كتاب : رسالة الطيف
المؤلف : بهاء الدين الإربلي
نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
من الخفيفيا خليلي من ذؤابة قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق
مما أعرف به إخواني، جادتهم الأنواء، وصابتهم السماء، وحلت السحب بأنديتهم أفواه عز إليها، وأهراقت ماء مدامعها بعقوتهم من مآقيها، وروض القطر دارهم ونمقها، واجد أي رسومهم ولا اخلقها، وأصفى مشارعهم ولا رنقها، وملأ حياضهم بنمير الماء وأتاقها.
من الكامل
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
حتى تبعث بمنازلهم أموات النبات، وتنشر رمم الأزهار الهامدات، وتكتسي من مطارف الروض الوشائع المفوفة، والحبرات، وتجلى عرائس الربيع في ملابسها الفاخرة، وتحدق عيون النرجس الناظرة إلى وجنات الورد الناظرة، فيبتسم ثغر الأقاح وتميل قدود الأغصان من الارتياح، فتصفق الأنهار على الإيقاع، وتتمايل الأزهار راقصة على السماع، وتشرب الخمائل من رضاب الطل سلافة عاصرها المعصرات، وساقيها العيون الهاطلات، وتغرد خطباء الأطيار على منابر الأغصان طربا، فينشر الندى على الزهر لآلئا وحبياً من الخفيف
فكان السماء تجلو عروساً ... وكانا من قطرها في نثار
وإن أضر ما على الإنسان في زمانه، أن يجري جواد نظره مرخياً من عنانه، فقد قيل كم نظرة أوجبت حسرة وكانت حلوة فأعقبت عيشة مرة، وطالما أرخى امرؤ زمام طرفة، فعاد بوباله وحتفه، ولهذا أمر بغض الأبصار ونهي عن إرسال النظر في كثير من الأخبار، وجاء شيء من ذلك في الأشعار قال شاعر الحماسة: من الطويل
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك الناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فصرح بأن من أرسل طرفه رائدا، كان إلى العنا والتعب قائدا، وغايته أن يرى ما لا يقدر على كثيرة ولا يصبر عن يسيره، فأي حال اصعب من هذه الحال، وهل الرضى بها إلا نوع من الاختلال، قال السيد الرضي: من الوافر
نظرتك نظرة بالخيف كانت ... جلاء العين مني بل قذاها
فاها كيف تجمعنا الليالي ... وآها من تفرقنا وآها
وقوله يدل على غرام سلبه القرار، ووجد اعدمه الاصطبار، فانه قنع لجلاء عينه بنظرة اختلسها سارقا، وعانى قذى واسماً إن كان كما يقول عاشقاً، وهنا يقول ما يفي الوصل بالصدود ولا يحتمل هذا البخل لأجل ذلك الجود، ليس بسعد عن عامر عوض، ولا بنجد عن رامة بدل، نعم وكم أوقعت العيون القلوب في الحبائل، وكم بات المقتول بها لهجا بحب القاتل،.
من البسيط
فبت ألثم عينيها ومن عجب ... أني أقبل أسيافا سفكن دمي
وقد أجاد من قال، وأوضح هذه الحال: من الكامل
يا قلب عاشقه وسهم جفونه ... من الزم المقتول حب القاتل
ومن أشق الأمور، أنها تؤذي من الطرفين، وكثيرا ما دلت العين على العين، فألقت الناظر من المنظور في الحين.
من الكامل
ومن العجائب أن عضوا واحدا ... هو منك سهم وهو مني مقتل
فلله در هذا الشاعر، إذ عرف الأمر فشرحه، وكان مبهماً فعرفه، ومشكلا فأوضحه، بل كان صعبا فذلله، وحزنا فعبده، ومقفلا ففتحه، ومن العجب أن أهل هذا الشان، فعلوا غررا، ونكبوا من الهوى خطرا، ورضوا بان تذهب دماؤهم هدرا، وان لا جناية على المحبوب، ولو رمى محبه بالفوارق وحتى قال قائلهم، أن أحداق الظباء لا تؤخذ بالجرائر.
من الرجز
كيف تعرضت وأنت حازم ... يوم النقا لأعين الجآذر
أما علمت أن أحداق الظباء الغيد لا يؤخذن بالجرائر
فهل هذا إلا قول من سلط على نفسه حكم الحب، ورضي بما لاحظ فيه لذي لب.
من الكامل
ما أنصفته يكون من أعدائها ... في زعمها وتكون من أحبابه
وموجب هذه المقدمة، أني خرجت في بعض أيامي متفرجا، وعلى الرياض الأنيقة معرجا.
من الكامل
والطل ينثر في الرياض دموعه ... والزهر يضحك في خلال بكائه
وتخال أنفاس النسيم عليلة ... عجبا وتشفي الصب من برحائه
ولي طبيعة تصبو إلى زمن الربيع وتتشوف إلى النبات المريع، أجد من
نفسي نشاطا في أيامه، ويهيجني نشر رنده وخزامه، وابتهج ببانه وعراره،
وأطرب لدهمه وديناره، واستثنى رياه، ويشوقني محياه، ويروقني منظره ومخبره،
ويرق لي أصيله وسحره، ما تفتقت أكمامه، ألا تحرك وجد القلب وغرامه، ولا
فتح نواره، إلا وأضرم في الحشا ناره.
من البسيط
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النوروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشه ... وكان قذى للعين إذ كان محرما
ولم يكن عندي إذ ذاك باعث غرام، وليس لي هم في غلامة أو غلام، لا سبيل علي
لسلطان البطالة، ولا طريق على قلبي لغزال ولو كان كالغزالة، اعجب ممن يهيم
وجدا واستغرب متى شكا عاشق هجرا وصدا، وأفوق إلى توبة وجميل سهام كلام،
وأسفه رأي قيس وعروة بن حزام، اعد ما نقل من أخبارهم زورا ومينا، وأستبعد
من عقل أن يجلب لنفسه حينا، فبينما أنا أروح مسرحا طرفي بين الرياض،
وسارحا بطرفي في تلك الربا والغياض، إذ عن لي سرب نساء، كالظباء سوانح،
وفي تلك الحدائق سوارح، تبدو عليهن روعة الجمال، وترى فيهن أبهة الجلال،
فاتبعهن نظرة المرتاد، وأنسيت ما تجلب العين على الفؤاد،.
القاضي الأرجاني.
من الطويل
تمتعتما يا ناظري بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد
فبدت إلي منهن فتاة، كأنها مهاة، تسفر عن وجه بديع الجمال، وتنثني فتخجل
الأغصان في الميل والاعتدال، بعيدة مهوى القرط، حوراء المدامع، شهية ما
فوق اللثات، مضية ما تحت البراقع، ترنو بألحاظ ريم، وتبسم عن در نظيم، ابن
الرومي.
من الكامل
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن الميم
كان محياها بدر داجية، أو شمس سماء مصحية، ولا يقال صاحية، قد حار فيه
الجمال، وضرجته حركات الدلال.
من الخفيف
أبرزوها مثل تهادي ... بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب
من الكامل
يا سالبا قمر السما بجماله ... ألبستني في الحزن ثوب سمائه
أشعلت قلبي فارتمى بشرارة ... علقت بخدك فانطفت في مائه
وللشعراء في وصف الخال معان أنيقة ومقاصد رشيقة ملكوا منها واضح الجدد
والطريقة، وأتوا بالسحر الحلال على الحقيقة، قال ابن الساعاتي: من الكامل
ذو وجنة ما لاح مائل خالها ... بل لاح أسود مقلتي في مائها
وقال: من الكامل
ما الخال نقطة نون صدغك إنما ... قلبي بحبته حباك تلهفا
وقال الحاجري الاربلي: من مجزوء الخفيف
لك خال من فوق عرش عقيق قد استوى
بعث الصدغ مرسلا ... يأمر الناس بالهوى
وقال: من الطويل
عجبت لخال يعبد النار دائما ... بخدك لم يحرق بها وهو كافر
وأعجب منه أن صدغك مرسل ... يصدق في آياته وهو ساحر
فثنيت في أثرهن جوادي، وإنما تبعت فؤادي، وقد شغلني الحب عن التقية،
وقادني الوجد قوة المطية، وأصبحت بعد ذلك الشماس، وملت عن التوحش إلى
الإيناس، وهونت ما كنت استصعبه من لوم الناس، وجريت في طلق الصبا، طلق
الصبا، وذهبت في نيل البغية مذهبا مذهبا، وأنشدت عاذلي وقد هاجت بلابلي،.
من الطويل
ألا ليقل من شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه فقد تجري الأمور على قدر
فدنوت من ذلك السرب، وأنا ذاهل اللب، معنى بشواغل الحب، وقلت وقد
عقل الهوى لساني، وقيد الغرام جنابي، حيا الله هذه الوجوه النواضر،
والمحاسن التي هي شرك النفوس، وقيد النواظر، أما ترثون لقتيل غرام، وأسير
هيام، وحليف سقام، وصاحب دموع سجام، ومعنى قد عدم الجلد، وقارن الكمد،
وملكت العيون فؤاده، ونفت عن جفنه رقاده، ترك الوقار، وكان من أهله وسلب
القرار، لذهاب عقله، يسامر النجوم، ويساور الهموم، ويعاني حرق
الغليل،ويعرض نفسه للهم العريض الطويل.
