كتاب : المطر والسحاب
المؤلف : ابن دريد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: نبدأ بحمد الله عز وجل على آلائه، ونختم بالصلوة على خاتم أنبيائه.هذا كتاب جمعنا فيه ما ذكرته العرب في جاهليتها وإسلامها من وصف المطر والسحاب، وما نعتته العرب الرواد من البقاع، ونرغب إلى الله عز وجل في التوفيق والصواب.
حدثنا إسماعيل بن أحمد بن حفص النحوي المعروف بسمعان النحوي قال حدثنا أبو عمر الضرير قال حدثنا عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب عن موسى بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن جده قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً مع أصحابه إذ نشأت سحابة، فقالوا: يا رسول الله، هذه سحابة، فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها! قال: وكيف ترون رحاها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: فكيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استقامتها! قال: كيف ترون برقها: أوميضاً أم خفواً، أم يشق شقاً؟ قالوا: بل يشق شقاً، قال: فكيف ترون جونها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده! فقال صلى الله عليه: الحيا، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين؛ قال أبو بكر: قوله قواعدها أسافلها، ورحاها: وسطحها ومعظمها، وبواسقها: أعاليها، وإذا استطار البرق من أعاليها إلى أسافلها، فهو الذي لا يشك في مطره، والخفو أضعف ما يكون من البرق، والوميض: نحو التبسم الخفي يقال: ومض وأومض؛ أخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا الأصمعي قال: خرج معقر بن حمار البارقي ذات يوم، وقد كف بصره، وابنته تقوده، فسمع رعداً فقال لابنته: ما ترين؟ قالت: أراها حماء عقاقةً كأنها حولاء ناقة لها سير وان، وصدرٌ دانٍ، فقال: مري لا بأس عليك! ثم سمع رعداً آخر فقال: ما ترين؟ قالت: أراها كأنها لحم ثنت منه مسيك ومنه منهرت، فقال: وائلي بي إلى قفلة، فإنها لا تنبت إلا بمنجاة من السيل؛ قال أبو بكر: الحماء: السوداء تضرب إلى الحمرة، العقاقة تنعق بالبرق، يريد أن البرق ينشق عقائق الواحدة عقيقة، والحولاء جلدة رقيقة تقع مع سليل الناقة كأنها مرآة، فشبه السحاب في كثرة مائه بالحولاء، قولها لحم ثنت تريد مسترخياً قد أنتن: بعضه متماسك وبعضه متساقط، وهو المنهرت، والقفلة ضرب من الشجر، والجمع قفل قال الشاعر:
ومفرهة عنس قدرت لساقها ... فخرت كما تتايع الريح بالقفل
قال أبو بكر قوله: تتايع: تجتمع، ومنه تتايع الفراش في النار؛ المتساقط: أي يسقط ويركب بعضها بعضاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: سئل أعرابي عن مطر فقال: إستقل سد مع انتشار الطفل فشصا واخزأل، ثم اكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه، وابذعرت فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه، وارتتقت جوبه، وارثعن هيدبه، وحشكت أخلافه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه، فالرعد مرتجس، والبرق مختلس، والماء منبجس فأترع الغدر، وأنبت الوجر، وخلط الأوعال بالآجال، وقرن الصيران بالرئال، فللأودية هدير، وللشراج خرير، وللتلاع زفير، وحط النبع والعتم من القلل الشم إلى القيعان الصحم، فلم يبق في القلل إلا معصم مجرنثم، أو داحض مجرجم، وذلك من قضاء رب العالمين على عباده المذنبين.
قال أبو بكر قوله:
إستقل: ارتفع في الهواء، والسد السحاب الذي يسد الأفق، والطفل
اختلاط الظلام بعد غروب الشمس، وشصا ارتفع يعني السحاب، واحزأل أي انتصب،
واكفهر تراكم وغلظ، وأرجاؤه نواحيه، الواحد رجا مقصور، احمومت اسودت، وهو
سواد تخلطه حمرة، أرحاؤه أوساطه، وابذعرت تفرقت، والفوارق الواحدة فارق،
وهي قطعه من السحاب تتفرق عنه مثل فرق الإبل، وهي النوق إذا أرادت الولادة
فارقت الإبل وبعدت عنها حيث لا ترى فأنتجت؛ تضاحكت بوارقه شبه لمعان البرق
بالضحك، واستطار انتشر، والودق قطر كبار يخرج من خلل السحاب قبل احتفال
المطر، ارتتقت جوبه أي تلاءمت، والجوب الفرج، الواحدة جوبة، ووالهيدب: ما
تدلى من السحاب في أعجازه فكأنه كالهدب له، وحشكت أخلافه هذا مثل، يقال
حشك ضرع الناقة إذا امتلأ لبناً، والأخلاف: الواحد خلف، وهو الضرع للناقة
خاصةً، وأردافه: مآخيره، وأكنافه: نواحيه؛ قوله: الرعد مرتجس أي تسمع له
رجساً، وهو الصوت بهدة شديدة، ومنبجس منصب؛ والبرق مختلس كأنه يختلس
الأبصار من شدة لمعانه، فأترع الغدر أي ملأها. والغدر جمع غدير، وأنبت
الوجر أي حفرها وخربها، والوجر جمع وجار، وهو سرب الضبع، وللذئب والثعلب؛
وقوله: خلط الأوعال وبالآجال يريد أنه حط تلك الأوعال من رؤوس الجبال
فخلطها بالآجال، والآجال واحدها إجل، وهي قطعان الوحش، وأنه حط تلك من
رؤوس الجبال، فجمع بينها وبين البقر التي مراتعها القيعان لاحتمال السيل
لها؛ وقوله: قرن الصيران بالرئال، والصيران: جمع صوار، وهو القطيع من بقر
الوحش، والرئال: واحدها رأل، وهي فراخ النعام؛ وإنما يريد بهذا كله أن
السيل غرق هذه الوحوش فجمع بين السهلي والجبلي؛ وقوله: للأودية هدير: أي
تهدر كهدير الإبل لكثرة السيل؛ والشراج: الواحد شرج، وهي مجاري الماء من
الغلظ إلى بطون الأودية.
