كتاب : إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية
اغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
الحمد لله الحكيم الكريم العلي العظيم السميع العليم الرءوف الرحيم الذي اسبغ على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه ان رحمته تغلب عضبه فهو ارحم بعباده من الوالدة بولدها كما هو اشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الارض المهلكة اذا وجدها واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له رب العالمين وارحم الراحمين الذي تعرف الى خلقه بصفاته واسمائه وتحبب اليهم باحسانه والائه واشهد ان محمدا عبده ورسوله الذي ختم به
النبيين وارسله رحمة للعالمين وبعثه بالحنيفية السمحة والدين المهيمن على كل دين فوضع به الاصار والاغلال واغنى بشريعته عن طرق المكر والاحتيال وفتح لمن اعتصم بها طريقا واضحا ومنهجا وجعل لمن تمسك بها من كل ما ضاق عليه فرجا ومخرجا فعند رسول الله السعة والرحمة وعند غيره الشدة والنقمة فما جاءه مكروب الا وجد عنده تفريج كربته ولا لهفان الا وجد عنده اغاثة لهفته فما فرق بين زوجين الا عن وطر واختيار ولا شتت شمل محبين الا عن ارادة منهما وايثار ولم يخرب ديار المحبين بغلظ اللسان ولم يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد الانسان
بل رفع المؤاخذة بالكلام الذي لم يقصده بل جرى على لسانه بحكم الخطا والنسيان او الاكراه والسبق على طريق الاتفاق فقال فيما رواه عنه اهل السنن من حديث عائشة ام المؤمنين : لا طلاق ولا عتاق في إغلاق رواه الامام احمد وابو داود
وابن ماجه والحاكم في صحيحه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه قال ابو داود في غلاق ثم قال : والغلاق اظنه الغضب وقال حنبل :
سمعت ابا عبدالله - يعني احمد بن حنبل - يقول : هو الغضب ذكره الخلال ابو
بكر عبد العزيز ولفظ احمد : يعني الغضب
قال ابو بكر سالت ابا محمد وابن دريد وابا عبد الله وابا طاهر النحويين عن
قوله لا طلاق ولا عتاق في اغلاق قالوا : يريد الاكراه لانه اذا اكره انغلق
عليه رايه ويدخل في هذا المعنى المبرسم مكرر والمجنون فقلت لبعضهم والغضب
ايضا فقال :
ويدخل فيه الغضب لان الاغلاق احدهما الاكراه والاخر ما دخل عليه مما ينغلق به رايه عليه وهذا مقتضى تبويب البخاري فإنه قال في صحيحه : باب الطلاق في الاغلاق والكره والسكران والمجنون يفرق بين الطلاق وفي الاغلاق وبين هذه الوجوه وهو ايضا مقتضى كلام الشافعي فانه يسمي نذر اللجاج والغضب يمين الغلق ونذر الغلق
هذا اللفظ يريد به نذر الغظب وهو قوله غير واحد من ائمة اللغة
والقول بموجبه وهو مقتضى الكتاب والسنة واقوال الصحابة والتابعين وائمة
الفقهاء ومقتضى القياس الصحيح والاعتبار واصول الشريعة
اما الكتاب فمن وجوده : احدها قوله تعالى : لا يؤاخذهم الله باللغو في
ايمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم قال ابن جرير في تفسيره حدثنا ابن
وكيع ثنا مالك بن اسماعيل عن خالد عن عطاء بن رستم عن ابن عباس قال : لغو
اليمين ان تحلف وانت عضبان حدثنا ابن حمبد ثنا يحيى بن واضح ثنا ابو حمزة
عن عطاء عن طاووس قال : كل يمين حلف عليها
رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها لقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم وهذا احد الاقوال في مذهب مالك ان لغو اليمين هو اليمين في الغضب وهذا اختيار اجل المالكية وافضلهم على الاطلاق وهو : القاضي اسماعيل بن اسحق فانه ذهب الى ان الغضبان لا تنعقد يمينه ولا تنافي بين هذا القول وبين قول ابن عباس وعائشة ان لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله وقول عائشة وغيرها ايضا : انه يمين الرجل على الشئ يعتقده كما حلف عليه فيتبين بخلافه فان الجميع من لغو اليمين والذي فسر لغو اليمين بانها يمين الغضب يقول بان النوعين الآخرين من اللغو وهذا هو الصحيح فإن الله سبحانه جعل لغو اليمين مقابلا لكسب القلب ومعلوم ان الغضبان والحالف على الشئ يظنه كما حلف عليه والقائل : لا والله وبلى والله من غير عقد
اليمين لم يكسب قلبه عقد اليمين ولا قصدها والله سبحانه قد رفع
المؤاخذة بلفظ جرى على اللسان لم يكسبه القلب ولا يقصده فلا تجوز المؤاخذة
بما رفع الله المؤاحذة به بل قد يقال : لغو الغضبان اظهر من لغو القسمين
الاخرين : لما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى
فصل
الوجه الثاني من دلالة الكتاب قوله سبحانه ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي اليهم اجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون وفي تفسير ابن ابي نجيح عن مجاهد : هو قول الانسان لولده وماله اذا عضب عليهم اللهم لا تبارك فيه والعنه فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لاهلكهمانتهض الغضب مانعا من انعقاد سبب الدعاء الذي تاثيره في الاجابة اسرع من تاثير الاسباب في احكامها فان الله سبحانه يجيب دعاء الصبي والسفيه والمبرسم ومن لا يصح طلاقه ولا عقوده فاذا كان الغضب قد منع كون الدعاء سببا لان الغضبان لم يقصده بقلبه فان عاقلا لا يختار اهلاك نفسه واهله وذهاب ماله وقطع يده ورجله وغير ذلك بما يدعو به فاقتضت رحمة العزيز العليم ان لا يؤاخذه بذلك ولا يجيب دعاءه لانه عن غير قصد منه بل الحامل له عليه الغضب الذي هو من الشيطان
فإن قيل ان هذا ينتقض عليكم بالحديث الذي رواه ابو داود عن جابر بن عبدالله عن النبي انه قال : لا تدعوا على اولادكم ولا على اموالكم ولا تدعوا على خدمكم لاتوافقوا من الله ساعة لا يسال فيها شيئا الا اعطاه
قيل : لا تنافي بين الاية والحديث . فان الاية اقتضت الفرق بين
دعاء المختار و دعاء الغضبان الذي لا يختار ما دعا به والحديث دل على : ان
لله سبحانه اوقاتا لا يرد فيها داعيا ولا يسال فيها شيئا الا اعطاه
فنهى الامة ان يدعوا احدهم على نفسه او اهله او ماله خشية ان يوافق تلك
الساعة فيجاب له ولا ريب ان الدعاء بالشر كثيرا مايجلب الدعاء بالخير
والانسان
يدعو على غيره ظلما وعدوانا مع ذلك فقد يستجاب له لكن اجابة
دعاء الخير من صفة الرحمة وإجابة ضده من صفة الغضب والرحمة تغلب الغضب
والمقصود ان الغضب مؤثر في عدم انعقاد السبب في الجملة
ومن هذا قوله تعالى : ويدعو الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان
عجولا
وهو الرجل يدعو على نفسه واهله بالشر في حال الغضب
فصل
الوجه الثالث قوله تعالى ولما رجع موسى الى قومه غضبان اسفا قال بئسما
خلفتموني من بعدي اعجلتم امر ربكم والقى الالواح واخذ براس اخيه يجره اليه
