كتاب : المصون في الأدب
المؤلف : أبو أحمد العسكري
بسم الله الرحمن الرحيم
باب في نقد الشعر
قال الحسن بن عبد الله بن سعيد: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال أخبرنا الرياشيّ عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان النابغة الذبيانيّ تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها، فأتاه الأعشى فأنشده أول من أنشد، ثم أنشده حسّان:لنا الجَفَناتُ الغُرًّ يلمعن بالضُّحى ... وأسيافُنا يقطرن من نجدة دَما
ولدنا بنى العنقاءِ وابنَىْ محرِّقٍ ... فأكرمْ بنا خالاً بنا ابنما
قال النابغة: أنت شاعر ولكنك أقللت جفانك وسيوفك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: حدثني علي بن العبّاس قال: رآني البحتريُّ ومعي دفتر، فقال: ما هذا؟ فقلت: شعر الشَّنفري قال: وإلى أين تمضي؟ قلت: أقرؤه على أبي العباس أحمد بن يحيى.
قال: رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام، فلم أر له علماً بالشعر مرضيّاً، ولا نقداً له، ورأيته ينشد أبياتاً صالحةً ويعيدها، إلا أنها لا تستوجب الترديد والإعجاب بها: قلت: وما هي؟ قول الحارث بن وعلة الشّيبانيّ:
قومي همُ قتلوا أميمَ أخى ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوتُ لأعفون جللاً ... ولئن سطوتُ لأُوهنَنْ عَظمى
قلت: وهي يكون الحسن إلا مثل هذا، فما يعجبك أنت؟ قال يعجبني والله قول ربيّعة بن دؤاب الأسديّ:
إن يقتلوك فقد هتكتَ بيوتهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهابِ
بأحبِّهم فقْداً إلى أعدائهِ ... وأشدِّهم فقداً على الأصحابِ
قال: فإذا هو لا يعجب من الشعر إلا بما وافق مذهبه قال أبو بكر: نقد الشعر وترتيب الكلام، ووضعه مواضعه، وحسن الأخذ، والاستعارة، ونفى المستكره والجاسي صنعةٌ برأسها، ولا تراه إلى لمن صحّت طباعهم، واتّقدت قرائحهم، وتنبهت فطنهم، وراضوا الكلام، ورووا وميَّزوا.
هذا شاعر حاذقٌ مميِّز ناقد، مهذّب الألفاظ، مثل البحتريّ، لم يكمل لنقد جميع الشعر. ولو أنّ نقد الشعر والمعرفة كان يدرك بقول الشعر وبالرواية، لكان من يقول الشعر من العلماء ويعرض له أشعر الناس.
هذا الخليل بن أحمد، وحمّاد الراوية، وخلفٌ، والأصمعيّ وسائر من يقول الشعر من العلماء، ليس شعرهم بالجيِّد من شعر زمانهم، بل في عصر كل واحدٍ منهم خلقٌ كثيرٌ ليس لجماعتهم علم واحد من هؤلاء، وكلُّهم أجود شعراً. فقد يقول الشعر الجيِّد من ليس له المعرفة بنقده، وقد يميِّزه من لا يقوله.
وقد قيل لابن المقفّع: لم لا تقول الشِّعر مع علمك به؟ فقال: أنا كالمسنّ، أشحذ ولا أقطع.
أخبرنا الفسوىّ قال: حدّثني يموت بن المزرَّع قال: سمعت الجاحظ يقول: أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، كأنّه قد سبك سبكاً واحداً، وأفرغ إفراغاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري فرس الرِّهان، وحتى تراها متّفقة ملساً، وليّنة المعاطف سهلة. فإذا رأيتها مخلِّعة متباينة، ومتنافرة مستكرهة تشقُّ على اللسان وتستكدُّه، ورأيت غيرها سهلة ليّنة رطبةً متواتية سلسةً في النظام، حتّى كأنّ البيت بأسره كلمة واحدة، وحتّى كأنّ الكلمة بأسرها حرفٌ واحد، لم يخف على من كان من أهله.
من ذلك قوله:
من كان ذا عضُد يدركْ ظُلامتَه ... إنّ الذليل الذي ليست له عضُدُ
تنبو يداه إذا ما قلَّ ناصرهُ ... ويأنفُ الضَّيمَ إن أثرى له عددُ
وقوله:
رمتني وسترُ الله بيني وبينها ... عشيّة أحجار الكناس رميمُ
فلو كنت أسطيعُ الرِّماءَ رميتُها ... ولكنّ عهدي بالنَّضال قديم
فميِّل بين هذا وبين قوله:
لم يضرْها والحمدُ لله شيءٌ ... وانثنتْ نحو عَزْفِ نفسٍ ذهول
فتفقَّد النِّصف الأخير من هذا البيت، فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأُ من بعض، كما قال:
وبعضُ قريض القوم أولادُ علّه ... يكدُّ لسان الحافظ المتحفِّظ
وأنشد أبو بكر محمد بن يحيى أبيات ابن الرومي:
ومهفمفٍ تمتْ محاسنهُ ... حتى تجاوزَ منتهى النًّفسِ
تصبو الكؤوسُ إلى مراشفِهِ ... وتهشُّ في يده إلى الجسِّ
أبصرته والكاسُ بين فمٍ ... منه وبين أناملٍ خمسِ
فكأنَّها وكأن شاربها ... قمرٌ يقبِّل عارضَ الشمس
فقال أبو بكر: قد أحسن وملّح، إلاّ أنّه جاءَ بالمعنى في بيتين،
واقتضى للبيت الأوّل ديناً على البيت الثاني.
وخير الشّعر ما قام بنفسه، وكما معناه في بيته، وقامت أجزاء قسمته
بأنفسها، واستغنى ببعضها لو سكت عن بعض، مثل قول النابغة:
فلست بمستبقٍ أخاً لا تُلمُّه ... على شعَثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ
فهذا أجلُّ كلام وأحسنه، ألا ترى أن قوله: فلست بمستبقٍ أخاً لا تلمُّه،
كلامٌ قائم بنفسه. فإن زدت فيه على شعثٍ كان أيضاً مستغنياً. ولو قلت أيّ
الرجال المهذًّب، وهو آخر البيت، مبتدئاً به كمثلٍ أردته، كنت قد أتيت
بأحسن ما قيل فيه.
قال أبو أحمد: وحدّثني جماعة من أصحابنا عن أحمد بن يحيى البلاذريّ قال:
قرأت على ابن الأعرابيّ شعر الأعشى، فلمّا بلغت قوله
لا تشكَّى إلىَّ من ألم النِّس ... عِ ولا من حَفىً ولا من كَلال
نقب الخفّ للسّرى ...
قال ابن الأعرابي: نقب الخفِّ للسُّرى، فقلت أصلحك الله، إنّ تضمين بيتين
عيبٌ في الشعر شديدٌ أفيضمّن الأعشى مع حذقه وتقدُّمه ثلاثة أبيات فيقول
لا تشكَّى إلىّ من ألم النِّس ... عِ ولا من حَفىً ولا من كَلالِ
نَقَبَ الخفِّ للسّرى وترى الأن ... ساعَ من حلِّ ساعةٍ وارتحالِ
أثّرتْ في جناجنٍ كإران ال ... ميت عُولينَ فوق عُوجٍ طوالِ
فقال ابن الأعرابيّ: أنت شاعر؟ فقلت: شاعر كاتب فقال: منها علمت، اروه كما
رويت: نقب الخفُّ للسُّرى قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، وأبو روق،
قالا: أنشدنا الرياشيّ:
زواملُ للأشعار لا عِلمَ عندهم ... بجيِّدها إلاَّ كعلم الأَباعرِ
لعمرك ما يدرى البعيرُ إذا غدا ... بأوساقه أو راحَ ما في الغرائر
أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه قال: أنشدنا أحمد بن
يحيى:
الشعرُ لبُّ المرءِ يعرضه ... وتراه مثل مواقع النَّبل
منه المقصِّر عن رميّته ... ونوافذٌ يذهبن بالخصْلِ
أخبرنا أبو بكر النديم قال: حدثني يحيى بن علي أبو أحمد قال: نازعني محمد
بن القاسم بن مهرويه يوماً فقال: دعبلٌ أشعر من أبي تمام فقلت له: بأيّ
شيءٍ قدّمته: فلم يأت بمقنع، فجعلت أنشده محاسنها فيرى محاسن أبي تمام
أكثر وأطرز، فأقام على تعصُّبه فقلت فيه:
يا أبا جعفر أتحكم في الشِّع ... ر وما فيك آلةُ الحكّامِ
إنّ نقد الدينار إلاّ على الصَّيْ ... رف صعبٌ فكيف نقدُ الكلام
قد رأيناك ليس تفرقُ في الأش ... عار بينَ الأرواحِ والأجسام
قال: وحدّثني أبو أحمد عن أبيه عن إسحاق قال: كان إدريس بن سليمان بن أبي
حفصة، أخو مروان، ينشد الشعرَ الجيّد لنفسه ثم يقول: يا أبا محمد، قول
الشِّعر أشدّ من قضم الحجارة على من يعلمه! وهو القائل:
وأنفى الشعرَ لو يلقاه غيري ... من الشُّعراء ضنّ بما نفيتُ
قال أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد: سرق إدريس بن سليمان هذا القول
من قول الفرزدق: أنا عند العرب أشعرُ الناس، ولربّما كان نزع ضرس أسهل على
من قول بيت شعر قال أبو أحمد الحسن بن عبد الله: وأنشدني أبو أحمد يحيى بن
علي:
اعرف الشعر قبل تعرضه ... وادرِ ما وكدهُ وما سببه
وأعاريضَه التي أَخذت ... منْ أساليبه ... وما شُعُبه
إنما الشعرُ حُسن وحيٍ إلى ... حرِّ معنىً وبعده طُنبه
وحُلاهُ ألفاظه لا كمن ض ... مَّ قماشاً بالليل محتطبُة
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو العيناء قال سمعت الأصمعيَّ يقول:
أحسن ما قيل في اللوَّن عمر بن أبي ربيعة:
وهي مكنونةٌ تحيَّرَ منها ... في أديم الخدَّين ماءُ الشَّبابِ
شفَّ عنها محقَّق جندىٌّ ... فهي كالشَّمس من وراء السّحاب
وأحسن ما قيل في السِّنِّ قول بشر بن أبي خازم:
يفلّجن الشّفاه بأقحوانٍ ... جلاه غبّ سارية قطار
وأحسن ما قيل في العين قول عديّ بن الرّقاع:
وكأنّها بين النّساء أعارَها ... عينيه أحورُ من جآذر جاسمِ
وسنانُ أقصده النعاسُ فرنّقت. ... في عينه سنةٌ وليس بنائم
قال أبو أحمد: سمعت أبا بكر يقول:
سمعت محمد بن يزيد يقول: لو سئلت عن أحسن أبياتٍ تصَّرفت من
المراثي لم أختر على أبيات الخريمي:
ألم ترني أبنى على الليث بيته ... وأحثُو عليه التّربَ لا أتخشَّعُ
وأعددتُه ذخراً لكلِّ ملمَّة ... وسهمُ المنايا بالذَخائر مُولَع
وإنِّي وإن أظهرتُ منّي جلادةً ... وصانعتُ أعدائي عليه لموجَع
ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه ... عليه ولكن ساحةُ الصَّبر أوسعُ
وقال الأصمعيّ: أرثى بيتٍ قيل في الجاهلية:
أيّتها النفس أجملي جَزَعا ... إنّ الذي تحذرين قد وقعا
وقال أبو عمر: أرثى بيت قول عبدة:
فما كان فيسٌ هُلكُه هلكَ واحدٍ ... ولكنَّه بنيانُ قوم تهدَّما
وقال خلفٌ: أرثى بيت:
الآن لمّا كنت أكملَ من مَشَى ... وافترَّ نابُك عن شَباة القارح
وتكاملَتْ فيك المروءةُ كلُّها ... وأعنتَ ذلك بالفعال الصالح
وقول الخنساء:
أغرُّ أبلجُ تأتمُّ الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
وقال غيره:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوِّه ... فطيبُ تُراب القبر دلّ على القبر
وقال غيره:
لن يلبث القُرناءُ أن يتفرَّقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهُم ونهارُ
قال الأصمعي: أرثى بيت قوله:
ومن عَجَبٍ أن بتَّ مستشعرَ الثرى ... وبتُّ بما زودّتني متمتِّعا
ولو أنّني أنصفتك الودَّ لم أبتْ ... خلافك حتّى ننطوي في الثرى معا
قال أبو أحمد: أخبرني أبو عبد الله نفطويه، أخبرنا أحمد بن يحيى عن
الرياشي عن الأصمعي قال: قيل لأبي عمرو بن العلاء: ما أحسن ما قيل في
الماء؟ فقال: قول امرئ القيس:
فلمّا استطابوا صبّ في الصّحن نصفه ... وشجّ بماءٍ غير طرقٍ ولا كدر
بماءِ سحابٍ عن صخرةٍ إلى ... بطن أخرى طيِّب طعمه خصرْ
وقيل له: ما أجود ما قيل في صفة سيل؟ قال قول أبي ذؤيب:
لكلِّ مسيلٍ من تهامة بعد ما ... تقطَّعُ أقرانُ السّحاب عجيج
قيل: فما أحسن ما قيل في السحاب؟ قال قول أوس:
دان مسفِّ فويق الأرض هيدبُه ... يكاد يدفعه من قام بالرَّاحِ
فمن بنجوته كمن بعقوتهِ ... والمستكنُّ كمن يمشي بقرواحِ
يقشر جلدَ الحصى أجشَّ مبتركا ... كأنه فاحصٌ أو لاعبٌ داح
قال: وأهجى بيت قالته العرب قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونَكم ... وجاراتكم غرثى يبتنَ خمائصا
وقول زيد الخيل:
وخيبةُ من يخيب على غنىّ ... وباهلة بن أعصرَ والرّبابِ
وقول جرير:
فغُضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
وقوله:
وإنّك لو رأيتَ عبيدَ تيمٍ ... وتيماً قلت أيُّهم العبيدُ
ويقضى الأمرُ حين تغيب تيمٌ ... ولا يستأذنون وهم شهودُ
وقوله:
وكنتَ إذا حللتَ بدار قومٍ ... رحلت بخزية وتركتَ عارا
وأفحش بيت قالته العرب قوله:
قومٌ إذا طرق الأضيافُ دارهمُ ... قالوا لأمِّهم بولي على النارِ
وقال عبد الملك بن مروان: أهجى بيت:
فإن تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم أبكِ منك على دنيا ولا دين
وأهجى بيت في الإسلام:
قبحتْ مناظرُه فحينَ خبرتُه ... فبحتْ مناظره لقُبح المخْبَر
قال: وأمدح بيت قول زهير:
تراه إذا ما جئته متهلِّلاً ... كأنك معطيه الذي أنت سائلُه
وبيت النابغة:
بأنّك شمس والملوك كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبد منهنّ كوكب
وبيت جرير:
ألستم خيرَ من ركب المطايا ... وأندى العالمينَ بطونَ راحِ
وبيتُ أبى الطّمحان القينىّ:
أضاءَت له أحسابُهم ووجوهُهم ... دجى الليل حتّى نظّم الجَزعَ ثاقبُه
وقال ابن الأعرابيّ: أمدح بيت قالته العرب قول أوس بن مغراء في سعيد بن
العاص:
ما بلغتْ كفُّ امرئٍ متناولٍ ... من المجد إلاَّ والذي نلت أطولُ
ولا بلغَ المهدون في القول مدحةً ... وإنْ أطنبوا إلاّ الذي فيك أفضلُ
وقال غيره: أمدح بيت قولُ الأعشى:
فتىً لو يبارى الشمسَ ألقتْ قناعها ... أو القمرَ الساري لألقى المقالدا
وقال ابن شبرمة: قول الحطيئة:
أولئك قومٌ إنْ بنَوا أحسنوا البُنى ... وإن عاهدوا أوفوْا وإن
عقَدوا شدُّوا
وإن كانت النعماءُ فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدَّروها ولا كدُّوا
وقالوا أيضاً: بيت زهير:
على مكثِريهم حقُّ من يعتريهم ... وعند المقلِّين السماحةُ والبذلُ
وقالوا: بيت حسّان:
يغشونَ حتّى ما تهرُّ كلابُهم ... لا يسألون عن السَّواد المقبلِ
وقالوا: بيت النابغة الجعديّ:
فتىً تمَّ فيه ما يسرُّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا
وقال الأصمعيّ: أحسن بيتٍ وصف به درعٌ قول أبي دواد الإياديّ:
وأعددتُ للحرب فضفاضةً ... تضاءلُ في الطَّىّ كالمبردٍ
وأحسن ما قيل في زمامٍ قوله:
تنازع مَثنَى حضرميّ كأنّه ... حُبابُ نقا يتلوه مرتحِلٌ يرمي
وأحسن ما وصف به هاجرٌ قوله:
أشمُّ مخارم الأعلام صخدٌ ... كأنّ الشمس تنفخُ فيه نارا
صخدٌ: شديد الحرّ.
وقال يحيى بن خالد: أحسنُ بيتٍ انتظم وصف الدنيا:
حتوفُها رصدٌ وعيشُها رنقٌ ... وكدُّها نكدٌ وملكها دُوَل
قال جرير: وددت أنّى قلتُ بيتيْ مزاحمٍ العقيليّ ولم أقل شيئاً من الشعر:
وددتُ على ما كان من سرف الهوى ... وغرِّ الأماني أنّ ما شئتُ أفعلُ
فترجع أيّامٌ تقضَّتْ وعيشةٌ ... تولَّتْ وهل يثنى من الدَّهر أوَّلُ
من أحسن ما قيل في الأوصاف والتَّشبيه
أخبرنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: أخبرنا أبي قال: أخبرنا أحمد
بن عبيد قال: قال الهيثم بن عديّ: قال لنا صالح بن حّسان: أنشدوني أحسن
شيء قيل في الثُّريّا. قلنا: بيت امرئ القيس:
إذا ما الثُريّا في السماء تعرَّضَتْ ... تعرُّض أثناءِ الوشاح المفصَّلِ
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: بيت عبد الله بن الزَّبير:
وقد حزنَ الغورُ الثُّريّا كأنّها ... يدا رايةٍ بيضاءَ تخفق للطَّعنِ
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: بيتُ ذي الرمّة:
وردت اعتسافاً والثُّريا كأنّها ... على قمّة الرأْس ابن ماء محلِّقُ
يدفُّ على آثارها دبرانُها ... فلا هو مسبوقٌ ولا هو يلحق
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا بيت يزيد بن الطَّثرية:
إذا ما الثُّريا في السماءِ كأنها ... جمانٌ وهي من سلكه فتبدّدا
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: قولُ الآخر:
نظرتُ والثُّريا كأنّها ... قلادةُ سلكٍ سلَّ منها نظامها
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: ما عندنا. قال: بيت أبي قيس بن الأسلت:
وقد لاحَ في الصُّبح الثُّريا لمن رأى ... كعنقود ملاّحيّة حين نورا
ومّما جاء في صفة الثريا:
ولاحت لساريها الثُّريا كأنّها ... لدى الجانب الغربيّ قرطٌ مسلسل
فأخذه ابن الروميّ فقال:
طيّب ريقُه إذا ذقتَ فاه ... والثُّريا لجانب الغربِ قرطُ
وممن أحسن وصف الثُّريا عبد الله بن المعتزّ في قوله:
ألا سقِّنيها والظَّلامُ مقوَّضُ ... وخيلُ الدُّجى في حلبة الليل تركضُ
كأن الثّريّا في أواخر ليلها ... تفتُّحُ نورٍ أو لجامٌ مفضَّض
وقال أيضاً فلم يقع له جيِّداً:
فناولنيها والثريا كأنَّها ... جنى نرجسٍ حيّا النّدامى به الساقي
فلم يستو، قوله كأنّها جنى نرجس. ولو وقع له وزنٌ يقول فيه باقة أو طاقات
نرجس، على أنّه جنى نرجس بمعنى مجتنى نرجس، كما يروى عن أمير المؤمنين
عليه السلام: هذا جناى وخياره فيه وقال فأحسن وشبّه طلوعها في الليالي
المظلمة:
قم يا نديمي نصطبح بسوادِ ... قد كاد يبدو الفجر أو هو بادِ
وأرى الثريا في السَّماءِ كأنّها ... قدمٌ تبدَّت من ثياب حداد
وقال عبد الله بن المعتز:
وترى الثُّريا في السَّماءِ كأَنها ... بيضاتُ أدحىّ يلحنَ بفَدفدِ
وقال غيره:
وترى النجومَ المشرِقا ... ت كأنّها دورُ العصابةْ
وترى الثريّا وسطها ... وكأنّها زردُ الذُّؤابة
أنشدني أبو نضلة مهلهل بن يموت بن المزرّع لنفسه:
تأمَّلتُ الثريّا ... في طلوع ومغيبِ
فتخيّرتُ لها التَّش ... بيه بالمعنى المُصيبِ
هي كأسٌ في شروقٍ ... وهي قرطٌ في غروبِ
وقال عبد الله:
قد سقاني المدامَ وال ... لَّيلُ بالصبح مؤتزِرْ
والثريّا كنور غص ... نٍ على الغرب قد نثر
وقال ابن طباطبا:
كأنّ الثريا لؤلؤٌ متراصفٌ ... يرى أبداً حلياً لظلماءَ عاطلِ
ومّما وصف به الجوزاء والشعرى، قال ابن طباطبا:
إذا ما الثُّريا والهلالُ جلتهُما ... لي الشمَّس إذ ودّعت كرهاً نهارَها
كأسماء إذ نابت عشاءً وغادرت ... لدينا دلالاً قرطها وسوارَها
ومنقلبِ الجوزاء يحكى وشاحُها ... لآلئ فيها لا تخاف انتثارها
وأنسىَ بالشعرى العبور كدمعةٍ ... بعينِ محبٍّ لا يحبُّ انحدارها