والتلاع أفواه الأودية، الواحد تلعة، أي تزفر بالماء لفرط امتلائها،
والنبع والعتم: ضربان من الشجر لا ينبتان إلى في الجبل، يقول: فحط السيل
هذا الشجر من رؤوس الجبال إلى القيعان؛ وقوله لم يبق إلا معصم يريد أن
الوعول خافت الغرق واستعصمت بالصخور، فنجا ما استعصم منها، وتجرجم ما لم
يعتصم: أي صرع فاحتمله السيل؛ والمجرنثم المتقبض.
أخبرنا أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي قال: سألت أعرابياً من بني عامر
بن صعصعة عن مطر صاب بلادهم، فقال: نشا عارضاً فطلع ناهضاً، ثم ابتسم
وامضاً، فأعتن في الأقطار فأشجاها، وامتد في الآفاق فغطاها، ثم ارتجز
فهمهم، ثم دوى فأظلم، فأرك ودث وبغش وطش، ثم قطقط فأفرط، ثم ديم فاغمط، ثم
ركد فأثجم، ثم وبل فسجم، وجاد فأنعم، فقمس الربى، وأفرط الزبى، سبعاً
تباعاً، ما يريد انقشاعاً، حتى إذا ارتوت الحزون، وتضحضحت المتون، ساقه
ربك إلى حيث شاء، كما جلبه من حيث شاء.
قال أبو بكر: قوله نشا عارضاً أي استقل، والعارض سحاب يعترض في أفق
السماء؛ وقوله: طلع ارتفع، والوامض البرق، يقال: ومض السحاب وأومض: إذا
رأيت البرق في عرضه يلمع لمعاناً خفياً كالتبسم؛ وقوله: فأشجاها أي ملأها؛
وقوله ارتجز يعني ارتجاز الرعد، وهمهم وهو أن تسمع للرعد همهمة كهمهمة
الأسد؛ وقوله دوى أي سمعت له دوياً؛ وقوله: فأرك أي مطر ركا، والرك: مطر
ضعيف، وكذلك الدث والجمع دثاث وركاك؛ والبغش دون الطش، والقطقط قطر متتابع
أكثر من قطر الطش؛ وقوله: ديم الديمة: الديمة مطر يبقى أياماً لا يقلع؛
وقوله أغمط أي دام، وركوده دوامه ثابتاً لا يتحرك، وقوله أثجم أي أقام؛
وبل من الوابل، والوابل: المطر للكبار القطر، الشديد الوقع؛ والسجم: الصب؛
وقوله أنعم أي بالغ فيه، ومنه قولهم: دقاً نعماً: أي مبالغاً؛ وله: قمس
الربى أي غوصها في الماء، والربى جمع رابية؛ وقوله أفرط أي ملأ، والزبى
جمع زبية، وهي الحفرة تحفر للأسد والذئب أيضاً، والزبية لا تحفر إلا في
موضع مرتفع، فإذا بلغ السيل إلى موضع الزبية فقد بلغ الغاية؛ وقوله ارتوت
الحزون افتعلت من الري، والحزون الغلظ من الأرض، الواحد حزن؛ وقوله تضحضحت
المتون: أي صار فوقها ضحضاح من الماء، وهو الماء يجري على وجه الأرض
رقيقاً، والمتن: صلابة من الأرض فيها ارتفاع، وهو دون الحزن.
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: سئل رجل من العرب عن مطر كان بعد
جدب فقال: نشأ حملاً سدا، متقاذف الأحضان، محمومي الأركان. لماع الأقراب،
مكفهر الرباب، تحن رعوده حنين الطراب، وتزمجر زمجرة الليوث الغضاب،
لبوارقه التهاب، ولرواعده اضطراب، فجاحفت صدوره الشعاف، وركبت أعجازه
القفاف، ثم ألقى أعباءه، وحط أثقاله، فتألق وأصعق، وانبجس وانبعق، ثم أنجم
فانطلق، فعادت النهاء مترعة، والغيطان ممرعة، حياً للبلاد ورفداً للعباد.
قال أبو بكر: الحمل السحاب الكثير الماء، والسد الذي قد سد الأفق؛ متقاذف
الأحضان يريد النواحي؛ وقوله: محمومي هو مفعوعل من الحمة، وهي سواد تخلطه
حمرة يسيرة، والأقراب الخصور، الواحد قرب، والقرب والإطل والكشح والخصر
واحد؛ والمكفهر المتراكب، والرباب سحاب تراه كأنه متعلق بالسحاب، الواحدة
ربابة؛ وقوله حنين الطراب أراد الإبل النوازع إلى أوطانها، فهي تحن، فشبه
حنين الرعد بحنين الإبل إلى أوطانها.
وقوله جاحف أي زاحم، والشعاف رؤوس الجبال الواحدة شعفة، والقفاف جمع وقد
قدمنا ذكره وهو الغلظ من الأرض لا يبلغ أن يكون جبلاً، يريد أن أعالي هذا
السحاب مطلة على الجبال، ومآخيره على القفاف دانية من الأرض؛ ألقى أعباءه
أي أثقاله، يريد الماء، والتألق شدة اللمعان؛ والانبجاس الانفجار بالماء،
والانبعاق الصب الكثير في سعة، وقوله أنجم أي أقلع وانقشع والنهاء جمع
نهي، وهو الغدير الذي له ناه ينهاه أن يفيض؛ والغيطان جمع غائط، وهو البطن
الغامض من الأرض المطمئن، ممرعة مخصبة.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سمعت أعرابياً من غني يذكر مطراً أصابهم
في غب جدب فقال: تدارك ربك خلقه، وقد كلبت الأمحال، وتقاصرت الآمال، وعكف
الياس، وكظمت الأنفاس، وأصبح الماشي مصرماً، والمترف معدما، وجفيت
الحلائل، وامتهنت العقائل، فأنشأ الله سحاباً ركاماً كنهوراً سجاما، بروقه
متألقة، ورعوده متقعقعة، فسح ساجياً راكداً ثلاثاً غير ذي فواق، ثم أمر
ربك الشمال فطحرت ركامه، وفرقت جهامه، فانقشع محموداً، وقد أحيا فأغنى،
وجاد فأروى، فالحمد لله الذي لا تكت نعمه، ولا تنفد قسمه، ولا يخيب سائله،
ولا ينزر نائله.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: كان شيخ من الأعراب في خبائه، وابنة له
بالفناء إذ سمع رعداً فقال: ما ترين يا بنية؟ قالت: أراها حواء قرحاء
كأنها أقراب أتان قمراء؛ ثم سمع راعدةً أخرى فقال: كيف ترينها؟ قالت:
أراها جمة الترجاف، متساقطة الأكناف، تتألق بالبرق الولاف، قال: هلمي
المعزقة وانأي نؤياً.