قال ابن ام ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الاعداء ولا
تجعلني مع القوم الظالمين
ووجه الاستدلال بالآية : ان موسى صلوات الله عليه لم يكن ليلقي الواحا
كتبها الله تعالى فيها كلامه من على راسه الى الارض فيكسرها اختيارا منه
لذلك ولا كان فيه مصلحة لبني اسرائيل ولذلك جره بلحيته وراسه وهو اخوه
وانما حمله على ذلك الغضب فعذره الله سبحانه به ولم يعتب عليه بما فعل اذ
كان مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره فالمتولد عنه غير منسوب
الى اختياره ورضاه به
يوضحه الوجه الرابع وهو قوله ولما سكت موسى الغضب اخذ الالواح
فعدل سبحانه عن قوله سكن الى قوله سكت تنزيلا للغضب منزلة السلطان الآمر
الناهي الذي يقول لصاحبه : افعل لا تفعل فهو مستجيب لداعي الغضب الناطق
فيه المتكلم على لسانه فهو اولى بان يعذر من المكره الذي لم يتسلط عليه
غضب يأمره وينهاه كما سياتي تقريره بعد هذا ان شاء الله واذا كان الغضب هو
الناطق على لسانه
الامر الناهي له لم يكن ما جرى على لسانه في هذا الحال منسوبا
الى اختياره ورضاه فلا يتم عليه اثره
الوجه الخامس قوله تعالى واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله في
ثلاثة مواضع من القران
وما يتكلم به الفضبان في حال شدة غضبه من طلاق و أو شتم ونحوه هو من :
نزغات الشيطان فإنه يلجئه الى ان يقول ما لم يكن مختارا
لقوله : فإذا سرى عنه علم ان ذلك من القاء الشيطان على لسانه مما لم يكن
يرضاه واختياره
والغضب من الشيطان واثره منه
كما في الصحيح ان رجلين استبا عند النبي حتى احمر وجه احدهما وانتفخت
اوداجه فقال النبي اني لاعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : اعوذ بالله
من الشيطان الرجيم وفي السنن ان النبي قال ان الغضب من الشيطان وان
الشيطان من النار وانما تطفأ النار بالماء فاذا غضب احدكم فليتوضا
واذا كان هذا السبب واثره من الجاء الشيطان لم يكن من اختيار
العبد فلا يترتب عليه حكمه
فصل
:فاما دلالة السنة فمن وجوه
احدهما حديث عائشة المتقدم وهو قوله لا طلاق ولا عتاق في اغلاق . وقد اختلف في الاغلاق فقال اهل الحجاز : هو الاكراه . وقال اهل العراق : هو الغضب وقالت طائفة : هو جمع الثلاث بكلمة واحدة
حكى الاقوال الثلاثة صاحب كتاب مطالع الانوار وكان الذي فسره بجمع الثلاث اخذه من التغليق وهو ان المطلق غلق طلاقه كما يغلق صاحب الدين ما عليه وهو من غلق الباب فكأنه اغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه الثلاث فلم يجعل له الشارع ذلك ولم يملكه اياه رحمة به انما ملكه طلاقا يملك فيه الرجعة بعد الدخول وحجر عليه في وقته ووضعه وقدره
فلم يملكه اياه في وقت الحيض ولا في وقت طهر جامعها فيه ولم يملكه ان يبينها بغير عوض بعد الدخول
فيكون قد غير صفة الكلام وهذا عند الجمهور فلو قال لها : انت طالق طلقة لا رجعة لي فيها او طلقة بائنة لغا ذلك وثبتت له الرجعة وكذلك لم يملكه جمع الثلاث في
مرة واحدة بل حجر عليه في هذا وهذا وكان ذلك من حجة من لم يوقع
الطلاق المحرم و لا الثلاث بكلمة واحدة لانه طلاق محجور على صاحبه شرعا
وحجر الشارع يمنع نفوذ التصرف وصحته كما يمنع نفوذ التصرف في العقود
المالية فهذه حجة من اكثر من ثلاثين حجة ذكروها على كلام وقع الطلاق
المحجور على المطلق فيه
والمقصود هاهنا ان هؤلاء فسروا الاغلاق بجمع الثلاث لكونه اغلق على نفسه
باب الرحمة الذي لم يغلقه الله عليه الا في المرة الثالثة واما الآخرون
فقالوا : الاغلاق مأخوذ من اغلاق الباب وهو ارتاجه واطباقه فالأمر المغلق
ضد الامر المنفرج والذي اغلق عليه الامر ضد الذي فرج له وفتح عليه فالمكره
مكرر الذي اكره على امر ان لم يفعله والا حصل له من الضرر ما اكره عليه قد
اغلق عليه باب القصد والارادة لما اكره عليه فالاغلاق في حقه بمعنى اغلاق
ابواب القصد والارادة له فلم يكن قلبه منفتحا لارادة القول والفعل الذي
اكره عليه ولا لاختيارهما فليس مطلق الارادة والاختيار بحيث ان شاء طلق
وان شاء لم يطلق وان شاء تكلم وان شاء لم يتكلم بل اغلق عليه باب الارادة
الا للذي قد اكره عليه
ولهذا قال النبي لايقل احدكم اللهم اغفر لي ان شئت اللهم ارحمني ان
شئت ولكن ليعزم المسالة فان الله لا مكره له فبين النبي ان الله
لا يفعل الا اذا شاء بخلاف المكره الذي يفعل ما لا يشاؤه فانه لا يقال
يفعل ما يشاء الا اذا كان مطلق الدواعي وهو المختار واما من الزم بفعل
معين فلا ولهذا يقال المكره غير مختار ويجعل قسيم المختار لا قسما منه ومن
سماه مختارا فانه يعني ان له ارادة واختيارا بالقصد الثاني فانه يريد
الخلاص من الشر ولا خلاص له الا بفعل ما اكره عليه فصار مريدا له بالقصد
الثاني لا بالقصد الاول
والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهذا من اعظم الاغلاق
وهو في هذا الحال بمنزلة المبرسم والمجنون والسكران بل اسوا حالا من
السكران لان السكران لا يقتل نفسه ولا يلقي ولده من علو والغضبان يفعل ذلك
وهذا لا يتوجه فيه نزاع انه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعا
وحينئذ فنقول الغضب ثلاثة اقسام :
احدها ان يحصل للانسان مبادئه واوائله بحيث لا يتغير عليه عقله
ولا ذهنه ويعلم ما يقول وما يقصده فهذا لا اشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة
عقوده ولا سيما اذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره
القسم الثاني ان يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والارادة
فلا يعلم ما يقول ولا يريده فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه كما
تقدم والغضب غول العقل فاذا اغتال الغضب عقله حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب
انه لا ينفذ شىء من اقواله في هذه الحالة فإن اقوال المكلف انما مع علم
القائل بصدورها منه ومعناها وارادته للتكلم بها
فالاول يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران وهذا الغضبان والثاني يخرج
من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه البتة فإنه لا يلزم مقتضاه والثالث يخرج
من تكلم به مكرها وان كان عالما بمعناه
القسم الثالث من توسط في الغضب بين المرتبتين فتعدى مبادئه ولم ينته الى
اخره بحيث صار كالمجنون فهذا موضع الخلاف ومحل النظر والادلة الشرعية تدل
على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا وهو فرع
من الاغلاق كما فسره به الائمة وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه
واما دلالة السنة فمن وجوه احدهما حديث عائشة وقد تقدم ذكر وجه دلالته .
