كتاب : مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه
المؤلف : الحارث بن أسد بن عبد الله المحاسبي
بسم الله الرحمن الرحيم
عونك اللهمقال أبو عبد الله الحارث بن أسد بن عبد الله المحاسبي البصري
رحمة الله عليه
سألت عن العقل ما هو
وإني أرجع إليك في اللغة والمعقول من الكتاب والسنة وتراجع العلماء فيما بينهم بالتسمية ثلاثة معاني
أحدها هو معناه لا معنى له غيره في الحقيقة
والآخران اسمان جوزتهما العرب إذ كانا عنه فعلا لا يكونان إلا به ومنه وقد سماها الله تعالى في كتابه وسمتها العلماء عقلا
فأما ما هو في المعنى في الحقيقة لا غيره فهو غريزة وضعها
فهو غريزة لا يعرف إلا بفعاله في القلب والجوارح لا يقدر أحد أن
يصفه في نفسه ولا في غيره بغير أفعاله
لا يقدر أن يصفه بجسمية ولا بطول ولا بعرض ولا طعم ولا شم ولا مجسة ولا
لون ولا يعرف إلا بأفعاله
وقال قوم من المتكلمين هو صفوة الروح أي خالص الروح
واحتجوا باللغة فقالوا لب كل شيء خالصه فمن أجل ذلك سمي العقل لبا وقال
الله عز و جل إنما يتذكر أولوا الألباب يعني أولي العقول
ولا نقول ذلك إذا لم نجد فيه كتابا مسطورا ولا حديثا مأثورا
وقال قوم هو نور وضعه الله طبعا وغريزة يبصر به ويعبر به
نور في القلب كالنور في العين وهو البصر
فالعقل نور في القلب والبصر نور في العين
فالعقل غريزة يولد العبد بها ثم يزيد فيه معنى بعد معنى
بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول
وقد زعم قوم أن العقل معرفة نظمها الله ووضعها في عباده يزيد ويتسع بالعلم
المكتسب 106 الدال على المنافع والمضار
والذي هو عندنا أنه غريزة والمعرفة عنه تكون
وكذلك الجنون والحمق لا يسمى نكرة لأنه لو كان المعرفة هو العقل سمي
الجنون نكرة والحمق نكرة لأن النكرة ضد المعرفة والجهل ضد العلم
فلما امتنع أهل العلم أن يسموا المجنون منكرا جاهلا ولا يسمون المنكر
مجنونا والجاهل مجنونا وقالوا بأنه مجنون صح ما قلناه
ومما يدل على أن العقل هو الغريزة التي بها عرف فأقر وعرف فأنكر أو ظن
فأنكر لأن الإنكار فعل فكذلك ضد المعرفة فعل
فمنه فعل عن طبع يوجبه الطبع كالضرة كمعرفة
وفي الصمت ستر العي يوما وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
...
وأما الاثنتان اللتان جوزتهما اللغة في الكتاب والسنة وتراجع أهل المعرفة
فيما بينهم بالتسمية فجوزتهما اللغة على حقيقة المعنى بأن سمتهما عقلا إذ
كانا عن العقل لا عن غيره
فإحداهما الفهم لإصابة المعنى وهو البيان لكل ما سمع من الدنيا والدين أو
مس أو ذاق أو شم فسماه الخلق عقلا وسموا فاعله عاقلا
وقد روي في التفسير لما قال الله تعالى لموسى عليه السلام فاستمع لما يوحى
قيل اعقل ما أقول لك
وهذه خصلة يشترك فيها أهل غريزة العقل التي خلفها الله فيهم من أهل الهدى
وأهل الضلالة من بعض أهل الكتاب لما تقدم عندهم من أهل الدين
ويجتمع عليها أهل كل إيمان وضلال في أمور الدنيا خاصة والمطيع والعاصي وهو
فهم البيان
وقال الله عز و جل في ما يعيب به أهل الكتاب فقال
يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
وقال عز و جل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وقال يعلمون أنه الحق من ربهم
وقال يعلمون أنه منزل من ربك بالحق
فالفهم والبيان يسمى عقلا لأنه عن العقل كان
فيقول الرجل للرجل
أعقلت ما رأيت أو سمعت
فيقول نعم يعني أني قد فهمت وتبينت
والعرب إنما سمت الفهم عقلا لأن ما فهمته فقد قيدته بعقلك وضبطته كما