ورّعيى سهيلا مثل نارٍ بربوةٍ ... يحرّك منها المواقدُ استعارَها
ونهج ابيضاضٍ للمجرّة لا حبٍ ... إذا شقَّ من روض البنات استتارها
وقال:
كأنّ سنا خطِّ المجرّة بينها ... ترقرقُ ماءٍ بين نوّاره جارِ
كأنّ يد الجوزاء مع لمع برقها ... تهزُّ صفيحاً أو تشبّ سنا نارِ
وقال عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر:
أقول لمّا هاج شوقي الذّكرى ... واعترضت بطن السماءِ الشّعرى
كأنها ياقوتة في مدرَى ... ما أطول الليل بسُرَّ من را
وقال عبد الله يصف الجوزاء:
وقد هوى النجمُ والجوزاءُ تتبعه ... كذات قرط أرادته وقد سقطا
وقال يصف العقرب:
حتّى تهاوتْ زهر الكواكبِ ... وأصغت العقربُ للمَغاربِ
بذنبٍ كصولجانِ اللاعبِ وقال ابن طباطبا:
وليلٍ أرى الجوزاءَ فيه مطلّةً ... علىّ تحاكي شخصَ نشوانَ مائلِ
وقد أتلعت منها نجومٌ وشاحها ... كأنّ سناها فضةٌ من حمائل
وقال عبد الله:
ولاحت الشعرى وجوزاؤها ... كمثل رمحٍ جرَّه رامحُ
وقال في سهيل:
وقد لاح للساري سهيلٌ كأنه ... على كل نجمٍ في السماءِ رقيب
وقال ابن طباطبا:
ها إنها الجوزاء في غربها ... ناعسةٌ أنجمُها تسحبُ
نطاقها واهٍ لتغريبها ... ينسلُّ منها كوكبٌ كوكبُ
كأنما الشِّعرى سنانٌ له ... نيطَ به ديباجُه الغيهبُ
كأنما لمع سهيلٍ سنا ... نارٍ على رابية يثقبُ
ومما استحسن في وصف القمر والهلال قال عبد الله بن المعتز:
ومصباحنا قمرٌ مشرقٌ ... كترسِ لجينٍ يشقُّ الدٌّجى
وقال محمد بن أحمد العلوى:
ما للهلالِ ناحلاً في المغربِ ... كالنُّون قد حطَّت بماءٍ مذهبِ
وقال:
أهلاً يفطرٍ قد أنارَ هلاله ... فالآن فاغدُ على المدام وبكِّر
وانظر إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثقلته حمولةٌ من عنبرِ
وقال أبو نواس:
يا قمراً للنِّصف من شهرهِ ... أبدى ضياءً لثمانٍ بقينْ
يقول: أنت كامل الحسن وإنّما جدت لنا ببعض وصلك! أخذه من قول قيس بن
الخطيم:
تبدّتْ لنا كالشمس تحت غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب
وقال:
في قمر مشرقٍ نصفه ... كأنّه مجرفةُ العطر
وقال عبد الله بن المعتز:
وجاءني في قميص الليلِ مستتراً ... يستعجل الخطوَ من خوفٍ ومن حذرِ
ولاحَ ضوءُ هلالِ كاد يفضحه ... مثلَ القلامة قد قصَّت من الظُّفُر
وقال أيضاً يصف الهلال:
قد انقضتْ دولةُ الصِّيام وقد ... بشَّرَ سقم الهلالِ بالعيد
يتلو الثريا كفاغرٍ شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
وقال أيضاً:
في ليلة أكل المحاقُ هلالها ... حتّى تبدّى مثل وقف العاج
وقال ابن طباطبا:
وقد غمَّضَ العربُ الهلالَ كأنّما ... يلاحظُ منه ناظر ذات أشفارِ
كأن الذي بقَّى لنا منه أفقهُ ... فضيضُ سوارٍ أو قراضة دينار
وقال عبد الله بن المعتز:
وقد بدت فوق الهلال كرتُه ... كهامة الأسود شابت لحيتَه
وقال عبد الله يهجو القمر:
يا سارقَ الأنوار من شمس الضُّحى ... يا مثكلى طيبَ الكرى ومنغِّصى
أمّا ضياءُ الشمس فيك فناقصٌ ... وأرى حرارة نارها لم تنقُضِ
لم يَظفر التشبيهُ منك بطائل ... متسلِّخٌ بهقاً كلون الأبرص
مما قيل في الليلة المقمرة والليالي المظلمة
قال عبد الله بن المعتز:هل لك في ليلة بيضاءَ مقمرةٍ ... كأنها فضّةٌ ذابت على البلد
وقهوةِ كشعاع الشمس صافيةٍ ... كأنّ أقداحها عمِّمن بالزَّبدِ
وقال أبو نضلة:
والبدرُ يجنح للغروب كأنّما ... قد سلَّ فوق الماء سيفاً مُذْهَبا
وقال إبراهيم بن المهدي:
إذا الليلُ أسبلَ سربالَه ... على الأرض واسودّ وجهُ البلدْ
وقال ابن المعتزّ:
فخلتُ الدُّجى واللّيلُ قد مدّ خيطه ... رداءً موشَّى بالكواكب معلما
وقال:
لبسنا إلى الخمّار والنجمُ غائرٌ ... غلالةَ ليلٍ طرِّزتْ بصباحِ
وقال أيضاً:
والصبحُ يتلو المشترى فكأنه ... عريان يمشى في الدّجى بسراجِ
وقال أيضاً:
أما ترى الصّبحَ تحت ليلته ... كموقدٍ بات ينفخُ الفحما
وقال ابن طباطبا يصف السماء:
تحت سقف من الزبرجد قدْ ... رصِّعَ حسناً بالدُّرّ والياقوتِ
وقال أيضاً:
كأنَّ السماء استكست الليل حلّةً ... منمنمةً خيطتْ عليها بمقدارِ
مرصَّعةً بالدرّ من كلّ جانب ... يُزرُّ عليها في الهواء بأزرارِ
وقال أيضاً:
ومطايا تبيتُ بالليل تسرِى ... تحت سقفٍ مرصِّعٍ بلآلِ
فإذا أشرقَ النهارُ تراها ... زاملات في مثل ماءٍ زلالِ
وقال أبو نضلة مهلهلُ بن يموت بن المزرِّع:
لم أنسَ دجلةَ والدُّجى متصرِّمٌ ... والبدرُ في أفق السماءِ مغرِّبُ
فكأنّه فيه رداءٌ أزرقٌ ... وكأنّه فيها طرازٌ مذْهبُ
مما يستحسن في وصف الشمس
أنشدني أبو بكر محمد بن يحيى قال: أنشدني على بن الصباح قال: أنشدني أبو محلّم لشاعر قديم يصف الشمس:مخبأة أمَّا إذا الليلُ جنَّها ... فتخفى وأمّا بالنَّهار فتظهرُ
وقال ابن طباطبا:
وشمسٍ تجلّت في رداءٍ معصفرٍ ... كأسماء إذْ مدَّت عليها خِمارَها
وقال ابن الرُّومي فأحسن في وصف غروبها:
كأنّ حنوَّ الشمس ثم غروبها ... وقد جعلت في مجنح الليل تمرضُ
تخاوصُ عينٍ منَّ أجفانها الكرى ... يرنَّق فيها النوم ثمَّ تغمِّضُ
وقال أيضاً في غروبها وأحسن:
إذا رنَّقتْ شمسُ الأصيل ونفّضتْ ... على الأفق الغربيّ ورساً مذعذعا
ولاحظت النُّوّارَ وهي مريضةٌ ... وقد وضعت خدّاً إلى الأرض أضرعا
وظلّت عيونُ الروض تخضلُّ بالندى ... كما اغرورقت عين الشجّى لتدمعا
وقال ابن المعتزّ:
تظل الشمسُ ترمُقنا بلحظ ... خفيِّ مدنفٍ من خلف سترِ
يحاول فتقَ غيمٍ وهو يأبى ... كعنِّين يريدُ نكاحَ بكرِ
وقال ابن طباطبا:
وأقذيت عينُ شمسه فجلَتْ ... من خللَ الغيم طرفَ عمشاءِ
مما يستحسن من تشبيهات ابن المعتز
وموقدات بتنَ يضرمن اللهبْ ... يشعنَه من فحم ومن حطب رفعنَ نيراناً كأشجار اللَّهبْوقال يصف سيفاً:
لنا صارمٌ فيه المنايا كوامنٌ ... فما ينتضى إلاّ لسفكِ دماءِ
ترى فوق متنيه الفرندَ كأنّه ... بقيةُ غيمٍ رقَّ دون سماءِ
وقال يصف بئراً ودلويها:
حفرتُها جوفاءَ منقورةً ... في دمثِ سهل وطئ التُّرابْ
تضمنُ ريّ الجحفلِ المستقِى ... كأنّ دلوَيها جناحا عُقابْ
وقال وقد أحرقَ كورَ الزَّنابير:
وجنود أبرتُهم بحريقٍ ... يتلظَّى إذا أحسَّ بريحِ
قرّت العينُ إذ رأتهم سقوطاً ... كنثار من الصبيحِ المليحِ
طال ما قد حموا أعاليَ داري ... ونفّوني عن طيبِ ريح السُّطوحِ
كم صريعٍ منهم لنا مستغيث ... مثل زقّ بين الندامى طريحِ
وقال في الثلج:
غدتْ مبكّرةٌ للمزْن فاحتجبت ... شمسُ فلم نعرف لها خبرا
واغرورقت لانسكاب الماءِ دمعتُها ... فجاءَ ثلجٌ كوردٍ أبيضٍ نثَرا
وقال البحتريّ في الثلج:
كيف المقامُ بآمدٍ وبلادها ... من بعد ما شابت ذوائبُ آمدِ
فقرٌ كفقر الأنبياءِ وغربةٌ ... وصبابةٌ ليس البلاءُ بواحدِ
وقال ابن المعتزّ في الجرجس:
بتّ بليلٍ كلّه لم أطرفِ ... جرجسُه كالزِّئبرِ المنتَّفِ
فمن ملاءٍ علقاً ونصَّفِ ... برَّحن بالعريان والملفَّفِ
وتثقب الجلدَ وراءَ المطرفِ ... حتّى ترى فيه كنقْط المصحفِ أو
مثل رشِّ العصفُر المدوَّفِ
ويستحسن قوله يصف فرساً:
ولقد غدوتُ على طمرٍّ قارحٍ ... رفعتْ حوافرهُ غمامةَ قسطلِ
متلهِّمٍ لجمَ الحديد يلوكها ... لوك الفتاة مساوكاً من إسحل
ومحجّل غيرَ اليمين كأنه ... متبخترٌ يمشى بكمٍّ مسبلِ
وقوله في الحيّة:
أنعتُ رقشاءَ لا تحيا لديغتها ... لو قدَّها السَّيف لم يعلقْ به بللُ
تلقَى إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنَّها كمُّ درعٍ قدَّه بطلُ
ومن مليح تشبيهه قوله:
وكأنما حصباءُ أرضك جوهرٌ ... وكأنّ ماءَ الورد دمعُ نداكِ
وكأنما أيدي الربيع ضحيَّةً ... نشرتْ ثيابَ الوشيِ فوق رباكِ
وكأنّ درعاً مُفْرغاً من فضّةٍ ... ماءُ الغدير جرت عليه صباكِ
والآل تنزو بينه أمواجه ... نزْوَ القطا الكدرىّ في الأشراك
ومنها قوله:
خليلي قد طاب الشرابُ المبرَّدُ ... وقد عدتُ بعد النُّسك والعود أحمدُ
فهاتِ عقاراً في قميص زجاجة ... كياقوتةٍ في درّةٍ تتوقَّدُ
يصوغُ عليها الماءُ شبّاكَ فضّةٍ ... له حلقٌ بيضٌ تحلُّ وتعقدُ
فظاهرها حلمٌ وقورٌ على الأذى ... وباطنها جهلٌ يقوم ويقعُد
ومنها قوله:
ومستكبرٍ يزهى بخضرة شارب ... وفترة أجفان وخدٍّ مورّد
تبسَّمَ إذْ مازحته فكأنّما ... تكشف عن دُرٍّ حجابُ زبرجدِ
وقوله في البرق:
إذا تفرَّى البرقُ فيها خلتَه ... أبلقَ مالَ جلُّهُ حينَ وثّبْ
وتارةً تخاله إذا بدا ... سلاسلاً مصقولةً من الذَّهبْ
ومن جيد تشبيهاته:
يضاحكُ الشمسَ أنوارُ الرياض بها ... كأنّما نثرت فيها الدنانيرُ
وفيها:
تجذبُ كفّيه أسباهٌ معرقةٌ ... كأنَّ أفواهها فيها المناشيرُ
ومهمهِ فيه بيضات القطا كسرٌ ... كأَنَّها في الأفاحيص القواريرٌ
كأنّ حرباءها والشمسُ تصهره ... صال دنا من لهيب النار مقرورُ
وفيها:
ينفى خفافَ الحصى والنقعُ منتشرٌ ... كأنّها بين رجليه الزّنابيرُ
وقد يُباكرني الساقي بصافية ... كأنّها قبسٌ بالكفّ مشهورُ
هريقَ في كأْسها من صوب غادية ... فالخمر ياقوتةٌ والماء بلُّور
وقوله:
وكم عناقٍ لنا وكم قبلٍ ... مختلساتِ حذارَ مرتقبِ
نقْرَ العصافير، وهي خائفةٌ ... من النَّواطير، يانعَ الرُّطبِ
مليح التشبيه للمحدثين
قول عبد الصمد بن المعذّل يصف عقربا:تبرز كالقرنين حين تطلعُه ... تزحلُه مرّاً ومرّاً ترجعُه
أعصلَ خطّاراً تلوح شُنعه ... أسودَ كالسُّبجة فيه مبضعه
لا تصنعُ الرقشاءُ ما لا تصنعه ... أنحتْ عليه كالشهابِ تلذَعُه
يا بؤسَ للمودِعِه ما يودعُه ... يزدادُ من نغبِ الحمام جرَعُه
مثله قول يزيد بن ضبّة: والبأس من تيسيره توقّعه
ولكنّهم بانوا ولم أدر بغتةً ... وأفظعُ شيءٍ حين يفجؤك البغتُ
ومن حسن التشبيه:
وتخال ما جمعت علي ... ه ثيابها ذهباً وعطرا
وقال مسلم: كأنّ في سرجه بدراً وضرغاما وقال غيره:
يأتيك في جبّة مخرَّقة ... أطولُ أعمار مثلها يومُ
وطيلسان كالآل يلبسُه ... على قميصٍ كأنه غيمُ
وقال الحكمىّ يصف سفينة:
بنيت على قدرٍ فلاءمَ بينها ... طبقان من قير ومن ألواح
فكأنّها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانةُ في يد الملاّح
جونٌ من العقبان تبتدر الدُّجى ... تهوى بصوتٍ واصطفاق جناح
وقال عمرو بن معديكرب:
كأنَّ محرِّشاً في جنب سلمى ... يعلُّ بعيبها عندي شفيعُ
للقاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن طباطبا في صفة الأترجّ:
وتوائم لم تنْشَ في نسبٍ ... لكنّها اقتنصت من القُضُبِ
صفرِ الثياب كأنَّما التحفتَ ... بغلائلٍ نسجت من الذَّهب
وأنشدني غيره في وصف الأترجّ:
جسم لجينٍ قميصُه ذهبٌ ... ركِّبَ في الحسن أيّ تركيب
فيه لمن شمَّه وأبصره ... لونُ محبٍّ وريحُ محبوبِ
وأنشدنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد لنفسه في صفة اللُّفّاح:
ولُفّاحة طيِّبٍ ريحها ... حبوت بها مستهاماً حزينا
حكت طيبَ نشرك بين النسا ... ءِ وصفرةَ وجهيَ في العاشقينا
وأنشدنا محمد بن يحيى قال: أنشدنا وكيع عن إبراهيم بن القاسم بن إسماعيل
الحسنيّ لأبيه في صفة الدَّستنبو:
ومخطفاتِ كأنّ الحُبَّ أنحفها ... هيفِ الصدور ثقيلات المآخير
صفر الثِّياب كأنَّ الروض ألبسها ... من زُهرة النبت ألوانَ الدَّنانير
وقال محمد بن أحمد العلوي في غير هذا المعنى، وأخذه من العباس بن الأحنف:
أترجّة قد أتتك بحتا ... لا تقبلَنْها وإن سُررتا
لا تهوَ أترجّةً فإنّي ... رأيت منكوسها هجرتا
ابن الرومي في صلعة:
يجذب من نقرته طرّةً ... إلى مدى يقصُر عن نيله
فوجهه يأْخذ من رأسه ... مثل نهار الصّيف من ليله
أنواع التشبيه عند العرب
العرب تشبّه على أربعة أضرب: تشبيه مفرط وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه فمن المفرط قولهم للسخىّ: هو كالبحر، وسما حتّى بلغ النجم ثم زادوا في ذلك فمنه قول بعضهم:له هممٌ لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصغرى أجلُّ من الدّهرِ
له راحةٌ لو أنّ معشارَ جودها ... على البرّ كان البرُّ أندى من البحر
ولو أنَّ خلق الله في مسكِ فارسٍ ... وبارزَه كان الخلىَّ من الذُّعر
ومن تشبيههم المتجاوز الجيد قوله:
أضاءت لهم أحسابُهم ووجوههم ... دحى الليَّل حتى نظَّم الجزعَ ثاقبه
قالت امرأةٌ لعمران بن حطّان: زعمت أنك لم تكذب في شعر قطُّ، وقد قلت:
فهناك مجزأةُ بن ثّو ... رٍ كان أشجعَ من أُسامه
أفيكون رجلٌ أشجع من الأسد؟ قال: أنا رأيت مجزأة فتح مدينةً، والأسدُ لا يفتح مدينة: ومن التشبيه القاصد الصحيح قوله:
وعيدُ أبي قابوسَ في غير كنههِ ... أتاني ودوني راكسلٌ فالضَّواجعُ
فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ ... من الرُّقش في أنيابها السمُّ ناقعُ
يُسهَّد من ليل التمام سليمها ... لحلى النِّساء في يديه قعاقعُ
تناذَرها الراقونَ من سوءِ سمّها ... تطلّقه طوراً وطوراً تراجعُ فهذه صفة الخائف المهموم.
ومنه قول الآخر:
تبيت الهموم الطارقات يعُدنني ... كما تعترى الأهوال رأْسَ المطلَّقِ
وأما التشبيه البعيد الذي لا يقوم بنفسه فكقوله:
بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذ أنا في الحيّ كأنّي حمارْ
أراد الصحة. وهذا بعيدٌ لأنّ السامع إنما يستدلّ عليه بغيره وقد وقع على ألسن الناس من التشبيه المستحسن عندهم وعن أصل أخذوه، أن يشبّهوا عين المرأة وعين الرجل بعين الظبية أو البقرة الوحشية، والأنف بحدّ السيف، والفم بالخاتم، والشعر بالعناقيد، والعنق بإبريق فضّة، والساق بالجمّارة
من عجيب التشبيه
قوله:لعينُك يوم البين أسرعُ واكفاً ... من الغصُن الممطور وهو مروحُ
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إنكم معاشر أهل الحضر لتخطئون المعنى. وإنّ أحدكم ليصف الرجل بالشجاعة فيقول: كأنه الأسد؛ ويصف المرأة بالحسن فيقول: كأنّها الشمس، لم تجعلون هذه الأشياءَ بهم أشبه؟ ثم قال: لأنشدنّك شعراً يكون لك إماماً: ثم أنشدني:
إذا سألت الورى عن كلِّ مكرمةٍ ... لم تلف نسبتَها إلاّ إلى الهَوْلِ
فتى جواداً أنال النَّيْل نائله ... فالنَّيْل يشكر منه كثرةَ النَّيْلِ
والموت يرهب أن يلقى منيّتَه ... في شدَّة عند لفّ الخيل بالخيل
لو بارز الليلَ غطّتهُ قوادمُه ... دون الخوافي كمثل الليل في الليل
أمضى من النَّجم إن نابتْه نائبة ... وعند أعدائه أجرى من السَّيل
أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا عبد الأول بن مرثد، أحد بنى أنف الناقة، عن ابن عائشة عن أبيه قال: قال عبد الملك يوماً وقد اجتمع الشعراءُ عنده: تشبّهوننا بالأسد والأسد أبْخر، وبالبحر والبحر أجاج، وبالجبل مرّةً والجبلُ أوعر، ألاَّ قلتم كما قال أيمن بن خريم ابن فاتك لبنى هاشم:
نهاركُم مكابدةٌ وصومٌ ... وليلكمُ صلاةٌ واقتراءُ
أأجعلكم سواءً ... وبينكمُ وبينهمُ هواءُ
وهم أرضٌ أرجلكمْ وأنتمْ ... لأعينهم وأرؤسهم سماءُ
قال: أخبرني أبي قال: أخبرني محمد بن الوليد العقيلي قال: أخبرنا أبو بكر
البصري عن الهيثم بن عدى قال: دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فقال: يا
أمير المؤمنين، قد امتدحتك فاستمع منّي. فقال عبد الملك: إن كنت إنّما
شبهّتني بالصّقر والأسد فلا حاجة لي في مدحتك، وإن كنت قلت كما قالت أختُ
بني الشَّريد لأخيها صخر فهات. فقال الأخطل: وما قالت يا أمير المؤمنين؟
قال: هي التي تقول:
وما بلغتْ كفُّ امرئٍ متناولٍ ... من المجد إلا حيثُ ما نلتَ أطولُ
وما بلغَ المهدونَ في القول مدحةً ... ولو أطنبوا إلاّ الذي فيك أفضلُ
وجارك محفوظٌ منيعٌ بنجوةٍ ... من الضَّيم لا يبكي ولا يتذلّلُ
قال الأخطل: والله لقد أحسنت القول، ولقد قلت فيك بيتين ما هما بدون
قولها. فقال: هات فأنشأ يقول:
إذا مُتَّ مات الجودُ وانقطع الندى ... من الناس إلا من قليل مصرَّدِ
ورُدّت أكفُّ السائلين وأمسكوا ... من الدِّين والدنيا بخلْف مجدَّد
وأخبرني أبي قال: أخبرني العقيلي قال: أخبرنا ابن عائشة قال: دخل جرثومة
الشاعر على عبد الملك بن مروان، فأنشده والأخطلُ حاضر، فلما بلغ إلى قوله:
إليك أميرَ المؤمنينَ بعثتُها ... وكلّفتُها خرقاً من الأَرض بلقعا
فما تجدُ الحاجاتُ دونَك منتهىً ... سواكَ ولا تلقَى وراءَك مطلعا
قال عبد الملك للأخطل: هذا المدحُ ويلك يا ابن النَّصرانية! كتب إسماعيل
بن صبيح إلى بعض الرؤساء: " في شكر ما تقدَّم من إحسان الأمير شاغلٌ عن
استبطاءِ ما تأخَّر منه " .
فأخذه أحمد بن يوسف فكتب إلى بعضهم: " أحقُّ من أثبت لك العذرَ في حال
شغلكَ من لم يخلُ ساعةً من برِّك وقت فراغك " .
ثم أخذه من أحمد بن يوسف سعيدُ بن حميد فكتب: لست مستقلاً بشكر ما مضى من
بلائك فأستبطئ درك ما أؤمّل من مزيدك.
ثم أخذه حمد بن مهران فكتب في فصل: " ولئن تعذّرتْ حاجتي قبلك لطال ما
تيَّسَر لي أمثالها عندك. ولستُ أجمع إلى العجز عن شكر ما أمكنَ التسُّرع
إلى الاستبطاءِ فيما تعذّر " .