الثاني ما رواه احمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال : قال
رسول الله : لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين
وهو حديث صحيح وله طرق
وجه الاستدلال به انه الغي وجوب الوفاء بالنذر اذا كان في حال بالغضب مع
ان الله سبحانه وتعالى اثنى على الموفين بالنذور وامر النبي الناذر لطاعة
الله بالوفاء بنذره
وقال من نذر ان يطيع الله فليطعمه ومن نذر ان يعصيه فلا يعصه
فاذا كان النذر الذي اثنى الله من اوفى به وامر رسوله بالوفاء
بما كان منه طاعة قد اثر الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده وانما
حمله على بيانه الغضب فالطلاق بطريق الاولى و الأحرى
فإن قيل : فكيف رتب عليه كفارة اليمين قيل ترتب الكفارة عليه لا يدل على
ترتب موجبه ومقتضاه عليه والكفارة لا تستلزم التكليف ولهذا تجب في مال
الصبي والمجنون اذا قتلا صيدا او غيره وتجب على قاتل الصيد ناسيا او مخطئا
وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيا عند الاكثرين فلا يلزم من ترتب
الكفارة اعتبار كلام الغضبان وهذا هو الذي يسميه الشافعي نذر الغلق
ومنصوصه عدم وجوب الوفاء به اذا حلف به بل يخير بينه وبين الكفارة
وحكى له قول آخر بتعين الكفارة عينا
وقول اخر بعين الوفاء به اذا حنث كما يلزمه الطلاق والعتاق وهذا قول مالك
واشهر الروايتين عن ابي حنيفة
الثالث ماثبت في الصحيح عنه انه قال : لا يقضي القاضي بين اثنين
وهو غضبان
ولولا ان الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه عن الحكم حال الغضب وقد اختلف
الفقهاء في صحة حكم الحاكم في حال غضبه على ثلاثة اقوال سنذكرها بعد ان
شاء الله
فصل
وأما اثار الصحابة فمن وجوه
أحدها ماذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس انه قال الطلاق عن وطر والعتق
ما ينبغي به وجه الله فحصر الطلاق فيما كان عن وطر وهو الغرض المقصود
والغضبان لا وطر له وهذا في الطلاق عن ابن عباس نظير قوله وقول اصحابه لغو
اليمين ان تحلف وانت غضبان
الوجه الثاني ان الزهري روى عن ابان بن عثمان عن عثمان انه رد طلاق
السكران ولا يعرف له مخالف من الصحابة وهذا هو الصحيح وهو الذي
رجع اليه الامام احمد اخيرا قال في رواية ابي طالب والذي لا يأمر بالطلاق
فإنما اتى خصلة واحدة والذي يامر الطلاق قد اتى خصلتين حرمها عليه واحلها
لغيره فهذا خير من هذا وانا اتقي جميعها وقال في رواية عبدالله الميموني
قد كنت اقول : ان طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب علي انه لا يجوز
طلاقه لان لو اقر لم يلزمه ولو باع لم يجز بيعه قال : والزمه الجناية وما
كان من غير ذلك فلا يلزمه
قال ابو بكر : وبهذا اقول وقال في رواية ابي الحرث : ارفع شئ في حديث
الزهري عن ابان بن عثمان عن عثمان : ليس لمجنون ولا سكران طلاق
وهو اختيار الطحاوي وابي الحسن الكرخي وامام الحرمين وشيخ الإسلام ابن
تيمية واحد قولي الشافعي
واذا كان هؤلاء لا يوقعون طلاق السكران لانه غير قاصد للطلاق فمعلوم ان
الغضبان كثيرا ما يكون اسوا حالا من السكران
والسكر نوعان : سكر طرب وسكر غضب وقد يكون هذا اشد وقد يكون
الآخر اشد فاذا اشتد به الغضب حتى صار كالسكران كان اولى بعدم وقوع الطلاق
منه لانه يعذر ما لا يعذر السكران ويبلغ به الغضب اشد ما يبلغ به السكران
كما يشاهد من حال السكران الغضبان
فصل
واما الاعتبار واصول الشريعة فمن وجوه : الاول : ان المؤاخده انما ترتبت على الاقوال لكونها ادلة على ما في القلب من كسبه وارداتهكما قال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
فجعل سبب المؤاخذة كسب القلب وكسبه هو ارادته وقصده ومن جرى على لسانه الكلام من غير قصد واختيار بل لشدة غضب وسكر او غير ذلك لم يكن من كسب قلبه
ولهذا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الاباس منها فلما وجدها اخطا من شدة الفرح وقال : اللهم انت عبدي وانا ربك فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القران على لسان القارىء
ولكن قد يقال هذا قصد الصواب فاخطا فلم يؤاخذ اذا كان قصده ضد ما تكلم به بخلاف الغضبان اذا طلق فانه قاصد للطلاق
قيل لا كلام في الغضبان العالم بما يقول القاصد المختار لحكمه دفعا لمكروه
البقاء مع الزوجة وانما الكلام في الذي اشتد غضبه حتى الجاه
الشيطان الى التكلم بما لم يكن مختارا للتكلم به كما يلجئه الى فعل ما لم
يكن لولا الغضب يفعله
يوضحه الوجه الثاني وهو : ان الارادة فيه هو محمول عليها ملجأ اليه
كالمكره بل المكره احسن حالا منه فان له قصدا وارادة حقيقة لكن هو محمول
عليه وهذا ليس له قصد في الحقيقة فاذا لم يقع طلاق المكره فطلاق هذا اولى
بعدم الوقوع
يوضحه الوجه الثالث وهو : ان الامر الحامل المكره على التكلم بالطلاق يشبه
الحامل للغضبان على التكلم به فان المتكلم مكرها انما يقصد الاستراحة من
توقع ما اكره به ان لم يباشر به او من حصوله ان كان قد باشره بشئ منه
فيتكلم بالطلاق قاصدا لراحته من الم ما اكره به وهكذا الغضبان فإنه اذا
اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه
حرارة الغضب فيستريح بذلك وكذلك يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويشق ثيابه
ويلقي ما في يده دفعا لالم الغضب والقاء لحمه منه وكذلك يدعو على نفسه
واحب الناس اليه فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء وهو غير طالب
لذلك في الحقيقة فكذلك يتكلم بصيغة الانشاء وهو غير قاصد لمعناها ولهذا
يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بامور يعلم خواصهم انهم تكلموا بها دفعا
لحرارة الغضب وانهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم بل يؤخرونه
فيحمدونهم على ذلك اذا سكن غضبهم وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش
بولده او صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد
السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة
الوجه الرابع : ان العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده بل هو اكره شئ اليه
وهو كما قال النبي : جمرة في قلب ابن ادم اما رأيتم من احمرار عينيه
وانتفاخ اوداجه
والعاقل لا يقصد القاء الجمرة في قلبه فهو ناشئ فيه بغير
اختياره واذا كان هو السبب الحامل على المتكلم بالطلاق وغيره لم يكن ذلك
ايضا مضافا الى اختياره وارادته وهذا كما ان ارادة السبب ارادة للمسبب
فكراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب
يوضحه الوجه الخامس وهو : انك تقول للغضبان اذا اشتد غضبه ففعل ما لم يكن
يفعله او تكلم بما لم يكن يتكلم به قبل الغضب : هل اردت ذلك او قصدته ؟
فيحلف انه ما اراده ولا قصده ولا كان له باختيار ويحلف انه وقع بغير
اختيار ولا تنكر هذا فانك تجده من نفسك وتحقيق الامر ان له فيه ارادة هو :
محمول عليها حملة عليها الغضب فهي : كارادة المكره بل المكره ادخل في
الارادة كما تقدم وهذا يدل على ان الغضبان اولى بعدم الوقوع من المكره
يوضحه الوجه السادس وهو : ان الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان
لكن المكره مقهور بغيره من خارج والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه وقهر
الاكراه يبطل حكم الاقوال التي اكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم
والمجنون دون حكم الافعال فانه يقتل اذا قتل ويضمن اذا تلف فكذلك قهر
الغضب يبطل حكم اقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو
أتنلف شيئا ضمنه هذا كله في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة فاما من هو
مريد له على تقدير عدم غضبه لاقتضاء السبب ذلك فليس من هذا الباب كمن زنت
امراته فغضب فطلقها لانه لا يرى المقام مع زانية فلم يقصد بالطلاق اطفاء