البعير قد عقل أي أنك قد قيدت ساقه إلى فخذيه
وقالوا اعتقل لسان فلان أي استمسك
ويقال اعقل شاتك إذا حبستها وهو أن يضع رجله بين نوفها وفخذها
ويقال اعتقل رجل فلان إذا صارعه
والمعنى الثالث هو البصيرة والمعرفة بتعظيم قدر الأشياء النافعة والضارة
107 في الدنيا والآخرة ومنه العقل عن الله تعالى
فمن ذلك أن تعظم معرفته وبصيرته بعظيم قدر الله تعالى وبقدر نعمه وإحسانه
وبعظيم قدر ثوابه وعقابه لينال به النجاة من العقاب والظفر بالثواب
فإذا كان لله معظما كان لله مجلا هايبا
وإذا كان لله مجلا هايبا كان منه مستحيا وإلى الله طاعته مسارعا ولمساخطه
مجانبا
وإذا كان معظما لما ينال به النجاة من العقاب والظفر بالثواب عني بطلب
العلم ورغب في الفهم والعقل عن الله عز و جل أكثر همته
وإذا عني بطلب العلم بذلك استدل به على عظم قدر المولى وقدر
ثوابه وعقابه
وإذا استدل على ذلك أبصر وفهم حقائق معاني البيان
فإذا فهم عقل عظيم قدر الله تعالى وعرضه على الله سبحانه وعقابه وثوابه
وإذا عظم قدر ذلك هاب الله وفرق ورجا ورغب واشتاق فكأنما يعاين ذلك كرأي
العين فكان عن الله تعالى عاقلا وسمي ذلك منه عقلا إذ كان بالعقل طلب ذلك
وبالعقل فهم ذلك وبالعقل لزم ذلك وبالعقل جانب ما يزيله عن ذلك
فهذا الذي عقل عن ربه
ألم تسمعه عز و جل يقول وتعيها أذن واعية
قال أذن عقلت عن الله تعالى يعني عقل عن الله ما سمعت أذناه مما قال وأخبر
فهذا هو العقل
ومن زال عن ذلك ومعه غريزة العقل التي فرق الله تعالى بها بين العقلاء
والمجانين فهو غير عاقل عن الله عز و جل وهو عاقل للبيان الذي لزمته من
أجله الحجة
وقد وصف الله عز و جل هذا في كتابه عن رجال وسما لهم عقلا فقال تعالى لهم
قلوب لا يعقلون بها يعني عنه
وقال الله عز و جل وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة يعني عقولا فما أغنى
عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله ثم
سمى بعض الكفار من أهل الكتاب عاقلا للبيان الذي لزمتهم به الحجة يحرفونه
من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
فأخبر أنهم لا يعقلون يعني عنه وعن ما قال من عظيم قدره المبين عنه
ثم قال يحرفونه من بعد ما عقلوه يعني عقل البيان
وآخرون لهم عقول الغرايز لا يعقلون البيان ولا المبين عنه بالفهم له إلا
أنهم يسمعون بلغة يعرفونها كلاما لا يعقلون معانيه بالفهم له كمشركي العرب
فقال إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
فلم يعقلوا ما قال عز و جل لإعجابهم برأيهم ولتقليدهم آباءهم وكبراءهم وقد
كانت لهم عقول غرايز يعقلون بها أمر دنياهم
ولو تركوا الإعجاب بالرأي وتقليد الكبراء ثم تدبروا لعقلوا ما قال الله
ولكن أعجبوا بآرائهم وقلدوا كبراءهم
فقال عز و جل ويحسبون أنهم يحسنون صنعا
وقال جل ثناؤه أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا
وقال ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون
فلم يعقلوا ما قيل لهم كما عقله المحرفون للسان بعدما عقلوه
فهم يعلمون أمر دنياهم
ودقايق معايشهم أدق في الغموض من أعلام الدين فقال الله جل وعز يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
قال حدثني عفان قال حدثنا صخر بن جويرية عن الحسن في قوله تعالى يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا قال
لا جرم والله لقد بلغ من علم أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره
ويخبرك بوزنه وما يحسن يصلي