من الكامل
يبيت كما بات السليم مسهدا ... وفي قلبه نار يشب لها وقد
وقد هجر الخلان من غير ما قلى ... وأفرده الهم المبرح والوجد
فانبرت من بينهن تلك الظبية الأدماء، والغادة الحوراء، واسطة العقد،
وفريدته، ودمية القصر، وخريدته، وقالت وأنت حيا الله دارك، ولا ابعد
مزارك، وأكرم إيرادك، وأصدارك، ورفع قدرك، وأعلى منارك، ما الذي جشمك هذه
الخطا، وعلام وقفت موقفا كنت نعد الوقوف فيه من الخطا، ومثلك لا يعذر إذا
آتى غلطا، أو رام شططا، وكيف غررت بنفس كنت تصونها وأهنتها، وعهدي بك لا
تهينها، وعلام أرخيت رسنها، حتى جرت في ميدانها، وأعطيتها في طلق الخلاعة
فاضل عنانها، كيف أنسيت الحكم التي كنت نوردها، وهل صدقت بعوادي الهوى
التي كنت تستبعدها، أين مواعظك في كف النظر، وزواجرك في غض البصر، فسقت
إلى نفسك تعبا، وحملتها بالنظر إلينا على رغمك نصبا، أما علمت أن دم قتيل
الهوى مباح، وانه لا حرج على قاتله ولا جناح، وان ناره لا يطلب، وهامته لا
تشرب، ألم يقل الشاعر من الرجز
يا مغمدا في القلب سيف لحظه ... الله من دم بغير ثائر
ومن غرام ما له من أول ... فيك وليل ما له من آخر
وقال آخر وتروى للشافعي رضي الله عنه: من الطويل
خذوا بدمي ذاك الغزال فإنه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه أنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يؤخذ الحر بالعبد
هل أجدى ذلك الحذر، حين أوقعك القدر، أما تعلم أن من عير إنسانا ابتلى
بدائه، ومن حكم على الأقضية فقد أزرى برأيه، فرابني معرفتها بالقديم
والحديث، وأخذت أجاذبها أطراف الحديث، وقد علمت أنها المقصودة بالكلام،
المهدية إلي حر الشوق والغرام، ومن القلوب على القلوب شواهد صادقة، والعين
تعرف من عيني محدثها صحة الموافقة، فقلت من تعنين بهذه الأقوال، وإلى من
الإشارة، بهذه الأحوال، ومن الحذر الذي أتى من مأمنه، والمغرر الذي ألبسه
الغرام ثوب حزنه، فقالت اللهم غفراً الست الذي سارت في الآفاق أخباره،
وظهرت على صفحات الأيام آثاره، وتنقلت تنقل الشمس رسائله وأشعاره،؟. الست
ذا البيان الذي ينفث سحره في العقد، وصاحب اللالي المنظومة والدر البدر،؟.
الست ذا الأشعار الناصعة، والخطب الرائعة والنوادر الشائعة، والمعاني التي
كل الأسماع إليها مصيخة ولها سامعة، والرسائل التي هي لرسائل الأوائل
قارعة، كم جريت في ميدان الأدب طلق العنان، وغيرت بمحاسنك في وجوه فضلاء
الزمان، وأتيت بالأوابد الفرائد، والغرر والقلائد والملح الشوارد
والمقطعات والقصائد، طالما ففخرت الأسماع على النواضر، وكم كتبت فما نوار
الخمائل النواضر، من الطويل
كتبت فلولا أن هذا محلل ... وذاك حرام قست خطك بالسحر
فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم در يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان درا فهو من لجة البحر
فهل شعرك الشعري العبور، أم هل نثرك النثرة أم المنثور، أنت أنت في فضائلك
التي لا تجاري، وآدابك أدبك فلا تساجل ولا تباري.
من الكامل
في خطة من كل قلب شهوة ... حتى كان مدادة الأهواء
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كان مغيبة الأقذاء
ألقى إليك الفصحاء بالمقاليد، وأقر لك البحتري وعبد الحميد، والصاحب وابن
العميد، وان شئت مزيد صفة فسلني عن المزيد،
من مخبر الأعراب أني بعدهم ... لاقيت رسطاليس والاسكندرا
ورأيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله زمانا وإلا عصرا
فسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
فدهشت من فصاحة مقالها، وسحرتني بألفاظها وجمالها، وحرت فما أحرت
جوابا، وقيدني العي فما افتتح خطابا، وقلت كفاك الله عين الكمال، من أين
لربات الحجال. شقاشق فحول الرجال، وأنى لهذه الشمس المضيئة حدة هذه الفطنة
والألمعية، وهل في قدرة هذه الغادة الظريفة الإتيان بهذه الألفاظ البليغة
الشريفة، وخاطبتها ولبي ذاهل، ووجدي مقيم وصبري راحل، وعندي من حبها شغل
شاغل، فقلت يا اخت الغزالة والغزال وثالثة الشمس والهلال، أفحمت لساني عن
المقال وقطعت حجتي في الجدال، من الذي ينتصب لمعارضة هذه الألفاظ، وبم
اتقي سهام هذه اللحاظ، وكيف لقلبي يد بسحرين، ومن أين لي قوة بذين، من
الطويل
ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر منا ولا قطة
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
ولهم في وصف الحديث فنون ومعان كلها عيون. قال ابن الرومي: من الكامل
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقله المستوفر
وقال ابن حمديس الصقلي.
ذات لفظ تجني بسمعك منه ... زهراً في الرياض نداه طل
لا يمل الحديث منها معادا ... كانتشاق الهواء ليس يمل
وأنشدني السيد محي الدين محمد بن الطوزي الجعفري لنفسه: من البسيط
ومنطق كرضاب النحل مازجه ... مروق شابه بالمسك عاصره
جرى على السمع مثل الطيف خالسي ... وقام مستصحبا للقلب زائره
وما علمت لفكري في حلاوته ... أرق أوله أم راق آخره
وهكذا أشير إلى ما يعرض من المعاني أدنى إشارة، واقتصر على أخصر عبارة،
فان الإكثار داعية الملال، والأنفس بالطبع تحب الثقل في الأحوال، ولو أردت
مقالا لوجدت سبيلا إلى المقال، فقالت وقد خفرها وارد الخجل، وورد منها
مواقع القبل، أمثلي يقعقع له بالشنان؟ أم تظن عقلي من عقول النسوان،؟ ما
قدر كلامي، ولو كان درا، ومبلغ بياني ولو استحال سحراً، عند من تذعن له
جهابذة النقد، ويسلم إليه أهل الحل والعقد، ويقر له حتى الحسود، ويعترف
بفضله السيد والمسود، من الخفيف
وأرى الناس مجمعين على فضلك ما بين سيد ومسود
عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد
فقلت أقسم بقدرك الأهيف النضير، ووجهك البهي المنير، وطرفك الفاتن الفاتر،
ولحظك الساجي الساحر، وقوامك الذابل الناضر، وورد خدك الجني، ودر ثغرك
النقي، وخمر ريقك الشهي ونرجس لحظك البابلي، وليل شعرك الدجوجي، على صبح
جبينك المضي، وريقتك المعسولة، ودرر ثغرك التي هي بماء الحياة مطلولة، انك
املح من شمس، وأفصح من قس، وأنور من بدر، واغزر من بحر، وأضوا من نهار،
وأجرى ألفاظا من صيب لا مدرار، قد أبنت في هذا المقال عن حقيقة السحر
الحلال، ونطقت بما يحير أرباب العلوم، ويعجز فرسان المنثور والمنظوم،
وجريت على الجدد، واستوليت على الأمد، وأفحمت فصحاء الرجال، ولديك يلقي
البلغاء مخاريق العصي والحبال، فأنت أنت في الجمال والكمال، وعذوبة
الألفاظ وحلاوة الدلال، من السريع
هويتها كالبدر في حسنها ... أخطأت بل أبهى من البدر
كأنها الشمس ولكنها ... تبدو على غصن نقا نضر
فاقت على كل ملاح الورى ... وفاق في أوصافها شعري
في ثغرها در وفي لفظها ... در وفي نظمي وفي نثري
وفي معانيها وما قلته ... في وصفها ما شئت من سحر
فقالت دع وصفي بما لا يصدقه وهمي وحدسي، ولا يثبت علمه في خيالي
وحسي، أعرف الناس بنفسي، وهلم لنعيدها جذعة. ونقول في النسب الذي لأجله
لزمنا هذه البقعة، فمعي من أترابي وصويحبات شبابي من هن في غرارة التصابي،
وكلهن ينتظرن إيابي، وقد أضربهن لبثي، وطال عليهن مكثي،، وهذا النهار قد
ذهب غير القليل، والشمس قد جنحت إلى الأصيل، ولم يبق سوى الرحيل، فابن عما
في الضمير، وسل عن الفتيل والنقير، فشكوت إليها غلبة الهوى، وموجبات
الجوى، والخوف من عادية النوى، فانصاعت متبسة، وعادت متكلمة، وقالت يا
فديتك أتترفع ذيلك قبل المخاض وتدعي السغب قبل الإنقاض، كيف تشكو الغرام
وأوصابه، وتستمقر ذعافه وصابه، وتعدد الوجد والقلق، وتصف السهر والأرق،
وتدعي مسامرة النجم ومساورة الهم، ومكابدة الغليل والسهر، سحابة الليل
الطويل، حتى وصلت السهاد، وهجرت النوم وإنما كانت هذه المعرفة اليوم.
من الطويل
أشوقا ولما تمض بي غير ليلة ... فكيف إذا راح المطي بنا عشرا
وكيف تقدمت هذه الأسباب على مسببها وهو محال، أم كيف أردت خداعي، وطالما
خدع النساء الرجال، قدرتك على هذا الشان، ومعرفتك بعلم البيان، أجرت على
لسانك الخلوب ما ليس له صورة في القلوب، فقلت قادرا وتلهو سادرا، لا ومن
زين صبح الجبين بليل الشعر، وغرس في عذب الرضاب صغار الدرر، وخلق أقمارا
أرضية أبهى من الشمس وأحسن من القمر، وحمل العيون بالكحل، ونصب الحدود
أغراضا لموقع القبل، وأجرى فيها ماء الحياء فانبتت ورد الخجل، وأبدع في
الجمع بين يواقيت الشفاه، ونرجس المقل، وأطلع في أغصان القدور رمان
النهود، وأرسل وراد الشعور إلى الأرداف والخصور، وجعل الأسود الغلب فرائس
نحور الحور، لست ممن يغتر بالأقوال المزخرفة، ولا ينخدع بالأسجاع المصففة،
حتى استعلم أخبارك، وأقتص آثارك، وأسبر أحوالك، وأعلم ما عليك مما لك،
وأرود مرادك، فأتحقق مرادك، وأسال عما عندك فؤادك، فإذا استحكم بك الهيام،
وتمكن من قلبك الغرام، وأخبرت بما تعاني، وعرفت بالتجربة هذه المعاني،
ونطق لسانك بما في قلبك، وظهرت شواهد الصدق على حبك، وشكوت مرارة الفراق،
وذقت بعده حلاوة التلاقي، وجربت ما قيل في سهر الليل وطوله، وثبات نجومه
وبطء قفوله، فهنالك إلى الاختيار ولى الخيار، وعلى قدر ما يتضح الحال،
أكايلك بالمكيال، وميعادنا مثل اليوم بهذا المكان، وركضت إلى صواحبها ركض
جواد الرهان فوقفت حائرا انظر إلى منيها واستخرج درر الدموع من أصداف
أماقيها، من الطويل
وأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
وأنشدت ما هو شرح حالي، وقد تضاعف بلبالي، من الطويل
لاموا على زفراته فشكا جوى ... واستغزروا عبراته فبكى دما
ركب اللجاجة في الغرام فكلما ... عنفوا عليه اللوم زاد وصمما
ولقد درى أن التهتك لم يفد ... قيسا ولا نفع البكاء متمما
وهي تمشى وتلتفت، وقد سلبت القلب وما اكتفت فاذكرتني شعرا كنت أنسيته
دهرا، كشاجم.