قال أبو بكر: حواء سوداء إلى الحمرة كلون الفرس الأحوى، قرحاء يريد أن
البرق في أعاليها فكأنها قرحاء مثل الفرس الأقرح، والأقراب الخصور، شبهها
ببطن الأتان القمراء، والقمرة بياض كدر، جمة كثيرة، والترجاف الاضطراب،
والاكناف النواحي، تقول: قد استرخت نواحيها لكثرة مائها؛ والبرق الولاف
الذي يبرق برقتين متواليتين، وهو لا يكاد يخلف، والمعرفة المسحاة، والنؤي
تراب يجمع حول البيت لئلا يدخله المطر.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: وقف أعرابي على أبي المكنون النحوي وهو
في حلقته، فسأله فقال: مكانك حتى أفرغ لك، فدعا واستسقى فقال: اللهم ربنا
وإلهنا ومولانا، صل على نبينا محمد، ومن أرادنا بسوء فأحط ذلك السوء به
كإحاطة القلائد بترائب الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على
أصحاب الفيل، اللهم اسقنا غيثاً ثرياً طبقاً مريعاً مجلجلاً مسحنفراً،
هزجاً سحاً سفوحاً غدقاً مثعنجراً، قال: فولى الأعرابي مدبراً، فقال له:
مكانك حتى أقضي حاجتك، فقال: الطوفان ورب الكعبة! حتى أأوي عيالي إلى جبل
يعصمهم من الماء! قال أبو بكر: الطبق المطر الذي يطبق الأرض، والمريع الذي
يمرع أي يخصب، والمجلجل: الذي تسمع لرعده جلجلةً أي صوتاً وهدةً،
والمسحنفر الجاري، والسح الصب، والسفوح المنسفح، والغدق الكثير الماء،
والمثعنجر الجاري حتى يملأ الأرض.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي، وأخبرنيه أبو عثمان عن التوزي عبد الله بن
هارون عن من حدثه قال: مررت بغلمة من الأعراب يتماقلون في غدير، فقلت لهم:
أيكم يصف لي الغيث وأعطيه درهماً، فخرجوا إلي وقالوا: كلنا يصف، وهم
ثلاثة، فقلت: صفوا، فأيكم رضيت صفته أعطيته الدرهم، فقال أحدهم:
عنّ لنا عارض قصراً تسوقه الصبا، وتحدوه الجنوب، يحبو حبوّ
المعتنك، حتى إذا زلآمت صدوره، وانثجلت خصوره، ورجع هديره، وأصعق زئيره،
واستقل نشاصه، وتلاءم خصاصه، وارتعج ارتعاصه، وأوفدت سقابه، وامتدت أطنابه
تدارك ودقه، وتألق برقه، وحفزت تواليه، وانسفحت عزاليه فغادر الثرى عمداً،
والعزاز ثئداً، والحث عقداً، والضحاضح متواصيةً، والشعاب متداعيةً، وقال
آخر: تراءت المخايل من الأقطار، تحنّ حنين العشار، وتترامى بشهب النار،
قواعدها متلاحكة، وبواسقها متضاحكة، وأرجاؤها متقاذفة، وأرحاؤها متراصفة،
فواصلت الغرب بالشرق، والوبل بالودق، سحّاً دراكا؛ متتابعاُ لكاكاً،
فضحضحت الجفاجف، وأنهرت الصفاصف، وحوضت الاصالف، ثم أقلعت محسبةً محمودة
الآثار، موموقة الحبار؛ وقال الثالث: ووالله ما خلته بلغ خمساً: هلم
الدرهم أصف لك، قلت: لا، أو تقول: كما قالا، فقال: والله لأبذنهما وصفاً،
ولأفوقنهما رصفا، فقلت: هات لله أبوك! فقال: بينا الحاضر بين الناس
والإبلاس، قد غمرهم الإشفاق، ورهبة الإملاق، وقد حقبت الأنواء، ورفرف
البلاء، واستولى القنوط على القلوب، وكثر من الذنوب، ارتاح ربك لعباده
فأنشأ سحاباً مسجهراً كنهوراً معنونكاً محلولكاً، ثم استقل واحزأل فصار
كالسماء دون السماء وكالأرض المدحوة وفوق لوح الهواء، فأحسب السهول، وأتأق
الهجول، فأحيا الرجاء وأمات الضراء، وذلك قضاء رب العالمين، قال: فملأ
والله اليفع صدري، فأعطيت كل واحد منهم درهماً وكتبت كلامهم.
قال أبو بكر: عنّ اعترض، والعارض السحاب يعترض في الأفق، وأكثر ما يكون
ذلك مع إقبال الليل، والقصر: العشي؛ وقوله يحبو حبوّ المعتنك فالحبوّ دنوّ
الصدر من الأرض، من ذلك حبا الصبي إذا زحف وصدره دان من الأرض، والمعتنك
البعير وغيره أيضاً الذي يصعد في العانك من الرمل، وهو الكثيب المتداخل من
الرمل يشق على الصاعد فيه، والبعير إذا كلف صعوده زحف فشبه نهوض السحاب
لثقله بما فيه من الماء به قال رؤبة:
أوديت إن لم تحب حبو المعتنك
وقوله ازلأمت صدوره أي انتصبت، والنشاص ما انتصب من السحاب، والخصاص
الفرج؛ وقوله انثجلت أي اتسعت من قولهم: بطن أثجل؛ وقوله: ارتعج ارتعاصه
الارتعاج: تدارك الحركات، والارتعاص: الاضطراب كما يرتعص الجدي من النشاط؛
وقوله أوفدت سقابه هذا مثل، والسقاب: أعمدة الخباء، فشبهه بالخباء الذي قد
وقع، والإيفاد الرفع، والأطناب حبال الخباء التي تشد بالأوتاد.
وقوله حفزت تواليه أي أعجلت، وتواليه: مآخيره، وانسفحت عزاليه أي انصبت،
والعزالي: عزالي المزادة، وهي مخارج الماء من أسافلها؛ وقوله: تركت الثرى
عمداً أي رطباً يجتمع في اليد إذا جمع، والعزاز الغلظ من الأرض؛ ثئداً
ندياً؛ والحث الرمل اليابس، يقول: ترطب حتى تعقد بعضه ببعض قال الشاعر:
أنشدناه عبد الرحمن عن عمه:
حتى ترى في يابس الترباء حثّ ... يعجز عن ري الطليّ المرتعث
والضحاضح ما تضحضح على الأرض من الماء؛ والمتواصي المتواصل، وقوله الشعاب
متداعية أي قد تداعت بالسيل.
