كتاب : المنهيات
المؤلف : الحكيم الترمذي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، بما حمد به نفسه، كما هو أهله؛ والصلاة على محمد عبده ورسوله، وعلى آله، كما هو أهله.قال أبو عبد الله رحمه الله: حدثني أبي، عن رجاء بن نوح،عن عباد ابن كثير، عن عثمان الأعرج، عن يونس بن عبيد وحوشب، عن الحسن: أنه قال: حدثني سبعة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار؛ كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزيد بعضهم على بعض: أنه نهى.
قال أبو عبد الله رحمه الله: وحدثنا الفضل بن محمد بن وزير الدمشقي قال: حدثنا حمزة بن ربيعة، عن عباد بن كثير بن قيس الثقفي، عن عثمان الأعرج، عن الحسن: أنه قال: حدثني رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو هريرة الدوسي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار، وأنس بن مالك؛ يزيد بعضهم على بعض: أنه نهى.
قال أبو عبد الله رحمه: فقد نظرنا في هذا الحديث، في هذه الأشياء التي رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عنها، فإذا هي متفاوتة؛ فمنها نهى أدب، ومنها نهى تحريم. وقد جمعها الحديث كله، ولم نجد شيئا قد نهى عنه إلا بحق. وذلك أن ضرره راجع إلى بعده عن سبيل الهدى؛ فإن سبيل الهدى مستقيم إلى الله تعالى، ومن زاغ فإنما يزيغ عن الله تعالى؛ والاستقامة تقرب العبيد إلى الله، وأن الله - تبارك اسمه - دعا العباد إلى دار السلام وأعلمهم أنهم ملاقوه، وبعث رسوله عليه السلام؛ فقال: (قُل هَذِهِ سَبيلِى أَدعوا إِلى الله عَلى بَصَيرَةٍ أَنا وَمَن اِتَبَعَنَى). فمن أجابه فعلا فقد أجابه، وإجابته اتباع رسوله فيما زجر عنه. وقال الله تعالى في تنزيله (وَمَا آَتاكُمُ الرَسُولُ فَخَذُوهُ، وَما نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا).
فوجدنا النهى على ضربين: منه نهى تحريم تأديب، ومنه نهى تحريم. فمن ترك الأدب انحط عن درجته، ومن وثب على التحريم سقط في الهلكة.
الاحتباء في ثوب واحدوأما قوله:) نهى أن يحتبى الرجل في ثوب واحد(.
فقمن أن يكون إنما نهى عنه من أجل أن العورة تبدو إذا احتبى به؛ لأنه لم يتستر، فإذا احتبى بدت عورته.
وكان القوم حديثى عهد بجاهلية، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، فلم يكونوا يحتشمون من التعرى وكشف العورة. فلما من الله تعالى عليهم بالإسلام؛ فأدبهم، وأمرهم بالستر في غير آية من التنزيل، وأمرهم بغض الأبصار، وحفظ الفروج؛ فقال (قُل لَلِمُؤمِنينَ يَغُضُوا مِن أَبصارِهِم، وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عرض أخيه(، فشدد في هذا، وحسم هذا الباب على الخلق.
اشتمال الرجل في ثوب واحدوأما قوله:) نهى أن يشتمل الرجل في ثوب واحد(.
فالاشتمال: أن يلتف بثوبه، ويرفع أحد جانبيه يمينا وشمالا على عاتقه. فهذا مثل ما وصفنا بدءا أنه ستبدو عورته إذا فعل ذلك.
اشتمال الصماءوأما قوله:) نهى أن تشتمل الصماء بثوب(.
فالعلة فيه مثل ذلك أيضا. فأما الصماء: فهو أن يلتف بثوب، ثم يخرج يده اليمنى من عند صدره.
حدثنا عبد الكريم بن عبد الله السكرى، حدثنا على بن الحسن، عن عبد الله بن المبارك، عن جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضى الله عنه: أنه كان يكره أن يلتحف الرجل بثوبه، ثم يخرج يده من قبل صدره؛ وقال: تلك الصماء.
الانتعال قائماوأما قوله: )نهى أن ينتعل الرجل وهو قائم - وقال: إني أخاف أن يحدث به داء لا دواء له(.
فقد بين العلة فيه؛ فللجسد عليك حق، فإذا حملت عليه ما لا يطيق، فحدث به داء؛ فقد ظلمته.
وإنما
جعل قوام البدن على الرجلين، فإذا انتعلت قائما، لم تجد بدا. من أن ترفع
قدما لتنعلها، فصار حمل البدن على رجل واحدة؛ فاضطربت العروق، فإذا اضطربت
العروق، لم يؤمن أن يحدث داء؛ لأن العروق مجارى الدم ومجارى الريح؛ فإذا
تضايقت في حال الاضطراب، هاج الدم، وهاجت الرياح؛ فربما وقعت في مرض لا
تخرج منه أبدا، وربما فاض الدم من العروق إذا اختنق العرق عند تضايقه من
مكانه؛ فصار الدم علقة، فإذا صارعلقة لم يجر، وكان دمه فاسدا، وربما
انكمشت الرياح الحادثة، وهاجت الساكنة؛ فهذا أمر عظيم.
وقد أوصى الله العباد في شأن النفس؛ فقال: (وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَهلُكَة).
وقال:
(وَلاَ تَقتُلُوا أَنفُسَكُم إِنّ الله كَانَ بِكُم رَحيماً). ثم قال:
(وَمَن يَفعَل ذَلِكَ عُدواناً وَظُلماً فَسَوفَ نُصلِيهِ ناراً وَكَانَ
ذَلِكَ عَلى الله يَسيراً). فانظر أى وعيد هذا! وظلم النفس كظلم العباد..
فهذه أشياء خفية؛ فخفى على العامة عظيم مرجوع ضررها إلى النفس. وإنما تستر
له لأنه ستره، فنحن نقيم ستره، لا أن نسبر عنه، فالستر غير التستر عنه.
وأيضا خلة أخرى أن الجن والشياطين ينظرون إلى عورات بنى آدم، فيضحكون
ويستهزئون. حدثنا بشر ابن خالد البصرى،حدثنا سعيد بن مسلمة بن هشام بن
عبدالملك، حدثنا الأعمش، عن زيد العمى، عن أنس بن مالك رضى الله عنه، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ستر بين أعين الجن وبين عورات بنى آدم
إذا وضع الرجل ثوبه أن يقول: بسم الله) وكذلك في البراز يخاف أن ترميه
الجن بداهية.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في
البراز حتى يخطوا على أنفسهم دائرة؛ كى يكون ذلك حريما لهم، فلا يصل إليه
الجن بداهية. حدثنا قتيبة، عن ابن لهية، عن عقيل عن ابن شهاب، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم )إذا اغتسل أحدكم في براز من الأرض ولم يجد
ما يستتر به، فليخطط على نفسه خطا، وليغتسل وسط الخط(.
أحكام قضاء الحاجة
البول في المغتسل
وأما قوله: )نهى أن يبال في المغتسل(.فقد بين في حديث آخر:)أن منه يحدث عامة الوسوسة( وذلك أن المغتسل في ذلك الزمان - أعنى المدينة - كان في أرض ذات سباخ، فإذا صب الماء استنقع، وصار ذلك الموضع وحلا، فإذا بال فيه استنقع واختلط بذلك الطين الذي فيه البول. وأما إذا كان مغتسلا مقاما ومشيدا، فجرى فلم يبق هنالك بول، فلن يجد الوسواس سبيلا إلى أن يحدث نفسك بشيء.
البول في الماء الراكدوأما قوله:) ونهى عن البول في الماء الراكد(.
فهذه غدران المدينة والمواضع التي يستنقع فيها الماء، وهي قليلة، لا عرض ولا طول؛ فإذا بال فيها لم يؤمن أن يجيء جاء فيغترف منه للوضوء.
وقد نهى في حديث آخر)عن أن يبول في الماء الراكد ثم يغتسل فيه أو يتوضأ منه(. ثم قال أبو هريرة رضى الله عنه: وليبل في الماء الجارى أن شاء. حدثنا بذلك الجارود بن معاذ، حدثنا عمر بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أبى المهزم، عن أبى هريرة، قال: وحدثنا الشقيقى، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت عبد الله بن بريدة يبول في الماء الجارى.
حدثنا الحسن بن مطيع، حدثنا خلف بن أيوب، عن يحيى بن زكريا، عن يونس، عن الحسن، قال: لا بأس بالبول في الماء الجارى.
قال أبو عبد الله رحمه الله: وإنما وقع النهى في الماء الراكد إذا كان قليلا ليس له عرض ينبسط ولا طول يمتد؛ فذلك بمنزلة الإناء. وأما إذا انبسط حتى يشبه الجارى في اطراد بعضه على بعض، فهو لاحق بالجارى؛ ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر وهو راكد: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)
البول في المشارعوأما قوله:) نهى أن يبول في المشارع(.
فإن مشارع المدينة راكدة وذلك أن العيون المنتبذة عن المدينة كانت تشرع منها إلى المدينة، فتجرى إلى حوض، وهو المشرعة، فيستقى منه.
فهذا والأواني واحد؛ لأن المشارع - الماء الجارى فيها كالساكن ليس له انصباب وجرى كالنهر، فذلك البول يدور مع الماء في المشرعة، ولا يكاد يخرج إلا بعد مدة.
فكل مكان لا يكون مجرى الماء فيه قوة وانصباب، فإذا بال فيه فالبول
هناك موجود. وإنما رخص في الماء الجارى لجريه وذهابه. وقلما يوجد في
المشارع ذلك الجرى السريع الذي يذهب بأثر البول؛ ألا ترى أنهم لم يعنوا
بالجرى الضعيف من الأنهار حتى يكون له قوة، فمنهم من قال حتى يدهده بعرة
أو جوزة.
قال: حدثنا عمر بن أبى عمر،حدثنا شريح بن النعمان، قال: سمعت
أبا يوسف يقول في الماء الجارى القليل: إذا كان بقدر ما إذا رفعت بكفيك
منه، فاض من الجانبين، ولم ينقطع أعلاه من أسفله؛ فلا بأس به.
وتأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إذا كان الماء قلين لم يحمل خبثا( على ذلك تأولوه.
قال:
وسمعت أبا يوسف يقول في تأويل الحديث الذي جاء) إذا كان الماء قلين( إذا
كان عينه تنبع، وكانت مقدار قلتين، وهو جار وله نبعان، فلا بأس به.
حدثنا
الجارود، حدثنا عيسى بن الفضل المروزى، عن عبد الله ابن المبارك في تأويل
هذه الحديث، قال: إذا كان الماء قلين جاريا. حدثنا عمر بن أبى عمر،حدثنا
شريح بن النعمان، قال: سمعت أبا يوسف يقول في تأويل هذا الحديث:) إذا كان
الماء قلين( إذا كان عينه تنبع، وكانت مقدار قلتين، وهو جار وله نبعان؛
فتوضأ من نبعانه؛ فلا بأس به.
البول والفرج باد للشمس أو القمر
وأما قوله:) نهى أن يبول الرجل وفرجه باد إلى الشمس أو القمر(.فإن الشمس والقمر خلقان من خلقه، وآيتان من آياته، وكسوتهما من نور العرش فيما روى لنا.
فلا تستقبل بعورتك إياهما إعظاما لهما، وإجلالآ لذلك النور.
وقد قال الله تعالى: (وَجَعَلنا اللَيلَ وَالنَّهارَ آَيَتينِ، فَمَحونا آَيَةَ اللَيلِ، وَجَعَلنا آَيَةَ النَّهارِ مُبصِرِةً). حدثنا عمر بن يحيى بن نافع الأيلى، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: (فَمَحَونا آَيَةَ اللَيلِ) قال: سواد في القمر.
وأيضا علة أخرى: أن الملائكة الموكلين بسياقتهما معهما؛ فإذا بدا لهما بدا للملائكة.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:)أجلوا - أو قال أكرموا - الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا في حالين. الغائط والجنابة( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر عورته عن عائشة رضى الله عنها. وقالت عائشة رضى الله عنها:)ما رأيت منه - يعنى عورته - (.
حدثنا الجارود، حدثنا الفضل بن موسى، عن عبد السلام بن حرب، عن الأعمش،عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض.
استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائطوأما قوله:) نهى أن تبول مستقبل القبلة (.
فإن القبلة بيت الله.. بسط الأرض، وجعلها بساطا لعباده ومهادا ومسكنا، واختار موضع البيت لنفسه فلم يملكه أحداً، وجعله محل الرحمة ومعلمه ومظهره. وهو بحذاء البيت المعمور، وبحذاء العرش؛ فله حرمة عظيمة. وهو بعين الله، وصفوته من الأرض؛ فإذا استقبله بفرجه، فقد أسقط حرمته، واستهان به.
حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمس، حدثنا إبراهيم بن عيينة، عن ابن الصباح، قال: سمعت من أبى نصير، عن مولى لأبى بكر، عن أبى بكر رضى الله عنه، قال: من انحرف عن القبلة من غائط أو بول تعظيما لجلال الله تعالى، لم يستو منحرفا حتى يغفر الله له. قال: ومن مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته.
ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه تبول مستقبل القبلة.. حدثنا الجارود بذلك، حدثنا عبيد الله موسى، حدثنا عيسى الخياط، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كنفيه مستقبل القبلة.
قال عبيد الله: حدثنا عيسى، عن أبيه، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،)لاتستقبلوها ولا تستدبروها(. قال عيسى: فذكرت ذلك للشعبى، فقال: صدق أبوهريرة، وصدق ابن عمر. أما قول أبى هريرة، فذاك في الصحراء لا يستقبلها ولا يستدبرها. وأما قول ابن عمر رضى الله عنهم، فذاك كنيف بيت صنع للنتن ليس فيه قبلة؛ استقبل حيث شئت. حدثنا سهل بن العباس، حدثنا عبد الله بن نمير العوفى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كنفيه لبنتين مستقبل القبلة يبول.
التبول قائماوأما قوله:) نهى أن يبول الرجل وهو قائم(.
فهذا على معنيين:
أحدهما:
أنه إذا بال قائما لم يؤمن من أن يصيبه من النضح، وقال صلى الله عليه وسلم
)استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه( وروى أنه مر بقبر،
فقال:)أتسمعون ما أسمع؟(، قالوا: لا يا رسول الله؛ فقال:)لولا تمريغ في
قلوبكم، وتزبيد في حديثكم لسمعتم ما أسمع، إن صاحب القبر أقعد فضرب فصاح
صيحة تسمع من الخافقين، وتطاير كل عضو منه ثم عاد إلى مكانه(. قيل: يا
رسول الله، في ماذا؟ قال: )في البول(.
قال: وذكر لنا أنه لما وضع سعد
بن معاذ الأنصارى رضى الله عنه، الذى اهتز العرش لوفاته، في قبره تضايق
عليه قبره؛ فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: )لقد تضايق على
هذا العبد الصالح حفرته، ثم فرج عنه(.
قيل:يا رسول الله، مم ذاك؟
فقال:) كان يقصر في بعض طهوره( وذلك أن القوم كانوا لا يستنجون بالماء،
ويكتفون بالأحجار. وكان عهدهم بذلك الأمر كذلك. فلما ظهر الاستنجاء كانوا
يفعلون ولا يفعلون.
فشأن البول عظيم؛ وإنما صار عندنا كذلك؛ لأن آدم
عليه السلام لما أكل من الشجرة، وجد العدو سبيلا إلى جوفه، فاستقر عند
المعدة؛ فلذلك ما خرج من أسفل البدن صار حدثا، وكان ذلك الشيء نجسا. وما
خرج من أعلى البدن مثل الدموع والنخاعة والمخاط كان طاهرا ولم يكن طهوره
حدثا. فما كان في جوف ابن آدم مما يلى مستقره ينجس بنجاسته وكفره.
وإذا بال قائما لم يؤمن من النضح، وكان النبى صلى الله عليه وسلم: )يرتاد ويتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله(.
حدثنا بذلك صالح بن عبد الله، حدثنا حماد بن زيد، عن واصل مولى أبى عيينه، عن يحيى بن عبيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وكان إذا وجد مكانا أو موضعا يتمكن فيه بال قائما؛ فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم، من وجوه كثيره: أنه قد فعل ذلك.
ثم روى عنه: أنه كره ذلك.
ففعله
عندنا ذلك في تلك المواضع التى إذا بال فيها قائماً كان أنزه له، وتركه
لذلك في المواضع التى إذا بال فيها قاعدا كان أنزه له. ولا نظن به صلى
الله عليه وسلم غير ذلك. وروى عنه:أنه مر بسباطة قوم فبال قائما.
فهذا ما قلناه إنه لما أمن من النضج لم يعبأ بالقيام.
وعله
أخرى: أن القيام حال غير متمكن، ومادام قائما فإن العروق قائمة بقيام
البدن، والقلب منتصب، ومجمع العروق عند القلب، فما دام القلب منتصباً
فالعروق كذلك، فإذا قعد استرخت العروق؛ ألا ترى أنك تجد عن البول استرخاء
القلب. وما دام لا يسترخى لا يقدر أن يبول. وإذا أراد أن يمسكه إنما يمسكه
بالقلب؛ لأن مجمع العروق هنالك يصرر حتى يستمسك. فإذا قعد على قدميه كان
سبيل البول أوسع، وجريه أسهل؛ لا سترخاء القلب وتخلية التصرير. فهذا غير
مدفوع.
الاستنجاء بروث أو عظم
وأما قوله:) نهى أن يستنجى بروث أو بعظم(.فذلك من أجل أن الجن لما انصدعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسلموا وبايعوا، رجع منهم راجع إليه فسأله الزاد، فرمى إليهم بعظم وروث، فصار العظم لحما والروث طعاماً، وكان ذلك زادهم.
حدثنا عبد الله بن الوضاح النخعى، حدثنا حفص بن غياث، عن داود ابن أبى هند، عن الشعبى، عن علقمة عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:)لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن(.
حدثنا صالح بن محمد، حدثنا إبراهيم بن محمد الأسلمى، عن الصالح مولى التوأمة، عن ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما، قالا: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الجن العظام والروث، ولا يمرون على شئ منه إلا وجدوه لحما وشعيرا.
حدثنا صالح، حدثنا
سعيد بن سالم القداح، عن إسرائيل عن أبى فزارة، عن أبى زيد مولى عمرو بن
حريث، عن عبد الله بن مسعود، قال:كنت مضطجعا عند الكعبة، فمر بى رسول الله
صلى الله عليه وسلم: فحركنى برجليه، وقال:)الحقنى( فتناولت إدارة رجل إلى
جنبى فأخذتها، ثم انطلقت معه، ثم برز، ثم خط على خطاً، فقال:)لا تبرح هذا
الخط، فإنك إن خرجت لم ترنى ولم أرك(. ثم انطلق، فبت ليلى قائما على رجلى،
فسمعت صوتا لم أسمع مثله، فهممت أن أخرج، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه الصبح، قلت: يا رسول
الله، ما نمت الليلة، ومازلت قائما، قال عليه السلام:)أما إنك لو جلست لم
يضرك(، ثم قال: )هل من طهور؟(، قلت: نعم يا رسول الله، فتناولت الإدارة
وأنا أراها ماءً، فإذا هي نبيذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )تمرة
طيبة وماء طهور(، ثم توضأ وصلى خلفه رجلا، فلما سلم قال لهما:)ألم اقض
لكما ولقومكما حوائجهم؟( قلا: بلى ولكنا أحببنا أن نشهد الصلاة معك، قلت:
يا رسول الله، سمعت صوتا لم أسمع بمثله فهممت أن أخرج، ثم ذكرت قولك؛
فقال: )أما إنك لو خرجت لم ترنى ولم أرك، أما الصوت الأول فسألوا الرزق
فدعوت الله أن يرزقهم فأمنوا،وأما الصوت الآخر فسلمت عليهم فردوا السلام(،
قلت: يا رسول الله، ما رزقهم؟ قال:)الروث والعظم( قلت: وكيف يأكلون الروث
والعظم؟ قال:) أما الروث فيكون أخضر كما كان وأما العظم فينهشون منه(.
حدثنا
عمر بن ابن عمرن حدثنا ربيع بن روح الحوطى، حدثنا بقية، حدثنى نمير بن
يزيد القينى، حدثنا أبى، حدثنا قحافة بن ربيعة، حدثنى الزبير بن العوام
رضى الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في
مسجد المدينة، فلما انصرف قال: )أيكم يتبعنى إلى وفد الجن الليلة؟(، فسكت
القوم، فلم يتكلم أحد منهم، ثم قال لنا ذلك ثانيا، فلم يتكلم من القوم
أحد، فمر بى يمشى، فأخذ بيدى، فجعلت أمشى معه، وما أحد مشى معه غيرى، حتى
حبس عنا جبلا المدينة، وأفضينا إلى أرض براز، فإذا نحن برجال طوال كأنهم
الرماح يستنفرون ثيابهم من بين أرجلهم، كلما رأيتهم غشيتنى رعدة حتى ما
تمسكنى رجلاى من الفرق، فلما دنا منهم خط رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإبهام رجله في الأرض دائرة، وقال لى:)اقعد في وسطها(، فلما جلست فيها ذهب
عنى كل شئ كنت أجده من ريبة، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينى
وبينهم قريباً، ثم تلا عليهم قرآنا رقيقا حتى سطع الفجر، ثم انصرفوا فمر
بى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:)الحق، فرجعنا نمشى غير بعيد، فقال
لى:) التفت(، وقد أسفرنا، فقال:)انظر هل ترى من هؤلاء القوم أحداً حيث
كنا؟(، قلت: يا رسول الله، إنى لأرى حيث كنا سوادا. فخفض رسول الله صلى
الله عليه وسلم يده إلى الأرض، فأخذ عظما وروثة، فضم أحدهما إلى الآخر، ثم
رمى بهما قبلهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم:)رشد أولئك ورشد قومهم(. قال
الزبير رضى الله عنه: لا يحل لأحد سمع بهذا الحديث أن يستنجى بعظم ولا
روثة بعده.
الاستنجاء بتراب قد استنجى به مرة سابقة
وأما قوله:) نهى أن يستنجى بتراب قد استنجى به مرة(.لأنه لا يخلو أن يكون عليه عذرة يابسة، فلا يكون ذلك له طهورا. وإنما يتطهر بالتراب الطاهر الذى لم يستنج به. حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا الجراح بن مليح، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعى، قال: لا تستنجوا بعظم، ولا رجيع، ولا بحجر قد استنجى به مرة.
مباشرة الرجل الرجل، والمرأة المرأة، دون ثوب بينهماوأما قوله:) ونهى أن يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة، لا ثوب بينهما(.
فهذا فعل يدعو إلى الفتنة والبلاء، فلا ينبغى للمسلم أن يتعرض لذلك، فإن النفس ذات شهوة، والشيطان مزين. ومن ها هنا استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.
كشف ما يحدث في الجماعوأما قوله:) ونهى أن يتحدث الرجل بما يخلو به مع أهله، وأن تتحدث المرأة بما تخلو به مع زوجها(.
فهذا
فعل مستور، فيه حشمة وحياء؛ فإخفاؤه أستر، فإذا حدث به. ووصفه، فمثل ذلك
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )كمثل شيطان لقي شيطانة، فأتاها
على قارعة الطريق(؛ لأن الحديث بذلك داع إلى الفتنة والبلاء، فربما حدث
بشيء يسير يسبى قلبه بذلك إلى امرأته وتسبى المرأة قلبها بذلك إلى زوجها.
قضاء الحاجة تحت شجرة مثمرة
وأما قوله:) ونهى أن يقضى الرجل حاجته تحت شجرة مثمرة(.فمن أجل أن في ذلك فساداً؛ فربما سقط من تلك الشجرة ثمرة فوقعت في العذرة، فإذا كان عند جناه فما سقط من الجنى فهو فيه؛ ففي هذا ضرر.
قضاء الحاجة على ضفة نهروأما قوله:) ونهى أن يقضى الرجل حاجته على ضفة نهر(.
فهذا مثل الأول؛ ففي هذا ضرر على الناس؛ إذ لا يمكنهم الدنو من الماء للوضوء والاستقاء منه؛ ففيه أذى وضرر على المسلمين.
قضاء الحاجة في الطريق العاموأما قوله:) ونهى أن يقضى الرجل حاجته على طريق عام(.
فهذا مثل الأول.والطريق العامر: هو الذى يسلكه الناس. وإنما شرط العامر من أجل ضرر المسلمين والتأذى بذلك.
وقال:)من قضى حاجته في طريق عام، أو على ضفة نهر، أو تحت شجرة مثمرة، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(.
فإنما استوجبوا اللعنة من الله لأذى المسلمين؛ فأنه قال:)من أذى مسلما فقد آذانى، ومن آذانى فقد أذى الله(.
الاستنجاء باليمينوأما قوله:) نهى أن يستنجى الرجل بيمينه(.
فإن اليمين مختار الله من الأشياء، وبه يرجو أن يتناول صحيفته، وبه يأكل ويشرب ويأخذ ويعطى، وبه يصافح المسلمين، فلا يحق عليه أن يمتهنه للغائط؛ فأن في الشمال كفاية، وحقيق عليه أن ينزهه عن ذلك إقامة لحرمة ما فضله الله.
قطع النخلة المثمرةوأما قوله:) نهى أن تقطع النخلة الحاملة(.
فمن أجل أن ذلك فساد؛ لأن النخلة إذا حملت فهي وإن صارت بسراً. فالذى يرطب منه ثلاث تمرات كل يوم أو كل أربع من كل شمروخ،ولا يرطب الشمروخ كله في يوم واحد كالعنب، وإنما يجتنى منه في كل يوم شيئا قليلا من كل شمروخ، فإذا قطعها دفعة واحدة كان فيه فساد؛ لأن فيه رطباً، وفيه ما لم يبلغ أناه ولم يدرك.
وكانت النخلة معاشهم، وفي الطعام هناك عزة، وكأنه أحب أن يرفقوا بمعاشهم.
والنخلة عمة الآدميين. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:)أكرموا عمتكم النخلة؛ فإنها من فضلة طينة آدم عليه السلام(.ألا ترى أنها تحتاج إلى اللقاح، فإذا قطعت وهى حامل كان فيه فساد؛ فشبه فسادها بفساد النفس، قتلت خطأ فصارت عليه غرامة دية لولى القتيل وكفارة عتق رقبة،فكأنه شبه الفساد بالفساد.
الحذف بالبندقوأما قوله:) فنهى عن الحذف بالبندق(.
فإن ذلك كالمثلة؛ ألا ترى أنه يصير المرمى به موقوذا، وينكسر كله، ولا يكون كالذبيحة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته(.والحذف بالبندق أمر وبيل بعيد من الإحسان، ويصير ميتة، وفيه فساد ومثلة.
اللعب بالحماموأما قوله:) ونهى عن اللعب بالحمام(.فإن ذلك خصلة من خصال قوم لوط، وهى فعل يصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وإذا لعب به اصطاد حراما، وأضاع صلاته، ودعاه ذلك إلى الفتنة والإشراف على الجيران.
وروى في الخبر أن:)من لعب بالحمام افتقر(؛ وكيف لا يفتقر وقد قسا قلبه؟! وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يتبع حمامة فقال:) شيطان يتبع شيطانة(.
تسبيل الإزاروأما قوله:) نهى عن تسبيل الإزار(.
فذاك من أجل الكبر والخيلاء؛ فإن من يسبل إزاره ويجره تعززاً وقلة مبالاة وتيها، وزهواً بنفسه، واحتقارا لعباد الله، وكبرا على خلق الله؛ فهذا عبد قد ضاد الله في ملكوته ونازعه في ردائه.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:)كان رجل مما كان قبلكم في الأمم الخالية يتبختر في مشيته في مجالسهم وطرقهم، فقال الله تعالى لملائكته: انظروا لعبدى كيف ينازعنى ردائى؟! يا أرض ابتلعيه، فابتلعته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة(.
حدثنا أبى، عن صالح بن محمد، عن حفص بن سالم، عن ابن شهاب، عن
الحسن، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وحدثنا
إبراهيم بن هارون،حدثنا زكريا بن حازم الشيبانى، عن قتادة، عن أنس، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )يقول الله: تعالى أربعة لم أشرك
فيهن أحد: الفخر، والعظمة، والكبر، والقدر سرى؛ فمن ينازعنى في واحد منهن
كببته في جهنم(.
وعامة الأحاديث التى جاءت عن جر الإزار، إنما تدل على
أن النهى مع الشرط، قال:)من جر الإزار خيلاء(؛ فدل هذا على أن النهى عن جر
الإزار إذا كان خيلاء.
حدثنا قتيبة عن سعيد، حدثنا مالك بن أنس، عن
نافع وزيد بن أسلم وعبد الله بن زبير، كلهم يخبر عن ابن عمر: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:)لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء(.
وحدثنا
قتيبة،عن مالك،عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة،عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:)لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً(.
فهذا الإسبال والجر للثوب إنما كره للمختال الفخور.
وروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة.
وقد كان في بدء الإسلام المختال يلبس الخز، ويجر الإزار ويسبله؛ فنهوا عن ذلك.
وقد
كان فيهم من يلبس الخز ويسبل الإزار فلا يعاب عليه، منهم أبوبكر رضى الله
عنه؛ حيث قال:يا رسول الله، إنى رجل قليل اللحم فإذا أبرزت سقط إزارى على
قدمى وقد قلت ما قلت؟ قال:)لست منهم يا أبا بكر(. حدثنا بذلك أبى، حدثنا
أحمد بن يونس، عن زهير، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله
إليه يوم القيامة(؛ فقال أبوبكر رضى الله عنه: بأبى أنت يا رسول الله، إن
أحد شقى إزارى يسترخى إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:)لست ممن يصنعه خيلاء(.
حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا أبى، عن
إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن خيثمة، قال:أدركت ثلاثة عشر من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلبسون الخز.
حدثنا سفيان،عن أبيه،حدثنا محمد بن قيس،عن أبى عون،قال:كان بن الحسن والحسين رضى الله عنهما يلبسان الخز.
حدثنا
إبراهيم بن يوسف، حدثنا يزيد بن زريع، عن عمرو بن أبى وهب، قال: سمعت بكر
به عبد الله المزنى في المسجد البصرة يقول: كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم الذين لا يلبسون لا يطعنون على الذين يلبسون.
حدثنا
سفيان،حدثنا أبى،حدثنا عتبة بن عبدالرحمن، عن على بن زيد بن جدعان،عن سعيد
بن المسيب.. في لبس الخز، قال: إذا صلح قلبك فالبس ما بدا لك.. فذكرت ذلك
للحسن رحمه الله: إن من صلاح القلب ترك الخز.
حدثنا سفيان،حدثنا أبى،عن
منصور، عن أبى وائل، قال: كان عبد الله يسبل إزاره، فقيل له؛ فقال: إنى
رجل حمش الساقين. قال سفيان: يعنى رقيق الساقين.
فقد وضح لنا أن سبب
النهى إنما هو الخيلاء، فإذا علم من قلبه أنه مختال فليجتنب وكان في بدء
الأمر رفع الإزار إلى أنصاف الساق تجنبا للخيلاء والمراءاة، وكذلك تشمير
القميص، فلم يزل الناس في تبديل من سوء ضمائرهم، حتى صار ذلك تصنعا
ومراءاة؛ فكان من شمر الإزار والقميص ممقوتا لسوء مراده.