نار الغضب بل التخلص من المقام مع زانية فهذا يقع
طلاقة فتأمل هذا الفرق فانه حرف المسالة ونكتتها وهذا بخلاف من
خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه ارادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق
ولكن حملة الغضب على ان شفي نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها واطفاء لنار
غضبه
يوضحه الوجه السابع وهو : ان الغضبان يفعل امورا من شق الثياب واتلاف
المال وغير ذلك مما لو اكره حتى يتكلم بالطلاق لم ينفذ طلاقه ولغت اقواله
فاذا فعل هو هذه الامور علم ان الذي الجأه اليها اعظم من الاكراه فإن
المكره لو اكره بها لم يفعلها وهذا قد فعلها ان المقتضي لفعلها فيه اولى
من اقتضاء الاكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك
وهذا واضح جدا
فإن قيل : المكره اذا تكلم بما اكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع
عنه بهذا القول ضررا فليس كالمكره
قيل لا ريب انهما يفترقان في هذا الوجه ولكن لا يوجب ذلك ان يكون الغضبان
مختارا مريدا لما قاله او فعله بك اكره شئ اليه وهذا امر لا يمكن دفعه
فإن قيل : فما الحامل على ما يكره ويؤديه من غير ان يتوصل به الى ما هو
احب اليه منه ؟
قيل لما كان الغضب عدو العقل وهو له كالذئب للشاة قل ما يتمكن منه الا
اغتال عقله فقد ازاله الغضب واطفا ناره وهذا مقصود صحيح في نفسه لكن لما
غاب عنه عقله قصد ازالة ذلك مما فيه ضرر عليه ليخفف عن نفسه ما هو فيه من
البلاء ولولا ذلك لم يفعل ما لا يفعله في الرضا ولا تكلم بما لم يكن به
فهو قصد ان يستريح ويسكن ويبرد غضبه بتلك الاقوال والافعال وان لم يدفع
ذلك عنه بجملته تلك الشدة فانها تخفف وتضعف فاقتضت رحمة الشارع به ان الغي
اقواله في هذه الحال ان تمكن ان لا يترتب عليها اثرها وتكون كأقوال
المبرسم والمجنون الهاجر ونحوهما و اما الافعال فلا يمكن الغاء اثرها فرتب
عليه موجب فعله
فإن قيل : فيلزمكم على هذا انه لوحلف في هذه الحال ان لا تنعقد
يمينه
قيل قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف واختاره من لايرتاب في امامته
وجلالته وكان يقرن بالائمة الكبار اسماعيل بن اسحاق القاضي
فان قيل لكن المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والائمة الاربعة اعتبار
نذر اللجاج والغضب وان تنازعوا في موجبه فاوجب مالك واهل العراق الوفاء به
كنذر التبرر وخبر الليث بن سعد والشافعي واحمد بن حنبل بين فعله وبين فعله
وبين كفارة اليمين ولم يقل احد منهم : انه لا ينعقد وانه لغو
وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الايمان كلها ولم يحصل منها يمين الغضب دون
يمين الرضا
قيل نعم هذا حق ولكن اليمين لما قصد صاحبها الحض او المنع كانت الكفارة
رافعة لما حصل بها من الضرر بخلاف الطلاق والعتاق فانهما اتلاف محض لملك
البضع والرقبة ولا كفارة فيهما فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفع بكفارة
ولا غيرها وكما انه يفرق في الاكراه بين نوع ونوع فالاكراه يبيح الاقوال
عندنا وعند الجمهور وكل قول اكره عليه بغير حق فانه باطل وابو حنيفة يفرق
بين نوع ونوع والاكراه على الافعال ثلاثة انواع . نوع لا يباح بالاكراه
كقتل المعصوم واتلاف اطرافه ونوع يبيحه الاكراه بشرط الضمان كاتلاف مال
المعصوم . ونوع مختلف فيه كالزنا والشرب والسرقة وفيه روايتان عن الامام
احمد فما امكن تلافيه ابيح بالاكراه كالاقوال والاموال وما كان ضرره كضرر
الاكراه لم يبح به كالقتل فانه ليس قتل المعصوم بحياة المكره اولى من
العكس
واما الافعال كالقران يدل على رفع الاثم فيها . كقوله تعالى ولا
تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن
يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم
الوجه الثامن : ان النبي شرع للغضبان ان يقول : اعوذ بالله من الشيطان
الرجيم وان يتوضا وان يتحول عن حالته فإن كان قائما فليقعد واذا كان قاعدا
فليضطجع
قال : ان الغضب من الشيطان وان الشيطان من النار وانما تطفا النار بالماء
فاذا غضب احدكم فليتوضا
وهذا يدل على انه محمول عليه من غيره وان الشيطان يغضبه ليحمله بغضبه على
فعل ما يحبه الشيطان وعلى التكلم به وما يضاف الى الشيطان مما
يكره العبد ولا يحبه فلا يؤاخذ به الانسان كالوسوسة والنسيان
كما قال فتى موسى لموسى وما انسانيه الا الشيطان ان اذكره فالله تعالى لا
يؤاخذ بالوسوسة ولا بالنسيان اذ هما من اثر فعل الشيطان في القلب وقد اخبر
النبي ان الغضب من الشيطان فيكون اثره مضافا اليه ايضا فلا يؤاخذ به العبد
كاثر النسيان فإنه لو حلف ان لايتكلم بكذا فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم
قصده وارادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه وان كان قاصدا للكلام فانه لم يقع
منه الا بقصده وارادته وهذه حال الغضبان فانه لم يقصد حقيقة ما تكلم به
وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه بل قصد الناسي
للتكلم اظهر من قصد الغضبان ولهذا يقول الناسي : قصدت ان اقول كذا وكذا
والغضبان يحلف انه لم يقصد
الوجه التاسع : ان المقصود في العقود معتبرة في عقدها كلها والغضبان ليس
له قصد معتبر في حل عقدة النكاح كما ليس له قصد في قتل نفسه وولده واتلاف
ماله فانه يفعل في الغضب هذا ويقول : هذا فاذا لم يكن له قصد معتبر لم يصح
طلاقه
فإن قيل : هذا ينقص عليكم بالهازل فانه يصح طلاقه وان لم يكن له فيه قصد
قيل : الفرق بينهما : ان الهازل قصد التكلم باللفظ واراده رضا واختيار منه
لم يحمل على التلفظ به وغايته ان لم يرد حكمة وموجبه وذلك الى الشارع ليس
اليه فالسبب الذي اليه قد اتى به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه
والسبب الى المشرع ليس اليه فلا يصح اعتبار احدهما بالاخر وكيف يقاس
الغضبان على المتخذ ايات الله هزؤا وهذا من افسد القياس ؟
الوجه ا لعاشر ان الغضب مرض من الامراض وداء من الادواء فهو في
امراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في امراض الا بدان فالغضبان
المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم
المغلوب في برسامه وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى
لايعلم ما يقول واما اذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا
لاقصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره
القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين
هذا وهذا وهذا ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه انه
لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد
غيره فان كان عاقلا لايختار هذا الا ليدفع به ما هو اكره اليه منه او
ليحصل به ما هو احب اليه فاذا انتفى هذا او هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا
امر يعلمه كل انسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره
المحمول على الطلاق وايهما كان فانه لاينفذ طلاقه
فان قيل الفرق بينهما ان المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره
وان يملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه واما الغضبان فإنه يملك نفسه
كما قال النبي ليس الشديد بالصرعه ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب
قيل : من الغضب ما يمكن صاحبه ان يملك نفسه عنده وهو الغضب في
مبادئه فإدا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل
على الجزع يمكن صاحبه ان يملك نفسه في اوله فاذا استحكم وقهر لم يملك نفسه
وكذلك الغضب يمكن صاحبه ان يملك نفسه في اوله فاذا تمكن واستولى سلطانه
على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في اوله اضطراري في نهايته كما
قال القائل : ... يا عاذلي والامر في يده ... هلا عذلت وفي يدي الأمر ...