وقول الثاني تراءت المخايل جمع مخيلة، وهو السحاب الذي تستخيل فيه المطر؛
وقوله قواعدها يريد أسافلها، متلاحكة متداخل بعضها في بعض، وبواسقها
أعاليها. متضاحكة بالبرق؛ وأرجاؤها نواحيها؛ متقاذفة متباعدة؛ وأرحاؤها
أوساطها؛ متراصفة متراكبة قد انضم بعضها إلى بعض؛ وقوله واصلت الشرق
بالغرب أي امتدت من المشرق إلى المغرب.
وقوله: سحا دراكاً: أي صباً متداركاً، واللكاك: الزحام اللاصق بعضه ببعض؛
والحفاحف الغلاظ من الأرض، الواحد حفحف والصفاصف الواحد صفصف وهي الأرض
الصلبة الملساء دون الحجارة، وأصلب من الطين، وحوضت جعلت فيها حياضاً؛
والأصالف واحدا أصلف وصلفاء، وهو الصلب من الأرض.
وقول الثالث: هلم الدرهم: أي هاته، قال الأزهري: هلم، بمعنى أعط؛ وهي هنا
بهذا المعنى، وقد تكون بمعنى تعال وأقبل؛ وقوله: لأبذنهما وصفاً من قولهم:
بذّ القوم يبذهم إذا سبقهم وغلبهم؛ والرصف التركيب؛ والإبلاس هو اليأس وهو
مصدر قولهم أبلس الرجل إذا قطع به، وأبلس من رحمة الله أي أويس كما أويس
إبليس، وهو مشتق من ذلك، والإشفاق الخوف، والإملاق الفقر قال تعالى: " ولا
تقتلوا أولادكم من إملاق أو خشية الإملاق " في الآيتين؛
وقوله: حقبت الأنواء: أي احتبست الأمطار يقال: حقب المطر حقباً:
احتبس، والأنواء جمع نوء، وهو وقت طلوع نجم في المشرق وانحدار نظيره في
المغرب، ويقول الأعراب: مطرنا بنوء النجم الفلاني؛ والسحاب المسجهر هو
الذي يترقرق فيه الماء، والكنهور من السحب: المتراكب الثخين، وقال الأصمعي
وغيره: هو قطع من السحاب أمثال الجبال؛ والمعنونك من السحاب: المرتفع
والمحلولك الشديد السواد من احلولك الشيء، وقالوا حالك، وحانك على البدل
ومحلولك وحلكوك بمعنى واحد.
وقوله: ثم استقل واحزأل: فاستقل بمعنى ارتفع يقال: استقل الطائر في طيرانه
نهض للطيران وارتفع في الهواء، ويقال: احزأل السحاب إذا ارتفع نحو بطن
السماء، والسماء أيضاً المطر نفسه يقال: وقعت في أرضهم سماء وأصابتهم
السماء قال جرير:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقوله: كالأرض المدحوة أي المنبسطة قال تعالى: " والأرض بعد ذلك دحاها "
ولوح الهواء اللوح: الهواء بين السماء والأرض، وأحسب السهول كفاها من
المطر، وأتأق الهجول: أتأق ملأ، والهجول والهجال والأهجال جمع هجل رزان
عجل: الغائط يكون منفرجاً بين الجبال مطمئناً موطئه صلب؛ واليفع واليفعة
واليافع: الشاب وأيفع وتيفع الغلام إذا شارف الاحتلام.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سألت أعرابياً عن مطر أصابهم بعد جدب
فقال: إرتاح لنا ربك بعد ما استولى اليأس على الظنون، وخامر القلوب
القنوط، فأنشأ بنوء الجبهة قزعةً كالفرض من قبل العين، فاحزألت عند ترجل
النهار لإزميم السرار، حتى إذا نهضت في الأفق طالعةً أمر مسخرها الجنوب
فتنسمت لها فانتشرت أحضانها، واحمومت أركانها، وبسق عنانها، واكفهرت
رحاها، وانبعجت كلاها، وذمرت أخراها أولاها، واستطارت عقائقها، فارتعجت
بوارقها، وتقعقعت صواعقها، ثم ارثعنت جوانبها، وتداعت سواكبها، ودرت
حوالبها، فكانت للأرض طبقاً سح فهضب، وعم فأحسب، فعل القيعان، وضحضح
الغيطان، وجوخ الأضواج، وأترع الشراج، فالحمد لله الذي جعل كفاء إساءتنا
إحساناً، وجزاء ظلمنا غفرانا.
قال أبو بكر: قوله بنوء الجبهة الجبهة نجم من نجوم الأسد، ونوءها محمود
عندهم؛ وقوله قزعة هي القطعة من السحاب صغيرة؛ والفرض الترس الصغير؛
والعين عين عن يمين القبلة، وقوله فاحزألت أي ارتفعت؛ وترجل النهار انبساط
الشمس؛ والإزميم إحدى ليالي السرار، وهي ثلاث ليال من آخر الشهر؛ وقوله
انتشرت أحضانها أي انبسطت، والاحضان: النواحي؛ وقوله احمومت أركانها أي
اسودت بلون الحمة، وهو سواد تخلطه حمرة؛ وبسق ارتفع، والعنان السحاب،
وقوله اكفهرت أي كثفت، ورحاها وسطها، وقوله انبعجت كلاها هذا مثل، والكلية
ما تعين من السقاء أو القربة حتى رق ورشح منه الماء، فشبه مخارج المطر من
السحاب بذلك.
وقوله: ذمرت أخراها أولاها هذا مثل أيضاً، كأنه حض بعضها بعضاً على المطر؛
واستطارت عقائقها أي انتشرت، والعقائق واحدتها عقيقة، وهي البرقة
المستطيلة في عرض السحاب؛ وقوله ارتعجت بوارقها أي تدارك بعضها في إثر
بعض؛ وقوله تقعقعت صواعقها: أي سمعت لها قعقعة، وهي حكاية صوت الرعد؛
وقوله: ارثعنت جوانبها يقول استرخت لكثرة ما فيها من الماء؛ وقوله تداعت
سواكبها كأنه دعا بعضها بعضاً بالماء؛ درت حوالبها هذا مثل أيضاً، كانت
للأرض طبقاً أي غطت الأرض كلها فهضبت: أي جاءت بالماء دفعةً بعد دفعة.