وروى عن أيوب
السختيانى رحمه الله: أنه طول قميصه له الخياط في ذلك؛ فقال: السنة اليوم
في هذا الزى، أو كلاهما هذا معناه.. كأنه ذهب إلى أنه إنما نهى عن طوله
للخيلاء فشمروا. فاليوم صار التشمير مراءاة وتصنعا وتزيينا للخلق يختالون
في الدنيا بالدين!! وروى أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله كان قميصه وجبته
تضرب شراك نعليه.
الاجتماع على الشراب
وأما قوله:) ونهى عن الجمع على الشراب(.فلعله من أجل أن ذلك تشبه بأهل الفسق حين يجتمعون على الفسق يديرون الأقداح.
حدثنا أبى، حدثنا ثابت بن محمد الزاهد، حدثنا ابن شهاب، عن الأجلح، قال: قال على بن أبى طالب رضى الله عنه: شراب المؤمنين أن يشربوا على أثر طعامهم ما طاب لهم، وشراب المنافقين أن يضعوا الأقداح يديرونها بينهم يتشبهون بأهل الشرك.
نكاح المرأة على عمتها أو على خالتهاوأما قوله:) نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها(.
فهذا
إذا فعله فقد جمع بين امرأة ومحرمها، وقد حرم الله تعالى في تنزيله الجمع
بين المرأة وابنتها، والجمع بين الأختين؛ فإذا نكحها على عمتها فقد جمع
القطيعة؛ لأنه ليس واحد منهما بمحرم للأخرى.
نكاح ابنتي العم
وأما قوله:) نهى عن نكاح ابنتى العم(.من أجل القطيعة، فقد كشف عن وجه العلة؛ لأن الغيرة كائنة،فإذا جمع بين ابنتى العم كأن كان له عمان ولكل واحد منهما ابنة فليس واحد منهما محرم للأخرى.فهذا مطلق..ولكن إذا فعل جاءت الغيرة وجاءت قطيعة الرحم.
وهذا ليس نهى تحريم،إنما هو نظر للدين، ونصيحة لله في دينه؛ لأن النكاح للفعلة، فلا ينبغى أن يستعف من ناحية، ويخرب دينه من ناحية أخرى.
نكاح الشغاروأما قوله:) نهى عن نكاح الشغار(.
وهو أن يقول: زوجنى ابنتك هذه على أن أزوجك ابنتى هذه.
فهذا لا يجوز لأن البضع لا يملك إلا المال، وقد جعل بضع كل واحدة منهما مهراً للأخرى. وقد جعل الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة أن يملك بلا مهر؛ فقال: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين). فالمؤمنون لا يملكون الأبضاع إلا بالمال، وإذا زوجه ابنته على أن يزوجه ابنته فقد صير بضعها مهرا للأخرى.
التزوج من ولائد أهل الكتابوأما قوله:) ونهى أن يتزوج ولائد أهل الكتاب(.
فإن الله تعالى شرط عند إطلاقه لعباده تزويج الإماء المؤمنات؛ فقال:( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ماملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات).
توارث أهل ملتينوأما قوله:) نهى أن يتوارث أهل ملتين(.
فالأديان - أديان الضلالة - كلها ملة واحدة؛ لأن الأديان كلها كفر واحد، فلا يتوارث أهل ملتين.
وقد جاء عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أنه قال: )لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم(.
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومى وعبد الجبار بن العلاء، قالا:حدثنا سفيان، قال:سمعناه من الزهرى يقول: سمعت على بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا من أجل أن الميراث إنما يرثه باتصال الرحم، والكافر لا وصلة له؛ لأنه منقطع عن الله، ومن انقطع عن الله لم يتصل رحمه بشيء؛ لأن الرحم بدت وشق لها اسما من اسمه. فهذا المسلم إنما يستحق مال الميت باتصاله بميته، وإنما اتصل بميته لاتصاله برحمه، وإنما اتصل برحمه لا تصاله بالرحمن الذى بدت منه. فإذا انقطع عن الله فمتى يتصل؟! وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:)خلق الله تعالى الرحم فقامت فأخذت بحقوى الرحمن، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال:مه، أنا الرحمن، وأنت الرحم، خلقتك بيدى، وشققت لك اسما من اسمى، وقربت مكانك منى؛ ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟(. حدثنا ببعض ذلك قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم ابن إسماعيل المدنى، عن معاوية بن أبى المزرد مولى بنى هاشم، حدثنى عمى أبو الحباب سعيد بن يسار، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثنا ببعضه الفضل بن محمد، حدثنا عمران بن بكار الحمصى، حدثنا على بن عياش، حدثنا محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى للرحم )خلقتك بيدى، وشققت لك اسما من اسمى، وقربت مكانك منى؛ وعزتى وجلالى لأصلن من وصلك، ولأقطعن من قطعك؛ ثم لا أرضى حتى ترضين(.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهذه نفوس متباية، فإنما تتصل بالأرحام المتصلة لا بالأرحام المنقطعة: (وَمَن يُشرِك بِاللهِ فَكَأَنّما خَرَ مِن السَماءِ فَتَخطَفُهُ الطَيرُ أَو تَهوى بِهِ الرِيحُ في مَكانٍ سَحِيق). فكيف يقرنه بالميت المسلم حتى يستحق بقرباه شيء وقد قال الله تعالى: (فَبُعداً لِقَومٍ لاََ يُؤمِنون). وقد قيل: إن أهل الملل قد تباينوا بمللهم، فلا يرث اليهودى النصرانى، ولا النصرانى المجوسى. فصير أهل كل دين ملة، واحتج بقوله:)لا يتوارث أهل ملتين(. فإذا تشتت مللهم لم يتوارثوا.
ولم
يأخذ بهذا القول علماؤنا من أهل الكوفة، ورأوا أن الكفر كله ملة واحدة..
يحقق قولهم هذه الآية (إِنَّ الَّذَينَ آَمَنوا وَالَّذَينَ هَادُوا
وَالصَابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوس وَالَّذَينَ أَشرَكوا إِنَّ الله
يَفصِلُ بَينَهُم يَومَ القِيامَة). ثم قال: (هذان خصمان اختصموا في ربهم،
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار).وذكر الذين آمنوا، فصير الكفر
والإسلام ملة، حتى صيرهم خصمين في ربهم.
الرقية
وأما قوله:) ونهى عن الرقية(.فهذا عندنا الحيات والجنون. وتلك أخذوها من الهند؛ فخاف أن يمازحه الشرك.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقرب الرقى إلى الشك رقية الحية والمجانين).
فأما الرقى التى يرقيها الراقى بالقرآن والعزائم يستشفى، فلا بأس به؛ لأن هذا تبرك وتفاؤل.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عمرو بن جرير، حدثنا قتيبة ابن سعيد،حدثنا ابن لهية، عن أبى الزبير، عن جابر: أن عمرو بن جرير رضى الله عنه دعى لامرأة بالمدينة لدغتها حية ليرقيها، فأبى، فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال عمرو:إنك لتزجر عن الرقى؛ فقال:)اقرأها(،فقرأها عليه،فقال:)لا بأس به، إنما هى مواثيق فارق بها(.
وحدثنا ابن أخى يحيى بن عيسى الرملى، أخبرنى عمى، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: كان لى خال يرقى من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقية، فأتاه خالى، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى، ونحن نرقى من العقرب! فقال عليه السلام:)اعرضوها على(، فقال:)إنما هذه مواثيق لا بأس بها، من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل(.
وحدثنا إبراهيم بن يوسف الصيرفى، حدثنا أبوبكر بن عياش، عن مغيرة،عن إبراهيم، عن الأسود، قال: قلت لعائشة رضى الله عنها: إنا نزلنا وادياً، فقتل صاحب لنا حية، فصرع لحينه، فرقيته بكلمات بالحميرية فقالت: أى شيء هي؟ قلت:)شجه. قرنيه. ملحة. بحرا.فقطا( قال: فقالت:ما بها بأس.
وروى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أنه قال: مررت بحى، فإذا سيد القوم بينهم، فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطونى مائة شاة؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (من أين علمت أنها رقية؟)، قلت:ألقى في نفسى؛ فقال: (لقد كان يؤخذ برقية باطل، لقد رقيت برقية حق؛ خذها واضربوا لى معكم بسهم).
قال: فقد كشف سبب النهى، وأطلق الذى لا يشوبه شيء من مهجور الكلام.
قال: وحدثنا عقبة بن قبيصة، حدثنا أبى، عن منصور، عن المنهال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول:)أعيذكما بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة(، ثم يقول:)هكذا كان أبى يعوذ إسماعيل وإسحاق(.
تعليق التمائموأما قوله:) ونهى عن تعليق التمائم(.
وهو أن يعلق خرزة كى لا تصيبه الآفة، وخرزة كى يذهب الجنى. وأن العبد إذا اتكل على شيء وكله الله إليه وخذله وأعطاه مناه حيث قصد له استدراجا.
فقد كره العلماء كل شيء يعقد، مثل الوتر والأعواد التى تقطع فيمسكه الإنسان للفروج، والحديد الفولاذ الذى يجعله في العضد كيلا تصيبه آفة الجن. فهذا وأشباهه غواية الشيطان؛ ومن أجل هذا كره العلماء كثيرا من التعويذات والعزائم. وإنما كرهوا من جهتين: إحداهما: هذه، والثانى: أن فيه اسم الله تعالى ويخالط به الخلاء.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )من تعلق شيئا وكل إليه(.
وروى عن ابن مسعود رضى الله عنه: أنه رأى في عنق ولده شيئا من ذلك، فقال: أن آل محمد ابن أم عبد لأغنياء عن الشرك.
وذكر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه رأى على رجل حديدة، فقال:)ما هذه؟(، قال:من الواهنة. قال:)فأنها لا تزيدك إلا وهناً(. وقد ذكر الله في تنزيله فقال: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن).. قال الله تعالى: (فزادهم رهقا)..
وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نزلوا وادياً قال أحدهم: أعوذ بسيد هذا الوادى أن يضرنى أحد من الجن في هذا الوادى!فلم يزدادوا بها إلا رهقا.
فهذا كله من التمائم، كأنه اشتق هذا
الاسم من أن هذه الأشياء تكلفها العباد لتتم به الأمر من دوام العافية
ودفع البلاء، ولا تتم إلا بها، فسموها تميمة؛ ألا ترى أن عائشة رضى الله
عنها قالت: ليس من التمائم ما علق بعد نزول البلاء. حدثنا قتيبة بن سعيد،
حدثنا ابن لهية، عن بكير بن عبد الله ابن الأج، عن القاسم بن محمد،عن
عائشة رضى الله عنها قالت: ليس من التمائم ما علق بعد نزول البلاء. كأنها
ذهبت إلى أن هذا بعد نزول البلاء استشفاء وتبرك وتفاؤل. فإذا عقد الحمى
بالوتر، فإنما يعقد بما يقرأ من القرآن؛ وإنما يستشفى بأسماء الله
وبالقرآن، والعقد منه تفاؤل، والفأل من حسن الظن بالله عزوجل.
حدثنا
أبو عمار الحسن بن حريث الخزاعى،حدثنا أوس بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه،
عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير.
وإن
العبد إذا أحسن الظن بالله في الأمور، وأمله، ورجاءه، وفي له الكريم بذلك.
فعقد الحمى، وما أشبه ذلك، هو من طريق التفاؤل، فإذا فعله على هذا السبيل
وفى له بحسن ظنه.
إتيان العراف وتصديقه
وأما قوله:) ونهى أن يؤتى العراف يسأله ويصدقه؛ وقال:من صدقه فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم(..فذلك لأن العراف يعرفه من علم الغيب - ما لم يعرف - رجما، وإنما قاله من تلقاء نفسه، والعراف والكاهن يتلقون الأخبار عن الشياطين؛ وذلك أن الشياطين تسترق السمع من السماء مما تتحدث به الملائكة من قضاء يقضيه ربنا تبارك وتعالى،فإذا استرق الشيطان من ذلك شيئا ألقاه إلى الكاهن فيتخذ ذلك أصلا وبينى عليه الأكاذيب؛ فيروج عنه ذلك بذلك الواحد الذى يصدق فيه ويظهر صدقه.
والعرافة، والكهانة، والعيافة؛ كلها قريب بعضها من بعض. والعيافة: زجر الطير،وهو الذى يخبر عن أصواتهم بالأمور، وإنما من الله تعالى بذلك على رجل من ولد آدم فيما نعلمه وهو سليمان صلوات الله عليه فقال: )يَا أَيُها النَّاسُ عُلِمنا مَنطِقَ الطَير(. وأما هؤلاء الذين يدعون هذا فادعاؤهم باطل.
الرنةوأما قوله:) ونهى عن الرنة(.
فإن أول من رن إبليس. ويقال: إنه رن ثلاث رنات: عند خروجه من ملكوت السماء وحلول اللعنة به، ورنة عند بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ورنة ثالثة حين نزلت فاتحة الكتاب.
والرنين صرخة أصلها من السخطة؛ فلذلك عظم شأنها، فمن فعلها عند المصائب كأنه إذا فعلها أبدى ما يدل على أنه سخط على الله، والسخط على الله من النفاق.
النياحةوأما قوله:) ونهى عن النياحة(.
فإن النوح من فعل النادمين على الذنوب، وهو (ستيون) بالأعجمية.وأما أهل المصائب فهذا منهم محال؛ لأنه من السخطة. وأهل الذنوب ينوحون ندما على ما فرط منهم من الجفاء وأسفا على ما فاتهم من المركز الذى أحلوا به؛ فإن لكل مؤمن مركزا بين يدى الله، وهو حزب الله؛ فإذا أذنب، فقد زال عن المركز، وخرج من الستر، فتفرد عن المأمن. فهو ينوح على ذلك. فهذا نوح التوبة فإن النوح ظاهر فعله، والحنين باطن فعله، حن إلى المركز فناح عليه؛ لأنه وإن تاب؛ فإنه لا يقدر على رد تلك الساعات التى مضت في وقت المعصية، وقد زال عن المركز؛ ألا ترى إلى قوله عزوجل: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه).
فمراكز الموحدين بين يدى الله نصب عينه، وعين الله عليهم؛ فإذا زال عن المقام، وتداركه الله تعالى بأن تاب عليه، ناح على تلك الساعات التى مضت ومركزه خال عن العبودية غائب عن حزب الله.
وكذلك شأن الملائكة.. ألا ترى إلى قول الله تعالى: (وَما مِنَّا إِلا لَهُ مَقامٌ مَعلُوم). فهذا المقام ليس مقاما لأجسامهم، إنما هى مقام أعمالهم.
وكذلك
مراكز الموحدين إنما هى مراكز أعمالهم بين يدى الله تعالى. ثم لقلوبهم
مقاوم. وقد تتفاوت المراكز بألف ألف درجة، وأكثر من ذلك مما لا يحصيه
العدو تفاوتا. وإنما قيل للملائكة مقاوم، وللموحدين مراكز؛ لأن الموحدين
هم أهل حرب يجاهدون الشيطان في ذات الله ويجاهدون نفوسهم، فلهم في جهادهم
ألوية وروايات قد ركزوها بين يدى الله في محل عظيم في الملكوت، إليها ترفع
أعمال العباد، ثم يبعث بها إلى الخزائن، ومنها ما لا يبعث، ولكن يختالها
وجه رب العالمين فيضعه عنده لنظرته إليها إلى يوم البعث لحبه إياهم.
ومقاوم أعمالهم معلومة من وراء ذلك، كل على درجته.
فهذا النائح إنما
ينوح على فوت ما لا يقدر على رده، فإذا استعمل أهل المصائب ذلك الفعل فهو
محال وسمج، كأنهم يريدون رد الموت وحياة هذا الذى دعاه الله لوقته فأجابه.
وأما
البكاء فزينة وحلية، فإذا كان البكاء لله تعالى، تهبطها رحمة ورأفة، قد
عملت فيه، به الخوف بحرارة الرأفة وسالت إلى الرأس، فأسبل دمعة من غير
تكلف يرحم بها من نزل به الموت الفظيع شأنه، وخاب مقدمه على الله؛ فهو
ينظر بعين بصيرة إلى عظيم شأن الموت الذى حل به، وإلى هول المقدم، وإلى
فراق المحبوب؛ فتعمل فيه الرآفة فتدمع لذلك عينه، ويحزن به قلبه، فهذا
محمود وبذلك يزين أهل المصائب أن يعظموا ما عظم الله، وأن يحزنوا لما
أحزنهم، وأن يتوجعوا لفراقه.
وقد رويت الأخبار في شأن أحوال السلف
الماضين في شأن المصيبة، فاختلفت أحوالهم على تباين الطبيعة والنفوس
العزيزة، فمنهم من بكا ورق، ومنهم من تجلد فلبس وتهيأ وتزين وتبسم، ومنهم
من استكان، ومنهم من أظهر السرور واتخذ الطعام وجمع الإخوان.
فأعلاهم
في هذا الباب من أقر الأمور مقرها، ووضعها بالمحل الذى وضعها الله؛ فهذا
فعل الأنبياء والأولياء، ولفضل النفس والمعرفة قروا على ذلك.
والآخرون
خافوا من لخيانة النفوس ففزعوا إلى التسليم وتدافع الإخوان في إظهار الرضا
بحكم الله، والتشاغل عن المصيبة كى يستكملوا ثواب الصابرين. فهؤلاء ضعفاء
من الضعف عملوا وردوا الدمعة، وتناسوا، وخالطوا الناس، وتشاغلوا، ولهوا عن
المصيبة؛ خوفا من التقصير في شأن الصبر.. حتى وجد الشيطان سبيلا في هذا
أيضا، فدعاهم في زماننا هذا إلى خدعة عظيمة ليجتمعوا على السرور، واتخاذ
طعام كطعام الولائم، وانبساط وتفارح؛ يريدون بذلك إقامة الصبر في الظاهر،
فإذا ظاهرهم خلاف فعل الرسل والأنبياء.
وسمج هذا في رأى العين أن يكون
لملك الموت ولرسل رب العالمين أثر في بيت، وسلطان يزعزع الأرواح من
النفوس، وتصير النفوس جيفة ملقاة تنتقل إلى بيت البلى؛ ثم يكون هنالك شبه
العزف، والقصف، واللغط، والضوضاء، والفرح، وقلة المبالاة، يزعمون أن هذا
يوم شكر؛ إذ أنه خرج من الدنيا، فتخلص من آفاتها، وختم له بالإسلام.
فهذا
كله تحسن بالقول، وتفارح بالجهد، والنفس ممتلئة من الوجد. وإقامة الصبر في
ظاهر الأمر يسير في جنب باطنه؛ فهو يظهر السرور وفي النفس من وجع الفراق
جزع وتلهف. فهذا خراب الباطن. وإنما الصبر الوافر أن تكون بقلبك راضيا عن
الله، ونفسك طيبة مع الله فيما حكم، قد حبب إليك حبه حكمه، وطابت نفسك
بالمصيبة.
فهذا الصبر الوافر؛ لأن لحبه حلاوة ولفراق هذا النفس التى حل
بها الموت مرارة. فالمرارة في النفس، والحلاوة في القلب. فكلما ثارت حرقة
من موضع الرأفة عملت في شأن الدمعة حتى يجرى الماء. فكلما ثارت مرارة من
النفس من أجل الفراق تلقته حلاوة محبة الله في الصبر فأبطلته؛ لأنهما
اجتمعا في الصدر، فتلاشت المرارة، وثبتت الحلاوة؛ لغلبه المحبة وسلطانهما.
فإذا لم يكن هذا فما يغنى هذا السرور الظاهر.
واتخاذ العرس أخاف أن يصير هذا تصنعا ورياء؛ لأنه يكفيه حفظ الجوارح أن يعصى الله بجارحة من أجل تلك المصيبة؛ فهذا صبر الظاهر.
وإن فر من التقصير والاستكانة، فتبسم، ولبس من صالح ثيابه، كما فعل مطرف في وفاة أبيه؛ فهذا أيضا حسن، وهو دون الأول.
فأما
رجل حلت به مصيبة فاجعة محرقة، شأنها عظيم في الملكوت، فيذهب فيتخذ عرساً،
ويجتمع في بيته لغط وضوضاء، فهذا سمج، وقد جاوز القصد، وتكلف جهلا. فأن
أراد به الله فهو جهل عندنا، وإن أراد به التصنع فممقوت.
وفعل
الأقوياء أن يضع كل شيء موضعه: السرور في موضعه، الحزن في موضعه. ويتقرب
إلى الله بذلك الحزن، كما يتقرب بالسرور؛ لأن ذلك كله لله وبالله. ولو أن
رجلا شكر في موضع الصبر لكان لشكره موضع هناك، ولو قال عند الذنب: (الحمد
لله) لكان لقوله هناك موضع. ولكن الحمد في موضع النعمة، والاستغفار في
موضع الذنب، والشكر في موضع النعمة، والصبر في موضع الشدة، فإذا حولته
وجدت لكل منه متسعا في الأخر؛ ولكن هذا نفص في التدبير، ونكس للأمور. وروى
أن عمر بن الخطاب مر بعثمان رضى الله عنهما وهو قاعد، فبدأه عثمان
بالسلام، فقال عمر رضى الله عنه: يا أبا محمد، ولم تنكس السنة؟! ففي هذا
القدر عتب عليه عمر رضى الله عنه؛ السلام من المار على الجالس؛ لأنه هو
الوالج عليه. والسلام أمان من العباد، فإنما ينبغى الأمان من الوارد. فإذا
أزلته عن موضعه انتقض. فوجدنا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو سيد ولد
آدم عليه السلام، عند المصائب، إظهار تعظيم أمر وإجلاله، ويبكى ويحزن.
ولما توفى الله ابنه إبراهيم بكى، ثم قال:) إنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا
يرحم، القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب يا إبراهيم. لولا
أنه سبيل مأتى، ووعد حق، لحزنا عليك أشد من هذا. ولو عاش إبراهيم بعدى
لكان صديقا نبياً(. ثم قال لأصحابه: )إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين:
صوت رنة عند مصيبة، وصوت مزمار عند نعمة(. فهذه الرنة صرخة من موضع السخط
خرجت، وهذا المزمار ملاهى الشيطان، صوته جاء بها فمازج هذا المزمار، وجاء
بها فصوت في الأوثان، حتى سبى قلوب عبدة الأوثان. ولهذا غور بعيد، وقد
وصفناه في كتاب " الأولياء " .
وقالت عائشة رضى الله عنها في شأن وفاة سعد بن معاذ: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا اشتد به الحزن أخذ بلحيته.
ووجدنا
ذكر يعقوب صلى الله عليه وسلم في التنزيل أنه حزن على يوسف عليه السلام،
فلم يذمه الله تعالى على ذلك مع ما أدى الحزن من نفسه؛ وذلك أنه قال عندما
استحكمت أمور البلاء عليه، وحبس الولد الآخر بسبب ما ادعى عليه من السرقة:
(وَتَولَى عَنهُم وَقالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف).
ويا كلمة دعاء
ونداء الأسف للهبان الحريق؛ وذلك أن الحزن أصله من الرأفة، والرأفة لها
حريق، ومعدنها في الطحال.. كذلك روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه،
حدثنا بذلك العباس بن عبد العظيم العنبرى، حدثنا موسى بن مسعود، عن محمد
بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن الزهرى، عن عياض بن خليفة، عن على رضى الله
عنه، قال:)الرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال(.
حدثنا أبى، حدثنا
إسماعيل بن صبيح اليشكرى، حدثنا صلاح بن وقاد الأنصارى، عن سعد بن طريف،
عن عكرمة، عن ابن عباس: أن داود عليه السلام قال لابنه: يا بنى، أين موضع
الرأفة منك؟ وأين موضع الرحمة؟ قال:موضع الرأفة الطحال، وأما موضع الرحمة
فالكبد.
فهذه الرأفة إذا هاجت فلها لهبان، وإذا طار اللهب إلى الصدر
اخترق ظاهر القلب ووجهه، فصار كاللسان المخترق بالشيء الحار، فصارت على
القلوب كحزونة الأرض، واشتقاق الحزن من ذلك؛ فكان يعقوب عليه السلام حين
قال: (يا أسفى) دعا الأصل الذى من معدن الرأفة، فقال: (يا أسفى).. إنما هو
ذلك اللهبان الذى كان يلتهب من الرأفة لفراق يوسف عليه السلام لطول
الغيبة، ولم يكن قد وجد خبر موته فيحتسبه عند الله، فيطمئن إلى وصوله إلى
الله.
وأنبياء الله أكثر الخلق رأفة، وأوفرهم حظا منها، وأرحم البرية؛
فكانت الرأفة تلتهب فيه، فلما بلغ التلهب و التلظى مبالغة دعاة كالمستروح
إليه وقال: (يَا أَسفَى عَلَى يُوسُف). والأسف مما يدل على الشدة من الحزن
والغضب جميعا؛ لأن الغضب له حريق.. ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَلَمّا
آَسَفُونَا اِنتَقَمنا مِنهُم)، يخبر أنه: لما اشتد غضبى عليهم تلهب فطار
اللهب فحلت النقمة بفرعون وقومه.
فإنما نادى يوسف عليه السلام ذلك
الأسف عند اشتداد حريق الرأفة .. ألا ترى أنه لما نادى الأسف نداء الندبة
بهذه الياء - حكى الله عند ندائه: (وَابيَضَت عَيناهُ مِنَ الحُزنِ فَهُو
كَظيم). وذلك أنه لما هاج اللهب منه لم يقل منه: (يا يوسفاه)؛ لأنه وجد
يوسف عليه السلام مرتهنا بحكم الله بشيء قد سلف من يعقوب عليه السلام
مستورا عن الخلق، ثم صار ظاهرا.. حدثنا عبد الله بن أبى زياد، حدثنا عبد
الله بن أبى سميط ابن عجلان، قال: سمعت أبى يقول: بلغنا أن يعقوب عليه
السلام قال له ربه: أتشكونى؟! فوعزتى لا أكشف ما بك حتى تدعونى. فقال عند
ذلك: (إِنّما أَشكُو بَثَى وَحُزنِى إِلَى الله)، فقال له جبريل عليه
السلام: الله أعلم بما تشكو يا يعقوب. وإنما قال ذلك من قبل لما قيل له:
ما الذى أذهب بصرك؟ قال: حزنى على يوسف، فقيل: فما الذى قوس ظهرك؟ قال:
حزنى على أخيه. فأوحى الله تعالى إليه: أتشكونى؟! فوعزتى لا أكشف ما بك
حتى تدعونى. فقال عند ذلك: (إِنّما أَشكو بَثَى وَحُزنِى إِلى الله)؛
فأوحى الله إليه: وعزتى لو كانا ميتين لأحييتهما لك حتى تنظر إليهما،
وإنما وجدت عليكم أنكم ذبحتم شاة، فقام عليكم مسكين، فلم تطعموه منها
شيئاً، فأن أحب خلقى الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع عملة
المساكين. فصنع طعاما، ثم قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب.
وقوله:) عملة المساكين( أى صوامهم وعبادهم. وكانت مساكين بنى إسرائيل بهذه
الصفة لمسكنة العباد، وسائرهم فقراء.
فهذا فعل كان قد بدر من يعقوب عليه السلام، وهو لا يستغربه؛ فجعله الله لبلائه، وجعل البلاء سببا لاستخراج صبره، وامتحان قلبه.
وإن
ربنا كريم إذا أراد أن يبتلى عبده لاستخراج ما في ضميره وإبرازه لأهل
سمائه وأرضه استحيا أن يبتليه من غير علة أو سبب؛ فيكون ذلك كالارتجاع في
العطية.. ألا ترى إلى قوله: (وَما بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ الله)، ثم
قال: (ذَلِكَ بِأَنّ الله لَم يَكُ مُغِيراً نِعمَةً أَنعَمَها عَلَى
قَومٍ حَتى يُغيرُوا ما بِأَنفُسِهِم). وإذا أراد الله أن يبتلى عبدا
ليبرز صبره الجميل الذى تولى وصفه بنفسه منه من الله تعالى أعطاه من
العافية والرجاء والنعمة، فجعل على مقدمة البلاء سببا كالعلة، مثل ما فعل
يعقوب عليه السلام، وكذلك روى في قصة أيوب عليه السلام؛ ليظهر صبره وشرفه
على الخلق، وتكون الخلق به مقتدين، قال: وبلغنا أنه كان على مقدمة البلاء
أنه كان عند فرعون يوم دخل عليه موسى عليه السلام، وكان أيوب عليه السلام
عن نصرته، وكانت منه كلمة أو كلمتان كالمدارى، فكان هذا موجده في الستر
على أيوب، فجعله سببا لبلائه؛ فابتلاه وجعل البلاء سببا لإبراز صبره،
والثناء عليه، والاحتجاج بفعله على الخلق.
وكذلك في شأن إبراهيم عليه
السلام؛ حيث كسر الأصنام، ثم قيل له: أأنت فعلت هذا بآلهنتا يا إبراهيم؟
قال: بل فعله كبيرهم هذا. فابتلى بالحريق، ثم جعلها عليه بردا وسلاما،
وأبرز صبره وبذل نفسه لله في العالمين. وقال في شأن خروجه إلى الصيد: إنى
سقيم. فابتلى بذبح ابنه، ثم خلصه وفداه بذبح عظيم، وقال في شأن سارة حيث
مر بها على الملك فقال: هى أختى. فابتلى بفراق إسماعيل وهاجر.
وكذلك في
شأن موسى عليه السلام، ومثل هذا كثير. فوجد يعقوب يوسف عليهما السلام مر
تهنا بما سلف متعلقا بحكم الله بحق الله، فلم يستجر أن يناديه نداء
النادبين، وهاج منه الشوق إليه والحنين من النفس لحبه إياه، ومعاذ الله أن
يتوهم على يعقوب عليه السلام أن حبه كان مذموما شهوانيا، وإنما أحبه من
بين ولده لحب الله فيه.. أفليس قد ظهرت الحبية فبرز على جميع إخوته:
علماً، وحلماً،وكرماً،وصحفاً، وبراً، وتقوى، وعبودية، وبذلاً، وسخاء،
وجمالا في معالى الأخلاق.
وكذلك وجدنا فاطمة رضى الله عنها، فحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لحبية الله فيها من بين ولده.
وكذلك
نجد أولاد الأنبياء لهم تفاوت ولهم أثرة، فإذا تلك الأثرة ليست من الآباء
من قبل نفوسهم الميالة بالهوى والشهوة، وإنما ذلك بقلوب طاهرة، وأفئدة
زكية، وصدور عالمة بتلك الأشياء؛ فتميل قلوبهم إلى بعض أولادهم دون بعض من
أجل حظ لهذا الولد عند الله ما ليس لغيره..
ألا ترى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حينما ذكر أولاد خديجة رضى الله عنها، فقالت: يا رسول
الله، أين أطفالى منك؟ قال:: (في الجنة). فهل ذكر غير هذا شيئاً؟ وقال
عليه السلام عند ذكر إبراهيم عليه السلام: (لو عاش إبراهيم بعدى لكان
صديقاً نبياً)، يعلمك بأنه محظوظ عند الله تعالى حظ الصديقين، وحظ
النبيين، ولم يرزقه من الأجل في الدنيا ما يظهر عليه الصديقية والنبوة
قلباً وجوارح. وحظه هناك في الآخرة قائم حظ صديق نبى، ولو عاش لظهر عليه
هذا.