أخذ هذا كلُّه من قول علي بن أبي طالب صلى الله عليه: " لا تكوننَّ كمن
يعجز عن شكر ما أوتيَ ويبتغي الزيادةَ فيما بقي أول من بدأَ بتشبيه شيئين
بشيئين في بيت واحد امرؤ القيس فقال:
كأنَّ قلوبَ الطّير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العُنَّابُ والحشفُ البالي
وقال منصورٌ النمري:
ليلٌ من النَّقْع لا شمسٌ ولا قمرٌ ... إلاّ جبينك والمذروبة الشُّرعُ
ثم تبعه بشارٌ فقال:
كأَنَّ مثارَ النقع فوق رؤُسهم ... وأسيافنا ليلٌ تهاوتْ كواكبه
وقال العتّابي:
تبنى سنابكها من فوق أرؤسِهم ... سقفاً كواكبُه البيضُ المباتيرُ
وأنشدني أبو الحسن أحمد بن هشام الشاعر، وشبّه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء
في بيت يصف شعر امرأة وبياضها ويصف نفسه:
فكأّنني وكأنَّها وكأنّه ... صبحان باتا تحت ليلٍ مُطبقِِ
واستحس الناس قول النابغة:
فإنَّك كالليل الذي هو مدرِكي ... وإن خلتُ أنّ المنتأَى عنك واسعُ
خطاطيف حجنٌ في حبالِ متينةِ ... تمَدُّ بها أيدٍ إليك نوازعُ
تبعه سلم الخاسر فقال:
وأنت الدَّهرِ مبثوثاً حبائله ... والدهرُ لا ملجأُ منه ولا هربُ
ولو ملكتُ عنانَ الرِّيح أصرفه ... في كلِّ ناحية ما فاتكَ الطَّلَبُ
وقال علي بن جبلة يمدح حميداً الطّوسيّ:
وما لامرئ حاولتَه منك مهرب ... ولو رفعتْه في السِّماء المطالعُ
بلى هاربٌ لا يهتدي لمكانه ... ظلامٌ ولا ضوءٌ من الصبح ساطعُ
وسرقاه جميعاً من قول الفرزدق:
ولو حملتني الريحُ ثم طلبتني ... لكنتُ كشيءٍ أدركته مقادرُه
وقال البحتريّ:
سلبوا وأشرقت الدماءُ عليهمُ ... محمرَّةً فكأنّهم لم يسلبوا
ولو أنّهم ركبوا الكواكب لم يكن ... لمجدِّهمْ من أخذ بأْسك مهربُ
قول سلم: " وأنت كالدهر " مأخوذ من قول الأخطل:
وإن أمير المؤمنين وفعله ... كالدهر لا عارٌ بما فعل الدهرُ
أنشد أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا أحمد بن يحيى لعديّ بن زيد:
قد يدرِك المبطئ من حظِّه ... والخير قد يسبق جهد الحريصْ
فسرقه القطاميّ فقال:
قد يدرِك المتأَنِّي بعضَ حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّللُ
وأنشد لعلقمة بن عبدة:
تراءتْ وأستارٌ من الليل دونها ... إلينا وحانتْ غفلةُ المتفقِّدِ
بعينَىْ مهاةِ تحدُر الدمعَ منهما ... برِيمَينِ شتَّى من دموع وإِثمدِ
فسرقه ابن ميّادة فقال:
وما أنس مِ الأشياءِ لا أنسَ قولَها ... وأدمعُها يُذرين حشو المكاحل
تمتَّعْ بذا اليومِ القصيرِ فإنّه ... رهينٌ بأَيام البلاءِ الأَطاولِ
فسرقَه بعضُ المحدَثين فقال:
خذِي أُهبةً للبين إنّيَ راحلٌ ... قرا أمل يُحْييك والله صانعُ
فسحَّتْ بسِمطَيْ لؤلؤٍ خلطَ إِثمد ... على الخدِّ إلا ما تكفُّ الأصابعُ
قال الشمّاخ:
وتقسِم طرف العين نصفاً أمامَها ... ونصفاً تراه خشيةَ السَّوط أزورا
أخذه مسلم بن الوليد فقال:
تمشِي العِرضْنةَ قد تقسَّمَ طرفها ... وضحُ الطريق وخوفُ وقْع المحصَدِ
وأنشدنا محمد بن القاسم الأنباري قال: أنشدني أحمد بن يحيى، لزياد بن منقذ
أخي المرّار:
لا حبّذا أنتِ يا صنعاءُ من بلد ... ولا شعُوبُ هوىً منَّا ولا نقُمُ
ولا أحبُّ بلاداً قد رأيتُ بها ... عَنْساً ولا بلداً حلَّتْ به قدَمُ
وحبّذا حينَ تمسِي الريح باردةً ... وادي أشيٍّ وفتيانٌ به هضُم
مخدَّمون كرامٌ في مجالسهم ... وفي الرِّحال إذا صاحبتَهم خدَم
كم فيهم من فتىً حلوٍ شمائلُه ... جمُّ الرَّمادِ إذا ما أّخْمد البرَمُ
غمرِ الندي لا يبيت الحقّ يثْمُده ... إلاّ غدَا وهو سامي الطَّرف يبتسم
إلى المكارم يبنيها ويعمُرها ... حتّى ينالَ أموراً دونها قحمُ
يا روْقُ إنِّى وما حجَّ الحجيجُ له ... وما أهَلَّ يجنبىْ نخلةَ الحرُمُ
لم ألقَ بعدهُمُ حيّاً فأخبُرَهم ... إلاّ يزيدُهم حبّاً إلىّ همُ
أنشدنا أبو بكر محمد بن يحيى، لمحمود بن مروان بن أبي حفصة:
وقد كنتُ أخشى من هواهُنَّ عقرباً ... فقد لسعتني من هواهُنَّ عقربُ
بخِلْنَ بدرياقٍ على مَن لسعْنَه ... ألا حبّذا درياقُهنَّ المجرَّبُ
أخذه ابن المعتزّ فقال:
وكأنّ عقربَ صدغه وقفتْ ... لمّا دنتْ من نار وجنتِه
وأنشدني أبو نضلة مهلهل بن يموت لنفسه:
كأن أجفانه من جسم عاشقِهِ ... قد رُكِّبت فهي في الأَسقام تحكيه
في صدغه عقربٌ للقلب لادغةٌ ... درياقٌ لدغتها يا قومِ من فيه
أنشدنا أبو بكر بن دريد قال: أنشدنا أبو حاتم عن الأصمعي:
أطلسُ يخفى شخصَه غُبارُه ... في شدقه شفرتُه ونارُه هو الخبيثُ عينُه
فرارُه
وأنشدنا أبو بكر قال: أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعيّ أن أعرابيا أنشده:
يتعاوران من الغبار مُلاءَةً ... بيضاءَ مخْملةً هما نسَجاها
تطوى إذا سلَكا مكاناً جاسياً ... وإذا السنابكُ أَسهلَت نشراها
وفي وصف الذئب من المشهور أبياتُ الفرزدق التي فيها:
وأطلسَ عسّالٍ وما كان صاحبا ... دعوتُ لناري مرةً ودعاني
وأبيات حميد بن ثور التي يقول فيها:
ينام بإحدى مُقْلتيه ويتَّقى ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجعُ
أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة قال: أنشدنا أحمد بن يحيى لابن خنشٍ
الفزاري:
وذنبي حاضرٌ لاستر عنه ... لطالبه وعُذري بالمغيبِ
ولا عذرٌ يردُّ عليَّ نفعاً ... وكرُّ العذرِ من فعل المُريبِ
وقد جاهدت حتّى لا جهادٌ ... وقلّتْ حيلةُ الرجلِ الأريبِ
فلو صدَقَ الهوى أو كنتُ حرّاً ... لمتُّ مع الندى يومَ القليبِ
وكم من موقف حسنٍ أحيلتْ ... محاسنه فعدَّ من الذنوبِ
أخذه أبو تمام فقال:
فإن كان ذنبي أنَّ أحسنَ مطلبي ... أساءَ ففي سوءِ القضاءِ لي العُذرُ
وأخذه البحتريّ فقال:
إذا محاسنيَ اللاتي أُدِلُّ بها ... كانت عيوبي فقلْ لي كيف أعتذرُ
وأخذه بعض المحدثين فقال:
وكيف يكون كما اشتهى ... حبيبٌ يرى حسناتي ذنوبا
أنشدني أبي قال: أنشدني عسل بن ذكوان قال: أنشدني لإسحاق بن خلف يهجو
الحسن بن سهل:
بابُ الأمير عراءٌ ما به أحدٌ ... إلاّ امرؤ واضعٌ كفّاً على الذَّقنِ
كفيتُكَ الناسَ لا تلقَى أخا طلبٍ ... بفيْءِ بابك يستعدى على الزمنِ
في الله منه وجدوَى كفِّه خلفٌ ... ليس النَّدى والسدى في راحة الحسنِ
قال أبو عليّ البصير في ضدِّها:
مالي أرى أبوابهم مهجورةً ... وكأنّ بابكَ مجمعُ الأسْواقِ
أرجوْك أم خافوك أم شامُوا الحيا ... بيديك فانتجعوا من الآفاق
أخذه من قول أبي نواس:
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنَّهُمُ رجلا دبىً وجرادِ
فيوماً لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوماً رقابٌ بوكرتْ بحصَادِ
وقال البصير:
يزدحم الناسُ على بابه ... والمنهلُ العذبُ كثير الزِّحام
سرق الجميع من قول زهير:
قد جعل المبتغون الخيرَ في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
من يلقَ يوماً على علاّته هرِماً ... يلق السماحةً منه والندى خلُقا
الحسينُ بن الضحاك:
فبتُّ في ليلة منَّعمةٍ ... ألثَمُ دُرَّاً مفلّجاً بفمي
أخذه من قول بشر بن أبي خازم:
يفلِّجن الشفاهَ بأُقحوان ... جلاه غبَّ ساريةٍ قِطارُ
وقال ابن الرُّوميّ:
يا رُبَّ ريقٍ بات بدرُ الدُّجى ... يمجُّه بين ثناياكا
تروَى ولا ينهاك عن شُربه ... والماءُ يُرويك وينهاكا
وقال العطوىّ:
ذات خدَّين ناعمين ضَنينَيْ ... نِ بما فيهما من التُّفّاح
وثنايا، وريقةٍ كغديرٍ ... من عقارٍ وروضةٍ من أقاح
فجمع هذا كلَّه البحتريُّ في بيتٍ وأحسنَ:
كأنّما يضحك عن لؤلؤٍ ... منضَّد أو برد أو أَقاحْ
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: حدثنا السكّريّ قال: قيل لأبي حاتم: من
أشعر المحدثين؟ قال: الذي يقول:
ولها مبْسمٌ كغُرّ الأقاحي ... وحديثٌ كالوشيِ وشيِ البرودِ
نزلَتْ في السَّواد من حبّة القل ... ب ونالت زيادةَ المستزيد
عندها الصَّبرُ عن لقائي وعندي ... زفراتٌ يأْكلن صبرَ الجليدِ
أخذه أبو نواس فقال:
ولو أنِّي استزدتُك من بلاءٍ ... إلى ما بي لأعوزك المزيدُ
ولو عُرضَتْ على الموتى حياتي ... بعيش مثل عيشي لم يُريدوا
قال: أنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا محمد بن يزيد المبرّد:
وليلةِ واكفٍ فتقت هموماً ... أكابدها إلى الصُّبح الفتيقِ
حمى فيها الكرى عينَيَّ بيتٌ ... كأن سماءَه عين المشُوق
تجمَّعَتِ السّحائبُ وهو بيتٌ ... وأجلَتْ وهو قارعةُ الطريقِِ
ترقّ قلوب جيرتنا علينا ... إذا نظروا إلى الغيم الرقيقِ
وهذه الأبيات للعباس المشوق. وسمِّى المشُوقَ بقوله:
كأنَّ سماءَه عينُ المشُوقِ
وأنشد غيره لديك الجنّ:
لا بتُّ إخواني ولا بتُّمُ ... بليلة بتُّ بها البارحَه
لم يبقَ لي في منزلي بقعةٌ ... إلاّ وفيها لجّة سايحه
وللصنوبريّ:
وبيتٍ طّلْتُ فيه ضجيعَ وكف ... مبنٍّ ليس يؤذنني ببيْنِ
إذا بكت السماءُ له بعينٍ ... بكى هو للسَّماءِ بألف عينِ
وقال ابن المعتزّ:
روينا فما نزداد يا ربّ من حياً ... وأنت على ما في النفوس شهيدُ
سقوفُ بيتي صرن أرضاً ندوسُها ... وحِيطان بيتي ركَّعٌ وسجودُ
وقال ابن الروميّ:
يؤرّقُني سقفٌ كأنِّيَ تحته ... من الوكْف تحت المدْجنات الهواضبِ
يظلُّ إذا ما الطِّينِ أثقلَ متنه ... تصرُّ نواحيه صريرَ الجنادبِ
أنشدنا أبو بكر بن دريد قال: أنشدنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي:
إذا ما اجتلى الرّاني إليها بطرفه ... غروبَ ثناياها أضاءَ وأظلما
يقول: أضاءَ الثغر واسودّ لحم الأسنان وكانوا ربّما جعلوا فيه الكحل ليضيء
بياض الأسنان.
...
سيكفيك ألاّ يرحل الصيفُ ساخطاً ... عصا العبد والبئرُ التي لا تُميهها
العصا: المفأد الذي يستخرج به اللحم من الحفرة، وهي البئر. يقول:
ليس يحفرها ليخرج ماءها، إنما يحفر ليشتوي فيها اللحم. وتسمّى إرةً وتجمع
إرون.
الأعشى:
الواطئين على صدور نعالهم ... يمشون في الدَّفئيِّ والأبرادِ
يقال: جاءَ فلان على صدور راحلته، أي على راحلته. فأراد الأعشى: على
نعالهم، أي هم ملوكُ لا يمشون حفاة.
ونحوه لطفيل:
وأطنابُه أرسانُ جرْد كأنّها ... صدور القنا من بادئ ومعقّب
أراد كأنّ هذه الأرسانَ القنا لصلابتها.
وقال ابن أحمر:
أرى ذا شيبة حمّالَ ثقلٍ ... وأبيضَ مثلَ صدر السَّيف نالا
أراد: مثل السيف، فقال مثل صدر السَّيف. ويريد أنّ هذين من قومه نالا ما
يريدان أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا البلعيّ عن أبي حاتم قال: سألت
الأصمعيّ عن قوله:
لذي الحلم قبلَ اليوم ما تقرع العصا ... وما علِّم الإنسانُ إلاّ ليعلما
فقال: يقول: إنّما يقبل التذكرة والموعظةَ ذو العقل. وقال: ألا ترى قول
الآخر:
وزعمت أنّا لا حلومَ لنا ... إنّ العصا قرعت لذي الحلمِ
وقال:
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن جوف الطويّ رماني
يقول: رماني من جوف بئر فرجع عليه عار ذلك. وقال بريئاً وهما اثنان لعلم
المخاطب بالمعنى، كما قال الله تعالى: " والله ورسوله أحقُّ أن يرضوه "
والرّمى: القذف بالقبيح. قال الله عزّ وجل: " إن الذين يرمونَ المحصنات "
. والرّمى: نزوعك من بلدٍ إلى بلد قال ذو الرمة:
وأرمِي إِلى الأرض التي من ورائكم ... لترجعَنى يوماً إليك الرَّواجعُ
وأنشد لزهير:
عَفا من آلِ ليلى بطنُ ساقٍ ... فأكثبةُ العجالز فالقصيمُ
عجلز: اسم كثيب، فجمعه بما حوله. وتجمع العرب الشيء وإن كان واحداً قال
أبو ذؤيب:
فالعين بعدهم كأنَّ حداقَها ... سملتْ بشوكٍ فهي عورٌ تدمعُ
وقال آخر:
تمدُّ للمشْي أوصالاً وأصلابا
فجمعه بما يلفُّه ولأعرابيّ:
وبيتٍ ليس من شعر وقُطنٍ ... على ظهر المطيّة قد بنيتُ
ولحمٍ لم يذقه الناس قبلي ... أكلتُ على خلاءٍ واشتويتُ
يعني: عملتُ بيتَ شعرٍ في هجاء ملك لم يهجُه أحدٌ رهبةً منه. فكأنّه أكل
لحمه لفكيهة الفزاريّ من قصيدة:
فلم أجبُن ولم أنكل ولكن ... شددتُ على أبي عمرو بن عمرو
تركتُ الرُّمحَ يبرُق في صَلاة ... كأنَّ سِنانَه خرطومُ نسرِ
النابغة:
تجلو بقادمتيْ حمامةِ أيكةٍ ... برَداً أُسِفَّ لِثاتُه بالإِثمدِ
كالأقحوان غداة غبِّ سمائه ... جفَّت أعاليه وأسفُله ندِى
أراد: تجلو بشفتيها إذا تكلمّت أو ضحكت. وشبّه شفتيها بقادمتي حمامةٍ
لرقّتها. وأسفّ لثاته بالإثمد كانوا يجعلون الكحلَ في أصول الأسنان ليشرق
السواد مع البياض. وكان ذلك مما يستحسنونه ولا سيما إذا كانت اللِّثةُ
بيضاءَ غيرَ حمراء فكرهوا أن تكون اللِّثةُ بيضاءِ كالأسنان، فغيرَّوها
بذلك. ثم قال: كالأقحوان، رجع إلى وصف الثَّغر فوصفه بالأقحوان لبياض نوره
وطيبه. " جفَّت أعاليه وأسفله ندى " شبّهه بالأقحوان في هذه الحال، وذاك
أنّ الأقحوان إذا كان في غبِّ مطر ولم تطلع عليه الشمس فهو ملتفٌّ مجتمعٌ
غير منبسط، وكذا كلُّ الأنوار يكره أن يشبّه الثّغر به في هذه الحال فيكون
كالمتراكب بعضه على بعض، فشّبهه بالأقحوان إذا أصابته الشمس فقال: " جفّت
أعاليه " ، يريد انبسطت وذهب تجعّدها. وقال: " وأسفله ندٍ " فاحترز من أن
يكون جفّ وذوي كلُّه فقال: " وأسفله ندى " .
وأنشد:
وساقيتي كأْس الصبا وسقيتها ... رقاق الثنايا عذبة المتريَّقِ
وخمصانةٍ تفترُّ عن متنسِّقٍ ... كنّوْر الأقاحي طيِّبِ المتذوّقِ
إذا مضَغَتْ عد امتتاع من الكرى ... أنابيبَ من عُودِ الأراك المخلِّقِ
سَقَتْ شَعَثَ المسواك ماءَ غمامة ... فضيضاً بجاديّ العِراق المروّقِ
بعد امتتاع: بعد ارتفاع. يقال متع النهار وأمتع، إذا ارتفع وطالت من وقت
طلوع الشمس مدّته. والمخلّق: الذي قد علق به الخلوق والطّيب من يدها ويكون
المخلقَّ المملَّس. والفضيض: أول ما سال من الغمامة. وترك ذكر الشراب لعلم
المخاطب به.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: أخبرني البلعيّ قال: أخبرنا أبو حاتم
عن الأصمعي قال: جاء رجلٌ من بني عبْس إلى جماعةٍ وفيها الطّرمّاح، فقال:
ما عنى كثيّر بقوله الملك بن مروان:
فأنت المعلَّى يوم عدّت قِداحُهم ... وجاءَ المنيحُ وسطهَا يتقلقلُ
فقال الطرمّاح: ما تقولون؟ فقالوا: أراد بالمعلَّى أنه أعلاهم حظاً
كالمعلّى في القداح فقال الطرمّاح: لا، ولكنّه أراد أنك السابع من ملوكهم،
ولك أوفر الحظّ لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يسمّون القداح إلى سبعة: أولها
الفذّ، والتّوأم، والرقيب والمسبل، والحلس، والنافس، والمعلّى.
وقال في ذلك أعشى بنى ربيعة:
ومروان سادس من قد مضى ... وكان ابنه بعده سابعا
ذو الرمة:
وبيضاءَ لا تنحاشُ منِّى وأُمُّها ... إذا ما رأتني زال منِّي زويلُها
نتوج ولم تلْقَح لما يُمتنَي له ... إذا نتجت ماتت وحيَّ سليلها
يعني البيضة. والامتناء: أن يعلم الناسُ أنها قد حملت وسئل أبو العباس
ثعلب عن قول الشاعر:
دعاني دعوةً والخيلُ تردى ... فما أدري أباسمي أم كناني
فقال دعاني دعوةً: فتح فمه فتحةً. فأراد أنّه كما أومأ إليّ ملت إليه.
وإلاّ فسد المعنى وكان ذلك جبناً منه ودهشاً.
ولذي الرّمّة:
وذي شُعَب شتَّى كسوتُ فروجَه ... لغاشيةٍ يوماً مقطّعةً حُمرا
يعني سفودا وفروجه: ما بين شعبه. لغاشية: لقوم غشوه. يعني لحماً شواه
وخضراء في وكرّين غرغرتُ رأسها ... لأُبلى إذا فارقت في صحبتي عُذرا
خضراء يعني قارورة. وكرين غلافين غرغرت، أي جعلت لها غرغرة كأنّه صبَّ
فيها أدهانا
وأسودَ ولاّج مع الناس لم يلجْ ... بإذنٍ ولم يقرفْ على نفسهِ وزْرا
قبضتُ عليه الكفَّ ثم تركته ... ولم أتّخذْ أرساله عنده ذُخرا
يعني الليل. قبضت الكفَّ على الليل فلم يقع في كفّي منه شيء
وفاشية في الأرض تلقَى بناتِها ... عواري لا تُكسَى دُروعاً ولا خمرا
فاشية، يعني شجرة الحنظل. يقول: وتلقى بناتها أيضاً كذلك
إذا ما المطايا سُفْنَها لم يذُقنها ... وإن كان أعلى نبتها ناعماً نضْرا
سفنها، أي شممنها
وواردة فردٍ وذاتِ قرينةٍ ... تبيِّنُ ما قالت وما نطقت شعرا
يعني قطاةً وذات قرينة: معها غيرها
وحاملةٍ تسعينَ لم تلقَ منهمُ ... على موطنٍ إلاّ أخا ثقةِ صقْرا
يعني الكنانة، لم تجد لها ولداً إلا أخا ثقة، يريد السَّهم
وأقصَمَ سيّارٍ مع الرَّكب لم يَدَعْ ... تراوحُ حافات السماءِ له صدرا
يعني الهلال وحافات السماءِ: نواحيها
وأصغر من قَعب الوليد ترى به ... بيوتاً مُبَنَّاةً وأَوديةً خُضْرا
يعني عين الإنسان. والقعب: القدح، يريد هي أصغر منه. يريد أنك ترى بالعين
بيوتاً وأوديةً، أي ترى بها كلَّ شيء وهي أصغر من كلّ شيء ردّه إلى أصغر
وشعبٍ أبَى أن تسلُكَ الغُفْر فوقه ... سَلكتُ قُراني من قياسرة سُمرا
يعني شعب فوق السهم. والغفر: ولد الأرويّة وقراني يعني الوتر، مثل فرادي
وواحد قراني قرين من قياسرة يعني إبلاً، يعني وتراً من جلود هذه الإبل
القيسريّة السّمر. وسلكت في معنى أسلكت
ومربوعةٍ ربعيةٍ قد لبَأْتها ... بكفَّيَّ في دوّيَّة نفراً سفْرا
يعني بيض النعام: يقول: كسرتها فأخرجت ما فيها كأنه الماء والمربوعة:
الكمأة أصابها مطر الربيع لبأتها: جعلتها لهم مثل اللّبأ وأنشد:
فلمّا علا سِطَةَ المَضْبَأَيْ ... نِ من ليله الذّنبُ الأَشعلُ
وأطلعَ منه اللَّياح الشَّمي ... طُ حَذواً كما سُلَّت الأَنصُلُ
يصف ثوراً عند أرطاة وكلاباً. يريد مضْبأَ الثور ومضبأ الكلاب، حيث ضبأ
وضبأت، أي لصقت بالأرض. والذنب الأشعل، يريد آخر الليل من الفجر الأول.
واللَّياح: الأبيض، يريد الصّبح. والشَّميط: ما فيه لونان من ظلمة وضوء.
ونحوه لأبي ذؤيب:
شعفَ الكلابُ الضارباتُ فؤادَه ... فإذا يرى الصُّبْحَ المصدّقَ يفزعُ
يريد أنه يأمن بالليل، لأنّ القنّاص إنّما يجيئون نهارا فإذا رأى الصّبح
فزع.
وأما قول الحارث بن حلّزة:
آنستْ نبأةً وأفزعها الق ... نّاصُ عصراً وقد دنا الإمساءُ
فالعصران: الغداة والعشيّ، وكذلك البردان وأنشد لغيره:
ولا يُدَبِّح منهم محْدِثٌ أبداً ... إلاّ رأيتَ على باب آسته القمرا
التَّدبيح: أن يخفض الرجلُ رأسَه حتّى يكون أشدَّ انخفاضاً من أليتيه. "
إلاّ رأيتَ على باب استه القمرا " يريد أنّهم برص الأستاه.
ومثله:
أرى كلَّ قوم نورُهم في وجوههم ... وأُخِّر في أَستاه حِمَّانَ نُورُها
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: أخبرنا على الصّبّاح قال: سمعت أبا
محلّم الشاعر ينشد لعيسى بن أوس أبي الجويرية العبديّ، يمدح الجنيد بن عبد
الرحمن المرّيّ:
إلى مُستنيرِ الوجه طال بسودَدٍ ... تقاصرَ عنه الشاهقُ المتطاولُ
إذا سُئل المعروفَ أشرقَ وجهُه ... سروراً فلم تكبُر عليه المسائلُ
إذا راحَ فوجٌ بالغنى من نواله ... أناخَ به فوجٌ من الناس نازلُ
عفافكَ معروفٌ وعقلكَ كاملٌ ... ورأيُك لا وانٍ ولا متواكلُ
وحزمكَ معلومٌ وجدُّك صاعد ... كذاك جدودُ الناس عال وسافلُ
مدحتُك بالحقِّ الذي أنت أهلُه ... ومِن مدَح الأَقوام حقٌّ وباطلُ
يعيش الندى ما دمتَ حيّاً وإن تمُتْ ... فليس لباقٍ بعد موتك نائلُ
إذا قيل أيُّ الناسِ أكرمُ خلّةً ... أشارت ولم تظْلِمْ إليك الأّنامل
وما لامرئ عندِي مخيلةُ نعمة ... سواك وقد جادتْ علىَّ مخايلُ
وأخبرنا أبو بكر قال: أخبرنا على بن الصبّاح قال: أنشد بحضرة أبي محلّم
لعمر بن أبي ربيعة:
وما نلتُ منها مجرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المضرَّجِ لابسُ
فقال أبو محلّم: ألا أنشدك في هذا النحو ما يسجُدُ هذا له فقلت له: إن
رأيتَ وقيتَ الأسواءَ. فأنشدني لابن ميادة:
وما نلتُ منها محرماً غير أنني ... أقبِّل بسّاماً من الثّغر أفلجا
وألثم فاها تارةً بعد تارةِ ... وأترك حاجات النفوس تحرُّجا
وإنّي على سَوط الهوى ذو تجلُّد ... أصابره ما لم أجدْ عنه مخرجا
ولا عيشَ إلا أن تبيتَ ملَهوجاً ... على نار من تهوى وتصبحَ منضجا
أنشدنا أبو بكر بن دريد لتأبط شرا:
وليلٍ بهيم كلَّما قلت غورّت ... كواكبُه عادت فما تتزيَّلُ
بها الرّكبُ أيْما يمَّم الركبُ يمموا ... وإن لم تلُحْ فالقومُ بالسير
جهَّلُ
سرقه أبو نواس فقال وقد سمع غلاماً يقرأ: " كلَّما أضاءَ لهم مشوا فيه
وإذا أظلمَ عليهم قاموا " :
وسيّارة جارَت عن القصد
أخبرني أبي قال: أخبرنا عسل بن ذكوان عن المازني قال: سمعتُ الأصمعيّ
يقول: ما سبق النابغة إلى قوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلتُ أن المنتأَى عنك واسع
ولا قال أحدٌ من الشعراءِ في هذا المعنى شيئاً أحسن منه سرقه الأخطل من
النابغة وغيره، إلاّ أن ترتيب الكلام واحد فقال:
فإن أميرَ المؤمنين وفعلَه ... لكالدهرِ لا عارٌ بما فعل الدَّهرُ
وأخذه الفرزدق فقال:
ولو حملتْني الريحُ ثم طلبتني ... لكنتُ كشيء أدركته مقادرُه
وسرق سلمٌ الخاسر بيت الأخطل والفرزدق فقال:
وأنت الدَّهر مبثوثاً حبائله ... والدَّهرُ لا ملجأٌ منه ولا هربُ
ولو ملكتُ عِنان الرِّيح أصرِفُه ... في كلِّ ناحية ما فاتك الطَّلبُ
وأخذه أيضاً على بن جبلة العكوك فقال:
وما لامرئٍ حاولته منك مَهربٌ ... ولو رفعَته في السماءِ المطالعُ
بل هاربً لا يهتدي لمكانه ... ظلامٌ ولا ضوْءٌ من الصبح ساطعُ
وأخذ البحتريُّ قوله:
ولو رفعته في السماءِ المطالع
فقال:
ولو أنَّهم ركبوا الكواكبَ لم يكن ... لمجدِّهمْ من أخذ بأسك مهربُ
أنشدنا أبو عليّ الآجريّ لدعبل:
أما آنَ أن يُعتِب المذْنِبُ ... ويرضى المسيء ولا يغضبُ
وغول اللَّجاجة غرّارةٌ ... تجِدُّ وتحسبها تلعبُ
أبعدَ الصَّفاء ومحضِ الإخاء ... يقيم الجفاءُ بنا يخطبُ
وقد كان مشربُنا صافيا ... زمانا فقد كدرَ المشربُ
وكنَّا نزعنا إلى مذهبٍ ... فسيحٍ فضاقَ بنا المذهبُ
ومن ذا المُواتي له دهرُه ... ومن ذا الذي عاش لا ينكَبُ
فإن كنتَ تعجَبُ مما ترى ... فما ستَرى بعده أعجبُ
فعُودُكَ من خُدَعٍ مُورِقٌ ... وواديكَ من عِلَل مخْصبُ
فإن كنتَ تحسبني جاهلاً ... فأنت الأحقّ بما تحسب
فلاتك كالراكب السَّبعَ كي ... يُهابَ وأنت له أَهيبُ
ستُنْشِب نفسَك أُنشوطةً ... وأعزِزْ عليّ بما تُنشِبُ
وتحملها في اتّباع الهوى ... على آلة ظهرُها أحدبُ
فأبصِرْ لنفسك كيفَ النُّزو ... لُ في الأرض عن ظهرِ ما تركُب
ولو كنتُ أملك عنك الدِّفا ... ع دَفعْتُ، ولكنَّني أُغلبُ
كتب السفّاح إلى أبي مسلم: " إنه لم يزل من رأى أمير المؤمنين وأهل بيته
الإحسان إلى المحسن، والإساءة إلى المسيء، ما لم يكد ديناً أو يثلم ملكا.