قال حدثني عفان قال حدثنا شعبة عن شرقي في
قوله يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فذكر الخراز والخياط ونحوهما
فأخبر
الله تعالى أنهم يعقلون أمر دنياهم ولو تدبروا وتركوا التقليد والإعجاب
بالآراء لعقلوا أمر آخرتهم كما عقلوا أمر دنياهم حين عنوا بطلب منافعها في
العواقب ودفع مضارها في العواقب
فهذه أربع فرق
فرقة عقلت عن الله تعالى عظم قدره وقدرته وما وعد وتوعد فأطاعت وخشعت
وفرقة عقلت البيان ثم جحدت كبرا وعنادا لطلب الدنيا كما وصف عن إبليس أنه
تكبر وعاند كبرا وهو مع ذلك يقول فبعزتك لأغوينهم أجمعين ووصف اليهود 108
فقال ليكتمون الحق وهم يعلمون
وقال وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا
وقال يعلمون أنه منزل من ربك بالحق
وقال اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون
وفرقة طغت وأعجبت وقلدت فعميت عن الحق أن تتبينه ثم تقر به ثم تجحده كبرا
وطلبت دنيا بعد عقلها للبيان فظنت أنها على حق ودين وهي على باطل وشر
وضلال
وفرقة رعة عقلت قدر الله عز و جل في تدبيره وتفرده بالصنع
وعرفت قدر الإيمان في النجاة بالتمسك به وقدر العقاب في ضرره في مجانبة
الإيمان فلم يجحدوا كبرا ولا أنفة ولا طلب دنيا لعقلها أن عاجل الدنيا
يفنى وعذاب الآخرة لا يفنى فأقرت وآمنت ولم تعقل عظيم قدر الله في هيبته
وجلاله وعظيم قدر ثوابه وعقابه في إتيان معاصيه والقيام بفرايضه فعصت
وضيعت وغفلت ونسيت إلا أنها علمت عظيم قدر الإيمان في النجاة وعظيم ضرر
الكفر قد عقلته عن الله تعالى فهي قائمة به دائمة عليه
ثم بعد عقله قدر الإيمان يزداد معرفة بقدر الغضب والوعيد والوعد
فإن ازداد طائفة قام بطائفة من الفروض وترك بعض المعاصي وإلا ضيع
بعض
الفروض وركب بعض المعاصي من أجل الهوى ومعه عقل البيان والإقرار فعقل أنه
مسيء ولم يرجع عن إساءته لغلبة الهوى
ولو ازداد عقلا بعظيم قدر الغضب والرضى والثواب والعقاب لاستعمل ما عقل من
البيان وأقر به بأنه حق فتاب وأناب
وجميع الممتحنين المأمورين من العقلاء البالعين كلهم لهم عقول يميزون بها
أمور الدنيا كلها الجليل والدقيق وأكثرهم للآخرة لا يعقلون
ألم تسمعه عز و جل يقول وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
وقال جل ثناؤه لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان
لا يسمعون بها
وهم بالدنيا أهل بصر وسمع وعقل ولم يعن أنهم صم خرس مجانين وإنما عذبهم
لأنهم يعقلون لو تدبروا ما يرون
ويسمعون من الدلائل عليه من آيات الكتاب وآثار الصنعة واتصال
التدبير الذي يدل عليه أنه واحد لا شريك له
وحكى تعالى قول أهل النار فقال وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في
أصحاب السعير
وقد كانت لهم عقول وأسماع لزمتهم بها الحجة لله عز و جل وإنما عنى عز و جل
أنها لم تعقل عن الله فهما لما قال من عظيم قدر عذابه فندمت ونادت بالويل
والندم لا أنها لم تكن تسمع ولا تعقل ولا كانوا بمجانين ولكن يعقلون أمر
الدنيا ولا يعقلون عن الله ما أخبر عنه ووعد وتوعد
قلت فمتى يسمى الرجل عاقلا عن الله تعالى
قال إذا كان مؤمنا خائفا من الله عز و جل
والدليل على ذلك أن يكون قائما بأمر الله الذي أوجب عليه القيام به مجانبا
لما كره ونهاه عنه فإذا كان كذلك استحق أن يسمى عاقلا عن الله
بل لأنه لا يسمى عاقلا عن الله من يعزم على القيام بسخطه
فأقام على ذلك مصرا غير تايب
قلت فمتى يسمى العاقل عن الله كامل العقل عن الله تعالى