فلما استحكم البلاء على يعقوب عليه السلام، وطال الأمر، وعملت
الرأفة، وغلبت مرافق الشوق، وتلهبت الرأفة؛ فلم يستجز أن يناديه وهو متعلق
بحق الله الذى قد وجب على يعقوب بسبب ذلك المسكين. وهو ينتظر ماذا يبرز له
من الغيب في هذا الحكم، ويحسن ظنه بالله ولا ييأس من روح الله؛ لأنه متوقع
من كرم الله؛ فنادى الأسف الذي عليه أسف. فلما ناداه صار ذلك اللهب إلى
الرأس كالمحبب له، فذهب ببصره، قال الله تعالى: (وَابيَضَت عَينَاهُ مِنَ
الحُزنِ فَهُوَ كَظَيم). فإنما كظم عن نداء يوسف، وكن عنه، فنادى أسفه؛
فحمد الله له وذكر كظمه أنه واقف عند حكمى، معظم لأمرى، ومن تعظيمه ووقوفه
عند حكمى لم يذكر اسم من اشتاق إليه وحنت نفسه، فنادى الأسف. فلولا أن ذلك
الأسف زينة لبلائه، وحلية لمصابه، ما كان ليناديه، ولا ليذكر في التنزيل
شأنه.
فهؤلاء الأنبياء والرسل عليهم السلام يضعون كل شيء موضعه كما وصف الله تعالى، فيقدرون عليه بما قواهم الله تعالى من النبوة.
كذلك
روى لنا سليمان عليه السلام:أنه حزن على ابنه حزنا شديدا حتى عزى بأن يمثل
ملك فجاءه متخاصما مع آخر، فقال: إن هذا مشى في زرعى واتخذ طريقا. فقال له
سليمان عليه السلام: ما حملك على ذلك؟ فقال: لأنه زرع في طريق الناس
وممرهم. ففطن سليمان عليه السلام بأنه أريد بذلك فتعزى.
وكذلك روى عن
موسى عليه السلام؛ حيث بكى على هارون عليهما السلام، فقال الله تعالى:يا
موسى ما هذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ما كان ينبغى لك أن تحن على فقد شيء معى،
ولا أن تستأنس بغيرى، ولا أن يكون بكاؤك على هارون إلا لى.
وفي هذا كلام كثير تركناه لئلا يطول..
فالأقوياء
هذا فعلهم، يعظمون أمر الله، فإذا أبكاهم بكوا، وإذا أحزنهم حزنوا، وإذا
خوفهم خافوا، وإذا أضحكهم ضحكوا، وإذا بشرهم فرحوا، وإذا بسطهم انبسطوا.
والضعفاء
من خوف خيانة النفوس، إذا أبكاهم دافعوا البكاء، وإذا أحزنهم فزعوا وردوا
ذلك إلى أمور السرور، وإذا خوفهم تحيروا، وإذا أضحكهم اتهموا وحسبوها
استدراجا ومكرا، وإذا بشرهم نسبوا ذلك إلى الوسوسة، وإذا بسطهم انقبضوا
وحسبوه خذلانا. فهذا كله لانسداد الطريق فيما بينهم وبين الله، والحجب
التى تحجب النفس مدلاة على عينى الفؤاد والصدور منهم لفوزان دخان الشهوات،
وأخلاق النفس مغيمة كغيوم الآفاق إذا أحاطت بالأرض فحجبت إشراق الشمس.
لواحق النياحة
وأما قوله:) ونهى عن النياحة، والاستماع إلى النياحة؛ ونهى عن الجمع عند صاحب الميت، وعن إطعام الناس آل الميت، وعن الإجابة إلى طعام الميت؛ ونهى أن يقعد الرجل في بيته للمصيبة ثم يؤتى فيعزى(.فهذا كله معدود في صفحة النوح؛ لأن صاحب المصيبة أصابه حكم الله في ذلك الشيء، وخلص إلى النفس ما كرهت، واقتضاها إيمانه التسليم لله، والتعرى من المنازعة مع الله في ذلك الشيء الذى استأثر به؛ فسلموا بقلوبهم، واسترجعوا بألسنتهم؛ اعترافاً بأن الملك لله، والمرجع إليه؛ فيرد إلينا ما أخذ منا وأضعافه.
وأهل الكفر في عمى من ذلك، فكانت نفوسهم تنازع وتتبع الغائب، فإذا لم تجد صاح ورن النوح التعديد بعد أحوال الغائب وما كان ألفا به، ويتوجع، ويتفجع؛ فليس عنده نور المعرفة فيطفى به ثائرته. فذلك الصراخ من سخطه على ربه في حكمه، وضيق صدره بما حل به من حكمه، يضيق عن التسليم لأنه ضاق عن النور من أن يلج فيه؛ فيصرخ، ويرن، وينتف الشعر، ويشق جيبا، ويخمش وجها، ويعدو أحوال الميت؛ توجعا وأسفا على ذلك.
كل ذلك تلظيا على حكم ربه، وسخطا على
مقدوره، واشتداد على تدبيره. وإنما أوتى ذلك لأنه متكبر جبار، ومن الجبر
والكبر الذى فيه تكبر على الله أن يقول لا إله إلا الله: (إِذَا قيلَ
لَهُم لاَ إِلاَّ الله يَستَكبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِناّ لَتارِكُوا
آَلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجنون). لما حجبهم عن رحمته جهلوا الرحمن، ولما قال
لهم: وحدوا،استكبروا واشمأزت قلوبهم: (وَإِذا ذُكِرَ الَّذَينَ مِن
دُونِهِ إِذا هُم يَستَبشِرونَ). فعند المصائب والمكاره ضيقت قلوبهم تلك
الجبرية التى فيهم؛ فمن ضيق الصدر صرخوا، ونتفوا، وخمشوا، وخدشوا، وشقوا
الجيوب. ومنهم من يحرق نفسه، ومنهم من يجدع أنفا وأذنا.
فالنياحة هي
تعديد الأحوال كالمراثى لتتوقد نار المصيبة، وحرقات الرأفة، وتقوى
الفجيعة. فذلك من السخط والتلهف على الفائت المفقود. وكانوا يحتشدون لذلك،
ويتخذون عليه الطعام، وتتبع نساؤهم الميت إلى المدفن بهذه الصفات، ويقعدون
محتشدين متعاونين على إقامة هذا الرسم أياما وشهوراً جزعين ساخطين،
ويزورون القبور فيظهرون من الجزع أكثر مما في باطنهم بنفورهم عن كل نعمة
وموضع سرور، كهيئة المقهور المتكلم المتشكى ممن قهرة وظلمه.
فهذه كلها أحوال المشركين في مصائبهم..
فلما
ابتعث الله رسوله الله صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام، أمرهم بالصبر
والنزول على حكمه، وأكرم الأمة ببعثه، وبشرهم، وبين لهم الثواب في الأجل -
وزجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النياحة، وعن كل ما أشبه النياحة،
وكل سبب من أسبابها؛ حتى نهى عن البكاء؛ فقال في شأن ميت مات بحضرته: (إذا
وجب فلا تبكين باكية). أراد بذلك حسم هذا الباب على المسلمين لحداثة عهدهم
بأمر الجاهلية، حتى بلغ من حسمه أن نهاهم عن زيارة القبور.
فكذلك كل
أمر حرمه الله، وكان لذلك الأمر أسباب، حرم تلك الأسباب الداعية إلى ذلك
الأمر، منها تحريم الخمر؛ فلما حرمت الخمر زجر عن كل شراب في دباء، أو
حنتم، أو مزفت، أو مقير، أو نقير؛ مخافة أن يشتد الشراب وهم لا يعملون.
وإن كان في زق فاشتد انشق الزق. فلما هدأت النفس،ومرنت عن الانتهاء عما
نهو عنه، أطلق لهم فقال:)كنت نهيتكم عن النبيذ فاشربوا، ولا تشربوا
مسكراً، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها معتبراً(، ثم قال:
)ولا تقولوا هجراً(. فبين عليه السلام علة النهى أنهم كانوا إذا زاروا
القبور قالوا هجرا، فصاروا إلى النياحة، فلما تمسكوا وعقلوا الإسلام أطلق
لهم الزيارة.
وحسم عليهم أبواب النياحة حتى إذا اهتدوا وفقهوا أطلق لهم من ذلك ما لم يكن به بأس.
فلما
جاءه نعي جعفر رضى الله عنه، قال: )اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد أتاهم أمر
شغلهم(. حدثنا المخزومى عبد الجبار، حدثنا سفيان، عن أبى إسرائيل، عن طلحة
بن مصرف، سأل يحيى بن عبد الله: أتجتمع عندكم النساء عند خروج الميت؟ قال:
نعم، قال: فتلك النياحة فلا تفعلوا.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الفضل
بن فضالة، عن ربيعة بن سيف المعافرى، عن أبى عبد الرحمن الحبلى، عن عبد
الله بن عمرو، قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتا، فلما
انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرفنا، فلما حاذى بابه وقف وتوسط
الطريق، فإذا امرأة مقبله لا نظنه عرفها، فلما دنت فإذا هي فاطمة رضي الله
عنها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:)ما أخرجك يا فاطمة من
بيتك؟(، فقالت: أتيت أهل هذا الميت فرحمت إليهم ميتهم - أو عزيتهم - (لا
يحفظ ربيعه أى ذلك قالت)، قال أبو عبد الرحمن: فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:)فلعلك بلغت منهم الكدى؟(، قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها
ما تذكر، قال: )لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جدك أبو
أبيك(. قال قتيبة: الكدى المقابر.
حدثنا المخزومى، حدثنا سفيان، عن
إسماعيل بن أبى خالد، عن حسن ابن المعتمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى امرأة معها مخمرة، وهو يريد أن يصلى على جنازة، فصاح صيحة، فقام لا
يكبر، فما زال يصيح بها حتى دخلت المدينة، فلما توارت بالبيوت، تقدم النبي
عليه السلام وكبر عليها. فهذا كله في بدء الأمر.. حدثنا سفيان بن وكيع،
حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى الله عنه، قال:
احتضرت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضمها إليه، وجعلها بين يديه،
فوضعها وقد قضت، فبكت أم أيمن، فقيل لها: وما لي لا أبكي والنبي عليه
السلام يبكي؛ فقال النبى عليه السلام:)إنى لا أبكى، إنما هى رحمة(.
إن المؤمن بخير على كل حال، تنزع نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله.
فإنما
نهى عن البكاء في بدء الأمر لحسم الباب، وطمس أفعال الجاهلية وسنتها، ثم
أطلق في إرسال الدموع، ثم قال:)ما كان من القلب أو العين فمن الله، وما
كان من اليد أو اللسان فمن الشيطان(.
حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا أبى،
عن ابن ليلى، عن عطاء عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بكى
عند موت إبراهيم عليه السلام قال رجل: يا رسول الله، أليس قد نهيتنا عن
البكاء؟! قال: )إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت رنة عند مصيبة،
وصوت مزمار عند نعمة(.
حدثنا المخزومى، حدثنا سفيان، عن الأعمش،عن شقيق
قال: لما مات خالد بن الوليد رضى الله عنه اجتمع نساء بنى المغيرة في بيته
يبكين عليه، فقيل لعمر رضى الله عنه: وما على نساء بنى المغيرة لو أهرقن
على أبى سليمان سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقه. والنقع: شق الجيب،
واللقلقة: الصوت.
وعمر رضى الله عنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم:)أن الميت ليعذب ببكاء أهله(؛ ليعلم أن البكاء المنهى عنه هو الصوت،
والتعديد نوحا، وأما الدموع فهو بكاء رحمة.
فقد دل ذلك على أن هذه
الأشياء من الحزن والدمع خارج من هذه الأشياء؛ فإن الرسول عليه السلام شدد
في ذلك بدءاً حتى عقل الناس وفقهوا في الدين، فوسع الأمر عليهم في إسبال
الدموع، وفي الاجتماع، واتخاذ الطعام؛ شفقة على أهل الميت.
فكل ما كان
لله فهو حسن؛ فإذا أصاب المسلم مصيبة قعد للتعزية هو وأهل بيته، معظمين
الموت، ولهذا الميت الذي خلا منه مصلاه، وآثار إسلامه وبركة عبودته.
وتحازنوا على ما دخل من النقص في عدد المسلمين؛ فإن فقد رجل من المسلمين
أعظم من فقد الدنيا بما فيها من الزينة والنعم. فقعد ليعزى، أو لئلا يشتد
على إخوانه عن المسلمين طلبه وتتبع الأبواب في لقائه، فقعد على هذه النية؛
فهو مأجور. فإذا رق وبكى فهو مأجور؛ لأنه إن لم يرسل دمعته رجع ذلك الحزن
على نفسه وذلك مما يضر به فإذا فعل ذلك على هذا القصد فهو مأجور. وهو فعل
المسلمين: رحموا، ورقعوا، وحزنوا، وبكوا، وطعموا، واجتمعوا، وزاروا
القبور، وسلموا على الموتى، ودعوا، وعظموا أمر الميت وأمر الله، وسلموا
إليه أمرهم قلباً، واطمأنوا إلى فعله، طيبة بذلك نفوسهم. وأكرمت هذه الأمة
بفضل الإسترجاع، فأنه لم يعط أمة هذا. فهذا سبيل المهتدين الصابرين.
وأما
من بكى رياء، وجمع الناس للمراءاة، والتزين، والفخر، والخيلاء، واتخذ على
ذلك طعاما، وباهى، وقعد للتعزية للتكبر والعلو؛ فهذا أمر الجاهلية.
قال:
وسمعت أبا يعلى يقول: سمعت الحسن بن الربيع يقول: أخذ ابن المبارك من أيوب
السختيانى أمرين من أمر الناس: مات يعلى بن عطاء ولم يترك ذكرا، فقعد أيوب
السختيانى على بابه؛ وكان أيوب إذا قدم من سفر أطعم.. فمات سهل بن على ولم
يترك ذكرا، فقعد ابن المبارك على بابه؛ وكان إذا قدم من سفر أطعم.
المعازف واللهو
وأما قوله:) ونهى عن المزمار عند النعمة، ونهى عن الدف والكوبة، ونهى عن الرقص ونهى عن كل ذى وتر، ونهى عن اللعب كله(.فهذا
كله من الباطل، وليس في هذا شيء من الحق. وقد أمر الله تعالى رسوله الله
صلى الله عليه وسلم بمحقه؛ فليس شيء من هذا حق. حدثنا صالح بن عبد الله،
حدثنا فرج بن فضالة، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، قال: رسول
الله صلى الله عليه وسلم:)إن الله تعالى بعثنى رحمة للعالمين، وأمرنى بمحق
المعازف، والمزامير، والصليب، وأمر الجاهلية. وحلف ربى بعزته: لا يشرب عبد
من عبيدى جرعة من خمر متعمداً إلا سقيته من صديد أهل النار يوم القيامة،
مغفوراً له معذبا، ولا يتركها من مخافتى إلا سقيته من حياض يوم القيامة،
ولا يسقيها صبياً صغيراً أو ضعيفاً مسلما إلا سقيته من صديد أهل النار يوم
القيامة مغفوراً له أو معذباً(.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالفرح
مقسوم على أولاد آدم كلهم، مركب في أجسادهم؛ فذهبت طائفة منهم فاستعملته
في عبادة الأوثان، وطائفة استعملوه في دنياهم، وطائفة استعملوه في ذات
الله.
فمن فرح بالأوثان فأجزانه دائمة في النار، ومن فرح بدنياه
فخسرانه بين يدى الله غدا مع الخسران، ومن فرح بالإسلام والطاعة شكر على
ذلك وأثيب عليه، ومن فرح بالله قرب وحيى وأكرم وشرف وبويء له منازل في
عليين، قال الله تعالى: (وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُنيَا، وَمَا الحَياةُ
الدُنيا في الآَخِرَةِ إِلاّ مَتاع)، ثم قال: (قُل بِفَضلِ الله
وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلَيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ).
ثم روى أنه قال للصديقين: أيها الصديقون، تنعموا بذكرى، وبى فافرحوا.
فالمشتغلون
بنفوسهم فرحوا بما فضلهم الله به من الإسلام ومن عليهم؛ والمشتغلون بالله
انكشف لهم الغطاء، وفرحوا بالله، وتاهت قلوبهم في جلال الله؛ ففرحوا
بأديانهم، قال الله تعالى: (كُلُ حِزِبٍ بِمَا لَدَيهِم فَرِحُون). فخابوا
حين استعملوا هذا الفرح الذى أعطوا في دين تلقوه من الشيطان.
فلما جاء
الله بالإسلام، وبعث محمداً رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبب الفرح
والرحمة، أمره بمحق كل فرح فرح به أهل الباطل؛ فأمره بكسر الأوثان
والصلبان، وأمره بحق العازف والمزامير، وكل ذي وتر؛ لأن ذلك فرح فيه حظ
الشيطان؛ وجعل الفرح بيده، فهو يمزجها في هذه الأصوات؛ حتى يضربوا بذلك حظ
الشيطان؛ حتى لا يكون فرح إلا بالله وبالعبودية له. فمنهم من فرح
بالعبودة، ولم يكن له طريق إليه فيفرح به، ومنهم من فرح بالله.
فهذا سبب تحريم العازف، واللعب بكل ما يلهى عن الله. ويوضع كل هذا في الميزان في كفة الباطل.
والمعازف
كل ما تجد نفسك لصوته إذا حرك عزوفا، فالعزوف سلطان الشهوة، وإنما صار
كذلك لأن الشهوة التى فيك إنما هى من المحفوفة بباب النار بالشهوات، فتلك
خلقها الله ذات زينة وضياء وبهجة فتنة للعباد، وقسم للعدو منها حظا، وجعل
للآدميين حظا. فحظوظ الآدميين، في أجوافهم، وحظ العدو عنده؛ فإذا مازج
بحظه حظوظ الآدميين، اهتاجت شهوات الآدميين، وتلظت فتنتهم. وقد روى حديث
يحيى بن زكريا عليه السلام حين سأل إبليس: ما هذه الأكواز الصغار التى
علقتها على وسطك؟ قال: فيها شهوات بنى آدم، فأنا أذيقهم إياها واحدا
واحدا، حتى آخذهم بواحدة منها.
وأما الصوت الذى يخرج من الأوثان، فذلك
أصله من اللطف، أعلى له إبليس حظا من اللطف يومئذ فأعطى على الاستدراج،
فهو بذلك يصوت في أجواف الأصنام، فسبى بها قلوبا خلت من التوحيد. وإذا
خرجت الأصوات من كل ذى وتر مازج ما أعطى من اللطف بهذا الصوت حتى تفتن
القلوب بذلك، وسبا نفوسهم الشهوانية.
وأهل التوحيد حشى توحيدهم بالفرح
بالله، فلا يقدر العدو أن يسبى قلوبهم ونفوسهم بما عنده من الفرح.. ألا
ترى إلى قوله تعالى: (وَلَكِنَ الله حَبَبَ إِليهِمُ الإِيمانَ وَزَيَنَهُ
فِي قُلُوبِكُم، وَكَرِهَ إِلَيكُم الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيان). فإذا
كانت المحبة والزينة في قلب، فذاك قلب محشو من الفرح بمولاه، وهو لا يعلم
لغلبة الشهوات، وغلبة أفراح الدنيا، قد انكمش بما فيه من الفرح.. ألا ترى
أنه إذا وعظ وذكر بالله كيف تدمع عيناه، وكيف يقع في العويل.
قال:
وسمعت الجارود بن معاذ يقول لوكيع رحمه الله: أنت تصوم الدهر وتتعب، فمم
سمنك هذا؟! من سرورى بالإسلام. فليست هذه البدانة من تربية أغذية الدنيا؛
فإذا فرح الإنسان بدن ولحم فكل فرح من فرح الدنيا فهو أملك بذلك البدن
واللحم. فإن كان فرحه بالله فالله أولى، وإن كان فرحه بأمر الله أولى به
وهو طاعته وعبودته، وأن كان فرحه بدنياه فدنياه أملك به وأولى،فإذا كانت
الدنيا ضاع المسكين، وتحولت أفراحه أحزانا ودهشا وحيرة وأسفاً وندماً. وإن
كان فرحه بمعبوده من الرجس والأوثان، فهو أولى به؛ فالنار معه، والشيطان
قرينه،. وكذلك ما حرم الله من هذه الأشربة سببها الأفراح التى تهتاج به
فيه، حتى تفسد عليه عقله. ومن أجل ذلك لا يكاد يجد منهمكا في هذا الشراب
لا يصبر عنه؛ لما وجد من لذة الفرح في عاجل الدنيا.
الكذب
وأما قوله:) ونهى عن الكذب(.فإن القول بالكذب هو افتراء على الله؛ ولذلك قيل: الكذب مجانب الإيمان؛لأنه إذا قال )كان كذا( ولم يكن ذلك الشيء؛ فقد زعم أن الله تعالى قد كون ذلك الشيء؛ لأنه لا كائن إلا بمكون، فإذا قال )كان( ولم يكونه الله صار كذبا على الله. وإذا قال لشيء وقد كان )إنه لم يكن( فقد نفى ما كونه الله، فقال الله تعالى: (إِنّما يَفتَرى الكَذِبَ الذّينَ لاَ يُؤمِنونَ بِآَياتِ الله).
ولو أبيح الكذب لم تستقر القلوب على شيء عند وجود الأخبار، فكان القائل يقول والقلب لا يطمئن لقوله؛ لأنه لا يدرى أصدق أم كذب. فلما حرم الكذب بان الصدق، واستقرت القلوب على أخبار القائلين. ومن ظهر كذبه افتضح، وانتهك ستره، وهان، وذل، فوقع الحذر من الكذب، فاطمأنت القلوب لأخبار المخبرين.
الغيبة والاستماع إليهاوأما قوله:) ونهى عن الغيبة، وعن الاستماع إلى الغيبة(.
فالغيبة تناول لعرض المؤمن، وله ذمة وحرمة عظيمة بما فيه من التوحيد؛ فصار حرام الدم، حرام المال، حرام العرض؛ لأن المال قوام الدين والعرض.
والموحد في ستر التوحيد، كل شيء من شأنه دينا وخلقه؛ فإذا ذكرته بشيء من السوء، فإنما يخرج شيئا مستورا بستر الله تعالى، فقد هتك الله تعالى.
والمستمع له شريك؛ فلولا المستمع لم يصر قوله غيبة؛ لأنه نطق بها عنده، وبين يديه يهتك ستره، وإنما يصير هتكا بالقول لأنه أظهر عنده. فاعتبر بملك من ملوك الدنيا أسدل سترا على بابه، فعمد رجل إلى ذلك الستر فهتكه، ماذا يحل للجرأة التى اجترأ؟ والمستمع غير السامع؛ لأنه قد يسمع وهو لا يرضى به، فإذا استمع فقد شركه؛ لأنه أعمل سمعه في ذلك ورضى به.
النميمة والاستماع إليهاوأما قوله:)ونهى عن النميمة والاستماع إليها(.
فالنميمة أن ينم على أخيه المسلم إلى مسلم آخر ما يوحشه به عنده. فهذا أفسد ما أصلح الله، وعمد إلى الوصلة التى وصلهم الله بها فحل عقدها، حتى تولدت عداوة وبغضة بينهم. فهذا فعل يؤدى إلى فساد عظيم، ويفضى إلى الشرور كلها. ولذلك قال عليه السلام: )لا يدخل الجنة قتات(. لأنه جندى الشيطان وجاسوسه يحرش ويغرى حتى يفرق ما جمعه.
النظرة الثانيةوأما قوله:) ونهى عن النظرة الثانية(.
فمن أجل أن العين مفتوحة على خلقتها، وبصره واقع على الأشياء بلا قصد من القلب، فذاك باستعمال العين، فتلك النظرة هى لك؛ لأن تلك عن غير إرادة لحلال أو حرام، وإنما هى لمحات الخلقة لإحساس القلب بالأشياء. فإذا وصلت اللمحة إلى القلب والنفس هجست الهواجس من النفس إلى القلب بإرادة، فخرجت الإرادة إلى البصر، فرمى ببصره إلى ذلك الشيء مدركا له، فإن كان ذلك الشيء محرما عليه وجب عليه أن يكف بصره عن الرمى حين هجس الهاجس من نفسه وتحركت الإرادة، فإن لم يكف عن النظرة الثانية فهى عليه، وهو آثم بذلك، والنظرة الأولى موضوعة عنه؛ لأنها عن غير إرادة لشيء معلوم.
اليمين الكاذبةوأما قوله:) ونهى عن اليمين الكاذبة(. قال:)ومن حلف بيمين صبر كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان(.
وقد
وصفنا بدءاً أن الكذب هو زعم أنه لم يكن وقد كونه الله تعالى، فهو قائل
على الله تعالى زورا. وإذا حلف على ذلك فهو يريد أن يؤكد ذلك النفى باسمه،
فهذه جرأة على الجرأة. والصبر هو أن يثبت على هذه الجرأة، ولا يهاب، ولا
ينفر قلبه من أن يؤكد شيئاً لم يكونه الله، وهو يريد أن يثبته باسمه
الأعظم، يريد به اقتطاع شيء من حطام الدنيا مما قسم لأخيه وجعل له رزقا.
فلذلك عظم الخطب فيه، وحل الغضب به. وروى عن الله تعالى أنه قال: (يا موسى
لا تحلف بى كاذباً؛ فمن حلف على كاذباً ألقيت عليه ثقال الفيلوت. قال:
)يارب: وما الفيلوت؟ قال: السكر من غير شراب(. فمن سكر عن الله فماذا يبقى
معه؟ وكيف يكون حال مقدمه على الله وهو سكران عن الله فقد أسكره غضبه عليه؟
السحر
وأما قوله:) ونهى عن السحر(.فالسحر هو أمر قد خالطه الشرك، وذلك أن إبليس سأل ربه سلطانا فأعطى، فأخذ على ذلك عهدا من ربه ليكون بذلك مسلطا على أشياء، فاتخذ مجلساً عند هاروت وماروت، وهيأ جنوده هناك ليعلم السحر؛ فكل من أتاه من الآدميين، فإنما يقصد في الظاهر هاروت وماروت، فإذا أتاه وأشرك أعطاه من ذلك العهد وقيض له عونا شياطينه لا يفارقه، يكون معه حيثما ذهب ينفث ويعقد باسم المسحور، فجعل السحر بذلك المقصود له في ذلك؛ وذلك قوله عزوجل: (وَمِن شَرِ النَفَاثاتِ في العُقَد).
وإنما ينفث الساحر شيطانه الذى هو فيه، والشيطان خلق من نار، فإذا أشرك وخرج منه التوحيد لزم الشيطان قلبه، فإذا نفث في العقد هيج جميع ما في جسد هذا المسحور، وأخذ أعضاءه بتلك العقد.
وهذا ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة. وإنما هى داران: دنيا، وآخرة.. مجتاز متزود منها بلغة إلى دار الله في داره؛ فقد نزع أمله، وشخص قلبه إليها، فمنع مناه من هذه إلا ما هيأه الله من رزق، وهو مقتض عليه الشكر، وأعطى في الآخرة مناه وشهواته.
كذلك هذا الساحر لما أشرك، أعطى من الدنيا ما اشتهت نفسه من طريق السحر، على قدر ما أعطى إبليس من السلطان في إدراك الأشياء وتعجلها وتكونها له على مناه؛ استدراجا ومكرا لينتقم منه ومن أتباعه من الشياطين والآدميين يوم القيامة.
وهذا بلوى من الله لعباده؛ فوصف الله تعالى ذلك في تنزيله فقال: ( وَما كَفَرَ سُليمانَ وَلَكِن الشَيَاطينَ كَفَرُوا). وذلك أنه لما مات سليمان عليه السلام، كفرت طائفة من بنى إسرائيل، فقالوا: ما أطاق سليمان هذا الملك إلا بالسحر الذى وجدنا تحت كرسيه، وقد كان الشيطان كتب أبواباً من السحر في الوقت الذى حل به ما حل، قال الله تعالى: (وَأَلقَينا عَلَى كُرسِيهِ جَسَداً ثُمّ أَنابَ)، وهو ذلك الشيطان؛ فبرأه الله تعالى من ذلك القول الذى قالت اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (وَاتَبَعُوا ما تَتلُوا الشَيَاطِينُ عَلَى مُلكِ سُلِيمان)، أى اتبعت اليهود ما كتبه الشياطين في ذلك الوقت من السحر فأكفروه، قال: (وَمَا كَفَرَ سُلِيمانُ وَلَكِنَّ الشَياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِمونَ النَّاسَ السِحرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمارُوت). والشياطين يعلمون الناس السحر، والملكان هاروت وماروت يعلمان الأخذة، وهو ما يفرقان بين المرء وزوجه.ثم قال: (وَما يُعلِمانِ مِن أَحَدِ حَتى يَقُولاَ إِنّما نَحنُ فِتنَةٌ فَلاَ تَكفُر فَيَتَعَلَمُونَ مِنهُما ما يُفَرِقُونَ بِهِ بَينَ المَرءِ وَزَوجِهِ).ثم قال: ( وَلَقَد عَلِموا لَمَن اِشتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الأخِرَةِ مِن خَلاق).لأنه اشترى الشرك؛ فلم يبق له في الآخرة نصيب.
فأعطى هذا شهوته ومناه من الدنيا، التى آثرها، واختارها،وتعجلها. وأعطى الموحد الصابر على توحيده شهوته ومناه من الآخرة التى آثرها.. قال الله عزوجل: (إِنّى جَزَيتُهُمُ اليَومَ بِمَا صَبَرُوا أَنّهُم هُمُ الفَائِزونَ)؛ صبروا على التوحيد ففازوا بالجنة. وخسئ الآخرون حين قال لهم (اخسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِمونَ). ثم ذكر الموحدين فقال: (إِنّهُ كَانَ فَريقٌ مِن عِبادى يَقُولُونَ رََبنَا آَمَنّا)، وذكر الآية.
وقد شرحنا صفة السحر وما يعلم الملكان في كتاب "
الأولياء " وبدء السحر من أين جاء؟ وكيف كان سببه؟ وروى عن مجاهد أو غيره:
أنه كان بين هاروت وماروت وبين الآدميين شيطان يعلم في سنة مسألة تعزيزا
له وتعظيما ليكون طريا على قلوب الغواة المفترين.
الطيرة
وأما قوله:) ونهى عن الطيرة(.فالطيرة هى الفرار من أقدار الله وأقضيته، وهى لاحقة به حيثما فر. فالفار ممقوت.. ألا ترى إلى قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم(.
قال: مقتهم بفرارهم، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا بكلمة عن آخرهم، ثم تفضل عليهم بأن أحياهم لآجالهم الباقية.
والطيرة: أن يسمع صوت طائر في أول النهارن أوف ي ابتداء عمل، أو استقبلك رجل ناقص الخلق أو أعمى أو مشوه، فتتشاءم وتترك ذلك الوجه. فهذا قد ساء ظنه بربه من غير أصل معقول، ثم يفر من قدرة؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
فهذا المتطير قد ساء ظنه بربه، ففر من ذلك الأمر وتركه، فالضرر حال به؛ لأنه فار من ربه مسىء الظن به؛ فأدركه بذلك الذي ظن وعاجله كي يعلم أن ربه غير معجز، قال الله تعالى فيما يحكي: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرنا بِكُم لَئِن لَم تَنتَهُوا لَنَرجُمَنَّكُم وَلَيَمَسَّنَّكُم مِنَّا عَذَابٌ أَليمٌ). قالت الرسل بل: (طَائِرُكُم مَعَكُم)، أي أن الذي طار من عند الله من أقداره وأقضيته هو معكم لازم لكم. قال الله تعالى: (وَكُلّ إِنسانٍ أَلزَمناهُ طَائِرَهُ في عُنُقهِ) وقال في قصة صالح: (قَالوا: اَطَيَرنا بِكَ وَبِمَن مَعَكَ، قال: طاَئِرَكُم عِندَ اللهِ، بَل أَنتُم قَومٌ تُفتَنُونَ).