من السريع
مستملح من كل أطرافه ... متحسن الإقبال والملتفت
لو بيعت الدنيا ولذتها ... بساعة من وصله ما وفت
سلطت الألحاظ منه على ... جسمي فلو أودت به ما اكتفت
واستعذبت روحي هواه فما ... تصحو ولا تسلو ولو أتلفت
فما كان إلا بمقدار ما غبا عن عياني، حتى اظلم علي مكاني، واعتراني جنون،
وفاض عن عيني عيون من الكامل
ولقيت في حبك ما لم يلقه ... في حب ليلى قيسها المجنون
لكنني لم اتبع وحش الفلا ... كفعال قيس والجنون فنون
فقلت لغلام كان عبية أسراري. وجهينة أخباري، ويحك اقتص الأثر، وأوضح لي
الخبر، واعرف الورد والصدر، وعرفني أين الكناس. ومن الناس، انطلقت مهرولا
وأنشدت مستغربا.
من المتقارب
نظرت المها على غرة ... فعاينت شمسا وبدرا منيرا
وشاهدت إذ نظرت وانثنت ... غزالا غريرا وغصنا نضيرا
وعدت إلى داري، كاسف البال، سيئ الحال، مغلوب الجلد والاصطبار، مسلوب
القلب والقرار، لا أجد أنسا بحاضر، ولا أهش لخليل ولا مسامر، من الطويل
إذا غبت لم اجزع لبعد مفارق ... سواك ولم أفرح بقرب مقيم
فيا ليتني أفديك من غربة النوى ... بكل خليل صادق وحميم
ومع الذي أجده من القلق التام وأجنة من الوجد والغرام، فأنا
متطلع إلى عود الغلام: من الطويل
وإني إذا ما اشتقت ليلى وعزني ... إليها سلو أو تعذر مطمع
بعثت رسولي كي يراها فاجتلي ... سنا وجهها من وجه حين يرجع
وقيل في رسول الأحباب أشعارا أصفى من رائق الشراب، وارق من ماء المزن تحدر
من متن السحاب، وأنشدني المولى الصالح الأعظم علاء الدين صاحب، الديوان
أعز الله نصره لنفسه أيام دعاه الهوى، قلبي داعيه، وناداه الغرام فأجاب
مناديه، أيام طلبنا في خدمته بالبيان والطيب، ونعمنا بلذة المبيت فيما
شئنا من الطيب وجرينا في ميادين الصبا وركضنا إلى اللهو عنقا وخببا من
البسيط
أيامنا بالحمى حييت أياما ... وزادك الله إجلالا وإعظاما
قد كنت بالأمس أحلاما بأنفسنا ... فما أصابك حتى صرت أحلاما
كانت لنا من عطيات الشباب فما ... دامت علينا ولا المعطى لها داما
وقال من الكامل
أعوام لهو كان ينسى طولها ... ذكر النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيام هجر أردفت ... بجوى أسى فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
منازل كانت مراتع الغزلان، ومطالع الوجوه الحسان، ومسانح الضباء الأونس،
ومسارح المها الكوانس، ومطامح الأبصار، مطارح الإيراد والإصدار، وفواتح
الملاذ والمسار، وبروج الكواكب الشوارق، ومجر الوالي ومجرى السوابق، وديار
الأحباب وقرار النطف العذاب، ومجال الجذل والنشاط، ومحال اللهو والانبساط،
ومشارق الأنوار، ومنابت النوار، ومنازل الأقمار، ومحاسن الآثار، وصاحب
الأذيال، ومناخ الآمال، ومحط الرحال، ومصارع العشاق، وجوامع الرفاق
فتركناها رغما، وفارقناها حتما، وعاد الزمان، فيها حربا، وكان سلما.
من الكامل
يا دهر كم لك مثلها من غدرة ... ولأنت اجدر أن تخون وتغدرا
جار الأحبة في قضايا حبهم ... فغدوت اظلم في القضاء وأجورا
أحبابنا النائين هل من عودة ... يصفو بها من عيشنا ما كدرا
قد طال في طول البعاد تعللي ... بعسى وليت وهل يكون وهل ترى
إذا مر ذكرها بالبال، ارتسمت فيلوح الخيال، انشدها لسان الحال،: من الطويل
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي وجددت عهدها ... وأني على أمثال تلك لحاسب
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
وللشعراء في الوقوف على الديار، والتردد في الآثار والبكاء في الأطلال،
وتذكر أيام الوصال، معان ترقص لها الأسماع طربا، ويستشعر العشاق هما ونصبا
اذكر لمعا من وشيها المرموق، وأعود إلى أبيات الخدوم. قال ذو الرمة: من
الطويل
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولازال منهلا بجرعائك القطر
وقال أبو تمام:
وقفوا علي اللوم حتى خيلوا ... إن الوقوف على الديار حرام
لا مر يوم واحد إلا وفي ... أحشائه لمحلتيك غمام
وقال البحتري: من الطويل
رأى البرق مجتازا فصار بلا لب ... وأصباه من ذكر البخيلة ما يصبي
وقد عاج في أطلالها غير ممسك ... لدمع، ولا مصغ إلى عذل الركب
قال السيد الرضي: من الكامل
ولقد وقفت على منازلهم ... وطلوعها بيد البلى نهب
فوقفت حتى ضج من لغب ... نضوي، وعج بعذلي الركب
وتلفت عيني، فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
وقد جاء السيد بما لا يرد حسنة، ولا يدفع، وغير في وجه من شكا وجع الليت
والاخدع، وقال ابن الاردخل.
من المنسرح
وقفت فيها وآي ارسمها ... ممحوة بالمحول أحرفها
مكفكفا عبرتي وودي لو ... أني ابكي ولا اكفكفها
ماذا على الركب من أراقتها ... هل هي إلا بلوى أخففها
وقلت: مجزؤء البسيط
واستعدلي دمع السحاب فقد ... أفنيت دمعي على الرسوم الخوالي
واعد لي ذكر العقيق وأيام تقضت أيامه وليالي
فطلابي رجوع ما فات من ... عصر الصبي والشباب عين المحال
وسؤالي رسما محيلا ونؤيا ... عاطلا من تعللات الضلال
فانظر إلى الهر وتنقله، واعجب من تغير كل حال وتبدله، وثق بمن لا يحول ولا
يزول ولنرجع إلى أبيات المخدوم في وصف الرسول، جاءت إليه امرأة من الترك،
قد نظمت معاني الجمال في سلك.
من الطويل
أبادية الأعراب عني فإنني ... بحاضرة الأتراك نيطت علائقي
واهلك يا نجل العيون فإنني ... جننت بهذا الناظر المتضايق
كان القمر وهبها جماله والغصن منحها لينه واعتداله، وكانت رسولا من حبيبته
الحاكمة على مهجته فاجتمعنا في الخلد من غربي دجلة، فأنشدني لنفسه.
من الطويل
كالصبح قد وافى رسولك فانجلى ... ليل الهموم وذاك فال ناطق
فعملت أنك لا محالة زائري ... أبدا رسول الشمس صبح صادق
وهو معنى أبدع فيه غاية الإبداع، وملأ بالصواب فيه خروق الأسماع، فجاء كما
ترى كالتبر المسبوك، وصدق: أن ملوك الكلام كلام الملوك، فعجب لحلاوة
مقصده، وحسن مودته فأنشدته بديها: من الطويل
تعشقت رب الحسن لما رايته ... عيانا فجاهدت الهوى في سبيله
ومن حجبت عنه محاسن وجهه ... فغايته أن يهتدي برسوله
فجاء غاية في معناها، نهاية في صحة مغزاهما، وقال زهير المصري: من الطويل
رسول الرضى أهلا وسهلا ومرحبا ... حديثك ما أحلاه عندي وأطيبا
أيا محسنا قد جاء من عند محسن ... ويا طيبا أهدى من القول طيبا
ويا حاملا ممن احب رسالة ... عليك سلام الله ما هبت الصبا
وغلامي وان يكن رسولا يشبهه قليلا، وأنا اذكر الشيء عند ذكر مثله، أو ما
هو مأخوذ من اصله، فبينا أنا ارسب في الفكر وأعوم، واستدعي السكون والكرى،
وكلاهما معدوم، إذا عاد الرائد، فقلت: أين الصلة يا عائد، هل من جابية
خبر، أم هل من دلالة على اثر، ابن حقيقة أمرك، ودلني على خبرك، وخبرك، أين
الحبيب خبر فعهدك به قريب واشف قلبا قد احسر به الوجيب، وجفنا أقرحه
البكاء والنحيب، من الخفيف
من راني قبلت عين رسولي ... ظن أن الرسول جاء بسولى
إنما حين قال أبصرت مأمولك قبلت من رأى مأمولي أن عيناً تأملت ذلك الوجه
أحق العيون بالتقبيل قل ولا تكتم فتيلا ولا نقيرا، واعد حديثهم وزده
تكريرا، من الطويل
اعد ذكر نعمان اعد أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
فإن قر قلبي فاتهمه وقل له ... بمن أنت بعد العامرية مولع
ولو أن هذا الدمع يجري صبابة ... على غير ليلى قلت دمع مضيع
لقيت أمورا فيك لم الق مثلها ... واعظم منها منك ما أتوقع
فقال: تبعتهن وهن يتمايلن هيفا ولينا، ويتلفن شمالا ويمينا، فتظنهن أغصانا
لدانا تقل أقمارا سافرة وظباء عينا من المتقارب
سترن المحاسن إلا العيونا ... كما يشهد المعرك الدار عونا
سللن سيوفا ولاقيننا ... فلا تسال اليوم ماذا لقينا
يمشين على تؤدي وسكون، وقد حبسن الأبصار وتمنطقن بالعيون، وقد أجاد أبو
الطيب حيث قال: - من الوافر
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كان عليه من حدق نطاقا
وقال القاضي الارجاني: من الكامل
جاءت بقد كالقضيب غدا ... بلواحظ العشاق منتطقا
وبدت وقد أبدت محاسنها ... خمسا تبين عذر من عشقا
ليلا على صبح على قمر ... في غصن بان في كثيب نقا
ونواظرا مخلوقة فتنا ... قطعت على أبصارنا الطرفا
وبينهن سيدة قلبك، وخازنة حبك، وسالبة لبك، وصاحبة هواك. المخامر، وجالبة
همك المسامر، وهي تفوقهن جمالا وتهلوهن كمالا، وتفتن دلالا وتسبي العقول
ميلا واعتدالا.
البحتري: من الخفيف
أعطيت بسطة على الناس حتى ... هي صنف والحسن في الناس صنف
نعمة الغصن إن تأود عطف ... منه عن هزة تماسك عطف
فلم أزل اقتص آثارهن، وأبلو أخبارهن حتى وصلن دجلة، طما، وزخر وهما ماؤها،
وهمر وطغى مدها، وقهر ونهى السيل فيها وأمر، فكان الموج هضاب، أو ابل
صعاب، أو قطع سحاب، أو ليل صد واجتناب، والسفن كأنها عقارب، وأذنابها
شائلة، وهي على مثل الصرح المذاب جائلة كما قال السري الرفاء الموصلي: من
الطويل
ولا وصل إلا أن أروح مغررا ... على ادهم من فوق اخضر مزبد
شوائل أذناب يخيل أنها ... عقارب دبت فوق صرح ممرد
وقال البحتري، من الكامل
ورمت بنا سمت العراق ايانق ... سحم الخدود لغامهن الطحلب
من كل طائرة بخمس خوافق ... دعج كما ذعر الظليم المهذب
وقلت:
ورب ليل غابت شوائبه ... والبدر كالشمس لاح في الأفق
كأنها جزعة يمانية ... تصقل درجا من ابيض الورق
ركبت فيه سفينة تسبق البرق وهوج الرياح في طلق فقلت ويلك، خل علم البيان،
وعرفني حقيقة الشان، قال، فجلسن على شاطئ دجلة متأسفات على الجسور متخوفات
من العبور، حذرات من ركوب السفن، في هذا التيار مشفقات من حوض ذلك الغمار
دهشات من اضطرب. ذلك البحر الزخار، وأنا بحيث أراهم واسمع نجواهم، عدي بن
زيد الرقاع العاملي: من الكامل
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه احور من جاذر جاسم
وسنان اقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
فقالت إحداهن: لو علمنا إنا ندفع إلى هذا الخطر، ونقدم على هذا الغرر، لما
تحلحلت من ذلك المكان، ولسلمت أمرنا الليلة التي تعنيك بالاسم واللقب،
وتأتي من شكرك بالعجب، فهو يحب الضيف المفاجئ في الليل الداجي، ويميل إلى
الطارق في الجنح الغاسق، فيهش مبتسما، وينشد مترنما: حاتم: من الرجز
أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
هذا إلى أخلاق أجري من الزلال، وارق من نسيم الشمال. وأشعار كالسحر
الحلال، وأخبار أطيب من ذكر ليالي الوصال، البحتري: من الخفيف
من معان لو فصلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد
جزن مستعمل الكلام اختبارا ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركن به غاية المرام البعيد فقالت منهن دواء دائك،
ومهدية شفائك، والله لو بتنا الليلة عنده، لأحييناها سمرا وجدالا،
وأحييناه أنسا ووصالا، ومنعمنا به وأنعمناه بالا، ولقطعناها ليلة انضر من
أيام الشباب، وأحلى من رضاب الأحباب، وفزنا بمفاكهته، وشركناه في شرابه
وفاكهته، وجرينا معه في فنون وعيون، واجمعنا بين ليلى والمجنون، فقالت
أخرى إن كان عزمكم صادقا، فلن تجددوا إلا موافقا، وأنا رسولكم إليه،
والقادمة بأخباركم عليه، فما اربحها من تجارة وأحلاها عنده من بشارة فأفوز
بوده والثواب، واحصل أجر الشهداء في الجمع بين الأحباب، من الخفيف
إن من بشر المحب بوصل ... وسعى في اجتماعه بالحبيب
لجدير بكل حمد وشكر ... وثواب من المجازى المثيب
فقالت أخرى: بل المصلحة إن نغشاه من غير ميعاد، ونقصده وما أخذ في
استعداد، فيتضح لنا حاله عند مشاهدته، ونقرا في ضميره من أسرته، ويكون
محبوبه البشير، ويطلع على ليل الهم قمر السرور المنير، أما سمعتن من قال
يصف هذه الحال: من المنسرح
افدي حبيبا مثل بدر الدجى ... من فوق لدن العقد مياد
صدوده يذكي غليل الجوى ... والوصل يروى غلة الصادي
رأى جنوني وغرامي به ... فزارني من غير ميعاد
فقالت مصباح النواظر وراحة الأرواح والخواطر، وصقل الإفهام،
ونهاية الأقدام، ودرة الغواص، وظبية القناص، وفتنة العام والخاص، اعلمن
انه لا نجاة له من الغرام، ولا شفاء من السقام، قد أسرته تلك الإشارات،
وقادته إلى الهوى آياته البينات، كم أدعي الحماسة يوم الجلاد، فغادرته تلك
المقامات، مسلوب الفؤاد، وحملته العين على تقتحم الخطر، وساقه إلى الصبابة
الجمال المعتبر، وملكته العيون، وسلبته السكون، وانتم إخوان الصفاء، وذوات
الوفاء، والظفر بمثله غنيمة باردة ونعمة زائدة، وإهمال أمره دليل على فساد
الرأي وأفنه، والاهتمام بما يحفظ وده صواب تفهم المصالح من ضمنه، وأنا أرى
أنا متى زرناه استحكم وجده، وكمده وغلب صبره وجلده، والمصلحة أن تنفذ إليه
من يعرفه. مواقع هذه المنة وينبهه على قطف ثمار الجنة، والتفتت كالظبي إذا
رنا، والغصن إذا انثنى فرأتني مستترا وأنا ارعد حذرا، فقالت: هلم يا غلام
واقر أستاذك السلام، وقل قد أظفرك حكم القدر المتاح، ونحن ضيوفك إلى
الصباح، فهيئ جميع الأسباب، وانظرنا عند الباب، وأخل الدار من الأغيار،
واشكر معاونة الأقدار، وانشده عني وصرح ولا تكني: من المنشرح
جاد بما تطلبه الدهر ... وزار في جنح الدجى البدر
أحوى رشيق القد فتانه ... يخجل منه الغصن النضر
في لفظه خمر وفي ريقه ... خمر وفي وجنته خمر
فقلت: جعلت فداك، ومن أستاذي الذي ابلغه معنى هذا الكلام، ومن أنا من هذا
الأنام، ومن الذي ابشره، وما البشارة، والى من وقعت هذه الإشارة، فقالت:
ويلك عد عن الإطالة، فما أنفذت إلا لهذه الحالة، فقد جاءكم ما لم يكن في
الحساب، ولعن الله رزقا لا يدق الباب، وقد كنتم تقنعون من العين بالأثر،
ومن العيان بالخبر، فدع موارد النزاع والصداع، فقد كشفنا عن القناع،
وسارعنا إلى اللقاء مع اقرب العهد بالوداع، وانشده: من الخفيف كنت ترضى
بالطيف إن عاود النوم جفونا كما زعمت قصارا فجرت بالذي تريد المقادير
ووافاك من تحب وزارا فلم املك إعادة جواب، ولا إطالة خطاب، وقد سابقت إليك
هوج الرياح، وأتيتك في الليل بشمس الصباح، فقم على قدميك، وتلق بالترحاب
من قدم إليك، فهذا لم يكن ببالك، ولا تصور في خيالك، وانشد أبياتك الأمثال
في وصفك هذه الحال: من السريع
أهلا وسهلا بك من مؤنس ... ينظر عن طرف الطلا النافر
أهلا وسهلا بك من زائر ... يخجل نور القمر الزاهر
أهلا وسهلا بك يا نزهه ... وراحة للقلب والناظر
رددت بالقرب من زمان الصبى ... وطيب عيشى السالف الغابر
وعيشة دلت على حاجز ... جاد الحيا السكب ربا حاجز
فكدت أطير فرحا بخبره السار، وقمت مرحا إلى باب الدار، وقلت رح إلى تلقي
الضيف الكريم، وعد أمامه على خط مستقيم، واختصر الطريق، وأحذر التعويق،
فقلبي إلى قدومه مائل، ودمع الفرح على خدي سائل، فمر يعد ووقفت أشدو: من
المنسرح
إن تم ما جاء رسولي به ... غفرت ما أسلفه الدهر
وإن وفا الحب بميعاده ... وبات عندي ولي الأمر
سمحت بالنفس جزاء له ... إذ لا يؤدي حقه الشكر
وإنا في أثناء ذلك على مثل حر النار، من طول الترقب والانتظار، استنشق ريا
الوصل من جهته، وأتطلع إلى قدومه وأوبته، فإذا به قد عاد تاعسا، جده
خائبا، قصده مغلولا حده، كابيا زنده، باديا وجومه، زائدة همومه، متجهمة
أسرته، نائية مسرته، قد عبس وجهه، واتجه عبوسه، وشمس غائبه، وغابت شموسه،
وخبت نار نشاطه، وانقبض بعد انبساطه: من الطويل
وأدمعه تجري على صحن خده ... ونار الأسى تذكي بأضلعه جمرا
وقد صعدت أنفاسه عبراته ... فمقلته عبرى ومهجته حرى
فقلت إيه ما الخبر؟ وأين النجوم والقمر؟ وما فعل الشموس المشرقة
الأنوار، ومتى يحصل اللقاء ويدنو المزار، وما هذا الوجوم الذي اعتراك،
والهم الذي أراك به على ما إدراك، فقال: خرجت من عندك جازما بالتوفيق،
متحققا أني أراهن في الطريق، فوصلت المكان ولا خبر، ولا عيان فنشدتهن
والباغي يحب الوجدان فلم اطلع لهن على حقيقة أمر، ولا أخبرت عنهن بحلو ولا
مر، فوقفت وقوف الشحيح أضاع خاتمه، وألفيت محلهم قفرا، فكنت حاتمه، فبينا
إنا مفكر في الأمر الفادح والخطب الذي هو لنار الأسى قادح، إذ اجتاز علي
صبي حين بقل عذاره، وكاد يصوح ورده وجلناره، فقال مالي أراك بادي الأسف،
مشيفا على التلف فقلت أني أضللت هنا شيئا وجئت انشده، وتركت معهودا فحال
عما كنت أعهده، فتبسم الغلام تبسم ذي عجب، وقال قد عرفت الحال فدع الطلب،
فأنا جهينة الخبر، عجب، ولن يخبرك عمن غاب إلا من حضر، فحين سمعت قوله
لزمته ملازمة الغريم، وقلت: اهدني هديت إلى الصراط المستقيم، فقال إني حين
رأيت تلك الشموس المضيئة والأقمار الأرضية، تبعتهن متفرجا على جمالهن
الباهر، وحسنهن الزاهي الزاهر، فلما جلسن في هذا الموضع، وقفت بمرأى منهن
ومسمع، فتفاوضن فيما أرسلنك فيه. وأطمعنك في الأمر الذي نبتغيه، ودعونك
فسمعت وحدثنك فرجعت فقلت من هذا السعيد الذي يقصدنه، وطوبى لمريض يعدنه،
فلما غبت قمن مسرعات إلى العبور، وقلن لا بأس بالسفن مع تعذر الجسور،
ودعون ملاحا، فركبن معه لجة الغمار، واقدمن بعد تأخرهن على تقتحم الأخطار،
وقلن يا فتى إذا عاد هنا شخص من صفته كيت وكيت، فانشده عنا هذين البيتين
برب البيت: من الرمل
أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات
فاتك السرب وما زودت غير الحسرات
وقل له إن تعرفونا، وتوهمتم أن تخدعونا، فكايلناكم صاعا بصاع وجزيناكم عن
خداع بخداع، والبادي اظلم، كما يقال، وان كنا نساء، فما نحب أن يقهرنا
الرجال، ومثلنا لا يسمح كذا عاجلا بالوصال: من السريع
لابد قبل الوصل من جفوة ... تذكى غليل الشوق والوجد
من لم يذق طعم الجفا لم يكد ... يفرق بين الوصل والصد
وليس يدري لذة القرب من ... لم يشك يوما ألم البعد
معادنا ميعادنا، وعلى الله اعتمادنا، ثم امرن الملاح بالجدف، وصرن في
الجانب الشرقي أسرع من رجع الطرف، وقد عرفنك انك مخدوع، والأمر إليك في
الرجوع، فلما وقفت على الجملة والتفصيل، وتحققت أنها سوفت بالأباطيل، عدت
إليك بقلب كئيب، وصبر سليب، فحين فهمت مقالة عدمت الجلد والاصطبار،
واستنجدت الدموع الغزار، وعدت قلقا إلى الدار، وطل علي الليل فهو سنة، وما
ألم بعيني نوم ولا سنة: من الطويل
وطال علي الليل حتى كأنه ... من الطول موصول به الهر اجمع
وشرعت في مسامرة القمر، وقلت هل من عون على السهر، وأنشدت عند تراكم
الهموم والفكر: من الخفيف
أيها النائمون حولي أعينو ... ني على الليل حسبة وائتجارا
حدثوني عن النهار حديثا ... وصفوه فقد نسيت النهارا
وخاطبت الليل الطويل، وقلت وقد لازمت العويل: من الرجز
يا ليل طل أو لا تطل ... لابد لي أن أسهرك
لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك
ولهم في طول الليل وقصره، وبعد ما بين عشائه وسحره، معان رائعة، وأوصاف
ناصعة، وأولهم صفا، وأغربهم وصفا، امرؤ القيس حيث يقول: من الطويل
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فيالك من ليل كان نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
فإنه أتى بالمعنى المبدع، وكان مخترعا فاحسن فيما اخترع، وقال النابغة: -
من الطويل
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطئ الكواكب
وقال سويد بن أبي كاهل: - من الرمل
كلما قلت ظلام قد مضى ... عطف الأول منه ورجع
وقال بشار بن برد: من الطويل
خليلي ما بال الدجى لا يزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
أضل النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح
وقال جحظة: من الوافر
وليل في كواكبه حران ... فليس لطول مدته انقضاء
عدمت محاسن الإصباح فيه ... كان الصبح جود أو وفاء
وقال أبو هلال العسكري: من مخلع البسيط
عابوا فلم ادر ما ألاقي ... مس من الوجد أو جنون
ليلي لا يبتغي حراكا ... كأنه أدهم حرون
وقال سيدوك: من البسيط
عهدي به ورداء الوصل يجمعنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
فالان ليلي مذ بانوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر
الرصافي: من السريع
يا ليلة طالت على عاشق ... منتظر للصبح ميعاد
كادت تكون الحول في طولها ... إذا مضى أولها عادا
وفي ليلة مطيرة طويلة: من مخلع البسيط
أقول والليل في امتداد ... وادمع الغيث في انسفاح
أظن ليلي بغير شك ... قد بات يبكي على الصباح
فأما ما قالوه في قصر الليل وسرعة انصرافه، وقرب ما بين أطرافه. فهو من
أوصاف ليالي الوصل، وعند اجتماع الشمل، واتصال الحبل، فان سمحت هذه
الحبيبة بالتداني، ودنت ثمار وصلها من يد الجاني، وصفت الليل بقدر ما أجده
في ليلة وصالها، وأما الآن، فأنا قانع إن نمت بخيالها، وكيف يزور الطيف
ساهرا، أم كيف يقر من يكابد وجدا ثائر، وقد أتى الشعراء في الطيف بالأوابد
والفوائد، وجاءوا منه بما هو احسن من در القلائد في أجياد الخرائد، وأبو
تمام والبحتري، وان أجادا في هذا المضما، وكان لهما مزية الاختراع
والابتكار، فشعرهما يدل على طول نوم، واستغراق يوصل يوما بيوم، والبحتري
أشدهما نوما، وأنا أكثر لوما، قال أبو تمام: من البسيط
زار الخيال لها لا بل أزاركه ... فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم
ضبي تقنصته لما نصبت له ... في آخر الليل إشراكا من الحلم
وقال: من الخفيف
عادك الزور ليلة الرمل من رم ... لة بين الحمى وبين المطالي
نم، فما زارك الخيال ولكنك بالفكر زرت طيف الخيال وقال: من الخفيف
الليالي أخفى بقلبي إذا ما ... جرحته النوى من الأيام
يالها ليلة تنزهت الأرواح ... فيها ممراً من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير إنا في دعوة الأحلام
فهذا السيد قد ذكر انه قطع الليلة بالنوم، وأين هذا من مذهب القوم، وقال
البحتري: من الطويل
وإني وان ضنت علي بودها ... لارتاح منها للخيال المؤرق
يعز على الواشين لو يعلمونها ... ليال لنا نزدار فيها ونلتفي
فكم غلة للشوق أطفأت حرها ... بطيف متى يطرق دجى الليل يطرق
أضم عليه جفن عيني تعلقا ... به عند إجلاء النعاس المرنق
وقال: من الطويل
بلى وخيال من أثيلة كلما ... تأوهت من وجد تعرض يطمع
إذا زورة فيه تقضت مع الكرى ... تنبهت من وجد له أتفزع
ترى مقلتي ما لا ترى في لقائه ... وتسمع أذني رجع ما ليس تسمع
وقال:
ألمت بنا الهدو فسامت ... بوصل متى تطلبه في الجد تمنع
وما برحت حتى مضى الليل وانقضى ... وأعجلها داعي الصباح الملمع
ورب لقاء لم يؤمل وفرقة ... لأسماء لم تحذر ولم تتوقع
أراني لا انفك في كل ليلة ... تعاود فيها المالكية مضجعي
اسر بقرب من ملم مسلم ... وأشجى بين من حبيب مودع
من الطويل
إذا ما الكرى أهدى إلى خياله ... شفى قربه التبريح أو نقع الصدأ
إذا انتزعته من يدي انتباهه ... عددت حبيبا راح مني أو غدا
ولم أر مثلينا ولا مثل شاننا ... نعذب أيقاظا وننعم هجدا
وقال من الطويل
وليلة هومنا مع العيس أرسلت ... بطيف خيال يشبه الحق باطله
فلولا بياض الصبح طال تشبني ... بعطفي غزال بت وهنا أغازله
فانظر إلى تناسب ألفاظه، وحسن معانيها، واعتبر شدة النوم المودع فيها،
وقال مهيار: من الخفيف
في الظباء الغادين أمس غزال ... قال عنه ما لا يقول الخيال
لم يزل يخدع البصيرة حتى ... سرني ما يقول وهو محال
لأعدمت الأحلام كم نولتني ... من عزيز صعب عليه النوال
ولقد أبان عن نوم شديد من قال: من الطويل
وما ليلة في الهر ألا يزورني ... خيالك إلا ليلة لا أنامها
وقد سلم مهيار مما وقعوا فيه حيث قال: من الطويل
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما
ولابن التعاويذي مزية على الأوائل والأواخر حيث قال: من الكامل
قالت أتقنع أن أزورك في الكرى ... وتبيت في حلم المنام ضجيعي
وابيك ما سمحت بطيف خيالها ... الا وقد ملكت علي هجوعي
أخذهما ابن التعاويذي من الغزال، شاعر من المغاربة قديم في قوله: من مجزوء
الرمل
وسليمى ذات زهد ... في زهيد من وصال
كلما قلت صليني ... حاسبتني بالخيال
والكرى قد منعته ... مقلتي أخرى الليالي
وهي أدرى فلماذا ... عللتني بمحال
وقال آخر: من المجتث
رجوت طيف خيال ... وكيف لي بهجوع
فالذاريات جفوني ... والمرسلات دموعي
وقد ظرف القائل: من الرجز
طيف خيال هاجري ... ألم بي وما وقف
عاتبني على الكرى ... ثم نفاه وانصرف
وأنشدني شمس الدين الواعظ الكوفي: من الخفيف
قل لمن نال حظه من رقاد ... جاعلا حجة لطيف الخيال
لو تيقظت جئت نحوك لكني ... أرسلت حين نمت مثالي
لو صدقت الهوى صدقت ولكن ... ما جزاء المحال غير المحال
وأجاد مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي الاربلي حيث قال: من الطويل
أحبابنا ان فرق الدهر بيننا ... وحازكم من بعد قربكم البعد
فلا تبعثوا طيف الخيال مسلما ... فما لجفوني بالكرى بعدكم عهد
وقد ظرف القائل في خلاف ما قالوه: من الكامل
أتظن أنك عاشق ... وتبيت بالمحبوب حالم
الطيف أعشق منك ... إذ يسري إليه وأنت نائم
وما زلت أعاني القلق، وأكابد الأرق، حتى برق عمود الصباح، وأعلن الداعي
بحي على الفلاح، وظهرت تباشر النهار، وأن أذكر ما قيل في ذلك من الأشعار:
قال علي بن الجهم من الكامل
كم قد تجهمني السرى وأزالني ... ليل ينوء بصدره متطاول
وهززت أعناق المطي أسومها ... قصدا ويحجبها السواد الشامل
حتى تولى الليل ثاني عطفه ... وكان آخره خضاب ناصل
وخرجت من أعجازه وكأنما ... يهتز في بردي رمح ذابل
وقال آخر: من الخفيف
رب ليل كالبحر هولا ... وكالدهر امتدادا وكالمداد سوادا
خضته والنجوم يوقدان حتى ... أطفأ الصبح ذلك الإيقاد
وقال آخر: من البسيط
كان بين هزيعيه نوى قذفا ... أو بعدما بين قلب الصب والجلد
كأنما فرقداه في ائتلاقهما ... ياقوتتا ملك أو ناظر أسد
حتى تنبه فجر في خلال دجى ... كلنه مقلة زرقاء في رمد
وقال السيد ابن طباطبا العلوي: من الكامل
يا ليلة حليت بزهر نجومها ... وسهرتها حتى بدت لي عاطلا
لم يرض ليلى إذ تجلى بدره ... حتى أراني فيه منك مخائلا
وطفقت ارمق منه بدرا طالعا ... وطفقت اذكر منك بدرا أفلا
وقال ابن النبيه من البسيط
والليل تبدو الدراري في مجرته ... كالماء تطفو على روض أزاهره
وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره
فلما متع ضوء النهار، وقفت في الانتظار، كلما أحسست نباة توجست، وكلما
تذكرت الحبيبة تنفست: من الطويل
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والليل بالهم جامع
وقد ظرف القائل: من الرجز
طيف خيال هاجري ... ألم بي وما وقف
عاتبني على الكرى ... ثم نفاه وانصرف
وأنشدني شمس الدين الواعظ الكوفي: من الخفيف
قل لمن نال حظه من رقاد ... جاعلا حجة لطيف الخيال
لو تيقظت جئت نحوك لكني ... أرسلت حين نمت مثالي
لو صدقت الهوى صدقت ولكن ... ما جزاء المحال غير المحال
وأجاد مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي الاربلي حيث قال: من الطويل
أحبابنا ان فرق الدهر بيننا ... وحازكم من بعد قربكم البعد
فلا تبعثوا طيف الخيال مسلما ... فما لجفوني بالكرى بعدكم عهد
وقد ظرف القائل في خلاف ما قالوه: من الكامل
أتظن أنك عاشق ... وتبيت بالمحبوب حالم
الطيف أعشق منك ... إذ يسري إليه وأنت نائم
وما زلت أعاني القلق، وأكابد الأرق، حتى برق عمود الصباح، وأعلن
الداعي بحي على الفلاح، وظهرت تباشر النهار، وان اذكر ما قيل في ذلك من
الأشعار: قال علي بن الجهم من الكامل
كم قد تجهمني السرى وأزالني ... ليل ينوء بصدره متطاول
وهززت أعناق المطي أسومها ... قصدا ويحجبها السواد الشامل
حتى تولى الليل ثاني عطفه ... وكان آخره خضاب ناصل
وخرجت من أعجازه وكأنما ... يهتز في بردي رمح ذابل
وقال آخر: من الخفيف
رب ليل كالبحر هولا ... وكالدهر امتدادا وكالمداد سوادا
خضته والنجوم يوقدان حتى ... أطفأ الصبح ذلك الإيقاد
وقال آخر: من البسيط
كان بين هزيعيه نوى قذفا ... أو بعدما بين قلب الصب والجلد
كأنما فرقداه في ائتلاقهما ... ياقوتتا ملك أو ناظر أسد
حتى تنبه فجر في خلال دجى ... كلنه مقلة زرقاء في رمد
وقال السيد ابن طباطبا العلوي: من الكامل
يا ليلة حليت بزهر نجومها ... وسهرتها حتى بدت لي عاطلا
لم يرض ليلى إذ تجلى بدره ... حتى أراني فيه منك مخائلا
وطفقت ارمق منه بدرا طالعا ... وطفقت اذكر منك بدرا أفلا
وقال ابن النبيه من البسيط
والليل تبدو الدراري في مجرته ... كالماء تطفو على روض أزاهره
وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره
فلما متع ضوء النهار، وقفت في الانتظار، كلما أحسست نباة توجست، وكلما
تذكرت الحبيبة تنفست: من الطويل
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والليل بالهم جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
فأخذت أعلل نفسي بالمنى وأتوهمها كلما رأيت حسنا، وأنا أراها بعين الشمس
والقمر وأتشاغل عن لماها بالمدام، وأين الحجول من الغرر، مهيار: من الطويل
أراك بعين الشمس والبعد بيننا ... فاقنع تشبيها بها وتمثلا
وأذكر عذبا رضابك سائغا ... فما اشرب الصهباء إلا تعللا
وقال جحظة البرمكي: من المتقارب
إذا ما ظمئت إلى ريقها ... جعلت المدامة منه بديلا
وأين المدامة من ريقها ... ولكن أعلل قلبا عليلا
ولهم في نعت ريق الحبيب، اوصاف تنذر بالطيب، مع اعترافهم انهم لم يذوقوا
له طعما، ولا عرفوه إلا وهما، قال مهيار: من الرجز
وفي الحمول سمحة ضنينة ... تبذل وجها وتصون ملمسا
سلسالها إن لم أكن أعرفه ... رشفا فقد وصفته تفرسا
وهو مأخوذ من قول شاعر الحماسة: من الطويل
بأطيب من فيها وما ذقت طعمه ... ولكنني فيما ترى العين فارس
وقد أحسن القائل ما شاء: من الطويل
كان على أنيابها الخمر شجه ... بماء الندى من آخر الليل غابق
وما ذقته إلا بعيني تفرسا ... كما شيم من أعلى السحابة بارق
وأجاد زهير في قوله: من الطويل
وقد شهد المسواك عندي بطيبه ... ولم أر عدلا وهو سكران يطفح
وقال الفقيه عمارة اليمني: من الطويل
شهدت يقينا أن مرآك جنة ... وقالوا وما ادري وريقك كوثر
وقال ابن هاني المغربي: من الطويل
وما عذب المسواك إلا لأنه ... يقبلها دوني وإني لراغم
وقلت له صف لي جنا رشفاتها ... فالثمني فاها بما هو زاعم
وقال آخر من السريع:
من آل هارون تعشقته ... يقتلني بالصد والتيه
قد أنزل السلوى على قلبه ... أقول والمن على فيه
وقال كمال الدين بن العديم: من الطويل
فواعجبا من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أمسى علي محرما
هو الخمر لكن أين للخمر طعمه ... ولذته مع أنني لم أذقهما
وقال التهامي: من البسيط
لو لم يكن أقحوانا ثغر مبسمها ... ما كان يزداد طيبا ساعة السحر
وأخذت منه فقلت: من الوافر
يزيد رضابه في الصبح طيبا ... لان الثغر منه جنى الأقاحي
وقال بعض العرب: من البسيط
يا أطيب الناس ريقا بعد هجعتها ... وأحسن الناس عينا حين تنتقب
وأصل هذا من قول امرئ القيس: من المتقارب
كان المدام وصوب الغمام ... ونشر الخزامى وريح القطر
يبل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر
فهذه معان تشحذ ظباة الخواطر، وتنبه على الوجد كل فاتر، وتخجل الرياض
جادها صوب السحاب الماطر، وما زلت على مثل هذه الحال، من الحرق والبلبال،
وقطع مسافة الأيام والليالي، وأنا على مثل حر المقالي، إلى أن وقت
الميعاد، وأطل يومه أو كاد، فبت في الليلة التي تسفر عن صباحه، وتتجلى
بغرزه وأوضاحه، أراقب النجوم وهي أنضاء أسفار، وأشاهد الفلك وقد عطل
المدار، وكأن النجوم مقل اعتراها السهاد، وجفاها الرقاد، فما تطرف لها
جفون، ولا تطرق لها عيون، بل كأنها زهر روضة لا يصوح نباتها، أو كأنها
ثابتة مجتمعة فلا يتغير ثباتها، ولا يرجى شتاتها، أيها نظرت إليه وجدته
مقيما لا يرحل، ومستقرا لا يتحلحل، كان سواد الليل حيرها فما تهتدي إلى
مغربها، ولا تعرف وجه مذهبها، أضلها الظلام وأنضاها ليل التمام فلم يحتج
إلى أفول، ولا حدثت نفسها بقفول، كأنما فلكها قد أعيا أواخذه البرطعيا،
فتغير نظام دوراته، وكلما ظن انه استقل عاد إلى مكانه، فبعدا لها من ليلة
طال أمد عمرها، وأربت على حولها وشهرها، وشكرا لها إذ كان يومها موعدا
للوصل، وسلما إلى بلوغ الآمال، فلم أزل احييها وجدا وغراما وتميتني تذكرا
وهياما: من المنسرح
أحييتها والدموع تنجدني ... شؤونها والظلام ينجدها
إلى أن كاد الظلام يشف لونه، ويحمر جونه، وبدت أعلام الصباح منشورة، وطلعت
رايات النهار منصورة، وولي زنجي الليل وهو هزيم، وركض هاربا، وعقبه كليم،
وذر حاجب الغزالة مشرق الأنوار، وأجرت موج سيل الذهب الذاب على الأقطار،
وأسفرت ذكاء عن وجهها المنير، وألقت خمار الظلام عن عارضها المستدير، وقد
ذكرت بهذا الفصل شعرا مرموقا، يفوق درا منظوما، فمنه فائية ابن هاني
الجامعة لهذه المعاني التي أولها: من الطويل
أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
وهي مشهورة بقائلها، فلا أتعب بإثباتها يد ناقلها، فمن أرادها فقد دللته،
ومن أنكرها فقد عرفته، وقال مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي: شاعر من
بلدتنا الغراء، ومجيد من أعيان الشعراء، شعره، أجرى من الماء تحدر من
صبب،وأفعل في النفوس من ابن غمام زوج بابنه عنب، يمدح السعيد الشهيد تاج
الدين أبا المعالي محمد بن نصر بن الصلايا العلوي الحسيني سقى الله عهده
سبل العهاد وروى ثراه بكل ملث الودق ذي إبراق وإرعاد.
من الطويل
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
فلقد كانت أيامه مواسم المسرة، وأوقاته وقفا على المبرة فمضى محمود
السجايا، طلاع الثنايا، شريف الخلايا والمآثر والمزايا، إذا اقتسمت غنائم
الشرف، فله المرباع منها والصفايا، إلى منقطع القرين، وفاق عرابة الأوسي
في تلقى راية المجد باليمين.
من الطويل
أيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
وأنفذ هذه الأبيات إليه من الشام على يد أخيه وأولها: من الخفيف
لو وجدنا إلى اللقاء سبيلا ... لشفينا بالقرب منكم عليلا
وسعينا على الرؤوس سراعا ... ورأيناه في هواكم قليلا
قد سألنا القبول حمل التحيات، فيا ليتها أصابت قبولا. ويقول فيها:
وفلاة فليتها بأمون ... ملت البيد وخدها والذميلا
مثل ظهر المج لا يجد الخريت فيها إلى سبيل سبيلا
جبتها والظلام راهب ليل ... جاعل كل كوكب قنديلا
أو عظيم للزنج يقدم جيشا ... قد أعدوا أسنة ونصولا
وكأن السماء روض أريض ... نوره بات بالندى مطولا
وكأن النجوم در عقود ... عاد معقود سلكها محلولا
ليلة كالغداف لو لم يرعها ... باز فجر ما أوشكت أن تزولا
رق جلباب جنحها وبدا شقاه ... كما شارف الخضاب النصولا
وتولت وأشهب الصبح يتلو ... أدهم الليل وانيا مشكولا
وكان الصباح ميل لجين ... كاحل للظلام طرفا كحيلا
ما انتهت والسهاد حتى انتهى الصبر ورحنا من خمرة السهد ميلا
وثنى النجم عن سراه عنانا ... مطلقا وانبرى النسيم عليلا
واجتلينا وجه النهار كوجه الصاحب الصدر مرتجى مأمولا
وتبعته أنا فقلت من أبيات في الخدوم الصاحب شمس الدين صاحب الديوان أعز
الله نصره:
من الطويل
وليل غدافي الإهاب ارتديته ... وصحبي نشاوى من نعاس ومن لغب
كأن السماء اللازوردي مطرف ... وأنجمه فيه دنانير من ذهب
كأن سواد الليل زنج بدا لهم ... من الصبح ترك فاستكانوا إلى الهرب
كان ضياء الشمس وجه محمد ... إذا أمه الراجي فأعطاه ما طلب
فنهضت أسابق رجع الطرف، مسارعا إلى متن الطرف، واستصحبت ذلك الغلام إلى
موضع ميعاد بدر التمام، فحين رأيت مسارح تلك الغادة المكسال وشممت من تلك
التربة ارج مساحب الأذيال، أنشدت ودموع العين أخذة في الانهمال: من الطويل
وحقك أن الجزع أضحى ترابه ... عبيرا وكافورا وعيدانه رندا
وما ذاك إلا أن مشت بجنابه ... أميمة في سرب وجرت به بردا
وقريب منه قول النميري: من الطويل
تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت ... به زينب في نسوة عطرات
يخمرن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنح الليل معتجرات
وجادت العين بما هو أغزر من نوء العين، كفكفته تجلدا فوكف، وسمته وقوفا
فما وقف، وأردت الإنكار فاعترف، وصاب فكأنه من لجة البحر اغترف.
من الوافر
أرى آثارهم فأذوب شوق ... وأسكب في مواطنهم دموعي
وأسال من بفرقتهم رماني ... يمن علي منهم بالرجوع
وطفقت أجول في تلك العراص، وأطلب الخلاص، ولات جل مناص فألوم نفسي تارة
وأعذرها أخرى، واستنصر بإمداد الصبر وهي وانية حسرى، إلى أن كاد اليأس
يغلب الأمل وامتداد الانتظار، حتى قلت إن يومه بآخر الدهر قد اتصل، فإذا
السراب قد عن وصدق الحبيب الظن، وذهب فن، واقبل فن وحصل جود وتم من.
من البسيط
فقمت أفرش خدي في الطريق له ... ذلا وأسحب أكمامي على الأثر
وجرت عند مشاهدة جمالها، وشغلني حسنها عن السلام عليها. وسؤالها، فوقفت
ذاهلا، وقد أصبح سحبان بياني باقلا، فابتدرني بالتسليم، وابتسمت عن مثل
الدر النظيم، وقالت كيف وجدت نفسك بعدنا، وهل شكوت بعدنا أم هل عندك مما
عندنا، وهلا أحسنت تلقينا من الصبابة ما لقينا، وكيف دهشت حين قدمنا، وهل
عدمت الجلد كما عدمنا، وهل غلبك الهوى فلم يجر لسانك أم هل استوى عليك
الوجد فسلب بيانك، خبرني عن ضميرك، واشرح لي كنه أمورك، فأنشدت وقلبي
طائر، ودمعي في المآقين حائر: من الكامل
لم أنسه لما بدا متمايلا ... يهتز من لين الصبى ويقول
ماذا لقيت من الهوى فأجبته ... في قصتي طول وأنت ملول
فتبسمت عن مثل اللالي وقالت: اسمع ما قال الجمال ياقوت في وصف حالي
الحالي: من الكامل
صدقتم في الوشاة وقد مضى ... في حبكم عمري وفي تكذيبها
وزعمتم أني مللت حديثكم ... من ذا يمل من الحياة وطيبها
أما نحن فأشواقنا إليك متزايدة، وأنفاسنا لبعدك متصعدة، وليلنا بعدك طويل،
ونومنا وقد غبت قليل، نتعلل بلقائك ونتعرض للنسيم، إذا هب تلقائك: من
البسيط
ما أظلمت ليلة والعين ساهرة ... يعتادها من نزاع نحوكم أرق
ألا تمنيت أن الريح لي نفس ... يسري إليكم وأن النجم لي حدق
وإيه كيف صبرك على فراقنا، وحالك بعد انطلاقنا، وهل ساعدك الجلد أم استولى
عليك الكمد، وهل ذقت مناما هجرناه، أو عرفت قرارا أنكرناه. من المتقارب.
وحقك كدرت صفو الحياة وطيب الرقاد بهذا الصدود ولو نلت من زمني ما أريد
لناديت يا ليلة الأنس عودي وهد الجملة والتفصيل، والأولى الاختصار إذا لم
يفد التطويل، فإن أنكرت أمرا، فسل قلبك فهو عارف، أو استقلك دمعا، فشاهده
دمعك الذارف، وقد حالك أيام البعاد، وتحققت كلما جرى فلا حاجة إلى
التعداد، ووقفت على الحقيقة، وحمدت ما ظهر من تلك الطريقة، وقد كايتك
الصبابة، وما صرحت ومعي من الصبر صبابة، من الطويل.
ألفنا التجافي واطمأنت قلوبنا ... عليه وهذا آخر العهد بالصبر
فمر بما تريد واحكم حكم المالك على العبيد، فحين سمعت كلامها، وفهمت
نظامها، زاد غرامي اضعافا، واستخفني الطرب استخفافا، وكدت أطير فرحنا
وجذلا، ولو لم أتتماسك لصرت مثلا: من الوافر
إذا الخبر استخفك من بعيد ... نثاه فكيف ظنك بالعيان
فقلت يا قرة العين الساهرة وقرار القلوب النافرة شفيت نفسا أشفت
على التلف، ونعشت قلبا أودى به وارد الأسف، وكفكفت دمعا ما نهنهته إلا
وكف، ورفعت أملا كان في الحضيض فنال الشرف، وأحييت روحا أماتها الجفاء،
ولازمها الهم فعليها العفاء، فاستدركت ما بقي من ذمائها، وبقيت عليها فضل
مائها، وسقيتها فعادت مخضرة الأوراق، وأعديتها على دواعي الوجد وعوادي
الفراق، من السريع
رأيت أن الوجد قد شفني ... وخانني في بعدك الصبر
فعدت بالحسنى على مغرم ... ذاب اشتياقا فلك الأجر
فقالت خلنا من هذه الأقوال، فلك المنة في كل الأحوال، وعد إلى الدار.
وانتظرنا وقت الاصفرار فأنا الليلة لك ضيوف، وعليك عكوف، وخل هذا الغلام
الذي بين يديك، ليكون مع عوانا إليك دليلنا عليك، وحظنا في هذا أوفر
ونصيبنا منه أكثر، فاستعد لوصالنا، فنعم البدل نحن من خيالنا فتوثقت منها
بالعهود وراجعتها في الوفاء بالوعود، وأذكرتها تلك الخدعة، وأن لا تعيدها
جذعة فتبسمت عن واضحات كالدرر، ونظرت عن طرف وسنان ذي حور، وقالت تلك حال
وهذه حال، ولم يبق إلا اللقاء والوصال، ولقد ندمت على تلك الليلة التي
ذهبت ضياعا، فقد كان الصواب أن نأتيك فيها سراعا ولكن لا حيلة فيما مضى،
ومن الذي أعطاه دهره الرضى، وقد أصحب الدهر الشامس وابتسم الحظ العابس،
وحضر الحبيب، وغاب الرقيب، وضحك العيش بعد القطوب، ولم تبق حاجة في نفس
يعقوب، فعدت إلى الدار، أخذا في الاستعداد، جازما بحصول المراد فسألني بعض
الأخوان، إذ رأى مسرعة العهود مع قرب المسير، وشاهد الطلاقة على الأسارير،
فأنشدته الأبيات النوادر، التي أقر بحسنها كل ناظم وناثر.
من الوافر
أجل عينيك في عينها تجدها ... مشربة جنى ورد الخدود
وصافحني تجد عبقا بكفي ... يضوع إليك من ردع النهود
وها سمعي إليك فإن فيه ... بقايا من حديث كالعقود
وعد عن الفؤاد ففيه سر ... أضن به على الوجود
وقلت هذه جملة يطول شرحها، وليلة قد أسفر صبحها، واستدعيت المشروب
والمشموم وهيأت الظاهر والمكتوم، وأعددت المنثور والمنظوم، وأحضرت أنواع
الرياحين، وتفاءلت بالجمع بين الورد والياسمين، ونضدت مجلسا للشراب،
ومجمعا للأوطار والأطراب، وروقت سلافا أرق من الماء وأجرى من الهواء، أحسن
من الذهب، وأنور من اللهب، وأسلس من النسيم وأصفى من النسيم، وأشد إشراقا
من الشم، كأنما أفرغت في الزجاج من القلب، فحببت إلى النفس: من الخفيف
أفرغت في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كل نفس
وقال آخر: من مخلع البسيط
لا ينزل الليل حيث حلت ... فدهر شرابها نهار
وقال آخر: من الطويل
ترى حيث ما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
وقد أجاد الشعراء في وصف المدامة والنديم، وأبدعوا في نعت مجالس الشراب،
فجاءوا بالفظ الرائع، والمعنى السليم، وأنا أجري على عادتي في ذكر ما يخطر
من ذلك بالبال، وأعود إلى شرح ما يتم لنا في ليلة الوصال، لأبي نؤاس في
نعت الشراب، الفضيلة على الأواخر والأوائل، وهو الذي إذا قال سكت كل قائل،
وقد اشتمل ديوانه من ذلك على الغرر. البدائع، والمعاني التي هي أعذب من
جنا النحل. ممزوجا بماء الوقائع والألفاظ التي اصحب له أبيها، وأطاعه
عصيها، وانثالت عليه انثيالا، وثنت أعناقها إليه إرسالا، فحكم فيها حكم
العارف الخبير وأبرزها بحسن نظمه كالروض النضير، وأنا أذكر من أشعاره ما
حضر، ومن أراد الزيادة فعليه بديوانه يستخرج منه الدرر، قال: من البسيط
قامت تريني، وأمر الليل مجتمع ... صبحا تولد بين الماء والعنب
كان صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على ارض من ذهب
هذا التشبيه في غاية الحسن، وقد أخذ عليه في صغرى وكبرى، ما هو معلوم عند
من رغب في جداله، وما هذه الرسالة مما تحتمل الخوض في هذا أو أمثاله،
وقال: من الكامل
قال أبغني المصباح قلت له اتئد ... حسبي وحسبك ضوءها مصباحا
فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا
من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا
عمرت يكاتمك الزمان حديثها ... حتى إذا بلغ السئامة باحا
وقال: من البسيط
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء
كالورد
كأسا إذا انحدرت من كف شاربها ... أجدته حمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... من كف جارية ممشوقة القد
تسقيك من يدها خمرا ومن فمها ... خمرا فمالك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
وقال: من الكامل
ومدامة تحيا النفوس بها ... جلت مآثرها عن الوصف
من كف ساقية مقرطقة ... ناهيك من أدب ومن ظرف
وقال: من الخفيف
عنقت في الدنان حتى استفادت ... نور شمس الضحى وبرد الظلال
ولعمر المدام إن قلت فيها ... إن فيها لموضعا للمقال
وقال: من الطويل
فطب بحديث عن نديم مساعد ... وساقية سن المراهق للحلم
ضعيف كر الطرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم
هذا هو الشعر الذي تستشعر به النفوس مسرة، ويلوح على وجه الأشعار غرة،
وماذا عسى أن يقال في شيخ الصناعة، وفارس البراعة، وقال: من المديد
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلى، ولم أنم
وقد قيل أنها قيلت فيه، والذي قالها والبة بن الحباب والمشهور أنها له،
يقول فيه:
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم
لاحتبت في القوم مائلة ... ثم قصت قصة الأمم
قرعتها بالمزاج يد ... خلقت للكأس والقلم
في ندامى سادة زهر ... أخذوا اللذات عن أمم
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت ... مثل فعل النار في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم
وليكن هذا المقدار من شعره كافيا في هذا المختصر، ولو أردت الإطالة، لأتيت
بكل شعره، فكله غرر، وقال ابن نباتة السعدي وأجاد.
من الطويل
نعمت بها يجلو علي كؤوسه ... أغر الثنايا واضح الجيد أحور
فوالله ما ادري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت رداء الليل يطوي وينشر
وقال ابن الجهم: قلت لجارية، نجعل الليلة مجلسنا في القمر، فقالت: ما
أولعك بالجمع بين الضرائر، قلت فأي الشراب أحب إليك.
قالت: ما ناسب روحي في الخفة ونكهتي في الطيب، وريقي في اللذة، ووجهي في
الحسن وخلقي في السلاسة،.
وقال ديك الجن: من الطويل
فقام تكاد الكأس تخضب كفة ... وتحسبه من وجنتيه استعارها
مشمشعة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
وقال آخر مجزوء الكامل
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
قال آخر: من الطويل
وحمراء قبل الزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبي نرجس وشقاق
حكت وجنة المعشوق صرفاً فساطوا ... عليها مزاجا فاكتسبت لون عاشق
وقال ابن دريد من الكامل
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
وقال أبو عثمان الخالدي: من الخفيف
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها
لست أدري من رقة وصفاء ... هي في كأسها أم الكأس فيها
وقال التنوخي من المتقارب
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جاري
كأن المدير لها باليمين ... إذا قام للشرب أو باليسار
تدرع ثوبا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار
وقيل وتروى ليزيد بن معاوية: من الطويل
وإني من لذات دهري لقانع ... بحلو حديث أو بمر عتيق
هما ما هما لم يبق شيء سواهما ... حديث صديق أو عتيق رحيق
وقال آخر: من الكامل
ومدامة حمراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء
فالراح شمس والحباب كواكب ... والكف قطب والإناء سماء
وقال محي الدين رحمه الله يصف مجلسا. من الكامل
في المجلس ظهرت سرائر حسنه ... وجلت بصائرنا وجوه سروره
فكأنه فلك السماء كؤوسه ... كشموسه وسقاته كبدوره
وقال الحماني من الكامل
في مجلس جعل السرور جناحه ... ظلا لنا من طارق الحدثان
لا تسمع تصفيق الجليس ونقره ... وبكاء راووق وضحك قناني
وأنشدني محيي الدين رحمه الله من الخفيف
أنا في منزلي وقد وهب الله صديقا وقينة وعقارا
فابسطوا العذر في التأخر عنكم شغل الحلي أهله أن يعارا
فهذه أشعار روائع، ومعان نواصع، وألفاظ حلوة المبادئ والمقاطع، وهذا
المختصر لا يحتمل التطويل، وقد يستغني عن الكثير بذكر القليل، فلما أنجزت
كل الأمور وأعددت أسباب السرور، أخذت في الانتظار وقد تقوضت خيام النهار
وحال لون الشمس إلى الاصفرار، وخلعت لباس الورد، وارتدت بالبهار، أقبلت
تميس كأنها غصن بان وترنو بعين ظبي وسنان.
من الكامل
تمشى قناة ثم تذكر قدها ... أن التثني للغصون فتثني
فأضاء الأفق بنورها وسلبت الليلة لباس ديجورها، من الطويل
فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
وخلفت الشمس عند مغيبها، وزادت عليها بحسنها وطيبها، فتلقيتها بدمع أجراه
الفرح والجذل، وأطلقه السرور فسح وهمل، فقالت ما هذا البكاء، وقد واصل
الحبيب وغاب الرقيب، وعالج الداء الطبيب: من الكامل
فأجبته لما رأيتك زائري ... وسمحت لي بعد النوى بتداني
طفح السرور علي حتى أنني ... من عظم ما قد سرني أبكاني
فدخلت أمامها إلى الدار، ونعمت عينا بالجار، وشممت نشر درك الأماني
والإطار، واستقر بها المجلس فأعجبها ترتيبه، وراقها لوجه وطيبه، وأخذنا في
شاننا، واستنطقنا ألسن عيداننا، وكدنا نطير ونحن في مكاننا، ودارت كؤوس
الراح ورشفنا شفاه الأقداح، فلما أخذت مأخذها من الهام، ودبت دبيب البرء
في السقام، انبسطت وتم أنس، وتحرك ساكن، وصفا أجن، واجتمع أحباب، وجرت
أسباب، وعطفت أجياد على أجياد، وقرب فؤاد، وواصل محب حبيبه، وأمن عاذله
ورقيبه. من الوافر
تأمل من خلال الشك فانظر ... بعينك ما شربت ومن سقاني
تجد شمس الضحى تسري بشمس ... إلي من الرحيق الخسرواني
وهصرت قدود، وجنيت خدود، وضمت نهود ورشفت ثغر برود، وقبلت شفاه وثغور،
وتمت أحوال وأمور، واستحكم فرح وسرور، وأشرق على وجه الأنس نور، وخلع عذار
ونبذ وقار، وشربت عقار، وطلب عند الهم ثار، وطافت كؤوس، وطابت نفوس، وجنيت
غروس، وجليت عروس، وزال هم وبؤس، وأدال دهر، وجرى نهر، وفتح زهر، وقرب
وصل، وبعد هجر، وتدانت قلوب، وساعف محبوب، وحصل مطلوب، وأصحب محبوب،
وأنشد، ولبى ذاهل، ونادى الأنس أهل: من الطويل
رعى الله ليلا ضمنا بعد فرقة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الراح فيما بيننا لم تسرب
وجربنا في ميدان الخلاعة، وبذلنا في طاعة الهوى جهد الاستطاعة، وعاصينا
الوقار والنهى، وبلغنا كل قلب ما اشتهى، وأعطينا النفوس أمانيها، وسلمنا
قوس التصابي إلى باريها، وجنيت ثمار المعاني وحصلت على المطالب والأماني،
وأنشدت أبيات أبزون العماني: من البسيط.
أفدي الذي زارني والليل معتكر ... والأفق مما اكتسى من عرفه عطر
فلم نزل نتجارى في العتاب معا ... أشكو إليه جفاه وهو يعتذر
حتى إذا ما اعتنقنا واستتب لنا ... على إرادتنا عيش له خطر
ناديت يا ليل دم ليلا بلا سحر ... فقال ليلك هذا كله سحر
وذكرت في وصف الحال، والاستعانة بالليل على استمرار الوصال، قول من قال:
من السريع
بتنا على حال نسوء العدى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا دخل الصبح
وحثحثنا الطاس والكأس، ودبت الحميا في القدم والرأس، وتمشت في المطا
والقوائم، وسرت سرى الكرى في مقلة النائم، وأنشدت الأبيات النوادر، الدالة
على قوة عارضة الشاعر، التي تجاري نسيم السحر لطفا، وتفوق نظم الدرر وصفا
ورصفا.
من الكامل
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صباء كالمسك الفتيق لناشق
وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل ي عانقي
حتى إذا مالت بهسنة الكرى ... زحزحته عني وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا يبيت على فراش خافق
ولم أتبع الشاعر في شفقته، ولا اختصرت شيئا من العناق عملا
بطريقته، وذكرت قصر ليل الوصال، فأخذت في الحنين والأعوال.
وقد أطال الشعراء في وأجادوا فيما قصدوه منه ما أرادوا، وأنا أورد منه ما
يليق بهذا المختصر، واذكر منه ما حضر، وقد يستدل على الشجرة بالوحدة من
الثمر، قال بعضهم من المنسرح
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر
تطول في هجرنا وتقصر في الوصل فما نلتقي على قدر
وقال سيدوك من البسيط
عهدي بهم ورداء الوصل يجمعنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
فاليوم ليلي وقد بانوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر
وقال آخر من البسيط.
الليل إن هجرت كالليل إن وصلت ... أشكو من الطول ما شكو من القصر
وقال ابن التعاويذي: من الكامل
وأطلتم ليلي وكم من ليلة ... ذهبت بوصلكم كظل الطائر
وقال آخر، من الكامل
كل الليالي المضيات خلاعة ... تفدي نعيمك يا ليالي حاجر
ما كنت في اللذات إلا خلسة ... سمحت بها الأيام سمحة غادر
فحين بلغت إلى هذا المقام، وأتيت بما أتيت من النشر والنظام، رعدت راعدة،
أيقظتني من المنام، فانتبهت ولا محبوبة، ولا مدام، ولا آس ولا خزام، فعجبت
من قوة الخيال، واستمرار هذا المحال، وأنا أستغفر الله من التجوز في
المقال، وتحقيق هذه الحال، والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله
خير آل، كتبها ياقوت بن عبد الله بمدينة السلام، في العشر الأول من شعبان
سنة أربع وسبعين وستمائة هجرية حامدا الله تعالى على نعمه ومصليا على نبيه
محمد وآله الطيبين الطاهرين ومسلما تسليما كثيرا.