كتاب : المنخول
المؤلف : الامام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين قد تقرر عند ذوي الألباب أن الفقه أشرف العلوم وأعلاها قدرا وأعظمها خطرا إذ به تعرف الأحكام ويتميز الحلال عن الحرام وهو على علو قدره وتفاقم أمره في حكم الفرع المتشعب عن علم الأصول ولا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول ولتعلم أن علوم الشرع ثلاثة الكلام والأصول والفقه
ولكل واحد منها مادة منها استمداده وإليها استناده ومقصود به يتعلق قصد الطالب وارتياده فلابد من التنبيه على مادته ليقتبس الخائض فيه منها مبلغ حاجته فيتوسل إلى بغيته ولا غنى عن التنبيه على مقصوده لئلا يكون الطالب على عماية من مطلبه فأما علم الكلام فمادته الميز بين البراهين والاغاليط والميز بين العلوم والاعتقادات والميز بين مجاري العقول ومواقفها وأما مقصوده فهو الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع مؤثر

متصف بما يجب من الصفات منزه عما يستحيل تخيله صفة للذات قادر على بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات وأما الأصول فمادته الكلام والفقه واللغة ووجه استمداده من الكلام أن الإحاطة بالأدلة المنصوبة على الأحكام مبناها على تقبل الشرائع وتصديق الرسل ولا مطمع فيه إلا بعد العلم بالمرسل ووجه استمداده من الفقه أنه المدلول وطلب الدليل مع الذهول عن المدلول مما تأباه مسالك العقول ووجه استمداده من اللغة كون الأصولي مدفوعا إلى الكلام في فحوى الخطاب وتأويل أخبار الرسول عليه السلام ونصوص الكتاب ومقصوده معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية وأخبار الآحاد ومسالك العبر والمقاييس والمستثارة قال بطرق الاجتهاد ليس من

الأصول فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات ولكن افتقر
الأصولي إلى ذكرها لتبين الصحيح من الفاسد والمستند من الحائد ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول ولا سبيل إليها إلا ببيان المراتب والدرجات وأما الفقه فمادته الأصول ومقصوده معرفة الأحكام الشرعية وتقرير الأحكام عند ظهور العلامات المظنونة معلومة بأدلة قطعية لا ظن فيها فصل ما من علم من هذه العلوم إلا وله مواقع إجماع ومثارات نزاع فمطلع الإجماع في الكلام المدركات بالبداية والضروريات والمعقولات التي يتحد

فيها صوب النظر ولا يتعدد كإجماع العقلاء على أن القديم لا يعدم ومثار الخلاف فيه تعارض الأدلة والشبهات وأما علم الأصول فمنشأ الوفاق فيه يضاهي منشأ الوفاق في الكلام ومنبع الخلاف فيه أمران أحدهما تعارض الأدلة والشبهات والثاني امتزاج القطع فيها بالظنيات وأما الفقه فموضع الإجماع فيه ما يستند إلى نص كتاب الله أو حديث متواتر أو إجماع واجب الإتباع وما عداها فهو من مظان الظنون وعند الإرتباك فيها يختلف المجتهدون وتضطرب آراؤهم فيتحزبون

باب
القول في الأحكام الشرعية ليست أحكام الأفعال صفات ذاتية وإنما معناها ارتباط خطاب الشارع بها نهيا وأمرا وحثا وزجرا فالمحرم هو المقول فيه لا تفعلوه والواجب هو المقول فيه لا تتركوه وهو كالنبوة ليست صفة ذاتية للنبي ولكنها عبارة عن اختصاص شخص بتبليغ خطاب الشارع فقولنا الخمر محرمة تجوز فإنها جماد لا يتعلق بها الخطاب وإنما المحرم تناولها مسألة لا يستدرك حسن الأفعال وقبحا بمسالك العقول بل يتوقف دركها على الشرع المنقول

فالحسن عندنا ما حسنه الشرع بالحث عليه والقبيح ما قبحه بالزجر عنه والذم عليه وقد خالف في ذلك المعتزلة والكرامية والروافض فقالوا الحسن حسن لذاته والقبيح كذلك ثم قسموا ذلك إلى ما يستدرك بمحض العقل والى ما لا يستدرك إلا بانضمام الشرع إليه كحسن الزكوات والصلوات وأنواع العبادات لأن مصالحهما الخفية لا يطلع عليها إلا بتنبيه وما يستدرك بمحض العقل على زعمهم ينقسم إلى

المعلوم بضرورة العقل عندهم كحسن الشكر وانقاذ الغرقى والهلكى وكقبح الايلام ابتداء أو الكذب الذي لا غرض فيه
والى المعلوم بالنظر كالكذب الذي يرتبط به غرض ولنا في هذه المسألة مسلكان أحدهما ابطال مذهبهم والثاني اثبات مذهب أهل الحق ولنا في ابطال مذهبهم طريقتان إحداهما جدلية والأخرى معنوية أما الطريقة الجدلية فهي أنا نقول ادعيتم أن حسن بعض الأفعال وقبحها مستدرك ببداية العقول واوائلها ونحن ننازعكم في ذلك ومواضع الضرورات لا يتصور فيها الخلاف بين العقلاء فإن نسبونا إلى عناد عكسنا عليهم دعواهم ثم العناد إنما يتصور في شرذمة يسيرة ونحن الجم الغفير والجمع الكبير لا يتصور منا التواطؤ على

كر العصور وتوالي الدهور من غير فرض رجوع من واحد إلى الانصاف وقولكم أنكم وافقتمونا على اصل العلم وخالفتمونا من في مسندة اهو العقل أم الشرع وذلك لا يمنع دعوي الضرورة كمخالفتكم في الكعبي في علم التواتر في كونه نظريا قلنا ايلام الله سبحانه البهائم معلوم عندكم قبحه بالضرورة لو لم يقدر تعويض ونحن ننازعكم في نفس هذا العلم مع اعتقاد نفي التعويض وبطلان مذهب التناسخية

ثم نحن لا نسلم لكم لحسن الراجع إلى الذات وانما المعني بالحسن عندنا ما يحسنه الشارع بالحث عليه ولو قدر عدم ورود الشرع لضاهي بن الكفر الإيمان عندنا فكيف يستقيم ادعاؤكم الموافقة في أصل العلم واما الطريقة المعنوية فهي أنا نقول ما قولكم في واقف على فوهة طريق اجتاز به نبي واشياعه واتبعه غاشم يبغي قتله واستخبره هذه عن حاله ايصدق سنة أم يكذب فإن صدق فهو سعي في روح نبي وان كذب فهو مستقبح لذاته عندكم وصفات الذات لا تتبدل ونحن نعلم إن الكذب احسن من الصدق ههنا المسلك الثاني في اثبات المذهب نقول القتل الواقع اعتداء يجانس القتل المستوفى قصاصا في الصورة والصفات بدليل إن الفافل عمرو عن المستند فيهما لا يميز بينهما والمختلفان في صفة الذات يستحيل اشتباههما وتجانسهما وكذا الوطء في النكاح والزنا فآل مأخذهما إلى

الاغراض جلبا ودفعا ونحن لا ننكر تفاوت الافعال عند العقلاء لتفاوت الاغراض وانما الخلاف في الافعال بالنسبة إلى الله تعالى وهو منزه عن الاغراض لا يتضرر بالكفر ولا ينتفع بالايمان فلا معنى للتمييز في حقه وكذا فعله تعالى لا يطلب له غرض فيه حتى إذا خالف غرضه قبح ولا تحكم للعباد عليه وهو يفعل ما يشاء فلا يجب عليه تطبيق افعاله على غرض العباد وهو متصرف في ملكه لا اعتراض عليه اصلا ولهم أربع شبه احدها انهم قالوا استحسان مكارم الاخلاق من الشكر والإحسان وانقاذ
الغرقى والهلكى واستقباح الكذب والايلام اطبق عليه العقلاء مع تفاوت قرائحهم فدل على انه مدرك بالضرورة قلنا نعم ذلك مسلم فيما بين الناس ومنشؤ اغراضهم والكفر كالايمان بالنسبة إلى الله عز وجل وليس كالكفر والشكر بالنسبة إلينا فإنا

نفرح ونرتاح بالشكر ونغتم قبل بالكفران وسر العبودية التلفت إلى الحظوظ حتى لو ورد الأمر المجرد من الشارع من غير عقاب لما قضى العقل بامتثاله إذ لا غرض لنا ولا للرب سبحانه فيه فإذا اورد العقاب قضى العقل باجتنابه وسر الربوبية ! التنزة يحيى عن الحظوظ ومن لم ينزه فقد ذهل عن حقيقة الالهية الثانية إن قالوا ما بال الملك العظيم الولي على الاقاليم يحسن إلى فقير وان اشرف على الموت من غير توقع غرض فيه ليس ذلك إلا لتحسين العقل قلنا المستحث عليه أما استمرار العادة وهي طبيعة خاصة يعسر خلافها أو رقة الجنسية والرب تعالى منزه عن الرقة والشفقة الثالثة انهم قالوا إن البراهمة ونفاة الشرائع ادركوا الحسن والقبح ولا مستند لهم إلا محض العقل قلنا ذلك اعتقاد فاسد كاعتقادكم الرحمن وليس ذلك بعلم كإحالتهم وكان بعثة الرسل

الرابعة
قولهم إن العاقل يؤثر الصدق على الكذب عند استوائهما في الافضاء إلى الغرض وسببه تحسين العقل قلنا لا بل سببه الشرع أو حذر اللوم من الناس أو تقليد مذهبهم الفاسد فإن فرضوا عدم هذه المعاني فيستوي عنده الصدق والكذب ثم غايتهم اعتبار الغائب بالشاهد ويقبح من السيد شاهدا إن يترك عبيده واماءه يموج بعضهم في بعض يزنون ويقتحمون الفواحش وهو قادر على منعهم وقد فعله الرب سبحانه والخلائق في قبضته وقهره فإن قيل تركهم لينزجروا بأنفسهم مؤثرين فيستحقون الثواب قلنا وقد علم انهم لا يفعلون فليمنعهم اجبارا وكم من مجبر ممنوع بزمانة أو عجز عن ارتكاب الفواحش

مسألة لا يستدرك وجوب شكر المنعم بالعقل خلافا للمعتزلة لان العقل

لا يوجب الشئ هزلا هملا فلا بد من تخيل غرض وذلك يستحيل رجوعه إلى المشكور فإنه تعالى منزه عن الأغراض والشاكر أيضا لا يلتذ به في الحال بل يتعب نفسه فإن قيل يعرض له انه إن شكر ربه بعد أن عرفه اثيب فيثاب وان كفر فربما يعاقب فعقله يستحثه على سلوك طريق الأمن كالمسافر إذا تصدى له طريقان على هذا الوجه قلنا توقع العقاب مختصا بجانب الكفر خيال فاسد مستنده تخيل غرض في الشكر والمعرفة وهما متساويان عند الرب فلا تمييز

ثم نقول وقد يخطر للعبد انه إن نظر وشكر ربما يعاقب فإنه عبد مرفه أمده الله تعالى بأسباب التنعم فلعله خلقه للترفه فإتعابه نفسه تصرف منه في مملكته من غير اذنه ولهم شبهتان إحداهما ادعاؤهم اطباق العقلاء على استحسان الشكر واستقباح الكفران وذلك مسلم فيما يرجع إلى الناس لانهم يهتزون بالشكر ويغتمون بالكفر والرب تعالى يستوي في حقه الامران ويعضد هذا الكلام شيئان أحدهما إن المتقرب إلى السلطان بتحريك انملته في زاوية حجرته يسفه في عقله وعبادات العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة والثاني إن من تصدق عليه السطان بكسرة من رغيف في غير مخمصة فلو أخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الاشهاد يشكره كان

ذلك خزيا وافتضاحا وجملة انعام الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى السلطان الثانية قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع المنقول دون مسالك العقول يؤدي إلى افحام الرسول فإنه إذا اظهر المعجزة ودعا الناس إلى النظر قالوا لا يجب علينا النظر في معجزاتك إلا بشرع مستقر فثبت شرعك حتى ننظر في معجزتك والجواب من وجهين
أحدهما إن هذا يلزمكم أيضا لأن العقل بجوهريته روى لا يدل على الوجوب إذ لو دل ذلك لما انفك كل عاقل عن العلم بكل معقول وقد يرى العاقل المعجزة ويذهل عنها فلا يتدبر حتى يتبين وجوب النظر وقولهم إن الإنسان لا يخلو عن خاطرين اجتراء على الحس

وبالحري إن يتذكر ذلك عند ظهور المعجزة لا قبل ولا يختص وجوبه عندكم بورود الشرع ثم قد يستهين بالرسول فلا يقيم له وزنا ويستمر على غفلته كما نرى فيمن يحضرون مجالس الوعظ فينغمسون ولم في الغفلات والواعظ يعظهم على رؤوس المنابر مع الزعقات والجواب الثاني وهو التحقيق إن الوجوب يثبت بثبوت الشرع فإذا ظهرت المعجزة فقد استقر الشرع فلا يتوقف ذلك على قبول قابل والتكليف لا يستدعي إلا الإمكان وقد أمكن فإن وفق له فاز وإلا هلك وعن هذا قيل لا يتقرب إلى الله تعالى بأول نظر فإنه لا يعلمه إذ لو علمه لعلمه بنظر آخر وخرج الأول عن أن يكون أو لا

مسألة لا حكم قبل ورود الشرع ونقل عن بعضهم إن الافعال محظورة قبل ورود الشرع وعن بعضهم إنها مباحة ولا يظن بالحاظرين بين تخيل الحظر في مستحسنات العقول وفيما لا بد للنفس منه من أكل وشرب

ولا بالمبيحين أهل اباحة ما استقبح بالعقل كالايلام حديث والكذب فلعلهم قالوا ذلك فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح فنقول الحكم بالحظر تحكم لا يدرك بنظر العقل ولا بضرورته إذ لا يرتبط بالانزجار غرض ولا يمكن تقديره في الأقدام واما الاباحة فإن عنوا بها تساوي الاحجام والاقدام مع نفي الأحكام فهو المتمنى وان زعموا أن الاباحة حكم فحكم الله خطابه فمن المبلغ ولا رسول

القول في الأحكام التكليفية التكليف مأخوذ من الكلفة على وجه التفعيل ومعناه الحمل على ما في فعله مشقة ويندرج تحته الايجاب والحظر ولا وفق ما يتشوف إليه الطبع أو ينبو عنه إما الندب فهو عند القاضي من التكليف لان تخصيص الفعل بوعد الثواب يحث العاقل على الفعل وهذا من الكلفة والاختيار انه ليس من التكليف لانه ورد مع رفع الجناح والاباحة ليست من التكليف إلا عند الأستاذ أبى اسحق

قال ووجه الكلفة وجوب اعتقاد كونه مباحا شرعا وهذا ضعيف فإن ذلك مأخوذ من تصديق الرسل ونفس الفعل لا كلفة فيه وتفصيل القول في التكاليف يحصره أربع مسائل مسألة
ذهب شيخنا أبو الحسن رحمه الله إلى جواز تكليف ما لا يطاق مستدلا

بقوله تعالى ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ولا وجه للابتهال لو لم يتصور ذلك بالبال واستدل بأن أبا جهل كلف تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أتى على لسان الرسول انه لا يصدق في اصل تكليفه فحاصله تكليفه أن يصدقه في انه لا يصدقه وهذا المذهب لائق بمذهب شيخنا أبى الحسن لازم له من وجهين إحدهما إن القدرة الحادثة عنده لا تأثير لها في المقدور وهو واقع باختراع الله تعالى وقد كلفنا فعل الغير والآخر أن القاعد عنده غير قادر على القيام وهو مأمور بالقيام وقدرة القيام تقارن القيام ولا ينجي من هذا قول بعض اصحابنا إن القعود

مقدور فهو مأمور بتركه فان الأمر متوجه بالقيام وهو غير مقدور والقاعد إذا أمر بالطيران فقد أمر بما لا يطيق قطعا وان قدر على ترك القعود والمختار عندنا استحالة تكليف ما لا يطاق نعم ترد صيغة الأمر للتعجيز كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين والانباء عن القدرة كقوله تعالى كن فيكون ولم ترد للخطاب والطلب وهذا كقوله تعالى حتى يلج الجمل في
سم الخياط معناه الابعاد لا ما يفهم من صيغة التعليق فإنه يستحيل ان يطلب من المكلف ما لا يطيق والدليل على استحالته إن الأمر طلب يتعلق بمطلوب كالعلم يتعلق بمعلوم والجمع بين القيام والقعود غير معقول فلا يكون مطلوبا ويستحيل طلبه إذ لا يعقل في نفسه

واختيارنا ان للقدرة الحادثة تعلقا بالمقدرو عند والاستطاعة وإن

قارنت الفعل فلم يكلف في الشرع إلا ما يتمكن منه قطعا وذلك بين في مصادر الشرع وموارده ووعده ووعيده إذ لا معنى لتخصيص فعل فاعل عن آخر بعقاب أو ثواب مع تساوي الكل في العجز عنه وهذا شئ مستحيل وحكم الإستطاعة يذكر في الكلام وأما أبو جهل فقد كلف أن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان قادرا عليه ثم الرب سبحانه أنه سيمتنع لأنه عنادا مع القدرة فأخبر الرسول به كما علمه فإن قيل الكفار الذين لم يؤمنوا كلفوا الإيمان وقد علم أنهم لا يؤمنون وخلاف المعلوم لا يتصور وقوعه فكان تكليف ما لا يطاق

قلنا ينعكس على الملزم هذا في خلاف المعلوم في حق الله تعالى فانه مقدور بالإتفاق وإن لم يقع والتحقيق إن ما كان مقدورا في ذاته جائز الوقوع لا تتغير حقيقته بالعلم فقد اقدر الله سبحانه الكفار على الإيمان ثم علم أنهم يمتنعون مع القدرة
فكان كما علم فلم ينقلب المقدور معجزوزا أخبرنا عنه بسبب علمه مسالة 2 لا يكلف السكران لأن شرط الخطاب فهمه وهو مضمن به والكسران يا لا يفهم فإن قيل له افهم كان تكليف ما لا يطاق وذهب الفقهاء إلى أنه مخاطب تمسكا بقوله تعالى لا تقربوا

الصلاة وأنتم سكارى وظاهر الآي لا يصادم المعقولات

ثم هو خطاب مع المنتشي الذي لم يزل عقله بدليل أنه نزل في شارب خمر أم قوما فقرأ الفاتحة فتخبطت عليه سورة قل يا أيها الكافرون وكان معه من العقل ما يفهم به وقوله سبحانه وتعالى حتى تعلموا ما تقولون معناه لتكونوا على تثبت تام وربما يتمسكون بوجوب القضاء في الصلوات ونفوذ الطلاق وجملة الأحكام قلنا جريان الأحكام عليه تغليظ لان السكر متشوف النفوس وقد تعدى بالتسبب إليه فلا يتوجه إليه الخطاب في حالة السكر اصلا والاحكام جارية والصلاة تقضي بأمر جديد ولو أمر به المجنون

بعد الإفاقة أو الحائض بعد الطهر بفعل الصوم لم يبعد وسببه تعديه بالتسبب إليه مع كونه مجنونا حتى لو ردى نفسه من شاهق فانخلعت
قدماه لا يجب القضاء لأن النفس لا تتشوف إليه والخلاف آيل إلى عبارة إن سلموا لنا استحالة تكليف ما لا يطاق لأنا نسلم الأحكام وجريانها وذلك لا يدل على التكليف والسكران لا يفهم ولا يقال له افهم وهو شرط كل خطاب وكذا الناسي الذاهل حكمه حكم السكران في التكليف مسألة (3) الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة والدليل على جواز تكليفهم الفروع أن العقل لا يحيله إذ التوصل إليه

بتقديم الإيمان ممكن كما خوطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الطهارة وكما سلموا لنا في المعطل أنه مخاطب بتصديق الرسول عليه السلام بشطر تقديم المعرفة بالرسل وهذا دليل الجواز فأما وقوعه فهو مقطوع به عندنا وتردد القاضي في انه مقطوع أو مظنون ونحن نعلم قطعا إن الرسول عليه السلام كان مبعوثا إلى طبقات الخلائق وقد كلفوا قبول شريعته نفسا بعد نفس تأصيلا وتفصيلا وان كان الوصول إليه يترتب على الإيمان كالصلاة في حق المحدث والمعطل وسر المسألة إن الكافر لا يخاطب بنفس الصلاة مع الكفر ولكنه مأمور بها على وجه التوصل وكذا نقول في حق المحدث وحكي عن أبى هاشم إن المحدث لا يخاطب بالصلاة ونسب إلى خرق الإجماع

فإن عني به ما ذكرناه فهو حق وإن عني به انه لا يعاقب على ترك الصلاة فهو باطل مسالة المضطر إلى الشئ المكره عليه يجوز إن يكون مخاطبا به خلافا للمعتزلة لان ايثارة لو باق وهو متمكن من الأقدام وشرط التكليف التمكن من الامتثال وآية بقاء خيرته تخيره بين الإقدام والإحجام وهم يقولون جلبته تحثه على فعله لخليص يكون الروح فهو سبب اقدامه لا قصد الامتثال فلا يستحق الثواب عليه ويقبح إن يؤمر بما لا يستحق الثواب عليه وعلى هذا قالوا يقبح من الرب جل وعز إن يبدي آية تخضع لها الاعناق ويؤمن لاجلها جملة العباد لان ذلك لا اختيار فيه فلا يتعلق به أمر وهذه الأصول عندنا باطلة

وحد ما يجوز به التكليف عندنا ما لا يستحيل في العقل وقوعه مع تمكن الكلف منه والزمهم القاضي رضي الله عنه اثم المكره على القتل ونسبهم في هذه المسألة إلى خرق الاجماع وهذا غير لازم فانهم يقولون لا يبعد كونه مأمورا بالإنزجار مع ومراغمة قضية الجبلة بل أولى باستحقاق الثواب كالوضوء في السبرات وتحمل
المشقات في العبادات والله أعلم

باب الكلام في حقائق العلوم والكلام فيه يحصره بابان ويشتمل كل باب على خمسة فصول الفصل الأول من الباب الأول في اثبات اصل العلم على منكريه من السوفسطائية وقد نفوا العلم والحقائق في الذوات وأثبت مثبتون للذوات حقائق وقالوا لا تعلم بالقوى البشرية

وقال بعض اصحابنا هؤلاء لا يناظرون فإنهم انكروا المحسوسات فإن كلمناهم فأقرب مسلك أن نقول أتعلمون تمييزكم سعيد في اعتقادكم عن مخالفيكم فإن علموه بطل اعتقادهم وإن جهلوه لم يسمع قولهم

الفصل الثاني في حقيقة العلم وحده ولاصحابنا فيه ست عبارات
أولها قول شيخنا أبى الحسن العلم ما يوجب بمن قام به كونه عالما وهذا فاسد فإنه لا يفيد بيانا ولا يجدي وضوحا إذ العالم مشتق من العلم فمن جهل العلم جهله فهو حوالة على المجهول كقول من فقد خاتما في بيت لمن يسأله عن البيت فيقول البيت الذي تركت فيه خاتمي وثانيها قول أبى القاسم الإسكافي العلم ما يعلم به ووجه تزييفه كالأول إذ الحد يرد للبيان ولا بيان

وثالثها قول ابن فورك العلم صفة يتأتى للموصوف بها اتقان الفعل وأحكامه وهو باطل بالعلم بالله وبجملة المستحيلات فانه علم ولا يتأتى به الإتقان ثم الإتقان بالقدرة لا بالعلم ولا معنى للإتقان فإنه عبارة عن الانتظام وليس الانتظام صفة لذات المنتظم ولكن إن وقع حسب المراد فهو المنتظم بالنسبة إليه وقد يقبح بالنسبة إلى غيره ورابعها قول بعضهم تبيين المعلوم على ما هو به أو درك المعلوم ولفظ التبيين مشعر باستفتاح علم بعد سبق استبهام ويخرج عنه علم الباري سبحانه وكذا لفظ الدرك

وهو أيضا متردد بين درك الحاسة والعقل واللفظ المتردد لا يحد به وخامسها قولهم الإحاطة بالمعلوم والرب تعالى معلوم ولا يحاط به إذ الإحاطة تشعر بالإنطواء والإحتواء وسادسها قول القاضي رضي الله عنه معرفة المعلوم على ما هو به قال القاضي تحديد العلم لا يتأتى إلا بذكر عبارة تزيد في الوضوح عليه تنبئ عنه فغاية الإمكان ترديد العبارة على السائل حتى يفهم قال لو سألني سائل عن العلم فأقول هو المعرفة ولو سأل عن المعرفة فأقول هو العلم

وهذا غير سديد لانهما عبارتنا عن معبر واحد ولو سئل عن المعرفة والعلم فماذا يقول ثم المعرفة خلاف العلم في اللغة فإنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد والعلم والعلم يتعدى إلى مفعولين وأما المعتزلة فقالوا اعتقاد الشئ على ما هو به فأبطل عليهم بالعلم بنفي الشريك وليس ذلك شيئا فإن الشئ عندهم هو المعدوم الذي يجوز وجوده ويبطل بالمخمن وفي وقد زادوا عليه مع طمأنينة النفس إليه ونحن نعلم سكون نفس المقلد إلى اعتقاده فإنه يقطع اربا ولا يكيع
عنه

فإن زادوا مع كونه مستندا إلى ضرورة أو نظر قيل لهم لو خلق الرب سبحانه جنس اعتقاد المقلد على سبيل الاختراع لم ينقلب علما وهو مستند إلى الضرورة والمختار أن العلم لا حد له إذ العلم صريح في وصفه مفصح عن معناه ولا عبارة أبين منه وعجزنا عن التحديد لا يدل على جهلنا بنفس العلم كما إذا سئلنا عن حد رائحة المسك عجزنا عنه لكون العبارة عنها صريحة ولا يدل ذلك على جهلنا ولكن سنبين العلم بالتقاسيم فنقول لا خفاء بتمييزه عن الظن والشك والجهل وإنما مظنة الإشتباه الإعتقاد المشتبه مع العلم ووجه الفرق إن المقلد لو طلب متنفسا عز في مسلك النظر لوجده والعالم لا يتمكن منه إذ لا وضوح بعد الوضوح والمعتقد المقلد إن اصغي إلى الشبه تزلزل اعتقاده دون العالم

ولو عرض على المعتقد ما يعلم ضرورة لأدرك الفرق بينه وبين ما يعتبره تقليدا مع إن العلوم بعد حصولها ضرورية بأسرها لا تختلف والمعتقد إذا نظر فعلم ذاق من نفسه أمرا على خلاف ما وجده قبله والإعتقاد إفتعال من العقد وهو مشعر بتكليف ربط العقد به والعلم انشراح صدر من غير ربط تكليف والقول الوجيز أن المعتقد سابق إلى أحد معتقدي الشاك وواقف عليه إذا الشاك يقول أزيد في الدار أم لا فيقف المعتقد على أنه في
الدار ولا يقدر خلافه ولو قدره لتمكن من ذلك ولذلك نقول في إعتقاد المعتقد أن زيدا في الدار وهو في الدار كاعتقاد من يعتقد أنه في الدار وليس فيها والعلم لا يجانسه الجهل فقد بان الفرق

الفصل الثالث في تقاسيم العلوم العلم ينقسم إلى قديم وإلى حادث فالقديم علم الباري سبحانه الذي لا أول له وهو محيط بجملة المعلومات فلا يتعدد بتعددها ولا يوصف بكونه كسبيا ولا ضروريا وأما الحادث فينقسم إلى الهجمي والنظري فالهجمي كل ما يضطر إلى علمه بأول العقل كالعلم بوجود الذات والآلام والملذات والنظري ما يفضي إليه النظر الصحيح مع انتفاء الآفات على وجه التضمن لا على وجه التولد خلافا للمعتزلة

والنظر مكتسب بالاتفاق والعلم المترتب عليه ضروري بعد حصوله عندنا خلافا لجماهير الاصحاب ودليله أنه لو كان مقدورا لقدر على دفعه بعد اتمام النظر وانتفاء
الآفات ودفعه غير ممكن كدفع الرعدة التي لا اختيار له فيها وهو بها أشبه منه بالحركة المرادة المجتلبة بالإيثار

الفصل الرابع في ماهية العقل ذكرناه في هذا الباب لأنه من جملة العلوم وليس كلها إذ الخالي عن جمل العلوم عاقل وليس من النظري إذ شرط كل نظر تقدم العقل عليه وليس كل العلوم الضرورية إذ الأصم والأخرس والأعمى عاقل وقد إختل بعض حواسه وليس آحاد العلوم أي علم شئت إذ للبهيمة علم في الميز بين التبن والشعير وليست عاقلة فالوجه أن يقال هو علم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات احترازا عن البهائم ثم هكذا قاله القاضي

وهو مزيف فإن الذاهل عن الجواز والإستحالة عاقل والوجه أن يقال هو صفة يتهيأ للمتصف بها درك العلوم والنظر في المعقولات وقال الحارث المحاسبي رضي الله عنه هو غريزة يتوصل بها إلى درك العلوم وقالت الفلاسفة هو تهيؤ الدماغ لفيض النفس عليه

الفصل الخامس في مراتب العلوم وهي عشرة أولها العلم بوجود الذات والآلام واللذات الثاني العلم باستحالة اجتماع المتضادات وهو ثاني العلم بأصل الذوات الثالث العلم بالمحسوسات ووجه استئخاره ما يتطرق إليه من التخيلات والآفات الرابع العلم الحاصل من اخبار التواتر إذ لا بد فيه من مزيد نظر لإستبانة الصدق وعدم التواطئ على الكذب

الخامس فهم فحوي فلا الخطاب ودرك قرائن الأحوال من الخجل والغضب والوجل وهو أخفى من التواتر السادس العلم بالحرف والصناعات وسبب تأخره توقفه لخفائه على تعلمه ومعاناته
السابع العلم بالنظريات ووجه استئخاره ما فيه من الخفاء ولذلك كان مظنة ارتباك العقلاء الثامن العلم بانبعاث الرسل وهو اغمض وادق فإنه يزاحم السمعيات التاسع العلم بالمعجزات ووجه خفائه بعده عن محض العقل واستناده إلى العلم باطراد العادات العاشر العلم بالسمعيات وهو يضاهي التقليد فلذلك جعلناه أخيرا

ولتعلم أن العلوم لا تفاوت فيها بعد حصولها وإن دق مدركها ولكن لكل علم مستند من البديهة والضرورة فما قرب من الضرورة كان أجلى وما بعد عنها كان أغمض وإليه الإشارة بهذه المراتب لا إلى التفاوت في العلم نفسه ومما ذكر في هذا إن الحواس على مرتبة واحدة وقيل إن السمع والبصر أقوى ثم قيل إن السمع أقوى من البصر وقيل عكسه وخلافه أيضا وقال القلانسي العقليات أقوى من الحسيات لأنها بعرض لحوق العاهات

الباب الثاني
في مآخذ العلوم ومصادرها وهي خمسة فصول الفصل الأول في نقل المذاهب فيه قال قائلون من الحشوية مأخذ العلوم الكتاب والسنة دون نظر العقل وهذا لا خفاء ببطلانه

وقال آخرون مدركه الحواس وزاد زائدون من السمنية أخبار التواتر ولا يظن بهؤلاء أنهم أنكروا المعقولات ولكنهم سموه معقولا وسمو المحسوسات معلوما فإنه يتشكل في خزانة التخيل وهذا تضايق في عبارة وقال علماء الهند مأخذ العلوم التفكر والتأمل وقال القلانسي مأخذه العقل ولا يظن به إنكار الحواس ولكنه يقول العقل مسيطر عليه فيدركه الحس عند انبعاث الأشعة ويعلم بالعقل عنده وقيل الصبي يرى نفسه في المرآة ويدرك المدركات ولا يعلمها لعدم العقل وقال آخرون مأخذ العلوم الإلهام ولعلهم عنوا به أن العلوم كلها ضرورية مخترعة لله تعالى ابتداء كما ذكرناه والمختار عندنا أن مأخذ العلوم الميز والميز قد لا يكون عقلا كميز منه
البهائم فنعني به ميز العقلاء

ثم إنه قد يفضي به إلى بعض العلوم بغير واسطة كالعلم بالذات وصفاتها وقد يفضي بوسائط والوسائط ثلاثة الحواس وهي الوسيلة إلى المحسوسات ونظر العقل وهي الوسيلة إلى العقليات واطراد العادات وبه يعرف معاني الخطاب وقرائن الأحوال ثم قد لا يفضي الميز إلى العلم إلا بواسطتين كالمعجزة تتوقف على واسطة العقل والعرف فيستبان بالعقل كونه فعل مخترع صانع متصرف ويستبان بالعرف أنه دال على الصدق إذ لا يناسب انقلاب العصى ثعبانا صدق موسى في كونه رسولا واما السمعيات فإنها معلومات ولكنها لا تظهر في العقل ظهور العقليات

ومستنده قول حق وخبر صدق وقول النبي عليه السلام صدق وكلام الله سبحانه كذلك وقول أهل الإجماع بتصديق الرسول إياهم

الفصل الثاني في مراسم المتكلمين
حووا به جميع مآخذ العلوم قالوا العلوم تنقسم إلى الضرورية والنظرية فأما الضرورية فتنقسم إلى سابقة ونتيجة ومثاله من الهندسة قولهم خطان متماثلان زيد عليهما مثلهما فهذه مقدمة وقولهم بعد ذلك الجملتان متماثلتان نتيجة ومثاله من الكلام قولك السواد والبياض ضدان فهذه مقدمة وقولك بعده والجمع بينهما غير مقدور نتيجة ثم قد تقع المقدمة ضرورية والنتيجة نظرية كالتفرقة البديهية بين حال السكون والحركة مقدمة نتيجتها العلم بجواز وقوعها نظرا

وقد يكون على العكس كقول مثبتي حدوث العالم بعد إثبات الأعراض وحدوثها واستحالة خلو الجواهر عنها بطريق النظر إن ما لا يسبق الحوادث حادث وهذه نتيجة ضرورية من مقدمة نظرية فأما النظريات فينحصر مسلك مأخذها في أربع جهات رد غائب لشاهد ورد مختلف إلى متفق وسبر وتقسيم وتمسك بمسلك جدلي والمعنى بالغائب ما غاب عن علمك فترده إلى ما علمته
والتحكم بالجمع باطل إذ لو جاز لجاز للزنوج: الحكم على جميع الخلائق بالسواد وللمعطلة غير الحكم بأن لا نطفة إلا من آدمي ولا آدمي إلا من نطفة بدليل الفرض ولجاز لمن رأى نجارا صغيرا أن يقضي على جميع النجارين به ثم قالوا وجه الجمع الصحيح أربع

جمع لعلة كقولهم العلم علة كون الذات عالمة فليكن كذلك في الغائب وجمع بالحقيقة كقولهم حقيقة كونه عالما قيام العلم به والجمع بالشرط كقولهم الحياة شرط العلم شاهدا فكذا غائبا والجمع بالدليل العقلي كقولهم رسم الخط المنظوم وإتقانه دليل على علم المتقن شاهدا فكذا غائبا وأما رد المختلف إلى المتفق كقولنا لمنكري استحالة خلو الجواهر عن الألوان إذا سلموا ذلك في الأكوان سبب استحالة خلوه عن الأكوان قبوله لها فكذا في الألوان وعكس ذلك مع من يعكس النزاع فيه وأما المسلك الجدلي كقولنا لهم إذا سلموا استحالة الخلو عنها في ثاني حال وجودها فليكن في أول حال وجود الجوهر كذلك إذ حقيقة الكون ما يخصص الجوهر بحيز وهذه التقاسيم عندنا باطلة

والمختار
إن أساليب العقول لا ضبط لها فإن العلوم لا نهاية لها ولا ننكر ترتيب بعض العلوم على بعض وانقسامها إلى مقدمة ونتيجة ولكنها بعد الحصول ضرورية وإن غمض مدركها ولا دليل عندنا في العقل إذ لا رابط ولا جمع ونهاية النظر تجريد العقل عن الغفلات لما يعرض عليه ومن فعل ذلك أدرك المعقول وهو كتحديق أحمد البصر إلى صوب المرئي فإنه يفضي إلى العلم من غير تقدير دليل ونبين ذلك بمثال كلامي وآخر هندسي فأما الهندسي كقولهم في صدر كتبهم الكل أكثر من الجزء وهو ضروري والأشياء المتساوية كشئ واحد ثم يقال سائر الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى

الخط المحيط بها من كل الجوانب متساوية وهذا أيضا معلوم ضرورة ثم يرتبون عليه العلم بأن المثلث المتساوي الأضلاع هو الذي تركبت آحاد أضلاعه من مراكز الخطوط الدائرة المتماثلة وهذا خفي يفتقر إلى تدبر ولكنه بعد العلم به ضروري كالأول وهكذا إلى الشكل الأخير إلا انه عسر الاحتواء عليها لتعلقها بمقدمات لا يحويها الذهن ويذهل عنها في غالب الأمر والمثال الكلامي كقول مثبتي الأعراض التفرقة الحاصلة بين الحركة والسكون مهجوم عليها من غير تأمل

ثم العلم بجوازه يفتقر إلى تأمل في ابطال جهة الوجوب استنادا إلى إن تخصيصه ببعض الاوقات وبعض السمات مع تساويها في العقل دليل على بطلان الوجوب ويتعين عند بطلانه جهة الجواز إذ التقسيم حاصر ولا قسم سواه ثم يبتدي له بعد ذلك انه هل وقع جائزا بنفسه أو بمقتضى فليس إلا تنبه العقل واستبانته انه وقع بمقتضى إذ لو وقع بنفسه لما اختص ببعض الأوقات وبعض السمات ويدرك العقل ذلك بعد التنبه إدراكه التفرقة الضرورية ابتداء هكذا إلى نهاية النظر في حدوث العالم فقد بان أن لا دليل في العقل فها نحن نبطل تفاصيل تقاسيمهم فنقول أما الجمع بالعلة فكون العلم علة العالمية باطل إذ لا علية ولا معلول في العقليات عندنا

فالعلم عين العالمية ولا فرق وإن سلم فنقول إن دل العقل بعد التجريد عن الغفلات للتدبر فيه أن العالمية في حق الرب مفتقرة إلى علم لا محالة فهو الدليل ولا حاجة إلى رد الغائب إلى الشاهد وإن لم يدل فلا مقنع في الجمع ثم علم الباري يخالف علمنا بالإتفاق
فكيف يقولون إذا دلت العالمية على العلم شاهدا ينبغي أن تدل في الغائب على علم يخالفه وكذا نقول في رد المختلف إلى المتفق ولا استرواح في المعقولات إلى إجماع ولا إلى مسلك جدلي وإلزام فإن دل العقل على شئ منها في محل النزاع فهو كاف وإلا فلا فائدة في الإتفاق وتسليم الخصم نعم ذلك يورد للتضييق وتبكيت الخصم إن جحد البديهة ليختزي بعد

وأما التقسيم فقد مثلوه بقولهم في مسألة الرؤية الجوهر مرئي فلا يرى لجوهريته يقول بدليل العرض ولا لصفاته بدليل جواز تعلق الرؤية به عند تقدير عدم كل صفة تتخيل مصححة له فدل أن المصحح هو الوجود وعارضتهم المعتزلة أن الرب لا يرى الآن وليس ذلك لقرب مفرط ولا لبعد مفرط إذ ذاك محال عليه فدل أنه غير مرئي في نفسه وهذه التقاسيم عندنا باطلة إذ لا يستحيل أن يكون مصحح الرؤية أو مانعها أمرا آخر جهله السائل والمسئول إذ ليس التقسيم دائرا بين نفي وإثبات وإذا تطرق خيال بعيد إلى مظان القطع فسد والله أعلم

الفصل الثالث في
مواقف العقول ومجاريها ولا مطمع في استيعاب مجاري العقول بالذكر إذ المعقولات لا ضبط لها فلا ضبط لمراتبها ولو ذكرناها لافتقرنا إلى ذكر الهندسة والفلسفة والنجوم والشعوذة وعلوم الصناعات والرياضيات فالوجه الرمز إلى ما يتعلق بالديانات ونهاية المغزى فيه الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بصفات تجب للذات متنزه عما يوجب إثبات مشاركته للمحدثات قادر على ما لا يكون وقوعه من المستحيلات ومن جملته انبعاث الرسل وتأييدهم بالمعجزات ومستند المعجزات أسلوب العقل أو العرف

وأما درك حقيقة الإله فمن مواقف العقول وكذا كل ما يتوقع في القيامة ما لم يرد به النص ولا مجال للعقل فيه وكيف لا والعلم إما مهجوم عليه أو مستند إلى مهجوم وحقيقة الإله لا يهجم على دركها ولم يسبق لنا علم هجمي بما يفضي إليها نعم ندرك حقيقة ما نحسه ونعانيه لأن وكذا حقيقة الآلام واللذات

الفصل الرابع أدلة العقل تتعلق بمدلولاتها لأعيانها
والحدوث يدل على المحدث بعينه والسمعيات لا تدل لأعيانها فإنها عبارات تفهم بالإصلاح لا يتعدى الإصطلاح بها على نقيضها وأما المعجزة تدل على الصدق وتستمد من أسلوب العقل ليتبين به أنه فعل فاعل ومن أسلوب العرف إذ لا مناسبة بين شق القمر وصدق الرسول ولكن القائم بين يدي الأمير إذا ادعى أنه رسوله واقترح عليه في روم تصديقه أن يخرق عادته ففعل علم على الضرورة صدقه ولهذا لم يعترف أحد بالمعجزة إلا واعترف بالنبوات

الفصل الخامس فيما يستدرك بمحض العقل دون السمع أو ما يشتركان فيه والقول الضابط في ذلك أن كل ما يمكن إثباته دون إثبات كلام الباري كمعرفة الله تعالى وصفاته ودرك استحالة المستحيلات وجواز الجائزات ووجوب الواجبات العقلية دون التكليفية بأسرها فيستحيل دركه من السمع وأما الذي لا يدرك إلا بالسمع فكل ما لا يمكن إثباته إلا بعد إثبات الكلام فلا يدر بمحض العقل إذ السمع مستنده الكلام فلا يثبت أولا دون إثبات الكلام وتردد بين جهة الجواز فمأخذه السمع على التجرد ومنها ما يجوز أن يؤخذ منهما كخلق الأعمال وجواز الرؤية وكذا كل ما يجول العقل فيه فلا نتوقف في ترتيبه على تقديمه على الكلام ثم السمعيات مراتب فما قرب من المعجزة كان أوضح فإنها من أدلة السمع وهي كالبديهة وقد في المعقولات ثم دونها القرآن
ثم الأخبار المتواترة وقربه من المعجزات كقرب النظريات من البداية

كتاب البيان وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في حد البيان وفيه ثلاث عبارات إحداها قول أبي بكر الصيرفي إنه إخراج الشئ من حيز الإشكال إلى حيز التجلي وهو فاسد فإن الحيز والتجلي من العبارات المنقوضة وقد كثر الإرتباك فيه والبيان في نفسه أبين منه ولا يحد الشئ إلا بعبارة بينة تزيد في الوضوح عليه