وإن أمير المؤمنين قد وهب جرم حفص بن سليمان لك، وترك إساءته لإحسانك إن
أحببت ذلك " .
فأجابه أبو مسلم: " إنه لا يتمّ إحسان أحد حتّى لا تأخذه في الله لومة
لائم، وقد قبلت منّة أمير المؤمنين وآثرت الانتقام له " وبعث من اغتال حفص
بن سليمان، فتمثَّل السفَّاح لمّا قتل:
أفي أن أحُشَّ الحربَ فيمن يحُشُّها ... ألامُ وفي ألاّ أقرَّ المخازيا
ألم أكُ ناراً يتّقى الناسُ حرَّها ... فترهبني إن لم تكن لي راجيا
وقال أبو سلمة للسفّاح: يا أمير المؤمنين، إنّ أمية ابن الأسكر وقف على
ابن عمٍّ له حال عمّا كان يعهده فقال:
نشدتُك بالبيت الذي طاف حوله ... رجالٌ بنَوْه من لؤيّ بن غالبِ
فإنّك قد جرّبتني فوجدتني ... أعينُك في الجلَّي وأكفيك جانبي
وإن معشرٌ دبّتْ إليك عداوةً ... عقاربهم دبّتْ إليهم عقاربي
فقال السفّاح: من ضنَّ بالعلق النفيس أشفق من تلوُّثه. والله ما سافرت
فكرتي فيك في مجازاتك عن أياديك عندنا، إلاّ رجعت حسرى عن بلوغ استحقاقك
فقال أبو سلمة: ذاك الظّنّ بأمير المؤمنين، والأمل فيه، والمرجوّ عنده.
وتمثّل السفّاح وقد نظر إلى أبي سلمة:
يديرونني عن سالم وأديره ... وجلدةُ بينَ العين والأنف سالمُ
ثم قال: أنت جلدةُ وجهي كُلِّه. ثم قتله بعد ذلك بمدّة.
لأبي عبيد الله وزير المهديّ:
لله دهرٌ أضعْنَا فيه أنفسنَا ... بالجهل لو أنه بعد النُّهى عادا
أفسدتُ ديني بإصلاحي خلافتهم ... وكان إصلاحها في الدِّين إفسادا
ما قرَّبوا أحداً إلاّ ونيّتُهم ... أن يعقبوا قربَه بالغّدر إبعادا
قال أبو أيوبَ الموريانيّ للمنصور، وكان وزيره فسخط عليه: " يا أمير
المؤمنين، تأنّ في أمري، وأرج أطّراحي، فإنّ للتّهم وقفات على النّدم
اعتراضها، وإلى التأسف انقلابها " فقال له المنصور: " كيف وقد أغرقت
النّزع في قوس الخيانة، ومنعني ضيق ذنوبك من اتّساع العفو عليك " فقال: "
يا أمير المؤمنين، ما أسأل أن تعطف عليَّ بحرمة، ولا تقبلني لخدمة، ولكن
استعمل فيَّ أدبَ الله تعالى " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن
السِّيئات ويعلم ما تفعلون " . فقد عفا عن ذنوب علم حقائقها، وعرف ما كان
قبلها؛ وظنّ أمير المؤمنين لا يبلغ هذه المعرفة، فهو يعفو عن شكّ، ويتجاوز
عن ظنّه " .
فقال: " آلآن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين " .
قال أبو عبيد الله وزير المهديّ من فصل له: " نخوة الشَّرف تناسب نخوةَ
الغنى، والصَّبر على حقوق الثَّروة، أشدُّ من الصبَّر على ألم الحاجة،
وذلُّ الفقر يسعى على عزَّة الصَّبر، وجور الولاية مانعٌ من عدل الإنصاف،
إلا من ناسب بعد الهمة، وكان لسلطانه قوّةٌ على شهواته.
ودخل أعرابيٌّ بدويٌّ إلى أبي عبيد الله فقال له: أيُّها الشيخ السيِّد
إنّي والله أتسحَّب على كرمك، وأستوطئ فراش مجدك، وأستعين على نعمك بقدرك.
وقد مضى لي وعدان، فاجعل النُّجحَ ثالثاً، أقد لك الشُّكر وافي العرف،
شادخ الغرّة، بادي الأوضاح.
فقال أبو عبيد الله: ما وعدتك تغريراً، ولا أخّرتك تقصيراً، ولكنّ الأشغال
تقطعني وتأخذُ أوفرَ الحظّ منّى. وأنا أبلغ جهد الكفاية ومنتهى الوسع
بأوفر ما يكون، وأحمده عاقبةً، وأقر به أمدا.
فقال الأعرابي: يا جلساء الصدق، قد أحضرني التطوّل فهل من معين منجد، أو
مساعد منشد؟
فقال بعض كتابه لأبي عبيد الله: والله أصلحك الله ما قصد حتى
أمّلك، وما أمّلك حتّى أجال النظر، وأمن الخطر، وأيقن بالظفر. فحقّق أمله
بتهيئة التعجُّل، فإن الشاعر يقول:
إذا ما اجتلاه المجدُ عن وعد آمل ... تبلَّج عن نُجحٍ ليستكمل الشُّكرا
ولم يثنِه مطلُ العِدات عن التي ... يجوزُ بها الحمدَ الموفَّر والأجرا
فأمر أبو عبيد الله بإحضار جائزته فقال الأعرابي للفتى: خذها، فأنت سببها.
فقال الفتى: شكرك أحبّ إليّ منها. فقال أبو عبيد الله للأعرابي: خذها فقد
أمرت للكاتب بمثلها. فقال الأعرابي: الآن كمّلت النّعمة، وتمّمت المنّة،
أحسن الله جزاءك، وأدام نعماءك.
وقال أبو عبيد الله لرجل تحمّل عليه بشفعاء: لولا أنّ حقَّك لا يضاع
لحجبتُ عنك حسنَ نظري أتظنّني أجهلُ الإحسانَ حتّى أعلّمه، ولا أعرف موضع
المعروف حتى أعرفه. لو كان لا ينال ما عندي إلاّ بغيري لكنت بمنزلة البعير
الذّلول، عليه الحمل الثقيل، إن قيد انقاد، وإن أنيخ ترك لا يملك من نفسه
شيئاً.
فقال الرجل: معرفتك بمواقع الصنائع أثقب من معرفة غيرك، ولم أجعل فلاناً
شفيعاً إنما جعلته مذكرا.
فقال وأيّ إذكار لمن رعى حقَّك أبلغ من تسليمك عليه، ومصيرك إليه. إنه متى
لم يتصفّح المأمول أسماء مؤملّيه بقلبه غدوة وعشياً لم يكن للأمل أهلاً،
وجرى المقدار لمؤمليه على يديه بما قدِّر، وهو غير محمود ولا مشكور. وما
لي إمامٌ أدرسه بعد وردي من القرآن إلاّ أسماء رجال التأميل لي، وما أبيتُ
ليلةً حتّى أعرضهم على قلبي.
ووقّع في كتاب عامل: عجّل علينا بمبلغ ما اجتمع قبلك من الغلاّت، ولا تبطئ
به، وإيّاك أن تستملي من جارك مطلاً به، ودفعاً عنه. وانفضْ عنك مقالة من
يشينك ولا يزينك، ويوردك ولا يصدرك. ولله درُّ عديّ بن زيد حين يقول:
عن المرء لا تسأَل وأبصر قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن يقتدى
تمثَّل المهديُّ وقد نظر إلى أبي عبيد الله:
رأيتك للأقصى صباً غير قرّةٍ ... تذاءبَ منها مرزغٌ ومسيلُ
وأنت على الأدنى شمالٌ عريّةٌ ... شآميةٌ تزوي الوجوه بليلُ
وفي مثله لمسافر بن أبي عمرو:
تمتُّ إلى الأقصَى بثديك كلِّه ... وأنت على الأدنى صروم مجدَّد
فإنك لم أصلحت من أنت مفسِدٌ ... تودّدك الأقصى الذي تتودّد
أخبرنا محمد بن يحيى قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة عن المدايني قال:
جرى بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد منازعة، فأغلظ له عمرو، فقال له
خالد بن يزيد بن معاوية: يا عمرو، تكلِّم أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال له
عمرو بن سعيد: اسكت فو الله لقد سلبوك ملكك ونكحوا أمَّك، وغلبوا أمرَك،
فما هذا النُّصح الموشَّح يغشّ! أنت والله كما قال الشاعر:
كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيَّعتْ ... بنيها فلم ترقع بذلك مرقَعا
وفي مثل هذا لابن هرمة:
فإني وتركي نجى الأكرمين ... وقدحي بكفِّيَ زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيْضَها بالعراءِ ... وملبسةٍ بيضَ أخرى جناحا
أخبرنا نفطويه أبو عبد الله قال: أخبرنا ثعلبٌ عن الزبير بن بكّار قال:
خرج الفضل بن يحيى يريد سفراً، فودّعه أهله مكتئبين لفرقته، فقال: قاتل
الله جميلاً حيث يقول:
لمّا دنا البينُ بينُ الحيِّ واقتسموا ... حبلَ النَّوى فهو في أيديهمُ
قطَعُ
جادت بأدمعها سَلمى وأعجزني ... قربُ الفراق فما أُبقي ولا أدعُ
يا قلبُ ويحكَ لا سلمى بذي سلمٍ ... ولا الزمان الذي قد فات مرتَجَعَ
أكُلَّما مرَّ ركبٌ لا تلائمهم ... ولا يبالون أن يشتاقَ من فجَعوا
علَّقتني بهوىً منهم فقد جعلتْ ... من الفراق حصاةُ القلب تنصدعُ
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: سمعت أبا العيناء يحدّث أنّ
رجلاً كلم بن خالد البرمكيّ في رجل أن يولّيه، فقال يحيى: إنّا لا نشرك في
أماناتنا ولا ينسب إلى عقولنا أفعال غيرنا، ولا نسترعي رعيّة أمير
المؤمنين إلاَّ المستحقين الذين توجب لهم المعرفة المنزلة، ولست أعرف هذا
الرجل بالكفاية فأشفّعك في أمره بالإجابة، ولا بغيرها فأردّك عن مسألتك،
فإن أحبَّ ما عندنا خضر لننظر ما عنده، فإن كان مضطلعاً بالولاية ناهضاً
بثقلها، زينةً للسّلطان وعذراً بينه وبين الرّعية، ولّيته قدر ما يستحقّ
وإن كان مقصّراً عن ذلك قضيت حقّه عنك بصلةٍ تكون كفاءً لما أمّلته له.
فقال له الرّجل: إنّ لي رسماً في العمالة. فقال يحيى: ليس كلّ من رسم
بشيءٍ لشفاعة أو هوىً أو باختيار من لا يوثق باختياره، يقضي له بالكفاية.
وقد أعلمتك أننا نكره أن نجعل بيننا وبين الرعية من لا يعرف وزنه، فإنّ
أموره راجعةٌ إلينا، ومتّصلة بنا. واعلم أنّ الرسوم قد جرت لأقوامٍ
بولايات، ورسمها لهم قوم لو حضرني الراسمون لهم ذلك، لما رأيتهم أهلاً
للولاية التي رسموها لغيرهم.
ووقع يحيى بن خالد في رقعة رجل استعمله فخان:
قد رأيناكَ فما أعجبتنَا ... وخبَرْناكَ فلم نرض الخُبُرْ
قال عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع: ما مدحنا بشعرٍ أحبّ إلينا من
قول أبي نواس:
سادَ الملوكَ ثلاثةٌ ما منهم ... إنْ حصِّلوا إلاّ أغرُّ قريعُ
ساد الربيع وساد فضلٌ بعده ... وعلَتْ بعباسَ الكريمِ فروعٌ
عباسُ عبّاسُ إذا احتدمَ الوغَى ... والفضل فضلٌ والرّبيع ربيعُ
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: أخبرنا العباس بن بكّار قال: حدثني شبيب
بن شيبة قال: حضرتُ يحيى بن خالد وقد قال له رجل: والله لأنت أحلم من
الأحنف، وأحكم من معاوية، وأحزم عن عبد الملك، وأعدل من عمر بن عبد العزيز
فقال له يحيى: والله لعميرٌ غلام الأحنف منّى، ولسرجونُ غلام معاوية أحكم،
ولأبو الزُّعيزعة صاحب شرط عبد الملك أحزم، ولمزاحمٌ قهرمان عمر أعدل
منّي، وما تقرّب إليّ من أعطاني فوق حقّي! قال شبيب: فعجبت من سرعة جوابه،
وتعديده لمن لا يعرفه، حتّى كأنه أعدّ الجواب.
كلام يحيى بن خالد
قال: كان يحيى يقول لولده: انظروا في سائر العلوم، فإنّ من جهل شيئاً عاداه: وأكره أن تكونوا أعداءً لشيء من العلوم وكان يقول: ما رأيتُ أحداً إلاّ هبتُه حتّى يتكلّم، فإذا تكلّم كان بين اثنتين: بين أن تزيد هيبته، أو تضمحل.وقال: ثلاثة تدلّ على عقول أربابها: الهديّة، والرسول والكتاب.
وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدّثوا بأحسن ما تحفظون.
وكان يقول: من بلغَ رتبةً فتاة بها خبّر أنّ محلّه دونها أخذ هذا من عرض كلامٍ لأكثم بن صيفيّ.
أخبرنا أبو عبد الله نفطويه قال: حدّثت عن الجاحظ قال: كان أكثم بن صيفيّ يقف بالموسم كلَّ سنة، فيتكلمّ بكلام يحمل عنه. فقال مرةً: من نال رتبةً فتاهَ عندها فقد أظهر أنّه نال فوق ما يستحقّ.
وكان يحيى بن خالد يقول: المواعيد شباك الكرام، يصيدون بها محامد الإخوان. ألا تسع قولهم: فلان ينجز ويفي بالضّمان، ويصدق في المقال، ولولا ما تقدم من حسن موقع الوعد لبطل حسن هذا المدح.
وقال: عجبت للملك كيف يسئ، وهو لا يشاءُ أن يسئ إلاّ وجد من يحسّن إساءته ويزيّنها عنده ويصوّب فيها رأيه.
وقال: ما أحدٌ رأى في ولده ما أحبَّ إلا رأى في نفسه ما يكره.
أخذه من قول أكثم بن صيفيّ: من سرّه بنوه ساءته نفسه.
وقال لكاتبين كتبا في معنى أطال أحدهما واقتصر الآخر، فقال للمختصر: ما أجد موضع زيادة! وقال للمطيل: ما أجد موضع نقصان! وكان يحيى يقول: من تسّبب إلينا بشفاعةٍ في عمل، فقد حلّ عندنا محلّ من ينهض بغيره، ومن لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلاً.
وكان يقول: لا للكرام أرجى من نعم للّئام، لأنّ لا للكرام ربّما كانت عن غضب وإبّان سآمة يحسن بها العاقبة ونعم للّئام تصدر عن تصنّع وفسادنيّة وقبح مآل.
وكان يحيى يقول: من صحب الملوك يحتاج إلى عقل يهديه، وعلم يزينه، وحلم يحسّنه، ودين يسلّمه. وخيرٌ لمن استغنى عن السّلطان ألاّ يفتقر إليه، فإنّ ذلك ألذّ له في دنياه، وأسلم له في آخرته.
وقال يحيى بن خالد: من حقوق المروءة، وأمارة النبل أن تتواضع لم
دونك، وتنصف من هو مثلك، وتستوفي على من هو فوقك. ولله درّ النابغة حين
يقول:
ومن عصاك فَعاقبْه معاقبةً ... تنهى الظّلومَ ولا تقعُد على ضمدِ
إلا لمثلك أو من أنت سابقُه ... سبقَ الجواد إذا استولى على الأمد
تاريخ العربية
أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: أخبرنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا حيان بن بشر عن أبي بكر بن عيّاش قال: أوّل من وضع العربية أبو الأسود. جاء إلى زياد بالبصرة فقال: إنيّ أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وقد تغيرتْ ألسنتها، أفتأذن إلى أن أضع كلاماً يعرفون أو يقوِّمون به كلامهم: قال: لا. فجاء رجلٌ إلى زيادٍ فقال: أصلح الله الأمير، توفّي أبانا وترك بنوناً. فقال زياد: توفّي أبنانا وترك بنونا؟ ادعوا لي أبا الأسود. فقال له: ضع للناس ما أردت أن تضع لهم.سمعت أبا بكر محمد بن علي بن إسماعيل المبرمان يحكي عن إبراهيم بن السرىّ قال: أوّل من تكلَّم في النحو أبو الأسود، وزعم أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أمرَه بذلك.
وبرع بعد أبي الأسود ميمونٌ الأقرن، وبعد ميمونٍ عنْبسة الفيلُ، وبعده عبد الله بن أبي إسحاق، فقاس وأكثر، ثم برع بعده أبو عمرو بن العلاء، ولحقه الخليل بن أحمد، إلاّ أنّ نظر أبي عمرو أقدمُ من نظر الخليل.
ثم أتى الخليلُ في النحو بما لم يأت بمثله أحدٌ قبله في تصحيح القياس، واللّطافة، والتصريف.
وكان يونس في عصر الخليل، وبقي بعده مدّة طويلة. ويقال إنّ سيبويه مات قبل يونس.
وكان عيسى بن عمر في عهد أبي عمرو وعهد الخليل، وكان بارعاً أيضاً.
ثم جمع سيبويه علم البرعاء من النحويين القدماء كلّهم، فذكر في كتابه مذهب الخليل، ومذهب يونس، ومذهب أبي عمر، ومذهب ابن أبي إسحاق، وذكر مذاهبَ قوم غير هؤلاء، على أنّه لم يرتضها فدفعها، وصحّح علم النحويّين القدماء كلّهم، وجمع الأبنية كلّها. فزعموا أنه لم يذهب عليه من كلام العرب إلاّ ثلاثة أشياء، منها شمنصير وهو اسم موضع، وهندلع وهي بقلة، ودرداقس وهو عظم الرأس في مؤخرّه مما يلي القفا.
ثم كان من بعد سيبويه الأخفش، وله نحوٌ كثير ليس كثير من النحويين من ينظر في النحو يدرس كثرة علمه. وله كتبٌ كثيرة.
ثم كان بعد هذه الطبقة أبو عمر الجرمي وأبو عثمان، فهذان بارعا هذه الطبقة، وكان فيها من هو دون هذين: الزياديّ والرّياشي. أعني دونهما في النحو فقط.
فأما أبو عبيدة والأصمعي وأبو زيد فليسوا بنحويين حذّاق، ولكنّ أبا زيد من أحذقهم بالنّحو. ولا يدخل هؤلاء في جملة النحويّين.
ثم الذي برع بعد هذه الطبقة محمد بن يزيد الأزدي، وأبو يعلى بن أبي زرعة، إلاّ أن محمد بن يزيد تناهي في البراعة حتّى لحقَ بطبقةِ من كان قبله.
والذين برعوا من الكوفيين على مذاهبهم عندهم: الكسائيّ، وأستاذه من أهل البصرة عيسى بن عمر. ولم يكن عيسى من الخليل في شيء. والكسائيّ أستاذ الفرّاء وأستاذ هشام بن معاوية الضّرير.
ثم برعَ بعد هذين في نحو الكوفيّين أبو عبد الله الطّوال، وابن قادم، وسلمة بن عاصم.
ثم برع بعد هذين وجاوزهم على مذاهبهم أحمد بن يحيى الشيباني.
من أخبار النحاة والعلماء
قال أبو إسحاق: وحدّثت عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال: " يا بنيّ! تعلّم النحو، فإنك لم تعلم منه باباً إلاّ تدرّعت من الجمال سربالاً " .أخبرنا محمد بن يحيى قال: أخبرنا محمد بن الفضل قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا أبو حرب البابيّ قال: كان أبو زيد لا يعدو النحو، فقال له خلفٌ الأحمر: قد ألححتَ على النَّحو لم تعدهُ، ولقلَّ ما ينْبُل منفردٌ به، فعليك بالشعر والأخبار.
أخبرنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: حدّثني أبي عن العطوى قال:
دخل أبو إسحاق بن إبراهيم الموصليّ إلى يحيى بن أكثْمَ وعليه
طيلسانٌ أزرق، فتذاكروا الحديث فجرى معهم، ثم الفقه ثم النّحو ثم الشعر،
فما مرّ شيءٌ إلاّ زاد عليه. ثم التفت إلى يحيى بن أكثم فقال: أصلحك الله،
هل قصّرتً في شيء مما جرى؟ فقال: بل زدتَ: قال: فما بالي أنسب إلى صناعة
وأنا أحسن غيره كما أحسن منه! فقال: الجوابُ في هذا على العطويِّ. فقلت:
أخبرني عنك أنت في الفقه كأبي حنيفة والشافعيّ: قال: لا. قلتُ: فأنت في
الحديث كيحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهديّ؟ قال: لا. قلت: فأنت في
النّحو كسيبويه؟ قال: لا. قلت: فإنّما نسبت إلى العلم الذي أنت فيه أوحد
لم يشاركك فيه غيرك. فسكت.
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن إسحاق القاضي قال: حدّثت عن أبي حاتم
قال: قدم علينا محمد بن مسلم الكوفيّ عاملاً في الخراج والصّدقات، فصرتُ
إليه مسلّماً فقال لي: من علماؤكم بالبصرة؟ فقلت: المازنيّ من أعلمهم
بالنّحو، والرياشيُّ من أعلمهم باللّغة، وهلالُ الرأي من أفقههم، وابن
الشاذكونيّ من أعلمهم بالحديث، وابن الكلبيّ من أعلمهم بالشّروط، وأنا
أنسب إلى علم القرآن. فقال لكاتبه: اجمعهم في غد. فلما اجتمعنا قال:
أيُّكم المازني؟ فقال أبو عثمان: هأنذاك أصلحك الله. فقال: ما تقول في
كفّارة الظّهار؟ أيجوز فيه عتق غلام أعور؟ فقال له: أصلحك الله، وما علمي
بهذا يحسبه هلال الرأي فالتفت إلى هلال الرأي فقال: أرأيت قول الله عزّ
وجلّ: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " بما انتصب هذا الحرف؟ فقال:
أعزّك الله، أنا لا أحسن هذا، إنما يحسنه الرياشيّ. فقال يا رياشيّ، كم
حديث روى ابن عونٍ عن الحسن؟ فقال: أصلحك الله، هذا يحسنه ابن الشاذكوني
فالتفت إلى ابن الشاذكونيّ فقال: كيف تكتب كتاباً بين رجلٍ وامرأة أرادت
مخالعته على إبرائه من صداقها؟ فقال: أعزّك الله، هذا يحسنه ابن الكبّي.
فقال لابن الكبيّ: من قرأ: " ألا إنّهم تثنوني صدورهم " فقال له: أعزّك
الله، هذا يحسنه أبو حاتم. فقال لأبي حاتم: كيف تكتب كتاباً إلى أمير
المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة وما جرى عليهم العام في ثمارهم؟ فقلت
له: أعزّك الله، لست صاحب بلاغة وكتب، إنما أنسب إلى علم القرآن. فقال:
انظر إليهم، قد أفنى كلّ واحد منهم ستين سنةُ في فنٍّ واحد من العلم حتّى
لو سئل عن غيره لساوى فيه الجهّال، لكنّ عالمنا بالكوفة لو سئل عن هذا
كلّه أصاب. يعني الكسائيّ.