وهكذا السكران سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا اتى بالسبب خرج
الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر فاذا كان السكر الذي هو مفرط بتعاطي
اسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء
صاحبة اذا طلق في هذه الحال مع كونه غير مغدور في تعاطي سببه فلان يعذر
سكران الغضب الذي لم يفر مع شدة سكره على سكر الخمر اولى واحرى
الوجه الحادي عشر وهو ان من الناس من اذا لم ينفذ غضبه قتله غضب غضبه ومات
اومرض او اغشي عليه كما يذكر عن بعض العرب ان رجلا سبه فاراد ان يرد على
الساب فامسك جليس له بيده على فمه ثم رفع يده لما ظن ان غضبه قد سكن فقال
: قتلتني رددت غضبي في جوفي ومات من ساعته فاذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل او
ظلم لغيره لم يعذر بذلك السكران واما اذا نفذ بقول فانه يمكن اهدار قوله
وان لا يترتب اثره عليه كما اهدر الله سبحانه دعاءه و لم يرتب اثره عليه
ولم يستجبه له ولهذا ذهب بعض الفقهاء الى انه لا يجلد القذف في حال
الخصومة والغضب وانما يجلد به اذا اتى به اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي
جدا ويدل عليه ان الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله
: هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك :
ومن يحده في هذه الحال يفرق بين قذفه وطلاقة بان القدف حق لادمي وانتهاك
لعرضه او قدحه في نفسه فيجري مجرى اتلاف نفسه وماله فلا يعذر فيه بالغضب
لا
سيما ولو عذر فيه بذلك لامكن كل قاذف ان يقول في حال الغضب
فيسقط الحد بخلاف الطلاق فانه يمكن ان يدين فيما بينه وبين الله والحق لا
يعدوه
والمقصود انه اذا تكلم بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له باخراج هذه
الكلمة من صدره وتنفسه بها فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه
من الرحمة والحكمة والمصلحة ان لا يؤاخذبها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه
الوجه الثاني عشر : ان قاعدة الشريعة ان العوارض النفسية لها تأثير في
القول اهدارا واعتبارا واعمالا والغاء وهذا كعارض النسيان والخطأ والاكراه
والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول ولهذا يحتمل من الواحد من
هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره ويعذر بما لا يعذر به غيره لعدم تجرد
القصد و الارادة ووجود الحامل على القول ولهذا كان الصحابة يسال احدهم
الناذر : في رضا قلت ذلك ام في غضب ؟ فان كان في غضب امره بكفارة يمين
لانهم استدلوا بالغضب على ان مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب
وقد قال تعالى ياايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى
تعلموا ما تقولون
فجعل عارض السكر مانعا من اعتبار قراءة السكران وذكره وصلاته كما
جعله النبي مانعا من صحة اقراره لما امر باستنكاه من اقر بين يديه بالزنا
وجعله مانعا من تكفير من قال له ولاصحابه : هل انتم الا عبيد لابي
وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه واهله
وجعل سبحانه الاكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر
وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل
وعارض الغضب قد يكون اقوى من كثير من هذه العوارض فإذا كان
الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم
يقصد ذلك ان لم يكن اولى بالعذر منهم لم يكن دونهم
يوضحه الوجه الثالث عشر ان الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور احداها ان
يبلغه عن امراته امر يشتد غضبه لاجله ويظن انه حق فيطلقها لاجله ثم يتبين
انها بريئة منه
فهذا في وقوع الطلاق به وجهان اصحهما انه لا يقع طلاقه لانه انما طلقها
لهذا السبب والعلة والسبب كالشرط فكانه قال ان كانت فعلت ذلك فهي طالق
فاذا لم تفعله لم يوجد الشرط وقد ذكر المسالة بعينها ابو الوفاء ابن عقيل
وذكر الشريف ابن ابي موسى في ارشاده فيما اذا قال انت طالق ان دخلت الدار
بفتح الهمزة مرارا وهو يعرف العربية ثم تبين انها لم تدخل لم تطلق ولا
يقال هو ها هنا قد صرح بالتعليل بخلاف ما اذا لم يصرح به فان هذا لا تأثير
له فإنه قد أوقع الطلاق لعلة فاذا انتفت العلة تبينا انه لم يكن مريدا
لوقوعه بدونها سواء صرح بالعلة او لم يصرح بها وغاية الامر ان تكون العلة
بمنزلة الشرط وهو لو قال انت طلق وقال اردت ان فعلت كذا وكذا دين فيما
بينه وبين الله تعالى وقد ذكر اصحاب الشافعي احمد فيما اذا كاتب عبده على
عوض فاداه اليه فقال : انت حر ثم تبين ان العوض مستحق لم يعتق مع تصريحه
بالحرية فالطلاق اولى بعدم الوقوع في هذه الصورة
الصورة الثانية ان يكون قد غضب عليها لامر قد علم وقوعه منها فتكلم بكلمة
الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول عقوبة لها على ذلك فهذا يقع طلاقه اذ
لو يقع هذا الطلاق لم يقع اكثر الطلاق فانه غالبا يقع مع الرضا 92 مكرر
الصورة الثالثة : ان لايقصد امرا بعينه ولكن الغضب حمله على ذلك وغير عقله
ومنعه كمال التصور والقصد فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون فليس
هو غائب
العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية ولا هو حاضر العقل بحيث
يكون قصده معتبرا فهذا لا يقع به الطلاق ايضا كما لا يقع بالمبرسم
والمجنون
يوضحه الوجه الرابع عشر ان المجنون والمبرسم والموسوس والهاجر قد يشعر
احدهم بما قاله ويستحي منه وكذلك السكران ولهذا لم يشترط اكثر الفقهاء في
كونه سكران ان يعدم تمييزه بالكلية
بل قد قال الامام احمد وغيره : انه الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من
رداء غيره وفعله من فعل غيره
والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه فان النبي امر ان يستنكه من اقر بالزنا
مع انه حاضر العقل والذهن يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم صحيح الحركة ومع هذا
فجوز النبي ان يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه فامر باستنكاهه
والمقصود ان هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكلية وليسوا كالعقلاء الذين
لهم قصد صحيح فان ماعرض لهم اوجب تغير العقل الذي منع صحة القصد فلم يبق
احدهم يقصد قصد العقلاء الذي مراده جلب ما ينفع ودفع ما يضر فلم يتصور
احدهم لوازم ما تكلم به ولا غاب عقله عن الشعورية بل هو ناقص التصور ضعيف
