كتاب : الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت
الاختلاف
المؤلف : عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليما عونك اللهم قال أبو محمد عبد الله
بن محمد بن السيد البطليوسي رحمه الله
الحمد لله مسبغ النعم ومسوغ القسم والمنفرد بالقدم وبارئ النسم وموجدنا
بعد العدم وباعث العظام الهامدة والرمم والمخالف بين الهيئات والشيم حكمة
تاهت في فهمها عقول ذوي الحكم خلق الأجسام من أضداد متنافرة ابتدعها
بقدرته وألف نقائضها بحكمته حتى أبرزها للعيان متغايرة الصور والألوان
متقنة الأشكال مخترعة على غير مثال وخالف بين الآراء والاعتقادات كما خالف
بين الصور والهيئات وأخبرنا بما في ذلك من واضح فقال تعالى ومن آياته خلق
السماوات والأرض واحتلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين
وقال جل جلاله ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم
وبين لنا أنه قدير على غير ما أجرى العادة به فقال ولو شاء الله لجمعهم
على الهدى فلا تكونن من الجاهلين
ونبهنا ألطف تنبيه على ما في هذا الخلاف الموجود في البشر المركوز في
الفطر من الحكمة البالغة وأنه جعله احدى الدلائل على صحة البعث الذي أنكره
من ألحد في أسمائه وكفر بسوابغ نعمائه فقال وقوله الحق ووعده الصدق
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن
أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم
كانوا كاذبين
وهذه الآية أحد ما تضمنه القرآن العزيز من الأدلة البرهانية على
صحة البعث ووجه البرهان المنفك من هذه الأية التي لا يقدرها حق قدرها الا
العالمون ولا ينتبه لغامض سرها الا المستبصرون أن اختلاف الناس في الحق لا
يوجب احتلاف الحق في نفسه وانما تحتلف الطرق الموصلة اليه والقياسات
المركبة عليه والحق في نفسه واحد
فلما ثبت أن ههنا حقيقة موجودة لا محالة وكان لا سبيل لنا في حياتنا هذه
الى الوقوف عليها وقوفا يوجب لنا الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف اذ كان
الاختلاف مركوزا 2ب في فطرنا مطبوعا في خلقنا وكان لا يمكن ارتقاعه وزواله
الا بارتفاع هذه الخلقة ونقلنا الى جبلة غير هذه الجبلة صح ضرورة أن لنا
خياة أخرى غير هذه الحياة فيها يرتفع الخلاف والعناد وتزول من صدورنا
الضغائن الكامنة والأحقاد وهذه هي الحال التي وعدنا الله تعالى بالمصير
اليها فقال تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين
ولا بد من كون ذلك باضطرار اذ كان وجود الاختلاف يقتضي وجود
الائتلاف لأنه ضرب ونوع من المضاف
وكان لا بد من حقيقة وان لم نقل ذلك صرنا الى مذهب السوفسطائية في نفي
الحقائق فقد صار الخلاف الموجود في العالم كما ترى أوضح الدلائل على كون
البعث الذي ينكره المنكرون وينازع فيه الملحدون الكافرون
فسبحان من أودع كتابه العزيز تصريحا وتلويحا كل لطيفة لمن قدره حق قدره
ووفق لفهم غوامض سره
وصلى الله على من هدانا به من الضلالة وعلمنا بعد الجهالة واياه يسأل أن
يوفقنا لاقتفاء آثاره ختى يحلنا دار المقامة في جواره
واني لما رأيت الناس قد أفرطوا في التأليف وأملوا الناظرين بأنواع التصنيف
في أشياء معروفة وأساليب مألوفة يغني بعضها
عن بعض صرفت خاطري الى وضع كتاب في أسباب الخلاف الواقع بين
الأمة قليل النظير نافع للجمهور عجيب المنزع غريب المقطع يشبه المخترع وان
كان غير مخترع ينتمي الى الدين بأدنى نسب ويتعلق من اللسان العربي بأقوى
سبب ويخبر من تأمل غرضه ومقصده بأن الطريقة الفقهية مفتقرة الى علم الأدب
مؤسسة على أصول كلام العرب وأن مثلها ومثله قول أبي الأسود الدؤلي ...
فالا يكنها أو تكنه فانه ... أخوها غذته أمه بلبانها ...
وليس غرضي من كتابي هذا أن أتكلم في الأسباب التي أوجبت الخلاف الأعظم
بين من سلف وخلف من الأمم وانما غرضي أن أذكر الأسباب التي أوجبت الخلاف بين أهل ملتنا الحنيفية التي جعلنا الله تعالى من أهلها وهدانا الى واضح سبلها حتى صار من فقهائهم المالكي والشافعي والحنفي والأوزاعي ومن ذوي مقالاتهمالجبري والقدري والمشبه والجهمي ومن شيعهم
الزيدي والرافضي والسبئي والغرابي والمخمس والمحمدي وغير هؤلاء من الفرق الثلاث والسبعين التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولا غرضي أيضا أن أحصر أصناف المذاهب والآراء واناقض ذوي البدع
المضللة والأهواء لأن هذا الفن من العلم قد سبق اليه ونبه في مواضع كثيرة
عليه وانما غرضي أن أنبه على المواضع التي منها نشأ الخلاف بين العلماء
حتى تباينوا في المذاهب والآراء
وأنا أسترشد الله تعالى الى سبيل الحق وأستهديه وأسأله العون على ما
أحاوله وأنويه وأرغب اليه أن يعصمني من الزلل فيما أقوله وأحكيه ونه ولي
الطول ومسديه لا رب سواه ولا معبود حاشاه
ذكر الأسباب الموجبة للخلاف كم هي
أقول وبالله أعتصم واليه أفوض في جميع أمري وأسلم ان الخلاف عرض لأهل ملتنا من ثمانية أوجه كل ضرب من الخلاف متولد منها متفرع عنهاالأول منها اشتراك الألفاظ والمعاني
والثاني الحقيقة والمجاز
والثالث الافراد والتركيب
والرابع الخصوص والعموم
والخامس الرواية والنقل
والسادس الإجتهاد فيما لا نص فيه
والسابع الناسخ والمنسوخ
والثامن الأباحة والتوسع
ونحن نذكر من كل نوع من هذه الأنواع أمثلة تنبه قارئ كتابنا هذا على بقيتها اذ كان استيفاء جميع ذلك من المتعذر على من حاوله وبالله التوفيق لا رب غيره
الباب الأول
في الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام
أحدها اشتراك في موضوع اللفظة المفردة
والثاني اشتراك في احوالها التي تعرض لها من اعراب وغيره
والثالث اشتراك يوجبه تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض
فأما الاشتراك العارض في موضوع اللفظة المفردة فنوعان
اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة
فالأول كالقرء ذهب الحجازيون من الفقهاء الى أنه الطهر وذهب العراقيون الى
أنه الحيض ولكل واحد من القولين 3ب شاهد من الحديث ومن اللغة
أما حجة الحجازيين من الحديث فما روي عن عمر وعثمان وعائشة وزيد
بن ثابت رضي الله عنهم أنهم قالوا الأقراء الأطهار
وأما حجتهم من اللغة فقول الأعشى ... وفي كل عام انت جاشم غزوة ... تشد
لأقصاها عزيم عزائكا ... مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من
قروء نسائكا
وأما حجة العراقيين من الحديث فقول النبي صلى الله عليه و سلم
للمستحاضة اقعدي عن الصلاة أيام أقرائك
واما حجتهم من اللغة فقول الراجز ... يا رب ذي ضغن علي فارض ... له قروء
كقرء الحائض ...
وقد حكى يعقوب بن السكيت وغيره من اللغويين أن العرب تقول
أقرأت المرأة اذا طهرت وأقرأت اذا حاضت وذلك أن القرء في كلام
العرب معناه الوقت فلذلك صلح للطهر والحيض معا
ويدل على ذلك قول الشاعر ... شنئت العقر عقر بني شليل ... اذا هبت لقارئها
الرياح ...
وقد احتج بعض الحجازيين لقولهم بقوله تبارك وتعالى ثلاثة قروء فأثبت الهاء
في ثلاثة فدل ذلك على أنه أراد الأطهار ولو أراد الحيض لقال ثلاث قروء لأن
الحيض مؤنثة
وهذا لا حجة فيه عند أهل النظر وانما الحجة ما قدمناه وانما لم
تكن فيه حجة لأنه لا ينكر أن يكون القرء لفظا مذكرا يعنى به المؤنث ويكون
تذكير ثلاثة حملا على اللفظ دون المعنى كما تقول العرب جاءني ثلاثة أشخص
وهم يعنون نساء
والعرب تحمل الكلام تارة على اللفظ وتارة على المعنى ألا ترى الى قراءة
القراء بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت بكسر الكاف والتاء وفتحهما
ووقوع الأسماء على المسميات في كلام العرب ينقسم أربعة أقسام
أحدها أن يكون المسمى مذكرا واسمه مذكر كرجل يسمى بزيد أو عمرو
والآخر أن يكون المسمى مؤنثا وأسمه مؤنث كإمرأه تسمى فاطمة
والثالث أن يكون المسمى مؤنثا واسمه مذكر كإمرأة تسمى جعفر وزيد
قال الشاعر ... يا جعفر يا جعفر يا جعفر ... ان أك دحداحا فأنت أقصر ...
أو أك ذا شيب فأنت اكبر ... غرك سربال عليك أحمر ... ومقنع من الحرير أصفر
وتحت ذاك سؤاة لو تذكر ...
والرابع أن يكون المسمى مذكرا واسمه مؤنث كرجل يسمى طلحة وحمزة
وهذا لا يخص الأسماء الأعلام دون الأجناس والأنواع
وهكذا مذهب العرب في الصفة والموصوف فربما كان الموصوف مطابقا لصفته في
التذكير والتأنيث كقولهم هذا رجل قائم و هذه امرأة قائمة
وربما كان مخالفا لصفته في التذكير والتأنيث كقولهم رجل ربعة وعلامة
ونسابة
وفي المؤنث امرأة حاسر وعاشق
قال ذو الرمة ... ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مي
حاسرا كاد يبرق ... فقد تبين أنه لا حجة في دخول الهاء في ثلاثة
ومن الألفاظ المشتركة الواقعة على الشيء وضده قوله تعالى فأصبحت كالصريم
قال بعض المفسرين معناه كأنهار المضيء بيضاء لا شيء فيها
وقال آخرون كالليل المظلم سوداء لا شيء فيها
وكلا القولين موجود في اللغة أما من قال كالنهار المضيء فحجته قول زهير
بكرت عليه غدوة فرأيته ...
قعودا لديه بالصريم عواذله ... يعني الصباح
وأما من قال كالليل فحجته قول الراجز تهوي هوي أنجم الصريم
وقال آخر ... كأنا والرحال على صوار ... برمل خزاق أسلمه الصريم ...
وقال بعضهم معناه انحسر عنه الرمل وقال قوم معناه خرج من الليل وانجلى عنه
كما قال النابغة ... حتى غدا في بياض الصبح منصلتا ... يقرو الأماعز من
لبنان والأكما
وانما سمي كل واحد منهما صريما لأنه ينصرم اذا وافى الآخر
والمعنى أيضا يشهد لكل واحد من القولين لأن العرب تقول لك بياض الأرض
وسوادها يعنون بالبياض ما لا عمارة فيه وبالسواد ما فيه العمارة فهذا ما
يحتج به لمن ذهب الى معنى البياض
ومن ذهب الى معنى السواد فانما أراد أنها احترقت بريح صر أو نار كقوله
تعالى فأصابها اعصار فيه نار فاحترقت
ومن هذا النوع قول أبي بكر رضي الله عنه طوبى لمن مات في النأنأة فانه
يحتمل أن يريد أول الاسلام عند قوة البصائر قبل وقوع الخلاف ويحتمل أنه
يريد به آخر الإسلام اذا ضعفت البصائر وكثرت البدع والخلاف
ويدل على صحة المعنيين جميعا قوله صلى الله عليه و سلم ان
الأسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء
والنأنأة عند العرب الضعف لا يخص الصغر دون الكبر
قال امرؤ القيس في ذلك ... لعمرك ما سعد بخلة آثم ... ولا نأنأ يوم الحفاظ
ولا حصر ...
وتأوله أبو عبيد على أنه أراد به أول الأسلام وليس في لفظ الحديث ما يقتضي
ذلك على أن بعض الرواة قد روى في النأنأة الأولى فان كان هذا محفوظا
فالقول ما قال أبو عبيد
ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه و سلم قصوا الشوارب وأعفوا اللحى
قال قوم معناه وفروا وكثروا وقال آخرون قصروا وانقصوا وكلا
القولين له شاهد من اللغة
أما من ذهب الى التكثير فحجته قوله تعالى حتى عفوا وقول جرير ... ولكنا
نعض السيف منها ... بأسوق عافيات اللحم كوم ...
طزك ...
وأما من ذهب الى الحذف والتقصير فحجته قول زهير ... تحمل أهلها منها
فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء ...
فهذه جملة من اللفظ المشترك الواقع على معان مختلفة متضادة
وأما اللفظ المشترك الواقع على معان مختلفة غير متضادة فنحو
قوله تعالى انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان
يقتلوا أو يصلبوا الى آخر الآية ذهب قوم الى أن أو ههنا للتخيير كالتي من
قولك جالس زيدا أو عمرأ فقالوا السلطان مخير في هذه العقوبات يفعل بقاطع
السبيل أيها شاء وهو قول الحسن البصري وعطاء وبه قال مالك رحمه الله
وذهب آخرون الى أن أو ههنا للتفصيل والتبعيض فمن حارب وقتل وأخذ المال صلب
ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من
خلاف وهو قول أبي مجلز وحجاج بن أرطاة عن ابن عباس وبه قال الشافعي وأبو
حنيفة رحمهما الله تعالى واحتجوا بحديث رواه عثمان وعائشة عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال لا يحل دم امرئ مسلم الا باحدى ثلاث زنا بعد
احصان
او كفر بعد ايمان أو قتل نفس بغير حق
واحتجوا من اللغة بأن العرب تستعمل أو للافراد والتفصيل فيقولون اجتمع
القوم فقالوا حاربوا أو صالحوا أي قال بعضهم كذا وقال بعضهم كذا ومنه قوله
تعالى وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا 5أ وليس بين الفرق فرقة تخير بين
اليهودية والنصرانية وانما المعنى أن بعضهم وهم اليهود قالوا كونوا هودا
وبعضهم وهم النصارى قالوا كونوا نصارى فهذا تفصيل لا شك فيه
والعرب تلف الكلامين المختلفين وترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأن السامع يرد
الى كل مخبر عنه ما يليق به
قال الله تعالى ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه
ولتبتغوا من فضله
ونحوه قول امرئ القيس ... كأن قلوب الطير ويابسا ... لدى وكرها العناب
والحشف البالي ...
ولو جاء هذا الكلام مفصلا لقال كأن قلوب الطير رطبا العناب ويابسا الحشف
الباليوكذلك الآية لو جاءت مفصلة لقال جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله
واختلفوا في النفي من الأرض ما هو فقال الحجازيون ينفى من موضع الى موضع وقال العراقيون يسجن ويحبس
والعرب تستعمل النفي بمعنى السجن
قال بعض المسجونين ... خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من
الأموات فيها ولا الأحيا ...
... اذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ...
ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه و سلم أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا قاله
لنسائه فحسبنه من الطول الذي هو ضد القصر فظنت عائشة أنها المرادة فلما
ماتت زينب قبلها علمن حينئذ أنه انما
أراد الطول الذي هو الفضل والكرم وكانت زينب أكثرهن صدقة والعرب
تقول فلان أطول يدا من فلان اذا كان أكرم منه وأكثر بذلا
قال الشاعر ... ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أطولهم ذراعا ...
ويروى أرحبهم
ومن هذا النوع قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل قال قوم معناه من سبب ذلك كما يقال فعلت ذلك من أجلك وقال قوم معناه من جناية ذلك وجريرته ويقال أجل عليهم شرا يأجله
أجلا اذا جناه واحتجوا بقول خوات بن جبير الأنصاري ... وأهل خباء صلاح ذات
بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله ...