قال إن العقل عن الله تعالى لا غاية له لأنه لا غاية لله عز و جل عند
العاقل بالتحديد بالإحاطة بالعلم بحقائق صفاته ولا بعظيم قدر ثوابه ولا
عقابه إذ لم يعاينها
ولو عاين الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بصفاته لما أحاط به علما
ولكن وقد يقع اسم الكمال على الأغلب في الأسماء في العقل عن الله تعالى لا
العقل بالكمال الذي لا يحتمل الزيادة
ألا تراه عز و جل يقول لرسوله صلى الله عليه و سلم وقل رب زدني علما وقال
ولا يحيطون به علما
وروي عن الملائكة أنها تقول يوم القيامة رب ما عبدناك حق عبادتك
فلا أحد يساوي الله عز و جل في العلم بنفسه فيعرف عن عظمته تعالى كمال
صفاته كما يعلم الله عز و جل عن نفسه
فأعظم العاقلين عنده العارفين عقلا عنه ومعرفة به الذين أقروا
بالعجز أنهم لا يبلغون في العقل والمعرفة كنه معرفته
ولكن قد يسمى كاملا في العقل عن الله 109 في ما غلب عليه من الأفعال التي
كانت عن العاقل كاملا من كانت فيه ثلاث خلال
الخوف منه والقيام بأمره وقوة اليقين به وبما قال ووعد وتوعد
وحسن البصر بدينه بالفقه عنه فيما أحب وكره من علم ما أمر به وندب إليه
والوقوف عند الشبهات التي سمى الله الوقوف عنها رسوخا في العلم به
فإذا اجتمع الخوف منه وقوة اليقين به وبما قال ووعد وتوعد وحسن البصر بدين
الله والفقه في الدين فقد كمل قوة عقله
وإن كان الخوف من الله هو من قوة اليقين بالوعيد فإنه قد يكون خائفا ولا
يكون معه اليقين القوي الذي ينال به الرضى والتوكل والمحبة والزهد
فمن ثم قلنا الخوف من الله وقوة اليقين والبصر بالدين لأنه قد
يكون قوي
اليقين وليس يحسن البصر بالدين ويكون بصيرا بالدين لا خائفا ولا قوي
اليقين
وجماع هذه الثلاث الخصال قوة اليقين وحسن البصر بالدين
وإنما زدنا ذكر الخوف وإن كان من اليقين لأنه قد يكون خائفا وليس بالقوي
اليقين في كمال ما قال الله عز و جل مما وصف به نفسه من قدره وجلاله
وعظمته وما وعد وتوعد وحذر ورجا وأنعم وابتلى به
ثم هذه الثلاث
الخلال حقائق من الفعل بالقلب والجوارح لأنه إذا تم عقل المؤمن عن ربه
أفرده عز و جل بالتوحيد له في كل المعاني فعلم أنه مالك له لا غيره وأنه
عتيق ممن سواه فتواضع لعظمته واستعبد وخضع لجلاله ولم يذل لمن سواه وعقل
عنه أنه الكامل بأحسن الصفات المتنزه من كل الآفات المنعم بكل الأيادي
والإحسان فاشتد حبه له لما يستأهل لعظيم قدره وكريم فعاله وحسن أياديه
وعقل عنه أنه لا يملك نفعه وضره في دنياه وآخرته إلا هو
فأفرده بالخوف والرجاء وعده وآمن به وأيس من جميع خلقه فهو
الموحد له إذا
عقل وحدانيته وتفرده بكل معنى كريم ووصف جميل وجلال عظمته ونفاذ قدرته
ومضي إرادته وإحاطة علمه وقديم أزليته وأوليته
فإذا كان كذلك زايل
الكبر على العباد لخضوعه لجلال الله مولاه فتواضع للحق ولم يحقر مسلما
لشدة معرفته بصغر قدر نفسه ولما جنى من الذنوب على نفسه ولعلمه بأن خواتم
الأجل بسوء العواقب وحسن الخاتمة من الشقاء والسعادة قد سبق بهما العلم
ونفذت فيهما المشيئة
فقد أمن من عرفه كبره وبغيه وقد عقل عن الله جل
وعز حججه على خلقه واعتذاره إلى خلقه بأنه ليس لهم بظالم وأنه قد بدأهم
بالرحمة قبل العقوبة وقد سبقت منه الأيادي قبل الشكر طويل الحلم دائم
التأني جميل الستر مقيل العثرات محسن إلى من تبغض إليه متقرب إلى من تباعد
منه وعقل عنه أمره وآدابه وأحكامه وعقل داء النفوس ودواءها
فمن عرفه أمل الرشد منه وأن يحيا بمنطقه ويعقل عن الله جل ذكره
بتأديبه له