مختارات من الشعر والخبر
أنشدنا طلحة بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لمحمد بن وهيب:رُبما أبيت معانقي قمرٌ ... للأنس فيه مخايلٌ تضحُ
نشر الجمالُ على محاسنه ... بدعاً وأذهبَ همَّه الفرحُ
يختال في روق الشباب به ... مرحٌ وداؤك أنه مرحُ
ما زال يلثمني مراشفَه ... ويعلُّني الإبريقُ والقدحُ
حتّى استردَّ الليل خلعتَه ... ونشا خلال سوادِه وضَحُ
وبدا الصَّباح كأنّ غرّته ... وجهُ الخليفة حين يمتدحُ
أنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلبٌ عن ابن الأعرابي لعمرو بن شأس:
وكأْسٍ كمستدمي الغزال مزجتُها ... لأبيضَ عصَّاءِ العواذل مفضالِ
كأنّ رداءيه إذا قام علِّقا ... على جذع نخلٍ لا ضئيلِ ولا بالِ
يدرُّ العروقَ بالسِّنان وظنُّه ... يضيء العمى في كلِّ ليلةِ بلبالِ
وقال أوس بن حجر في هذا المعنى:
الألمعّي الذي يظُنّ لك الظ ... نَّ كأنْ قد رأى وقد سمعا
أخذه ابن الرومي فقال:
ألمعيُّ يرى بأوّلِ رأيٍ ... آخرَ الأمرِ من وراء المغيب
أنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا أحمد بن يحيى عن بن الأعرابيّ لرؤبة في أبي مسلم:
ما زال يأْتى الأمر من أقطارِه ... من اليمين وعلى يسارهِ
مشمِّراً ما يصطلَى بنارِه ... حتّى أقرّ الملك في إقراره
أنشدنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: من مليح ما قيل في شكوى الدمع قول محمد بن عبد الله بن طاهر:
وأعجبُ ما في الدّمع عصيانُ وقته ... وطاعتُه أوقاتَ من يتفقَّدُ
إذا قلتُ أسعِدْ لم يُغثني وإن أقُلْ ... له كفّ عني نمَّ والقومُ شهَّدُ
وأنشدني أبو بكر محمد بن يحيى لنفسه في هذا المعنى:
أرابكَ دمعٌ إذْ جرى فحملتني ... من الضُرِّ والبلوى على مركبٍ
صعبِ
فلا تُنكرنْ لونَ الدُّموع فإنّما ... يبيِّضُها تصعديها من دم القلبِ
أنشدنا أبو بكر قال: أنشدنا المغيرة لبعض اللصوص:
وركبٍ بأبصار الكواكب أبصروا ... ضلالَ المهارَي فاهتدَوا بالكواكبِ
يكونون إشراقَ المشارقِ مرَةً ... وأخرى إذا آبوا غروبَ المغارب
من ها هنا أخذ أبو تمّام:
ألانَهمُ لُبْس الحمائل والسُّرى ... فلو عُقِدوا كانوا ليَانَ المناكِبِ
أنشدنا أبو بكر قال: أنشدنا يحيى بن علي قال: أنشدنا أبو هفّانَ وزعم أنها
من أحسن أشعار العرب:
منعَّمةً لم تلقَ بؤساً ولم تسرْ ... بعيراً ولم تضمُمْ وليداً إلى نحرِ
ولم تدرِ أيُّ الناس أعداءُ قومها ... وتمضي الليالي والشُّهورُ ولا تدري
سوى أن تصومَ الشهرَ فيمن يصومه ... وتسأَلَ عن يوم العروبة والنّحرِ
فلو كنتِ ماءً كنتِ ماءَ غمامةٍ ... ولو كنت مزْناً كنتِ من ثرَّةٍ بكرِ
ولو كنتِ لهواً كنتِ تعليلَ ساعة ... ولو كنتِ نوماً كنتِ تعريسةَ الفجرِ
كلفتُ بها عمري فلما تقطَّعتْ ... وسائلها ودّعتُ ما فات من عمري
أنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا أحمد بن يحيى:
طلبَ الأَبلقَ العقوقَ فلمَّا ... لم ينلْه أراد بيْضَ الأنوقِ
يقال أعقَّت الدابّة، إذا عظم بطنُها للحمل. والذّكر لا يكون عقوقا. وبيض
الأنوق بيضُ الرَّخم، يقال: إنّه لا يقدر عليه.
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا عبد الأول بن مريدٍ قال: أخبرنا
بن أبي سويّة عن العلاء بن جرير قال: قال خالد بن صفوان: استصغر الكبير في
طلب المنفعة، واستعظم الصَّغير في ركوب المضرّة.
قال: وكتب عتبة بن أبي سفيان إلى غلام له: لا تجفُ عن كثير مالي فيصغر،
ولا تغفل عن صغيره فيضيع، فإنه ليس يمنعني من كثير ما بيدي عن إصلاح
قليله! أنشدني أبو عليّ الآجُرِيّ لدعبل:
وداعُك مثل وداع الحياةِ ... وفقدُك مثل افتقاد الدِّيَمْ
عليك السَّلامُ فكم من وفاءٍ ... أفارقُ منك وكم من كرَمْ
أنشدني أيضاً لدعبل:
حنّطته يا نصر بالكافورِ ... وزففتَه للمنزل المهجورِ
هلاَّ ببعض خلاله حنّطتَه ... فيضُوع أفقُ منازلٍ وقبور
بالله لو بنسيم أخلاق له ... تُعْزى إلى التقديس والتطهيرِ
طيّبتَ من سكنَ الثرى وعلا الرُّبى ... لتزوّدوه عدّةً لنُشورِ
فاذهبْ كما ذهبَ الشباب فإنّه ... قد كان خير مجاورٍ وعشيرِ
واذهبْ كما ذهبَ الوفاءُ فإنّه ... عصَفَتْ به ريحَا صباً ودَبورِ
وأبيكَ ما أبّنتُهُ لأزيدَهُ ... شرفاً ولكن نَفثهُ المصدور
البحتريّ:
وإذا رأيت شمائل ابنَىْ صاعدٍ ... أدّتْ إليك شمائلَ ابنَيْ مخلَدِ
كالفرقدينِ إذا تأَمَّلَ ناظرٌ ... لم يَعْلُ موضعُ فرقدٍ عن فرقدِ
وقال في المعتزّ وذكر ابنه عبد الله:
قمر يؤمِّله الموالي للتي ... يقضي بها المأمولْ حقَّ الآمل
حَدَثٌ يوقِّره الحجى فكأنّما ... أخذ الوقارَ من المشيب الشاملِ
وللبندنيجيّ:
بأبي الوليدِ تولَّدتْ بدَعُ الندى ... ووَرَتْ زِناد المجد عن إصلادِ
كهلُ المروءَة والتجاربِ والحجى ... وفتَى النَّدم والعِلم والميلاد
في سنِّ مُقتبلٍ ورأي مجرِّبٍ ... وعزيمِ محتنِك وبذلِ جوادِ
وقال غيره:
بلغتَ لعشرٍ مضَتْ من سني ... ك ما يبلُغ الشَّمط الأشيبُ
فهمُّك فيها جسامُ الأمور ... وهمُّ لداتك أن يلعبوا
وفي معنى هذه أبياتٌ لحمزة بن بيضٍ في يزيد بن المهلّب مختارةٌ يقول فيها:
أقولُ لمّا رأيتُ محبِسَه ... وعضَّ منّى بالغارب القَتبُ
أُغلقَ دون السمَّاح والجود وال ... نَّجدةِ بابٌ خروجهُ أشِبُ
إن متَّ مات الندى يزيدُ فلا ... تُودِ ولا يُودِ بحرُك اللّجبُ
أصبحَ في قيدك السَّماحةُ وال ... امل للمعضلاتِ والحسَبُ
فزتَ بقِدح النَّدى على مهلٍ ... وقصَّرتْ دون سَعيك العربُ
يزيدُ أنت الربيعُ نأْمُلُه ... يرجوك منّا ذو الأهل والعَزَبُ
ابنُ ثلاثٍ وأربعينَ مضَتْ ... لا ضَرَعٌ واهنٌ ولا ثلِبُ
ولا بَطِرٌ إن تتابعَتْ نعمٌ ... وصابرٌ في البلاء محتسِبُ
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا الرياشي عن الأصمعي عن
العلاء بن أسلم عن رؤبة بن العجاج قال: أتيتُ النّساّبة البكريّ وكان من
أعلم العرب، فقال لي: من أنت؟ فقلت: ابن العجّاج. قال قصّرت وعرّفت، ما
أتى بك؟ فقلت: طلبُ العلم. فقال: لعلك كقوم يأتوننا، إن سكتنا لم يسألونا،
وإن حدّثناهم لم يفهموا عنّا. فقلت: أرجو ألاّ أكون منهم. قال: ما أعداء
المروءة؟ قلت: للعلم أتيت. قال: بنوعم السّوء، إن رأوا حسنة دفنوها، وإن
رأوا سيّئة أذاعوها. ثم قال: " إنّ للعلم آفةً ونكداً وهجنة. فآفته
نسيانه، وهجنته نشره في غير أهله، ونكده الكذب فيه " .
أخبرنا أبو عبد الله نفطويه قال: أخبرنا أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن
الأعرابي قال: كان يقال: ثمرة العلم حفظه.
قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: حدّثنا الرياشيّ قال:
حدّثنا العتبيّ عن أبيه قال: دخل الحارث بن نوفل بابنه عبد الله إلى
معاوية، فقال: ما علّمتً ابنك؟ قال: القرآن والفرائض. فقال: روّه من فصيح
الشّعر فإنه يفتّح العقل، ويفصّح المنطق، ويطلق اللسان، ويدلّ على المروءة
والشجاعة. ولقد رأيتني ليلة صفِّين وما يحبسني إلاّ أبيات عمرو بن
الإطنابة حيث يقول:
أبتْ لي عفّتي وأبى حيائي ... وأخذي الحمدَ بالثمّن الرَّبيحِ
وإعطائي على المكروه مالي ... وضربي هامةَ البطلِ المُشيحِ
وقولي كلَّما جشأتْ وجاشتْ ... مكانكِ تحمَدي أو تستريحي
لأدفعَ عن مآثرَ صالحاتِ ... وأحمى بعدُ عن عرضٍ صحيح
بذي شطَبٍ كلون الملح صاف ... ونفسٍ ما تقَرُّ على القبيح
أخبرني أحمد بن محمد بن الفضل النحويّ قال: أخبرنا محمد بن يزيد عن
الرياشي عن أبي عبيدة قال: قال أبو الأسود الدّؤلي: ليس بأعزّ من العلم،
وذلك بأن الملوك حكّامٌ على الناس، والعلماء حكّام على الملوك.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: أخبرنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا
الأصمعّي عن ..
قال: أخبرني أبي عن أحمد بن عبيد قال: قال يحيى بن خالد: أدركت أهل الأدب
وهم يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون ويتحفّظون.
أخبرنا أحمد بن الحسن التميمي قال: حدّثنا هشيم عن علي بن زيد عن سعيد بن
المسيّب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأسُ العقل بعد الإيمان
بالله مداراة الناس. وأهل المعروف في الدّنيا أهلُ المعروف في الآخرة.
وإنْ يهلك امرؤٌ بعد مشورة " .
أخبرني أبو روق الهزَّانيّ قال: أخبرنا أبو عمر بن خلاّد قال: حدّثنا عبد
الرحمن بن مهديّ عن سفيان الثّوري عن أبي الأغرّ عن وهب بن منبّه قال: "
مكتوبٌ في حكمة آل داود عليه السلام: يجب أن العاقل ما لم يكن مغلوباً على
عقله أن يجعل نهاره أربع ساعات: ساعةً يناجي فيها ربّه، وساعةً يحاسب فيها
نفسه، وساعةً يفضي فيها إلى إخوانه الذين يعرفون عيوبه، وينصحون له في
أموره، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلّي بين نفسه ولذاتها فيما يحلّ ويجمل
فإنّ في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات. وحقٌّ على العاقل ألاّ يظعن
إلا في إحدى ثلاث: إصلاح لمعاد، أو مرمةٍ لمعاش، أو لذّة في غير محرّم.
وعلى العاقل أن يكون حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه، بصيراً بأهل زمانه.
أخبرني أبي قال: أخبرني أحمد بن طاهر قال: قال الحسن بن سهل: العقلُ
الوقوفُ عند مقادير الأشياء قولاً وفعلاً.
قال: وسئل الحسن بن سهل عن البلاغة فقال: قال لي المأمون: ما البلاغة:
فجعلت أفكّر فقال: دعني أقول لك، هو ما فهمته العامّة، ورضيته الخاصّة.
قال: وما سمعت في هذا المعنى أحسن من هذا.
وقال معاوية لصحار العبديّ: ما البلاغة؟ فقال: أن تقول فلا تبطئ، وتصيب
فلا تخطئ.
أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا الحسن بن خضر قال: أخبرنا أحمد بن
الحارث عن المدائني قال:
دخل عبد الملك بن مروان على معاوية فسلّم وجلس، فلم يلبث أن نهض،
فقال معاوية: ما أكمل مروة هذا الفتى: فقال عمرو: إنّه أخذ بأخلاق أبيه
وترك أخلاقاً ثلاثاً: أخذ بأحسن البشر إذا لقى، وبأحسن الحديث إذا حدّث،
وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر المروّة إذا خولف، وترك مزاح من لا يثق
بعقله، وترك الكلام فيما يعتذر منه، وترك مخالطة لئام الناس.
أخبرني أبي قال: أخبرني عسل بن ذكوان قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل قال:
حدّثنا أبو ربيعة قال: حدّثنا معقل بن عيسى أخو عيسى بن دلف قال: كانت
العرب تقول: من لم يكن عقله من أوفر ما فيه كان هلاكه من أخسّ ما فيه.
قال: فحدّثت بذلك المدينيّ فقال: عندي مثله. كانت العرب تقول: من كانت فيه
خلّةٌ أرجح من عقله فبالحري أن تكون سبب منيّته.
قال: فصرت إلى محمد بن القاسم بن يوسف فحدّثته بهما فقال: عندي ثالثة عن
العرب، كانت تقول: من لم يكن في أغلب خصال الخير عليه عقله كان في أغلب
الخصال عليه حتفه.
فحدّثت أبا دلف فقال: عندي شيء وليس شيء يشبه هذا. كانت العرب تقول: كلّ
شيء كثر رخص، ما خلا العلم فإنّه كلّما كثر غلا.
أخبرنا أبي قال: أخبرنا عبد الله بن الفضل السدوسّي قال: جاء رجلٌ فاستأذن
على ابن المقفّع، فخرجت إليه جاريته فقالت: إنّه شرب الدواء. فقال: إنّي
من أصحابه. فقالت: لو كنت من أصحابه لقعدت عنده كما قعد أصحابه. قال:
فإنّي رجل له حاجةٌ. فقال ابن المقفّع: أدخليه وقولي له فليوجز. فدخل
فقال: ما حيلة من لا حيلة له؟ قال: الصّبر. قال: فما خير ما يصحب المرء؟
قال: العقل. قال: فإنْ حرم ذلك؟ قال: فصمتٌ طويلٌ إذا جالس الناس. قال:
فإن حرم ذلك؟ قال: فليمت إذا شاء! أخبرنا أبو عبد الله نفطويه قال: أخبرنا
أحمد بن يحيى قال: قال قيس بن زهير حين تزوّج إلى النّمر بن قاسط: إنّي
موصيكم بخصالٍ وناهيكم عن خصال. عليكم بالأناة فإنّ بها تنال الفرصة،
وبتسويد من لا تعابون بتسويده. وعليكم بالوفاء فإنّ به يعيش الناس.
وأنهاكم عن الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وعن منع الحرم إلاّ من الأكفاء، فإن
لم تصيبوا لها الأكفاء فإنّ خير منازلهنَّ القبور. وانتهزوا الفرصة فإنه
قلّ مقصّر فيها يسلم من الندامة عليها.
أخبرنا الجوهريّ قال: أخبرنا ابن أبي سعيد قال: حدثني عمر بن خالد قال:
لمّا اشتدّ بحصن بن حذيفة بن بدر الفزاريّ وجعه من طعنةٍ أصابته دعا ولده
فقال: الموت أهون ما أجد، فأيّكم يطيعني فيما آمره به؟ فقالوا: كلّنا
مطيع. فبدأ بأكبرهم فقال: قمْ فخذ سيفي فاطعن حيث آمرك به. فقال: يا
أبتاه، هل يقتل المرء أباه؟ فأتى على القوم فكلّهم يقول نحوه، حتى انتهى
إلى عيينة بن حصن فقال: يا أبتاه، أليس لك فيما تأمرني راحة، ولي بذلك
طاعة، وهو هواك؟ قال: بلى، فقمْ فخذ سيفي فضعه حيث آمرك ولا تعجل. فقام
فأخذ السيف فوضعه على قلبه، فقال: مرني يا أبتاه كيف أصنع؟ فقال ألق
السّيف، إنّما أردت أن أعلم أيكم أمضى لما آمره به، فأنت خليفتي ورئيس
قومك من بعدي ثم قال:
ولًّوا عيينة من بعدي أمورَكم ... واستيقنوا أَنّه بعدي لكم حامي
إمّا هلكتُ فإنّي قد بنيتُ لكم ... عزَّ الحياة بما قدّمت قدّامي
حتّى اعتقدتُ لوا قومي فقمتُ به ... ثمَّ ارتحلتُ إلى الجفْنّى بالشامِ
لمّا قضى ما قضَى من حقِّ زائرِه ... عجتُ المطيّ إلى النّعمان من عامي
فابنُوا ولا تهدموا فالناسُ كلُّهم ... من بين بانِ إلى العُليا وهدّامِ
والدَّهر آخِرُه شبهٌ لأوّله ... قومٌ كقومٍ وأيّامٌ كأيامِ
ثمّ أصبح فدعا بنى بدر فقال: لوائي ورياستي لعيينة، واسمعوا منّي
ما أوصيكم به، لا يتّكل آخركم على أوّلكم، فإنّما يدرك الآخر ما أدرك به
الأوّل، وانكحوا الكفىّ الغريب فإنّه عزٌّ حادث، واصحبوا قومكم بأجمل
أخلاقكم، ولا تخالفوا فيما اجتمعتم عليه، فإنّ الخلاف يزري بالرئيس
المطاع. وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدراً وإن كان مورده معروفاً.
وإذا حاربتم فأوقعوا بحدٍّ وجدّ، ثم قولوا الحقَّ، فإنّه لا خير في الكذب.
واغزوا بالكثير الكثير، فإني بذلك كنتُ أغلبُ الناس. وعجِّلوا بالقرى فإنّ
خيره أعجله. ولا تجترئوا على الملوك فإنّهم أطول أيادي منكم. ولا تغزوا
إلاّ بالعيون، ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصّباح. وإياكم وفضحات البغي،
وغلبات المزاح.
أخبرنا أبي قال: أخبرني أبو عليّ قال: أخبرنا النّوشجانُ قال: قال ابن
شبرمة: ما رأيتُ على امرأةٍ لباساً أجمل من سمن، وما رأيت على رجل لباساً
أحسن من فصاحة.
إذا سرّك أن يصغر في عينك من كان عندك عظيماً، وتعظم في عين من كنت عنده
صغيراً فتعلّم العربيّة، فإنها تجرّيك على المنطق، وتدنيك من السلطان.
أخبرنا أبي قال: أخبرنا أبو عليّ قال: قال حفص بن غياث قال: وجه إلينا
عيسى بن موسى ليلاً فصرنا إليه، والجند سماطان، وقد امتلأنا رعباً منه،
فقال: ما دعوتكم إلاّ لخيراً. فزالت هيبته من قلوبنا لقبح لحنه.
أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا الرياشيُّ عن العتبيّ قال: قال زيادٌ:
إنّي رأيتُ خلالاً ثلاثاً نبذْتُ إليكم فيهنَّ النَّصيحة. رأيت إعظام ذوي
الشَّرف، وإجلال ذوي العلم، وتوقير ذوي الأسنان. والله لا أوتي بوضيعٍ لم
يعرف لشريف شرفه إلاّ عاقبته له، ولا يأتيني كهلٌ بحدث لم يعرف له فضل
سنّه على حداثته إلاّ عاقبته له، ولا يأتيني عالم عاقلٌ بجاهل لم يعرف له
فضل علمه على جهله إلاّ عاقبته له. فإنّما الناس بعلمائهم وأعلامهم وذوي
أسنانهم! ثم تمثّل:
تهدى الأمور بأهل الرأْي ما صلحت ... فإن تولَّتْ فبالأشرار تنقادُ
لا يصلح الناس فوضى لا سراةَ لهم ... ولا سراةَ إذا جُهّالهم سادوا
أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال: سمعت
أعرابياً يصف رجلاً يصحب السًّلطان فقال: كان لا يغترُّ بالسُّلطان إذا
رضوا عنه، ولا يستثقل ما حمّلوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يجترئ إذا
أكرموه، ولا يطغى إذا سلّطوه، ولا يبطر إذا رفعوه.
وقال غيره: حقُّ من يصحب السّلطان أن يدخل إليهم أعمى ويخرج من عندهم أخرس.
يعني أنّه يغضي ويكتم.
أخبرنا الحسن بن أحمد بن بسطام أخبرنا بن أبي الشّوارب القاضي قال: أخبرنا
جابر بن عبد الله عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " أعن أخاكَ ظالماً أو مظلوماً " قلنا يا رسول الله نعينه إذا
كان مظلوماً فكيف نعينه إذا كان ظالماً؟ قال: " تمنعه من الظّلم، فذلك
نصرك إيّاه " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: حدّثني الطيّب بن محمد الباهليّ قال:
أتى الرشيد عمرو بن سعيد بن سلم، وكان في حرسه، فقال له الرشيد: من أنت؟
فقال: عمرو عمّرك الله يا أمير المؤمنين، ابن سعيدٍ أسعدَ الله جدّك، ابن
سلم سلَّمك الله. فقال: أنت تكلؤنا منذ الليّلة. فقال: الله يكلؤك وهو
خيرٌ حافظاً. فقال: يا عمرو،
إنّ أخاك الصّدق من يسعى معك ... ومن يضرُّ نفسه لينفعك
ومن إذا صرف زمان صدعك ... شتّت شملَ نفسه ليجمعك وإن غدوت ظالماً غدا معك
أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا الحسنُ بن خضر عن الرياشيّ قال: قال
عليّ بن أبي طالب عليه السلام: كفى بالعالم شرفاً أنّه يدّعيه من لا
يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه. وكفى بالجهل خمولاً أنه يتبرأ منه من هو
فيه، ويغضب منه إذا نسب إليه. قال: وقال بزرجمِهْر: عجبتُ ممن فاز بالأدب
أيّ شيء فاته! سرق هذا الكلام العطويّ فقال في قصيدة:
فلو قايضوا لم نعطِ علماً بثروةٍ ... ولم نر للتَّمييز كفْواً من المال
ومن أمثال العرب: " كلُّ من أقامَ شخص، وكلّ من زاد نقص، ولو كان يميت
الناس الداء لأحياهم الدواء " .
فأخذه أبو العتاهية فقال: " أسرعَ في نقص امرئ تمامه " وقال غيره:
إذا تمَّ أمرٌ بدا نقصُه ... توقَّعْ زوالاً إذا قيل تمّ
ومما يقرب من هذا المعنى ما أخبرنا به محمد بن يحيى قال: أخبرنا الغلاميّ
عن ابن عائشة قال: قلتُ لأبي يوماً: حدثني حماد بن سلمة عن حميد عن ثابت
عن أنس، أن النبي عليه السلام قال: " وكفى بالسلامة داء " فقال لي: يا
بنيّ ما كنت أراه مسنداً إلى النبي عليه السلام، فقد قال حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبُك داءً أن تصحَّ وتسلما
وقال النمر بن تولب:
يودُّ الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامة يفعل
وقال غيره:
كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباحُ والإمساءُ
ودعوت ربِّي بالسلامة جاهداً ... ليُصحَّني فإذا السلامةُ داءُ
أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا الرياشيُّ قال: قيل لأعرابيّ: كيف
حالك؟ فقال: ما حال من يفنى ببقائه، ويسقم بسلامته، ويؤتي من مأمنه.
أخذه الناجم فقال:
هل موئلٌ من شهاب الدهر ينجينا ... أيٌّ وما نتّقيه كامنٌ فينا
إنَّ الغذاءَ الذي نحيا به زمناً ... يعود آونةً داءً فيفنينا
وأخذه أيضاً ابن الروميّ فقال:
لعمرك ما الدُّنيا بدار إقامة ... إذا زال عن عين البصير غطاؤها
وكيف بقاءُ النفس فيها وإنمّا ... ينال بأسباب الفناءِ بقاؤها
ونقله إلى موضع آخر فقال:
فإنَّ الداءَ أكثرَ ما تراه ... يكونُ من الطّعام أو الشَّرابِ
وقال أيضاً:
فإنّ الداء أكثر ما تراه ... من الأشياء تحلو في الحلوقِ
أنشدنا أبو بكرٍ ابن الأنباريّ قال: أنشدنا أحمد بن يحيى:
إذا ما القلَنْسِي والعمائُم أُخِّرت ... ففيهن عن صلع الرِّجال خشوعُ
فيا ليت أياما مضينَ رواجعٌ ... علينا وغربانٌ علىَّ وقوعُ
يعني أنَّ العمائم إذا أخِّرت عن الرءُوس وكُشفت ففيهنَّ يعني في النساء
عن صلْع الرجال خشوعٌ، أي إعراض. والقلنسي: جمع قلنسوة.