وهذا النوع كثير جدا
وأما الاشتراك العارض من قبل اختلاف أحوال الكلمة 5ب دون موضوع لفظها فمثل قوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد قال قوم مضارة الكاتب أن يكتب ما لم يمل عليه ومضارة
الشهيد أن يشهد بخلاف الشهادة وقال آخرون مضارتهما أن يمنعا من أشغالهما
ويكلفا الكتابة والشهادة في وقت يشق ذلك فيه عليهما
وانما أوجب هذا الخلاف أن قوله ولا يضار يحتمل أن يكون تقديره ولا يضارر
بفتح الراء فيلزم على هذا أن يكون الكاتب والشهيد مفعولا بهما لم يسم
فاعلهما وهكذا كان يقرأابن مسعود بإظهار التضعيف وفتح الراء
ويحتمل أن يكون تعديره ولا يضارر بكسر الراء فيلزم على هذا أن يكون الكاتب
والشهيد فاعلين وهكذا كان يقرأ ابن عمر باظهار التضعيف وكسر الراء
ومثل هذا قوله تعالى لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده
وأما الاشتراك العارض من قبل تركيب الكلام وبناء بعض الألفاظ على بعض فان
منه ما يدل على معان مختلفة متضادة ومنه ما يدل على معان مختلفة غير
متضادة
فمن النوع الأول قوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء
اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن قال قوم معناه وترغبون في
نكاحهن لمالهن وقال آخرون إنما أراد وترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وقلة
مالهن
وإنما أوجب هذا الاختلاف أن العرب تقول رغبت عن الشىء إذا زهدت
فيه ورغبت في الشيء اذا حرصت عليه فلما ركب الكلام تركيبا سقط منه حرف
الجر احتمل التأويلين المتضادين فصار كقول القائل ... ويرغب ان يبني
المعالي خالد ... ويرغب أن يرضى صنيق الالأئم ...
فهذا البيت يحتمل أن يكون مدحا وأن يكون ذما فان جعلت الرغبة الأولى مقدرة
ب في والثانية مقدرة ب عن كان مدحا وان جعلت الرغبة الأولى مقدرة بعن
والثانية مقدرة بفي كان ذما
ومن هذا النوع قول علي رضي الله عنه أيها الناس تزعمون أني قتلت عثمان ألا
وان الله قتله وأنا معه أراد علي رضي الله عنه أن الله قتله وسيقتلني معه
فعطف أنا على الهاء من قتله وجعل الهاء في معه عائدة على عثمان رضي الله
عنه
وتأولته الخوارج على أنه عطف أنا على الضمير الفاعل في قتله أو على موضع
المنصوت بإن كما تقول 6أ ان زيدا قائم
وعمرو فترفع عمرا عطفا على موضع زيد وما عمل فيه وجعلوا الضمير
في قوله معه عائدا على الله تعالى فأوجبوا عليه من هذا اللفظ أنه شارك في
قتل عثمان رضي الله عنه ولذلك قال كعب بن جعيل ... اذا سيل عنه حدا شبهة
... وعمى الجواب على السائلينا ...
... فليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الآمرينا ...
... ولا هو ساه ولا سره ... ولا بد من بعض ذا أن يكونا ...
وانما قال هذا لأن عليا رضي الله عنه كان يقول اذا ذكر له قتل عثمان رضي
الله عنه والله ما أمرت ولا نهيت ولارضيت ولا سخطت ولا ساءني ولا سرني
ونظير هذا الضمير في احتماله التأويلين معا قول خالد بن عبد الله القسري
على المنبر ان أمير المؤمنين كتب الي أن ألعن عليا
فالعنوه لعنه الله فأوهم أن الضمير راجع الى علي رضي الله عنه
وانما هو عائد على الآمر له بلعنته ولذلك أنكر على خالد ما جاء به من
اللفظ المشترك فكان بعد ذلك يصرح بلعنه بألفاظ لا اشتراك فيها
وهذا النوع من الضمائر كثير في الكلام فمنه قوله تعالى اليه يصعد الكلم
الطيب والعمل الصالح يرفعه يجوز أن يكون الضمير الفاعل الذي في يرفعه
عائدا على العمل فيكون معناه أن الكلم الطيب وهو التوحيد يرفع العمل
الصالح لأنه لا يصح عمل الامع ايمان ويجوز أن يكون الضمير الفاعل عائدا
على العمل والضمير المفعول عائدا على الكلم فيكون معناه أن العمل الصالح
هو الذي يرفع الكلم الطيب
وكلاهما صحيح لأن الإيمان قول وعقد وعمل لا يصح بعضها الا ببعض ولو جعلت
في هذه الآية اسم الفاعل مكان الفعل لاختلف اللفظان لأن اسم الفاعل يستتر
فيه ضمير ما هو له ويظهر ضمير ما ليس له فكان يلزم اذا جعلت الرفع للعمل
قلت والعمل الصالح رافقه هو فيستتر الضمير الفاعل ولا يظهر كما تقول هند
زيد ضاربته هي اذا
جعلت الضرب لهند لأنه جرى خبرا على غير من هو له فاذا جعلت
الضرب لزيد قلت هند زيد ضاربها ولم يحتج الى اظهار الضمير لجريانه خبرا
على من هو له
6 - ب ومن هذا النوع من الضمائر قول زهير ... نظرت اليه نظرة فرأيته ...
على كل حال مرة هو حامله ...
يجوز أن يكون الحامل هو الغلام والمحمول هو الفرس ويجوز أن يكون الأمر
بعكس ذلك
ومن هذا النوع من الضمائر قوله صلى الله عليه و سلم ان الله تعالى خلق آدم
على صورته ذهب قوم الى أن الهاء عائدة على الله تعالى وذهب قوم الى ان
الهاء عائدة على آدم وسنتكلم على هذا الجواب في موضعه ان شاء الله تعالى
ومن الضمائر المشتركة قول حسان بن ثابت ... ظننتم بأن يخفى الذي
قد صنعتم ... وفينا نبي عنده الوحي واضعه ...
ذهب سيبويه الى أن الهاء من واضعه ترجع على الوحي وذهب غيره الى أنها
راجعة الى النبي صلى الله عليه و سلم وكلا القولين صحيح المعنى فيكون معنى وضع النبي صلى الله عليه و سلم للوحي على قول سيبويه أنه وضعه للناس بأمر الله تعالى فسن السنن وفرض الفروض ورتب الأشياء مراتبهاويكون معناه على قول غيره أن الوحي يضع عنده ما تصنعون أي يبين له ما ترومونه وتدبرونه ويظهر له ما تخفونه من مكركم وكيدكم وتزيفونه فتقدير الكلام على هذا وفينا نبي الوحي واضع ما صنعتم عنده وهذا القول عندي أظهر من قول سيبويه
ويجوز أن يكون من الوضع الذي هو الاسقاط والاطراح فيكون معناه
أن الوحي يسقط الذي تصنعونه ويبطله
ومن هذا النوع المشترك التركيب قول الله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فان هذه
الآية في بعضها خلاف وفي بعضها وفاق فمن قوله حرمت عليكم أمهاتكم الى قوله
وأخواتكم من الرضاعة تحريم مبهم متفق عليه وقوله تعالى وربائبكم اللاتي في
حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن تحريم غير مبهم
ووقع قوله تعالى وامهات نسائكم متوسطا بين التحريمين فجعل قوم أمهات
النساء من التحريم المبهم وجعله آخرون من التحريم غير المبهم وقالوا اذا
تروج المرأة ولم يدخل بها لم تحرم عليه أمها
وانما أوجب هذا الخلاف أنه تبارك وتعالى أعاد في هذه الآية ذكر النساء
مرتين ثم قال على اثر ذلك اللاتي دخلتم بهن فمن جعل أمهات النساء من
التحريم المبهم ذهب الى أن اللاتي صفة للنساء المتصلات بالربائب خاصة دون
النساء المتصلات بالأمهات ومن
جعلهن من التحريم غير المبهم ذهب الى 7أ أن اللاتي دخلتم بهن
صفة للنساء المذكورات في الموضعين معا فصار خلاف الفقهاء في هذه الآية
مبنيا على خلاف النحويين في جمع الصفة وتفريق الموصوف وذلك أن هذا الباب
منه ما قد أجمع النحويون على جوازه ومنه ما قد أجمعوا على منعه ومنه ما
اختلفوا فيه
فالذي اتفقوا على جوازه أن يتفق الموصوفان في الأعراب والعامل معا كقولك
مررت بزيد وأخيك العاقلين
والذي اتفقوا على منعه أن يختلف الأعرابان والعاملان معا كقولك مررت بزيد
وهذا أبوك لا يجيزون أن يقال العاقلان ولا العاقلين على الصفة لكن على
القطع والنصب باضمار أعني أو الرفع بإضمار مبتدأ كأنه قال هما العاقلان
والذي اختلفوا في جوازه أن يتفق الأعرابان ويختلف العاملان كقولك مررت
بغلام زيد ونزلت على عمرو العاقلين فقوم يجيزون أن يجعلوا العاقلين صفة
لزيد وعمرو وقوم يمنعون من ذلك
ومذهب من منع من ذلك أقيس لأن زيدا انجر بإضافة الغلام اليه وعمرو انجر ب
على فإذا جعلت العاقلين صفة لهما أعملت عاملين مختلفين في اسم واحد وذلك
لا يجوز وهو جائز على
قياس قول أبي الحسن الأخفش لأن العامل في الموصوف لا يعمل عنده
في الصفة وانما تنخفض الصفة عنده أو ترتفع للاتباع
فلما كانت النساء الأول من قوله وأمهات نسائكم العامل فيهن الإضافة
والنساء الأخر العامل فيهن من اختلف العاملان فيه فوجب ألا يكون اللاتي
دخلتم بهن صفة لهما معا على ما قلناه ولكن من أجازه من الفقهاء يمكنه أن
يحتج بشيئين
أحدهما أن يكون على مذهب من أجاز ذلك من النحويين
والآخر أن قوله تعالى اللاتي اسم مبني لا يظهر فيه اعراب فيمكن أن يكون
منصوبا بإضمار أعني أو مرفوعا بإضمار مبتدأ ولو ظهر الاعراب فيه أيضا لم
يمتنع من أن يحمل على الإضمار لا على الصفة فيكون كنحو ما أنشده سيبويه من
قول الشاعر
أمن عمل الجراف أمس وظلمه ... وعدوانه أعتبتمونا براسم ...
... أميري عداء ان حبسنا عليهما ... بهائم مال أوديا بالبهائم ...
7ب - ألا ترى الى قوله أميري عداء لا يجوز أن يكون بدلا من الجراف وراسم
لاختلاف العاملين ولكنه على اضمار أعني ونحوه
وكذلك قول الراجز ... ان بها أكتل أو رزاما ... خويربين ينقفان الهاما ...
ف خويربين لا يجوز أن يكون مردودا على أكتل ورزام لأنه انما أوجب أحدهما
لدخول أو التي للشك بينهما ألا ترى أنه لا يجوز رأيت زيدا أو عمرا منطلقين فهذا ونحوه من التركيب المشترك الذي يحتمل المعنى وضده ونظيره
من الشقر قوله ... قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
...
ألا تراه قد أخرج هذا الكلام مخرج الهجو ولولا أن في غير هذا البيت دليلا
على ذلك لكان من الثناء والمدح
وكذلك قول الآخر ... يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن اساءة أهل
السوء احسانا
وأما التركيب الدال على معان مختلفة غير متضادة فكقوله تعالى
وما قتلوه يقينا فإن قوما يرون الضمير من قتلوه عائدا على المسيح صلى الله
عليه و سلم وقوما يرونه عائدا الى العلم المذكور في قوله ما لهم به من علم
الا اتباع الظن فيجعلونه من قول العرب قتلت الشيء علما
ومن هذا النوع قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب
على الذين من قبلكم لعلكم تتقون فإن الناس اختلفوا في هذا التشبيه من أين
وقع فذهب قوم الى أن التشبيه انما وقع في عدد الأيام واحتجوا بحديث رووه
أن النصارى كان فرض عليهم في الإنجيل صوم ثلاثين يوما كالتي فرضت علينا
وأن ملوكهم زادوا فيها تطوعا حتى صيروها خمسين وذهب قوم آخرون الى أن
التشبيه انما وقع في الفرض لا في عدد الأيام وهذا هو القول الصحيح وان كان
القولان جائزين في كلام العرب ألا ترى أنك اذا قلت أعطيت زيدا
كما أعطيت عمرا احتمل أن تريد تساوي العطيتين واحتمل أن تريد تساوي
الإعطاءين وان كنت أعطيت أحدهما خلاف ما أعطيت الآخر
وهذا يكثر ان تتبعناه وقد أوردنا منه جملة تنبه على الغرض الذي قصدناه 8أ
وبالله التوفيق
الباب الثاني
في الخلاف العارض من جهة الحقيقة والمجاز@ 70 @
قد ذهب قوم الى ابطال المجاز وذهب آخرون الى اثباته وانما
كلامنا فيه على مذهب من أثبته لأنه الصحيح الذي لا يجوز غيره لقوله تعالى
وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه وقوله تعالى بلسان عربي مبين
ولا وجه لإطالة القول في الرد على من أنكره لأنا لم نقصد ذلك في كتابنا
هذا ولا مناقضة أحد من أهل المقالات وانما قصدنا الكلام في أصول الخلاف
فأقول والله الموفق
ان المجاز ثلاثة أنواع
نوع يعرض في موضوع اللفظة المفردة ونوع يعرض في أحوالها المختلفة عليها من
اعراب وغيره ونوع يعرض في التركيب وبناء بعض الألفاظ على بتعض
فمثال النوع الأول الميزان فإنه قد يكون المقدار الذي قد تعارفه
الناس في معاملاتهم ويكون العدل تقول العرب وازنت بين الشيئين اذا عادلت
بينهما ورجل وازن اذا كانت له حصافة ومعرفة
قال كثير ... رأتني بأشلاء اللجام وعلها ... من القوم أبزى بادن متباطن
...
... فإن أك معروق العظام فإنني ... اذا ما وزنت القوم بالقوم وازن ...
ويقال للعروض ميزان الشعر وللنحو ميزان الكلام
ويروى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عرض عليه عود غناء وقيل له ما
هذا فقال هذا هو الميزان الرومي أراد أنه ميزان الغناء
وقال بعض الشعراء يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله ... قد غيب
الدافنون اللحد اذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين ...
فشبه عمر رحمه الله لعدله بالميزان
ومن ذلك السلسلة فان العرب تستعملها حقيقة وتستعملها مجازا على ثلاثة أوجهالأول أن تريد بها الإجبار على الأمر والاكراه عليه فمن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم عجبت لقوم يقادون الى الجنة بالسلاسل
الثاني أن يريدوا بهذا المنع من الشي والكف عنه كقول أبي خراش
فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرعاب السلاسل ...
يريد بالسلاسل حدود الإسلام وموانعه التي كفت الأيدي الغاشمة عن غشمها
ومنعت من سفك الدماء الا بحقها 8بومن هذا قوله تعالى انا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي الى الأذقان فهم مقمحون
والثالث أن يريدوا بها ما تتابع بعضه في اثر بعض واتصل كقولهم تسلسل الحديث وتسلسل الماء ويقال ماء سلسل وسلاسل وسلسال
قال أوس بن حجر ... وأشبرنيه الهالكي كأنه ... غدير جرت في متنه الريح سلسل ...
وقالوا سلاسل البرق وسلاسل الرمل
قال ذو الرمة ... لأدمانة من وحش بين سويقة ... وبين الجبال
العفر ذات السلاسل ...
ومن هذا النوع قولهم فلان على الجبل وفلان على الدابة أي فوق كل واحد
منهما فهذا حقيقةثم يقولون علاه دين وفلان أمير على البصرة يريد بذلك القهر والغلبة وكذلك قولهم فلان في الدار وفي البيت ثم يقولون أنا في حاجتك وانما يريدون أن قد شغلتني فلم تدع في فضلا لغيرها فشبهوا ذلك بالمكان الذي يحيط بالمتمكن من جهاته الست فلا يدع منها فضلا لغيره
وهذا كثير جدا في اللغة يكثر ان تتبعناه ومنه قوله تعالى فأتى الله بنيانهم من القواعد ذهب قوم الى أن البنيان ههنا
حقيقة وأنه أراد الصرح الذي بناه هامان لفرعون وهو الذي ذكره
الله تعالى في قوله وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب
وذهب آخرون الى أنه كلام خرج مخرج التمثيل والتشبيه ومعناه أن ما بنوه من
مكرهم وراموا اثباته وبأصيله أبطله الله تعالى وصرفه عليهم فكانوا بمنزلة
من بنى بنيانا يتحصن به من المهالك فسقط عليه فقتله وشبهوه بقوله تعالى
ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله
والقولان جميعا جائزان على مذاهب العرب ألا تراهم يقولون بنى فلان شرفا
وبنى مجدا وليس هناك بنيان في الحقيقة
قال عبدة بن الطبيب ... فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه
بنيان قوم تهدما ...
ويشبه هذا المعنى الذي ذهبوا اليه قول ابن أحمر ... رماني بأمر كنت منه
ووالدي ... بريا ومن جال الطوي رماني ...
ويروى ومن جول الطوي رماني والجال والجول ناحية البئر من أسفلها 9أ الى
أعلاها يقول رماني بأمر رجع عليه مكروهه فكأنه رماني من قعر البئر فرجعت
رميته عليه فأهلكته
هكذا رواه قوم وفسروه والمعروف ومن أجل الطوي وانما كان يخاصمه في بئر
يدعيها كل واحد منهما فقال رماني بأمر أنا ووالدي
بريئان منه من أجل ما بيني وبينه من الخصام في الطوي وعلى هذا
يدل الشعر لأن قبله ... فلما رأى سفيان أن قد عزلته ... عن الماء مرمى
الحائم الوحداني ...
ومن هذا النوع قوله عز و جل وان كان مكرهم لتزول منه الجبال
قوم يرون أن الجبال ههنا حقيقة وأنه أراد بذلك ما كان من صعود نمرود بن
كنعان في التابوت نحو السماء فلما كر منحدرا نحو الأرض ظنته الجبال أمرا
من عند الله فكادت تزول من مواضعها
وقوم آخرون يقولون الجبال ههنا تمثيل لأمر النبي صلى الله عليه و سلم أي
انهم مكروا به ليزيلوا الغز الذي رسخ رسوخ الجبال التي لا يستطاع على
ازالتها من مواضعها
والعرب تشبه الشيء الثابت بالجبل الشامخ والصخرة الراسية ألا ترى الى قول
زهير الى باذخ يعلو على من يطاوله
وقال السموءل بن عادياء ... لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع
يرد الطرف وهو كليل ...
... رسا أصله تحت الثرى وسما به ... الى النجم فرع لا ينال طويل ...
وقال الأعشى ... كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
...
فهذا كلام العرب
ومن هذا الباب قوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا
يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ومعلوم أن الله تعالى لم ينزل من السماء
ملابس تلبس وانما تأويله والله أعلم أنه أنزل المطر فنبت عنه النبات ثم
رعته البهائم فصار صوفا وشعرا ووبرا على أبدانها ونبت عنه القطن والكتان
فاتخذت من ذلك أصناف الملابس فسمى المطر لباسا اذ كان سببا لذلك على مذهب
العرب في تسمية الشيء باسم الشيء اذا كان منه بسبب وهذا يسمية أصحاب
المعاني التدريج
ونحوه قولهم للمطر سماء لأنه ينزل من السماء وللنبت ندى لأنه عن الندى
يكون وللشحم ندى لأنه عن النبت يكون
قال ابن أحمر 9ب ... كثور العداب الفرد يضربه الندى ... تعلى الندى في
متنه وتحدرا
فالندى الأول المطر والندى الثاني الشحم
وقال معاوية بن مالك معود الحكماء ... اذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وان كانوا غضابا ...ونحوه قول الراجز ... الحمد لله العزيز المنان ... صار الثريد في رؤوس العيدان ...
يريد السنبل
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه و سلم ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا ثلث الليل الأخير فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل
من تائب فأتوب عليه
جعلته المجسمة نزولا على الحقيقة تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقد أجمع العارفون بالله عز و جل على أنه لا ينتقل لأن الانتقال من صفات
المحدثات
ولهذا الحديث تأويلان صحيحان لا يقتضنان شيئا من التشبيه
أحدهما أشار اليه مالك رحمه الله وقد سئل عن هذا الحديث فقال ينزل أمره كل
سحر فأما هو عز و جل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا اله الا هو
وسئل عنه الأوزاعي فقال يفعل الله ما يشاء وهذا تلويح يحتاج الى تصريح
وخفي اشارة يحتاج الى تبيين عبارة
وحقيقة الذي ذهبا اليه رحمهما الله أن العرب تنسب الفعل الى من أمر به كما
بنسبه الى من فعله وباشره بنفسه فيقولون كتب الأمير
لفلان كتابا وقطع الأمير يد اللص وضرب السلطان فلانا ولم يباشر
شيئا من ذلك بنفسه انما أمر بذلك ولأجل هذا احتيج الى التأكيد الموضوع في
الكلام فقيل جاء زيد نفسه ورأيت زيدا نفسه
فمعناه على هذا أن الله تعالى يأمر ملكا بالنزول الى السماء الدنيا فينادي
بأمره
وقد تقول العرب جاء فلان اذا جاء كتابه أو وصيته ويقولون للرجل أنت ضربت
زيدا وهو لم يضربه اذا كان قد رضي بذلك وشايع عليه قال الله تعالى فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل ان كنتم مؤمنين المخاطبون بها لم يقتلوا نبيا
ولكنهم لما رضوا بذلك وتولوا قتلة الأنبياء وشايعوهم على فعلهم نسب الفعل
اليهم وان كانوا لم يباشروه وعلى هذا يتأول قوله تعالى فأتى الله بنيانهم
من القواعد
فهذا تأويل كما تراه صحيح جار على فصيح كلام العرب في محاوراتها والمتعارف
من أساليبها ومخاطباتها وهو شرح 10أ ما أراده مالك والأوزاعي رحمهما الله
ومما يقوي هذا التأويل ويشهد
بصحته أن بعض أهل الحديث رواه ينزل بضم الياء وهذا واضح
والتأويل الثاني أن العرب تستعمل النزول على وجهين أحدهما حقيقة والآخر
مجاز واستعارة
فأما الحقيقة فانحدار الشيء من علو الى سفل كقوله تعالى وينزل من السماء
من جبال فيها من برد
وكقول امرئ القيس ... هو المنزل الألاف من جو ناعط ... بني أسد حزنا من
الأرض اوعرا ...
وأما الاستعارة والمجاز فعلى أربعة أوجه
أحدها الإقبال على الشيء بعد الأعراض عنه والمقاربة بعد المباعدة يقال نزل
البائع في سلعته اذا قارب المشتري فيها بعد
مباعدته وأمكنه منها بعد منعه ويقال نزل فلان عن أهله أي تركها
وأقبل على غيرها ومنه قول الشاعر ... أنزلني الدهر على حكمه ... من شاهق
عال الى خفض ...
أي جعلني أقارب من كنت أباعده وأقبل على من كنت أعرض عنه
فيكون معنى الحديث على هذا أن العبد في هذا الوقت أقرب الى رحمة الله منه
في غيره من الأوقاب وأن البارئ سبحانه وتعالى يقبل على عباده بالتحنن
والتعطف في هذا الوقت لما يلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكير الباعثين
لهم على الطاعة والجد في العمل فهذا تأويل أيضا ممكن صحيح
فأما الأقسام الباقية من معنى النزول فلا مدخل لها في هذا الحديث وانما
نذكرها لتوفية معنى النزول ولأنها مما يحتاج اليه في غير هذا الحديث
فمنها ما يراد به ترتيب الأشياء ووضعها مواضعها اللائقة بها كقوله
تعالى ونزلناه تنزيلا أي رتبناه مراتبه ووضعناه مواضعه ومن ذلك
قولهم نزل فلان عند منزلة حسنة أو منزلة قبيحة ومنه قول الشاعر ...
أنزلوها بحيث أنرلها الله بدار الهوان والإتعاس ...
ومنها ما يراد به الأعلام والقول كقوله تعالى ومن قال سأنزل مثل ما أنزل
الله أي أقول مثل ما قال الله وأعلم بمثل ما أعلم
ومن هذا انزال الوحي انما معناه أن جبريل صلى الله عليه و سلم تلقاه عن
الله سبحانه وتعالى وأداه الى محمد صلى الله عليه و سلم وهو راجع الى معنى
الإقبال الذي قدمناه
ومنها ما يراد به الإنحطاط من المرتبة والذلة كقولهم نزلت منرلة فلان عند
الملك أي انحطت
ويجوز أن يكون قوله أنزلني الدهر على حكمه من 10ب هذا المعنى
وقد تستعمل العرب النزول في النماء والزيادة وهو ضد ما ذكرناه قبل هذا
فيقولون طعام له نزل أي بركة ونماء وأرض نزلة اذا كانت كثيرة الكلأ وتركت
القوم على نزلاتهم اذا كانوا نفي خصب وحسن حال
وقد يستعملونه أيضا على معنى آخر يقولون نزل القوم اذا أتوا منى ويقال
لمنى المنازل قال الشاعر ... أنازلة يا أسم أم غير نازلة ... أبيني لنا يا
أسم ما أنت فاعله ...
فجميع مواضع هذه الكلمة سبعة فهذه وجوه النزول في كلام العرب
ومما غلطت فيه المجسمة أيضا قوله تعالى الله نور السموات والأرض فتوهموا أن ربهم نور تعالى الله عن قول الجاهلين علوا
كبيرا وانما المعنى الله هادي أهل السموات والأرض والعرب تسمي كل ما جلى
الشبهات وأزال الالتباس وأوضح الحق نورا قال الله تعالى وأنزلنا اليكم
نورا مبينا يعني القرآن وعلى هذا المعنى سمى نبيه صلى الله عليه و سلم
سراجا منيرا
وقال العباس بن عبد المطلب يمدح النبي صلى الله عليه و سلم ... وأنت لما
ظهرت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق ...
وعلى هذا مجرى كلام العرب
قال امرؤ القيس بن حجر الكندي ... أقر حشا امرئ القيس بن حجر
... بنو تيم مصابيح الظلام ...
وقال النابغة الذبياني ... لا يبعد الله جيرانا تركتهم ... مثل المصابيح
تجلو ليلة الظلم ...
وقال آخر ... من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها
الساري
وقال النبي صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم
ولو منحت المجسمة طرفا من التوفيق وتأملت الآية بعين التحقيق لوجدت فيها
ما يبطل دعواهم دون تكلف تأويل ومن غير طلب دليل لأنه قال تعالى في عقب
الآية ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم فأخبرنا أن ما ذكره في
الآية العزيرة من النور والمشكاة والمصباح والزجاجة والزيتونة والشجرة
أمثال مضروبة عقلها عن الله تعالى من وفق لفهمها وكشفت له الحجب عن مكنون
سرها وعلمها كما قال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا
العالمون
فان قلت كيف وقع هذا التمثيل وما المراد به
فالجواب أنه شبه صدر المؤمن بالمشكاة وقلبه 11أ بالزجاجة ونور الهدى الذي
يضعه في قلبه بالمصباح وشبه مادة الهدى المنبعثة من قبل الرسول صلى الله
عليه و سلم التي تزيد في بصائر المؤمنين وتحفظ نور الإيمان عليهم وتمنعه
من أن يغلب عليه الشك فيطمسه بمادة الزيت التي تمد
المصباح لئلا يطفأ نوره وشبه النبي صلى الله عليه و سلم
بالزيتونة اذ كان الهدى انما ينبعث من قبله كانبعاث الزيت من الزيتونة
وجعل الزيتونة لا شرقية ولا غربية لأن ظهوره ومبعثه صلى الله عليه و سلم
انما كان بمكة ومكة متوسطة بين المشرق والمغرب
فهذا كلام كما ترى قد خرج على أحسن مخارج الكلام وتشبيه جاء على أبدع وجوه
التشبيه فهذا ونحوه من الحقيقة والمجاز العارضين في موضوع الكلمة
واما الحقيقة والمجاز العارضان فيها من قبل أحوالها فانهما كثيران أيضا
ككثرة النوع الأول فمن ذلك قولهم مات زيد فيرفعونه كما يرفعون قولهم أمات
الله زيدا وأحدهما حقيقة والآخر مجاز ومنه قوله تعالى فاذا عزم الأمر
والأمر لا يعزم انما يعزم عليه
قال النابغة وان الدين قد عزما
وتقول أعطي ثوب زيدا وانما الوجه أعطي زيد ثوبا لأن زيدا هو
والآخذ للثوب والمتناول له و ولد له ستون عاما والمعنى ولد له الأولاد في
ستين عاما ونحوه قوله عز و جل بل مكر الليل والنهار وانما المراد بل مكرهم
في الليل والنهار وأنشد سيبويه ... أما النهار ففي قيد وسلسلة ... والليل
في بطن منحوت من الساج ...
وتقول العرب نهارك صائم وليلك قائم وقال آخر ... لقد لمتنا يا أم غيلان في
السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
وقال حميد بن ثور الهلالي ... ومطوية الأقراب أما نهارها ...
فسبت وأما ليلها فذميل ...
وأما المجاز والحقيقة العارضان من طريق التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض
فنحو الأمر يرد بصيغة الخبر والخبر يرد بصيغة الأمر والإيجاب يرد بصيغة
النفي والنفي يرد بصيغة الإيجاب والواجب يرد بصيغة الممكن والممتنع
والممكن والممتنع يردان بصيغة الواجب والمدح يرد بصورة الذم 11ب والذم يرد
بصورة المدح والتقليل يرد بصورة التكثير والتكثير يرد بصورة التقليل ونحو
ذلك من أساليب الكلام التي لا يقف عليها الا من تحقق بعلم من اللسان
وكل نوع من هذه يقصد به غرض من أغراض البيان ونحن نذكر من كل نوع من هذه
الأنواع أمثلة تشهد بصحة ما قلناه ليحتذى فيما لم نذكره على ما ذكرناه ان
شاء الله تعالى
أما الأمر الوارد بصيغة الخبر فكقولهم حسبك درهم فان صيغة
الكلام كصيغة قولك أخوك منطلق وأبوك زيد ومعناه معنى الأمر لأن تقديره
ليكفك درهم أو اكتف بدرهم
قال امرؤ القيس ... وحسبك من غنى شبع وري ...
ومن هذا قولهم في الدعاء غفر الله لزيد ورحمك الله وسلام عليك ومنه قوله
تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين وانما المعنى لترضع الوالدات
أولادهن لأنه لم يخبرنا وانما أمرنا
واما الخبر الوارد بصيغة الأمر فكقولهم في التعجب أحسن
بزيد فإن صيغته صيغة قولك أحسن الى زيد وأحدهما خبر والآخر أمر
لأن معنى أحسن بزيد ما أحسن زيدا فانما أنت مخبر لا آمر ومكان الباء وما
عملت فيه رفع ومكان الى وما عملت فيه نصب ومنه قوله تعالى أسمع بهم وأبصر
أي ما أسمعهم وأبصرهم
وأما ت الإيجاب الوارد بصيغة النفي فكقولهم ما زال زيد عالما فإن صيغته
صيغة قولك ما كان زيد عالما والأول ايجاب والثاني يفي فإذا أدخلت على هذه
الجملة الا التي للإيجاب فقلت ما زال زيد الا عالما صارت صيغته صيغة
الموجب ومعناه معنى المنفي
والعلة في ذلك أن قولك زال زيد عالما لو كان مما يستعمل لكان معناه النفي
لأن معناه زال عن العلم وانتفى منه فإذا أدخلت عليه ما النافية رجع ايجابا
لأن النفي الثاني يبطل النفي الأول فإذا أدخلت الا بطل النفي الثاني الذي
أوجبته ما وعاد النفي الأول الى حاله فصار قولك ما زال زيد الا عالما
بمنزلة قولك زال زيد عالما
فمن النحويين من يرى أن قولك ما زال زيد الا عالما انما امتنع من الجواز
لأن دخول ما في صدر المسألة يوجب له العلم ودخول
الا في آخرها ينفي عنه العلم فتصير مثبتا نافيا للخبر في حال
واحدة
ومنهم من يقول انما استحال لأن دخول الا عليه يبطل ما لأنها مناقضة لها
فكأنك قلت 12أ زال زيد عالما وهذا غير جائز لأن العرب لم تستعمل زال
الداخلة على الأبتداء والخبر الا مع ما
ومنهم من يقول انما استحال لأن قولك ما زال زيد عالما كلام موجب وان كان
بصورة المنفي فلما كان كذلك لم يجز دخول الا عليه لأن الا انما وضعت لتوجب
ما كان منفيا قبل دخولها فإذا كان الكلام موجبا بنفسه استغني عنها ومن
طريف هذا النوع قول الفرزدق ... بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر
القتلى اذا هي سلت ...
قال أصحاب المعاني معناه لم يشيموا سيوفهم الا وقد كثرت القتلى بها حين
سلت فمعناه كما ترى ايجاب وصيغته وظاهره نفي وانما وجب هذا لأن قوله ولم تكثر القتلى ليس بجملة منقطعة من الجملة التي قبلها معطوفة عليها على حد عطف الجمل على الجمل وانما هي في
موضع نصب على الحال من السيوف وتقدير الكلام لم يشيموا سيوفهم غير كثيرة
القتلى بها حين سلت فصار بمنزلة قولك لم يجئ زيد ولم يركب فرسه اذا جعلت
قولك ولم يركب فرسه في موضع الحال من زيد تقديره لم يجئ زيد غير راكب فرسه
فمحصول معناه أنه جاء راكبا فرسه فظاهره نفي ومعناه ايجاب
وقد يجوز في المسألة أنه لم يجئ ولم يركب فتنفي الفعلين معا وتجعلهما
جملتين ليست احداهما متعلقة بالأخرى الا على جهة العطف فقط
وأما النفي الوارد بصورة الايجاب فنحو قولهم لو جاءني زيد لأكرمته فصورته
صورة كلام موجب لأنه ليس فيه أداة من أدوات النفي وهو منفي في المعنى لأنه
لم يقع المجيء ولا الإكرام فإذا دخل عليه حروف النفي فقيل لو لم يشتمني
زيد لم أضربه صارت صورته صورة المنفي ومعناه معنى الموجب ومن أجل هذا قال
النحويون في قول امرئ القيس
فلو ان ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
...
ان نصب القليل هنا محال لأنه لو نصبه لأوجب أنه قد طلب قليلا من المال
وهذا خلاف ما أراده الشاعر ألا تراه يقول بعد هذا ... ولكنما أسعى لمجد
موثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي ...
فأخبر ببعد همته وعلوها وأنه انما يطلب الملك والرياسة ألا ترى النحويين
قد جعلوا قوله ولم أطلب قليلا بالنصب ايجابا وظاهره نفي وانما عرض هذا من
قبل دخول 12ب لو في أول البيت وقد أعلمتك أن ايجابها نفي ونفيها ايجاب
ومن هذا قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لآمن من في
الأرض كلهم جميعا
وأما ورود الواجب بصورة الممكن فكقوله تعالى فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده وقوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وهذا واجب
ثابت وصورته صورة الممكن المشكوك فيه والعرب تفعل هذا تحريرا للمعاني
واحتياطا عليها ومنه قول الشاعر ... لعلي ان مالت بي الريح ميلة ... على
ابن أبي زبان أن يتندما ...
فأخرج كلامه مخرج الممكن وانما يريد أنه يتندم لا محالة
وأما ورود الممتهع بصورة الممكن فكقول امرئ القيس ... وبدلت قرحا داميا بعد صحة ... لعل منايانا تحولن أبؤسا ...وتحول المنايا أبؤسا من الممتنع الذي لا يمكن وقد جعله كما ترى في
صورة الممكن على العلم منه أنه ليس كذلك تعللا بذلك واستراحة
مما كان فيه من عظيم البلاء
ونحوه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه ... وداع دعا يا من يجيب الى الندى
... فلم يستجبه عند ذاك مجيب ...
... فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة ... لعل أبا المغوار منك قريب ...
... يجيبك كما قد كان يفعل انه ... نجيب لأبواب العلاء طلوب ...
وقال النابغة يرثي النعمان ... فان تحي لا أملل حياتي وان تمت ... فما في
حياة بعد موتك طائل
ومن هذا الباب قول الرجل المحرق لبنيه اذا أنا مت فأحرقوني ثم
أذروا رمادي في اليم فلعلي أضل الله فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني
عذابا شديدا ألا ترى أنه أخرج ما قد تحقق انه لا يكون مخرج ما يرجى أن
يكون تعللا بذلك واستراحة اليه كما فعل امرؤ القيس حين اشتد به البلاء في
قوله لعل منايانا تحولن أبؤسا وهو لا يشك في أن هذا الذي رجاه ممتنع ومن
أبين ما في ذلك قول الآخر ... أخادع نفسي بالأماني تعللا ... على العلم
مني أنها ليس تنفع ...
واما قوله فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا شديدا فمعناه فوالله
لئن ضيق 13أ الله علي طرق الخلاص ليعذبني وليس يشك في قدرة الله تعالى ولو شك في قدرة الله لكان كافرا وانما هو كقوله تعالى فظن أن لن نقدر عليه وقوله ومن قدر عليه رزقه أي
ضيق ويجوز أن يكون من القدر الذي هو القضاء فيكون معناه فوالله لئن قدر
الله علي العذاب ليعذبني فحذف المفعول اختصارا كما قال النابغة الجعدي ...
حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا ... كأننا رعن قف يرفع الآلا ...
أراد تعدي فوارسنا الخيل وقد يجوز أن يكون قوله فوالله لئن قدر الله علي
من القدرة على الشيء فان قيل كيف يصح هذا ودخول الشرط عليه قد جعله من حيز الممكن الذي يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون وهذه خاصة الشرط ألا ترى أنك اذا قلت ان جاءني زيد أكرمته فممكن أن يقع ذلك وممكن ألا يقع وهذا شك محض في قدرة الله تعالى فالجواب أن العرب قد تستعمل ان التي للشرط بمعنى اذا كما تستعمل اذا بمعنى ان واذا تقع على الشيء الذي لا يشك في كونه كقولك اذا كان الليل فأتني وكون
الليل لا بد منه وكقوله تعالى اذا السماء انفطرت فمعناه على هذا فوالله
اذا قدر الله علي ليعذبني عذابا شديدا
وانما جاز وقوع ان التي للشرط موقع اذا الزمانية لأن كل واحد منهما يحتاج
الى جواب
والشيئان اذا تضارعا جاز أن يقع كل واحد منهما موقع صاحبه فمما وقعت فيه
ان موقع اذا قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين وقول
النبي عليه السلام حين وقف على القبور انا ان شاء الله بكم لاحقون يريد
اذا شاء الله ومنه قول الشاعر ... فالا يكن جسمي طويلا فإنني ... له
بالفعال الصالحات وصول
معناه فاذا لم يكن جسمي طويلا فإنني أطوله بالأفعال الحسان
ولا يصح الشرط ههنا لأن قصر جسمه شيء قد كان وقع والشرط ههنا محالومثله قول الآخر ... فان أك قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم ...
وأما وقوع اذا بمعنى ان فكقول أوس بن حجر ... اذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل ...
والإعراض عن الخنا ممكن أن يكون وممكن ألا يكون فليس هذا من مواضع اذا وانما هو 13ب من مواضع ان
وأما ورود المدح في صورة الذم فكقولهم أخزاه الله ما أشعره ولعنه الله ما أفصحه وقول كعب بن سعد الغنوي
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤوب ...
وذكر ابن جني أن أعرابيا رأى ثوبا فقال ما له محقه الله قال فقلت له لم
يقول هذا فقال انا اذا استحسنا شيئا دعونا عليه وأصل هذا أنهم يكرهون أن يمدحوا الشيء فيصيبوه بالعين فيعدلون عن مدحه الى ذمهوأما ورود الذم في صورة المدح فكقوله تعالى انك لأنت الحليم الرشيد وقول الشاعر ... وقلت لسيدنا يا حليم ... انك لم تأس أسوا رفيقا ...
وأما التقليل الوارد بصورة التكثير فنحو قولك كم بطل قتل زيد وكم ضيف نزل
عليه وأنت تريد أنه لم يقتل قط بطلا ولا قرى ضيفا قط ولكنك بقصد الإستهزاء به كما تقول للبخيل يا كريم وللأحمق يا عاقلوأما التكثير الوارد بصورة التقليل فنحو قولك رب ثوب حسن
قد لبست ورب رجل عالم قد لقيت فتقلل ما لبست من الثياب ومن لقيت
من العلماء تواضعا ليكون أجل لك في النفوس لأن الرجل اذا حقر نفسه تواضعا
ثم اختبر فوجد أعظم مما وصف به نفسه عظم في النفوس واذا تعاظم وأنزل نفسه
فوق منزلتها ثم اختبر فوجد أقل مما قال استخف به وهان على من كان يعظمه
وقد يستعمل تقليل الشيء وهو كثير في الحقيقة لضروب من الأغراض والمقاصد
كالرجل يهدد صاحبه فيقول لا تعادني فربما ندمت وهذا مكان ينبغي أن تكثر
فيه الندامة وليس بموضع تقليل وانما تأويله أن الندامة على هذا لو كانت
قليلة لوجب أن يتجنب ما يؤدي اليها فكيف وهي كثيرة فصار فيه من معنى
المبالغة ما ليس في التكثير لو وقع ههنا
ومن هذا قوله تعالى ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين
وانما تأتي رب بمعنى التكثير في مواضع الافتخار والوجه في ذلك أن المفتخر
يريد أن الامر الذي يقل وجوده من غيره يكثر وجوده منه فيستعير لفظ التقليل
في موضع لفظ التكثير اشارة الى هذا المعنى وليكون أبلغ في الافتخار
وقد توهم قوم أن رب للتكثير حين خفي عليهم ما ذكرناه 14أ من
تداخل المعاني وهذه غفلة شديدة لأنا نجد المدح يخرج مخرج الذم والذم يخرج
مخرج المدح ولا يخرجهما ذلك عن موضوعهما الذي وضعا عليه في أصل وضعهما كما
أن الاسم العلم الذي وضع في أصل وضعه للخصوص قد يعرض له العموم والنكرة
التي وضعت في أصل وضعها للعموم قد يعرض له الخصوص ولا يبطل ذلك وضعهما
الذي وضعا عليه اولا وانما ذلك لكثرة المعاني وتداخلها واختلاف الأغراض
وتباينها فمتى وجدت شيئا قد خالف أصله فإنما ذلك لسبب وغرض فيجت لك أن
تبحث عليه ولا تتسرع الى بعض الأصول دون تثبت وتأمل
فمن مشكل هذا الباب قول أبي كبير الهذلي ... أزهير ان يشب القذال فإنني
... رب هيضل مرس لففت بهيضل ...
زهير ههنا ترخيم زهيرة وهي ابنته فلذلك فتح الراء ورب ههنا مخففة من رب
وقول أبي عطاء السندي ... فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام
به بعد الوفود وفود ...
والمراد بهذين البيتين التكثير ولكن خرجا مخرج التقليل ليكون أمدح والمعنى
أن هذا لو كان قليلا لكان فيه فخر لصاحبه فما ظنك به وهو كثير ويحتمل قول
أبي عطاء السندي أن يكون أراد تقليل مدة حياة المرثي التي كثرت فيها عليه
الوفود فعلى نحو هذه التأويلات فتأول ما ورد مخالفا للأصول
وملاك هذا الباب معرفة الحقيقة والمجاز وهو باب يدق على من لم يتمهر في
هذه الصناعة فلذلك ينكر كثيرا مما هو صحيح ولله در أبي الطيب المتنبي حيث
يقول ... وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم ... ولكن تأخذ
الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم ...
ومن طريف المجاز العارض من طريق التركيب ايقاعهم أدوات المعاني على السبب
ومرادهم المسبب تارة وتارة يوقعونها على المسبب ومرادهم
السبب وانما يفعلون هذا لتعلق أحدهما بالآخر فمثال الأول قوله
تعالى فلا تموتن الا وأنتم مسلمون فأوقع النهي على الموت في اللفظ والموت
ليس بفعل لهم فيصح نهيهم عنه وانما نهاهم عن مفارقة الإسلام فمعناه لا
تفارقوا الإسلام حتى تموتوا عليه فأوقع النهي على الموت لأنه السبب الذي
من أجل توقعه وخوفه يلزم الإنسان أن يستعد 14ب لوروده ويتأهب له بصالح
عمله والثاني مثل قوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين وليس المراد اثبات
شفاعة غير نافعة لإنه لا شفاعة هناك في الحقيقة بدليل قوله تعالى فما لنا
من شافعين ولا صديق حميم فأوقع النفي على المنفعة التي هي المسبب ومراده
تعالى الشفاعة التي هي السبب فكأنه قال فما تكون شفاعة فتكون منفعة ونحوه
قولك ما نفعني كلام زيد فهذا كلام يحتمل معنيين
أحدهما أن تريد اثبات الكلام ونفي المنفعة وحدها
والثاني أن تريد نفيهما معا أي لم يكن منه كلام فتكون منفعة ومن هذا الباب
قول امرئ القيس
على لاحب لا يهتدى بمناره ...
ولم يرد اثبات المنار ونفي الهداية به ولو كان ثم منار لكانت ثم هداية
وانما المعنى ليس به منار فتكون هدايةومن هذا قول العرب لا أرينك ههنا أي لا تكونن ههنا فإني أراك فالمراد بالنهي الكون لا الرؤية
ونحوه قوله النابغة ... لا أعرفن ربربا حورا مدامعها ... كأن أبكارها نعاج دوار ...
فعلى هذا مخرج هذا الباب والله أعلم
الباب الثالث
في الخلاف العارض من جهة الافراد والتركيب
هذا باب طريف جدا وقد تولدت منه بين الناس أنواع كثيرة من الخلاف وهو باب يحتاج الى تأمل شديد وحذق بوجوه القياس ومعرفة تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض وذلك أنك تجد الآية الواحدة ربما استوفت الغرض المقصود بها من التعبد فلم تحوجك الى غيرها كقوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم و يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله وقوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فان كل واحدة من هذه الآيات قائمة بنفسها مستوفية الغرض المراد منها من التعبد وكذلك الأحاديث الواردة كقوله عليه الصلاة و السلام الزعيم غارم و البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وربما وردت الآية غير مستوفية
للغرض المراد من التعبد وورد تمام الغرض في آية أخرى وكذلك
الحديث كقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد
حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب 15أ فظاهر هذه الآية أن من
أراد حرث الدنيا أوتي منها ونحن نشاهد كثيرا من الناس يحرصون على الدنيا
ولا يؤتون منها شيئا
فهو كلام محتاج الى بيان وايضاح ثم قال في آية أخرى من كان يريد العاجلة
عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد فإذا أضيفت هذه الآية الى الآية الأولى
بان مراد الله تعالى وارتفع الإشكال وكذلك قوله تعالى واذا سألك عبادي عني
فإني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعان ونحن نرى الداعي يدعو فلا يستجاب له
ثم قال في آية أخرى بل اياه تدعون فيكشف ما تدعون اليه ان شاء فدل اشتراط
المشيئة في هذه الآية الثانية على أنه مراد في الآية الأولى
وربما وردت الأية مجملة ثم يفسرها الحديث كالآيات الواردة مجملة في الصلاة
والزكاة والصيام والحج ثم شرحت السنة والآثار جميع
ذلك كقوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل
الله لهن سبيلا ثم قال صلى الله عليه و سلم خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلا البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مئة والرجم
ولأجل هذا صار الفقيه مضطرا في استعمال القياس الى الجمع بين الآيات
المفترقة والأحاديث المتغايرة وبناء بعضها على بعض
ووجه الخلاف العارض من هذا الموضع أنه ربما أخذ بعض الفقهاء بمفرد الآية
وبمفرد الحديث وبنى آخر قياسه على جهة التركيب الذي ذكرنا بأن يأخذ بمجموع
آ يتين أو بمجموع حديثين أو بمجموع آيات أو بمجموع أحاديث فيفضي بهما
الحال الى الاختلاف فيما ينتحلانه وربما أفضت بهما الأمر الى اختلاف
العقائد فقط وربما أفضى بهما الى الاختلاف في الأسباب فقط كاختلافهم في
سبب تحريم الخمر فإن قوما يستدلون على وجوب تحريمها بمجرد قوله تعالى وما
آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوم يستدلون على وجوب تحريمها بمجرد قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا انماالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون الى قوله فهل أنتم منتهون وقوم يرون ذلك بطريق التركيب وبناء الألفاظ 15ب بعضها على بعض وذلك أنه لما قال تبارك وتعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس ثم قال في آية أخرى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والأثم تركب من نجموع الآيتين قياس أنتج تحريم الخمر وهو أن يقال كل إثم حرام والخمر إثم فالخمر إذن حرام والإثم من أسماء الخمر وأنشد اللغويون ... شربت الإثم حتى زال عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
ومثل هذا قوله تعالى فيما حكاه عن قوم لوط أتأتون الفاحشه ما
سبقكم بها من أحد من العالمين ثم قال في هذه الآية التي ذكرناها قل انما
حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن فتركب من مجموع الآيتين قياس وهو كل
فاحشة حرام وفعل قوم لوط فاحشة ففعل قوم لوط اذا حرام فعلى مثل هذا أنتجت
النتائج وركبت القياسات
ووقع بين أصحاب القياس الخلاف بحسب تقدم القياس أو بحسب تأخره
وخالفهم قوم آخرون لم يروا القياس ورأوا الأخذ بظاهر الألفاظ فنشأ من ذلك
نوع آخر من الخلاف
ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به ولم
يتصل به سواه ما روي عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال قدمت مكة فألفيت فيها
أبا حنيفة فقلت له ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا فقال البيع باطل
والشرط باطل فأتيت ابن أبي
ليلى فسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط باطل فأتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت في نفسي يا سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة فعدت الى أبي حنيفة فأخبرته بما قال صاحباه فقال ما أدري ما قالا لك حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع وشرط فالبيع باطل والشرط باطل فعدت الى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه فقال ما أدري ما قالا لك حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أشتري بريرة فأعتقها البيع جائز والشرط باطل قال فعدت الى ابن شبرمة فأخبرته بما قال 16أ صاحباه فقال ما أدري ما قالا لك حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر قال بعت النبي صلى الله عليه و سلم بعيرا وشرط لي حملانه الى المدينة البيع جائز والشرط جائز
وقد ترد الآية والحديث بلفظ مشترك يحتمل تأويلات كثيرة ثم ترد آية اخرى أو حديث آخر بتخصيص ذلك اللفظ المشترك وقصره على بعض تلك المعاني دون بعض كقوله عز من قائل ووجدك ضالا فهدى فإن لفظة الضلال لما كانت مشتركة تقع على معان كثيرة توهم قوم ممن لم يكن له فهم صحيح بالقرآن ولا معرفة ثاقبة باللسان أنه أراد الضلال الذي هو ضد الهدى فزعموا أنه كان على مذهب قوله أربعين سنة وهذا خطأ فاحش نعوذ بالله من اعتقاده فيمن طهره الله تعالى لنبوته وارتضاه لرسالته ولو لم يكن في القرآن العزيز ما يرد قولهم لكان فيما ورد من الأخبار المتواترة ما يرد عليهم ذلك لأنه قد روي أنهم كانوا يسمونه في الجاهلية الأمين وكانوا يرتضونه حكما لهم وعليهم وكانت عندهم أخبار كثيرة يروونها وانذارات من أهل الكتاب والكهان بأنه يكون نبيا ولولا أن كتابنا هذا ليس موضوعا لها لاقتصصناها فيكف والقرآن العزيز قد كفانا هذا كله بقوله عز و جل في سورة يوسف عليه السلام نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين فهذا نص جلي في شرح ما وقع في تلك الآية من الإبهام وبين أيضا أنه تعالى انما أراد الضلال
الذي هو الغفلة كما قال في موضع آخر لا يضل ربي ولا ينسى أي لا
يغفل وقال تعالى أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى أي تغفل وتنسى وقالت
الصوفية معناه ووجدك محبا في الهدى فهداك فتأولوا الضلال هنا بمعنى المحبة
وهذا قول حسن جدا وله شاهد من القرآن واللغة
أما شاهده من القرآن فقوله تعالى فيما حكاه من قول اخوة يوسف لأبيهم تالله
انك لفي ضلالك القديم انما أرادوا بالضلال هنا افراط محبته في يوسف عليه
السلام وعلى جميعهم وأما شاهده من اللغة فانه جائز في مذاهب العرب أن تسمى
المحبة ضلالا لأن افراط المحبة يشغل المحب عن كل غرض ويحمله على النسيان
والإغفال لكل واجب مفترض ولذلك قيل الهوى يعمي ويصم فسميت
المحبة ضلالا اذ كانت 16ب سبب الضلال على مذاهبهم في تسمية
الشيء باسم الشيء اذا كان منه بسبب
ومن هذا الباب قوله سبحانه وتعالى في سورة نوح عليه السلام أن اعبدوا الله
واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى أجل مسمى والأجل قد علمنا
أنه لا تأخير فيه وقد بين ذلك بقوله في عقب الآية ان أجل الله اذا جاء لا
يؤخر وقال في موضع آخر فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون فوجب
أن ينظر في معنى هذا التأخير ما هو ثم وجدنا هذه الآية المبهمة المجملة قد
شرحتها آية واضحة مفصلة كفتنا التأويل ولم تحوجنا الى طلب الدليل وهي قوله
تعالى في أول سورة هود عليه السلام وأن استغفروا ربكم ثم توبوا اليه
يمتعكم متاعا حسنا الى أجل مسمى فدلت هذه الآية على أنه انما أراد بتأخير
الأجل التمتيع الحسن لأن التمتيع الحسن يجتمع فيه الغنى والسلامة
من الآفات والعز والذكر الحسن والعرب تسمي هذه الأشياء كلها
زيادة في العمر وتسمي أضدادها وخلافها نقصانا من العمر وقد جاء في بعض
الحديث أن موسى عليه السلام شكا الى الله تعالى بعدو له فأوحى الله تعالى
اليه أني سأميته فلما كان بعد زمن رآه فقيرا ينسج الحصير فقال يا رب ألم
تعدني أن تميته فقال أو ليس قد أفقرته
وقد تعين علينا في هذا الموضع أن نذكر على كم معنى يتصرف الحياة والموت في
اللسان العربي ليتبين ما ذكرناه بشواهده حتى لا يبقى فيه لطاعن مطعن بحول
الله تعالى
اعلم أن الحياة والموت لفظتان مشتركتان مستعملتان في اللغة العربية على
ثلاثة عشر وجها أحدها الوجود والعدم والثاني مقارنة النفس الحيوانية
الأجسام ومفارقتها اياها والثالث العز والذل والرابع الغنى والفقر والخامس
الهدى والضلال والسادس الجهل والعلم والسابع الحركة والسكون والثامن الخصب
والجدب والتاسع اليقظة والنوم والعاشر اشتعال النار وخمودها والحادي عشر
المحبة والبغضاء والثاني عشر الرطوبة اليبس والثالث عشر الرجاء والخوف17أ
ونحن نورد على كل وجه من هذه الوجوه أمثلة تشهد بصحة ما قلناه ان شاء الله
تعالى
أما الحياة والموت المراد بهما مقارنة النفوس للأجسام ومفارقتها
اياها فشهرتهما تغني عن ايراد مثال لهما
أما الوجود والعدم فكقولهم للشمس ما دامت موجودة حية فاذا عدمت سموها ميتة
قال ذو الرمة ... فلما رأين الليل والشمس حية ... حياة الذي يقضي حشاشة
نازع ...
شبه الشمس عند غروبها بالحي الذي يجود بنفسه عند الموت وهو من التشبيه
البديعوقال آخر ... اذا شئت أداني صروم مشيع ... معي وعقام تتقي الفحل مقلت ...
... يطوف بها من جانبيها ويتقي ... بها الشمس حي في الأكارع ميت ...
يريد ظلها في نصف النهار أراد أنه موجود في الأكارع معدوم من سائر الجسم
وأما العز والذل والغنى والفقر فنحو ما قدمناه من حديث
موسى عليه السلام ونحو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
من قوله من سره النسأ في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه ومنه قول
الشاعر ... ليس من مات فاستراح بميت ... انما الميت ميت الأحياء ...
... انما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء ...
وقال آخر ... فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعالنا ان الثناء هو الخلد
...
وقال آخر ... وكان أبو عمرو معارا حياته ... بعمرو فلما مات مات أبو عمرو
...
يقول كان ابنه عمرو يحيي ذكره فكأنه حي فلما مات انقطع ذكره فكأنه انما
مات حينئذ
وأما ما يراد به الهدى والضلال والعلم والجهل فكقوله تعالى يا
أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم وقوله عز و
جل أو من كان ميتا فأحييناه المعنى أو من كان صالا فهديناه وجاهلا فعلمناه
وتقول العرب للذكي النبيه حي وللبليد الغبي ميت
وقال لقمان لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي
القلب الميت بالكلمة من الحكمة يسمعها كما يحيي الأرض بالمطر
واما 17ب الحياة والموت المراد بهما الحركة والسكون فنحو قول الراجز ...
قد كنت أرجو أن تموت الريح ... فأرقد اليوم وأستريح ...
فجعل هبوب كالريح حياة وسكونها موتا
وقال المجنون ... يموت الهوى مني اذا لقيتها ... ويحيا اذا
فارقتها فيعود ...
وقال آخر ... ومجلودة بالسوط فيه حياتها ... فان زال عنها الجلد بالسوط
ماتت ...
يعني الدوامة
وأما ما يراد به الخصب والجدب فإن العرب تقول أتيت الأرص فأحييتها اذا وجدتها مخصبة ويقال أرض حية أي بالهاء وأرض ميت أي بغير هاء قال الله تعالى وأحيينا به بلدة ميتا وقال الراجز ... أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد الحية المغله ...قال بعض أصحاب المعاني أراد بالحية الأرض المخصبة والمغلة ذات الغلة ويشهد لهذا التأويل رواية من روى الجنة بالجيم والنون وقال آخرون انما أراد الحية نفسها والمغلة ذات الغل والحقد
وشبه تلوي السيل وانعطافه في جريه بتلوي الحية وانعطافها اذا
مشت وهذا نحو قول ابن الرومي ... بين حفافي جدول مسحور ... كالسيف أو
كالحية المذعور ...
الحفافان الناحيتان
وأما اليقظة والنوم فكقول الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فسمي النوم وفاة وسأل رجل ابن سيرين عن رجل غاب عن مجلسه فقال له أما علمت أنه توفي البارحة فلما رأى جزع السائل قرأ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامهاوقال الشاعر ... نموت ونحيا كل يوم وليلة ... ولا بد نوما أن نموت ولا نحيا
وأما اشتعال النار وخمودها فمشهور متعارف أيضا
فمنه قول ذي الرمة ... فقلت له ارفعها اليك وأحيها ... بروحك واقتته لها
قيتة قدرا ...
يصف نارا اقتدحها
وقال آخر في مثله ... وزهراء ان كفنتها فهو عيشها ... وان لم أكفنها فموت معجل ...يعني بالزهراء الشررة الساقطة من الزند عند الاقتداح يقول ان بادرت اليها تعند سقولها من الزند فلففتها في خرقة حييت وان تركتها ماتت وطفئت
وأما الحياة والموت المستعملان بمعنى المحبة والبغضاء فكقول الشاعر 18أ ... أبلغ أبا مالك عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
أي اذا تعاتبوا حييت المودة بينهم واذا تركوا العتاب ماتت
المودة
أي ذهبت وانقطعت وصاروا الى البغضاء والتهاجر
وأما الرطوبة واليبس فكنحو ما ذهب اليه السدي في قوله تعالى يخرج الحي من
الميت ويخرج الميت من الحي قال معناه يخرج السنبلة الخضراء من الحبة
اليابسة ويخرج الحبة اليابسة من السنبلة الخضراء وهذا راجع الى معنى الخصب
والجدب من بعض وجوهه وكقول ابن ميادة ... سحائب لا من صيف ذي صواعق ...
ولا مخرفات ماؤهن حميم ...
... اذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم ...
وأمات الرجاء والخوف فلا أذكر عليهما شاهدا غير قول أبي الطيب
تركتني اليوم في خجلة ... أموت مرارا وأحيا مرارا ...
فهذه الحياة والموت في كلام العرب قد استوفينا أقسامها لما جرى من ذكر
الآية المتقدمة
ثم نرجع الى ما كنا فيه فنقول ان من طريف هذا الباب أنه قد تتولد منه
مقالتان متضادتان كلاهما غلط وخطأ ويكون الصواب والحق في مقالة ثالثة
متوسطة بينهما ترتفع عن حد التقصير وتنحط عن حد الغلو والإقراط
واذا تأملت المقالات التي شجرت بين أهل ملتنا في الاعتقادات رأيت أكثرها
على هذا الصفة وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك بقوله دين
الله بين الغالي والمقصر فهذا تصريح منه بهذا الذي ذكرنا وتحذير منه وقال
أيضا خير الأمور أوساطها وقال رجل
للحسن البصري رحمه الله علمني دينا وسوطا لا ساقطا سقوطا ولا
ذاهبا فروطا فقال أحسنت خير الأمور أوساطها
وهذا نوع يطول فيه الكلام ان ذهبنا الى تتبعه ولكنا نذكر منه شيئا يستدل
به على غيره
فمن ذلك أن قوما لما خطر ببالهم أمر القدر والقضاء وأحبوا الوقوف على
حقيقة ما ينبغي أن يعتقد من ذلك تأملوا القرآن العزيز والحديث المأثور
فوجدوا فيهما أشياء ظاهرها الإجبار 18ب والإكراه كقوله تعالى ولو شاء الله
لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين وقوله ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وقوله بل طبع الله عليها بكفرهم في آيات كثيرة
غير هذه ووجدوا في الحديث المأثور أيضا نحو ذلك كقوله صلى الله عليه و سلم
السعيد من سعد في بكن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
فبنوا من هذا النوع من الآيات والأحاديث مقالة أصلوها على أن
العبد مجبر ليس له شيء من الاستطاعة وصرحوا بأن من اعتقد غير هذا فقد كفر
وخطر ببال آخرين مثل ذلك ورأوا مذهب هؤلاء فلم يرتضوه معتقدا لأنفسهم
فتصفحوا القرآن والحديث فوجدوا فيهما آيات أخر وأحاديث ظاهرها يوهم أن
العبد مستطيع مفوض اليه أمره يفعل ما يشاء كقوله تعالى ولا يرضى لعباده
الكفر وقوله وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقوله انا
هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا وقوله عليه السلام كل مولود يولد على
الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وقوله
يقول الله تعالى
خلقت عبادي حنفاء كلهم فأجالتهم الشياطين عن دينهم فبنوا من هذا
النوع من الآيات والأحاديث مقالة ثانية مناقضة للمقالة الأولى أصلوها على
أن العبد مخير مفوض اليه أمره يفعل ما يشاء ويستطيع على ما لا يريد ربه
تعالى الله عما يقوله الجاهلون علوا كبيرا
ثم عمدت كل فرقة من هاتين الفرقتين الى ما خالف مذهبها من الآيات
والأحاديث فطلبت له التأويل البعيد وردوا ما أمكنهم رده من الأحاديث
المناقضة لمذهبهم وان كان صحيحا كمن يروم ستر ضوء النهار ويؤسس بنيانه على
شفا جرف هار
ولما تأملت طائفة ثالثة مقالتي الفريقين معا لم يرتضوا بواحدة منهما
معتقدا لأنفسهم ورأوا أنهما جميعا خطأ لأن المقالة الأولى تجوير للباري
تعالى وإبطال للتكليف والتكليف والمقالةالثانية تجهيل للباري تعالى بأمر
خلقو وتعجيز له عن تمام مشيئته فيهم وكلا الصفتين 19أ لا يليق بمن قد وصف
نفسه بأنه أحكم الحاكمين وأقدر القادرين ووصف نفسه جل جلاله بقوله وما
تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا في
كتاب مبين
ورأوا أن الأخذ بالآيات والأحاديث ليس بأولى من الأخذ بالأيات
والأحاديث الأخر وأن الحق انما هو في واسطة تنتظم الطرفين وتسلم من شياعة
المذهبين واعتبروا القرآن والحديث ببصائر أصح من بصائر الفريقين فوجدوا
آيات وأحاديث تجمع شتيت المقالتين وتخبر بغلط الفريقين كقوله تعالى ولولا
أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا وقوله في سورة يوسف عليه السلام
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وقوله وما تشاؤون الا أن يشاء
الله فأثبت للعبد مشيئة لا تتم له الا بمشيئة ربه عز و جل ووجدوا الأمة
مجمعة على قولهم لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وفي هذا اثبات حول
وقوة للعبد لا يتمان الا بمعونة الله سبحانه اياه ووجدوا الأمة مجمعة على
الرغبة الى الله في العصمة والاستعاذة به من الخذلان بقولهم اللهم لا
تكلنا الى أنفسنا فنعجز ولا الى الناس فنضيع
ورأوا الله تعالى قد أثبت لنفسه في محكم وحيه علم غيب وعلم شهادة
بقوله عالم الغيب والشهادة فعلمه الغيب علمه الأشياء قبل كونها وعلمه الشهادة علمه بالأشياء وقت كونها واعتبروا أحوال الانسان التي وقع فيها التكليف وأحواله التي لم يقع فيها تكليف فوجدوا الله تعالى لم يأمره بألا يسمع ولا يبصر ولا يأكل ولا يشرب على الاطلاق انما أمره بأن يستعمل الآلة التي يسمع بها ويبصر بها ويأكل ويشرب في بعض الأشياء ولا يستعملها في بعض فوجب أن يكون بين الأمرين فرق ولا فرق ههنا الا أنه مكن من أحد الأمرين وجعلت له استطاعة علية ولم يمكن من ألآخر وكذلك رأوا حركة يدالمفلوج تخالف حركة يد الصحيح فثبت أن بينهما فرقا ولا فرق الا وجود الاستطاعة في احداها دون الأخرى ووجدوا مع هذا أحاديث تؤيد بطلان قول الفريقين معا وتدل على أن الحق متوسط بين غلو أحد الفريقين وتقصير الآخر كنحو ما نروي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن رجلا قال له هل العباد مجبرون فقال الله أعدل من أن يجبر عبده 19ب على معصيته ثم يعذبه عليها فقال له السائل فهل أمرهم مفوض اليهم فقال الله أعز من أن يجوز في ملكه ما لا يريد فقال له السائل فكيف ذلك اذا قال أمر بين الأمرين لا جبر ولا تفويض
وكنحو ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما انصرف من
صفين قام اليه شيخ فقال يا أمير المؤمنين أرأيت مسيرنا الى صفين أبقضاء
وقدر فقال علي رضي الله عنه والله ما علونا جبلا ولا هبطنا واديا ولا
خطونا خطوة الا بقضاء وقدر فقال الشيخ فعند الله أحتسب عنائي اذن ما لي من
أجر فقال له علي رحمه الله مه يا شيخ فإن هذا قول أولياء الشيطان وخصماء
الرحمن قدرية هذه الأمة ان الله أمر تخييرا ونهى تحذيرا لم يعص مغلوبا ولم
يطع مكرها فضحك الشيخ ونهض مسرورا ثم قال ... أنت الامام الذي نرجو بطاعته
... يوم القيامة من ذي العرش رضوانا ...
... أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا ... جزاك ربك عنا فيه احسانا ...
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه نحو مقالة جعفر
فلما وجدوا جميع هذا الذي ذكرناه جمعوا الآيات والأحاديث وبنوا بعضها على
بعض فأنتج لهم من مجموعها مقالة ثالثة سليمة من شناعة المقالتين منتظمة
لكل واحد من الطرفين ارتفعت عن تقصير الجبرية وانحطت عن غلو القدرية
فوافقت قوله صلى الله عليه و سلم دين الله بين الغالي والمقصر بنوا
تفريعها على أصل وجملة الغرض منه أن لله تعالى علم غيب سبق بكل ما هو كائن
قبل كونه ثم خلق الإنسان فجعل له عقلا
يرشده واستطاعة يصح بها تكليفه ثم طوى علمه السابق عن خلقه
وأمرهم ونهاهم وأوجب عليهم الحجة من جهة الأمر والنهي الواقعين عليهم لا
من جهة علمه السابق فيهم فهم يتصرفون بين مطيع وعاص وكلهم لا يعدو علم
الله السابق فيه
فمن علم الله تعالى منه أنه يختار الطاعة فلا يجوز أن يختار المعصية ومن
علم أنه يختار المعصية فلا يجوز أن يختار الطاعة ولو جاز ذلك لم يكن علم
الله تعالى موصوفا بالكمال ولكان كعلم المخلوق الذي يمكن أن يقع الأمر كما
علم ويمكن أن يقع بخلاف ما علم وليس في علم الله الأمور قبل وقوعها اجبار
على ما توهمه 20أ المجبرون ولا تتم لأحد استطاعة على ما يهم به من الأمور
الا بأن يعينه الله تعالى عليه أو يكله الى حوله ويسلمه اليه فان عصمه
الله مما يهم به من المعصية كان فضلا وان وكله الى نفسه كان عدلا
فاذا اعتبرت حال العبد من جهة الأضافة الى علم الله السابق فيه الذي لا
يعدوه وجد في صورة المجبر واذا اعتبرت حاله من جهة الاضافة الى الاستطاعة
المخلوقة له والأمر والنهي الواقعين عليه وجد في صورة المفوض اليه
وليس هناك اجبار مطلق ولا تفويض مطلق انما هو أمر بين أمرين يدق
عن أفكار المعتبرين ويحير أذهان المتأملين
وهذا هو معنى ما أشار اليه حذاق أهل السنة رحمهم الله بقولهم ان العبد لا
مطلق ولا موثق
فما ورد من الآيات والأحاديث التي ظاهرهاالاجبار فهو مصروف الى أحد ثلاثة
أشياء
اما الى العلم السابق الذي لا مخرج للعبد منه ولا يمكنه أن يتخير غيره
واما الى فعل فعله الله تعالى به على جهة العقاب كقوله بل طبع الله عليها
بكفرهم واما الى الإخبار عن قدرته تعالى على ما يشاء كقوله تعالى ولو شاء
الله لجمعهم على الهدى
وما ورد من الآيات والأحاديث ظاهره التفويض فهو مصروف الى الأمر والنهي
الواقعين عليه وانما غلطت القدرية في هذا لأنهم لا يثبتون لله تعالى علما
سابقا بالأمور قبل وقوعها وعلم الله عندهم محدث تعالى الله عما يقوله
الجاهلون علوا كبيرا فاعتبروا حال العبد من جهة الأمر والنهي والإستطاعة
المركبة فيه لا من جهة العلم السابق
وغلطت الجبرية لأنهم اعتبروا حال العبد من جهة علم الله السابق
فيه لا من جهة الأمر والنهي الواقعين عليه وظنوا أن علم الله تعالى بجميع
ما يفعله العبد قبل فعله اياه اجبار منه له على الفعل وكلا القولين غلط
لأنهم أخذوا بالطرف الواحد وتركوا الطرف الآخر فكان المذهب أحسن المذاهب
لمن آثر الخلاص والسلامة
ورأى المشيخة وجلة العلماء الوقف عن الكلام في ذلك والخوض فيه لقوله صلى
الله عليه و سلم اذا ذكر القضاء فأمسكوا ولم يكن نهيه صلى الله عليه و سلم
ونهي العلماء عن الكلام في ذلك من أجل أن هذا أمر لا تمكن معرفةالحقيقة
منه وانما كان من أجل دقته وخفائه وأنه أمر الخطأ فيه أكثر من الاصابة
فأنت ترى القدرية والجبرية الى يومنا هذا يختصمون فيه وناقض بعضهم بعضا
ولا يصلون منه الى شفاء نفس وكل فرقة من الفريقين يفضي مذهبها الى شناعة
اذا ألزمتها فرت عنها
وكلا الطائفتين قد أخطأت في التأويل وضلت عن نهج السبيل ووصفت الله تعالى
بصفات لا تليق به عند ذوي العقول
وهذه أعزك الله جملة قليلة تفصيلها كثير وهو باب ضيق المجال جدا والخائض
فيه تسبق اليه الظنة بغير ما يقتقده فلذلك نتحامى الكلام فيه بأكثر مما
نبهنا عليه مع أنا لم نضع كتابنا هذا للخوض في المقالات انما وضعناه 20ب
لنبين المواضع التي نشأ منها الخلاف
لكنا نقول ينبغي لمن طلب هذا الشأن ولم يقنعه ما رآه العلماء
وأمروا به من ترك الخوض فيه أن يراعي أصلين فان صحا له من
معتقده فليعلم أنه قد أصاب فص الحق وان أخطأهما أو واحدا منهما فليعلم أنه
قد غلط فليراجع النظر
أحدهما أنه لا فاعل على الحقيقة الا الله تعالى وان كل فاعل غيره انما
يفعل بمعونة من عنده ومادة يمده بها من فيضه وحوله ولو وكله الى نفسه لما
كان له فعل البتة
والثاني أن أفعال الباري عز و جل كلها حكمة محضة لا عبث فيها وعدل محض لا
جور فيه وحسن محض لا قبح فيه وخير محض لا شر فيه وأن هذه الأشياء انما
تعرض في أفعالنا اما لوقوع الأمر والنهي علينا واما لما ركز في خلقتنا من
القوة العقلية التي ترينا بعض الأشياء حسنا وبعضها قبيحا وكلا الصفتين لا
يوصف بهما الباري سبحانه وتعالى لأنه لا آمر فوقه ولا ناهي وهو خالق العقل
وموجده
وجملة ذلك أنه لا يشبه شيئا من المخلوقات في جهة من الجهات فكل قول أداك
الى تشبيهه بخلقه في ذات أو فعل فارفضه رفض النواة وانبذه نبذ القذاة
واعلم أن الحق في غيره فابحث عليه حتى تظفر به وان لم يتفق لك فهم الغرض
منه والمراد فاشدد يدك بعروة هذا الإعتقاد ولا تتهم بارئك في حكمته ولا
تنازعه في قدرته واعلم بأنه غني عنك وأنت
مفتقر اليه ووارد بما تزودت من عملك عليه تبارك المنفرد بأقضيته وأحكامه الذي لا ينازع في نقضه وابرامه ولا يمتري العاقلون في عدله ولا ييأس المذنبون من عفوه وفضله لا رب سواه ولا معبود حاشاه
الباب الرابع
في الخلاف العارض من جهة العموم والخصوص
هذا الباب نوعان
أحدهما يعرض في موضوع اللفظة المفردة
والثاني يعرض في التركيب
فأما الذي يعرض في موضوع اللفظة المفردة فنحو الإنسان فإنه يستعمل عموما
وخصوصا
أما العموم فكقوله تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم 21أ وقوله ان
الإنسان لفي خسر ويدل على أنه لفظ عام لا يخص واحدا دون آخر قوله الا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات فاستثنى منه ولا يستثنى الا من جملة ونحو هذا
قول العرب أهلك الناس الدينار والدرهم وقولهم الملك أفضل من الإنسان
والانسان متعبد دون سائر الحيوان
والخصوص نحو قولهم جاءني الانسان الذي تعلم ولقيت الرجل الذي كلمك وقوله
شربت الماء وأكلت الخبز ولم يشرب جميع
الماء ولا أكل جميع الخبز وهذا كثير مشهور تغني شهرته عن
الإكثار منه
وقد يأتي من هذا الباب في القرآن العظيم والحديث أشياء يتفق الجميع على
عمومها أو على خصوصها وأشياء يقع فيها الخلاف
فمن العموم الذي لم يختلف فيه قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم و يا
أيها الناس ان وعد الله حق وقول النبي صلى الله عليه و سلم الزعيم عارم
والبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ونحو ذلك كثير
ومن الخصوص الذي لم يختلف فيه قوله تعالى الذين قال لهم الناس ان الناس قد
جمعوا لكم فاخشوهم وهذا القول لم يقله جميع الناس وانما قاله رجل واحد وهو
نعيم بن مسعود ولا جمع لهم جميع الناس وانما جمع لهم جزء منهم
ومما وقع فيه الخلاف فاحتاج الى فضل نظر قوله تعالى ان تبدوا ما
في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
قال قوم ان هذه الآية نزلت عموما ثم خصصت بقوله صلى الله عليه و سلم صفح
لأمتي عما حدثت به نفوسها ما لم تكلم به أو تعمل وروي عن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت هي خصوص في الكافر يحاسبه الله بما أسر وأعلن والقول الأول
أصح وأوضح لقوله تعالى باثر ذلك فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولا خلاف في
أن الكافر معذب غير مغفور له فدل على أن الخطاب وقع عموما لا خصوصا ثم خصص
بما ذكرناه
ومن ذلك قوله تعالى كل له قانتون قال قوم هذا خصوص في أهل الطاعة واحتجوا
بأن كلا وان كانت في غالب امرها للعموم فإنها قد تأتي للخصوص كقوله تعالى
اني وجدت امرأة
تملكهم وأوتيت من كل شيء 21ب وقوله ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها ثم قال فأصبحوا لا يرى الا مساكنهم وقال آخرون هي عموم واختلف القائلون بالعموم فقال قوم أراد أنهم مطيعون له يوم القيامة وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال آخرون مطيعون في الدنيا واختلف القائلون بالطاعة في الدنيا فقال بعضهم طاعة الكافر سجود ظله لله عز و جل واحتجوا بقوله تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال وقال آخرون معناه أن كل ما خلق الله تعالى ففيه أثر الصنعة قائم وميسم العبودية شاهد أن له خالقا حكيما لأن أصل القنوت في اللغة القيام ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم وقد سئل أي الصلاة أفضل فقال طول القنوت فالخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم قائمون بالعبودية اما اقرارا بألسنتهم واما بأثر الصنعة البينة فيهم
ومن هذا الباب قوله تعالى لا اكراه في الدين قال قوم هذا خصوص
في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام اذا أدواالجزية وهو قول الشعبي
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يراه أيضا خصوصا وفسره فقال معناه أن المرأة
من الأنصار كانت لا يعيش لها ولد فتنذر على نفسها لئن عاش لتهودنه فلما
أجلي بنو النضير اذا فيهم ناس من أبناء الأنصار فقالت الأنصار يا رسول
الله أبناؤنا فأنزل الله تعالى هذه الآية
وقال قوم هي عموم ثم نسخت بقوله عز و جل جاهد الكفار والمنافقين
ومن هذا الباب قوله تعالى علم الإنسان ما لم يعلم
فذهب قوم الى أنه خصوص واختلفوا في حقيقة ذلك فقال بعضهم أراد
آدم عليه السلام واحتجوا بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها
وقال بعضهم أراد محمدا صلى الله عليه و سلم واحتجوا بقوله تعالى وعلمك ما
لم تكن تعلم
وقال آخرون هي عموم في جميع الناس وهذا هو الصحيح وما تقدم لا يقوم عليه
دليل
ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل
في سبعة أمعاء قال قوم هذا خصوص في جهجاه الغفاري وردعلى النبي صلى الله
عليه و سلم يريد الاسلام فحلبت له سبع شياه فشرب لبنها ثم أسلم فحلبت له
شاة واحدة فكفته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال هذه المقالة
فقال 22أ قوم أنه عموم في كل كافر واختلفوا في حقيقة معناه
فقال قوم معناه أن المؤمن يسمي الله تعالى على طعامه فتكون فيه
البركة والكافر بخلاف ذلك
وقال آخرون انما ضرب هذا مثلا للزهادة في الدنيا والحرص عليها فجعل المؤمن
لقناعته باليسير من الدنيا كالآكل في معى واحد والكافر لشدة رغبته في
الدنيا كالآكل في سبعة أمعاء
وهذا القول أصح الأقوال ويشهد لصحته ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج
الله لكم من بركات الأرض فقال له رجل يا رسول الله هل يأتي الخير بالشر
فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننا أنه يوحى اليه ثم مسح العرق
عن جبينه وقال أين السائل فقال ها أنا ذا يا رسول الله فقال ان الخير لا
يأتي الا بالخير ثلاثا ولكن هذا المال خضرة حلوة وان مما ينبت الربيع ما
يقتل حبطا أو يلم الا آكلة الخضر تأكل حتى اذا امتلأت خاصرتاها استقبلت
الشمس فبالت وثلطت ثم عادت فأكلت ان هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه
ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه ووضعه في غير حقه كان
كالذي يأكل ولا يشبع
ونحو من هذا أيضا قول أبي ذر رحمه الله تخضمون ونقضم والموعد
الله
والخضم الأكل بالفم كله فضربه مثلا للرغبة في الدنيا والقضم الأكل بأطراف
الأسنان فضربه مثلا للقناعة ونيل البلغة من العيش
وقيل الخضم أكل الرطب والقضم أكل اليابس وهو نحو المعنى الأول
وقد يأتي من هذا الباب ما موضوعه في اللغة على العموم ثم تخصصه الشريعة
كالمتعة فإنها عند العرب اسم لكل شيء استمتع به لا يخص به شيء دون آخر ثم
نقلت عن ذلك واستعملت في الشريعة على ضربين
أحدهما في المتعة التي كانت مباحة في أول الأسلام ثم نهي عنها ونسخت
بالنكاح والولي
والثاني ما تمتع به المرأة من مهرها كقوله تعالى ومتعوهن على الموسع قدره
وعلى المقتر قدره ولأجل هذا الذي ذكرناه وقع الخلاف في قوله تعالى فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة
فكان ابن عباس يذهب بمعناه الى المتعة الأولى وذهب جماعة
الفقهاء الى أن المتعة الأولى منسوخة وأن هذه الآية كالتي من البقرة وأن
معنى قوله 22ب فآتوهن أجورهن انما أراد المهر
والدليل على صحة قول الجماعة قوله فانكحوهن بإذن أهلهن فهذا المهر بإجماع
الباب الخامس
في الخلاف العارض من جهة الرواية
هذا الباب لا تتم الفائدة التي قصدناها منه الا بمعرفة العلل
التي تعرض للحديث فتحيل معناه فربما أوهمت فيه معارضة بعضه لبعض وربما
ولدت فيه اشكالا يحوج العلماء الى طلب التأويل البعيد
ونحن نذكر العلل كم هي ونذكر من كل نوع منها مثالا أو أمثلة يستدل بها على
غيرها ان شان الله تعالى
اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن أصحابه
والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم تعرض له ثماني علل
أولاها فساد الإسناد
والثانية من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظة
والثالثة من جهة الجهل بالإعراب
والرابعة من جهة التصحيف
والخامسة من جهة اسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى الا به
والسادسة أن ينقل المحدث الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له أو بساط الأمر
الذي جر ذكره
والسابعة أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه
والثامنة نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ
العلة الأولى وهي فساد الاسناد وهذه العلة أشهر العلل عند الناس
حتى ان كثيرا منهم يتوهم أنه اذا صح الإسناد صح الحديث وليس كذلك فانه قد
يتفق أن يكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة معروفين بصحة الدين والأمانة
غير مطعون عليهم ولا مستراب بنقلهم وتعرض مع ذلك لأحاديثهم أعراض على وجوه
شتى من غير قصد منهم الى ذلك على ما تراه في بقية هذا الباب ان شاء الله
سبحانه وتعالى
والإسناد يعرض له الفساد من أوجه
منها الإرسال وعدم الإتصال
ومنهاأن يكون بعض رواته صاحب بدعة أو متهما بكذب وقلة ثقة أو مشهورا ببله
وغفلة أو يكون متعصبا لبعض الصحابة منحرفا عن بعضهم فإن من كان مشهورا
بالتعصب ثم روى حديثا في تفضيل من يتعصب له ولم يرد من غير طريقه لزم أن
يستراب به وذلك أن افراط عصبية الانسان لمن يتعصب له وشدة محبته 23أ يحمله
على افتعال الحديث وان لم يفتعله بدله وغير بعض حروفه كنحو ما
فعلت الشيعة فإنهم رووا أحاديث كثيرة في تفضيل على رضي الله عنه
ووجوب الخلافة له ينكرها أهل السنة مثل روايتهم أن نجما سقط على عهد رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال انظروا ففي منزل من وقع فهو الخليفة بعدي
فنظروا فإذا هو قد سقط في دار علي فأكثر الناس في ذلك الكلام فأنزل الله
تعالى والنجم اذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فهذا حديث لا يشك ذو لب في أنه
مصنوع مركب على الآية
وكالذي فعلت المعتزلة فانهم تجاوزوا تغيير الحديث الى أن راموا تغيير
القرآن فلم يصح لهم ذلك في القرآن لإجماع الأمة عليه وصح في كثير من
الحديث فغيروا في المصحف مواضع كثيرة كقراءتهم من شر ما
خلق بالتنوين وقراءتهم قال عذابي أصيب به من أساء بسين غير معجمة وفتح الهمزة وقالوا في قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ان معناه دفعنا وأنشدوا قول المثقب
تقول اذا ذرأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني ...
وليس كما زعموا انما يقال في الدفع درأت بدال غير معجمة وكذلك روي بيت
المثقب بدال غير معجمة وانما ذرأنا بالذال معجمة بمعنى خلقناوقد روي عن بعضهم أنه قرأ ولقد درأنا بالدال غير معجمة
ومما يبعث على الإسترابة بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الإتصال بالملوك ونيل المكانة والحظوة عندهم عندهم فان من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغيير والتبديل والإفتعال للحديث والكذب حرصا على مكسب يحصل عليه ألا ترى الى قول القائل ... ولست وان قربت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب ...
... ويعتده قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذال ديني ومنصبي ...
وقد نبه رسول الله صلى الله عليه و سلم على نحو هذا الذي ذكرناه بقوله ان الأحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الأنبياء قبلي فما جاءكم عني
فأعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فهو عني قلته
أو لم لم أقله 23ب
وقد روي أن قوما من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوأ الإسلام قد ظهر وعم
ودوخ وأذل جميع الامم ورأوا أنه لا سبيل الى مناصبته رجعوا الى الحيلة
والمكيدة فأظهروا الإسلام عن غير رغبة فيه وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف
فلما حمد الناس طريقتهم ولدوا الأحاديث والمقالات وفرقوا الناس فرقا وأكثر
ذلك في الشيعة كما يحكى عن عبد الله بن سبأ اليهودي أنه أسلم واتصل بعلي
رضي الله عنه وصار من شيعته فلما أخبر بقتله وموته قال كذبتم والله لو
جئتموني بدماغه مصرورا في سبعين صرة ما صدقت بموته ولا يموت حتى يملأ
الأرض عدلا كما ملئت جورا نجد ذلك في كتاب الله فصارت مقالة يعرف أهلها
بالسبئية وانه قال ان عليا هو الإله وأنه يحيي الموتى وأنه غاب
ولم يمت
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتشدد في الحديث ويتوعد عليه والزمان
زمان والصحابة متوافرون والبدع لم تظهر والناس في القرن الذي اثنى عليه
رسول الله صلى الله عليه و سلم فما ظنك بالحال في الأزمنه التي ذمها رسول
الله صلى الله عليه و سلم وقد كثرت البدع وقلت الأمانة
وللبخاري رحمه الله في هذا الباب غناء مشكور وسعي مبرور وكذلك لمسلم وابن
معين فإنهم انتقدوا الحديث وحرروه ونبهوا على ضعفاء المحدثين والمتهمين
بالكذب حتى ضج من ذلك من كان في عصرهم وكان ذلك أحد الأسباب التي أوغرت
صدور الفقهاء على البخاري فلم يزالوا يرصدون له المكاره حتى أمكنتهم فيه
فرصة بكلمة قالها فكفروه بها وامتحنوه وطردوه من موضع الى موضع وحتى حمل
بعض الناس قلقه من ذلك على أن قال ... ولابن معين في الرجال
مقالة ... سيسأل عنها والمليك شهيد ...
... فإن يك حقا قوله فهو غيبة ... وان يك زورا فالعقاب شديد ...
وما أخلق قائل هذا الشعر بأن يكون دفع مغرما وأسر حسوا في ارتغاء لأن ابن
معين فيما فعل أجدر بأن يكون مأجورا من أن يكون موزورا وألا يكون في ذلك
24أ ملوما بل مشكورا
العلة الثانية وهي نقل الحديث على المعنى دون لفظ الحديث بعينه وهذا الباب
يعظم الغلط فيه جدا وقد نشأت منه بين الناس شغوب شنيعة وذاك أن أكثر
المحدثين لا يراعون ألفاظ النبي صلى الله عليه و سلم التي نطق بها وانما
ينقلون الى من بعدهم معنى ما أراده بألفاظ أخر ولذلك تجد الحديث الواحد في
المعنى الواحد يرد بألفاظ شتى ولغات مختلفة يزيد بعض الفاظها على بعض
وينقص بعضها عن بعض على أن اختلاف ألفاظ الحديث قد
يعرض من أجل تكرير النبي صلى الله عليه و سلم في مجالس عدة
مختلفة وما كان من الحديث بهذه الصفة فليس كلامنا فيه وانما كلامنا في
اختلاف الألفاظ التي تعرض من أجل نقل الحديث على المعنى
ووجه الغلط الواقع من هذه الجهة أن الناس يتفاضلون في قرائحهم وأفهامهم
كما يتفاضلون في صورهم وألوانهم وغير ذلك من أمورهم وأحوالهم فربما اتفق
أن يسمع الراوي الحديث من النبي صلى الله عليه و سلم أو من غيره فيتصور
معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها فإذا عبر عن ذلك المعنى الذي
تصور في نفسه على غير الجهة التي أرادها فاذا عبر عن ذلك المعنى الذي تصور
في نفسه بألفاظ أخر كان قد حدث بخلاف ما سمع عن غير قصد منه الى ذلك وذلك
أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة وقد تكون فيه اللفظة المشتركة
التي تقع على الشيء وضده كقوله صلى الله عليه و سلم قصوا الشوارب وأعفوا
اللحا فقوله أعفوا يحتمل أن يريد وفروا وكثروا ويحتمل أن يريد به قللوا
وخففوا فلا يفهم مراده من ذلك الا بدليل من لفظ آخر والمعنيان جميعا
موجودان في كلام العرب يقال عفا وبر الناقة اذا كثر وكذلك عفا لحمها قال
الله
عز و جل حتى عفوا أي كثروا قال جرير ... ولكنا نعض السيف منها
... بأسؤق عافيات اللحم كوم ...
ويقال عفا المنزل اذا درس قال زهير ... عفا من آل فاطمة الجواء ... فيمن
فالقوادم فالحساء ...
ففي مثل هذا يجوز أن يذهب النبي صلى الله عليه و سلم الى المعنى الواحد
24ب ويذهب الراوي عنه الى المعنى الآخر فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه
بعينه كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد
ولو أدى لفظه بعينه لأوشك أن يفهم منه الآخر ما لم يفهم الأول
وقد علم صلى الله عليه و سلم أن هذا سيعرض بعده فقال محذرا من ذلك نضر
الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى
من مبلغ
ومن نحو هذا ما روي عنه صلى الله عليه و سلم أن رجلا جاءه فقال أيجوز
اتيان المرأة في دبرها فقال نعم فلما أدبر الرجل قال ردوه علي فلما رجع
قال في أي الخرطتين أردت اما من دبرها في قبلها فنعم وأما من دبرها في
دبرها فلا
وقد غلط قوم في حديث عائشة رضي الله عنها في هذا المعنى اذا حاضت المرأة
حرم الجحران فتوهموا أن هذا الكلام ينفك منه جواز الإتيان في الدبر وهذا
غلط شديد ممن تأوله
وقد رواه بعضهم الجحران بضم النون وزعم أن الجحران الفرج ذكر ذلك ابن
قتيبة
والرواية الأولى هي المشهورة وليس في الحديث شيء مما توهموه وانما كان
يلزم ما قالوه لو كانت الطهارة من المحيض شرطا في جواز اتيان المرأة في
جحريها معا فكان يلزم عند ذلك أن يكون ارتفاع الطهارة
سببا لتحريمهما معا كما كان شرطا في تحليلهما معا فإذا لم يجدوا
سبيلا الى تصحيح هذه الدعوى لم يلزم ما قالوه
وانما المعنى في قول عائشة رضي الله عنها أن فرج المرأة يخالف دبرها في
اباحة أحدهما وتحريم الآخر والإباحة التي خالفت بينهما معلقة بشرط الطهارة
من الحيض فإذا ارتفع شرط الطهارة ارتفعت الإباحة التي كانت معلقة به
فاستويا معا في التحريم لارتفاع السبب الذي فرق بينهما وهذا كقول قائل لو
قالحرم الشرابان يريد الخمر و النبيذ أي استويا في التحريم لأن النبيذ اذا
أسكر النبيذ انما خالف الخمر بشرط عدم الإسكار فلما ذهب السبب والشرط الذي
فرق بينهما تساويا معا في التحريم فكما أن هذا القول لا يلزم منه اباحة
الخمر قبل وجود الإسكار في النبيذ فكذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها لا
يلزم منه اباحة نكاح الدبر قبل وجود الحيض في الفرج
ونظير هذا أيضا 25أ أن رجلا لو كان معه ثوبان أحدهما فيه نجاسة تحرم عليه
الصلاة به والآخر طاهر يجوز له الصلاة به ثم أصابت الثاني نجاسة فقال له
قائل قد حرمت الصلاة عليك بالثوبين انما أراد أن الثوب الثاني قد صار مثل
الأول في التحريم لعدم الشرط المفرق بينهما
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه و سلم ما ينحو نحو هذا وان لم يكن
مثله
من جميع الوجوه وذلك ما روي عنه من قوله عليه السلام من سره أن
يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يريد بشهر
الصبر شهر رمضان وليس المراد أن شهر الصبر مباح الأكل فيه لمن لم يسره
ذهاب وحر صدره وانما معناه فليضف الى شهر الصبر الواجب صومه على كل حال
ثلاثة أيام يصومها من كل شهر
ومن طريف الغلط الواقع في اشتراك الألفاظ ما روي من أن النبي صلى الله
عليه و سلم وهب لعلي رضي الله عنه عمامة تسمى السحاب فاجتاز علي رحمه الله
متعمما بها فقال النبي عليه السلام لمن كان معه أما رأيتم عليا في السحاب
أو نحو هذا من اللفظ فسمعه بعض المتشيعين لعلي رضي الله عنه فظن أنه يريد
السحاب المعروف فكان ذلك سببا لاعتقاد الشيعة أن عليا في السحاب ولذلك قال
اسحاق بن سويد الفقيه
برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب ...
... ومن قوم اذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب ...
... ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذال من الصواب ...
... رسول الله والصديق حبا ... به أرجو غدا حسن الثواب ...
وقد جعل بعض العلماء من هذا الباب الحديث المروي في خلق آدم على صورة
الرحمن قالوا وانما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلق الله آدم على
صورته والهاء راجعة الى آدم فتوهم بعض السامعين أنها عائدة على الله
سبحانه وتعالى فنقله على المعنى دون اللفظ وهذا الذي قالوه لا يلزم
وسنتكلم على هذا الحديث اذا انتهينا الى موضعه من هذا الباب ان شاء الله
تعالى
فهذه أمثلة من هذا النوع تنبه على بقيته ان شاء الله تعالى
العلة الثالثة وهي الجهل بالإعراب ومعاني كلام العرب 25ب ومجازاتها وذلك
أن كثيرا من رواة الحديث قوم جهال بلسان العرب لا يفرقون بين المرفوع والمنصوب والمخفوض ولعمري لو أن العرب وضعت لكل معنى
لفظا يؤدي عنه لا يلتبس بغيره لكان لهم عذر من ترك تعلم الإعراب ولم يكن
لهم حاجة اليه في معرفة الخطأ من الصواب
ولكن العرب قد تفرق بين المعنيين المتضادين بالحركات فقط واللفظ واحد ألا
ترى أن الفاعل والمفعول ليس بينهما أكثر من الرفع والنصب فربما حدث المحدث
بالحديث فرقع لفظة منه ينوي بها أنها فاعلة ونصب أخرى ينوي بها أنها
مفعولة فنقل عنه السامع ذلك الحديث فرفع ما نصب ونصب ما رفع جهلا منه بما
بين الأمرين فانعكس المعنى الى ضد ما أراده المحدث الأول
ألا ترى أن قوله صلى الله عليه و سلم لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم اذا
جزمت اللام من يقتل كان له معنى واذا رفعت كان له معنى آخر
ولو أن قارئا قرأ هو الأول والآخر ففتح الخاء لكان قد كفر وأشرك بالله
واذا كسر الخاء آمن ووحد فليس بين الإنمان والكفر غير حركة
ولذلك قال صلى الله عليه و سلم رحم الله امرأ أصلح من لسانه
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلموا الفرائض والسنة واللحن كما
تتعلمون القرآن
واللحن اللغة قال الشاعر ... وما هاج هذا الشوق الا حمامة ... تبكت على
خضراء سمر قيودها ...
... صدوح الضحى معروفة اللحن لم تزل ... تقود الهوى من مسعد ويقودها ...
وكذلك قوله تعالى هو الله الخالق البارئ المصور ليس بين الإيمان والكفر
فيه غير فتح الواو وكسرها وكذلك قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين
ولو أن رجلين تقدما الى حكم يدعي أحدهما على صاحبه بثوب فقرره الحكم على
ذلك فإنه ان قال ما أخذت له ثوب فرفع أقر
بالثوب على نفسه ولزمه احضار ثوب وان قال ما أخذت له ثوبا فنصب
لم يقر بشيء ولزمته اليمين ان لم تعم عليه به بينة
وكذلك لو قال رجل لامرأته أنت طالق ان دخلت الدار فانه ان فتح الهمزة طلقت
عليه في ذلك الوقت 26أ دون تأخير وان كسر الهمزة لم تطلق عليه في ذلك
الوقت وانما تطلق عليه فيما يستقبل ان كان منها دخول في الدار
ويروى أن الكسائي رحمه الله كتب اليه ما تقول في رجل قال ... فان ترفقي يا
هند فالرفق أيمن ... وان تخرقي يا هند فالخرق أشأم ...
... فأنت طلاق والطلاق عزيمة ... ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم ...
فقال الكسائي رحمه الله إن كان رفع العزيمة ونصب الثلاث فهي ثلاث تطليقات
وان كان نصب العزيمة ورفع الثلاث فهي واحدة يريد أنه اذا رفع العزيمة ونصب
الثلاث صار التقدير فأنت طالق ثلاثا والطلاق عزيمة على التقديم والتأخير
واذا نصب العزيمة ورفع الثلاث لم ينو ثلاث التقديم وصار التقدير فأنت طلاق
وتم الكلام ثم قال والطلاق في حال
عزيمة المطلق عليه ثلاث فلم يكن في هذا الكلام ما يدل على أن
هذا المطلق عزم على الثلاث فيقضى عليه بواحدة
وقد يمكن أيضا أن يرفع الثلاث والعزيمة معا فيكون التقدير فأنت طالق ثلاث
والطلاق عزيمة فيلزم من ذلك ثلاث تطليقات والله أعلم
العلة الرابعة
وهي التصحيف وهذا أيضا باب عظيم الفساد في الحديث جدا وذلك أن كثيرا من المحدثين لا يضبطون الحروف ولكنهم يرسلونها ارسالا غير مقيدة ولا مثقفة اتكالا على الحفظ فاذا غفل المحدث عما كتب مدة من زمانه ثم احتاج الى قراءة ما كتب أو قرأءه غيره فربما رفع المنصوب ونصب المرفوع كما قلنا فانقلبت المعاني الى أضدادهاوربما تصحف له الحرف بحرف آخر لعدم الضبط فيه فانعكس المعنى الى نقيض المراد به وذلك أن هذا الخط العربي شديدالاشتباه وربما لم يكن بين المعنيين المتضادين غير الحركة أو النقطة كقولهم مكرم بكسر الراء اذا كان فاعلا ومكرم بفتح الراء اذا كان مفعولا ورجل أفرع بالفاء اذا كان تام الشعر واقرع القاف لا شقر في رأسه وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أفرع
وقد جاءت من هذا الباب أشياء كثيرة طريفة عن المحدثين نحو ما
يروى عن يزيد بن 26ب هارون أنه روى كنا جلوسا حول بشر بن معاوية وانما هو
حول سرير معاوية
وكما روى عبد الرزاق يقاتلون خور كرمان وانما هو خوز الزاي معجمة
وكما صحف شعبة التلب العنبري فرواه بثاء مثلثة مكسورة
ولام ساكنة وانما هو التلب بالتاء معجمة باثنتين وكسر التاء
واللام وتشديد الباء على وزن طمر ويدل عليه قول الشاعر ... ان التلب له
عرس يمانية ... كأن فسوتها في البيت اعصار ...
وروى بعضهم دخلت الجنة فرأيت فيها حبائل اللؤلؤ ولا وجه للحبائل ههنا لأن
الحبائل عند العرب الشباك التي يصاد بها الوحوش واحدتها حبالة ومن كلام العرب خش ذؤالة بالحبالة وانما هو جنابذ اللؤلؤ والجنابذ جمع جنبذة وهي القبة وهذا النوع كثير جدا وقد وضع فيه الدارقطني رحمه الله كتابا
مشهورا سماه تصحيف الحفاظ
ومن ظريف ما وقع منه في كتاب مسلم ومسنده الصحيح نحن يوم القيامة على كذا
انظر وهذا شيء لا يتحصل له معنى وهكذا نجده في أكثر النسخ وانما هو نحن
يوم القيامة على كوم والكوم جمع كومة وهو المكان المشرف فصحفه بعض النقلة
فكتب نحن يوم القيامة على كذا فقرأ من قرأ فلم يفهم ما هو فكتب في طرة
الكتاب انظر يأمر من قرأ الكتاب بالنظر فيه وينبهه علنه فوجده ثالث فظنه
أنه من الكتاب فألحقه بمتنه
العلة الخامسة
وهي اسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى الا به وهذا النوع أيضا قد وردت منه أشياء كثيرة في الحديث كنحو ما رواه قوم عن ابن مسعود
رضي الله عنه أنه سئل عن ليلة الجن فقال ما شهدها منا أحد وروي عنه من
طريق آخر أنه رأى قوما من الزط فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن
فهذا الحديث يدل على أنه شهدها والاول يدل على أنه لم يشهدها فالحديثان
كما ترى متعارضان وانما أوجب التعارض بينهما أن الذي روى الحديث الأول
أسقط منه كلمة رواها غيره وانما الحديث ما شهدها منا أحد غيري
العلة السادسة وهي أن ينقل المحدث الحديث ويغفل عن نقل 27أ السبب الموجبى
له فيعرض من ذلك اشكال في الحديث أو معارضة لحديث آخر كنحو ما رواه قوم من
أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بالعرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام
وأغاروا على لقاح النبي فامر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركوا
بالحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا
وقد وردت عنه الروايات من طرق شتى أنه نهى عن المثلة وانما عرض
هذا التعارض من أجل أن الذي روى الحديث الأول أغفل نقل سببه الذي أوجبه
ورواه غيره فقال انما فعل بهم ذلك لأنهم مثلوا براعيه فجزاهم بمثل فعلهم
ومن الفقهاء من يرى أن هذا كان في أول الإسلام قبل أن تنزل الحدود ثم نسخ
وقد ذهب بعض العلماء في قوله صلى الله عليه و سلم ان الله خلق آدم على
صورته الى أنه مما أغفل الناقل ذكر السبب الذي قاله من أجله
ورووا أن النبي صلى الله عليه و سلم مر برجل يلطم وجه عبده وهو يقول قبح
الله وجهك ووجه من أشبهك فقال النبي صلى الله عليه و سلم اذا ضرب احدكم
عبده فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته
قالوا فاهاء انما تعود على العبد فلما روى الراوي الحديث وأغفل رواية
السبب اوهم ظاهره أنها تعود على الله سبحانه وتعالى تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا
وهذا الذي قالوه ورووه غير معترض على رواية غيرهم من وجهين
أحدهما أنه قد جاء في حديث آخر خلق آدم على صورة الرحمن وجاء في حديث آخر
رأيت ربي في أحسن صورة وهذا لا يسوغ معه شيء من الذي قالوه
والثاني أن الحديث له تأويل صحيح بخلاف ما ظنوه وقد تكلم فيه ابن قتيبة
فلم يأت فيه بمقنع بل جاء بما لو سكت عنه لكان أجدى بما عليه
وقد تكلم فيه ابن فورك فأحسن كل الإحسان ونحن نذكر ما قال بأوجز ما يمكن
ونزيد ما يتمم ذلك بحول الله تعالى فنقول ان الضمير في قوله على صورته
يجوز أن يكون عائدا على آدم ويجوز أن يكون عائدا على الله تعالى فإذا كان
عائدا على آدم فالغرض من الحديث الرد على الدهرية واليهود والقدرية وهذا
من جوامع كلمه التي أوتيها صلى الله عليه و سلم
فوجه الرد على الدهرية من وجهين
أحدهما ان الدهرية قالت ان العالم لا أول له وأنه لا يجوز أن
يتكون حيوان الا من حيوان آخر قبله فأعلمنا 27ب صلىالله عليه وسلم أن الله
خلق آدم على صورته التي شوهد عليها ابتداء من غير أن يتكون في رحم كما
يتكون الجنين علقة ثم مضغة حتى يتم خلقه
والثاني أن الدهرية تزعم أن للطبيعة والنفس الكلية فعلا في المحدثات
المتكونة غير فعل الله تعالى عن قولهم فأعلمنا أيضا أن الله تعالى خلقه
على هيئته التي عليها وانفرد بذلك دون مشاركة من طبيعة ولا نفس
ووجه الرد منه على اليهود لعنهم الله أن اليهود يزعمون أن آدم في الدنيا
كان على خلاف صورته في الجنة وأن الله تعالى لما أهبطه من جنته نقص قامته
وغير خلقته فأعلمنا بكذبهم فيما يزعمون وأعلمنا أنه خلقه في أول أمره على
صورته التي كان عليها عند هبوطه
ووجه الرد منه على القدرية أن القدرية زعمت أن افعال البشر مخلوقة لهم لا
لله تعالى عن قولهم وهو نحو ما ذهبت اليه الدهرية من أن للنفس والطبيعة
أفعالا غير فعل الله تعالى فأفادنا أيضا بطلان
قولهم وأعلمنا أن الله تعالى خلقه وخلق جميع أفعاله فهذا ما في
الهاء من القول اذا كانت عائدة على آدم صلىالله عليه وسلم
واذا كانت عائدة على الله تعالى كانت اضافة صورة آدم اليه على وجه التشريف
والتنويه والتخصيص لاعلى معنى آخر مما يسبق الى الوهم من معاني الإضافة
فيكون كقولهم في الكعبة انها بيت الله وقد علمنا أن البيوت كلها لله عز و
جل وكقوله وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وقد علمنا أن جميع
البشر من مؤمن وكافر عباده وانما خصصه بالإضافة الىالله تعالى دون غيره
لأن الله تعالى شرفه بما لم يشرف به غيره وذلك أنه عز و جل شرف الحيوان
على الجماد وشرف الإنسان على جميع الحيوان وشرف الإنبياء عليهم السلام على
جميع نوع الإنسان وشرف آدم على جميع بنيه بأن خلقه دفعة من غير ذكر ولا
أنثى ودون أن ينتقل من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة وسائر
أحوال الإنسان التي يتصرف فيها الى حين كماله ونسب خلقه الى نفسه دون سائر
البشر فقال لما خلقت بيدي ونفخت فيه
من روحي وأسجد له ملائكته ولم يأمرهم بالسجود لغيره فنبهنا عليه
السلام بإضافة صورته الى الله تعالى على هذه المنزلة التي تفرد بها دون
غيره ويدل على صحة هذا التأونل قوله ونفخت فيه من روحي وقوله ولا أعلم ما
في نفسك 28أ وقوله لما خلقت بيدي فكما لا تدل اضافة هذا الأشياء اليه على
أن له نفسا وروحا ويدين فكذلك اضافة الصورة اليه لا تدل على أن له صورة
وقد يجوز في اضافة الصورة الى الله تعالى وجه فيه غموض ودقة وذلك أن العرب
تستعمل الصورة على وجهين
أحدهما الصورة التي هي شكل مخطط محدود بالجهات الست كقولك صورة زيد وصورة
عمرو
والثاني يريدون به صفة الشيء الذي لا شكل له يحس ولا تخطيط ولا جهات
محدوده كقولك ما صورة أمرك وكيف كانت صورة قصتك يريدون بذلك الصفة فقد
يجوز أن يكون معنى خلق آدم على صورته أي على صفته فيكون مصروفا الى المعنى
الثاني الذي لا تحديد فيه
فإن قلت ما معنى هذه الصفة وكيف تلخيص القول فيها فالجواب أن
معنى ذلك أن الله تعالى جعله خليفة في أرضه وجعل له عقلا يعلم به ويفكر
ويسوس ويدبر ويأمر وينهي وسلط على جميع ما في البر والبحر وسخر له ما في
السموات والأرض
وقد قال في نحو هذا بعض المحدثين يمدح بعض خلفاء بني أمية ... أمره من أمر
من ملكه ... فاذا ما شاء عافى وابتلى ...
فيكون معنى قولنا في أدم صلى الله عليه و سلم أنه خلق على صورة الله تعالى
كمعنى قولنا فيه انه خليفة الله تعالى وهذه التأويلات كلها لا تقتضي
تشبيها ولا تحديدا
فإن قلت كيف تصنع بالحديث المروي عنه صلى الله عليه و سلم رأيت ربي في
أحسن صورة وهذا لا يمكنك فيه شيء من التأويل المتقدم ولا يصح لك حمله عليه
فالجواب أن هذا الحديث ورد بلفظ مشترك يحتمل معنيين
أحدهما أن يكون قوله في أحسن صورة راجعا الى الرائي لا الى المرئي فيكون
معناه رأيت ربي وأنا في أحسن صورة
والثاني أن يكون قوله في أحسن صورة راجعا الى المرئي
وهو الله تعالى فيكون معناه رأيت ربي على احسن صفة فتكون الصورة
بمعنى الصفة التي لا توجب تحديدا كما ذكرنا وهذا في العربية كقولك رأيت
زيدا وأنا في الدار فيجوز أن يكون قولك في الدار لك 28ب كأنك قلت رأيت
زيدا وأنا في الدار ويجوز أن يكون المعنى رأيب زيدا وهو في الدار وعلى هذا
تقول رأيت زيدا قاعدا مائما ولقيت زيدا راكبين قال الشاعر ... فإذا لقيتك
خاليين لتعلمن ... أيي وأيك فارس الاحزاب ...
فإذا كان التقدير رأيت ربي وأنا في أحسن صورة كان معناه أن الله تعالى
حسن صورته ونقله الى هيئة يمكنه معها رؤيته اذ كان البشر لا تمكنهم رؤية الله تعالى على الصورة التي هم عليها حتى ينقلوا الى صورة أخرى غير خورهم ألا تري أن المؤمنين يرون الله تعالى على الصورة التي هم عليها في الأخرة ولا يرونه في الدنيا لأن الله تعالى ينقلهم عن صفاتهم الى صفاتهم الى صفات أخرى أعلى وأشرف
فعجل الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم هذه الكرامة قبل يوم القيامة
خصوصا دون البشر حتى رأه وشاهده والله يؤتي فضله من يشاء ويختص بكرامته من
يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
وذا كان ذلك راجعا الى الله تعالى كان معناه أنه راى ربه على أحسن ما عوده
من انعامه واحسانه واكرامه وامتنانه كما تقول للرجل كيف كانت صورة أمرك
عند لقاء الملك فيقول خير صورة أعطاني وأنعم علي وأدناني من محل كرامته
وأحسن الي
فهذان تأويلان صحيحان خارجان على أساليب كلام العرب دون تكلف ولا خروج من
مستعمل الى تعسف
وقد جاء في بعض الحديث انها كانت رؤية في المنام فإذا كان الأمر كذلك كان
التأويل واضحا لأنه لا ينكر رؤية الله تعالى في المنام
ورواه بعضهم رأيت ربي بكسر الباء وقالوا هو غلام كان لعثمان رآه في النوم
ورواه آخرون رأيت رئيي والرئي ما يتراءى
للإنسان من ملك أو شيطان أرده بذلك أنه رأى جبريل عليهما السلام
وبالله التوفيق لا رب غيره
العلة السابعة
وهي أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه كنحو ما روي من أن عائشة رضي الله عنها أخبرت أن أبا هريرة حدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ان يكن الشؤم ففي ثلاث الدار والمرأة والفرس وهذا حديث معارض لقوله 29أ صلى الله عليه و سلم لا عدوى ولا هامة ولا صفر ولا غول وقد رويت عنه في أحاديث كثيرة أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن التطير فغضبت عائشة رضي الله عنها وقالت والله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قط وانما قال كان أهل الجاهلية يقولون ان يكن الشؤم ففي ثلاث الدار والمرأة والفرس فدخل أبو هريرة فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله وهذا غير منكر أن يعرض لأن النبي صلى الله عليه و
سلم كان يذكر في مجالسه الأخبار حكاية ويتكلم بما لا يريد به نهيا ولا
أمرا ولا أن يجعله أصلا في دينه وشيئا يستن به وذلكك معلوم من فعله ومشهور
من قوله
العلة الثامنة
وهي نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ والسماع من الأئمة وهذا باب أيضا عظيم البلية والضرر في الدين فإن كثيرا من الناس يتسامحون فيه جدا وأكثرهم انما يعول على اجازة الشيخ له دون لقائه والضبط عليه ثم يأخذ بعد ذلك علمه من الصحف المسودة والكتب التي لا يعلم صحيحها من سقيمها وربما كانت مخالفة لرواية شيخه فيصحف الحروف ويبدل الألفاظ وينسب جميع ذلك الى شيخه ظالما له وقد صار علم أكثر الناس في زمننا هذا على هذه الصفة ليس بأيديهم من العلم الا أسماء الكتبوإنما ذكرت لك هذه العلل العارضة للحديث لأنها أصول لنقاد الحديث المهتبلين بمعرفة صحيحه من سقيمه فإذا ورد عليهم حديث بشع المسموع أو مخالف للمشهور نظروا أولا في سنده فإن وجدوا في نقلته
ورواته رجلا متهما ببعض تلك الوجوه التي ذكرتها لك استرابوا به
ولم يجعلوه أصلا يعول عليه وان وجدوا رجاله الناقلين له ثقات مشهورين
بالعدالة معروفين بالفقه والأمانة رجعوا الى التأويل والنظر فإن وجدوا له
تأويلا يحمل عليه قبلوه ولم ينكروه وان لم يجدوا له تأويلا الا على
استكراه شديد نسبوه الى غلط وقع فيه من بعض تلك الوجوه المتقدمة الذكر
فهذه جملة القول في هذا الباب وبالله التوفيق والله أعلم
الباب السادس
في الخلاف العارض من قبل الاجتهاد والقياس 29 - ب هذا النوع انما يكون فيما يعدم فيه وجود نص من قرآن أو
حديث فيفرغ الفقيه عند ذلك الى استعمال القياس والنظر كما قال الشاعر ...
اذا أعي الفقيه وجود نص ... تعلق لا محالة بالقياس ...
والخلاف العارض من هذا الباب نوعان
أحدهما الخلاف الواقع بين المنكرين للاجتهاد والقياس والمثبتين له
والنوع الثاني خلاف يعرض بين أصحاب القياس في قياسهم كاختلاف المالكيين
والشافعيين والحنفيين فتعرض من ذلك أنواع من الخلاف عظيمة وهذا الباب أشهر
من أن نطيل
الباب السابع
في الخلاف العارض من قبل النسخ
الخلاف العارض من هذا النوع يتنوع أولا نوعين
أحدهما خلاف عارض بين من أنكر النسخ وبين من أثبته واثباته هو الصحيح
وجميع أهل السنه مثبتون له وانما خالف في ذلك من لا يلتفت الى خلافه لأنه
بمنزلة دفع الضرورات وانكار العيان
والنوع الثاني خلاف عارض بين القائلين بالنسخ وهذا النوع الثاني ينقسم
ثلاثة أقسام أحدهما اختلافهم في الأخبار هل يجوز أن فيها النسخ كما يجوز
بالأمر والنهي أم لا
والثاني اختلافهم هل يجوز أن تنسخ السنة القرآن أم لا
والثالث اختلافهم في أشياء من القرآن والحديث فذهب بعضهم الى أنها نسخت
وبعضهم الى أنها لم تنسخ
الباب الثامن
في الخلاف العارض من قبل الإباحةهذا النوع من الخلاف يعرض من قبل أشياء وسع الله تعالى فيها على عباده وأباحها لهم على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم كاختلاف الناس في الأذان والتكبير على الجنائز وتكبير التشريق ووجوه القراءات السبع ونحو ذلك
فهذه أسباب الخلاف الواقع بين الأمة قد نبهت عليها وأرشدت قارئي كتابي هذا اليها
وهذا الكتاب وان كان صغير الجرم يسير الحجم فان فيه تنبيها على 30أ أشياء جليلة يحسن مسمعها ويحلو من نفس الذكي موقعها وأنا أستغفر الله من زلل ان كان عرض وأسأله عونا على ما به تعبد وفرض
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم أفضل التسليم كمل بحمد الله وحسن عونه