الثانية قول بعض أصحابنا البيان هو العلم وهذا فاسد إذ لو جاز ذلك لقيل أيضا العلم هو البيان ويحد به ويخرج عنه علم الباري سبحانه إذ البيان مشعر بتبيين مفتتح ثم يقال انظر إلى بيانه يعني إلى عبارته وتقريبه المعاني إلى الأفهام الثالثة
ما قاله القاضي إن البيان هو الدليل يقال بين الله الآيات لعباده أي نصب لهم أدلة دالة على أوامره ونواهيه ثم الدليل قد يحصل بالقول والفعل والإشارة وهذا هو المختار والله أعلم

الفصل الثاني في مراتب البيان وهي باتفاق الأصوليين خمسة ولكنهم اختلفوا في ترتيبها على ثلاث مقالات قال الشافعي رضي الله عنه المرتبة الأولى النص الذي لا يختص بدرك فحواه الخواص المتأكد تأكيدا يدفع الخيال كقوله وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة الثانية النص الذي يختص بدركه بعض الناس كقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة الآية إذ لا بد من فهم معنى الواو ومعنى إلى الثالثة ما أشار الكتاب إلى جملته وتفصيله محال على الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله سبحانه أقيموا الصلاة وقوله وآتوا حقه يوم حصاده

والمرتبة الرابعة ما يتلقى أصله وتفصيله من الرسول عليه السلام الخامسة ما لا مستند له سوى القياس واعترض عليه بالإجماع فإنه لم يذكره وهو أقوى من القياس
المقالة الثانية إن المرتبة الأولى نصوص الكتاب والسنة والثانية ظواهرهما والثالثة المضمرات كقوله فعدة من أيام أخر الرابعة الالفاظ المشتركة مثل القرء وغيره والخامسة القياس المستنبط من موقع الإجماع وهذا مزيف من وجهين أحدهما أنه أخر المضمرات عن الظاهر وهو معلوم بالضرورة والآخر أنه عد القرء من البيان وهو مجمل إذ ثبت تردده واشتراكه

المقالة الثالثة إن المرتبة الأولى أقوال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة والثانية أفعاله كصلاته ووضوئه الثالثة إشارته كقوله الشهر هكذا هكذا هكذا وسكوته وتقريره الرابعة المفهوم ثم ينقسم إلى مفهوم مخالفة وموافقة كمفهوم تحريم الشتم من آية التأفيف الخامسة الأقيسة وهذا مزيف لأن فهم حظر الضرب من آية التأفيف مقطوع به فكيف يؤخر عن الأفعال والإشارات والمختار إن البيان هو دليل السمع فيترتب على ترتيب الأدلة فما قرب
من المعجزة فهو أقوى كالنظر القريب من مرتبة الضرورة

الفصل الثالث تأخير البيان عن وقت الحاجة محال لأنه من جنس تكليف ما لا يطاق وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز والمعتزلة منعوا ذلك ومنعوا جواز تأخير التخصيص عن العام إلى وقت الحاجة ومنهم من جوز تأخيره ولم يجوز تأخير الخصوص لأن العام يعمل بظاهره والمجمل لا يعمل به ونحن نتكلم في جوازه ثم في وقوعه فنقول

أولا يتصور أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب غدا ولا يبين له كيفية خياطته في الحال فإذا تصور وقوعه فلا مأخذ لإستحالته فإن العقل لا يقبح ذلك في العادات وإن تلقوه من الاستصلاح فلا نقول به ثم لعل الله علم أنه لو بين في الحال لطغوا وعصوا فتدرج في البيان ليمتثلوا ثم سلموا لنا جواز تأخير النسخ والنسخ عندهم بيان وقت التكليف وهذا تأخير البيان وآية وقوعه قصة موسى عليه السلام في تأخير بيان البقرة إلى المراجعة
وقصة نوح عليه السلام في تأخير بيان الأهل حتى ظن إن ابنه من أهله والنبي عليه السلام في ابتداء أمره أمر بالصلاة والزكاة والحج ثم بيانه ذكره على طول الدهر ولم يذكره على الفور

فإن قالوا فجوزوا موت النبي عليه السلام قبل البيان قلنا يجوز وتبين أن لا تكليف ثم يعكس عليه في النسخ وإن قالوا هذا إلغاز قلنا لا يعد ذلك إلغازا في العرف

القول في اللغات وفيه مسائل قال القائلون اللغات كلها اصطلاحية إذ التوقيف يثبت بقول الرسول عليه السلام ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة وقال آخرون هي توقيفة علي إذ لا اصطلاح يفرض بعد دعاء البعض البعض بالإصطلاح ولا بد من عبارة يفهم منها قصد الإصطلاح وقال آخرون ما يفهم منه قصد التواضع توقيفي دون ما عداه ونحن نجوز كونها اصطلاحية بأن يحرك الله تعالى رأس واحد فيفهم الآخر أنه قصد الإصطلاح ونجوز كونها توقيفية بأن يثبت الرب تعالى مراسم وخطوطا يفهم الناظر فيها العبارات ثم يتعلم البعض من البعض وكيف لا يجوز في العقل كل واحد منها ونحن نرى الصبي يتكلم بكلمة ابوبه حتى ويفهم ذلك من قرائن احوالهما في حال صغره فإذا الكل جائز

وأما وقع أحد الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع عليه وقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ظاهر في كونه توقيفا وليس بقاطع
إذ يحتمل كونها مصطلحا عليها من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم مسألة اختلفوا في أن اللغات هل تثبت قياسا ووجه تنقيح محل النزاع أن صنع التصاريف على القياس ثابت في كل مصدر نقل بالإتفاق أو هو في الحكم المنقول وتبديل العبارات ممتنع بالإتفاق كتسمية الفرس دارا الدار فرسا ومحل النزاع القياس على عبارة تشير إلى معنى آخر وهو حائد عن منهج القياس كقولهم للخمر خمر لأنه يخامر العقل أو يخمر وقياسه أن يقال مخامر أو مخمر فهل تسمى الأشربة المخامرة للعقل خمرا قياسا

وكذا قولهم استحق البعير فهو حق فإنه مشتق وجوز الأستاذ أبو اسحق مثل هذا القياس والمختار منعه وهو مذهب القاضي قلنا إن كان اثبات هذا القياس مظنونا فلا يقبل إذ ليس هذا في مظنة وجوزب تعالى عمل وإن كان معلوما فاثبتوا مستنده ولا نقل من آهل اللغة في جواز ذلك ولا من الشارع عليه السلام ومسلك العقل ضروريه ونظريه فإن منحسم في الأسامي واللغات وإن قاسوا على القياس في الشرع فتحكم لان مستند ذلك التأسي بالصحابة فما مستند هذا القياس ثم اطبقوا على أن البنج لا يسمى خمرا مع كونه مخمرا

فإن سموه فليسموا عمر الدار قارورة لمشاركتها القارورة في المعنى وهذا محال مسالة قسمت المعتزلة الأسامي النبي إلى اللغوية والدينية والشرعية فاللغوية وإن ما لم يتصرف فيه والدينية الإيمان والكفر والفسق ووجه تغيره إن الإيمان مجرد التصديق في اللغة والكفر الستر والفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها ثم دخلها تخصيص في الدين

وميزوها عن الألفاظ الشرعية لأنهم ظنوا أنها مستدركة بمحض العقل والشرعية كالصلاة والصوم والحج وقد قال بعض أصحابنا إنها منقولة بالكلية عن وضعها في اللغة وقال القاضي هي مبقاة على ما كانت عليه ولم تغير إذ الصلاة الدعاء والصوم الإمساك والحج القصد إلى الزيارة وقد بقيت عليها في الشرع وهذا مزيف إذ اسم الصلاة يشمل الركوع والسجود شرعا فإن قيل سمي به لقربه منه فنعلم أن أهل اللغة لا يسمون الواقف بين يدي الأمير على الخضوع مصليا لأنه يدعوه في وقوفه والمصير إلى أنها منقولة بالكلية محال لما قاله القاضي
والمختار لا يتبين إلا بمقدمة وهي أن تصرف أهل اللغة فيما تصرفوا فيه ينقسم إلى

ما غالب التصرف فيه الوضع كتخصيصهم كما الدابة ببعض الحيوانات حتى لا يسمى الآدمي دابة وإن كان يدب وإلى ما يتغير به الوضع كتسميتهم الخمر محرمة لارتباط التناول بها وهو المحرم وكتسميتهم الأم محرمة والمحرم وطؤها فتصرف الشرع في اللغة على هذين الوجهين إذ خصص الحج بزيارة مكة حتى لا يسمي زيارة بقعة أخرى حجا وسمي الإمساك عن الأكل والشرب والجماع صوما دون غيره وكاحتكامه هو بتسمية الفعل صلاة لقربه من الدعاء مسألة اللغة تشتمل على المجاز والحقيقة وقال الأستاذ لا مجاز فيها وخالفه القاضي فيه

ونحن نجمع بينهما إذ عني الأستاذ بنفي المجاز أن جميع الألفاظ حقائق ويكتفي في كونها حقائق بالاستعمال في جميعها وهذا مسلم ويرجع البحث لفظيا فإنه حينئذ يطلق الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن بأصل الوضع ونحن لا نطلق ذلك لأن المجاز ثابت بثبوت الحقيقة وهذا لا ينكره القاضي ولا نظن بالأستاذ إنكاره الاستعارات مع كثرتها في النظم والنثر وتسويته بين تسمية الشجاع والأسد أسدا
مسألة القرآن يشتمل على المجاز وعلى الحقيقة خلافا للحشوية

ودليله كثرة الاستعارات سيما في سورة يوسف وإن عنوا بنفيه أن المجاز هو الكلام المردود ولا يوصف به كلام الباري سبحانه فالأمر كما قالوه مسألة قال أبو حنيفة رحمه الله الفرض هو ما يقطع بوجوبه والواجب ما يتردد فيه وعندنا لا فرق إذ الشارع لم ينص عليه وأهل اللغة لم يخصصوا واشتقاق الفرض لا يقتضيه فإنه القطع ومنه المفراض وسلم والفرائض

وفرضة القوس الحزة التي تستقر فيها عروة الوتر فعلى هذا تجوز تسمية التقرب فرضا والوجوب هو الثبوت يقال وجب الجدار إذا سقط ووجبت الشمس إذا ثبتت عند الغروب في نظر الناظرين ثم نقضه بتسمية الطهارة عند الفصد فرضا وهو متردد فيه مسألة صيغة النفي بلا إذا اتصلت بالجنس لم تقتض الإجمال كقوله لا عمل إلا بنية ولا صيام ولا صلاة وزعمت المعتزلة أنها مجملة من حيث إنه يتردد بين نفي العمل حسا وبين
نفيه حكما وهذه جهالة

إذ يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد مخالفة المحسوس وقال بعض الفقهاء هو عام فيهما وهذا محال لأن العام هو الذي يمكن تقدير عمومه ويستحيل أن يكون نفي العمل مندرجا تحت اللفظ قطعا ولا يفهم من الشارع ذلك وقال آخرون هو عام في نفي الكمال والجواز وهذا فاسد لأن نفي الجواز يتضمن نفي الكمال لا محالة فلا معنى لتعميم نفيهما وقال القاضي هو مجمل لتردده بين نفي الجواز والكمال والمختار أنه ظاهر في نفي الجواز محتمل لنفي الكمال والمتمسك به متمسك بظاهر لا يدرأ إلا بدليل والله أعلم

باب في مقدار من النحو ومعاني الحروف الكلم ينقسم إلى اسم وفعل وحرف ولم يقل الكلام لأنه المفهوم والحرف لا يفهم وكذا الاسم والكلام المفهم جملة مركبة من مبتدأ وخبر كقولك زيد منطلق
أو فعل وفاعل كقولك قام زيد أو شرط وجزاء كقولك إن جئتني أكرمتك وقولك يا زيد أضمر فيه النداء وخاصة الاسم قبوله للجر والتنوين ودخول الألف واللام عليه وحده ما يشعر بمسمى من غير إشارة إلى زمن محصل

والفعل يخالف الاسم في خاصيته وهي صيغ دالة على أحداث مشعرة بزمان منقسم انقسام الزمان من ماض وحاضر ومستقبل وأما الحرف الذي جاء لمعنى تنعدم خاصية الاسم والفعل فيه ويظهر المعنى في غيره ثم الاسم أقوى في التأصيل من الفعل لأنه مستقل ويتركب من جنسه جملة مفيدة كقولك زيد قائم وما من فعل إلا ويحدث به ولا يحدث عنه فيقدر اسما والحرف دون الفعل فإنه لا معنى له في نفسه ثم الاسم ينقسم إلى المبني والمعرب

أما المبني كقولك من وكيف وأين ومتى وإنما سميت مبنية لأنها لا تتحرك كالأبنية وتسمى غير المتمكن لأنها تضاهي الحروف في صيغها والمعرب ينقسم إلى المتمكن والأمكن فالمتمكن كقولك عمر والأمكن كقولك زيد ويدخله الاعرابات الثلاثة بخلاف عمر
والفعل ينقسم إلى ماض ومستقبل فالماضي كقولك قام والمستقبل كقولك يقوم وتقوم وأقوم فهذه زيادات وأصل الزيادات حروف المد واللين وا ى فأما الياء فقد زيد في قولك يقوم والألف لا يمكن البداية بها فأبدل بالهمزة في قولهم أقوم وأما الواو فالبداية بها تشبه صياح الكلب فأبدل بالتاء لأنها تقوم مقام الواو

إذ أصل التخمة الوخمة وأصل التراث الوراث وأما النون فإنما زيد لأن فيها غنة تشبه غنة الياء وسمي المستقبل مضارعا لأنه يضارع الاسم إذ يشابه إعرابه ويقوم مقام الإسم فتقول جاء زيد يركض يعني الراكض وأما الحروف فتنقسم إلى مقطعة وإلى حروف المعاني فأما المقطعة فكالباء عنه والواو والفاء وثم فأما الباء فترد للإلصاق كقولك مررت بزيد وبمعنى على كقوله من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وبمعنى في كقوله تعالى بدعائك رب شقيا وقيل معناه لأجل دعائك وقيل معناه بسبب دعائك
وقد ترد للتعدية كقولهم دخلت به الدار وهو بدل الهمزة

ولا يجمع بينهما فهما متعاقبان وقوله أسرى بعبده بمعنى سرى وهي لغة فصيحة قال الشاعر: إن السري إذا سرى فبنفسه ابن السري إذا سرى أسراهما وظن ظانون أنه للتبعيض في مصدر يستقل دونه كقوله وامسحوا برؤوسكم وتمسكوا بقولهم أخذت زمام الناقة إذا أخذها من الأرض وأخذت بزمامها إذا أخذ بطرفه وليس الباء للتبعيض أصلا

وهذا خطأ في أخذ الزمام أيضا ولكن من المصادر ما يقبل الصلات كقولهم شكرت له ونصحت له وجلست بصدده وأما التبعيض في مسألة المسح فمأخوذ من معنى المصدر فمصدر المسح لا يشير إلى الاستيعاب كمصدر الضرب بخلاف الغسل وأما الواو فهي للعطف وهي أم العواطف وتقتضي الاشتراك في الإعراب والمعنى فتقول رأيت زيدا وعمرا يعني هما مرئيان وقولك وعمرا لا يستقل فيقتضي العطف ولو استقلت الجملة الثانية فالواو للنسق لا للعطف

وظن ظانون أنه للعطف وتمسكوا به في مسألة المحدود في القذف وهو خطأ إذ قد يجمع بين جمل متناقضة كقولك أكرمت زيدا وأهنت عمرا فلا عطف إذن

وليس الواو في وضعه للترتيب بدليل دخوله على التفاعل تقول تضارب زيد وعمرو ولا تقول ثم عمر

وليس للجمع ولكنه صالح له إذ لا يبين أثره على التثنية فلو قلت رأيت زيدين لم يقتض جمعا وقول الرجل لزوجته قبل الدخول أنت طالق وطالق إنما تقع الواحدة لأن الطلاق يساق إليها وقد بانت فالثاني واقع بعد البينونة لا لكونه للترتيب وقد يكون للجمع كقولهم جاء البرد والطيالسة واستوى الماء والخشبة معناه معها وكقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن يعني لا تجمع ولو أفردت جاز وإذا قلت وتشرب اللبن كان النهي عنهما أفرادا وجمعا

قال الشاعر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذ فعلت عظيم وهو منع عن الجمع وأما الفاء فهي للتعقيب كقولك إذا دخلت الدار فاجلس وللترتيب فإنه من ضرورة التعقيب وللتسبب إن كقولك إن جئتني فأكرمك وبمعنى الواو كقوله بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وقال سيبويه أفاد التعقيب فمعناه فالممر بعده إلى حومل ومعناه أنه موضع تجوز على صوب الدخول لا على عرضه وأما ثم فهي لترتيب الفعل أو لترتيب الكلام قال الشاعر إن من ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده يعني ثم أفهم أنه كان كذا

وظن ظانون منهم أنه ليس للترتيب وليس كذلك وهذا كقوله والأرض بعد ذلك دحاها وهي قد دحيت قبل ذلك ومعناه ثم أفهم وأما حروف المعاني
فقد تغير الإعراب والمعنى كقولهم لعل زيد منطلق وهو للترجي وقد لا تغيرهما كقوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم يعني فبرحمة وقد تغير المعني دون الإعراب كقوله هل زيد منطلق وقد تغير الإعراب دون المعنى كقوله إن زيدا منطلق وقال سيبويه إن للتحقيق ولا زيادة في لغة العرب وقوله فبما رحمة من الله يشعر بالتنبيه والحث كقوله صه ومه

والعامل لا يكون معمولا فيه كقولك لعل زيدا والمعمول لا يكون عاملا كقولك زيدا إلا المضارع فإنه عامل ومعمول فيه والعامل الذي يتصل بالاسم لا يتصل بالفعل كقولك لعل والمتصل بالفعل لا يتصل بالاسم كقولك أن ونتكلم في خمسة عشر حرفا منها ما وقد يقع حرفا لا يفيد كقوله فبما رحمة من الله وقد يقع مفيدا للنفي في غيره كقولك ما زيد قائم وهي على لغة أهل الحجاز عاملة فتقول ما هذا بشرا وعند بني تميم لا تعمل فتقول بشر وهي كافة لعمل إن عند الكوفيين فتقول إنما زيد منطلق وقال البصريون لا تكف فتقول إنما زيدا منطلق
وقد تقع اسما منكورا بمعنى الاستفهام فتقول ما عندك

فجوابه إنه ثوب أو فرس وبمعنى الشرط كقولك ما تفعل أفعل أي الفعل الذي تفعله أفعل وبمعنى التعجب كقولك ما أحسن زيدا أي شئ حسن زيدا وبمعنى الصفة كقولك مررت بما معجب وقد يقع موصولا بفعل فتقول علمت ما عندك أي ما هو قار عندك وبمعنى المدة كقولك أقوم ما تقوم وبمعنى المصدر كقوله تعالى والسماء وما بناها أراد وبناءها وبمعنى الذي كقولك أتخمت مما أكلت يعني من الذي أكلت أو من أكلي بمعنى المصدر أو من طول أكلي بمعنى المدة ولم يعبر بما عمن يعقل بخلاف من وقال أبو عبد الله المغربي يعبر به عنه كقوله والسماء وما بناها أي ومن بناها فصل أو للترديد تقول رأيت زيدا أو عمرا

وكذا أم ولكن أم قريبة للإستفهام فتقول أزيدا أكرمت أم عمرا ولا تقول أو عمرا وقد يراد به التخيير في آحاد الجنس كقولك جالس الحسن
أو ابن سيرين يعني هذا الجنس وقيل بمعنى الواو كقوله مائة ألف أو يزيدون والأصح أن معناه هم قوم إذا رأيتهم ظننتهم مائة ألف أو يزيدون والأصح كقوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى يعني قول من يرتجى أنه يتذكر أو يخشى وهذا على قدر فهم المخاطب وقد يراد بها حتى كقوله لا أفارقك أو تقضيني حقي معناه حتى تقضيني ديني فصل هل للإستفهام ولا يغير الإعراب

وقد يكون بمعنى قد ك قوله تعالى هل أتى على الإنسان والمختار أن معناه استدعاء التقرير كقوله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وإذا اتصل به لا كان للتخصيص فصل لو ترد لامتناع الشئ لامتناع غيره كقولك لو جئتني أكرمتك ولولا لامتناع الشئ لثبوت غيره كقولك لولا زيد لجئتك وقد ترد لو بمعنى إن كقوله ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم معناه وإن اعجبتكم
وإذا اتصل به لا كان للتخصيص كقوله فلولا نفر من كل فرقة

فصل من حرف جار لا يرد إلا على الاسم بمعنى التبعيض كقوله أخذت من مال زيد أو للعموم كقوله ما في الدار من رجل أو بمعنى على كقوله سبحانه ونصرناه من الذين كذبوا بآياتنا أو بمعنى ابتداء الغاية كقوله من البصرة إلى بغداد ويجوز أن تقول عن البصرة ومن هذا الجنس قولهم فلان أفضل من فلان إذا ساواه ثم ابتدأ فضلا ولا يقال عن فلان لأن من صريح في اقتضاء الإبتداء من غاية بخلاف عن وجوز في قولهم عن البصرة لأن الإعتماد ثم على الجنس فهو معلوم ويجوز أن يقول تلقنت عن فلان وهو أفصح من قوله منه ولا يقول رويت منه لأن تخييل التبعيض في الرواية بعيد وهو متخيل على الجملة في العلم فكأنه يأخذ بعض عمله وعن قد ترد اسما فيقال أخذته من عن الفرس

فصل إلى إذا اتصل بها من كان صريحا في التحديد
ومطلقة قيل للجمع وقيل للتحديد وقال سيبويه ظاهره للتحديد ويحتمل الجمع كقوله تعالى إلى المرافق ومن أنصاري إلى الله فصل على قد تقع فعلا كقولك علا يعلو وتقع اسما كقولك أخذته من على الفرس وحرفا كقولك لي عليك حق وفيه شوائب الاسم يعني الحق ثابت له وقال أبو عبد الله لا تقع قط فعلا وقولهم علا ليس ذلك هذه الحروف وهو إنما يطابق في اللفظ

فصل بلى لإستدراك النفي كقوله تعالى ألست بربكم قالوا بلى ولو قال نعم لكان معناه نفي الإلهية وجواب القائل إذا قال أليس زيد في الدار عند روم الإثبات يقال بلى وهذا لا يعتبر في الفقه في الإقرار بل يسوى بينهما إلا في حق النحويين فصل من لا يقع إلا اسما ويعبر به عمن يعقل في الاستفهام كقولك من عندك أو في الشرط كقولك من جاءك فأعطه درهما

فصل إذا تصلح للشرطية فيقول إذا دخلت الدار ولا يتمحض له لأن شرط الشرط أن يرتبط بما لا يقطع بوقوعه كالدخول ويصح أن يقول إذا طلعت الشمس وإذا جاءت القيامة ولو قال إن جاءت القيامة فهذا تردد فصل إذن للتعليل كقول عليه السلام في حديث الرطب فلا إذن وقيل إنه بمعنى إذا وهو فاسد

فصل حتى بمعنى الغاية بمعنى الغاية كقوله اكلت السمكة حتى رأسها أي ويكون للعطف تقول حتى رأسها أي ورأسها ويكون بمعنى الاستئاف ومعناه حتى رأسها اكلته وهذا كقول الشاعر ألقى الصحيفة كي يخخف إلا رحله * والزاد حتى نعله ألقاها وبمعنى إلى كقوله حتى تقضيني ديني ولا تعطف به الا ما كان من جنس المعطوف فتقول اكلت السمكة حتى رأسها ولا تقول حتى الخبز ولو قلت والخبز جاز

كما تقول رأيت القوم حتى زيدا أو وزيدا ولا تقول حتى الحمار ولكن تقول والحمار فصل مذ حرف يتصل بالزمان دون المكان يقال مذ الجمعة كما يقال من الجمعة وقد يقع اسما

كتاب الاوامر الأمر قسم من اقسام الكلام واصل الكلام قد انكره المعتزلة فلا بد من تقديمه والكلام فيه في ثلاثة فصول الفصل الاول في اثباته عليهم والكلام عندنا معنى قائم بالنفس على حقيقة وخاصية يتميز بها عما عداه وأما العبارات فهل تسمى كلاما مجازا أو حقيقة تردد فيه شيخنا أبو الحسن وهو متلقى من اللغة وانكرت المعتزلة جنس الكلام وزعمت انه فعل حركات مخصوصة

واصوات مقطعة وزعموا ان الرب تعالى متكلم بمعنى انه فاعل الكلام والدليل على إثباته ثلاثة مسالك أحدهما يختص بالكلام الباري سبحانه وقد نطقت الامة بقولهم قال الله تعالى ونطق به القران العزيز كما نطقت بقولهم علم الله
فليدل على معنى هو قائل به ويستحيل ان يكون قائلا بفعله إذ لا حكم للفاعل في اخص اوصاف الفعل ولو جاز ان يقال هو قائل بكلام يخلقه في غيره لجاز ان يقال هو متحرك بحركة يخلقها في غيره المسالك الثاني انهم ردوا الكلام الى الفعل ونحن نعلم قطعا جواز الاحاطة بكون الشخص متكلما قبل التنبه للفعل وكونه فاعلا المسلك الثالث وهو الاقوى في اثبات الغرض ان من قال لعبده افعل صادف عند

الامر طلبا جازما قائما بذاته فأبداه بقوله افعل وهو معبره فيه ومدلوله فهو الكلام الذي ينبغي اثباته وهو معلوم على الضرورة وليس ذلك ارادة لمعنيين احدهما إن الإرادة تنقسم إلى تمن لا ينفك عن تردد ولا تردد في هذا الطلب وإلى قصد جازم ويستحيل تعلقه بفعل الغير فإنه غير مقدور للمريد ولأن السيد المعاتب من جهة السلطان بسبب ضربه عبده إذا اعتذر باستعصائه صلى فكذبه فأراد تحقيقه عيانا فيأمر عبده وهو يبغي عصيانه لتمهيد عذره وليس مريدا له ولا وجه لإنكار كونه أمرا فإن العبد فهم منه الأمر وميز بينه وبين الهاذي وقال ولو أحاط أيضا بقرائن الأحوال بمعنى غرض السيد يفهم الأمر ولكن يعلم منه إرادة العصيان فلا وجه لحمل ذلك الطلب على إرادة إيقاع
الصيغة أمرا تمييزا له عن الحكاية والهذيان لأن العبد يفهم طلبا وراءه ولأن الصيغة بعد أن صارت أمرا فله معبر ومدلول وهو الطلب الذي ذكرناه

الفصل الثاني في حد الكلام وقد قيل إنه حديث النفس أو نطق النفس أو مدلول أمارات وضعت للتفاهم وهو الأصح ولعلنا نقول لا حد له كما ذكرنا في حد العلم إذ العبارات المنقولة قاصرة على المعاني المعقولة

الفصل الثالث في أقسام الكلام والمختار فيه أنه خمسة طلب وهو متناول للأمر والنهي والدعاء وخبر واستخبار وتنبيه وهو مشير إلى النداء وتردد وهو متناول للتمني والترجي وأنواعه ولو حذفنا التردد اكتفاء بقسم التنبيه أو الخبر وكون التردد تنبيها من وجه للزم الاكتفاء به في الكل إذ الأمر والنهي والخبر والاستخبار أيضا فيه تنبيه وخبر وإذا ثبت أصل الكلام فنقول الأمر قول جازم يقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به ويندرج
تحته الندب وقيل قول يتضمن إيجاب المأمور به ويخرج منه الندب

واستدل القاضي على صحة الحد الأول وكون الندب أمرا بكونه طاعة ولم يقع طاعة لكونه مرادا إذ المعصية مرادة فوقع طاعة لكونه مأمورا به وهذا تحكم على اللغة إذ يقال له وقع طاعة لكونه مطلوبا فإن سمي كل مطلوب أمرا قياسا على الواجب فلا قياس في اللغة ولم ينقل متواترا ونقل الآحاد لا يوجب العلم وأما حد المعتزلة فإنهم قالوا الأمر قول القائل افعل فأبطل عليهم بقوله قم وكل وكل أمر مشتق من مصدر آخر وبقوله قم لتأكل فإن الأكل مأمور به لا على صيغة الأمر

ثم قالوا لا بد من إرادة إحداث الكلمة وإرادة المأمور به وإرادة إيقاع الصيغة المحدثة أمرا تمييزا له عن الحكاية وخالفهم الكعبي في الإرادة الأخيرة وقال إنما تتميز عن الحكاية بصفة ذاتية فقيل له وكيف يتميز الشئ عن مثله بصفة ذاتية فقال وكيف يتميز عنه أيضا بالإرادة والجوهر لا يتميز عن الجوهر بالإرادة في ذاته فكفونا باضطرابهم أنه مؤنة الكلام عليهم فهذه مقدمات الكتاب
ومقصوده يحويه أربع عشرة مسألة مسألة (1) اختلفوا في مفهوم صيغة الأمر ومقتضاه وهو قول القائل افعل

فقال الجبائي يدل على كون المأمور به مرادا والوجوب لا يتلقى منه وقال بعض الناس يدل على رفع الحرج والإباحة لأنه متردد بين الوجوب والندب وهذا القدر مستيقن وهذا من جنس الاستصحاب الفقهي ولا تؤخذ منه اللغات ما لم ينقل أن قولهم افعل موضوع عندهم للإباحة ففيه المباحثة وقال الفقهاء هو للوجوب بدليل أوامر الشارع وأمر الله تعالى إبليس بالسجود واستيجاب المأمور للتعزير بتركه وكل ذلك يمكن تلقيه من القرآن وإنكار كون اللفظ بمجرده دالا عليه

فلا دليل فيه فأما شيخنا أبو الحسن والقاضي وجماعة من الأصوليين فإنهم توقفوا فيه وقالوا لا مفهوم له إلا بقرينة مخصصة له بإحدى جهات الاحتمال ثم قال بعضهم اللفظ مشترك بين هذه المعاني المحتملة كلفظ العين مشتركة في العين والميزان وعين الشمس والماء وغيرها وقال آخرون يتوقف أيضا
ثم استدلوا على المخصصة بأن العقل لا يهتدي إلى تخصيص اللغات وصريح النقل متواترا لم يوجد والآحاد ولو فرض فلا يورث العلم ولو تمسكتم بالنقل ضمنا زاعمين أنا فهمنا ذلك من إطلاق أهل اللغة إياها في شئ من ذلك يخصصها به ومن فهمهم ذلك منها فما الذي يؤمنكم من اعتمادهم في الفهم على القرائن دون مجرد الصيغ فإن قلتم الأمر معنى قائم بالنفس فليكن عنه صيغة دالة عليه فلم عينتم وهو هذه الصيغة لكونها دالة عليه تحكما من غير نقل ثم صيغته أن تقول أوجبت كما تقول في الندب ندبت أو استحب

فنقول للواقفية إن قضيتم بكون اللفظ مشتركا كلفظ العين فمن أين أخذتموه أمن عقل أم نقل متواتر أو آحاد وندير صلى الله عليه وسلم عليهم معتمدهم ولئن قالوا بحسن الاستفصال من المأمور تبينا تردده قلنا ذلك لتعارض القرائن المتناقضة لا لتردد الصيغة في نفسها فإن قالوا لا ندري أهو مشترك أم لا قلنا نرى أهل اللغة يبحثون عن معاني ألفاظ شاذة لا تتداولها الألسنة فيبرزون معناها فما تراهم تركوا هذه اللفظة مع تكرارها على الألسنة في الساعات والأزمنة في حيز الإجمال ولم يذكروا معناها واستحالة ذلك مقطوع به فلا يخلون وتجاهلهم إذا فيه وإذا أبطلنا المذاهب فالمختار

أن مقتضى صيغة الأمر في اللسان طلب جازم إلا أن تغيره قرينة
وقد فهمنا ذلك على الضرورة من فرق العرب بين قولهم افعل ولا تفعل وتسميتهم أحدهما أمرا والآخر نهيا وإنكار ذلك خلاف لما عليه أهل اللغة قاطبة ولكن الوجوب يتلقى من قرينة أخرى إذ لا يتقرر معناه ما لم يخف العقاب على تركه ومجرد الصيغة لا يشعر بعقاب والشافعي حمل أوامر الشرع على الوجوب وقد أصاب إذ ثبت لنا بالقرائن أن من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عصى وتعرض للعقاب

مسألة (2) مطلق النهي محمول على التكرار واختلفوا في مطلق الأمر وهو قول القائل افعل فتوقف الواقفية وزعم غيرهم أنه يختص بفعلة واحدة والمأمور بالقيام يتفصى عن الأمر بقومة واحدة وإليه صار الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وقال الأستاذ أبو اسحق إنه لا بد من قيام مستدام فهو للتكرار عنده وكذا عند المعتزلة وعند أبي حنيفة رحمه الله

وقد تمسك الأستاذ بمسلكين أحدهما أن النهي للتكرار فكذا الأمر وعضد ذلك بأن الأمر بالشئ نهي عن ضده والمأمور بالقيام منهي عن
القعود فلو نهاه عن القعود صريحا لوجب ترك القعود أبدا وقد نهاه ضمنا وقياسه الأمر على النهي في اللغات غير مسموح ودعواه اقتضاء الأمر بالشئ نهي عن ضده ممنوعة وبعد تسليم جدلا نقول الأمر المطلق عند الخصم كالمقيد بفعلة واحدة فالنهي الذي هو ضمنه يكون بحسبة لا محالة كما إذا صرح بالتقيد بخلاف النهي الصريح مطلقا المسلك الثاني أن مطلق الأمر يقتضي وجوب اعتقاد الوجوب ووجوب العزم على الإمتثال ثم يجب كونهما على الدوام فكذا مقتضاه الثالث وهو الفعل

قلنا أما اعتقاد الوجوب فيكفي في لحظة فلا يفعل يعد ذلك كالإيمان والمعرفة ثم اعتقاد الوجوب مستند إلى القيام الدلالة على صدق الرسول عليه السلام لا الى مطلق الصيغة وأما العزم فلا يجب إذ لو ذهل حتى أقدم جاز ذلك ثم يبطل ذلك صريحا بالأمر المقيد بفعلة واحدة ووجهه ظاهر وتمسك الفقهاء في معارضتهم بمسلكين أحدهما ان قول القائل قام فلان إخبار عن فعل واحد فكذا قوله قم يتقيد مرة واحدة لأنهما مشتقان من مصدر واحد ووجه الأخبار لا يتفيد فقال بفعل واحد الا بقرينة فلا نسلم
هذا المسلك الثاني ان الرجل إذا قال والله لأدخلن الدار يبر بدخلة واحدة ولو قال

لا ادخل لا يبر إلا بإنزجار أي أبدا والأمر مشبه بالبر والنهي مشبه بالحنث وهذا أيضا ضعيف لأن البر والحنث محل إحتكام الشرع والعرف فلا يستبان به وضع اللغة والعرف قد يؤثر في وضع اللغة كما يحمل الدرهم على المغشوش في الشراء المطلق ويحمله على النقرة في الإقرار مع استواء اللفظين فالمختار ان الفعلة الواحدة مفهومة قطعا وما عداه متردد فيه متوقف إلى بيان قرينة ودليل ذلك بطلان ما عداه من المذاهب مسالة (3) قال الشافعي وجوب البدار إلى المأمور به لا يفهم من مطلق الأمر خلافا لابي حنيفة رحمه الله وجماعة من الاصولين

وتوقف الواقفية فيه وغلا بعضهم وقال لو بادر ايضا لا ندري هل يقع الموقع أم لا وهذا بعيد والذين قالوا بالتراخي تمسكوا بأن الأمر لا يختص بمكان فلا يختص بزمان أيضا
فعورضوا بأنه يختص بمكان بلوغ الأمر فيه فإن في الإنتقال تأخيرا وتمسك الشافعي رضي الله عنه بأن الامتثال مفهوم وليس فيه تعرض للوقت ولا يختص بزمان فيقال له وليس فيه تعرض لجواز التأخير فكيف فهمته وهلا توقفت فيه كالواقفية وتمسكوا أيضا بأن الأزمنة لا معنى لها إلا حركات الفلك وذلك إلى الله تعالى والمرتبط باختياره فعله لا الزمان فينزل اختلاف الزمان منزلة اختلاف الهواء بالصحو والغيم

وهذا فاسد فإن البدار مقدور وهو قد يكون مقصودا أما الصحو والغيم فلا يرتبط به قصد وتمسك القائلون بالفور بالنهي فإنه على الفور وهذا فاسد فإنه قياس في مقتضى اللغة ثم النهي للاستغراق وذلك لا يتصور إلا بالبدار والخلاف في هذه المسألة ينبني على أن الأمر المطلق يقتضي فعلة واحدة فلاح الفرق وتمسكوا بأن المؤخر تارك فرض متعرض للعصيان فإن قلتم لا يعصي فهذا تغيير للوجوب وإن عصيتموه فليس ذلك إلا لوجوب البدار قلنا لا يكون تاركا إلا باختلاء العمر عنه ولا يعصي إلا به
ثم نعارضهم بالأمر المقيد بالعمر على التوسيع

وقد أجيب عن هذا بأنه إنما يجوز التأخير بشرط العزم على الإمتثال فإن لم يعزم عصى وهذا فاسد لأن المحذور إثبات وجوب على الفور واللفظ غير مشير إلى زمان وقد أثبتوه ولأنه ترديد للوجوب بين الفعل والعزم لا على التعيين واللفظ غير مشعر به ثم الوجه أن يقال إن غفل ولم يعزم ثم اتفق الإقدام على الفعل فلا يعصي أصلا فالمختار إذن القضاء بأنه لو بادر وقع الموقع ولو أخر توقفنا فيه لما بيناه

مسألة (4) الأمر بالشئ لا يكون نهيا عن ضده ولا النهي عن الشئ أمر بأحد أضداده لا على التعيين خلافا للأستاذ أبي اسحق والكعبي لأن قول القائل قم لا يقتضي إلا الأمر بالقيام وترك ما عداه يقع من ضرورة الجبلة لا لكونه مقصودا بالأمر بدليل جواز تقدير ذهول الآمر عن جملة أضداده وبدليل تفصي المأمور عن الأمر لو قدر على استحالة الجمع بين القيام
والقعود والاقدام على القيام مع عدم الاتصاف بضد من أضداده محال والأمر يتلقى من فحوى الخطاب لا مما يقع من ضرورة الجبلة وليس ذلك مقصود المخاطب وبغيته وهذا كالسيد يقول للعبد أوجبت عليك كسر هذه الجوزات ثم نهي عن كسر جوزة واحدة فإذا كسر جوزا غيره من الجملة لا يقال إنه ارتسم

أمرا واجبا إذ اشتغاله به انحجاز ثنا عن كسر الجوزة المنهي عن كسرها وتمسك الأستاذ بأن قول القائل قم لا يتصور امتثاله إلا بترك القعود فترك القعود مضمر فيه والمتصف بالأمر لا محالة متصف بالنهي على هذا التقدير حتى لا يتصور خلو أحدهما عن الآخر وزاد فقال إذا تلازما وجب القضاء باتحداهما به فإن قول القائل قم أمر في نفسه نهي في نفسه كما أن العلم بالسواد والعلم بالعلم به لما تلازما اتحدا وكما اتحد علم الباري بتلازم معلوماته في حقه قلنا قولك المتصف بالنهي متصف بالأمر وعلى عكسه ممنوع إذ فرض ذهول الآمر بالقيام عن أضداده ممكن فكيف ينهى عما هو ذاهل عنه وقولك التلازم مشعر بالاتحاد تحكم لا يغني فيه الاستشهاد والقياس فلا بد فيه من مسلك عقلي ثم العلم بالعلم بالسواد غيره عندنا فلا نسلم

وعلم الباري سبحانه لا يتحد للتلازم إذ يلزم على مساقه اتحاد علمه وحياته وسائر صفاته فإنها متلازمة في حقه ثم الأمر بين أن يحد بقوله افعل وهو متميز عن قوله لا تفعل أو يحد بطلب جازم وذلك يفرض مع الذهول عما عداه مسألة (5) الشريعة تشتمل على المباح خلافا للكعبي واستدل بأن كل فعل يعد مباحا متضمن تركا لأمر محظور وترك المحظور واجب إلا أن إحدى جهاته لا يتعين وذلك لا ينافي وجوبه كخصال الكفارة فقيام الرجل إذا تضمن تركا للزنا وقع واجبا وهذا منه بناء على أن النهي عن الشئ أمر بأحد أضداده وقد أبطلناه ثم يلزمه وراء ذلك شيئان أحدهما إنكار النوافل والتطوعات فإن فيها ترك الزنا فليقع على جهة الوجوب وهذا خرق الإجماع

والثاني أن يصف الزنا بالوجوب فإن فيه ترك القتل والسرقة وإن قال واجب من وجه محرم من وجه كالصلاة في الدار المغصوبة فليقل القيام مباح من وجه واجب من وجه وقد أنكره
مسألة (6) الأمر بالشئ أمر بما لا يتم الواجب إلا به إذ ثبت أن صحة الصلاة موقوفة على الطهارة فالأمر المطلق بالصلاة الصحيحة أمر بالطهارة خلافا لبعض العلماء ودليله أن المأمور لا يكون ممتثلا إلا بفعل الطهارة فإذا وجبت فلا مستند لوجوبه إلا الأمر بالصلاة فإنه من ضرورة الصلاة الصحيحة وهو كبعض أجزائها بعد أن ثبت أنه شرطها وليس هذا يعود إلى الجبلة من ترك القعود وتوقف القيام عليه فإنا لو قدرنا عدم الاستحالة على فعل القيام مع القعود كان

ممتثلا والمقتصر على الصلاة غير ممتثل للأمر بصلاة صحيحة مسألة (7) الأمر بالشئ مشعر بوقوع المأمور به عند الامتثال مجزئا عن جهة الأمر إذ لا معنى للأجزاء إلا موافقة الأمر والامتثال قد حصل فأجزء هذا وأنكر بعض الفقهاء هذا وقال المفسد حجه بالجماع مأمور بأفعال الحج ولا يجزئه عن حجة الإسلام وهذا فاسد فإنه مأمور بالمضي في حج فاسد وهو مجز عن هذه الجهة

مسألة (8)
الجائز خلاف الواجب وكذا الواجب خلاف الجائز وقال بعض الناس كل واجب فهو جائز فنقول إن عنيتم به أنه لا حرج في فعل الواجب فهو مسلم وإن عنيتم به أن الجواز حكم فمحال إذ الجواز يشعر بالتخيير والوجوب يشعر بالتعيين فلا يصطحبان وفائدته أن الوجوب إذا نسخ عن الشئ لم يبق للإباحة حكم في الشرع بل يتوقف فيه وقالوا بنفي الجواز وهذه خيرة أثبتوها من غير نص يشعر بها مسالة (9) يجوز الأمر بخصلة من ثلاث خصال مع تفويض التعيين إلى خيرة المكلف