الكهانةوأما قوله: )ونهى عن إتيان الكُهان(.
فالكهنة تلاميذ الشياطين يترقون إلى الجو الأعلى، يسترقون السمع من الملكوت، إذا حدثت الملائكة بشيء قد أذن الله فيه، وهو كائن في الأرض عن قريب، فيفشون الخبر في السماء إلى وقت الظهور على الأرض.
فهؤلاء الكهان قد ألفوا الشياطين ووزروهم على دعوى علم الغيب، وقد خزن الله تعالى غيبه من العباد، فقال تعاى: (وَلِلَهِ غَيبُ السَمَواتِ وَالأَرضِ) ولا يعلم الغيب إلا الله، وإذا أظهره في السموات على أفواه الملائكة، بارزته الشياطين فاسترقت ، ومرت به إلى الأرض، فأدته إلى تلامذتها من الآدميين ليخبر به ناسا، يريد بذلك إبطال ما تفرد الله به من علم الغيب وخزنه عن الخلق إثباتا للوحي وتأكيدا لشأنه.
فالكاهن يرجم بالغيب عن في شيطان، فهو رسوله، ويزيد فيه من الكذب غير قليل، يروج ذلك كله بالكلمة الواحدة المسترقة التي تظهر في وقتها في الأرض. ومن أجل ذلك جعل الكواكب حرسا للسماء، وجعلها رجوما للشياطين، فقال: (إِنّا زَيَنَّا السَماءَ الدُنيا بِزِينَةٍ الكَواكِب)، إلى قوله: (ثاقِب)؛ فالخطفة هي الإستراق، والشهاب رجم الكواكب بنوره حتى يحرقه إن أصابه. وقوله: (وأَنَّا لَمَسنا السَماءَ فَوَجَدناها مُلِئَت حَرَساً شَديداً وَشُهَباً) قال ابن عباس: تحرس بلا حول ولا قوة إلا بالله.. حدثنا صالح بن محمد، حدثنا سليمان بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنه.
؟؟
حضور اللعب أو الباطل
وأما قوله: )نهَى عن حُضور اللعب وحضور الباطل(.فإن الله تعالى لم يخلقه عبثاس، ولا تركه سدى، وإنما خلقه ليعبده. فإذا كان معطلا، فلا له ولا عليه، وهو غدا متحسر نادم متلهف على ما فاته.
فإذا عمل لله في أمر دنياه وآخرته، فهو له ولا عليه، وثوابه قائم دائم.
وإذا حضره غيره شركه في ذلك اللعب والباطل، لأنه إنما يلعب من أجل أن يريه بذلك شيئا ولولا الخلقف ما رأى أحد.
؟
إجابة الفاسقين ومجالستهم ومحادثتهم
وأما قوله: )ونَهَى عن إجابة طعامِ الفاسقين، ومجالستهم ومحادثتهم(.فالفاسق من ترك إسم الله عامدا لتركه. والفسق: الخروج، يقال في اللغة: فسقت النواة من قشرتها. وكذلك قال في شأن إبليس: (كَانَ مِنِ الجِنِّ فَفَسَقَ عَن أَمرِ رَبِّه).
فالخروج على وجهين: فمنهم من فسق عن أمر به مردا أو
تكبرا أو جحودا، ومنهم من فسقعن أمره فتنى وتمردا على ربه. فهذا فاسق وليس
بكافر؛ فالأول مجترىء على الله، وهذا مجترىء بقوة التوحيد. فالرجاء العظيم
الذي في حشو توحيده، والمحبة، والأثرة التي احتسشت النفس بها من ربه،
فتجرأت.
والمجيب لدعوة الفاسق عون له على ما هو فيه من الشر والفتنة
والمعصية؛ وفي مجالستهم توقير لهم، وفي محادثتهم أنس بهم؛ فهذا كله عون،
وقال الله تعالى: (وَلا تَعاوَنوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوانِ).
؟مخالطة الدَّعيّ
وأما
قوله: )ونهى عن مجالسة الدعىِّ، ومؤاكلته، ومشاربته، ومحادثته،وهو الذي
يدعى إلى غير أبيه، والمنتمى إلى غير مواليه، ملعون على لسان نبيه عليه
السلام(.
وذلك أنه كفور، والكفور ممقوت؛ فهذا الدعي سلاسلة أبيه وفلذة
كبده، وعطف قلبه؛ ولده، ورباه، وتبناه، وحاطه حياطة الآباء، فذهب وتبرأ من
أبيه، وادعى أنه لغيره، فهذا قد كفر النعمة وانتسب إلى الفجور؛ فهذا
مستوجب اللعنة.
وكذلك عبد أعتق، وولى نعمته أعتقه، فذهب ووالى غيره؛ فهو كفور لنعمة الله.
وأما
الدعى، وهو ولد الزنا، فذاك جسد ركب في بطنه أمه على حرام، فاختلط
الماءان، وامتشجا على معصية الله. فهو وإن لم يكن له ذنب فيما عمل أبواه،
فأصل الخلقة مبنية على أمر عظيم لم يجز فيه طهارة ولا عفة.
ولذلك قيل لود الزنا شر الثلاثة، ولا يؤمن في الصلاة ولد زنية.
ومن
العلماء من قال: لا يجوز في عتق الرقبة ولد الزنا. فإنما شددوا في هذا
لأنهم نظروا إلى أصل البنية، وهو بمنزلة بذر نبت في أرض غصب، فالبذر وإن
كان لصاحبه ملكا، فإنما كان الزرع في أرض لا ملك له فيها، فصار ذلك الزرع
حراما.. فكذلك هذا الولد بذر - قد بذره في محترث لا ملك له فيها، فما زرع
من ذلك البذر فخلقه الله تعالى كان ذلك الخلق حراما، والحرام مرفوض.
الغناء
وأما قوله: )نهى عن الغناء، وعن الإستماع إلى الغناء(.فالغناء مهيج للنفوس الأمارة بالسوء، الداعية إلى ركون الدنيا وشهواتها، الملهية عن ذكر الله، وعن ذكر ما أعد. فهذه الفنوس أسود رابضة في عرينها، فإذا هيجت الأسود، فعارضها في ذلك الوقت معارض، كان حتفه فيه. ولذلك روى عن فضيل بن عياض رحمه الله أنه قال: الغنا رقية الزنا.
حدثنا الجارود، حدثنا الفضل بن موسى، عن داود بن عبد الرحمن المكي، عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة فجىء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتسودق له الرمكة، وغن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس ليثب فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة..اخصوهم. قال عمر بن عبد العزيز: هذا مثلة لا تحل.. فخلى سبيلهم.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالغناء هو صوت فيه كلام ذو معان، فالصوت مهيج للقلوب خاصة، وما في الصوت من الكلام خاصة مهيج للنفوس، وما في الكلام من المعاني مهيج للهوى.
وإن كانت هذه المعاني مما تدل على الله، تنعم القلب، وأقبل إلى الله، وانقادت النفس تابعة له، ومال الهوى إليها ومعها.
وإن كانت هذه المعاني مما تدل على هنات النفس، وشأن الدنيا وبالها وأحوالها، تنعمت النفس ولذت، وانقاد القلب أسيرا في يدها، ووجد الهوى والعدو سبيلا إلى صرعته. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )تغنوا بالقرآن( وقال: )ليس منا من لم يتغن بالقرآن(. وقد ذهب بعض العلماء في تأويل هذا الحديث إلى " الغنى " فقال: يستغنى به عما سواه..
وليس هذا معناه، ولكن
تأويله من حسن الهبوب به والترديد والترجيع.. ألا ترى انه قال في الحديث:
)ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن( قال أبو عبد الله رحمه
الله: فالترنم هو التلون بالألوان، ومنه قيل للعندليب إذا صوت إنه ليترنم.
وإنما قيل غناء لأنه إذا صوت به فإذا ارخى في حلقه صوته عن به، أي دخل
خيشومه، فغض من صوته ثم أرسله فجهر به حتى يكون ذا ألوان؛ فهو مأخوذ من
الغنة لأنه اغتن بالحروف والصوت ثم أبرزه ليتلون. وكذلك خلق ابن آدم، إنما
يعظم الأمر عنده بالتلون ليتجدد، لأن كل لون يرد فهو جديد طرى. وإذا كان
لون واحد عتق عند النفس وخلق فيبرمه. فتلون الأشياء من أجل النفس؛ لأنها
ملولة سريعة الملل؛ لأنها ضعيفة خفيفة شهوانية طياشة، لا تكاد تصاير
الأشياء سعة وغناء، كفعل القلب؛ فإن القلب ذو وقار وسكينة وغناء وطمأنينة،
وإنما تلونت الأشياء من أجل أن يتهنى بها.
حدثنا سليمان بن أبي هلال
الذهبي، حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي أخو وهيب، عن ابن أبي مليكة، عن
عبد الله بن السائب، عن أبي لبابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: )ليس منّا من لم يتغن بالقرآن(. يا أبا محمد، أريت من كان منا ليس
بحسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع. فالغناء، والشعر، والحداء، والرجز، جرت
الأخبار باجتناب ذلك والزجر عنه، فنظرنا كيف هذه الأخبارن فوجدنا هذه
الأشياء إنما هي أصوات فيها كلام ومعان؛ فما كان من ذلك لله بالقرآ،
وبالكلام المرضي، فهو محمود.
وماكان للنفس والدنيا فهو مذموم. فقد أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر حيث هجا حسان بن ثابت المشركين،
وكذلك كعب بن مالك، وابن رواحة، وقال: )لكأنما تنضحونهم بالنبل(.
حدثنا
علي بن حجر، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة رضي الله
عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع منبرا لحسان بن ثابت في
المسجد ينشد عليه الشعر ويقول: )إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن
الله وعن رسوله(. وحدثنا علي حدثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن هشام بن
عروة، عن أبيه، عن عائشةن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
ثم
روى عنه في حديث آخر: )لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء
شعرا( فهذا شعر وتشبيب ومهاجاة المسلمين. وقد بين الله تعالى في كتابه
حالهم واستثنى منهم المحمود، فقال: (وَالشُعَرَاءُ يَتِّبِعُهُمُ الغاوون.
أَلَم تَرَ أَنَّهُم في كُلِ وادٍ يَهيمُون. وَأَنَّهُم يَقُولونَ مَالا
يَفعَلون)، ثم استثنى منهم فبرأهم من الذم فقال: (إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنَوا وَعَمِلوا الصالِحات وَذَكَرُوا اللهَ كَثَيراً وَانتَصَروا مِن
بَعدِ ما ظُلِمُوا). فاستثنى منهم من تكلم بالشعر، وذكر الله كثيرا، وأراد
بذلك الإنتصار لله، ولرسوله، ولدين الله، وللمؤمنين. فذلك عمل صالح، وعدة
من عدد الحرب، وقوام الدين.
حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن عياش،
حدثنا عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن نافع، عن عبد الله
بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )الشعر بمنزلة الكلام:
حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام(.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فمن ابتغى به وجه اله، والدار الآخرة، صار في الميزان مع الحسنات. وما
ابتغى به فرح الدنيا، وسرورها، وبهجتها، صار هباء منثورا.
وكذلك الحداء
والرجز ما ابتغى به وجه الله، والدار الآخرة، والمعونة على الدين، فهو في
ميزان العمل. وما ابتغى به أفراح الناس، فهذا مذموم.ز ألا ترى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: )يا ابن الأكوع، هات لنا من
هناتك(، - يعني الرجز - يريد التخفيف على المشاة حوله..
وقال ابن رواحة يوم دخل مكة بين يدي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
خَلَوا بَنى الكُفارِ عَن سَبيلِهِ ... خَلَوا فَكُلُ الحَقِ في رَسولِهِ
يارَب إِنّى مُؤمِنٌ بِقَبيلِهِ ... أَعرِفُ الحَقَّ فى قُبولِهِ
ضَرباً يُزيلُ الهامَ عَ، مَقيلِهِ ... وَيَذهَلُ الخَليلُ عَن خَليلِهِ
فقال
عمر رضي الله عنه: يا ابن رواحة، في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه يا عمر " لأنه رأى
كلامه عدة وقوة للمؤمنين، ونكاية للعدو.
فإذا تغنى بالقرآن، فهو ترجيع؛
لأن في القرآن بشرى ولطائف، فإذا تغنى به، طرب القلب، فمر بالنفس، فمال
بها إلى ناحيته. والنفس تسرع في الإجابة في الطرب والبهجة ما لا تسرع في
الوعيد. وإنما بشروا ليطربوا لا ليذلوا وينكسروا، فكفى بالوعيد كاسرا
للنفس وقامعا لها. وفي الوعد طعم وذوق، وفي الطرب تورد وزهرة وتنزع. وسمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة أبي موسى رضي الله عنه، فقال: )لقد
أوتىَ هذا مِزماراً من مزامير آل داود(، فقال أبو موسى: يا رسول الله، لو
علمتُ أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا.
وكان داود عليه السلام إذا قرأ
الزبور لون في صوته سبعين لونا، فيقرؤه بألحان يطرب بها المحموم، ويقف
الطير عن طيرانه، ولم تبق دابة في بر ولا بحر إلا استمعت لقراءته.
تعليم الأطفال الغناء وثمن المغنية وأجرتها
وأما قوله: )ونَهى عَن تعليم الصبيان الغناء، وعن تعليم الفتيات، وعن ثمن المغنية، وعن أجر المغنية(.فهذا من أجل ما قلنا بدءا إن هذا لهو ولعب.. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشتَري لَهوَ الحَديثِ لِيُضِلَّ عَ، سَبِيلِ اللَهِ).
فإذا كان الغناء لهوا يضل عن سبيل الله، فتعليم الصبيان فساد لهم، وكذلك المغنية. وإنما تُعلم ليرتفع ثمنها عند أهل الريب والفساد؛ لأنهم يبغون بها نصيب النفس.
حدثنا على بن حجر السعدي، حدثنا المشمعل بن ملحان من ولد عدى بن حاتم الطائى، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زهر، عن زهر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لاَ يَحِلُّ تَعليمُ المُغَنِياتِ، وَلاَ بيعِهِنَّ، وأَمانِهِنَّ حَرَامٌ. وَفِي مِثلِهِ نزلت: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشتَري لَهوَ الحَديثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَهِ). حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا فرج بن فضالة، عن ابن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا.
حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا قيس بن جعفر الدارمي، حدثني عبيد الله بن رؤيةب بن العجاج، عن أبيه، عن جده، قال: قال لي أبو هريرة رضي الله عنه: يا عجاج شبب بالعراض والدمث، وإياك وأعراض المسلمين(.
بيع العلم وثمنهوأما قوله: )وَنهَى عن بَيع العلم وثمنه(.
فالعلم هو دين الله ابتعث به أنبياءه؛ فلا يباع بعرض الدنيا. وقد أخذ الله على أهل الكتاب ميثاقهم أن يبينوه ولا يكتمونه، فباعوه؛ فذمهم الله قال: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاشتَرَوا بِهِ ثَمَناً قَلَيلاً) يعني الدنيا (فَبِسَ ما يَشتَرُونَ).
وقال في التوراة: )علّم مجانا كما عُلمت مجانا(.
وقال لنبيه عليه السلام: (قُل ما أسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرِ، وَمَا أَنا مِنَ المُتَكَلِفينَ).
ولم يطلق لأحد أن يبلغ عن الله ما ائتمنه عليه من علمه ووحيه يعرض الدنيا. وكذلك العلماء نعدهم خلفاء الرسل، وهم مبلغون عن الله، فليس لأحد منهم أن يأخذ عليه نوالا من حطام الدنيا. فقد كان العلماء يتوقون في حالة البيع والشراء أن يحابوا أو يزادوا لمكانهم من العلم؛ حتى روى لنا عن الحسن البصري رحمه الله أنه قيل له: هذا لك بكذا. فقال: إنما جئت أشتري بدرهمي لا بديني. فهذا إذا قبل المحاباة طمعا فيه من أجل دينه، فأما إذا عرف له حقه من غير طمع، فلا بأس به. ولم يزل أهل الدين يعرف لهم، ويؤثرون على غيرهم من الناس. وكان عليه السلام يؤثر، ويفضل، ويعرف له على نبوته ومكانه من الله تعالى.
الشعر المهجوروأما قوله: )ونهى عن الشعر، وعن مجالسة الشاعر(.
فقد
وصفنا شأنه بدءا أن هذا هو الشعر المهجور. فإن كان وقع النهي عن ثمنه على
الصحيفة فالمعنى على ما وصفنا من أنه كلام مهجور. وأما إذا كان كلاما
محمودا، فالبيع وثمنه غير داخل في ذلك النهى.. ألا ترى أنه ما نهى عبد
الله بن رواحةن وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وهم شعراء رسول الله صلى
الله عليه وسلم يذبون عنه ويهجون الكفار ويعيرونهم وينكون فيهم، كما وصفهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: )لَكَأَنَّما تَنضَحُونَهُم
بِالنَبل(.
وإنما معناه في النهي عندنا عن مجالسة الشعراء عمن كان بهذه
الصفة التي ذكر الله تعالى: (وَالشُعَراءُ يَتَّبِعهُمُ الغَاوون أَلَم
تَر أَنَّهُم في كُلِ وَادٍ يَهيمونَ وَأَنَّهُم يَقولونَ مَالاَ
يَفعَلُونَ) فبين أنهم في أودية الضلالة يهيمون طعنا وتعييرا ومثالب
للأموات ورميا بالفرى لفروج المحصينات. فمن جالسه فهو تابعه، وهو فار. ثم
استنثى المحمود منهم، فقال: (إلا الَّذين آَمَنَوا وَعَمِلوا الصالِحات
وَذَكَرُوا الله كَثيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعدِ ما ظُلِمُوا). وما كان من
الشعر بعد ذلك حكمة وموعظة، فهو خارج عن هذا المنهى، وقد روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: )إنَّ من الشعر لحكمة( فقد نجد كثيرا من
الحكم قد نقلتها الأئمة بالقوافي في الأحاديث(.
لبس الذهب للرجال
وأما قوله: )ونهى عن لبس الذهب للرجال(.فالذهب أغلى شيء في الدنيا. والجبابرة الفراعنة إنما قصدت من الدنيا لاستعمال أغلى شيء منها.. ألا ترى إلى قول فرعون: (فَلَولاَ أُلقِىَ عَلَيهِ أَسوِرَةٌ مِن ذَهَب)، يعرف قدر موسى من طريق الذهب؛ فحلية الذهب هو زى الجبابرة.
قال: وروى في الخبر: أن الله تعالى قال: قل لبني إسرائيل: لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تركبوا مراكب أعدائي؛ فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.
فهؤلاء الجبابرة عمدوا إلى أعالي النعم، وغلى أعزه عند الخلق؛ فتناولوه من الدنيا، يريدون بذلك الخيلاء والفخر على عباد الله تكبرا وتعظما وتيها، وهو الذهب والحرير وركوب النمور؛ لأن النمر عزيز أخذه لا يكاد يتمكن منه.
فأما الذهب والحرير، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ورقى المنبر، فقال: )هذان محرمان على ذكور أمتي، حل لإناثهم(. فسبب ذلك التحريم وعلته أن الذهب والحرير للرجال خيلاء وتجبر وتعظم؛ فحرم ذلك عليهم من أجل هذا الضرر العظيم، وأحل للإناث لأنها زينة لهن وعون على العفة للأزواج. فهن إن افتخرن وتعظمن واختلن، فهن إناث ليس منهن فراعنة ولا جبابرة.
لبس القسىوأما قوله: " ونهى عن لبس القسى " .
فهو قريب مما وصفنا، القسى ثياب حمر كالأرجوانن قال: وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: طالحمرة زينة الشيطان " قال: وروى في الخبر في قوله عز وجل: (فَخَرَجَ عَلَى قَومِ فِى زِينَتهِ) قال: في ثياب حمر - يعني به قارون - .
حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا أبو ثميلة يحيى بن واضح، حدثنا عبيد الله بن سليمان، عن الضحاك، قال: سمعت نزالا عن عبد الله أنه كره القسى، ويرويه عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
؟؟؟؟؟؟
لبس الحرير
وأما قوله: )ونهى عن لبس الحرير والقز، وعن لبس الديباج، وعن لبس الخز، وعن الركوب على جلود النمور(.فجنس منه الصوف، وجنس منه الحرير، وجنس منه الجلود المدبوغة، وجنس منه السداب. فإنما صارت كلها مضمومة في نهى واحد من أجل أنها زي الفراعنة والجبابرة. ولو كانت من أجل أجناسها لرد كل شيء إلى جنسه، ثم أطلق لهم الخز من أجل أنه شيء دونها، وقد يكون منه الخسيس الذي يوازى القطن والكتان وأصله صوف، فهو وإن كان لينا فإنه كساء، وليس في الأكسية خيرية، فهل سمعت الله ذكر في الجنة خزا كما ذكر الحرير والسندس والإستبراق. فهذا كله إبريسم. فأما الخز فهو شعر ليست من لباس الجبابرة والفراعنة، بل يأنفون من ذلك، وإنما هو للقواد والدهاقين والبطاريق.. ألاترى أنه أبيح للرجال التحلي بالفضة مثل الخواتيم ونحوه، ثم نهى عن الشرب في آنية الفضة وسوى بالذهب؛ لأن هذا تشبه بأهل الكفر.
فإنما زجر عن هذه الأشياء كي لا يتشبهوا بأهل الكفر بالله،
وليضاهوا أولياء الله فيما وعدهم في الآجل، فمن فعل ذلك قيل له يوم
القيامة حين يعرض على ربه: (أَذهَبتُم طَيبَاتِكُم في حَياتِكُمُ
الدُّنيَا واستَمتَعتُم بِها فَاليَومَ تُجزَونَ عَذَاب الهُونِ).
؟
تفليج الأسنان والتنمص والخصاء
وأما قوله: )وَنَهَى عن تفليج الأسنان، وعن التنمص، وعن الخِصاء).فهذا كله مثلة، والمثلة أن تفعل فعلا تتشبه بالخالق وتتمثل؛ لأن من شأنه أن يفعل ما لم يكن فيخلق.
فتفليج الأسنان أن يعالجه بالحديد، حتى يميز بين الأسنان، فيجعل بينهن خللا. فقد بدلت خلق الله، وتمثلت بهف ي أن تغير خلقه، وترتاد أن تكون على ما تريد.
والتنمص، وهو نتف الشعر من الجبين، ففيه مؤونة عظيمة في نتفه، ولو كان حلقا لكان ايسر، ولكنه نتف، وألم وجيع، وتعذيب للنفس.
وكذلك الخصاء، ذكره الله تعالى، فانت تريد أن تجعله في خلق الإناث، وهو قوله: (لاَ تَبديلَ لِخَلقِ الله) قال:هوالإخصاء.
الوشموأما قوله: )ونهى عن الوشم " .
فهو وخز بالإبر حتى يصير كتابة على اليد أو صورة شيء ممن يهوى، ثم ينضحه بالنبل، ويذر عليه ليبقى أثره هناك كالخلقة.
فهذا كله من فعل أهل الجاهلية أشرا وبطرا؛ اتباعا للهوى وللشيطان، وقد وعد الله في تنزيله فقال: (إِلاَّ مَن اتَّبَعَكَ مِن الغَاوينَ وَإِنَّ جَهَنمَ لَمَوعِدُهُم أجمعين) بسلطان عليهم جار في الغواة وهم تبعه، واستثنى الله عباده منهم فقال: (إنَّ عبادى لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطان). فلا تجد مؤمنا يتبع الشيطان، إنماهو تابع لهواه.
فهذه الأشياء التي زجر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي من تمرد أهل الكفر وبطرهم.
وأما ما كان من مثل حلق الرأس في النسك، أو للأذى، أو للحر في الصيف يريد أن يخفف عن نفسه مؤونة الشعر، ومثل الختان، والحجامة؛ فهذا من أجل منفعة الدين أوالدنيا؛ فهو غير داخل في ذلك.
قال: وسئلت عائشة رضي الله عنها: عن حف المرأة لزوجها جبينها؟ ونتف الشعر حتى تحفيها، فقالت: لا بأس به، إنما هي شيء تزين المرأة به نفسها لزوجها.
قال: وسئلت من التداوي من الكلفب الوجه؟ فقالت: كانت إحدانا تطلى وجهها بالورس ونحوه للكلف.
خروج المرأة من بيت زوجها بدون إذنهوأما قوله: )ونَهى أن تخرج المرأة من بيت زوجها إلا بإذنه. فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع(.
فإن المرأة خلقت مسكنا للرجال، وكذا أخبر في تنزيله: (وَجَعَلَ مِنها زَوجَهَا لِيسكُنَ إليها). وقالك (خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكٌم أَزواجا لِتَسكُنُوا إليها).
فأصل تزويجها للعفة والسكون؛ فإن النفس تضطرب للشهوة الهائجة فتهبط في الهلكة والدنس؛ فجعلت هذه ليسكن عن الإضطراب ويعف عن الدنس. فإذا عقد النكاح، وضمن المهر؛ فالمرأة في وثاقه، ومهرها لازم عليه، ونفقتها جارية على الزوج، ومن حق الزوج عليها أن تكون مستعدة لحاجته إليها. وهي لا تدري متى يكون وقت الحاجة، ومتى تهيج الشهوة فعرضت له الحاجة إليها، فإذا فقدها عند الحاجة خيف عليه أن يجد الشيطان سبيلا إلى إهلاكه، فيقع في الزنا. فهذه عاصية قد استوجبت اللعنة في الملكوت. وربما خرجت فعرضت نفسها للرجال، وفي الزوج غيرة، فهو يقاسي تلك الغيرة والمرأة في الخيانة له أن ترى شخصها غيره، فيلتذ بمحاسنها فوق الثياب، وهي في وثاقه وملكه، ونفقتها جارية عليه، وقد بذل مهرها وألزم نفسه ذلك.
فإذا خرجت بإذن الزوج، فقد سقطت هذه المؤن عنها، وليس عليها من قبل الزوج تبعة في وقت الفقد عند الحاجة.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه خرج يوما فرجع من الطريق كالمستعجل، فرؤى ذلك في وجهه، في البيت نساء فخرجن، فأتى أهله، ثم خرج ورأسه يقطر، فقال: )إنه ألقى في نفسي شهوة النساء، فقمت لذلك، ورجعت إليكم، كان ذلك فافعلوا هكذا من أماثل أعمالكم(. وقال في حديث آخر: )إذا رأى أحدكم امرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته، فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في قلبه(.
ولذلك كان يغزو وبرفقته إحدى نسائه مخافة الحاجة.
تطيب المرأة للمسجدوأما قوله: )نهى ان تتطيب المرأة للمسجد(.
فإن
فعلت لم تقبل صلاتها حتى تغتسل اغتسال الجنابة. فهذا الطيب داع إلى
الفتنة، وكان النساء يخرجن إلى المسجد في ذلك الزمان لصلاة المكتوبة،
فنهين عن الطيب؛ لئلا يوجد ريحها فتكون فتنى، وأمرت بالإغتسال عن فعلت ذلك
كالإغتسال من الجنابة بالأشنان والسدر كي يذهب عبق العطر.
تزين المرأة لغير زوجها
وأما قوله: )ونهى أن تتزين المرأة لغير زوجها(.فإنف علت كان على الله ان يحرقها بالنار؛ فالتزين لغير الزوج تبرج وتطلع وتشرف للرجال، وقال الله تعالى: (وَلاَ تَبَرَجنَ تَبَرُّجَ الجاهِلية). وقال: (وَلا يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِنَّ ما يُخفينَ مِنَ زِنَتِهِنَّ)، وهو صوت الخلخال، فإذا فعلت ذلك وتزينت لغير زوجها فهذا فساد عظيم في قلبها، وخيانة للزوج.
وإن لم تكن ذات زوج فالفتنة فيها باعثة إلى ما هو أعظم من ذلك، كما قال ذلك الرجل: " طلقها " قال: لا اصبر عنها إن فعلت ذلك فتراني احبهان قال: فأمسكها إن شئت فاستمتع بها " حدثنا بذلك عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، عن هارون بن زياد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. حدثنا عبد الكريم، عن علي بن عبد الله، حدثنا جعفر بن حبان، عن معاوية بن قرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
كلام المرأةوأما قوله: (وَنَهى أن تتكلم المرأة مع غير زوجها أو ذي رحم غير محرم إلا خمس كلمات فيما لا بد منه(.
فهذا سببه ما تقدم، لأن الكلام نغمة، وفي النغمة فتنة وشهوة، فإذا كلمت غير زوجها فقد أذاقته بعض شهوتها، فقد خانت زوجها.. الا ترى أنه استنثى المحرم لأنها لا تحل له، وقرب رحمها منه يحول دون أن يجد طعما للذاتها. ثم أطلق لها في كلمات محظورات ذات عدد لا بد لها منها للضرورة.
قال أبوعبد الله رحمه الله: وكان عندنا رجل أعمى، افتتن بجارة له، حتى ابتلى بلاء عظيما وخرب منزله، فسألت عن سبب ذلك، فقيل: كان بينهما كوة، فكانت تجىء تلك المرأة فتحدث إمرأة الأعمى ويستمع الأعمى إلى حديثها، فافتتن بها لحلاوة نغمتها وعذوبة ألفاظها.. فيما ذكر لي.
والنغمة شأنها عظيم، ومن ها هنا قال: )من نابه شيء في صلاته، فلتسبح الرجال، ولتصفق النساء(؛ لحال النغمة، فإن فيه افتتانا للمصلين إذا سمعوا نغمة المرأة بالتسبيح. والمراة جند من جنود إبليس عظيم؛ ولذلك قال إبليس حيث خلقت المرأة: فأنت نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي المسموم الذي أرمي بلك فلا أخطىء. وإنما صارت مسمومة لأنها خلقت من الضلع الذي يجاور موضع الشهوة، من آدم عليه السلام. فهي من قرنها إلى قدمها شهوة حتى شعرها وظفرها؛ فلذلك أمرت أن تستر كل شيء منها إلا ما ظهر مما لا يمتنع وهو: الوجه والكفان؛ فبالوجه تنظر، وبالرجل تمشي، وباليد تتناول.
ألا ترى كيف حجب الله نساء النبي من المؤمين وقال (وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَاسأَلوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجاب) ثم قال: (ذَلِكُم اأطهَرُ لَقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ). فرحم الله العباد، فمنعهم النظر إليهن كيلا يقعوا في خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقعن في خيانة الرسول عليه السلام. فما ظنك بمن خان محمد صلى الله عليه وسلم في أهله ماذا يحل به من الله؟ حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري، حدثنا نافع بن يزيد، حدثنا خالد بن يزيد، عن عثمان بن سعيد، قال: لقى يحيى ابن زكريا عيسى عليهما السلام، فقال يحيى لعيسى عليهما السلام: يا روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، حدثني.. قال عيسى عليه السلام: بل أنت فحدثني؛ أنت خير مني؛ أنت روح الله وكلمته تقعد مع الروح؛ فحدثني ما يبعد من غضب الله. قال له عيسى عليه السلام: لا تغضب. قال: يا روح الله، ما يبدي الغضب ويثبته؟ قال: التعزز، والحمية، والفخر، والعظمة. قال: يا روح الله، هؤلاء شداد كلهن؛ فكيف لي بهن؟ قال: سكن الروح، واكظم الغيظ. ثم قال له: وإياك واللهو؛ فيسخط الله عليك، وإياك والزنا؛ فإنه من غضب الرب. قال: يا روح الله، ما يبدي الزنا وثبته ويقيده؟ قال: النظر، والشهوة، واتباعها.. لاتكونن حديد النظر إلى ما ليس لك؛ فإنه لن يزنى فرجك ما حفظت عينيك، ولن تستطيع ذلك إلا بالله.