وسمعت أبا بكر يقول: في القلنسوة سبع لغات، يقال قلنْسُوة، وقُلَنْسِيَة،
وقُلَيسيَّة، وقُلَيْسَةٌ، وقُلَيْسِيَة، وقَلَنْساةٌ، وقَلْساة.
وقوله وغربانٌ عليّ يعني الشَّباب.
قال أوس بن حجر:
وإنّي وجدتٌ الناسَ إلاّ أقلَّهم ... خفافَ عهودٍ يكثرون التنقُّلا
وليس أخوك الدائمُ العهدِ بالذي ... يذمُّك إنْ ولَّى ويرضيكَ مُقْبلا
ولكنّه النائي إذا كنتَ آمناً ... وصاحبك الأدنى إذا الأَمُر أَعضلا
لم يُسبَق أوسٌ إلى هذا المعنى. وأخذه المرّارُ الفقعسِيُّ فقال:
إذا افتقر المرّارُ لم يُرَ فقرُه ... وإن أَيسَرَ المرّارُ أيسَرَ صاحبُه
وقال الهذلّي:
أبو جابرٍ قاصرٌ فقرُه ... على نَفْسِه ومُشيعٌ غِناه
إذا سدتَه سُدتَ مِطواعةً ... ومهما وكلتَ إليه كَفاه
أخبرنا أبو بكر قال: حدّثني أبو ذكوان قال: دخلت إلى إبراهيم بن العباس
وهو بالأهواز لخدمته، فقال لي: ما تقول في شعر النابغة:
ألم تر أنّ الله أعطاك سُورةً ... ترى كلَّ مَلْك دونها يتذبذب
بأَنك شمس والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبد منهنّ كوكب
فقلت: ما عندي إلاّ الظاهر المشهور. يقول: فضلك على الملوك كفضل الشمس على
الكواكب. فقال: تفهّم معناه قبل هذا فإنه يعتذر إلى النّعمان من مدحه آل
جفنة الغسّانيين وتركه له، ويريه أنَّ له في مدحهم عذراً إذا تركه
النعمان. ألا ترى إلى قوله:
ولكنّني كنتُ أمرأً ليَ جانبٌ ... من الأرض فيه مُسترادٌ ومذهبُ
ملوكٌ وإخوان إذا ما لقيتُهم ... أحُكَّمُ في أموالهم وأقرَّبُ
يدلّ على جلالة النابغة في قومه ونفسه قوله ملوك وإخوان
كفعلِكَ في قومٍ أراك اصطنعتَهم ... فلم تَرهم في مثل ذلك أذنبوا
يقول: لا تلمني على شكري لهم وقد أحسنوا إذْ لجأتُ إليهم وإن كانوا
أعداءك؛ فقد أحسنوا ولم يذنبوا. ثم قال: فاعملْ على أنّي أذنبتُ فمن أين
تجد من لا يذنب؟ فقال:
فلستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمُّه ... على شعثِ أي الرِّجال المهذَّبُ
فإنْ أكُ مظلوماً فعبدٌ ظلمتَه ... وإن تك ذا عتْبي فمثلْك يُعنِبُ
يقول: مثلك يعفو أو يحسن وإن كان عاتباً، وفي كرمك ما تفعلُ ذلك،
ولك العتبي والرجوع إلى ما تحبّ. ثم فضّله عليهم فقال:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورةً ... ترى كلَّ ملكٍ دونها يتذبذبُ
بأنّك شمس والملوك كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
يقول: ما صلحتَ أنتَ لي فإنيّ لا أريد غيرك من الملوك، كما أنّ من طلعّتْ
عليه الشَّمس لم يحتجْ إلى النُّجوم.
قال أبو ذكوان: وما رأيت أعلم بالشعر منه، ثم قال: لو أراد كاتبٌ بليغ أن
ينثر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به إلاّ في أضعاف كلامه. وكان
يفضّل هذا الشّعر على جميع أشعار الناس.
وقد سبق النابغة إلى هذا المعنى بعضُ شعراء كندة فقال يمدح عمرو بن هند:
تكاد تميد الأرضُ بالناس إن رأوا ... لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتبُ
هو الشمسُ وافتْ يوم سعدٍ فأفضلَتْ ... على كلِّ ضوءٍ والملوك كواكبُ
وقالت صفيّة الباهلية:
أخنَى على مالك ريبُ الزّمان ولا ... يُبقى الزّمانُ على شيءٍ ولا يَذرُ
كنا كأنجُمِ ليل بيننا قمرٌ ... يجلو الدُّجى فهوى من بينها القمرُ
وقال جرير يرثي عبد الملك:
إن الخليفةَ قد وارت شمائلَه ... غبراءُ ملحودةٌ في جوزها زورُ
أمسَى بنوه وقد جلّت مصيبتُهمِ ... مثلَ النجوم خلا من بينها القمرُ
وقال نصيب وأخذَ المعنى من النابغة:
هو البدر والناس الكواكبُ حوله ... وهل يشبه البدرَ المضئ الكواكبُ
وأخذه أبو تمام فقال:
كأنّ بَني نبهانَ يومَ وفاته ... نجومُ سماءٍ خرَّ من بينها البدرُ
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: سأل البحتري أبي رحمه الله حاجةً فوعده
أن يركب فيها يوم الخميس فيقضيها، فتأخَّرَتْ مديدةً، فكتب إليه قصيدةً
منها:
لم ترْعَ لي حقَّ القرابة طيّئٌ ... فيها ولا حقَّ المودّة فارسُ
ووعدتَني يوم الخميس وقد مضى ... من دون موعدك الخميس الخامسُ
قال: وأنشدني أبو موسى الهاشميُّ لديك الجنّ:
وكان الموعدُ السبتَ ... فجازوهُ بيومينِ
بحقّ أبغَضَ الشِّيعَ ... ةُ عندي يومَ الاثنين
وأنشدني غيره لديك الجن من أبيات:
قامت مذكَّرةً، وقام مؤنَّثاً ... فتنازعا المهجاتِ باللحظيْن
صُبّا عليّ الكأْسَ إنّ هلالنا ... قد صبَّ نعمته على الثَّقَلينِ
لا زال من بُغض الصّيام مبغّضاً ... يومُ الخميس إليّ والاثنين
وقال غيره:
لم أزَل أُبغض الخميس ولم أد ... رِ لماذا حتّى دهاني الخميسُ
قال أعرابيّ:
وبيت ليس من شعَر وصوف ... على ظهر المطيّة قد بنيتُ
ولحمٍ لم يذُقه الناسُ قبلي ... أكلتُ على خَلاءٍ واشتويت
يعني عملت بيت عر والثاني أنّه أكل لحم شيءٍ لا يؤكل لحمه.
وهي أبياتٌ مختارةٌ أنشدَنيها أبو بكر المعروف بالمبرمان قال: أنشدَني
الأَخثى قال: أنشدني المازني:
ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ ... ولولا حبُّ أهلكَ ما أتيتُ
ألا يا بيتُ أهلكَ أوعدوني ... كأنّي كلَّ ذنبهم جنيتُ
إذا ما فاتني لحمٌ غريض ... ضربتُ ذراعَ بَكري فاشتويتُ
وكنت إذا أرى رِقّاً مريضا ... يناح على جنازته بكيتُ
أهل البصرة يقولون جنازة وجنازة جميعاً: السرير. وأهل بغداد جنازة بالفتح:
الميت، وبالكسر: السَّرير.
أرجَّل جمّتي وأجرُّ ذيلي ... ويَحمل بِزًّتي أحوى كُميتُ
أمشِّى في سراة بنى غطيف ... إذا ما سامَني ضيمٌ أَبيتُ
وسوداءِ المَحاجر إِلفِ صَخْر ... تلاحظني الترقّبَ قد رميتُ
ولحمٍ لم يذُقه الناس قبلي ... أكلت على خلاءٍ وانتقيتُ
وماءٍ ليس من عدٍّ رواءٍ ... ولا ماءِ السماءِ قد استقيتُ
وتامورٍ هرقتُ وليس خمراً ... وحبّةِ غير طاحنةٍ قضيتُ
يعني أنه هَراق دماً. أراد حاجةً كقولك: اجعلْه في حبّة قلبك.
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: حدّثنا الغلاّبي قال: حدثنا محمد بن عبد
الرحمن التميمي قال:
دخل بشارٌ إلى إبراهيم بن عبد الله، فأنشده قصيدة يهجو فيها
المنصور، ويشير عليه برأي يستعمله في أمره، فلما قتل إبراهيم خاف بشارٌ
فقلب الكنية وأظهر أنّه قالها في أبي مسلم، أولها:
أبا مسلم ما طول عَيشٍ بدائمِ ... وما سالمٌ عما قليل بسالمِ
على الملك الجبّار يقتحم الرّدَى ... ويصرعه في المأزِقِ المتلاحِم
كأّنك لم تَسمع بقتل متوّجٍ ... عظيم ولم تعلمْ بقتل الأعاجم
تقسّمَ كسرى رهطُه بسيوفهم ... وأمسَى أبو العباس أحلام نائم
وقد تردُ الأيّامُ غرّاً ورُبّما ... ورَدْن كلوحاً بادياتِ الشكائم
ومروان قد دارت على رأْسه الرحَى ... لإجرامه لا بلْ قليل الجرائم
وأصبحتَ تجري سادراً في طريقهم ... ولا تتّقى أشباه تلك النقائم
تجرّدتَ للإسلام تعفو سبيله ... وتُعري مطاهُ للُّيوث الضَّراغم
فما زلتَ حتّى استنْصَرَ الدينَ أهلُه ... عليكَ فعادوا بالسيوف الصوارم
لحا الله قوماً رأَّسوك عليهم ... وما زلتَ مرءوساً خبيثَ المطاعم
أقول لبسّامٍ عليه جلالةٌ ... غدا أريحيا عاشقاً للمكارِم
من الفاطميِّين الدُّعاةِ إلى الهدى ... جِهازاً ومن يهديك مثل ابن فاطم
إذا بلغَ الرأْىُ المشورةَ فاستعِنْ ... برأي تصيحٍ أو نَصَاحة حازمِ
ولا تجعل الشُّورى عليك غضاضةً ... فإنّ الخوافي قوّةٌ للقوادم
وما خير كفٍّ أمسَكَ الغُلُّ أختها ... وما خير سيفِ لا ينوءُ بقائم
وخلِّ الهُوَيني للضعيف ولا تكن ... نؤوماً فإن الحزم ليس بنائم
وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة ... شبا الحرب خيرٌ من قبول المظالم
قال أبو بكر: فحدّثني الجمحيّ قال: سمعت المازنَّي يقول: سمعت أبا عبيدة
يقول: ميميةُ بشّار هذه أحبُّ إليّ من ميميّتي جرير والفرزدق: أخبرنا أبو
بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا الرياشيّ قال: سمعت الأصمعي يقول:
قلت لبشّار: ما أحسن أبياتاً قلتها في المشورة: وأنشدتُه
إذا بلغَ الرأْيُ المشورةَ فاستعِن ... برأْي نصيحٍ أو نصاحة حازمِ
ولا تَجعل الشُّورى عليك غضاضةً ... فإنّ الخوافي قوّةٌ للقوادم
وخلِّ الهُوَيني للضَّعيف ولا تكنْ ... نؤوماً فإنّ الحزمَ ليس بنائم
فقال لي: إنّ المستشير بين صوابٍ يفوز بثمره أو خطإ يشارك في مكروهه:
فقلت: هذا والله أحسنُ من الشِّعر.
أنشدنا أبو بكر بن دريد قال: أنشدنا الأشنانداني:
خليليَّ ليس الرأْيُ في صدر واحد ... أشيرا عليَّ اليومَ ما تريان
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن زياد الزياديّ قال: حدّثني محمد
بن سفيان قال: كان سلمة بن عيّاش العامريُّ مولىً لبنى عامر بن لؤيّ،
والناسُ يعُدُّونه منهم لجلالته وعلمه، وكان صديقاً لمحمدٍ وجعفر ابنى
سليمانَ لا يفارقهما، وكان ذا مروّة، فلزمه دينٌ فبلغ ذلك محمداً وجعفراً
فقضياه عنه فقال:
أرقت فطالت ليلتي بأبانِ ... لبرقٍ سرَى بعد الهدوِّ يمانِ
وما زلت أرجو جعفراً ومحمدا ... لأفضلِ ما يُرجَى له أَخَوانِ
وردتُ خليجَيْ جعفر ومحمدٍ ... فكلٌّ بريٍّ من نداهُ سقاني
فقال له جعفر وكان أوطأ أخلاقاً من محمد: قدّمتني عليه في الشعر: فقال له:
أصلح الله الأمير، إنّ العطف بالواو إذا كان كذا جاز أن يكون المقدَّم
مؤخَّراً والمؤخَّر مقدَّما. فلما سمع محمد قوله: لأفضل ما يرجى له أخوان
قال له محمد: وأنت والله لنا أخٌ وصديق. فقال سلمة: بل وليٌّ وصنيعةٌ، هذا
إذا كان السُّوقة كالسلطان، وقريشٌ كهاشم، والموالي كالصُّرحاء. فقال له
محمد: أنت والله أخص بنا وأكثر عندنا من النابغة عند النعمان بن المنذر
وقد قال له يعني آل جفنة، وهم ملوك الشام:
ملوكٌ وإخوانٌ إذا ما لقيتُهم ... أحكَّم في أموالهم وأقرَّبُ علمك يا
سلمة الذي أحلّك منا هذا المحلّ
ومثل قول النابغة قول أشجع السّلميّ:
لا تعذلوني في مديحي معشراً ... خطبوا المديحَ إليَّ بالأموالِ
يتزحزحون إذا رأوني مقبلاً ... عن كل متّكإ من الإجلال
ومثله ما أنشدنا محمد بن يحيى قال: أنشدنا أبو ذكوان عن التّوّجي لزياد
الأعجم:
سألناه الجزيل فما تلكّا ... وأعطى فوق مُنيتنا وزادا
مراراً لا أعود إليه إلاّ ... تبسَّمَ ضاحكاً وثنى الوسادا
ومثله قول كثيّر، يعني عبد الملك وعبد العزيز، ابني مروان:
ما أعطياني ولا سألتهما ... إلاّ وإنّي لحاجزِي كرمي
مبدِي الرضا عنهما ومنصرفٌ ... عن بعض ما لو سألتُ لم ألَمِ
ومثله أيضاً ما أنشدناه عن التّوّجي:
ما زلت تحسنُ ثم تحسن عائداً ... فأعودُ شاكرَ نعمةٍ فتعودُ
قال: وأنشدنا المبرّد لمحمد بن وهيبٍ نحوه:
وما زلتُ كنتَ في نعمةِ ... يقلِّبني الدهرُ في خَفضِهِ
وأنزل من ملكٍ قادر ... بمنزلة البعضِ من بعضه
أخبرنا محمد بن القاسم الأنباريّ قال: أخبرنا العنزيّ قال: حضر مروان بن
أبي حفصة، قيل: قل لا إله إلا الله. فقال:
تبقى قَوافي الشِّعر ما بقيتُ ... والشِّعر منسيٌّ إذا نَسِيتُ
لم يحَظَ في الشِّعر كما حظِيتُ ... جمعٌ من الناس ولا شتيت
كم مَلكِ حُلَّتَه كًسِيتُ ... ومِن سَريرِ مُلكهِ أُدنيتُ
إن غبتُ عن حضرته دعُيتُ ... وإن حضرتُ بابه حُيِّيتُ
ثم خرجت نفسه.
أخبرنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى قال: حدّثني المغيرة بن محمد عن
المدائني قال: قدم عبد الملك بن مروان الكوفة، فجلس يعرض أحياءَ العرب
للبيعة، فقام إليه معبد بن خالد الجديليّ، وكان قصيراً دميماً، وقام إليه
رجلٌ طريرٌ حسن الهيئة. قال معبد: فكان الرجل أمامي فنظر عبد الملك إلى
الرجل فقال: مّمن أنتم؟ فسكت الرجل، فقلت أنا من خلفه: من جديلة. فأقبل
على الرجل وتركني فقال: من أيّكم كان ذو الإصبع؟ فقال الرجل: لا أدري.
فقلت: يا أمير المؤمنين، كان عدوانياً. قال: من أيّهم؟ قال: لا أدري.
فقلت: من بنى رهم بن ناج. قال: فأنشدني قوله:
أبعدَ بني ناجٍ وما كان منهم ... فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا
فأضحوا كظهر العَود جبَّ سنامُه ... يطيف به الوِلدانُ أحدبَ باركا
فأقبل على الرجل فقال: ولم سُمّى ذا الإصبع؟ فقال الرجل: لا أدري. فقلتُ:
نهشته في إصبعه حيّةٌ. فأقبل على الرجل فقال: وما كان يسمّى قبل ذلك؟
فقلت: كان يسمّى حرثان. فأقبل على الرجل وتركني فقال: أنشدني:
عذيرَ الحيّ من عدْوا ... ن كانوا حيّةَ الأرضِ
فقال الرجل: لستُ أرويها. فقلت: إن شئتَ يا أمير المؤمنين أنشدتك. فقال:
ادنُ منّي فإنّي أراك أديباً لسنا. فدنوتُ منه، فقال: أنشدني. فأنشدته:
عذيرَ الحيّ من عدوا ... ن كانوا حيّةَ الأرضِ
بغي بعضُهُم بعضاً ... فلم يرعُوا على بعضِ
ومنهم كانت السادا ... ت والمُوفون بالقرضِ
ومنهم حكَمٌ عدلٌ ... فلا يُنقَض ما يمضِي
وما للمرءِ من شيءٍ ... من الإبرام والنَّقْضِ
فقال عبد الملك لصاحبي: كم عطاؤك؟ قال: سبع مئة. ثم قال لي: كم عطاؤك؟
قلت: أربع مئة. قال: أنت أحقّ بالسبع مئة، خذوا من عطاء هذا ثلاث مئة
فزيدوها في عطاء هذا. فانصرفت وعطائي سبع مئة وعطاء صاحبي أربع مئة.
قال: فرغب الناس منذ يومئذ في الأدب.
أخبرنا الهزّاني قال: أخبرنا الرياشيُّ قال: قال: سفيان بن عيينة قال: قال
عمرو بن مرّة: لا أكره أن أقول المثل من القرآن فلا أعرفه لأنّ الله عزّ
وجلّ يقول: " وما يعقلها إلاّ العالمون " أخبرنا أحمد بن محمد بن الفضل
الأهوازي قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد الشافعي قال: حدّثنا إسحاق بن
إبراهيم عن الهيثم بن عديّ عن ابن غياث عن الشعبي قال: قال معاوية: عشرة
أعمال لا يعملها إلاّ الشَّريف المسُّ العاقل الذي قد عضَّ على ناجذه:
الثَّغْر، والمنبر. والصائفة، والموسم، والشًّرط، وبيت المال، والسَّقاية،
ودار الرِّزْق، والقضاء، والعشور.
أخبرنا الهزّاني قال: حدثنا الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: كان يقال: الرجال
ثلاثة، فرجلٌ مسلم عفيفٌ يورد الأمور مواردها، ويصدرها مصادرها، فذلك رجل
نفسه. وآخر لا رأى له ولكنّه يشاور أهل اللبّ والرأي، وينتهي إلى ما يقال
له، فذلك نصف رجل. وآخر حائر بائر لا رأي له ولا يأتمر للرُّشد ولا يطيع
المرشد.
أخبرني أبي قال: أخبرنا عسل بن ذكوان قال: حدّثنا ابن أخي الأصمعيِّ عن
عمه قال:
تقول الرواة والعلماء: من أراد الغريب فعليه بشعر هذيل ورجز رؤبة
والعجّاج، وهؤلاء يجتمع في شعرهم الغريب والمعاني. ومن أراد الغريب من شعر
المحدّث ففي أشعار ذي الرّمّة. ومن أراد الغريب الشديد الثّقة ففي شعر ابن
مقبل، وابن أحمر، وحميد بن ثورٍ الهلاليّ، والراعي، ومزاحمٍ العقيليّ. ومن
أراد النسيب والغزل من شعر العرب الصّلب فعليه بأشعار عذرة والأنصار. ومن
أراد النَّسيبَ من الشعر المحدث ففي شعر ابن أبي ربيعة والحارث بن خالد
المخزومي والطبقة الذين مع هؤلاء. ومن أراد طرف الشعر وما يحتاج إلى مثله
عند محاورة الناس وكلامهم فذلك في شعر الفرسان.
ويقال: أشعر الفرسان دريد بن الصّمّة، وعنترة، وخفاف بن ندبة، والزّبرقان
بن بدر، وعروة بن الورد، ونهيكة بن إساف، وقيس بن زهير، وصخر بن عمرو،
والسّليك بن سلكة، وأنس بن مدركة، ومالك ابن نويرة، ويزيد بن الصّعق ويعدّ
من الفرسان وفي الأشراف، ويزيد بن سنان بن أبي حارثة.
أنشدنا أبي رحمه الله قال: أنشدنا أبو عمرو الجرجانيّ الكاتب:
رأيتكم بقية حيّ قيس ... وهضبتها التي فوق الهضابِ
تُبارُون الرِّياحَ إذا تبارت ... وتمتثلون أفعال السَّحاب
أنشدني أبو عليّ الحسن بن يزداد قال: أنشدني هارون بن محمد بن عبد الملك
الزيات قال: كنت عديل الزّبير بن بكّار في طريق مكّة، فنظرَ إلى الطريق ثم
أنشد:
ألا تلكما أعلامُ بثنة قد بدتْ ... كأنّ ذراها عمّمتْ بسبيبِ
طَوامس لي من دونهنّ مودّة ... ولي من وراء الطامساتِ حبيبُ
بعيدٌ على من ليس يطلب حاجةً ... وأمّا على ذي حاجة فقريبُ
أنشدنا إبراهيم بن الزُّغل العشمي قال: أنشدنا المبرد قال: سمعت أمَّ
الهيثم وقد سئلت: أينَ منزلك؟ فقال:
أما على كسلان فان فساعة ... وأما على ذي حاجةٍ فقريبُ
ثم أنشدت:
بعيدُ على من ليس يطلب حاجةً ... وأمّا على ذي حاجة فقريبُ
أخبرني عمي رحمه الله قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: سمعت أبا محلّم
السعدي يقول: دخلت إلى أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا: كيف
تجدك؟ فقال:
شاع فيَّ الفناءُ سُفلاً وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا
ليس من ساعة مضَت بيَ إلاّ ... نقصتني بمرِّها بيَ جزْوا
ذهبَتْ جدَّتي بطاعة نفسي ... وتذكّرت طاعة الله نِضْوا
قد أسأْنا كلَّ الإساءَة فاللَّ ... هُمَّ صفحاً عنّا وغَفراً وعفوا
فلما خرجنا من عنده قيل لنا: مات وأخبرني عمّي قال: أخبرنا أبو إسحاق
الشيبانيّ عن ابن أبي طاهر قال: حضر عبد الله بن العباس الطالبيّ وهو شيخ
أهله باب يحيى بن خالد، فعرف الحاجب مكانه، فخرج فلما رآه أطرق، فقال عبد
الله بن العباس: لو أذن لنا في الدخول دخلنا، ولو أمرنا بالانصراف
انصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا. فأما الفترة بعد النظرة، والتوقّف بعد
التعرّف فلا أعرفها. ثم لوى رأس حماره وأنشأ يقول:
وما عن رضاً كان الحمار مطيّتي ... ولكن من يمشي سيرضى بماركبْ
أخبرنا أبو بكر ابن عبدان القاضي قال: حدّثنا عسل بن ذكوان قال: حدثنا
الرياشّي عن محمد بن سلاّم قال: لمّا طعن أبو ثور الأسديّ صخراً أخا
خنساءَ، فأدخلَ حلقَ الدّرع في جوفه، مرض زماناً فجعل ينفث الدمَ وينفث
معه حلقَ الدّرع، وكانت امرأته تقوم عليه، فطال عليها مرضُه وملّته، وقد
كان يكون بينها وبين أمّه الشيء فتعتبها، فمرّ بها رجلٌ وكانت ذات خلق،
فقال: أيباع الكفل؟ فقالت: عمّا قليل. وذلك بسمعْ صخر، فقال لها رجلٌ: كيف
صخر؟ قالت: لا حيٌّ فيرجى ولا ميّتٌ فيستراح منه فسمعها فقال: ناوليني
سيفي وهو يريدها انظر ما بقي من قوّتي: فناولته السف فإذا يده لا تُقلّه،
فقال صخر:
أرى أُمَّ صخرٍ ما تجفُّ دموعُها ... وملَّتْ سُليمَى مضجعي ومكاني
وما كنتُ أخشَى أن أكون جنازةً ... عليكِ ومَن يعترُّ بالحدَثان
فأيُّ امرئٍ ساوَى بأُمٍّ حليلةً ... فلا عاشَ إلاَّ في شَقاً وهوان
أهمُّ بأمر الحزم لو أستطيعُه ... وقد حيلَ بين العيْر والنًّزَوانِ
وحيٍّ حلالٍ قد صبَحتُ بغارةٍ ... كرحل جرادٍ أودباً كتُفانِ
فلو أنَّ حيّاً فائتُ الموت فاتَه ... أخو الحربِ فوقَ القارح
الغّذوان
قال: وأنشدني الأبيات الرياشُّ والمازنيّ عن الأصمعي.