وعقل عن الله عز و جل ما عظم من قدر ثوابه في جنته بدوامه وطيب العيش فيه
وزوال الآفات والتكدير والتنغيص عنه وأنه فوق ما تحب النفوس لا يحسن أحد
أن يخطر بباله ذكر كثير مما أعد فيها
وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعد الله عز و جل في جنته ما لا
عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وكفاك بالله تعالى واصفا عما أعد لأوليائه إذ يقول عز من قائل فلا تعلم
نفس ما أخفي لهم من قرة أعين
فقد أخبرنا أنه جاز في الكمال والنعيم وقرة العيون وصف الواصفين ومعرفة
العارفين وذكر الذاكرين لجميع النعيم فعظم في قلبه جوار مولاه و ما أعد
فيه لمن أناب إليه وأطاعه فشخص إليه بعقله فاتصل ما استودع قلبه من العلم
بذلك لمشاهدته بعقله حتى أنه رأي عينه عما قاله حارثة فكأني أنظر إلى عرش
ربي بارزا وإلى أهل الجنة يتزاورون
وكما قال الحسن وذكر أولياء الله في الدنيا فقال صدقوا به فكأنما يرون ما
وعدوا رأي العين
فلما اتصل عقله بمشاهدة ذلك حن واشتاق فلما حن واشتاق تعلق قلبه واشتغل
فلما اشتغل بالشوق إلى جوار ربه سلا عن الدنيا فلها عنها 110 فمن تفكر في
دار الدنيا أين هي من جوار ربه إذ يقول عز و جل لعلكم تفكرون في الدنيا
والآخرة قيل في التفسير تفكروا فيهما فعلموا أن الدنيا دار فناء وأن
الآخرة دار جزاء وبقاء فعقل نعت ربه لزوال الدنيا وفنائها وأن كل ما أخذ
منها لغير القربة إلى ربه في جواره ناقص من درجات القرب وكمال النعيم في
جوار ربه وأن فيه الحساب والسؤال عن نعيمها بالحبس عن السبق في أوائل
الزمر إلى جوار ربه ومولاه وأنها مشغلة له عن الاشتغال بربه ما دام فيها
حتى ما يعدله من الأنس بربه وحلاوة مناجاة سيده
فارتفع قلبه عنها
وتمنى أن لو استغنى أن يتناول منها شيئا فلم يجد بدا من الأخذ منها ما
يقويه على طاعة ربه خوفا أن يمسك عن القوت فينقطع عن عبادة ربه
فكان
نصيبه منها القوت من الغذاء ولم يتكلف ما جاز بلغة القوت من غذائه وستر
عورته وان تكلف طلبه لم يتكلف إلا للقربة إلى ربه فإن ابتلي منها بما فوق
غذائه وستر عورته من مثل ميراث أو غيره فمبذول كله لربه يفرح بإخراجه
ويغتم أن يمكث عنده أقل من طرفه عين
وعقل عن الله تعالى آياته في
تدبيره وحكمته في آثار صنعته ودلائل حسن وتقديره فعلم أنه بقدرة نافذة
قدرها وبحكمة كاملة أتقنها وبعلم محيط اخترعها وبسمع نافذ سمع حركاتها
وببصر مدرك لها دبر لطائف خلقها وغوامض كوامنها وما وارته حجبها وسواترها
فاستدل بذلك أنه الإله العظيم الذي لا إله غيره ولا رب سواه فكأن جميع
الأشياء عين يعتبر بها ويجل ويعظم لما يرى ويسمع من مولاه وسيده فدام ذكره
وزالت عن الله عز و جل غفلته وعقل عن الله تعالى أنه ما يبلغه غاية العلم
به ولا بلطائف
محابه والقرب إليه والفهم لما كلمه به فكان مع
سيده اجتهاده ودوام اشتغاله بربه غير تارك ولا منقطع عن طلب الازدياد من
العلم بربه والتزيد في الفقه عنه أعلى في قلبه وأعظم عنده قدرا من
الازدياد من كثير أعمال النوافل إذ عقل عن ربه أن أقل قليل المعرفة يورث
التعظيم والهيبة ويبعث على الاجتهاد ويورث الطاعات والشغل عن جميع العباد
وعقل عن الله تعالى أنه ابتدأ عباده بالرحمة والتفضل والإحسان بعد تقديم
العلم منه لهم أنهم سيعصونه ويخالفون أمره فلم يمنعه ذلك عن ابتدائهم
بالنعم والتحنن والرحمة والإحسان
وجعل أفضل أوليائه عنده الرحماء
بخلقه المتحننين على عباده الناصحين لبريته وهم رسله الداعون العباد إلى
نجاتهم والمحذرون لهم من هلكتهم المتحملون منهم الأذى والمتحننون عليهم