امتناع المرأة عن زوجها
وأما قوله: )ونهى أن تمنع المرأة نفسها عن زوجها ولو كانت على قتب، إذا كانت طاهرة(.
فهذا قد تقدم وصفه؛ لأن الزوج قد ضمن المهر، والنفقة، وعقدالعقد؛ لتكون مستعدة له في وقت الحاجة؛ ليعف عما حرم الله تعالى.
فأوقات الحاجة هي لاحقة بالمفروضات الواجبات.. ألا ترى أنه أطلق الله تعالى له أربعا؛ لأنها صارت مشغولة عنه بالحيض.
وقوله:
)ولو كانت على قتب( فهو قتب البعير. وذلك أنهم في الجاهلية كانوا أهل
بادية، وقلت القوابل عندهم، فكن يقعدن على قتب الأرض عند الطلق حتى تلد.
فلم يعذرها في ذلك الوقت الذي تطلق للولادة أن تمنع نفسها حتى تبذل، وهي
في ذلك الوقت عند الولادة في وقت الحيض، فإن رأت الدم فهي طاهرة؛ لأن ذلك
ليس بدم حيض، وإذا كان الولادة في وقت الحيض فهي معذورة، من أجل الحيض؛
ولذلك شرط في الحديث فقال: )إذا كانت طاهرة( لأنها ربما ولدت في أيام
حيضها.
بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه
وأما قوله: )ونهى عن بيع النخل حتى تزهو وتجيء بحمار أو بصفار، وعن بيع العنب حتى يسود، وعن الحب حتى يشتد وعن الثمرة حتى تطعم في أكمامها(.فهذا كله مثال واحدالعباد أكل الأموال بالباطل. فربما باع النخل، وقد بدا ثمرته؛ لأن الله تعالى قد حظر على ا، ولم تصربحال ينتفع بها؛ لأنها كحب الرمان المتراكم؛ فذاك ما لا نفع فيه فإذا أصابته آفة، وهو بتلك الحال، فقد صار الآخذ لثمنه آكلا بالباطل.
فإذا احمار واصفار، فقد صار بحال ينتفع به، فقد أعطى ثمنا في شيء ينتفع به إن كان الله تعالى يرزقه السلامة حتى يدرك، وإلا فقد أخذ شيئا ينتفع به.
وكذلك العنب إذا كان عوزقا لا ثمن له، وكذلك الحب الذي لم ينعقد ولم يبلغ الفرك، وعن الثمرة حتى تطعم في أكامها.
فك ثمرة صار لها ثمن في ذلك، ومن قبل ذلك فيه ما لم ينعقد ليس له ثمن، فإذا أصابته آفة في ذلك الوقت لم يكن ما أخذ من ثمنه إلا بالباطل؛ لأنه لم يعط عنه عوضا.
وكذا بكيله من الثمر والمحاقلة أن تقول: أبيعك هذا الزرع بحقله ثم يحصد بعد بكذا درهم. فهذا غرر فقد أخذ ماله على شيء لا يدري يكون أم لا.
بيع السنينوأما قوله: )ونهى عن بيع السنين(.
وهو أن يقول: أبيعك ثمرة هذا النخل لكذا وكذا من السنين بكذا درهم.
فهذا غرر؛ فقد أخذ ماله على شيء لا يدري أن يكون أم لا.
المزابنة والمحاقلةوأما قوله: )ونهى عن المزابنة والمحاقلة(.
وهو أن يقول: أبيعك ثمرة هذا النخل بكذا قفيز من تمر. فهذا ربا؛ لأنه لا يدري لعل التمر الذي على رؤوس النخل زائد على الذي يكيل له؛ لأن التمر بالتمر، والبر بالبر، سواء بسواء، والفضل ربا، وكذلك العنب بالزبيب.
بيع القردة والخنازيروأما قوله: )ونهى عن بيع القردة، وعن جلود القردة والخنازير؛ لأن القرد والخنزير سبع وقد نهى عن كل ذي ناب من السباع(.
وكذلك الذئب والنمر وكل ذي ناب فهو سبع، لا يجوز بيعه، ولا ثمن له؛ لأنه حرام لا ينتفع به، ومباح قتلهن، وما أبيح لك قتلهن فلا يملك، وما لا يملك لم يجز بيعه، ولا ملك لأحد عليهن.
ولو قتل رجل ذئبا في يد آخر أو أسدا أو قردا أوخنزيرا، لم يكن عليه شيء.ز ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر شأن الكلاب، وأمر بقتلهنن ولم يجعل للكلاب ثمنا، غلا كلب الصيد وكلب الماضية. فلما ظهر النفع من جنس منهن، وقع الملك، وحل بيعهن، وغرم قاتلهن.
حدثنا ابن مسلم، حدثنا على بن سعيد المسروقى، حدثنا عباد ابن عوام، عن محمد بن أبي إسحاق، عن عمران بن أبي أنيس: أن رجلا كان له كلب صيد، قد أعطى به عشرين بعيرا، فتزوج بامرأة وأمهرها ذلك الكلب، فقتله؛ فرفع ذلك إلى عثمان رضي الله عنه، فغرمه عشرين بعيرا.
بيع الصنموأما قوله: )ونهى عن بيع الصنم(.
فكذلك أيضا؛ لأنه لا ثمن له، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )أمرني ربي بكسر الأوثان، ومحق المعارف(. فكيف يجوز بيع شيء أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمحقه وإبطاله.
وكذلك بيع المزامير والمعارف، وهو باطل، ولا ثمن له، ومن كسره لم يغرم شيئا. حدثنا صالح بن محمدن حدثنا قيس بن الربيع عن أبي إسحاق، عن شريح أنه أتى برجل كسر طنبور الآخر، فلم يضمنه شريح.
الشطرنج والنرد والجوز
وأما قوله: )ونهى عن بيع
الشطرنج، وعن اللعب به؛ ونهى عن النرد، واللعب به، وعن مخالة اللاعب
بالنرد. ونهى عن القمار كله، وعن اللعب بالجوز للصبيان.
فهذا كله من
القمار، وهو الميسر.. قال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن الصلاة، وعن ذكر
الله؛ فهو قمار. فإنما نهى عن ذلك كله؛ لأنه ملهى، يدعو إلى القمار، ويلهى.
فأما
بيع الشطرنج والنرد فهو شيء لا ثمن له؛ لأنه لا نفع، ولو كسر وأحرق لم
يضمن الكاسر شيئا. وقد رخص ابن عمر للصبيان في اللعب بالجوز في أيام العيد
فيما روى عنه؛ لأن ذلك منهم غير طلب القمار. والذي جاء من النبي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تأديبا لهم. واللعب كله باطل، وما خلق الخلق للعب.
الخمر
واما قوله: )ونهى عن شرب الخمر، وعن بيع الخمر، وعن أن يعصر الخمر، وعن أن يشترى الخمر، وعن حمولة الخمر،ونهى أن يسقى الخمر؛ فإن الله تعالى لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وبائعها،وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه(.وقال صلى الله عليه وسلم: )من شربها فهو كعابد الوثن، ولا يُقبل له صلاة أربعين يوما؛ فإن مات وفي بطنه شيء منها كان حقا على الله تعالى أن من طينة الخبال(. قيل: وما طينة الخبال؟ قال: )صديد أهل النار وما يخرج من فروج الزناة( فيجتمع ذلك في قدور جهنم فيصير حميما فيشربه أهل النار ويصهر به ما في بطونهم والجلود.
وأما قوله: )ونهى عن شرب الخمر( فكل شراب خامر العقل أو خالطه حتى شده عن أن يشرق على قلبه فهو خمر. وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قام على المنبر خطيبا في شأن الخمر.
فالخمر نزل تحريما أيضا كالربا، فلما كان الربا أبواب، فكذلك الخمر أجناس. فالخمر ما خامر العقل وغشاه؛ فكل شيء مغطى فهو مخمر. فالعصير إنما يغلى ويصير رجسا بما يناله من يد العدو، وذلك أن العدو خلق من مارج من نار، فإذا أدخل يده فيه فخاضه أزبد وغلى؛ فرجاسته في يده.. ألا ترى أنه قال في تنزيله: (رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ فاجتَنِبوهُ) فعمله هو إدخال يده فيه حتى يغلى من حرارة يده المعلونة؛ فرجاسته منها.
فحرمه الله؛ لأنه لما دخل طار إلى رأسه، إلى معدن العقل، فأفسده، وسد الطريق إلى القلب. وذلك أن العقل في الدماغ، وشعاعه وعمله في القلب، وتدبيره في الصدر. فإذا صار سدا، بقى العقل في الدماغ منكمنا، فاستد الطريق. ولذلك قيل: سكر، أي سد. وفي ذلك قيل: سكر النهر، أي سده. وسكر غيره وساكر بنفسه. ومن ذلك قوله تعالى حكاية: (سُكَرَت أَبصارُنا) أي سدت. فكل شراب إلى، فإنما هو من وضع يد الشيطان فيه، فهو داخل مع نصيبه إلى المعدة، وآخذ للذهن، وحابس للعقل، ويبقى الإيمان منفردا في القلب. فالحمد لله على تحريمه على عباده.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهذا سبب من الله في الظاهر لما هو في الباطن، وذلك أن الحلاوة خرجت من الفرح في الأصل، فإذا شربه فرح، والله لا يحب الفرحين بغيره، فطبع الآدمي علىالفرح بوجود كل شيء حلو، وقد وضع في العنب عامة الفرح.
وروى عن وهب: أن آدم عليه السلام لما دخلها أول ما أكل منها العنب، فامتلأ فرحا حتى ثمل، فعندها أكل من الشجرة، ووجد العدو سبيلا إلى خدعه. فعامة الخلق هلكوا في أفراح الدنيا.. ألا ترى كيف ذمة الله تعالى: (وَفَرِحوا بِالحَياةِ الدُّنيا).. وقال: (وَلاَ تَفرَحُوا بِمَا آتاكُم).. وقال: (لاَ تَفرَح إِنَّ الله لاَ يُحبُّ الفَرِحين).
وقال: (قُل بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ).
فالأفراح كلها مذمومة، إلا فرحين: فرح بالله، وهو فرح الصديقين؛ وفرح بفضل الله ورحمته وهو الإسلام والقرآن.
والفرح يقسى القلب، فإذا صار فيه الشراب دب فيه الفرح، فلذلك يشتد على هؤلاء الشربة مفارقته والنزوع عنه؛ لأنهم قد وجدوا لذة الفرح. فهم يحتملون مرارته، وأذاه، وغائلته، وصوره العاجل؛ ويخاطرون بما أمامهم من الهول العظيم، والعذاب الأليم، والوعيد الذاهل لأهله. فإذا طبخ بالنار لم يبق للشيطان نصيب، ولم يكن له سلطان في صدره، حتى يجىء بتلك النار، وهي نار ذات زينة وبهجة وشهوة، فيأخذ منها العدو، وفتنتها في الصدر في وقت سلطانه، وإنما يكون سلطانه مع نصيبه من الشراب، فلم يقدر على فتنته إذا ذهب نصيبه.
وأما
قوله: )ونَهى أن يعصر الخمر( فهو أن يعصر العنب على نية الخمر، فهو حرام
عليه، وأما شرب العصيرن فلا بأس به مالم يغل. وإنما نهى عن أن يعصر الخمر،
أى للخمر. وكذلك بيعه وشراؤه وثمنه وحمولته.
وقوله: )يسقى الصبيان(، يعني في الدواء، وأن الله لم يجعل الشفاء فيما حرم عليكم.
وقوله:
)عاصرها ومعتصرها(، إذا عصرها للخمر. والعاصر هو الفاعل له، والمعتصر هو
الذي يعصر له. وشاربها، وساقيها، وحاملها؛ فهؤلاء شركاء في هذه الحرمة.
وقال:
)شاربُها كعابد الوثن( لا عقل لهما، قد أحاط فرح العباد لهما بقلبه، وشارب
الحمر قد صار في هذا الوقت مسلوب العقل ممتلئا فرحا من ذلك الشراب،
فاشتبها في صفة الحال، لا في الملة؛ لأن هذا مسلم، وذاك كافر. ولكنه شبهه
به لسلب العقل وفرحه به، فكان المشركون يفرحون بآلهتهم.. ألا ترى إلى قوله
(كَأَنَّهُم إٍلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)، والوفض السرعة في النهوض كالرمل.
وروى عن الحسن رحمه الله أنه قال: يبتدرون آلهتهم أيهم يستلمها قبل.
الربا
وأما قوله: )نهى عن أكل الربا، وعن الشهادة على الربا، وعن كتابة الربا، وعن إطعام الربا، ولعن آكل الربا، ومواكله، وكاتبه، وشاهده(.فهؤلاء كلهم قد تعاونوا على هذا الإثم والعدوان، وكل قد أخذ بحظه من الحرام، وكذلك الخمر.
نكاح التحليلوأما قوله: )ونهى عن المطلقة أن تتزوج زوجا آخر يحلها للأول، ونهى الذي تزوجها ليحلها للزوج الأول، ونهى زوجها الأول إذا علم ذلك؛ فإن الله تعالى لعن الذي يفعل ذلك في المستحل والمستحل له(.
فهذا التحليل مخادعة؛ لأن الله تعالى أدب المؤمنين، وأمرهم بالطلاق للعدة، وهو أن يطلقها طاهرا في طهر لم يجامعها فيه، فلما طلق ثلاثا جميعا كان ذلك معصية ووزرا. فإن طلقها واحدة للسنة، ثم واحدة عذر في الثنتين، ولم يعذر في الثالثة، فقيل له: لا تحل لك بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيرك؛ كي تتأدب وتحذر، فلا تطلق ثلاثا. فإذا ذهب يعمل على التحليل، فقد طمس وجه الأدب، وكان فيه ضرر يعم؛ فزجر رسول الله صلى الله عليهوسلم باللعن؛ لأنه نكاح دلسة وخدعة وغرور لا رغبة فيه.
بيع وسلفوأما قوله: )ونهى عن بيع وسلف(.
فهو أن يقول: أشتري منك بكذا على أن تقرضني كذا.
شرطان في بيعوأما قوله: )ونهى عن شرطين في بيع(.
فيقول: أخذت هذا منك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فافترقا على قولين لم يجب واحدا منهما، ولا يؤدي أحدهما ما لزمه.
بيع ما ليس عندهوأما قوله: )ونهى عن بيع ما ليس عنده(.
فمن أجل أنه عقد البيع على شيء لم يملكه، لا يدري أيملكه أم لا، فلم يملك. وقد تأول بعض العلماء أن المواعدة داخلة في النهي، وهو أن يواعده فيقول: اشتر كذا حتى أشتري منك.
ربح ما لم يضمنوأما قوله: )ونهى عن ربح ما لم يضمن(.
فهو الذي يشتري الشيء، ثم يبيعه قبل القبض، وقبل أن يدخل في ضمانه. وهذا باب يدخل فيه أشياء كثيرة من الإجارات، والزراعات، والمضاربات. فكل شيء لم يدخل في ضمانه، فربح من ذلك الوجه، فهو منهي عنه؛ لأنه لا يملكه بعد.
الجلالةوأما قوله: )ونهى عن الجلالة، وركوبها، وألبانها من البقر، والغنم، والإبل وقال: تحبس الإبل أربعين يوما، والبقر كذلك، والغنم سبعة أيام(. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: )تحبس الدجاجة ثلاثة أيام(.
والجلالة التي تأكل الجلة، وهي العذرة، فهذا ليس بمحرم، ولكنه يعاف ويتنزه منه، وإنما تحبس للتنظيف. وإنما كره ألبانها؛ لأن العذرة صارت علفا لها وغذاء، ومنها يدر لبنها. وإنما كره ركوبها لعرقها ولعابها.
والعذرة شيء قد خالطه يلبس في جوف الإنسان فرجاسته بالعدو وقد نالته. والعذرة رجس، ومن اعتلفها صارت رجسا .. ألا ترى أن الله تعالى سمى الخمر رجسا؛ في تنزيله، فقال: (أو لَحمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجسٌ) من بين السباع؛ لأنه خلق في سفينة نوح عليه السلام لأكل العذرة، فصارت العذرة غذاء له، فأصابته رجاسة الشيطان.
ضرب الوجهوأما قوله: )ونهى أن يضرب الرجل خده او خد غيره(.
فإن الله تعالى أكرم هذا الآدمي بصورته، فصارت لها حرمة، فنهى عن ضرب الوجوه والتقبيح.
حدثنا
الجارود بن معاذ، حدثنا جرير، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء بن
أبي رباح، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن الله
خلق آدم على صورة الرحمن؛ فلا تقبحوا الوجوه(. ونهى عن ضرب وجوه البهائم؛
لأن الوجه أكرم الأشياء على الخلق.
ضرب الوجه
وأما قوله: )ونَهَى أن يضرب الرجل خده أو خد غيره(.فإن الله تعالى أكرم هذا الآدمي بصورته، فصارت لها حرمة، فنهى عن ضرب الوجوه والتقبيح، حدثنا الجارود بن معاذ، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فلا تقبحوا الوجوه( ونهى عن ضرب وجوه البهائم؛ لأن الوجه أكرم الأشياء على الخلق.
مصافحة الذمىوأما قوله: )ونهى عن مصافحة الذمى).
لأنه كافر، والصفاح للمسلم، لأنه أخوه في دينه وصفيه؛ للمصافاة يصافحه، وللإيمان يؤمنه بالسلام عليه؛ فلا يستحق الذمى هذا.
عظام الفيلوأما قوله: )ونهى أن ينتفع بعظام الفيل(.
فالفيل غير مطلق أكل لحمه، وعظامه فيه دسومة فخليق أن يكون من أجل ذلك. وقد جاء الرخصة من الآثار.
البول في الإناء الذي ينتفع بهوأما قوله: )ونهى أن يبال في الإناء الذي ينتفع به(.
فهذا تنزه، وليس بحرام؛ لأن الإناء الذي بال فيه تشرب البول فيه؛ فهو خليق أن لا يشرب فيه ولا يؤكل.
مجامعة المرأة مستقبلا القبلةوأما قوله: )ونهى أن يجامع الرجل امرأته مستقبل القبلة(.
فهذا لتعظيم البيت، ومن أجل ذلك نهى عن البول مستقبل القبلة.
مجامعة المرأة بعد الخروج من الخلاء دون أن يتوضأوأما قوله: )ونهى أن يجامع الرجل امرأته وقد خرج من الخلاء حتى يتوضأ(.
فهذا تأديب، وخليق أن يكون الشيطان معه حين خرج من الخلاء، فإذا توضأ تباعد منه.. ألا ترى أنه يؤمر إذا دخل الخلاء أن يقول: )أعوذ بك من الخبث والخبائث(.
النوم جنبا بلا وضوءوأما قوله: )ونهى أن يبيت الرجل وهو جنب حتى يتوضأ(.
فهذا تأديب.. وقد جاء رخصة في ذلك.. حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقى، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجنب ثم ينام ولا يمس ماء.
قول: مسيجد ومصيحفوأما قوله: )نهى أن يقول الرجل: مسيجد ومصيحف( فهذا من أجل أنه صغرها بالتسمية، ولا يحتملان التصغير، وفيه جفاء عظيم وهو من شره النفس وبطرها.
تلقي الجلب وبيع حاضر لبادوأما قوله: )ونهى أن يستقبل الرجل الرفاق معهم البيوع حتى يقدموا السوق(.
فهذا في بدء الأمر، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهي خالية من المرافق والمعاش؛ فأحب أن تكون عامرة لأنها دار الهجرة؛ حتى تطمئن نفوس من يهاجر؛ فنهاهم عن استقبال الأعراب وتلقي الركبان؛ كي يدخلوا السوق، فهناك يكون بيعهم؛ كي يعم الجميع نفع الجلب الذي جاءوا به، وترخص الأسعار.
)ونهى أن يبيع حاضر لباد(؛ حتى يقدم البادي وهو لا يعلم سعر البلد فيسهل في بيعه؛ فنهى الحاضر أن يبيع له على الاستقصاء كي يرزق الناس بعضهم من بعض.
وهذا في بدء الأمر، حتى عمرت الأسواق، وكثر الجلب واتسع الناس، واستقرت دار الهجرة وألفة الناس.
وكان ينهى عن قطع أشجارها، وعن الإصطياد فيها، كل ذلك توخيا لنزهتها وسعتها؛ كي يرغب الناس في توطينها، فلما توسعوا سقط هذا النهي عامته.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )لا بيع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض(.
بيع الماءوأما قوله: )ونهى عن بيع الماء(.
لأن الماء حياة الخلق، والمسلمون شركاء فيه للشقة والحيوان. فأما الأرض فكل يملك من الماء ما في يده يسوقه إلى أرضه، فإذا باع بالمكيال أو بالمقدار جاز، وإن باع في النهر فهو بيع فاسد لا يدري ما يعقد عليه البيع.
فهذا من هذه الجهة فاسد.
وخلة أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث الناس على بذل فضل الماء كي يتسامحوا، ولا ينسوا الفضل بينهم؛ فقد ندب الله العباد إلى ذلك، فقال: (وَلاَ تَنسَوا الفَضلَ بَينَكُم) فقال صلى الله عليه وسلم: )من منع فضل ماء ليمنع به كلأ منعه الله فضله يوم القيامة(.
منع الكلأ
وأما قوله: )ونهى عن منع الكلأ(.فهذا مثله؛ لأن المسلمين فيه شركاء لمرعى دوابهم؛ لأنه لم ينبته، ولم يعمل فيه عملا، إنما أنبته الله مرعى للبهائم ثم خلقه، فإذا نبت في أرض مملوكة، فمن سبقه إليه فاحتشه فهو له، وكذلك روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: )المسلموهن شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار( وهذا شيء عام لا يستغنى عنه ولا يسوغ منعه.
غش اللبنوأما قوله: )ونهى أن يشاب لبن لبيع(.
فهذا إذا صب الماء فيه حتى يزداد في الكيل، فهو غش وخيانة، وإنما باع الماء بسعر اللبن!!
تعاطي السيف مسلولاوأما قوله: )ونهى أن يتعاطى السيف مسلولا( وقال: )ليغمده ثم يناوله(.
فهذا لتعظيم الدماء، ولعله إن أعطاه مسلولا أن يزل فيقتل لآخر، فيكون المعطي معينا له، وليغمده حتى يكون هو الذي يسله، فيكون وباله عليهن ولا يشركه المعطي.
سل السيف في المسجدوأما قوله: )ونهى أن يسل السيف في المسجد(.
وذلك أن المسجد يبنى للذكر، والسيف منه الموت إلا أن يعصم الله.. ألا ترى إلى قوله: (وَلَقَد كُنتُم تَمَنَّونَ المَوتَ مِن قَبلِ أَن تَلقَوهُ فَقَد رأَيتُموهُ وأَنتُم تَنظُرونَ9 فإنما رأوا السيوف في الحرب فيه الموت فسماه الله تعالى الرؤية.
برى النبل أو تريشه أو المرور به في المسجدوأما قوله: )ونهى أن يبرى النبل في المسجد، أو تريش، أو يمر بها في المسجد إلا وهو آخذ بنصولها(.
فهذا كله خوفا من أن يصيب مسلما في المسجد، وليس السلاح من شأن المسجد.
رفع الأصوات في المسجد، ونشدان الضالة، وإنشاد الشعر، وإقامة الحدود، والإقتصاص، والبيع
وأما قوله: )ونهى عن رفع الأصوات في المساجد، وأن تنشد الضالة، وأن ينشد الشعر، وأن تقام فيه الحدود، وعن أن تقاص فيه الجراحات، وعن البيع فيه(.
فهذا كله يشبه بعضه بعضا؛ لأن فعل هذا كله في المسجد ترك لحرمة المسجد؛ لأن المسجد بيت الله، أذن الله أن يرفع، ويعظم، ويشرف، ويذكر إسم الله فيه، ومن أتى المسجد فقد زار ربه، وأن في التوراة مكتوبا: من أتى المسجد فقد زارني وضافني، ولن أرض له قرى دون الجنة، فالمساجد بيوت طيبة..
حدثنا يحيى بن أحمر الطائي، حدثنا محمد بن مسلم الطائي، حدثني خال عبد الله بن المؤذن، عن سعيد بن المسيب، قال: من جلس في المسجد، فإنما يجالس ربه، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: (الله نورُ السَمَواتِ وَالأَرضِ). ثم قال: (في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فيها اِسمُهُ) فقوله (فى) ينبك عن قول سعيد، فإذا رفع الصوت فيه في خصومة، أو لغط، أو لغو؛ فقد ضيع حرمته. فرفع الصوت في الدعاء، والذكر، والقرآن، والمناظرة للتفقه في الدين، محمود كله؛ ولهذا بنى، لأن هذا كله ذكر الله.
وإقامة الحدود والاقتصاص من الجراحات عقوبات، والمسجد موضع نزول الرحمن. وناشد الضالة طالب دنيا، وإنما بني لطلب الآخرة. وكذلك البيع والشراء فهو أرباح الدنيا، وإنما بني لأرباح الآخرة ولمتاجرة الملك الأعلى لا لمتاجرة العباد. والبيع يحضره الشياطين واللغو والكذب، والمسجد ليس بحقيق لمثل هذا.
وأما إنشاد الشعر، فإن كان من الشعر الذي فيه قوام الدين، ويرجع إلى محمود الأمر؛ فهو خارج من النهي؛ فقد فعله حسان بن ثابت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تعالى حين دخل مكة، وفعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلمن وفي حرم الله تعالى حين دخل مكة، والحرام مسجد كله. وما كان فيه تشبيب ومباح أن يبسط، فالمسجد معظم ومنزه عن ذلك؛ لأنه للذكر بنى. ألا ترى إلى قوله تعالى: (في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فيها اِسمُهُ). وقال: (وَمساجِدَ يُذكَر فيها اِسمُ الله كَثيراً).
دخول الرجل الحمام العام بدون مئزروأما قوله: )ونهى أن يدخل الحمام إلا بمئزر(.
فمن
أجل العورة؛ لأن النظر إلى عورة المسلم حرام، وقد سترى الله ذلك على آدم
وحواء عليهما السلام، وقال الله تعالى: (لِيُبدىَ لَهُما ما وُوُرىَ
عَنهُما مِن سُوءاتِهِما). فهو سوأة قد وريت عنهما، فأمر ولده بالستر،
فإذا دخل بغير مئزر فقد أثم، إلا أن يكون خاليا ليس معه أحد، فليس بآم،
وقد ترك الأدب.. حدثنا محمود بن عبد الله بن بزيغ البصرى، حدثنا يزيد بن
زريع، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه
وسلم، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إلا عن زوجك أو ما
ملكت يمينك(. قلت: أرايت إن كان أحدنا خاليا؟ قال: )فالله أحق أن تستحي
منه(.
دخول المرأة الحمام العام
وأما قوله: )ونهى أن تدخله المرأة(.فمن ذلك أيضا حظر عليها أصلا تأديبا.. وجاء عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أمراء الأجناد بالنهى عن ذلك إلا من سقم. فإذا كانت سقيمة، ودخلت مستترة، فلا بأس به.
والرجل قد أبيح له دخوله بمئزر، والمرأة من قرنها إلى قدمها عورةن فاحتيط لهن أن لا يدخلن إلا من سقم.
حدثنا بذلك يحيى بن أحمر الطائي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عن حكيم بن عمير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب: أن الحمام حرام على كل مؤمن إلا بمئزر، وعلى النساء إلا من: سقم. وإسماعيل، عن الأحوص بن حكيم،عن عمير، عن أبيه، عن عمر بمثله.
النظر إلى العورةواما قوله: )وَنهى أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة(.
فتلك سوأة، وقد سترها الله، وسماها سوأةن وخلق آدم عليه السلام وسترها عنه وعن زوجته. وإنما ظهر لهما ذلك بالمعصية، فاستحييا مما رأيا.
فذاك موضع حياء. وقال: (يا بَني آَدَمَ، قَد أَنزَلنَا عَلَيكُم لِباساً يُوَاري سَواءَتِكُم). فإذا نظرت إليها فقد نظرت إلى شيء قد واراه الله باللباس الذي أنزل من أجله، وهتكت ستر الله؛ ولذلك قال سليمان: لأن أموت، ثم أنشر، ثم أموت، ثم أنشرن أحب إلىّ من أن أرى عورة مسلم، أو يرى عورتيس. وفي هذا كلام كثير قد شرحناه في كتاب " العلل " .
الخلوة بالأجنبيةوأما قوله: )ونهى أن يخلو الرجل بإمرأة غير محرم(.
فهذا فعل داع إلى فتنة عظيمة، وروى في الخبر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: )ما خلا رجل بامرأة غير ذات رحم محرم إلا كان الشيطان ثالثهما(.
قال أبو عبد الله رحمه الله: العصمة عصمتان: عصمة من الله عز وجل على القلب، وعصمة من الله على طريق الأسباب. فإذا خلا بامرأة غير محرم فقد ذهبت الأسباب، وانقطعت العصمة، فإن أدركته عصمة اللهعلى الإنفراد برحمة منه وفضل وإلا فقد هلك.. ألا ترى أن يوسف عليه السلام لم ينصرف حتى رأى البرهان، وهو جبريل على صورة يعقوب صلى الله عليهما، فحينئذ ولىهاربا، وهذه عصمة على سبب خاص كرامة من الله، ليس كالأسباب العامة.
والأسباب العامة هو أن يهم بأمر، فيحدث حدث من الأمر، فيقطع عليك هذا، نويحول بينك وبينه، من خوف، أو حياء، أو نقص تدبير، أو يجىء إنسان، فيحول بينك وبينه أحداث الدنيا. فهذه عصمة وسبب.
حدثنا محمد بن الضحاك، حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد، قال: لو لم يصب المسلم من أحيه المسلم شيئا إلا أن حياءه يمنعه من المعاصي.
فهذه عصمة الأسباب.
حدثنا عبد الوهاب بن فليح المكي، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعرة: أن رجلا وجد امرأة على غدير فراودها عن نفسها، فلما جلس منها ذهب يحرك ذكره، فإذا هو مثل الهدبة، لم يقدر على شيء منها؛ فندم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يركع أربع ركعات، فنزلت: (أقم الصلاة طرفي النهار).
الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمروأما قوله: )ونهى أن يُجلس على مائدة يشرب عليها الخمر(.
فلإت اللعنة غير مأمونة أن تحل تلك المائدة، فأما البركة فقد ارتفعت، لأن كل رزق فمادته من البركة، فإذا انقطع المدد صارت رزءا في الدنيا، ووبالا في الآخرة.
الأكل بالشمالوأما قوله: )ونهى أن يأكل الرجل بشماله(.
فإن
الشمال للشيطان، واليمين للملك، وكاتب الحسنات عن اليمين، وكاتب السيئات
عن الشمال، وغدا صفوف أهل الجنة عن اليمين، وصفوف أهل النار عن الشمال،
والجنة عن اليميني، والنار عن الشمال؛ فمختار الله عز وجل من الأشياء
والبقاع اليمين.
فما كان من أكل، أو شرب، أو ليس، أو تناول مرفق،
فباليمين. وما كان من مرفوض وإزالة أذى فبالشمال، مثل: الإستناء،
والامتخاط، وما أشبهه.
حدثنا الفضل بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الله
الرملي، حدثنا مؤمل ابن إسماعيل، عن مبارك بن فضالة، حدثني عبيد الله بن
مسلم بن يسار، سمع أباه يقول: إني لأكره أن أمس فرجي بيميني،وأنا أرجو أن
أخذ به كتابي.