أخبرنا علي بن الحسين بن إسماعيل الفقيه قال: أخبرنا محمد بن زكريا بن
دينار قال: حدّثنا مهديّ بن سابق عن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: جمع
قسُّ بن ساعدة ولده فقال: إنّ المعا تكفيه البقلة، وترويه المذقة، ومن
عيرك شيئاً ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلتَ على نفسك عدل
عليك من فوقك، وإذا نهيتَ عن شيء فإنه نفسك، ولا تجمع مالاً تأكل، ولا
تأكل مالاً تحتاج إليه، وإذا ادّخرت فلا يكوننَّ كنزك إلاّ فعلك. وكن عفَّ
العيلة، مشترك الغنى، تسد قومك. ولا تشاورنَّ مشغولاً وإن كان حازماً، ولا
جائعاً وإن كان فهماً، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً. ولا تضعنَّ في عنقك
طوقاً لا يمكنك نزعه إلا بشقّ نفسك. ولا تضعنَّ في عنقك طوقاً لا يمكنك
نزعه إلا بشقّ نفسك. وإذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعنّ
أحداً دينك وإن قربت قرابته، فإنّك إذا فعلت ذلك لم تزل وجلاً، وكان
المستودع بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبداً ما بقيت. وإنْ جنَى
عليك كنتَ أولَى بذلك، وإن وفى كان الممدوح دونك.
أنشدنا محمد بن علي بن عمران قال: أنشدنا عبيد الله بن علوان، أنشدنا
إسحاق الموصلي:
خفِّف على كلِّ من لقيتَ وإنْ ... كان لَحمل الثَّقيل محتملا
أثقلُ ما كان من يخفُّ على ... إخوانه حين يأْمن الثِّقلا
ومثله لبعض المحدثين:
لمَّا تعاللتَ وقد خفتُ أن ... تدبر من ودِّك بالمقبل
أقللتُ إتيانَكم إنَّهُ ... من خاف أن يثقلَ لم يثْقِلِ
أخذه من قول حماد بن أبي سليمان: " من خافَ أن يثقُلَ لم يُثْقِل " .
وحمّاد هذا أستاذ أبي حنيفة، وفقيه أهل الكوفة، وحمل عن إبراهيم النخعيّ.
سمعت أبا بكر محمد بن يحيى يقول: سمعت أبا حازم القاضي يقول: قال أبو
حنيفة: كنّا نأتي حمّاد بن أبي سليمان، فلا ننصرف من عنده إلاّ بفائدة،
فجئناه يوماً فلم نفد شيئاً إلاّ أنه قال: " إذا ورد عليك مسألة معضلةٌ
فاجعل جوابها منها " . فحفظت ذلك وأنا لا أرى أنّه شيء، فلما كان بعد دهر
صرتُ إلى دار المنصور، فخرج إليّ الربيعُ الحاجبُ ممتحناً فقال: أفتني في
أمر أمير المؤمنين لي بقتل الأنفس وأخذ الأموال، أعليّ في ذلك شيء؟ فذكرت
قول حماد فقلت: ليس أمير المؤمنين يأمرك بحقّ يراه؟ قال: بلى. قلت: فافعل
إذا أمرك بذلك وأنت مأجور! وممّا يشبه هذا ما أخبرني به أبو بكر قال:
حدّثني محمد بن علي عن أبي العيناء قال: حدّثني الجاحظ قال: قال المهديّ
لشريك القاضي وعنده عيسى بن موسى: لو شهد عندك عيسى بن موسى كنت تقبله؟
وأراد أن يغري بينهما، فقال شريك: من شهد عندي سألتُ عنه، ولا يسأل عن
عيسى غير أمير المؤمنين، فإن زكّاه قبلته. فقبلها عليه.
وأخبرنا أبو بكر قال: حدّثنا الجمحيّ قال: حدّثني هشامٌ الكرنبانيُّ قال:
تقدّم السّيّد إلى سوّار بن عبد الله مع خصم له، فقال سوّارٌ للسيّد في
بعض خطابه وكان مغيّظا عليه لسوء مذهبه وهجائه له: يا ابن اللخناء! فقال
السيّد: ابن اللّخناء خصمي هذا. فقال الخصم: خذ لي بحقّي. فلم يقدر القاضي
على ذلك لأنَّ عليه مثل ذلك. فقال: قوما.
قال أبو بكر: فحدّثت بهذا الحديث أبا بكر الطالقانّي فقال: حدّثني ابن أبي
سعد قال: حدّثتُ أن الشافعيّ قال: لو أفكر فيها سنةً لكان قليلا.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: أخبرنا أبو يعلى المنقري قال:
حدّثنا ابن أبي سويّه قال: قال الأحنف: ينبغي للوالي ألاّ يغضب، لأنَّ
الغضبَ في القدرة لقاح السّيف والندامة. ولا ينبغي أن يدع تفقّد لطيف أمور
الرعيّة اتّكالاً على نظرة جسيمها، لأنّ للّطيف موضعا ينتفع به، وللجسيم
موضعاً لا يستغنى عنه.
أخبرنا الجوهري قال: حدّثنا أبو عليّ المنقري قال: حدّثنا العلاء بن الفضل
قال: قال الأحنف: رأس سياسة الوالي خصالٌ ثلاث: اللّين للناس، والاستماع
منهم، والنّظر في أمورهم. ورأس مروءة الوالي خصالٌ ثلاث: العلم والعلماء،
ورحمة الضّعفاء، والاجتهاد في مصلحة العامّة.
أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا عمر بن شبّة عن أبي عاصم قال: كان
الشعبُّي إذا تحدّث بحديث نمّقه وحسّنه، وكان له جليسٌ يقال له خنيس، فقال
له يوماً: يا أبا عمرو، اتّق الله ولا تكذب. فقال له الشعبي: ما أحوجك إلى
محملج شديد الفتل، ليّن المهزّ، وافر الثّمرة، يؤخذ من عجب بعيرٍ إلى مغرز
عنقه، فيوضع منك على مثل ذلك، فيكثر منه رقصانك لغير جذل. فقال: إي بأبي،
وما هذا؟ قال: شيء لي فيه أرب، ولك فيه أدب.
أخبرنا أبو روقٍ الهزّاني قال: حدّثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثنا على بن
الجهم قال: حدّثنا أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز التنوخيّ قال: أوصى
مسلمة بن عبد الملك بكثر ماله لطلاّب الأدب وقال: إنّها بضاعةٌ مجفوٌّ
أهلها.
أخبرنا أبو بكر ابن الأنباري قال: حدّثني أبي عن أحمد بن عبيد قال: قال
سالمٌ مولى مسلمة بن عبد الملك: كان مسلمة إذا دخل غلّة ضياعه جعلها
أثلاثاً، فثلثاً لنفقته، وثلثاً للنوائب والحقوق، وثلثاً يصرفه إلى أهل
الأدب.
قال: فقلت له يوماً: يا مولاي، إذا ورد مالك صرفته في ثلاث: فأما النّفقة
فلا بدّ منها، وأمّا النائب والحقوق فحزمٌ وقوّة، ولا أعرف الوجه فيما
تصرفه إلى هؤلاء القوم. فقال: إنهم تركوا التعيّش والطلب فاشتغلوا عن
المكاسب بطلب العلم، فواجبٌ على كلّ ذي مروءة أن يعينهم. فقلت: يا مولاي،
جعلته أحبَّ الأقسام الثلاثة إليّ.
أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا الرياشيّ عن الأصمعي قال: قيل لعرابة بن أوس:
بم سدت قومك؟ فقال: والله إنّي لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى
في حوائجهم، فمن فعل فعلى فهو مثلي، ومن زاد فهو أفضل، ومن قصّر فأنا خيرٌ
منه. فقال فيه الشّمّاخ:
رأيتُ عرابةَ الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيرات منقطعَ القرينِ
إذا ما رايةٌ رُفعَتْ لمجد ... تلقَّاها عرابةُ باليمين
أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال:
وصف أعرابيٌّ قومه فقال: كانوا والله إذا اصطفّوا تحت القتام، خطرت بينهم
السّهام، بوقود الحمام، وإذا تصافحوا بالسيوف، فغرت المنايا أفواهها.
فربَّ يوم عارم قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد ضاحكتها أسنّتُهم، وخطبٍ شين
قد فلّلوا مراكبه، ويوم عماسٍ قد كشفوا ظلمه بالصّبر حتّى ينجلي. إنّما
كانوا البحر لا ينكش غماره، ولا ينهنه تيّاره.
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمّه قال: وصف
أعرابيٌ قومه فقال: كانوا والله غيوث جدب، وليوث حرب، إنْ أعطوا أغنوا،
وإن قاتلوا أبلوا، ثم قدّم لهم الدّهر ما أخَّر لغيرهم.
أخبرنا أحمد بن محمد الهزّاني قال: كتب أبو العيناء إلى أبي الوليد بن أبي
دواد: " مسَّنا وأهلنا الضُّرّ، وبضاعتنا المودّة والشُّكر، فإن تعطِ أكنْ
كما قال الشاعر:
إنا الشِّهاب الذي يحمي ذماركم ... لا يخمد الدهرَ إلاّ ضوؤه يَقِدُ
وإن لم تعطنا فلسنا ممن يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم
يعطوا منها إذا هم يسخطون " .
من كلام العرب: فضل الفعال على المقال مكرمة، وفضل المقال على الفعال
منقصة.
وكان المهلّب يقول: يعجبني أن أرى عقل الرجل زائداً على لسانه، وفعله
زائداً على قوله.
أخبرنا الحسن بن محمد بن شعيب القاضي قال: حدّثنا محمد بن زياد البكراوي
قال: قال زياد: ما جلست مجلساً قطّ إلا تركتُ منه ما لو أخذته كان لي.
وترك مالي أحبّ إلىّ من أخذ ما ليس لي.
أخبرنا الحسن بن محمد قال: أخبرنا البكراويّ عن ابن عائشة قال: كان أبي
يحمل على نفسه في قضاء الحقوق، فأقبلت عليه يوماً فقلت له: يا أبت إنّك
تحمل على نفسك في قضاء الحقوق، والله يعذر، فلو أنّك أبقيت بعض الإبقاء
فأصغي لكلامي حتّى ظننتُ أنّه قد عمل فيه. ثم أقبل عليّ فقال منشداً:
أرى راحةً للحقّ عند قضائه ... ويثقل يوماً إن تركت على عمدِ
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا أبو العيناء قال: رأيت ابن عائشة نصف
النّهار في يوم شديد الحرّ راكباً على حمار، وبين يديه غلامان يعدوان،
فقلت له: أفي هذا الوقت: فقال: نعم.
حقوق لإخوان أريد قضاءها ... كأنِّي ما لم أقضهنَّ مريضُ
أنشدنا محمد بن يحيى قال: أنشدنا محمد بن يزيد المبرد:
رأيت قضاءَ الحقّ عندَ نزوله ... يبادره من كان مستحكم العقل
ينجّيك من عتب الصديق ولومه ... ومن قول زورٍ واعتذارٍ من المطل
أنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب.
لأبي آمنة جدِّ النبي صلى الله عليه وسلم:
وإذا أتيتَ معاشراً في مجلس ... فاخترْ مجالسَهم ولمّا تقعدِ
ولكلِّ أمر يستعاد ضراوةٌ ... فالصالحاتِ من الأمور تعوَّدِ
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: قال لي عبد الله بن المعتزّ يوماً:
أحالَ عليُّ بن محمد الحمّانيُّ في قصيدته التي يستحسنها الناس، التي
أولّها:
عاد له من عقابيل الهوى عيدُ
يقول فيها:
أبقى الهوَى منه جسماً كالهواءِ ضَنىً ... تنفَّس الريحُ فيه وهو مفقودُ
أما ترى أنه قد أوجب جسماً تنفَّسُ فيه الريح فأوجده، ثم أعدمه بقوله وهو
مفقود؟ فقلت له: أعز الله الأمير، إن الشِّعرَ لا يصبر على هذا النَّقد
الشديد، إنما أراد: وهو كالمفقود.
وهذا أبو نواس يقول في صفة الخمر:
فأتَتْك في صُوَر تداخَلَها البلَى ... فأزالهنَّ وأثبتَ الأرواحا
فمتى رأى الأمير أرواحاً في غير صور؟ قال: ما كان يجوز أن يعارض ذلك إلاّ
بمثل هذا.
أخبرنا محمد قال: حدّثنا الحسن بن الحسين الأزديّ قال: حدثنا الحسنُ
الطُّوسي قال: كنّا في مجلس عليٍّ اللِّحيانيّ، وكان عازماً على أن يملي
نوادره ضعف ما أملي، فقال يوماً: يقول العرب " مُثْقَلٌ استعانَ بذقنه "
فقام إليه ابن السكّيت وهو حدثٌ فقال: يا أبا الحسن، إنّما تقول العرب: "
مثقل استعان بدفّيه " يريدون الحمل والنّهض بالحمل. فقطع الإملاء فلمّا
كان في المجلس الثاني أملي فقال: تقول العرب: " هو جاري مكاشري، فقام إليه
يعقوب فقال: أعزّك الله، وما معنى مكاشري، إنّما هو مكاسري: كسر بيتي إلى
كسر بيته. فقطع اللّحيانيّ الإملاء فما أملي بعد ذلك شيئاً.
أخبرنا أبو بكر قال: حدّثني محمد بن أحمد الحزنبل قال: حدّثني يعقوب بن
السكيت عن عبد الله بن ياسين قال: سمعت خلفاً الأحمر يقول: أخذت على
المفضّل الضّبيّ في يوم واحد تصحيف ثلاثة أبيات أنشدنا للأعشى:
ساعةً أكبرَ النهارِ كما ش ... دَّ محيل لبُونه إعتاما
فقال محيل، وإنما هو مخيلٌ: رأى خالاً من السحاب فخشي على بهمه أن تتفرّق
للمطر، أو يضرّ بها فشَّدها. وأكبر النهار: ضحى النهار. يقول: كان صبرهم
لنا ساعة بهذا المقدار، لأنّه يقول بعد هذا البيت:
ثم ولَّوا بعد الحفيظة والصَّبْ ... ر كما تطحَر الجَنوبُ الجَهَاما
قال: والبيت الثاني الذي صحّف فيه بيتٌ للمخبّل السّعديّ:
وإذا ألمَّ خيالُها طرِقَتْ ... عيني فماءُ شؤونها سجْمُ
وإنما هو طُرِفَتْ.
قال خلف: فعرَّفتُه فرجعَ عنه.
وروى بيتَ امرئ القيس:
نمسُّ بأعراف الجيادِ أكفَّنا ... إذا نحن قمنا عن شواءٍ مضهَّبِ
وإنما هو نمُشُّ. والمشُّ: مسح اليد بشيء يقشر الدسم. ويقال للمنديل مشوش.
قال: وحدّثني ابن ذكوان قال: حدّثني المازنيّ عن الأصمعي، أنّه سمع المفضل
ينشِد بيتَ أوس بن حجر:
وذاتِ هدمٍ عارٍ نواهقُها ... تصمتُ بالماء تولباً جذعا
فقال: إنما هو جدعاً، والجدع: السيّئ الغذاء، وهو المجدّع. فقال المفضّل:
جذعاً. فقال له الأصمعيّ: والله لو نفخت في ألفي شَبُّور ما كان إلاّ
جدعا، والله لا أنشدته بعد هذا إلا جدعاً، وما يغني الصّياح؟ تكّلم بكلام
النّمل وأصب.
التّولب: الصغير من أولاد الحمير، فاستعاره. والجذع: الذي أتت عليه سنة.
والتولب الصغير فلا يكون جذعا.
أخبرنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: أخبرنا أحمد بن يحيى ثعلب
قال: حدّثنا أحمد بن سعيد بن سلم قال: رأيت الأصمعيّ وأبا عمرو الشيبانيّ
عند أبي في هذه النّيمخايجه وأشار إلى نيمخايجه في داره فتناظروا
وتناشدوا، فأنشد الأصمعي:
عَنَناً باطلاً وظلْما كما تُعْ ... نَزُ عن حَجرة الرَّبيضِ الظباءُ
فقال أبو عمرو: صحّفت، إنما هو تعتر، من العتيرة. فصاح الأصمعيّ وجلّب
وقال تعنزُ: تضرب بالعنزة. فقال له أبو عمرو: دع هذا عنك، فو الله لا تنشد
بعد وقتك أبداً إلاّ كما قلت.
قال أبو بكر: العتيرة: ذبيحةٌ كانوا في الجاهلية يذبحونها عن
الغنم إذا كثرت، للأصنام. وقال رسول الله صلى الله عليه: " لا فرع ولا
عتيرة " . والفرعة: ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب. والعتيرة قد مضى
تفسيرها. والعنن: الاعتراض. والربيض: الغنم. والحجرة: الناحية.
فكان قومٌ من العرب إذا كثرتْ عندهم ضنّوا بها كلّها، فصادوا ظبياً فذبحوه
للأصنام بدلاً من الشاة التي أكثرهم يذبحها. فشبّه ما ألزموهم من ذنب
غيرهم بما ألحق بالظباء ممّا سبيل الغنم أن تكون مأخوذة به.
أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: أخبرنا أبو العباس ثعلب قال: حدثنا سلمة
بن عاصم قال: اجتمع الأصمعيّ وأبو عمرو الشيبانيّ عند أبي السمراء،
فتناشدا وتناظرا، وكان إلى جانب الأصمعيّ فروٌ فوضع يده على الفرو ثم قال
لأبي عمرو: ما معنى قول مالك ابن زغبة:
بضربٍ كآذان الفِراء فضولُه ... وطعنٍ كإيزاغ المخَاض تَبورُها
ثم قال لأبي عمرو ويده على الفرو: ما يعني بقوله كآذان الفراء؟ فقال أبو
عمرو: يعني هذه الفراء. فضحك الأصمعي وقال: يا أهل بغداد، هذا عالمكم!
أخبرنا أبي رحمة الله قال: أخبرنا عسل بن ذكوان قال: أخبرنا أبو عثمان عن
الأصمعيّ عن أبي عمروٍ قال: أنشد يونسُ مرّةً بعد ما كبر:
وفي الحروب أبيضاً وقادا
فقال له: عندي " أنْتضِي وقّادا " . فقال: ولك عندٌ يا ماصَّ أُمِّه؟!
أخبرنا أبي رحمه الله قال: حدثنا عسل بن ذكوان قال: حدّثنا الرياشي قال:
توفِّي ابن لبعض المهالبة، فأتاه شبيب بن شيبةَ يعزِّيه، وعنده بكر بن
حبيب السهميّ، فقال شبيب: بلغَني أنّ الطَّفل لا يزال محبنظياً على باب
الجنّة يشفعُ لوالديه. فقال بكر بن حبيب: إنّما هو محبنطيا بالطاء. فقال
شبيبٌ: تقول هذا لي وما بين لابتيها أفصحُ منّي؟ فقال: هذا خطأٌ ثانٍ ما
للبصرة واللّوب؟ لعلّه غرّك قولهم: ما بين لابتي المدينة يعني به الحرّة،
ولا حرّة للبصرة.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدّثنا عمر بن شبّه قال: حدّثنا
أبو يحيى الزُّهري عن أبي داود الورّاق قال: قال الشعبيّ: وردت على عبد
الملك بن مروان، فلمّا أذن لي وصرت بين يديه قلت: عامر بن شراحيل الشّعبي.
قال: على علم ما أذنّا لك. فقلت في نفسي: خذها واحدةً على وافد أهل
العراق. وعن يمينه شيخٌ جميلٌ، فالتفت إليه عبد الملك فقال: من أشعر
الناس: فقال: أنا. فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الأخطل
وتبسّم فقلت في نفسي: خذْها ثنتين على وافد أهل العراق. فقلت أشعر منه
الذي يقول:
هذا غلامٌ حسنٌ وجهه ... مستقْبَل الخير سريع التَّمامْ
للحارث الأصغر والحارث ال ... أكبر والحارث خيرِ الأنام
خمسة آباءٍ همُ ما همُ ... همْ خيرُ من يشربُ صوبَ الغمام
والشعر للنابغة. فقال الأخطل: إن أمير المؤمنين إنما سألني من أشعر أهل
زماني فأخبرته أنّي أشعرهم، ولو سألني عن أهل الجاهلية كنت حريّاً أن أقول
كما قلت أو شبيهاً به. قلت في نفسي: خذها ثلاثاً على وافد أهل العراق.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا علي بن الصبّاح عن أبي محلّم قال: دخل
سلمة بن غيلان الثقفيُّ في ناسٍ من العرب على كسرى، فطرح لهم مخادّ عليها
صورته، فوضعوها تحتهم، إلاّ سلمة بن غيلان فإنّه وضعها على رأسه، فقال له:
ما صنعت؟ قال: ليس حقّ ما عليه صورة الملك أن يبتذل، وما أجد في جسدي
عضواً لا أكرم ولا أرفع من رأسي فجعلتها فوقه. فقال له: ما أكلك؟ فقال:
الحنطة. فقال: هذا عقل الحنطة.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدّثنا محمد بن زكرياء قال: قال
رجلٌ من بني هاشم لابن عائشة: رأيت ابنك عبد الرحمن في العسكر بسرّ من رأى
في أسوأ حال. فقال: إنّ عبد الرحمن نظر في العلم والأدب، وروى الشعر فكان
فيما روى قول ابن قيس الرقيات:
إنّ شِيباً من عامر بن لؤيَ ... وفتوّاً منهم رقاقَ النعال
كلما أوجِفَتْ إليهم ركابي ... رجعَتْ عنهمُ بأهلٍ ومال
فطلب ذلك عند أهلك فلم يجدْه.
وأخبرنا أحمد قال: حدّثني محمد بن زكريا قال: كنّا عند ابن عائشة فأتاه
كتاب ابنه من بغداد يشكو أنّه أخفقَ مما أمّل، وكان في آخر كتابه: يا أبه
أنا في الخان أؤدّي ... كلَّ يومٍ درهمينِ
وأَراني عن قليلٍ ... لابساً خفَّيْ حُنين
قال: فقال ابن عائشة: لا يدع ابني ظرفه.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال: أخبرنا ابن أبي سعد قال: حدّثني أبو إسحاق
إبراهيم بن المنذر قال حدّثنا الحجّاج بن ذي الرُّقيبة بن عبد الرحمن بن
مضرّب بن كعب بن زهير عن أبيه عن جدّه قال: خرج كعبٌ وبجير ابنا زهير حتّى
أتيا أبرق العزّاف، فقال بجيرٌ لكعب: اثبت في غنمنا هذا حتّى نأتي هذا
الرجل يعني رسول الله صلى الله عليه فأسمع ما يقول. قال: فثبت كعبٌ وجاء
بجير إلى النبي عليه السّلام فأسلم، وبلغ ذلك كعباً فقال:
ألا أبلغا منّي بجيراً رسالة ... على أيّ شيء ويب غيرك دلَّكا
على خلقٍ لم تُلفِ أُمّاً ولا أَباً ... عليه، ولم تدركْ عليه أخاً لكا
سقاك أَبو بكرٍ بكأْسٍ رويّةِ ... وأنهلَكَ المأْمور منها وعلَّكا
فخالفت أسبابَ الهدى وتبعته ... فهل لك فيما قلتُ بالخَيْف هل لكا
فبلغ ذلك النبيّ عليه السلام فأهدر دمه، فكتب بذلك بُجير إلى أخيه ويقول
له: أسلم فإن النبي صلى الله عليه لم يأته أحدٌ يشهد ألاّ إله إلاّ الله
وأنّ محمداً رسول الله إلا قبل منه وأسقط ما كان من قبل.
قال: فأسلم كعبٌ وأقبلَ. قال: كعبٌ: فأنخت راحلتي بباب المسجد ودخلت،
فعرفت النبي صلى الله عليه بالصفة، فتخطّيتُ حتى جلستُ إليه فأسلمتُ وقلت:
الأمانَ يا رسول الله. قال: ومن أنت؟ قلت: كعب بن زهير. قال: الذي يقول.