وقوله فعم وأحسب أي عمت الأرض ولم تخص موضعاً دون موضع، وأحسبها: أي
أعطاها ما هو حسبها؛ فغلت القيعان العلل السقية الثانية؛ ضحضح الغيطان أي
ترك فيها ضحاضح، وهو الماء الرقيق السائح على وجه الأرض ليس بالكثير، واحد
الغيطان غائط. وهو البطن الغامض من الأرض؛ وقوله جوخ الأضواج أي هدم
الأجراف، والضوج: المنعطف من الوادي، والشراج أمسلة الماء من الغلظ إلى
بطون الأودية وهي المسلان.
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال سمعت أعرابياً من بني عامر بن لؤي بن صعصعة
يصف مطراً فقال:
نشأ عند القصر بنوء الغفر حبياً عارضاً، ضاحكاً وامضاً، فكلا ولا
ما كان حتى شجيت به أقطار الهواء، واحتجبت به السماء، ثم أطرق فاكفهر،
وتراكم فادلهم، وبسق فازلأم، ثم حدت به الريح فحن، فالبرق مرتعج والرعد
متبوج، والخروج تنبعج، فأثجم ثلاثاً، متحيراً هثهاثاً، أخلافه حاشكة ودفعه
متواشكة وسوامه متعاركة؛ ثم ودع منجماً، وأقلع متهما، محمود البلاء، مترع
النهاء، مشكور النعماء، بطول ذي الكبرياء.
قال أبو بكر: القصر العشي؛ والغفر من نجوم الأسد؛ والحبي الداني من الأرض؛
والعارض المعترض في الأفق: والوامض الذي برقه وميض يقال: ومض البرق وأومض
إذا لمع كالتبسم؛ وقوله: فكلا ولا ما كان أي كقولك: لا ولا، في السرعة؛
وشجيت به أي تضايقت كما يشجى المغتص؛ اطرق تكاثف بعضه على بعض؛ واكفهر
تراكم وغلظ؛ بسق فازلأم ارتفع فانتصب؛ حدت به الريح ساقته؛ حنّ سمعت له
حنيناً؛ المرتعج المتدارك؛ والرعد متبوج أي عالي الصوت؛ والخروج السحاب؛
تنبعج أي تنشق، وهو مثل؛ فأثجم أي أقام متحيراً كأنه قد تحير ليس له وجه
يقصده؛ هثهاثاً متداخل بعضه في بعض؛ قال أبو بكر: أصل الهثهثة اختلاط
الأصوات، وأنشد: وهثهثوا فكثر الهثهاث. أخلافه حاشكة هذا مثل؛ أخلاف
الناقة ضروعها، حاشكة: ممتلئة؛ ودفعه متواشكة مسرعة؛ سوامه متعاركة هذا
مثل: السوام: الإبل السائمة أي الراعية، فشبه السحاب بالإبل التي يعارك
بعضها بعضاً أي يزاحم، ثم ودع منجماً أي انقشع: أنجم السحاب إذا أقلع
متهماً نحو تهامة.
أخبرنا السكن بن سعيد الجرموزي، عن محمد بن عباد المهلبي عن ابن الكلبي،
عن أبيه، عن أشياخ من بني الحرث بن كعب قالوا: أجدبت بلاد مذحج، فأرسلوا
روّداً من كل بطن رجلاً، فبعثت بنو زبيد رائداً، وبعثت جعفي رائداً، وبعثت
النخع رائداً، فلما رجع الرواد قيل لرائد زبيد: ما وراءك؟ قال: رأيت أرضاً
موشمة البقاع ناتحة النقاع مستحلسة الغيطان ضاحكة القريان واعدةً وأحر
بوفائها، راضيةً أرضها عن سمائها؛ وقيل لرائد جعفي: ما وراءك؟ فقال: رأيت
أرضاً جمعت السماء أقطارها فأترعت أصبارها وديثت أوعارها، فبطنانها غمقة،
وظهرانها غدقة، ورياضها مستوسقة، ورقاقها راتخ وواطئها سائخ، وماشيها
مسرور، ومصرمها محسور؛ وقيل للنخعي: ما وراءك؟ قال: مداحي سيل، وزهاء ليل،
وغيل يواصي غيلاً، قد ارتوت أجرازها ودمث عزازها والتبدت أقوازها، فرائدها
أنق، وراعيها مسنق، فلا قضض ولا رمض، عازبها لا يفزع، وواردها لا ينكع،
فاختاروا مراد النخعي.
قول الأول: - قال أبو بكر قوله: رأيت أرضاً موشمة البقاع: يقال أوشمت
الأرض، إذا بدا فيها النبات؛ والناتحة: الراشحة؛ استحلست الأرض: إذا تجللت
بالنبات؛ والغائط: مطمئن من الأرض؛ والقريان: واحدها قري، وهي مجاري الماء
من الغلظ إلى الرياض.
قول الثاني. - قال أبو بكر قوله: رأيت أرضاً جمعت السماء أقطارها يريد أن
السماء ألطت عليها، وكأنها جمعت أكنافها، والسماء: المطر ههنا، يقال:
أصابتنا سماء، وما زلنا نطأ السماء حتى جئناكم: أي مواقع الغيث؛ وقوله:
أترعت: أي ملأت؛ أصبارها: أعاليها؛ وقوله: ديثت: أي لينت؛ أوعارها: غلظها،
والغمقة: الندية؛ والبطنان: ما غمض من الأرض، والظهران: ما غلظ، والغدقة:
الكثيرة النبات والندى، المستوسقة ههنا: المتصل بعضها ببعض؛ والرقاق:
الأرض التي يركبها رمل يسير يخلطه طين؛ والارتخ الطين الذي قد أكثر ماؤه
حتى صار كالعجين اللين، يقول: فمن وطئها ساخ فيها؛ والماشي: صاحب الماشية،
والمصرم ههنا الذي لا ماشية له، محسور لما يرى.