بالرحمة والنصح والإشفاق مع أذاهم لهم وتكذيبهم إياهم واستهزائهم بهم لا
يكافئونهم بمثل ما نالوا منهم ولا ينصرفون عن الإشفاق عليهم إذ سمعوا الله
جل ثناؤه يصفهم إذ قالوا لنوح إنا لنراك في ضلال مبين
وقالوا لهود إنا لنراك في سفاهة
ثم وصف جوابهما فقال نوح ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين إلى قوله
ولعلكم ترحمون
ووصف رد هود عليهم فقال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين
أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين إلى قوله لعلكم تفلحون أي تظفرون
بثواب الله إن قبلتم مني فأخبرهم بعد تسفيههم له أنه لم ينصرف من أجل ذلك
عن النصيحة لهم لعلهم يفلحون
وقال إبراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
وقال النبي صلى الله عليه و سلم ووصف نبيا من الأنبياء شجه قومه فهو يمسح
الدم عن وجهه وهو يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
وروي أن نوحا عليه السلام كان يخنقه قومه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب
اغفر لقومي إنهم لا يعلمون
وفضل النبي صلى الله عليه و سلم صديق هذه الأمة عليها بالرحمة
لها فقال أرحم أمتي بها أبو بكر
فلما عقل عن الله عز و جل 111 ما ابتدأ العباد به من الرحمة وأنه خص أعظم
خلقه عنده قدرا وفضله بها على جميع العباد
ألزم قلبه رحمة الأمة فأحب محسنهم وأشفق على مسيئهم ودعا إلى الله سبحانه
إذا أمكنه مدبرهم ولم يدخر مالا عن فقيرهم ففضل ماله عليهم مبذول
والمواساة في قوته منهم المجهود من سأله منهم ما يقدر عليه لم يتبرم بطلبه
ولم يضجر بإعطائه للرحمة التي لهم في قلبه ومن آذاه وأساء إليه لم يجد في
نفسه كراهية للعفو والصفح عنه يعدهم جميعا كأقرب الخلق منه كبيرهم مثل
أبيه وصغيرهم كولده وقرنه كأخيه فكل هؤلاء يحب الإحسان إليهم وأن لا يفارق
قلبه الشفقة عليهم
وعقل عن الله تعالى عظيم قدره وقدر ما يطلب من
ثوابه وما يخاف من عقابه وعظيم الأيادي وكثرة النعيم عنده وأن جميع خلقه
من أهل سمواته وأرضه لو دأبوا جميعا واجتهدوا عمر الدنيا كلها وأبدا ما
أدوا شكر نعمه ولا أدوا ما يحق في عظمته فكيف بالحلول في جواره والنجاة من
عذابه
فقد عقل أي رب يعبد وأي ثواب يطلب ومن أي عقاب وعذاب يهرب وأي
نعيم يشكر والشكر أيضا ممن هو ومن من به
فلما عقل ذلك كله عن ربه استقل واستصغر جميع دؤوبه واجتهاده لعظيم ما عقل
من جميع ذلك
وعقل عن الله تعالى ما وصف به نفسه أنها بالسوء أمارة وللذنوب مسولة وأنها
هي التي جنت عليه ما قد أحصاه ربه عليه ولم يأمن أن يكون قد حل به غضبه
وأنه لا يكاد يعدل في بعض أحواله أن يتعرض لبعض مساخطه وأنه قد لزمته عظيم
حجة ما خص به من العلم وما من عليه به من المعرفة دون أكثر العوام فاستكثر
قليل طاعتهم واستعظمها مع استصغار كثير الطاعات من نفسه لأنه أعلم بنفسه
وبذنوبه من ذنوبهم وأن الحجة عليه أعظم منها عليهم
وعقل قدر من عصاه وخالفه فيما أمره به فعقل قدر عظمة من عصاه وشدة غضبه
وشدة عذابه وهول المكث في عقابه إن لم يعف عنه
فعقل كثرة ذنوبه وسوء رغبة نفسه ودناءة همته وعجيب جهله إذ كان
قد آثر على
رضاه من العبيد ما لا معنى لهم في دنيا ولا آخرة بملك ولا نفع ولا ضر
وإيثاره من الدنيا المكدر المنغص الفاني منه والفاني هو عنه والباقي عليه
بعد فنائه شدة الحساب وعظيم السؤال عنه ثم لا يأمن من سخط الله في الآخرة
على ذلك أن يحل به