القصد والغضبان في حال غضبه قد يكون اسوا حالا من هؤلاء واشبه بالمجانين
ولهذا يقول ويفعل مالا يقوله المجنون ولا يفعله
فإن قيل فهل يحجر عليه في هذه الحال كما يحجر على المجنون قيل لا والفرق
بينهما ان هذه الحالة لا تدوم فهو كالذي يجن احيانا نادرا ثم يفيق فانه لا
يحجر عليه نعم لو صدر منه تلك الحال قول عن غير قصد منه كان مثل القول
الصادر عن المجنون في عدم ترتب اثره عليه ولا ريب انه قد يحصل للغضبان
اغماء وغشي وهو في هذه الحالة غير مكلف قطعا كما يحصل ذلك للمريض فيزيل
تكليفه حال الاغماء حتى ان بعض الفقهاء لا يوجب عليه قضاء الصلاة في هذه
الحالة الحاقا بالمجنون
كما يقوله الشافعي واحمد يوجب عليه القضاء الحاقا له بالنائم
وابو حنيفة يفرق بين الطويل والزائد على اليوم والليلة فيحلفه
بالمجنون وبين القصير الذي هو دون ذلك فيلحقه بالنوم
وقد ينكر كثير من الناس ان الغضب يزيل العقل ويبلغ بصاحبه الى هذه الحالة
فإنه لا يعرف من الغضب الا ما يجد من نفسه وهو لم يعلم غضبا انتهى الى هذه
الحالة وهذا غلط فان الناس متفاوتون في الغضب تفاوتا عظيما فمنه ما هو
كالنشوة ومنه ما هو كالسكر ومنه ماهو كالجنون ومنه ما هو سريع الحصول سريع
الزوال وعكسه ومنه سريع الحصول بطئ الزوال وعكسه
كما قسمه النبي الى هذه الاقسام
وقوى الناس متفاوته تفاوتا عظيما في ملك تقواهم عند الغضب
والطمع والحزن والخوف والشهوة فمنهم من يملك ذلك ويتصرف فيه ومنهم من
يملكه ذلك ويتصرف فيه
الوجه الخامس عشر ان الغضبان الذي قد انغلق عليه القصد والراي وقد صار الى
الجنون والعارض اقرب منه الى العقل الثابت اولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل
المتلفظ بالطلاق في حال عقله وان لم يرده بقلبه وقد الغي طلاق الهازل بعض
الفقهاء
وهو احدى الروايتين عن الامام احمد حكاها ابو بكر عبد العزيز وغيره وبه
يقول بعض اصحاب مالك اذا قام دليل الهزل فلم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق
ولا ريب ان الغضبان اولى بعدم وقوع طلاقه من هذا
الوجه السادس عشر ان جماعة من اصحابنا لم يشترطوا في الجنون والمبرسم ان
لا يكون ذاكرا لطلاقه
وان كان ظاهرنص احمد انه متى ذكر الطلاق لزمه فانه قال في رواية ابي طالب
في المجنون يطلق فقيل له لما افاق انك طلقت امراتك فقال انا ذاكر اني طلقت
ولم يكن عقلي معي فقال اذا كان يذكر انه طلق فقد طلقت . قال ابو محمد
المقدسي وهذا هو المنقول عن الامام احمد فيمن كان جنونه لذهاب معرفته
بالكلية وبطلان حواسه فأما من كان جنونه لنشاف اوكان مبرسما فإن ذلك يسقط
حكم تصرفه مع ان معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكر الطلاق ان شاء
الله انتهى كلامه
معلوم ان الغضبان الممتلىء اسوا حالا ممن جنونه من نشاف او
برسام واقل احواله ان يكون مثله
يوضحه الوجه السابع عشر وهو ان الموسوس لا يقع طلاقه
صرح به اصحاب ابو حنيفة وغيرهم
وما ذاك الا عدم صحة العقل والارادة منه فهكذا هذا
الوجه الثامن عشر : انه لم يقل احد ان مجرد التكلم بلفظ الطلاق موجب
لوقوعه على أي حال كان بل لابد من امر اخر وراء التكلم باللفظ وطائفة
اشترطت ان ياتي به في حال التكليف فقط سواء قصده او جرى على لسانه من غير
سواء اكره عليه او اتى به اختيارا وهذا مذهب من يوقع طلاق المكره والطلاق
الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه
وهو المنصوص عن ابي حنيفة في الموضعين
وطائفة اشترطت مع ذلك ان ياتي باللفظ مختار قاصدا له وهو قول الجمهور
الذين لا ينفدون طلاق المكره
ثم منهم من اشترط مع ذلك ان يكون عالما بمعناه فان تكلم به اختيارا غير
عارف بمعناه لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول لا يلزم المكلف احكام الاقوال
حتى يكون عارفا بمدلولها وهذا هو الصواب
ومنهم : من اشترط مع ذلك ان يكون مريدا لمعناه ناويا له فان لم ينو معناه
ولم يرده لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول : لا يلزم لصريح الطلاق النية
وقول من لا يوقع الطلاق الهازل
وهو قول في مذهب الامام احمد ومالك في المسالتين فيشترط هؤلاء الرضا
بالنطق اللساني والعلم بمعناه وارادة مقتضاه
ومنهم : من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأوذنا فيه من جهة الشارع و
هو قول من لا يوقع الطلاق المحرم وهو قول طائفة من السلف من الصحابة
والتابعين و من بعدهم
وقال عمر بن عبدالسلام الخشني : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبدالوهاب
بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر انه قال
: في الرجل يطلق امراته وهي حائض لا يعتد بذلك وحسبك بهذا الاسناد اذا صح
رواه محمد بن حزم قال : حدثنا يوسف بن عبدالله قال : حدثنا احمد بن
عبدالله بن عبد الرحيم قال : حدثنا احمد بن خالد قال : حدثنا محمد بن
عبدالسلام فذكره
وهذا مذهب افقه التابعين على الاطلاق سعيد بن المسيب حكاه عنه الثعلبي في
تفسير سورة الطلاق
وهو مذهب افقه التابعين من اصحاب ابن عباس وهو طاوس قال
عبدالرزاق عن جريج عن عبدالله بن طاووس عن ابيه : انه كان لا يرى طلاقا
مما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول : وجه الطلاق يطلقها طاهرا من
غير جماع واذا استبان حملها
وهذا مذهب خلاس بن عمرو قال ابن خزم : حدثنا محمد بن سعيد بن ساث قال :
حدثنا عباس بن اصبع قال : حدثنا محمد بن قاسم بن محمد قال : حدثنا محمد بن
عبدالسلام الخشني قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبدالرحمن من
مهدي قال : حدثنا هشام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو انه قال : في
الرجل يطلق امراته وهي حائض فقال : لا يعتد بها
وهذا قول ابي قلابة قال ابن ابي شيبة : حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن ابي
قلابة قال : اذا طلق الرجل امراته وهي حائض فلا يعتد بها
وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه الواضح في اصول الفقه صرح به في مسالة
النهي يقتضي الفساد
وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية
وهو احد الوجهين في مذهب احمد
وقال ابو جعفر الباقر لا طلاق الا على بينة ولا طلاق الا على طهر من غير
جماع وكل طلاق في غضب او يمين او عتق فليس بطلاق الا لمن اراد الطلاق
والمقصود ان هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق اذن الشارع فيه ومالم يأذن فيه
الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ
قال شيخ الاسلام وقولهم اصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن
فيه الله وسوله ويراه صحيحا لازما
والمقصود ان احدا لم يقل ان مجرد التكلم بالطلاق موجب لترتب اثره على أي
وجه كان
الوجه التاسع عشر ان هذا مقتضى نص احمد كما تقدم تفسيره الاغلاق في رواية
حنبل بالغضب
وقال عبد الله ابنه في مسائلة سالت ابي عن المجنون اذا طلق في وقت زولان
عقله . . . . ايجوز ؟ قال ابي : كل من كان صحيح العقل فزال عقله عن صحته
فطلق فليس طلاقه بشىء
فهذا عموم كلامه وذاك خاصة فقد جعل تغير العقل عن صحته مانعا من وقوع
الطلاق ولا ريب ان اغلاق الغضب بغير العقل عن صحته
الوجه العشرون : ان الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب
على ثلاثة اقوال : وهي ثلاثة اوجه في مذهب احمد : احدها : لا يصح و لا
ينفذ لان النهي يقتضي الفساد والثاني : ينفذ والثالث : ان عرض له الغضب
بعد فهم الحكم نفذ حكمه وان عرض له قبل ذلك لم ينفذ
فان الحاكم يجب ان يكون عالما عدلا فمن نفذ حكمه قال : الغضب لايمنع العلم
والعدل
فقد حكم النبي للزبير في شراج الحرة وهو غضبان
ومن لم ينفذ حكمه قال الغضب يمنعه كمال المقصود وحسن القصد
فيمنعه العلم والعدل ولا يصح القياس على النبي فانه معصوم في غضبه ورضاه
فكان اذا غضب لم يقل الا حقا كما كان في رضاه كذلك ومن فرق قال اذا علم
الحق قبل الغضب لم يمنعه الغضب من العلم و حينئذ فيمكنه ان ينفذ الحق الذي
علمه واذا غضب قبل الفهم لم ينفذ حكمه لامكان ان يحول الغضب بينه وبين
الفهم وهؤلاء يحتجون بقضية الزبير وان النبي انما عرض له الغضب بعد فهم
الحكومة والمقصود ان الغضب اذا اثر عند هؤلاء في بطلان الحكم علم ان كلام
الغضبان غير كلام الراضي المختار وان للغضب تاثيرا في ذلك
الوجه الحادي والعشرون ان وقع الطلاق حكم شرعي فيستدعي دليلا شرعيا
والدليل اما كتاب او سنة او اجماع او قياس يستوي فيه حكم الاصل والفرع
وليس شىء منها موجودا في مسالتنا واذا شئت قلت الدليل اما نص او معقول نص
وكلاهما منتف وان شئت قلت لو ثبت الوقوع لزم وجود دليله واللازم منتف
فالملزوم مثله
والوجه الثاني والعشرون ان نكاح هذا مثبت بإجماع فلا يزول الا بالاجماع
مثله وان شئت قلت : نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالاجماع والاصل
بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه
الوجه الثالث والعشرون : ان جمهور العلماء يقولون ان طلاق الصبي المميز
العاقل لا ينفذ ولا يصح
هذا قول ابي حنيفة ومالك والشافعي واحدى الروايتين عن الامام احمد اختارها
الشيخ ابو محمد وهو قول اسحق مع كونه عارفا باللفظ وموجبه
بكلماته اختيارا وقصدا وله قصد صحيح وارادة صحيحة وقد امر الله
سبحانه بابتلائه واختياره في تصرفاته
وقد نفذ صبر عمر به الخطاب وصيته
واعتبر النبي قصده واختياره في التخيير بين ابويه
فالغضبان الشديد الغضب الذي قد اغلق عليه باب القصد والعلم اولى بعدم وقوع
طلاقه من هذا بلا ريب
فان قيل الغضبان مكلف وهذا غير مكلف لان القلم مرفوع عنه
قيل نعم الامر كذلك ولكن لا يلزم من كونه مكلفا ان يترتب الحكم على مجرد
لفظة كما تقدم كيف والمكره مكلف ولا يصح طلاقه والسكران مكلف والمريض مكلف
ولا يلزم من كون العبد مكلفا ان لا يعرض له حال يمنع اعتبار اقواله ونقص
افعاله
الوجه الرابع والعشرون : ان غاية التلفظ بالطلاق ان يكون جزء سبب والحكم
لا يتم الا بعد وجود سببه وانتفاء ما نعه وليس مجرد التلفظ سببا تاما
باتفاق الائمة كما تقدم وحينئذ فالقصد والعلم والتكليف اما ان تكون
بقيةاجزاء الكسب او تكون شروطا في اقتضائه او يكون عدمها مانعا من تاثيره
وعلى التقادير الثلاثة فلا يؤثر التكلم بالطلاق بدونها وليس مع من اوقع
طلاق الغضبان والسكران والمكره ومن جرى على
لسانه بغير قصد منه الا مجرد السبب او جزؤه بدون شرطه وانتفاء
مانعه وذلك غير كاف في ثبوت الحكم والله اعلم
الوجه الخامس والعشرون انه لو سبق لسانه بالطلاق و لم يرده دين فيما بينه
وبين الله تعالى
ويقبل منه ذلك في الحكم في احدى الروايتين عن احمد الا ان تكذبه قرينه
والرواية الاخرى يدين ولا يقبل في الحكم
وكذلك قال أصحاب الشافعي اذا سبق الطلاق الى لسانه بغير قصد فهو لغو ولكن
لا تقبل دعوى سبق اللسان الا اذا ظهرت قرينة تدل عليه فقبلوا منه في
الباطن دون الحكم الا بقرينة
وكذلك قال اصحاب مالك : من سبق لسانه الى الطلاق لم يقع عليه الطلاق قالوا
: ويقبل في الفتوى
وابو حنيفة لا يرى سبق اللسان مانعا من وقوع الطلاق وعنه في سبق اللسان في
العتق روايتان وقرر اصحابه بان المراة تملك بضعها لسبب يستوي فيه القصد
وعدم
القصد كالسكران والمكره والهازل وكالرضاع بالاتفاق فزوال البضع
لا يختلف في سببه القصد وعدم القصد بخلاف العتق فان السبب الذي يملك به
نفسه يختلف فيه القصد وعدمه وروى ابو يوسف عن ابي حنيفة التسوية بينهما ثم
اختلف اصحابه فقالت طائفة هما سواء في الوقوع وقالت طائفة بل هما سواء في
عدم الوقوع
والمقصود ان سبق اللسان الى الطلاق من غير قصد له مانع من وقوعه عند
الجمهور
والغضبان اذا علم من نفسه ان لسانه سبقه بالطلاق من غير قصد جاز له
الاقامة على نكاحه ويدين في الفتوى واما قبوله في الحكم فيخرج على الخلاف
والاظهر انه ان قامت قرينة ظاهرة تدل على صحة قوله قبل في الحكم والغضب
الشديد من اقوى القرائن ولا سيما فان كثيرا ممن يطلق في شدة الغضب يحلف
بالله جهد يمينه انه لم يقصد الطلاق وانما سبق لسانه وحينئذ فالجمهور لا
يوقعون عليه الطلاق كما صرح به اصحاب احمد والشافعي ومالك
وفي قوله في القضاء ثلاثة اقوال اصحها انه ان قامت قرينة ظاهرة على صحة
قوله قبل والا فلا
فصل
وما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده
ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول سمعت رسول الله يقول إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز و جل أي
عبد من المسلمين شتمته أبو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا
وفي مسند الامام احمد من حديث مسروق عن عائشة قالت : دخل على
النبي رجلان فاغلظ لهما وسبهما قالت فقلت : يارسول الله لمن اصاب منك خير
ما اصاب هذان منك خير قالت فقال او ما علمت ما عاهدت عليه ربي عز و جل قلت
ايما مؤمن سببته او جلدته او لعنته فاجعلهما له مغفرة وعافية