ثم التفت إلى أبي بكر فأنشده الأبيات، فقلت: يا رسول الله ما هكذا قلت،
إنّما قلت:
سقاك أبو بكرٍ بكأْس رويّة ... وأنهلكَ المأْمونُ منها وعلَّكا
قال: مأمونٌ والله ثم أنشده:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ ... متيّمٌ إثرها لم يفد مكبولُ
وما سعادُ غداة البين إذْ رحلتْ ... إلاّ أغنُّ غضيضُ الطرف مكحولُ
ويلُمِّهما خلَّةً لو أنّها صدقت ... موعودها أو لو أنّ النُّجح مقبولُ
لكنّها خلّةٌ قد سيط من دمها ... فجعٌ وولْعٌ وإخلافٌ وتبديل
فما تدوم على حالٍ تكون به ... كما تلوّنُ في أَثوابها الغولُ
فلا يغُرَّرنك ما منَّتْ وما وَعدتْ ... إنّ الأمانيّ والأحلامَ تضليلُ
تالله لا تمسك العهدَ الذي عهدتْ ... إلاّ كما تمسك الماء الغرابيلُ
كانت مواعيدُ عرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدُه إلاّ الأباطيل
ثم قال بعد ذكر ناقته:
يسعَى الغُواةُ بدَفَّيها وقيلُهُمُ ... إنّك يا ابن أبي سَلْمى لمقتولُ
وقال كلُّ خليل كنتُ آمُلُه ... لا أَلقَينَّك إنّي عنك مشغولُ
فقلتُ خلُّوا سبيلي لا أبالكمُ ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوماً على حالةِ حدباء محمولُ
أنبئتُ أنّ رسولَ الله أوعدَني ... والعفوُ عند رسولِ الله مأْمول
إنَّ الرسولَ لَسيفٌ يُستضاءُ به ... مهنَّد من سيوف الله مسلولُ
في عصبةِ من قريش قال قائلهم ... ببطن مكّة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كُشُفٌ ... عند اللّقاء ولا ميلٌ معازيلُ
يمشون مشيَ الجمال الزُّهر يَعصمها ... ضربٌ إذا عرّدَ السُّود التنابيل
شمُّ العرانين أبطالٌ لَبوسهمُ ... من نَسْج داود في الهيجا سرابيل
لا يفرحون إذا نالت رماحهمُ ... قوماً وليسوا مَجازيعاً إذا نِيلوا
لا يَقع الطَّعنُ إلاّ في نحورهمُ ... ليس لهم عن حياض الموت تهليلُ
وأنشده إياها في مسجد المدينة، فلما بلغ قوله:
إنَّ الرسولَ لسيفٌ يُستضاءُ به ... مهنَّدٌ من سيوف الله مسلولُ
أشار رسول الله صلى الله عليه إلى الخلق: أن اسمعوا وحدّثنا غيره عن محمد
بن سلاّم فقال فيه: فوهب له النبي صلى الله عليه بردة، فتوارثها ولده، فهي
التي في أيدي بني العباس اليومَ.
وحدثنا أبو روق الهزّاني: قال: أنشدنا الرياشي
فلو كنت ماءً كنتِ صَوبَ غمامة ... ولو كنتِ نوماً كنتِ تعريسةَ الفجر
ولو كنتِ ليلاً كنتِ ليلة صيِّف ... من المشرِقات البيض في وسطِ الشهر
وأنشدني غيره:
فلو كنتَ ماءً كنتَ من ماء مُزنة ... ولو كنتَ نجماً كنتَ سعد السعودِ
وقال آخر:
فلو كنتَ ريحاً كنت رائحةَ الصَّبا ... بريحِ خُزامى عالجٍ بلَّها القَطْرُ
ولو كنت ليلاً كنتَ قمراءَ جنِّبتْ ... نحوسَ ليالي الشَّهرِ، أو ليلةَ
البدرِ
المسيّب بن علس:
لو كنتَ من شيءٍ سوى بشر ... كنت المنوِّر ليلةَ البدرِ
أنشدنا أحمد بن محمد الهِزّاني قال: أنشدنا عبد الله بن شبيب:
أَلم تعلمي يا دار بَلْجاءَ أَنّني ... إذا أَخصبَتْ أَو كان جدباً جنابُها
أحَبُّ بلاد الله ما بين مَنْعج ... إليّ وسَلْمَى أَن يَصُوب سحابُها
بلادٌ بها حلّ الشبابُ تمائمي ... وأوّلُ أرضٍ مسَّ جلدي ترابُها
أخذه منه بعض الشعراء فقال:
بلادٌ بها نِيطتْ عليّ تمائمي ... وحلَّت بها عنّي عقودُ التمائم
وقال ابن ميّادة:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بحَرَّةِ ليلي حيث ربّتنَي أهلي
وهل أَسمعنَّ الدّهر أصواتَ هَجْمةٍ ... تُطالع من هَجْل بعيدٍ إلى هَجلِ
بلادٌ بها نِيطتْ عليّ تمائمي ... وقُطِّعنَ عنّي حينَ أّدركني عقلي
فإن كنتَ عن تلك المواطن جابِسي ... فأَفشِ عليَّ الرزقَ واجمعْ إذاً شملي
وقد أحسن ابن الرُّومي وكشَف المعنى وبيّن العلّة التي يحبّ لها الوطن
فقال:
ولي وطنٌ آليتُ ألاّ أبيعه ... وألاّ أرى غيري له الدهرَ مالكا
عهدتُ به شَرخ الشباب ونِعمةً ... كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظلالكا
فقد أَلِفتهُ النفسُ حتى كأَنّه ... لها جَسدٌ إن غاب غُودرت هالكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ ... مآربُ قضّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانهمْ ذكّرتهمُ ... عُهودَ الصِّبا فيها فحنُّوا لذلكا
ونقله إلى موضع آخر فقال:
بلدٌ صحبِتُ به الشبيبةَ والصِّبا ... ولبستُ ثوبَ العيش وهو جديدُ
فإِذا تمثَّلَ في الضَمير رأيتُه ... وعليه أغصانُ الشباب تميدُ
أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا عُمر بن شبّة قال: حدّثنا القحذميُّ قال: قال
معاوية لجلسائه: ما بقيَ من لذّاتكم؟ قالوا: ضروب فالتفتَ إلى وردان فقال:
فأنت ما بقي من لذّتك؟ قال: النظر في وجه رجل كريم أصابته من دهره فاقةٌ
فاصطنعت إليه فيها يداً.
فقال: أنا أحقُّ بهذه منك. فقال: أحقُّ بها من سبق إليها، وأنت أقدر عليها
منِّى.
أنشدنا أبو بكر قال: أنشدنا عمر بن شبّة قال: أنشدني محمد بن عبّاد بن
حبيب المهلّبيّ:
إذا عثرةٌ نالت صديقَك فاغتنمْ ... مَرمَّتَها فالدَّهر بالناس قُلَّبُ
وبادرْ بمعروفِ إذا كنتَ قادراً ... زوالَ اقتدارٍ أو غنىً عنك يذهب
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال: أخبرني أبو يعلى المنقريّ عن الأصمعي عن
العلاء بن جرير قال: قال الأحنف: ثلاثة مجالس لا عيب على الرجل أن يجلسها:
انتظار الجنازة، وانتظار إذن السلطان، وطلب العلم. وثلاثة لا عيبَ على
الرجل فيهن: أن يخدم أباه، وضيفه، وفرسه.
أخبرنا أحمد قال: أخبرنا المنقري عن الأصمعي قال: ذمّ أعرابيّ رجلاً فقال:
فلانٌ لا يستحي من الشّر، ولا يحبّ أنّه من أهل الخير، لا يكون في موضع
إلاّ حرمت الصلاة فيه، ولو أفلتت كلمة سوء لم تضمّ إلاّ إليه، ولو نزلت
لعنةٌ من السماء لم تقع إلاّ عليه.
أخذ هذا الكلام أحمد بن يوسف فكتب إلى بني سعيد بن سلم: والله لولا أن
الله عزّ وجلّ ختم نبوّته بمحمد عليه السلام، وكتبه بالقرآن، لا بتعث فيكم
نبيّ نقمة، وأنزل فيكم قرآن عذاب. وما عسيتُ أن أقول في قوم محاسنهم مساوي
السّفل، ومساويهم فضائح الأمم، وألسنتهم معقودةٌ بالعيّ، وأيديهم معقودة
بالبخل، وأعراضهم أعراض الذمّ، وهم كما قال الشاعر:
لا يكثرون وإن طالت حياتهمُ ... ولا تبيد مخازيهم إذا بادوا
وقال أحمد بن يوسف لرجل: والله ما أدري أيّ حسنيك أحسن: أما وليه الله من
إقامة خلقك، وإكمال خلقك، أم ما وليته من نفسك من تحسين أدبك، وكمال
مروءتك ودينك.
وكتب أحمد إلى رجلٍ عزله: أما والله لقد كنتَ مسيئاً إلى جندك، مخطئاً
لحظّك، غير نبيل في عملك، ولا مصيبٍ في حكمك، تحيف في القضاء، وتتّبع
الهوى.
وكتب أحمد بن يوسف إلى أخٍ له يشكو شوقه إليه:
شوقي إليك شديدٌ، يستوي في العجز عن صفته الخطيبُ البليغ،
والعييّ المفحم، فدعاني ذلك إلى الخفض عليّ، وتقديم جملة من ذكره إذا
عارضت بها ما في قلبك كانت له موافقة، وعليه مفضلة.
قال: وذكر أحمد بن يوسف البرامكة وصنايعهم فقال: إنّما يستتم الصنيعة من
صابرها فعدّل زيغها، وأقام أودها، صيانةً لمعروفه، ونصرةً لرأيه، فإنّ
أوّل المعروف يستخفّ، وآخره يستثقل.
وقال سهل بن هارون لرجلٍ عزاه: إنّه لن تبعد مصيبةٌ أن تحلَّ محلَّ نعمةٍ
إذا سُلّم لأمر الله فيها، ولن تبعد نعمةٌ أن تحلّ محلّ مصيبة إذا ضيّع
شكر الله عليها: أخذ أبو تمام معنى هذا فقال:
حتّى كأنّ عدوّهم من صبرهم ... وجلالهم حسبب المصيبة أنعما
ووصف سهل بن هارون رجلاً فقال: لم أر أحسن فهماً لجليل، ولا أحسن تفهّما
لدقيق منه.
أخذه أبو تمام فقال:
حتّى كأنّ عدوّهم من صَبرهم ... وجلالهم حَسِبَ المصيبةَ أَنُعما
ووصف سهل بن هارون رجلاً فقال: لم أر أحسنَ فهماً لجليل، ولا أحسن تفهُّما
لدقيقيٍ منه.
أخذه أبو تمام فقال:
وكنتُ أعزَّ عزّاً من قنوع ... تعوَّضَه صَفوحٌ من مَلول
فصرتُ أذلَّ من معنى رقيقٍ ... به فقرٌ إلى ذهنٍ جليلِ
وذكر سهلُ جعفر بن يحيى فقال: كان قد جمع في كلامته وبلاغته الهدوّ
والتمهّل، والجزالة والحلاوة، وكان يفهم إفهاماً يغني عن الإعادة كان لا
يتحبسّ ولا يتكسرّ، ولا يتوقّف ولا يتلفف، ولا يتلجلج ولا يتحلحل، ولا
يتنحنح ولا يسعل، ولا يترقّب لفظا قد استدعاه، ولا يلتمس التخلّص إلى
معنىً قد عصى عليه بعد طلبه له.
مختار من كلام البلغاء
أخبرنا أبو بكر النديم قال: أخبرنا عون بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن العبّاس بن الفضل قال: دخل عبد الملك بن صالح علي الرشيد واجداً عليه، فأقبل عليه فقال:أريد حِباءه ويريد قتلي ... عذيرَك من خليلك من مرادِ
والله لكأنِّي أنظُر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع، والوعيد فيها قد أورى نارا تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورءوس بلا غلاصم. مهلاً مهلاً، بي والله صفا لكم الكدر، وسهل عليكم الوعر. فنذار نذار.
قال عبد الله: وما سمع للرشيد كلامٌ أفصح من هذا.
فأقبل عليه عبد الملك كأنّه صقر فقال: اتّق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاّك، ورعيّتك التي استرعاك، ولا تضع الكفر مكان الشّكر، ولا العقاب موضع الثواب. قد والله محضتك النصيحة، وشددتً أواخيّ ملكك بأثقل من ركني يلملم، وجعلت عدوّك أرضاً مديسة، تطؤه الأقدام، ويذلّه الإرغام. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه برجم ظنّ أفصح الكتابُ بأنّه إثم فقد والله سنّيت لك الأمور، وقرّرتُ على طاعتك القلوب في الصّدور. فكم ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضنك فيك قمته، كنت فيه كما قال الشاعر:
ومقامٍ ضيِّق فرّجته ... بلساني وبياني وجدَلْ
لو يقوم الفيلُ أو فيّاله ... زلَّ عن مثل مقامي وزحَل
وقيل للرشيد: إنّ عبد الملك يعدّ كلامه ويفكّر فيه، فلذلك بانت بلاغته. فأنكر الرشيد ذلك وقال: بل هو طبعٌ فيه. ثم أمسكَ حتى جلس يوماً ودخل عبد الملك، فقال للفضل بن الربيع: إذا قرب من سريري فقل له: ولد لأمير المؤمنين هذه الليلة ابنٌ ومات ابن. ففعل الفضل ذلك. قال: فدنا عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، سرّك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرّك، وجعلها واحدةً بواحدة: ثواب الشاكر، وأجر الصابر.
فلمّا خرج قال الرشيد: هذا الذي زعموا أنه يتصنّع للكلام؟ ما رأى الناس أطبع من عبد الملك في الفصاحة قال: وحدثنا الحسن بن يحيى قال: سمعت إسحاق الموصليّ يقول: عاتب عبد الملك يحيى بن خالد على شيء، فقال له يحيى: أعيذك بالله أن تركب مطيّة الحقد فقال عبد الملك: إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشرّ لأهلهما إنّهما عندي لباقيان. فلما ولّى قال يحيى: هذا رجل قريش احتجَّ للحقد حتّى حسّنه لي فأذهبَ سماجته من عيني! وسأله الرشيد وبحضرته سليمان بن أبي جعفر، وعيسى بن جعفر، فقال له: كيف أرض كذا؟ قال: مسافي ريح، ومنابت شيح. قال: فأرض كذا؟ قال: هضابٌ حمر، وآثارٌ عفر. حتّى أتى على جميع ما أراد، فقال عيسى لسليمان: والله ما ينبغي أن نرضى لأنفسنا بالدّون من الكلام.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: أخبرنا مسبّح بن حاتم قال: حدّثنا
يعقوب بن جعفر قال: لما دخل الرشيد منبج قال لعبد الملك: أهذا البلد
منزلك؟ قال: هو لك ولي بك. قال: كيف بناؤك به؟ قال: دون منازل أهلي وفوق
منازل غيرهم. قال: فكيف صفة مدينتك هذه؟ قال: عذبة الماء، طيّبة الهواء
قليلة الأدواء: قال: كيف ليلها؟ قال سحرٌ كله. قال: صدقت، إنّها لطيّبة.
قال: لك طابت، وبك كملت، وأين بها عن الطّيب وهي تربة حمراء، وسنبلة
سمراء، وشجرة خضراء، فياف فيح، بين قيصوم وشيح.
فقال الرشيد لجعفر بن يحيى: هذا الكلام أحسن من الدرّ المنظوم.
سرق قوله في صفة الليل سحرٌ كلُّه، أبو تمام فقال:
أَيّامنا مصقولةٌ أعراضها ... بكَ والليالي كلُّها أسحار
وسرقة ابن الروميّ فقال:
كانت لياليه كلُّها سحراً ... وكان أيّامُهنّ كالبُكرِ
وأخذه عبد الله بن المعتز فقال:
يا ربّ ليل سحرٌ كلُّه ... مفتضحُ البدل عليلُ النسيم
أخبرني أبي رحمه الله قال: أخبرنا أحمد بن أبي طاهر قال: كان العبّاسيّ
الخطيب يقول: من أراد لهواً بلا حرج فليسمع كلام العباس بن الحسن العلويّ.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: أخبرنا أبو العيناء قال: قال إسحاق الموصلّي:
لقيت العباس بن الحسن أيّاماً متوالية، ثمّ تأخّرت عنه، فقال لي: أذقنا
نفسك فلما استعذبناك لفظتنا.
أخبرنا أحمد بن محمد بن الفضل قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبّرد قال: قال
العباس بن الحسن وذمّ رجلاً: والله ما الحمام مع الإصرار، وطول العلل في
الأسفار، وحلول الدّين على الإقتار، بآلم من لقاء فلان.
قال: ووصف رجلاً بالبلاغة فقال: ألفاظه قوالب معانيه، وقوافيه معدّة
لمبانيه.
وذمّ رجلاً فقال: أسمع إلى حديثه كأنّه نعى الإخوان، وفقد الأحبّة.
أخبرنا أبو بكر قال: حدّثنا الحسين بن فهم قال: سأل المأمون العباس بن
الحسن عن رجل فقال: رأيت له حلماً وأناة ولم أر سفهاً ولا عجلة، ووجدت له
بياناً وإصابة ولم أر له لحناً ولا إحالة، يجيء بالحديث على مطاويه، وينشد
العشر على مبانيه، ويروي الأخبار المتقنة، ويرمي إليك بالأمثال المحكمة.
قال: وكان الحسين يقول: من أراد لذّةً لا تبعة فيها فليسمع كلام العباس بن
الحسن.
قال: وحدّثنا الحسين بن يحيى الكاتب قال: وصف العباس بن الحسن رجلاً فقال:
ما شبّهته إلاّ بثعبانٍ ينهال بين رمال، أو ماء يتغلغل بين حبال.
قال: وحدثنا الحسن بن عليل قال: حدّثني على ابن عبيدة قال: عزّي العباس بن
الحسن رجلاً فقال: إنّي لم آتك شاكّاً في عزمك، زائداً في علمك، ولا
متّهما لفهمك، ولكنه حقّ الصديق، وقول الشفيق؛ فاسبق السّلوة بالصبر، وقلق
الحادثة بالشكر، يحسن لك الذّخر، ويكمل لك الأجر.
وأخبرنا أبو بكر قال: أخبرنا محمد بن يزيد قال: حدّثنا محمد بن علي بن مرة
قال: كان العباس بن الحسن يقول: ما رأيت أصفى من وصل بعد هجران، ولا أخلص
من مقةٍ بعد شنآن. ولقد جرّبت ذلك وقلت:
ولم أر أبقى من وصالِ مُراجعٍ ... إلى الودّ من بعد القِلي والتَّقاطعِ
فإنّ إخاء البدء تعفو رسومُه ... ولا تُخلِق الأيامُ وُدَّ المراجع
أخبرني أبي رحمه الله قال: أخبرنا أحمد بن أبي طاهر قال: سئل أبو نواس عن
العباس بن الحسن فقال: هو إرقّ من الوهم، وأحسن من الفهم، وأمضى من
السّهم، فمسئل العباس بن الحسن عنه فقال: إنّه أحسن من وفاءٍ بعد غدر،
ووصلٍ بعد هجر.
ومما استحسنه أبو نواس للعباس:
لا جزى الله دمعَ عينيَ خيراً ... وجزى الله كلَّ خيرٍ لساني
نمَّ دمعي فليس يكتُم شيئاً ... ووجدت اللسانَ ذا كتمانِ
كنتُ مثل الكتابِ أُخفِي طيٌّ ... فاستدلّوا عليه بالعنْوانِ
أخبرني أبي رحمه الله قال: أخبرنا أحمد بن أبي طاهر قال: قال المأمون
للعباس بن الحسن العلويّ: صف لي ينبع. قال: حوتها أصل عذقها، وأصل عذقها
في مسرح شائها.
وقد قال بعض الشعراء يصف الخورنق:
مكّاؤها غردٌ يجِي ... بُ الوُرقَ من ورْشانها
قُرِنَتْ رُءوس ظبائها ... بالزُّرق من حيتانها
وقال غيره:
زر وادي القصر نِعْمَ القصر والوادي ... وحبّذا أهله من حاضرٍ بادِ
ترى قارقيرهُ والعيسَ واقفةً ... والضبَّ والنُّونَ والملاّح
والحادي
وأخبرنا أبي رحمه الله قال: أخبرنا أحمد بن أبي طاهر قال: قال العباس بن
الحسن وذكر رجلاً: رحم الله فلاناً، فو الله تمسّكتُ بعده بعروة إلاّ
انجذمت في يدي.
قال: وسأل العباس عن جليسٍ له فقال: لجليسه لطيب عشرته أطرب من الإبل على
الحداء، ومن الثّمل على الغناء.
قال: وقال إسحاق الموصلّي: قلت للعباس: إنّي لأودُّك. فقال: إنّي لأجد
رائد ذاك معي منك.
وقال: وذكرت له رجلاً فقال: دعني أتذوقْ طعم فراقه، فهو والله الذي لا
تشجى له النّفس، ولا تدمع له العين، ولا يكثر معه الالتفاف، ولا يدعى له
عند فراقه بالسّلامة.
قال: وذكر عنده أو عند غيره جليسٌ فقال: هو أحلى من رخص السّعر، وأمنِ
السّبل، وإدراك الأمل، ونيل الأمانيّ.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: أخبرنا أحمد بن زيد المهلبي قال: حدّثنا حماد بن
إسحاق قال: حدثني أبي قال: أسرّ إليّ العباس بن الحسن سرّاً، فملا قمت من
عنده صاح: يا أبا محمد، أوكِ وعاءَك، وعمّ طريقك.
قال: وكلّم الفضل بن الربيع في حاجة لرجل فقال: إنّه قد ملأ الأرض ثناء،
والسماء دعاء! أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدّثني ابن السخيّ قال: حدثني
الحسن بن عبد الله قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول لأبي تمام الطائيّ
وقد أنشده شعراً له في المعتصم: يا أبا تمام، أمراء الكلام رعيّةً
لإحسانك. فقال أبو تمام: ذاك لأني استضئ بك، وأرد شرائعك.
وقال إبراهيم بن العباس وذكر عبد الحميد كاتب مروان: كان الكلام والله
مرعي له يؤبّ منه ما شاء، ما تمنّيت كلام أحد من الكلام أن يكون لي غير
كلام له.
منه: والناس أخيافٌ مختلفون، وأطوار متباينون، منهم علق مضنّة لا يباع
وغلُّ مظنّة لا يبتاع.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا عون بن محمد وقال لي قبل حديثه: لأفيدنّك
عن عمّك إبراهيم بن العباس فائدةً لو لم تحفظْ غيرها لكفاك ذلك منه، ولكان
به أبلغ! قدم سرّ من رأى كاتبٌ من أهل الشام يقال له عبد الله بن عمرو،
وكان قريباً لعبد كان المصريّ، فجعل يلقى كتّاب سرّ من رأى فلا يرضاهم،
وكان أديباً بليغا.
قال عون: فحدّثت أبي بحديثه فقال لي: يا بنيّ والله لأضعفنّه. فمضى به إلى
إبراهيم بن العباس، فلمّا رجع قال لي: هذا من لم تلد النساءُ مثله، سمعته
يملي شيئاً كأنّه فيه نذيرٌ مبين، وإذا أبى قد نسخ ما كان يمليه، وهو من
رسالة فق قتل إسحاق بن إسماعيل: وقسم الله عدوّه أقساماً ثلاثة: روحاً
معجّلة إلى عذاب الله، وجيفةً منصوبة لأولياء الله، ورأساً منقولا إلى دار
خلافة الله، استنزلوه من معقل إلى عقال، وبدّلوه آجالا من آمال. وقديماً
غذت المعصية أبناءها فحلبت عليهم من درّها مرضعة، وركبت بهم مخاطرها
موضعة، حتّى إذا وثقوا فأمنوا، وركنوا فاطمأنّوا، وامتدّ رضاعٌ وآن فطام،
فجّرت مكان لبنها دما، وأعقبتهم من حلو غذائها مرّاً، ونقلتهم من عزّ إلى
ذلّ، ومن فرحة إلى ترحة، ومن مسرّة إلى حسرة، قتلاً وأسراً، وغلبة وقسرا،
فقلّ من أوضع في الفتنة مرهجا، واقتحم لهبها مؤجّجا، إلا استحلمته آخذة
بمخنّقه، وموهنة بالحقّ كيده، حتّى تجعله لعاجله جزراً، ولآجله حطبا،
وللحقَ موعظة. ومن الباطل مزجرة، ذلك لهم خزيٌ في الدّنيا، ولعذاب الآخرة
أشقّ، وما الله بظلاّم للعبيد.
وهذه الرسالة التي قال إبراهيم بن العباس: إنّي ما اتّكلت قطّ في مكاتبي
إلاّ على ما يجيله خاطري. ويجيش به صدري، إلاّ قولي: " وصار ما كان يحرزهم
يبرزهم، وما كان يعقلهم يعتقلهم " ، وقولي: " ستنزلوه من معقل إلى عقال،
وبدّلوه آجالاً من آمال " فإني ألممت بقول مسلم:
كأنه أجَلٌ يَسعى إلى أملِِ
وبقول أبي تمام:
فإن يبنِ حيطاناً عليه فإنّما ... أولئك عُقَّالاتُه لا معاقلُه
ومن كلام إبراهيم بن العباس: " إذا كان للمحسن من الثّواب ما يقنعه،
وللمسئ من العذاب ما يقمعه، ازداد المحسنُ من الثواب في الإحسان رغبة.
وانقاد المسيء للحقّ رهبة.
تم الكتاب المصون، والحمد الله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم كثيرا.