قول الثالث. - قوله: مداحي سيل: أي قد جرى فيها السيل ودحاها حتى استوت
ولان وجهها؛ زهاء ليل: أي كأنها ليل من شدة خضرتها، والزهاء الشخص،
والغيل: الماء الجاري في بطون الأودية يتخلل الحجارة؛ يواصي: يواصل؛
والأجراز: الأرضون التي لم يصبها مطر؛ دمث عزازها أي لين: صار دمثاً،
والدمث الأرض السهلة، والعزاز: الأرض الصلبة الغليظة، والتبدت دخل بعضها
في بعض؛ والأقواز: واحدها قوز، وهي رمال تستدير وتنعطف نحو الأحقاف؛
رائدها أنق، الأنق: المعجب بها؛ وراعيها مسنق، تقول: تسنق ماشيته أي تبشم
من كثرة المرعى؛
وقوله: فلا قضض ولا رمض، يقول: الأرض قد ألبسها النبت فليس فيها
قضض، والقضض: الحصى الصغار، والرمض: أن تحمى الأرض من الشمس، يقول: فليس
هناك رمض لأن الأرض مجللة بالنبت، فلا يرمض واطئها، وقوله: عازبها لا
يفزع: أي من عزب فيها، وبعد من الناس لم يخف، ومن رعاها لم ينكع: أي لم
يمنع: لأنه غير محظور عليه لكثرته.
أخبرني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي قال: خطب ابنة الخس الإيادية ثلاثة نفر
من قومها، فارتضت أنسابهم وجمالهم، وأرادت أن تسبر عقولهم، فقالت لهم: إني
أريد أن ترتادوا لي مرعى، فلما أتوها قالت لأحدهم: ما رأيت؟ قال: رأيت
بقلاً وبقيلاً، وماءً غدقاً سيلا يحسبه الجاهل ليلاً؛ قالت: أمرعت؛ وقال
الآخر: رأيت ديمةً بعد ديمة، على عهاد غير قديمة، فالناب تشبع قبل
الفطيمة؛ وقال الثالث: رأيت غيثاً ثعداً معداً، متراكباً جعداً، كأفخاذ
نساء بني سعد تشبع منه الناب، وهي تعدو.
تفسير قول الأول. - قال أبو بكر قوله: بقلاً وبقيلاً، يقول: بقل قد طال
وتحته غمير قد نشأ؛ وماء غدقاً سيلا: أي كثيراً؛ يحسبه الجاهل ليلاً: من
كثافته وشدة خضرته.
قول الآخر. - قال أبو بكر: ديمة بعد ديمة: على إثر ديمة، الديمة: المطر
يدوم أياماً في سكون ولين، والعهاد: أول ما يصيب الأرض من المطر؛ تشبع منه
الناب قبل الفطيمة: يريد أن العشب قد اكتهل وتم، فالناب، وهي المسنة من
الإبل تشبع قبل الصغيرة، لأنها تنال الكلأ، وهي قائمة لا تطلبه، ولا تبرح
من موقفها، والفطيمة تتبع ما صغر من النبت.
قول الثالث. - قال أبو بكر: الثعد: الغض، والمعد إتباع؛ والثرى الجعد:
الذي قد كثر نداه، فإذا ضممته بيدك اجتمع ودخل بعضه في بعض كالشعر الجعد؛
وقوله: كأفخاذ نساء بني سعد: أراد في غلظ الأفخاذ، وخص نساء بني سعد لأن
الأدمة فيهم كثيرة؛ وقوله: تشبع الناب وهي تعدو: هذا نحو كلامهم الأول
يقول: النبت قد ارتفع وطال، فالناب: أي المسنة من الإبل تعدو وتأكل لا
تطأطئ رأسها.
أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج النعمان في بعض أيامه في عقب مطر،
فلقي أعرابياً على ناقة له، فأمر فأتي به، فقال: كيف تركت الأرض وراءك؟
فقال: فيح رحاب، منها السهول ومنها الصعاب، منثوطة بجبالها، حاملة
لأثقالها، قال: إنما أسألك عن السماء، قال: مطلة مستقلة على غير سقاب ولا
أطناب، يختلف عصراها، ويتعاقب سراجاها؛ قال: ليس عن هذا أسألك، قال: فسل
عما بدا لك، قال: هل صاب الأرض غيث يوصف؟ قال: نعم، أغمطت السماء في أرضنا
ثلاثاً رهواً فثرت، وأرزغت ورسغت، ثم خرجت من أرض قومي أقروها متواصيةً لا
خطيطة بينها حتى هبطت تعشار. فتداعى السحاب من الأقطار، فجاء السيل
الجرار، فعفى الآثار، وملأ الجفار، وقوب عادي الأشجار، فأجحر الحضار، ومنع
السفار، ثم أقلع عن نفع وإضرار، فلما اتلابت لي القيعان، ووضحت السبل في
الغيطان، تطلعت رقاب العنان من أقطار الأعنان، فلم أجد وزراً إلا الغيران،
فقاءت جار الضبع فغادرت السهول كالبحار تتلاطم بالتيار، والحزون متلفعة
بالغثاء، والوحوش مقذوفةً على الأرجاء، فما زلت أطأ السماء، وأخوض الماء،
حتى طلعت أرضكم.
قال أبو بكر: رحاب فيح: واسعة؛ الصعاب: الحزون والغلظ؛ منثوطة: مثبتة لا
تزول؛ حاملة لأثقالها: لمن عليها من الناس وغيرهم؛ مطلة: أي مرتفعة، وكذا
مستقلة؛ وقوله: بغير سقاب ولا أطناب: فالسقاب: أعمدة الخباء، والأطناب:
الحبال المشدودة إلى الأوتاد، هذا مثل؛ وقوله: يختلف عصراها: الليل
والنهار، وسراجاها الشمس والقمر؛ وأغمطت السماء: أي دام مطرها؛ وقوله:
رهواً أي ساكناً؛ وقوله: فثرت: أي تركت الأرض ثريةً؛ وقوله: أرزغت: أي
تركت في الأرض رزغةً، والرزغة والردغة واحد، وهو الطين الذي لا يغطي
القدم؛ وقوله: ثم رسغت، يقول: بلغ الماء الرسغ؛ قوله: أطأ السماء: أي آثار
السماء من المطر؛ متواصيةً: متصلةً بعضها ببعض.
والخطيطة: أرض لم يصبها مطر، بين أرضين ممطورتين وتعشار: موضع؛
تداعى السحاب: أي أقبل يدعو بعضها بعضاً؛ والأقطار: النواحي؛ فعفى الآثار:
أي طمس الطرق؛ وقوب عادي الأشجار: أي قلعها من أصولها؛ أجحر الحضار: أي
ألزمهم بيوتهم، ومنع المسافرين عن الحركة؛ وأقلع عن نفع وإضرار: يقول:
نفعت عواقبه ولو ضر لكثرته؛ إتلأبت القيعان: أي وضحت؛ ووضحت الغيطان: أي
استبانت الطرق؛ العنان: السماء، الواحدة عنانة، والأعنان؛ نواحي السماء،
واحدها عنن وعن، قال الأصمعي: لا أعرف لها واحداً.