خلافا لأبي هاشم ولنا فيه مسلكان أحدهما أن يقول لا شك في جواز وقوعه وتصوره إذ لا يستحيل أن يقول السيد لعبده ادخل إحدى هذه الدور أيتها شئت ويسقط عنك الواجب بما تريد منها وإذا تصور جاز ورود الشرع به
والإستصلاح ثم أيضا لا يرده وربما يقتضي الصلاح ذلك ليتخير في ذلك ولا يعصي المسلك الثاني الكفارة المخيرة واجبة شرعا بالاتفاق ولا تجب الخصال الثلاثة جميعا ولا أحدها على التعيين فلم يبقى إلا وجوب واحدة على الإبهام فان قال الكل واجب لكن يسقط الوجوب بواحدة فهذه لفظة لا حاصل لها إذ لو تركها لا يعاقب على ثلاثة أوامر

ولو أقدم على واحدة لا يثاب على الثلاثة تمسك بأن الأمر بالمجهول محال والجهل لا يرتفع بالخيرة كما لا يرتفع في بيع عبد من ثلاثة أعبد مع إثبات الخيار قلنا التكليف وجد مستقرا ومتعلقا وهو خيرته خصلة منها فتقرر وأما البيع عقد يتلقى من تقييد في تعيين المحل مسألة الأمر المطلق بأداء الصلاة لا يتلقى منه وجوب القضاء عند فوات الوقت لأن العقل لا يهتدي إلى وجوب القضاء واللفظ لم يتناول إلا صلاة في وقت وقد فات ولا تدارك له فإنشاؤها رسول في وقت آخر صلاة أخرى كإنشاء العبادة في مكان آخر إذا تعذر أداؤها بالمكان المأمور بفعلها فيه فيجب القضاء بأمر مبتدأ في الشريعة أو بقياس مقتضب من أصل مجمع عليه
خلافا للفقهاء حيث قالوا يجب القضاء لمطلق الأمر الأول بالاداء

مسألة (11) الصلاة تجب بأول الوقت على التوسيع ولا يعصي بالتأخير وقال أبو حنيفة لا يوصف بالوجوب إلى ان يضيق الوقت والكلام معه وقد ناقض في القضا والكفارات والزكوات سهل فأما من أنكر الوجوب الموسع أصلا وقال إذا جاز الإعراض وتخير الرجل فلا معنى للوجوب ولا يغني عن هذا الإشكال تصويرنا ولا قول السيد لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثوب وجعلت الشهر متسعك لم فإن هذا لم يمنع جواز التأخير وهو يقتضي الوجوب ولا يغني ما قاله القاضي ذبا عن الفقهاء ان التأخير لا يجوز إلا بشرط العزم على الإمتثال فإن الفقهاء لا يوجبوب حدثنا ذلك إذ لو ذهل جاز ولأن الأمر ليس فيه اشعار بوجوب العزم وترديد بينه وبين الفعل لا على التعيين وهذا تحكم والمختار ان تبين الوجوب لا يتحقق إلا في آخر الوقت لما ذكرناه من جواز

التأخير ولكن الشرع سماه واجبا توسعا كالكفارة وغيرها ودلت الامارات عليها وهذا التجويز لا مانع منه فيتبع امارات الشرع في اطلاقه مسألة (12) المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن
وإليه صار أبو هاشم خلافا للقاضي لأن التمكن شرط يقرر التكليف ويحتمل اخترام المنية قبل التمكن فكيف يعلم مع احتمال ذلك وقد ثبت أن التكليف بما لا يطاق محال عندنا والقاضي يعتقد ثبوت الأمر قبل التكليف وعلى هذا جوز النسخ قبل التمكن وتمسك بأن البدار إلى الإقدام واجب ولا يجوز التأخير لإرتقاب ابن الموت قبل الإقدام على الفعل فإذا تمكن وجب لأنه لو تكاسل لأدى إلى خرم الشرع وأبطل غرض الشارع

فأما العلم فلا يثبت مع الإحتمال مسألة عند المعتزلة المأمور يخرج عن كونه مأمورا حال الإمتثال وحدوث الفعل المطلوب لأن الأمر طلب والكائن لا يطلب كما قالوا يخرج عن كونه مقدورا لأن القدرة لا تتعلق بالموجود وخالفهم أصحابنا في المسألتين جميعا وبنوا الأمر على القدرة ونحن نعتقد أن تعلق القدرة بالمقدور حالة الوجود لو قدر مسلم وهو اعتقادنا فيجب القطع بأنه يخرج عن كونه مأمورا لأن الكائن لا يطلب

وأما القدرة فهي سبب الوجود فإذا لم تقارنه لم يحصل الوجود
لأن العدم المستمر لا حاجة فيه إلى قدرة وكذلك الوجود المستمر وبينهما حالة لطيفة هي أول حالة الحدوث ولا تحدث إلا بقدرة تقارنها فإنها في حكم الموجد لها والمخرج لها عن العدم فأما الأمر فإنه ليس موقعا للفعل حتى تجب مقارنته لها فإن قيل هو موقع لكونها طاعة قلنا يمكن إيقاعها بطلب سابق إذ ليس وجود الفعل متعلقا به ووصفه بالطاعة ممكن بخلاف القدرة السابقة فيتنزل الأمر مع الطاعة منزلة النظر مع العلم ثم العلم يحصل بتصرم النظر وإن كان لا بد من تقدم النظر مسألة (14) قال شيخنا أبو الحسن الأشعري رحمه الله المعدوم مأمور على تقدير الوجود إذ ثبت عنده الكلام القديم وثبت كون الباري آمرا أزلا

وأبى المعتزلة له ذلك وقالوا الأمر طلب فكيف يتوجه على المعدوم والمجنون يستحيل خطابه لأنه عديم الفهم فالمعدوم أولى بأن لا يخاطب ثم جعلوا هذا ذريعة إلى رد الكلام ولا يغني في الجواب ما ألزمهم القاضي من كون المأمور معدوما إذ ذلك من ضرورته فلا استحالة فيه ولا قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي فهو كالمعدوم في حقنا وقد بقي آمرا بعد العدم فإنه لا أمر للرسول عليه السلام وهو سفير فالأمر لله تعالى
الذي لا يموت ولأن القاضي لا يجوز كون الآمر معدوما قطعا فلا معنى لهذا الكلام فالوجه أن يقول لا يبعد من حيث التصور أن يقوم طلب بذات شخص لزيد

من ولده الذي لم يحدث تعلم العلم إذا حدث ويبقى الطلب مستمرا فإذا وجد اتصل الطلب الذي هو الأمر به فكذلك الباري تعالى كان الطلب الذي هو الأمر قائما بذاته قديما ولم يتوجه الطلب على المعدوم ولكنهم إذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الطلب السابق من غير تغير وتبدل والمعدوم لا يكلف قطعا وهذا معنى قوله على تقدير الوجود فإن المعدوم إذا قدر وجوده لم يكن معدوما وحكى عن عبد الله بن سعيد انه قال كلامه كان قائما بذاته قديما ولم يكن امرا إنما صار أمرا عند الوجود فإن عني به ما ذكرناه وهو الظن فسديد وإلا فهو قول بحدوث الأمر إذا الأمر إثما كان أمرا لعينه فلا يتغير بالأوقات وثبت الكلام القديم بدليل آخر ووجه تصور الأمر قديما ذكرناه والله اعلم

القول في النواهي وقد اندرج معظم مقاصدها تحت الأمر فإنها تلوها
فمن توقف في صيغة الأمر توقف في صيغة النهي ومن حملة على الوجوب حمل النهي على الخطر ومن حملة على الندب حمل هذا على الكراهية ومن حمل ذلك على رفع الحرج في الفعل حمل هذا على رفع الحرج في ترك الفعل ومقصود الباب تحويه خمس مسائل مسالة (1) النهي محمول على فساد المنهي عنه على معنى انه يجعل وجوده كعدمه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه ولكنا مع هذا نقضي بصحة الصلاة في الدار المغصوبة خلافا لأبي هاشم فإنه قضى ببطلانها

واستدل بأن المكث منهي عنه والصلاة مكث في الدار بحركة أو سكون فقد تمكن النهي من نفس الفعل فيستحيل وقوع النهي طاعة إذ ذلك يؤدي إلى وصف الشئ الواحد بالوجوب والتحريم فأورد عليه البيع في وقت النداء وتحريم المودع بصلاة وقد طولب بالرد واجناس لهذه المسالة فارتبك وقال اقضي بفساد كل عقد تمكن التحريم منه ان ثبت التحريم وعورض استبعاده بوقوع فعل الذاهل في اثناء صلاته طاعة مع عدم التقرب فقال لا بعد في هذا فإنه لم يكلف القصد إلا في أول الوقت ثم حكمه منسحب كما ينسحب حكم الايمان في لحظة على جميع العمر وانما البعيد كون
الشئ الواحد مأمورا مطلوبا واجبا منهيا مطلوب الترك قال القاضي هذه الصلاة لا تقع طاعة كما ذكره أبو هاشم ولكن يسقط الفرض عندها ولا يسقط بها وهذا غير بعيد

كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه يسقط قضاء الصلوات والزكوات بالرد وليس ذلك طاعة وإمتثالا فقيل له ثبت جوازه عقلا فما الدليل على وقوعه قال ذلك موكول إلى رأي الفقهاء فلينظروا فيه نظرهم وليتمسكوا بغلبة الظن ثم قال يمكن اثبات وقوعه بالتمسك بمسالك الصحابة فانهم كانوا يأمرون الظلمة بتدارك المظالم ورد المغصوب مع علمهم بأن عمر الظالم لا يخلو من اداء صلاة في دار استولى عليها ولم يأمروا بإعادة الصلاة فتبين سقوط الفرض به والمختار ان الصلاة واقعة طاعة لان افعاله تضمن مكثا في الدار واداء الفعل للصلاة فله جهتان المقصود بالنهي جهة الكون والواقع طاعة اداء الصلاة ولا نظر إلى اتحاد صورة الفعل إذ الأمر والنهي يتلقى من قصد المخاطب

وعن هذا قلنا الأمر بالشئ لا يكون نهيا عن ضده وان وقع من ضرورته ولو قال السيد لغلامه لا تدخل هذه الدار وخط هذا الثوب فدخل الدار وخاط الثوب عد في العرف ممتثلا في الخياطة مخالفا في الكون في الدار وان كان الكون من ضرورة الخياطة ونحن نحمل النهي على الفساد إذا تمكن من الشئ مقصودا وكذا المودع إذا طولب بالرد فتحرم بالصلاة صحت صلاته لأنه ليس مقصودا بالنهي وان تضمن منع المالك من الأخذ وهو المنهي مسالة (2) إذا دخل عرصة مغصوبة وتوسطها وجب عليه الخروج وانتحاء اقرب الطرق وقال الجبائي يحرم الخروج لأنه تخطى في دار الغير قلنا والمكث أيضا كون في دار الغير والنهي عنهما جميعا تكليف مستحيل فليجب الخروج إذ به الخلاص

فإن قال الساقط على انسان محفوف باناس صرعى إذا علم انه لو مكث قتل من تحته ولو انتقل قتل غيره فينهي عن المكث والانتقال جميعا قلنا قال القاضي حظ الاصولي انه لا يجمع بين الأمر والنهي عنهما في المسالتين أما ما يؤمر به من الجانبين فذاك إلى رأي الفقهاء والمختار في صورة القتل ان يقال لا حكم لله تعالى فيه فلا يؤمر بمكث ولا انتقال ولكن ان تعدى في الابتداء انسحب حكم العدوان
وان لم يقصد فلا يعصي ولا تكليف عليه ونفي الحكم حكم لله تعالى في هذه الصورة واما الخروج فمكن فانه لا يؤدي إلى اتلاف وهو اقرب من المكث مسالة 3 السجود بين يدي الصنم على قصد الخشوع يحرم وقال أبو هاشم المحرم هو القصد إذ عين هذا الفعل يقع طاعة بقصد التقرب

وهذا فاسد فإنه إذا قصد اكتسب الفعل حكم القصد فصار محرما كما يكتسب حكم النية فيصير طاعة وهذا يجره إلى نفي التحريم عن فعل الزاني واخراج الأفعال عن وقوعها قربة وهو محال مسالة 4 أجمع القائلون بأن صيغة النهي للتحريم على انه ان تقدمت صيغة عليه لا تغيره فأما صيغة الأمر بالشئ بعد تقدم النهي عليه اختلفوا فيها قال القاضي في التفريغ على مذهبهم هو للوجوب لأن الصيغة لم تتبدل وما سبق ليست قرينة مقترنة بها وصار آخرون إلى أنه للإباحة بدليل قوله وإذا حللتم فاصطادوا وله الاعتضاد بالعرف أيضا والمختار

ان نتوقف فيه إذ يحتمل ان يكون تقدم النهي عنه قرينة تؤثر في هذه الصيغة ويحتمل خلافه ولا تثبت فيه فيجب التوقف في فحواه إلى البيان مسألة 5 إذا قال لا تلبس ثوبا من هذه الثياب الثلاثة وأنت بالخيار صح النهي خلافا لأبي هاشم ومسلك الكلام ما ذكرناه في خصال الكفارة معه في الاوامر فلا نعيده هنا فصل فيما تستعمل فيه صيغة الأمر تستعمل للوجوب كقوله اقيموا الصلاة وآتوا الزكاة

وللندب كقوله تعالى فكاتبوهم وللارشاد قوله كقوله تعالى واستشهدوا وللاباحة له كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وللتأديب كقوله عليه السلام لابن عباس رضي الله عنه كل مما يليك وللامتنان ذلك كقوله تعالى كلوا مما رزقكم الله وللإكرام محمد كقوله تعالى ادخلوها بسلام
وللتهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم وللتعجيز إلى كقوله تعالى كونوا حجارة أو حديدا

وللتسخير كان كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين وللإهانة أبو كقوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم وللتسوية كقوله عز وجل اصبروا أو لا تصبروا وللإنذار كقوله تعالى كلوا وتمتعوا قليلا وللدعاء كقوله عز وجل اهدنا الصراط وللتمني كقول الشاعر ألا أيها الليل الطويل ألا انجل * بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وقوله تعالى كن فيكون إخبار عن نهاية الاقتدار فظاهر الأمر الوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه ومجموعه ثلاثة عشر ويرد النهي لسبعة معان للتحريم كقوله تعالى ولا تقربوا الزنا وللكراهة كقوله لعائشة رضي الله عنه لا تتوضئي بالماء المشمس وللتحقير كقوله تعالى ولا تمدن عينيك ولبيان العاقبة كقوله تعالى ولا تحسبن الله غافلا

وبمعنى الدعاء كقوله تعالى ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به
وللأياس أو كقوله تعالى لا تعتذروا اليوم وللإرشاد كقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم والله أعلم

باب بيان الواجب والمندوب والمكروه والمحظور قيل في حد الواجب ما يستحق العقاب على تركه وهذا فاسد لأن الرب تعالى يتعالى عن أن يستحق عليه ثواب أو عقاب وله أن يفعل ما يشاء لمن يشاء وقيل ما ورد الوعيد على تركه ووجه فساده أنه لو ورد الوعيد قطعا لكان لا يتوقع المغفرة والعفو فإن كلام الباري سبحانه حق وصدق ولا يمكن تحديده بخوف العقوبة إذ الوجوب إنما يتميز عن الجواز باستحثاث عقل العاقل على فعله لاجتناب أمر محظور مقطوع به واقتحام منفعة ناجزة لا يقطع بالعقاب عليه ليس بعيدا عن العقل

فوجب تحديده بما ورد اللوم على تركه أو بما يعصي تاركه فإن العصيان اسم ذم يقضي العقل باجتنابه وأما المحظور فكل يحده بنقيض ما حد به الواجب وأما المندوب فكل مأمور لا لوم على تركه
وأما المكروه فقيل هو ترك المندوب وهو باطل بترك استغراق الأوقات في العبادات فإنه ليس بمكروه وإن كانت العبادات مندوبا إليها وقيل ما يخاف تحريمه أو يخاف عليه العقاب أو تضمن اقتحام الشبهة والكل فاسد فإنه مرتبط بتردد والكراهية حاصلة مع القطع بنفيها فالوجه أن يقال المكروه كل منهي لا لوم على فعله وأما الإباحة فتخيير بين فعلين لا يتميز أحدهما عن الآخر بندب ولا كراهية وأما التروك فعبارة عن أضداد الواجبات كالقعود عند الأمر بالقيام ثم يعصي بترك القيام لا بالقعود

ووافقنا عليه أبو هاشم فسمي أبو هاشم الذمي من حيث أنه علق الذم بالمعدوم

كتاب العموم والخصوص العام نوع من أنواع الكلام القائم بالنفس كما ذكرناه في الأمر وحده ما يتعلق بمعلومين فصاعدا من جهة واحدة احتزازا) عن قوله ضرب زيد عمرا ومقصود الكتاب تحويه ثلاث عشرة مسألة مسألة (1)
المتوقفون عبد في صيغة الأمر توقفوا في صيغة العموم وإليه صار شيخنا أبو الحسن ولزمه ذلك من أسئلة الوعيدية الصائرين إلى أن المؤمن يعذب بالمعصية وقول الجهمية المرجئة الذين يقولون إن المؤمن لا يعذب

بالمعصية والخوارج الذين صاروا إلى أن من ارتكب معصية خلد في النار مع زعمهم أن لا صغيرة إذ مخالفة الأمر كيف كان فهي كبيرة ومنهم من أثبت الصغيرة وقضي بإحباطها عليه إلا إذا وقع الإصرار عليها ثم اختلفت الواقفية فمنهم من قال العام مشترك للواحد والجمع كلفظ العين ومنهم من توقف في ذلك أيضا ووجه إبطال مذهبهم ما ذكرناه في صيغة الأمر على أنا نعلم تفرقه العرب بين الرجل والرجلين والرجال وتمييز الواحد عن الجمع والجمع عن الثنية وقال الشافعي رضي الله عنه العام نص في كل ما يصلح أن يكون متناولا له وعزي إلى شيخنا أبي الحسن أنه قال وإن اقترنت به القرائن المؤكدة فهو متوقف فيه وهذا النقل غير صحيح

وقيل لم يتوقف في أداة الشرط إذا اتصل بالكلام في قولهم من دخل الدار فأعطه درهما
والمختار أنه نص في أقل الجمع كما ذكرناه ظاهر فيما وراءه ووجهه ظاهر وغرضنا من صيغ الجمع يتبين بتقسيم فنقول العموم يتلقى من أدوات الشرط ومن صيغ الجموع أما أدوات الشرط كقولهم من دخل الدار فأعطه درهما ومن أحيا أرضا ميتة فهي له وكلمة من اسم تقتضي الإبهام فتقتضي الإستغراق وقد يتلقى من ظرف الزمان كقوله متى أكرمتني أكرمتك ومن ظرف المكان كقوله حيث كنت حضرتك قال القاضي وكذا إذا قال إن أكرمتني لأن إن تقتضي إبهاما وعندنا إنه لا يقتضي الاستغراق لأن الإبهام آيل إلى المصدر

ومعناه إن كان منك إكرام يكن مني إكرام فهذا نص في الإكرام الأول أما الثانية والثالثة فنتوقف فيه وأما صيغة الجمع فتنقسم إلى جمع السلامة وهو ما يسلم فيه بناء الواحد وإلى جمع التكسير وهو الذي لا يسلم فيه بناء الواحد ثم جمع السلامة ينقسم إلى جمع الذكور كقولك مسلم ومسلمون والأصل فيه زيادة الواو والنون وزيادة الياء والنون وإلى جمع الإناث وهو منقسم إلى ما لا يظهر فيه علامة التأنيث
كقولك هند ودعد فيجمع بزيادة الألف والتاء وإلى ما يظهر فيه علامة التأنيث بالتاء كقولك مسلمة فيجمع بزيادة الالف والتاء مع حذف تاء التأنيث فتقول رايت المسلمات لان التاء لم تكن من وضع الاسم

ومنها ما تظهر فيه العلامة بالألف الممدودة كقولك صفراء وحمراء فالوجه إبدال الألف الثاني وهي الهمزة بالواو وزيادة الألف والتاء وما يكون الألف مقصودا كالحبلى والسكرى تبدل الألف الاخيرة بالياء وتزاد الألف والتاء واما جمع التكسير وهو الذي ينكسر فيه بناء الواحد بزيادة حرف كقولك رجل ورجال أو نقصان كقولك كتاب وكتب أو تبديل حركة كقولك أسد وأسد قال وجمع السلامة في اللسان للتقليل وهو العشرة فما دونه وما كان من جمع التكسير على وزن الأفعال كالأثواب أو الافعلة أبي كالأرغفة أو الافعل كالأكلب أو الفعلة كالصبية فهي للتقليل وما عداه للتكثير واما المؤمنون والكافرون حيث ورد في القران فهو للتكثير قطعا ويحتمل ان يكون ذلك من احتكام الشرع كما احتكم على لفظ الصوم والصلاة

ويحتمل ان يكون كما قاله سيبويه ان كل اسم لا تسمح العرب فيه
بصيغة التكثير فصيغة التقليل محمول على التكثير ابتغاء لكثرة الفوائد كقولهم في جمع الرجل ارجل فهو للتكثير وعلى الجملة نعلم ان الصحابة رضي الله عنهم لم يترددوا في ذلك بل فهموا التكثير وليعلم ان الحرف والفعل لا يجمعان وانما يجمع الاسم وقولك قاما وقاموا ليس جميعا للفعل انما هو تعديد للفاعل فإذا اردت جمع الفعل ترده إلى الاسم فتقول قام قومتين مسالة 2 لفظ المسلمين صالح لإندراج المسلمات تحته تغليبا للتذكير على التأنيث ولكنه في الاصل غير موضوع له خلافا لبعض الناس كقوله تعالى وكانت من القانتين لانه جمع المسلمين مختص بالرجال ولفظ الناس في وضعه يشتمل على النساء مع الرجال إذ يقال لها انسان

وقد خولف فيه أيضا والعبيد يندرجون تحت لفظ المؤمنين في لسان الشارع ولا بد من دليل في استثناثه (لانه يقال لآحادهم عبد مؤمن وقيل انه لا يندرج لوقوعه مستثنى عن بعض الألفاظ وهو فاسد لأن ذلك لقيام الدليل على استثنائهم مسالة 3 قال قائلون لا يندرج المخاطب تحت مطلق الخطاب بدليل قوله الله خالق كل شئ وقول القائل من دخل الدار فأعطه
والمختار انه يندرج لان اللفظ عام والقرينة هي التي اخرجت المخاطب عن قضية الخطاب فيما ذكروه ويعارضه قوله وهو بكل شئ عليم فإنه عالم بذاته

مسالة 4 اسم الفرد إذا اتصل به الألف واللام اقتضى الاستغراق كقولهم الدينار افضل من الدرهم والمختار ان ما يتميز لفظ الواحد فيه عن اسم الجنس بالهاء كالتمرة والتمر فإذا عري عن الهاء اقتضى الاستغراق للجنس وانكره الفراء

واستدل بجواز جمعه على تمور ولكن هذا جمع على اللفظ لا على المعنى واما ما لا تدخل الهاء فيه للتوحيد ينقسم إلى ما لا يتشخص ولا يتعدد كالذهب فهو لاستغراق الجنس إذ لا يعبر عن ابعاضه بالذهب الواحد وما يتعدد كالدينار والرجل فلا يتناول إلا الواحد والالف واللام فيه للتعريف ان اتصل بالرجل أو الدينار اقتضى تعريف الجنس ولا اثر له في تخصيص واستغراق وانما يفهم الجنس من قولهم الدينار افضل من الدرهم بقرينة التسعير

مسالة 5 نكرة الوحدان في النفي تشعر بالاستغراق كقوله ما رأيت رجلا وفي الاثبات تشعر بالتخصيص كقوله رأيت رجلا لان النفي عام لا خصوص له بأقوام مضبوطين والنكرة فيه ابهام فلا تقطع عموم النفي والاثبات خاص إذ الرؤية يستحيل عمومها في كل مرئي والنكرة تقتضي تخصصا وابهاما ما فإذا اتصل بالاثبات اقتضى تخصيصه بمبهم غير معين وان اتصل بالاثبات كلمة الشرط كقوله من احيا أرضا ميته فهي

له كان للإستغراق لأن كلمة من فيه ابهام فلا تقتضي الخصوص فأما نكرة الجمع في النفي كقوله ما رأيت رجالا قال القاضي هو للاستغراق كنكرة الوحدان بل هو أولى وقال أبو هاشم لا يقتضيه بدليل قوله ما لنا لا نرى رجالا ووجهته ظاهرة إذ يحسن ان يقال ما رأيت رجالا لكني رأيت رجلا ولا تقول ما رأيت رجلا ثم تقول رأيت لأن فيهم رجلا مسالة 6 قال الشافعي رضي الله عنه الاسم المشترك إذا ورد مطلقا كالعين والقرء عمم في جميع مسمياته إذا لم يمنع منه قرينه وكذا اللفظ الذي يستعمل مجازا في محل وحقيقة في محل يعمم كلفظ اللمس يحمل في نقض الطهارة على اللمس باليد والجماع

قال القاضي والجمع بين الحقيقة والمجاز تناقض إذ المجاز ما تجوز به عن محله فكيف يجمع بينه وبين الحقيقة وهذا إعتراض على اللفظ فإنه لا يجمع بينهما في محل واحد ولكنه يقول يعمم مفهومه في محلين والمختار خلاف ما قاله الشافعي رضي الله عنه لان لفظ العين ما وضعته العرب لعموم جملة مسمياته فإنه لا يطلق لفظ العين لإرادة جملتها كما يطلق لفظ الرجال لإرادة الجمع بل وضعت لآحادها على البدل فهو عند الإطلاق عندنا مجمل ولا يجمع أيضا بين الحقيقة والمجاز ولكنه يحمل على الحقيقة على إنفرادها أو على المجاز على حياله لعلمنا بأن العرب لا تطلق لفظ الأسد وتعني به الجمع بين الأسد والشجاع نعم يشتمل الجماع على لمس فيكون التعميم لذلك مسألة (7) أقل الجمع ثلاثة عند الشافعي رضي الله عنه

وقال مالك إثنان وقال ابن عباس رضي الله عنهما لعثمان رضي الله عنه ليس في الأخوين إخوة لما أن رد الأم من الثلث إلى السدس بهما فقال حجبها قومك يا غلام وابن مسعود أحب للمقتدين أن يقف أحدهما على اليمين والآخر على الشمال فإذا كانوا ثلاثة اصطفوا
وهذا مشعر من مذهبهما بأنهما وافقا الشافعي رضي الله عنه ولا شك أن حكاية الضمير متصلا كقولنا فعلنا ومنفصلا كقولك نحن فعلنا يعبر عن إثنين والعضوان أيضا يجوز إضافتهما بلفظ الجمع إلى الجملة كقوله فقد

صغت قلوبكما وذلك لاستثقالهم الجمع بين تثنيتين مع انطباق صيغة القلوب على لفظ الوحدان في بعض المواضع ومحل الخلاف في لفظ الرجال والمختار عندنا أن أقل ما يتناوله ثلاثة بدليل تفرقتهم بين التثنية والجمع وتسميتهم الرجلين تثنية لا جمعا مع حصول ضم أحدهما إلى الآخر وفائدة هذا المذهب عندنا أنا نحوج لا بروم رد الجمع إلى اثنين إلى دليل أوضح مما يحتاج إليه عند رده إلى ثلاثة ونسميه أيضا نصا في الثلاثة ظاهرا فيما عداه وليس من فائدته المنع من الرد إلى اثنين إذ الرجال قد يطلق ويراد به واحد عند القرينة كقول الرجل لزوجته أتخرجين وتكلمين الرجال ويعني به رجلا واحدا وقد أجمع الفقهاء على أن المقر بدراهم لا تفسر بأقل من ثلاثة فهذا مفروع عنه

مسألة (8) إذا قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر فلان بالجماع فقال فليعتق
رقبة فيختص ذلك بالجماع خلافا لمالك رضي الله عنه لأن ما عداه ليس في معناه واللفظ غير مستقل فارتبط بالمذكور وإنما لم يختص بالسائل لاستواء جميع العالمين في التكليف شرعا مسألة (9) إذا قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر فلان فقال ليعتق قال الشافعي رضي الله عنه يتعلق العتق بكل إفطار لأن حكايات الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال وأضرب الشرع عن الاستفصال فمطلق كلامه لعموم المقال والأمر على ما قال إن تبينا عدم إحاطة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب الإفطار وإن توقعنا علمه فلا نتمسك بعمومه ولا يكفي في قطع التوهم عدم النقل من الراوي

مسألة (10) اللفظ الذي لا يستقل إذا ورد في سبب خاص فهو مختص به كما لو قيل أحلال فقال نعم واللفظ المستقل بعمومه الوارد على سبب لا نظر إلى سببه عندنا كقوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقط طهر وقيل إنه يختص لاحتمال أنه أراد بيان هذه الواقعة وهو باطل لأنه يعارضه احتمال إرادة تمهيد الشرع فبقي عموم اللفظ بعد تعارض الاحتمالات
وليس من محل الخلاف قوله انما الأعمال بالنيات لانه انعطف على الواقعة وخصصها بحكمها فقال فمن هاجر الحديث مسالة 11 عزي إلى ابي حنيفة رضي الله عنه تجويز اخراج السبب عن عموم اللفظ

استنباطا من مصيره إلى ان الحامل لا يلاعن عنها مع ان الاية وردت في امرأة العجلاني وكانت حاملا ومن مصيره إلى أن ولد المشرقية يلحق بفراش المغربي مع عدم الاحتمال تليقا من قوله عليه السلام الولد للفراش وقد ورد في عبد بن زمعة إذ تداعى ولد وليدة أبيه وكانت رقيقة ولدت على فراش أبيه وعنده ان الامة إذا أتت بولد لا يلحق بالسيد وان أقر بوطئها

وهذا أسوأ رأي له في المسألتين جميعا فلا ينبغي ان يتخيل من عاقل مصيره إلى تجويز اخراج السبب عن قضية اللفظ مسالة 12 العام إذا دخله التخصيص كان مجملا في الباقي ان كان المخصص عنه مجهولا وان كان معلوما فهو حقيقة في الباقي يجب العمل به إلا انه مجاز في الانحصار عليه لان اللفظ تناول الكل فإن اخرج البعض بقي الباقي على اصله وقال القاضي هو مجاز يجب العمل به فإن عني به ما ذكرناه فذاك
إلا فما ذكرناه رد عليه

وقال الشافعي رضي الله عنه حقيقة في الباقي يجب العمل به وقال أبو هاشم: نتمسك به في واحد، ولا نتمسك به جميعا.
وقال جمهور المعتزلة هو مجمل لا نتمسك به وقال أبو هاشم نتمسك به في واحد ولا نتمسك به جميعا وهذا محال لا المخرج عنه معلوم فكيف يصير الباقي مجملا نعم لو كان مجهولا فلا نتمسك به كما لو تمسك متمسك في مسألة الوتر بقوله وافعلوا الخير لا يجوز لان المستثنى عن عموم هذا الأمر غير معلوم

القول في الإستثناء وفيه اربعة فصول الفصل الاول في حروفه يرفع عموم اللفظ بقرائن حالية لا ضبط لها نفهمها من معانيها كقولك رأيت الناس نعلم انك ما اردت جميعهم وبقرائن لفظيه وهي منقسمة إلى الاستثناء والتخصيص اما الإستثناء فحروفه إلا وعدا وسوى وغير وحاشا وام الباب إلا ثم هو منقسم إلى ما يرد على الاثبات والى ما يرد على النفي

والوارد على الاثبات كقولك اقبل القوم إلا زيدا والاصل فيه النصب وكأنك تقول استثني زيدا منصوب على تقدير الاضمار كما تقول يا عبد الله أي انادي عبد الله ويجوز رفعه على تقدير كون إلا بدلا عن غير ونقل اعراب غير إلى ما بعده فانك تقول اقبل القوم غير زيد فتنقله إلى ما بعد إلا بدليل قول الشاعر وكل أخ يفارقه اخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان والاصح النصب لان غير يرفع بتقدير الصفة معناه اقبل القوم المغايرون لزيد

وتقدير الصفة في الاستثناء بعيد وانما قال الله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لأن الكلام ليس مستقلا فصار الباقي جزءا منه وتتمة له فتقدر تقدير الصفة وأما الوارد على النفي إن كان مستقلا كقولك ما جاءني القوم إلا زيدا فهو كالإثبات والأصل فيه النصب والرفع على تقدير البدل فالذي لا يستقل فهو مرفوع أبدا كقولك ما جاءني إلا زيد والا ساقط الاثر في الاعراب فهو كقولك ما جاءني زيد ولو عقبت الاستثناء بغيره نصبته كقولك ما جاءني إلا زيدا احد بدليل قول الكميت فما لي آل احمد شيعة * وما لي إلا مشعب الحق مشعب
وكقول كعب بن مالك

القوم الب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف واطراف القنا وزر وقال بنو تميم لا يجوز ان يقال ما جاءني احد إلا حمارا لان اسم احد لا يطلق عليه فلا يقال فيه رايت احدا وجوزه اهل الحجاز وأجابوا بقولهم ركبت احد حماري والله اعلم

الفصل الثاني في شرائطه واما شرائطه فثلاثة أحدها ان يكون متصلا بأول كلام لأنه جزء منه والرجوع فيه إلى العرب وعاداتهم ولو جوزوا انفصاله لبطلت ايمانهم ومواثيقهم وما وجب الوفاء بها وعزي إلى ابن عباس رضي الله عنهما انه جوز تأخير الاستثناء فإن صح فوجه بطلانه ما ذكرناه والوجه تكذيب الناقل فلا يظن به ذلك أو يقال أراد به إذا اضمره في وقت الاثبات وابداه بعد ذلك فقد يقول انه يدين ومذهبه ان ما يدين الرجل فيه يقبل منه إبداؤه ابدا

وقيل انه اراد به في استثناءات أن القرآن وقد قال بعض الفقهاء
والتأخير فيه غير قادح لان كلامه تعالى هو القائم بنفسه وهو واحد لا ينقطع ولا انفصال فيه وهذا فاسد لان القرآن نزل على لسان العرب ونحن نتكلم في الالفاظ فلا نفهم منها إلا ما يفهم من كلام الرسول وما ذكروه ابطال لكل طريقة لطيفة ذكرها المفسرون الشرط الثاني أن لا يكون مستغرقا لئلا يتناقض ووجه ظاهر وليس من شرطه استبقاء المعظم خلافا للقاضي واستدل بأن المستغرق انما رد لحيده عن عادة العرب لا لتضمنه نفيا بعد الإلتزام بدليل قبول قوله عشرة ان شاء الله تعالى واسثناء على التسعة عن العشرة حائد عن العادة قلنا إنما رد المستغرق لتناقضه وهذا غير متناقض

نعم هو ركيك حائد لكن لا ننظر إليه في الأقارير بدليل قبول قوله إلا تسع سدس وخمس سبع وسبع سدس فهذا ركيك ثم هو مقبول نعم لا يصدر مثله من الشارع لركاكته لا لتناقضه الشرط الثالث ان يكون الاستثناء من الجنس لانه مشتق من الثني وكأنه يثني الكلام المرسل ويصرفه عن ان يفهم منه العموم
فلا معنى لقول القائل رأيت الناس إلا حمارا لان الكلام لا يتناوله والشافعي رضي الله عنه جوز الاستثناء من غير الجنس بتقدير الرجوع إلى الجنس كما يقول المرء لفلان علي الف درهم إلا ثوب ان فسره بقيمة ثوب رده إليه قبل وان فسره بعين الثوب لم يقبل فهو بتقدير الرجوع إلى جنس الدراهم وابو حنيفة رضي الله عنه منع ذلك إلا في استثناء المكيل عن الموزون عن المكيل

الفصل الثالث قال الشافعي رضي الله عنه الجمل المستقلة إذا عطف البعض منها على البعض بالواو الناسقة وعقب بإستثناء رجع إلى الجمل كلها وبنى عليه قبول شهادة المحدود في القذف وقال أيضا لو أقر لبني عمرو وبني بكر إلا الفساق يستثني الفساق من القبيلتين وكذا في الوصية واستدل بأن الجمل صارت كجملة واحدة بالواو العاطفة وهذا ضعيف لأن الواو للنسق لا للجمع وكيف تجتمع جمل متناقضة كقولك أكرمت بني عمرو وأهنت بني خالد وضربت بني زيد وليس هذا كقوله رأيت زيدا وعمرا لأن قوله وعمرا لا يستقل بنفسه فالقطع بانعطاف الاستثناء على الكل تحكم

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ينحصر على الأخير وناقض في المشيئة حتى لو قال لبني فلان وبني فلان إن شاء الله رجع إلى الكل وناقض في الوصية كقوله أوصيت لبني زيد وبني بكر المساكين منهم قال يرجع إليهما والتحكم أيضا بالانحصار باطل إذ لا يبعد أن يقول الرجل أوصيت لبني فلان وبني فلان إلا الفساق ويعني به استثناءهم عن الكل ولكن اللفظ متردد ولا قرينة فالوجه التردد وإبطال التحكم بكلا الجانبين نعم يساعد الشافعي رضي الله عنه في مسألة الإقرار والوصية لتعارض الاحتمالات ووجوب الاقتصار على المستيقن ويوافقه في مسألة المحدود في القذف ولأن الجملة فيه قوله

وأولئك هم الفاسقون وهو وصف وذكر علة فلا يرجع الاستثناء إليه أصلا على وجه الانحصار

الفصل الرابع في تمييز الخاص عن الاستثناء فليعلم أن العام قد يكون عاما لذاته كالمذكور والمعلوم فلا تخصيص فيه
وقد يكون عاما بالنسبة كالموجود والجوهر وما ضاهاه فالخاص لذاته كالواحد الذي لا يتجزأ والخاص بالإضافة مثلا كالثلاثة خاص بالإضافة إلى ما فوقه عام بالإضافة إلى ما دونه وحد الخاص في غرضنا القول الذي يندرج تحته معنى لا يتوهم اندراج غيره معه تحت مطلق ذلك اللفظ والفرق بين الاستثناء وبين التخصيص أن الاستثناء جزء من الكلام ولهذا يعتبر اتصاله بخلاف التخصيص

والآخر أن التخصيص بيان لمعنى اللفظ المطلق حتى يبين أنه المراد به والاستثناء ليس بيانا فإنه إذا قال لفلان علي عشرة إلا خمسة لا يبين أن العشرة أريد بها الخمسة ولكن العشرة للعشرة ولزوم الخمسة يتبين بتتمة الكلام ولفظ الناس إذا خصص بالعشرة تبين أنه المراد به عند الإطلاق ولكنا ! تبيناه عند التخصيص وعن هذا كان الاستثناء رافعا وناسخا ولم يكن التخصيص كذلك والاستثناء يجوز اتصاله بالنص والتخصيص لا يتطرق إلى النص نعم يتطرق الاستثناء إلى الظاهر أيضا إذ يقول رأيت الناس إلا ثلاثا

كتاب التأويل يتقدم على مقصوده أن مأخذ الشريعة ينقسم إلى الألفاظ وإلى
ما عداها وغرضنا ذكر الألفاظ وضبطها إذ عليها نتكلم بمسالك التأويل ثم هي تنقسم إلى ألفاظ القرآن وإلى ألفاظ الرسول فأما ألفاظ القرآن فتنقسم إلى ما يقطع بفحواه وهو النص وإلى ما يظهر معناه مع احتمال وهو الظاهر وإلى ما يتردد بين جهتين من غير ترجح وهو المجمل وألفاظ الرسول تنقسم إلى متواتر وهو نازل منزلة القرآن في التمسك به وفي انقسامه فإنه مقطوع به وإلى المنقول آحادا وهو الذي لا يقطع بأصله وهو أيضا ينقسم إلى نص وظاهر ومجمل كآيات القرآن ولفظ الصحابي إذا رأيناه دليلا فهو كالاخبار

والان إذا انضبط مأخذ الالفاظ فلا بد من بيان اقسامه ومجموعها النص والظاهر والمجمل أما النص فقيل في حده انه اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع وإن كان لا يسمى نصا فهو مفهوم النص وفائدته فلا يسمى نصا ثم قال الأصوليون لا يوجد على مذاق هذا الحد في نصوص الكتاب والسنة إلا ألفاظ معدودة كقوله تعالى قل هو الله احد
وقوله تعالى محمد رسول الله وقوله عليه السلام في قصة العسيف أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها وقوله عليه السلام لابن نيار الانصاري تجزي عنك ولا تجزي عن أحد سواك فانها الفاظ صريحة بعيدة عن الاحتمال

واما الشافعي رضي الله عنه فإنه سمى الظاهر نصا ثم قال النص ينقسم إلى ما يقبل التأويل والى مالا يقبله والمختار عندنا أن يكون النص ما لا يتطرق إليه التأويل على ما سيأتي شرط التأويل وتسمية الظاهر نصا منطلق على اللغة لا مانع في الشرع منه إذ معنى النص قريب من الظهور تقول العرب نصت الظبية إذا شالت رأسها وظهرت وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليها العروس وفي الحديث كان إذا وجد فجوة نص ولو شرط في النص انحسام الاحتمالات البعيدة كما قال بعض اصحابنا فلا يتصور لفظ صريح وما عدوه من الايات والاخبار تتطرق إليها احتمالات فقوله قل هو الله احد يعني اله الناس دون الجن

وقوله محمد رسول الله أي محمد والى أي اقليم والى أي زمان وقوله تجزي عنك أي تثاب عليه
وقوله ان اعترفت فارجمها أي إذا لم تتب فهذه احتمالات بعيدة تطرقت إليها فالوجه تحديده بما ذكرناه وأما الظاهر قال الاستاذ أبو اسحاق هو المجاز والنص هو الحقيقة ورب مجاز هو نص كقوله الخمر محرمة والتحريم لا يتعلق بالخمر حقيقة وقوله تعالى والحافظات بعد قوله والحافظين فروجهم مجاز في حفظ الفرج على الخصوص وهو نص في مقصوده وكذلك تخصيص الدابة ببعض الحيوانات مجاز وهو مفهوم قطعا

فالوجه ان يقال الظاهر ما يغلب على الظن فهم معنى منه غير قطع مسألة لا يتمسك بالظواهر في العقليات لان المطلوب فيها القطع وينخرم ذلك بأدنى احتمال ويكفي المعترض ابداء احتمال ولا يحتاج إلى تعضيده بدليل واما النص فجوز أبو هاشم التمسك به في العقليات وقال الوحدانية ثابتة بقوله قل هو الله احد قال القاضي يجوز التمسك به في كل معقول ينحط اثباته عن اثبات الكلام للباري فإنه مستند السمعيات كما في مسألة الرؤية وخلق الأفعال ولكن ليعتقد ان الدليل لا ينحصر فيه أما المجمل
مشتق من قولهم اجملت الحساب إذا جمعت مفرقه ولهذا يمكن تسمية العام مجملا لاشتماله على الاحاد والمجمل في غرضنا ما لا يفهم معناه

وكذا المبهم واشتقاق المبهم من قولهم ابهمت الطريق إذا تتبع آثار السالكين بالمحو ومنه الفارس المبهم وهو الكمي المقنع الذي لا تدري عينه ثم قد يقع الاجمال في المحل والمقدار والمصرف كقولك لفلان في بعض مالي حق وقد يرتفع البعض ويبقى البعض كقوله وآتوا حقه يوم حصاده بين الوقت والمحل وبقي المقدار مجملا ومثال الاجمال ثلاثة صفة مجهولة كقوله محصنين غير مسافحين فإن الاحصان متردد بين صفات وزيادة مجهولة كما إذا فرض ورود الشرع بتوقف صحة الصلاة على زيادة فيما عهد ولم تتبين الزيادة

ونقصان مجهول كقوله لفلان علي عشرة إلا شيئا ولهذا لا يتمسك بعموم قوله افعلوا الخير لان المستثنى عنه مجهول في نفسه

فصل
في بيان المحكم والمتشابه قد اختلف الناس فيه على ست مذاهب قال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد المحكم هو الوعيد الوارد على الجرائم والكبائر والمتشابه ما ورد منه على الصغائر قال الاصم المحكم نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والكتب المتقدمة والمتشابهة نعته في القرآن

وقال بعض السلف الحروف المقطعة في ابتداء السور متشابهة وما عداها فمحكمة الله وقال آخرون المتشابه ما ورد عليه النسخ والباقي محكم وقال آخرون المتشابه ما عسر اجراؤه على ظاهره كآية الاستواء واليه ميل ابن عباس رضي الله عنهما واما الزجاج فقال الكل محكم إلا آيات القيامة فإنها متشابهة إلا لم يكشف الغطاء عنه بدليل قوله فيتبعون ما تشابه منه وكانوا لا يتبعون إلا امر القيامة بدليل قوله عز وجل يسألونك عن الساعة ويشهد لكونها متشابهة قوله تعالى ان الساعة آتية اكاد اخفيها

قال المفسرون على نفسي فإنه أخفاها تحقيقا عن غيره وقال تعالى وما يعلم تأويله إلا الله يعني حاله وعليه
وقف أبو عبيد وابتدأ من قوله والراسخون في العلم إذ العلوم كلها يحيط بها الراسخون فيها وليس هذا من غرض الاصول وغرضنا من المتشابه في الايات المتضمنة للتكاليف محال ويتبين المقصود منه برسم مسألة مسألة في آية الاستواء قال مالك لما سئل عن الاستواء الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة

وقال سفيان بن عينيه يفهم منه ما فهم من قوله ثم استوى إلى السماء وقد تحزب الناس فيه فضل فريق واجروه على الظاهر وتبعهم آخرون إذ ترددوا فيه وان لم يجزموا وفاز من قطع بنفي الاستقرار فإن تردد في مجمله ورآه فلا يعاب عليه وتكلف تعلم الادلة على نفي الاستقرار لا نراه واجبا على آحاد الناس بل يجب على شخص في كل اقليم ان يقوم به ليدفع البدع إذا ثارت فإذن المتشابه ما لا يفهم معناه وذلك محال في محل التكليف فنعلم قطعا ان هذه الآية ما أريد بها الاستقرار فلا تشابه فيها نعم الحروف المقطعة ان كانت متشابهة فلتكن فليس ذلك مما كلفنا فهمه

هذه مقدمات كتاب التأويل ولا يتوصل إلى مقصوده إلا برسم مسائل يتعرض فيها للتأويلات قال الصحيحة والفاسدة ومجموعها ثماني عشرة مسألة مسألة (1) قالت المعتزلة لا يخصص عموم القرآن بأخبار الاحاد فإن الخبر لا يقطع بأصله بخلاف القرآن وقالت الفقهاء يخصص به لانه يتسلط على فحواه وفحواه غير مقطوع به قال القاضي انا اتوقف فيه إذ ظاهر القرآن مقطوع الاصل غير مقطوع الفحوى ونص إخبار الآحاد مقطوع الفحوى غير مقطوع الاصل

والمختار انه يخصص لعلمنا ان الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون حديثا نصا ينقله إليهم الصديق في تخصيص عموم القرآن كيف وكانوا يقبلون نقل التفسير من الآحاد وهو أعظم من التخصيص ولما ان هموا بقسمة تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل أبو بكر عنه انه قال نحن معاشر الانبياء لا نورث فتركوه وان كان آية الوراثة تشمله بعمومها واما القياس فقد اختلفوا في تخصيص عموم القرآن به كما في الخبر ونحن نتوقف فيه إذ لم يثبت من الصحابة فيه نفي ولا اثبات وقول الصحابي رضي الله عنه فيما رأيناه حجة فهو كالخبر

مسألة (2)
تأويل الراوي الحديث مقدم فإنه حضر فكان اولى بفهم القرآن وتخصيصه لا يقدم لاحتمال انه اعتمد فيه القياس ومذهبه مقدم عند مالك رضي الله عنه وعند القاضي على رواية لان احسان الظن به يقتضي حمله على ضعف وجده في الحديث وان اسئ الظن به فلا نقبل روايته قال الشافعي رضي الله عنه لا يقدم والحديث حجة عليه وعلى غيره فكأنا سمعناه من فلق في الرسول عليه السلام والمختار انه ان امكن حمل مذهبه على تقدمه على الرواية أو على نسيانه فعل ذلك جمعا بين قبول الحديث واحسان الظن وان نقل مقيدا انه يخالف الحديث مع علمه فالحديث متروك ولو نقل مذهبه مطلقا فلا يترك لاحتمال النسيان نعم يرجح عليه حديث يوافق مذهب الراوي

مسألة (3) زعم أبو حنيفة رضي الله عنه ان حمل المطلق على المقيد زيادة على النص وهو نسخ وجعل ايجاب الرقاب المؤمنة في الظهار اعتبارا له بالقتل من هذا الفن ثم اختلفوا في وجه النسخ فقال قائلون وجهه ان فيه شرط الايمان والنص لم يقتضه وهذا هوس إذ يجب من مساقة على الرسول عليه السلام ان يبين احكام الشرع دفعة
واحدة فإذا أمر بالصلاة مقتصرا عليه فأمره بالصوم بعده ينبغي ان يكون نسخا وهذا ظاهر البطلان وقال المحققون اقتضى النص اجزاء كل ما يسمى رقبة فشرط الايمان يغير مقتضى النص وهذا اقوى لهم في مسألة النية في الوضوء فإن الله تعالى تولى بيان افعال

الوضوء واركانه فاقتضى ذلك وقوع الاجزاء بتحصيل ما يعرض له وشرط النية زيادة عليه قال الشافعي رضي الله عنه الزيادة على النص تخصيص وانما قال ذلك لانه يسمي الظاهر نصا والمختار ان الزايدة على النص نسخ حتى لو ثبت نص في اقتضاء الاقتصار فضم شرط إليه ينسخه وما نحن فيه تخصيص واجمع اصحابنا على جواز حمل المطلق على المقيد إذا تدانت الواقعتان وان اتحدت الواقعتان فهو مقول به باجماع الامة وان تباعدتا من كل وجه فهو ممنوع بالاجماع كشرط الشهادة في اليمين مثلا لان الله تعالى قيد المداينات بها والضابط فيه ما قاله القاضي انه إذا اختلف في الواقعتين الموجب والموجب فلا اعتبار وان اتحدتا جميعا فلا بد من الحمل

وان اتحد الموجب واختلف الموجب ففيه الخلاف ومثاله شرط الأيمان في كفارة الظهار لثبوته في القتل ثم قال قائلون من اصحابنا يجوز الحمل عليه تحكما وهذا باطل إذ لا يقتضيه عقل ولا نقل واللفظ غير مشعر به فلا بد من إذن من استنباط ثم قال قائلون لا يجوز الاستنباط من محل التقييد فليكن من محل آخر وهو عدم احزاء عن المزيد عليه بالاتفاق وهو باطل فإن المستنبط من محل التقييد ان كان مخيلا صلح للجمع والا فهو باطل لعدم الا خالة ولنا في الرد على ابي حنيفة رضي الله عنه ثلاثة مسالك

احدها ان نعارضه بقوله والسارق والسارقة وقد خصصه فشرط فيه الحرز وانتفاء الشبهات ونص الرب تعالى على ذوي القرى فزاد أبو حنيفة رضي الله عنه الحاجة ونص الله عز وجل على الرقبة فزاد بالاتفاق السلامة حتى قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجزئ الاخرس فترك النص بإجتهاد انفرد فيه والاخرس يسمى رقبة كيف وقد قال الاقطع يجزئ
المسلك الثاني ان التخصيص ينقسم إلى تخصيص الابهام كقوله للفقراء فخصصه بثلاثة منهم من غير اختصاص بوصف والى تخصيص تمييز كقوله اقتلوا المشركين فخصص بأهل الحرب دون اهل الذمة ولم يكن ذلك نسخا

واسم الرقة في تناوله لجملة الرقاب مع اختلاف صفاتهم كاسم المشركين وكاسم الفقراء في تناوله لجميع الفقراء فليكن هذا تخصيصا كذلك المسلك الثالث ان تقول ان ادعوا ان قوله تعالى فتحرير رقبة نص في نفي شرط الايمان فقد افتروا على اللسان فإن اعترفوا بكونه ظاهرا فقد خصصنا بقياس سديد فليجز إذ لا منع منه كيف وهو ضعيف الظهور فإن الغرض من سياق الآية تمهيد اصل الكفارة لا ذكر الصفات بدليل انه لم يتعرض للسلامة فإن قيل كرر الرب تعالى الايمان في كفارة القتل ثلاث مرات فلو كان شرطا في الظهار لذكره مرة واحدة قلنا سبب تكريره ذكره الكافرين بين ظهراني المسلم فلو اقتصر لتخيل ان الكافر مجز عن الكافر والمسلم عن المسلم

مسألة (4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ايما امرأة نكحت بغير اذن وليها فناكحها
باطل حمل أبو حنيفة رضي الله عنه الحديث على الامة فأعترض عليه بقوله فإن وطئها فلها المهر والامة لا تستحق فحمل على المكاتبة وزعم ان هذا تأويل صحيح لأن المرأة اسم عام يتناول الاماء والمكاتبات والحرائر ويندرحن من تحته اندراجا واحدا ولا يندرجن في في حكم التبعية إذ التبعية لا معنى لها في الالفاظ ومثل هذه اللفظة يجوز تخصيصها بالحرائر فكذا بالإماء قال ولا يغني قولكم انه لو اراد المكاتبة لنص عليها فإن هذا يطرد في كل عام يخصص وهذا التأويل عندنا باطل قطعا بمسالك خمسة الاول أنه عليه السلام اطلق كلمة لاح فيها قصد العموم

والعام إذا ظهر فيه قصد العموم للمتكلم فيه لا يخصص ودليل قصد العموم انه صدر الكلام ب أي وهي من أدوات الشرط وهي من أعم الصيغ ولهذا لم يتوقف فيها الواقفية ثم لما فرغ منها اكده بكلمة ما وهي من المؤكدات المستقلة بنفسها إذ هي من ادوات الشرط وردت مؤكدة للعموم لا تستقل كقولك اكتعين لا يذكر إلا بعد قوله رأيت القوم بجملتهم فهي ايضا تقتضي العموم ثم قال فناكحها باطل
ذكر جملة مستقلة ثم رتب عليها جملة اخرى فوقعت الجملة الاخيرة جملة موقع الجزاء من الشرط والجملة الأولى في محل الشرط وهو كقول القائل بيع لازم فيفيد الملك فهذه ثلاث قرائن دلت على القطع على قصد العموم فلا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الشارع للأحكام والقادر بفصاحته على الاتيان بعبارة ناصة على الغرض بأن يأتي بأعم الصيغ ويعني به اخص الصور وقد كان عليه السلام عالما بمواقع الكلام وما يفهم منها وعلم انه لا يفهم من قوله ايما امرأة المكاتبة

المسلك الثاني علمنا على القطع ان الصحابة ما فهموا المكاتبة منه وغايتنا الاقتداء بهم في التأويل المسلك الثالث ان هذا الكلام لو صدر عن واحد منا لم يفهم منه المكاتبة ولو فسر به لنسب إلى الالغاز المسلك الرابع ان القرائن قد تجعل العام نصا يمتنع تخصيصه مثاله ان المريض إذ قال لغلامه لا تدخل علي الناس وقرينة الحال تشهد لتأذية بلقيانهم بن فأدخل عليه العبد جماعة من الثقلاء وزعم اني خصصت لفظك بمن عداهم استوجب التعزير المسلك الخامس
ان العدول عن الظاهر قد يقرب بعض القرب فيقبل وإذا بعد رد ولم يقبل بيانه ان من يقول التقيت اليوم بأسد إذا فسره بشجاع عظيم يقبل تفسيره لقربه

ولو حمل على الابخر لاختصاص الاسد من بين سائر الحيوانات بالبخر رد كلامه ونسب إلى الهذيان لبعده عن الظاهر وحمل قوله ايما امرأة على المكاتبة حمل الاسد على الابخر وتفسيره به فإن قيل اليس لو صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم باستثناء الكل إلا المكاتبة لكان اللفظ صحيحا والتخصيص كالاستثناء قال القاضي مثل هذا الاستثناء عندي باطل لانه يستغرق معظم المقصود كقوله علي عشرة إلا ستة والمختار صحة هذا الاستثناء في الاقارير ولكنه يستحيل صدوره عن ذي الجد في كلامه فإنه الغاز وحيد عن منهج كلام الفصحاء ثم ليس كلما يجوز استثناؤه للشارع يجوز ذلك لنا فإنه له ان يتحكم بتغيير لفظه وليس لنا ذلك والجملة المغنية ان المسميات الخاصة تقصد بالتخصيص والتنصيص عليها فأما ان يعبر عنها بألفاظ عامة فمحال

مسألة (5)
حمل أبو حنيفة قوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل على القضاء والنذر وهو باطل لان قوله لا صيام صيغة للتبرئة وهو يقتضي العموم في الوضع والذي يبتدر إلى الفهم منه الصيام المتأصل المترسخ هذه في الشريعة وهو صوم رمضان فإنه ركن الدين فلا يظن به عليه السلام انه يطلق لفظ الصيام عاما ويريد القضاء على الخصوص من غير قرينة وخصوص واقعة إذ لا يفهم ذلك منه قطعا فإن قيل ليمتع كل تخصيص من أجله

قلنا اللفظ عام لا يخصص إلا بقرينة تقترن به فإن لم تكن قرينة امتنع تخصيصه والقرينة كقوله احسنوا إلى الناس مثلا يعلم بالقرينة انه ما اراد جميع الناس في جميع الاحوال وكقوله عليه السلام في سائمة الغنم زكاة يقتضي وجوبها فيما دون النصاب ولكن اعتمد على فهم النصاب قبل ذلك قالوا هذا حديث محمول على نفي الكمال كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فنقول قد حمفي بعض المسميات على نفي الجواز وهذا القضاء والنذر فلا وجه للتنويع

قالوا ذلك مأخوذ من دليل آخر وقوله لا صيام مختص
بالفرض فإنه الركن في الشرع على ما ذكرتموه قلنا ان جحدتم كون لفظ الصيام عاما في الكل في وضعه فهو عناد وان اعترفتم فلم يبق لكم إلا تحكم بتخصيص ليترتب عليه تأويل منحرف لا دليل عليه ونحن نعلم ان من تمسك بهذا الحديث في اشتراط التبييت في القضاء لم ينسب إلى الخطأ ونحن لم نقل ان تخصيصه بالصوم المتأصل واجب ولكنا ادعينا اندراجه تحت عمومه فكذلك القضاء يندرج تحت عمومه فالتحكم بالتخصيص بأحد النوعين من غير قرينة مردود مسألة (6) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم عتق عليه فحمل هذا على الاب تخصيصا به باطل لان الغرض من سياق الحديث اثبات مزية اختصاص بسبب القرابة والاب متميز بمزيد الادلاء من جملة القرابات بكونه متميزا بمزيد خاصية توجب على ذي الجد في كلامه ان يخصصه بالذكر ان كان هو المقصود على الخصوص

فأما ادراجه في لفظ يعمه مع أقوام ينحطون سنة عنه في الاختصاص المقصود ركيك غث ومثاله قول القائل من دأبي اكرام الناس وكان مشهورا باكرام ابيه على الخصوص واراد بالناس الاب كان ملغزا في كلامه ولا يحمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثله
والشافعي رضي الله عنه لم يؤول لذلك لكن قال الحديث موقوف على الحسن بن عمارة مسألة (7) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغيلان حين أسلم عن عشرة نسوة امسك اربعا وفارق سائرهن

ولفيروز الديلمي حين اسلم على اختين امسك احداهما وفارق الاخرى فاقتضى لفظ الامساك استمرار النكاح على المسكنات عمرو فحمل أبو حنيفة رضي الله عنه لفظ الإمساك على ابتداء وقال ومعناه اعد النكاح على اربع واترك الباقيات ويدل على بطلان هذا التأويل اربعة مسالك احدها علمنا على القطع بأن الذين حضروا الواقعة من الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من لفظ الامساك ما فهموه فإنا لو سمعناه من واحد منا لم نفهمه المسلك الثاني هو ان لفظ الامساك صريح في الامساك وقد اقترن به قرائن اورثت القطع به

احدها مقابلته بلفظ المفارقة وتفويضه الفراق إلى خيرته فليكن ذلك مرتبطا
بتعيينه الذي ينشأ بلفظ الامساك ولفظ الإمساك مع مقابلته بلفظ المفارقة صريح والاخرى انه لو اراد ابتداء النكاح لذكر النكاح وشرائطه فإنهم كانوا حديثي العهد بالاسلام ولو ذكره لكان ذلك اهم منقول في القصة الثالث انه لا يتوقع في طرد العادة انسلاكهن في ربقة واحدة في الرضا والاباء إذ كان يحتمل امتناعهن كلهن عن النكاح فكيف يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم اطلاق الأمر كذلك والأمر على التردد الرابع انه عليه السلام حصر هذا الأمر فيهن وعندهن وسائر نساء العالم

على وتيرة واحدة فلم خصصه بهن وقال امسك أربعا وامسك واحده وفارق الأخرى والقرائن ليست اجناسا بصنف وبجنس ولكنها مخايل يختص بدركها من شاهدها كاحمرار الخجل واصفرار الوجل وهذه قرائن واضحة يورث آحادها القطع فما الظن بمجموعها المسلك الثالث ان تقول ان لم تسلموا كون ما ذكرناه مقطوعا به فتعلمون قطعا انه أغلب على الظن مما تخيلتموه ويجب تقديم ما يغلب على الظن بالاجماع المسلك الرابع
هو انا نقول قياسكم المناقض لهذا الحديث هل تشكون في صحته لأحل ما قررناه فإن قالوا لا فقد عاندوا وان اعترفوا به وهو مقطوع به فالقياس المشكوك في كونه مقولا به من الصحابة رضي الله عنهم باطل قطعا

مسألة (8) ومن تأويلاتهم لهذا الحديث قولهم يحتمل ان غيلان كان قد نكحهن في ابتداء الاسلام في كفره قبل ورود الحصر في النسوة ثم ورد الحصر ثم أسلم وكان قد وافق نكاحهن شرط الاسلام في ابتدائه وفي مثل هذه الواقعة نقضي ببقاء النكاح في اربع والجواب من ثلاثة اوجه احدها ان هذه الواقعة لو وقت لاقتضى القياس التدافع فإن مثاله طريان الرضاع المحرم على الزوجين من جهة الاخوة ولا خيرة للزوج في التعيين بل يبطل النكاح فيهما وليس كالطلاق الذي ينشئه المرء باختياره ولذلك يفوض التعيين إليه ولو صح على تقدير هذا التأويل لكفانا في المسألة قياس محل النزاع عليه ولا فرق

الثاني
هو أنهم يعتمدون فيه مجرد الاحتمال فلم ينقل الينا رفع الحجر في ابتداء الاسلام واجمع المفسرو على ان قوله إلا ما قد سلف في الاختين محمول على ما جرى في الجاهلية فلم يبق لهم إلا الاحتمال والامكان وهو كإدعاء قبل النسخ في كل حديث ولا ترد الاحاديث بالاحتمالات والاحتمال لا يكفي في التأويل ما لم يعضد بدليل الثالث ان الصاحبة رضي الله عنهم كانوا مناكحين يحيى لشدة غلمتهم ولو كان كما قالوه لنقل عن واحد من جملة الصحابة الزيادة على أربع كما نقل عن عمرو وطلحة شرب الخمر في حالة الاباحة فعدم النقل يعلمنا قطعا انه لم يكن قال القاضي ولو نقلوا وقوع ذلك في ابتداء الاسلام فلا يكفهم ما لم ينقلوا وقوع هذه الحادثة في ذلك الوقت ومجرد الاحتمال لا يدرأ التمسك بالحديث

فاستدل بأن الحديث قد استقل في نفسه حجة لنا في المسألة قطعا فمن اراد درأه احتاج إلى نقل مقطع به وما ذكره القاضي غير مرضي من وجهين وفي بيانه تمهيد قاعدة في التأويل يستدل به على أمثاله احدها هو انه لا يسلم للقاضي ان الحديث استقل بكونه حجة فإنه متردد بين وقوعه اولا فلا يكون حجة وبين وقوعه اخيرا وليس أحدهما بأولى من الآخر إذ ليس يشهد له قرينة ولا دليل
فهو المتمسك بمجرد الاحتمال لا خصمه والآخر أنا نعلم انه لو نقل إلى الصحابة رضي الله عنهم اباحة مؤقتة وتحريم متأخر عنه مقيد وحديث يوافق الحالة الاولى مطلقا من غير تقييد كانوا لا يبادرونه الرحمن بالقبول بل كانوا يخوضون في البحث عنه فإذن يكفيهم نقل الاباحة في ابتداء الاسلام فلا يبقى معنا إلا احتمال وقوعه آخرا ويعارضه نقيضه

فوجه الكلام عليه إذا ما مضى مسألة (9) قال القاضي رحمه الله كل تأويل تضمن الحط عن المنصوص فهو باطل وذكر جملا منها ورسمها بمسائل احدها تخيل أبو حنيفة رضي الله عنه سد الحاجة من قوله انما الصدقات للفقراء والمساكين ومصيره إلى جواز صرفه إلى صنف واحد وهذا التأويل باطل بمسلكين أحدهما وهو أنه تعالى ذكر الاصناف وجنسهم ووصفهم بصفاتهم التي يتميزون بها عما عداهم ثم اضاف المال إليهم بلام التمليك فاقتضى ذلك توزيع المال عليهم إذ تعريف الاصناف بصفاتهم كتعريف الاشخاص بألقابهم ولو اضاف إلى اشخاص معينين وجب صرفها إلى جميعهم

هذا مع أن الصدقات مال يتكرر وجوبها على الاغنياء جعل مناطا لحاجات الفقراء دون الكفارات التي لا تجب إلا عند ارتكاب جرائم وليس لفظ الصدقات متناولا لأنواع حتى يتخيل توزيع الانواع على الاجناس مع اختصاص كل نوع بكل جنس كقولك الدار والفرس لزيد وعمرو فلا حاجة إلى تخيل التوزيع فإن قيل سد الخلة متخيل وذكر الاصناف فائدته ضبط جهات الحاجة المدعى سدها قلنا يبطل بقول الموصي اوصيت بثلث مالي للفقراء والمساكين وعد الاصناف الثمانية يصرف إليهم وتخيل غرض سد الحاجة ممكن ولكن قيل اضاف إليهم بلام التمليك فينقض عليهم

قالوا قول الشارع عليه السلام يقبل التخصيص بالقياس دون قول الموصي وأقوالنا وعلى هذا لو خصص المعلل علته بعد الانتفاض لم يقبل منه قلنا المفهوم من كلام النبي عليه السلام متبع كالمفهوم من كلامنا ولا يخصص العام منهما إلا بقرينة إلا ان لفظ الشارع عليه السلام إذا عارضه قانون في القياس كان طرده على الظن اغلب من فهم العموم فيكون قرينة في فهم التخصيص ولا قياس يقتضي الحرمان في مسئلتنا وأقوالنا يتطرق إليها التخصيص بدليل تخصيص لفظ الدراهم من المقر والموصي بثلثه
فأما المعلل فإنما يتصدى ليبدي العلة فإذا ورد عليه نقض فذلك لعدم ذكره كل العلة وشطر العلة لا يكون علة فقرينة حاله قضى عليه بذلك

المسلك الثاني وهو الجواب عن سؤالهم وهو ان نقول مراعات سد الخلات مع مراعاة جملة الجهات ممكنة ولا يبعد ان تكون مراعاة الجهات مقصودة فقد تعارضت الاحتمالات فمطابقة الظاهر اولى من تركه مسألة (10) قال الله تعالى واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى فمقتضى الآية صرف بعض إلى ذوي القربى من غير اعتبار حاجة وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا بد من اعتبار الحاجة منهم وهذا منه بزعمه زيادة على النص وهو نسخ وهو باطل بمسلك مقطوع به وهو ان الرب تعالى اضاف المال إلى الجهات بلام التمليك وعرف كل فريق وجعل القرابة مستند تعريف احدى الفرق ولم يتعرض للحاجة

وابو حنيفة رضي الله عنه تعرض للحاجة التي لا تعرض لها والغى اعتبار القرابة وهو مصرح بها إذ قال لا يتعين صرف شئ إليهم بل يجوز حرمانهم
وفي هذا المذهب ابطال النص بالكلية قال القاضي في نصرة تأويلهم فائدة ذكر ذوي القربى تمييز الغنيمة في حقهم عن الصدقات إذ كانت محرمة عليهم وكان هذا منحة في مقابلة ذلك المنع وفقارؤهم وكان ممنوعون عن الصدقات فكانت المنحة لهم ثم قال وهذا الوجه ايضا فاسد فإنه اضاف المال إليهم بلام التمليك فاقتضى اللفظ كما ذكرناه قسمة المال عليهم وابو حنيفة رضي الله عنه جوز حرمانهم فلم يغادر للقسمة فائدة نعم لو كان يرى المنع من حرمانهم لكان يقرب ذلك وأما اليتم فلا تعتبر معه الحاجة على قول

فإن سلم فلفظ اليتم مشعر بها دون لفظ القرابة مسألة (11) قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا يقتضي مراعاة عدد المساكين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يراعى ومعناه اطعام طعام ستين مسكينا فجوز صرفه إلى واحد وقال ذكر عدد المساكين لبيان الطعام وهذا باطل بمسلكين أحدهما ان الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين تنقسم إلى ما ينتظم من مفعولين مبتدأ وخبر كقولك ظننت زيدا عالما
فتقول زيد عالم فيفهم فهذا لا بد فيه من ذكر المفعولين فأما ما لا يتأتى من مفعوليه كلام يفهم كقولك أعطيت زيدا درهما فهذا فن يجوز الاقتصار فيه على احد المفعولين إذ تقول إذا اردت

بيان المعطى اعطيت درهما ويبقى المعطى له مجملا وإذا قصدت بيان المعطى له قلت اعطيت زيدا والقدر المعطى مجمل والاطعام من جنس الاعطاء وقد ذكر الرب تعالى احد مفعوليه وهم المعطى لهم وجرد القصد إلى بيانه وترك مقدار الطعام وجنسه مجملا فألغى أبو حنيفة رضي الله عنه ما صرح به وقدر في محل الاحتمال بيانا من لفظ لا يدل عليه لا تصريحا ولا اضمارا وهذا تناقض المسلك الثاني هو انا نقول نعلم ان ابا حنيفة رضي الله عنه لم يراغم الشرع وانما حمله على مخالفة النص تخيل سد الخلة فهلا جمع بينه وبين مقتضى النص ويحتمل ان يكون احياء مهج اقوام معدودين مقصودا للشارع واللفظ دال عليه واتباعه اولى وفيه تقرير للنص مسألة (12) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعين شاة شاة فعين الشافعي

رضي الله عنه الشاة ولم يقم بدلها مقامها قال لأن الزكاة من جملة العبادات وهي من الاركان الخمسة فتنزل منزلة الصلاة والصوم والعبادات يغلب الاتباع فيها ويجب ترك
القياس عندها ولو لاح معنى على بعد فلا تعويل عليه وينضم إليه ان الزكاة عبادة محضة وهو خالص حق الله تعالى وقد تحكم فيه وتحكم ذي الحق ينفذ على وجهه وقد خص الشاة فليتبع امره فان قيل انما خصص الشاة لانه كان يخاطب العرب واصحاب المواشي منهم كانوا يقطنون البوادي فلا يملكون النقود فذكر ذلك تسهيلا عليهم ولأن الزكاة تجب مواساة وهي تختلف باختلاف صفة الشاة في العبالة والنحولة روى والقيمة مجهولة وكانت العرب أمة أمية فلم يورطهم ولم في جهالة القيمة وجعل الشاة الواحدة مرد نظرهم ومدرأة بين للجهالة فهذه فائدة التخصيص ثم لاح لنا على القطع من وضع الزكاة سد الخلة والدراهم في معنى الشاة وأقرب منه فإنها مهيأة للصرف إلى المآرب على قرب

ولنا في ابطال كلامهم اربعة مسالك احدها أن نقول هلا تخليتم معنى الغنى في جانب المالك وألحقتم بالشاة غير الشاة فان الثروة لا تختص بالشاة كما لا يختص سد الخلة بها فلتجب الزكاة في كل مال يحصل به الغنى وهذا فاسد فإن سد الخلة معلوم قطعا والدراهم في معنى الشاة فيه فلا بعد في اختصاص بعض اصناف الاصول بكثرة الدر والنسل واعتبار غير به بالعدد جهالة وبالقيمة نحكم لا يعلم قطعا قيامه في المقصود
مقامه المسلك الثاني هو ان الشارع عليه اللام نص على الشاة في خمس من الابل ولما ان انتهى إلى الجبران ردده بين الشاة وبين الدراهم ثم قدر الدراهم فمن اعتقدا التسوية بين ما اطلق وبين ما ردد فيه كلامه فقد نسبه إلى الهذيان ولا يلوح فائدته إلا كما ذكرناه

المسلك الثالث قال الشافعي رضي الله عنه لا ابعد كون سد الخلة مقصودا ولكن لا يبعد أيضا كونه مقصودا بجنس مال الزكاة ليحصل للفقراء الاستغنا بجنس مال الاغنياء ويبقى في ايديهم اعيانها وهي تدر عليهم وتنسل والدراهم تتبدد في ايدهم على قرب فيعودون إلى أدبارهم ويشهد له تخصيصه عليه السلام الاثنى بالذكر والمالية فيهما على السواء فانضم إليه ان الباب باب العبادات والواجب فيها ترك القياس المسلك الرابع قال القاضي رحمه الله هذا الاحتمال حسن لا قصور فيه ولكنه مجرد عن الدليل والاحتمال المجرد لا يقبل ولا يكفيهم استنباط خيال الحاجة من نفس النص فإن هذا دليل مستنبط من النص يكر على ظاهره بالأبطال والرفع وهذا الفن باطل على ما سيأتي ولا بد لهم من التمسك بعبادة من العبادات تضاهي ما نحن فيه من صلاة أو صوم والا فيعلم ان الخضوع متخيل من الصلاة والسجود ابلغ من الركوع في الخشوع فلا يقوم مقامه لتجرد الاحتمال عن الدليل
ولا يكفيهم التمسك بالجزية فإنها معاملة تتعلق بالتراضي بخلاف الزكاة

مسالة 13 قال القاضي حمل كلام الشارع صلى الله عليه وسلم على ما يلحقه بالكلام الغث محال ومن هذا الفن قول بعض اصحابنا في قوله تعالى وأرجلكم مكسورة الكلام لقرب الجوار ردا على الشيعة إذ قالت الواجب فيه المسح وهو كقوله وحور عين وكقوله حجر ضب خرب قال الشاعر كأن ثبيرا في عرانين وبله * كبير أناس في بجاد مزمل

معناه مزمل به لأنه من نعت الكبير وهو مرفوع لكن كسر لقرب الحركة وليس الأمر كما ظنوه في هذه المواضع بل سببه ان الرفع اثقل من الكسر فاستثقلوا الانتقال من حركة خفيفة إلى حركة ثقيلة فوالوا بين الكسرتين واما النصب في قوله وأرجلكم نصب في المعنى والنصب اخف الحركات فالانتقال إليه اولى من الجمع بين كسرتين ثقيلتين بالنسبة إلى النصب فلم يبقى لقرب الجوار معنى إلا مراعاة السجع والتقفية وذلك لا يليق بالقرآن نعم حسن النظم محبوب من الفصيح إذا لم يخل بالمعنى
فأما الخلال بالمعنى واتباع التقفية فمن ركيك الكلام فالوجه فيه ما قاله سيبوبة وهو ان العرب تعطف الشئ على الشئ إذا قرب منه من وجه وان بعد من وجوه كقول الشاعر ورأيت زوجك في الوغي * متقلدا سيفا ورمحا

والرمح لا يتقلد لكن لكونه من الاسلحة عطف عليه فكذلك امساس الماء بطريق الغسل قريب من امساس الماء بطريق المسح فعطف عليه لا لكونه ممسوحا بدليل ذكره الكعبين وعند الشيعة لا يتقدر به ومما ذكره اصحابنا ان الكسر في الرأس دخل بسبب الباء فإنه مفعول وموضعه النصب ويستحيل ان يستنبط من الكسر الواقع في الارجل ما يوجب المسح بسبب كسرة غير متأصلة وهذا فاسد لانهم يقولون لو لم يكن مشاركا له في المسح لنصب كقول الشاعر معاوي إننا بشر فأسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا

مسالة 14 كلام رسول الله صلى اله عليه وسلم لا يحمل على الاستعارة ما أمكن فإنها لا تليق إلا بواعظ حديث أو خطيب أو شاعر ينتحي التسجيع لإيقاعه في القلوب فأما الشارع إذا بين حمكا لعجوز مثلا فيبعد منه التجوز وهو تشدق وثرثرة
وقد نهى الرسول الله عليه السلام عنه نعم لا بعد في الاستعارة إذا ذكر الثواب والعقاب ووصف الجنة والنار لعظم وقعه في الصدور مسالة 15 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو داليه نصف العشر

فلا يتمسك بعمومه في وجوب الزكاة في كل مستنبت إذ لاح من تقابل اللفظين أن الغرض تمييز العشر عن نصف العشر فبطل بالكلية عمومه ولا حاجة في تخصيصه إلى دليل إذ يقبح في سياق هذا الكلام التخصص بما يقتات نعم لو اقتصر على قوله فيما سقت السماء العشر لكان كذلك مسالة 16 المناهي بجملتها في العقود محمولة على الفساد وقد اجمع عليه الصحابة فمن حمل النهي عن نكاح الشغار أو عن غيره من العقود على الكراهية منع منه فإنهم اجمعوا على فهم الفساد في كل العقود ولا خيال تفرضه في عقد إلا وفرضه في غيره ممكن فإذ تركوه دل على انه باطل مسالة 17 المسئول الشافعي عن سلب العبارة إذا استدل بقوله عليه السلام ايما امراة نكحت الحديث فلا يكون دالا على سلب العبارة

ولا يكفيه ان يقول لسقوط عبارتها صوروا استبدادها بالنكاح من تلك الصور فإن الحديث يدل على عدم استقلالها فليقدر الاستقلال ممنوعا على مذهب ذي مذهب ولكن استقلالها كاستقلال الرجل بالعقد دون الشهود فإن قال نعم ذلك على سلب الاستقلال ولكن إذا بان ذلك انثنى عليه سقوط العبارة فإن الولي لا حق له قيل له ان ثبت لك سقوط حق الولي كان كذلك ولكن لا يستقيم ادعاؤه فقد تحصلنا من مجموع هذه المسائل ان ما لاح قصد العموم فيه من الالفاظ بقرينة لا يتسلط عليه القياس إذ ليس القياس تفسيرا للفظ حتى يخصصه ومعنى التخصيص به ان يظهر في معارضته الحديث قانون في القياس كان طرده على الظن اغلب من قصد العموم في الحديث فيكون كالقرينة المخصصة للفظ فإذا عارض أحدهما اعني القياس غلبة ظن العموم من غير ترجيح فالحديث مقدم لان مستند هذا الظن اللفظ فيرجح عليه وان تقاصر عنه قليلا فلير المجتهد فيه رأيه فان هذا فن لا مطمع في ضبطه ولكن لا خفاء به على الناظر المحيط بما قدمناه من القواعد

كتاب المفهوم المفهوم من الالفاظ من مأخذ الاحكام عند الامام الشافعي رضي الله عنه وهو منقسم إلى مفهوم موافق ومفهوم مخالف لظاهر اللفظ
فأما مفهوم الموافقة فينقسم إلى مقطوع به كتحريم الضرب فهم من نهي الشارع عن تأفيف الاب والى ما يغلب على الظن كما ادعاه الشافعي رضي الله عنه من تنبيه الله تعالى بإيجاب الكفارة على الخطأ على ايجابها على العمد فإنه أعلى تنبيه وتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم على جريان التحالف في البيع عند هلاك السلعة بذكره حالة قيام السلعة مع امكان الاستظهار بالقيمة في تصديق احد المتبايعين واما المفهوم المخالف للمنظوم لأنه كفهمنا أخبرنا نفي الزكاة عن المعلوقة يا من تخصيص

الرسول عليه السلام السائمة بالذكر في قوله عليه السلام في سائمة الغنم زكاة وقد بدل ابن فورك لفظ المفهوم بدليل الخطاب في هذا القسم لمخالفته منظوم اللفظ وابو حنيفة رحمه الله انكر المفهوم إلا ما يقطع به كآية التأفيف والقائلون به انقسموا فعمم أبو بكر الدقاق القول به حتى التخصيص بالألقاب فهم منه نفي الحكم عما عدا الملقب به واما الشافعي رضي الله عنه فلم ير التخصيص باللقب مفهوما ولكنه قال بمفهوم التخصيص بالصفة والزمان والمكان والعدد وامثلته لا تخفي وضبط القاضي مذهبه بالتخصيص بالصفة وادعى اندراج جميع الاقسام تحته
إذ الفعل لا يناسب الزمان والمكان إلا لوقوعه فيه وهو كالصفة له

وتمسك اصحابنا في نصرة مذهب الشافعي رضي الله عنه بطريقين مزيفتين أحداهما قوله اللغات يكفي في دليلها نقل المذهب عن اربابها والمسألة لغوية والشافعي رضي الله عنه امام الصنعة وقد قال بها وكذلك نقل عن ابي عبيدة معمر بن المثنى التيمي في كتاب صنفة في غريب الحديث إذ حمل قوله عليه السلام لان يملئ يكون بطن احدكم قيحا يربه خير من ان يمتلئ شعرا على ما إذا لم يحفظ الرجل سواه وهذا قول بالمفهوم

ونحن نجتزي في تفسير القران بقول الاخطل وغيره من أجلاف العرب فالاكتفاء بقول الائمة اولى ووجه تزيفيه مع ان ادعاء الاطباق من اهل الصنعة غير ممكن وقول الاحاد يعارضه مثله فقد نفي محمد بن الحسن رضي الله عنهما المفهوم وهو من الائمة فلا مقنع في النقل مع التعارض الثانية قولهم لا بعد في اقتباس العلم من امر تواترت عليه الصور على التطابق وان كان نقله احاد الصور الخطوا سعيد عن مبلغ التواتر وبه العلم على القطع شجاعة علي وسخاء حاتم واحاد وقائعهما بكر لم ينقلها الينا إلا آحاد الرجال
فادعوا مثل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم اجمعين في المفهوم وعدوا وقائع كقول يعلي بن امية لعمر رضي الله عنه ما بالنا نقتصر وقد

امنا فهما للتخصيص من قوله أن تقصروا من الصلاة ان خفتم واختلف الصحابة رضي الله عنهم في وجوب الغسل بالنقاء الختانيين قد فهما للنفي من قوله الماء من الماء وقول ابن عباس لعثمان رضي الله عنهم حيث حجب الام بأخوين من الثلث ليس فس الاخوين إخوة وقوله عليه السلام في قول الله جل وعز ان نستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم أنا أزيد على السبعين وهذا مزيف فإن هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعه واحدة لم تورث العلم كوقائع حاتم وعلي مع كثرتها

على ان ما نقل في آية الاستغفار كذب قطعا إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس من المغفرة فكيف يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذهولة وفي عنه وقول ابن عباس رضي الله عنهما في حجب الام يعارضه قول عثمان حجبوها قومك يا غلام وقول يعلي بن امية يستند إلى صيغة الشرط وكلمته وهو قوله ان خفتم وهذا مقول به أو اعتد بأصل الاتمام في الاقامة واختصاص القدر المستثنى بحال الخوف ففهم وجوبه من الاصل لا من التخصيص
وقوله عليه السلام الماء من الماء حصر مصرح به وليس ذلك من فن المفهوم كما سيأتي وقد نقل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بباب واحد من الصحابة

ودعا فتباطأ قليلا فخرج والماء بقطر من رأسه فقال لعلنا اعجلناك إذا اقحطت فلا غسل عليك فلعلهم فهموا نفي الغسل من هذه الواقعة ولا مقنع في هذه الطريقة وتمسك الشافعي رضي الله عنه في نصره مذهبه بان قال إذا خصص الشارع صفة بالذكر من غير سؤال خاص وعرف مقتضى التخصيص مع مشاركة غير الموصوف للموصوف في الذكر كان كلامه نازلا منزلة ما لو خصص اليوم المتغيم بإيجاب الصلاة فيه والغنم الاسود بإيجاب الزكاة فيه مع اعتقاد التساوي

وهذا هجر من الكلام يتاعلى كل عنه منصب احاد الناس فضلا عمن هو الشارع للاحكام المبعوث لتمهيد الدين وهو افصح من نطق بالضاد ولا يظن به التضمخ بغرض دينوي في روم تخصيص فإن ذلك قادح في النبوة فلا بد من تخيل فائدة لتخصيصه وليس ذلك إلا اختصاص الحكم به إذا لم يتخيل سواها فائدة فإن قيل لعله خصص ليستثير القياسيون معنى مخصوص بالنص ويعتبرون به غيره فتتسع بسبه قضايا الشريعة
قلنا هذا هذيان فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزوي عن بيانه عمدا ليفوض الحكم إلى ارتباك المجتهدين في ظلماتهم * واشتباكهم فلا في عثراتهم ولو أمده الله تعالى بالبقاء لما غادر في الشرع معوصا منه إلا حله ونحن انما نصير إلى القياس للضرورة فلا وجه لهذا الظن والمختار عندنا لا نذكره إلى بعد ابطال مذهب الدقاق وقد تمسك بطريقة الشافعي رضي الله عنه وقال

تخصيص البر بالذكر مع اعتقاد مساواة الذرة اياه في حكم الربا كتنصيص الرجل على لبنة من لبنات وقوله اعلموا ان هذه لبنة مربعة فلا فرق اذن بين الصفة واللقب والتمسك به بتخصيصه وقد وقع قلنا لا متعلق في مجرد التخصيص عندنا إذ الأخبار المنقولة عن الرسول ص معضمها انطبقت على وقائع وأسئلة وإن اعرض النقلة عن نقلها اكتفاء بنقل اللفظ فلا يؤمننا عدم النقل مع احتماله إذ القواعد المبتدأة فصلها القرآن وكان الرسول عليه الصلاة والسلام بينهما في مواقع الحاجات ولكنا نقول التخصيص منقسم إلى ما يقع بصيغة الشرط كقوله ان أكرمك فأكرمه وهذا نص في التخصيص إذا الجزاء يرتبط بالشرط عند اهل اللسان والنقل فيه كاف والى تخصيص التعليل كقوله اكرمه لإكرامه اياك وهذا اوضح
من الشرط والى تخصيص المكان والوقت والعدد كقولك اجرتك هذه الارض من هنا إلى الشجرة بالف درهم الشهر الفلاني

وهذا أيضا معلوم فائدته لا يخالف فيه وإلى تخصيص بصفة باللقب ولا متمسك فيه وإلى تخصيص بصفة لا تخيل كقوله عليه الصلاة والسلام لا تبيعوا الطعام بالطعام فإن الطعم لا يناسب حكم الربا فهو كاللقب وإلى صفة مخيلة مناسبة للحكم كقوله في سائمة الغنم زكاة فهو المقول به فيفهم نفي الزكاة عن المعلوفة لا من مجرد التخصيص بل من الرابطة المتقررة في عقل الفقيه بين السوم المرفق المقل للمؤنة المحقق للثروة وبين وجوب الزكاة الواجبة رفقا للفقراء من فضلة اموال الاغنياء فيفهم لذلك عند التخصيص من فحوى اللفظ ارتباط لا يستريب الناظر فيه فيترتب عليه نفي الحكم عن المعلوفة

ثم لا يعتبر الاطراد مع الا خالة إذ الفحوى لا تبطل به والشارع نصب ما لا يطرد علة فإن قاس أبو حنيفة رحمه الله الصفة على اللقب قيل له لا قياس في فهم معاني الالفاظ وفحواها وإن قال لو كان المفهوم ثابتا لكان تركه نسخا كالمنظوم قلنا إليه صار ابن مجاهد وزعم انه لا بد من ترك نفيه منه كما في المنظوم
والمختار خلافه إذ ليس المفهوم جنسا من الكلام ولكنه بعض مقتضيات اللفظ فليس في تركه مع تبقية المنظوم نسخ كما في تخصيص العموم فإن قال قائل فهل اللقب مفهوم قط قلنا نعم فإذا تلقينا من تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم الاشياء الاربعة

بالذكر في الربا الرد على ابن الماجشون في تعليله الربا بالمالية العامة إذ قلنا لم تكن الاشياء الأربعة غالب ما يجري عليها التعامل وكان الحجاز مصب التجار في الاعصار الخالية فلو ارتبط الحكم بالمالية لكان التنصيص عليها اسهل من التخصيص كما قال في العارية على اليد ما اخذت حتى ترد وكان هذا مأخوذا من قرائن الاحوال مع التخصيص باللقب مسالة قال الشافعي رضي الله عنه خصص الرب تعالى الخلع بحالة الشقاق وهذا مفهوم لا اقول به إذ ظهرت للتخصيص فائدة وسبب وهو العرف القاضي بانحصار الخلع في حالة الشقاق إذ لا يتفق في حالة المصافاة والموافقة

وإذا لاح للتخصيص فائدة تطرق الإحتمال إلى المفهوم فصار مجملا كالمنظوم المجمل قال ولا حاجة إلى دليل ترك هذا المفهوم والمختار خلافه إذ الشقاق يناسب الخلع فإنه يدل على بغية الخلاص وتعذر استمرار
النكاح فلا يرتفع الفحوى المعلوم منه بمجرد العرف فلا بد من دليل وان لم يبلغ في القوة مبلغ ما يشترط في ترك مفهوم لا يعتضد بالعرف فإنه قرينة موهمة وهذا كما قلنا ان للأمر صيغة وهو محمول في الشرع على الطلب

الجازم بصيغتة: فلو اقترنت به قرينة كقوله وإذا حللتهم غير فاصطادوا وهي اعني القرينة تقدم الحظر جاز حمله على الاباحة بدليل خفي واه ومثار هذا الاختلاف انا نتلقي المفهوم من الفحوى والشافعي رضي الله عنه عنه يتلقاه من التخصيص وهو فعل فإنه عبارة عن قصد القاصد إلى مسمى بالذكر والفعل لا صيغة له فتطرق الاحتمال يكفي في رده كالفعل المردد بين الوجوب وبين رفع الحرج لا يحمل إلا على الأقل لتعارض الاحتمال في الوجوب وعلى هذا القياس أعني مسألة الخلع يجري تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل إذ الغالب أنها إذا عقدت لا تستأذن وإذا استأذنت لم تعقد بنفسها فلا فرق بين المسألتين

مسالة تمسك الشافعي رضي الله عنه في تعيين لفظ التكبير بقوله عليه السلام تحريمها التكبير فقال أبو حنيفة رحمه الله فيه ما يدل على إجزاء التكبير وليس فيه
نفي لما عداه وهذا بعد إثبات القول بالمفهوم باطل وإن قدر القول بتركه فهذا نص فإنه حصر التحريم وهو انعقاد الصلاة في التكبير وليس كقوله لو فرض التكبير تنعقد به الصلاة والدليل على الفرق اطباق أهل اللغة على الفرق بين قول القائل زيد صديقي وبين قوله صديقي زيد في انحصار الصداقة وهذا على الإجمال كاف وإن بحثنا عن سببه فنقول قول القائل زيد صديقي شرطه

أن يجري بين متجاوبين أحمد علما عين زيد قبل افتتاح الكلام إذ ليس الغرض من سياق الكلام تعيينه وإنما الغرض بيان حالة مجهولة بينهما وهما معلومان عند المخاطب فتقول هو صديقي فتنبه على تلك الحالة المجهولة بينهما لتعلم فليس فيه نفي ما عداه فإذا قال صديقي زيد فكأنه قدر الصداقة معلومة بينهما فهو مبتدأ الكلام كما كان زيد في تلك الصيغة هو المبتدأ به ثم أراد أن يبين لهذه الحالة المعلومة محلا هو مجهول عند المخاطب فقال زيد ومن ضرورة كونه محلا لهذه الحالة أن لا يكون غيره محلا لها إذ لو كان لما صح اعتناؤه ببيان المحل بمجرد ذكر زيد وقوله عليه السلام تحريمها التكبير يضاهي قوله صديقي زيد
مسألة تمسك أصحابنا بقوله عليه السلام صبوا عليه ذنوبا من ماء في مسألة إزالة النجاسة

فلو قيل لنا فيه مفهومه قصد إزالة العين فهلا فهمتم ذلك ورتبتم عليه زواله بالخل قلنا هذا مفهوم لو قيل به بطل المنظوم به إذ منظومه وجوب استعمال الماء فهذا الفن من المفهوم لا نقول به إلا أن التمسك بهذا الحديث غير صحيح إذ الغرض قطعا من تخصيص الماء ما اختص به الماء من عموم الوجود والمقصود من الحديث البدار إلى تطهير المسجد لا بيان ما تزال به النجاسة ويقبح فيه التعرض للخل الذي يعسر وجوده مسألة يجوز ترك المفهوم بنص يضاده وبفحوى مقطوع به يعارضه كفهم مشاركة الأمة للعبد في سراية العتق والنص كقوله في عوامل الإبل زكاة وهي معلوم يعارض بمفهوم قوله عليه الصلاة والسلام في سائمة الغنم زكاة

فأما القياس فلم يجوز القاضي ترك المفهوم به مع تجويزه ترك العموم به ولعله قريب مما اخترناه في المفهوم فإنه تلقاه من الفحوى
الظاهر والعموم قد لا يترك بالقياس بل يجتهد الناظر في ترجيح أحد الظنين فيهما على الآخر فكذا القول في القياس إذا عارض المفهوم والله أعلم

القول في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتوصل إلى ذلك إلا بذكر مقدمة في عصمة الأنبياء عن المعاصي وهي منقسمة إلى الصغائر والكبائر وقد تقرر بمسلك النقل كونهم معصومين عن الكبائر وأما الصغائر ففيه تردد العلماء والغالب على الظن وقوعه وإليه يشير بعض الآيات والحكايات هذا كلام في وقوعه أما جوازه فقد أطبقت المعتزلة على وجوب عصمة النبي عليه السلام عقلا عن الكبائر تعويلا على أنه يورث التنفير وهو مناقض لغرض النبوة وهذا يبطل بكون الحرب سجالا بينه وبين الكفار وبه اعتصم بعض اليهود في تكذيبه والمختار

ما ذكره القاضي وهو أنه لا يجب عقلا عصمتهم إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظر العقل وليس هو مناقضا لمدلول المعجزة فإن مدلوله صدق اللهجة فيما يخبر عن الله تعالى فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب فيما يخبر به عن الرب تعالى
لا عمدا ولا سهوا ومعنى التنفير باطل فإنا نجوز أن ينبئ الله تعالى كافرا ويؤيده بالمعجزة والمعتزلة يأبون ذلك أيضا والذين أوجبوا عصمته عن الكبيرة اختلفوا فمنهم من قال كل مخالفة كبيرة بالنسبة إلى عظمته فلا صغيرة أصلا وكل مخالفة كبيرة

وهذا كما أن رفع الصوت فوق صوت من يماثل الإنسان قد يعد صغيرة وهو بعينه في مجلس الملوك كبيرة دونه تحز الرقاب فللنسبة بعد تأثير في تعظيم أثر المخالفة والذين أثبتوا الصغيرة اضطربوا ومثار الاضطراب في أنه هل يورث التنفير أما النسيان فلا يجب كونه عندنا معصوما عنه في أفعاله وأقواله إلا فيما يخبر عن الله تعالى لأن تجويزه مناقض مدلول المعجزة ونرجع إلى المقصود فإذا نقل فعل عن رسول الله عليه السلام فهل يتلقى منه حكم أما الواقفية فقد توقفوا فيه وعزي إلى أبي حنيفة وابن سريج وأبي علي بن أبي هريرة رضي الله عنهم أنه يتلقى منه الوجوب مطلقا

والمختار عندنا وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إن اقترن به
قرينة الوجوب كقوله صلوا كما رأيتموني أصلي فهو الوجوب وإن لم يقترن نظر فإن وقع من جملة الأفعال المعتادة من أكل وشرب وقيام وقعود واتكاء واضطجاع فلا حكم له أصلا وظن بعض المحدثين أن التشبه به في كل أفعاله سنة وهو غلط وإن تردد بين الوجوب والندب فإن اقترنت به قرينة القربة فهو محمول على الندب لأنه الأقل والوجوب متوقف فيه وإن تردد بين القربة والإباحة فيتلقى منه رفع الحرج وليس هذا متلقى من صيغة الفعل إذ الفعل لا صيغة له ومستنده مسلك الصحابة فإنا نعلم أن الممنوع من فعل فيما بينهم لو نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله لفهموا منه رفع الحرج

وأما الإباحة فلا نتلقاه فإنه حكم يقتضي التخيير مع تساوي الطرفين وهو يناقض الندب والفعل متردد بينه وبين رفع الحرج فأقل الدرجات رفع الحرج فإن تمسك أبو حنيفة رحمه الله بإجماع الأمة على كون النبي عليه السلام أسوة وقدوة ومطاعا وشرطه الاقتداء به في كل ما يأتي ويذر قلنا معناه أن أمره ممتثل كما يقال الأمير مطاع في قومه لا يراد به أنهم يتربعون إذا تربع أو ينامون إذا نام فإن تمسك بقوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا وقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره وقوله فاتبعوني يحببكم الله فكل ذلك محمول على الأمر وهو الذي أتانا به دون الفعل مسألة (1) إذا نقل عن الرسول عليه السلام فعلان مختلفان في واقعة واحدة وعدل الرواة كما نقل في صلاة الخوف قال الشافعي رضي الله عنه يتلقى منها جواز الفعلين

والمختار في ذلك أن نقول إن اتفق الفقهاء على صحة الفعلين واختلفوا في الأفضل توقفنا في الأفضل فإن ادعى كل فريق يتمسك برواية بطلان مذهب صاحبه فيتوقف ولا يفهم الجواز فيهما فإنهما متعارضان ونعلم أن الواقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما ولا يترجح وإن اتفقوا على صحة واحد فنحكم به ونتوقف في الآخر والشافعي رضي الله عنه إنما قال ذلك في صلاة الخوف وقد رجح إحدى الروايتين على الأخرى لقربه إلى أبهة الصلاة مسألة (2) إذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل حمل على الوجوب بقرينة أو على غيره ثم نقل فعل يناقضه قال القاضي لا يقطع بكونه نسخا لاحتمال أنه انتهى لمدة الفعل الأول وإن كنا نعلم أن الفعل الأول لو بقي لاقتضى الحكم على التأبيد ولكنه لا صيغة له
وهذا محتمل فيتوقف في كونه ناسخا ونعلم انتهاء ذلك الحكم قطعا فإن

النسخ رفع للشئ بعد الثبوت عندي وأما اللفظ فإنه بصيغته يتضمن إثبات الحكم إطلاقا وابن مجاهد صار إلى أنه نسخ ويتردد في القول الطارئ على الفعل ولا وجه لهذا الفرق والأصح ما ذكره القاضي مسألة (3) قال الشافعي رضي الله عنه استبشار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسروره بالشئ يدل على كونه حقا وتمسك بسروره في قصة مجزز المدلجي وإلحاقه زيدا بأسامة في إثبات القيافة وقال لا يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالحق ولا يستبشر بالباطل وهذا ضعيف فإنما سر بكلمة صدق صدرت ممن هو مقبول القول في ما بين الكفار على مناقضة قولهم لما قدحوا في نسب أسامة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نادى به

فإن قيل لو كان باطلا لرد فإنه حكم على الغيب قلنا من نسب ابنا إلى أبيه الذي شهر به لا يمنع منه والفاسق إذا شهد على النسب لا يزجر وإن لم يقبل منه ولا يقال هذا حكم على الغيب مسألة (4)
تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما على فعل وتركه النكير عليه مع فهمه الواقعة وعدم ذهوله عنه يتمسك به في جواز التقرير إذا كان الفعل بحيث لو قدر الإقدام عليه لكان كبيرة إذ كان يتحتم عليه بيان الحكم فسكوته مع العيان دل على الجواز وإن كان الفعل صغيرة لو قدر محرما وكنا لا نجوز الصغيرة على الرسول عليه السلام تمسكنا به

وإن جوزنا فلا نتمسك به إلا أن يتكرر في مجلسه ذلك ولا ينكر إذ الإصرار على الصغيرة كبيرة ولا يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصغائر والذي أراه والعلم عند الله قطع القول بجواز التمسك به من غير تفصيل بين الصغيرة والكبيرة فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفهمون منه الجواز وإن كان الفعل من جملة الصغائر لو قدر محرما وإن تمسك متمسك به في إثبات عصمة النبي عليه السلام عن الصغيرة لقبول الصحابة ذلك من غير تفصيل فله وجه وأما تقريره الكافر فلا تمسك فيه لأنه كان يعرض عنهم وفي تقرير المنافق خلاف لأنه كان ينحو بهم نحو المسلمين فإن قيل إذا قرر مسلما فيحتمل أنه كان ينتظر الوحي قلنا لو كان كذلك لأمر بالتوقف كما نقل عنه في بعض الوقائع والله أعلم

القول في شرائع من قبلنا ونقدم عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن أوحي إليه هل كان على شرعة رسول أجمعت المعتزلة أنه لم يكن على شرعة رسول فأنه يورث التنفير فإن التابع لا يكون متبوعا واختلف أصحابنا فمنهم من قال كان على شرعة نبي فإن الانسلال عن ربقة التكاليف والخروج من ضوابط الشرائع يزري بمنصبه ثم اختلفوا فقيل كان على شرعة نوح عليه السلام بدليل قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا وقيل كان على شرعة إبراهيم عليه السلام بدليل قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم الاية.

وقيل على شرعة عيسى عليه السلام فإنه الناسخ المتأخر فإن قيل كانت محرفة مغيرة قلنا كان منهم أحبار يعرفونها على وجهها فتحريف بعضهم لا يرفع الشرع كاتفاق فترة في شرعنا فإن قيل للذين قالوا كان على شرعة إبراهيم شريعة عيسى ناسخة أجابوا بأنه لا يثبت كونه مبعوثا إلى الجميع فلعل ملة إبراهيم استرسلت على ذريته فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم
وأما القاضي فإنه قال أقطع بأنه لم يكن على شريعة نبي إذ لو كان لتواتر فإن أحوال الرجل العظيم في مثل هذا تتوافر البواعث على نقله نعم كان على عقد التوحيد والمختار التوقف فيه وما ذكره القاضي يعارضه أنه لو كان منسلا عن التكليف أربعين سنة متميزا عن أصناف الخلائق بأجمهم لتوفرت البواعث على نقله فإذا لم ينقل هذا ولا ذاك توقفنا ولعل الله تعالى قطع بواعث الخلق على نقله

ولعل الله تعالى قطع بواعث الخلق وطمس حالته والتحق هذا بمعجزاته الخارقة للعادة رجعنا إلى المقصود قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأطعمة الرجوع في استحلال الحيوانات إلى النصوص وآثار الصحابة رضي الله عنهم فإن لم يكن فإلى استخباث العرب واستطابتها يقول فإن لم يكن فما صادفنا حراما أو حلالا في شرع من قبلنا ولم نجد ناسخا له اتبعناه وعضد هذا المذهب بالدليل أن يقال نفس بعثة الرسول لا تتضمن نسخ الشرائع إذ أصحاب الملل من الشرائع ستة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بعد في التظاهر على دين واحد فكان في زمان موسى عليه السلام ألف نبي يحكمون بالتوراة
ولم ينقل من الرسول عليه السلام نص في نسخ شريعة من قبلنا وقد عجزنا عن مأخذ من شريعتنا رجعنا إليه

ثم اختلفوا فيمن يتبع شريعته ورددوه الذي بين نوح وإبراهيم وعيسى كما ذكروه في دين الرسول قبل النبوة والمختار أن لا رجوع إلى دين أحد من الأنبياء إذ لو كان من مآخذ الشريعة لبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين القياس وغيره من المآخذ ورجع إليه واحد من الصحابة رضي الله عنهم مع طول الدهور وكثرة الوقائع وشدة ترويهم فيها ورجوعهم في الاشتوار إلى الجماعة وكان فيهم كعب الأحبار ولم يراجع قط فاستبان بهذا أنه لا حكم له أصلا

كتاب الأخبار والكلام يقع في هذا الكتاب في قسمين الأول أخبار التواتر وفيه أربعة أبواب الباب الأول في إثبات كون الخبر المتواتر مفيدا للعلم الضروري وقد أنكرت السمنية كونه مفيدا للعلم فنقول لهم إن استربتم لأن أن في الدنيا بلدة يقال لها بغداد فقد جحدتم
وإن اعترفتم فلم تناطقكم وقد البلدة ولا رأيتموها فلم تعرفوه إلا بالتواتر كيف ولولا التواتر لما ميز المرء بين أمه وسائر نساء العالمين

وإن اعترف الكعبي بأصل العلم ولكنه ادعى أنه نظري فقيل نرى الصبيان يعلمون ما يخبر عنه العدد المتواتر ولم يهيئوا للنظر ودرك المعقولات بالتأمل ثم يقال لهم نظر أفضى إلى أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد سوى الضرورة الحاصلة من الأخبار فإن قالوا علمنا بأن الجمع الذي أخبروا عنه في العادة لا يتواطؤون على الكذب قلنا ولم علمتم ذلك ولم أحلتم الكذب منهم وهو جائز الوقوع من حيث التصور فلا نزال نطالبهم إلى أن يعجزوا عن إبداء مسلك نظري فيبوحوا علي بما إليه ذهبنا وغايتهم أنه لا بد من أدنى تأمل ليعرف أن هؤلاء لا يكذبون ولو صار العلم نظريا بمثله لقيل المدركات معلومة بالنظر إذ لا بد فيها من فتح الجفون والتحديق وارتفاع الموانع وغيرها

تمسك الكعبي على أصحابنا بأن قال أعلمتم كون هذا العلم ضروريا بالضرورة أم بالنظر فإن علمتموه ضرورة فمحال لأنا لا نعلمه
وإن ادعيتم النظر فكيف يتصور أن يعلم الشئ ضرورة ثم يعلم كونه ضروريا بالنظر وهذا العلم أولى بأن يكون معلوما ضرورة وهو قائم بنفس العالم بما أخبر عنه المخبرون ولا يتعلق به إدراك أجاب القاضي بأن هذا استبعاد مجرد فإنا نعلم كون بغداد بالضرورة ونعلم بالنظر كونه ضروريا ووجه النظر أن نبطل كل مسلك يتصور إحالة العلم عليه وهذا يلزمه أن يقول بالنظر يعلم أن العلم المتعلق باستحالة المتضادات ضروري عند إبطال مسالك النظر فيه وهذا لا وجه له ثم يقال للقاضي العلم المتعلق بهذا العلم يزيد عليه أم هو عينه إن كان لا يزيد عليه فلا وجه لتنويعه

فإن زاد عليه فهذا محال إذ يلزم عليه إثبات علوم لا نهاية لها أو إثبات علم لا يعلمه العالم وهذا محال والمختار عندنا في هذه المسألة وفيه الجواب عن السؤال أن نقول الذي نعتقده أن العلم لا يتلقى من أقوال المخبرين إنما يتلقى من القرائن الدالة على الصدق الحاسمة حتى لخيال الكذب ولذلك يجوز اقترانه بقول واحد على انفراده فإذا ثبت هذا فنقول ورآه الكعبي علم ما علمناه ضرورة من صدق المخبرين ومن كون العلم ضروريا نعم نوافقه في أن العلم يتلقى من القرائن
فإن كان يعنى بالنظر توقفه على الاطلاع على القرائن بالبحث والتأمل فهذا مسلم له ووراء الاطلاع على القرائن يحصل العلم ضروريا من غير نظر وتوقف وهذا لا ينكره الكعبي فقد التقت المذاهب وعاد الخلاف إلى لفظ والله أعلم

الباب الثاني في العدد وقد أجمع أصحابنا على اعتبار أصل العدد وإن اختلفوا في أقله وقد أحالوا تلقي العلم الضروري من شخص واحد خلافا للنظام وتمسكوا بأن قول الواحد وإن انضمت إليه القرائن فاعتماده الكذب في العرف ممكن لا استحالة فيه بخلاف اعتماد الجمع العظيم بالتواطئ فإن ذلك يحيله العقل في اطراد العرف وعلمنا به كعلمنا باستحالة إجماع أهل الدنيا في وقت واحد على أكل الزبيب وهذا لا يطرد في الواحد وحققوا ذلك بأن الشرع تعبد القضاة ببناء الحكم على قول الشهود وهم على طوال دهورهم لم يبنوا قط قضاياهم على علم ضروري مستفاد من قول الشهود ولو تصور لوقع لا محالة تمسك النظام بأن قال إذ فرضنا رجلا من أهل المروءة والسيرة المرضية

استمرت عادته على أن لا يخرج من داره إلا راكبا محفوفا بحشده تعالى وخدمه لا يلتفت إلى أحد ولا يتكلم فرأيناه خرج من داره وقد مزق ثوبه حاسر الرأس حافي الرجل يضرب صدره وينتف شعره رافعا عقيرته بالويل
مخبرا عن موت ابنه يعلم على الضرورة صدقه ولا نتمارى فيه فناكره فإن أصحابنا وقالوا لعله أخبره كاذب أو اعتور ابنه سكتة فظنه ميتا وهذا مزيف والمختار أن العلم قد يستفاد من القرائن المنضمة إلى قول واحد كما فرضناه نعم زل النظام حيث قال يتلقى العلم من قوله وما ذكروه من السكتة وتوهمه يرتفع بإخباره عن الدفن وذلك ممكن تقديره وما ذكروه من عدم قطع القضاة بقول شاهد قط تحكم على الغيب

مسألة اختلف المعتبرون في أقل عدد التواتر فقال القاضي أقطع أن الأربعة ليسوا عدد التواتر وتردد في الخمسة لأن الشرع رقى الشهادة إلى الأربعة ولم يكلف إلا غلبة الظن وقال ملقى مجلس أبي الهذيل عبد الرحمن الخمسة اقل عدد التواتر من غير تردد وقال قائلون أقله عشرون تلقيا من قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون وقال آخرون أربعون تلقيا من قوله تعالى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين وقد كانوا أربعين

وقيل أقله سبعون تلقيا من قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا وقال آخرون ثلاثمائة وثلاثة عشر وهو عدد المحاربين يوم بدر إذ بهم استقر الدين وظهر وهذه أعداد يضرب البعض منها بالبعض ونقول العقل لم يهد إلى التقدير وهذه الآيات لا تناسب الغرض والحكم بتقدير محال فإن قيل كأنكم جهلتم أقل العدد قلنا هذا مرتبط بالعرف والقرائن فلا ضبط لها وهي مختلفة باختلاف أحوال المخبرين والمخبر عنه فيجب على كل عاقل أن يضرب عن التقدير فيه إذ العرف لا ينضبط نعم نشير إلى تزاحم شرائط الخبر فنقول إذا بلغوا مبلغا في العدد يبعد منهم في العرف التواطؤ على الكذب في مثل ما أخبروا عنه وعلم على القطع خروجهم عن ضبط ضابط وإيالة ذي إيالة لأجل مصلحة علم على القطع الصدق وهذا قد يحصل بقول الواحد

وقد لا يحصل بقول عسكر عظيم إذ توهم انسلاكهم عمر تحت سياسة سايس وذهبت الرافضة إلى أن العلم متلقى من قول الإمام المعصوم إلا أنه مشتبه بالمخبرين النبي ولو انفرد وتعين لعلم على الضرورة صدقه وهذا محال إذ عصمته لم يعلموها بالضرورة ولا يثر على عصمة الأنبياء ولم
يعرف صدقهم بالضرورة كيف وقد أخبر علي كرم الله وجهه في زمانه عن أمور واختلفوا في صدقه وهو معصوم عندهم

الباب الثالث في شرائط التواتر قال علماء الأصول شرطه استواء الطرفين والواسطة والحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر الصحابة ينبغي أن يتواتر عنهم في العصر الثاني فلو نقل الآحاد كونه متواترا لم يكف وهذا خطأ فإن خبر الواحد ليس له طرف وواسطة وكل من ينقل عنه قول وإن كان راويا فهو خبر في نفسه ولا بد من التواتر فيه فهذه أخبار لا بد من تواتر كل واحد منها والشرط الذي لا بد منه لتحصيل العلم أن يستند علم المخبرين إلى الحس والضرورة فأما ما علموه بالنظر كحدث العالم وغيره لا يعلم صدقهم فيه وإن بلغوا عدد التواتر

فإن قال قائل ما سببه والعلوم عندكم كلها ضرورية فأي فرق بين الإدراك ببصيرة العقل وبين الإدراك بالبصر
قلنا العرف فارق بينهما فإن العلم لا يحصل بحدث العالم بسبب الخبر بخلاف المحسوسات فلعل السبب فيه أن المعتقد لحدث العالم لم يميز نفسه عن العالم به وكل يظن أنه عالم وهو معتقد مخمن ولا قرينة تميزه وما من مخبر إلا ويتصور كونه معتقدا وهو يظن أنه عالم وعلى هذا شأن النظريات جميعا دون المحسوسات قال الأستاذ أبو اسحق الخبر ينقسم إلى متواتر ومستفيض وآحاد فالمستفيض ما اشتهر فيما بين أئمة الحديث وذلك يورث العلم كالتواتر وليس الأمر كذلك فإن المستفيض إذا لم يتواتر تصور فيه التواطؤ والغلط إذ العدل لا يستحيل منه الكذب

الباب الرابع في تقسيم الآحاد قال علماء الأصول الآحاد ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما يتردد فيه أما ما يعلم صدقه ينقسم إلى ما يعلم بضرورة العقل كإخبار المخبر عن استحالة اجتماع المتضادين وإلى ما يعلم بنظر العقل كإخبار المخبر عن حدث العالم وإلى ما يعلم بالسمع كإخبار من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صادق
وإخبار الرسول عليه السلام عن الصراط والجنة والنار قالوا ومن هذا القسم خبر الواحد إذا عمل بموجبه أهل الإجماع وأما ما يعلم كذبه فينقسم إلى هذه الأقسام وهو الإخبار عن عكس هذه الأمور

وهذا وإن كان صحيحا فلا فائدة له في كتاب الأخبار فإن غرض الكتاب بيان ما يتلقى علمه من الخبر وهذه الأمور معلومة لا من الخبر وما ذكروه من انعقاد الإجماع على العمل وكونه دليلا على صدق خبر الواحد ليس كذلك فان قيل لا تجتمع الأمة على الضلالة قلنا ما اجتمعوا على صدقه بل اجتمعوا على العمل به فنقول العمل واجب ومستنده هذا الحديث المتردد بين الصدق والكذب والمختار في التقسيم ان يقال الخبر المعلوم صدقه على القطع ما استجمع شرائط التوتر وذلك لا ضابط له والمعلوم كذبه اقسام منها تحدي الرجل بالنبوة مع العجز عن اقامة المعجزة يدل على كذبه إذ لو كان رسولا لأيد وإن بمعجزة

فإن تكليف الإتباع من دونه مما لا يطاق وهذا محال هذا إن قال انا نبيكم
فأما إذا ادعى بانه يوحى إليه في نفسه فيما يؤمر به وينهى عنه فلا يعلم كذبه بذلك وكذلك إذا قال معجزتي ان الله تعالى ينطق هذا الحجر فنطق بتكديبه فيعلم كذبه إذ لو كان صادقا لما اظهره على هذا الوجه بخلاف ما لو قال معجزتي ان احي هذا الميت فأحياه فنطق بتكذيبه لانه ذو اختيار كسائر الخلق والاعجاز في احيائه ومما يعلم كذب المخبر فيه انفراد الرجل بالاخبار عن واقعة عظيمة تتوفر البواعث على نقلها وتواتر الخبر فيها كانفراد رجل واحد بالاخبار

عن برزة الخليفة على هيئة خارقة للعادة على ملا من الناس في مفرق الطرق ومزدحم الخلق فيعلم كذبه إذ لو كان لتوفرت الدواعي على نقله ولإستحال كما انفراده به وسكوت الباقين عن نقله فإن قيل فلم اختلف الناس في النبي عليه السلام انه دخل مكة صلحا أو عنوة وقد كان في مزدحم الخلق وقد تمسكتم فيها بأخبار الآحاد قلنا تواتر كونه صلى الله عليه وسلم شاكا في السلاح متهيئا لاسباب الحرب وانما الخلاف في جريان امان لهم وذلك مما يخفي فلا يبعد انفراده الآحاد به فإن قيل لم لم يتواتر قران رسول الله ص أو افراده في الحج وقد كان احرم على الملأ من الناس قلنا لأن الميز بين الأفراد والقران مما يخفى ولا يدركه إلا الخواص
فلا يبعد استبهامه هو فإن قيل انشقاق القمر لم يتواتر

قلنا أنكره الحليمي لذلك واعتذر القاضي بأنها كانت آية ليلة أظهرت في جنح الليل ولم يكن مع النبي ص إلا أشخاص معدودة في وقت استرسال ثوب الغفلة على الناس فلذلك لم يتواتر فإن قيل الإقامة من شعائر الإسلام فهلا تواتر الأفراد إذا كان واقعا

قال القاضي اقطع بأن بلالا كان يثني ويفرد فلم يطرد الإفراد على التجرد دون التثنية فلذلك تعارضت الأخبار فان قيل لم لم يتواتر التثنية والافراد جميعا قلنا لضعف اعتناء الناس به فانه كان يخفض الصوت بها نهارا والمختار في الجواب القطع بان الافراد كان متواترا في العصر الاول إلا ان النقلة اضربوا عن نقله استغناء بالاستفاضة والاجماع من حيث الفعل وحيث انقرض العصر احدث بعض التابعة التثنية ولم يبق ممن عاين عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى الآحاد ولا يبعد ان يتواتر خبر عظيم ثم تنحبس الدواعي على ممر الايام وتندرس فقد تقررت هذه القاعدة واستمرت وعليه بنينا الرد على الروافض حيث ادعوا نصا من الرسول على امامة علي كرم الله وجهه

فان الصحابة اشتوروا بعد وفاة الرسول عليه السلام واضطربو وسلم فيمن ينصب له حتى اتفقوا على أبي بكر رضي الله عنه ولم ينقل احد عن الرسول عليه الصلاة والسلام النص ولو كان لتوفرت الدواعي على ابدائه ونقله وكذلك اليهود إذ نقلوا عن موسى عليه السلام انه خاتم النبيين قيل لهم تحدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود وكانوا ينازعونه في بعثه ولم ينقل احد من احبارهم ذلك ولو كان لتوفرت الدواعي على نقله وايضا فلا يمكنهم انكار معجزة عيسى عليه السلام من احياء الموتى وغيره ولو صدقوا لما ظهرت المعجزة بعد وأما المتردد فيه فجملة اخبار الآحاد وكل ما لم يستجمع شرط التواتر وأمكن وقوعه ومن هذا القسم انفراد رجل واحد ينقل حالة لرجل عظيم إذا تخيلنا استناد سكوت الباقين إلى سياسة واياله عنه ذي اياله إن هذا تمام الكلام في هذا القسم والله اعلم

القسم الثاني في إخبار الآحاد وفيه خمسة ابواب الباب الاول في اثبات كون المخبر الواحد مفيدا للعمل وذهب بعض المحدثين إلى انه يفيد العلم
وهذا محال إذ لا يجب صدقه عقلا ولا نقلا وإذا جاز كذبه فلا علم بالصدق وكيف وما من شخص إلا ويتصور ان يرجع عما ينقله وقد عهد مثله وبعد فلو تعارض نقل عدلين فليت شعري يجعل العلم بهما على التناقض أو بأحدهما ولا تمييز ولا ترجيح

فإن قيل لو لم يوجب العلم لما اوجب العمل قلنا عن هذا صار الروافض إلى انه لا يعمل بأخبار الآحاد ونحن نبطل الان مذهبهم فنقول ان أحلتم وقوعه وزعمتم انه لا يتصور فوجه تصوره ان يقول السيد لغلامه اعمل بما ينتهي اليك من امري على لسان الآحاد وان احالوا لاستقباح أو لاستصلاح فنحن لا نساعدهم في ذلك ثم قلب كل خيال يبدونه في اثبات القبح ونقيض الصلاح ممكن عليهم وان تلقوا منعه من السمع فلا بد من نقله قالوا ودليله قوله تعالى ان بعض الظن اثم قلنا خصص البعض وليس هذا منه ودليله بناء القاضي قضاءه على ظن صدق الشهود بالإجماع فإن قيل لا نعلم وجوب العمل به بضرورة العقل ولا يدل عليه دليل فلا يعمل به

قلنا دليله امران قاطعان أحدهما علمنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ولاته ورسله إلى البلاد ويفرقهم في الأقطار وهم آحاد وكان يضم إليهم الصحائف ويأمر بإتباعه الحاضر والبادي ولو توقفوا إلى التواتر لحزت رقابهم المسلك الثاني علمنا بان الصحابة رضي الله عنهم اجمعين ان ارتبكوا إلا في واقعة فنقل إليهم الصديق رضي الله عنه قولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على انفراده اتبعوه وقولهم انه لا يورث العلم يبطل بالشهادة والله اعلم

الباب الثاني في عددهم وصفتهم ذهب الجبائي إلى انه لا يعمل إلا بما ينقله رجلان ثم شرط عند تكرر العصر ان يحتمل قول كل رجل رجلان هكذا إلى حيث ينتهي وهذا استئصال لهذه القاعدة إذ لا يستقيم على هذا المذاق حديث في عصرنا ومعتمدنا نقل الصحابة واكتفاؤهم بالواحد وقد نقل أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوله عليه السلام نحن معاشر الانبياء لا نورث فتركوا قسمة تركته فإن قيل نقل عن ابي موسى الاشعري انه قرع باب عمر فلم بفتح

فانصرف فأمر عمر رضي الله عنه حتى اتي به فقال ما الذي حملك على الانصراف فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستئذان ثلاثة فان أجبت وإلا فانصرف فقال من بشهد لك قلنا اتهمه عمر ونحن إذا اتهمنا الراوي لقرينه فلا نقبله فإن قيل قال علي كرم الله وجهه في رواية معقل بن يسار كيف نقبل قول اعرابي بوال على عقبيه

قلنا لعله لتهمه فيه إذ ليس فيه انه رده لانفراده وقد اشار إلى السبب في كلامه فإن قيل روي ان عليا رضي الله عنه كان يحلف الراوي علنا فحلفوا انتم واقبلوا قلنا كان يحلفه عند التهمة وكان لا يحلف اعيان الصحابة رضي الله عنهم فان قاسوا الرواية على الشهادة فاخبار الآحاد لا تنفي قياسا كما لا تثبت قياسا ثم في الشهادة تقييدات بدليل اعتبار الذكورة والحرية ورده فيما ينتفع به الشاهد أو ولده بخلاف الرواية مسالة 1 الاسلام والعقل شرط بالإجماع في الراوي
وظهور الفسق قادح والانوثة والرق غير قادح وفي ترجيح قول الرجل على قول المرأة كلام

واما الصبي فان كان عدما لا تقبل روايته كالبالغ الفاسق واما الصبي المراهق المتثبت في كلامه إذا روى قال قائلون يقبل والمختار رده واليه ذهب القاضي واستدل برد رواية الفاسق وليس من ضرورة الفسق الكذب ولكن يستدل به على قلة مبالاته فيقال ربما يخبر عن الكذب أيضا والصبي وان لم يكن به عرامة فيعلم انه لا يأثم بالكذب فلا وازع له من جهة الدين فرد روايته أولى والمسلك المختار عندنا منهج الصحابة وسيرتهم على طول دهورهم لم يراجعوا صبيا والعبادلة بصبون صلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته وكذلك من عصرهم إلى زماننا لا عهد لشيخ ينقل عن صبي حديثا ولو كان مقبولا لما عطلت روايتهم وهم شطر الخليقة كما لم يعطل النسوة والعبيد قال القاضي فأنا لا أقطع برد الصحابة رواية الصبيان

ونحن نقطع به لما ذكرناه مسالة 2
المستور لا تقبل روايته خلافا لبعض الناس وقد استدلوا بأن الصحابة كانوا يقبلون الاحاديث ممن يرويها من غير بحث عن حالته والمتبع سيرة الصحابة وينضم إليه وجوب احسان الظن بالمسلم وظاهر المسلم العدالة قلنا نقل الينا من الصحابة رضي الله عنهم انهم كانوا يردون رواية الغرباء والمجهولين من الاعراب ونعلم انهم ما ردوا لجهلهم بنسبهم أو مسكنهم أو مسقط رأسهم وانما ذلك لجهلهم بعدالتهم وما ذكروه من ان الغالب العدالة قلنا الرجوع في الغالب إلى الواقع في العادة والفسق اغلب على الخليقة والكذب اكثر ما يسمع ويكفي المستور في احسان الظن به ان يستوي في حقه العدالة والفسق

وظهور الفسق انما قدح لانخرام الثقة وعليه التعويل في الاحاديث والفسق محتمل وخفاؤه عنا لا يحقق الثقة اصلا مسالة 3 قال القاضي كل صورة من هذه الصور إذ دل عليها دليل قاطع على قبول الخبرية قبلت وإذا لم يدل عليه قاطع ولا على رده أيضا قطعت برده لعدم القاطع على قبوله والمختار انه ان لم يدل قاطع على الرد ولا على القبول نتردد ولا نجعل عدم القطع بالقبول سبب القطع بالرد
إذ القاطع بالقبول اجماع الصحابة والصحابة كانوا يختلفون في قبول الأحاديث والرواة كانوا لا يعترضون على القائلين ولا ينسبونهم إلى ترك القطع والله اعلم

الباب الثالث في الجرح والتعديل وفيه خمسة فصول الفصل الاول في العدد وقد قال المحدثون لابد من معدلين أو جارحين والواحد لا يكتفي به لان سبيل الاكتفاء براوية واحد سيرة الصحابة ولم يتقل هذا منهم في المعدل فيرد إلى قاعدة الشرع وكلما مست الحاجة إلى اثباته لا يثبت إلا بقول اثنين قلنا نعم لم ينقل ذلك ولكن المختار الاكتفاء بواحد لاننا نفهم مما نقل امورا لم تنقل ولذلك اتسع باب القياس

فلو اقتصرنا على الاقيسة المنقولة عنهم ومنهم تلقينا القياس لضاق باب القياس ولكنا فهمنا مما نقل تشوفهم إلى القياس في وقائع لم تتفق لهم إذ اقدموا
على القياس اقدام من لا يرى على الوقائع حصرا وكذلك فهمنا من حالهم انهم لو تماروا في قول رواي وعدله الصديق لكانوا يكتفون

الفصل الثاني في كيفية الجرح والتعديل والمنصوص للشافعي رضي الله عنه أن التعديل المطلق في الشهادة والرواية مقبول والجرح المطلق لا يقبل لأن أسباب العدالة لا حصر لها والجرح يحصل بخصلة واحدة ولأنه قد يعتقد الشئ سببا للجرح ونحن لا نراه فليبينه قال القاضي رحمه الله الجرح المطلق كاف فإنه خارم للثقة المبتغاة من الحديث والتعديل لا بد فيه من ذكر سببه فإنه قد يكتفي بمبادئ العدالة جريا على الظاهر واحسانا للظن به

وقال آخرون لا بد من ذكر السبب فيهما أخذا بطرفي كلام الشافعي والقاضي رضي الله عنهما وعكس عاكسون وقال وقالوا يكفي الاطلاق فيهما والاختيار ان الجرح المطلق خارم للثقة فهو كاف
والتعديل المطلق من مثل مالك مع علوه في الاحتياط مقبول وممن يظن به التساهل فيه فلا

الفصل الثالث في التعديل بالفعل وقد اختلفوا في الاكتفاء به وله صورتان احداهما ان يروي المستجمع لخلال التعديل حديثا عن شخص ويقتصر عليه فهل يجعل ذلك تعديلا والمختار ان ذلك كالتعديل من مالك ومن كل محدث لا يستجيز نقل الاحاديث الضعيفة وألا فلا والصورة الثانية ان يعمل بموجب حديث لم ينقله إلا رجل واحد هل يجعل ذلك تعديلا فيه خلاف والمختار انه ان امكن حمل عمله على الاحتياط فلا وإن لم يمكن فهو كالتعديل لأنه محصل للثقة

الفصل الرابع في صفة المعدل والجارح ولا بد من العقل والاسلام وظهور العدالة والبلوغ
ولا تقدح الانوثة والرق ويشترط معرفة اسباب الجرح والعدالة فيما قاله الاصحاب وفيه تفصيل وهو انه ان ذكر سبب الجرح والعدالة فلا تعتبر معرفته به فإنه عدل في الأخبار وقد فوض الرأي الينا وان لم يذكر السبب فتعديله المطلق وكذا جرحه مردود نعم قد يترجح رواية من لم يتطرق إليه جرح مطلق من مثله على رواية من تطرق إليه ذلك

الفصل الخامس في عدالة الصحابة رضي الله عنهم وهو معتقدنا في جميعهم على الاطلاق وعليه ينبني قبول روايتهم واستثنت المعتزلة طلحة والزبير وعائشة رضوان الله عليهم تعويلا على ما صدر منهم من هناتهم وحالات نقلت من محاربتهم وما من امر ينقل إلا ويتطرق إليه احتمال فالنظر إلى ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله اياهم اولى من اساءة الظن بهم بالاحتمال ولا فرق بين علي وعثمان وبينهم في مثل ما يعولون عليه

الباب الرابع فيما يعتمده الراوي
وفيه ثلاثة فصول الفصل الاول في شرط الشيخ والقارئ والمتحمل أما الشيخ فشرطه ان يصغي لما يقرأ عليه بحيث لا يذهل عن كلمة منه أو يقرأ بنفسه أو يأخذ النسخة ويحتاط في النظر فيه ليتنبه للزيادة والنقصان فإن لم يكن في يده نسخة وكان يحفظ الحديث بحيث يتنبه للزيادة والنقصان كفى وإلا فوجوده كعدمه

وقوله سمعت شيخي أو قال اخبرني أو حدثني على وتيرة واحدة فأما القارئ فشرطه ان يقرأ نسخة صحيحه على وجه يسمع على الشيخ تمام كلمات الاحاديث هل عليه ان يقول للشيخ بعد قراءته هل كان كما قرأته شرطه بعض المحدثين وهذا لا حاجة إليه فإن قوله إذ قال قرأت لا يفيد القطع والثقة حاصلة بسكوته وتقريره بقرينة الحال فإنه متصد لهذا الشأن وأما المتحمل
إن كان يقرأ فذاك وان كان لا يقرأ فسبيله ان يسمع تمام كلمات الاحاديث ولا يشترط فهم معنى الحديث ولا حفظه

وان كان يسمع صوتا غفلا ولا يحيط بمقاطع الكلمات ومباديها لا يصح سماعه وان عول على النسخة بعده فهو تعويل على الصحيفة

الفصل الثاني في الاعتماد على الكتب وقد منعه المحدثون والمختار انه إذا تبين صحة النسخة عند امام صح التعويل عليه في العمل والنقل ودليله مسلكان أحدهما اعتماد اهل الاقطار المتفرقة على صحف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات المضمومة إلى الولاة والرسل من غير توقف على نقل الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني انا نعلم ان المفتي إذا اعتاصت عليه مسألة فطالع احد الصحيحين فإطلع أنه على حديث ينص على غرضه لا يجوز له الاعراض عنه ويجب عليه

التعويل ومن جوز هذا فقد خرق الاجماع وليس ذلك إلا لحصول الثقة به وهي نهاية المرام نعم لا يقول سمعت شيخي وهو لا يسمعه

الفصل الثالث في الاجازة وقد رده بعض المحدثين وقبله بعض وحطوه عن السماع وقال الاستاذ أبو بكر رضي الله عنه يعول عليه في احكام الآخرة والمختار انه كالسماع لان الثقة هي المبتغاة والامام المرموق في الصنعة الغالي في الاحتياط إذا عين حديثا وأشار إلى نسخة وقال هذا قد صح عندي على وجهه فأجزت لك في النقل فقد حصلت الثقة ولا تعبد في السماع واما المناولة فلا فائدة فيها وهي من جهالات بعض المحدثين

ولا يشترط ايضا ان يقول اجزت ويكفي ان يقول قد صح عندي ذلك أو هذه النسخة مصححة على شيخي فأما إذا قال اجزت لك فيما صح عندك من مسموعاتي مطلقا فهذا لفظ مبهم لا بد فيه من نثبت فليقع البناء على التعين وثلج الصدر وليتجنب رواية كل ما يتردد فيه ولا يجوز التعويل على خط المجيز المكتوب على حاشية النسخة اصلا
والله اعلم

الباب الخامس فيما يقبل من الاحاديث وما يرد ويحصر مجموعه تسع مسائل مسألة 1 المراسيل مردودة عند الشافعي رضي الله عنه إلا مراسيل سعيد ابن المسيب والرسل الذي عمل به المسلمون

وصورته ان يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه أو يقول حدثني الثقاة أو اخبرني رجل ولم يذكر اسمه وقبل أبو حنيفة رضي الله عنه المرسل ومنهم من قدمه على المسند واعترض القاضي على الشافعي رضي الله عنه في استحسانه مراسيل سعيد ابن المسيب وقال ما الفرق بينه وبين غيره وقال قال الشافعي رضي الله عنه مراسيله مسانيد ولكنه لا يذكر لكثرة شيوخه فإذن قد استحسن مسانيده لا مراسيله وقال القاضي لم قلت إذا عمل به الأمة كان مقبولا نعم الاجماع هو المقبول والعمل ان كان متلقى منه فلا أثر للمرسل وان تلقى من الحديث فليقبل دون الاجماع

وتمسك الشافعي رضي الله عنه بأن قال إذا أرسل الناقل الحديث فحقه ان يذكر من اخبر به ليبحث عن حاله فربما لا يكون ثقة وتمسك القائلون بأن العبادلة الاربعة لم يدركوا إلا اواخر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوا منه إلا اخبارا معدودة ثم لم يقتصروا في النقل عليها قطعا ولذلك غزر علمهم وكثرت روايتهم ثم كانوا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير اسناد إلى واحد ولم يزعهم عن ذكر ذلك دينهم ولا اعترض عليهم غيرهم فدل ان الارسال جائز مقبول يحققه ان الرجل العظيم القدر في هذا الشأن إذا جزم قوله وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال اخبرني الثقة بكذا فالثقة به ابلغ مما إذا ذكر اسم الرجل فإنه يطرق أمره إذا قال هو ثقة وثبت في كون الحديث صادرا من فلق في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمبتغي هو الثقة

قال القاضي والمختار عندي ان الامام العدل إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اخبرني الثقة قبل فأما الفقهاء والمتوسعون وهو في كلامهم قد يقولون ذلك لا عن تثبت فلا يقبل

ومنهم من قال هذا هو منقول عن الحسن البصري والشافعي رضي الله عنهما ولا يقبل في زماننا هذا وقد كثر الرواة وطال البحث وتشعبت الطرق فلا بد من ذكر اسم الرجل
والأمر على ما ذكره القاضي إلا في هذا الاخير فإنا لو صادفنا في زماننا متثبتا في نقل الاحاديث مثل مالك رضي الله عنه قبلنا قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف ذلك بالاعصار صلى الله عليه وسلم ثم قال القاضي تبينت ان مذهب الشافعي رضي الله عنه قبول المراسيل فإنه قال في المختصر اخبرني الثقة وهو المرسل بعينه وقد اورده لينقل عنه ويعتمد عليه ويعتقد معتمد مذهبه وعن هذا قبل مراسيل سعيد بن المسيب وانما رد ما تردد فيه

مسالة 2 إذا روى الراوي حديثا عن شيخه فروجع فيه فقال لا ادريه فالحديث مقبول عندنا إذ لم يكذبه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو مردود ومثاله ما نقله ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري من حديث النكاح بغير ولي وقال ابن جريج راجعت الزهري في الحديث فقال لا أعرفه

وتمسك أبو حنيفة رحمه الله بأن التعويل على الثقة وقد انخرمت الثقة وعارض قوله قول شيخه ونزل هذا منزلة اتفاق اوبه شهود الاصل قبل القضاء وقولهم لا ندري ما ذكره شهود الفرع والاختيار عندنا قبوله لأن الثقة عندنا تنخرم إذا كذبه فأما إذا قال لا أدريه فحمله على
الذهول والنسيان ممكن فلا حاجة بنا إلى تكذيب عدل مع امكان التصديق وليس كذلك إذا كذبه إذ ليس أحدهما بالتصديق اولى نعم لا ننكر ان هذا في الثقة دون ما إذا وافق الشيخ ولكن نباهة الثقة غير معتبرة إذ حديث ينقله أبو عوانة في الثقة دون ما ينقله مالك مع نباهته وذلك لا يقتضي رده وانما يؤثر في الترجيح ولا وجه للنظر إلى الشهادة فإن مبناها على تعبدات ذكرناها ولذلك لا يراجع شهود الفرع مع حضور شهود الاصل بخلاف الرواية فإن منعوا ذلك استدللنا بسيرة الصحابة وقد علمنا انهم في مخاليف

مكة والمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحافتهما إذا كانوا يعتمدون على قول ابي بكر وعمر وغيرهم مع امكان الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونعلم ان النسوة لا يكلفن البروز إلى الرسول في كل حكم من الصلاة والطهارة بل كن يعتمدن فقال قول ازواجهن فلا وجه لانكاره مسألة 3 إذا قال الصحابي من السنة كذا أو سنة الرسول عليه السلام كذا قال المحدثون هو كقوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا لأنهم يعبرون به عن قول النبي عليه السلام وهذا تحكم فإن السنة يعبر به عن الطريقة والشريعة بدليل قوله تعالى سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا فلعله قاله قياسا وسنة النبي اتباع القياس
وكذا لو قال امرنا بكذا فإنه أمر باتباع القياس وان كان هو أظهر من الاول

ولو قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كراوية قوله مثل قول صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أو سفرا ان لا ننزع خفافنا الحديث مسألة 4 اوجب المحدثون نقل الفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهها وغالوا حتى منعوا ابدال أي اسم الله تعالى باسم آخر من اسماء الله تعالى تمسكا بقوله عليه السلام تضر الله امرا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ اوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه والمختار ان الالفاظ منقسمة إلى ما يتميز بخاصية الاعجاز وهو الفاظ القرآن ولا بد من نقلها إذ الاعجاز بها يتعلق

وما لا اعجاز فيه ينقسم إلى ما يتعلق به تعبد لا بد من قراءته كألفاظ التشهد فلا بد من روايتها على وجهها ومالا يكون كذلك يجوز تغييره بشرط ان يكون الناقل على ثبت من تبقية المعنى بتمامه إذ لا تبعد في اللفظ والمعنى هو المبتغى مسألة 5 إذا نقص الراوي شيئا من الحديث نظر فيه فإن كان المتروط لا يرتبط بالمنقول اصلا فذاك جائز وعليه درجت
الصحابة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرع لهم احكاما جمة في مجلس واحد وخطبة واحدة ثم كانوا ينقلونها متفرقة على حسب الحاجة وان ارتبط به بحيث لا يستقل المنقول بإفادة الغرض فلا يحل نقصانه فإنه اخلال بالغرض وان استقل الاول وكان الباقي يفيد مزيد وضوح فيجوز الاقتصار على الاول كما نقل عن ابن مسعود في بعض الروايات انه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة لما استدعى ذلك مني فرمى الروث وقال انه رجس ولم ينقل قوله ابغ لي ثالثا

وقد نقل عن الرسول عليه السلام انه قال الثيب بالثيب جلد مائة والرجم وفي بعض الروايات لم ينقل الجلد قال الشافعي رضي الله عنه لا أتلقى سقوط الجلد من الثيب من اقتصار الراوي إذ يحتمل ان النبي عليه السلام كان قد ذكره في هذا الحديث أيضا فاستحقره ثنا الراوي بالنسبة إلى الرجم فاقتصر على نقل الرجم ولكنه مأخوذ من قصة ماعز وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة 6 القراءة الشاذة المتضمنة لزيادة في القرآن مردودة كقراءة ابن مسعود في آية كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات فلا يشترط التتابع خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه فإنه قبله وهو يناقض أصله من حيث انه زيادة على النص وهو نسخ بزعمه كما
قاله في كفارة الظهار

ومعتمدنا شيئان أحدهما أن الشئ إنما يثبت من القرآن إما لإعجازه وإما لكونه متواترا ولا اعجاز ولا تواتر ومناط الشريعة وعمدتها تواتر القرآن ولولاه لما استقرت النبوة وما يبتني على الإستفاضة لتوفر الدواعي على نقله كيف يقبل فيه رواية شاذة فإن قيل لعله كان من القرآن فاندرس قلنا الدواعي كما توفرت على نقله ابتداء فقد توفر على حفظه دواما ولو جاز تخيل مثله لجاز لطاعن في الدين ان يقول لعل القرآن قد عورض فاندرست المعارضة وجوابنا عنه أنه لو كانت لانتشرت وتوفرت ولتوفرت

الدواعي والجبلات على نقلها مع تشوف الطاعنين في الدين إلى ابطاله المسلك الثاني مبنانا به فيما نأتي ونذر الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم وقد كانوا لا يقبلون القراءة الشاذة وعن هذا كسر عثمان رضي الله عنه اضلاع ابن مسعود فكيف يقبل فإن قيل لا ينحط عن خبر الواحد فليعمل به
قلنا العمل به ينبني على كونه من القرآن وقد بطل ذلك ثم مستندنا في العمل بخبر الواحد سيرة الصحابة وهم لم يعملوا به مسألة 7 إذا انفرد بعض النقلة بزيادة في اصل الحديث قبلت الزيادة خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه وقد عول على انه يبعد ان يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم جمع قد اعتنوا بحفظ كلامه ثم يختص بعضهم بسماع كلمة مع ذهول الاخرين عنه

والعجب انه لم يتنبه لهذا في القرآن ومبناه على الاستفاضة والتواتر واعتبره في غير مظنته إذ وقوع غفلة أو فترة لمعظم الحاضرين واختصاص البعض بالاستماع لا يحيله العرف والعقل والناقل عدل والجمع بينه وبين المقتصرين ممكن فلا يجعل للتهمة موضعا على ما قاله الشافعي نعم لو كذبوه وقالوا لم يقله فعند ذلك تبطل الثقة فلا يقبل فان قالوا ذلك مما يندر قلنا لا يرد حديث الثقة لندوره إذ قبل رواية من روى ان النبي صلى الله عليه وسلم بال قائما مع ندوره بالنسبة إلى حاله وقد كان بحيث غشي عليه حياء لو انحلت عقد ازاره وانكشفت عورته والدليل عليه ان رجلين لو انفرادا من بين سائر الشهود في واقعة

شهدوها وشهدوا على زيادة قبل ذلك منهم من غير التفات إلى الندور مسألة 8 قال أبو حنيفة رضي الله عنه إخبار الآحاد فيما تعم به البلوى مردودة فنقول ان عنيت به ما يعظم موقعه في القلوب وتتوفر الدواعي على نقله فمسلم وان عنيت به ما يتكرر في اليوم والليلة كالصلاة والطهارة فليس كذلك إذ معظم الصور المتعلقة بالصلاة والسهو فيها انفرد به الآحاد وقد ردوا مذهبنا في الجهر بالبسملة بهذا السبب وقالوا لو كان لاستفاض فإن البسملة متكررة وهذا يعارضه ان الاسرار لو وقع لاستفاض ايضا ثم يقال لهم اتقطعون هذا بكذب ناقل الجهر ام لا

فإن قطعتم به فلا يدرك كذبه بضرورة العقل ولا نظره وان جاز وقوعه فهو عدل فلا وجه لتكذيبه والقول الوجيز ان ما يقتضي احلال الاستفاضة فيه إذا لم ينقل نفيه واثباته متواترا فهو محمول على احد امرين أما على قصور الدواعي وضعف الاعتناء بنقله واما على اندراسه بعد التواتر وهذا مما لا يعظم وقعه في القلب حتى يتواتر
والعجب انهم اثبتوا تثنية الاقامة بمثله وهو شعار الاسلام يتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات مسألة 9 كل خبر مما يشير إلى اثبات صفة للباري تعالى يشعر ظاهره بمستحيل في العقل نظر ان تطرق إليه التأويل قبل وأول وان لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع كذب الناقل

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسدد ارباب الالباب ومرشدهم فلا يظن به ان يأتي بما يستحيل في العقل وقوله عليه السلام يضع الجبار قدمه في النار مقبول مؤول محمول على الكافر العتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اهل النار كل جبار جظ جعظري وتشهد له قرائن وهو قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس اجمعين وقد علم الرب تعالى متسع النار وما يملؤها فكيف افتقر إلى وضع القدم وهلا جعل الحجارة حشوها كما قال تعالى وقودها الناس والحجارة وحمله على الظاهر نسبة جهل إلى الله تعالى عن قول الظالمين أو لعجزه عن أن يملأ النار بخلق يخلقه

ورب حديث علم علي القطع ازالة ظاهره كقوله عليه السلام قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن وخلاف الظاهر فيه مشاهد
وقوله عليه السلام خلق آدم على صورته فالهاء فيه قيل راجعة إلى آدم ومعناه أنشأه كذلك بخلاف من دونه فإنهم كانوا أولا على صورة الآباء وقد قيل سببه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يلطم وجه غلام فقال لا تفعل فإن الله تعالى خلق آدم على صورته والقول الوجيز ان كل ما لا تأويل له فهو مردود وما صح وتطرق إليه التأويل قبل والله أعلم

كتاب النسخ وفيه أربعة ابواب الباب الاول في اثبات النسخ على منكريه وبيان حقيقته وقد انكر اليهود جواز النسخ فنقول لهم ان تلقيتم استحالته من عدم تصوره فتصويره ان يقول السيد لعبده افعل ثم يقول بعده لا تفعل وان تلقيتموه من استصلاح واستقباح فلا تساعدون عليه ثم لا بعد في تقدير مصلحة فيه وان نقلوا استحالة النسخ من موسى عليه السلام فقد كذبوا إذ شريعة عيسى عليه السلام نسخت شريعته ولا طريق لهم إلى انكار معجزته فإن قالوا النسخ يدل على البداء قلنا ان عنيتم انه يدل على تبين شئ بعد استبهام شئ فليس كذلك

وان قلتم يؤدي إلى افتتاح امر لم يكن فالله تعالى يبدل الأحوال يحيي ويميت ويحرك ويسكن وان قالوا كلام الله تعالى قديم والقديم كيف ينسخ قلنا تعلق الخطاب بنا ليس قديما فلا بعد في انقطاعه كما ينقطع بالجنون وغيره فدل ان استحالة النسخ لا تعلم بضرورة العقل ولا بنظره فإن قيل امر الله ان فهم منه التأبيد فنسخه يشعر بالخلف وان لم يدل إلا على التأقيت فلا حاجة إلى النسخ إذ النسخ رفع ولا رفع قلنا يندفع هذا السؤال ببيان حقيقة النسخ وقد اختلفت العبارات فيه فقال قائلون النسخ بيان امد العبادة وهو فاسد من وجهين أحدهما ان النسخ لا يختص بالعبادة الثاني ان البيان لو قارن لم يكن نسخا فلا بد من التراخي وقال الفقهاء النسخ تخصيص الأمر بزمان قال القاضي رحمه الله في روم افاسده ثم اجمع الفقهاء واليهود على رد

النسخ إذ الأمة مجمعة على اثباته معنى وراء التخصيص فلا تغني الموافقة في اللقب ورد المعنى إلى التخصيص إذ النسخ رفع لا رفع فيما قلوه والتخصيص بالقياس واخبار الآحاد مسوغ دون النسخ قال القاضي والنسخ رفع الحكم الثابت وهذا يرد على ما ذكره اليهود من ان رفع الثابت خلف
وقالت المعتزلة النسخ هو النص الذي يتضمن رفع مثل الحكم الثابت في مستقبل الزمان الذي لولاه لاستمر الحكم والمختار ان النسخ ابداء ما ينافي شرط استمرار الحكم فنقول قول الشارع افعلوا شرط استمراره ان لا ينهى وهذا شرط تضمنه الأمر وان لم يصرح به كما ان شرطه استمرار القدرة ولو قدر عجز المأمورين تبين به بطلان شرط الاستمرار فإن قيل ما الفرق بينكم وبين المعتزلة قلنا نفارقهم في مسألتين إحداهما انا نجوز نسخ الأمر قبل مضي مدة الامكان وهم لا يجوزون لأن الأمر ليس بثابت

والاخرى انه لو قال افعلوا أبدا جوزنا نسخه لأنا لا نتلقاه من اللفظ وهو كما لو قال افعلوا أبدا ان لم أنهكم عنه إذ شرط استمراره عدم النهي ونقول للذين حملوا النسخ على التخصيص ان عنيتم به ان الحكم في علم الله تعالى كان متخصصا بهذا الوقت فهو مسلم وان عنيتم ان اللفظ في وضعه تخصص به فليس كذلك فإنه لو قال افعلوا أبدا فهو نص ويجوز نسخه نعم لا يجوز الهجوم عليه بالقياس لأن التخصيص أيضا تلقيناه من الصحابة لا من العقل ولم ينقل عنهم ذلك في النسخ فإن قيل هذا نسخ لا يتضمن رفعا قلنا يتضمن رفع اعتقادنا ووهمنا
فإنا كنا نظن استمرار الحكم ابدا وإلا فالثابت في علم الله تعالى لا ينقلب فإذن تحصلنا على اثبات النسخ وراء التخصيص متضمنا لرفع الاعتقاد دون الحكم في علم الله تعالى مفارقا للإستثناء إذ شرط النسخ الاستئخار ولو قارن لناقض وشرط الإستثناء المقارنة ولو إستأخر لناقض فبان بما ذكرناه وجه الرد على اليهود فيما ذكروه من السؤال

الباب الثاني الناسخ هو الله تعالى وهو المثبت وقولنا الخبر ناسخ أو الشئ ناسخ تجوز ثم لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ الكتاب بالسنة جائز عند الاصوليين خلافا لمالك والشافعي والاستاذ أبي اسحق في زمرة الفقهاء

فنقول ليس في العقل ولا في الشرع ما يحيل قوله النبي عليه السلام لأمته هذه الآية منسوخة من غير ان يتلو معها آية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يقوله إلا عن وحي وكان لا ينطق عن الهوى وان كان يجتهد لم يكن مترددا في اجتهاده بل كان يقطع بما يقول

فإن قيل نسخ المعجز بغير المعجز محال
قلنا ليس كذلك بدليل جواز نسخ آية بنصف آية لا اعجاز فيها فإن تمسكوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها الآية قلنا هذا ان دل فإنه يدل على أنه لم يقع ثم لا يدل عليه ايضا فإنه محمول على العلم والامارة

ثم لم يذكر انه لم ينسخ إلا بالكتاب وانما فيه تعرض للمنسوخ والاتيان بآية أخرى وان لم يكن هو الناسخ ثم الاية مجملة لترددها بين هذه الجهات هذا هو الكلام في جوازه ونحن نقطع بوقوعه فإنا نرى آيات من الكتاب منسوخة كآية الوصية وغيرها وليس لها ناسخ من الكتاب فأما ورود آية على مناقضة ما تضمنه الخبر جائز بالاتفاق ولكن الفقهاء قالوا النبي صلى الله عليه وسلم هو الناسخ لخبره دون الآية وهذا كلام لا فائدة فيه فلا استحالة في كون الآية ناسخة للخبر

وعزي إلى الشافعي رضي الله عنه المصير إلى استحالته ولعله عني في المسألتين ان النبي علي السلام لا ينسخ فلا يثبت أيضا حتى تكون الآية ناسخة لحديثه وانما الناسخ والمثبت هو الله تعالى والنسخ بأخبار الآحاد تردد القاضي فيه وقال لا أدري لو نقل
الصديق عن الرسول عليه الصلاة والسلام نسخ آية هل كانوا يحكمون وهو في مظنة التردد كما قال ولا شك في أنهم كانوا لا يسلطون القياس على الكتاب بالنسخ والله اعلم

الباب الثالث فيما يجوز ان ينسخ ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم جائز خلافا للمعتزلة فنقول التلاوة حكم مستقل بنفسه فلا يستحيل نسخه كنسخ الحكم دون التلاوة والدليل عليه قوله تعالى والشيخ والشخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله تعالى فالتلاوة منسوخة والحكم باق مسألة 1 يجوز نسخ الأمر قبل مضي زمان امكان الامتثال خلافا للمعتزلة

بدليل نسخ الذبح عن ابراهيم قبل امتثاله وكان قد اعتقد وجوب الذبح ولذلك تعاطى سببه فإن قيل لم يكن مأمورا إلا بمعالجة الذبح قلنا فلم فدي وكان قد فعل ثم لا نظر في ذلك وقد قال تعالى ان هذا لهو البلاء المبين
ولا يظن أيضا به التقصير في التأخير حتى يقال كان النسخ بعد الإمكان وقوله صدقت الرؤيا معناه حاولت الاقدام اعتمادا على الرؤيا والمسلك المختار انا نقول لا يدرك استحالة هذا النسخ بضرورة العقل ولا بنظره وغاية المسألة انه يبين بالنسخ ان الأمر ثابت والنسخ رفع حكم ثابت وقد قال القاضي رضي الله عنه الحكم قبل الامكان ثابت ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن ونحن نقول كان ثابتا في وهمنا فارتفع وهمنا

وكان الله عالما بأن لا مطلوب ولا طلب كما إذا امره ثم عجز قبل التمكن ولا فرق بينهما فان قيل وما فائدة هذا الأمر قلنا لا يطلب لافعال الله تعالى فائدة ثم فائدته اعتقاد الوجوب كما إذا امر ثم عجز قبل الامكان فإن قيل لو أمر لاراد وإذا اراد نفذت ارادته فكيف ينسخ قبل الفعل قلنا عندنا قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد ثم يعارضه ما إذا امر ثم سلب القدرة مسألة 2 الزيادة على النص إذا لم ترتبط بالمزيد عليه كالامر بالصلاة بعد الأمر
بالزكاة لا تكون نسخا بالاتفاق وإذا ارتبطت بالمزيد على وجه ابطل الانحصار المتلقى من النص فهو نسخ كما إذا قدر صلاة الصبح بركعتين ثم زيد فيهما ثالثة

فأما إذا لم يرتبط به لا يكون نسخا كقولنا الايمان شرط في كفارة الظهار كما ذكرنا في كتاب التأويل وقد يدعي أبو حنيفة رحمه الله ذلك في شرط النية في الطهارة من حيث ان الله تعالى تولى بيانها ولم يتعرض لها ولا يغني في الجواب المعارضة بطهارة الماء وستر العورة واستقبال القبلة لان ذلك لا يتعلق بمقصود فعل المتطهر ولا المتيمم فان ذلك مناقضة من ابي حنيفة فالجواب ان نقول الظاهر يدل على الاقتصار ولكن خصصناه بدليل آخر وعن هذا قال الشافعي رضي الله عنه الزيادة على النص تخصيص عموم ووجه الإجمال ان الله تعالى اراد به التعرض للافعال الظاهرة فلم يتعرض للنية

وقد يستدلون به في الشاهد واليمين من حيث ان الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ولم يتعرض له فنعارضهم رسول باعتبار العدالة والحرية والقضاء بالنكول فإنه من احد الحجج
ثم الشاهد الواحد يقوي جانب المدعي والحجة هي اليمين والتحقيق فيه ان الله تعالى في سياق هذه الاية حث الناس على ما فيه مصلحتهم والاصلح الاستظهار بالبينة الكاملة

الباب الرابع في حكم المنسوخ قال قائلون النسخ المطلق إذا ورد على الحكم يتضمن اثبات نقيضه وهذا فاسد إذ الاحكام تتلقى من اوامر الشرع ولفظ النسخ بمجرده لا يدل على اثبات نقيض المنسوخ ولكن يدل على رفع ذلك الحكم فيقدر كأن ذلك الحكم لم يكن اصلا وتلتحق تلك الواقعة بالافعال قبل ورود الشرع مسألة (1) قال قائلون من لم يبلغهم خبر النسخ فالحكم في حقهم ثابت مستمر إذ لو ثبت في حقهم النسخ لكان ذلك تكليف ما لا يطاق فان الامكان يترتب على الفهم ولهذا قالوا لا يجوز لهم ترك المأمور الاول والوجه عندنا رفع الخلاف فإن النسخ لو استعقب حكما آخر فلا يكلفون ذلك قطعا وليس لهم ترك ما امروا به قطعا

ولو فاتهم الفعل قبل بلوغ الخبر فوجوب القضاء من مجوزات العقول فلا نقطع به وانما يتلقى من امر متجدد ان ورد موجب وألا فلا مسألة 2
راى أبو حنيفة رضي الله عنه استنباط ترك التبيت من الحديث الوارد في صوم عاشوراء قبل ان ينسخ وجوبه وقال اصحابنا الاسنتباط ولا من المنسوخ باطل فإنه فرع ثبوت الحكم والمختار انه ان قدح فيه معنى مخيل اعني في المنسوخ جاز التمسك به صححنا الاستدلال بالمرسل ا لم نصححه لأن فريضة الصوم في وضع الشرع لم تنسخ ولكن ابدل زمان بزمان ولكن لا يستقيم لأبي حنيفة رضي الله عنه استنباط معنى مخيل من فرضية عاشوراء في ترك التبييت فالتشبيه في هذا المحل لا يقبل والله اعلم

كتاب الاجماع وفيه خمسة ابواب الباب الاول في اثبات كون الاجماع حجة وبيان صورته والاجماع عبارة عن اتفاق اهل الحل والعقد وهو حجة كالنص المتواتر عند أهل الحق وانكر منكرون تصوره واحال وقوع الاتفاق بين الأمة في تصوره وانكر منكرون تصور العلم به مع اعترافه بتصوره في نفسه وزعم آخرون أنه يتصور ويعلم لكن لا يحتج به

ومعتمد من جحد تصوره ان الاجماع لا انتفاع به في مواقع النصوص وانما يحتاج إليه في مظان الظنون واطباق الأمة على كثرة عددها على
حكم واحد في مسالة مظنونة مع اختلاف القرائح وتباين الفطن في الاستحالة كإطباق لم اهل بغداد في حالة واحدة على قيام أو قعود أو أكل زبيب وذلك مستحيل عرفا فنقول المسالة التي تتعارض فيها الظنون على وجه لا يترجح حانب على جانب يبعد في العرف الاطباق عليها من الجم الغفير فأما إذا ترجح احد الجانبين في مسلك الظن فلا بعد في الاطباق عليه إذ صفو الافهام بجملتها إلى الاغلب على ان الاجماع متصور انعقاده عن نص على ما سنذكره وذلك غير بعيد ولا يغني في الجواب قول القاضي رضي الله عنه نرى النصارى على كثرتهم يطبقون على مذهب واحد وكذلك القول في اصحاب المذاهب كلها لان جامعهم التعصب ورابطتهم حدثنا التقليد واتباع الهوى وانما يبعد الاتفاق من الجماهير في مظان النظر إذا استقلوا بالنظر وإذا تبين تصوره فطريق العلم به ان ينقل عن جملتهم ذلك

ويمكن تصويره في ملك سايس يجمعهم على صعيد واحد يستفتيهم فيتفقون أو يراسلهم أو يكاتب جميعهم ويعلم توافقهم في وقت واحد فهذا طريق تصوره والعلم به أما اثبات كونه حجة فقد تمسك الشافعي فيه بقوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية تواعد على ترك إتباع سبيل المؤمنين فإذا أجمعوا على حكم فهو سبيلهم
فإن قيل تنطوي عليه السريرة ولا اطلاع عليها فما ندري ان الذبن اجمعوا اهم المؤمنين الذين يجب اتباعهم ام لا قلنا لم نكلف البحث عن الضمائر وانما امرنا ببناء الأمر على الظاهر وإذا اجمعت الأمة على حكم يجب القضاء بأنهم هم المؤمنون إلا انه ينقدح حمل الآية على ترك الايمان والمخالفة فيه ويشهد له قوله قبله ومن يشاقق الرسول وهذا ان لم نقطع به فهو محتمل والقطيعات ابن لا تثبت بالمحتملات

ومما تمسك به الأصوليون قوله عليه السلام لا تجتمع امتي على ضلالة وروى على الخطأ ولا طريق إلى رده بكونه من إخبار الآحاد فإن القواعد القطعية يجوز اثباتها بها وان كانت مظنونة كما سيأتي في كتاب القياس

ولكن هذا الحديث يحتمل حمله أيضا على البدعة والضلالة في الدين والاعتقاد وعلى الاخلال بأصل الدين فضعف التمسك به من هذا الوجه فان قيل فما المختار عندكم في اثبات الاجماع قلنا لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدل عليه ولم يشهد له من جهة السمع خبر متواتر ولا نص كتاب واثبات الاجماع بالإجماع تهافت والقياس المظنون لا مجال له في القطيعات وهذه مدراك قوله الاحكام ولم يبق وراءه إلا مسالك العرف فلعلنا نتلقاه منه فنقول الاجماع يعرض على ثلاث صور الصورة الاولى
ان تجمع الأمة على القطع في مسالة مظنونة فإذا قطعوا قولهم وقد كثر عددهم بحيث لا يتصور منهم في طرد العادة التواطؤ على الكذب فهذا يورث العلم إذ يستحيل في العادة ذهولهم وهم الجمع الكثير عن مسلك الحق مع كثرة بحثهم وإغراقهم في الفحص عن مأخذ الأحكام ففرض الغلط عليهم كفرضه على عدد التواتر إذا أخبروا عن محسوس لأن هؤلاء قطعوا في غير محل القطع ولا يظن بهم التحكم

فيعلم على الضرورة أنهم تلقوا من نص عن الشارع مقطوع به فهذا مسلك إثباته وهو قريب مما ذكرناه في أخبار التواتر فإن قيل لو رأوا نصا لنقلوه قلنا لا بعد في اندراسه على ممر الأيام استغناء عنه لاستفاضة مقصوده وركونا إلى إطباق الناس على العمل به فإنا نعلم أنهم لا يقطعون في غير مظنة القطع هزلاء له فكانت الحجة مستند الإجماع إذن والإجماع وسيلة إلى الحجة فإن سميناه حجة فيجوز كما يسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم آمرا وناهيا والأمر والنهي إلى الله تعالى وهو مجاز الصورة الثانية أن يطبقوا في مسألة ظنية على حكم واحد من غير أن ينقل عنهم القطع بذلك فطريق إثباته أنا نعلم أن التابعين لو رأوا من يبدي خلاف ذلك لشددوا القول عليه بالتخطئة والتضليل قاطعين بأنه أساء وتعدى في مقالته ولا يقطعون بذلك تحكما وهزلا فنعلم ان مستندهم حديث قاطع حملهم على
الإنكار على خارق الإجماع

فالتحقت هذه الصورة بالصورة الأولى إذ نهايته قطع لا في محل القطع الصورة الثالثة أن يشتوروا في مسألة ويستقر رأيهم على حكم ويجمعوا عليه وكانوا بايحين ذلك بأنهم قالواه عن قياس وظن غالب راجح فيعلم ضرورة من التابعين تشديدهم النكير على من يبدي خلافا وهذا قطع منهم لا في محله فالتحقت بالصورة الأولى ولا يبعد أن يكون قوله لا تجتمع أمتي على الخطأ مستندهم في قطعهم بذلك أو حديث آخر أوضح منه فإن قيل فهل يتصور انعقاد إجماع عن قياس قلنا أنكره منكرون وتعلقوا بأن القياس مظنون وهو مختلف فيه فكيف يتلقى منه قاعدة قطعية والمختار تصور انعقاده منه كما ذكرناه لعلمنا بإبداء التابعين النكير على المخالف بعد استمرار العصر الأول عليه فإن اشتوروا وحكموا به قياسا فهذا قطع منهم لا في محله فيستدعي مستندا قاطعا بحكم العرف كما ذكرناه ويمكن أن يتمسك عليه بقوله لا تجتمع أمتي على الخطأ

فإذا اجتمعوا على قياس كان حقا في نفسه لا يسوغ خلافه كما أنهم لو أجمعوا على أصل القياس وجب اتباعهم فالإجماع على نوع من القياس يتبع أيضا
وقولهم الظن لا يتلقى منه القطع ليس كذلك فإنا نتلقى القطع بوجوب العمل بأخبار الآحاد وإن تطرق إليه خيالات لإستناده إلى إجماع مقطوع به وكذلك هذا وإذا تلقينا الإجماع من العرف لم نخصصه بشرعنا وخصصه من تلقاه من الحديث لتخصيص الرسول أمته وأحكام العرف لا تتفاوت بإختلاف الشرائع ولا نخصصه بالصحابة بل نحكم به في كل عصر بعدهم وهذا خارج عن حكم الخبر والعرف جميعا وقال قائلون يختص بالصحابة فإن قيل فهل تكفرون خارق الإجماع قلنا لا لأن النزاع قد كثر في أصل الإجماع لأهل الإسلام والفقهاء إذا أطلقوا التكفير لخارق محمد الإجماع أرادوا به إجماعا يستند إلى أصل مقطوع به من نص أو خبر متواتر والله أعلم

الباب الثاني في صفات أهل الإجماع لا تعويل على وفاق العوام وخلافهم والمستجمعون إلى لخلال الاجتهاد هم المعتبرون والمجتهد المبتدع إذا خالف ينعقد الإجماع دونه عند من كفره أو فسقه والمختار أنه لا ينعقد دونه فإنه مجتهد يعول على قوله فيما نختاره ولا نكفره وتقبل شهادته ولا يفسق
والمجتهد الفاسق قيل لا مبالاة كان بخلافه إذ لا يقبل قوله وفتواه في الدين والدنيا والمختار أنه لا ينعقد الإجماع مع خلافه لأنه مستجمع لخلال التهدي والتبصر في الأحكام وصدقه ممكن والأصل عدم الإجماع فلا ينعقد على تردد ينشأ من خلاف عالم بالشرع وهو يضعف مأخذ الإجماع على ما ذكرنا

نعم لا تقبل روايته وشهادته لأن الأصل عدم ما يخبر عنه فأما الفقيه المبرز في الفقه الذي لا يعلم الأصول أو الأصولي الذي لم يتعمق في الفقه فلا عبرة بخلافه فإنه ليس بصيرا بمأخذ الشرع بعد ويجب عليه أن يستفتي فيما يقع له فكيف يتوقف الإجماع على قوله نعم إن كان يحقق بكسبه وفقهه إشكالا فحق أهل الإجماع أن يبحثوا عنه ثم قوله بعد إجماعهم كإشكال أبو يبدي بعد انعقاد الإجماع فلا أثر له واختار القاضي رحمه الله أن خلافه معتبر لأن أهل الإجماع يستندون إلى رأيه وفقهه وهو فقيه متهد إليه وقد بينا أنه لا تعويل على عناده بعد بحث أهل الإجماع عن قوله وتزييفهم رأيه واستدل بأن ابن عباس رضي الله عنهما كان يخالف وكان صبيا ولم يكن مجتهدا ومن وافقه لا يعد خارقا قلنا لم يخالف إلا وهو مجتهد ولا نسلم له ذلك

وصار محمد بن جرير إلى أنه لا مبالاة بقول أقل من ثلاثة وإن كانوا
مجتهدين فإنه يندر إصابتهم وخطأ الباقين والمختار أن خلاف واحد مستجمع الصفات يمنع صحة الإجماع لأنه يقطع ما ذكرناه في مأخذ الإجماع والندور يبطل عليه بثلاثة مع ثلاثة آلاف فإن إصابتهم أيضا نادرة

الباب الثالث في عددهم إذا بلغوا مبلغ التواتر فهو النهاية وإن تراجعت أعدادهم إلى واحد وما فوقه إلى مبلغ لا يستحيل عليهم الخطأ والتواطؤ عرفا فلا حجة فيه عندنا لأن العرف لا يقضي بإصابتهم قضاء باتا إذ الغلط على الواحد والاثنين غير مستنكر في العرف وقال قائلون هذا غير متصور وإنكار هذا مناكرة المعلوم بالمشاهدة في الحال وإثبات استحالته لا مستند له عقلا وشرعا فإن قيل هذا الدين لا بد وأن يبقى محفوظا وإذا نقص عدد أهل الإجماع بطل الركن الأعظم في الدين قلنا قولوا يحصل الإجماع بقولهم وإن قلوا ثم ذلك مشاهد في الحال وقد وعد الرسول عليه الصلاة والسلام الفترة في آخر الزمان وقال بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ وقال

سيأتي عليكم زمان يختلف فيه رجلان في فريضة فلا يعرفان من يعرف حكم الله فيها
وصار صائرون إلى أنه يتصور ولكن ينعقد الإجماع بقولهم وإن عادوا إلى واحد فإن قوله متبع في الإسلام وقال الله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى وهذا سبيلهم قلنا الآية لا حجة فيها كما ذكرنا وإن كان فلا يدل على التفاصيل والإجماع مأخوذ من إبداء أهل العصر الثاني النكير ودعوى ذلك ههنا غير ممكن مسألة صار مالك رضي اله عنه إلى أن الإجماع يحصل بقول الفقهاء السبعة وهم فقهاء المدينة ولا نبالي بخلاف غيرهم

وقدم أيضا مذهبهم على النص ولا خفاء ببطلان هذا فإنهم ليسوا كل الأمة والمدينة أطلال لا أثر لها ولكن لعله صار إلى أن عدد التواتر لا يعتبر ومخالفة الأقل لا يضر وكانوا أكثر المجتهدين في زمانه وإنما قدم قولهم على النصوص لإعتقاده أن مذهب الراوي يقدم على روايته وانحصرت الرواية فيهم عنده هذا مجمل مذهبه بعد إحسان الظن به وقد تكلمنا عليه وبالله التوفيق

الباب الرابع في شرائط الإجماع
شرطه أن يقع في مظنون فإن كان معقولا لا يمكن دركه بنظر العقل فما يتقدم في مرتبته على إثبات الكلام للباري فلا يثبت بالإجماع لأن مستند الإجماع وهو حجة شرعية كلام الله تعالى وكذا الكلام فأما ما لا يبعد استئخاره عنه كخلق الأفعال ومسألة الرؤية والقضاء والقدر فهذا مما يجب اعتقاده لو ورد فيه نص وقال قائلون يحتج أيضا بالإجماع فإن إطباقهم على غير الحق مع كثرة عددهم بعيد والمختار أنه لا يحتج به لأن العقل لا يحيل ذلك في المعقولات والشبهة مختلجة أو والقلوب مائلة إلى التقليد واتباع الرجل المرموق فيه إذا قال قولا

هذا مما اختاره الإمام رحمه الله وللكلام فيه مجال إذ لو تمسك فيه بقوله لا تجتمع أمتي على الضلالة وهو نص فيه مع علمنا بقطع التابعين الرد على من يبدي خلاف مسلكهم ولا يقطعون في غير محل القطع إلا مستندين إلى قطع وتقدير اجتماع الصحابة على كثرة عددهم على البدعة والضلالة واعتقاد خلاف الدين بعيد كإجماعهم على قياس خطأ بعد الاشتوار ومن شرائطه عمد بعض الناس انقراض العصر ليستبان به استقرار الاتفاق ثم قيل يكتفي يموتهم) تحت هدم دفعه واحدة إذ الغرض انتهاء عمرهم عليه
وقال المحققون لا بد من انقضاء مدتهم ليفيد فائدة فإنهم قد يجمعون على رأي وهو بعرض التغيير وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ابدى الخلاف في مسائل بعد اتفاق الصحابة رضي الله عنهم

والمختار أنهم ان قطعوا لا في محل القطع لا حاجة إلى انقراض العصر لان ذلك لا يتفق غلطا وعن رأي إلا بقاطع وإن اطبقوا في محل الظن من غير قطع فلا بد من استمرار العصر والرجوع في مقداره إلى الطرف والغرض تبين الاستقرار ثم يعتبر معه تكرار الواقعة فلو تناسوها فلا اثر للاجماع مع استمرار العصر قيل ومن شرطه ان يبوحوا به أو يكتبوه في فتاويهم أما اطباقهم على الفعل لا يكون اجماعا فإن آحادهم لا يعصمون عن زلات متفاوتة وكذا جملتهم والمختار انه يستدل به لعلمنا ان التابعين لو انكروا على فاعل فعلا فاستدل بفعل الانصار والمهاجرين اطباقا ترك ورد على من يرد عليه ويتصل بهذا رضاهم وسكوتهم عن الشئ قال الشافعي رضي الله عنه في الجديد لا يكون اجماعا إذ لا ينسب إلى ساكت قول وقال أبو حنيفة رحمه الله هو اجماع لانهم لو اضمروا خلافا لبعد في العرف سكوتهم ورضاهم تقرير عليه كتقرير الرسول عليه الصلاة والسلام

واستدلال ابي حنيفة بسكوت بعض الصحابة في كل مسالة مع دعوى
الانتشار مزيف إذ لا تنتشر الوقائع التي لا تتوفر الدواعي على نقلها نعم قصة ابن ملجم وما يضاهيها لا يكلفون فيه نقل الاشتهار فانه مشتهر في العرف ولكن دعوى السكوت والرضا من الكل مع تباين امصارهم محال إذ لا يبعد اضمار واحد خلافا وان لم يبده لفوات الأمر أو ابداه ولم ينقل والمختار ان السكوت لا يكون حجة إلا في صورتين احداهما سكوتهم وقد قطع بين ايديهم قاطع لا في مظنة القطع فالدواعي تتوفر في الرد عليه والثانية ما يسكتون عليه مع استمرار العصر وتكرر الواقعة بحيث لا يبدي في ذلك احد خلافا فأما إذا حضروا مجلسنا فأفتى واحد وسكت الاخرون فذلك اعراض لكون المسالة مظنونة والادب يقتضي ان لا يعترض على القضاة والمفتين والله اعلم

الباب الخامس فيما يكون خرقا للاجماع إذا اجمعت الصحابة في مسالة على قولين فإحداث مذهب ثالث عند بعض العلماء ليس خرقا لانهم اجمعوا على تسويغ الخلاف وفتحوا بابه والمختار انه خرق لانهم اجمعوا على الحصر فذهولهم عبد عن الحق على ممر الايام مع كثرتهم محال ولكن لا بد من طول الزمان وليكن اطول مما يعتبر في الاجماع على قول واحد
فأما إذ اجمعوا على قولين ثم اجمع العصر الثاني على أحدهما هل يخرمه الخلاف بعده قال القائلون يخرم لان الأمة لا تجتمع إلا على الحق فصار هذا حقا قطعا وقال الشافعي والقاضي رضي الله عنهما وهو المختار لا يخرم الخلاف لان الاولين اجمعوا على تسويغ الخلاف فمن لم يجوز فقد خرق

الاجماع ولكن ينبغي ان يبقى هذا الاضراب بينهم في الزمان لو فرض مثله على قول واحد لكان اجماعا فأما اهل العصر الاول إذا اجمعوا على احد المذهبين بعد الاختلاف فاختلفوا في هذه المسألة أيضا كما في اجماع اهل العصر الثاني والمختار انه ان فرض في صورة القطع في غير محله فالرجوع إلى مذهب واحد بعد القطع بجواز الخلاف لا يفرض في العرف ومن احادهم يحمل على الغلط فأما إذا لم يقطعوا بتسويغ الخلاف فالرجوع بعده إجماع قبل انقارض العصر إذ تبين به عدم الاصرار والإجماع على الخلاف وبعد انقضاء مدة الإجماع لا يفرض الرجوع فان قيل اجمعت الصحابة في مسالة رد الثيب إذا وطئت بالعيب على منع الرد مع العقر فلم احدثكم مذهبا ثالثا قلنا ذلك منقول عن الآحاد ولا ينتشر مثل هذه الواقعة فلا إجماع فيه ولا معنى لقول بعض اصحابنا انهم قد قالوا على الجملة بأصل الرد فقد وافقناهم فيه

إذ الرد مع العقر يناقض الرد مجانا من جميع الوجوه إذ لو فرض الإجماع عليه لكان الرد مجانا خرقا للاجماع فان قيل بماذا يتبن رجوع المفتي عن مذهبه قلنا إذا افتى بتحريم ثم أفتى بنقيضه فقد رجع وكذا إذا قال رجعت فلو أفتى وقطع به ثم أفتى بنقيضه فقد رجع عن مذهبين أحدهما الحكم والاخر القطع به وان كان تردد ابتداء فليس ذلك مذهبا في تقدير القطع به لعده رجوعا وان ارتكب خلافه لم يكن رجوعا لانه ليس معصوما ويتصل به انه لو أفتى أبو بكر رضي الله عنه في مسالة وافتى عمر رضي الله عنه فيها بنقيضه وهما علما وقوع الاختلاف يستبان من خلافهما مع عدم النكير إجماع على الخصوص على ان المسالة مختلف فيها وان لم يصرحوا به وذلك معلموم عليه بقرينه الحال قطعا إذ لو كان مقطوعا لما تركوا النكير فيه وقال قائلون لا يتبن به لانه ليس مصرحا به كالفعل وهو فاسد لما ذكرناه من القرينة والله اعلم

كتاب القياس وفيه عشرة ابواب الباب الاول في حده واثباته على منكريه
أما حده فقد قيل انه رد الشئ إلى الشئ بجامع وهذا فاسد لان الجامع مجهول والشئ لا يطلق على المعدم وقد يبغى القياس نفيا وعدما

وقيل انه اعتبار فرع بأصل بجامع وهذا فيه احتمال اصلا والاصح ما قاله القاضي رحمه الله من انه حمل معلوم على معلوم في اثبات حكم أو نفيه باثبات صفة أو حكم أو نفيهما عنهما وكذا كل عبارة تنطبق على هذا المعنى وهذه ترجمة للتمييز وليس حدا يقوم المحدود كما يرتضيه اهل التحقيق في الاجناس والانواع والقياس ينقسم إلى عقلي وشرعي وانكرهما أبي الحشوية واثبتهما الجماهير

والحنبلية ردوا قياس العقل دون الشرع والداوودية ردوا قياس الشرع دون العقل وصار إلى رد قياس الشرع جملة الروافض سوى الزيدية وجملة الخوارج من الإباضية والازارقة وبعض النجدات ومعهم النظام وأبو هاشم انكره إلا ما نص الشارع عليه من تشبيه وتمثيل كقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم

ورد القاشاني والنهرواني جملته إلا ما في معنى الأصل كالأمة في معنى العبد في حكم السراية والهرة في معنى الفأر في معنى التنجيس بالموت في الماء واليه صار بعض من لم يقل بالقياس من اصحاب الظواهر ثم المنكرة انقسموا منهم من تلقى رده في استقباح العقل ومنهم من قال في الشرع ما يدل على تحريمه ومنهم من قال هو مردود لانه لا دليل على قبوله من عقل ونقل والذين تلقوا من الاستحسان انقسموا منهم من قال الظن قبيح في نفسه لانه ضد العلم والعلم حسن

وهذا يبطل الموت والغفلة والجنون والوساوس فإنها اضداد العلم وهي من فعل الله تعالى ويبطل بالنظر والشك فإنه مأمور به والقبيح لا يؤمر به وهو ضد العلم ومنهم من قال لا يقبح الظن في نفسه لكن يستقبح من الشارع القاء الشرع إلى مختبط الظنون ومرتبك الجهالات والخيالات وجعل الأمر فوضى بين العقلاء حتي يتيهوا فيه ويمتد تنازعهم على انقراض العصور كما تراها فنقول لا بل هو المستحسن قطعا فان الأفعال بجملتها اقداما واحجاما (يحسن كونه مستندا إلى رسم الشارع والوقائع لا نهاية لها والالفاظ المحصورة لا تحويها وتركها سدى مهملا ليفعل كل ما يشاء قبيح
فتعين تفويضه إلى اراء العقلاء وأرباب الدراية بمأخذ الشريعة ومصالها ليحكموا بها ملتفتين على مجاريها يحققه ان مثار القبح هو الاعتياد والعقلاء بأجمعهم مطبقون على الالتجاء إلى الظن والراي عند الارتباك في واقعة فانهم يقدمون عليها على ظن غالب ولا يستقبحونه هذا بعد النزول عن قاعدة الاستقباح وهو مردود فإن كل ممكن يجوز ورود الشرع به عندنا

فإن قيل لا شك في ان ردهم إلى النصوص احسن قلنا هذا يحسن من قائله في ترك النص على الخلافة وتعيين الخليفة فإن ذلك ترك الناس على جهالة افضى الى فساد وتقاتل هائل وضبطه بالنص امر ممكن فإنه امر معين أما الوقائع فلا ضبط لها فبيانها بالنصوص امر محال تصويره والذين زعموا أن في الشرع ما يدل على رده تمسكوا بقوله إن بعض الظن إثم وبقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا حكمت على القرآن برأيي وقول ابن مسعود رضي الله عنه لو حكمنا بالرأي لحرمنا كثيرا مما أحله الله وحللنا كثيرا مما حرمه الله وقول ابن عباس رضي الله عنه إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في المال الثلث والثلث والنصف في رد قياس العول قلنا قوله تعالى إن بعض الظن إثم مقول به عندنا
فليوصف ما بعضه بخلافه

وقول أبي بكر رضي الله عنه يتبع ولا نحكم في القرآن برأينا فإن للتفسير مسلكا مضبوطا لا نتعداه وقد قال عليه السلام من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وقول ابن مسعود رضي الله عنه محمول على قياس يحرم محللا بالنص ومثل هذا الرأي متروك وقول ابن عباس رضي الله عنهما دليل على قبول القياس فإنه ما قال ذلك عن نص لكنه غلظ الأمر في تفضيل القياس وقد كانوا يعتادون ذلك لاعتمادهم على قلة الرعونات ونحن لا نغلظ لا الآن على المجتهدين لأنهم لا يحتملون ثم نعلم على القطع منهم أنهم كانوا يشتورون ويقيسون قطعا ثم يعارضها ظواهر أظهر منها كقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله عليه السلام للسائل عن تقبيل الصائم أرأيت لو تمضمضت وهو قياس

وقوله للخثعمية حيث سألته عن أداء الحج عن أبيها الميت فقال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته وهذا عين القياس والفرقة الثالثة قالوا رددنا ما كان العقل لا يدل عليه وليس فيه نص كتاب ولا خبر متواتر يقطع به فلا يتحكم به قلنا يدل عليه ثلاث مسالك أحدهما
ما نقل إلينا من الصحابة من اشتوارهم في الوقائع المتفرقة ورجوعهم إلى المصالح والمقاييس وهذا منقول في صور متفرقة تورث علم القطع كأخبار التواتر وقد أجمعوا عليه والإجماع حجة مقطوع بها كما ذكرناه المسلك الثاني أن يجمل الأمر فنقول نعلم أنهم أعني الصحابة رضي الله عنهم

من مفتتح أمرهم من بيعة السقيفة إلى موت واثلة بن الأسقع وهو آخر من مات من الصحابة كانوا يفتون في التحليل والتحريم والحقن والإهدار والأمور الخطيرة والوقائع كثرت على متعرض أيامهم ونقطع بأن النصوص لم تكن وافية بها فإنها كانت محصورة وهم كانوا يهجمون على الفتوى هجوم من لا يرى له ضبطا وأخبار الآحاد لا تبلغ ألفا ولا يظن بهم بناء الأمر على التمني والتحكم فلا مستند لهم سوى المصالح والنظام لما أنكره حمله على قصدهم جلب المال واكتساب الحشمة وهذا من قلة دين المرء فإن قيل فقد قاسوا في صورة مخصوصة ولو اتفقت واقعة لم يعهد مثلها فقستم فيها فمن أين تلقيتموه وهلا توقفتم على ما نقل منهم قلنا فهمنا على الضرورة مما نقل عنهم تشوفهم إلى القياس في وقائع لم تتفق لو وقعت وأنهم كانوا لا يمتنعون عن الفتوى فيها بل كانوا يقيسون

فإنهم كانوا على طول آمادهم لم ينقل واحد منهم أنه أبى عن الفتوى في واقعة
وقال لا نص فيها المسلك الثالث روي عن النبي عليه السلام أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن بماذا تحكم فقال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد قال اجتهد رأيي فقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله وقرره عليه وأثنى عليه بسببه وهو نص مقطوع به فإن قيل كيف تثبتون قاعدة قطعية بخبر واحد يتطرق إليه الاحتمال قلنا نعلم على الضرورة أن الصحابة لو ارتكبوا في قبول القياس ورده ونقل لهم الصديق على اتحاده هذا الحديث لقضوا بموجبه ونعلم أن الصحف التي كان يرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ولاته على البلاد لو اشتملت على الحكم بالقياس لاكتفوا فيها بقول الواحد فإن قيل كيف يتلقى القطع من الظن قلنا وقوع الظن مقطوع به ووجوب العمل عنده مقطوع به

تلقيا من إجماع قاطع وهو كوجوب الإتمام على المقيم إذا تحقق إقامته بخبر الواحد فكذلك العمل بخبر الواحد عند وقوع الظن

الباب الثاني في مراتب القياس وضبط أقسامه رتب علماء الأصول القياس على خمس مراتب المرتبة الأولى
المفهوم من الفحوى كتحريم ضرب التعنيف من فهم النهي عن التأفيف والثانية تنصيص الشارع على قياس والثالثة إلحاق الشئ بما في معناه كقولنا الأمة في معنى العبد والرابعة قياس المعنى وهو ينقسم إلى الأجلى والأخفى والخامسة قياس الشبه وهو مصدر بالطرد والعكس وقال الأستاذ القياس ينقسم إلى مظنون وإلى معلوم

ثم المعلوم قد يقرب دركه وقد يبعد مثاله لافتقاره إلى مزيد تأمل والمظنون ينقسم إلى جلي وخفي إلى أن تتعارض الظنون فيرجح بمسالك نذكرها في الترجيح قال القاضي الظنون متقاربة لا ترتيب فيها ولم يقم لمسالك الظنون وزنا ومنه ثار الخلاف بينهما في تصويب المجتهدين على ما سنذكره ولم يختلفوا في أن قياس المعنى والشبه من أبواب القياس وما عداها من الأقسام الثلاثة اختلفوا فيها أعني المفهوم من التأفيف ومنصوص الشارع وإلحاق الأمة بالعبد وأما فحوى الخطاب وهو فهم تحريم الضرب من آية التأفيف فقال قائلون إنه قياس لأنه ليس بمنصوص وهو ملحق بالنص ولا معنى للقياس سواه
قال القاضي ليس بقياس لأنه مفهوم من فحوى فهم المنصوص من غير حاجة إلى تأمل وطلب جامع والمختار أنه من المفهوم لا لما ذكره القاضي إذ لا يبعد في العرف أن يقول الملك لخادمه اقتل الملك الفلاني ولا تواجهه بكلمة سيئة فليس

فهم ذلك من اللفظ من صورته ولكن لسياق الكلام وقرينة الحال فهم على القطع إذ الغرض منه الاحترام فلا يعد قياسا والخلاف آيل إلى عبارة وأما منصوب الشارع نصا في حق شخص معين هل يعد قياسا قال قائلون لا يعد قياسا لأنه مفهوم من النص فهو الحكم وتأيدوا بأمور أحدها أن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمم على جميع الأعصار ولا يعد ذلك قياسا ومنها أن الشارع لو قال لشخص لا تأكل اللبن فإنه سم فهم على القطع منه أن سبب تحريمه كونه قاتلا في حق جميع الناس من نفس النص ومنها أن هذا القياس إن لم يفهم من النص فهو محال وإن فهم فأي حاجة إلى القياس والمختار أن هذا قياس لا تنقطع مواد النظر عنه وعلينا نظران فيه أحدهما بيان محله

والثاني بيان أنه لا يتخصص وعلل الشارع يجوز تخصيصها ويتبين هذا بضرب مثال وهو أن يقول الرجل لوكيله بع هذا الغلام
فإنه سيئ الأدب أو ذميم الوجه فوجد في غلمانه من هو فوقه في ذلك المعنى لم يبعه وكذلك الشارع قد يطلق الرجم ويعلله بالزنا ولا يتعرض للإحصان ثم نحن نستنبطه ويستند هذا إلى أمر وهو أن القياس ليس موجبا لذاته ولكنه أمارة الحكم شرعا وهذه أمارة نصبها الشارع وأما ما ذكروه من إلحاق أحد العصرين بالآخر فينقلب عليهم فإنه لا يفهم أيضا من اللفظ فما مستنده فسيقولون هو الإجماع فنقول الإجماع أغنانا عن القياس فيه وأما ما ذكروه من أمر السم فذاك مفهوم من القرينة لا من اللفظ إذ بأن على القطع شفقة الشارع على جميع الخلق وأما إلحاق الشئ بما في معناه قال قائلون إنه قياس

والمختار أنه ليس بقياس ولا منصوص أيضا ولكنه مفهوم من النص على الاضطرار من غير افتقار فيه إلى افتكار ثم قالوا فائدته إن كان قياسا قدم على الخبر وإلا فلا وقال الأستاذ أبو اسحق هو قياس ولكن لا يقدم على الخبر وهذا ما نعتقده في منع التقديم والخلاف بعده يرجع إلى إطلاق عبارة ولا بد من ذكر ضابط لهذا القسم وقد قال الأستاذ أبو اسحق هو منقسم إلى ما يستند إلى ما منه اشتقاق النص كالأمة مع العبد إذا قال عبد وعبدة إذ العبودية تشملهما
وما لا يستند إليه فهو دونه والضابط عندنا لهذا القسم ما يهجم الفقيه على فهمه من غير تدبر ونظر فيقع معلوما على الضرورة فلو صار نظريا خرج عن كونه معلوما والعجب أن العلوم العقلية تنقسم إلى النظرية والضرورية وهذا لا انقسام فيه نعم يدرك المرء تفاوتا بين علمه بنفسه وعلمه بغيره فمثل هذا

التفاوت لا ينكر وقوعه ههنا وهو في الرتبة دون فهم الفحوى كما ذكرناه في تحريم التأفيف لأن ذلك يشترك في دركه العوام والخواص وكون الأمة في معنى العبد لا يدركه إلا الفقيه المتثبت وذلك لا يخرجه عن كونه معلوما كما أن التواتر المورث للعلم يعتبر في كل فن في حق أهل الخبرة به في القراءة بالقراء وفي الحديث بالمحدثين وبالله التوفيق

الباب الثالث فيما تثبت به علل الأصول إذا حرر المعلل قياسا فرده إلى أصل فإذا طولب بإثبات علة الأصل فمحصول ما يستند إليه عند المطالبة ثلاثة أقسام القسم الأول أن يسلك مسلك الجدال فيقول السائل مطالب بالاعتراض عليه وليس علي إثباته وهذا مما صار بعض الناس إلى الاكتفاء به
وهو باطل فإن ادعى علة الأصل مذهبا كأهل الفتوى فلا يخلى فيه والتحكم ويبطل ذلك بمسلكين أحدهما أن يقول إن كنت طاردا فسنذكر وجه بطلان الطرد وإن لم تقنع بالطرد فلم ادعيت كونه علة

والآخر أن يقول تثبت تعليل الأصول بما ذكرته على التشهي أم لك فيه مستند فإن اشتغلت بإثباته تشهيا فالكفر خير من هذا المقام وإن زعمت أنه منصوب للشارع فبم عرفت ذلك ولم تحكمت به ابتداء من غير مستند فإن أبان الإخالة دليلا عليه كفاه ذلك وعلى السائل الاعتراض بعده وليس عليه أن يعد جميع الاعتراضات ويدفعها فإن المناظرة معاونة على النظر وقد أسس كلاما عند إبداء الإخالة وقبله لا يطالب السائل ببيان أنه ليس بمخيل لأن المسئول بعد لم يدل ولم يؤسس حتى يستوجب الاعتراض فإن قال المسئول دليلي على ثبوته عجزك عن الاعتراض عليه معتصما بأن المعجزة صارت دليلا بالعجز عن المعارضة قلنا غمرات المعجزات لا مطمع في الخوض فيها الآن فلا تثبت العلة بأمثاله

ثم المعجزة إذا لم تقم بين يدي السحرة أو أهل الخبرة لا تكون حجة فالتحدي أن بالفصاحة ليكن مع الفصحاء وقلب العصا حية ليكن مع السحرة فالسائل المقل إذ عجز كيف يدل ذلك على صحة الدليل فإن قال الدليل عليه اطراده فهذا أوان ذكر مسألة الطرد مسألة الطرد المحض لا حجة فيه عندنا وقال قائلون هو حجة على الإطلاق يعتمد عليه المفتي وخصصه مخصصون بالمناظر على المجادل دون المفتي

وقال قائلون ممن ردوا الطرد يكتفى بإحالة أحد وصفي العلة والثاني يحتمل وإن لم يخل الاحتراز عن النقض وهذا أيضا باطل فإن وصف العلة ينبغي أن يكون مناط حكم الشرع والعبارة المجردة حركات اللسان واصطلاح أهل اللغة فلا يكون مناطا للحكم فلا يضمن وصف التعليل من غير مستند من إخالة أو غيرها فالآن نرد على القائلين بالطرد بأربع مسالك بعد الإحاطة بأن الطرد المحض هو الذي لا يناسبه الحكم أو يناسبه حسب مناسبته لنقيضه المسلك الأول أن تقول إذا ناسب حسب مناسبته لنقيضه فليس إثبات الحكم به أولى من نفيه فيؤدي ذلك إلى تكافؤ الأدلة وتساقطها الثاني
أن الشارع لم يؤهل لمنصب الفتوى إلا متتجرا الله في العلم موصوفا بصفات فلا مستند له إلا أن يكون من أهل النظر في مصالح الشريعة ولو اكتفى بالطرد لعلق الحكم بكل ما يسنح لكل أحد من غير افتقار إلى منصب مخصوص

الثالث ما ذكره القاضي وهو أن المخيل لا يدل لعينه ولكن المستند فيه مسالك الصحابة رضي الله عنهم فهم الأسوة والقدوة وقد كانوا يعتبرون مصالح الشرع ولا يتمسكون بالطرديات الرابع وهو المختار أن باب التحكم مسدود في الشرع وانما امر ببناء الأمر على معلوم أو مظنون والعلم لا مطمع فيه في هذا المقام وغلبة الظن لها في مطرد العادة مسلك لا يحصل دونه فالظن لا يغلب من غير سبب كما لا يشبع الجائع في العادة دون الاكل والاطراد لا يغلب على الظن قطعا نعم للشارع ان يتحكم بنصب ما ليس بمخيل امارة كما يتحكم باثبات الحكم ابتدء ومثال الطرد قول القائل في مسألة ازالة النجاسة بالخل مائع لا تبنى

القناطر على جنسه فلا تزال النجاسة به كالدهن فهذا طرد لا نقض عليه ولا يستجيز التمسك به من آمن بالله واليوم الآخر القسم الثاني ما يتمسك المعلل به في اثبات علة الاصول وهي ثلاثة انواع
اولها التمسك بنص الشارع على وصف فنجعله علة ومثاله قوله تعالى كيلا يكون دولة بين الاغيناء منكم وقوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وما يضاهيه من الفاظ التعليل النوع الثاني ايماؤه إليه من غير تنصيص كقوله عليه السلام في بيع الرطب بالتمر فلا إذن لما أن سأل عن الجفاف

وكقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا فإن السرقة مخيلة فإنها جريمة يليق بها العقوبة الزاجرة وقوله تعالى جزاء بما كسبا ايماء لانا نعلم انه لا يجازى لإسلامه وحسن عبادته وقوله نكالا كذلك ايماء إليه وكذلك في قوله الزانية والزاني فاجلدوا الآية وإذا حصل الايماء كفى ذلك عن الا خالة ولذلك قلنا توقع الجفاف في الرطب سبب بطلان العقد وان كان لا يخيل فإن قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش لما سألته عن الاستحاضة توضئي فإنها دم عرق فهلا طردتموه في الفصد واوجبتم قال به الطهارة لانه دم عرق

قلنا اجاب أصحابنا بأن ذلك تنصيص على العلة ولم يذكر المحل
ونحن جعلنا احد السبيلين محلا للعلة لدليل آخر وهذا مزيف فإن حق علة رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تطرد إذ ثبتت ولا تخصيص بغلبات الظنون إذ طردها اغلب على الظن وقد نص عليه فيمنع من تخصيصه ولكن الجواب أنها سألته عن الغسل فقال بل توضي عن فإنه دم عرق علل به في اسقاط الغسل وهو المفهوم منه قطعا فإن قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريرة لما ان اعتقت تحت عبد ملكت نفسك فاختاري وهذا ايماء ظاهر إلى التعليل بالاستقلال فهلا طردتموه في اعتقاقها من تحت حر قلنا اجمع اهل الحديث على رده فلا نقبله ثم قال القاضي نعلم ان النبي عليه السلام ما عني بقوله ملكت نفسك ملك مورد النكاح إذ لو حصل ذلك لانفسخ العقد ولا ملك غير مورد

النكاح فإنه لا يشعر بالتخيير في مودر في النكاح فإن معناه ملكت الاختيار فاختاري وهو تكرير عبارة ومثل ذلك جار في اللسان وقال قائلون هو تنصيص على العلة فيخصص بمحل وهو إذا كانت تحت عبد والمختار ان الحديث ان صح فهو ظاهر في الايماء إلى التعليل لا يمكن جحده وانكاره النوع الثالث ان يثبت علته بكونه منبها على المعنى الذي منه اشتقاق اللفظ الذي ربط الحكم به في الشرع كقوله تعالى والسارق والسارقة
وكقوله عليه السلام الثيب احق بنفسها وكقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام فنقول إذا ربط الشارع الحكم باسم مشتق فما منه الاشتقاق ينتهض علة فيه واليه صار الشافعي رضي الله عنه في مسألة علة الربا واول القاضي رحمه الله مذهب الشافعي رضي الله عنه فقال لعله تمسك بالحديث في اثبات حكم الربا لا في علته

وليس الأمر كما ظنه القاضي فإنه أثبت علة الطعم به والمختار ان ما منه الاشتقاق ان كان مخيلا كالسرقة والربا والسوم في قوله في سائمة الغنم زكاة كانت علة وإن لم يكن مخيلا فهو كالتعليق باللقب فنقول من أين قلتم إنه أومأ إلى العلة وما مستنده وما الفرق بين الوصف الذي لا يخيل والطرد الذي لا يخيل وربط الحكم بهما لا يختلف وتصرف الاسم في موضع اللسان لا يوهم اخالة فهو كاللقب الموضوع نعم ان كان مخيلا ابتدر إلى الافهام من قوله انه معلل به والفهم لا مقايسة فيه ولا يحصل هذا من الوصف الذي لا يخيل ولا إيماء اذن حتى يبنى عليه ان طرد الشارع كمخيله بن لانه لا بد من اثبات نص من جهته اولا نعم لو قال قائل تبينا بقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام

ثبوت الحكم عند ثبوته وانتفاءه عند انتفائه فيغلب على الظن كونه علة
فإنه انتهض أمارة له ولا معنى لعلل الفقه سواه قلنا هذه تمسك بالمفهوم وقد بينا ان الصفة التي لا تخيل ليس لتخصيص الحكم بها مفهوم وقد ذكرناه في كتاب المفهوم والله اعلم القسم الثالث في اثبات علل الاصول بمسالك الفقه وهي أربعة الشبه والاخالة هذه ولهما باب سيأتي والطرد والعكس والسبر والتقسيم أما الطرد والعكس فلا يتمسك به في اثبات العلة عند القاضي واستدل عليه بأربعة مسالك احدها ان الطرد بمجرده لا حجة فيه والعكس لا يقلب الطرد مخيلا ولا حاصل للعكس إلا انتفاء الحكم عند انتفاء العلة وانتفاء الحكم مسألة اخرى

يطلب لها علة فلا يثبت حكم هذه المسألة بعلة بسبب الحكم في مسألة اخرى لعلة اخرى وصورته ان تقول الشدة في الخمر علة التحريم لأن الحكم يتبعه فإنه يقضي بحل الخل عند زوالها وتحريم الخمر مسألة وحل الخل مسألة اخرى لا بد من طلب علة لها يحققه ان الطرد عكس العكس كما ان العكس عكس الطرد ولو فرض النزاع في الخل لكان يقول العلة في تحليله عدم الشدة بدليل ثبوت التحريم عند وجود الشدة وهذا محال تخيله
المسلك الثاني ان باب التحكم مسدود والمخيل ليس دليلا لعينه والرجوع إلى سيرة الصحابة رضي الله عنهم ولم يصح عنهم التمسك بالطرد والعكس والثالث ان العكس وجوده كعدمه في المخيل ولا أثر له فيستحيل ان نقلب الطرد الذي ليس بحجة حجة

الرابع ان يقال له ان ادعيت الطرد والعكس في جمع احكام الشريعة فمحال إذ لو كان كذلك لما فرض نزاع وان قلت جرى في الخمر مطردا منعكسا فليجر في غيره فهو تحكم لا حاصل له فلم قلت ذلك ولا يلزم هذا في المخيل فإن طبع المخيل الجريان والسيلان وليست الشدة مخيلة والمختار ان المسألة في مظنة الاجتهاد فإنا لا نقطع بقبولها ولا ردها من جهة الصحابة رضي الله عنهم وعدم القاطع في قبوله عندنا لا يكون قاطعا في رده كما ذكرناه من قبل ولا يبعد افضاؤه إلى غلبة الظن في بعض الصور فهو مفوض إلى رأي المجتهد فلينظر فيه والنوع الآخر مما يثبت علل الاصول السبر والتقسيم وقال القاضي لا بد منه في العلل الشرعية كما في العقلية

ولا يظن به انه اراد به سوى ابطال علة الخصم فإن ذلك لا يدل على
اثبات علتك ولكن يحتمل انه اراد به ابطال سائر العلل بعد ان كانت علته المستبقاة سنة مخيلة لتبين ان الحكم معلل به فإنه لا يجوز ازدحام العلل على حكم واحد وإذا لم يتبين بطلان الاقسام على هذا المذهب لم يستفد بالإخالة شيئا مع توقع مخيل آخر أظهر منه يعلل به دون ما ذكره إلا ان الذي نراه جواز تعليل الحكم بعلتين على ما سيأتي بيانه ويحتمل انه اراد بالسبر والتقسيم في مسألة يتفق على كونها معللة بعلة واحد كمسألة الربا فيستفيد بابطال الاقسام تعين محل الإجماع إلا ان هذه صورة لا يفرض وقوعها لندورها ومسألة الربا مما اجمعوا على تعليلها فإذن الوجه ان يقال السبر في المعقولات ان دارت بين النفي والاثبات كقولك واجب ام لا جائز ام لا وقد بطل أحدها فتعين الثاني لا محالة فيورث العلم

فإن كثرت الاقسام ولم تدر بين النفي والاثبات لم يحصل العلم كالتقسيم المعتاد في مصحح تعلق الرؤية وتعليله بالوجود فأما الشريعات عمرو فالتقسيم فيها يورث غلبة الظن بعد كون الحكم معللا ولا يشترط ارتفاع مواد الاحتمال بعد حصول غلبة الظن وقد اختلفوا في مسأله جدلية وهو ان المسؤول لو قال سبرت هل يلزمه ابداء كيفية السبر منهم من قال لا لأنه لا يستفيد درأ قوله يحتمل ان يكون وراءه تقسيم فإنه متوجه ذكره أو لم يذكره وهو محتاج في رسم الجدال إلى ابداء قسم آخر والمختار انه لا بد من ابداء كيفية السبر ليكون مؤسسا دليلا غير
مقتصر على مجرد الحكاية والدعوى للتشوف إلى استيعاب الاقسام كما تقول الخمر هو مائع احمر يقذف الزب ويسكر ولا يعلل بهذه الاقسام لبطلانها لم يبق إلا الاسكار

الباب الرابع في الاستدلال المرسل وقياس المعنى وفيه ثلاثة فصول الفصل الاول في بيان حقيقته وذكر الدليل فيه فليعلم اولا ان هذا عمدة كتاب القياس وجه اعواصه قبل ان الصحابة رضي الله عنهم هم قدوة الأمة في القياس وعلم قطعا واعتمادهم على المصالح مع انهم لم ينحصروا عليها في بعض المسائل ولم يسترسلوا ايضا استرسالا عاما إذ المصالح كانت تنقسم لديهم إلى المتروك وإلى معمول به ولم يضبطوا لنا ما نتمسك به ولا يظن بهم بهم أنهم ضنوا بإبدائها بعد ان

عرفوها والمصالح شتى وقد عسرت المآخذ وقصرت عن الدلالة على ضبطها فمنه ثار الثوار وردوا اصل القياس والقائلون به انقسموا فاسترسل مالك رضي الله عنه على المصالح حتى رأى قتل ثلث الأمة لإستصلاح ثلثيها
وقتل في التعزير وقطع اللسان في الهذر وللشافعي رضي الله عنه مسلكان يحصر في أحدهما التمسك في الشبه أو المخيل الذي يشهد له اصل معين ويرد كل استدلال مرسل وفي المسلك الثاني يصحح الاستدلال المرسل ويقرب فيه من مالك وان خالفه في مسائل فان قال قائل وبم يتميز المرسل عن المردود إلى الاصل ولا يشترط

كون العلة في الاصل منصوصا عليها ولا ان يشهد لها اصل اخر فإن ذلك يتسلسل وسيكون الإعتماد فيه على المصلحة المرسلة قلنا نص الشارع على الحكم امارة لانتصاب تلك المصلحة علما فأنا نفهم تلك المصلحة من تنصيصه على مجرد الحكم ونحن نجعل المصلحة تارة علما للحكم ونجعل الحكم اخرى علما لها واما المرسل فهو الذي لا يشهد له في الشريعة حكم ينطبق عليه والآن إذ لاح حقيقة الاستدلال ووجه الاشكال نذكر ما تمسك به الثقات وأهل الإثبات والقاضي رحمه الله من نفاة الاستدلال وقد تمسك بثلاث مسالك بعد ان فرق بين الشافعي ومالك رضي الله عنهما وقال للشافعي إذا قلت بالاستدلال فلا فرق بين ان تقول في المعاملات والاموال وبين ان تقضي به في العقوبات كما فعله مالك وكل حقير فإثباته في الشرع تحكما خطر عظيم وما أثبته بالنسبة إلى ما اجمله الشارع في المعاملات كما أثبته مالك بالنسبة
إلى العقوبات التي اجملها الشارع

المسلك الاول من المسالك الثلاثة ان الاستدلال لو قيل به لصارت الشريعة فوضى بين العقلاء يتجاذبون بظنونهم اطرافها من غير التفات إلى الشريعة والنبي انما بعث ليدعو الناس إلى اتباعه في قوله والمفهوم من قوله من المصالح فأما ما يعين ابتداء ولم يفهم منه فما بعث الشارع للدعاء إليه الثاني ان المستدل ان لاحظ مصالح الشريعة فهو صحيح وإن اضرب عنها فهو شارع تحقيقا فيطالب بالمعجزة فإنه افتتح امرا لا مستند له في الشرع مع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين فكيف يفتتح بعده شرع الثالث ان قال إذا اوجب اتباع المصالح لزم تغيير الاحكام عند تبدل الاشخاص وتغيير الاوقات واختلاف البقاع عند تبدل المصالح وهذه تفضي إلى تغيير الشرع بأسره وافتتاح شرع آخر لم يثبت من الشارع وهذا محال

إلا انهم يقولون نحن مع المصالح بشرط ان لا نهجم على نص الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفع
وتمسك الشافعي رضي الله عنه بثلاث مسالك احدها الاسترواح إلى سيرة الصحابة رضي الله عنهم وفي التعبير عنه ثلاث صيغ احدها انهم استرسلوا على الفتوى وكانوا لا يرون الحصر والنصوص ومعانيها لا تفي بجملة المسائل فلا بد من المصير إلى المصالح في كل فتوى الثانية ان الاصول ان كانت محصورة فلا تفيد إلا وقائع محصورة فإن المحصور لا يستوفي مالا يتناهى وان لم تكن محصورة فقد انسل الأمر عن الضبط وصار الأمر فوضى بين العقلاء لا مرد له فلا فرق بين خروجه عن الضبط به أو بانتشار المصالح الثالثة انهم اعني الصحابة رضي الله عنهم على طول زمانهم كانوا

يقيسون ولا يعرفون رد الفروع إلى الاصول ولو كانوا يعتقدون ذلك لاعتنوا يحيى به ثم كانوا يرسلون الاقيسة من غير تكلف جمع واعتبار قال القاضي في الجواب لعلهم كانوا يعتمدون معاني يعلمون أن اصول الشريعة تشهد لها وان كان لا يعينونها كالفقيه يتمسك في مسألة المثقل بقاعدة الزجر فلا يحتاج إلى تعيين اصل فأجيب عنه بأنه لو كان كذلك لاوشك ان يصنفوا الاصول ويميزوا ما يعقل عما لا يعقل مع شدة اعتنائهم بتمهيد قواعد الشرع والذي نراه ان هذا في مظنة الاحتمال والاحتكام عليهم بعد تمادي الزمان لا معنى له المسلك الثاني
ان معاذ بن جبل قال اجتهد رأيي حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عدمت النص فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدام النص يشعر بإعوازه الرحمن واعوازه المفهوم عنه واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه المسلك الثالث ان الاصل المستشهد به ليس معللا بالمعنى المستثار قطعا بالعقل

ولا بالنص وانما هو مظنون لكونه مناسبا منطبقا على المصالح فليستند إليه في الفرع ابتداء هذه نهاية ما تمسك به الفريقان

الفصل الثاني في بيان المختار عندنا والصحيح ان الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور حتى نتكلم فيه بنفي أو أثبات إذ الوقائع لا حصر لها وكذا المصالح وما من مسألة تفرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالرد فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكم الله تعالى خلافا لما قاله القاضي كما سنذكره في باب الفتوى
فإن الدين قد كمل وقد استأثر الله برسوله وانقطع الوحي ولم يكن ذلك إلا بعد كمال الدين قال الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم

والذي يدل على عدم تصوره أن أحكام الشرع تنقسم إلى مواقع التعبدات والمتبع فيها النصوص وما في معناها وما لم ترشد النصوص إليه فلا تعبد به وإلى ما ليس من التعبدات وهو منقسم إلى ما يتعلق بالألفاظ كالإيمان والمعاملات والطلاق والعتاق وقد أحالنا الشرع في موجباتها على قضايا الشرع في موجباتها على قضايا العرف ولا تنفك لفظة عن قضايا العرف فيها بنفي أو إثبات إلا ما استثناه الشارع كالإكتفاء وكان بالعثكال الذي عليه مائة شمراخ إذا حلف أن يضرب مائة خشبة لما ورد في قصة أيوب ولم ينسخ في شرعنا وإلى ما يتعلق بغير الألفاظ وهو منقسم إلى ما ينضبط في نفسه كالنجاسات والمحظورات وطرق تلقي الملك فهذه الأقسام منضبطة ومستنداتها روى معلومة وإلى ما لا ينضبط إلا الضبط في مقابلته كالأشياء الطاهرة والأفعال المباحة تنضبط بضبط النجاسة والحظر وكذلك الأملاك منتشرة تنضبط بضبط طرق النقل والإيذاء محرم على الاسترسال من غير ضبط

وينضبط بضبط ما استثنى الشرع في مقابلته فالوقائع إن وقعت في جانب الضبط الحق به وإن وقعت في الجانب الآخر الحق به وإن ترددت بينهما
وتجاذبه ولم الطرفان الحق بأقربهما ولا بد وأن يلوح الترجيح لا محالة فخرج به أن كل مصلحة تتخيل في كل واقعة محتوشة بالأصول المتعارضة لا بد أن تشهد الأصول لردها أو قبولها فأما تقدير جريانها مهملا غفلا لا يلاحظ أصلا محال تخيله ونحن نضرب في ذلك مثالين أحدهما ما قاله الشافعي رضي الله عنه في مسالة الأمة الكتابية حيث قال اعتروها بين نقصان بعد ان ثبت لكل واحد اثر وأن ازدحام الاسباب مؤثرة في تغليظ الاحكام لا يحتاج فيه إلى اصل معين فان أصول الشرعية شاهدة له على الاجمال وان لم تتعين قطعا ولا حاجة إلى القياس على المجوسية وهذ المثال ذكرناه لضرب المثال وان كنا لا نعتمد هذه الطريقة في تلك المسألة المثال الثاني قول الشافعي رضي الله عنه في المعتدة الرجعية ان العدة لبراءة الرحم والوطء للشغل فهو مناقض للمقصود من العدة فهذا معنى مرسل لا حاجة فيه إلى الاستشهاد بأصل معين لان اصول الشرع على اجمالها أهل تشهد له

وقد قاس اصحابنا على المعتدة البائنة قال القاضي وهو باطل فإن الحكم في الاصل معلل بالبينونة لا بالعدة ويستحيل التعليل بهما عنده فإنه يقدم اجلى العلتين على الاخفى كما سنذكره في باب
التركيب ونحن نبطل هذا القياس مع اعتقاد جواز الجمع بين العلتيين حديث بطريق اخر نذكره في باب التركيب والذي نذكره الآن ان العدة في البائنة لا تخيل التحريم على الزوج فإنها حرمت عليه بالبينونة والعدة أريدت لصيانة مائه والاعتزال عن سائر الرجال ولهذا حرم نكاح غيره ولم يحرم نكاحه والعلة في الاصل شرطها ان تكون مخيلة وليس كذلك في الفرع فإن العلية بمجردها تخيل تحريم الوطء على الزوج فان الغرض منه الاعتزال عنه مع استمرار النكاح وبراءة الرحم هو المقصود والوطء مناقض له ويعتضد ذلك بأمرين أحدهما ان العدة لا يعتد بها في صلب النكاح ولذلك لو قال ان استبرأت رحمك فأنت طالق لزمها استئناف العدة بعد الطلاق وكان يليق بأبي حنفية رحمه الله المصير إلى وجوب استئناف

العدة ههنا كما قال في المرأة تسلم في دار الحرب فتتوقف ثلاثة أقراء فان اصر الزوج على الكفر بانت واستئأنفت عند العدة والآخر ان الرجعة ثابتة والغرض منه تدارك فائت وإذا قدر استمرار النكاح على حالة فلا معنى للرجعة فان قيل لو حرمت العدة الوطء لما استقل الزوج بقطعها قلنا لو قطعها بالوطء الشاغل لكان متناقضا ولكنه يقطع بالرجعة ثم يستبيح الوطء بعد انقطاعها
فإن قيل نعارضكم فنقول زوجة منكوحة فحل وطؤها وهذا أقوى قلنا هذه معارضة لو ضمناها إلى وصف تعليلنا لم يضرنا فنقول زوجة منكوحة معتدة وكأن العدة أبطلت الحل المستفاد من الزوجية مع إستمراره فكل معارضة امكن المعلل ادرجها في وصف التعليل فلا اثر لها فقد تبين أن كل مصلحة مرسلة فلا بد ان تشهد اصول الشريعة لردها أو قبولها

الفصل الثالث في ذكر ضابط الاستدلال الصحيح وننقحه لأنه بتوجيه الاشكالات والانفصال عنها فنقول كل معنى مناسب للحكم مطرد في احكام الشرع لا يرده اصل مقطوع به مقدم عليه من كتاب أو سنة أو إجماع فهو مقول به وان لم يشهد له اصل معين ثم اقسامه لا ضبط لها فإنها لا يحويها عد ولا يضبطها حد فقد يتفق معنى مرسل يفيد أمرا كليا على اجمال وقد يفيد حكما جزئيا في صورة خاصة وقد يستثار أخبرنا من عكس علة إذ العلل يفيد عكسها عندنا نفي الحكم كما يخيل طردها على ما سيأتي وقد يفهم من قصد الشارع كقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي وشهود يفهم العدالة لان مقصوده الاثبات

إلى غير ذلك من اقسامه فإن قيل ما الفرق بين مذهبكم ومذهب مالك رضي الله عنه حيث انتهى الأمر به في اتباع المصالح إلى القتل في التعزير والضرب لمجرد التهمة وقتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ومصادرة الاغنياء عند المصحلة وما الذي منعكم من اتبعاها يا والحاجة قد تمس إلى التعزيز بالتهمة فان

الأموال محقونة والسارق لا يقر واثباته بالبنية عسر ولا وجه لإظهارها إلا بالضرب وهذه مصلحة ظاهرة إلى غير ذلك مما عداها قلنا الفرق بيننا أننا تنبهنا لاصل عظيم لم يكترث مالك به وهو انا قدمنا الصحابة على قضية المصلحة وكل مصلحة يعلم على القطع وقوعها في زمن الصحابة رضي الله عنهم وامتناعهم عن القضاء بموجبها فهي متروكة ونعلم على القطع ان الاعصار لا تنفك عن السرقة وكان ذلك يكثر في زمن الصحابة ولم يعزروا بالتهمة ولم يقطعوا قط لسانا في الهذر مع كثرة الهذزان لو ولا صادروا يكون غنيا مع كثرة الاغنياء ومسيس الحاجات وكل ما امتنعوا عنه نمتنع عنه ومالك لم يتنبه لهذا الاصل فإن قيل روي ان عمر رضي الله عنه صادر خالدا وعمرو بن العاص على نصف المال وقال لمن مد يده إلى لحيته ليأخذ القذى منها ابن ما أنبت وإلا أبنت

يدك وقطع اليد لا توجبونه في مثله ولا المصادرة وقد فعله قلنا نعلم أنه لو لم يبن ما أبان لما قطع يده ولكن ذكره تهويلا وتخويفا وتعظيما لأبهة الإمامة كيلا يباسط فتضعف حشمته في الصدرور مع وأما مصادرة خالد فلا تدل على جواز المصادرة مطلقا لأن عمر كان أعلم بأحوالهما وكان يتجسس بالنهار ويتعسس بالليل وكان قد نصب خالدا أميرا في بعض البلاد فجمع عليه أموالا عظيمة فلعل عمر اطلع على أمر خفي اقتضى ذلك وذلك مسلم لمثله وهو الذي كان يقول لو تركت جرباء على ضفة واد لم تطل بالهناء فأنا المجيب عنها يوم القيامة فلا ينبغي أن يتخذ ذلك ذريعة إلى مصادرة الأغنياء على الإطلاق كيف وقد كثر الأغنياء في زمن الصحابة رضي الله عنهم فلم يتفق ذلك مع غيرهم قط والتمسك بهذا القطع أولى

فإن قيل حد السرقة شرع للزجر وقد يسرق المرء ما دون الربع بحبة فيحتاج إلى الزجر فهلا زجرتموه سعيد قلنا تقديرات الشرع متبعة لا تغير ويسحب ذيل الحسم على تفاصيل الصور وهذا من أعظم المصالح فإن تتبع تفاصيل الأحوال غير ممكن فاتبعنا التقدير فيه ولم نقس فإن قيل ما بال علي قاس في حد الشرب وهو مقدر فقال من
شرب سكر ومن سكر هذي ومن هذي افترى فأرى أن أقيم عليه حد المفتري ورقى الحد إلى ثمانين للمصالح قلنا حد الشرب لم يكن مقدرا من جهة الشارع ولكنه كان عليه السلام يأمر بالضرب بالنعال وأطراف الأكمام وقدره أبو بكر رضي الله عنه بالأربعين وكان ذلك في مظنة الاجتهاد وعن هذا قال علي رضي الله عنه ما أقمت الحد على رجل فمات فوجدت في نفسي أن الحق قبله إلا حد الشرب فإنه شئ أحدثناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فإن قيل أليس قد روي أن عليا رضي الله عنه كان يشق بطون أصابع الصبيان لأجل المصلحة وأنتم تركتم هذه المصلحة قلنا هذه المسألة في مظنة الاجتهاد لأن الشق اليسير قريب من الضرب في التخويف والصبيان يضربون على السرقة فنحن رأينا معنى أظهر منه فلذلك تركناه فإن قيل لو حدثت واقعة لم يعهد مثلها في عصر الأولين وسنحت بكر مصلحة لا يردها أصل ولكنها حديثة فهل تتبعونها قلنا نعم ولذلك نقول لو فرضنا انقلاب أموال العالمين بجملتها محرمة لكثرة المعاملات الفاسدة واشتباه المغصوب بغيره وعسر الوصول إلى الحلال المحض وقد رفع فما بالنا بقدر نبيح لكل محتاج أن يأخذ مقدار كفايته من كل مال لأن تحريم التناول يفضي إلى القتل وتجويز الترفه تنعم في محرم وتخصيصه بمقدار سد الرمق يكف الناس
عن معاملاتهم الدينية والدنيوية ويتداعى ذلك إلى فساد الدنيا وخراب العالم وأهله فلا يتفرغون وهم على حالتهم مشرفون على الموت إلى

صناعاتهم وأشغالهم والشرع لا يرضى بمثله قطعا فيبيح لكل غني من ماله مقدار كفايته من غير ترفه ولا اقتصار على سد الرمق ويباح لكل مقتر في مال من فضل من هذا القدر مثله ويشهد لهذا قاعدة وهي أن الشخص الواحد إذا اضطر إلى طعام غيره أو إلى ميتة يباح له مقدار الاستقلال محافظة على الروح فالمحافظة على الأرواح أولى وأحق وكذلك نقول في المستظهر بشوكته المستولي على الناس المطاع فيما بينهم وقد شغر الزمان عن مستجمع لشرائط الإمامة ينفذ أمره لأن ذلك يجر فسادا عظيما لو لم نقل به

[...]

[...]

الباب الخامس في الاستصحاب ليس من الاستصحاب المقول به استدامة الحكم مع تبدل الصورة كما استصحب أبو حنيفة رضي الله عنه وجوب الحقتين في المائة والعشرين فيه إذ زادت واحدة لأن الصورة قد تبدلت فلا بد من دليل على النفي
وكذلك لو سئل عن النكاح بلا ولي مثلا فقال الأبضاع أصلها على التحريم فهو مستصحب إلى أن يلوح دليل في الإباحة لأنه مطالب بإقامة الدليل على فساد العقد المعقود بشرائطه وأن الولي شرط فيه فالاستصحاب لا يغني وإنما الاستصحاب الصحيح ما نذكره في منع وجوب الوتر والأضحية بعد سبر مدارك الوجوب وإبطال كل قياس يذكرونه

فبعد ذلك نقول الحال لم تتبدل ولا مأخذ للوجوب وبراءة الذمة يشهد لها العقل والسمع فيستصحب هذا الأصل المستقر فلابد من دليل وقد بطل مأخذ الوجوب وبالله التوفيق

الباب السادس في الاستحسان قال الشافعي رضي الله عنه من استحسن فقد شرع

ولا بد أولا من بيان حقيقة الاستحسان وقد قال قائلون من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه الاستحسان مذهب لا دليل عليه وهذا كفر ممن قاله وممن يجوز التمسك به ولا حاجة فيه إلى دليل وقال قائلون هو معنى خفي تضيق العبارة عنه وهذا أيضا هوس فإن معاني الشارع إذا لاحت في العقول انطلقت الألسن بالتعبير
عنها فما لا عبارة عنه لا يعقل والصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي وقد قسمه أربعة أقسام منها اتباع الحديث وترك القياس كما فعلوا في مسألة القهقهة ونبيذ التمر ومنها اتباع قول الصحابي على خلاف القياس كما قاله في تقدير أجرة

رد العبد الآبق بأربعين اتباعا لابن عباس رضي الله عنهما وتقدير ما يحط عن قيمة العبد إذا ساوى دية الحر أو زاد بعشر اتباعا لابن مسعود ومنها اتباع عادات الناس وما يطرد به عرفهم كمصيرهم إلى أن المعطاة صحيحة لأن الاعصار لا تنفك عنه ويغلب على الظن جريانه في عصر الرسول ومنها اتباع معنى خفي هو اخص بالمقصود وامس له من المعنى الجلي فنقول أما اتباع الخبر تقديما له على القياس فواجب عندنا أبو حنيفة لم يف به في مسألة المصارة والعرايا وخيار المتبايعين ولم يستحسن اتباع هذه الاحاديث مع اتفاق ائمة الحديث على صحتها وضعف حديث القهقة واما قول الصحابي إذا خالف القياس فهو متبع عندنا وخالفه أبو حنفية في مسألة تغليظ الدية مع ما نقل فيه عن الصحابة وتقدير ابن عباس أجرة رد الأبق بأربعين يحتمل ان يكون بحكم مصالحة أو مصلحة اقتضاها نزاع في تلك الحالة

وقول ابن مسعود في قيمة العبد يلتفت على قياس الذمية ومراعاتها وتقدير الحط ملاحظة لنصاب السرقة فإنه عظيم في الشرع يظهر التفاوت فيه فلذلك لم نتبعه وأما دعواه بأن عمل الناس متبع في المعاطاة لأن الأعصار فيه لا تتفاوت تحكم فإنا نعلم ان العقود الفاسدة والربويات في عصرنا أكثر منه في إبتداء الإسلام وصفوته وعوام الناس لا مبالاة بأجماعهم حتى يتمسك بعملهم واما اتباع المعنى الخفي إذا كان اخص فهو متبع لان الجلي الذي لا يمس المقصود باطل معه أو مقدم عليه ولكن أبا حنيفة لم يف بموجبه حتى أتى بالعجائب والآيات وسماه استحسانا فقال يجب الحد على من شهد عليه اربعة بالزنا في اربع زوايا كل واحد منهم يشهد عليه في زاوية وقال لعله كان يزحف في زنية واحدة في الزوايا واي استحسان في سفك دم مسلم بمثل هذا الخيال مع انه لو خصص كل

شهادة بزمان وتقاربت الازمنة واحتمل استدامة الزنا في مثلها لا حد وذلك اغلب في العرف من تخيل سحبها في زوايا البيت بزنا واحد فهذا ونحوه من الاستحسانات الباطلة وما استند إلى مأخذ مما ذكرناه صحيح فهو مقول به والله اعلم بالصواب

الباب السابع في ذكر قياس الشبه وفيه فصلان الفصل الاول في ذكر المذاهب وبيان ماهيته وقد صار الشافعي رضي الله عنه وابو حنيفية ومالك واشياعهم في جملة الفقهاء إلا ابا اسحق المروزي إلى قبول قياس الشبه وذهب القاضي في جمع من الاصولين إلى رده مع الاتفاق على قبول ما في معنى الاصل كالحاق الأمة بالعبد

وزعم القاضي ان الذرة في باب الربا في معنى البر المنصوص كالأمة في معنى العبد وهذا فيه نظر فان الجنس مختلف ولهذا يجوز التفاضل بين الذرة والبر وليس ذلك مما يبتدر إلى الفهم ابتدار الأمة مع العبد والقائلون بالشبه في الاحكام اختلفوا في التشابه الخلقي كالحاق الولد يالقيافة قد بالوالد والنظر في الخلقة في جزاء الصيد وإلحاق المني بالبيض في تولد الحيوان الطاهر منه في اثبات طهارته ومثال قياس الشبه تردد العبد بين الحر والبهيمة فشبه البهيمة في كونه
مملوكا فلا يملك ويشبه الحر في كونه متصرفا نافذ العبادة ومالكا للبضع بالنكاح إذ شرط هذا الفن ان لا يبالغ في تقريره فليحلق بقياس المخيل عند المبالغة فيه وربما يضعف مقرره فيضاهي الطرد فلا بد من الاقتصاد فيه

وعقد الباب تمييز الشبه عن الطرد ولا خفاء بتميزه عن المخيل فإن الشبه لا يناسب الحكم ويتميز عما في معنى الاصل فان ذلك يعلم بالبديهة فنقول التشابه المعتبر هو الذي يوهم الإجتماع في مخيل يناسب الحكم المطلوب وذلك المخيل مجهولا لا سبيل إلى ابدائه فإذا قلنا العبد يتصرف وتنفذ عبارته كالحر يشعر ذلك باجتماعهما في المخيل الذي هو مناط الملك فكأنه يفضي إلى الحكم بواسطة والطرد هو الذي لا يشعر بالحكم لا بنفسه ولا بواسطة والمخيل هو الذي يشعر بنفسه فيمس المقصود على وجه المناسبة وان شئت قلت الشبه ما يغلب على الظن كونه في معنى الاصل وهو مشابه لالحاق الشئ بما في معناه إلا ان ذلك مقطوح وفي به وهذا غالب على الظن

ويظهر قبول الطرد والعكس في اثبات العلة إذا قبل قياس الشبه فإنه يغلب على الظن كونه مناط الحكم ولذلك ردد القاضي فيه كلامه مع قطيعة برد الشبه والشبه جار فيما لا يعقل معناه على معنى انه لا ينقدح فيه معنى مخيل فإن قيل ما ذكره الشافعي رضي الله عنه من قياس تعيين لفظ التكبير على تعيين السجود والركوع هل هو من فن التشبيه قلنا قال الشافعي رضي الله عنه ليس ذلك من الشبه ولكنه ضرب مثلا ليبين ان المحل محل الاتباع ولا جريان للقياس كما في السجود والركوع في ان مذهب الشافعي رضي الله عنه في هذه المسالة قريب من القطع وليس للشبه هذه القوة فإن قيل قول الشافعي رضي الله عنه الشهيد إذا لم يغسل لم يصل عليه شبه ام لا قلنا قال القاضي يكاد ان يكون شبها من حيث إن الصلاة مترتبة على الغسل فإذا سقط الغسل اوشك سقوط الصلاة وابدي فيه ترددا فلم يقطع بكونه شبها وهو شبه ضعيف في الجملة

الفصل الثاني في ذكر ادلة الفريقين قال القاضي اقول للمتمسك بالشبه اعلمت انه مناط الحكم أو ظننته
فان علمته فبالضرورة ام بالنظر لا وجه لإدعاء واحد منهما وان ظننت فما مستند ظنك والظن في هذا المقام كالعلم وان ابان مستندا لظنه بابداء الا خالة فذاك وان لم يبد اخالة عجز عن اثبات مستنده فلا نزال نطالبه حتى نتبين تحكمه وعضد هذا بأن المنقول عن الصحابة النظر إلى المصالح فأما الشبه فلم ينقل عنهم

وقولك ان العبد إذا نفذت عبارته ملك تحكم فإن نفوذ العبارة اشارة إلى انتظامها وصحتها وهذا لا يناسب الملك وان قلت يوهم الاجتماع في مخيل قلنا أبد ذلك المخيل وإلا فلا يتمسك بالمجهول فإن قلت ملك البضع فملك الأعيان كان ذلك تحكما إذ لا مناسبة بينهما على انه ينقدح في النكاح مصلحة واضحة وهي محاذرة الإضرار بالعبيد في سد باب النكاح ولا ضرار فيما دونه من الأملاك والمختار عندنا أن الشبه مقبول وهو ما غلب على الظن كونه في معناه فنقول للقاضي قال الشافعي رضي الله عنه طهارتان فكيف تفترقان وعني به الوضوء والتيمم في حكم النية أيغلب على ظنك كون الوضوء في
معنى التيمم في حكم النية وكل واحد منهما طهارة عن حدث لا يعقل معناه ويغلب عليه التعبد وقد عسر ذلك الفرق بينهما فإن أنكر غلبة الظن فقد عاند

وإن اعترف به فيطالب بمستنده وينعكس عليه الأمر ولا خفاء بظهور الظن ويعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لو عدموا قياس المعنى لتمسكوا بمثل هذه الظنون قطعا فإن جملة المسائل لا ينقدح فيها معنى مخيل والصحابة استرسلوا على الفتاوى فيعلم أنهم اعتمدوا الشبه الشبه نعم يشترط أن لا ينقدح في الأصل معنى مخيل فلو اتجه بطل التشبيه إذ الحكم منوط به ولم يجر ذلك في الفرع فلا يوهم الإجتماع في مخيل موهوم وقد رأينا المخيل المعلوم فيه لم يطرد كما ذكره القاضي في قياس ملك العين على ملك النكاح ثم المعلل المتمسك بالشبه لو قال هذا يشبه ذاك ولم يبين وجه التشبيه قال قائلون يكتفي به وعلى السائل قطع التشبيه

والمختار أنه لا بد من الإيماء إلى جهة المشابهة وبيان أن الفرق عسر فلعسر الفرق وتحقق المشابهة غلب على الظن الحكم حتى يكون مناسبا كما إذا ألحق الذرة بالبر فيقربه منه في مقصود الطعم وغيره مما يتشابهان
فيه

الباب الثامن فيما لا يعلل من الأحكام لا يطمع في تعليل كل حكم في الشرع ولكنها منقسمة والضابط أن كل ما انقدح فيه معنى مخيل مناسب مطرد لا يصدمه أصل من أصول الشرع فهو معلل وما لم يتجه ذلك فيه كالعبادات والمقدرات فيجري فيه قياس ما في معنى الأصل وقياس الشبه إن أمكن تشبيه يورث غلبة الظن وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجري القياس في الحدود والكفارات والمقدرات والرحض ثم أفحش القياس في درء الحدود في السرقة والقصاص حتى أبطل قاعدة الشرع وفي إثباتها حتى أوجب في شهود الزوايا

وأوجب قطع السرقة بشهادة شاهدين شهدا أحدهما على أنه سرق بقرة بيضاء وشهد الآخر على بقرة سوداء لإحتمال أن البقرة كانت ملمعة وقاسوا غير الجماع على الجماع في الصوم في إيجاب الكفارة والخطأ في قتل الصيد على العمد في إيجاب الجزاء مع اختصاص النص بالعمد وقدر نزح ماء البئر عند نجاسته بثلاثين دلوا قياسا ولا ينفعهم قولهم إنا قلدنا الأوزاعي فإنهم أبوا عن تقليد الصحابة في مسائل فكيف قلدوه وقدروا العفو عن النجاسة بربع الثوب والمسح على الرأس بربعه

وقاسوا في الرخص في سائر النجاسات على مقدار ما عفي عنه على محل النجو رخصة فقد خبطوا هذه الأصول مسألة إذا وردت قاعدة خارجة عن قياس القواعد كالكتابة والإجارة قال قائلون لا يجري القياس لا في أصلها ولا في فرعها وقال آخرون يجري في فروعها ولا يقاس عليه أصل آخر والمختار أن إطلاق الأمرين سقيم فإن القواعد وإن تباينت في خواصها فقد تتلاقى في أمور جميلة كملاحظة كل النكاح والبيع والإجارة في كونه معاوضة وإن باينها في مقصوده فيمتنع الاعتبار في المقصود الذي فيه التباين لا فيما فيه التلاحظ والتناسب ومثاله من الكتابة أن أبا حنيفة رحمه الله يقيس الشراء الفاسد على الكتابة الفاسدة ولو استقام له استنباط معنى يجعل الفاسد في مقصود الكتابة

كصحيحه فيبني عليه أن فاسد البيع بالنسبة إلى صحيحه في مقصوده الخاص كفاسد الكتابة فيستقيم هذا القياس إلا أنه لم يتمكن منه فرد عليه قياسه لتحكمه في قياس فاسد البيع على فاسد الكتابة مع تباين مقصوديهما فلا وأما فروع الكتابة يجري فيها القياس ولولاها لما اتسعت فروعها فصل
قال القاضي من الأحكام ما يعلل جملة بعلة لا تطرد في التفاصيل وذكر ثلاثة أمثلة أحدها أنه قال لا يستقيم قول أبي حنيفة إن رفع الحدث لا يعقل معناه فلا يقاس عليه إزالة النجاسة لأن الغرض منه معقول وهو الوضاءة فلهذا اختص بالأعضاء البادية غالبا واكتفى في الناصية بالمسح لأن الغالب عليه الستر ويشهد لهذا إيماء الشارع من قوله ولكن يريد ليطهركم

ويدل عليه أن الإنسان في حالاته في ترددات لا تخلوا من غبرات تلحقه والشرع يستحب مكارم الأخلاق والتنقي عن الدنس والدرن من أحبها نعم اختص بحالة خروج الحدث فوقت وجوبه غير معقول كاختصاص وجوب إزالة النجاسة بوقت الصلاة لا يعقل معناه ولكن أصله معقول والمثال الثاني أن الشرع قدر الحدث مانعا من الصلاة وهو غير معقول ولكن بعد اعتقاده يعقل كون الوضوء رافعا له وإذا ارتفع فلا مانع من الصلاة إلى أن يعود ولم يفهم ذلك في التيمم فإنه لا يرفعه وإنما هو استباحة مع حدث فيجب أن يتيمم لكل صلاة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت
وقياسه يقتضي أن لا يتنفل به لعدم الضرورة فلعل ذلك من وقفات معاني الشرع

أو يقال النوافل جبران الفرائض وقد خففه الشرع حتى جوز القعود فيه للقادر على القيام حثا عليه فلا يليق به تغليظ أمره فإن ذلك إضرار بالمسافر المثال الثالث أن الحد شرع للزجر وعقل على قياسه أصل تفرقة الشارع بين ما دون النصاب وبين النصاب لأن النفوس لا تتحمل الأضرار لأجل مال نزر ولكن لا يطرد في التفاصيل لأنه قد يتشوق الشخص إلى ربع دينار دون حبة ولكن لا نظر إليه وذلك لا يخرم أصل المعنى المعقول والربع وإن كان قليلا في الهمم العالية فالغالب أنه لا يهجم على السرقة إلا الأرذال من الناس وخساسهم منه فيكثر ذلك عندهم ووجة الإشكال أنا نرى الروح تسفك في مقابلة الصيال على حبة ولكن ذلك مما لا رادع منه في الطبع بحيث يعظم وقعه فما دام المرء مواظبا

على هتك الحرمة كان مدفوعا عن هتكه لا كوزن المال وههنا يجب بسرقة المال عند اقتحام الغرر وقال القاضي فكان يليق به الفرق بين قليل الخمر وكثيرة لنفرة الطبع عن قليله فلعل هذا من وقفات علة الشرع
والعلل الكلية قد يفرض وقوفها بأصل مقطوع به وإن كان لا يرد بغلبات الظنون ولعل المعنى فيه أن قليل الخمر يدعو إلى كثيره والقدر المسكر لا ينضبط مع تفاوت الطباع فحسم الباب حسما قال القاضي وإن عقلنا الفرق بين القليل والكثير فلا يقاس به في هذا التقدير غيره ردا على مالك حيث قال بغلظ اليمين في عظيم من المال وقدره بنصاب السرقة لأنه ينقدح معنى مخيل في التقدير به ومسلك يشبه الإيمان بالسرقة غير منقدح

الباب التاسع في التركيب والتعدية وفيه أربعة فصول الفصل الأول بيان الجمع بين علتين متظاهرتين على حكم واحد وقد منه القاضي تمسكا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم ذلك واعتصاما بإجماع القياسيين على إتحاد علة الربا مع إمكان الجمع وقال إذا صادفنا علة منصوصا عليها من جهة الشارع فيغلب على الظن أنه المناط على الخصوص وإن تعلق بغيره معه لذكره الشارع وقد تولى بيانه وكذا لو أجمعت الأمة على التعليل به واقتصروا عليه إذ يبعد أن يذهل
أهل الإجماع عن علة صحيحة مع شدة بحثهم

وإن هجمنا عليه واستنبطناه فما هو أجلى تقدم على الآخر لا محالة والمختار أن العلل قد تزدحم على حكم واحد ويعلم أن الصحابة رضي الله عنهم في اشتوارهم كانت تتشعب أراؤهم إلى مصالح متظاهرة ولا يشتغلون بالترجيح ومسألة الربا ليست معللة عندنا ولا هي مجمع عليها ولكن كل اعتقد أن علة خصمه باطلة لا تستقل ولذلك لم يجمعوا ومسالك الترجيح فيها باطلة عندنا وما ذكره من نص الشارع أو الإجماع لا ينكر أن ذلك ينتج خيالا ولكن لا بعد في وكول الشارع الباقي إلى استنباط الأئمة واستغنى أهل الإجماع بإحدى العلتين عن الأخرى

وقوله إذا لاح أحدهما ينبغي أن يقدم قلنا لا نرى بعدا في اعتقاد ثبوت المسألة بحديث وقياس وإن تفاوتت مراتبهما وإذا تعارضت المصالح من غير ترجيح فلا وجه للقضاء بتساقطها: وإلحاق الحكم بالفذ غير الذي لا يعلل وليس بعضها أولى من بعض ولا بعد في أن يحكم الشارع بحكم واحد لأجل مصلحتين ولا يلزم على هذا أن يصحح قول القائل مس فصار كما لو مس وبال أو معتدة فصارت كالمعتدة البائنة أو أنثى فصارت كالأنثى الصغيرة فهذا باطل قطعا لأن المعلل يحتاج إلى أن يصرح بضم علة أخرى
إلى علته لو ألغاها لكان قياسا على نفس المسألة فلتكن العلة الجامعة بحيث لو وقع الذهول عن الثانية لصح الجمع قال القاضي وقول الشافعي رضي الله عنه في جزاء الأسد حيوان لا يجزى بقيمة ولا مثل فلا يجزى كالفواسق الخمس باطل لأن معناه أن ما لا يجزى لا يجزى وهذا استدلال بنفس الحكم وهو مطالب بنصب الدليل على نفي الضمان على الوجه الذي ذكروه وليس فيه ما يدل عليه

الفصل الثاني في بيان مراتب التركيب وهو منقسم إلى التركيب في الأصل وإلى التركيب في الوصف فأما التركيب في الأصل فمن أبعد أبوابه قول أصحابنا أنثى فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة سنة وهو باطل إذ للسائل أن يقول إن كانت هي في علم الله كبيرة فقد قست على نفس المسألة وإن كانت صغيرة صرت كمن قال مس فصار كما لو مس وبال وأقرب منه قليلا قولهم في البكر البالغ لم تمارس الرجال فتجبر كبنت خمس عشرة سنة فإن جهة الفساد تتحد فيه

إذ لو قدرت صغيرة فالصغر ليس مستقلا عند الشافعي رضي الله عنه بإفادة الإجبار، بدليل الثيب الصغيرة فإنها لا تجبر والتركيب في الوصف أبعده كقولنا في قتل المسلم بالذمي لو قتل بالمثقل لم يقتل فكذا بالسيف ووجه بعده أن النظر في الآلة لا يدل على معنى المكافأة وهو المقصود في المسألة وأقربه قولنا في اندراج الثمار غير المؤبرة تحت مطلق العقد ما يندرج تحت استحقاق الشفيع يندرج تحت مطلق العقد ووجه قربه أنه يشير إلى الجزئية المؤثرة في الاندراج إلا أنهم يقولون تخلينا الضرار سببا لإثبات الشفعة في الثمار لئلا تنفى الداخلة لذلك طردنا في المؤبرة فإن صح علة الضرار بطل التعليل وإن بطل الضرار لم نقض باندراجه تحت الشفعة

الفصل الثالث في ذكر ضابط الأدلة فيه قال الأستاذ أبو اسحق في جماعة إن التركيب صحيح وغلا حتى قدمه على غير المركب لأنه أبعد عن الاعتراضات ومنهم من رجح غيره ومنهم من سوى
قال القاضي أبو بكر التركيب باطل واستدل الأستاذ بأن الغرض في المناظرة التضييق على الخصم وتنقيح الخاطر في المشكلات والتركيب أقوى في تحصيل الغرض نعم لا يعول عليه في الاجتهاد كمناقضة الخصم يتمسك بها في المناظرة دون الفتوى ولا خلل في التركيب إلا كون علة الأصل مختلفا فيها فهو مطالب بإثباته وإن عجز فهو باطل لا لأجل التركيب

والمختار أن التركيب باطل لأنه فن من القياس لم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم ولا كانوا يفهمونه وأحدث منذ خمسين سنة ولو كان قياسا صحيحا لتنبه له الأولون وهو في رسم الجدال خروج عن مقصود المسألة فإن سن البلوغ وسببه لا يثير نظرا في سلب عبارة المرأة وليس من فروع هذه المسألة ونتيجته فهو تمسك بأمر ظاهر لا في محل السؤال والمناقضة قد لا يرى التمسك بها فيما قاله القاضي أبو بكر وإن رأيناها فهي مورطة للخصم في فقه المسألة والتركيب مخرج لهما عنها وما ذكره من أن علة الأصل أبدا هو مختلف فيها وهو متمكن من إثباته فلم نرده لكون العلة مختلفا فيها ولكنه خروج عن المسألة ولو تمكن من إثبات علة الأصل باخاله أحمد فقد استغنى عن الأصل وصار مستدلا وبطل تركيبه وقوله إن الغرض تنقيح الخاطر قلنا نعم في المسألة لا في هوسات لا تعلق لها بالمسألة

الفصل الرابع في التعدية والقائلون بالتركيب اعتقدوا التعدية سؤالا صحيحا على المركب وصورته أن يقول السائل عن قول الشافعي رضي الله عنه أنثى فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة سنة إني استنبطت من الأصل الصغر فعديته بعد إلى منع سائر التصرفات فيعارض ما استنبطه من الأنوثة ويستوي فيه الأقدام وكذلك إذا قال أنثى لم تمارس الرجال فتجبر كبنت خمس عشرة سنة في مسألة إجبار البكر فيقول أنا استنبطت الصغر وطردته في الثيب الصغيرة وزعموا أن هذه التعدية أقوى لأن الصغر عند الشافعي قط لا يكون علة الإجبار بدليل الثيب الصغيرة فلا يمكنه القول به والمختار أن سؤال التعدية باطل بعد قبول المركب لأن المعلل يقول إن لم تسلم لي كون الأنوثة علة فأثبته وعليك إبطاله وإن سلمت فلا نعيد كاستنباط المجبرة

أو يسلم المسئول له وجود الصغر جدلا في مسألة نكاح بلا ولي وكونه علة ويقول ليجمع بين العلتين ويسلم وجوده في مسألة إجبار البكر وإن لم يعلل به فلا يغنيه التعليل به وأما المركب الوصف زعموا أن التعدية علة في القبول والرد مبني على قبول الفرق بين الوصف والحكم ورده كفرق السائل بين الطلاق والظهار
إذا قال المعلل من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم والمختار أن التعدية لا ترد على تركيب الوصف إذ من ضرورته أن يقع التركيب من حكم فيقول من لا يقتل إذا قتل بالمثقل فكذا بالسيف فلا يمكنه إبراز معنى من القتل بالمثقل في معارضته والمسئول لم يتعرض للمعنى ولا يمكنه المعارضة بحكم آخر نعم لو قال ذلك لخلل في الآلة فهذا بيان منه لخروج المسئول عن مقصود المسألة وهو واقع وليس ذلك من التعدية في شئ والله أعلم

الباب العاشر في الاعتراضات وهي تنقسم إلى صحيح وفاسد الصحيح منه ثمانية أنواع النوع الأول في المنع وذلك إذا توجه على وصف التعليل لزم المعلل إثباتها ويتوجه على الأصل من أربعة أوجه أن يمنع كونه معللا أو يمنع كون ما ذكره علة بعد ما سلم أصل التعليل أو يمنع وجود ما نصبه علة أو يمنع الحكم ويكفي للمعلل بيان معنى مخيل للحكم في الأصل فيندفع به جميعها
ويثبت كونه معللا بهذه العلة وعليه يترتب الحكم إذا ثبت إخالته وله النقل إلى الأصل إذا منع أو افتتاح الكلام فيه ابتداء إذا توقع المنع

وليس له نصب الدليل على نقض يورده إذا منع والفرق أن ذلك خروج من المسألة إذ قد يورد مسألة من النكاح نقضا على مسألة في الكتابة وإما إثبات الأصل إذا منع انتهاض الإثبات في الفرع تحقيقا وليس للسائل أن يدل على المنع بخلاف المسئول للأمر الجدلي وهو أن المسئول لم يتطوق أن يعترض عليه فإن دل فلا يصغى إليه لأنه لم يسأله وقال الأستاذ المنع ليس باعتراض لأن إثباته ممكن للمسئول وقال القاضي هو اعتراض ولولا رسم الجدال لحكم بانقطاعه فإنه إذا قاس على أصل ممنوع فكأنه ما دل بعد في المسألة ولكن الرجوع إلى الرسم ولولاه لساغ للسائل ابتداء إبطال فتوى المستدل ولكن لا بد من اتباع الرسم لينضبط الكلام ويتميز السائل عن المسئول النوع الثاني القول بالموجب من الاعتراضات التي ينقطع المسئول فيها ويبطل به مقصوده وقد قيل لا يسمى اعتراضا لأنه مطابقة للعلة والخلاف عائد إلى عبارة

ولا يتأتى القول بالموجب مع التصريح بالحكم الذي فيه النزاع فإن فيه رفعا للخلاف وإنما يتوجه إذا أجمل الحكم وقال كان كذا فجاز أن يكون
كذا فيقول بموجبه في بعض الصور أو يتعرض لنفي علة الخصم فنقول ماء طاهر خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع جواز التوضئ كما لو خالطه التراب فيقول أقول بموجبه إذ المخالطة لا تمنع فينقطع المسئول فلو قال مع التغير فكذا نقول بالموجب فلو قال منع مع التغير والاستغناء ينبغي أن لا يمنع لا يقال بموجبه ولكن لا نجد أصلا نقيس عليه وهذا من ألزم أنواعه والذي دونه مما يخلص عنه بتغيير عبارة كقولنا الجنون في أحد الواطئين لا يدرأ الحد كالجنون فيها فيقول الجنون لا يدرؤه إذ الدافع خروجها عن كونها ممكنة من الزنا فلو قال ينبغي أن لا يكون صبيا

قال قائلون يكفي أن يعدل إلى لفظ السبب فيقول لا يكون الجنون سببا فيه فإن ما ذكره أيضا مثارة الجنون وزعم آخرون أن السبب بمعنى العلة فلا غنية فيه والخلاف فيه قريب المدرك وإنما يظهر العدول إلى لفظ السبب إذا تمكن المسئول من بيان انحصار الحكم في هذا السبب على الخصوص حتى لو قدر اقتصار أبي حنيفة في ذلك على الجنون دون تنزل الصبي والخرس منزلته لكان لفظ السبب أقوى في درء هذا السؤال فهذه مراتب ثلاثة في القول بالموجب
النوع الثالث النقض ومعناه إبداء العلة مع تخلف الحكم ولا يورد على العلة المجملة فإنها باطلة لإجمالها لا يعترض عليها بل يستفسر عنها ومعنى الاستفسار طلب كشف عما استبهم على السائل لقصور فهمه

وقد انقسم الناس في النقض على ثلاثة مذاهب فقال قائلون ليس ذلك باعتراض فإن العلل قابلة للتخصيص بمحل اطراده ومنع آخرون التخصيص إطلاقا وسوغ آخرون تخصيص علة نصبها الشارع دون ما نستنبطه وتمسك المانعون من التخصيص بثلاثة أمور أحدها أن قالوا الأدلة العقلية تطرد فكذا الشرعية وهذا فاسد فإنها توجب مدلولاتها لذواتها وأعيانها وهذه أمارة لا يعد في تخصيصها قصور لا مانع من طردها ثانيها أن ذلك إلى تكافؤ الأدلة فيقول أحد الخصمين مائع فتزال به النجاسة كالماء ويقول الآخر مائع فلا تزال به النجاسة كالخمر واللبن وكل لا يقبل النقض تخصيصا لعلته وهذا عندنا فاسد لكونهما طردين ولا يقع التعارض قط في مخيلين على هذا الوجه وإن اتفق فالترجيح ممكن ولا يؤدي إلى التكافؤ أصلا

ثالثها قال الأستاذ يقال للمعلل إن زعمت أنك أتيت بعلة عامة فقد كذبت وإن أتيت بعلة خاصة فلا حاجة إلى التخصيص وهذا تلفيق عبارة لا خير فيه إذ له أن يقول كنت أظن عمومه والآن إذ منع مانع فالتزم طرده حيث لا مانع والمخصصة تمسكوا أيضا بثلاثة أمور أحدها أنه لو خصص العلة بالاتفاق بالزمان جاز فكذا بالمسائل فإن من قال مشتد مسكر تنتقض علته بالخمر في ابتداء الإسلام ثم يخصصه هذا الزمان وهذا فاسد فإن استيعاب الأزمنة لا يشترط في العلل الشرعية وهي لا تدل لذاتها وإنما تدل لظننا أنها منصوبة ولم ينصبها الشارع في ابتداء الإسلام فإذا نصبها اقتضى وضعه العموم ثانيها أن عموم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصص فكذا عموم علة المعلل وهذا فاسد

فإن العام عندنا لا يخصص بل نتبين خصوصه في وضعه وإنما لم نفهمه حتى نتبينه لقرينة كيف وقد قيل إن الباقي من عموم الشارع يبقى مجملا
وقال القاضي يبقى مجازا وهذا لا يحتمل من المعلل ثالثها ما قال القاضي من أن المعلل وإن لم يصرح بتخصيص علة فيفهم من قرينة قوله أنه لا ينبغي طرد العلة إلا إذا اطرد ولم يمنع منه مانع كالذي يقول المتردي من سطح مسقطه الأرض يفهم منه عند الإطلاق إذا لم يختطفه مختطف والمختار أن مسألة النقض إن انقدح فيه فرق مخيل فهو مبطل فإنه مشعر باقتصار المعلل على نصف العلة وحقه أن يأتي بتمامها إذا طولب بإبداء العلة ولو كان مستثنى عن القياس وكان من مناقضات الخصم فالعلة تبطل أيضا إذ حقه أن يطرد ولا مانع وإن كان مستثنى بنص أو إجماع فالذي رآه القاضي أن هذا مجتهد فيه إذ يمكن أن يقال غلبة الظن متبع إلا إذا منع نص يقدم عليه

ويمكن أن يقال طبع العلة العموم فإذا لم يعم دل ذلك على بطلانه وهذا الفن من القياس عنده باطل لا لانتقاضه ولكنه يقول ما لا قاطع في قبوله فهو محكوم ببطلانه قطعا وعندنا أن هذا القياس باطل في جوهره وإن كنا لا نرى جعل عدم القاطع على القبول قاطعا في البطلان ولكن هذه العلة إنما ينصبها المعلل ظانا أنها منصوب الشارع مقتصرا على غلبة الظن فيها وإذا رأينا الشرع ينفي الحكم مع وجودها كيف يغلب على ظننا كونها
علة وكيف يظن برسول الله أن يأتي بالمتناقض المتدابر يقول في نفسه وإذا بطل غلبة الظن فلا مستند

فإن زعم المجتهد أن ظني وراءه باقي في هذه المسألة فيقال له إن تدبرت استثنيت انتفاء الظن عند الانتقاض والفاصلون الذي بين علتنا وعلة الشارع يفرقون بأن له أن يحتكم وليس لنا ذلك فلا بد في تطرق التخصيص إلى علته والمختار أن التخصيص لا يتطرق إلى جوهر علته فإنه من أعم الصيغ أعني صيغة التعليل ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب الشئ علما ثم ينفي الحكم مع وجوده من غير سبب نعم يتطرق إلى محله كلام فيخصص ببعض المحال بدليل قوله تعالى والسارق والسارقة وقوله تعالى الزانية والزاني فيذكر المحل دون العلة وفائدة الخلاف أن من منع التخصيص لا يجوز أصلا تطرقه إلى

ما نص الشارع على التعليل به وإن أومأ إليه يتبين أن ذلك لم يكن إيماء على تعليل بورود التخصيص والمجوز للتخصيص يقول نبقي ذلك في محله فصل في دفع النقض إذا قال المعلل باع الطعام بالطعام متفاضلا فلا يجوز قياسا
للسفرجل لأن على البر فقيل ينتقض يبيع البر بالشعير قال الجدليون يكفيه أن يقول صيغة الطعم تشمل الجنس والجنسين وأنا إنما عنيت الجنس الواحد واللفظ صالح له وهذا ليس بدافع فإنه أخل بأحد وصفي العلة أو بمحل العلة فلا بد من ذكره ولا يغنيه التفسير ما لم يصرح به نعم لو قال متولد من مال الزكاة وغيره فلا زكاة فيه فقيل يبطل بالمتولد من المعلوفة والسائمة فهذا ليس بنقض فإنه فهم من قرينة حاله قطعا قصده التعريض للجنس لا للنوع

فصل قال الجدليون إن الكسر سؤال لازم ويفارق النقض فإنه يرد على إخالة العلة لا على عبارتها والنقض يرد على العبارة وعندنا لا معنى للكسر فإن كل عبارة لا إخالة فيها فهي طرد محذوف والوارد على الإخالة نقض والوارد على أحد الوصفين منع كونهما مخيلين فهو باطل لا يقبل نعم تردد القاضي في أن المعلل هل يسوغ له الاحتراز عن المسألة المستثناة عن القياس بطرد أم لا وقال يحتمل أن يقال لا يحتاج إليه أصلا فإنه ليس بنقض ولو فعله استبان به تنبهه له وكان أحسن
وقد بينا أن العلة منتقضة به فلا يغني الاحتراز بالطرد النوع الرابع

إبانة عدم التأثير في وصف العلة إما في الفرع أو في الأصل وحاصله بيان ثبوت الحكم مع انتفاء العلة على نقيض ما ذكرناه في النقض ومثار هذا السؤال اشتراط العكس في التعليل وقد اختلفوا فيه فقال قائلون لا يعتبر كما في الأدلة العقلية إذ الأحكام تدل على المحكم ووجوده وعدمه لا يدل على جهله وعدمه ولأن العكس فيما قاله القاضي لا معنى له إلا انتفاء حكم في مسألة أخرى عند عدم العلة ولم يلزم من جعل الشئ أمارة أن يجعل عدمه أمارة لنقيضه فإن نفي العلة مسألة يطلب لها علة كما لهذه المسألة فلا تكون العلة مشروطة بها وقال آخرون إن العكس معتبر كما في العلة العقلية أعني العلم والعالمية ولأن العلة التي هي مناط الحكم ينبغي أن يزيد وجوده على عدمه فإذا عم الحكم وجوده وعدمه فلا أثر له والمختار عندنا أن العلة إن تعددت فلا يطالب بالعكس فإنا نجوز ازدحام العلل على حكم واحد فلا مطمع في العكس معه