وفي الصحيحين من حديث ابي هريرة انه سمع النبي يقول اللهم ايما عبد مؤمن
سببته فاجعل ذلك قربة اليك يوم القيامة
وفي بعض الفاظ الحديث انما انا بشر ارضى كما يرضى البشر واغضب كما يغضب
البشر فايما مؤمن سببته او لعنته فاجعلها له زكاة
فلو كان النبي مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وساله ان يفعل
بالمدعو عليه ضد ذلك اذ من الممتنع اجتماع ارادة الضدين وقد صرح بارادة
احدهما مشترطا على ربه فدل على عموم ارادته لما دعا به في الحال الغضب هذا
وهو النبي معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا وهو مالك لفظه بتصرفه فكيف بمن
لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه واذا
كان الغضبان يتكلم بما لا يريده ولا يريد مضمونه فهو بمنزلة المكره الذي
يلجا الى الكلام او يتكلم به باختياره ولا يريد مضمونه والله اعلم
فان قيل : ما ذكر ثم معارض بما يدل على وقوع الطلاق فان الغضبان اتى
بالسبب اختيارا واراد في حال الغضب ترتب اثره عليه ولا يضر عدم ارادته له
في حال
رضاه اذ الاعتبار بالارادة انما هو التلفظ بخلاف المكره فانه
محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب اثره عليه وبخلاف السكران المغلوب
عقله فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فلا وجه لالغاء كلامه
فالجواب : ان يقال ان اريد بالاختيار رضاه به وايثاره له فليس بمختار وان
اردتم انه يوقع بمشيئته وارادته التي هو غير راض بها ولا باثرها فهذا
بمجرده لا يوجب ترتب الاثر فان هذا الاختيار ثابت للمكره والسكران فانا لا
نشترط في السكران ان لا يفرق بين الارض والسماء بل المشترط في عدم ترتب
اثر اقواله انه يهذي ويخلط في كلامه وكذلك المحموم والمريض وابلغ من هذا
الصبي المراهق للبلوغ اذ هو من اهل الارادة والقصد الصحيح ثم لم يترتب على
كلامه اثره وكذلك من سبق لسانه بالطلاق ولم يرده فانه لا يقع طلاقه وقد
اتى باللفظ في حال الاختيار غير سكره ولكن لم يقصده والغضبان وان قصده فلا
حكم لقصده في حال الغضب لما تقدم من الادلة الدالة على ذلك وقد صرح
اصحابنا بان من كان جنونه لنشاف او برسام لا يقع طلاقه ويسقط حكم تصرفه ان
كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية ولا يضره ان يذكر الطلاق وانه اوقعه وما
ذكرناه من دعاء النبي ربه ان يجعل سبه لمن سبه في حال غضبه صريح في انه
مريد له اذ لو اراده واختار لم يسأل ربه ان يفعل بالمدعو عليه ضد ما دعا
به عليه اذ لا يتصور ارادة ضدين في حالة واحدة وهذا وحده كاف في المسالة
فهذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر ونحن من وراء ا لقبول
والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير اليها ومن وراء الرد على من رد ذلك
بالهوى والعناد
والله المستعان وعليه التكلان وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين
وعلى اله وأصحابه وعترته وانصاره صلاة دائمة بدوام ملك الله عز و جل تم
نسخها على يد حامد بن اديب التقي لقبا الاثري مذهبا في اواخر رمضان سنة
1327
المطلقة
قصيدة لاديب العراقي معروف افندي الرصافي في الانتصار لمذهب المؤلف وشيخه عليهما رحمة الرحمة والرضوانبدت كالشمس يحضنها الغروب ... فتاة راع نضرتها الشحوب
منزهة عن الفحشاء خود ... من الخفرات انسة عروب
نور تستجد بها المعالي ... وتبلى دون عفتها العيوب
صفا ماء الشباب بوجنتيها ... فحامت حول رونقه القلوب
ولكن الشوائب ادركته ... فعاد وصفوه كدر مشوب
ذوي منها الجمال الغض وجدا ... وكاد يجف ناعمه الرطيب
اصابت من شيبتها الليالي ... ولم يدرك ذؤابتها المشيب
وقد خلب العقول لها جبين ... تلوح على اسرته النكوب
الا ان الجمال اذا علاه ... نقاب الحزن منظره عجيب
حليلة طيب الاعراق زالت ... به عنها وعنه بها الكروب
رعى ورعت فلم تر قط منه ... ولم ير قط منها ما يريب
توثق حبل ودهما حضورا ... ولم ينكث توثقه المغيب
فغاضب زوجها الخلطاء يوما ... بامر للخلاف به نشوب
فاقسم بالطلاق لهم يمينا ... وتلك النية خطا وحوب
وطلقها على جهل ثلاثا ... كذلك يجهل الرجل الغضوب
وافتى بالطلاق طلاق بت ... ذوو فتيا تعصبهم عصيب
فبانت عنه لم تات الدنايا ... ولم يعلق بها الذام المعيب
فظلت وهي باكية تنادي ... بصوت منه ترتجف القلوب
لماذا يا نجيب صرمت حبلي ... وهل اذنبت عندك يا نجيب
ومالك قد جفوت جفاء قال ... وصرت اذا دعوتك لا تجيب
ابن ذنبي الي فدتك نفسي ... فاني عنه بعدئذ اتوب
اما عاهدتني بالله ان لا ... يفرق بيننا الا شعوب
لئن فارقتني وصددت عني ... فقلبي لا يفارقه الوجيب
وما ادماه ترتع حول روض ... ويرتع خلفها رشا ربيب
فما لفتت اليه الجيد حتى ... تخطفه بازمتيه ذيب
فراحت من تحرقها عليه ... بداء مالها فيه طبيب
تشم الارض تطلب منه ريحا ... وتنجب والبغام هو النحيب
وتمزع في الفلاة لغير وجه ... واونة لمصرعه تؤوب
باجزع من فؤادي يوم قالوا ... برغم منك فارقك الحبيب
فاطرق راسه خجلا واغضى ... وقال ودمع عينيه سكوب
نجيبة اقصري عني فاني ... كفاني من لظي الندم اللهيب
وما والله هجرك باختياري ... ولكن هكذا جرت الخطوب
فليس يزول حبك من فؤادي ... وليس العيش دونك لي يطيب
ولا اسلو هواك وكيف اسلو ... هوى كالروح في له دبيب
سلي عني الكواكب و هي تسري ... بجنح الليل تطلع او تغيب
فكم غالبتها بهواك سهدا ... ونجم القطب مطلع رقيب
خذي من نور رنتجن شعاعا ... به للعين تنكشف الغيوب
والقيه بصدري وانظريني ... ترى قلبي عليك به ندوب
وما المكبول القى في خضم ... به الامواج تصعد او تصوب
فراح يغطه التيار غطا ... الى ان تم فيه له الرسوب
باهلك يا ابنة الامجاد مني ... اذا انا لم يعد بك لي نصيب
الا قل في الطلاق لموقعيه ... بما في الشرع ليس له وجوب
غلوتم في ديانتكم غلوا ... يضيق ببعضه الشرع الرحيب
اراد الله تيسيرا وانتم ... من التعسير عندكم ضروب
وقد حلت بامتكم كروب ... لكم فيهن لا لهم الذنوب
وهي حبل الزواج ورق حتى ... يكاد اذا نفخت له يذوب
كخيط من لعاب الشمس ادلت ... به في الجو هاجرة حلوب
يمزقه من الافواه نفث ... ويقطعه من النسم الهبوب
فدى ابن القيم الفقهاء كم قد ... دعاهم للصواب فلم يجيبوا
ففي اعلامه للناس رشد ... ومزدجر لمن هو مستريب
نحا فيما اتاه طريق علم ... نحاها شيخه الحبر الاديب
وبين حكم دين الله لكن ... من الغالين لم تعه القلوب
لعل الله يحدث بعد امرا ... لنا فيخيب منهم من يخيب