فلما عقل عن الله عز و جل جميع ذلك من نفسه وتستر
عنه عامة ذنوب الخلق وحقت عليهم الحجة بدون ما وجبت من الله عز و جل من
أجل العلم الذي استودعه والستر عليه لذنوبه وما حببه إلى عباده لم يأمن أن
يكون استدراجا له وأنه وكل بالخوف على نفسه قبل غيره وأنه لا يأمن لسالف
ذنوبه وتضييع شكر نعم ربه وعظيم ما لزمه من الحجة وأن يختم له بغير دين
الإسلام أو بعظيم الذنوب مع الإيمان فلم تقع عينه على أحد ولم يستمع به من
المسلمين إلا خاف أن ينجوا ويهلك هو دونه يكسر قلبه من يرى من أهل الطاعات
ويقطع عليه أنه خير منه ويتمنى أن يكون مثله ويهيج عليه الخوف من قلبه من
رآه دونه في الدين يخاف أن يهلك هو دونه أو يختم له
بأشر الأعمال
لعظيم حجة العلم وجميل الستر عليه ولما أمر به من خوف سوء الخواتم التي
مات عليها الأشقياء فهو متواضع للعباد كلهم لشدة ذلة الخوف على نفسه
وعقل عن الله عز و جل ما بين من قدر الدنيا والآخرة فعقل صفة الآخرة
بنعيمها وملكها وشرفها وعزها وعظيم قدر سكانها أنها في جوار المولى وما
وصف به سوء عيش الدنيا وضعة رفعتها عنده يوم يحاسب عباده وذل العزيز بها
عنده في يوم يبعث خلقه وحقارة المتكبرين في عينه وصنعه بهم يوم النشور حتى
أنهم ليحشرون في صور الذر دون جميع العباد
وعقل عن الله تعالى ما
أمره به وأخبر أن الفقير من استغنى بالدنيا عنها ومن يجازي بما 112 حرمه
من خفة الحساب والتصاعد في معالي درجاته
فلما عقل ذلك كله عن ربه
كان الفقر في الدنيا أحب إليه من الغنى بها وكان التواضع أحب إليه من
الشرف فيها وكان الذل أحب إليه من العز بها
مسألة في العقل
الحجة حجتانعيان ظاهر أو خبر قاهر
والعقل مضمن بالدليل والدليل مضمن بالعقل
والعقل هو المستدل
والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله
ومحال كون الفرع مع عدم الأصل وكون الاستدلال مع عدم الدليل
فالعيان شاهد يدل على غيب
والخبر يدل على صدق فمن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سفه
ورب حق أحق من حق كمن عفا ومن اقتص وكاقتضاء
الدين ساعة محله أو تركه قليلا إحسانا إليه فقد أحسن في الطلب
فكم من حسن أحسن من حسن غيره وقبيح أقبح من قبيح وفرض أوجب من آخر وفضل
أفضل من فضل آخر
والحب والبغض إذا أفرطا انقصا الاعتدال وأفسدا العقل وصورا الباطل في صورة
الحق
فأهل الشر لا يفرقون بين أئمتهم كما لا يفرقون بين إمامهم
وإن الحق في كل أمر بين والباطل في كل حال داحض إلا أن كثيرا من الناس لا
يعرف وجه مطلبه وبعضهم يعرف بعضه ويجهل بعضه ومنهم من عرف ثم نسي ومنهم من
يعرف أكثره ولا يعرف أسهل طرقه وأقرب وجهه
فجميع الحق في فنون الطاعات وتحذير الباطل في مذاهبه إذا جمع وألف وكان
أنشط لحفظه ويفهمه من كان لا ينشط لأن يطلب عمله حتى يجمعه
والعالم به يريد جمعه في بصيرته وجمع كل مذهب إلا
خبر الواحد لمن كان لا يعرف إلا بعضه
ويذكر الناس بما قد علمه فنسيه وينبه المتهاون لما كان قد اشتغل عن
العناية بالقيام به ويبين للزائغ عن طريق الرشد أنه قد تركه ولعل من نظر
فيه بالإعجاب برأيه أن ينقض مذاهبه إذا فهم حسن العبارة عنه وإيضاح حججه
ونور بيانه يتنبه من رقدته ويفيق من سكرته لأن الحق عزيز أين كان والباطل
ذليل في كل أوان
والحجة ظاهرة بنورها على الشبهة
وليس من تفرد
بكتاب يقرؤه وحده متثبتا فيه لا يشغله عنه سبب يقطعه كمن نازع غيره لأنه
يعترض في المناظرة آفات كثيرة من العجب بالرأي
والذي والذي يمنع من
الفهم الأنفة التي تمنع من الخضوع للحق وحب الغلبة الذي يبعث على الجدل