النفخ في الطعام والشراب
وأما قوله: )ونهى عن النفخ في الطعام والشراب( فهذا إذا كان مع غيره، فهو مؤذ له، ولعله ان يعاف صاحبه ذلك، فيكون قد أفسد عليه. وأما إذا كان وحده فلا نعلم به بأسا؛ لأنه ليس فيه أذة ولا إفساد على أحد.حدثنا محمد بن علي الشقيقي، حدثنا أبي، حدثنا أبو عصمة، عن الحجاج،عن عبد الملك، عن إبراهيم، قال: إنما كره النفخ في الطعام.
حدثنا محمد، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن زيد، حدثني صاحب لي، عن إسحاق بن سويد، قال: سألته عن النفخ في الطعام؟ قال: لا أدري. إلا أن الأحنف قالك إن في الإنسان ريحان، فإذا أراد أن يبرد الشيء قال: تفه، وإذا أراد أن يسخن قال: آه.
حدثنا عبدان بن عثمان، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا بكار بن عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه قال: الروح في الرأس، والنفس في البطن، فإذا التقيا جاء النوم. والروح يأمر بالخير، والنفس تأمر بالشر، والريح الحارة من النفس، والباردة من الروح، وهي باردة.
قال أبو عبد الله رحمه الله: وزاد فيه غيره عن وهب قال: ثم نفخ وهب على يده فقال: " أف " ثم قال: هذه من الروح، وهي باردة. ثم قال: " آه " قال: هذه من النفس، وهي حارة.
النفخ في الصلاةوأما قوله: )ونهى أن ينفخ في الصلاة(.
فإن النفخ في الصلاة مجراه مجرى الكلام؛ ولذلك قال علماؤنا: إذا كان نفخ يسمع فهو كلام، ويقطع الصلاة؛ لأن النفخ إنما هو " أف " أو " تف " وهي كلمة. وقد ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (أف لكم)، وقال: (وَلا تَقُل لَهُما أُفٌ) فهذه كلمة بالغة. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )لو علم الله شيئا أردة في العقوق من أف لذكره( حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا محمد بن حجر، عن أبي جعفر، عن زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وصسلم: )لو علم الله من العقوق شيئا أردة من أف لذكره؛ فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار، وليعمل العاق ما شاء أن يعمل، فلن يدخل الجنة(.
حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا هارون الراسبي، عن جعفر بن حيان، عن أبي رجاء، قال: " الأف " الكلام القذع الردىء الجفى.
قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله: " الأف " وسخ في الأظفار، والتف قلامتها.
الصلاة إلى مقبرة أو حماموأما قوله: )ونهى عن الصلاة إلى موضع حش، أو حمام، أو مقبرة(.
فهذا تأديب، ولا نعلم أنه يفسد صلاته ما أمامه. وإذا كانت بينه وبين هذه الأشياء سترة فلا بأس به. وإذا لم تكن سترة ففيه وحشة؛ لأن الحش متغوطة الناس؛ وإنما سمى حشا؛ لأنه موضع النخيل، وكانوا يتغوطون هناك للسترة، والحمام أقذار الناس وغسالتهم، والمقبرة دفن الموتى، وفيها البلى، وتبدد العظام، والأوصال. فلا يستحب أن يستقبل الله تعالى بمثل هذه الأشياء.
أربع كنىوأما قوله: )ونهى عن أربع كنى: عن أبي مالك، وأبي الحكم، وأبي القاسم، وأبي عيسى(.
فإن هذه الألفاظ غير عذبة، فيها بعض الوحشة؛ لأن الكنى إكرام المؤمن وإجلاله. والاسم متبذل، فإذا أريد إجلاله كنى عن الاسم المتبذل..
والأسماء
في الأصل على الحقائق هي سمات الأشياء، ثم أحدث الناس أشياء صيروها علائم
فيما بينهم تفاؤلا وتطيرا، فأول اسم بدا في الخلق آدم عليه السلام؛ لأنه
مشتق من أديم الأرض، وكأنه مشتق من الإدام، لأنه جمع بين ترابه ومائه
وعجن، وكأنه مشتق من الأدمة وهي الوسيلة، وهذا والأوسط واحد؛ لأن الذي
يقرب والذي يجمع يقرب أيضا، فإنما سمي آدم فيصير هذا له سمة، ثم كنى عن
اسمه، فقال: أبا البشر، فأكرم بذكر الأبوة، فكل من كنى من بعده من ولده عن
إسم من الأسماء بالأبوة، ثم ألحق أبوته باسم من الأسماء تفاؤلا بشيء أو
تطيرا من شيء، ففزع إلى التفاؤل، لا أنه تطير.. فهذا شأن الكنى.
فأما
النهي عن أبي مالك، فيرى أنه استوحش من هذه اللفظة، لأنه لا مالك إلا
الله، ومنه بدأ الملك للمالكين، فحسن أن يسمى مالك لأنه قد مملكهم. وأول
المالكين الله تعالى. فإذا قلت " يا مالك " " يا أبا الحكم " ففيه وحشة.
وأما
أبو عيسى، فإذا قلت " يا أبا عيسى " فتلك الوحشة موجودة؛ لأن الله تعالى
يقول: (رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلى مَريمَ وَرُوحٌ منهُ)
فنفى عنه أبوة الآباء.
وأما قوله " أبي القاسم " فهو كما قال صلى الله
عليه وسلم: )أنا أبو القاسم؛ الله يعطى، وأنا أقسم، فكان سيد الخزان " وما
زال جوادا حتى منعه الله من الإعطاء، فقال: (وَلاَ تَبسُطهَا كُلَّ
البَسطِ). وكان يقول: )يأبى الله لي البخل(. وما سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم قط فقال: لا. فثبتت أبوته إلى القسمة. فهذه كنيته، ومكرمة عظيمة.
ومن
قال: إنما كانت هذه الكنية له متقدمة قبل نبوته من أجل ابنه القاسم " .
فهو كذلك، ولكن هكذا قدر الله تعالى ان يكنى بذلك، حتى يكون قاسما من
قسامه، فيكنى عن إسمه بالأبوة بالقسمة، حتى كنى عن ذلك فعل الله ورسوله.
ثم
أدب الله المؤمنين فقال: (لاَ تَجعَلُوا دُعاءَ الرَسولِ بَينَكُم
كَدُعاءِ بَعضِكُم بَعضاً). وإنما يدعو بعضهم بعضا بالإسم والكنية، فأين
إجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سويته بالناس؟ فأدبهم حتى قالوا:
يا رسول الله، يا نبي الله، فأما الجفاة الأعراب فكانوا يجيئون ويقولون:
يا محمد. فأدب الله المؤمنين بذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
)سمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي(. فتأول من بعده هذه الكلمة على ضروب شتى؛
فمنهم من قال: قد أطلق الإسم للعامة، وحظر الكنية على مذهب ما جاء به
الخبر من القسمة )الله يعطي، وأنا أقسم(. ومنهم من قال: قد أطلق الإسم
وحظر الكنية على من له هذا الإسم، فليس له أن يجمع بين كنيته واسمه فيتشبه
به؛ لأنه سمى محمد وأحمد على الإسم الأصلي وكذلك الكنية. ومنهم من قال:
هذا في حياته، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع النهي.
أربعة أسماء
وأما قوله: )ونهى عن أربعة من الأسماء: يسار، ونافع، وبركة، ورافع(.فاليسر واليسار من الله تعالى، والنافع هو الله، والبركة عنده ينزلها حيث شاء، والرافع هو الله يرفع ويخفض، بيده ميزان القسط. فهذه أسماؤهم؛ فكره.. ألا ترى انه لا يكره أن يسمى عليما أو حكيما أو مالكا؛ فاليسر والنفع والبركة والرفع أصله من الربوبية.
وهذا تأديب وليس بحظر.
قتل النملة والهدهد والصرد والنحلوأما قوله: )ونهى عن قتل النملة، والهدهد، والصرد، والنحل(.
فإن الدواب خلقت من الأرض من الموضع الذي رفعت منه تربة آدم عليه السلام، فجعلت سخرة له. فأما ما كان من التربة مما يلي أسفل آدم عليه السلام فهو السباع وما لا يؤكل، وما كان مما يلي أعلاه فذلك مما يؤكل، والحمامة من موضع القلب، فلذلك يؤنس بها وتأنس بالآدميين، وهو قوله تعالى: (أَوَ لَم يَرَوا أَنَّا خَلَقنا لَهُم مِمَّ عَمِلَت أَيدينّا أَنعاماً فَهُم لَهَا مالِكُونَ). فعمل الله كان في تربة آدم عليه السلام، ثم خلق مما عملت الأيدي هذه الدواب، أي من ذلك الموضع. ثم كل دابة راجعة إلى تربتها، وإلى جوهرها من الأرض.
وقسم الله الخير والشر بين خلقه، فوضع الخير في بعض،
والشر في بعض.. ألا ترى أن الضفدع كيف نصرت إبراهيم عليه السلام بالماء
الذي نقل بفمه ليطفئ ألا ترى أن الوزع كيف نفخ النار على إبراهيم عليه
السلام عداوة له، وولاية لإبليس؛ لأنه من جنس الحية؟ وألا ترى أن الغراب
كيف ترك أمر الرسول عليه السلام، وأقبل على جيفة حمامة، وجفا حيث خرج من
السفينة يوم استوت سفينة نوح عليه السلام على الجودي؟ وألا ترى أن الحمامة
كيف أسرعت الرجعة وفي منقارها ورق الزيتون، وعلى رجليها أثر الطين؛ فهذه
جواهر الأرض، فالنملة كيسة.. ألا ترى أنها تجمع في صيفها لشتائها حرزا
وأخذا بالحزم، فلم يكن هذا لها من بينالدواب إلا ولها هناك فضل معرفة
وبصر؟ ألا ترى كيف قالت عندما أقبل سليمان عليه السلام في موكبه حتى تبسم
نبي الله ضاحكا من قولها، فقالت: (يا أَيُّهَا النَّملُ اِدخلُوا
مَسَاكِنَكُم لاَ يَحطِمَنَّكُم سُلَيمانُ وَجُنودُهُ وَهُم لاَ
يَشعُرُونَ). ألا ترى أنه فزع عندما سمع هذه الكلمة إلى إيزاع الشكر؛
لأنها ذكرت الحطم، ثم نسبته إلى أن يفعل ذلك.
وأما الهدهد، فحدثنا
سليمان بن حميد أبو الربيع الأيادي، حدثنا عون بن عمارة، عن الحسن الجعدي،
عن الزبير بن حريث، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عليه السلام
عن الهدهد لأنه كان بارا بأبويه.
وسمعته يقول: إن ملكا خرج إلى الصيد
في يوم صحو، فقابله حراث يرجع مع آلته إلى بيته، فقال للملك: ارجع فهذا
يوم مطير، فلم يقبل الأمير ما قال ومضى، وكان ساعة جاء المطر؛ فقال
الأمير: هو رجل منجم، علىّ به.
فقال: لست بمنجم، ولكن أعلم علم النمل
أنه يدخل طعامه يوما يعلم أنه يكون مطرا في بيته، ويخرجه يوما يعلم أنه لا
يكون مطرا؛ فهم منجم لا أنا.
وأما الصرد، فحدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا
ابن مهدي، عن قرة بن خالد، عن موسى بن أبي غليط، عن أبي هريرة رضي الله
عنه، قال: الصرد أول طير صام. وروى في الخبر: أنه كان دليل إبراهيم عليه
السلام حيث سار من الشام لبناء الكعبة.
وأما النحلة، فمذكورة في
التنزيل بالطاعة لله تعالى، فقال: (وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ أَنِ
اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعرِشُونَ)
إلى قوله: (ذُلُلاً) فالثمرات منها ما هو حلو، ومنها مر، ومنها بشع، ومنه
حامض، ومنه حار، ومنه رخو لين؛ فذلت لله فأكلت من الكل وتركت شهوتها، فجعل
الله ما في بطنها عسلا حلوا كله، وصير فيه شفاء للناس؛ لأنها لم تأكل
بنهمة ولا شهوة، وإنما أكلته طاعة وذلة لربها؛ فصارت بذلك سالكة لسبل ربها
بترك النهمة والهوى؛ يعلم العباد أن السالك لسبيله من ترك النهمة في
الأمور.
فهذه زنابير احتملت من ربها كل هذا الثناء، ونالت هذه المرتبة؛
فكيف بالآدمي المكرم المفضل على البرية، وقد قال الله تعالى:
(وَفَضَّلناهُم عَلَى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلاُ).
التحريش بين البهائم
وأما قوله: )ونهى أن يحرش بين البهائم، أو يمثل بها، وقالك من فعل ذلك فهو ملعون(.فإن الله وضع العدل بين خلقه، ثم لم يرض من الظلم بقليل، ولا كثير، ولامثقال ذرة، ولا حبة خردل، وليس بتارك أحدا من خلقه يوم القيامة حتى يقضي له، حتى أن الشاة الجماء ليقاد لها من القرناء. فإذا حرش، فقد دعاهم إلى الظلم، واستعملهم بذلك؛ فالوبال راجع إليه يوم القيامة إذا كان هو سبب ذلك.
التخنيث ومخالطة المخنثوأما قوله: )ونهى عن التخنيث، وعن حديث المخنث، ومحادثة المخنث، وعن مجالسة المخنث، وعن صحبة المخنث، وعن إجابة دعوة المخنث، وقال: لعن الله المخنث(.
فالمخنث خلق هائل شأنه، فظيع أمره؛ فظاهره رجل، وباطنه امرأة. فالذي في باطنه حول أحوال الظاهر حتى مده إلى أحوال النساء قولا ومشيا وعملا ولباسا وزيا وهيئة، فقد حلت به اللعنة؛ لأنه مسخ، فنفسه نفوس النساء، وخلقته خلقة الرجال؛ فلذلك لا تكاد تجد منهم تائبا لأن نفسه الممسوخة قد غيرت قلبه وطبعه إلى أخلاق النساء وطلبهن للرجال.
وهذا آية عظيمة من آيات الله عز وجل يعتبر بها المسلمون، ويستعيذون بالله من شرها، فكأنه جعل هذا موعظة للخلق ليشكروه على لباس العافية.
وقد كان على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم مخنث، فنفاه إلى البقيع. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه،
استأذنه في الدخول إلى المدينة ليسأل الناس، فأذن له في الجمعة مرة.
حدثنا
حميد بن الربيع اللخمي، حدثنا بكر بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد
الكريم، عن مجاهد، عن عامر بن سعد، عن سعد بن مالك: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نفى رجلا مخنثا من المدينة فكان كذلك حتى إمرة عمر رضي الله
عنه، فكان يرخص له أن يدخل يوم الجمعة المدينة فيتصدق عليه.
حدثنا عمر
بن أبي عمر العبدي، حدثنا الحسن بن أبي صالح البجلي، عن عبد الرزاق، عن
يحيى بن العلاء، حدثنا بشر بن نمير، سمع مكحولا يقول: حدثنا يزيد بن
عبدالله الجهني، عن صفوان بن أمية، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فجاء عمرو بن مرة، فقال: يا رسول الله، إن الله كتب على الشقوة، فلا
أراني أرزق إلا من ضرب دفى بكفي، فأذن له في الغناء من غير فاحشة. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم )لا آذن لك، ولا كرامة، ولا نعمة، كذبت أي
عدو الله، فقد رزقك الله حلالا طيبا فاخترت ما حرمه الله عليك من رزقه
مكان ما أحل الله لك من خلال. ولو كنت تقدمت إليك لفعلت بك، قم عني وتب
إلى الله. أما إنك إن فعلت بعد التقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا، وجعلتك
مثلة، ونفيتك من أهلك، وأحللت سلبك نهبة لفتيان المدينة(، فقام عمرو وبه
من الشر والحزن ما لا يعلمه إلا الله، فقال عليه السلام بعد ما تولى:
)هؤلاء العصاة من مات منهم بغير توبة حشره الله كما كان يوم القيامة مخنثا
عريانا، لا يستتر من الناس بهدبه، كلما قام صرع( فقام عرفطة بن نهيك
التيميمى، فقال: إن أهلي مرزوقون من هذا الصيد، ولنا فيه قسم وبركة، وهو
مشغلة عن ذكر الله، وعن الصلاة في الجماعة، وبنا غليه حاجة، أفتحله أو
تحرمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: )أُحله، لأن الله تعالى قد أحله،
نعمالعملن والله أولى بالعذر، وقد كان لله رسل قبل كلها تصطاد أوتطلب
الصيد ويكفيك من الصلاة في الجماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك
للجماعة، وحبك ذكر الله وأهله، فابتغ على نفسك وعيالك حلالا، فإن ذلك جهاد
في سبيل الله، واعلم أن عون الله مع صالح التجار( سمعته يقول: سأل عرفطة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن العرب تقول إن الوحش دواب الجن
يركبونهن، فلا يجوز صيدهن، فلذلك سأله عرفطة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما قال.
الاختصار تحزنا على المصائب
وأما قوله: )ونهى عن الإختصار يتحازنون على مصائبهم(.وروى في الخبر: أن إبليس نزل من السماء بهذه الصفة مدحورا مطرودا. والإختصار أن يأخذ بيده على خصره من الجانبين.
التثاؤب في الصلاةوأما قوله: )ونهى عن التثاؤب في الصلاة، وقال: ليمسك بيده على فيه؛ فإن الشيطان يضحك منه(.
التثاؤب أصله. من قلة المبالاة ألقى إلى إبليس.. ألا ترى أنه قال: )يضحك في جوفه(؛ فالضحك من ذهاب البال.
حدثنا هارون بن حاتم الكوفي، حدثنا ابن إدريس، عن ابن عجلان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إذا تثاءب أحدكم في صلاته فليقل: سبحان الله( فإنما أمر بالتسبيح من بين الكلام، ولم يؤمر بالتهليل ولا بالتكبير ولا بالتحميد؛ لأن مبتدأ هذه الكلمة وهو السين من قوله: )سبحان الله( فإذا نطقت بها، وضممت شفتيك انقمع وذهب سلطانه لذكر الله. وإذا هللت أو كبرت أو حمدت، فمبتدأ كلمته مفتوح، وهو الألف واللام، فإذا نطق بها مع الفتح وجد العدو سبيلا إلى الدخول.
الحلف بالآباء والكعبة والحياةوأما قوله: )ونهى أن يقول الرجل: لا وأبيك، أو يقول: لا والكعبة، لا وحياتك وحياة فلان(.
فهذا حالف بغير الله، فمن حلف بالله فإنما يريد بذلك الشيء أن يثبته باسم الله، وإذا حلف بغير الله فقد ضاده؛ لأن هذه الأشياء كلها زائلة والله دائم لا يزول، وإنما يؤكد إثبات الأشياء بالدائم الذي لا يزول، فكذا وصفه بين العباد. فإذا أردت أن تؤكده بشيء هو زائل فإن، فكأنك تريد أن تثبت له ديمومته.
قول: لا نزال بخير ما بقيت!وأما قوله: )ونهى أن يقول الرجل لا نزال بخير ما بقيت(.
فإنه
قد نسب الخير إليه، والخير والنعمة لولي النعمة، فبقاؤه لا يجدي نفعا. وقد
نسب الخير إلى غير مستحقه فهذا كفران. وإذا اعترف أن الخير كله بيد الله
ثم يقول لعبده لا تزال بخير ما بقيت، فهذا حكم منه على الله فما يدريه أن
يكون كذلك.
قول ما شاء الله وشئت!
وأما قوله: )ونهى أن يقول: ما شاء الله وشئت(.فهذا شرك في المشيئة، فهي لفظة سيئةن وقول شينع؛ لأن المشيئة لله، وبمشيئته شاء العبد، قال الله تعالى: (وَما تَشاءُونَ إِلاَّ أَن يَشاءَ الله.فلا يجمع بين المشيئتين؛ لأن مشيئة العبد إنما تقوم بمشيئة الله تعالى، فإذا نطقه بالواو، فقد جمع بينهما وسوى، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت، كما نطق به الكتاب، وكما هو في الأصل؛ فإنه لا يقدر أحد أن يشاء شيئا حتى يشاء الله ذلك، فعند ذلك يشاء العبد.
الحلف بغير اللهوأما قوله: )ونهى أن يحلف بغير الله(.
فقد وصفنا بدءا فمن لم يرض بالله فليس من الله، فإنما يؤكد الحادث من الأفعال والأخبار باسمبه، فمن لم يرض بذلك، فلنفاق فيه، والمنافق ليس من الله. وذلك فعل من خلا قلبه من عظمة الله، ولا يجد تعظيم اسمه على قلبه.
فهذا الأصل، فلما ساءت رعة الخلق، وأدبر الزمان بهم إلى ظهور الجهل والمنكر، فإذا عرض عليه اليمين بالله اجترأ، فإذا عرض عليه اليمين بالطلاق امتنع. فامتناعه لما يعلم أنه يقع في الحرام من تقية الإسلام في صدره، وإذا اجترأ على اليمين بالله، فإنما يفعله لجهله بالله وقلة خوفه منه وحيائه.
فإذا اضطر الإنسان لشيء من هذا، وهو يعلم أن صاحبه بهذه الصفة، فحلفه بالطلاق والعتاق ونحوه لم أر به بأسا.
الحلف بسورة من كتاب اللهوأما قوله: )ونهى أن يحلف بسورة من كتاب الله عز وجل، فقال: من حلف بشيء من كتاب الله تعالى، فعليه بكلامه يمين، فمن شاء بر، ومن شاء فجر(.
فكتاب الله كلام الله، فالحلف بكلامه كالحلف بفعل من أفعاله، فإن حلف على التبري منه فهو يمين سوء.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )من حلف بملة سوى الإسلام، أو قال: إنه برىء من الإسلام، فإن كان صادقا فلن يرجع إلا الإسلام سالما، وإن كان كاذبا فهو كما قال(.
فهذا معناه إذا حلف على شيء ماض فقال: إن كنت فعلت كذا فأنا برىء من الإسلام، وقد فعلها، فقد كفر عقد يمين. فإن كان صادقا فقد أساء القول بالتبري من الإسلام، وكيف لا يكون مسيئا، وإنما أعطى الإسلام من المنة، وهو على أعظم خطر؛ لأنه لا يدري ما يكون في العاقبة، فيجترىء أن يلفظ بمثل هذه اللفظة مستخفا بهذا الخطر، ولا يخاف أن يسلبه الله بكفرانه واستخفافه. وأما إذا حلف به على شيء لم يكن، فهو يريد أن يؤكد ذلك الشيء بهذه اللفظة، فقد أساء في قوله، ولكنه إن حنث في ذلك لزمته كفارة يمين.
سوم الرجل على سوم أخيه، وخطبته على خطبة أخيهوأما قوله: )ونهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه، وأن يخطب على خطبة أخيه(.
فمن أجل أن في هذا إفسادا، وهو داعية إلى الشحناء، فمنع القوم من ذلك.
حدثنا أبي، عن مطرف، عن مالك بن أنس: أنه لا يسوم على سومه ما لم يرد، فإذا رد فله أن يدخل في سومه، فكذلك الخطبة إذا رد مرة فله أن يدخل في خطبته. ولقد كان رجل مادام يسوم ويماكس لا يسع أحدا الدخول فيه لكثرة الضرر في ذلك، ولا يسد على الرجل بيع شيء يريده لمكان هذا السائم، ثم لا يزال يتردد ويماكس والراغبون في ذلك بمعزل عنه ينتظرون رفضه، فهذا ضرر.
مجامعة المرأة في حضور أحدوأما قوله: )ونهى أن يجامع الرجل المرأة وعنده أحد حتى الصبي في المهد(.
فهذا تأديب؛ لأنه إذا سمع الوجس غيره رجلا أو امرأة افتتن به. وأما ذكر الصبي في المهد، فهذا تشديد وحسم للباب حتى لا يطمع أحد في الكبير، فأما الصغير فلا يعلم به بأسا وكذلك صغير لم يعقل، وقد ذكر الله في تنزيله فقال: (أَو الطِفلِ الَّذَينَ لَم يَظهَرَوا عَلَى عَوراتِ النِّساءِ) فإذا كان طفلا بهذه الصفة أجنبيا جاز له أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، وإن كان رضيعا في المهد فهذا أحرى أن لا يكون به بأس في حال الجماع؛ وإنما حظر هذا الفعل من أجل الإفتتان.
حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم، حدثنا عباد بن العوام، عن أبي
شيبة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه كان ينام بين جاريتين.
قال: وروى عن الحسن: أنه كره ذلك لاستماع الوجس.
؟؟
حد الشفرة والشاة تنظر
وأما قوله: )ونهى أنتحد الشفرة والشاة تنظر(.فهذا لأنها تفزع، ويهولها ذلك؛ لأنها تعلم. فهذا لقلة الرحمة، ومن لا يرحم لا يُرحم.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتهم فأحسنوا القتلة(.
حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال: )أمر رسول الله صلى الله عليبه وسلم بحد الشفار، وأن تواري عن البهائم(. فهذا من الإحسان، وإنه يحب المحسنين.
؟
محو اسم الله تعالى بالبزاق
وأما قوله: )ونهى أن يمحو اسم الله تعالى بالبزاق) لأن البزاق من شأنه أن يتفل، فالتفل على الشيطان. فهو وإن كان طاهرا، فهو مهجور مرمى بهن فلا يحسن ان يلقى على إسم الله تعالى.. ألا ترى أن الشيء إذا استحقر واستهين به بزق عليه صاحبه، وكذلك إذا خسىء يتفل عليه؟ فهذا المحو لإسم الله تعالى بالبزاق تشبيه بالتفل؛ فهو قبيح.؟
قعود الرجل في المسجد وهو جنب
وأما قوله: )ونهى أن يقعد الرجل في المسجد وهو جنب(.فهذا لتعظيم حرمة المسجد؛ لأنه إنما بنى للذكر، وقال الله تعالى: (وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عابِري سَبيلٍ) وإنما رخص للمجتاز الذي يعبره لأن القاعد متوطن.
؟
اتخاذ المسجد طريقا
وأما قوله: )ونهى أن يمر في المسجد يتخذه طريقا حتى يصلى فيه ركعتين(.فهذا تأديب.. كره أن يسوي المسجد يتخذه طريقا حتى يصلى فيه ركعتين(.
فهذا تأديب .. كره أن يسوي المسجد بسائر البقاع عند الناس، فإذا مر فيه مجتازا فلا بأس به عندنا والله أعلم؛ لأنه قد ذكر في تنزيله مع الجنابة لعابري سبيل، فإذا كان بغير جنابة فهو أحرى أن يوسع له. ولكن هذا إذا اتخذه طريقا لنفسه فلا يزال فيه كالذي يصير الشيء وطنا يدوم عليه، فهو غير محبوب حتى يصلي ركعتين، فيكون ممزوجا فعلها بفعل المرور إذا صيره طريقا، فقد أخرجه من حد المسجد، فهو عنده مسجد صلاته في مروره مرتفق ورخصة؛ لأنه إنما بنى للصلاة، فمادام له فيه صلاة فهو مقيم لحرمة ما بنى له، فإذا أعده طريقا ورفض الصلاة فيه فقد أخرجه مما بنى له، فهو منهى عنه.
؟؟ندب الميت وأما قوله: )ونهى أن يندب الميت(.
فالندبة داعية إلى الفتنة والجزع، لأن المرائي والكلام يعمل في النفوس، فيهيج الرفأة حتى يرق الفؤاد فيجزع.
وربما كان في الندبة افتخار ومديح لا يستحقه الميت وهو لا يدري مقدمه على الله، فهو على غرور يتكلم.. ألا ترى إلى حديث أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قبر شاب قتل شهيدا، فقال قائل: هنيئا لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )وما يدريك؟ فعله كان يبخل بما لا ينقصه، ويتكلم فيما لا يعنيه(. فالندبة تزكية، وقد زجر الله عن التزكية للنفوس؛ والبراءة لها، والشهادة لها.
؟
نعي الميت في القبائل
وأما قوله: )ونهى أن يقال: مات فلان فاشهدوه، وأن ينعى في القبائل(.فهذا من أجل أن هذا فعل أهل الجاهلية، كانوا يتكاثرون، ويتفاخرون بالجمع، ويتزينون بذلك، وهو رياء وسمعة.
؟؟
التعري بالليل والنهار
وأما قوله: )ونهى عن التعري بالليل والنهار(.فمعناه أن يكون هذا التعري بارزا. فأما في بيت مستور يغتسل فيه، فإن كان في إزار فهو أفضل، فإن لم يكن فهو في سعة غير آثم، ولكنه ترك الأفضل. فإذا تعرى بارزا لم يأمن أن يفجأه بعض من لا يحل له النظر فيراه عريانا، وقد أمر الله تعالى بحفظ الفروج، وقال: (قُل لِلمُؤمِنينَ يَغُضُّوا مِن أَبصارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم)، أي لا يتعروا فقد أمر بالستر، وغض البصر عمن لا يستر.
حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا مكي بن إبراهيم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه،عن جده، قال: وحدثنا محمد بن عبد الله بن بزيغ البصري، حدثنا يزيد بن زريع، عن بهز، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: )احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك( قلت: فإن كان أحدنا خاليا؟ قال: )فالله أحق أن يستحى منه(.
؟قيام الرجل بالليل والنهار منتصبا عريانا وأما قوله: )ونهى أن يمشي الرجل بالليل والنهار منتصبا عريانا(.
فقد
ذكرنا شأنه وأن هذا من فعل الجاهلية. وكانوا لا يبالون من التعري لما قد
سلبوا من الحياء. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )الحياء
من الإيمان(. وروى عنه أنه قال: )قلة الحياء كفر(.
حدثنا بذلك الجارود،
حدثنا سليمان بن عمرو النخعي، حدثنا يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن
عبدالله، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )قلة
الحياء كفر(.
قال أبو عبد الله رحمه الله: الإنتصاب عريانا هو من قلة
المبالاة وقلة الحياء. قال: وأيضا خلة أخرى أن يخاف عليه من الجن أن ترميه
ببلية. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )من اغتسل في
براز من الأرض بالليل، فليخط حوله دائرة ليغتسل فيها(. حدثنا قتيبة، حدثنا
ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب بذلك. فهذا إذا لم يجد ما يستتر به،
واحتاج إلى غسل فعل مثل ذلك، حتى لا يجد العدو وأعوانه سبيلا إليه.
والتعري
الذي ذكر في الحديث أن يتخلى عن جميع ثيابه بلا حاجة ولا ضرورة، فأما
المستنجي والمغتسل فلا يجد بدا من كشف عورته. وقد أبان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذلك.
حدثنا بشر بن خالد العسكري، حدثنا مسلمة بن هشام بن عبد
الملك، عن الأعمش عن زيد العمى، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: )سِترُ بينَ أعين الجن وبين عورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن
يقولك بسم الله(.
وروى عن موسى بن عمران عليه السلام: أنه كان إذا أراد
أن يغتسل دخل الماء مع ثوبه، ثم يرفعه قليلا قليلا حتى يغيب حتى يغيب جسده
في الماء، فحينئذ يضع ثوبه.
وحدثنا الجارود، حدثنا الفضل بن موسى، عن
عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن زيد العمى، عن أنس، قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يرفع ثوبه عند الحاجة حتى يدنو من الأرض.
مباشرة الرجل امرأته وهي حائض بدون ثوب
وأما قوله: )ونهى أن يباشر الرجل امرأته وهي حائض إلا وبينهما ثوب(.فهذا حسم على الناس كي لا تجد النفس ذريعة إلى الوقاع بها؛ فإنه إذا باشرها في وقت الحيض خيف عليه الفتنة حتى يتعدى إلى الوقاع.
والأصل أنه يحل له منها كل شيء إلا الجماع، وأما فيما دون الفرج فهو مباح له في وقت الحيض، ولكن الرسول عليه السلام أدب المؤمنين، وحسم عليهم الأبواب الداعية إلى الفتنى.
حدثنا الجارود، عن وكيع، عن عبيد بن عبد الرحمن، عن مروان الأصفر، قال: سمعت مسروقا قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الفرج.
بيات الرجل على سطح دون أن يحبس قدميه شيءوأما قوله: )ونهى أن يبيت الرجل على سطح وليس يحبس قدميه شيء دونه(.
فهذا لأنه يخاف أن يتردى عن السطح في نومه إذا انقلب. فإذا كان في الستر بقدر ما يمسك رجليه فلا بأس، وذلك أدنى الستر.
الحجامة يوم الأربعاء ويوم السبتوأما قوله: )ونهى عن الحجامة يوم الأربعاء ويوم السبت وقال: من فعل ذلك فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه(.
فالسبت هو يوم قد أسبت الله الخلق فيه، وذلك أنه ابتدأ في خلقه يوم الأحد، فخلق الأرض في يومين، والسماء في يومين، وقدر في هذه الأيام أقواتها، فذلك أربعة أيام، فأمسك يوم الأربعاء عن جرى الأشياء، وخلق الجنة والنار يوم الخميس، ثم خلق آدم يوم الجمعة، وهو آخر خلقه، لأن هذه الأشياء كلها خلقت له، ومن أجله، ومن أجل ذريته، فختم الخلق به.
ثم لحظ إلىالخلق لحظة يوم
السبت يعرفهم نفسه،ويلهمهم ربوبيته، وأقبل على الكلام، فأثنى على نفسه،
ومجد نفسه، وخاطب خلقه. وذلك في الأخبار مروي. فأطرق له كل شيء وأنصت له
كل شيء، وأقروا بالملك، وذلوا وانقادوان فاسبتوا من كلامه، فسمى يوم
السبت، وبالأعجمية شه مشتق من الحيرة والإسبات، وهو الخدر وسنة النعاس،
والسنة ريح النوم، فصار الخلق كالموقوذ من أثقال الكلام، ومنه قوله عز
وجل: (وجَعلنا نومَكُم سُباتا) فإذا أسبت فهو ثقيل يحذر، فهذا في كل سبت
موجود. فإذا احتجم الرجل يومئذ فإنما يحتجم في وقت ركود الدم وإسباته
فيعود برصا. وأما يوم الأربعاء فهو يوم قدر الله الأقوات فيه، والدم قوت
النفس وغذاؤها، فلا يخرج في وقت تقدير الأقوات فيعود برضا وفرحا.
وفي
غير هذا الحديث كراهية الحجامة يوم الثلاثاء. حدثنا ابي، عن موسى بن
إسماعيل، عن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه: أن أبا بكرة كان
ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: )فيها ساعة لا يرقأ فيها دم(.
حدثنا عبد الله بن عبد الله بن
أسيد الكلابي، حدثنا زاجر بن الصلت، عن عبد الله بن حفص،عن عبد الله بن
القاسم، عن أبيه: أن أبا بكرة كان ينهى عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويقول:
هو اليوم الذي أنزل فيه الحديد؛ فلا يستعمل الحديد في اليوم الذي أنزل
فيه، وهو يوم الدم؛ فلا يهيج الدم في يوم مهتاجه. فإذا كان يوم اهتياجه
مخافة أن لا يرقأ، فكذلك لا يهيج في يوم إسباته مخافة أن يجمد وينعقد
فيصير برصا.
الكلام أو العبث يوم الجمعة والإمام يخطب
وأما قوله: )ونهى عن الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب، وعن اللعب بالحصى، والإيماء، وعن إشارة بيده أو برأسه والإمام يخطب وقال: )من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب؛ فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له(.قال أبو عبد الله رحمه الله: إنما قصرت عن أربع فجعلت ركعتين من اجل الخطبة؛ لما علم الله أن بالناس حاجة إلى الموعظة والتذكرة، فأمر قائدهم أن يقوم في كل أسبوع مرة، يجمعهم لصلاتهم، ويذكرهم بأيام الله ويعظهم؛ فاشتملت هذه الجمعة على أمر عظيم من الثواب الجزيل والفضل.
فمن ذهب يتكلم في ذلك الوقت فقد شغل قلبه عن الموعظة. وكذلك الإيماء والإشارة فيه مشغلة عن الموعظة وإن قل ودق شأنه، فهو لاغ.
وقوله: )لا جمعة له(، أي يذهب فضل جمعته وجزيل ثوابه، لا أنها تبطل ويؤمر بالإعادة، بل صلاته جائزة، ولكنها منقوصة، وقد ذهب حظه من فضل الجمعة؛ فقد بقيت صلاته مقصورة إلى ركعتين وفاته فضل جمعته.
الخضاب بالسوادوأما قوله: )ونهى عن الخضاب بالسواد(.
فهذا من أجل أنه غرر، فإن أراد أن يتزوج ولم يبيحه كان غررا ومن أجل أن الشيب وقار أكرم الله به إبراهيم عليه السلام ومن تبعه على ملته، فإذا شاب وغيره بالسواد فكأنه رفض تلك الكرامة وزينتها وحرم وقاره؛ لأنه يريد أن يتشبه بالحالة الأولى.
وهذا تأديب واختيار من النبي صلى الله عليه وسلم للأمة. ومن فعله لم يقع في النهي المأثوم، وقد كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يخضبان بالسواد، وقد فعله كثير من الصحابة، غلا أن الخضاب على الغالب الحمرة والصفرة، فقد زجر عن ذلك في وقته.
حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن أبي رباح، عن مجاهد، قال: أول من خضب بالسواد فرعون.
فهذا فعل الجبارين الذين يأنفون من الشيب، ويكرهون أن يكونوا في زي الضعفاء المشيخة. فأما عبد تذلل لله عبادة وعبودية، فإن خضب بالسواد ليتزين به عند أهله أو ليهيب العدو إذا خرج غازيا، فإن الشاب أنكى في العدو من الشيخ وأهيب له، لم تلحقه سنن الفراعنة، وهو على كل مراده أمر جميل.
حدثنا قتيبة، عن ابن لهيعة،عن خالد بن أبي عمران، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )غيروا الشيب، ولا تقربوه السواد، ولا تشبهوا باليهود(.
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا سفيان، عن الزهري،عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: جيء بأبي قحافة يوم فتح مكة ولحيته كالثغامة بياضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمك )غيروا هذا الشيبن وجنبوه السواد(.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالشيب وقار، وإنما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتغييره مخالفة أهل الكتاب.
حدثنا
حميد بن الربيع اللخمي ويعقوب بن شيبة قالا: حدثنا محمد بن كناسة، عن هشام
بن عروة، عن أخيه عثمان بن عزوة، عن الزبير بن العوام، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: )إنَّ اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم(.
حدثنا علي بن حجر، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )غيروا اللحى ولا تشبهوا بالأعاجم(.
وحدثنا
محمد بن علي بن الحسن بن شقيق العبدي، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن
المبارك، حدثنا الأجلح، عن عبد الله بن بريدة، عن أبي الأسود الديلين عن
أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إنَّ أحسن ما غيرتم به
الشيب الحناء والكتم(.
وحدثنا علي بن حجر السعدي ويحيى بن أحمد الطائي،
قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، حدثنا سالم بن عبد الله الكلاعي، عن
أبي عبد الله القرشي، عن عبد الله ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: )الصفرة خضاب المؤمن، والحمرة خضاب المسلم، والسواد خضاب
الكافر(.
وحدثنا محمد بن يحيى القصري، حدثنا أبو حمص العبدي، عن محمد
ابن إبراهيم بن عكاشة السدي، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: )عليكم بالحناء؛ فإنه خضاب الإسلام، يزيد
في العقل، ويجلي البصر، ويذهب بالصداع، ويزيد في الجماع، ويزين المؤمن.
وعليكم بالصفرة؛ فإنها خضاب الإيمان(.
حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا جندل
بن والق، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقى، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )يكون قوم في آخر
الزمان قوم يخضبون بالسواد لا ينظر الله إليهم يوم القيامة(.
قال أبو
عبد الله رحمه الله: فهذا فعل أهل العتو والجبرية في آخر الزمان، وكذلك
كان من قبل فعل الفراعنة. فإن المرء إذا شاخ راح، وإذا راح استحقره
السفهاء، واستوقره العقلاء، وكان أهل العتو يأنفون من ذلك، ويغيرونه
بالسواد، يخفون على الناظرين إليهم أحوالهم.
فهذه مثلة يريد أن يعود في
هيئة الشاب، وقد قال الله تعالى في تنزيله فيما يحكي عن قول العدو:
(وَلآَمُرَنَهُم فَلَيُغَيِرُنَّ خَلقَ الله). وقال الله تعالى: (لاَ
تَبديلَ لِخَلقِ الله). فإذا أَذهب المغير وقاره بسواد، فهو كأنه يريد أن
يعود كما كان، لحبه للشباب، وحرصه على العمر. فإنه يكره الشيب؛ لأنه علامة
لإقباله على الموت... ألا ترى أن أول من خضب بالسواد فرعون، فهو السابق
على العتو.
إلا ان المجوس يحفون لحاهم، ويعفون شواربهم، يريدون بذلك
التعلم والتجلد للسنين، فقال صلى الله عليه وسلم: )خالفوا المجوس؛ جزوا
الشوارب، وأوفروا اللحى(. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن أهل
الشرك يعفون شواربهم ويحفون لحاهم، فخالفوهم فأعفوا اللحى وحفوا الشوارب(.
ففي
مذهب كسرى التجلد والتجبر والعتو، وأن يكون في هيئة الغلمان والشبان. وفي
مذهب محمد صلى الله عليهوسلم التواضع، والعبودية لله، والتطهير، وزينة
الرجال في اللحى( وتطهرهم في قص الشارب لئلا يبقى فيه وضر الطعام(.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فأما منيرخص في خضاب السواد من السلف فلمعنى غير هذا.
حدثنا
محمد بن مرزوق البصرين حدثنا علي بن عيسى، حدثنا الصديق بن عمر، حدثني
رفاع السدوسي، حدثنا ابن صهيب، حدثه عن أبيه صهيب، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: )اختضبوا بالسواد؛ فإنه أنس للزوجة، ومكيدة للعدو(.
وحدثنا
على بن حجر، حدثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي، قال: سمعت أبا لاحق يحدث عن عبد
الله بن معاوية، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: )اختضبوا بالسواد؛
فإنه أنس للنساء، وهيبة للعدو(.
حدثنا قتيبة، حدثنا حاتم بن إسماعيل،
عن الجعد بن عبد الرحمن، عن السايب بن سبيع، بعثه عمر بن الخطاب رضي الله
عنه وهو أبيض الرأس واللحية، فرجع وهو أسود الرأس واللحية يتراءى ويتمارى
في معرفته.
وحدثنا عبد الجبار، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندية، عن عبد
الصمد ابن حبيب، عن أبيه، عن الحكم بن عمرو الغفاري، قال: دخلت أنا وأخي
رافع على عمر بن الخطاب رضي لاله عنه وأنا مخضوب بالحناء وأخي بالصفرة،
فقال: أما خطابك فخضاب الإسلام، وأما خضاب أخيك فخضاب الإيمان... وسئل عن
السواد، فكرهه.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فقد جاء عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأنه: )آنس للزوجة، ومكيدة للعدو(، وكذلك قول عمر رضي الله
عنه من بعده على الوجهين جميعا. فللنساء على أزواجهن حقوق، منها حق التزين
لهن وقال ابن عباس رضي الله عنه: إني لأحب أن أتزين لأمرأتي كما أحب أن
تتزين لي.
فمن التزين أن يخفي شيبه، ويخضبه بسواد، فإن كان لهذا يفعله
فهو خارج من النهي عندنا.. ألا ترى أن محمد بن الحنفية رحمه الله لما خرج
إلى الناس في حمراء أنكروا عليه، فقال: هذا ألقته علىّ أهلي، وإنهن يحببن
منا ما نحب منهن... حدثنا بذلك فضالة بن فضل، والجارود به معاذ، قالا:
حدثنا يزيغ الحنظلي، عن أبي وهب، عن الضحاك، عن محمد بن الحنفية.
ألا ترى أن عثمان رضي الله عنه لما دخل بامرأته، فرأت به منالشيب، ففطن لها عثمان رضي الله عنه، فقال لها: إنما وراء الشيب ما تحبين.
فللنساء في هذا تمييز ونظر وميل إلى الأشب فالأشب؛ لأن نهمتها في الرجال؛ لأنها خلقت من الرجل.
وكذلك الحسن بن علي رضي الله عنه اختضب بالسواد؛ لأنه في الخبر أنه تزوج ثلثمائة.
وإنما
قال: )الحمرة خضاب الإسلام، والصفرة خضاب الإيمان(؛ لأن الإسلام في
الحياة، والإيمان عند الموت؛ لأنه إذا قرب الموت زالت عنه أعمال الشريعة،
والإسلام ما ظهر، والإيمان ما بطن. حتى يقدم إلى ربه وقد غير شيبه، لئلا
يشبه أهل الكتاب... ألا ترى إلى قوله عليه السلام في دعائه على الجنازة:
)اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على
الإيمان(.
الجرس
وأما قوله: )ونهى عن الجرس) فالضرب به يشبه المعازف؛ لأنها تصوت وتتلون، وتلذذ السامعين، قال: وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس( ومحاضر الشيطان عند ضرب الجرس.. ألا ترى أن الجن والشياطين يدعون بضرب الجرس، وبطنين الطست، وما أشبه ذلك. فالأصوات مقسمة على جميع الخلقن فكل له منه حظن وإن العدو سال ربه زيادة في حله ليكون له بذلك تبع يؤويهم إليه فأعطى على الإستدراج لأنه ينال على المكر والخداع، فلما اعطى استعملها في هذه الأصوات من المعارف والمزامير والجرس والصيح والصفير، فمزج الذي عنده من ذلك بهذه الأصوات التي تحدث منها هذه الأشياء، فما كان من ذلك الجنس فهو حظ الشيطان، وتجتنبه الملائكة.تكنية الذمىوأما قوله: )ونهى أن يقال للذمي: يا أبا فلان(.
فذاك من أجل أن الكنية كرامة وإجلال، فلا يحيا بها الذمي، ولا يوجب له ذلك، ولا يستحق الإجلالا، لأنه عدو الله.
الخاتم المصنوع من الحديد أوالصفر أو الذهبوأما قوله: )ونهى أن يتختم الرجل والمرأة بخاتم من حديد، وعن خاتم الصفر، وخاتم الذهب(.
فالحديد حلية أهل النار، وأما خاتم الصفر فمن أجل الأصنام، وأما خاتم الذهب فمن أجل أن الذهب محرم على الذكور.
حدثنا أبي، حدثنا جندل بن والق، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية، عن عبد الله بن مسلم الباهلي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: دخل رجل من الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد، فقال: )مالي أرى عليك حلية أهل النار؟ن فنزعه فاتخذ خاتم من شبه. فقال )مالي مالي أجد منك ريح الأصنام؟ فقال: فماتأمرني يارسول الله؟ قال: )اتخذه فضة، ولا تتمه مثقالا(.
فأما الخاتم من الذهبن فروى في حديث آخر: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وبيده ذهب وحرير، فقال: )هذان حرامان على ذكور أمتي، حل لإناثهم( حدثنا بذلك قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي أفلح الهمداني، عن عبد الله زريز الغافقي: أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )إنَّ هذين حرام على ذكور أمتي(.
حدثنا محمد بن علي الشقيقي، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرني
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )هذان محرمان على ذكور أمتي حل
لإناثهم(.
أخبرنا يحيى بن أحمر، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث،
عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لا يتختم
بالذهب ولا يلبس القسى(.
حدثنا سليمان بن أبي هلال الدهني، حدثنا أبو
الأحوص، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن معاوية بن سويدن عن البراء بن عازب،
قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب(.
قال أبو
عبد الله رحمه الله: فإنما وقع هذا النهي على الرجال دون النساء؛ لأن
المرأة تتزين لزوجها للعفة عن الحرام، وليس على الرجال من الزينة كل ذلك،
إنما على الرجال التنظيف والتطهير والتطييب؛ لأن بغية النساء من الرجال
الفراش، لأن المرأة خلقت من الرجل، فنهمتها في الرجال، والرجل يتخير ويبغي
الزينة والحلية؛ لأن نهمته متشعبة في النساء وفي غيرها من سائر الشهوات(.
وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: )خلق الرجل من طين، فنهمته في الطين، وخلقت المرأة من الرجل؛ فنهمتها في الرجال(.
وقال الله تعالى جده: (أَوَ مَن يُنَشَأُ في الحِليَة).
فالحلية لهن دون الرجال.
حدثنا
على بن حجر، شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ربيع بنت معوذ بن
عفراء، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب وأجر زعب،
فأعطاني ملء كفه حليا أو ذهبا. حدثني يعقوب بن شيبة، حدثني إسحاق بن عيسى
الطباع، عن شريك بإسناده مثله غير أنه قال: أعطاني ملء كفه ذهبا وقال: ) "
تحلى به(.
حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا عبد الله بن نمير، عن محمد بن
إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أهدى
النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلى فيها خاتم من ذهب، فيه فصى
حبشي، فأخذه رسول الله صلى الله عليهوسلم بعود أو ببعض أصابعه، وإنه ليعرض
عنه، فدعا ابنته أمامة بنت أبي العاص، فقال: )تحلى بهذا يا بنية(.
حدثنا
عباد بن يعقوب الأسدي، حدثني سرى بن عبد الله، عن جعفر بن محمد، عن أبيه،
قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة، فقال: )لأعطينها أحبَّ
أهلي إلىَ(؛ فتغير ألوان نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحدة
تقول يعطى صاحبتي، حتى إذا استبان في وجوههن وأمامة في ناحية البيت، فقال:
" تعالى يا بنية " فعلقها في عنقها(.
حدثنا موسى بن عبد الله السيقل، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
قال
أبو عبد الله رحمه الله: أما ما جاء من حديث البراء: نهانا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن خاتم الذهب. ثم روى من فعله - فذاك له خاص. حدثنا محمد
بن بشار، حدثنا محمد بن مجعفر وابن مهدي، حدثنا شعبة، عن أبي السفر، قال:
رأيت على البراء رضي الله عنه خاتما من ذهب.
حدثنا محمد بن شجاع المروزي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق قال: رأيت على البراء خاتما من ذهب.
وحدثنا
محمد بن مقبل، حدثنا عيسى بن خالد، عن شيخ من أهل جوزجان، قال: رايت على
البراء خاتما من ذهب، فقلت: ما هذا؟ قال: رخص لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وحدثنا محمد بن معمر البصرى، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الباجي،
حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني، عن البراء بن عازب، قال: أعطاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فقال: )تحل ما ألبسك الله ورسوله(.
فهذا كشف عن أمر البراء أنه له خاص ومكرمة من الله.. ألا ترى أنه قال: )ما ألبسك الله( والذي قال: )نهانا( فإنما هي للعامة.
وأما الذي يتخذ آنفا من ذهب أو سنا، فليس ذلك من اللباس ولا التحلي.
حدثنا
حميد بن علي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )حدثنا إسماعيل بن
عبد الله بن أبي، قال: أصيب أنفي، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
اتخذ أنفا من ذهب(.
حدثنا علي بن محمد بن مروان السدى، حدثني أبي،
حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: انكسر سن
لعبد الله بن عبد الله بن أبى، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يجعل مكانه سنا من ذهب.
وحدثنا الجارود، حدثنا النضري، حدثنا أبو
الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرقة بن عرفجة: أن جده عرفجة بن سعد أصيب أنفه
يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ أنفا من ورق، فأنتن عليه، فذكر ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتخذ أنفا من ذهب.
قلت لأبي الأشهب: عبد الرحمن أدرك جده عرفجة؟ قال: نعم.
؟
نقش الحيوان في الخاتم
وأما قوله: )ونهى أن ينقش الحيوان في الخواتيم(.لأنه إذا نقش يحول صورة، والمصور هو الله تعالى، وقد زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصاوير، وقال: )أشد الناس عذابا المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم(.
فإذا نقش في الخاتم حيوانا، ثم ختم به في طينة أو في شيء صارت صورة.
وأما ما جاء من الأخبار في نفس من لبس من الصحابة والتابعين الخواتيم التي فيها هذه النقوش، فروى عن حذيفة: أنه لبس خاتما عليه نقش كركيين متقابلين، وفلان لبس خاتما فيه ذباب، وأشباه هذا - أحاديث كثيرة. سمعت سفيان بن وكيع يقول: سمعت أبي يقول لما حدث بهذه الأحاديث: أن هذه خواتيم العجم، فلما فتحوا كور الأعاجم غنموها، فإنما لبسوها من أجل أنها غنيمة، ولم يعبئوا بذلك النقش.
حدثنا عبد الله بن سعيد الأشج، حدثنا عقبة بن خالد السكوني، عن أبي أمية بن يعلى الثقفي، عن أبي الزناد، قال: رأيت في يد أبي بردة بن أبي موسى خاتما من فضة عتيق، عليه أسدان متقابلان، بينهما رجل يلحسانه.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهذا خاتم قد روى في الأخبار أنه خاتم دانيال عليه السلام، لما فتحت تستر غنموه وأميرهم أبو موسى فأصابه في الفىء، وذلك أن دانيال عليه السلام لما ألقى في البئر، وفيه أسدان قد خرجا فجعلا يلحسانه - كي يكون نصب عينيه عطف الله عليه. فلما لبسه أبو موسى رضي الله عنه لم يغيره عن حاله. وهذا كما فعل داود عليه السلام أحب أن تكون الخطيئة نصب عينيه، فسأل ربه أن ينقشها في كفه، ففعل، فكان إذا رآهما اضطربت يده فوقع الإناء من يده.
نقش إسم الله تعالى على الخاتموأما قوله: )ونهى أن ينقش إسم الله على الخاتم(.
فهذا تأديب وحسم على الناس لكي يعظموا إسم الله تعالى؛ فإنه يلبس ذلك ويدخل في الخلاء ويستنجي. وهذا إنما نهى عن هذا الإسم خاصة فيما نعلم؛ لأن الله تعالى لا يشركه أحد فيه بنو آدم فيسموا بها، فإن نقش بها، على الخواتيم لم يكن داخلا في هذا النهي عندنا. وإنما خص إسم الله تعالى؛ لأن إسمه الذي هو إسمه من العظمة أن يجل هذا الإسم عن أن يدخل به المواضع الدنيئة.
وأما ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نقش خاتمه ثلاثة أسطر " محمد رسول الله الله " : محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، فلم يجئنا أنه كان يدخل به الخلاء.
حدثنا أحمد بن مدرك الهروي، حدثنا عون بن جعفر، عن مسرف بن أبي معاذ، عن صالح بن مرداس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: لما ارتقى موسى عليه السلام جبل طور سيناء رأى الجبار في أصبعه خاتما، فقال: يا موسىن ما هذا؟ قال: يا رب حلى من حلى الرجال.
قال: فهل عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال: لا يا رب: قال: فاكتب عليه لكل أجل كتاب.
حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا شباب بن خليفة، حدثنا الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس: أن نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر: )محمد رسول الله(.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن ثابت البناني، حدثني أبي، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه اتخذ خاتما من ورق نقشه " محمد رسول الله " .
حدثنا يحيى بن أحمر الطائي، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه " محمد رسول الله " وقال: " لا ينقش أحد على نقشه " .
حدثنا محمد بن بشار العبدي، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا زمعة ابن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن يعلى بن أمية، قال: صنعت لرسول صلى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد، ونقشه؛ " محمد رسول الله " .
حدثنا محمد بن
ميمون المكي، حدثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر قال:
اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتما
فضة، فجعل فصه من باطن كفه، ثم نقش عليه " محمد رسول الله " وقال: )لا
ينقش أحد على نقش خاتميْ(.قال أبو عبد الله رحمه الله: معناه أنه إنما نقش
ليختم به الكتب، وذلك أنه قيل له: إن الملوك لا يقرون الكتاب إذا لم يكن
مختوما، فلذلك قال: لا ينقش على مثل نقشه؛ لاشتباه الأمر، ودخول الضرر.
وكذلك خاتم الخلافة ممنوع أن نقشه على مثل نقشه لاشتباه الأمر.
وأما قوله: )جعل فصه مما يلي بطن كفيه( فذلك عندنا بمعنى دخول الخلاء.
حدثنا
أبو الربيع الأيادي، حدثنا إسحاق بن نجيح الملطي، عن ابن جريج، عن عطاء
الخراساني، عن ابن عباس، قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من
فضة، وكان يجعله مما يلي راحته.
حدثنا أبو الربيع الأيادي، حدثنا إسحاق
بن نجيح الملطي، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: كان
خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، وكان يجعله مما يلي راحته.
حدثنا
أبو الخطاب الحرشي، حدثنا زياد بن يحيى، حدثنا عبد الله بن ميمون القداح،
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه.
وحدثنا بشر بن القاسم
النيسابوري، حدثنا ابن نمير، حدثنا إبراهيم بن الفضل، عن عبد الله بن
محمد، عن عبد الله بن جعفر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في
يمينه.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهذا لحال الإستنجاء، كأنه كره أن
يستنجي والخاتم فيه ذلك النقش. حدثنا الجارودن حدثنا يحيى بن الضريس، عن
عبد العزيز بن أبي رواد، قال: سالت عكرمة عن الرجل يدخل الخلاء وعليه خاتم
فيه اسم الله؟ قال: يجعل فصه في كفه، ثم يقبض عليه، فيكون كالقرآن في صدره.
الصلاة بعد العصر وبعد الفجر
وأما قوله: )ونهى عن الصلاة في ساعتين: بعد العصر، وبعد الفجر(.ففي النهار ثلاث ساعات الصلاة فيهن محرمة: وفي وقت طلوعها، ووقت زوالها، ووقت غروبها. فحسم على الناس باب الصلاة بعد العصر وبعد الفجر حتى لا يقعوا في الوقت المحرم، فالساعات محرمة فيها بعد الفجر وبعد العصر منهي عنها.
حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا موسى بن علي بن رباح اللخمي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر موتانا: حتى تطلع الشمس بازغة، وحين يستوي الزوال، وحين تضيف للغروب حتى تغرب(.
صيام ستة أيام؟
وأما قوله: )ونهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر، ويوم النحر، ويوم يشك فيه من رمضان، وثلاثة أيام بعد النحر(.
فأما قوله: )يوم الفطر( فيكون فصلا بين الفريضة والتطوع.
وأما " النحر " فلأكل القربان؛ لأنه طعمة الله، قال: (فَكُلوا مِنها وَأَطعِمُوا القانِعَ وَالمُعتَر) فبدأ بالأكل، ثم الإطعام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم يوم الفطر قبل أن يخرج، ولا يطعم يوم النحر حتى يرجع فيأكل من لحم الأضحية، كأنه أحب أن يكون على ريق الغذاء، فيرجع فيذبح الأضحية فيأكل منها، فكان يأكل من كبدها؛ لأنه موضع الرحمن من كل ذي روح، فذاك كالتداوي والإستشفاء فيه.
وأما " يوم الشك " فمن أجل أنه إذا صام فكأنه زاد في الفرض، وذاك إذا صام على انه من الفرض، وأما إذا صامه تطوعا فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصوم شعبان كله يصله إلى رمضان، كأنه يتأول في قول الله تعالى: (فِصِيامُ شَهرينِ مُتَتابِعَينِ تَوبَةً مِنَ الله).
وأما " أيام النحر " فهي أيام خروج
الناس من الإحرام. وإذا حظر الله على العباد شيئا فانتهى وقت الحظر أحب أن
يرجعوا إلى إطلاقه. ألا ترى أنه قال: (لا تَقتُلوا الصَيدَ وَأَنتُم
حُرُم) ثم قال: (وإذا حَلَلتُم فاصطَادوا) وقال: (إذا نُودِيَ لِلصَلاةِ
مِن يَومِ الجُمُعَةِ فاسعَوا إِلى ذِكرِ اللهِ وَذَروا البَيع) ثم قالك
(فَإذا قُضِيَتِ الصَلاةُ فانتَشِروا في الأَرضِ) فكان عبد الله من بشر
إذا قضى الصلاة خرج ثم عاد إلى المسجد، فأحب أن يطلق ويراهم مطلقتين، كما
رآهم في الحظر محظورا عليهم. فكانوا في الإحرام، فإذا فرغوا أحب الله الله
تعالى أن يراهم محلين... ألا ترى إلى قوله عليه السلام: )أيام التشريق
أيام أكل وشرب وبعالْ(. وكان القوم في الإحرام ممنوعين من التبعل، فلما
أطلقوا أحب الله لهم ذلك، فنهوا عن صيامه ليكونوا في هيئة المطلقين
المحلين من إحرامهم، وليتقوى الذاكر على ذكره؛ فإنها أيام ذكر.
واعتبر
برجل له عبد، قيد عبده، ثم أطلقه، فثبت على مكانه كالملقى نفسه كسلا، فهذا
مستثقل وخم، بعيد عن الكياسة، لا يفرح بإطلاقه، فكأنه لم يعبأ به.. ألا
ترى إلى قوله: )إنّ أحبّ عبادي إلىّ أعجلهم فطرا(. فهذه مبادرة إلى رخصته،
فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وكذلك نهى عن صيام
الأضحى والفطر فيما نرى ليخرج من صومه يوم الفطر، وليأكل من لحم أضحيته
يوم النحر. حدثنا سعيد المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عن أبي
عبيد، قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة، ثم
خطب فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهىعن صيام هذين اليومين، أما
يوم الفطر ففطركم من صيامكم، وأما يوم الأضحى فتأكلون من لحوم نسككم. فقد
بين عمر رضي الله عنه العلة فيه.
سفر المرأة فوق ثلاث دون زوج أو ذي محرم
وأما قوله: )ونهى أن تسافر المرأة فوق ثلاث إلا مع زوج أو ذي محرم(.فهذا
توقيت ومقدار السفر الذي يقدر فيه لقصر الصلاة وانقطاع المسح على الخفين،
كأنه رأى أن ما دون مسيرة ثلاث وإن كان يسمى سفرا فليس بذلك السفر الذي
يوجب العذر. وإن غابت المرأة عن وطنها، فليست تلك غيبة غربة؛ لأن في
الغربة تضييعا لافتقاد الأحوال: أحوال الوطن.. ألا ترى إلى قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: )من مات غريبا مات شهيدا(، فإنما صار هكذا لأنه افتقد
أحوال التربية والنعمة والتغذية. وهذا كله نصيب النفس؛ فإنما تحب الحياة،
فإذا افتقدت هذا كله فما تصنع بالحياة؟ فيجد القلب حينئذ الزهادة والخلاصة
من شهوات النفس، فيقدر أن يحتسب بنفسه على الله، فكتب شهيدا، لأن الشهيد
هو الذي احتسب نفسه على الله.. ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: )الشهداء أمناء الله قتلوا أو ماتوا(. فإنما صار أمينا إذا تخلص
العبد من إيثار النفس وأحب الموت وتمناه، فذلك قد سلم نفسه إلى الله،
واحتسب بها عليه. ومن لم يخلص قلبه من أسر النفس، فنفسه متشبثة بحب الحياة
الدنيا للشهوة الغالبة، فهو فار من الموت، فإذا مات لم يكن شهيدا، وليس هو
من أمناء الله؛ لأن الأمين من إذا أعطى شيئا عاريةن فيسال الرد، رده بلا
كره. والخائن من قد ولج في رده حتى يؤخذ منه بغير طيبة نفسه، قال الله -
عزوجل - عندما قالت اليهود والنصارى: نحن أولياء الله: (قُل يا أَيُها
الَّذَينَ هادوا إِن زَعَمتُم أَنَّكُم أَولياءَ لِله مِن دونِ النَّاسِ،
فَتَمَنَّوا المَوتَ إِن كُنتُم صادِقينَ)، ثم أعلم العباد الذي منعهم من
ذلك فقال: (وَلاَ يَتَمَنونَهُ أَبداً بِمَا قَدَّمَت أَيديهِم). فمن قدم
سوءا، فهو عبد آبق، فار من الله تعالى؛ فكيف يتمنى القدوم عليه؟ وكيف تطيب
نفسه بالموت؟ وكيف يكتب شهيدا، والشهيد من يختار وجه الله ورزقه هناك عنده
في محل القربة ليشهده، فيلزمه هذا الإسم؟ فأخبر أن الولي يتمنى الموت،
وكذلك المقتول في سبيل الله سلم نفسه إلى الله بذلا فقلل الإسم، وكذلك
المطعون أيس من الحياة، وكذلك النفساء أيست من الحياة فطابت نفسها بالموت
فهي باذلة، وكذلك الغريق، وصاحب الحرق، وكذلك صاحب الهدم، والمبطون؛
فهؤلاء كلهم قد طيبوا أنفسهم بالموت، واحتسبوا على الله، وتركوا الخيانة
في شأن الروح لما أيسوا من الحياة، فقبل الله ذلك منهم، وألحقهم بالشهداء.
فهذا الغريب قد لحق بهم أيضا من أجل ما وصفنا أنه لما اقتقدت نفسه تلك
الأشياء طلب الموت وسلس قيادة وتخلى عن تشبث النفس بها، فخرج من الخيانة،
وصار من الشهداء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صير توقيت الثلاث
اغترابا، وما دون ذلك حكمه حكم الحضر، وإنما سمى حضرا لأنه تحضره النعمة
والتربية، وسميت غربة لأنه أغرب نفسه وتباعد، وسمى سفرا لأنه أسفر عن
النعمة إلى البراز.
إحراق شيء من الحيوان بالنار
وأما قوله: )ونهى أن يحرق شيء من الحيوان بالنار(.فإنه ليس لأحد أن يعذب بعذاب الله. والنار مثلة، والمثلة تشبه بفعل الله؛ لأن الله تعالى يعذب بالنار إذا عاقب.
وقد جاء حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شان الحية، حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن إدريس، عن شريح، عن عمرو بن دينار، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود،عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فمرت حية، فقال صلى الله عليه وسلم: " اقتلوها " فسبقتنا إلى جحر فدخلتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا( قال نعيم: حدثت به ابن أبي عتبة وابن إدريس حي، فجعل يتعجب، فلم يصبر حتى قام إليه وسمع منه.
قال أبو عبد الله - رحمه الله - : وليس هذا الحرق، ولكنه لما فاتتهم وهي عدو لهم احتال في إيصال الهلاك إليها لما أحب أن يقيم العداوة التي نصبها الله بينهم حيث قال: (اِِهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُو) فإقامة عداوتك في شأن الحية وشأن إبليس مما يتقرب به إلى الله، فلما ابتدروا قتلها سبقتهم، فاحتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلها كي يخفر ذمة إبليس، ويقيم العداوة التي نصبها الله بينهم، وينتصر إلىالحق، فإنها مالت إلى الباطل وإلى إبليس، فألقى النار على الصخرة كي تحمي فتموت غما فليس ذلك حرقا.
وكانت الحية
أقيمت في الجنة لخدمة آدم عليه السلام، وكانت ذات قوام ولها عرف كأحسن من
بين نابيها، حتى دخل وكلمه منها، فلعنت ولعن إبليس، وسلبت قوائمهان وجعلت
تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وقال لها إبليس: أنت في ذمتي، فلا
تخافي من الذي أصابك. فكان ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: اخفروا ذمة
عدو الله. فلما لعنت تكلمت، فروى في الخبر أنه قال لها الرب تعالى:
وتتكلمين أيضا، فشق لسانها حتى خرست.
حدثنا الهاشمي، حدثنا عبد الرزاق،
عن عمر بن عبد الرحمن، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: قال الله تعالى لآدم
عليه السلم عندما أكل من الشجرة: ملعونة الأرض التي منها خلقت لعنة يتحول
ثمارها شوكا. ولم يكن في الأرض ولا في الجنة شجرتان أفضل من الطلح والسدر،
ثم قال: يا حواء، غررت عبدي؛ فإنك لا تحملين حملا إلا حملتيه كرها، فإذا
أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا. وقال للحية: أنت الذي دخل
الملعون في جوفك حتى غر عبدي؛ ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا
يكون لك رزق إلا التراب؛ أنت عدو بني آدم، وهم أعداؤك، أين لقيت واحدا
منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك.
قال أبو عبد الله - رحمه الله -
: فهذه عداوة أصلية متأكدة يتقرب بها إلى الله، وإنما أعطيت السم في نابها
لمتنع به عن ولد آدم. ولتحذر فتقتل؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه
نوسلم: )اقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في الصلاة(. حدثنا بذلك عبد الوهاب
بن فليبح، حدثنا عبد العزيز عبد الصمد، حدثنا بذلك عبد الوهاب بن فليح،
حدثنا عبد العزيز عبد الصمد، حدثنا هشام أبو المقدام، عن محمد بن كعب، عن
ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثنا محمد بن موسى الحرشي،
حدثنا عبد الرحيم، بن زيد العمى، عن أبيه، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس،
عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وأبيح للمحرم قتلها. حدثنا قتيبة،
عن ليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: )خمس يقتلن في الحرم: منها الحية(.
وحدثنا يزيد بن عمرو بن يزيد
البزاني عبد الله الفتوي، حدثنا أحمد بن حرب الغساني، حدثتني ساكنة بنت
الجعد، عن سري بن نبهان الغنوية، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: )اقتلوا الحية: صغيرها وكبيرها، وأسودها وأبيضها؛ فإن من قتلها كانت
له فداء من النار، ومن قتلته كان شهيدا(.
قتل الجان
أو ماقوله: )ونهى عن قتل الجان(.فذلك طائفة منالجن قد أنست بالمسلمين، ولهم مساكن في بيوتات المسلمين، وخلقتهن خلقة الحيات. فهم الجان، فإذا قتلوا أضروا بالقاتل: أولياءه وعشيرته. وروى لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه زجر عن ذلك. حدثنا بذلك سفيان بن وكيع، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدثني صيفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن بالمدينة نفرا من الجن أسلموا، فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا، فإن بد له بعد ذلك فليقتله؛ فإنه شيطان(.
حدثنا الزبير بن بكار الزبيري، حدثنا سعيد بن سعيد المقبري، عن أخيه، عن جده أبي سعيد الخدري، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فخرج معه فتى من بني خدرة هو حديث عهد بعرس، فاستأذن رسول الله صلى الله عليهوسلم أن يطالع أهله، فأذن له، فخرج الفتى وفي يده رمح حتى دخل الدار، فوجد زوجته بباب حجرته جالسة، فافزعه ذلك، فقال: ما أخرجك من بيتك؟ قالت: حية مطوية على فراشك، هي التي ذعرتني. فدخل الفتى فركزها برمحه ثم خرج بها في الرمح ترتكض فماتت، ومات الفتى من ساعته. فذكر ذلك لرسول الله صلىالله عليه وسلم فقال: )لا تقتلوا شيئا تجدوه في البيوت منهن حتى تقدموا(.
وحدثنا محمد بن أيوب السختياني، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: )الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون(.
قال: وزاد فيه غيره عن أبي أسامة، عن أبي المنيب،
عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: )خلق الله الجن ثلاثة أثلاث: فثلث كلاب وحيات وخشاش
الأرض، وثلث ريح هفافة، وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب. وخلق
الله الإنسان ثلاث أثلاث: فثلث لهم قلوب لا يعقلو بها، ولم أعين لا يبصرون
بها، ولهم آذان لا يسمعون بها؛ إن هم إلا كالأنعام، بل هم اضل. وثلث
أجسامهم أجسام آدم عليه السلام وقلوبهم قلوب الشياطين. وثلث في ظل يوم لا
ظل إلا ظله(.
حدثنا ابن أبي مسرة، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا
حاتم بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن مجمع، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه،
حدثني عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل ذوات
البيوت - يعني الجان.
وحدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن أبي
قيس الأودي، عن علقمة، قالك اقتلوا الحيا كلها إلا الجنان الذي كأنه ميل
فإنه جنها، ولا يضر أحدكم كافرا قتل أو هو - يعني الحيات(.
حدثنا صالح
بن محمد، حدثنا يحيى بن واضح أبو ثميلة، حدثنا ربيع بن بدر: الجان التي
نهى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا
تلتوي(.
حدثنا نصر بن فضالة،عن محمد بن سلام البيكندي عن ابن المبارك، قال: علامة الجنية أنها إذا مشت لا تلتوي.
تقبيل الرجل الرجل أو التزام الرجل الرجل
وأما قوله: )ونهى أن يقبل الرجل الرجل، أو يلتزم الرجل الرجل(.فهذا فعل يدعو إلى ريبة وفساد. فهذا للعامة، وليس كل الناس يستوي.
وحدثنا صالح بن محمد، حدثنا قبيس بن الربيع، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن الشعبي، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أتاه البشير بأن جعفر قد خرج من أرض الحبشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لا أدري بأيهما أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر( فخرج يتلقاه، فالتزمه، وقبل بين عينيه.
قال أبو عبد الله - رحمه الله - فالإلتزام والتقبيل من فعل الأولياء وأهل المحبة، والعامة نفوسهم معهم، والخيانة معهم كائنة. فالأولياء قد تنزهوا وبرئوا من الخيانة.. ألا ترى أنه قبل بين عينيه؛ وذلك أن المأخوذ بالناصية الذي قد أخذ بناصيته إلى الله.
الإنحاء أو السجود لغير اللهوأما قوله: " ونهى أن ينحني الرجل للرجل، أو يسجد لأحد غير الله(.
فهذا تواضع وعبادة، ولا يستحق ذلك أحد غير الله؛ لأن الإنحناء كالركوع، والركوع لله. وقد كان في الأمم قبلنا إذا لقى الرجل الرجل انحنى له، يريد بذلك أمانة. فأكرم الله عز وجل هذه الأمة بتحية أهل الجنة، وخصهم بها فجعل السلام أمانا بينهم.
حدثنا محمد بن علي الشقيقي، حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن عباس، حدثنا أبو سلمة الحمصي، عن يحيى بن خالد: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: السلام أمان الله في الأرض.
وحدثنا الشقيقي، حدثنا أشعث بن سوار، عن كردوس بن عياش، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: السلام إسم من أسماء الله تعالى؛ فأفشوه بينكم نصحا من عند قلوبكم. معناه أن يكون في ذمة أمانك في الظاهر والباطن، فلا تؤذه ولا تخنه بفعلك، ولا تضمر له على سوء، ولا تحله من رحمتك ورأفتك ونصحك.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أوفى، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن الله تعالى أعطاني ثلاث خصال لم يعطها أحدا قبلي: السلام وهو تحية أهل الجنة، وصفوف الصلاة وهي صفوف الملائكة، وآمين.. إلا ما كان من موسى وهارون(. معناه أن موسى دعا وأمَّن هارون عليهما السلام، وهو قول: (رَبَّنا اطمس عَلَى أَموالِهِم) الآية، فقال: (قَد أُجيبَت دَعوَتُكُما). قال أبو عبد الله - رحمه الله - : فجعل لهذه الأمة بدلا من الإنحناء السلام، فإن عاد إلى ذلك فقد رفض كرامة الله.
شرب الخليطينوأما قوله: )ونهى عن شرب الخليطين: البسر والتمر(.
فهو من أجل أنه إذا اختلط النيىء بالنضيج اشتد وقواه.
الذبح بالسن أو الظفروأما قوله: )ونهى أن يذبح بالسنب والظفر(.
لأنه لا يقطع قطع الشيء الحاد، وإنما يبرد الأوداج ويمزقها فيصير كهيئة الموقوذة، وإذا لم يقطع الودج لم يسل الدم، فجمد فيه، فصار آكلا للدم.
المثلةوأما قوله: )ونهى عن المثلة(.
فالمثلة تشبه وتمثل بالخلائق، وتبديل خلقه تعالى.
الإنتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت
وأما قوله: )ونهى عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت: أن ينبذ في شيء منها(.وذلك أن الدباء هو القرع، فإذا اشتد فيه وغلا لم يشعر، وكذلك الحنتم وهي جرار مقبرة، وكذلك النقير وهو خشب منقور مجوف، والمزفت، وهو الذي قد ضرب بالزفت.
فهذه أوعية لا تنشق إذا إلى ما فيها فيعلم به صاحبه فيجتنبه. فإنما حرم عنه باب شرب النبيذ الذي يغلي ويشتد، والمراد منه هذا. ثم لما استحكم تحريم كل مسكر في قلوبهم فاجتنبوه، قال: )إن الأوعية لاتحرم شيئا ولا تحله( أدخلي عنهم فقال: )اشربوا من الأشربة ما طاب لكم، فإذا خبث فذروه(. حدثنا بذلك صالح بن محمد، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبي، حدثنا الحماني وعفان قالا: حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن التميمي، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )كنت نهيتكم عن الأوعية، فاشربوا فيها، ولا تشربوا مسكرا(.
وقال عثمان رضي الله عنه: اشربوا فيها ما شئتم، فمن شاء أو كي سقاه على إثم. حدثنا حفص بن عمر، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا فرق السنجي، حدثنا جابر بن زيد: أنه سمع مسروقا يحدث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )كنت نهيتكم عن هذه الظروف، فانتبذوا فيها، واجتنبوا كل مسكر(.
حدثنا ابن أبي مسرة، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثنا إبن أبي صالح، عن أيوب بن هلال، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )ألا إن وعاء لا يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام(.
؟
التنخم في قبلة المسجد
وأما قوله: )ونهى عن التنخم في قبلة المسجد(.فالقبلة لها حرمة عظيمة؛ لأنها قبالة بيت الله، وقباله معلمه، وقبالة البيت المعمور، وقبالة العرش. والنخامة فضول الرأس والصدر، فلا يرمى بها في القبلة، فيكون كالشيء الذي لا حرمة له.. ألاترى أنه ليس من الأدب أن يبزق الرجل عن يمينه ولا أمامه، وكذلك روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه زجر عن ذلك، وقال: )عن يساره أو تحت قدمه(.
؟
البزاق في البئر الذي يشرب منه
وأما قوله: )ونهى عن البزاق في البئر يشرب منه(.فمن أجل أن هذا إفساد على كل مستقى يعاف ويقذره، ولعله أن يكون في بعض بزاقه ماخالطه دم؛ فإنه ينجس بئره من حيث لا يعلم(.
؟
تغيير الحدود بغير حق
وأما قوله: )ونهى أن يحول شيء من تخوم الأرض، قال: ومن فعل ذلك فعليه لعنة الله(.فالتخوم: الحدود فإذا حول أو غضب أو أخذ من أرض غيره، فقد روىعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: )من ظلم شبرا من الأرض، فأخذه بغير حق، طوقه الله من سبع أرضين(.
وذلك أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، جعلها بساطا لعباده، وصير فيها معاشهم، ثم ملكهم على مقاديره؛ فمن تعدى حده الذي أذن له فيه، فأخذه من غير الوجه الذي أذن فيه، صار غاصبا لأرض الله. وهي أرض واحدة فتقت فجعلت سبعا، فالغاصب لها يطوق ذلك الذي غصبه من سبع أرضين، حتى يجىء بها يوم القيامة في عنقه(.
ووجدنا ملك الأشياء كلها إنما أذن الله تعالى للعباد في تناولها من ستة اوجه للأغنياء، ومن ثمانية أوجه للفقراء: من الغنيمة، والتجارة، والوصية، والهبة، والهدية، والميراث.. فهذه ستة للأغنياء، وللفقراء زيادة وجهين: من الصدقة، واللقطة. فما تناولوا من الدنيا من هذه السبل الثمانية أبيح لهم وسائر ذلك حرام.
؟الوصال في الصوم وأما قوله: )ونهى عن الوصال في الصوم(.
فإنه إذا واصل ترك هدية الله، وذلك أن الله تعالى أهدى إلى هذه الأمة الغذاء المبارك، وهو السحورن جعله طعمة لهم؛ فهو تارك طعمة.. ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: )السحور هو الغذاء المبارك؛ فتسحروا ولو بجرعة من ماء(.
فالآدمي إنما له طعامه غدوا وعشيا، علىهذا ركب وغذى.
وكذلك في الآخرة لهم رزقهم منها بكرة وعشيا. فالصائم من الأمم الماضية أمر
بترك غذائه إلى عشائه فصيرها واحدة، فعطف الله على هذه الأمة فجمع لهم
الغذاء والعشاء، ولم يحل بينهم وبين ذلك، وإنما أمرهم أن يقدموا هذا
الغذاء قبل طلوع الفجر العشاء بمكانه في وقت يجمع لهم في صومهم الأمرين
جميعا.
وسائر الأمم كانوا إذا تعشوا حرم عليهم إلى مثلها من اليوم
الثاني، وكذلك كان في بدء هذه الأمة، فسمح الله لهم في ذلك، فقال: (عَلِمَ
اللهُ أَنَّكُم كُنتُم تَختانُونَ أَنفُسَكُم فَتابَ عَلَيكُم وَعَفا
عَنكُم). فالتوبة من الله الرحمة والعفو والجود؛ فرحم وجاد وقال: (فالآَنَ
باشِرُوهُنَّ وَابتَغَوا ما كَتَبَ الله لَكُم وَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتى
يَتبَينَ لَكُم الخَيط الأَبيَضُ مِن الخَيطِ الأَسود مِن الفَجَر) فإذا
واصل الصوم ذهب هذا كله. وأيضا خلة أخرى: إن كل يوم فرض على حدة، فإذا
واصل لم يكن فصل بين الفرضين.
؟
التبتل
وأما قوله: )ونهى عن التبتل(، وقال: من لم ينكح فليس منا(.فالتبتل عن النساء: رفض النكاح، وقال صلى الله عليه وسلم: تزوجوا توالدو، فإني مكاثر بكم الأمم(. وهذه أمة محبوبة مرحومة، فيحب أن يكثروا.
قال: وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )ما أحل الله حلالا أحبّ إليه مِن النكاحِ، وَمَا أَحَلَّ حَلالاً أَبغَضَ إِليه مِنَ الطَلاق(. حدثنا يحيى بن أحمر الطائي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن حميد بن مالك اللخمي، عن مكحول، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تبتل ذهب كله.
قال: وروى عن سعيد بن المسيب: ان النبيين عليهم السلام فضلوا بكثرة الجماع لما فيه من اللذة.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )أعطيت قوة أربعين رجلا في النكاح وأعطى المؤمن قوة عشرة(.
قال: وروى عنه: أنه شكا إلى جبريل عليه السلام قلة الجماع، فتبسم جبريل عليه السلام حتى تلألأ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثناياه، ثم قال: أين أنت من الهريسة؛ فإن فيها قوة أربعين رجلا. حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي، حدثنا أرطأة بن المنذر السكوني، عن مكحول عن أبي هريرةن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
قال أبو عبد الله رحمه الله: في التبتل انقطاع النسل، وفقد ما خص الله تعالى به هذه الأمة من شأن النكاح.. ألا ترى قوله: (فَاتوا حَرثَكُم أَنَّى شِئتُم، وَقَّدِموا لأَنفُسِكُم) فروىعن عطاء أنه قال: التسمية عند النكاح. ثم قال: (وَاتَّقوا الله وَاغلَمُوا أَنَّكُم مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنينَ) وقال صلى الله عليه وسلم: )إِنَّ مِن سُنَتي النكاح(.
؟
القزع
وأما قوله: )ونهى عن القزع(.وهو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه، فهذا تشبه بالقسيس.
وذكر شرح هذا بتمامه في نوادر الأصول في بابه.
؟
بيع السمك في الماء
وأما في قوله: )ونهى عن بيع السمكة في الماء(.فهذا أيضا غرر لا يدري يصيبه أم لا.. وقد نهى عن بيع الغرر. وهذا وأشباهه، وكل بيع على خطر، لا يدري صاحبه أيقدر على تسليمه أم لا؛ فهو غرر، وأخذ ماله ولم يعط شيئا.
؟بيع المضامين والملاقيح وأما قوله: )ونهى عن بيع المضامين والملاقيح(.
وهو أن يقول: أبيعك ما تضمن بطن هذه الجارية، أو هذه الناقة، أو ما يلقح العام.
؟
بيع حبل الحبلة
وأما قوله: )عن بيع حبل الحبلة(.وهو أن يقول: أبيعك حبل هذا الحمل الذي ظهر في البطن، فإذا ولدت وكبرت، فأناأبيعك الآن ذلك الحبل الذي يتوقع من هذا الحبل.
فهذا كله باطل كلام وربح؛ أخذ ماله على كلام يرجو.
؟
بيع المصاحف
وأما قوله: )ونهى عن بيع المصاحف(فمن
أجل أن ذلك الذي فيه كتاب الله تعالى وكلامه، فليس لأحد ان يأخذ عليه
ثمنا. ومن رخص فيه، فإنما يرخص من أجل أنه رأى البيع واقع على الورق
والرق.. ألا ترى ان الدراهم البيض يتبايع بها وفيها سورة ثابتة، فلا يقع
البيع على الكتابةن وإنما يقع يقع على الفضة. كذلك العلم لا يباع، وإذا
بيعت فإنما تقع على الصحف، لا على العلم الذي فيه. وهذا النهي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تأديب. وقد كره ذلك كثير من العلماء، ورخص فيه
آخرون لما ذكرت.
؟
إستئجار الأجير دون أن يعلمه أجره
وأما قوله: )ونهى أن يستأجر أجيرا حتى يعلمه أجره(.فهذا من أجل أنه شرط علما، ولم يشترط أجرا، ولم يتعاقد على شيء، وإن تنازعا اشتبه الأمر، ويؤدي إلى المجازفة والخصومة، فلا ينبغي له أن يقدم على ما يعقب مثل هذا، فإنه فساد. فإذا لم يعلم أجره، فقد استعمل الجهل، ويلزمه أجر مثله.
؟
منع الجار أن يغرز خشبة في جداره
أما قوله: )ونهى أن يمنع جاره أن يغرر خشبة في حائطهْ(.فهذا إقامة لحرمة الجار، وفي منع ذلك قطيعة ووحشة وتباغض، وفي الحكم له أن يمنع ذلك؛ لأنه ملكه، ولكن منعه يؤدي إلى فساد وتباين، وهو في ذلك مسقط لحرمة الجار، وهو عندي داخل في منع الماعون إن شاء الله تعالى، وقد قال الله تعالى: (فَويلٌ لِلمُصَلين، الَّذينَ هُم عَ، صَلاتِهم ساهُونَ. الَّذينَ هُم يُراءُونَ. وَيَمنَعونَ المَاعُونَ). والماعون هو كل شيء مرتفق به ويمتهن، ورأسهن الركوة، ثم من بعده العواري مثل: الفأس، والدلو، والقدر.
بيع الحيوان بالحيوان نسيئةوأما قوله: )ونهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة(.
فمن أجل أنهما إذا تبايعا بذلك بتعاين على شيء يعلمان مالذي وجب كل واحد منهما ما وجب له عليه، فإذا تبايعا والحيوان معلوم متفاوت، فرب بعير خير من خمسة أبعرة، فلم ينعقد بيعهما على معلوم، وهذا مجهول.
وإنما البيع عن تراض، فلو تنازعا لم يدر واحد منهما ما وجب له عليه، فإذا تبايعا والحيوان معلوم في نفسه غائبا كان أو حاضرا فهو جائز؛ لأن البيع وقع على عين معلوم، فيدريان مايتطالبان وما وجب على كل واحد منهما.
؟عقر المواشي في دار الحرب دون ضرورة وأما قوله: )ونهى عن عقر المواشي في دار الحرب(.
فمن أجل أنه فساد، وكذلك إحراق الزرع.
المبارزة بدون إذن الإماموأما قوله: )ونهى عن المبارزة بغير إذن الإمام(.
لأن الإمام إنما نصب ليؤتم به في أمر الحرب؛ لأنه يوفق من أجل العسكر مالا يوفق لواحد من نفسه. وربما بارز فأصيب. وفي ذلك نكاية في المسلمين وفي الإمام؛ فلا ينبغي أن يفعل ذلك إلا بإذن الإمام.
؟
الإمامة بالأجر
وأما قوله: )ونهى عن الإمامة بالأجر(.فالإمامة عبادة يعبد ربه، ويقتدي به من خلفه، والعبد لا يأخذ على عبادة مولاه أجرا إلا منه، وإن أخذ فباطلا أخذه، ولا يجب له عليه شيء.
تعليم القرآن بالأجروأما قوله: )ونهى عن تعليم القرآن بالأجر(.
فمن أجل أن القرآن رحمة من الله تعالى وهو عهد الله، ورحمته لا تباع ولا تشترى، فقال: (قُل مَا أَسأُلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ وَما أَنا مِن المُتَكَلِفينَ).
؟
الآذان بالأجر
وأما قوله: )ونهى عن الآذان بالأجر(.فمن أجل أن المؤذن يدعو إلى الصلاة والفلاح، فهو داع إلى الله، ولا يحل أن يأخذ على الدعاء إلى الله أجرا، قال الله تعالى: (وَمَن أَحسنُ قَولاً مِمَّن دَعا إِلى اللهِ) فإذا ابتغى أجرا، فهو كأنه يقول: إن أعطيتني أدع، وغلا لم أدعك إلى الله تعالى.
بيع الولاء وهبته
فالولاء
ونعمة تولاها المعتق على عبده إن فك رقبته من الرق، وهو ولى نعمته، فإذا
مات هذا المعتق فميراثه للمعتق، ولا يقدر هذا المعتق أن يجعل ولاءه الذي
هو له لبعض ورثته دون بعض، أو لرجل أجنبي، ببيع أو هبة أو وجه من الوجوه.
فإذا مات وله ورثة، فإنما ترث ورثته ماله لا نعمته التي أنعم بها على
مملوك فأعتقه. وإن كان المعتق ترك اثنين، فمات أحد الإثنين وترك أولادا،
ثم مات المعتق. وإن كان المعتق ترك اثنين، فمات أحد الإثنين وترك أولادا
ثم مات المعتق، فالولاء لهذا؛ لأن الباقي دون أولاد هذا الأب الذي مات،
وهو قوله: )الولاء للكبر) لأن الأول لما مات لم يورث ولاؤه أحدا؛ لأن تلك
النعمة اصطنعها إلى عبده، فإذا مات المعتق، فأقرب الناس إليه من ولي فك
رقبته وأنعم بها عليه، فلذلك يرث ماله. وهذا إذا لم يترك ورثة، فإن مات
أحد الإثنين، فإنه لم يكن ورث شيئا فيورثه ولده، فإن مات والأب الأكبر
حيا، فهو أولى من ولد ابن الميت. فالولاء لحمة كلحمة النسب؛ فكما أن النسب
لا يباع، فكذلك الولاء.
نزو الحمير على الخيل
وأما قوله: )ونهى أن تنزى الحمير على الخيل(.فلأنه احتال في خلق الله، ومنه تكون البغال، وفي حديث آخر قالوا: يا رسول الله، إن ننزي الحمير على الخيل. قال )إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون(.
وهو فعل الملوك الجبابرة، وهذا زنا من البهائم. حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر بن حفص بن عمر، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى: (لَولاَ أَن رَأَى بُرهانَ رَبِّهِ) قال: جاء جبريل عليه السلام فقال: يا يوسف أماعلمت أن الطير إذا زنا تساقط ريشه،وأنالثور إذا زنا وقع الدود في قرنه، وزنا الطير أن تنزوا حمامةعلى الدجاجة، وزنا الثور أن ينزو على حمار أو جنس غير جنسه(.
العرافةوأما قوله: )ونهى عن العرافة(.
فالعريف يحتمل وزر القوم لأن فيه ظلما وتعديا غلا ما عصم الله تعالى.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )لا بد للناس من عريف، والعريف النار( وإن كان أراد بقوله نهى عن العرافة والكهانة وشبهه، فهذا أشد وأمر؛ فإن الكاهن يقال له " عريف " وهوالذي يزعم أنه يعرف أمور الغيب، وهو كاذب لايقدر على ذلك؛ إذ لم يطلع علىغيبه إلا من ارتضى.
الهجران)ونهى عن الهجران(، وقال: من كان لا بد فاعلا فلا يهجران أخاه فوق الثلاث، ومن مات مهاجرا لأخيه كانت النار أولى به(.
ففي الهجران محقرة ومذلة، قد منعه السلام وبر اللسان.. ألا ترى أنهقال في شأن النساء: (وَاهجُرُهُنَّ في المَضاجِعِ) يكون تأديبا لها لأن هجران المضاجع استهانة ورفض. فالهجران ن يصارم اخاه على العداوة والبغضاء، وقد هتك حرمة الإسلام ونبذها وراء ظهره. فإن كان لا بد مؤدبه فثلاث ولا يجاوز.
الصرفوأما قوله: )ونهى عن الصرف(.
فلأن عامته ربا. حدثنا يزيد بن مغفل ولد أبي طيبة، حدثنا ابن فضيل، عن ليثن عن مجاهد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لو أن أهل الجنة تبايعوا - ولا يتبايعون - لكان بيعهم البر. ولو أن أهل النار تبايعوا لكان بيعهم الصرف. وإنّ إبليس ليحب الصرف كما يحب أحدكم ولده(. حدثنا أبو طالب الهروي، حدثنا شبيب بن سليم المصري، قال: سمعت الحسن البصري يقول: لو أصابني أشد حر في الأرض ما استظللت تحت ظل صيرفي.
الاستعانة بالمشركين في الحربوأما قوله: رونهى ان يقاتل المشركين بالمشركين(.
لأن الاستنصار بالأعداء محال، وأن الله تعالى يعدل بعضهم ببعض فلا ينصرهم، فمن أجلهم يخاف الحرمان.
قتل الصبيانوأما قوله: )ونهى عن قتل الصبيان(.
فمن أجل أنهم ذرية، وليس لهم نكاية، ولعل الله يقبل بقلوبهم فهذا موت أن يكف عن قتلهم ولا يسوقهم إلى النار، فإن لم يرزقوا الإسلام كانوا سببا يرتفق بهم المسلمون، وهم بمنزلة الأموال التي يغنمونها.
عقر الخيل في القتالوأما قوله: )ونهى أن تعقر الخيل في القتال(.
فمن أجل أنه فساد إلا عند الإستئصال إذا استحر القتال وحميت النفوس قامت النصرة، فعندها يعقرون الخيل، ويكسرون غمد السيوف، ويحملون حملة اليأس من الحياة.
بيع الذهب بالفضة نسيئة
وأما قوله: )ونهى عن بيع الذهب بالفضة نسيئة( فهذا كله ربا.
بيع الذهب بالذهب
وأما قوله: )ونهى عن بيع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن سواء بسواء(.فهذا كله ربا، وقد شرحناه في كتاب " العلل " .
والله أعلم تم بحمد الله تعالى