وقوله: فلم أجد وزراً: أي ملجأً؛ والغيران: واحدها غار، وهو الكهف في
الجبل؛ فقاءت جار الضبع: قاءت من القيء، وهذا غاية ما يوصف به المطر من
الكثرة، والمعنى أنه يجر الضبع من وجارها؛ غادرت: تركت السهول كالبحار،
يقول: كثر الماء فلم يسخ في السهول لكثرته، وسرب السهل من الماء أكثر من
الحزن؛ فإذا بقي الماء على السهل فهو الغاية؛ والتيار: الموج؛ والحزون
متلفعة بالغثاء: الحزون: الغلظ من الأرض، فإذا حمل السيل الغثاء فصار على
الحزون نضب الماء من تحته فبقي في موضعه، والوحوش مقذوفة على الأرجاء،
يقول: قد غرقت الوحوش فهي مطروحة على أرجاء الأرض أي نواحيها.
وقوله: فما زلت أطأ السماء: أي أطأ المطر، والعرب تسمي آثار المطر في
الأرض السماء.
أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: وقف أعرابي على قوم من الحاج فقال: يا
قوم، بدو شاني، والذي ألفجني إلى مسألتكم، أن الغيث كان قد قوي عنا، ثم
تكرفأ السحاب، وشصا الرباب، فادلهم سيقه، وارتجس ريقه، وقلنا: هذا عام
باكر الوسمي، محمود المسي، ثم هبت له الشمال، فاحزألت طخاريره، وتقزع
كرفئه متياسراً، ثم تتابع لمعان البرق حيث تشيمه الأبصار وتحده النظار؛
ومرت الجنوب ماءه، فقوض الحي مزلئمين نحوه، فسرحنا المال فيه، وكان وخماً،
فأساف المال، وأضف الحال، فرحم الله امرءاً جاد بمير، أو دل على خير.
تفسيره - قوله: ألفجني، أي اضطرني، قال أبو زيد: ألفجني إلى ذلك الاضطرار
إلفاجاً.
وقوله: الغيث قوي عنا: أي احتبس عنا، قال أبو عمرو الشيباني: وقد قوي
المطر يقوى إذا احتبس.
وقوله: شصا الرباب ارتفع.
وقوله: فادلهم سيقه، ادلهم أظلم، والسيق من السحاب ما طردته الريح، وارتجس
ريقه: ريق المطر أول شؤبوبه، وارتجس سمعت له رجساً، وهو صوته بهدة شديدة.
والسمي جمع السماء أي السحاب، وتجمع على أسمية وسموات. واحزألت طخاريره:
أي انتصبت سحائبه الرقاق جمع طخرور وطخرورة، وهي سحابة رقيقة مستدقة.
وتقزع كرفئه أي تفرق متراكمه، وفي الصحاح: الكرفي السحاب المرتفع الذي
بعضه فوق بعض، والقزع في الأصل: كل شيء يكون قطعاً متفرقة، ومنه قيل لقطع
السحاب قزع.
وقوله: مزلئمين نحوه، المزلئم الذاهب مسرعاً، أو المرتفع في سيره، ومر بنا
ازلأمت صدوره أي ارتفعت وانتصبت.
قوله: فأساف المال، قال ابن السكيت: أساف الرجل إذا هلك ماله، ويقال: أساف
الله ماله وإبله أي أهلكه ورماه الله بالسواف: وهو الموت في المال والناس
أيضاً.
وأضف الحال: أي ضيقها، قال أبو زيد: الضفف الضيق والشدة.
أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: قلت لأعرابي: ما أسح الغيث؟ فقال: ما
ألحقته الجنوب ومرته الصبا، ونتجته الشمال؛ ثم قال: أهلك والليل، ما يرى
إلا أنه قد أخذه المطر.
أخبرنا أبو حاتم عن العتبي قال: حدثني أبي قال: خرج الحجاج إلى ظهرنا هذا،
فلقي أعراباً قد انحدروا للميرة فقال: كيف تركتم السماء وراءكم؟ فقال
متكلمهم: أصابتنا سماء بالمثل مثل القوائم حيث انقطع الرمث بضرب فيه
تقتير، وهو على ذلك يعضد ويرسغ؛ ثم أصابتنا سماء أميثل منها تسيل الدماث
والتلعة الزهيدة، فلما كنا حذاء الحفر أصابنا ضرس جود ملأ الإخاذ، فأقبل
الحجاج على زياد بن عمرو العتكي فقال: ما يقول هذا الأعرابي؟ فقال: وما
أنا وما يقول؟ إنما أنا صاحب رمح وسيف فقال: بل أنت صاحب مجذاف وقلس،
اسبح، فجعل يفحص الثرى، ويقول: لقد رأيتني، وإن المصعب ليعطيني مائة ألف،
وها أنا ذا أسبح بين يدي الحجاج!
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: سأل أعرابي رجلين من الأعراب: أين
مطرتما؟ قالا: مطرنا بمكان كذا وكذا، قال: فما أصابكما من المطر؟ قالا:
حاجتنا، قال: فماذا سيل عليكما؟ قالا: ملنا لوادي كذا وكذا فوجدناه مكسراً
سالت معنانه، وملنا لوادي كذا وكذا فوجدناه مشطئاً، قال: فماذا وجدتما أرض
بني فلان؟ قالا: وجدناها ممطورةً قد ألس غميرها، وأخوص شجرها، وأدلس
نصيها، وألث سخبرها، وأخلس حليها، ونببت عجلتها.
قال أبو بكر: قوله وجدناه مكسراً: يقول قد سالت جرفته ومعنانه: جوانبه؛
ومشطئ: قد سال شطآنه، وهو جمع شاطئ، ولم يسل بأجمعه، وقوله: ألس: أي أمكن
أن تلسه الماشية أي ترعاه؛ وأخوص الشجر: قال أبو بكر: أحمد ما يكون المطر
إذا كان الخوص وافراً، والنصي ضرب من النبت، وهو يبيس الحلي؛ أدلس: أورق
واسود، وألث سخبرها اللثا صمغ أي صار فيه الصمغ، والسخبر شجر؛ أخلس حليها،
الحلي نبت؛ أخلس: أي صار لونين، وكل ذي لونين خليس من شدة خضرة الورق؛
والعجلة: بقلة مستطيلة مع الأرض؛ وقوله: إذا نببت: أي صار لها أنابيب.
حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: قال أبو المجيب، وكان أعرابياً من بني ربيعة
بن مالك بن زيد مناة بن تميم: لقد رأيتنا في أرض عجفاء وزمان أعجف، وشجر
أعشم في وقد قدمنا ذكره غليظ، وجادة مدرعة غبراء فبينا نحن كذلك إذ أنشأ
الله من السماء غيثاً مستكفاً نشؤه، مسبلة عزاليه، ضخاماً قطره جوداً صوبه
زاكياً أنزله الله رزقاً لنا، فنعش به أموالنا، ووصل به طرقا، فأصابنا،
وإنا لبنوطة بعيدة بين الأرجاء فاهرمع مطرها، حتى رأيتنا، وما نرى غير
السماء والماء وصهوات الطلح، فضرب السيل النجاف، وملأ الأودية فرحبها، فما
لبثنا إلا عشراً حتى رأيتها روضةً تندى.
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: قال أعرابي: ليس الحيا بالسحيبة تتبع أذناب
أعاصير الريح؛ ولكن كل ليلة مسبل رواقها، منقطع نطاقها تبيت آذان ضأنها
تنطف حتى الصباح.
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: قيل لأعرابي: كيف كان كلأ أرضك؟ فقال:
أصابتنا ديمة بعد ديمة، على عهاد غير قديمة، فالناب تشبع قبل الفطيمة.
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال شام أعرابي برقاً فقال لابنته: أنظري أين
ترينه؟ فقالت:
أناخ بذي بقر بركه ... كأن على عضديه كتافا
ثم قال لها بعد قليل: عودي فشيمي، فقالت:
نحته الصبا ومرته الجنو ... ب وانتجفته الشمال انتجافا
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: خرج صالح بن عبد الرحمن يسير بين الحيرة
والكوفة فإذا هو براكب فقال: ممن أنت؟ فقال: من بني سعد فمن أنت؟ فإني أرى
بزة ظاهرةً وجلدةً حسنةً. فقال بعض أصحاب صالح: أتقول هذا للأمير؟ فقال
صالح: دعوه فلم يقل إلا خيراً، ثم استخبره عن المطر فقال: أقبلت حتى إذا
كنت بين هذا الحزن والسهل، وفي كفة النخل رأيت خريجاً من السحاب منكفت
الأعالي، لاحق التوالي، فهو غاد عليك أو سار، يسيل السلان ويروى الغدران.
أخبرنا أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال: أخبرت عن عبد الملك بن عمير قال:
كنت عند الحجاج بن يوسف فقال لرجل من الشام: هل أصابك مطر؟ فقال: نعم
أصابنا مطر أسال الإكام، وأدحض التلاع، وخرق الرجع، فجئتك في مثل مجر
الضبع؛ ثم سأل رجلاً من أهل الحجاز: هل أصابك مطر؟ قال: نعم، سقتني
الأسمية فغيبت الشفار، وأطفئت النار، وتشكت النساء، وتظالمت المعزى،
فاحتلبت الدرة بالجرة؛ ثم سأل رجلاً من أهل فارس فقال: نعم، ولا أحسن كما
قال هؤلاء! إلا أني لم أزل في ماء وطين حتى وصلت إليك.
قوله غيبت الشفار يريد أخصب الناس فلم يذبحوا الغنم والإبل، وأطفئت النار
كذلك أيضاً وتشكت النساء وتظالمت المعزى في المرعى: في الكلأ.
أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: سأل سليمان بن عبد الملك أعرابياً عن
المطر فقال: أصابنا مطر انعقد منه الثرى واستأصل منه العرق ولم تر وادياً
دارئاً.
أخبرنا أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي قال: قال: كان أعرابي
ضرير تقوده ابنته. وهي ترعى غنيماتها، فرأت سحاباً فقالت: يا أبه، جاءتك
السماء، فقال: كيف ترينها؟ قالت: كأنها فرس دهماء تجر جلالها، قال: ارعي
غنيماتك، فرعت ملياً، ثم قالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟
قالت: كأنها عين جمل طريف، قال: ارعي غنيماتك، فرعت ملياً ثم قالت: يا أبه
جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ قالت: سطحت وابيضت، قال: أدخلي غنيماتك؛
قال فجاءت السماء بشيء شطأ له الزرع وأينع، وخضر ونضر.
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: بعث قوم رائداً، فقالوا: ما وراءك؟ فقال:
عشب وتعاشيب، وكمأة متفرقة شيب، تقلعها بأخفافها النيب.
أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: بعث يزيد بن المهلب سريعاً مولى عمرو
بن حريث إلى سلميان بن عبد الملك، قال سريع: فعلمت أنه سيسألني عن المطر،
ولم أكن أرتق بين كلمتين، فدعوت أعرابياً فأعطيته درهماً، وقلت له: كيف
تقول إذا سئلت عن المطر، فكتبت ما قال: ثم جعلته بيني وبين القربوس حتى
حفظته.
فلما قدمت قرأ كتابي، ثم قال: كيف كان المطر؟ فقلت: يا أمير المؤمنين: عمد
الثرى، واستأصل العرق، ولم أر وادياً دارئاً، فقال سليمان: هذا الكلام لست
بأبي عذره، فقلت: بلى! قال: اصدقني، فصدقته، فضحك حتى فحص الأرض برجليه،
ثم قال: لقيته والله ابن بجدتها: أي عالماً بها.
أخبرني أبو حاتم عن الأصمعي قال: سئل أعرابي عن المطر فقال: أخذتنا السماء
بدث يؤذي المسافر ولا يرضي الحاضر، ثم ركلت ثم رسغت الزبي، ثم خنقت الربى
فأربت أن تملأها، ثم غرقت، ثم أخذنا جار الضبع، فلو قذفت في الأرض بضعةً
لم تقض: أي لم يصبها قضض لكثرة الندى. قوله خنقت الربى فأربت أن تملأها أي
ملأتها.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي عن بن عمرو بن العلاء قال ذو الرمة: قاتل الله
أمة بني فلان ما أعربها! سألتها عن المطر فقالت: غثنا ما شينا: أي أصابنا
الغيث.