والجزع من التخطئة التي تمنع من الإذعان بالإقرار بالصواب
فلما كثرت آفات المناظرة وكان التفرد بقراءة الكتاب المجموع فيه والمؤلف
فيه حدود الحق رأيت أن أصنفه مبينا
وأستشهد عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة أو استنباطا بينا أو
قياسا إذا عدم البيان بالنص فيما يجوز فيه القياس وإلا فالتسليم
والأصون الكف عن تكلف ما نهي عنه مما يسع جهله ولا يؤدي علمه إلى القربى
بل ترك البحث عنه هو القربى والوسيلة إلى رضى الله عز و جل
ولا غناء بالعبد عن التفكير والنظر والذكر ليكثر اعتباره ويزيد في علمه
ويعلو في الفضل
فمن قل تفكره قل اعتباره ومن قل اعتباره قل علمه ومن قل علمه كثر جهله
وبان نقصه ولم يجد طعم البر ولا برد اليقين ولا روح الحكمة
وما بلغ علم من درس العلم بلسانه وحفظ حروفه بقلبه وأضرب عن النظر والتذكر
والتدبر لمعانيه وطلب بيان حدوده
ما أقربه في حياته من حياة البهائم التي لا تعرف إلا ما باشرته بجوارحها
لكن المتذكر الناظر فيما يسمع المتدبر لما
علم المتفهم لما به أمر الطالب لنهاية حدود العلم الغائص على
غامض الإصابة
المحكم للأصول الراد عليها الفروع هو المفرق بين ما له وما عليه والمبصر
لما يصلحه وما يفسده القوي على عصيان طبائعه المنازعة إلى ما يهلكه
والمخالف لشهواته التي ترديه
عارف بعواقب الأمور وبما يحدث في غابر
الدهور 113 مما حدث منه وهاب ربه المؤثر لذة عقله على لذة هواه لذة
الحكماء العلماء في عقولهم ولذة الجهال والبهائم في شهواتهم
وأي
سرور يعدل سرور العلم وروح اليقين وعظيم المعرفة وكثرة الصواب والظفر الذي
لا يثبت ولا ينال إلا بحسن النظر وطول التذكر وتكرار الفكر والتقديم في
التكبير
فبذلك ظفر بالعلم بالله والتعرض لولايته وطلب الجاه عنده
والتسليم لأمره والتوكل على كفايته وبذل القليل من الدنيا للثواب الجزيل
لأنه الرب الكريم
من طلبه وجده ومن استكفاه كفاه ومن اتقاه وقاه
ومن تقرب إليه أسرع إليه بالإجابة
يدعوك إن أدبرت ويقبلك إن رجعت ويحمدك على حظك ويثني عليك بما وهب لك
ويحضك على النظر لنفسك
إنما يمرضك ليصحك إن عقلت ويفقرك ليغنيك ويمنعك ليعطيك يمنعك القليل
الفاني لترضى فيعطيك الجزيل الباقي ويميتك ليحييك ويفنيك ليبقيك ويداويك
بالأمراض لتبرأ من سقم الذنوب ويغمك بالأوجاع ليغسلك من درن الخطايا
ويعركك بالبلاء ليلين قلبك لطلب الفوز
ابتدأك بالنعم قبل أن تسأله
وثناها بعدما ضيعت شكره وأدامها بإحسانه مع دوام الإعراض منك عنه فكيف
تعرف إحسانه وتتبين إساءتك وتبصر نجاتك وتتضح لك أسباب عيشك إلا بالنظر
بعقلك فيما قال والتذكر والمجاهدة لنفسك إلا لتعرف ما يرضيه وتجانب ما
يسخطه ويباعد منه لأنه قد جعل فيك غريزة العقل ومن عليك بالمعرفة وابتلاك
بما في طباعك مما يهيج الغضب والرضى والبخل بالسكوت لأن الصمت أعجمي
وفاعله كالأخرس لا يعرف معناه إلا صاحبه
والقول فصيح مبين يعرفه
سامعه ومن بلغه إلى يوم القيامة لم يعرف القول الحق بالصمت ولا جميع
الأعمال بالحق إلا بالقول بل لم يعرف الصمت عن الباطل إلا بالقول لما عرفه
من الكتاب
وإنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالصمت لتارك القول بالخير فقال من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
ولم يعرف الأداء والبيان عن جميع الإحسان إلا بالقول
آخر كتاب مائية العقل ومعناه للحارث بن أسد المحاسبي والحمد لله حق حمده
وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه