاقتداء بها غير متقيدين بوقت معين ، ثم إن الهجرة هجرتان الهجرة الأولى هجرة قلبية إلى الله بعبادته وحده لا شريك
له ، وإلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - باتباعه
وفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
- : « والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه » ، وهذه الهجرة ملازمة للمسلم
طوال حياته لا يتركها أبدًا ، والهجرة الثانية هجرة بدنية وهي تتضمن
الهجرة القلبية وهذه الهجرة هي الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام
وهذه الهجرة تفعل عند الحاجة إليها إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه في
بلاد الكفر .
فاتقوا الله عباد الله وادرسوا سيرة نبيكم واستفيدوا من أحداثها العبرة
والقدوة { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم (1) .
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 1 / 268 .
النهي عن الابتداع في شهر رجب
الحمد لله الذي أمر باتباع رسوله وسلوك سبيله ، ونهانا عن الابتداع في دينه ، فقال سبحانه وتعالى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ } ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، لا يقبل من الأعمال إلا ما شرعه ، وكان خالصًا لوجهه - وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، حذر من البدع فقال : « وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة » صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته ولم يحدث في الدين ما ليس منه وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : أيها المسلمون اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن البدع والمحدثات في الدين أصل كل بلاء وفتنة ، وأن الشيطان يحرص كل الحرص على صد الناس عن الدين الصحيح ، فإن رأى منهم عدم رغبة في الدين شجعهم على ذلك وزين لهم المعاصي والشهوات وفتح لهم أبواب الشبهات ، وإن رأى منهم محبة للدين أدخل عليهم من البدع والزيادات ما يفسده عليهم فتنبهوا لذلك ، واعلموا أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة والنقصان لأن الله تعالى يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ، فلا مكان للبدعة في دين الله ، قال الإمام مالك رحمه الله : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خان الرسالة لأن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا . إن المبتدع معاند لله مشاق له لأن الله حدد الطرق الموصلة إلى الخير وحصرها . وهذا المبتدع يريد أن يزيد عليها أو ينقص منها فجعل نفسه شريكًا لله في تشريعه وكفى بذلك ضلالًا وإثمًا مبينًا ، والله أمر باتباع ما شرعه ، فأبى المبتدع ذلك واتبع هواه بغير هدى من الله .
عباد الله : كنا في هذه البلاد في عافية من كثير مما وقع فيه من البدع ، ولكن لما تسهلت وسائل النقل وتوفرت وسائل الإعلام ووفد إلى بلادنا كثير ممن نشئوا على البدع وربما جاءوا ببدعهم يزاولونها عندنا ، فربما يشتبه الأمر على كثير من عوامنا فوجب التنبيه على تلك البدع في أوقاتها حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه ، ومن هذه البدع ما يفعل في شهر رجب من العادات الجاهلية والأمور البدعية التي يزعم مرتكبوها أن شهر رجب خاصية على غيره ، وليس الأمر كذلك ، فإن شهر رجب أحد الأشهر الحرم ، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه كان إذا دخل شهر رجب قال : « اللهم بارك لنا في شهري رجب وشعبان وبلغنا رمضان » ، ولم يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في فضل رجب حديث ، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - كلها كذب قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . وقد أحدث الناس في هذا الشهر عبادات لم يشرعها الله ولا رسوله . من ذلك تعظيم أول خميس منه وليلة أول جمعة منه ، فإن تعظم هذا اليوم وتلك الليلة من رجب إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة ، والحديث
المروي في ذلك كذب باتفاق العلماء ، ولا يجوز تعظيم هذا اليوم لأنه مثل غيره من الأيام . وقال الحافظ ابن رجب ، فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به ، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح ، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء . قال وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ولا عن أصحابه .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام ويقول : ما رجب ؟ إن رجبًا كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام ترك ، وفي رواية كره أن يكون صيامه سنة ، وأما العمرة فلم يثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه اعتمر في رجب ، فلا فضل للعمرة في رجب على العمرة في غيره من الشهور كما يظنه بعض الناس ، ومن البدع المنكرة التي تفعل في هذا الشهر بدعة الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج في الليلة السابعة والعشرين منه ، يحتفلون في تلك الليلة ويخصصونها بأنواع من العبادات ما أنزل الله بها من سلطان فيخصون تلك الليلة بأذكار وأدعية وصلاة ، وتخصيص تلك الليلة خطأ من عدة وجوه : أولًا : أن الإسراء لم يقم دليل على تعيين ليلته التي وقع فيها ولا على الشهر الذي وقع فيه فالعلماء مختلفون في زمانه فتخصيص ليلة من الليالي في رجب أو غيره للإسراء تخصيص لا دليل عليه .
ثانيا : لو ثبت تعيين الليلة التي وقع فيها الإسراء لم يجز لنا
أن نخصص تلك الليلة بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله فإنه لم يرد أن الرسول -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - احتفل في تلك الليلة ولا خصها بشيء من
العبادات ، ولم يفعل ذلك خلفاؤه الراشدون من بعده ولا صحابته الكرام ، ولا
التابعون لهم بإحسان فلا يجوز لأحد بعدهم أن يحدث في الإسلام شيئًا لم
يفعلوه .
ثالثًا : أنه يفعل في تلك الليلة وفي ذلك الاحتفال أمور منكرة ، قال صاحب
كتاب الإبداع في مضار الابتداع : وقد تفنن الناس بما يأتونه في هذه الليلة
من المنكرات وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبًا كثيرة كالاجتماع في
المساجد وإيقاد الشموع والمصابيح فيها وعلى المنارات مع الإسراف في ذلك
إلى أن قال : وما أحسن سير السلف الصالح فإنهم كانوا شديدي المداومة على
ما كان عليه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لا يخرجون عن
الثابت قيد شعرة ، ويعتقدون الخروج عنه ضلالة لا سيما عصر الصحابة ومن
بعدهم أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير رضي الله عنهم أجمعين ،
انتهى .
ومن العجيب أن بعضًا من هؤلاء الذين يحتفلون بمناسبة الإسراء
والمعراج أو كثيرًا منهم لا يهتمون بما شرع فيه من الصلوات الخمس فبعضهم
لا يصلي أبدًا وبعضهم لا يحضر صلاة الجماعة في المسجد وإنما ينشط في البدع
ويكسل عن السنن والواجبات ، ولا يحافظ على الجمع والجماعات .
عباد الله : إن البدع مع أنها حدث في الدين ، وتغيير للملة ، فهي آصار
وأغلال تضاع فيها أوقات وتنفق فيها أموال ، وتتعب فيها أجسام ، وتبعد من
الجنة وتقرب من النار ، وتوجب سخط الله ومقته ، ولكن أهل الغي والضلال لا
يفقهون ، وفي طغيانهم يعمهون ، لا يزيدهم عملهم عن الله إلا بعدا ولا
اجتهادهم وتعبهم إلا مقتًا وردا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ }{ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ }{ تَصْلَى نَارًا
حَامِيَةً }{ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ }{ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ }{ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . (1)
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 2 / 62 .
الحث على زيارة مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -
الحمد لله فاطر السموات والأرض ، أحمده سبحانه ، وهو للحمد أهل ، وأشكره
وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد
أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ، أرسله الله بالحق بشيرًا ونذيرًا .
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد : فالكثير من الحجاج يرغبون في السفر إلى المدينة ، لزيارة مسجد
الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بها ، وقد جاء عنه - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في الترغيب في ذلك قوله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « صلاة في مسجدي هذا ، خير من ألف صلاة فيما سواه ،
إلا المسجد الحرام » ، فزيارة المسجد النبوي للصلاة فيه ، مستحبة ومرغب
فيها ، فالقصد من الزيارة وشد الرحال إلى المدينة هو المسجد النبوي .
أما القبر الشريف فلا يجوز قصده وحده بسفر ، ولا شد الرحل إليه ، لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قد نهانا عن ذلك ، كما نهانا أن نتخذ قبره عيدًا ، نعتاد زيارته في أوقات معينة ، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى » ، وجاء عن علي بن الحسين رضي الله عنه ، أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، فيدخل فيها ، فيدعو ، فنهاه ، وقال : ألا أحدثكم حديثًا عن أبي ، عن جدي ، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه قال : « لا تتخذوا قبري عيدًا ، ولا بيوتكم قبورًا ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » ، فالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، نهانا بهذا الحديث أن نجعل قبره عيدًا نعتاده في وقت معين كرجب مثلًا ، وقد خص الله نبيه من دون الناس ، بأن صلاة المصلي عليه وسلامه ، يبلغه ولو لم يكن المسلم عند قبره ، أو في المدينة ، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » .
فالزيارة إذن ، ليست واجبة ، وليست من لوازم الحج كما يظنه البعض من الناس ، وقد شاع بين العوام أحاديث في زيارة قبر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، حتى ظنوها أحاديث صحيحة ، فهم لذلك يتكبدون المشاق في الزيارة ، ويظنون أن زيارة المدينة من تمام الحج ، فمن الأحاديث الشائعة المكذوبة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : " من زارني بعد موتي ، فإنما زارني في حياتي . من زار قبري وجبت له شفاعتي . من حج ولم يزرني فقد جفاني " ، وأمثالها لم تصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ولم تثبت ، وأهل العلم عدوها من الموضوعات المختلقة .
فعلى من أراد الزيارة : أن يقصد المسجد النبوي بزيارته ، ثم يصلي
فيه ما تيسر ، ثم يسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إن
أراد بأدب واحترام ، وعدم رفع الصوت ، فإن رفع الصوت بالسلام والضجيج ليس
من الأدب المطلوب عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، ثم
يسلم على صاحبيه أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، ثم ينصرف ولا يستقبل
القبر عند الدعاء ، ومن لم يتيسر له الزيارة ، فلا حرج عليه ، وحجه تام ،
وقد أدى ما عليه ، إذ لم يوجب الله ولا رسوله إلا حج بيته الحرام .
ومن أتى المدينة وصلى في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
- استحب له أن يصلي في مسجد قباء ويزور قبور أهل البقيع واحدًا واحدًا ولا
يشرع تتبع المساجد التي هناك ، رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أناسًا
يذهبون إلى مكان فقال أين يذهب هؤلاء قالوا إلى مكان صلى فيه رسول -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال منكرًا فعلهم : ومكان صلى فيه رسول
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ؟ ! تريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم
مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا .
وفقني الله وإياكم للأعمال الصالحة ، وجعل أعمالنا مقبولة نافعة
، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب
، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) انظر من أحاديث المنبر لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل
الشيخ ص 167 .
طلب الشفاعة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، أحمده سبحانه وأشكره ، لا أحصي ثناء عليه وهو كما أثنى على نفسه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، هو الذي في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : فالكل منا يحب الخير لنفسه ، ويحب أن يعمل صالحًا ، حتى يحصل على الثواب وجزاء عمله { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ }{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } ، فالأقوال والأعمال لا تنفع ، ولا تحصل ثمرتها المرجوة ، إلا إذا كانت خالصهَ لله وحده ، وكانت بالاتباع وعدم الخروج عما جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - .
أيها المسلمون : من منا لا يؤمن بشفاعة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يوم القيامة وأنها حق ؟ ومن منا لا يحب أن يشفع له الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ؟ .
فهو الشافع المشفع ، وله المقام المحمود ، الذي يحمده عليه الأولون والآخرون ، له الشفاعة الكبرى يوم القيامة التي يتأخر عنها أولو العزم من الرسل ، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ، تنتهي إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيقول : أنا لها ، وذلك في يوم القيامة ، حين يطلب الخلق من الأنبياء أن يشفعوا لهم عند ربهم ، ليريحهم من مقامهم في الموقف فيتأخر عن ذلك أولو العزم من الرسل فيأتون إلى سيد الخلق وأكرمهم على ربهم محمد ، فيأتي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، ويسجد لربه أَولًا ، لا يبدأ بالشفاعة ، ثم يقال له ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، لا يشاركه فيها أحد ، وله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - شفاعات أخرى ، كلها يوم القيامة ، ولا تكون إلا بعد الإذن له من الله ، والرضا عن المشفوع له ، ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص قال تعالى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } ، { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } ، { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } ، وقال تعالى : { وَلَا
يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } ، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد ،
ولا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه فإذا
كانت الشفاعة ملكًا لله وحده وكانت لأهل الإخلاص ، ولا تكون إلا بعد الإذن
والرضا ، فلا يصح طلبها إلا من الله وحده ، فهو المالك لها الذي يأذن أن
يشفع لكل من وحد الله وأخلص العمل له ، واهتدى بسنة رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ومات على ذلك ، فشفاعة الرسول حاصلة له ، وهو
من أهلها لا شك في ذلك .
سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -
فقال : « من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : من قال لا إله إلا
الله خالصًا من قلبه » .
وحقيقة الأمر في ذلك ، أن الله هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه ، وينال المقام المحمود فحصول الشفاعة لا بد فيه من أمرين : الأول : الرضا منه تعالى عن المشفوع له . والثاني : الإذن للشافع أن يشفع ، وإذنه لا يكون إلا إذا رحم عبده الموحد المذنب ، فيأذن للشافع أن يشفع له ، والرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قد بين السبب الذي تنال به الشفاعة وهو التوحيد ، والإخلاص في العبادة ، واجتناب الشرك صغيره وكبيره .
قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لكل نبي دعوة
مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ،
فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئًا » ، فعلينا أن نعمل
صالحًا ، وأن نطع الله ورسوله فنمتثل أوامره ، ونجتنب نواهيه ، وأن لا
نشرك به شيئًا ، حتى تحصل شفاعة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
- ، وعلينا أن لا نطلب الشفاعة إلا من الله وحده ، ونسأله تعالى أن يشفع
فينا نبيه محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، اللهم شفع فينا
نبيك محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، اللهم لا تحرمنا شفاعته
، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب
، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) انظر من أحاديث المنبر لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل
الشيخ ص 47 .
الحث على مخالفة الكفار
الحمد لله الذي أمرنا بالاقتداء بسيد الأبرار ، ونهانا عن التشبه بالمشركين والكفار ، أحمده على ما أولانا من النعم ، وصرف عنا من النقم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : أيها الناس اتقوا الله واعتزوا بدينكم ، عباد الله إن الله سبحانه قد أغنى المسلمين وأنعم عليهم بشريعة كاملة لكل مصالح الدين والدنيا ، وعلق السعادة في الدنيا والآخرة على العمل بها والتمسك بهديها ، قال تعالى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } ، وقال تعالى : { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وهذه الشريعة هي الصراط المستقيم الذي هو طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وما خالفها فهو طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى والمشركين .
وأنت أيها المسلم في كل ركعة من صلاتك تدعو ربك أن يهديك الصراط المستقيم وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم والضالين حينما تقرأ سورة الفاتحة التي قراءتها ركن من أركان الصلاة في كل ركعة فتأمل هذا الدعاء ومقاصده وثماره ، إنه يعي أول ما يعي الاقتداء بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - والتمسك بشريعته في العبادات وفي المعاملات وفي الآداب والأخلاق العامة والخاصة ، وإنه يعنى مخالفة الكفار فيما هو من خصائصهم في العبادات والمعاملات وفي الآداب والأخلاق لأن التشبه بهم في الظاهر يورث محبتهم في الباطن ولهذا تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على الأمر بمخالفتهم والنهي عن التشبه بهم إبعادًا للمسلم عما فيه مضرته . لأن أعمال الكفار باطلة . ومساعيهم ضالة . ونهايتهم إلى الهلاك . فجميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم له بها منفعة ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } ، وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عَاصِفٍ } .
أيها المسلمون : ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه تعالى حيث قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى . قال : فمن ، أي من القوم إلا هؤلاء » ، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبر وذراعًا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال : ومن الناس إلا أولئك » ، فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ومضاهاة لفارس والروم . وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ينهى عن التشبه بهؤلاء ، وهؤلاء ، وليس إخباره عن وقوع المضاهاة في الأمة للكفار إخبارًا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة » ، وأخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - « أن الله لا يجمع هذه
الأمة على ضلالة . وأن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا
يستعملهم فيه بطاعته » ، فعلم بخبره الصادق أنه لا بد أن يكون في أمته قوم
يتمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا ، وقوم ينحرفون إلى شعبة من شعب
دين اليهود أو إلى شعبة من شعب دين النصارى . وهذا الانحراف يزينه الشيطان
. فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا
يهودية فيها ولا نصرانية أصلًا .
والحكمة : يا عباد الله في النهي عن التشبه بهم والأمر بمخالفتهم ظاهرة ،
ذلك أن المشابهة لهم في الظاهر تورث تشبهًا بهم في الباطن يقود إلى
موافقتهم لا الأخلاق والأعمال . والمخالفة لهم في الظاهر توجب مخالفتهم في
الباطن مما يوجب مفارقتهم مفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب
الضلال . والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان .
أيها المسلمون : لقد كثر اليوم في المسلمين التشبه بالكفار في كلامهم ولباسهم وهيئتهم بين الرجال والنساء مما لست أحصيه في مقامي هذا . من ذلكم : ما يفعله الرجال من حلق لحاهم وتغذية شواربهم وإطالة شعور رؤوسهم على شكل ما يفعل الكفار ، وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بجز الشارب وإعفاء اللحية وإكرامها وتوفيرها ومخالفة المشركين الذين يحلقون لحاهم ويغذون شواربهم .
فقص الشارب وإعفاء اللحية كما أنه من خصال الفطرة وهدي الأنبياء وهو مخالفة لأعداء الله ورسوله فهو كذلك عين المصلحة فإن قص الشارب فيه النظافة والتحرز مما يخرج من الأنف ولأنه إذا طال تدلى على الشفة فينغمس فيما يتناوله من مشروب ومأكول وفي ذلك ما فيه من التقذر ، كما أن طول الشارب فيه تشويه للمنظر وإن استحسنه من لا يعبأ به من الناس ، وتوفير اللحية فيه الوقار للرجل والجمال ولهذا يبقى جماله في حال كبره بوجود شعر اللحية ، واعتبر ذلك . ممن يعصي الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيحلقها كيف يبقى وجهه مشوهًا قد ذهبت محاسنه ، ولكن العوائد والتقليد الأعمى يوجبان استحسان القبيح واستقباح الحسن . والذي نقوله لهؤلاء هدانا الله وإياهم : الواجب عليكم التوبة والرجوع إلى الصواب فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وقد وضحت لكم سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأنتم مأمورون باتباعه والاقتداء به قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ، فتمسكوا بسنته ولا تغتروا بكثرة المخالفين .
ومن الأمور : التي يجري فيها تقليد الكفار التكلم بلغتهم من غير حاجة حتى بين العرب الخلص وفي بلاد العرب ، فإن الإنسان إذا أكثر من التكلم بغير العربية اعتاد ذلك وهجر اللسان العربي ، وهو شعار الإسلام فاللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون ، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر أن يدعى الله أو يذكر بغير العربية . فان الله قد اختار لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم النبيين محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - واعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن لا ريب أنه مكرره فإنه من التشبه بالأعاجم ولأنه يفضي إلى هجر العربية واستبدالها بغيرها ، واللغة العربية من الدين وتعلمها فرض واجب لأن فهم الكتاب والسنة فرض . ولا يفهمان إلا بفهم العربية . وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وًاما اللغة الأجنبية فيتعلمها المسلم وينطق بها عند الحاجة فقط فإذا لم يكن هناك حاجة فيكره له أن ينطق بها . لكن مع الأسف ادخل في المستشفيات العربية أو المطارات وستجد التخاطب والكتابة بغير العربية حتى كأنك في أوروبا .
ومن الأمور : التي يجري تقليد الكفار فيها ، تقليدهم لا أمور العبادات كتقليدهم في الأمور الشركية من البناء على القبور وتشييد المشاهد عليها والغلو فيها . وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . وأخبر أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه الصور وأنهم شرار الخلق . وقد وقع في هذه الأمة من الشرك الأكبر بسبب الغلو في القبور ما هو معلوم لدى الخاص والعام وسبب ذلك تقليد اليهود والنصارى . ومن ذلك تقليدهم في الأعياد الشركية والبدعية كأعياد الموالد - عند مولد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأعياد موالد الرؤساء والملوك . وقد تسمى هذه الأعياد البدعية أو الشركية بالأيام أو الأسابيع - كاليوم الوطني للبلاد ، ويوم الأم وأسبوع النظافة - وغير ذلك من الأعياد اليومية والأسبوعية وكلها وافدة على المسلمين من الكفار - وإلا فليس في الإسلام إلا عيدان - عيد الفطر وعيد الأضحى . وما عداهما فهو بدعة وتقليد للكفار - فيجب على المسلمين أن ينتبهوا لذلك ولا يغتروا بكثرة من يفعله ممن ينتسب إلى الإسلام وهو يجهل حقيقة
الإسلام فيقع في هذه الأمور عن جهل أو لا يجهل حقيقة الإسلام
ولكنه يتعمد هذه الأمور فالمصيبة حينئذ أشد . أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيرًا } . (1)
_________
(1) انظر الخطب المنبرية لفضيلة الدكتور صالح الفوزان 1 / 128 .
التداوي المشروع والخرافات الباطلة
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير ، أحمده سبحانه وهو للحمد أهل ، وأشكره وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : قال الله تعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
عباد الله : النفع والضر بيد الله ، وليس في استطاعة أي مخلوق أن يمنع الضر إذا أراده الله له ، فالأمر كله لله وبيده ، إذًا فلا حاجة إلى الالتجاء إلى غيره ، في رفع ضر نزل ، أو منعه قبل نزوله ، ولا في إيصال الخير أو استمراره ، فالله هو المدعو المستعان ، المرجو لكشف الشدائد وإزالة المكروهات .
أيها المسلمون : الإنسان عرضة للأمراض والأسقام ، وقد أمرنا بالتداوي ، والأخذ بالأسباب المشروعة في إزالة المرض وتخفيفه ، ونهينا عن تعاطي الأسباب التي لم تشرع ، ولم يؤذن لنا بالأخذ بها ، وهي مع ذلك لا تنفع بل تضر ، فتعليق التمائم والخرز على الأولاد والدواب ، خوفًا من العين تصيبهم ، أو المرض يفتك بهم ، شرك بالله ، واعتماد على غيره ، والرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - نهانا عن ذلك كله ، وأخبر أنه لا يزيد متخذه إلا شرًا ومرضًا ، وأنه اعتماد على غير الله في دفع الضر ، أو جلب الخير .
أي فائدة تحصل من خيوط تربط ، أو خرز يجمع ، أو حلقة توضع في اليد والرجل أو حجاب ، أو حروف مقطعة ؛ لا خير في ذلك ، ولا نفع يِرجى ، بل كل ذلك شر وضلال وفساد في الفطر والعقول . « قال الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وقد رأى رجلًا في يده حلقة من صفر ، " ما هذا ؟ قال : من الواهنة - مرض معروف عند العرب - قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : انزعها لأنها لا تزيدك إلا وهنًا ، فإنك لو مت وهي عليك ، ما أفلحت أبدًا » ، أخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : أن وضع الحلقة والتعلق عليها ، لا ينفعه ، بل يزيده مرضًا وضعفًا ، وأنه لو مات وهي عليه : لن يحصل له الفوز والفلاح ، وصح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه قال : « من تعلق تميمة : فلا أتم اللهّ له ، ومن تعلق ودعة : فلا ودع الله له » ، وفِى رواية « من تعلق تميمة فقد أشرك » ، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - دعا على المعلق للتمائم والحروز ، المعتمد عليها في جلب نفع ، أو دفع ضر ، أو أنها سبب لذلك ، ودعا عليه بأن لا يتم له مقصوده ، ولا يبلغ أمنيته ، وبأن لا يكون في دعة وسكون وراحة ، بل يكون في قلق واضطراب ، لأنه
اعتمد على غير الله ، وخالف أمر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، « جاء جماعة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ليبايعوه على الإسلام : فبايعهم إلا واحدًا ، فقالوا : يا رسول الله بايعتهم إلا هذا فقال إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها فبايعه فقال : " من تعلق تميمة فقد أشرك » ، ودخل حذيفة ، رضي الله عنه ، على مريض يعوده ، فلمس عضده ، فإذا فيه خيط ، فقال : ما هذا ؟ فقال : شيء رقي لي فيه ، فقطعه وقال : لو مت وهو عليك ما صليت عليك ، أنكر رضى الله عنه على من ربط خيطًا معتقدًا أنه سبب ، لا أنه ينفع ويضر بنفسه ، فكيف بمن يعتمد على التمائم والطلاسم والحروف المقطعة ؟ ، فنحن مأمورون بالاعتماد على الله أولًا وقبل كل شيء ثم الأخذ بالأسباب المشروعة ، فكل عمل ، وكل سبب لم يؤذن لنا فيه ، يجب علينا تركه ، والابتعاد عنه ، كما يجب علينا أن نربي أولادنا تربية صالحة ، وأن نبعدهم عن الأوهام والخرافات ، والتعلق على غير الله ، وأن نحافظ على فطرهم السليمة التي فطروا عليها ، حتى لا يعتمدوا إلا على الله ، ولا يلجئوا في الشدائد والملمات إلا إليه وحده ، ولا يكون للدجاجلة والمشعوذين بيننا سوق نافقة
. وأن نقضي على ما يفسد عقائدنا وفطرنا من الضلالات والأوهام ،
ونقضي على مروجيها .
التمائم التي تعلق إن كانت من غير القرآن ، أو أسماء الله وصفاته : فهي
شرك بالله ، أما إذا كانت من القرآن ، أو أسماء الله وصفاته ، فهي ممنوعة
أيضًا ، لأن النهي من الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن
التمائم عام ، ولا مخصص له ، ولأن منعها سد لذريعة الشرك وتعليِق غير
القرآن ؛ ولأن القرآن إذا علق فلا بد أن يمتهن عند قضاء الحاجة ،
والاستنجاء ، وغير ذلك ، ولأن القرآن لم ينزل إلا ليكون هدى للناس ، وشفاء
لما في الصدور ، ولم ينزل ليتخذ حجبًا وتمائم ، ولا ليتلاعب به المتأكلون
به ، الذين يشترون به ثمنًا قليلًا ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي
ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) انظر من أحاديث المنبر لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل
الشيخ ص 59 .
الفصل الثالث العبادات
أهمية الصلاة ، وحكمة تشريعهاالحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات لحكم عظيمة وأسرار جليلة وجعل هذه الصلوات مكفرات لما بينهن من صغائر الذنوب والأوزار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والعزة والاقتدار وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين الأبرار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليمًا .
أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لله من الحكم العظيمة فيما أمركم به من العبادات وفيما نهاكم عنه من موجبات الإثم والسيئات فإن الله تعالى لم يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم ؛ لأنه سبحانه غني عن العالمين وإنما أمركم . بما أمركم به لاحتياجكم إليه وقيام مصالحكم الدينية والدنيوية عليه فالعبادات التي أمر الله بها كلها صلاح للأبدان وصلاح للقلوب وصلاح للأفراد وصلاح للشعوب وإذا صلحت القلوب صلحت الأبدان قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » ، أيها الناس : إنكم محتاجون إلى ربكم ومضطرون إليه ليس بكم غنى عنه طرفة عين فاعبدوه واشكروه وأديموا ذكره وشكره ولقد شرع الله لكم من العبادات ما يقربكم إليه ويستوجب الأجر والثواب ، شرع لكم الصلوات الخمس التي تطهر القلوب من الذنوب ، وتوصل العبد إلى غاية المطلوب . الصلوات التي هي صلة بين العبد وبين خالقه وفاطره يطهر ظاهره وباطنه ، حين يريد الصلاة فيأتي اليها بطهارة الباطن والظاهر ويقف بين يدي ربه خاشعًا خاضعًا لا يلتفت بقلبه ولا بوجهه ، قلبه متصل بالله
ووجهه إلى بيت الله فهو متوجه إلى ربه ظاهرًا وباطنًا يتلو كتابه ويتدبر ما يقوله ربه من أوامر ونواهي ويتأمل ما يتلوه من أحسن القصص التي بها المواعظ والاعتبار إذا مرت به أية رحمة طمع في فضل الله فسأل الله من فضله وإذا مرت به أية وعيد خاف من عذاب الله فاستعاذ به منه ثم يركع حانيًا ظهره ورأسه تعظيمًا لله الرب العظيم سبحان ربي العظيم مستحضرًا بذلك عظمة من لانت لعظمته الصعاب وخضعت لعزته الرقاب فيكون معظمًا لله بقلبه ولسانه وجسده بظاهره وباطنه ممتثلًا بذلك أمر ربه ورسوله حيث يقول تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } ويقول سبحانه : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } ، وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « اجعلوها في ركوعكم » ، ثم بعد أن يقول ما شاء الله من تعظيم يرفع رأسه مثنيا على ربه حامدًا له على إحسانه الكامل وصفاته العليا فإنه المحمود على كل حال المشكور بكل لسان ثم بعد ذلك يخر ساجدًا واضعًا أعلى جوارحه وأشرف أعضائه على الأرض وجميع أعضائه العاملة : الوجه واليدان والرجلان كلها لاطئة في الأرض ليس فيها شيء عالٍ على شيء وحينئًذ يستحضر من تنزه عن
السفول يستحضر علو الرب الأعلى فيقول سبحان ربي الأعلى ينزه ربه عن السفول ويصفه بالعلو المطلق فإنه تعالى عال بذاته عال بصفاته فهو فوق كل شيء وصفاته أعلى الصفات وأكملها ومن أجل هذا التواضع الذي يضع الساجد فيه نفسه تعظيمًا لربه كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فبعد أن يسبح ربه الأعلى يدعو الله تعالى . مما أحب ، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقمِنٌ ( أي حرِيٌ ) أن يستجاب لكم » ، وبعد هذا السجود والذل لله يقوم فيجلس جلسة الخاضع واضعًا يديه على فخذيه يسأل ربه المغفرة والرحمة والعافية ويستمر في صلاته هكذا ما بين قيام وركوع وسجود ثم بعد ذلك يختم صلاته بتعظيم الله ووصفه بما هو أهله : التحيات لله والصلوات والطيبات ، ويسلم على نبي الله ثم على نفسه ومن معه ثم على كل عبد صالح في السماء والأرض ثم يعود للصلاة والتبريك على نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم يستعيذ بالله من مضار الدنيا والآخرة ، يقول أعوذ باللة من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيخ الدجال ، ويدعو بما شاء ، فالمصلي أيها المسلمون متنقل في رياض العبادة
ما بين قيام وقعود وركوع وسجود وقراءة وذكر ودعاء ، قلبه عند ربه
في كل هذه الأحوال فأي نعيم أعظم من هذا النعيم وأي حال أطيب من هذه الحال
ولهذا كانت الصلاة قرة عيون المؤمنين وروضة أنس المشتاقين وحياه قلوب
الذاكرين فتثمر نتائجها العظيمة ويخرج المصلى بقلب غير قلبه الذي دخل به
فيها يخرج بقلب ممتلئ نورًا وسرورًا وصدر منشرح للإسلام فسيحًا فيجد نفسه
محبًا للمعروف كارهًا للمنكر ويتحقق له قوله تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } .
عباد الله : إن عبادةً هذه نتائجها وعملًا هذا شأنه لجدير بنا أن نسعى
لتحقيقه والعناية به وأن نجعله نصب أعيننا وحديث نفوسنا والله نسأل أن
يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يعيذنا من نزغات الشيطان وصده وأن
يجعلنا ممن حقق قول الله تعالى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } ، إنه جواد كريم
. (1)
_________
(1) الضياء اللامع ص 129 .
الخشوع في الصلاة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله إمام المرسلين ، وخاتم النبيين ، وسيد الخاشعين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .أيها الاخوة المؤمنون : يتساءل الكثيرون عن الخشوع في الصلاة وكيف يبلغونه ، وما السبيل إلى تحقيقه ، ونحن ننقل الولاء الإخوة كلام إمام من أئمة المسلمين من تدبره وحاول إن استطاع كان - بإذن الله - من الذين هم في صلاتهم خاشعون .
قال ابن القيم (1) رحمه الله تعالى : وليس حظ القلب العامر بمحبة
الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظمه من الصلاة كحظ القلب الخالي
الخراب ، فإذا وقف الإثنان بين يدي الله في الصلاة وقف هذا بقلب مخبت خاشع
له قريب منه سليم من معارضات السوء ، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة وسطع فيه
نور الإيمان ، وكشف عنه حجاب النفس ، ودخان الشهوات فيرتع في رياض معاني
القرآن ، وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأحماء والصفات وعلوها وجمالها
وكمالها الأعظم ، وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله .
فاجتمع همه على الله ، وقرت عينه به ، وأحس بقربه من الله قربًا لا نظير
له ففزع قلبه له ، وأقبل عليه بكليته ، وهذا الإقبال منه بين إقبالين من
ربه فإنه سبحانه أقبل عليه أولا فانجذب قلبه بإقباله ، فلما أقبل على ربه
حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول .
_________
(1) كتاب الصلاة ، ابن القيم ص 171 ، بتحقيق تيسير زعيتر ، المكتب
الإسلامي .
وههنا عجيبة من عجائب الأسماء والصفات تحصل لمن تفقه قلبه في معاني القرآن وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه بحيث يرى لكل اسم وصفة موضعًا من صلاته ومحلًا منها فإذا انتصب قائمًا بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيوميته وإذا قال " الله أكبر " شاهد كبرياءه . وإذا قال : " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " ، شاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب ، سالمًا من كل نقص ، محمودًا بكل حمد ، فحمده يتضمن وصفه بكل كمال وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك الله ، فلا يذكر على قليل إلا كثره ، ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ، ولا على آفة إلا أذهبها ، ولا على الشيطان إلا رده خاسئًا داحرًا ، وكمال الاسم من كمال مسماه فإذا كان هذا شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء فشأن المسمى أعلى وأجل ، وتعالى جده أي ارتفعت عظمته وجلت فوق كل عظمة وعلا شأنه على كل شأن وقهر سلطانه كل سلطان فتعالى جده أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيته أو في إلهيته أو في أفعاله أو في صفاته كما قال مؤمنو الجن : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } ، فكم في هذه الكلمات من
تجل لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها وغير المعطل
لحقائقها ، وإذا قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد آوى إلى ركنه
الشديد واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه ويباعده عن
قربه ليكون أسوأ حالًا .
فإذا قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وقف هنيهة يسيرة
ينتظر جواب ربه له بقوله : « حمدني عبدي » فإذا قال : { الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ } انتظر الجواب بقوله : « أثنى عليّ عبدي » فإذا قال : {
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } انتظر جوابه بقوله « مجدني عبدي » .
فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه : " عبدي " ثلاث مرات ، فوالله لو لا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحًا وسرورًا بقول ربها وفاطرها ومعبودها « حمدني عبدى » و « أثنى علي عبدي » و « مجدني عبدي » ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء الثلاثة التي هي أصول الأسماء الحسنى وهي " الله " و " الرب " و " الرحمن " فشاهد قلبه من ذكر اسم الله تبارك وتعالى إلها معبودًا موجودًا مخوفًا لا يستحق العبادة غيره ولا تنبغي إلا له ، قد عنت له الوجوه وخضعت له الموجودات وخشعت له الأصوات تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } وكذلك خلق السموات والأرض وما بينهما ، وخلق الجن والإنس والطير والوحش والجنة والنار ، وكذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع وألزم العباد الأمر والنهي .
وشاهد من ذكر اسمه رب العالمين قيومًا قام بنفسه وقام به كل شيء ، فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها ، قد استوى على عرشه وتفرد بتدبير ملكه فالتدبير كله بيديه ومصير الأوامر كلها إليه فالتدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا معقب لحكمه ولا راد لأمره ولا مبدل لكلماته تعرج الملائكة والروح إليه وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه فيقدر المقادير ويوقت المواقيت ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائمًا بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه .
ثم يشهد عند ذكر اسم " الرحمن " جل جلاله ربًا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان متحببًا إليهم بصنوف النعم وسع كل شيء رحمة وعلمًا وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلًا فوسعت رحمته كل شيء ووسعت نعمته كل حي فبلغت رحمته ما بلغ علمه فخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته وأرسل رسله برحمته وشرع شرائعه برحمته وخلق الجنة برحمته والنار أيضًا برحمته فإنها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنته ويطهر بها أدران الموحدين من أهل معصيته ، وإنها سجنه الذي يسجن فيه أعداءه من خليقته . فتأمل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعظه من الرحمة البالغة والنعمة السابغة وما في حشوها من الرحمة والنعمة ، فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده كما أن العبودية هي السبب المتصل منهم به فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرحمة .
وهنا نتوقف لنستكمل بقية معاني بعض فاتحة الكتاب في الأسبوع القادم إن شاء الله . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
بيان بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة
الحمد لله الذي وعد المحافظين على الصلاة أجرًا عظيمًا ، وأعد لهم في جنات الفردوس نعيمًا مقيمًا .وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فأنعم به ربًا رحيمًا كريمًا ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المصلين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليمًا .
أما بعد : أيها الناس اتقوا الله ، وحافظوا على الصلوات وأقيموها في الجمع والجماعات ، ولا تضيعوها وتهملوها فتقعوا في المهلكات . قال الله تعالى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } فمن أضاع الصلاة ولم يتب من ذلك لقي الغي في الدنيا والآخرة ، والغي هو الخسران المبين ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه " الغي وادٍ في جهنم بعيد القعر ، خبيث الطعم " فمن كان محافظًا عليها فليحمد الله على نعمته ويسأله الثبات على ذلك ، ومن لم يكن محافظًا عليها فليتب إلى الله من ذنبه وليرجع إلى ربه قبل أن يزيغ قلبه فيكون من الهالكين .
حافظوا عليها بفعل شروطها وأركانها ، وواجباتها وسننها ، فإذا أتى أحدكم الصلاة فليسبغ الوضوء ، ثم ليستقبل القبلة فإن استقبال القبلة لا بد منه في الصلاة قال الله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } ثم يستفتح الصلاة . بما ورد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ثم يتعوذ ويقرأ فاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ، ووجوبها على الإمام والمأموم والمنفرد لعموم الحديث وعدم المخصص الصحيح ، وينبغي للأئمة أئمة المساجد أن يراعوا حال المأمومين في الركعتين بعد التشهد الأول فيتأنوا في قراءة الفاتحة حتى يكملها المأمومون الذين خلفهم .
فإذا قرأ الفاتحة قرأ بعدها ما تيسر من القرآن ، يكون في المغرب بقصار المفصل غالبًا والسنة أن يقرأ أحيانًا بغير قصار المفصل . مما لا يشق على المأمومين فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بسورة الأعراف وقرأ فيها بسورة محمد ، وقرأ فيها بسورة الطور ، وقرأ فيها بسورة المرسلات ، ويكون في الفجر من طوال المفصل ، ويكون في الظهر والعصر والعشاء من أواسط المفصل إلا أن القراءة في الظهر تكون أطول من قراءة العصر . فإذا فرغ من القراءة ركع وقال " سبحان ربي العظيم " الواجب مرة وأدنى الكمال ثلاث ثم يرفع رأسه قائلًا : " سمع الله لمن حمده " فإذا تم قيامه قال : " ربنا ولك الحمد " وإن كان مأمومًا قال - حين الرفع - " ربنا ولك الحمد ولا يقول : " سمع الله لمن حمده " لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « فإذا قال ( يعني الإمام ) : سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد » ثم يسجد على أعضائه السبعة : الجبهة والأنف تبع لها ، واليدين ، والركبتين وأطراف القدمين ، ولا يجوز أن يرفع رجليه عن الأرض ، ولا أن يرفع أنفه ولا شيئًا من هذه الأعضاء عن محل سجوده ، ولا يجوز أن يسجد بجبهته على كفيه ، فأما
السجود على المنديل أو غيره من الأشياء المنفصلة عن المصلي فلا بأس به ، ولكن تركه أفضل ، وأما الأشياء المتصلة به كثوبه وغطاء رأسه فيكره السجود عليه إلا من حاجة ، ويقول في سجوده سبحان ربى الأعلى ولا يجوز للمصلى أن يقرأ القرآن وهو راكع أو ساجد ، لحديث ابن عباس رضى الله عنهما قال : « كشف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الستر ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال : " اللهم هل بلغت ( ثلاث مرات ) ، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا »« وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد » . فأما إذا دعا في سجوده بآية من القرآن وهو لم يقصد القراءة وإنما قصد الدعاء فهذا لا بأس به ، مثل أن يقول : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار أو غيرها من آيات الدعاء فهذا لا بأس به ثم يرفع من السجود فيقول بين السجدتين اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني ، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها وعليكم بالطمأنينة في
الصلاة فإنه لا صلاة لمن لا يطمئن في صلاته .
(1) أعوذ بالله من الشيِطان الرجيم { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من
كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا .
أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، وتفقهوا في دينكم ، واعرفوا حدود
ما أنزل الله على رسوله ، فإن من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين .
_________
(1) انظر الضياء اللامع ص 141 .
واعلموا أن من أهم ما يجب عليكم معرفته أحكام الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام وعمود الدين ، ومن أكثر ما يقع الخلل فيه سجود السهو في الصلاة حيث يجهله كثر من المصلين ، فسجود السهو له أسباب وأحكام ومواضع ينبغي لكل مسلم معرفتها حتى يكون على بصيرة من أمره إذا وقع له ذلك ، فأسباب سجود السهو إجمالًا ثلاثة : الزيادة والنقص والشك ، فأما الزيادة فمتى زاد المصلي في صلاته ركوعًا أو سجودًا أو قيامًا أو قعودًا ركعة كاملة فأكثر وجب عليه سجود السهو ومحله بعد السلام كما وقع ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : « صفى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسًا فقيل له أزيد في الصلاة ؟ قال وما ذلك ؟ قالوا صليت خمسًا فسجد سجدتين بعدما سلم » ، رواه الجماعة ، ومتى علم المصلي بالزيادة وهو في أثناء الزيادة وجب عليه الرجوع عن الزيادة وسجد للسهو .
وإذا سلم المصلي قبل تمام الصلاة ناسيًا فذكر قبل أن تمضي مدة
طويلة وجب عليه أن يتمم صلاته ، ويسجد للسهو بعد السلام فقد ثبت في
الصحيحين من حديث أبي هريرة « أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
- صلى بهم الظهر أو العصر ركعتين ثم سلم فأخبروه بأنه نسي فتقدم وصلى ما
بقي من صلاته ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم .
» وأما إذا طال الفصل أو أحدث المصلي قبل أن يذكر نقص الصلاة فإنه يعيد
الصلاة من أولها ، لأنه لا يمكن أن ييني أخر الصلاة على أولها مع طول
الفصل ، أو انتقاض الطهارة .
وأما النقص فمتى نقص المصلي شيئًا من واجبات الصلاة ناسيًا وجب عليه سجود السهو جبرًا لما نقص من صلاته ويكون قبل السلام فإذا نسي التشهد الأول وقام إلى الركعة الثالثة واستتم قائمًا فليمض في صلاته ولا يرجع ثم يسجد سجدتين للسهو قبل السلام فعن عبد الله بن بحينة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - « صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى في صلاته فلما كان في أخر الصلاة سجد قبل أن يسلم ثم سلم » ، متفق عليه ، ومثل ذلك إذا نسي أن يقول " سبحان ربي العظيم " في الركوع أو " سبحان ربي الأعلى " في السجود ، أو نسي شيئًا من التكبير غير تكبيرة الإحرام .
وأما الشك فإذا شك المصلي كم صلى ثلاثًا أم أربعًا ولم يترجح عنده شيء فليطرح الشك وليبن على ما استيقن وهو الأقل وليتم عليه ثم يسجد سجدتين قبل السلام ، قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثا أم أربعًا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم إن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان » . رواه أحمد ومسلم ، وإذا شك المصلي هل صلى ثلاثًا أو أربعًا وترجح عنده أحد الأمرين بنى عليه وأتم الصلاة على ما ترجح عنده ثم سلم ثم سجد سجدتين بعد السلام لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال : « إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين » . هذه أيها المسلمون هي الأصول في سجود السهو ، وقد تبين منها أن سجود السهو له موضعان موضع قبل السلام وموضع بعده فمواضع سجود السهو بعد السلام ثلاثة ، الأول : إذا زاد في صلاته ، والثاني : إذا سلم قبل إتمامها وهو من الزيادة في الواقع ، الثالث : إذا شك فلم يدر كم صلى وترجح عنده أحد
الأمرين وما عدا ذلك فمحله قبل السلام . أيها الناس : إن كثيرًا من المصلين ينكرون سجود السهو بعد السلام ويستغربونه ؛ وذلك لأنهم يجهلون هذا الحكم الشرعي الذي يرى بعض العلماء أن ما كان من سجود السهو قبل السلام فهو واجب وما كان بعده فواجب أن يكون بعده ، وسبب جهلهم عدم تعلمهم لذلك وعدم العمل به من أئمة المساجد ، وأئمة المساجد منهم من لا يدري بذلك ويحسب أن سجود السهو قبل السلام في كل حال ، ومنهم من يدري ولكن لا يعمل به بحجة خوف التشويش على المصلين وهذا ليس بعذر في ترك ما أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، بل الحق الذي يكون به براءة الذمة ونشر السنة أن يسجد بعد السلام إذا كان موضع السجود بعد السلام حتى يعرف الناس ذلك ويفهموه ويعملوا به ويزول عنهم التشويش ويكون لفاعله أجر من أحيا سنة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى : { يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }{ وَاللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا }{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (1)
اللهم اجمع قلوب المسلمين على الاعتصام بكتابك وسنة نبيك ، ووحدهم على
طاعتك ، واهدهم سبلك ، وبارك لهم في كتابك ، ووفقهم للاقتداء بسنة نبيك
إنك على ما تشاء قدير .
(2) . عباد الله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فاذكروا الله العظيم
الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما
تصنعون . قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .
_________
(1) أخي الخطيب : هناك خطب مرتبطة بصلوات ذات مناسبات شرعية معروفة كصلاة
الخسوف والكسوف والاستسقاء والعيدين : الفطر والأضحى ، والأصل في مناسبات
الخسوف والكسوف والاستسقاء الصلاة والضراعة إلى الله والتوبة والاستغفار
والإنابة ، والخروج من المظالم ، والخطب فيها إنما هي للتذكير بهذه
المعاني ، فإذا كسفت الشمس أو خسف القمر ندب للإمام أو نائبه أن يأمر بأن
ينادى في الناس « الصلاة جامعة » ، فإذا اجتمع الناس ، صلى الإمام بالناس
صلاة الخسوف أو الكسوف ، وقد رويت هذه الصلاة من فعله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم - على أنواع ، لكن أصح ما ورد فيها ركعتان في كل ركعة
ركوعان وسجودان فيكبر الإمام تكبيرة الإحرام ، ثم يقرأ الفاتحة وسورة
طويلة كسورة البقرة ، ثم يركع فيطل الركوع ، ويكثر من التسبيح ، ثم يرفع
فيقرأ بالفاتحة وسورة طويلة ولكن دون قراءته في القيام الأول ، ثم يركع
ثانية فيطيل الركوع ، ثم يرفع فيطيل القيام ، ثم يسجد فيطل السجود ، ثم
يجلس بين السجدتين ويطيل الجلوس ، ثم يسجد ثانية فيطيل السجود ، دون
إطالته للسجود الأول ، ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيفعل ما فعله في
الركعة الأولى ، ولكن الركعة الثانية تكون أقصر من الأولى في سائر ما
ذكرنا . ثم يخطب خطبة يذكر الناس فيها بأن الشمس والقمر آيتان من آيات
الله ، ويرغبهم في الجنة ونعيمها ، ويرهبهم من النار وعذابها ، ويحثهم على
التوبة والاستغفار والتضرع إلى الله تعالى . ومن لا يستطع إطالة القراءة
فلا مانع من أن يقرأ بقصار السور أو . مما تيسر له من القرآن العظيم .
(2) انظر الضياء اللامع ص 142 .
حكمة تشريع الجمعة والحث على أدائها
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .أحمده سبحانه وأشكره على حلو نعمه ومر بلواه ، وأستغفره وأتوب إليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
أما بعد : فيا عباد الله : اتقوا الله سبحانه واعلموا أن ديننا الإسلامي لم يترك شأنًا من شئون الآخرة ، ولا أمرا من أمور الدنيا إلا بينه ووضحه ، ومهد أصوله وفروعه ، وإن من محاسنه - وكله محاسن - مشروعية الاجتماع في يوم الجمعة وفرضيتها على الأعيان ما عدا المرأة والمسافر والصبي والعبد والمريض وسكان البادية . وما أحلاه من اجتماع وأعظمه من شعار تتجلى فيه مظاهر الوحدة ، ويتجدد فيه التعارف بين المسلمين ، وتستعيد الروح فيه بهجتها وسرورها . هذا اليوم الشريف والعيد المبارك ما طلعت الشمس على يوم أفضل منه ففيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه . يوم دعيت إليه الأمم قبلنا فضلت عنه ، وهدانا الله إليه ، فاحمدوا الله - أيها المسلمون - وحققوا فيه ما دعاكم الله إليه في قوله : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } ، والمراد بالسعي إلى ذكر الله الذي أمرتم به : هو الاهتمام بصلاة الجمعة ، وما تتطلبه ، وقصدها بخشوع وطمأنينة . وإياكم والتكاسل عنها فتعرضوا قلوبكم للطبع عليها بطابع قد لا تسعدون
بعده أبدًا ، يقول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونُن من الغافلين » ، وقال : « من ترك ثلاث جمع متهاونًا طبع الله على قلبه » .
عباد الله : إن الله شرع في هذا اليوم المبارك من العبادات ما فيه ترويض للنفوس ، وتزكية للأرواح وصقل للعقائد ، ومحو للذنوب ، وتقوية للروابط بينكم ، يقول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ، ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى » ، وفي لفظ : « وزيادة ثلاثة أيام » ، وفي حديث آخر : « غسل الجمعة على كل محتلم وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه » ، وإياكم والتشاغل عن سماع خطبة الجمعة فتضيعوا المصلحة التي شرعت من أجلها . ومن ذلك تعاهد المسلمين بالتذكير والتوجيه إلى ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى . افتحوا لسماعها الآذان ، ووجهوا لها القلوب ، وحذار من الكلام والإمام يخطب فقد جاء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه قال : « من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب أو مس الحصى فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له » ، وهذا نفي للثواب لا للإجزاء . وفي حديث آخر : « من تكلم والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا ، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة » .
وإياكم وتخطي رقاب الناس ، فقد رأى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وهو يخطب رجلًا يتخطى رقاب الناس فقال : « اجلس قد آذيت وآنيت » . والمراد بالإيذاء : انتهاكه حرمة المسلمين بتخطي رقابهم ، والمراد بآنيت : أي تأخرت بالمجيء إلى الجمعة ، يقول الله وقوله الحق : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
شهر رمضان وفرضيته وتيسيره
الحمد الله الذي فرض الصيام على المؤمنين موقوتًا بشهر كريم ، وجعل فيه ليلة القدر خيرًا من ألف شهر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وله الخلق والأمر ، وله العز والقهر ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ، الشافع المشفع يوم البعث والحساب ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .أما بعد : فقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، أيها المسلمون : الصيام لله تعالى عبادة فاضلة لا أحد غير المعبود يقدر ثوابها ، وشهر رمضان أحد أركان الإسلام الخمسة شرعه الله للعباد رحمة وإحسانًا وحمية وجُنة ، وفرض على المؤمنين شهر رمضان وحتم عليهم آداءه بوجه تستيقظ به التقوى في قلوبهم ، وتنقمع سَورة الشهوة في نفوسهم ، ويدركون معه فوائد الصوم الروحية الأدبية والاجتماعية والصحية ، ولهذا قال تعالى في تعقيب الآية : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، ومن رحمة البارئ عز وجل ولطفه وتيسيره على المسلمين أن سهل عليهم صوم شهرهم بعدة أشياء ، منها : أنه تعالى أخبرهم أن هذا الصوم الذي فرض عليهم ليس لأول مرة في تاريخ الأديان ، ولا بدعًا في التشريع فقال : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، فسبحان الله الملك الحق ، فالإنسان إذا عرف أنه إنما كلف بشيء سبق
وتقدم وفرض على الطوائف والأمم السابقة هان عليه الأمر وتشجع عليه بل ، واجتهد ليكون أحسن في الأداء من غيره ، ومنها : أنه تعالى هون عدة الشهر وثقلها عليهم بقوله تعالى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } ، فهي تصام تباعًا وتنقضي سراعًا ، وصدق الله العظيم ، فما نسبة هذا الشهر - الذي لا يصام إلا نهاره - إلى العام الكامل الذي ينقضي في لذة مباحة ومتعة وراحة ؟ ولكنها عطية الله الكريم ورحمة الله الرحيم . . ومنها أنه تعالى رخص للشيخ الكبير الهرم والمرأة الكبيرة الهرمة أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينًا إذا كانا يجدانه ، لقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } : " إنها ليست بمنسوخة ، هي للكبير الذي لا يستطع الصوم " . رواه البخاري ، ويلحق بهذا المعنى المريض الذي لا يرجى برؤه ، كما يلحق به أيضًا الحامل والمرضع إن خافتا على نفسيهما أفطرتا وقضتا وإن خافتا على ولديهما قضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينًا ، والإطعام في هذه الحالة على من تلزمه نفقة الولد . . ومنها : أنه تعالى جعل صيام الشهر موسمًا عالميًا للعبادة والذكر والتلاوة والورع والمغفرة
ومضاعفة الأجور ، يلتقي على صعيده كل المسلمين في جميع الأقطار ، ومن جميع الأجناس ، الفقير والغني ، الجاهل والعالم ، ففي كل بلد ، وفي كل قرية وبادية ، وفي كل قصر وكوخ : رمضان ، فلا افتيات في الرأي ولا فوضى في الاختيار ، وإنما الكل يصومون شهرًا واحدًا هو شهر رمضان ، الذي أنزل فيه القرآن . ومنها : أنه تعالى أحل للمسلمين بعد غروب الشمس مباشرة النساء والأكل والشرب ، سواء نام العبد أو لم ينم ، وكان في أول فرض الصوم يحرم عليهم الأكل والشرب والجماع بعد النوم ، فحصلت المشقة لبعضهم ، فخفف الله عنهم ذلك وأباح لهم في ليالي الصوم كلها الأكل والشرب ومباشرة النساء فقال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } كل
ذلك وغيره مما خفف الله تعالى به على المؤمنين ، فهنيئًا لهم على
صيام شهرهم ، وهنيئًا لهم على تيسير ربهم قال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ } .
والصوم هو : الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وتوابعها بنية خالصة لله
عز وجل من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، وتمامه وكماله باجتناب
المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات ، لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في
أن يدع طعامه وشرابه » .
وكان فرض الصوم في السنة الثانية من الهجرة ، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وقد صام تسع رمضانات ، ويجب صوم رمضان بأحد أمرين : إما برؤية الهلال لقول الله عز وجل : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وإما بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا » ، ولا عبرة لمنازل القمر مرتفعة أو منخفضة ، ولا لكبر الأهلة وصغرها في دخول الشهر أو خروجه ، فالمغارب تختلف باختلاف المطالع وسير الكواكب في الفلك ، ولم يرد أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حكم بمنازل القمر وكبر الأهلة ، أو احتاط بها في وجوب الصوم أو الفطر ، وإنما الذي صح عنه فعلًا وأمرًا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا » ، وينبغي للعبد أن يتلقى هذا الشهر الشريف بالحمد والشكر والثناء على الله وبالقبول والفرح والتهاني ، والاهتمام بأداء حقوق الصوم ، فيعمر نهاره بالصيام وتلاوة القرآن وليله بالقيام والدعاء والتضرع ، وكان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان ،
فيقول : « قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه ، فيه
تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير
من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم » .
نسأل الله أن لا يحرمنا هذا الخير ونرجوه فضل هذه الليلة المباركة أقول
قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم .
فضل ليلة القدر وقيام الليل
الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات ووفق من شاء منهم لاغتنام هذه المواسم بفعل الخيرات وخذل من شاء منهم فكان حظه التفريط والخسران وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسموات وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الدهور والسنين وسلم تسليمًا .أما بعد : أيها الناس ، اتقوا الله تعالى واغتنموا مواسم الخير بعمارتها بما يقرب إلى ربكم واحذروا من التفريط والإضاعة فستندمون على تفريطكم وإضاعتكم ، إخواني : من لم يربح ، في هذا الشهر الكريم ففي أي وقت يربح ومن لم ينب فيه إلى مولاه ففي أي وقت ينيب ؟ ومن لم يزل متقاعدًا عن الخيرات ففي أي وقت تحصل له الاستقامة والفلاح ، فبادروا يرحمكم الله فرص هذا الشهر قبل فواتها واحفظوا نفوسكم عما فيه شقاؤها وهلاكها ، ألا وإن شهركم الكريم قد أخذ بالنقص والاضمحلال وشارفت لياليه وأيامه الثمينة على الانتهاء فتداركوا أيها المسلمون ما بقي منه بالأعمال الصالحة ، وبادروا بالتوبة من ذنوبكم لذي العظمة والإكرام واعلموا أن الأعمال بالخواتيم فأحسنوا الختام ، لقد مضى من هذا الشهر الكريم الثلثان وبقي منه الثلث وهي هذه العشر فاغتنموها بالعزائم الصادقة وبذل المعروف والإحسان وقوموا في دياجيها لربكم خاضعين ولبره وخيراته راجين ومؤملين ومن عذابه وعقابه مستجيرين مستعيذين فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وهو الذي يقول : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } وهو الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيعرض على عباده الجود والكرم والغفران يقول : « من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » ، وفي هذه العشر ليلة القدر المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن الله سبحانه وتعالى ، تنزل فيها الملائكة من السماء وتكثر فيها الخيرات والمصالح والنعماء من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن فرط فيها وحرم خيرها فهو الملوم والمحروم أبهمها الله تعالى في هذه العشر فلم يبين عينها ليتزود الناس في جميع ليالي العشر من التهجد والقراءة والإحسان وليتبين في ذلك النشيط في طلب الخيرات من الكسلان فإن الناس لو علموا عينها لاقتصر أكثرهم على قيام تلك الليلة دون ما سواها ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان في إعلاء الهمة وإدنائها فاطلبوها رحمكم الله بجد وإخلاص واسألوا الله فيها الغنيمة من البر والخيرات والسلامة من الإفلاس فإذا مررتم بآية رحمة فاسألوا الله من فضله وإذا مررتم بآية وعيد فتعوذوا بالله من عذابه
وأكثروا في ركوعكم من تعظيم ذي العظمة والجلال وأما السجود فاجتهدوا فيه بعد التسبيح بالدعاء بما تحبون فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ويجوز للإنسان أن يدعو لنفسه ولوالديه وذريته وأقاربه ومن أحب من المسلمين وأطيلوا القيام بعد الركوع والجلوس بين السجدتين لتتناسب أركان الصلاة من القيام والركوع والجلوس والسجود ، والقيام بعد الركوع محل حمد وثناء فأكثروا فيه من الحمد والثناء ، والجلوس بين السجدتين محل دعاء بالمغفرة والرحمة فأكثروا فيه من الدعاء وافتتحوا قيام الليل بركعتين خفيفتين ، لأن الشيطان يعقد على قافية العبد إذا نام ثلاث عقد فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة فإذا تطهر انحلت الثانية وإذا صلى انحلت الثالثة ولكن إذا جاء أحدكم المسجد وقد أقام الإمام فليدخل معه ولو لم يفتتح القيام بركعتين خفيفتين لأن متابعة الإمام أهم .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : {
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا
لَيْلَةُ الْقَدْرِ }{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }{
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ
كُلِّ أَمْرٍ }{ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ووفقني وإياكم لما فيه من الآيات
والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من
كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم (1) .
_________
(1) انظر الضياء اللامع ص 174 .
الزكاة ومكانتها
الحمد لله حق حمده والصلاة على من لا نبي بعده ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه .أما بعد : أيها الناس : اتقوا الله واعلموا أن المؤمن لا يكون مؤمنًا حقًا حتى يخضع لأوامر الله وينقاد لها ، وقد فرض الله عليكم فرائض بإقامتها سعادتكم ، فرض عليكم الزكاة ، وفرض على كل مسلم قادر مالك للنصاب ، مستوف للشروط القيام بها في كل عام .
وللزكاة فوائد كبيرة لا تخفى ، فمنها : تأليف قلوب الأغنياء للفقراء ، وسد حاجتهم وخلتهم ، والحيلولة بينهم وبين الانحراف وارتكاب الجرائم أو أن تمتد أيديهم إلى أموال الناس أو إلى أنفسهم .
إن الزكاة تزكية وتطهير للمال وللمزكي نفسه ، ولمن يقبل الزكاة ويأخذها من الفقراء وتزكية للمجتمع الذي يؤدي أغنياؤه زكاة أموالهم .
أما تزكيتها للمال : فهي تنميه وتربيه وتطهره وتؤدي إلى البركة فيه ، وأما تزكيتها وتطهيرها لنفس المزكي فإنها تطهرها من البخل والشح وعبادة المال التي هي إشراك بالله سبحانه وتعالى .
وأما تزكيتها لنفس الفقير ، فهي تطهرها من الحقد والغل والحسد والتطلع إلى ما في أيدي الآخرين وتحول بينها وبين الوقوع في حبائل الشيطان وارتكاب الجرائم .
وهي بالتالي طهارة للمجتمع كله . . .
فيا صاحب المال : لا تبخل بمالك فإن الذي أعطاك إياه ، لو شاء لنزعه منك .
يا صاحب المال : إن الله هو الغني الحميد ، وقد من عليك بأن جعل يدك
العليا ، ويد غيرك السفلى ، فاشكر نعمة الله عليك لتدوم لك ، ولتظل يدك
العليا .
أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالًا ، فإن الله وعد المنفق بالخلف ، ووعد
الله لا يُخلَف .
يا صاحب المال : إن المال نعمة من الله عليك ، إن شكرتها زادت ، وإن
كفرتها هلكت وبادت .
يا صاحب المال : إن رحمة الله قريب من المحسنين ، فاحفظ مالك بأداء حق
الفقراء فيه ، فإن الفقير إذا لم يدفع له حقه : اندفع إلى الشر ، وإن
المجتمع الذي تظهر فيه الجريمة ، ويفشو فيه المنكر ، ويفقد فيه الأمن
والاستقرار : لا يمكن أن يُنمى فيه مال ، ولا يمكن أن يزاد فيه رزق ، بل
إنه يسير من حياة ضنك إلى حياة أشد ضنكًا منها .
يا صاحب المال : لقد جرت سنة الله في خلقه أنهم إذا جادوا جاد عليهم وإذا
بخلوا فمنعوا الزكاة حبس عنهم الأمطار ، وأغلى عليهم الأسعار ، فاستنزلوا
رحمة الله بالجود والكرم ، فإن الله جواد كريم يحب الجواد الكريم ، وأنه
بكم رؤوف رحيم .
لقد جاءت السنة النبوية المطهرة تحذر مانع الزكاة ، وتنذر
بالعذاب الأليم ، يقول عليه الصلاة والسلام : « ما تلف مال في بر أو بحر
إلا بحبس الزكاة » ، إن مانع الزكاة يوم القيامة في النار .
إنه يعذب بما كنز من مال الله الذي أعطاه ومنع حقه . . .
ففي الصحيحين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : « والذي
نفسي بيده ما من رجل يموت ويترك غنمًا أو إبلًا أو بقرًا لم يؤد زكاتها
إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه ، حتى تطأه بأظلافها وتنطحه
بقرونها حتى يقضى بين الناس ، كلما نفدت أخراها عاد عليه أولاها » .
مانع الزكاة يصور له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع ، أي ثعبانًا كبيرًا
يطوقه ، ففي الحديث الشريف : « ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله ، إلا مثل له
يوم القيامة شجاعًا أقرع يطوق به عنقه » . . " .
قال الله تعالى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
} .
مانع الزكاة يصفح ماله يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها ، قال
تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }{
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } .
مانع الزكاة معدود في المنافقين ، لحديث البزار : « ظهرت لهم الصلاة
فقبلوها وخفيت لهم الزكاة فأكلوها ، أولئك هم المنافقون » .
مانع الزكاة ملعون لحديث الأصبهاني : « لعن رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والواشلة والمستوشمة ،
ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له » . . " .
مانع الزكاة ليس بمسلم بالمعنى الذي يريده الله تعالى وإن زعم أنه مسلم
لحديث مسلم في صحيحه « من أقام الصلاة ، ولم يؤت الزكاة فليس بمسلم ينفعه
عمله » .
مانع الزكاة يخشى عليه أن يعد في المشركين يلحقه الويل كما لحقهم
. . قال تعالى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ }{ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } .
مانع الزكاة لا يشفع له محمد عليه الصلاة والسلام يوم القيامة لحديث
الصحيحين « لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ،
يقول يا رسول الله : أغثني ، فأقول لا أملك لك شيئًا ، قد أبلغتك » .
{ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى }{ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى }{
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى }{ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى }{
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى }{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }{ وَمَا يُغْنِي
عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى }{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى }{ وَإِنَّ
لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى }{ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى }{
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى }{ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى }{
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى }{ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }{
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى }{ إِلَّا ابْتِغَاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى }{ وَلَسَوْفَ يَرْضَى } .
{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ }{ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ }{ وَكُنَّا نَخُوضُ
مَعَ الْخَائِضِينَ }{ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ }{ حَتَّى
أَتَانَا الْيَقِينُ }{ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } .
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الحج
الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام ، وفرض على المستطيع منهم حج البيت الحرام ، ورتب على ذلك جزيل الفضل والإنعام ، ووعد من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق بأن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، نقيًا من الآثام ، وذلك هو الحج المبرور الذي لم يجعل الله له جزاء إلا الجنة دار السلام .أحمده وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك القدوس السلام ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أفضل من صلى وحج وزكى وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام ، وسلم تسليمًا كثيرًا .
أيها الأخوة المؤمنون : اتقوا الله واحمدوه أن أكمل لكم الدين ،
وأتم عليكم النعمة ، وإن مما أنعم الله سبحانه وتعالى علينا به أن أمرنا
بالحج ، ويسر لنا سبله ، لقد كانت فريضة الحج في سالف الأزمان فريضة شاقة
، لها أعباء وتكاليف ، لا يطيقها إلا القليلون ، تترتب عليها كثير من
المشاق في الأموال والأبدان ، ويتحمل الحاج كثيرًا من الأخطار ، أما في
أيامنا هذه فقد يسر الله الأمر تيسيرًا وجعله بفضله ونعمته أمرًا هينًا ،
وسفرًا يسيرًا ، فًاصبح المرء يصل إلى البيت الحرام بنفقات يسيرة ، وسبل
كثيرة وفيرة ، فهناك الطائرات في أجواء السماء وهناك البواخر تمخر عباب
البحار ، وهناك السيارات التي تطوى الفيافي والقفار ، وكل هذه الوسائل نعم
من الله سبحانه وتعالى على الناس ، وعلى الناس أن يشكروا نعم الله عليهم ،
وأن يغتنموا هذه الفرص لزيادة الخير وأداء الفرائض والتزود بالتقوى .
إن الله قد فرض الحج على المسلمين إذا ما اكتملت في المسلم شروط أولها :
البلوغ وثانيها : العقل ، وثالثها : الاستطاعة بالمال والبدن .
فمن لم يكن بالغًا أو كان معتوهًا ، أو ناقص الاستطاعة في ماله
أو في صحته فلا حج عليه لأن الله سبحانه وتعالى قال : { وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } .
وأما المدين ، الذي له مال ، ولكن عليه ديونًا كذلك فإنه يقضي ديونه أولًا
ثم يحج بعد ذلك ، لأن براءة الذمة أهم . وإن عجز الإنسان عن الحج وعنده
مال ، ومرضه لا يرجى برؤه ، فله أن ينيب عنه من يحج ، فمن تقدمت به السن
أو أقعده المرض ، بحيث لم يعد قادرًا على أداء الحج ، ولديه مال ، جاز له
أن ينيب امرءًا عنه ، يخرج من بلده بماله ليؤدي عنه هذه الفريضة .
وأما المرأة ، فيضاف إلى ما ذكرنا من الشروط أن يكون لها محرم يستطع أن
يرافقها حتى تعود إلى منزلها ، والمحرم إما أن يكون زوجًا أو أخًا أو
ولدًا أو أبًا أو جدًا أو نحوه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا يخلون
رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " ، فقام
رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا
وكذا ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " انطلق فحج مع
امرأتك » .
والمحرم كما قلنا هو من تحرم عليه المرأة تحريمًا مؤبدًا بنسب أو
رضاع أو مصاهرة ، كالأب والابن والجد والأخ وابن الأخ ، وابن الأخت والعم
والخال من نسب أو رضاع ، ومثل أب الزوج - وإن علا - وابنه - وإن نزل -
وزوج البنت - وإن نزل - وزوج الأم - وإن علت - لكن زوج الأم لا يكون
محرمًا لبنتها حتى يطأ الأم فكل هؤلاء محارم للمرأة .
والحكمة في وجوب اصطحاب المحرم للمرأة حفظها ، وصيانتها ، ورعاية شؤونها
أثناء السفر .
ومن تعذر عليها أن تجد محرمًا ، جاز لها أن تخرج بصحبة نسوة أي مجموعة من
النساء الثقات .
وأما صفة أداء الحج والعمرة ، فلا بد للمسلم أن يعرفها ، ليستطيع أن يؤدي
حجه وعمرته على الوجه الأكمل .
وأول هذه الأمور أن يعرف المسلم أنه خارج لأداء فريضة من أهم الفرائض وركن
من أهم الأركان ، فعليه ألا يخالط محرمًا ، ولا يرتكب معصية ، وعليه أن
يطهر قلبه ، كما يطهر بدنه ، وعليه أن تكون نفقته مالًا حلالًا طيبًا
طاهرًا لا يخالطه حرام ، وعليه أن يحرص على الصلاة وأدائها بشروطها جماعة
، وفي المساجد كلما أمكن ذلك .
وعليه أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة من السخاء والكرم وطلاقة الوجه
، والصبر على الآلام وتحمل الناس ، وعدم إيذاء أحد .
فإذا وصل الميقات المؤقت لأهل بلده ، فعليه أن يغتسل ويتطيب في بدنه ورأسه
ولحيته ، ثم يحرم بالعمرة متمتعًا ، سائرًا إلى مكة ملبيًا ، فإذا بلغ
البيت الحرام ، فليطف سبعة أشواط بنية طواف العمرة ، وجميع المسجد الحرام
مكان للطواف ، اقترب من الكعبة أو ابتعد ، لكن القرب منها أفضل ، إذا لم
يتأذ بالزحام ، ولم يؤذ سواه . فإذا وجد زحامًا فعليه أن يبعد ، والأمر
واسع ولله الحمد ، فإذا فرغ من الطواف فليصل ركعتين خلف مقام إبراهيم ، إن
تيسر له ذلك ، وإلا يصلي في أي مكان من الحرم . ثم ليخرج بعد ذلك لأداء
سعي العمرة ، فيبدأ بالصفا ، فإذا أكمل الأشواط السبعة فعليه أن يقصر من
رأسه من جميع الرأس ، ولا يجزي التقصير من جانب واحد ولا يغتر بفعل الكثير
من الناس .
وينبغي أن يحفظ جوارحه وذهنه وفكره عن كل معصية وعن كل ما يخل
بحجه . فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة ، فعلى الحاج أن يغتسل ويتطيب
ويحرم بالحج من مكان النزول ثم ليخرج إلى منى ، وليصل بها الظهر والعصر
والمغرب والعشاء الآخرة ، وفجر يوم عرفة قصرًا من غير جمع ، لأن رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصر بمنى ، وفي مكة ولا يجمع .
فإذا طلعت شمس يوم عرفة فليسر إلى عرفة ملبيًا ، خاشعًا لله ، ثم ليجمع
بعد ذلك الظهر والعصر جمع تقديم ركعتين ركعتين لكل من الظهر والعصر ثم
ليتفرغ بعد ذلك للدعاء والابتهال إلى الله ، وليحرص أن يكون على طهارة
طيلة الوقت وليستقبل القبلة ، وليجعل الجبل خلفه ، فالمشروع استقبال
القبلة ، ولينتبه الحاج جيدًا لحدود عرفة ، وعلاماتها ، فإن كثيرًا من
الحجاج يقفون دونها ، أو بعيدًا منها ، ومن لم يقف بعرفة فلا حج له ،
لقوله عليه الصلاة والسلام : « الحج عرفة » .
ومن وجد في عرفة ، فله أن يقف في أي موضع منها إلا بطن الوادي ، وادي عرنة
لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « وقفت ها هنا وعرفة كلها
موقف » .
فإذا غربت شمس يوم عرفة ، وتحقق المسلم من الغروب فليدفع إلى
مزدلفة ملبيًا خاشعًا ملتزمًا بالسكينة والوقار ما أمكن ، كما أمر بذلك
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كان ينادي بأصحابه : «
أيها الناس السكينة السكينة " . فإذا وصل مزدلفة ، فليصل بها المغرب
والعشاء ثم ليبت بها إلى الفجر » .
ولم يرخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد بالدفع من مزدلفة
قبل الفجر إلا للضعفة ، فمن كان ضعيفًا أو واهنًا أو مريضًا أو ذا حاجة
فله أن يدفع في آخر الليل .
فإذا صلى الحاج في مزدلفة فليتجه إلى القبلة وليكبر الله وليحمده ، وليدعه
حتى يسفر جدًا ، ثم يسير قبل طلوع الشمس إلى منى ، ثم يلقط سبع حصيات ،
وليذهب إلى جمرة العقبة وهى الأخيرة التي تلي مكة ، وليرمها بعد طلوع
الشمس بسبع حصيات ، يكبر الله مع كل حصاة خاضعًا معظمًا له .
فالمقصود من الرمي تعظيم الله وإقامة ذكره ، وعليه أن يسقط
الحصاة في الحوض ، وليس عليه أن يضرب العمود المنصوب هناك ، فإذا فرغ من
رمي الجمرة فليذبح هديه إن كان قد ساق الهدي ، ولا يجزي في الهدي إلا ما
يجزي في الأضحية ولا بأس أن يوكل شخصًا في الذبح ، ثم ليحلق رأسه بعد
الذبح ويجب حلق جميع الرأس ، ولا يجوز حلق بعضه دون بعض ، والمرأة تقصر من
شعرها بقدر أنملة وبذلك يكون قد حل التحلل الأول .
فله أن يلبس ، ويقص أظفاره ، ويتطيب وليس له أن يأتي النساء .
فإذا نزل قبل صلاة الظهر إلى مكة ، طاف طواف الإفاضة الذي هو طواف الحج ،
وسعى ثم رجع إلى منى ، فبهذا الطواف والسعي بعد الرمي والحلق والذبح يكون
قد تحلل التحلل الأخير ، وجاز له كل شيء بما في ذلك النساء .
أيها الأخوة المسلمون : إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك : رمي الجمرة
ثم النحر ، ثم الحلق ثم الطواف والسعي ، وهذا هو الترتيب الأكمل ، ولكن لو
قدم بعضها على بعض كأن حلق قبل الذبح مثلًا فلا حرج .
ولو أخر الطواف والسعي حتى ينزل من منى فلا حرج ، ولو أخرَ الذبح
، فذبح بمكة في اليوم الثالث عشر فلا حرج ، لا سيما مع الحاجة والمصلحة ،
وليبت ليلة الحادي عشر بمنى ، فإذا زالت الشمس فليرم الجمرات الثلاث ،
مبتدئًا بالأولى ثم الوسطى ، ثم العقبة ، كل واحدة بسبع حصيات ، يكبر مع
كل حصاة .
ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس ، وللضعيف من آخر الليل
وآخره إلى غروب الشمس ، ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس
ولا يجوز قبل الزوال إلا عند بعض العلماء . ويجوز الرمي في الليل إذا كان
الزحام شديدًا في النهار ، ومن لم يستطع الرمي لنفسه لصغر أو كبر أو مرض
فله أن يوكل من يرمي عنه ، ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه ، وعمن وكله في
مقام واحد ، لكن يبدأ بالرمي لنفسه فإذا رمى اليوم الثاني عشر فقد انتهى
الحج وهو بالخيار بعد ذلك إن شاء تعجل ونزل ، وإن شاء بات ليلة الثالث عشر
، وليرم الجمار الثلاث بعد الزوال وهذا أفضل لأنه فعل النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فإذا أراد الخروج من مكة ، فليطف طواف الوداع . وأما الحائض
والنفساء فلا وداع عليهما ، ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد والوقوف
عنده .
هذه صفة الحج كما شرعها الله سبحانه وتعالى وكما أمر بها .
فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، قال تعالى : { وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ
مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
الْفَقِيرَ }{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم .
وداع العام
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ومنه المبتدأ وإليه المنتهى والمآب وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من تعبد لله وأناب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب ، وسلم تسليمًا .أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى وتبصروا في هذه الأيام والليالي فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم ، وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة ، فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقرب إلى مولاه ، طوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنب العصيان ، طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات ، طوبى لعبد استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } .
إخواني : ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب ثم زوال ، ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة الصغيرة كما يولد الأطفال ، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام ، حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال ، وهكذا عمر الإنسان سواء فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام ، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ، ثم تمر به الأيام سراعًا فينصرم العام كلمح البصر ، فإذا هو في آخر العام وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ربما يؤمل الإنسان بطول العمر ، ويتسلى بالأماني ، فإذا بحبل الأمل قد انصرم ، وبناء الأماني قد انهدم .
أيها الناس : إنكم في هذه الأيام تودعون عامًا ماضيًا شهيدًا ،
وتستقبلون عامًا مقبلًا جديدًا ، فليت شعري ماذا أودعتم في العام الماضي
وماذا تستقبلون به العام الجديد ، فليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره فإن
كان قد فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك ما فات وإن كان
ظالمًا لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات
، وإن كان ممن منّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله
الثبات عليها إلى الممات .
إخواني : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، وليست التوبة مجرد قول
باللسان من غير تخلٍّ ، إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ،
وإنما التوبة ندم على ما مضى من العيوب وإقلاع عما كان عليه من الذنوب
وإنابة إلى الله بإصلاح العمل ومراقبة علام الغيوب ، فحققوا أيها المسلمون
الإيمان والتوبة فإنكم في زمن الإمكان .
وعظ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلًا فقال : « اغتنم خمسًا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك » ، ففي الشباب قوة وعزيمة فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال وفِى الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان ، عباد الله اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها واعلموا أن كل آت قريب وأن كل موجود منكم زائل فقيد ، فابتدروا الأعمال قبل الزوال .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }{ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الفصل الرابع : الأخلاق والسلوك
مقابلة السيئة بالحسنة والمودة بين المسلمين
الحمد لله الذي وعد على مقابلة الإساءة بالإحسان خير الجزاء . أحمده سبحانه على السراء والضراء . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبده ورسوله ، خاتم الرسل وأفضل الأنبياء .اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد فيا عباد الله : إن كل إساءة تقابل بالإحسان سوف يكون له الأثر الطيب في محو أثرها ، ومعالجة ما أحدثته من صدع وجفاء ومن أجل ذلك وجه رب العزة عباده إلى اتباع السيئة بالحسنة فقال عز من قائل : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } وقال أيضًا : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ولقد جاء في تفسيرها إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك ، ومقابلة السيئة بالحسنة مرتبة عظيمة لا يرتقي إليها من عباد الله إلا من امتلك زمام نفسه وقسرها على ذلك . إذ فيه خيره وسعادته في الآجلة والعاجلة وصلاح مجتمعه .
ولقد تركز في النفوس غريزة حب الانتقام والتشفي والانتصار للنفس
، فمن خالف هواه وأخذ بتوجيه مولاه وقابل السيئة بالحسنة دخل في إطار من
ارتفع به رب العزة إذ يقول في معرض المدح والإشادة { وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي ما يرتقي إلى هذه المرتبة العظيمة إلا من
صبر على كظم الغيظ واحتمال المكروه { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ } أي ذو حظ وافر من السعادة في الدنيا والآخرة .
أما السعادة في الدنيا فبائتلاف القلوب على محبة صاحب هذا الخلق العظيم
ورعاية مصالحه والعطف عليه ؛ فلا يكاد يجد له عدوا يكيد له أو يتربص به
الدوائر ، وتلك سعادة يحلم بها كل من عاش على الغبراء في قطع مرحلة الحياة
.
أما السعادة في الآخرة فلقد فسر بعض السلف الحظ العظيم في الآية بالجنة أي لا يرتقي إلى هذا الخلق العظيم إلا من وجبت له الجنة وحسبكم يا عباد الله بالجنة غاية كريمة وسعادة ، وصفها الرب الكريم بعد أن عرض صفات المحسنين وما تخلقوا به من الخلق العظيم فقال : { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } وعلى العكس من صاحب هذا الخلق الكريم نجد الفاحش البذيء الذي يتقيه الناس لفحشه وسلاطة لسانه وطعنه فيهم وهمزه ولمزه لهم . إنه لا يستقيم له أمر ولا يصفو له وداد ولا ينطوي على حبه قلب أو ينهض لرعاية مصالحه أو الذب عنه بعيد ولا قريب فيخسر بذلك دنياه إذ يقطع مرحلة الحياة منبوذًا من المجتمع بالإضافة إلى خسارة عقباه ، لقد ورد في الحديث من الوعيد الصارخ لهذا الصنف من الناس في أي وضع يكون فيه بين المجتمع سيدًا أو مسودًا من العظماء أم من الدهماء قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن من شرار الخلق منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه » ، وفي رواية أخرى « اتقاء شره » وفي حديث آخر « إن الله يبغض
الفاحش البذيء الذي يتكلم بالفحش » ، وفي حديث آخر يشرح فيه رسول
الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقع المفلس فيقول : « المفلس من
أمتي من جاء يوم القيامة بصلاة وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال
هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت
حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار » .
وحسبكم بذلك يا عباد الله خسارة ليس لها من تعويض ، فاتقوا الله عباد الله
وحذار من التجني على عباد الله في أي لون من ألوان التجني ففي ذلك فساد
العاجلة والآجلة ، وقابلوا كل إساءة بإحسان مستشرفين لبلوغ الفضل في ذلك
الذي يحفز إليه الملك الديان إذ يقول : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ
ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول
قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه
هو الغفور الرحيم .
المحافظة على الأمانة
الحمد لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال ، بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال جعل الأمانة في قلوب بني آدم ذكورًا وإناثًا لأنه ركب فيهم عقولًا بها يفقهون وبصائر بها يهتدون فتحملوا الأمانة مخاطرين ليعلوا بأدائها إلى درجة المؤمنين المتقين أو لينزلوا بإضاعتها إلى أسفل السافلين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين خلق فأتقن وشرع فأحكم وهو أحكم الحاكمين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي بلغ رسالة ربه وأدى أمانته على الوجه الأكمل وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا .أما بعد : أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا ما حملتم من الأمانة فحملتموه لقد عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا ، أدوا الأمانة بالقيام بما أوجب الله عليكم من عبادته وحقوق عباده ولا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ، ولا تخونوا في ذلك بإفراط أو تفريط بزيادة أو نقص فإن الخيانة نقص في الإيمان وسبب للخسران والحرمان ، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : « لا إيمان لمن لا أمانة له » ، وقال : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم » ، وقال « إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان » يرفع له هذا اللواء فضيحة له بين الخلائق وخزيًا وعارًا .
أيها المسلمون : إن الأمانة في العبادة والمعاملة ، فالأمانة في العبادة أن تقوم بطاعة الله تعالى مخلصًا له متبعًا لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه تخشى الله في السر والعلانية تخشاه حيث يراك الناس وحيث لا يرونك لا تكن ممن يخشى الله في العلانية ويعصيه في السر فإن هذا هو الرياء ألم تعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ألم تعلم أن الله أنكر على من هذه حاله بقوله تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }{ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }{ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } .
وأما الأمانة في المعاملة فأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به من النصح والبيان وأن تكون حافظًا لحقوقهم المالية وغير المالية من كل ما استؤمنت عليه لفظًا أو عرفًا ، فتكون الأمانة بين الرجل وزوجته يجب على كل منهما أن يحفظ الآخر في ماله وسره فلا يحدث أحدًا بذلك ، فقد صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : « إن من أشر الناس عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه » ، وتكون الأمانة بين الرجل وصاحبه يفضي له بحديث سر يعلم أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد ثم يفشي سره ويحدث به الناس . وفي الحديث : « إذا حدث الرجل رجلًا بحديث ثم التفت فهو أمانة » ، لأن التفاته دليل على أنه لا يحب أن يسمعه أحد .
وتكون الأمانة في البيع والشراء والإجارة والاستئجار فلا يجوز
للبائع أن يخون المشتري بنقص في الكيل أو الوزن أو زيادة الثمن أو كتمان
العيب أو تدليس في الصفة ولا يجوز للمشتري أن يخون البائع بنقص في الثمن
أو إنكار أو مماطلة مع القدرة على الوفاء . ولا يجوز للمؤجر أن يخون
المستأجر بنقص شيء من مواصفات الأجرة أو غير ذلك . ولا يجوز للمستأجر أن
يخون المؤجر بنقص الأجرة أو إنكارها أو تصرف يضر المستأجر من دار أو دكان
أو آلة أو مركوب .
وتكون الأمانة في الوكالات فيجب على الوكيل أن يتصرف بما هو أحسن ولا يجوز
أن يخون موكله فيبيع السلعة الموكل في بيعها بأقل من قيمتها محاباة
للمشتري أو يشتري السلعة الموكل في شرائها بأكثر من قيمتها محاباة للبائع
. وفي كل من كان واليًا على علم خاص أو عام فهو أمين عليه يجب أن يؤدي
الأمانة فيه فالقاضي أمين والأمير أمين ورؤساء الدوائر ومديروها أمناء يجب
عليهم أن يتصرفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن وفي ولايتهم وفيما
ولوا عليه حسبما يستطيعون ، وأولياء اليتامى وناظرو الأوقاف وأوصياء
الوصايا كل هؤلاء أمناء يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن .
ألا وإن من الأمانة ما يتصل بالثقافة والإرشاد والتعليم فعلى القائمين على ذلك من مخططي المناهج ومديري الأقسام والمشرفين عليها أن يراعوا الأمانة في ذلك باختيار المناهج الصالحة والمدرسين الصالحين المصلحين وتثقيف الطلبة علميًا وعمليًا دينا ودنيًا عبادة وخلقًا . وإن من الأمانة في ذلك حفظ الاختبار المدرسي من التلاعب والتهاون وحفظه في وضع الأسئلة بحيث تكون في مستوى الطلبة عقليًا وفكريًا وعلميًا لأنها إن كانت فوق مستواهم أضرت بهم وحطمتهم وأضاعت كل عامهم الدراسي وإن كانت الأسئلة دون مستواهم أضرت بمستوى الثقافة العامة في البلاد ، وحفظ الاختبار وقت الإجابة على الأسئلة بحيث يكون المراقب فطنًا حازمًا لا يدع فرصة للتلاعب ولا يحابي ابنًا لقريب ولا لصديق لأنهم هنا على درجة واحدة كلهم في ذمة المراقب وعهدته سواء . وحفظ الاختبار وقت تصحيح الأجوبة بحيث يكون التصحيح دقيقًا لا يتجاوز فيه ما يسمح به النظام حتى لا يظلم أحد على حساب الآخر ولا ينزل طالب إلا في المنزلة التي يستحقها .
إننا إذا حافظنا على هذه الأمانة في الاختبار في مواضعه الثلاثة
فهو من مصلحة الأمة كلها ومن مصلحة العلم ، فهو من مصلحة القائمين على
الاختبارات بأداء الواجب عليهم وإبراء ذممهم ومن مصلحة الطلبة حيث يحصلون
على مستوى علمي رفيع ولا يكون حظهم من العلم بطاقة يحملونها أو لقبا
يستحقون معناه وهو من مصلحة العلم حيث يقوى ويزداد حقيقة ولا يهمنا عند
ضبط الاختبار أن يكون الناجحون قليلًا لأن العبرة بالكيفية لا بالكمية
وإذا كانوا قليلًا في عام كانوا كثيرًا في العام الذي يليه حيث يعتادون
على الجد ويستعدون له .
وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة وإبراء الذمة وحفظنا من إضاعتها والتساهل
فيها إنه جواد كريم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم .
الخطبة الأولى خلق الحياء
الحمد لله الذي زين أولياءه بالتقى ورزقهم أفضل المكارم والمحاسن وأدب
نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أشد الناس حياءً وتراضعًا ،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ،
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين .
أما بعد أيها المسلمون : إن الإسلام دين خلقي رفيع ، يدعو إلى
مكارم الأخلاق ، ويبعث في النفس مشاعر الفضيلة والحياء .
وقد بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغاية من بعثته فقال
: « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » ، إن الإسلام جاء محاربًا لكل
الرذائل والمنكرات ، محرمًا لسائر الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
وغاية الإسلام أن يقيم مجتمعًا فاضلًا ، تنعدم فيه مظاهر الإثم والجريمة
وأسباب الفحش والمنكر ، بحيث يغدو هذا المجتمع نظيفًا من كل ما يدعو إلى
الوقاحة والدناءة والفجور .
ولقد كافح الإسلام طويلًا ، في سبيل إقامة هذا المجتمع الطاهر ، وجعل
الحياء أساسه وعماده .
فخلق الحياء ، هو رأس الفضائل الخلقية ، وعماد الشعب الإيمانية ، وبه يتم
الدين ، وتصلح الحياة ، وتسود الفضيلة ، وتنعدم أسباب الرذيلة .
والحياء عنوان الإسلام ، ودليل الإيمان ، ورائد الإنسان إلى الخير والهدى
، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « الحياء لا يأتي إلا
بخير » ، وقال عليه الصلاة والسلام : « الحياء شعبة من الإيمان ولا إيمان
لمن لا حياء له » .
فإذا تخلق الإنسان بخلق الحياء ، كان ذلك دليلًا على حسن أدبه
وسلوكه وصلاح ظاهره ، ونقاء سريرته ، وكمال إيمانه .
وحينما يفقد الإنسان خلق الحياء ، يكون قد حُرِم خيرًا كثيرًا ، وخسر
خسرانًا مبينًا .
والحياء انقباض النفس عن القبيح ، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب
كل ما يشتهي ، فلا يكون كبهيمة الحيوان .
فالحياء أداة مانعة من ارتكاب المعاصي ، حائلة بين المرء وبين فعل ما لا
يليق من القبيح ، وإن كان صغيرًا ، فهو أصل لكل فضيلة وخير ، وعصمة من كل
رذيلة وشر .
لهذا كله قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن لكل دين
خلقًا ، وخلق الإسلام الحياء » . وروي عن قرة بن إياس رضي الله عنه قال :
« كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فذكر عنده الحياء
فقالوا : يا رسول الله الحياء من الدين ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بل هو الدين كله » ، وذلك لأنه يؤدي إلى الأخلاق
الكاملة ، والأعمال الفاضلة .
ولقد « كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء
من العذراء في خدرها وإذا رأى شيئًا يكرهه عرف في وجهه » لما يبدو عليه من
أثر الحياء والخجل ، وكان أرق الناس طبعًا ، وأنبلهم سيرة وأعمقهم شعورًا
بالواجب ونفورًا من المثالب وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه «
دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجده يبكي قال : ما
يبكيك يا رسول الله ؟ قال : " أخبرني جبريل عليه السلام ، أن الله يستحي
من عبد يشيب في الإسلام أن يعذبه ، أفلا يستحي العبد أن يذنب وقد شاب في
الإسلام » .
إن هذا الحديث ينطبق على أولئك الذين شابت رؤوسهم وأصبحوا على حافة قبرهم
وهم في غفلتهم ساهون ، وعلى الدنيا مقبلون ، ولجمع المال عاكفون ، لا
يذكرون الله حقًا ، ولا يصلون فرضًا ، ولا يؤدون زكاة ، ولا يحجون بيتًا ،
ولا يتعففون عن منكر فما أقل حياء هؤلاء القوم وما أشد غرورهم وما أعظم
غفلتهم .
أيها المسلمون : إذا نظرنا في واقع الحياة اليوم وجدنا الحياء
معدومًا إلا من رحم ربك ، فلقد رفع الحياء من وجوه الرجال والنساء على حد
سواء فامتلأت الأرض آثامًا وشرورًا ، ومنكرات وفجورًا . ورأينا المخازي
والفضائح ترتكب بلا تورع ولا خجل ، ولا خوف من الله ولا وجل .
ورأينا النساء يخرجن شبه عاريات ، لم يتركن وسيلة شيطانية ، للإغواء
والفتنة إلا اتخذنها ، حتى غدت كل واحدة منهن في الشارع والمجتمعات
والحفلات كأنها عروس ليلة زفافها .
أما أشباه الرجال ، فهم من الوقاحة وموت الشرف والغيرة ، ما جعلهم أضل من
البهائم وهؤلاء لا شك أن قلوبهم ونفوسهم قد مسخت قردة وخنازير ، وإن كانت
أجسامهم في صورة بني آدم .
إذا ذهب الحياء ذهب الدين كله ، وإذا ذهب الدين والحياء ، انطلق الناس
كالدواب الشاردة ، لا يبحثون إلا عن شهوات بطونهم وفروجهم ويستبيحون في
سبيل ذلك كل حرمة وخلق ومبدأ وشرع .
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « خرج علينا رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : " استحيوا من الله حق الحياء " ، قلنا يا
رسول الله : كلنا نستحي والحمد لله . . قال : " ليس ذلك ، ولكن الاستحياء
من الله حق الحياء : أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى وتذكر الموت
والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك ، فقد
استحيا من الله حق الحياء » .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية في حياء المجتمع المسلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
وبعد :
أيها الاخوة المسلمون : قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
« إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء » .
الإسلام دين يقوم على الفضيلة والخلق الكريم والحياء ، ويدعو إلى الطهر
والعفة والترفع عن الفحش والبذاء . . فالحياء شعبة من الإيمان ، ولا دين
لمن لا حياء له .
ومن أجل أن يكون الحياء خلق كل مسلم ومسلمة ، والطهر والعفاف
صفات كل مؤمن ومؤمنة ، حض الإسلام على التحلي بالمكارم والفضائل ، والتخلي
عن الموبقات والرذائل ، وحرم كل تكشف وسفور ، وكافح بشدة كل فحش ومنكر
وفجور ، حتى يكون المجتمع الإسلامي مثالًا للوقار والعفة ، والحياء
والفضيلة ، والشرف والغيرة وطهارة الضمائر والنفوس .
أيها المسلمون : ولكي يوفر الإسلام للحياة الإجتماعية ، قواعد الحياء
والفضيلة ومعالم الطهر والعفة حرم السفور ونهى عن التبرج ، وفرض الحجاب
وضرب حول المرأة سياجًا من الفضيلة والعفاف وحصنها بالشرف والحياء سدًا
لذرائع الفتن والمفاسد وقطعًا لأسباب الفجور ودواعي الفسوق والانحراف .
قال الله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ
الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
هذه وصية " الله " للمرأة المسلمة أن تقر في بيتها ولا تدع
مجالًا لأجنبي أن يرى شيئًا من زينتها وجسمها ، وإذا برزت إلى السوق فليكن
مظهرها ينبئ عن حشمة وحياء ووقار . وأن تعكف في بيتها على أداء الواجبات
البيتية والحقوق الزوجية مع رعاية الفروض الدينية من إقام الصلاة وإيتاء
الزكاة وطاعة الله ورسوله .
إن الإسلام يدرك المفاسد الكبرى ، التي تترتب على اختلاط النساء بالرجال
فحرم ذلك وأمر أن يكون هناك حجاب أو ساتر حين يريد رجل مقابلة امرأة
أجنبية لطلب متاع أو سؤال حاجة .
فقال تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } وفرض
الحجاب وأمر بتغطية الوجه وستره لأنه مجتمع المحاسن وعنوان الجمال وموضع
الفتنة والإغراء .
قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ
وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلَابِيبِهِنَّ } وقال سبحانه : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ } .
فأين هذا من زماننا اليوم ؟ إن الإنسان حيثما سار واتجه لا يقع
بصره إلا على النساء السافرات ، والكاسيات العاريات إلا من رحم ربك ،
وكأنهن يعرضن أنفسهن للزينة والفتنة والجمال .
إن تبرج المرأة وسفورها ، دليل على نقص دينها وفقد حيائها فهو فساد لها
أيضًا ، وفي فساد المرأة فساد الجيل وفساد الأمة كلها ، وقد جر ذلك علينا
من البلاء العظيم ، والفساد الكبير ، والفضائح والمخازي ، والجرائم
والمآسي ما جعل الحياة تنقلب إلى شقاء وتعاسة وانحطاط وحقارة .
فبعدًا لحياة يهان فيها الشرف ، وتموت فيها الغيرة والرجولة ، وتبذل
الكرامة والعفة في أبشع صور الذل والمهانة فأين الشرف ؟ وأين الفضيلة
والحياء ؟ أين كرامة الرجولة وعزة المسلم ؟ أين الغيرة على العرض والغضب
لمحارم الله ؟
إن من أكبر العار ، أن يسير الرجل المسلم وإلى جانبه زوجه أو ابنته أو
أخته سافرة الوجه بادرة الصدر والنحر ، مظهرة للجمال والزينة ، يتمتع
بالنظر إليها كل من رآها من مرضى القلوب والنفوس .
« سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته فاطمة
رضي الله عنها : " أي شيء أحسن للمرأة ؟ " ، قالت أن لا ترى الرجال ولا
يراها الرجال . . فضمها إلى صدره وقال : " ذرية بعضها من بعض » .
اللهم إنا نسألك الثبات على دينك وشكر نعمتك وحسن عبادتك ، اللهم اصرف عنا
الفواحش ومنكرات الأخلاق واهد شبابنا وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا
من خزي الدنيا وعذاب الآخرة اللهم آمين .
عباد الله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فاذكروا الله العظيم
الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما
تصنعون .
خلق الرحمة
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والعاملين بسنته ، والداعين إلى شريعته ، الرحماء فيما بينهم إلى يوم الدين .أما بعد : أيها المسلمون : من الفضائل التي تحلى بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ونادى بها الإسلام ، فضيلة الرحمة ، والرحمة رقة في الطبع تثمر الرفق والرأفة ولين الجانب ، وهي خلق رفيع ، يحرك عاطفة الإنسان بالخير والبر .
يمدح بها الله رسوله المبعوث بمكارم الأخلاق فيقول : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ، كما - وهو المبعوث رحمة للعالمين - يعز عليه أن يحرم إنسان من نور الإسلام ، وطمأنينة الإيمان .
يقول الله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } ، والرحمة الشاملة الكاملة هي رحمة الله العزيز الرحيم فقد عمت الكائنات جميعها فما من موجود إلا وبرحمة الله يحيا ، وفي ظلالها يعيش . قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } ، وقال سبحانه : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } .
لقد خلقنا الله ولم نك شيئًا ، ويسر لنا أسباب الحياة إلى حين - على أرضه وتحت سمائه - وأجرى لنا الأنهار ، وأنبت لنا الزرع والثمار ، وجعل لنا الليل والنهار ، وأفاض علينا من النعم والخير ما لا يحصى يقول عز وجل { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، وقال تعالى : { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } .
ولقد حمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشاعل الهدى
، وأنوار الإيمان ، وأوضح للناس أسلوب العمل الذي يصلحهم في الدنيا ،
ويحقق فيها آمالهم ، ويسعدهم في الآخرة ويؤمن فيها مستقبلهم فكان ذلك
فضلًا من الله ، ورحمة للناس من الضياع والضلال . قال تعالى لمريم في شأن
ابنها عيسى عليه السلام : { قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ
أَمْرًا مَقْضِيًّا } .
ولما أراد الله أن يختم رسالاته إلى الناس ، ويكمل لهم الدين ، ويتم عليهم
النعمة بعث خاتم المرسلين ، وإمام المهتدين ، فكان ذلك رحمة لمن اهتدى بل
كان رحمة للعالمين .
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } .
وكان القرآن العظيم آية الله الكبرى ، ومعجزة الإسلام الخالدة ، شفاءً لما
في الصدور وهدًى ورحمة ، قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
} .
ومهمة الداعين إلى الله بما لها من خطر تستلزم طاقة فياضة من
الرحمة وسعة الصدر ولين الجانب ، ومن ثم فقد امتاز سيد الدعاة إلى الله
محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه بقلب يفيض بالرحمة ، وينبض
بالحنان ، وحب الخير للعالمين ، فقد كان يعامل بالرحمة الصغير والكبير
والمؤمن والمشرك ، وإن سيرته العطرة لتحمل من حسن خلقه وطيب معاملته ورقة
عاطفته الشيء الكثير .
فقد « روي أن أعرابيًا جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقال : يا محمد احمل لي على بعيري من مال الله الذي عندك ، فإنك لا تحمل
لي من مالك ، ولا من مال أبيك ، وجذب الرسول من ثيابه جذبة أثرت في عنقه
الشريف ، فقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " المال مال
الله ، وأنا عبده ، ولكن يقاد منك يا أعرابي " ، فقال الرجل : إنك لا تفعل
، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لماذا " ؟ فقال : لأنك
لا تجزي السيئة بالسيئة ، ولكنك تجزي السيئة بالحسنة ، فعفا عنه الرسول
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر له بما يحتاج إليه » .
ولقد كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرحم الصغار
ويحنو عليهم ، ويداعبهم ويقربهم ، روى الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن
سلام قال : « سماني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوسف ،
وأقعدني في حِجْره ، ومسح على رأسي » . . وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مع أعدائه ومعانديه جميل الصبر واسع الصدر ، يتحمل أذاهم ويرجو
صلاحهم ولو دعا عليهم لأفناهم من الوجود ولكن إذا اشتدوا في عداوته والكيد
لدعوته ، لم يزد على أن يقول : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " .
ولقد دعا الإسلام إلى التحلي بهذا الخلق الكريم حتى تستقر الحياة بالناس
ويجد كل فرد في المجتمع مكانه ومكانته وحقه وكرامته .
فعند الطبراني من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله :
« لن تؤمنوا حتى ترحموا " ، قالوا يا رسول الله كلنا رحيم . قال : " إنه
ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة » .
ويؤكد الإسلام تبادل الرحمة ، إن جاوزت عالم الإنسان إلى أجناس
الحيوان ، فلا ينبغي أن يُؤذى حيوان أو يُضرب أو يُجوَّع أو يُظمأ ، فعند
أبي داود عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال : « كنا مع رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فانطلق لحاجته ، فرأينا حُمّرة
معها فرخان فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة فجعلت تَفْرُش ، فجاء النبي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : " من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها
إليها " ، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال : " من حرق هذه " ؟ قلنا : نحن ،
قال : " إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار » .
وعند البخاري ومسلم واللفظ له عن ابن عمر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال : « عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت جوعًا ، فدخلت فيها
النار ، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش
الأرض » .
أيها المسلمون : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
، و « من لا يرحم الناس لا يرحمه الله » كما صح في الحديث .
ومن أسباب الشقاء في الدنيا وفي الآخرة قسوة القلب ، وجمود العاطفة لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : « لا تنزع الرحمة إلا من شقي » .
فليكن لنا في رسول الله أسوة حسنة ، ولنستمسك بتعاليم ديننا وليرحم كل منا نفسه فلا يعرضها لغضب الله ولا يورطها في معصيته . ألا تحب أن يحييك ربك بالسلام على لسان خير الأنام ، وأن يعاملك برحمته وفضله في الدنيا والآخرة ، إن الله تبارك وتعالى يقول : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، ويقول جل جلاله عن المتراحمين المتآلفين الذين امتلأت قلوبهم إيمانًا بالله ورسوله ورقت عواطفهم في معاملة الناس : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
اللهم وفقنا للتوبة والإنابة وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة ، اللهم أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك ونزه قلوبنا عن التعلق بما دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك وعافنا في الدارين من جميع المحن وأصلح منا ما ظهر وما بطن وألحقنا بالصالحين وارحم كافة المسلمين ، اللهم آمين ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
صلة الرحم
الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا ، وأوجب صلة الأرحام وأعظم في ذلك أجرًا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدها ليوم القيامة ذخرًا وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعظم الناس قدرًا وأرفعهم ذكرًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بالحق وكانوا به أحرى وعلى التابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا .أما بعد : أيها الناس اتقوا الله تعالى وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده ، صلوا أرحامكم والأرحام والأنساب هم الأقارب وليسوا - كما يفهم بعض الناس - أقارب الزوج أو الزوجة فإن أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابًا لها ولا أرحامًا وأقارب زوجة المرء أصهار له وليسوا أرحامًا ولا أنسابًا إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وبنته وكل من كان بينه وبينه صلة من قبل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته .
صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات ، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس عليه من صلة . إن صلة الرحم ذكرى حسنة وأجر كبير ، إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ }{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ }{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } ، وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه « أن رجلًا قال يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد وفق أو قال لقد هدي كيف قلت فأعاد الرجل فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي
الزكاة وتصل ذا رحمك " ، فلما أدبر قال النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة » .
صلة الرحم سبب لطول العمر وكثرة الرزق قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : « من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه
» ، متفق عليه . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن الله تعالى
خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من
القطيعة قال الله نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى
قال فذلك لك » .
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « الرحم متعلقة بالعرش تقول من
وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله » ، متفق عليه . ولقد بين رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صلة الرحم أعظم أجرًا من العتق ففي
الصحيحين عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : « يا رسول الله
أشعرت أني أعتقت وليدتي قال . أوَ فعلت قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها
أخوالك كان أعظم لأجرك » .
أيها الناس : إن البعض لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه وهذا في الحقيقة ليس بصلة فإنه مكافأة إذ إن المروءة والفطرة السليمة مكافأة من أحسن إليك قريبًا كان أم بعيدًا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها » ، متفق عليه ، فصلوا أرحامكم وإن قطعوكم وستكون العاقبة لكم عليهم « فقد جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عليهم ويجهلون علي فقال : " إن كنت كما قلت فكأنما تُسِفهم الملّ - أي الرماد الحار - ولا يزال معك من الله ظهير عليهم - أي معين عليهم - ما دمت على ذلك » ، رواه مسلم .
واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم فإنها سبب للعنة الله وعقابه يقول الله عز وجل : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } ، ويقول تعالى : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى للرحم بأن يقطع من قطعها حتى رضيت بذلك وأعلنته فهي متعلقة بالعرش تقول من قطعني قطعه الله .
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : « لا يدخل الجنة قاطع » ، يعنى قاطع رحم ( متفق عليه ) . وأعظم القطيعة " قطيعة الوالدين " ، ثم من كان أقرب من القرابة ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث مرات " ، قلنا بلى يا رسول الله قال : " الإشراك بالله وعقوق الوالدين » ، سبحان الله ما أعظم عقوق الوالدين ما أشد إثمه إنه يلي الإشراك بالله تعالى وإن عقوق الوالدين قطع برهما والإحسان إليهما وأعظم من ذلك أن يتبع قطع البر والإحسان بالإساءة والعدوان سواءً بطريق مباشر أو غير مباشر ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : « من الكبائر شتم الرجل والديه " ، قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم : " يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه » ، استبعد الصحابة رضي الله عنهم أن يشتم الرجل والديه مباشرة ولعمر الله إنه لبعيد لأنه ينافي المروءة والذوق السليم فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك قد لا يكون مباشرة ولكن يكون عن طريق التسبب بأن
يشتم الرجل والدي شخص فيقابله بالمثل ويشتم والديه . وعن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه قال حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن
والديه ، لعن الله من آوى محدثًا ، لعن الله من غير منار الأرض » ، رواه
مسلم .
فيا عباد الله يا من آمنوا بالله ورسوله انظروا في حالكم انظروا في
أقاربكم هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة ؟ هل ألنتم لهم الجانب هل
أطلقتم الوجوه لهم وهل شرحتم الصدور عند لقائهم هل قمتم بما يجب لهم من
محبة وتكريم واحترام هل زرتموهم في صحتهم توددًا وهل عدتموهم في مرضهم
احتفاء وسؤالًا هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة فلننظر .
إن من الناس من لا ينظر إلى والديه اللذين أنجباه وربياه إلا نظرة احتقار وسخرية وازدراء يكرم امرأته ويهين أمه ويقرب صديقه ويبعد أباه إن جلس عند والديه فكأنه على جمر يستثقل الجلوس ويستطيل الزمن . اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر لا يخاطبهما إلا ببطء وتثاقل ولا يفضي إليهما بسر ولا أمر مهم قد حرم نفسه لذة البر وعاقبته الحميدة . وإن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه ولا يعاملهم معاملة تليق بهم يخاصمهم في أقل الأمور ويعاديهم في أتفه الأشياء ولا يقوم بواجب الصلة لا في الكلام ولا في الفعال ولا في بذل المال تجده مثريًا وأقاربه محاويج فلا يقوم بصلتهم بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم فلا ينفق وقد قال أهل العلم كل من يرث شخصًا من أقاربه فإنه تجب عليه نفقته إذا كان محتاجًا عاجزًا عن التكسب وكان الوارث قادرًا على الإنفاق لأن الله تعالى يقول : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } ، أي مثل ما على الوالد من الإنفاق فمن يبخل بما يجب عليه يندم يوم القيامة سواء طلبه المستحق منه أو استحيا وسكت .
عباد الله : اتقوا الله تعالى وصلوا أرحامكم واحذروا من قطيعتهم واستحضروا دائمًا ما أعد الله تعالى للواصلين من الثواب وللقاطعين من العقاب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
حسن الجوار وحقوق الجار
الحمد لله الذي أمرنا بالبر والصلة ونهانا عن العقوق ، وجعل حق المسلم على المسلم من آكد الحقوق ، وجعل للجار حقًّا على جاره وإن كان من أهل الكفر والفسوق ، نحمده تعالى وبه الوثوق ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الخالق وكل شيء سواه مخلوق . ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق المصدوق .اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الناطق بأفضل منطوق ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وصحبه المؤدين للحقوق ، وعلى التابعين لهم بإحسان من سابق ومسبوق .
عباد الله : حق الجار على جاره مؤكد بالآيات والأحاديث ، وما زال جبريل يوصي محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجار حتى ظن أنه سيشركه في المواريث ، ولا يسيء الجوار ويؤذي الجار إلا لئيم وخبيث ، بكل فساد في الأرض يعيث وفيه يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، قيل يا رسول الله لقد خاب وخسر من هو ؟ قال من لا يأمن جاره بوائقه . قالوا : وما بوائقه ؟ قال شره » .
كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار ، ويتفاخرون بحسن الجوار وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار . والإسلام يأمر بحسن المجاورة ولو مع الكفار وشر الناس من تركه الناس اتقاء شره . وتباعد عنه من يعرفه تجنبًا لضره . وأخبث الجيران من يتتبع العثرات . ويتطلع إلى العورات في سره وجهره ، وليس بمأمون على دين ولا نفس ولا أهل ولا مال . قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت » ، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « المؤمن من أمنه الناس ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه » .
عار عليك أيها المسلم أن تبيت شبعانًا ، وجارك طاو جائع ، وعار
عليك أن تلبس الجديد وتبخل بما أبليت من ثيابك على عراة الجيران ، وعار
عليك أن تتمتع بالطيبات من مشموم ومطعوم وجيرانك يشتهون العظام وكسر
الطعام وأنت تعلم قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « ألا
لا تحقرن جارة لجارتهما ولو فرسن شاة » ، وأنه قال لأبي ذر رضي الله عنه :
« يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعهد جيرانك » .
أيها المسلم : إن من حق جارك عليك أن تسلم عليه إذا لقيته ، وأن تعوده إذا
مرض ، وتشيعه إذا مات ، وتكون لأولاده بعد وفاته كما كان لهم في حياته .
وأن تقف إلى جانبه في السراء والضراء والشدة والرخاء . وفي المثل السائر :
" من فاته نفع إخوانه ، فلا يفوتنه نفع جيرانه " ، وقال رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه ،
وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره » .
حرام عليك أيها المسلم أن تنظر في بيت جارك وهو غافل أو تخونه في أهله ، ومن نظر في بيت جاره بغير إذنه ملأ الله عينه من نار جهنم ، وحرام عليك أن تسمع ما يقول في بيته فتكون جاسوسًا لا يأمنك على قوله وفعله ، وإذا عجزت عن بر جارك أو الإحسان إليه والاعتراف بفضله ، فكف أذاك عنه ولا تضره ودعه يستريح في منزله وإذا دعاك فأجبه ، وإن استشارك فأشر عليه ، وإذا كان مظلومًا فانصره أو ظالمًا فاقبض على يديه ، وإن أحسن فاشكره وإن أساء فاعف عنه ، وإن ارتكب الفساد فلا تقره عليه ، فرب جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يا رب إن هذا قد أغلق بابه دوني ومنعني معروفه ، ورآني على الشر فلم ينهني عنه « وقال رجل يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها ، غير أنها تؤذي جيرانها ، قال : " هي في النار " ، قال : يا رسول الله فإن فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها قال : " هي في الجنة » .
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أربع من
السعادة : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح والمركب
الهنيء . وأربع من الشقاوة : الجار السوء والمرأة السوء والمركب السوء
والمسكن الضيق » ، والله تعالى يحب جارًا صبر على أذية جاره حتى يكفيه
الله إياه بتحول أو موت .
ومن الحماقة وضعف الرأي ترافع الناس إلى الحكام فيما يقع عادة بين الجيران
، من خصومات النساء ومشاجرات الصبيان ، ومما جاء عن رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهيه عن إطالة البنيان إذا كان في ذلك شيء من
الأذى كسد الهواء والإشراف على من يدانيك في المكان . ولقد كان يقول
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في
دار المقامة ، فإن جار البادية يتحول » ، وقال عليه الصلاة والسلام : «
اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ،
وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا ، ولا
تكثر الضحك فإن كثرة الضحك يميت القلب » .
بعض الناس لا يبالي بغيره إذا تمت له راحته ، ولا يهمه أن يكون عباد الله كلهم ساخطين عليه وأن تدنس ساحته ، ما دام ينال قصده ويصل إلى مراده ويتمتع بشهواته ، وتحسن له حالته ، لو كان في ذلك هلاك غيره وترك دينه وخروجه عن الشرف والمروءة ولذلك تراه بغيضًا في إخوانه ممقوتًا في جيرانه ، وخفيفًا في ميزانه وسخيفًا عند من يعرفه من أهل زمانه . ومما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : « إذا لم تستح فاصنع ما شئت » ، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب ، فمن أعطاه الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه » .
جعلني الله وإياكم من خيار خلقه ، وبارك لي ولكم في الطيبات من
رزقه ، وأجارني وإياكم من أذية الجار والتهاون بحقه ، آمين : {
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ
ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ
كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر
المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
خطر شهادة الزور
الحمد لله الخبير فلا تخفى عليه خافية يعلم ما توسوس به نفس المرء وما ينطق به سرًّا أو علانية ، أحمده سبحانه أمرنا بحفظ ألسنتنا عن قول الزور والفحشاء ، وأسأله التوفيق لقول الحق في السراء والضراء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله بشر الصادقين بجنات تجري من تحتها الأنهار . وآذن الكاذبين بسوء العاقبة والنار والدمار ، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق في الأقوال والأفعال والبعد عن الزيغ والضلال وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد فيا أيها المسلمون : اتقوا الله واسمعوا قوله سبحانه بآذان مصغية وقلوب واعية تنشد الحق لتتبعه يقول جل من قائل : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } .
عباد الله : ها هو جل وعلا أمركم بالقسط الذي هو العدل وبأن تكون شهادتكم بحق لشخص أو عليه مرادًا بها وجه الله سبحانه أمركم بالإتيان بالشهادة على وجهها من غير التواء أو تأويل ، فتحروا رحمكم الله في شهادتكم وأقوالكم الحق الذي لا غبار عليه فبشهادة الحق إثبات الحقوق وتوطيد دعائم الأمن وإياكم وتحكيم عاطفة القرابة في الشهادة . إياكم والميل إلى غني لغناه أو فقير رحمة به فالله أولى بعباده منكم فقد تظنون أن الشهادة بالحق نقمة وهي في باطن الأمر نعمة .
عباد الله : إن الشهادة بالحق لا يؤديها إلا نفوس عالية متنزهة عن أن تريد بها الدنيا وحطامها الفاني نفوس متطلعة إلى الفردوس إلى الرحيق المختوم الذي ختامه مسك فاستسيغوا رحمكم الله في أدائها كل مرارة واستسهلوا كل صعب سواء كان سيرًا إلى المحاكم أو انتظارًا ، أو كان في ذلك إغضاب لأحد ففي تأخركم عن أداء شهادة بحق تعلمونه إثم كبير والله يقول : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وإن القلب يا عباد الله مصدر الفساد والصلاح فإذا أثم القلب فماذا يبقى بعد ذلك فلا تكتموها ففي كتمانها شر على بني الإنسانية الذين أمرتم بجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم .
عباد الله : إذا كان كتم الشهادة فيه ضرر على البشرية واختلال لنظامها فهناك ما هو أشد منه إثمًا وأكبر خطرًا وما أدراكم ما هو ، هو الجريمة العظمى والطامة الكبرى شهادة الزور التي كادت تعدل الإشراك بالله ، شهادة الزور التي تهددنا في أموالنا ودمائنا وأمننا تلك التي أخربت بيوتًا عامرة وأزهقت أرواحًا بريئة وأهدرت حقوقًا واضحة فما فشت في أمة إلا وسادت فيها الفوضى وتحكمت فيها الأهواء لذا وغيره من أضراره الخطرة حذرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها بقوله : « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس " ، يقول الراوي : وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متكئًا فجلس ثم قال : " ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور " ، ومازال يكررها حتى قلنا ليته سكت » . فحذار معشر المسلمين من شهادة الزور وقوله فإن فيها إساءة على قضاة المسلمين بتلبيس الحق عليهم فيها إساءة إلى المشهود له بمساعدته على الإثم والعدوان ، فيها إساءة إلى من حرمه حقه بشهادته وخذله في حين حاجته إلى نصرته فليتق الله شاهد الزور وليتب إلى الله قبل أن يوقف بين يدي أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي سيقتص
للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ، ليتب إلى الله قبل أن يساق إلى جهنم مع المجرمين فوالله لو علم ما أعد الله له من الخزي العاجل والعذاب الأليم في الآخرة لتمنى أن لسانه قطع قبل أن ينطق بشهادة زور ، وكلمة زور فاتقوا الله أيها المسلمون ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } ، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
التحذير من الرشوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا .أما بعد : أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من أداء الأمانة في الأمور كلها قوموا بذلك مخلصين لله متبعين لأمره قاصدين بذلك إبراء ذمتكم وإصلاح مجتمعكم { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
أيها المؤمنون : إن الأمانة ليست بالأمر الهين إنها دين وذمة ومنهج وطريقة إنها حمل ثقيل وعبء جسيم ومسئولية عظيمة إنها عرضت على السماوات والأرض والجبال وما أعظمها قوة وصلابة فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وتحملتها أنت أيها الإنسان تحملتها بما أنعم الله به عليك من العقل والفهم ومما أنزل إليك من الوحي والعلم فبالعقل والفهم تدركون وتميزون وبالوحي والعلم تستنيرون وتهتدون وبذلك كنتم أهلًا لتحمل مسئولية الأمانة والقيام بأعبائها فأدوا الأمانة كما حملتموها أدوها على الوجه الأكمل المطلوب منكم لتنالوا بذلك رضا ربكم وصلاح مجتمعكم فإن بضياع الأمانة فساد المجتمع واختلال نظامه وتفكك أواصره .
أيها المسلمون : إن من حماية الله لهذه الأمانة أن حرم على عباده كل ما يكون سببًا لضياعها أو نقصها فحرم الرشوة وهي بذل المال للتوصل به إلى باطل إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه أو إعفائه مما هو حق عليه يقول الله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، ويقول سبحانه في ذم اليهود : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } والرشوة من السحت كما فسر الآية به ابن مسعود وغيره وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : « لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الراشي والمرتشي » ، وفي لفظ « لعنة الله على الراشي والمرتشي » ، وهذا إما خبر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو دعاء على الراشي والمرتشي بلعنة الله وهي الطرد والإبعاد من رحمة الله كما لعن الشيطان فطرد وأبعد عن رحمة الله عز وجل .
أيها المسلمون : إن لعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم
ومنكر كبير وأن الرشوة لمن أكبر الفساد في الأرض لأن بها تغيير حكم الله
وتضييع حقوق عباد الله وإثبات ما هو باطل ونفي ما هو حق ، إن الرشوة فساد
في المجتمع وتضييع للأمانة وظلم للنفس يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل
الباطل ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة في أحكام الله يأكل كل منهما ما ليس
من حقه ويكتسب حرامًا لا ينفعه بل يضره ويمحق ماله أو بركة ماله إن بقي
المال .
إن الرشوة تكون في الحكم فيقضى من أجلها لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق أو
يقدم من غيره أحق بالتقديم وتكون الرشوة في تنفيذ الحكم فيتهاون من عليه
تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة سواء كان ذلك بالتراخي في التنفيذ أو بعمل
ما يحول بين المحكوم عليه وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة .
إن الرشوة تكون في الوظائف والمسابقة فيها فيقدم من أجلها من لا ينجح أو تعطى له أسئلة المسابقة قبل الامتحان فيولى الوظيفة مَن غيره أحق منه ، وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : « من استعمل رجلًا من عصابة - أي طائفة - وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين » ، رواه الحاكم وصحح إسناده . وإن الرشوة تكون في تنفيذ المشاريع ينزل مشروع عمل في المناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أنصح قصدًا وأتقن عملًا ولكن الرشوة عملت عملها . وأن الرشوة تكون في التحقيقات الجنائية أو الحوادث أو غيرها فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : « من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول » ، رواه أبو داود من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه . والغلول إثمه عظيم فقد « جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال استشهد مولاك أو قال غلامك فلان قال بل يجر إلى النار في عباءة غلها » ، رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح . وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة
فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح أو تقدم له أسئلة الامتحان أو
يشار إلى أماكنها من المقررات أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من
أجلها فيتقدم هذا الطالب مع ضعف مستواه ويتأخر من هو أحق منه لقوة مستواه
العلمي .
عباد الله : لقد سمعتم عقوبة الراشي والمرتشي في الآخرة وهي اللعن والطرد
عن رحمة الله وسمعتم شيئًا من مفاسدها في المجتمع ألا يكون في ذلك رادع
عنها لكل مؤمن يخشى الله ويخاف عقابه ولكل مخلص يحافظ على دينه ومجتمعه
كيف يرضى أن يعرض نفسه لعقوبة الله ، كيف يرضى أن يذهب دينه وأمانته من
أجل حطام الدنيا لا يدري لعله لا يأكله فيموت قبل أن ينعم به كيف يليق
بالعاقل أن يسعى في فساد المجتمع وهلاكه . إن الأعمال أيها المسلمون دروس
يأخذها الناس بعضهم من بعض فإذا فشت الرشوة في جهة من جهاته انتشرت في
بقية الجهات وصار من عمل بها مقتديًا به إلى يوم القيامة .
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على دينكم وأمانتكم وفكروا قليلًا أي خير
لكم أن تكونوا قائمين بالعدل بعيدين عن الدناءة حائزين لرضاء الله ومثوبته
أم تكونوا جائرين مُخْلِدين إلى الأرض متعرضين لسخط الله وعقوبته .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا }{ يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }{ إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
} .
اللهم وفقنا للهدى واعصمنا من أسباب الجهل والردى وسلمنا من آفات النفوس
واختم بالصالحات أعمالنا واغفر لنا ولجميع المسلمين . أقول هذا القول
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه
إنه هو الغفور الرحيم .
مضار الخمر والتحذير منه
الحمد الله الذي أباح لعباده جميع الطيبات وحرم عليهم الخبائث والمضرات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والعطاء العميم وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم القويم وسلم تسليمًا .أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى وتمتعوا بما أباح الله لكم من الطيبات واشكروه عليها بأداء حقوقه التي أوجبها عليكم فإن الشكر سبب لدوام النعم ومزيدها واحذروا ما حرمه عليكم من المطاعم والمشارب فإنه لو كان فيها خير لكم ما حرمها عليكم لأنه الجواد الكريم وإنما حرم عليكم ما فيه ضرركم دينًا ودنيًا رحمة بكم وهو الرؤوف الرحيم فمما حرمه الله عليكم في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع على تحريمه المسلمون الخمر الذي سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم الخبائث وقال : « هي مفتاح كل شر » ، وأخبر الله في كتابه : أنه { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } ، ووردت الأحاديث الكثيرة في تحريمه والتحذير منه والوعيد لشاربه قال أنس بن مالك رضي الله عنه : « لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخمرة عشرة : عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري له والمشتراة له » ، كل هؤلاء ملعونون على لسان محمد ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن » ، وقال : « مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن » ، وقال : « من شرب الخمر في
الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة » ، وقال : « لا يدخل الجنة مدمن خمر » ، وقال : « إن عند الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قيل وما طينة الخبال قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار القيح والدم . ومن شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا » ، والخمر اسم جامع لكل ما خامر العقل أي غطاه سكرًا وتلذذًا من أي نوع كان وقد ذكر علماء الشريعة والطب والنفس والاجتماع للخمر مضار كثيرة فمن مضاره أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة لأن صاحبه يتعلق به ولا يكاد يفارقه وإذا فارقه كان قلبه معلقًا به ومن مضاره ما فيه من الوعيد الشديد والعقوبات ، ومن مضاره أنه يفسد المعدة ويغير الخلقة فيتمدد البطن ، وتجحظ العيون ، والسكارى يسرع إليهم تشوه الخلقة والهرم وحدوث السل الرئوي وتقرح الأمعاء وإضعاف النسل أو قطعه بالكلية ومن مضاره فساد التصور والإدراك عند السكر حتى يكون صاحبه بمنزلة المجانين ثم هو بعد ذلك يضعف العقل وربما أدى إلى الجنون الدائم ومن مضاره إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيه وبين من يتصل بهم من المعاشرين والمعاملين لأن قلوب أهل الخمر معلقة به فهم في ضيق وغم لا يفرحون ولا يسرون بشيء إلا
بالاجتماع عليه كل كلمة تثيرهم وكل عمل يضجرهم ومن مضاره قتل المعنويات والأخلاق الفاضلة وأنه يغري صاحبه بالزنا واللواط وكبائر الإثم والفواحش فصلوات الله وسلامه على من سماه أم الخبائث ومفتاح كل شر ومن مضاره أنه يستهلك الأموال ويستنفذ الثروات حتى يدع الغني فقيرًا وربما بلغت به الحال أن يبيع عرضه أو عرض حرمه للحصول عليه ولقد كانت الدول الكافرة المتحضرة تحاربه أشد المحاربة وتُكَوِّن الجمعيات العديدة للتحذير عنه والسعي في نهي المجتمع عنه لما علموا فيه من المضار الخلقية والاجتماعية والمالية ولقد سبقهم الإسلام في ذلك فحذر منه غاية التحذير ورتب عليه من العقوبات الدنيوية والأخروية ما هو معلوم لعامة المسلمين حتى جاء في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : « إذا سكر فاجلدوه ثم إذا سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه » ، وقد أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حرمت الخمر أن تراق في الأسواق وتكسر أوانيها ، وحرق أمير المؤمنين عمر بيت رجل يقال له رويشد كان يبيع الخمر وقال له : " أنت فويسق ولست برويشد " ، والحشيش من الخمر بل هو أخبث منه من جهة إفساد العقل
والمزاج وفقد المروءة فإن متعاطيها تظهر عليه علامات التخنث والدياثة على نفسه حتى تنحط غريزته الجنسية ، جنبني الله وإياكم منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والرجوع إليه وعافانا من البلاء . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } . بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
عقوبة الزنا واللواط
الحمد لله الذي شرع العقوبة للعصاة لتكون ردعًا لغيرهم من الآثمين الطغاة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا .أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين الكريم الجامع بين الرحمة والحكمة ، رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في اتباع الطريق الموصل إلى الهدف الأسمى .
أيها الناس : إن من طبيعة البشر أن يكون لهم نزعات متباينة ، فمنها نزعات إلى الخير والحق ، ومنها نزعات إلى الباطل والشر ، كما قال الله تعالى : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } .
ولما كانت النفوس الشريرة والنزعات الخاطئة والأعمال السيئة لا بد لها من رادع يكبح جماحها ويخفف من حدتها شرع رب العباد وهو الحكيم العليم الرءوف الرحيم حدودًا وعقوبات متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم المعوج وتكفر عن المجرم جريمته إذ لا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة فأوجب إقامة الحدود لمرتكبي الجرائم كل بحسب جريمته : فالسارق تقطع يده لأنه يسرق بها غالبًا ، وقطاع الطريق إذا قَتَلُوا قُتِلُوا وإن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لأنهم يستعينون على قطع الطريق بأرجلهم وأيديهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف نكالا وجزاء من جنس عملهم ، وقاذف المحصنات والمحصنين يجلد ثمانين جلدة حتى لا تنتهك الأعراض ، وشارب الخمر عقوبته يحصل بها الردع عند تناول هذا الشرب الذي وصفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه أم الخبائث ومفتاح كل شر . أما جريمة فساد الأخلاق وانهيار المجتمع تلك الجريمة التي تكمن في فعل الزنا واللواط فإنها جريمة عظيمة رتب الشارع عليها عقوبة أكبر فالزاني الذي يطأ فرجا حراما إما أن يكون محصنا وإما أن يكون غير محصن فالمحصن هو البالغ العاقل الذي تزوج
امرأة ووطئها بنكاح صحيح فإذا زنى فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت
ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين إذا كان مسلمًا ، وأما غير
المحصن وهو من لم يتزوج على الوصف الذي ذكرنا فإنه إذا زنى جلد مائة جلدة
ويسفر عن البلد سنة كاملة .
أيها المسلمون : وإذا كان الزنا بالفرج موجبًا لهذه العقوبة فإنّ هنا زنا
آخر دون ذلك يوجب الإثم والعقوبة الأخروية وربما كان سببًا في الوقوع في
الزنا الأكبر ألا وهو زنا الجوارح الأخرى وهو ما أشار إليه النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله : « العينان زناهما النظر والأذنان زناهما
الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرِّجل زناها الخطى
والقلب يهوى ويتمنى » .
أما اللواط وهو وطء الذكر الذكر ، فذلك الفاحشة الكبرى والجريمة النكراء ، إنه مفسدة الدنيا والدين ، إنه هدم للأخلاق ومحق للرجولة ، إنه فساد للمجتمع وقتل للمعنويات ، إنه ذهاب للضر والبركات وجالب للشرور والمصيبات ، إنه معول خراب ودمار وسبب للذل والخزي والعار ، والعقول تنكره ، والفطر السليمة ترفضه ، والشرائع السماوية تزجر عنه وتمقته ، ذلكم بأن اللواط ضرر عظيم وظلم فاحش فهو ظلم للفاعل بما جر إلى نفسه من الخزي والعار وقادها إلى ما فيه الموت والدمار ، وهو ظلم للمفعول به حيث هتك نفسه وأهانها ورضي لها بالسفول والانحطاط ومحق رجولتها ، فكان بين الرجال بمنزلة النساء لا تزول ظلمة الذل من وجهه حتى يموت ، وهو ظلم للمجتمع كله بما أفضى إليه من حلول المصائب والنكبات ولقد قص الله علينا ما حصل لقوم لوط حيث أنزل عليهم رجزًا من السماء - أي عذابًا من فوقهم - فأمطر عليهم حجارة من سجيل ، فجعل قريتهم عاليها سافلها وقال بعد أن قص علينا عقوبتهم : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } .
أيها المسلمون : متى فشت هذه الفاحشة في المجتمع ولم يعاقبه الله بدمار الديار ، فإنه سيحل به ما هو أعظم من ذلك سيحل به انتكاس القلوب وانطماس البصائر وانقلاب العقول حتى يسكت على الباطل أو يزين له سوء عمله فيراه حسنًا ، وأما إذا يسر الله له ولاة أقوياء ذوي عدل أمناء يقولون الحق من غير مبالاة وينفذون الحق من غير محاباة فإن هذا علامة التوفيق والصلاح .
أيها المسلمون : ولما كانت هذه الجريمة من أعظم الجرائم كانت عقوبتها في الشرع من أعظم العقوبات فعقوبتها القتل والإعدام قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » ، واتفق جمهور الصحابة أو كلهم بمقتضى العمل بهذا الحديث ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لم يختلف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتله سواء كان فاعلًا أم مفعولًا به ، ولكن اختلفوا كيف يقتل فقال بعضهم يرجم بالحجارة وقال بعضهم يلقى من أعلى مكان في البلد حتى يموت وقال بعضهم يحرق بالنار فالفاعل والمفعول به إذا كان راضيًا كلاهما عقوبته الإعدام بكل حال سواء كانا محصنين أم غير محصنين لعظم جريمتهما وضرر بقائهما في المجتمع فإن بقاءهما قتل معنوي لمجتمعهما وإعدام للخلق والفضيلة ولاشك أن إعدامهما خير من إعدام الخلق والفضيلة .
أيها المسلمون : إن علينا كمجتمع إسلامي قوامه الدين والأخلاق -
ولله الحمد - أن نجتهد بقدر ما نستطع على التمسك بديننا ، والتخلق
بالأخلاق الفاضلة ، وأن يسعى كل منا من الولاة فمن دونهم لمنع الفساد
والمفسدين ، وإصلاح المجتمع ، وأن نتخذ الحيطة ونتبع مواقع الفساد
لتطهيرها . على كل منا أن يراقب حال أولاده وأهله الذكور والإناث ، فيمنع
نساءه من الخروج متبرجات بثياب الزينة والطيب وغيره مما يلفت النظر ،
ويتفقد أولاده أين ذهبوا ، وأين غابوا ، ومَن أصحابهم ، ومَن جلساؤهم ،
وأن يمنعهم من مخالطة السفهاء ومعاشرة من يخشى الفساد بمعاشرتهم ، وعلى كل
أهل حارة ومحلة أن يتفقدوا محلتهم وحارتهم ويتعاونوا على منع الشر والفساد
فإذا أصلح الرجل أهله ، وأصلح أهل الحارة جيرانهم ، وحرص الولاة على إصلاح
بلدهم ، حصل بذلك من الخير ما يكفل السعادة للمجتمع ، وإن أهمل الناس
واجبهم في هذا ، فاتهم من الخير بقدر ما فوتوا من الواجب .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
خطر الغيبة والنميمة
الحمد لله العليم بما نخفي وما نعلن ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، أحمده سبحانه حمد من شغله عيبه عن عيوب الآخرين ، وأشكره ، وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وإذا مروا باللغو مروا كرامًا ، وعلى أتباعه الذين حفظوا أنفسهم وألسنتهم من أن تجر إلى المسلمين سوءًا وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد فيا أيها المسلمون : اتقوا الله ولا تلقوا بأنفسكم في تيار الغيبة والنميمة فإنهما خصلتان قبيحتان ذواتا خطر كبير على العلاقات الأخوية والروابط الإسلامية ، ما فشت إحداهما في أمة إلا وفرقت كلمتها وباعدت بين قلوب أهلها وأزاحت الستار عن مواطن الضعف لعدوهم فأتاهم من حيث لا يشعرون . أتدرون ما معناهما ؟ النميمة هي نقل كلام شخص لآخر على وجه التحريش والإفساد . وما أكثر ما يجره هذا النقل على الإنسانية من ويلات ومصائب ، ما أكثر ما يغرس من بذور للشر تفرق بين الأخ وأخيه والمرء وزوجه والصديق وصديقه فتبدل المحبة بغضًا والصفو كدرًا كيف لا تبدله وهي عدوة السلام عدوة الوفاق والوئام ، ناشرة البغضاء ومرسية قواعد الشحناء ، لذا عدها العلماء من أنواع السحر . ذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبى كثير قال : يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة ، فيا ذوي النفوس العالية اربأوا بنفوسكم عن النميمة فهي من أحط الأخلاق وأرذلها فما اتصف بها إلا لئيم يهتك الأستار وينشر الأسرار . دعوها فلطالما خربت بيوتا عامرة وفرقت أسرا مجتمعة وأزهقت أرواحا بريئة . تثبتوا إذا نقل إليكم النمام ما يجرح المشاعر أو يثيرها
فإنه فاسق . والله سبحانه وتعالى يقول : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ، وإياكم والانخداع بالوشاة والنمامين فإن من نم لكم نم عليكم ، فالنمام خائن ولو كان صادقا ، مستهين بالتعاليم السماوية التي ذمت وتوعدت كل هماز مشاء بنميم ، ذمته وآذنته بأنه لا يدخل الجنة . يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لا يدخل الجنة نمام » ، رواه مسلم . وقال « ألا أخبركم بشراركم » ؟ « المشاؤون بالنميمة » ، الحديث ، رواه أحمد .
وأما الغيبة فهي : ذكرك أخاك بما يكره سواء في خلقه أو خلقه في غيبته ، سواء كان فيه ، ما ذكرت أو لم يكن فيه ، « سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الغيبة فقال : " ذكرك أخاك بما يكره " ، فقال : رجل أرأيت إن كان في أخي ما أقول ، قال : " بأن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته » ، فاتقوا الله عباد الله ولا تلوثوا أخلاقكم بالغيبة فقد نهاكم الله تعالى عنها في قوله : { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } ، ثم صور لكم بعد ذلك حالة المغتاب تصويرا بشعا تشمئز منه النفوس وتنفر منه الطباع البشرية فقال : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } ، فهل تطيب نفس - يا عباد الله - ذات إباء ودين وشهامة أن تأكل لحما اجتمع فيه ثلاث صفات كل واحدة منهن في منتهى القبح والفظاعة ، وهذه الثلاث هي : كونه لحم إنسان ، وهذا الإنسان هو أخوك ، وأخوك هذا ميت ، فكيف لو كان حيًّا .
أيها المسلمون : ابتعدوا عن هذه الرذائل وطهروا ألسنتكم من قليلها وكثيرها فقد ورد أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « حسبك من صفية أنها كذا وكذا - تعني قصيرة ، فقال : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته » ، وخافوا عذاب القبر فإن الغيبة والنميمة من أسباب عذاب القبر ، ولا تعرضوا أنفسكم لدخول النار فقد جاء الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : « لما عرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت لجبريل من هؤلاء فقال الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم » ، فاتقوا الله أيها المسلمون واحترموا أعراض إخوانكم كما احترمها الإسلام فقد نادى بتحريمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكبر مجمع فقال وهو واقف بعرفة يخطب الناس في خطبة الوداع « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا » ، هذه يا عباد الله تعاليم الإسلام تبين لنا بوضوح قبح مصير المغتاب والنمام وسوء أثرهما في المجتمع لما ينشرانه من مخاز ويتبعانه من عثرات كالذباب لا يسقط إلا على النتن والقاذورات
وقد حرم الدين تتبع عورات المسلمين ، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : « من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه في جوف
بيته » ، ويقول الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم وجعلني وإياكم من الصالحين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الفصل الخامس
الرقائق
التوبة من المعاصي
الحمد لله الملك الوهاب الرحيم التواب ، خلق الناس كلهم من تراب ، وهيأهم لما يكلفون به بما أعطاهم من الألباب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بلا شك ولا ارتياب ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب ، تبصرة وذكرى لأولي الألباب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليمًا .أما بعد : أيها الناس اتقوا ربكم وتوبوا إليه فإن الله يحب التوابين واستغفروه من ذنوبكم فإنه خير الغافرين ، توبوا إلى ربكم مخلصين له بالإقلاع عن المعاصي والندم على فعلها والعزم على أن لا تعودوا إليها فهذه هي التوبة النصوح التي أمرتم بها : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } ، ليست التوبة أن يقول الإنسان بلسانه أتوب إلى الله أو اللهم تب عليّ وهو مصر على معصية الله . وليست التوبة أن يقول ذلك وهو متهاون غير مبال بما جرى منه من معصية وليست التوبة أن يقول ذلك وهو عازم على أن يعود إلى معصية ربه ومخالفته .
أيها الناس : توبوا إلى ربكم قبل غلق باب التوبة عنكم فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر بروحه فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ، فبادروا أيها المسلمون بالتوبة فإنكم لا تدرون متى يفاجئكم الموت ولا تدرون متى يفاجئكم عذاب الله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ }{ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .
عباد الله : هل أمنتم مكر الله ، يمدكم بالنعم المتنوعة وأنتم تبارزونه بالمعاصي ، أما ترون ما وقع في العالم في كثير منهم من الضيق في العيش والمحن . إن المجاعة والطوفان ونقص المحاصيل والقحط أحاطت بكثير من البلاد ولا يزال المفكرون يبحثون في تأمين الغذاء للعالم ، ألا تخافون أن يحل ذلك بكم . إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } .
إن من أعظم العقوبات قسوة القلوب ومرضها وإن الكثير الآن قلوبهم قاسية يسمعون المواعظ والزواجر ويقرأونها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأنهم لا يسمعون ، الجيد منهم إذا سمع الموعظة وعاها حين سماعها فقط فإذا فارقها خمدت نار حماستة واستولت الغفلة على قلبه وعاد إلى ما كان عليه من عمل يسمع المواعظ تقرع أذنيه في عقوبة ترك الصلاة وإضاعتها : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا }{ إِلا مَنْ تَابَ } ، ولكنه لا يتوب وكأنه لا يسمع . يسمع المواعظ في عقوبة مانع الزكاة ومن يتتبع الرديء من ماله فيزكي به : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ }{ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } . زكاة النفس بالبراءة من الشرك وزكاة المال حيث قدموا الشح على البذل في طاعة الله : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ، يسمعون هذا كله وهم مصرون على منع الزكاة يحرمون أنفسهم خيرات أموالهم ويدخرونها لغيرهم وفي الحديث ما ظهرت
الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًّا من غيرهم فيأخذ بعض ما لا أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل بأسهم بينهم ، نعم يسمعون المواعظ في النهي عن شهادة الزور وما ورد فيها ومع ذلك يقدم عليها الناس كأنهم لم يسمعوا ولم يعوا وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } .
أيها الناس : إنه لا توبة مع الإصرار ، كيف يكون الإنسان تائبًا من ذنب وهو يصر عليه وكيف يكون تائبًا من الغش وهو لا يزال يغش في بيعه وإجارته وجميع معاملاته كيف يكون تائبًا من الغيبة من أكل لحوم الناس وهو يغتابهم في كل مجلس سنحت له الفرصة فيه ، كيف يكون تائبًا من أكل أموال الناس بغير حق وهو يأكلها تارة بدعوى ما ليس له وتارة بإنكار ما عليه وتارة بالكذب في البيع وغيره وتارة بالبقاء في ملك غيره بغير رضاه وتارة بالربا الصريح أو التحيل عليه ، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار أو درهم إلا الحسنات والسيئات » .
أيها المسلمون : إن التوبة الكاملة كما تتضمن الإقلاع عن الذنب
والندم على فعله والعزم على ألا يعود إليه تتضمن كذلك العزم على القيام
بالمأمورات ما استطاع العبد فبذلك يكون من التوابين الذين استحقوا محبة
الله ورضاه : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ } ، فتوبوا أيها المسلمون إلى ربكم واستغفروه بطلبكم
للمغفرة منه بألسنتكم وقلوبكم : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، بادروا بالتوبة قبل
أن يأخذكم الموت فيحال بينكم وبينها وتموتون وأنتم على معصية الله . إن
بعض الناس تغره الأماني ويغره الشيطان فيسوّف بالتوبة ويؤخرها حتى يقسو
قلبه بالمعصية والإصرار عليها فتغلق دونه الأبواب أو يأخذه الموت قبل
المهلة في وقت الشباب .
اللهم وفقنا للمبادرة بالتوبة من الذنوب والرجوع إلى ما يرضيك عنا في السر
والعلانية فإنك علام الغيوب .
اللهم طهر قلوبنا من الشقاق والنفاق والسمعة والرياء ، اللهم باعد عنّا وعن المسلمين الغش وشهادة الزور وارزقنا الصدق في المعاملات وجنبنا الحرام وفعل الآثام ما ظهر منها وما بطن ، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين .
الخوف من عذاب الله
الحمد لله يرحم من يشاء ويعذب من يشاء وإليه ترجعون وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد :قال تعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ }{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ }{ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } .
وعن أنس رضي الله عنه قال « خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا فغطى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوههم ولهم خنين » ، متفق عليه .
وفي رواية بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
أصحابه شيء فخطب فقال : « عرضت عليّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير
والشر ، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا فما أتى على
أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أشد منه غطوا رؤوسهم
ولهم خنين » ، الخنين البكاء مع اجتذاب النفس .
وعن المقداد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول : « تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم لمقدار
ميل قال سليم بن عامر الراوي عن المقداد فوالله ما أدري ما يعني بالميل
مسافة الأرض أم الميل الذي يكحل به العين فيكون الناس على قدر أعمالهم في
العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون
إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا وأشار رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى فيه » ، رواه مسلم .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إني أرى ما لا ترون أطّت السماء وحق لها أن تئط ما
فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى والله ، لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثرًا ولما تلذذتم بالنساء على
الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى » ، رواه الترمذي وقال
حديث حسن .
وعن أبي برزة فضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى
يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه
وفيم أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه » ، رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول : « يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قلت يا رسول
الله الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال يا عائشة الأمر أشد
من أن يهمهم ذلك » ، وفي رواية : « الأمر أهم من أن ينظر بعضهم إلى بعض »
، متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله
غالية ألا إن سلعة الله الجنة » ، رواه الترمذي وقال حديث حسن .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال « قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } ثم قال : " أتدرون ما
أخبارها " ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : " أخبارها أن تشهد على كل عبد
أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه
أخبارها » ، رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : « ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر
أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين
يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة » ، متفق
عليه .
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال : « منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من
تأخذه إلى ترقوته » ، رواه مسلم .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : « إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة
لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ما يرى أن أحدًا أشد منه
عذابًا وأنه لأهونهم عذابًا » ، متفق عليه .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال : « يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه
» ، متفق عليه .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا
يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } ، بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر
الحكيم ، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه
إنه هو الغفور الرحيم .
أشراط الساعة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .وبعد : أيها المسلمون إن للساعة قبل وقوعها أشراطًا وعلامات منها ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله : « إن من أشراط الساعة ، أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا » .
هذا الحديث الشريف تضمن أمورًا أربعة هي من أهم أشراط الساعة وأبرز علاماتها وأماراتها .
إنها مقدمة تمهد لخراب العالم وانصرام الدنيا وفناء الأشياء والحيوان فلا تقوم الساعة إلا بعد أن تميد الأرض بالشر وتضطرب بالكفر فلا يبقى على ظهرها خيرٌ أبدًا وتعم الحياة جاهلية وعناء وشرور عمياء وكفر بالإله وجحود بالرسالات وضلال مطبق شامل .
وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لا تقوم الساعة وعلى ظهر الأرض من يقول : الله الله » . وللساعة علامات صغرى حدثت كلها وعلامات كبرى لم يحدث منها شيء بعد وتبتدئ بظهور " المهدي " الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا ثم بخروج الدجال الفتنة الكبرى ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج إلى آخر ما هو مفصل ومعروف .
أما العلامات الصغرى التي حدثت فكثيرة وإنك لتستطيع أن تلتمسها
من خلال حياة المسلمين الحاضرة ، وما فيها من فواحش ومنكرات وفقد للحياء
والتراحم ومجاهرة بالمعاصي ومنع للزكاة وخيانة للأمانة وتهافت على الآثام .
ومن أماراتها كثرة الترف والفسوق وأن ترى الذين كانوا حفاة عراة يرعون
الشاء ويسكنون الصحراء ، يتطاولون في البنيان ويتقلبون في أعطاف النعيم ،
فتصبح لهم أبنية شاهقة ، ومراكب فاخرة وأثاث ورياش .
وإن الأمور الأربعة المتقدمة هي من أهم وأبرز هذه العلامات والأمارات . .
فالعلامة الأولى والثانية : أن يرفع العلم ويثبت الجهل . . فكيف يكون ذلك
؟ .
إن الله عز وجل لا يقبض العلم من صدور العلماء ولا يرفعه انتزاعًا ولكن
يقبضه بموت العلماء فيموت علمهم معهم .
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن الله لا ينتزع العلم من صدور
العلماء انتزاعًا ولكن ينتزعه بقبض العلماء بعلمهم فيبقى أناس جهال
يستفتون فيفتون فيضلون ويضلون » .
إن العلماء هم نور الحياة ونبراس الهداية وقبس الحق فإذا ماتوا
ولم يكن من يقوم مقامهم ويملأ الفراغ العلمي الذي حدث بموتهم انطفأ ذلك
النور وأظلمت الحياة وعم الجهل وتخبط الناس في دياجير الباطل والضلال .
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن مثل العلماء في
الأرض كمثل النجوم في السماء ، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فإذا
انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « اتبعوا العلماء فإنهم سرج الدنيا ، ومصابيح
الآخرة » .
وإننا لنرى بأم أعيننا ، أكابر العلماء والفضلاء يموتون فلا من يخلفهم في
علمهم وفضلهم وتنطفئ مصابيحهم فلا من يوقدها من بعدهم ولن يمر علينا وقت
طويل - إذا امتد بنا هذا الحال - حتى نبحث عن العالم لا بل عن طالب العلم
فلا نراه ويعم فينا الجهل بالدين فلا نفقه حقيقته وهداه .
إني لأرى العلم يقبض أهله بموت حملته ثم تبقى مقاماتهم فارغة فلا
يملؤها إلا من دونهم ولا يخلفهم إلا من يصح أن يكون تلميذًا لهم . . ولقد
بدأنا نشكو قحطًا في العلماء لأن المسلمين قد انصرفوا عن الدين وزهد
الشباب المثقف في طلب العلم ورأوه سبة ومذلة وانحطاطًا وأقفرت البلاد
الإسلامية من المعاهد الدينية والمدارس الشرعية أو كادت وماذا يحصل بعد أن
يرفع العلم بقبض العلماء وتقفر البلاد من المعاهد المنتجة لهم ، إلا أن
يثبت الجهل ويسود الجهلاء ويكون الضلال المبين وإنما يحز في القلب أن
الجهل بالدين قد أطبق على عامة المسلمين فأصبحوا لا يفرقون بين حق وباطل
وحلال وحرام حتى قادهم الجهل إلى المعاصي والآثام .
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة » .
فماذا فعل المسلمون بهذه الفريضة ؟ لقد عطلوها ورضوا بالجهل واطمأنوا إليه
ونفروا من العلم وزهدوا فيه ثم استسلموا لشهواتهم وانقادوا لأهوائهم وضلوا
ضلالًا بعيدًا .
أيها المسلمون : أما العلامة الثالثة والرابعة من أشراط الساعة
فهي : شرب الخمر وظهور الزنا . إن الخمرة هي أم الخبائث والزنا الذي هو
رأس الفواحش ، ما ظهر في أمة إلا كان ذلك دليلًا على بلوغها أبعد حدود
الإجرام وترديها في أعمق الكبائر والآثام .
وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « الخمر أم الفواحش وأكبر
الكبائر من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وعمته وخالته » .
وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « ما ظهر الزنا أو الربا في
قرية ، إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله » .
وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لا تزال أمتي بخير متماسك
أمرها ، ما لم يظهر فيهم ولد الزنا » .
وبعد : فإن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وإذا كانت
نهاية العالم قد بدأت وأمارات الساعة قد ظهرت ، فلنكن على ذكر مستمر لذلك
اليوم الرهيب ولنكن على أتم استعداد للموت ولما بعد الموت ، ولنحرص على أن
نخرج من هذه الدنيا بنفس طاهرة لم تتلوث بالمعاصي وقلب سليم لم يتمكن فيه
حب الدنيا .
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا }
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من عذاب النار وخزي يوم
القيامة ، ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين اللهم آمين والحمد لله رب
العالمين .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ
أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ
إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما جاء فيه من الآيات
والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر
المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الصبر وأقسامه
الحمد لله الرب الرحيم الحكيم بما يقضيه في كل زمان ، واللطيف بعباده حين تقلقهم الهموم والأحزان ، الذي وعد الصابرين أجرهم بغير عد ولا حسبان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي صبر على أقدار الله وعلى طاعة الله وعلى إيذاء بني الإنسان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبعوا أثرهم بإحسان وسلم تسليمًا .أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى واعلموا أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد ، فلا إيمان لمن لا صبر له ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحدٌ عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ، وبه يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور ، والصبر من مقام الأنبياء والمرسلين ، وحلية الأصفياء المتقين ، قال الله تعالى عن عباد الرحمن : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا } وقال عن أهل الجنة : { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ }{ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } والصبر ثلاثة أقسام صبر على طاعة الله ، وصبر عن محارم الله ، وصبر على أقدار الله التي يجريها إما مما لا كسب للعباد فيه وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء .
فالصبر على طاعة الله أن يحبس الإنسان نفسه على العبادة ويؤديها
كما أمره الله تعالى وأن لا يتضجر منها أو يتهاون بها أو يدعها فإن ذلك
عنوان هلاكه وشقائه ، ومتى علم العبد ما في القيام بطاعة الله من الثواب
هان عليه أداؤها وفعلها ، فالحسنة ولله الحمد إذا أخلص الإنسان فيها لله
واتبع رسول الله كانت بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ،
والله يضاعف لمن يشاء وفضل الله ليس له حد ولا انحصار .
وأما الصبر عن معصية الله فأن يحبس الإنسان نفسه عن الوقوع فيما حرم الله
عليه مما يتعلق بحق الله أو حقوق عباده ، ومتى علم ما في الوقوع من المحرم
من العقاب الدنيوي والأخروي والاجتماعي والفردي وإن ذلك مما يضر بعاقبة
أمره بل ويضر بمجتمعه فإن الذنوب عقوباتها في الدنيا قد تعم ، ويبعث الناس
على أعمالهم ونياتهم ، متى علم العاقل ما يقع من جراء الذنوب أوجب ذلك أن
يدعها خوفًا من علام الغيوب .
وأما الصبر على أقدار الله فمعناه أن يستسلم الإنسان لما يقع
عليه من البلاء والهموم والأسقام ، وأن لا يقابل ذلك بالتسخط والتضجر وفعل
الجاهلية المنكر في الإسلام ، وأن يعلم أن هذا البلاء لنزوله أسباب وحكم
لا يعلمها إلا الله ، وأن يعلم أن لدفعه ولرفعه أسبابًا من أعظمها لجوؤه
ودعاؤه وتضرعه إلى مولاه ، فهذه الأمراض التي أرسلها الله تعالى على عباده
إنما هي رحمة بهم ليرجعوا إليه وليعرفوا أنه هو المتصرف بعباده كما يشاء ،
فلا اعتراض عليه ، له الملك وله الحمد ، وله الخلق وله الأمر ، وبيده
الخير وهو على كل شيء قدير ومع هذا فتلك الأمراض لم يحصل فيها ولله الحمد
نقص في النفوس ولا هلاك وإنما هي أمراض يسيرة خفيفة قدرها المولى ولطف
بعباده فلله الحمد رب السماوات والأرض .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }{ مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فالإنسان يصاب بمصيبة في نفسه ومصيبة في أهله ومصيبة في أصحابه ومصيبة في نواح أخرى فإذا قابل هذه المصائب بالصبر وانتظار الفرج من الله صارت المصائب تكفيرًا لسيئاته ورفعة في درجاته وقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة في ذلك فقال الله تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه : « ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها »« وقال لامرأة من الصحابيات أبشري فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الحديد والفضة » ، وقال « وما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كتب الله له بها درجات ومحيت عنه بها خطيئة » ، وقال : « صداع المؤمن وشوكة يشاكها أو شيء يؤذيه يرفعه الله بها يوم القيامة درجة ويكفر بها عنه ذنوبه » ، الصداع وجع الرأس ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إن الله عز وجل قال : « إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة -
يريد عينيه - » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن
الرجل يكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال الله يبتليه بما
يكره حتى يبلغه إياها » ، وقال : « ما من مسلم يموت له ثلاثة أولاد لم
يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم » ، وقال للنساء : «
ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابًا من النار
فقالت امرأة واثنين قال واثنين » ، فهذه الأحاديث وما ورد بمعناها بشرى
للمؤمن يحتسب من أجلها المصائب التي يصيبه الله بها فيصبر عليها ويحتسب
ثوابها عند الله ، ويعلم أن ذلك من عند الله تعالى ، وأن سببه من نفسه كما
قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } .
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعمت عليه شكر ،
وإذا أذنب استغفر ، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم أقول هذا
القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
فوائد التقوى
الحمد الله معز من أطاعه واتقاه ، ومذل من خالف أمره وعصاه ، أحمده سبحانه وأشكره على حلو نعمه ومر بلواه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل الأنبياء وأكرم الأتقياء صلى الله عليه وعلى كل من اتقى الله حق تقاته من صحب وآل وأتباع إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله فما خلقتم إلا للتقوى وما أسدى عليكم من نعم إلا لتستعينوا بها على تقواه . وحقيقة التقوى - رحمكم الله - هي أن تجعلوا أنفسكم دائمًا في وقاية من عذاب الله وعقابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فلا يراكم حيث نهاكم ولا يفقدكم حيث أمركم . يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه قال : التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد للرحيل .
أيها المسلمون : حقًّا إننا لمحتاجون للتقوى أشد من احتياجنا للماء والهواء ولو لم تكن إلا أنها تجلب محبة الله سبحانه ومن أحبه الله أحبه الناس : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وفي حديث أن الله إذا أحب عبدًا وضع القبول له في الأرض فاتقوا الله أيها الناس فبالتقوى أوصى الله ورسوله وجدير بالمسلم أن يعض بالنواجذ على وصية خالقه ومدبره ووصية رسوله { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } وقال عليه الصلاة والسلام : « اتق الله حيثما كنت » ، وبالتقوى ينجو الإنسان من الشدائد وتندك أمامه العقبات وتزول الشبهات ويجعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ويسر له الرزق من حيث لا يحتسب ، يقول سبحانه : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } بالتقوى ينضج عقل الإنسان ويتكون عنده ملكة قوية وبصيرة نيرة تضيء له الطريق المظلم ويفرق
بها بين الحق والباطل وبين النافع والضار بل وتكفر سيئاته وتغفر ذنوبه { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ }{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } وبالتقوى يأمن الإنسان إذا خاف الناس ويسر إذا حزنوا ويستبشر إذا قنطوا ويئسوا { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }{ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } بالتقوى تزداد علاقات الإنسان بربه وينال الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } بالتقوى يطمئن المسلم على ذريته من بعده ولا سيما ضعفاؤهم { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } .
عباد الله : أنتم لا محالة مسافرون عن هذه الدار وكل مسافر يأخذ أهبته ويسعى في تأمين راحلته وسفركم إلى دار الآخرة لا يحتاج إلا إلى زاد واحد هو التقوى وأنعم به من زاد يكفل لك السعادة الأبدية والطمأنينة الكاملة والعيش الرغيد في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، لذا وغيره يعرف الإنسان أنه لا غنى له عن التقوى فبها يتخلص من مآزق كثيرة لا في الدنيا والآخرة ولا سيما عند الورود على النار الذي لا ينجو بعده إلا المتقون ، بالتقوى يكون الله معك وينصرك وتفوق عند الله وأوليائه يقول سبحانه : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ، ويقول عليه الصلاة والسلام : « لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى » ، ويقول بعض السلف " ما خرج عبد من ذل المعصية إلى عز التقوى إلا أغناه الله بلا مال وأعزه بلا عشيرة وآنسه بلا أنيس " ، فاتقوا الله عباد الله فإن تقواه جمال وشفاء من الداء العضال واحرصوا أن تكون نفوسكم تقية فلن يسعد عند الله إلا التقي ، كل من عداه فهو شقي . اتقوا الله فالتقوى خلف من كل شيء ولا خلف من التقوى . اتقوا الله فهي أول عدة تعدونها لأعدائكم وتفوقونهم بها . اتقوا الله في نفوسكم وفي
أهليكم وفي أموالكم وفي معاملتكم وفي أولادكم وفي من تحت أيديكم وفي ما ائتمنتم عليه من مصالح المسلمين وفي أرحامكم وفي كل مجال من مجالاتكم العامة والخاصة لتفوزوا برضا الله ورضوانه ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
فضل ذكر الله تعالى
الحمد لله المذكور بكل لسان المشكور على كل إحسان خلق الخلق ليعبدوه وأظهر لهم آياته ليعرفوه ويسر لهم طرق الوصول إليه ليصلوه فهو ذو الفضل العظيم والخير الواسع العميم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا .أما بعد أيها الناس : اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلًا ، كونوا من أولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ، كونوا من الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب وتنفرج الكروب ، بذكر الله يحصل النصر ويثبت الله القلب في مواطن الفزع ، ولذلك أمر الله تعالى بذكره عند مقابلة الأعداء في الحرب فقال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إن ذكر الإنسان لربه يملأ قلبه سرورًا ويكسو وجهه نورًا ويذكره الله به ، يقول الله تعالى في القرآن الكريم : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } ويقول تعالى في الحديث القدسي الذي رواه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه : « أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم » ، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « سبق المفردون ، قالوا وما المفردون يا رسول الله ؟ قال الذاكرون الله كثيرًا » ، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
« مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت » وسئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال : من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة » ، وأمر أن يلقن الميت إياها عند موته ، وإن من أسباب ذكر الإنسان لها عند موته أن يكون مكثرًا لها في حياته فإن من أكثر من شيء ألفه ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل » ، وقال : « من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كلمتان خفيفتان على
اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر » ، وقال : « لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟ فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال يسبح الله مائة تسبيحة فتكتب له ألف حسنة » . فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من هذه المكاسب العظيمة من أعمال يسيرة ، أكثروا من ذكر الله عز وجل بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ، ليكن ذكر الله تعالى في قلوبكم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم كونوا متذكرين دائمًا لعظمته وجلاله وكمال أسمائه وصفاته وأفعاله ، ففي كل شيء له آية تذكركم به وتبرهن على وحدانيته وعظمته وقدرته وتبرز بها آثار رحمته وحكمته ، اذكروا الله تعالى بألسنتكم بقول لا إله إلا الله ، سبحان الله ، الحمد لله ، الله اكبر . واعلموا أن كل قول من الخير تريدون به وجه الله فهو من ذكر الله . اذكروا الله تعالى بجوارحكم
بفعل الطاعات وترك المعاصي فإن كل فعل أو ترك تقومون به طاعة لله
وتقربًا إليه فهو من ذكر الله . أكثروا من ذكر الله تعالى ولا تكونوا ممن
أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطًا . أكثروا من ذكر الله
قبل أن يحال بينكم وبينه إما بالموت أو بالعجز أو بحرمانكم منه عقوبة على
غفلتكم . لا يشغلنك أيها المسلم عن ذكر الله مال ولا بنون فإنما : {
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }
والباقيات الصالحات كل عمل صالح وعلى رأسها قول سبحان الله والحمد لله ولا
إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله .
عباد الله : إن ذكر الله تعالى غنيمة وربح وإن الغفلة عن ذكره غرم وخسارة
، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه قال : « ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم
إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم » ، والترة النقص
والحرمان .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم اجعلنا في أهلنا من
الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات ، من الذين اغتنموا أوقاتهم بالباقيات
الصالحات واعصمنا يا مولانا من الغفلة عن ذكرك ومن التشاغل بما لا يقربنا
إليك ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم (1) .
_________
(1) انظر الضياء اللامع لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين ص 374 .
الفصل السادس : المغازي والسير
صفات المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الحمد لله الذي ألبس المتقين لباس التقوى ، وزيّن المؤمنين بزينة الإيمان
، وقال في كتابه : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا
مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } ، فنحمده تعالى على ذلك وبعد :
إخوة الإيمان : أنبأنا كتاب الله عز وجل وهو أصدق الكتب بيانًا لأحوال الأمم وتواريخها ، أن الناس كانوا قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام في ضلال مبين وجهل عميق وعادات سيئة ، يئدون البنات ، ويحلون الميتات ، ويعبدون الأصنام ، ويقطعون الأرحام ، ويشنون الغارات للسلب والنهب فيفضي ذلك بهم بطبيعة الحال إلى إراقة الدماء بغير الحق ظلمات بعضها فوق بعض كل ذلك كان في زمن فترة من الرسل ، وانقطاع الوحي من السماء ، وكان إذ ذاك رجال عقلاء يرقبون أن تتبدل هذه الأحوال - التي نغصت عليهم عيشتهم - إلى خير منها ، فتداركهم الله بلطفه ورحمته إذ أرسل فيهم رسول السلام وصفوته من الأنام سيدنا محمدًا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الكرام ، فسعى هذا الرسول العظيم سعيه ، وبذل جهده يدعوهم إلى الهدى وردهم عن الردى ، يقودهم إلى العلم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويسوقهم إلى العمل ليستغنوا عن غارات السلب والنهب ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ليحيوا حياة طيبة ، قال تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } ، وقال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } ، وقال تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ }{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، وقال تعالى : { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إلى غير ذلك من الآيات الواردة في رفعة شأنه وعلو مكانته ، فما علينا إلا أن نقدر هذا الرسول العظيم حق قدره ، أولا : بمعرفة ما كان عليه من جميل الخصال ، وما قام به من جليل الأعمال ، وثانيًا : بطاعته فيما جاءنا به من البينات والهدى ، وما أمرنا به من مكارم الأخلاق إن كنا مؤمنين به ومحبين له فبذلك نحقق الغاية التي بعث بها ونثبت محبتنا له إذ لا قيمة لمحبة لا طاعة فيها للمحبوب .
وهنا يجدر بي أن أبين لكم بعض أخلاقه التي كان عليها فإنه عليه الصلاة والسلام المثل الكامل في مكارم الأخلاق فأقول : روى الترمذي في كتابه الشمائل المحمدية بسنده عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال الحسين رضي الله عنه : سئل أبى عن سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جلسائه فقال : « كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ، ولا عياب ولا مشاح يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يؤيس منه راجيه ، ولا يخيب فيه طالبه قد ترك نفسه من ثلاث : المراء والإكثار وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث كان لا يذم أحدًا ولا يعيبه ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه ، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا لا يتنازعون عنده الحديث ، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم ( أي يجلبون الغرباء إلى مجلسه صلى الله عليه وآله وسلم ليستفيدوا من مسألتهم ما لا
يستفيدونه عند عدم وجودهم ) ويقول إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام » ( انتهى ما رواه الترمذي ) ، ومن شمائله عليه الصلاة والسلام أنه كان أعلم الناس ، وأورع الناس ، وأزهد الناس وأعدل الناس ، وأحلم الناس ، وأعف الناس ، لم تمس يده يد امرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها ، أو لا تكون ذا محرم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وكان لا يواجه أحدًا بمكروه ، ولا يتعرض في وعظه لأحد معين ، بل يتكلم خطابًا عامًا ، كان يقبل على أصحابه بالمباسطة حتى يظن كل منهم أنه أعز عليه من جميع أصحابه .
كان أشد الناس حياءً لا يثبت بصره في وجه أحد ، كان يجيب دعوة الحر والعبد ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ، أو فخذ أرنب ، ويكافئ عليها ، ويأكلها ولا يأكل الصدقة ، كان يعود مرضى المساكين الذين لا يؤبه لهم . كان يتلطف بخواطر أصحابه ويتفقد من انقطع عن مجلسه ، وكثيرًا ما يقول لأحدهم لعلك يا أخي وجدت مني أو من إخواننا شيئًا ، كان يحب الطيب ويكره الرائحة الرديئة ، كان يكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألف أهل الشرف بالإحسان إليهَم ، كان يكرم ذوي رحمه ويصلهم من غير أن يؤثرهم على غيرهم ممن هو أفضل منهم ، كان لا يجفو على أحد ولو فعل ما فعل ، كان له صلوات الله وسلامه عليه عبيد وإماء ، وكان لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس ، كان لا يمضي له وقت في غير عمل لله عز وجل أو فيما لا بد له من إصلاح نفسه ، كان أبعد الناس غضبًا وأسرعهم رضًا ، وكان أرأف الناس بالناس وأنفع الناس للناس ، وفي هذا القدر كفاية لمن وفقه الله للاقتداء به ، فأخلاقه العظيمة صلوات الله وسلامه عليه لا يحصيها إلا الله الذي شهد له بقوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } فلنقتد به في أخلاقه الكريمة والله الموفق والمعين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
فضل الصحابة رضوان الله عليهم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين .وبعد : أيها الإخوة المؤمنون : قال الله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ، وقال جل شأنه : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } .
هذه الآيات الكريمة وكثير غيرها مما أنزل الله - سبحانه وتعالى - في فضل أصحاب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم حملة رسالة
الإسلام الأولون ، وهم أنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المنافحون عنه ، المجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونشر دعوته . هؤلاء
الذين كانوا في يوم من الأيام لو أصابهم الهلاك لما عبد الله بعد ذلك .
هؤلاء الذين كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليهم
يوم بدر وهم يقاتلون المشركين ، ويرفع رأسه إلى السماء قائلًا : « اللهم
إن تهلك هذه العصابة ، فلن تعبد » .
هؤلاء الذين ورد في فضائلهم من الآيات والسنن ما يضيق عن الحصر ، ويتجاوز
العد . هؤلاء الصحابة الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعزروه ونصروه ، واتبعوا
النور الذي أنزل معه .
هؤلاء هم أفضل خلق الله بعد أنبياء الله ، وهم أكرم خلق الله على الله بعد
أنبيائه ورسله . هؤلاء الذين أكّد كتاب الله ، وأكدت سنة رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم صدقهم وعدالتهم وتقواهم ، والتزامهم التام بكتاب الله وسنة
رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ولذلك فقد نوه بفضائلهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وحذر من أن تجحد أو تنسى ، وأوصى بهم كما أوصى بأهل بيته ، فقال
: « الله الله في أصحابي ، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ، ما بلغ مدّ
أحدهم ولا نصيفه » ، وأمر عليه الصلاة والسلام بحبهم وتوقيرهم ، والنظر
إليهم نظرة إجلال وتقدير .
فلقد سمع خالد بن الوليد يومًا ، وهو يتلاحى مع عبد الرحمن بن عوف ،
وتعلمون أن خالدًا رضي الله عنه كذلك من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنه كان من المتأخرين في الإسلام ، وليس من السابقين
الأولين أما عبد الرحمن فقد كان من السابقين الأولين .
فحينما « سمع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدًا يرفع صوته على عبد الرحمن ، غضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال : " هل أنتم تاركون لي أصحابي ، لا تسبوا أصحابي فوالله لو أنفق أحدكم مثل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه » فإذا كان الصحابي المتأخر لا يبلغ من الفضل مبلغ الصحابي المتقدم ويعتبر رفعه لصوته عليه ، وعدم تأدبه معه بمثابة سب يغضب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له ، فما بالكم بأولئك الذين ينتقدون أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويؤذون رسول الله فيهم ويوجهون لهم شتى التهم والطعون .
إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم الذين نقلوا لنا كتاب الله ، إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم الذين نقلوا لنا سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وإذا ما زعم أو ذهب ذاهب إلى الطعن بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن هذا الطعن لا يكون مجرد طعن بأشخاص سابقين بالإسلام والفضل ، ولا يكون مجرد جحود لفضل أهل الفضل ، ولكنه يكون كذلك بمثابة إنكار لصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وبمثابة إعراض عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، لأن الطعن بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعن بالنقلة العدول الذين نقلوا لنا كتاب الله ، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، فإذا ما طعن بهم ، فإن ذلك الطعن ، شاء الطاعنون أم أبوا يتضمن طعنًا بصدق تواتر نقل كتاب الله ، وطعنًا بصحة ثبرت سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ويترتب على ذلك من العظائم الكبيرة ، والسخائم الكثيرة أهوال وأهوال تودي إلى إنكار الإسلام ، وإلى طمس عظمته ، ولذلك فإن الإقرار بعدالة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في الجملة ، والبعد عن سبهم وانتقادهم ، وتجريح بعضهم ، إنما هو
نوع من الحرص على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والغيرة على الإسلام ، ومقارفة شيء من ذلك والخوض في مجال الفتن التي وقعت
بينهم ، وتجريح بعضهم بحجة تزكية البعض الآخر ، كل ذلك يتضمن طعنًا في
نقلة الإسلام وحملته ، وكل ذلك يؤدي والعياذ بالله إلى نوع من الاعتداء
على الإسلام والابتعاد عن التقيد بتعاليمه وأحكامه .
إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العدالة ، بذلك
جاء القرآن ، وبذلك شهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إن الطعون التي يكيلها البعض لهؤلاء جهلوا أم علموا إنما هي طعون برسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحاولة لإنكار الإسلام .
فما تطاول امرؤ على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا
جره ذلك التطاول إلى الاعتداء على حرمات الله سبحانه وتعالى ، وإلى إنكار
الكثير من أحكام الإسلام ، وإلى انتهاك كثير من الحدود .
فاحفظوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه وآل
بيته ، أحبوهم لحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم ،
أحبوهم لحب الله إياهم ، ابتعدوا عن الخوض في كل ما يؤدي إلى التقليل من
شأنهم ، احذروا أولئك الذين ينددون بهم ، وليس لهم من حديث إلا الاعتراض
عليهم ، والتنديد بما بدر منهم ، والتقليل من شأنهم .
إن هؤلاء يريدون بذلك التشكيك بصحة نقل القرآن العظيم ، التشكيك في سنن
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فاحذروهم على دينكم ،
وخافوهم على رسالة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ، واعلموا أن هؤلاء قوم
ملعونون قد لعنهم الله وأعد لهم عذابًا أليمًا بما انتهكوا من حرمة رسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما أثاروه من شبه حول رسالته .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
فضل الجهاد في سبيل الله
الحمد لله الذي أمر بالجهاد ، لتطهير الأرض من الكفر والفساد ، ووعد المجاهدين بعظيم الأجر والثواب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده بالقلب واللسان ، والدعوة والبيان ، وبالسيف والسنان فكان كل عمره في الجهاد ، وكل ساعاته صلاح ورشاد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا نفوسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله ، طاعة لله وطلبًا لثوابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .أما بعد : عباد الله اتقوا الله ، واعلموا أن الله سبحانه بحكمته البالغة يمتحن عباده المؤمنين ، ويبتليهم بأهل الكفر والنفاق ، ليظهر بذلك صدق المؤمنين في إيمانهم وترفع درجاتهم ، وإلا فهو سبحانه قادر على أن ينتقم من الكفار فيهلكهم عن آخرهم في لحظة واحدة ، قال تعالى : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }{ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ }{ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } .
أيها المؤمنون : إن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة ، كما أن لهم الرفعة في الدنيا ، قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }{ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } ، وقد أمر الله بجهاد الكفار والمنافقين وجهاد هؤلاء على أربع مراتب : بالقلب واللسان والمال والنفس ، فجهاد الكفار بالمال والسلاح وجهاد المنافقين بالحجة والجدال . وقد شرع الله الجهاد لإعلاء كلمة الله ، حتى يعبد الله وحده لا شريك له . قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ، وشرع الجهاد لقمع الكفار والمشركين ، وكف أذاهم عن المسلمين قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله : والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين ، إما بالقلب وإما باللسان ، وإما بالمال ، وإما باليد ، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع . وذكر الإمام أحمد « عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلًا قال له أوصني فقال : أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « ذروة سنام الإسلام الجهاد » ، وقال « ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه مسلم : « من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق » ، وذكر أبو داود عنه : « من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله سبحانه بقارعة قبل يوم القيامة » ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إذا ضن الناس
- أي بخلوا - بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة - وهي نوع من
الربا - واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم
بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم » .
وروى ابن ماجه عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من لقي الله عز
وجل وليس له أثر في سبيل الله لقي الله وفيه ثُلمة » .
عباد الله : والجهاد في سبيل الله يكون بالمال ويكون بالنفس ، وقد جاء الحث على الجهاد بالمال مقدمًا على الجهاد بالنفس في آيات كثيرة قال تعالى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وعلق سبحانه النجاة من النار ومغفرة الذنوب ودخول الجنة على الجهاد بالأموال والأنفس قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }{ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ، الآيات . . .
وأخبر سبحانه وتعالى أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من أنفق زوجين في
سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فُلُ هلم » ، وقال صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة » ،
وذكر ابن ماجه عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من أرسل بنفقة في
سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم » ، وقال صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « من أعان مجاهدًا في سبيل الله أو غارمًا في غرمه
أو مكاتبًا في رقبته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله » .
عباد الله : فالجهاد بالمال معناه أن تدفع مالًا يستعين به المجاهدون في
سبيل الله في نفقتهم ونفقة عيالهم وفي شراء الأسلحة وغيرها من معدات
الجهاد وفي ذلك فضل عظيم لأن الله ذكره في القرآن مقدمًا على الجهاد
بالنفس مما يدل على أهميته ومكانته عند الله ، والمسلمون كالجسد الواحد
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }{ مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه
هو الغفور الرحيم .
غزوة بدر الكبرى
الحمد لله القوي القادر ، العزيز الحكيم ، أحمده وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، ينصر المؤمنين بفضله ، ويؤيدهم بقوته ويمدهم بملائكته ، ما أخلصوا له النية ، وأقاموا له الدين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، سيد المجاهدين ، وإمام الشجعان المقاتلين ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه ، الذين باعوا أنفسهم لله ، وقدموا أموالهم فداءً لدينه ونصرة لدعوته ، ودفاعًا عن الحق ، فكانوا من المهتدين .أما بعد : فيقول الحق سبحانه في كتابه الكريم : { وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ
يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ }{ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ
آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ }{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ
إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (1) .
_________
(1) سورة آل عمران : من 123 - 126 .
أيها المسلمون : إن غزوة بدر الكبرى ، أول معركة حربية كبيرة خاض
غمارها المسلمون بقيادة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقد
سبقتها في الواقع عدة أعمال عسكرية صغيرة كان المقصود منها تدريب الصحابة
، وجس النبض ، واختبار الموقف في نواح متفرقة من الجزيرة العربية ، وبخاصة
حول المدينة ، غير أن غزوة بدر كانت البداية الحقيقية للجهاد بالسلاح ،
الذي خاضه المسلمون ضد أعداء الدعوة الإسلامية ، وليس يعنينا هنا أن نسرد
عليكم تاريخ هذه الغزوة المباركة ، فأحداث هذا التاريخ يطول عرضها ، ولاشك
أن المسلم الذي يرد المسجد ملم بعض الإلمام بتفاصيل هذه الآيات ، لأنها
جزء من بناء دينه المتين ، وفصل من فصول التاريخ العريق لأمتنا الإسلامية
المجيدة .
وإنما الذي يعنينا هو أن نقف بكم على المعالم البارزة في ذلك التاريخ ،
وهي المعالم التي تحمل في طياتها دروسًا في الكفاح ، وعظات تفيدنا في
حاضرنا ، الذي هو نقطة انطلاق إلى مستقبلنا .
وأول درس نتلقاه من بدر هو الدرس الذي حدثنا عنه الله سبحانه في
قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ،
فهو يمتن على النبي وصحابته بنعمة النصر التي أنعم عليهم بها ، برغم أنهم
لم يكونوا متهيئين له ، ولا أعدوا له عدته ، بل إنهم لم يكونوا على
استعداد نفسي لخوض معركة ، بل لقد كانوا يتمنون ألا يلقوا حربًا ، ولا
يخوضوا معركة ، وكان فريق منهم يكره ذلك كراهية شديدة ، وكل ما كانوا
يريدون هو أن يظفروا بالغنيمة التي خرجوا في مطاردتها ، وذلك ما حدثتنا
عنه الآيات الكريمة : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ }{
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ
إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } (1) .
_________
(1) سورة الأنفال : من 5 إلى 8 .
فموقف المسلمين قبل بدر كان موقف الاستضعاف والذلة ، إذ لم تكن
قلوبهم متوحدة قبل المعركة حول هدف واحد ، ولم تكن عزائمهم مشحوذة لقتال
العدو ، وهو موقف الذلة لأن عدتهما للمعركة لم تكن عدة حرب ، بل كانت عدة
غارة على قافلة ، فإذا هم يواجهون بحرب لا مفر منها مع عدو مستعد غاية
الاستعداد .
وكان الموقف محرجًا حين صرفوا عن هدفهم الأحب إلى قلوب أكثرهم حين فاتتهم
القافلة وواجهتهم العاصفة ، كانوا يريدون غنيمة فإذا هم مطلوبون للبذل
والتضحية .
وكان الموقف عصيبًا حين نظروا إلى العدو الذي فاقهم عددًا ، حتى بلغ ثلاثة
أضعاف عددهم ، وقد توافرت للعدو المؤنة والسلاح ، أي أن عناصر النصر من
ناحية الحساب المادي كانت في جانب المشركين ، على حين كان عكس ذلك في جانب
المسلمين .
وكان الموقف يفرض على قائد المعركة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعالج نواحي الضعف في صفوفه ، قبل أن ينشب القتال ، وأول ثغرة واجهها كانت تحويل وجهتهم عن الغنيمة السهلة إلى خوض المعركة المقبلة ، ولم يلق القائد في هذا التحويل صعوبة تذكر ، فسرعان ما استجابت نفوس المهاجرين والأنصار للوضع الطارئ الجديد ، حتى لقد بلغ الأمر قمة روعته في كلمة سعد بن معاذ سيد الأنصار بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودًا ومواثيق على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أمرت ، ولعلك يا رسول الله خرجت لأمر فأحدث الله غيره ، فامض لما شئت وصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت ، وسالم من شئت ، وعاد من شئت ، وخذ من مالنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لحضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا ، إنا لصبر في الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله " .
بهذه الكلمات الحاسمة وضع سعد بن معاذ أرواح الأنصار بين يدي
القائد الذي جمع جنوده ليوحد وجهتهم ويقوي جبهتهم ، وقد تولى الله سبحانه
دعم هذه الصفوف المؤمنة حين صدقت عزيمتها على مقاتلة أعدائه ، فإذا بكل ما
كان عامل ضعف وذلة أصبح مصدر قوة ونصر ، فأما قلة عدد المؤمنين وكثرة عدد
المشركين فقد شاء الله أن يدعم القلة ويهون شأن الكثرة ، حين أصبح اللقاء
محتمًا ، وعلى ذلك فمن المفيد أن يرى المشركون عدد المسلمين قليلًا
فيستهينوا بهم ، والاستهانة أول عوامل الانتكاس والهزيمة ، فأما المؤمنون
فبرغم أنهم كانوا يعلمون أن أعداءهم كثرة ، فإن الله جلت حكمته قد خيل
إليهم أن هذه الكثرة قليلة الشأن ، طائشة الوزن ، تافهة الأثر ؛ لأن عشرين
صابرين يغلبون مائتين ، ومائة صابرة يغلبون ألفًا من الذين كفروا .
وهكذا صورت لنا الآية الكريمة حل مشكلة العدد في قوله تعالى : { وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا } (1) .
_________
(1) سورة الأنفال : 44 .
وأما مشكلة السلاح فأمرها أهون من ذلك ، إذا صح عزم المؤمن على
منازلة عدوه ، ومتى كان هدفه أن يموت شهيدًا في سبيل الله ورسالته ، لقد
كان السلاح الماضي هو الإيمان المكين واليقين الثابت في نصر الله والصبر
على قساوة الصراع ، وتلك هي العوامل التي تقف من وراء إمداد الله للمؤمنين
بجنده الذي لا يغلب : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ
مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ }{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى
لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (1) .
_________
(1) سورة آل عمران : 125 - 126 .
ولعلنا نزداد تصورًا وفهمًا لهذا الموقف الذي كان عليه المؤمنون حين نذكر دعاء الرسول ساعة الزحف ، وهو يناجي ربه ويلح عليه : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض ، اللهم أنجز ما وعدت ، اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، وعراة فاكسهم ، وجياع فأشبعهم ، وعالة فأغنهم من فضلك » ، ولم يكن هذا التوجه إلى الله شأن النبي القائد وحده ، بل كانت دعوات الاستغاثة متصاعدة إلى عنان السماء ، تجأر إلى الله تناشده النصر والتأييد ، فكانت الاستجابة لهذا الدعاء أسرع مما تصور الداعون ، وهو قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } .
لقد تبدلت الحال بعد توحد العزائم على القتال ، فازداد المؤمنون
توجهًا إلى الله ، وتشبثًا بصدق الوجهة ، وحرصًا على الموت من أجل الدعوة
، على حين تراخت عزائم المشركين حين استهانوا بالمؤمنين ، وزادهم البطر
والرياء ضعفًا على ضعف ، كما قال تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ
النَّاسِ } (1) ، فامتلأوا غرورًا ، وتلك هي المقدمات الطبيعية للهزيمة
التي ذاقوا ويلاتها على يد المؤمنين ، فأشبعوهم قتلًا وأسرًا وإذلالًا ،
وهكذا - أيها المسلمون - ذاق أصحاب نبيكم حلاوة النصر في أول معركة
وعاينوا النتيجة العملية لإيمانهم بالنبي وانتصارهم له ، فهذا هو الدرس
الأول من دروس غزوة بدر الكبرى .
_________
(1) سورة الأنفال : 48 .
والدرس الثاني أن بدرًا قد وضعت الإيمان والكفر وجهًا لوجه ،
فأحس المؤمنون أن الأمر لم يعد يحتمل مساومة أو مطلًا ، وأنه لا سلام مع
وجود الكفر في جزيرة العرب ، وقد آن للإيمان أن يدخل أول امتحان عملي يؤكد
أصالته ، فإن إيمان المؤمنين كان حتى قبيل غزوة بدر اقتناعًا نظريًا
بمعاني الغيب وقيمه ، وكانت بدر بما عاينوا فيها من تأييد الله أعظم تأكيد
لدور الغيب في حياة المؤمنين ، وفي اقتناعهم . لم يعد الغيب سرًّا أو
تسليمًا ، بل صار ملائكة تهبط من السماء إلى الأرض ، ونصرًا لا تضمنه
أسباب الدنيا ، وإنما تصنعه أقدار الغيب الذي به يؤمنون ، ولهذا يخاطبهم
الله سبحانه بهذا القول الحاسم ، بعد أن صور لهم ذلتهم وعجزهم : { فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً
حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }{ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ
مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } (1) (2) .
_________
(1) سورة الأنفال : 17 - 18.
(2) انظر خطب الجمعة والعيدين للجنة من كبار علماء الأزهر ص 332 .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .